إذن فالعبرة في تحقيق كلمة التوحيد لا إلا الله، ومشركوا العرب يعلمون معنى هذه الكلمة، ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم قولوا كلمة، كلمة واحدة قولوا كلمة واحدة، فقالوا: نقول وربك عشر كلمات. قال: قولوا لا إله إلا الله. فأبوا؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة إذا قالوها وشهدوا بها أنّ فيها إبطال كل التعلقات بالآلهة؛ لأنه معنى لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله جل جلاله. ومعنى ذلك أنّ كل من عَبد غير الله جل وعلا فإنما عُبد بغير الحق عبد بالبغي بالظلم بالعدوان من الناس على حق الله جل جلاله.(17/102)
لهذا لما ذكر الشيخ هذه المقدمات قال في هذا المقطع الذي وقفنا عنده (وتحققت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع أنواع العبادات كلها لله) هذا من جهة التمثيل مثل بالنذر والذبح والاستغاثة؛ لأن الشرك بالله جل وعلا في هذه الأشياء كان أكثر شيوعا في زمن إمام الدعوة رحمه الله تعالى، وإلا فإن أصناف شرك المشركين وصرفهم العبادة لغير الله جل وعلا كثيرة، ويجمعها قوله في آخر الكلام (وجميع أنواع العبادات كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام) هذا احتجاجهم أننا موحدون لله، لا نقول إن ثم رازق إلا الله وليس ثم محيي إلا الله، نحن مؤمنون بالله بأنه يرزق ويخلق ويعطي وأنه يجيب دعوة المضطر وأنه وأنه، لكنهم لم يبطلوا الوسائط، لم يبطلوا قصد غير الله جل وعلا بالعبادة، ولهذا قال سبحانه وتعالى ?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف:106]، قال السلف في تفسيرها لهذه الآية في آخر سورة يوسف معنى قوله (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ) يعني وما يؤمن أكثرهم بالله بأنه هو المتفرد بالخلق والرَّزق والإحياء والإماتة إلا وهم مشركون به في العبادة، فقد جمعوا إيمانا وشركا، فلا تتصور أنّ المشرك الذي يُحكم عليه بأنه مشرك أنه خِلْوُ الوثاق وخلو القلب من الإيمان بالله أصلا، هذا لا يتصور، وإلا لكان المشرك هو الذي يجحد كل أنواع الإيمان يعني الذي يجحد الربوبية ويجحد وجود الله جل وعلا، وهذا ليس هو الذي احتج القرآنُ على أصحابه، بل القرآن فيه إقامة الحجج على أن الله جل وعلا واحد وأنّه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، ?قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ?[النمل:59] إلى آخر الآيات في سورة النمل، وفي كل آية?(17/103)
أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ?[النمل:60]، ?أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ?[النمل:61] إلى آخر ذلك.
فإذن نسأل ونقول بما صار أولئك مشركين؟ قال الشيخ رحمه الله هنا (وأنَّ قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم) يعني أنّ سبب كفر المشركين وسبب الحكم عليهم بأنهم كفار مشركون حلَّت دماؤهم وحلت أموالهم هذه الأشياء، قصد غير الله جل وعلا، قصد الملائكة قصد الأنبياء قصد الأولياء.
أما قصد الملائكة فإنهم كانوا يقصدون الملائكة بطلب الحاجات، كما قال جل وعلا في آخر سورة سبأ عنهم ?وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41] فكانت الملائكة تُعبد، لكن في الحقيقة الذي عبد هو؛ الذي عبد هم الجن لأنهم طلبوا من الملائكة والذي أجابهم بطلبهم الجن ليبقوا على الشرك.(17/104)
وكذلك الأنبياء سئلت الأنبياء في قبورها واستغيث بها وذبح لها ونذر ومن سئل ربما أجيب سؤاله، وإجابة السؤال من جهة الجن، فيكون الجن ربما أحضر شياطين الجن؛ أحضر لذلك السائل بعض الأشياء أو عرفه ببعض الأشياء لتقع المصيبة وهذا في أكثر الأحوال وإلا فإنه من المقرر أن إجابة الدعاء من فروع الربوبية وليس من فروع الإلهية؛ لأن المشرك قد يدعو الله جل وعلا ويستجيب الله جل وعلا لدعائه كما قال سبحانه وتعالى ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ?[العنكبوت:65]، فإجابة الدعاء من جنس إعطاء الرِّزق، من جنس إعطاء المآكل والمشارب والأولاد، فإنه قد يدعو الكافر ويستجاب له لأن إجابة الدعاء ليست خاصة بإجابة المسلم بل هذا عدو الله إبليس سأل الله وقد أبى واستكبر وكان من الكافرين أن يؤخره إلى يوم الدين فأجاب الله دعاءه وسؤاله فأخره.
فإذن هنا حينما يسأل نبي من الأنبياء أو يسأل ولي من الأولياء عند القبر فيُجاب السؤال أو يحصل له ما طلب، فسبب حصول ما طلب أحد شيئين:
الأول: أن يكون شياطين الجن أحضرت له ما طلب، أو كان ثم سبب فأزالته الجن؛ يعني بسبب من جهة الجن إما امرأة ما تحمل بسبب شياطين الجن، أو شيء مفقود كان بسبب شياطين الجن، أو نحو ذلك، أو أراد أن يكلم هذا الميت فكلمه شيطان، وما أشبه ذلك يعني مما تقدر عليه الجن هذا نوع.
والنوع الثاني: أن يكون سأل متوسطا بصاحب القبر لكنه قام بقلبه حين السؤال اضطرار وحاجة ملحة فأجاب الله جل وعلا لأجل الاضطرار، والله جل وعلا أطلق إجابة المضطر فقال سبحانه ?أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ?[النمل:62]، فالمشرك إذا كان مضطرا يجاب، ولو كان في سؤاله بعض الشرك؛ لأنه يكون هنا غلب عليه جهة الاضطرار.(17/105)
ولهذا حقق العلماء أنّ إجابة سؤال المشرك عند القبر ليس السر فيه القبر كما يقوله المشركون، وإنما يكون ثم شيء آخر إما جهة شياطين الجن وإما أمر آخر قام بالقلب منه مثلا الاضطرار وإنزال الحاجة والانكسار بين يدي الله جل وعلا، فيظن الظان أن سبب إجابة الدعاء بركة القبر، وإنما هو من جهة ما قام بالقلب من الاضطرار لأن إجابة الدعاء من فروع الربوبية، والربوبية ليست خاصة لمسلم دون كافر، إعطاء الأرزاق ليس خاصا بالموحدين، بل يعطي الله جل وعلا الجميع كما قال جل وعلا في جواب سؤال إبراهيم قال ?وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ?[البقرة:126].
قال (وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء ) الأنبياء قصدتها العرب وقصدها المشركون من أهل الملل، عُبد موسى، وعُبد عزير، وعُبد المسيح من دون الله جل وعلا، وقُصد أولئك لأجل الوساطة، لأجل التقرب إلى الله جل وعلا به فصار من قصدهم مشركا حلال الدم والمال لا لأنه طلب منهم استقلالا ولكن لأنه طلب منهم بالوساطة.
قال (أو الأولياء) والأولياء أشرك بهم كما قال جل وعلا ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20].
قصدوا هؤلاء الملائكة والأنبياء والأولياء، يريدون ماذا؟ هل قصدوهم يعني العرب يريدون أن يجيب هؤلاء استقلالا؟ أم قصدوا أولئك بالعبادة يريدون الوساطة، يريدون الزلفى، يريدون الشفاعة؟ قال الشيخ رحمه الله هنا (يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك).
إذن فشرك الأولين من جهة الوساطة، شرك قوم نوح من جهة التوسط بالصالحين، وشرك قوم إبراهيم من جهة التوسط بما زعموه رَوحانية للكوكب، وشرك العرب فيه هذا وفيه هذا وإن كان الغالب عليه بأنه شرك بالصالحين.(17/106)
قال (هو الذي أحلّ دماءهم وأموالهم) إذن مع كونهم يُقرون بالربوبية، ومع كونهم يتعبدون ولهم أذكار ونحو ذلك، لكن لما قصدوا غير الله بالعبادة ولو كان على جهة التوسط، فإن ذلك أحل دماءهم وأموالهم؛ لأنّ عندنا مقدمة يقينية ونتيجة متيقنة:
المقدمة اليقينية الأولى: أنهم قصدوا الملائكة والأنبياء والأولياء، هذا بيقين من القرآن، ومن حال العرب.
المقدمة الثانية: أنهم قصدوا الملائكة والأنبياء والأولياء وغير هذه الأشياء، يريدون التقرب إلى الله زلفى، ولا يريدون الاستقلال؛ لا يريدون الطلب على جهة الاستقلال، وإنما أرادوا الطلب على جهة التوسط.
فهذه المقدمة الأولى يقينية، والثانية أيضا يقينية، لقول الله جل وعلا ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]. قد ذكرت لكم أن قوله (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) هذا حصر العلة في عبادتهم لإنتاج المعلول وهو التقرب إلى الله زلفى؛ يعني أنه ما توجهوا لهم لأجلهم لذاتهم، ولكن لأجل أن يوصلوهم إلى الله جل وعلا فهاتان المقدمتان يقينيتان.
والنتيجة أيضا يقينية: وهو أن دمائهم حلت وأموالهم حلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه بإحلال الله جل وعلا ذلك لهم وأن سبب الحِلّ، سبب جعل هذه الأشياء حلالا هو شركهم بالله جل جلاله.
قال بعد ذلك (عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون) وهذه النتيجة من دخلت إلى قلبه بالبراهين السابقة فقد أوتي حضا عظيما لأن الشبهة إذا تكسرت في البداية فما بعدها أهون أن يتقرر ما ذكرنا وأن يبطل استبعاد شرك المشرك لأجل أنه يصلي أو يزكي أو يحج أو يعتمر أو أنه يذكر الله أوْ أو إلى آخره.(17/107)
إذن مدار الحكم بالشرك واضح؛ وهو صرف العبادة أو صرف شيء من العبادة لغير الله جل جلاله، فمن أتى به فهو حابط العمل مشرك ولو كان أرفع الخلق ولهذا قال جل وعلا ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ? للنبي - صلى الله عليه وسلم - ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(65)بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ?[الزمر:65-66]، (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ولو كان سيد الخلق؛ لأن مقام الخالق جل وعلا مقام الرب العظيم أعظم وأعظم وأعظم، وحقه أعظم من أن يحابى فيه لأجل إنسان كائنا من كان، قال (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(65)بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ) يعني وحده دونما سواه (وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ)، ونحو هذا في غير هذه الآية.
فإذن إذا صرف أحد العبادة أو صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك وعمله حابط ولو كان أثر السجود في وجهه؛ لأنه أشرك، وليس المدار هنا موازنة أشرك بشيء وتعبد بشيء، ولو كان في الموازنة هنا قائمة بين السيئات والحسنات كما في حال الموحّد فإنّها يكون ثم موازنة في حال المشركين الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل من مشرك صرفا ولا عدلا، لم يقبل منهم إلا التوحيد، إلا أن يأتي بلا إله إلا الله التي يعلمون معناها.
إذن بهذه المقدمة إلى هنا يسهل الدخول إلى ما بعده في الكتاب، وأنّ التوحيد هو أعظم المهمات وأعظم الواجبات وأول واجب وآخر واجب، وأنّ من صرف شيئا من العبادة لغير الله فإنه حابط العمل ولو كان ما كان في عمله، هذه إذا دخلت في القلب ولم يكن في القلب تردّد لأجلها، صار إبطال أي شبهة احتج بها المشركون راجعا إلى هذا المحكم.(17/108)
ولهذا يقرر الشيخ بعد ذلك أن ما ذكرنا من وصف حال المشركين والمقدمات هذه والنتيجة اليقينية المقدمات اليقينية والنتيجة اليقينية، أنّ هذا محكم إذا احتج أحد من المشركين بحديث أو بآية وأولها على غير تأويلها فلك أن ترجع إلى هذا المحكم وأن تترك ما اشتبه عليك علمه؛ لأن هذا يقيني كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، فهذه المقدمة مهمة للغاية، وهي أساس محكم يمكن أنْ تحتج به في أي مقام على من عاند وأشرك بالله جل وعلا أو حسّن الشرك أو لم يكفر بالطاغوت. نعم
?????
[المتن]
وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور، سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرا أو جنيا، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد، فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه، فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: ? أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5].
فإذا عرفت أن جُهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني، والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله، فلا خير في رجل جهال الكفارأعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
[الشرح](17/109)
قال رحمه الله (وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله) هذا التوحيد الذي سبق بيانه وهو إفراد الله جل وعلا بالقصد بالذبح بالنذر بالاستغاثة بجميع أنواع العبادة، هذا هو التوحيد، وهو معنى (لا إله إلا الله)؛ لأن كلمة (لا إله إلا الله) مشتملة على نفي وعلى إثبات:
¨ النفي بـ(لا).
¨ والإثبات بـ(إلا).
والذي نُفي بـ(لا) هو استحقاق العبادة، أو أن يكون ثَم إله حق غير الله جل وعلا، فلا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله؛ لأن كلمة إله هذه معناها معبود، وهذا هو المعروف في العربية وهو المعروف بحال العرب أيضا؛ لأن إله هذه فعال بمعنى مفعول، مثل فراش بمعنى مفروش وأشباه ذلك، وبناء بمعنى مبني، فإله بمعنى مألوه، وأله يأله إلهة معناها عبد يعبد عبادة مع الحب والتعظيم.
فإذن يكون معنى الألوهية العبودية، ومعنى توحيد الألوهية توحيد العبودية، توحيد الإلهية توحيد العبادة، يكون معنى الإله المعبود، ولهذا اسم الله الذي ترجع إليه أو تجتمع فيه صفات الكمال الله هذا معناه المعبود الحق، قال بعضهم الله علم على المعبود بحق، فالله أصلها الإله -على الصحيح- لأنها مشتقة، وإنما أُطلق عليها يعني خففت الهمزة في الإله فصارت الله لكثرة دعائه ورجائه والتوسل إليه باسمه هذا، ونحو ذلك.
المقصود أن كلمة (لا إله) هذه فيها العبودية وهذا هو المتقرر في العربية وفي القرآن كما قال جل وعلا في سورة النمل فيما ذكرنا ?أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ?([19]) يعني أمعبود مع الله؟ لأنهم إنما جعلوا معبودا مع الله ولم يجعلوا ربا مع الله جل جلاله، ومن ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس المشهورة في سورة الأعراف ?أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَإِِلهَتَكَ?[الأعراف:127] يعني وعبادتك، ومنه أيضا قول الراجز في شعر ذكرناه لكم مرارا:
لله درّ الغانيات المُدّهِ سبّحن واسترجعن من تألهي(17/110)
يعني من عبادتي، فالتأله وأله يأله والإلهة والألوهة إلى ما يُشتق من هذا المصدر هذا كله راجع إلى معنى التعبد العبادة، فإذن هذه المادة مادة العبادة، وليست مادة للسيادة والتصرف في الأمر، وهذا هو المعروف عند العرب، وهو المعروف عند الصحابة والتابعين، إلى أن تُرجمت كتب اليونان، وصار هناك خلط بين ما جاءت به الشريعة وما في علوم اليونان، فالذين ترجموا هذه الكتب، قرأها من قرأها، وجعلوا القصد الأعظم أن ينظر المرء بهذا الملكوت ويثبت ربوبية الله جل وعلا، لهذا قالوا المقصود الأول هو الربوبية، فإذا أثبت المرء بالنظر أنّ الله جل وعلا هو الموجب لهذا الملكوت صار مقرا ومؤمنا، فالمتكلمون حين تأثروا باليونان في مدارسهم في النظر وفي الفلسفة جعلوا معنى الإله راجع للربوبية، والمتكلمون في ذلك على قولين:
¨ منهم من يقول الإله هو القادر على الاختراع، وهذا في كثير في كتب المتكلمين.
¨ ومنهم من يقول الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.(17/111)
والأول والثاني وكل منهما قول لطائفة من المتكلمين والأشاعرة والماتريدية إلى غير هذه الفئات، فعلى كل قول منها يكون الإله مفسر بالربوبية؛ لأن القادر على الاختراع، القدرة على الخلق هذه ربوبية، والمستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه هذه أيضا ربوبية، فهي من صفات الربوبية لا من صفات الألوهية، لَمّا حصل لهذا في المسلمين وتدوّل هذا القول، صار معلم الإيمان عند أولئك ألا يقر بوجود رَبَّيْنِ، ويعبرون عن ذلك ألا يقر بوجود إلهين، ولهذا في آية صورة الأنبياء ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا?[الأنبياء:22] يجعلون هذه الآية دليلا على إثبات تفرد الله جل وعلا بالربوبية، فيقولون هذه الآية هي دليل التمانع، ومعنى ذلك عندهم أن وجود إلهين يقاضي أن يتصرف هذا في ملكوته؛ وأن يتصرف هذا في جزء من الملكوت وهذا في جزء من الملكوت، ولابد أن يحصل تمانع لا بد أن يحصل اضطراب؛ لأن هذا له إرادة وهذا له إرادة وجعلوا الإله هنا هو الرب في نفسه، ولهذا جعلوها دليلا على توحيد الربوبية الذي هو الغاية عندهم، فدخل هذا في المسلمين، ولما دخل وتوسع الناس في اتباع مذهب الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة وطرق المتكلمين صارت الغاية عندهم هي توحيد الربوبية، فلهذا لم يصر أولئك عندهم مشركين هذه أعظم فتنة حصلت في الصد عن لا إله إلا الله وتفسيرها بتوحيد الربوبية.(17/112)
ولهذا تجد في عقائد الأشاعرة كما في السنوسية الكبرى المسماة عندهم بأم البراهين يقول فيها ما ذكرتهم لكم قبل ذلك يقول: الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه. فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، هذا التفسير وهذه الكلمة على هذا النحو ليست هي كلمة لا إله إلا الله، إنما هي كلمة لا رب في الوجود إلا الله، والإله غير الرب الألوهية مادة والربوبية مادة، ولهذا صاغ نعت اسم الله برب العالمين في قوله جل وعلا ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?([20]) ولو كانت الربوبية هي الألوهية أو كانت الألوهية هي الربوبية هي الألوهية لكان نعتا للشيء في نفسه، وهذا زيادة في الكلام ننزه عنها القرآن.
المقصود من ذلك أن معنى الإلهية عند المتكلمين ومن نحى نحوهم هو الربوبية، ولهذا دعا المشركون وعلماء المشركين إلى التوسط بهؤلاء الأموات بأنّ هذا لا يقدح في التوحيد؛ لأن التوحيد عندهم هو الربوبية، فالقاعدة التي بني عليها استحسان الشرك والتساهل فيه هو الخلاف في تفسير كلمة التوحيد، وذلك لأنهم جعلوا كلمة التوحيد معناها القدرة على الاختراع وأنه لا قادر على الاختراع وعلى الخلق إلا الله جل وعلا، وهذا يؤمن به أبو جهل وأبو لهب وكلّ من قتلهم النبي عليه الصلاة والسلام. ([21])(17/113)
قال الشيخ رحمه الله (وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله ) يعني الذي سبق ذكره قبل ذلك، (فإن الإله عندهم)يعني عند العرب (هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرا أو جنيا، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده) وهذا بيقين؛ لأن الله جل وعلا قال ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9]، وقال ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[الزمر:38] الآية، وقال ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31].
فإذن كل مفرادات أو نقول جل مفردات الربوبية نسبوها لله جل وعلا وحده ولم يجعلوا لآلهتهم منها شيئا، لم يجعلوا لآلهتهم شيئا، ولهذا لما ركبوا في الفلك دعوا الله وحده لأنهم يعلمون أن هذا المطلب العظيم إنما يستقل به الله وحده ولا يحب إلا أن يكون إلا الإقبال عليه وحده فيه، ولأن آلهتهم بعدت عنهم، وهذا مخالف لقول المتكلمين ومن نحى نحوهم: إنّ لا إله إلا الله هي لا قادر على الاختراع إلا الله. لأن أولئك لم يشكُّوا في أن هذه الكلمة يعني بأن العرب لم يشكوا بأن هذه الكلمة إنما جاءت للألوهية لا للقدرة على الاختراع، وإلا لقالوا نحن نؤمن بهذا، ولكن قالوا ? أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا ?[ص:5] فهذا بيقين.(17/114)
قال الشيخ رحمه الله (لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد)، (السيد) في لغة العرب هو المتصرف المطاع في ملكه، المتصرف المطاع في ملكه، والسيادة تختلف مثل الرب، فتكون مضافة هذا سيد فلان، سيد البيت، وهذا سيد القبيلة وهذا رب الإبل، وهذا رب المال وأشباه ذلك، فلفظ السيد هو بمعنى لفظ الرب مع اختلاف بينهما.
فمعنى السيد في لغة العرب المتصرف الذي يدبر الأمر ويرجع إليه تدبير ما يملك، هذا هو السيد له السيادة في الملكوت، له السيادة في ملكه.
لكن في العرف الذي عليه الناس في زمن الشيخ وما قبله إلى وقتنا هذا أطلق لفظ السيد على خلاف معناه في العربية، ويُراد بالسيد الذي بيده التوسط أو بيده [....] والمنع أو الذي فيه السر ولهذا يستعملون في السادة الذين يقصدون لأجل العبادات والتوسط يقولون فيهم قدس الله سر فلان، فلان قدس الله سره؛ لأنهم يجعلون لروحه سرا ويطلقون على هؤلاء لفظ السيد، فمثلا السيد البدوي، السيدة زينب، السيد الحسين، السيد العيدروس، السيد المرغني، السيد فلان، السيد فلان، السيد عبد القادر الجيلاني وأشابه هذا.
فيطلقون على الإله لفظ السيد، الإله في العربية الذي ذكرنا عند الناس في هذا الزمان وزمن الشيخ هو ما يسمونه بالسيد، ومن المتقرر أن العبرة بالحقائق لا بالألفاظ، العبرة كما حرره وقرره وهو معروف لكن أطال عليه في هذا الموضع الشوكاني والصنعاني قالوا إنّ تغير الأسماء ومدلولاتها لا يغير الحقائق فإنهم إذا سموا السيد، سموا هؤلاء بالسيد وعنوا بالسيد الإله فإنهم يحاسبون على ما قصدوا لا على أصل اللفظ الذي لم يخطر لهم على بال أو لم يعنوه.(17/115)
فإذن كلمة السيد يراد منها الإله، يراد منها ما يفهم من معنى كلمة الإله عند أهل العربية، لهذا قال هنا (وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد) من هو السيد؟ الذي يُقصد لأجل التوسط عند الله، بل زاد بعضهم وجعل لهؤلاء السادة نصيبا في الملك من جهة التفويض، فيقولون هناك أوتاد في الأرض أُعطوا بعض التصرف في ملكه؛ في الملك، وبعد الأوتاد هناك أقطاب لهم تصرف، هؤلاء يرجعون إليهم، والأقطاب ترجع إلى الغوث الأكبر في البلد، والأرض قسموها قسمة رباعية وجعلوا لها أربعة أشخاص هم الملاذ والغوث الأعظم، ففي قسم البدوي، وفي قسم عبد القادر وفي قسم فلان وفلان؛ يعني أنهم زادوا على شرك العرب في أن جعلوا لهؤلاء تصرفا في الملك، وهذا شرك في الربوبية مع كونه شركا في الإلهية.
قال (فأتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرَّد لفظها) قوله (والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرَّد لفظها) لأن الإجماع منعقد على أن من بَلَغَ مجنونا فقال لا إله إلا الله فإنه لا يحكم له بالإسلام؛ يعني إذا كان مشركا قبل ذلك، أو من وُلد مجنونا ثم استمر وقال لا إله إلا الله فإنه لا يحكم له بالإسلام بهذه الكلمة، وإنما يكون تبع لأبويه بتفصيل معروف، فالمشرك الذي كان على الشرك ثم جُنّ وقال لا إله إلا الله في جنونه مائة مرة أو أكثر، بالإجماع عند أولئك المخالفين وعند أهل الحق أنه لا يدخل في الإسلام؛ لأنه تكلم بكلام لم يقصد معناه؛ لأنه لا يعقل المعنى. لهذا فالعبرة فيما تعبد فيه من الألفاظ العبرة بالإقرار بالمعنى لا بمجرد اللفظ، وذلك لأنّ المنافقين قالوا هذه الكلمة ظاهرا وهم بنص القرآن والسنة هم كفار في الدرك الأسفل من النار، فلم ينفعهم قول لا إله إلا الله لأنهم لم يقصدوا معناها أو لأنهم خالفوا ما دلت عليه.(17/116)
إذن فهذه الكلمة دليلها أنواع من الإجماع هي قوله (والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرّد لفظها) وهذه الإشارة منه رحمه الله لأجل أنّ كثيرين قالوا هؤلاء الذين كفرتموهم أو قلتم هم مشركون يشهدون أو يقولون لا إله إلا الله ويتكلمون بذلك ويذكرون الله في اليوم ألف مرة بلا إله إلا الله، فكيف تقولون ذلك والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالكف على من قال لا إله إلا الله وقال لخالد «قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله» إلى آخر ذلك، فيقال إنّ قول الكلمة مع مخالفة المعنى هذا غير نافع بالإجماع فيما ذكرنا في المنافقين وفي حال من بلغ مجنونا.
قال (والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دونه والبراءة منه) المراد بهذه الكلمة ثلاثة أشياء في كلمة الشيخ هذه:
الأمر الأول: إفراد الله تعالى بالتعلق به، وهذا مأخوذ من النفي والإثبات بأنّ لا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله، لا أحد يستحق العبادة والتعلق والقصد لأجل العبادة إلا الله جل وعلا. فإذن المراد بهذه الكلمة أولا إفراد الله تعالى بالتعلق به يعني حين التعبد.(17/117)
والثاني: والكفر بما يعبد من دونه، والكفر بما يعبد من دون الله هذا نفهمه من النفي؛ لأن النفي معناه ما جاء في سورة الزخرف في قول الله جل وعلا ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ?[الزخرف:26-27], بضميمة قول الله جل وعلا في سورة الممتحنة عن إبراهيم ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ?، (فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني من المرسلين الذين معه على التوحيد من المرسلين والأنبياء ?إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ ? كل نبي قال لقومه ?إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ?[الممتحنة:4]، إذن في آية الزخرف قال جل وعلا الزخرف ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ?[الزخرف:26-28]، هذه الكلمة قال المفسرون هي كلمة لا إله إلا الله، فتكون كلمة لا إله إلا الله معناها (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)، ومعنى البراءة هنا هو ما دلت عليه آية سورة الممتحنة، فشمل ذلك الكفر بما يُعبد من دون الله؛ الكفر بما يعبد من دون الله وشمل البراءة منه، ولاحظ تعلق الكفر والبراءة بما يُعبد وليس بالعابدين لأن الكفر بالعابدين من اللوازم، وليس من معنى الكلمة، والبراءة من العابدين هذا من اللوازم وليس من معنى الكلمة.
الكلمة معناها: كلمة التوحيد يشمل الأمور الثلاثة التي ذكرها الشيخ رحمه الله هنا:
¨ إفراد التعلق بالله.(17/118)
¨ البراءة من كل معبود سوى الله جل وعلا، أو البراءة من كل عبادة لغير الله جل وعلا.
¨ والثالث: الكفر بكل معبود أو بكل عبادة إلا عبادة الله جل وعلا، الكفر بعبادة مَن دون الله جل وعلا، وهو كله راجع للعبادة نفسها، أما العابدون فهذا له حكم آخر وتفاصيل أخر.
إذن ظهر لك وجه الحجة من كون هذه الثلاثة أشياء التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى من معنى الكلمة وهو مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الكلمة.
قال رحمه الله (فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا: ? أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5]) هذا ظاهر في أنهم يعبدون آلهة ولا يقرون بأن العبادة والقصد يتوجه به إلى واحد بل يتوجه به إلى متعدد، وما بعده واضح حيث قال (فإذا عرفت أن جُهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفرة) إذا كان الكفرة مع علمهم بالمعنى كفروا فكيف يكون حال الذي لا يعلم المعنى أصلا يعني لم يعلم المعنى أصلا ولم يأتِ على باله هو يقع في الشرك مع عدم العلم بالمعنى، لا شك أنه أسوأ حالا من الذي يقع في الشرك مع علمه بالمعنى، فهذا يقع في الشرك وهو غير آمن بالمعنى لأن هذا فرط في واجب وهو أن كلمة التوحيد لا إله إلا الله لا تنفع إلا من علمها فعمل بمقتضاها، وأولئك علموا فخالفوا وهؤلاء المشركون في الأزمنة المتأخرة جهلوا وخالفوا، فقالوا كلمة لم يعلموا معناها فلم تنفعهم من هذه الجهة، ثم خالفوها من جهة العمل فلم تنفعهم أيضا من هذه الجهة، ولو كان هؤلاء تنفعهم الكلمة لكان المنافقون الذين قالوا لا إله إلا الله ينفعهم قولها؛ لأنهم يعلمون المعنى وتلفظوا بها ومع ذلك لما أبطنوا الكفر وعملوا به كانوا أشرّ من الكفار.(17/119)
قال (بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني) وهذا فيه إبطال التقليد في التوحيد فإن توحيد الله جل وعلا لا يصلح على جهة التقليد، بل لابد أن يعتقد المرء الحق بدليله مع علمه بمعنى كلمة التوحيد ومعنى ما دلت عليه، وهذا الاعتقاد يكفيه أن يكون في عمره مرة بدليله؛ يعني لو علمه لحين دخوله في الإسلام وعلم واستمر على المقتضى واستمر على ما دلت عليه، ثم لو سألته نسي ما عرفه واعتقده بدليله فإنه غير مؤاخذ، مثله المسلم الصغير المميز فإنه إذا عُلِّمَ هذه الكلمة وأخبر بمعناها وفهم ذلك وحفظه دليله أوعرف دليله من الكتاب أو من السنة واستمر على ذلك، فإنه يكفيه لأنه اعتقد الحق واعتقد معنى هذه الكلمة بالدليل غير مقلِّد في ذلك مرة في عمره ثم لم يأتِ بناقض لذلك الشيء، ولهذا عندنا في المدارس في الابتدائي يدرَّس الطالب أو الطالبة ثلاثة الأصول فيها معنى كلمة التوحيد والدليل عليها، وكذلك أركان الإيمان يعني مسائل القبر الثلاثة المعروفة، والعلماء من قديم جعلوا ذلك للمتعلمين الصغار؛ لأنهم إذا عرفوا ذلك بدليله مرَّة في العمر صار إيمانهم بما دل عليه التوحيد عن دليل لا عن تقليد، ولو نسوا بعد ذلك فإنه لا يؤثر ذلك؛ لأن نسيانهم ليس من جهة ترك العمل بما دلت عليه، ولكن من جهة نسيان تفسير الذي يُفصح لك به، لكن لو سألته قلت: هل يُدعا غير الله جل وعلا؟ فيقول لا. لأنه علم معنى الكلمة لو سألته هل يستغاث بغير الله؟ قال: لا، لأنه يعلم معنى الكلمة، بخلاف من خالف المعنى وما دلت عليه بشيء حدث له، يعني تسأله فيجيب بخلاف ما تعلم سابقا هذا يكون لابد له من تجديد علم بدليله، حتى يصبح خالصا من التقليد.(17/120)
المقصود من هذا أن التقليد في التوحيد لا يجوز، ومن قلد في التوحيد فإنه لا ينفعه؛ لأن الله جل وعلا لام وذم أهل الشرك بقولهم ? إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ?[الزخرف:22]، وفي الآية الأخرى ?مُقْتَدُونَ?[الزخرف:23]، فلا بد في التوحيد من دليل ولا ينفع فيه التقليد، وقد أوضحت ذلك مع زيادة بيان وضوابط في شرح ثلاثة الأصول لأن هذا إنما أتى عَرَضا.
قال(والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق إلا الله، ولا يدبر الأمر إلا الله) هذا الحاذق من أهل هذا الوقت من المشركين نسأل الله العافية وما قبله بأزمان، [...] عن كلمة التوحيد يفسرها بالربوبية لماذا؟ لأنه هو الذي درسه في مذهب الأشعرية ومذهب الماتريدية أو مذاهب المتكلمين، معنى كلمة التوحيد عندهم لا قادر على الاختراع إلا الله لا رازق إلا الله لا محيي إلا الله لا مميت إلا الله، هذا هو الحاذق المتعلم فيهم، (فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله) ولو كان صاحب عمامة وجبة ولو كان ما كان فإن علمه غير مناسب لأن هذه الكلمة هي أساس كل خير، فإذا كان يجهل معناها فإنه لا خير فيه ولو ادّعى فيه الناس ما يدعون.
نقف عند هذا ونجيب على بعض الأسئلة.
[الأسئلة]
1/ هذا يقول من فسّر كلمة التوحيد بقوله لا حاكمية إلا لله متعلقا بقوله تعالى ?إِن الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ?([22]) وهل هذا التفسير مستقيم أم هو غير ذلك نرجو التوضيح؟(17/121)
من فسر كلمة التوحيد بقوله لا حاكمية إلا لله، ويقول هذا هو معناها فهذا من جنس قول الخوارج؛ لأنهم هم فسروا التوحيد بتوحيد الحكم لقول الله جل وعلا ?فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ?[غافر:12]، ولقوله جل وعلا (إِنْ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) والحكم يجب إفراد الله جل وعلا به، وهو من مفردات توحيد الإلهية؛ لأنّ الحكم يعني في الشرع الحكم بالقرآن هذا تحكيم لله، فهو قصد لله جل وعلا طلبا للحكم، فهو من هذه الجهة فيه القصد، قصد القلب والعمل لطلب حكمه فيها، فمن قال معنى لا إله إلا الله لا معبود حق إلا الله كما هو تفسير أهل العلم فإنه يدخل فيه هذا المفرد من المفردات وهو إفراد الله جل وعلا بأنه هو المستحق للتحاكم إليه، لهذا إمام هذه الدعوة جعل من أبواب كتاب التوحيد أبوابا تخصّ هذه المسألة وهي مسألة التحاكم تحليل الحلال وتحريم الحرام وعدم طاعة أحد في تحليل الحرام أو تحريم الحلال في أبواب معروفة، فالمقصود أنّ تفسير لا إله إلا الله بلا حاكمية إلا الله هذا من جنس تفاسير المبتدعة؛ لأنّ لا حاكمية مساوية لـ: لا إله؛ فيعني أنّ الإله هو الحاكم وهذا غلط لأنّ الإله لا في اللغة ولا في العرف ولا في ما جاء به القرآن أن الإله هو الحاكم، وإنما الإله هو الذي يستحق العبادة، ومن العبادة القصد لأحدٍ لتحكيمه بغير شرع الله أو بشرع الله إذا قصد أحدا لتحكيمه راضيا بذلك مختارا فإنه قد عبده، وهذا هناك فرق بين مسألة الحكم والتحكيم قال جل وعلا في سورة النساء ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ?[النساء:60] قال طائفة من أهل العلم قوله هنا (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا) فيه اعتبار الإرادة وذلك أن يتحاكم عن رغبة ورضا بحكم الطاغوت، بخلاف ما لو أكره عليه أو(17/122)
أجبر أو أضطر إلى ذلك غير راغب ولا مريد في أشباه هذه الحالات.
المقصود من هذا أنه يكون عابدا لغير الله إذا تحاكم راغبا في ذلك مُعظِّما له كحال العابد المحكم في الله جل وعلا في ذلك، فالحكم لله تبارك وتعالى تحكيم القرآن تحكيم لله، تحكيم السنة تحكيم لله جل وعلا، ولهذا لا يطلق الحاكم إلا على من حكم بشرع الله جل جلاله.
2/ هذا سؤال عرضنا له مرارا: هل هناك فرق بين أهل الحديث والفرقة الناجية المنصورة، وما حجة من فرق بينهما؟
مرّ علينا عدة مرات.
3/ من وقع في شرك الأولياء وكان كما ذكرت مصليا عابدا يظن نفسه موحدا مؤمنا، وكان في بلاد علماؤها يلبسون على العوام، ولا يبينون أن هذا شرك بل يفعلون ما يدل على إقرارهم على هذا الشرك من شهود الموالد وإقامة الدروس في المساجد التي بها قبور الأولياء فهل يعذر هؤلاء العوام بجهلهم وعدم وجود من يبين لهم؟
هذه المسألة معروفة بمسألة العذر بالجهل، ونرجئ الكلام عليها إلى مقام آخر إن شاء الله تعالى.
4/ هناك بعض الناس في بلاد أخرى يأتون إلى بعض الناس يزعمون أنهم أولياء فيطلبون منهم أن يدعوا لهم الله عز وجل فما حكم هذا العمل؟(17/123)
إذا أتى إلى ميت؛ ولي أو نبي أو نحو ذلك فطلب منه أن يدعو الله له؛ يعني قال: يا فلان أدعو الله لي. هذا ميت، هذا هو معنى الشفاعة فمعنى طلب الشفاعة من الميت طلب أن يدعو الله له، أن يسأل الله، فإذن قول القائل للميت أدعو الله لي، أو يأتي للنبي - صلى الله عليه وسلم - خارج الحجرة والأسوار ويقول يا رسول الله أدعو الله لي أن يرزقني بكذا، ومعنى هذا اشفع لي بهذا المطلب، لهذا معنى أدعو الله لي اشفع، وحكمها حكم الشفاعة وقد مر معنا في هذا الكتاب أنّ أولئك ما قصدوا إلا الشفاعة، وهم حين يتقربون للموتى يريدون في النهاية أن الموتى يشفعون لهم إذا طلبوا ومنهم شيئا، فيأتي يذبح له ينذر له في المواسم وبين الحين والآخر لظنه أن هذا الميت أو هذا الولي أو هذا النبي أو هذا الجني أو إلى آخره يعرفه بأنه يتقرب إليه، فإذا سأله عند حاجته فإنه مباشرة يرفع حاجته ويدعوا له ويطلب له ما سأل؛ لأنه يتقرب إليه، فهم ما عبدوا إلا للقربى، ولا ذبحوا ولا نذروا ولا استغاثوا ولا عملوا هذه الأشياء بأنواع العبادات إلا لأجل أن يُشفع لهم يعني أن يشفع لهم من سئل.
فإذن من طلب من الميت أن يدعو له هذا معناه أنه طلب منه أن يشفع له والشفاعة لا تصلح إلا لله.
5/ هل يصح ما يقال أنه أشرف من عبد من دون الله هم الملائكة؟
ما لها حاجة العبارة هذه أصلا؛ أشرف من عبد من دون الله الملائكة، لا حاجة للعبارة أصلا، والملائكة على الصحيح يفضُلُهم الأنبياء والمرسلون، فالأنبياء والمرسلون والأولياء أفضل من الملائكة على الصحيح في هذه المسألة.
هذه هي المسألة المعروفة بالتفضيل بين الملائكة والبشر، عفوا البشر عن الملائكة، هناك أقوال فيها والتحقيق أن صالحي البشر الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين من عباد الله أفضل من الملائكة لأدلة كثيرة في هذا المقام، وقد بسطها العلماء في مواطنها.(17/124)
شيخ الإسلام كان إذا سئل عن هذه المسألة يسكت، يقول كنت أظن أن الكلام فيها محدث وأن السلف سكتوا عنها كنت أسكت عن الكلام فيها كما سكت السلف، حتى وجدت أن الكلام في التفضيل بين الملائكة والبشر سلفيٌّ أثري ثم ساق أقوال الصحابة والتابعين فيما وقف عليه في هذه المسألة.
6/ هل إجابة دعاء من كان يدعو عند القبر فيه ابتلاء لهذا الداعي؛ لأنه سوف يظن أن المجيب له صاحب القبر؟
هذا لاشك والابتلاء وقع في هذه المسألة وفي غيرها، فإذا أجيب دعاء من دعا عند القبر فإنه وقع له هنا المخالفة وابتلي بسببها بأنه لو أجيب لظن أن سبب الإجابة صاحب القبر أو بركة المكان، وهذا ابتلاء وشبهة وقع فيها لأنه فرّط في الحق، وكما ذكرتُ لك أنه يكون الإجابة لسِرٍّ؛ لسبب تعلّق بدعائه، وهو يظن أن السبب هو القبر، هذه المسألة مذكروة في شرح الطحاوية في أواخرها.
7/ ذكرت أن المنافقين قالوا لا إله إلا الله مع أنها لا تقبل منهم، ولكن يمكن أن يجيب عليها فيقول لا تقل له إنه كافر في الدنيا بل نقول إنه مسلم ونرد علمه إلى الله، هؤلاء الذين يصلون إلى القبر ويعبدون عبد القادر مثلا لا نطلق عليهم لفظ الكفار بل هم مسلمون، ونرد أمرهم إلى الله؟(17/125)
هذا يعطينا دخول في بحث نريد أن تتنبهوا له فيما تسمعون أو تقرؤون، يكون هناك تنظير شيء بشيء لمعنى من المعاني أو لقدر من الاحتجاج، فلا توسع أنت ذاك إلى شيء أوسع مما كان الكلام فيه، لأن هذا يعطيك لبسا في الفهم وأيضا يوقعك في إشكالات علمية دائما، فالتنظير لا يكون دائما على جهة التكامل أو التماثل ما بين الأول والثاني، وإنما قد يكون لجهة من الجهات مثل ما ذكرنا في ورود الشبه بين المنافقين وبين من يقول لا إله إلا الله ويريد الاكتفاء بلفظها، وجه المشابهة قلنا إنه بالإجماع المنافق لم تُفده كلمة لا إله إلا الله، لم تفده في الظاهر أو في الباطن؟ الكلام معروف أنها لم تفده في الباطن، لكن هي لم تفده، ولو أفادته لنجى بها من النار، لكن لم تفده، كذلك من قالها ولم يعلم معناها فإنها لا تفيده من باب أولى؛ لأنه اشترك مع المنافق في القول، والمنافق زاد عليه في العلم، وذاك جهل فهذا قال لفظا ظاهرا وجهل المعنى، وذاك قال لفظا وعلم المعنى ومع ذلك في الدرك الأسفل من النار، لا يعني هذا أن ترتب جميع اللوازم على هذا التنظير من أن تقول أن هؤلاء مسلمون ظاهرا فهل نحكم لهؤلاء بالإسلام الظاهر إلى أشباه هذه الكلمة وإنما القصد أن نمثل للقول بالقول.
8/ ما معنى البراءة والكفر بما عُبد من دون الله؟
ذكرنا هذا.
9/ هل إجابة الله دعاء الحي من صاحب القبر من الاستدراج؟
لا، هو من الفتنة له.
10/ نسمع في كتب العقيدة كثيرا ما يُكررون قولهم هذه المسألة شرك أصغر لأنها اعتقاد السببية فيما لم يجعله الله سببا لا قدرا ولا شرعا كحال في التمائم والطيرة، فهل هذه الحالة مطردة؟
هذه مسألة طويلة والجواب عليها يحتاج على وقت، لكن تلخيصها أن في مسائل الشرك الأصغر نُرجع كثيرا ما يُحكم عليه بأنه شرك أصغر بالتعلق بالأسباب.
الأسباب منها شيء أذن الله جل وعلا به ومنها شيء لم يأذن الله به شرعا، هذا واحد.(17/126)
والأسباب منها ما جعله الله جل وعلا كونا وقدرا في كونه وما جعل سنته عليه –الأشياء-، ما جعله يعطي المسبب؛ ينتج النتيجة ومنها ما جعله لا ينتج النتيجة التي يظنها الظان.
مثلا الماء سبب لإزالة العطش أليس كذلك؟ الماء الحلو، لكن الماء المالح لم يجعله الله سببا كونيا لإزالة العطش، وإنما جعل الله جل وعلا الماء العذب هو سبب إزالة العطش.
الماء والنار، الماء تطفئ النار، فإذا احتجت إلى إطفاء النار لا تأتي بنار أخرى وإنما تأتي بماء.
يعني جعل الله جل وعلا لكل شيء سببا، وجعل هذه الأسباب تُنتج المسبَّبات، فمن جعل شيئا من الأشياء سببا لشيء آخر لم يكن في الشرع سببا له، فهذا مشرك الشرك الأصغر، بمعنى في الشرع ليس هذا السبب جائزا أو لم يُجعل في الشرع التعلق بهذا السبب أو استعماله جائزا، فإنه يكون ذلك منه تعلق بسبب ليس بسبب شرعي، فيكون شركا أصغر مع ضميمة الشيء الثاني وهو أن يكون هذا السبب لا ينتج المسبب كونا؛ لأن الأسباب قد تكون تنتج المسببات قدَرا ولكنها ممنوعة شرعا مثل الشفاء أو الاستشفاء بالمحرمات يشرب الخمر فيتداوى بها، يسمع موسيقى فينتفع بها في الدواء، هذه أسباب كونية قد تكون تؤثر في إنتاج مسبَّباتها، لكنها شرعا ممنوعة.
فمن استعمل سببا كونيا في إنتاج المسبَّب -الذي هو النتيجة- فيما نعلمه كونا أنه ينتج هذا السبب، نقول هذا لا يجوز شرعا وليس بشرك.
ولكن من جعل سببا ليس بسبب كوني ولا شرعي وتعلق به فإنه يكون مشركا الشرك الأصغر .
نرجع في تلخيص هذا أن الأسباب منها ما ينتج المسبب، ومنها ما لا ينتجه، فإذا كان ينتج المسبب كونا يعني فيما تعارفه الناس فتنظر، هل أباحته الشريعة أم لم تبحه؟
فإن أباحته الشريعة فهذا جائز استعماله لأنه سبب شرعي وقدري هذا نوع.
إذا لم تجزه الشريعة فيكون سببا كونيا مثل التداوي بالمحرمات، ولكنه ليس بسبب شرعي فهذا نقول غير جائز.(17/127)
والحالة الثالثة ما ليس بسبب لا شرعي ولا كوني فإن هذا يكون التعلق به شركا أصغر؛ مثل تعليق خيط، يعلق خيط ويتعلق قلبه به فيدفع عنه العين، ما علاقة خيط من حبال أو قطن ما علاقتها بدفع العين؟ هذا ليس في الكون ما يثبت السببية، وليس في الشرع أيضا ما يجعل هذا السبب مأذونا به، فيكون التعلق به شركا. كذلك التميمة، تميمة طلاسم أو تميمة بها أشياء أو تميمة وضع خرز أو تميمة وضع جلد أو إلى آخره، هل هذا السبب ينتج المسبب قدرا لا ينتجه، وهو غير مأذون به شرعا، فإذن اجتمع فيه أنه ليس بمأذون به شرعا وأنه لا ينتج المسبَّب قدرا فصار التعلق به شركا أصغر.
يوضحه التميمة من القرآن، تميمة من القرآن هل هي شرك؟ ليست بشرك مع أنها تميمة، لكن اختلف العلماء هل يجوز تعليق التميمة من القرآن أم لا؟ وبالاتفاق لا تسمى شركا لأنّ التعلق بالقرآن من جهة كونه شفاء سبب كوني وسبب شرعي -صحيح؟- التعلق بالقرآن، لكن تعليق القرآن وإن كان سببا كونيا لكنه ليس بسبب شرعي، فلهذا لا يصح أن يطلق على تعليق التمائم من القرآن أنها شرك، ولكن نقول الصحيح أنها لا تجوز، و...([23])
?????
[المتن]
إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?([24]) وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبَل الله من أحد سواه، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين:
الأولى الفرح فضل الله ورحمته كما قال تعالى ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:58].(17/128)
وأفادك أيضا الخوف العظيم؛ فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يُخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما ظنّ المشركون، خصوصا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين ?اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ?[الأعراف:138].
فحينئذ يعظم حرصك وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.
[الشرح]
بسم الله الحكيم، الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لمجده، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
قال إمام الدعوة الإصلاحية السّلفية في هذه القرون المتأخرة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بعد أنْ ذكر أصولا ومحكمات في فهم التوحيد وفهم الشرك وما كان عليه أهل الجاهلية من الإشراك بالله جل وعلا وصفة ذلك الشرك وما يتصل بذلك، قال (إذا عرفتَ ما ذكرتُ لك معرفة قلب) يعني أنّ الذي سلف يحتاج إلى العلم، فالعلم منه ما يُعلم بإدراكٍ لأول وهلة ثم يترك، ومنه ما يُعرف معرفة قلب، فيكون مدركا ومستقرا في القلب ومعلوما بأدلته وبراهينه.(17/129)
قوله هنا رحمه الله (إذا عرفتَ ما ذكرتُ لك معرفة قلب) المعرفة هي العلم في هذا الموضع يعني إذا علمت ما ذكرت لك علم قلبٍ، والعلم والمعرفة في ابن آدم متقاربان، أما في حق الله جل وعلا فإنما يوصف سبحانه وتعالى بالعلم دون المعرفة، والمعرفة في القرآن أكثر ما جاءت في سبيل التهجين لها وأنها لا تنفع؛ لأنها معرفة بالظاهر لا معرفة القلب، كما قال جل وعلا ? يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]، وكما قال ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ?([25]) فأتت المعرفة لا في مقام المدح في القرآن بل في مقام الذّم، وهذا لأجل أن المعرفة لا يتبعها العلم بالحق دائما والإذعان له والعمل به، وإنما قد تكون قائدة لذلك وقد لا تكون وهو الأغلب، وعامة العلماء على أن المعرفة والعلم في ابن آدم متقاربان؛ لكن يختلفان في أن المعرفة قد يسبقها؛ بل المعرفةُ يسبقها جهل بالشيء أو ضياع لمعالمه، فجهل ثم عرف أو ضاعت معالم الشيء عليه ثم اهتدى إليه وعرفه، كما قال جل وعلا في قصة يوسف ?فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ?[يوسف:58] هذا من جهة العلامات والصفات.(17/130)
فإذن المعرفة والعلم بمعنى واحد، ولهذا جاء في حديث معاذ حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن أنّه قال عليه الصلاة والسلام «فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أنْ يعرفوا الله، فإذا هم عرفوا الله فاعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة» في بعض ألفاظ ذلك الحديث، نعم المحفوظ فيه «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» لكن عُبّر عن ذلك تارة بالتوحيد وتارة بالمعرفة، وهذا يدل على أن المعنى عند التابعين الذين رووا بهذا وهذا متقارب، لهذا يستعمل العلماء كلمة المعرفة وكلمة العلم متقاربة، وهذا هو الذي درج عليه الشيخ رحمه الله تعالى هنا؛ لأنه مخاطب من ليس عنده ذلك التفريق الدقيق بين المعرفة والعلم.
قال (إذا عرفت ما ذكرت لك معرفة قلب) وهذا المقصود به علم القلب؛ لأن المعرفة معرفة اللسان أو معرفة الظاهر قد لا تقود للإذعان للحق، لكن معرفة القلب معها الاستسلام لذلك الحق.
قال (وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?([26])) هذه المعرفة الثانية عرفت الشرك من حيث دلالته وصفته وحكمه وما كان عليه المشركون في إشراكهم بالله جل وعلا، فإذن هذا النوع الثاني من المقدمات، والشيخ رحمه الله في هذا الكلام يقدم بمقدمات للنتيجة التي يصل إليها وهي قوله بعد ذلك (أفادك فائدتين)، قال (وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?) الشرك اتخاذ الشريك، واتخاذ الشريك قد يكون على جهة التنديد الأعظم، وقد يكون على جهة التنديد الأصغر، حقيقة الشرك أن يُتخذ النّدّ مع الله جل وعلا واتخاذ الند مع الله قسمان:(17/131)
إتخاذ للند فيما يستحقه الله جل وعلا على العبد من توحيده بالعبادة، وهذا التنديد هو الشرك الأكبر، كما جاء في حديث ابن مسعود حين سأله أي الذنب أعظم؟ قال عليه الصلاة والسلام «أن تجعل لله ندا وهو خلقك»، وكما قال جل وعلا ?فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:22] ونحو ذلك.
وهناك تنديد أقل يعني أن يجعل للمخلوق شيء من الندية ولكن لا تصل إلى صرف العبادة لغير الله، وهذا من جهة التعلق ببعض الأسباب التي لم يأذن الله جل وعلا بها، أو تعظيم بعض الأشياء تعظيم الذي لا يوصل إلى ما يناسب مقام الربوبية مثل الحلف بغير الله، ومثل قول لولا الله وفلان وأشباه ذلك.
فإذن الشرك هو التنديد، وهو اتخاذ الشريك مع الله جل وعلا، والتنديد قسمان:
¨ تنديد أعظم: وهو أن يجعل ما هو محض حق الله جل وعلا للمخلوق.
¨ وتنديد أصغر: وهو أن يجعل للمخلوق شيئا مما يجب أن يكون لله، لكن لا يبلغ أن يصل إلى درجة الشرك الأكبر.
ولهذا اختلف العلماء في تعريف الشرك الأصغر وفي ضابط الشرك الأصغر ما هو، كما سبق أن مرّ معكم في كتاب التوحيد:و
منهم من قال الشرك الأصغر هو ما دون الشرك الأكبر مما لم يوصف بالنصوص بأنه مخرج من الملة أو أنه فيه صرف العبادة لغير الله جل جلاله.
وقال آخرون الشرك الأصغر هو كل وسيلة إلى الشرك الأكبر.
والثاني ينضبط في أشياء ولا ينضبط في أشياء أخر.(17/132)
فمدار ضابط الشرك الأصغر على أشياء ورد النص بتسميتها شركا أو أن حقيقتها تشريك ولا تبلغ التنديد الأعظم في صرف العبادة لغير الله جل جلاله، فقوله جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?، ظاهر في التحذير والتخوف من الشرك لأن الشرك لا يغفر (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) وأما الذنوب فهي على رجاء الغفران كما قال هنا جل وعلا ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وكما قال جل وعلا ?قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا?[الزمر:53]، أجمع العلماء على قوله (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) نزلت في حق من تاب، فإذن قوله جل وعلا (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) في حق من مات على غير التوبة مصرا على معصية فهو على رجاء الغفران تحت المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه بذنبه، وأما من تاب فإنه لا يدخل تحت المشيئة لقوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) ولقوله جل وعلا ?وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى?[طه:82]، في آيات كثيرة في هذا المقام.(17/133)
وهاهنا في هذه الآية بحث وهو أن قوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فيه النكرة في سياق النفي، ومن المتقرر في الأصول؛ أصول الفقه وفي علم العربية أن النكرة في سياق النفي تعم، وهنا وقعت النكرة في سياق النفي، والنكرة هي المصدر المنسبك من (أنْ) والفعل المضارع يشرك؛ لأن معنى الكلام إن الله لا يغفر شركا به والمصدر نكرة، وهذا يعني العموم؛ عموم الشرك، فيكون المراد هنا أن الله جل وعلا لا يغفر أي نوع من أنواع الشرك، فالشرك على هذا لا يدخل تحت الغفران سواء أكان أكبر أم كان أصغر أم كان في شرك الألفاظ وأشباه ذلك، بل إنما يقع فيه من الموازنة بين الحسنات والسيئات، وإما يؤخذ العبد به فيعذب عليه، وهذا اختيار جمع من المحققين منهم شيخ الإسلام بن تيمية، ومنهم أكثر أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى، بناء على القاعدة الشرعية على ذلك.
قال آخرون من أهل العلم إن قوله جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) هو عام لأن أن يشرك نكرة أتت في سياق النفي فهي دالة على العموم، لكن العموم تارة يراد به الخصوص لأن العموم عند الأصوليين على ثلاثة:
¨ مراتب عموم باق على عمومه.
¨ وعموم مخصوص.
¨ وعموم مراد به الخصوص.(17/134)
فيكون اللفظ عاما ولكن المراد به شيء خاص، كما في قوله جل وعلا ?الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[الأنعام:82]، فهنا قوله (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) هذه نكرة أيضا في سياق النفي بـ(لم) وهذه تدل على عموم الظلم، ولهذا فهم الصحابة ذلك فقالوا: يا رسول الله أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال «ليس الذي تذهبون إليه فإنما الظلم الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ?[لقمان:13]»، فأفهمهم عليه الصلاة والسلام أنّ المراد هنا بالظلم خصوص الشرك، فإذن يكون اللفظ عاما ولكن المراد به خصوص الشرك، وهذا ما يسميه الأصوليون عموم مراد به الخصوص، ففي هذه الآية قال طائفة من أهل العلم اللفظ عام ولكن المراد به خصوص الشرك الأكبر؛ لأنه هو الذي نعلم من النصوص أنه لا يُغفر وأنّ صاحبه متوعد بالنار كما قال جل وعلا مثلاً في سورة الحج إنه ?وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ?[الحج:31]، وكما قال جل وعلا في سورة المائدة ?وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72]، قوله في سورة المائدة (مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) (مَنْ) هذه شرطية و(يُشْرِكْ) فعل فيه الحدث فيه المصدر وهي نكرة هذا يدل على العموم، لكن لما رتب الأثر وهو أن الله حرم عليه الجنة ومأواه النار علمنا أن المراد خصوص الشرك الأكبر، فقالوا هذه الآية مثل تلك.(17/135)
قال الأولون هذه الآية فيها عدم المغفرة وعدم المغفرة لا يستلزم الخلود في النار، وهذا غير الآيات التي فيها الخلود في النار، فتلك الآيات دالة على أن المراد بالشرك الخصوص؛ خصوص الشرك الأكبر لأن السياق يقتضيه، وأما هذه فلا دليل عليها.
وعلى العموم كما ذكرنا القول الأول هو قول الأكثرين، وعليه يتم الاستدلال هنا، وهو أن من عرف من الشرك الأكبر والأصغر في قول الأكثرين من أهل العلم لا يدخل تحت المغفرة أفاده الخوف من الشرك بالله جل وعلا؛ لأنه ليس ثَم شركا على هذا القول يدخل تحت المغفرة، بل إن الله جل جلاله لا بد أن يؤاخذ بالشرك، فإنْ كان شركا أكبر فالخوف عظيم منه فلا بد من معرفته ومعرفة وسائله ومعرفة أفراده حتى يحذره العبد، وإن كان شركا أصغر فلا بد أيضا من معرفته ومعرفة أفراده ومعرفة وسائله حتى يحذره العبد؛ لأن الجميع لا يدخل تحت المغفرة.
فإذن قول الشيخ رحمه الله تعالى هنا (وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?) يريد منه وضوح صورة الشركن ثم الخوف من الشرك، وأثر ذلك الخوف وهو أن يسعى العبد في تعلم التوحيد وتعلم ضده الذي هو الشرك الأكبر والأصغر حتى لا يخاطر بدينه وبنفسه وبمستقبله في الآخرة لأشياء يتساهل فيها في هذه الدار الفانية.
هذه النقطة الثانية التي تكلم عليها الشيخ.(17/136)
الثالثة من المقدمات قال (وعرفت دين الله الذي أرسل به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد سواه) دين الله الذي أرسل به الرسل هو الإسلام، الإسلام المراد به هنا الإسلام العام الذي يشترك في الدعوة إليه كل رسول، فكل رسول أتى بالإسلام العام، وأما محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فأتى بالإسلام العام والإسلام الخاص الذي هو شريعة الإسلام، والرسل من قبل مسلمون وأتباع محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام مسلمون، وإسلام من قبلنا دخول بالإسلام العام، وأما إسلام هذه الأمة فهو إسلام من جهة العقيدة ومن جهة الشريعة.
وما هو الإسلام العام؟ الإسلام العام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
هذا التعريف للإسلام دعا إليه الرسل جميعا، أن يُستسلم لله بالتوحيد وأن يُنقاد له بالطاعة والطاعة هنا بحسبها طاعة لكل رسول جاء كل أمة بحسب الرسول الذي جاءها والبراءة من الشرك وأهله.
فإذن هذا الأصل هو الدين عند الله جل وعلا الذي قال الله فيه ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، وبقوله ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85]، قبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كل مخاطب بالإسلام الذي بعث به الرسول الذي أرسل إلى تلك الطائفة، وبعد محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام لا يُقبل من أحد لا الإسلام الذي بعث به محمد عليه الصلاة والسلام.
فإذن دين الله الذي أرسل به الرسل مشتمل تحقيق التوحيد لله وخلع الأنداد والكفر بالطاغوت، كما قال جل وعلا في سورة النحل ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، وقال ?وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ?[فاطر:24] ونحو ذلك من الآيات.(17/137)
فإذن العلم بدين الرسل هذا مهم للغاية، وتعلم دين نوح عليه السلام، وتعلم دين إبراهيم عليه السلام، وما خالف به نوح قومه وما خالف به إبراهيم قومه، وكذلك دين موسى عليه السلام ودين عيسى وما خالفوا به أقوامهم، وكذلك الدين الذي بُعث به سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام وما خالف به أقوامهم.
إذا عرفت حقيقة دين المرسلين فإنه يسهل عليك أن تعرف ما عليه الناس في الأزمان التي غلب فيها الجهل.
قال –هذه الأخيرة؛ الرابعة من المقدمات- (وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين) التوحيد ترْكه ممن تركه راجع إلى أحد شيئين أو هما معا في بعض الأحوال:
¨ الأول: الجهل به.
¨ والثاني: العناد.
والجهل قد يكون لعدم وجود من ينبه وقد يكون للإعراض عن البحث فيه.
والعناد والاستكبار هذا يكون مع العلم وإقامة الحجة.
وكل من الأمرين مُكَفِّر؛ فمن لم يأتِ بالتوحيد عن إعراض منه وجهل فهو كافر، ومن لم يأتِ بالتوحيد ويترك الشرك بالله جل وعلا عن عناد واستكبار فهو كافر، لهذا قال العلماء الكفر كفران:
1. كفر إباء واستكبار كقوله جل وعلا ?إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ?[البقرة:34].
2. والنوع الثاني الإعراض كما قال جل وعلا ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ?[الأنبياء:24].
فليس كل من كفر كَفر عن عناد واستكبار، بل قد يكون كُفره عن الإعراض، ولهذا جاء في أواخر نواقض الإسلام التي كتبها إمام الدعوة رحمه الله؛ الناقض العاشر الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به. لا يهمه أن يعلم التوحيد ولا يهمه أن يعرف الشرك ولا يهمه هذه المسائل، يُعرض عن دين الله أصلا.(17/138)
وإذا تقرر ذلك فهنا ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بذلك، هذا من جهة الحكم على الواقع ذاك الذي تكلمنا عليه من جهة التأصيل؛ أنّ الكفر قد يكون من جهة الإعراض والجهل، وقد يكون من جهة الإباء والاستكبار، ومن جهة الواقع يعني الحكم على الناس فإن المتلبس بالشرك يُقال له مشرك سواءً أكان عالما أم كان جاهلا، والحكم عليه بالكفر يتنوع:
فإن أُقيمت عليه الحجة؛ الحجة الرسالية من خبير بها ليزيل عنه الشبهة وليُفهمه بحدود ما أنزل الله على رسوله التوحيد وبيان الشرك فترك ذلك مع إقامة الحجة عليه فإنه يعد كافرا ظاهرا وباطنا.
وأما المعرض فهنا يعمل في الظاهر معاملة الكافر، وأما باطنه فإنه لا نحكم عليه بالكفر الباطن إلا بعد قيام الحجة عليه؛ لأنه من المتقرر عند العلماء أن من تلبس بالزنا فهو زان، وقد يؤاخذ وقد لا يؤاخذ، إذا كان عالما بحرمة الزنا فزنى فهو مؤاخذ، وإذا كان أسلم للتو وزنى غير عالم أنه محرم فالاسم باق عليه؛ لكن –يعني اسم الزنا باق أنه زانٍ واسم الزنا عليه باق- لكن لا يؤاخذ بذلك لعدم علمه.
وهذا هو الجمع بين ما ورد في هذا الباب من أقوال مختلفة.
فإذن يفرق في هذا الباب بين الكفر الظاهر والباطن، والأصل أنه لا يُكَفَّر أحد إلا بعد قيام الحجة عليه لقول الله جل وعلا ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?[الإسراء:15]، والعذاب هنا إنما يكون بعد إقامة الحجة على العبد في الدنيا أو في الآخرة، قد يُعامل معاملة الكافر استبراء للدين وحفظا له، من جهة الاستغفار له، ومن جهة عدم التضحية له، وألاّ يزوج وأشباه ذلك من الأحكام.(17/139)
فإذن كلام أئمة الدعوة في هذه المسألة فيه تفصيل ما بين الكفر الظاهر والكفر الباطن، ومن جهة التطبيق في الواقع يفرقون، فإذا أتى للتأصيل قالوا هو كفر سواء أكان كفره عن إعراض وجهل أو كان كفره عن إباء واستكبار، وإذا أتى للتطبيق على المعين أطلقوا على من أقيمت عليه الحجة الرّسالية البينة الواضحة أطلقوا عليه الكفر، وأما من لم تقم عليه الحجة فتارة لا يطلقون عليه الكفر كما قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في موضع: وإن كنا لا نكفر من عند قبة الكوّاز وقبة البدوي لأجل عدم وجود من ينبههم. الشيخ ما كفر أهل [الجبيلة] ونحوهم ممن عندهم بعض الأوثان في أول الأمر لأجل عدم بلوغ الحجة الكافية لهم، وقد يطلق بعضهم على هؤلاء الكفر ويراد به أن يعاملوا معاملة أهل الكفر حرزا ومحافظة لأمر الشريعة والإتباع، حتى لا يستغفر لمشرك، وحتى لا يضحي عن مشرك، أو أن يتولى مشركا ونحو ذلك من الأحكام.
فإذن نخلص من ذلك (وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا ) أنّ هذا الجهل بالتوحيد مذموم غاية الذم، سواء أطلقنا عليه حكم الكفر ونعني به الظاهر، لا الكفر الكامل الذي هو ردة مخرج من الدين أصلا، وإنما الكفر الظاهر الذي تترتب عليه الأحكام الظاهرة في الدنيا، أو قلنا أنه في هذا أتى بخطر عظيم في جهله بالتوحيد، فهذا ينبئك عن أن غالب الناس اليوم كما قال الله جل وعلا ?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف:106]، وكما قال بل أكثرهم ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ?[الأنبياء:24]، فالحق بين وواضح وجلي من أراده أدركه ولكن سبب علمهم بالحق ليس هو خفاء الحق في نفسه ولكن سببه إعراض من أعرض، قال( بل أكثرهم لا يعلمون الحق) لم؟ هل لأدل أن الحق خافٍ أو يحتاج إلى معلومات خاصة بل السبب أنهم معرضون، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون ذلك سبب عدم علمهم بالحق الإعراض.(17/140)
فهذا الإعراض عن الدين والإعراض عن التوحيد وعدم تعلم التوحيد والجهل به، هذا قد تجده في أناس من الخاصة، وقد تجده في دعاة وقد تجده في بعض طلبة العلم، فمن أنعم الله جل وعلا عليه بمعرفة التوحيد ومعرفة ضده ومعرفة أنواع التوحيد وبيان ذلك والأدلة عليه، وعرفتَ ما أصبح غالب الناس فيه، بل أكثر وأكثر الناس فيه من الجهل بالتوحيد حتى وإن زعموا أنهم من أهله (أفادك فائدتين الأولى الفرح فضل الله ورحمته) فإنه لا شيء يعدل العلم بالتوحيد والعلم بضده والاستجابة لأمر الله بالتوحيد والاستجابة لنهي الله جل ولا عن الشرك ووسائله، فإن العلم بذلك هو أصل الاعتقاد، والعمل بذلك هو أصل الملة فأصل بعثة الأنبياء والمرسلين وزبدة الرسالات الإلهية، فمن رأى ما من الله به عليه من الإقبال على هذا العلم وفهمه وفهم حدوده وفهم أدلته وكلام أهل العلم فيه أفاده هذه الفائدة العظمى ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:58]، ولهذا الفرح (بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) يعني بالدين وبالتوحيد وبتعلمه وبالإقبال عليه، هذا خير من كل ما يغشاه الناس من أمور الدنيا ومن الأمور التي يظنون أنها فاضلة لأمور الدين كالاهتمام بالعلوم المختلفة أو الاهتمام بأشياء متنوعة، فأصل الملة أن تعلم التوحيد وتتعلمه، لهذا خاف إبراهيم على نفسه من عبادة الأصنام فدعا ربه بقوله ?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ?[إبراهيم:35] خاف على نفسه وخاف على بنيه، قال إبراهيم التيمي رحمه الله: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. لهذا بوب الشيخ في كتاب التوحيد باب الخوف.(17/141)
فهنا إذا عرفت المقدمات الأربع، وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا التوحيد والجهل بالشرك وعدم إعارة ذلك أو الاهتمام بذلك الاهتمام الواجب الذي يليق به لعظم مسألة التوحيد، أفادك فائدتين الأولى الفرح بفضل الله ورحمته، والحق أننا إذا تدبرنا ذلك فإننا نرى أنه لا شيء لنا، وإنما هو فضل الله جل جلاله، فالله ساق لنا هذا الفضل ويسر لنا ذلك بفضله وبرحمته، ثم نفرح بفضل الله وبرحمته كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية:
واجعل في قلبك مقلتين كلاهما من خشية الرحمن باكيتان
لو شاء ربُّك كنت أيضا مثلهم القلب بين أصابع الرحمن
إذا عرفت هذا الفضل وهذه الرحمة التي غشيت بها ومن الله عليك بها فلا تتركنها إلى غيرها حتى يأتينك اليقين؛ لأن هذه أعظم نعمة تنعم بها على العبد أن يكون عالما بالتوحيد عالما بالرسل مخالفا لأهل الجهل والجهالة.(17/142)
قال (أفادك فائدتين الأولى الفرح بفضل الله ورحمته كما قال تعالى ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:58])، وفضل الله ورحمته الدّين والقرآن وفقه الدين وفقه القرآن والتوحيد والإسلام ونحو ذلك، ولهذا روى ابن أبي حاتم وغيره عن عمر رضي الله عنه أنه دعا غلامه يوما إلى أن يخرج إلى إبل الصدقة الزكاة جُمعت له خارج المدينة فلما ذهب إليها اهتال غلامه من كثرتها فقال لعمر فقال لأمير المؤمنين: يا أمير المؤمنين هذا فضل الله ورحمته. فغضب عمر وقال: كذبت ولكن فضل الله ورحمته القرآن، قال تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) -يعني القرآن في نزوله وتشريعه وما حبى الله هذه الأمة به- (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) فإن كان ثم فرح فليفرح المرء بهداية الله جل وعلا له بالالتزام بدين الله وبمعرفة التوحيد والعلم به وما يتصل بذلك وهذا هو الفضل، وبه تعلم أن المحروم من حرم وأكثر الخلق حرموا هذا الفضل العظيم.
ثم الفائدة الثانية قال (وأفادك أيضا الخوف العظيم فإنك إذا عرفت...) إلى آخره، والخوف العظيم ملازم لن الشيطان أضل الأكثرين، فتفرح بفضل الله وبرحمته وتخاف:
فالفرح بفضل الله وبرحمته يعني بمعرفة التوحيد والعلم به ومعرفة الشرك ووسائله والابتعاد عن ذلك والدعوة إلى التوحيد والدعوة إلى النهي عن الشرك إجمالا وتفصيلا، هذا الفرح بفضل الله وبرحمته يفيد الثبات على ذلك، فكلما استحضرت الفرح هذا وكنت فرحا به كنت مستمسكا به.(17/143)
ثم الخوف أو الفائدة الثانية يجعلك لا تلتفت عنه يمينا ولا شمالا، فكلما التفت كلما رجعت لأجل شدة الخوف، مستحضرا خوف إبراهيم وخوف عباد الله الصالحين، والخوف من الشرك لأجل ألا يقع العبد فيه، وأنتَ ترى اليوم أن أهل هذه البلاد مثلا مع ما هم عليه من أثر هذه الدعوة الإصلاحية العظيمة التي قربتهم إلى الله جل جلاله بالتوحيد وبالبعد عن الشرك ووسائله، لكن لأجل عدم الخوف من الشرك وقعوا في شركيات؛ من شركيات الألفاظ وبعضها من الشرك الأصغر وبعضها قد يكون من الشرك الأكبر في حق بعض الناس.
وهذا ونسأل من الله جل وعلا السلامة والعافية لأجل عدم الخوف من الشرك، فيكثر عند الناس أن يقولون نحن على الفطرة، والناس في هذا البلد أهل فطرة يستمرون أهل الفطرة إلى متى؟ الأجيال التي بعد آدم التي بعد آدم عليه السلام كانوا على الفطرة ثم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.
إذن ما أمن أحد على دينه وهو عالم بحقيقة عداوة الشيطان، بل لا يأمن إلا من يخاف، من يستحضر الخوف دائما يحذر ويحذر ويستحذر الحذر فإذا غابت عنه مسائل التوحيد راجع وتأكد، وهكذا إذا تفهم وحفظ وراجع ودعا حتى يثبت وحتى يستقيم له دينه.(17/144)
قال (وأفادك أيضا الخوف العظيم، فإنك إذا عرفتَ أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل) يُشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى ما جاء بالحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام «وإنّ الرّجل ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا» فقول الشيخ رحمه الله (يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل) من جهة أنه لا يلقي لها بالا؛ لأنه لا يعلم أنها مكفرة فقوله عليه الصلاة والسلام لا يلقي لها بالا تهوي به في النار سبعين خريفا يعلم أنه منهي عنها لكن لا يلقي لها بالا من شدة الخوف منها، لهذا قال (فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه) بكلمة يحصل الكفر، سواء كان معتقدا لها؛ يعني لما دلت عليه، أو كان قوله لهذه الكلمة من الكفر بالله ناتج عن الإعراض عن دين الله وهو متمكن من معرفته.
فإذن الإعراض لا يُعذر به العبد إذا كان إعراضا مع التمكن من المعرفة؛ عنده أهل العلم يمكنه أن يسألهم، عنده أهل الديانة يستطيع أن يبحث عن الحق، ثم هو لا يبحث عن ذلك، فهذا يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام (لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا) .
قال (وقد يقولها وهو جاهل فلا يُعذر بالجهل) لأنه أعرض مع تمكّنه من المعرفة، أعرض مع قرب الحجة منه، فجهله لا بسبب خفاء الحق أو بسبب وجود من ينبهه وإنما جهله بها لأجل الإعراض.
فإذن هنا نلحظ التفريق في الجهل ما بين الجهل الذي سببه عدم وجود من ينبه بالحق، والجهل الذي سببه الإعراض.
¨ فالجهل الذي سببه الإعراض مع وجود من ينبه هذا لا يعذر به العبد.
¨ وأما الجهل الذي يكون لأجل عدم وجود من ينبه فإنه يعذر به حكما في الآخرة حتى يأتي من يقيم عليه الحجة، ولا يعذر به في أحكام الدنيا، فهو على كل حال متوعد هذا التوعد العظيم.(17/145)
إذا كان الإنسان قد يعوي في النار سبعين خريفا يعني يكون في قعرها، هذا يعني أنه فارق نار الموحدين بكلمة يقولها، هذا من خاف هذا الشيء يلزمه أن يتعلم أسباب الرّدة وأسباب الكفر والكلمات التي قد يكفر بها وهو لا يشعر بذلك، وهذا مضبوط بضوابطه الشرعية، فإنه ليس كل من قال كلمة الكفر كفر، ولهذا الشيخ قال هنا (إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل) قد يقول ذلك (وهو جاهل فيعذر بالجهل) يعني في بعض أحواله (وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله تعالى كما ظن المشركون) المشرك في أي زمان ومكان ما أشرك محادّة لله ولرسله قصدا في المحادّة وإنما حصلت المحادّة نتيجة لشركه، فهو إن أشرك محادّ، ولكن إذا قلت للوثني المشرك الجاهل أنت مبغض لله كاره لله جل وعلا محادّ لله يقول لا؛ لأنه يقول أنا ما فعلت هذه الأفعال إلا بقصد التقرب إلى الله حتى يرتفع مقامي عند الله.
فإذن لا يتصور في المشرك أنه أشرك للبعد عن الله بل أشرك ليتقرب إلى الله، كما قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3].(17/146)
قال رحمه الله بعد ذلك (خصوصا إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين ?اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ?[الأعراف:138]) قوم موسى مروا على قوم يعبدون آلهة ويعبدون معبودات، فنظروا إلى ذلك فظنوا أنه محمود؛ لأنه مخالف لدين فرعون فقالوا لموسى ?اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138)إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[الأعراف:138-139]، وفي حديث أبي واصب المعروف أنه قال: مررنا ونحن حدثاء عهد بكفر بسدرة([27]) وكان للمشركين سدرة ينوطون بها أسلحتهم فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي عليه الصلاة والسلام «الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ».
قال العلماء أصحاب موسى لم يكفروا وأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام الذين كانوا حدثاء عهد بكفر لم يكفروا بتلك الكلمة، ولكن لو تبعها عمل لكفروا؛ لأنهم طلبوا شيئا عن جهل فلما بُيِّن لهم انتهوا.
وهذا يفيد -يعني قصة قوم موسى وقصة ذات أنواط- تفيد أنّ الموحد قد يخفى عليه بعض أفراد التوحيد، وهذا يفيده الخوف؛ لأن قوم موسى وهم خاصّة أصحاب موسى منهم من قال تلك الكلمة، وأصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ممن أسلم حديثا منهم من قال تلك الكلمة، مع أنهم يعلمون معنى لا إله إلا الله ويعلمون ما يدخل تحتها من الأفراد، لكن جهلوا بعض الأفراد، هذا يفيد أن من دونهم لا بد أن يخاف الخوف الشديد؛ لأن جهله ببعض الأفراد أولى من جهل أولئك، فإن أنعم الله عليه بمنبِّه له بعد الكلام يحجزه عن العمل وينبهه، فهذا من نعمة الله عليه وإن لم يجد بل قال ذلك الكلام واتخذ إلها مع الله فإنه يكون قد ناقض بفعله توحيده.(17/147)
قال (فحينئذ يعظم حرصُكَ وخوفك على ما يخلصك من هذا وأمثاله) وهذا لاشك أن يوجب الخوف الشديد.
إذن هذا المقطع من كلام الإمام رحمه الله تعالى فيه تهيئة نفس الموحد لكشف الشبهات التي يأتي بيانها، فهيأ نفسه لبيان حال المشركين الذين أشركوا من أقوام كل رسول، وبيّن ديانة كل رسول، بيّن معنى التوحيد ومعنى ضده، وبيّن أن أكثر الناس مخالفون للتوحيد معرضون عنه جهال به، وبيّن أن هذه المقدمات تفيدك أولا الفرح والثاني الخوف، وهذا تهيئة لنفسيتك حين تتلقى كشف تلك الشبه، فكشف الشبه إذن الذي سيأتي يكون مع فرحك بالتوحيد وخوفك من الشرك، وهذا يقيم حاجزا قويا نفسيا من أن تتلقى الشبهة تلقيا عقليا بحتا، كما عليه علماء الكلام وأشباههم دون وضعٍ تعبدي نفسي من الوجل والخوف والفرح والرضا، ثم أنْ تكون حين تعرض لك جواب الشبه يكون في نفس الفرح بفضل الله بالتوحيد والفرح بفضل الله جل وعلا ورحمته أن كُشفت لك الشبه.
فإذن الشبه مَزَلَّة أقدام من جهة عرضها ومن جهة كشفها، فلابد لها من قاعدة تقوم عليها نفس الموحد، وهذه القاعدة هي التي قدمها الشيخ رحمه الله فأول الكلام قواعد علمية، والآن هذا الفرح والخوف قواعد نفسية حتى تكون فيما تستقبل من عرض الشبه ونقدها وكشفها، تكون ما بين قواعد علمية محكمات لا تزول بعدها، وما بين تحسينات نفسية لا تتأثر بالشبه مهما جاءت، فإذا جاءت الشبهة صار عنك خوف من ضد التوحيد وفرح لما أنت عليه من التوحيد، وهذا يجعلك في قوة وتحصن وأمان بفضل الله وبرحمته.(17/148)
الحمد لله جل جلاله على ما أنعم به علينا من نعمة التوحيد ودراسته وتعلمه ونبذ الشرك والبراءة منه وبُغض الشرك وبغض أهله ومعاداة أولئك والتبرِّئ منهم قولا وعملا واعتقادا، ونسأله جل وعلا بكل اسم له حسن وبصفاته العلا أن يديم علينا هذا الفضل وهذه الرحمة، وأن يجعلنا فرحين بذلك خائفين من ضده ما حيينا، نسأله جل وعلا أن لا يزيغ قلوبنا إذ هدانا، وأن ينعم علينا ويتم نعمه ذلك بأن يتوفانا وهو راض عنا غير مغيرين ولا مبدلين، نعوذ بك اللهم من كل فتنة، نعوذ بك اللهم من كل فتنة تصدنا عن هذا الأمر الجلل في التوحيد ودعوة الأنبياء والمرسلين.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[الأسئلة] نأخذ بعض الأسئلة.
بالمناسبة في مواقف السيارات، أهل المسجد يودون من الإخوة أن يقفوا في المواقف الشرقية أو في الجنوبية في هذه الجهة؛ لأن الوقوف في الجهات الضيقة قد تضيق على من يريد أن يخرج من بيته ونحو ذلك من بعض الإخوة.
هنا فيه سيارتين تضيق على أصحابها تقول سيارة [...] رقمها مائتين وخمسة، صفر ثلاثة وخمسين و[...] سبعمائة وعشرين أربعة وخمسين سبعة وتسعين استحضر دائما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا ضرر ولا ضرار» لا تضر إخوانك، قد يكون أحدهم عنده موعد يريد أن يستفيد بعض الوقت من العمل ثم يذهب إلى موعد مهم له إما لمستشفى أو ضروري بمصالحه أو لأهله أو نحو ذلك، فلا تفترض أن الذي يحضر يحضر كل الفترة، وأنهم جميعا سيخرجون خروجا واحدا، لا تفترض هذا، بل استحضر أن منهم من سيخرج مبكرا منهم من عنده كذا ولا يفترض أن الذي سيحضر يتخلص من كل المشاغل، يحضر نصف ساعة يستفيد بعض الشيء ثم أذهب إلى بعض الأعمال فيعين بعضكم بعضا على أمر دينه ودنياه.
1/ هل صفة العلو ذاتية أم فعلية ؟
صفة علو الله جل وعلا ذاتية، هو جل وعلا لم يزل عاليا على خلقه سبحانه وتعالى، له علو الذات وعلو الصفات.(17/149)
2/ نسأل الله بكل اسم له حسن، فهل هناك لله بعض الأسماء السيئة؟
أعوذ بالله، أعوذ بالله، فأسماء الله جل وعلا حسنى حسنة، والشر ليس إلى الله جل وعلا لا في ذاته ولا في أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله؛ يعني لو قال الداعي أسألك اللهم بأسمائك الحسنى هل يفهم منه أنه ثم أسماء غير حسنى؟ لا يفهم ذلك.
3/ هذا السؤال فيه طول بعض الشيء نقل قول بعضهم.
الكفر الظاهر والباطن هو الذي ذكرت لكم تفصيله، وأما الجاهل قد يكفر قد يكون جهله عن إعراض مع وجود من ينبه، مثل مثلا واحد في هذه البلاد يجهل التوحيد ويعمل الشرك مع قيام الحجة وقيام الدعوة ووكل يبلغ ومن يبلغون هم موجودون في المجلات وفي الصحف وفي مناهج التعليم وفي كلماتهم وفي الإذاعة إلى آخره، فهذا من أعرض من قيام تمكنه، مع تمكنه من السؤال وطلب الحق هذا لا شك أنه لا يعذر بجهله في هذه المسألة؛ لأنّ جهله لا بسبب عدم وجود من ينبهه، ولكن بسبب إعراضه أصلا عن هذا الأمر، لأنه هناك من ينبهه.
أما إذا جهل لأجل أنه لم يأتِ من ينبهه هو الذي ذكرنا لكم قول الشيخ رحمه الله فيه وإن كنا لا نكفر من عند قبة الكوّاز لأجل عدم وجود من ينبههم، والكفر إنما قلنا كفر ظاهر وباطن تبع لقول بعض أئمة الدعوة كالشيخ ابن معمر وغيره، وهو ظاهر كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض المواضع، وتفصيل هذه المسألة يأتي إن شاء الله تعالى في مسألة الإباء والإعراض وأشباه ذلك.
4/ هل هناك فرق بين المشرك والكافر؟
نعم، الكافر قد يكون كافرا بلا شرك؛ يكون كافرا بلا شرك، يكون كافر بلا شرك، مثل من ارتكب شيئا من الأمور التي يرتد بها غير الشرك فإنه يكون كافرا وإن لم يحصل منه شرك فالشرك تشريك في العبادة، والكفر قد يكون ببعض ما يحكم عليه بالكفر والردة لكن ليس ثم تشريك.
إذن إذا راجعت باب حكم المرتد في كتب أهل العلم لوجدت أنّ من أحوال الردة الشرك قد يكفر بغير ذلك.(17/150)
5/ هذا ينبه على أن الشيخ محمد العثيمين حفظه الله قد نقل اللقاء اليومي والدرس اليومي من مسجد علي بن المديني إلى جامع ذي النورين.... اعتبارا من غد يوم الأحد
?????
[المتن]
واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما قال الله تعالى ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ?[الأنعام:112]، وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال الله تعالى ?فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ ?[غافر:83].(17/151)
إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحا تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل ?لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ(16)ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ?[الأعراف:16-17]، ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن?إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا?[النساء:76]، والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين كما قال الله تعالى ?وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:173] فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من الله علينا بكتابه الذي جعله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى ?وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا?[الفرقان:33]، قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو ولي من تولاه، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.(17/152)
اللهم إنا نسألك عما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا، اللهم أعِنا على الحق، اللهم أعنا على الحق، اللهم أعنا على الحق، اللهم لا تجعلنا إلى الباطل سبيلا، نعوذ بك من الحور بعد الكور، نعوذ بك من الضلال بعد الهداية، نعوذ بك أن نضل أو نضل أو نزل أو نزل أو نجهل أو يجهل علينا.
قال الإمام رحمه الله تعالى في مقدماته العظيمة في الفائدة بين يدي كشف شبهات المشركين التي لبَّسوا بها أهل عقول الجهلة في توحيد الله جل جلاله وما يستحقه سبحانه وتعالى من إفراده بالعبادة وحده دونما سواه وأن يكون الأمر كله له وأن يكون الحكم كله لله جل وعلا فيما يختص بالشرعيات وفيما يختص بما يعمله المكلف.
فالحكم جميعا لله جل وعلا، فالواجب على العبد أن يجعل الفيصل فيما يطلبه وفيما يريد الصواب فيه أن يجعل الفيصل كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما قال سبحانه ?إِن الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[يوسف:40]، فكما أنه سبحانه الحكم بأمره في ملكوته، كذلك هو الحكم فيما يختلف الناس فيه وفيما يطلبون العلم فيه والصواب والحق فيه في الشرعيات والعمليات.(17/153)
قال رحمه الله بعد أن ذكر المقدمات التي سلفت (واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما قال تعالى ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ?[الأنعام:112]) قد يأتي الشيطانُ للعبد بشبهة أن التوحيد والدين إذا كان من عند الله حقا وإذا كان ذلك فيه مرضاة الله جل وعلا والله ينصر أولياءه ويعز أولياءه ويخذل أعداءه فالمفترض أن يكون –يعني في إيقاع الشيطان في النفوس- أن يكون أهل التوحيد هم الغالبين، وأن يكون الرسل ليس لهم أعداء لأنهم من عند الله جل وعلا، وهذا الظّن قد ظنه طائفة من المشركين فرغبوا في إنزال ملك حتى يُتفق عليه، ورغبوا في أن يكون للنبي كذا وكذا من الأشياء التي يكون معها الاتفاق وعدم المعاداة له وعدم الجحود ما جاء به، كما قال جل وعلا ?وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا?[الإسراء:90] الآيات في سورة الإسراء، وكذلك الآيات في سورة الفرقان ?وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7)أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا(8)انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا?[الفرقان:9]، فمن حكمة الله جل جلاله أنه بعث الرسل وجعل لكل رسول أعداء، وأعداء الرسل من الإنس والجن؛ لأن بَعثة الرسل للإنس أقوامهم وللجن الذين يسمعون حديثهم، إلاّ محمدا عليه الصلاة والسلام فإن بعثته للعالمين جميعا للإنس كافة وللجن كافة، فلكل رسول أعداء وهؤلاء الأعداء جعلهم الله جل وعلا(17/154)
أعداء لحكمة؛ لأن أمر التوحيد عظيم، فلهذا قال سبحانه (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ)، وقال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا?[الفرقان:31]، فحكمة الله جل وعلا اقتضت أنْ يجعل لكل نبي أعداء، وهكذا لكل أتباع الرسل والأنبياء جعل لهم أعداء؛ لأن حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن يُفْرَق بين حزب الله وحزب الشيطان، هذا الفرق بين حزب الله وحزب الشيطان قد يكون فرْقا بالعلوم وقد يكون فرْقا بالسيف والسنان، لهذا القرآن فرقان فَرَقَ الله جل وعلا فيه بين علوم الحق وبين علوم المشركين.
المقصود أن حكمة الله اقتضت أن يكون لكل نبي عدوا، فلا ينظر الموحد في زمن ما إلى أنّ أهل التوحيد قلة، أو إلى أنهم مزدرَوْن، أو إلى أنهم لا يؤبه لهم، أو إلى أنهم مكثوا زمنا طويلا لم يُنصروا، أو نحو ذلك من الأشياء، أو أنهم يُعذبون، أو أنهم يُطردون، أو ما يفعله الأعداء بأهل التوحيد، لا ينظر إلى ذلك وإنما ينظر إلى الحق في نفسه، وحكمة الله عرفها أهل السنة بأنها وضع الأشياء في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها، وضع الأشياء في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها، والله جل وعلا أَذِنَ بالشر في ملكه والشر ليس إليه ليظهر طيب الطيب وليظهر طيب أهل الحق على خبث غيرهم، فأذِن به جل وعلا أذِن بالشر فِداءً بالخير حتى يظهر، فلولا هذه العداوة ما ظهر المستمسك بالتوحيد من غيره ما ظهر الذي على قناعة تامة من توحيد الله جل وعلا من المتردد الذين هم في ريبهم يترددون، ونحو ذلك من الحِكم العظيمة.(17/155)
فالله جل وعلا أنزل العداوة في موضعها، وهذه العداوة موافقة لغاية محمودة منها، فَجَعْلُ بعض الجن والإنس بل الأكثر من شياطين الإنس والجن أعداء للرسل هذا فيه غايات محمودة، ومن هذه الغايات المحمودة التي هي حكمة الله جل وعلا أنْ يظهر أنصار الله جل وعلا الذين يستحقون فضله ومِنَّتَه ودار كرامته، ومنها أن يظهر الفرقان بين أهل الحق وأهل الباطل بشيء بشري وليس سماوي، وربما يُنعم الله جل وعلا بشيء من عنده من السماء كتأييد بملائكة أو نحو ذلك، ومنها أن يظهر أن هؤلاء الذين نصروا دينه ليس عندهم شك ولا شبهة مع كثرة المعادين ومع كثرة الشبه ومع كثرة ما يَرِد فإن استمساكهم بالحق دليل على صحة التوحيد، فالرسل مع قلة من استجاب لهم استمسكوا بالحق وبعضهم مكث مدة طويلة، فظهر أنّ هؤلاء الذين استمسكوا بالحق وثبتوا عليه، حتى إن أحدهم ليؤخذ فينشر بالمنشار نصفين ما يَرُدُّه ذلك عن دينه هذا شهادة عظيمة بأنّ هذا الذي حملوه حق لأن الله جل جلاله جعلهم مكرمين بهذا الأمر ومكرمين باتباع الرسل يعني باتباع الحق، فيه حكم شتى.
والشيخ رحمه الله هنا (لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء) وهذا الحصر مأخوذ من الآية ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا?([28]) فلفظ (كل) ظاهر في العموم وهو بمعنى لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء.
وأعداء التوحيد أعداء الأنبياء والرسل على قسمين: أعداء رؤساء، وأعداء تبع.
¨ فالرؤساء: إما أهل الرئاسة والتدبير في أمور الدنيا، وإما أهل الرئاسة في أمور الفكر والدين، هؤلاء هم الذين تزعموا العدواة وصدوا الناس عن الدين، هذا الصنف من أصناف الأعداء.
¨ والصنف الثاني منهم الأتباع الرّعاع: الذين أعرضوا عن الحق، أو الذين أخذتهم الحمية والعصبية في ألا يقبلوا التوحيد وأن ينصروا رؤساءهم.(17/156)
فلا يوصف بالعداوة العلماء فقط أي الرؤساء فقط، بل أعداء التوحيد العامة والرؤساء جميعا؛ لأن من لم يستجب للتوحيد فقد سب الله جل جلاله كل مشرك بالله فهو متنقص الرب جل وعلا ساب له، فمن ادعى أن مع الله إله آخر يتوسط به ويزدلف به إلى الله جل وعلا عن طريقه بوساطته وشفاعته سواء كان ذلك عالما أو لم يكن عالما وإنما يكن تبعا لرؤسائه فإنه عدو للتوحيد، وربما كان هؤلاء من جهة انتشارهم في الناس أبلغ في إحياء عداوة التوحيد وبثها من الخاصة، وهذا ظاهر بيّن؛ لأن العامة ينشرون من الأقوال والأكاذيب أعظم مما يبثه الخاصة.
وإذا نظرت إلى دعوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فإن الذي نشر أنه صابئ والذي نشر أنه ساحر والذي نشر أنه مجنون أتباع الكبار أتباع الرؤساء والملأ في العرب.
وكذلك إذا نظرت إلى دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فإنّ الذي نشر في الناس مقالة أعداء الشيخ من علماء زمانه إنما هم العامة، فالعامة عداوتهم تأتي من جهة التعصب ومن جهة نصرة الباطل لقناعتهم بمن قال لهم ذلك، فعندهم علماء معظمون ورؤساء معظمون فيقتدون بهم ويحتجبون لمقالهم دون نظر وتدبر، فهؤلاء أعداء لتوحيد الله جل وعلا.
وكلٌّ من هذين الصنفين يجب الحذر منه ويجب على الموحد أن يعاديه، فليست عداوة الموحد لعلماء المشركين خاصة، أو الذين أعلنوا الحرب على التوحيد خاصة هؤلاء لهم نصيب من العداوة أكبر، وكلّ من لم يوحد الله جل وعلا وانغمس في براثن الشرك وأشرك بالله فهو عدو لله جل وعلا، فكلّ مشرك عدو لله جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى ?وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ?[التوبة:114].(17/157)
قال جل وعلا?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا?[الأنعام:112]، و(شَيَاطِينَ الْإِنسِ) جمع شيطان والشيطان هو البعيد عن الخير مأخوذ من شَطَنَ إذا بَعُدَ، فالشَّاطِن هو البعيد، والشيطان -النون فيه أصلية- وهو البعيد من الخير، والخير بما يناسبه، ولهذا قيل لبعض الحيوانات شيطان لما يناسبه من بعده عن الخير وما يلائمه، وقيل للحمامة في الحديث شيطانة في قوله «شيطان» حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو داوود وغيره «شيطان يتبع شيطانة» فالشيطان هو البعيد عن الخير، والخير في كلٍّ ما يناسبه، وقد قال الشاعر في ذلك:
أيام كنا يدعونني من الشيطان من غزل وكنا يهوينني إذ كنت شيطان
يعني كنت بعيدا عن الخير مع بقاء اسم الإسلام عليه، لكن يكمن البعد عن الخير في الكفر، فالكافر والمشرك شيطان من شياطين الإنس، ولابد أن يمدَّه شيطان من شياطين الجن لأنه ما من أحد إلا وابتلى به القرين.
قال (عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ) شياطين الإنس يرون وشياطين الجن لا يرون، وهم الذين يلقون أيضا بعض الشبه في نفوس شياطين الإنس من جهة الوسواس والقرين.(17/158)
قال(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) في قوله (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) ما ينبئ على أنّ علوم المشركين وشبه المشركين.... ([29]) الشيء الناصع البيّن الجيد ومنه قيل للذهب زخرف؛ لأنه ناصع واضح، فزخرف القول الذي له مشروع وضياء يبصره ببصيرته المتأمل له فيخدعه، فقال جل وعلا هنا (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) لهذا أنّ ما عند المشركين من العلوم لها زخرف فليُحذر منه، لا يتصور في هذا المقام مقام كشف الشبهات أن شبهة المشرك ليس لها وجه البتة، لا تتصور هذا، فإن المشرك يوحي بعضهم يوحي بعض المشركين إلى بعض بزخرف القول حتى تزين الشبهة، فلا يقال هذه الشبهة فيها نصيب من الحق فتكون حقا، أو أن يظن أن شبهة المشرك ليس لها نصيب من النظر البتة، بل يكون لها زخرف ويكون لها نظر، فإذا تأملها أهل العلم وجدوها داحضة، كما قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ?[الشورى:16]، فالحجج التي يدلي بها أهل الشرك فيها زخرف وفيها تدليس وفيها تلبيس، ولها بعض الشبه لها بعض ما يجعلها ملتبسة بالحق.
ولهذا لا تتصور أن الشبه التي تأتي، التي أدلى بها أعداء التوحيد أن كل واحدة لا تدخل العقل أصلا، بل منها أشياء خدع بها الشياطين هؤلاء من خدعوا من أمم الإنس والجن، ولكن هذا القول غرور يعني أنه يُظهر و[...] ويتزخرف عند سماعه أو عند رؤيته، ولكنه عند التحصيل ليس بشيء وهذا لأنه إذا تدبر وفحص وجد أن حججهم داحضة.(17/159)
قال (وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج) وهذه مقدمة مهمة في سبيل كشف الشبهات التي أدلى بها علماء المشركين، (قد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج)، العدو للتوحيد لا تتصور خاصة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من العلماء الذين جاؤوا في هذه الأمة لا يتصور أن عدو التوحيد لا يكون عنده البتة لا يتصور أن عدو التوحيد لا يكون فقيها لا يكون محدثا لا يكون مفسرا لا يكون مؤرخا بل قد يكون مبرزا في فن من هذه أو في فنون كثيرة، كحال الذين ردوا على إمام هذه الدعوة فإنهم كان يشار إليهم بالبنان فيما اختصوا فيه من العلوم، منهم من كان فقيها، منهم من كان مؤرخا، وهذا حال أيضا من رد عليهم أئمة الدعوة فلا تتصور أن عدو التوحيد لا يكون عالما، وهذه شبهة ألقاها الضُّلال في نفوس الناس، فجعلوا اعتراض العالم على العالم دال على صحة كل من المذهبين، هذا وهذا [والمعنى] واسع، ولهذا بعضهم يقول في مسائل التوحيد هذا أصح من القول الثاني أو في أصح قولي العلماء هو كذا وكذا، هذا لا يسوغ أن يقال في مسائل التوحيد؛ لأن من خالف في مسائل التوحيد فإنه ليس من علماء التوحيد ولا علماء السنة الذين يصح أن تنسب لهم مقالة أو أن يؤخذ بقولهم في الخلاف، بل التوحيد دلت عليه الدلائل الكبيرة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وبينه الأئمة فمن خالف ولو كان من العلماء الكبار في الفقه أو في التاريخ أو في الحديث أو غيره فإنّ مخالفته لنفسه، ولا يقال إن في المسألة خلافا.(17/160)
لهذا لا بد أن تنتبه إلى أن عدوّ التوحيد من علماء المشركين ليس من صفته أن يكون غير عالم، بل قد يكون عالما وإمام في فن من الفنون؛ إمام في التفسير، وإمام في الفقه، مرجع في القضاء ونحو ذلك مثل أعداء الدعوة الذين عارضوا الشيخ رحمه الله وعارضوا الدعوة كحال مثلا من المتأخرين داوود بن جرجيش، فإنه كان على علم واسع ولكن من علماء المشركين، وكحال محمد بن حميد الشرقي صاحب كتاب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة أيضا كان من أعداء التوحيد فصنف ردا على المشايخ فيما تكلموا فيه على منظومة البوصيري المعروفية الميمية وأبطل أن يكون ذلك شركا وقرر ما قاله البوصيري إلى آخر ذلك، وللشيخ عبد الرحمن بن حسن صاحب كتاب فتح المجيد المجدّد الثاني رحمه الله له في ذلك رسالة ردّ بها على صاحب هذا الكتاب، فهو بارز في الفقه وأشير إليه في التفسير وبالتراجم إلى آخره ولكنه من علماء أعداء التوحيد من علماء المشركين؛ لأنهم نافحوا عن الشرك، وردوا على أهل التوحيد [........] في تعريف التوحيد والشرك [....] المسلم مشركا مرتدا فأضلوا الناس في ذلك.
فإذن المقدمة المهمة بين يدي هذه الرسالة: ألاّ تظن أن العلماء الذين يشار إليهم بالبنان أنّ هؤلاء لا يكونون مشركين، بل في زمن الشيخ رحمه الله وما بعده كان هناك علماء يشار إليهم ولكنهم كانوا مشركين مثل مفتي الشافعية أيضا في مكة أحمد بن زيني دحلان وأشباه هؤلاء، فالناس يرجعون إليهم ويستفتونهم فيصدرون عنهم، فلا يتصور أن الشرك ليس له علماء تحميه.(17/161)
فإذن كمقدمة لا تقل في مسألة من المسائل التي يأتي كشف الشبهة فيها قالها العالم الفلاني، وقالها الإمام الفلاني، وكيف يفعلها الإمام الفلاني، فهذا إما أن يكون جاهلا ما حرر المسألة كبعض العلماء المشهورين المذكورين بالخير، وإما قد يكون قد علم فعاند وعارض وصنف في تحسين الشرك، مثل ما فعل مثلا الرازي فخر الدين الرازي صاحب التفسير المسمى بمفاتيح الغيب، حيث صنف في تحسين دين الصابئة ومخاطبتهم للنجوم كتابا سماه: سرّ المكتوم في أسرار الأفلاك ومخاطبة النجوم. وبه كفره طائفة من أهل العلم، فيحسن كيف تخاطب النجوم وكيف يستغاث بها وكيف تستنبط إلى آخره، وصنف في ذلك ليدل صابئة حران على ذلك، وهذا لا شك أنه من الضلال البعيد، فلا يقال في أي شبهة يأتي ردها أو رد عليها أئمة السنة والتوحيد، لا يقال كيف العالم الفلاني قالها؟ كيف راجت على هذا العالم الفلاني؟ وهؤلاء إما أن يكونوا جُهالا فلا يصنفون في أعداء التوحيد، وإما أن يكونوا صنّفوا في الشرك وتحسينه، هؤلاء هم الذين عناهم الشيخ بقوله (وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج)، إذا رأيت نقولهم قد تكون عن شيخ الإسلام وعن ابن القيم كما فعل داوود بن جرجيش مثلا صنف كتابا سماه: صلح الإخوان. نقل فيه عن شيخ الإسلام وابن القيم نقولا، ونقل عن أقوال المفسرين وأقوال كثير من العلماء، مثل في هذا العصر ما صنف مثلا محمد بن علوي المالكي كتابا حشد فيه أقوال نحوا من مائتين أو ثلاثمائة من العلماء الذين أقروا بعض الشركيات وبعض التوسلات ونحو ذلك في كتبهم، هذا ليس هو العبرة.(17/162)
فإذن القاعدة التي يجب أن يكون عليها قدما الموحّد أن علماء المشركين قد يكون لهم علم كبير وحجج لأنه ليس الشركُ سببا في انسلاخهم من العلم، كما قال جل وعلا عن أوائلهم ?فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ ?[غافر:83]، وقد يكون هذا العلم بالإلهيات كما قالوا ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5]، هذا اعتراض شبهة، وقالوا ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، وقد يكون في الفقهيات كما قالوا ?إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا?[البقرة:275] ونحو ذلك، فجنس العلوم جنس العلوم التي وجهت لهذه الأمة موجودة عند أعداء الرسل إما من جهة الإلهيات وإما من جهة الشرعيات، فعارضوا الرسل بما عندهم من العلم بل إن الله جل جلاله سمى قولهم حجة فقال وذلك تعظيما له من جهة قوة الشبهة فيه قال ?وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ?[الشورى:16].
(وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج) هل هذه الكتب الكثيرة التي له والفقهيات والتراجم والتفسير وما أشبه ذلك، يجعله ليس عدوا للتوحيد إذا صنف في عداوة التوحيد، وصنف في تحسين الشرك، ودعا الناس إلى ذلك؟ لا، فإنه يكون عدوا للتوحيد ناصرا للشرك ولا كرامة، ولو كان أثر السجود في جبهته، ولو كان عنده من المؤلفات أكثر مما عند المكثرين كالسيوطي وغيره، فهذا ليس بعبرة، وكلامه بالتالي ليس بعبرة؛ لأنه ليس من علماء التوحيد فعلومه ضارة وليست نافعة.(17/163)
قال بعد ذلك رحمه الله (إذا عرفت ذلك ) يعني ما تقدم من أنّ أعداء الرسل قد يكون لهم علوم وكتب يصنفونها وحجج يُدلون بها قد يكون يحتجون بالكتاب، قد يكون يحتجون بالسنة وأشباه ذلك، وبأقوال المحققين من أهل العلم مثل ما ينقلون عن أحمد ببعض الأشياء، ينقلون عن شيخ الإسلام، ينقلون عن ابن القيم، ينقلون عن ابن حجر، ينقلون وينقلون، وهذا كله من العلوم الضارة ليست من العلوم النافعة، قال (إذا عرفت ذلك وعرفت أن الطريق إلى الله لا بد له من ([30]) أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج) انتبه لهذه الكلمة (لا بد له) لا بد لطريق التوحيد طريقة التوحيد لابد لها من أعداء كما ذكرنا، وهؤلاء الأعداء قد يكونون علماء، وهؤلاء العلماء أهل فصاحة وعلم وحجج، لا بد أن تكون حاجزا من أن يصدوك عن الهدى ويدخلوك في الضلال، أو أن يلبسوا عليك الدين، أليست الفصاحة هي المعيار، فإبليس كان فصيحا، وليس العلم في نفسه هو المعيار، بل لابد أن العلم هو العلم النافع وليست الحجج وإيرادات وجواب هو المعيار، فإذا كان هذا موجودا فانتبه إلى وصية الشيخ رحمه الله في مقدمة هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات.(17/164)
قال (فالواجب عليك) إذا علمت أن ثَم أعداء والأعداء قد يكونون علماء وعندهم فصاحة وعلم وحجج، معناه العداوة استحكمت وتوجه التصديرات عليه، وتوجه الأسلحة عليك أعظم، فما الذي واجب عليك؟ هنا يجب عليك أن تصون نفسك وأن تحمي نفسك أعظم حماية في هذا الأمر الجلل الذي من ضل فيه كان من الخاسرين أبد الدهر، قال (فالواجب عليك) وجوبا شرعيا (أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحا)، وقوله (من دين الله) هذا للتبعيض؛ لأن العلم منه واجب عيني ومنه واجب كفائي، وقوله (الواجب عليك أن تتعلم من دين الله ) يعني به ما كان من الدين فرضا عينيا على كل أحد، وهو الذي لا يُعذر أحد بالتقليد فيه وذلك في معنى الشهادتين وتحقيق مسائل القبر الثلاث من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فهذا العلم واجب بأدلته، وهو الذي وصف لك وصنّف فيه الشيخ الرسالة العظيمة ثلاثة الأصول لنجاتك في هذا الأمر الخطير بين علماء المشركين.(17/165)
قال (فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير لك سلاحا تقاتل به هؤلاء الشياطين) تقاتل به ابتداءً أو تقاتل به دفعا؟ كلاهما؛ لا بد من الدفع في حينه، ولابد من الابتداء في حينه، مقاتلة بالحجة والبيان، إذا لم تكن ذا سلاح فالخوف ثم الخوف عليك، ولهذا تجد أن بعض أهل الفطرة وأهل هذه البلاد وأهل التوحيد الذين يُفترض فيهم ويظن فيهم أن يكونوا حماة لهذا الأمر العظيم -توحيد رب العالمين جل جلاله، الذي هو حق الله على العبيد- أن لا يُصْغُوا لشبهة في التوحيد؛ والآن تجد أن منهم من عنده شبه في السحر، من عنده شبه في الكهانة، وتجد من يردد كلاما في أن هؤلاء الذين يعبدون القبور ويعبدون الأوثان وينادون الموتى والغائبين بما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله أو فيما لا يقدرون عليه يقول هؤلاء فيهم كذا التكفير صعب، الحكم عليهم بالشرك صعب، لهم صلاة يعرفون الله، عندهم محبة للدين ونحو ذلك من الكلام، وهذا يزلزل نفس الموحد؛ لأنه يظن أن المسألة فإن ما دامه صاحب صلاة وصاحب زكاة وعنده حب للخير وكذا، فلا يحكم عليه بحكم الشرك أو الكفر مع أنه ساب لله جل جلاله وذلك بعبادته غير الله جل وعلا، فنفس الموحد في هذا المقام تأتيها أنواع كثيرة من الهجوم؛ تارة في أشياء نفسية، وتارة بشبه علمية، وتارة بأشياء راجعة إلى الضعف الذي في نفس بعض أهل التوحيد.(17/166)
فإذن لا بد من الانتباه لهذا وهو أن الواجب أن يتعلم المرء من دين الله ما يصير له سلاحا يقاتل به هؤلاء الشياطين، ما هو هذا السلاح؟ هو تعلم التوحيد وضده وتعلم الشرك بأنواعه كما صنف فيه الشيخ رحمه الله في كتابه؛ كتاب التوحيد، ثم إن كان بين قوم عندهم مجادلة في التوحيد لابد من الإطلاع على ردود الأئمة على علماء المشركين الذين شبهوا في التوحيد، كما قدمت لك في المقدمة، أنّ معرفة هذا الباب يعني كشف الشبهات مبنية على أشياء منها مطالعة كتب العلماء في رد شبه المشبهين الذين عارضوا الدعوة وعارضوا التوحيد.
قال(تُقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل ?لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ?[الأعراف:16]) يعني قد تكون سائرا على الصراط ويكون إبليس الشيطان ومن معه من الإنس والجن يأتونك في هذا الصراط المستقيم ليحرفوك عنه، ثم قال ?ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ? يعني وهم على الصراط ?مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ?[الأعراف:17]، يعني هجوم من كل جهة هذا يعظم المصيبة ويعظم الابتلاء فيكون إذن التعلم وأخذ السلاح واجب وجوبا لا محيد له.
قال بعد ذلك رحمه الله (ولكن إذا أقبلت على الله ) أقبلت على الله بصدق وإخلاص وإنابة وتخلّص من الحول والقوة، وانطراح بين يدي الله جل وعلا أن يخلصك من كيد الشيطان وكيد أعدائه بالشبهات والشهوات، قال (وأصغيت إلى حججه) إلى حجج الله (وبيناته فلا تخف ولا تحزن) يعني إذا فعلت السبب الواجب عليك من تعلُّم الحجج والبينات التي بينها الله جل وعلا في كتابه وأقبلت على الله بقلب منيب صادق مخلص محب لما عند الله راغب في الخير ملتمس له فلا تخف ولا تحزن.(17/167)
الشيخ لما صنف ذلك استحضر زمنه واستحضر بعض البلاد؛ بلاد هذا الزمن التي فيها قلة من أهل التوحيد، وأكثر من حولهم وأكثر أقاربهم وأكثر العلماء في بلدهم ينافحون عن الشرك ويدعون إليه، فإنه يجد نفسه في خوف وفي حذر، في خوف من أن يصاب، وقد يكون إذا كان ضعيفا قد يكون يأتيه التردد في هذا الأمر إلاّ إذا أقبل على هذا الأمر الجلل ولم يحد عنه، قال (وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن ?إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا?[النساء:76]) والله جل وعلا ?مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128].
قال (والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى ?وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:173]) العامي من الموحدين عنده محكمات وهي العلم الواجب الذي ذكرنا أنه لا يصح إسلام العبد إلا به، عنده من المحكمات ما يردّ بها شبه المشبهة وشبه علماء المشركين.
مثاله ما ذكره أئمة الدعوة أن رجلا من عوام الموحدين كان في المدينة في المسجد النبوي فقال له أحد العلماء لما عرف أنه من هذه الجهة هذا في الزمن الأول قال له: أنتم تقولون يطلب من الموتى، هؤلاء الشهداء أحياء بنص القرآن، والله جل وعلا يقول ?وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ?[آل عمران:169]، هؤلاء أحياء وليسوا بأموات، فلماذا لا نطلب منهم؟ قال له العامي -هذا من الموحدين-: لو قال الله جل جلاله (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْزَقُونَ) لطلبنا منهم ولكن قال (يُرْزَقُونَ) فهم يُرزقون مثل ما نُرزق نحن، فنطلب من الرزاق.
وهذا رجوع إلى المحكمات، فالموحِّد ولو كان عاميا لا بد أن يستمسك في هذا الباب العظيم بالمحكمات:
من المحكمات مثلا تعريف كلمة التوحيد.
من المحكمات تعريف العبادة التي تَرجع إليها مهما شبه المشبه.(17/168)
من المحكمات إجماع أهل العلم على أن صرف العبادة لغير الله كفر، وأنّ من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك.
من المحكمات أنّ المسلم قد يرتد بأشياء، كما نص عليه العلماء في باب حكم المرتد.
من المحكمات التي ترجع إليها أنّ مشركي العرب كانوا يعبدون الأصنام والأوثان لا لأنها حجارة ولكن عبدوها لأن فيها أرواح الصالحين، تحل في الأصنام أرواح الصالحين والأولياء هل اتخذوا من دونه أولياء؟ ? قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ?[الرعد:16] ونحو ذلك، اتخذوا الأوثان إما [.....] أو أنبياء أو صالحين.
فإذن من المحكمات التي ترجع إليها في هذا المقام أن شرك مشركي العرب ليس هو بعبادة الصنم، هذه مهمة من المحكمات والأساسيات.
فإذا تقرر هذه الأربع محكمات ومنَّ الله عليك بأشياء زيادة على ذلك من حفظ بعض الآيات في هذا المقام كقوله جل وعلا ?وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ(13)إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ?[فاطر:13-14]، وكقوله جل وعلا ? وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ(5)وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ?[الأحقاف:5-6]؛ لأنّ هذا فيمن يبعث، لأن هذه الآيات فيمن يحشر يوم القيامة فيجيب وهو غافل عن الدعاء في الدنيا، وإذا حشر الناس يوم القيامة كانوا لهم أعداء، يعني لمن عبدهم.(17/169)
فمن المحكمات أن ترد على كل من قال إنّ عبادة المشركين لغير الله هي عبادة الأصنام، كما يدندن حوله أكثر المفسرين المتأخرين، كل ما أتت آية فيها عبادة غير الله يجعلونها في الأصنام، بينما إذا رأيت تفسير ابن جرير رحمه الله تجد أنّ كل نص فيه عبادة غير الله جل وعلا يجعله في الأصنام والأوثان والأنداد جميعا، وهذا لا شك أنه فقه عظيم لنصوص القرآن.
إذن عرفت المحكمات التي ترجع إليها، فلا يحتاج العامي من الموحدين إلى أن يعلم التفاصيل كلها، فإذا علم ثلاثة الأصول بأدلتها، وعلم الذي ذكرنا المقدمات الأربع هذه فإنه يغلب الألف من علماء المشركين، لم؟ لأنّ معه المحكم وأولئك معهم المتشابه والذي معه المحكم يغلب من معه المتشابه لأنه واضح والمتشابه غير واضح، المتشابه مشتبه وأما المحكم فواضح بيّن.
فكل شيء شبه عليك به ارجع به إلى أصله إلى المحكم منه فتجد أن المسألة اتضحت، فتدع المتشابه في النظر وفي الجدال وتردع إلى المحكمات فتعلوا الحجة.
قال (كما قال تعالى ?وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:173])، قال (فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان كما هم الغالبون بالسيف والسنان)، هذه الآية (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ) قال فيها شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله وجماعة ممن بعده: إنّ الأمة ظاهرة -لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق- ظاهرة وغالبة في كل زمن، وأنه لا يتصور مجود زمن لا يكون في هذه الأمة طائفة ظاهرة على الحق غالبة لأن الله جل وعلا قال (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ) فأكد ذلك بـ(إِنَّ) وأكده باللام، وهذان نوعان من المؤكدات، وهذه لغلبة وهذا الظهور قد يكون بالحجة والبيان، وقد يكون بالسيف والسنان، فإن عَدِم أهل الحق الظهور بالسيف والسنان فهم غالبون في كل زمن بالحجة والبيان، ومعلوم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث مُدَّة في مكة وهو يجاهدهم بالقرآن.(17/170)
فإذن الجهاد والقتال قائم في كل حين حتى في لحظتنا هذه بيننا وبين المشركين وبين أعداء الملة والدين إما بحجة وبيان نجاهدهم بها، وإما بسيف وسنان والسيف والسنان له شروطه المعتبرة شرعا، والحجة والبيان قائمة في كل زمان، فإذن هذه الأمة منها طائفة ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها إلى قيام الساعة وهم ظاهرون بالحجة والبيان، وأهل التوحيد ظاهرون على أعدائهم بالحجة واللسان والحجة والييان؛ لأن حججهم محكمات واضحات، ولأن حجج غيرهم داحضة لأنها شبهات.
قال (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح).
الآن كل هذه المقدمات فيها وصف، يأتي بعد إن شاء الله الدرس القادم ابتداء الدخول في لب الكتاب وتفاصيل الشبه وتقعيد الردود عليها في تبيان كلام الشيخ رحمه الله.
قال(وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح) وهذا والله حق، فالخوف على الموحد أن يأتي ويسلك طريقا ليس معه سلاح، فقد سُمع من بعض أهل التوحيد والمنتسبين إليه من يسهّل بين خلاف الأديان وربما بعضهم سماها الأديان السماوية الثلاثة، وسُمع منهم من يسهّل في أمر تبيان السحرة وسُمع منهم من يشكك في كُفر أهل الشرك وكُفر عبّاد القبور والأوثان وهكذا، بل حرك ترى في الناس، فقد يكون في هذا الزمان عندنا هذا البلد بخاصة فكيف بغيره من إذا حركته في مسائل التوحيد ربما سلم لك شيئا أو أشياء وجادلك في أشياء كانت من الواضحات، وهذا لأجل أنهم خاضوا الطريق واختلطوا بالناس وذهبوا جاؤوا وسافروا وانفتحوا على الأقوال المختلفة ووسائل الإعلام المختلفة دون سلاح، مثل ما قال الشيخ رحمه الله هنا (وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح) فكل يصيبه ما معه سلاح هذا يصيبه بطعنة وهذا يصيبه بطعنة من الشبهات، حتى يكون ذهنه قائما على غير الحق نسأل الله جل وعلا العافية.(17/171)
قال (وقد من الله علينا بكتابه الذي جعله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) هذه الكلمة تأصيل لـ: أنّ الردود على المشركين وكشف الشبه الأصل فيها كتاب الله جل وعلا كل حجة عندنا وإنما هي في القرآن في هذا الأمر العظيم أمر التوحيد ومضادة الشرك وأهله، وهي في القرآن، لم؟ لأن القرآن كما قال جل وعلا ?تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ?[النحل:89]، فقوله (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) بما فيه بيان كل الأشياء، وأعظم الأشياء حاجة إلى تبيانها مسألة التوحيد والشرك وبيان التوحيد وبيان الشرك، وهذا أعظم ما يحتاج غليه العباد فكان هذا داخلا دخولا أوليا في قوله (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، فإذن الرجوع في التبيان والبيان والحجة إلى القرآن، وهذا كما سيأتي بأنّ كل الحجج إنما هي من القرآن والسنة مبيِّنة للقرآن.(17/172)
قال (فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبيِّن بطلانها) هذا حال قاعدة عامة في كل شيء في مسائل العقيدة والتوحيد، وكل مسألة يُحتاج فيها إلى حكم الشرع فإنها في القرآن، كما قال جل وعلا ?مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ?[الأنعام:38] على أحد وجهي التفسير، قال (إلاّ وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى ?وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا?[الفرقان:33]) المثل ليس المراد به ما يسير مسير؛ كما يقال في الأمثال كذا وكذا، وإنما المثل هو القول الذي يسر في الناس، القول إذا كان له حجة وله مسير في الناس من جهة القناعة به لشبهة فيه، قيل له مثل لهذا قال جل وعلا هنا (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) يعني بحجة باطلة في التوحيد في إبطالهم أو في تحسين الشرك أو في إيراد الشبه وأنهم ليسوا بكفار ولا مشركين إلا جئناك بالحق يعني في رده وبيان بطلانه وبيان الحق في ذلك وأحسن تفسيرا وأوضح تبيانا وأحسن تأويلا وشرحا لذلك المثل وللحق الذي فيه لأن القرآن غامض (قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة).
نقف عند هذا، وما بعده يبدأ الكلام الذي يدخل في العلم الغزير، وما سبق مقدمات، وهذه المقدمات مهمة للغاية، نجيب على بعض الأسئلة:
1/ هذا سؤال جيد يقول: نرجوا عندما تذكر شيخ الإسلام أو قول غيره أن تذكر الكتاب الذي يوجد فيه هذا القول حتى يسهل الرجوع إليه للاستفادة وتدوينه.(17/173)
بالنسبة لأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية أحيانا أتذّكر مثلا أو يتذكر الذي ينسب القول لشيخ الإسلام ويعزوه عليه، يتذكر المرجع يعني المظنة يقول مثلا في الفتاوى في كذا أو في اقتضاء الصراط المستقيم أو في كتاب كذا من كتب شيخ الإسلام، وتارة يحفظ القول وينسى مكانه بالنسبة للشباب المطالعين القريبين من كتب شيخ الإسلام دائما لقرب عهدهم بالمطالعة، تجد عنده تذكر للقول مستمر للقول ومكانه إلى آخره، لكن إذا تطاول العهد بكلام شيخ الإسلام أو كلام غيره فإنه يؤثر القول، وقد [...] عن الذهن المرجع، فلا بأس إذا حصل مني تذكر للمرجع نذكره إن شاء الله تعالى، وإذا صار به تردد فيه أو نسيان فنرجئه أو نمر عنه.
2/ من ذبح عند قبر مثلا متى يحكم عليه أنه مشرك ؟
إذا ذبح عند القبر متقربا لصاحب القبر فهو مشرك، تحكم عليه بالشرك بذبحه؛ لأنه صرف العبادة لغير الله، ثم تقيم عليه الحجة، فإن مات بعد قيام الحجة عليه فهو خالد مخلد في النار.
يقول ومتى يعذر بالجهل؟
سبق لنا بعض كلام في هذه المسألة.
3/ ما رأيكم فيمن يقول اللهم لا تشغلنا إلا في طاعتك؟
لا تشغلنا عن طاعتك أو لا تشغلنا إلا في طاعتك، دعاء طيب لقول الله جل وعلا ?فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ?[الشرح:7]، يعني في طاعة الله ?وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ?[الشرح:8]، فشغل الإنسان بالنية يكون طاعة فإذا دعا بهذه الدعوة يعني يدعو بتحسين نية كل عمل حتى يكون طاعة.
4/ يقول في هذا العصر نجد من الدعاة إلى الله من مكث سنين طويلة يكتب للإسلام بنية صحيحة حتى الوفاة وعليه بعض الأخطاء في العقيدة والمنهج هل يمكن أن نقول بعد كل ما فعل أن منهجه غير إسلامي؟(17/174)
بالنسبة للذين يكتبون وعليهم أخطاء ننظر فيه -يعني فيما يخص بحثنا اليوم- ننظر هل هو معاد للتوحيد هل هو يحسن الشرك أو يهون من شأنه فإنّ كان كذلك فلا كرامة، أو على الأقل نقول مثل ما يقول علماؤنا الأوائل إذا واحد مثلا ما يعرفونه في تحقيق التوحيد ولا بنصرة التوحيد يقولون ما نعرفه بشيء، يسكتون عنه لا يمدحون ولا يذمون، إذا ما حقق التوحيد ولا دعا إليه في بلد فيها الشرك بالله جل وعلا.
وكلمة (منهجه غير إسلامي ) إسلامي هذه دخل فيها فئات كثيرة دخل فيها أصناف من الناس، منهم من هو قريب ومنهم من هو متوسط ومنهم من هو بعيد، فهي كلمة لا تقال (منهجه غير إسلامي) كلمة فيها سعة.
5/ لقد قلت أنّ أحمد زيني دحلان من الذين يدافعون عن الشرك لهذا نذكر كتب مثل علوم الآلة في علوم النحو فهل ننتفع بها؟
لا علماء المشركين لا تنتفع منهم بشيء؛ لأن الانتفاع منهم بشيء يجعل في القلب شيء من التعاطف معهم، وهذا مخالف لما يجب من البراءة منهم، فمثل كتاب زيني دحلان هذا في النحو ليس بشيء، وثَم كتب كثيرة جدا بل مئات تغني عنه.(17/175)
أحمد زيني دحلان له كتاب سماه الدرر السنية في الرد على الوهابية، وكان مفتي الشافعية في مكة وبسببه بسبب هذا الكتاب وبسبب مؤلفه انتشرت الدعايات السيئة على هذه الدعوة وعلى إمامها رحمه الله تعالى، كان إذا أتى الناس إلى الحج جمعهم مفتي الشافعية فيجمع [...] مثلا ويجمع أهل مصر ويجمع أهل الشام ويجمع أهل أفريقيا ويجمع ويجمع ويعطيهم نسخ من هذا الكتاب، ويقول: ظهر في جهتنا رجل يقال له كذا وأصحابه يقال لهم الوهابية هؤلاء خوارج هؤلاء يدعون إلى كذا إلى آخره. ولهذا يردد الناس جميعا ما كتبه أحمد زيني دحلان في كتابه هذا الدرر السنية قد قال عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: وكان هذا الرجل يأمر بحلق، يأمر النساء اللاتي يتبعهن بحلق رؤوسهن وكان يختار منهن الزوجة التي يريد، والظاهر من حاله بالقرائن أنه يدعي النبوة -هذا في الكتاب- وقد روى بعضهم حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه يخرج في ثاني عشرة من الزمان رجل يلعق براطنه، يحدث فتنة يعتز فيها الأراذل والسفل، ويذل فيها أهل الفضل والكمل -أو شيء من هذا- وهي فتنة تتجارى بها الأهواء - وما شابه ذلك قال بعدها- وهذا الحديث وإن لم يعرف من خرجه لكن شواهد الصحة تدل عليه. وهو موجود إلا في كتابه ومن نقل عنه، فهؤلاء علماء مشركون حقيقة يعني حسنوا الشرك دافعوا عنه ردوا على أهل التوحيد طعنوا في الدعوة في أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى، فماذا يبقى في حالهم لا شك أنه أقل ما يجب العداوة القوية والمفاصلة والبراءة منهم، إذْ هذا هو معنى قوله ? إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ? إلى قوله ?وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ?[الممتحنة:4] والله المستعان.
6/ إذا مات عالم يروج شبهة فما موقف أهل السنة منه ؟(17/176)
هذه الشبهة التي يروجها إن كانت في الشرك يحسّن الشرك فهو مشرك، فهذا يُتبرأ منه، وليس بموحِّد؛ لأن كل عالم حسن الشرك ودعا إليه فهو مشرك لأن الحجة قامت عليه بكونه عالما بالقرآن أو بالسنة والقوة عنده قريبة فلا يعذر لعدم بحثه أو يعذر إذا كان حسن الشرك أو دعا إليه، مثل تحسين الاستغاثة بغير الله، ومثل الدعاء إلى الإشراك بالموتى وأشباه ذلك.
بخلاف من عنده شبهة راجت عليه في مسائل يحرم الاشتباه فيها مثل مسألة الشفاعة في سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وهذا لا يتبع فيما وقع فيه وما أروده وإن دعا إلى ذلك فيرد عليه إلا إذا كانت الشبهة كما ذكرنا في التوحيد فإنه يخرج من الدين إذا كان حسّن الشرك رد على التوحيد.
7/ هناك من العلماء من أخطأ في الأسماء والصفات، وقد أولوا بعض الصفات وهؤلاء العلماء لهم جهود كبيرة في خدمة هذا الدين والعلم والعلماء، فهل نحكم عليهم حكما على أهل الشرك من العلماء؟
لا حاشا وكلا، الذي يخطئ في توحيد الأسماء والصفات يؤول بعض الصفات لا نحكم عليه بالكفر بل هو مبتدع مخالف عاصي، فهو ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا، ويجب النهي عما أخطأ فيه إذا كان مما أخطا فيه متعديا على الناس يعني منتشر في الناس، يجب التحذير من ذلك، إنكارا للمنكر حتى لا يقتدي الناس به فيما أخطأ فيه.(17/177)
وبعض الأئمة منهم أحمد وغيره، قيل له ترد على فلان وفلان ولهم من المقامات كذا وكذا، يعني من الصلاح والطاعة، فقال: ويلك أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، ألا ترى كيف أدفع عنه من يقتدي به في سوئه حتى لا تعظم عليه ذنوبه يوم القيامة. يقول: أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، ألا ترى كيف أدفع عنهم الإقتداء بهم في السوء حتى لا تعظم ذنوبهم يوم القيامة. هذا فقه عظيم لأن النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم توجب أن يبين خطأ المخطئ، حتى لا يتبعه الناس في خطئه، الذي صنف أو الذي دعا إذا أخطأ وأخطأ بخطئه اقتدى به أمم مع قرب الحق منهم وإن كان الوصول إليه، فلم يقانعوا بالحق ولم يأخذوا به فكما قال النبي عليه الصلاة والسلام «ومن دعا إلى ضلالة فله وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء»، وقال أيضا في الحديث الآخر «من سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها».
فإذن التحذير من خطأ المخطئ في توحيد الأسماء والصفات أو بدعة المبتدع أو ضلال من ضل في بعض المسائل هذا في مصلحته والإسلام أغلى من فلان أو فلان، حتى ولو كان ممن يشار إليهم من المصنفين القدماء أو المحدثين؛ لأن المقصود حذر التأثير فيما أخطأ فيه عن أن يتبع في ذلك، فالتنبيه ليجتنبهم.
وكل رد له مقام، فأحيانا يكون المقام بذكر حسنات وسيئات، وتارة يكون المقام لا يجوز فيه أن تُذكر حسناته في مقام الرد، والسلف رحمهم الله تعالى في ردودهم على المخالفين تارة يذكرون ما لهم، وتارة لا يذكرون ما لهم بل يذكرون ما عليهم، وهذا لأجل تنوع المقام، فإن كان ذكر ما له في مقام الرد يُغْري به ويوقع الشبهة في تحسين كلامه فإنه يكون ذلك شبهة توقعها في الناس.(17/178)
مثلا ترد على الرازي مثلا في الأسماء والصفات أو في التوحيد بعامة، أو ترد على فلان، فتقول كان إمام مبرزا وكان ذا علوم، وكان العلماء لا يصلون إلى شيء من علومه، وحفظ كذا وكذا، الذي يقرؤه ينبهر يقول كل هذا ثم تريد أن أصدقك أنه أخطأ أنت من أنت؟ هل أنت في مقامه؟ وهذا وقع في بعض من كتب في ردوده مدحا لمن رد عليه، يأتي القارئ له لا تتصور القارئ طالب علم، الشيء إذا نشر يقرؤه العامي، ويقرؤه واحد في بيته، ويقرؤه مثقف عادي، يقرؤه يقول طيب العلماء إذن كان هذا عالم وأنت الآن مجدته هذا التمجيد وأخطأ، فليش أنا آخذ كلامك ولا آخذ كلامه، فتقع الشبهة.
لهذا هدي السلف في الردود أنه بحسب المقام تارة يذكرون ما له وما عليه، مثل ما ذكر شيخ الإسلام في مقامات ما للمخالفين وما عليهم وتارة لا يحسن أن يذكر ما له؛ لأنه قد يُغري ذلك الجاهل بالإقتداء به أو تكون المسألة فيها قولان واختلاف العلماء وكل يأخذ ما يشتهي.
هذا تحقيق في مسألة ما أشيع أو ما كثر الكلام عليه في مسألة الحسنات والسيئات وفي ذكر الحسنات والسيئات، فيكون تحقيق المقام: أن هذا يختلف فإذا كان المقام مقام تقييم له فيذكر ما له وما عليه وإذا كان المقام مقام رد عليه فلا تذكر حسناته إذا كان في ذكرها إغراء لقَبول ما قال عند بعض الجهلة؛ لأن هذا يحجب عن قبول الحق الذي يأتي به الرأي.
8/ هذا يتكلم على المنهجية في طلب العلم يحتاج إلى تفصيل بعض الشيء.
9/ ما رأيكم في قراءة كتب شبهات المشركين، أو الشبهات التي يلقيها بعض المسلمين على العلماء والدعاة بقصد التحذير منها والرد عليها؟
لا هذه لا تؤخذ ولا تقرأ إلا لمحكِم أمره عالم يمكن أن يرد عليها، أما الذي يخوض في هذا الميدان بلا سلاح ويعرف أن سلاحه ضعيف لا بد أن يحذر ولا يعرض دينه وعقيدته ويقينه للتردد والتذبذب.(17/179)
10/ من المعلوم أن العقيدة من الأمور التي لا يجوز فيها التقليد البتة، وهناك من العلماء من أراد الوصول إلى الحق ولم يعرف بعدائه للتوحيد، ولكن لمعرفته أن العقيدة لابد فيها التحرير حصّل ما كان مخالفا للصواب، فهل نحمل ذلك على التأويل وأنه كان من تأويله، أرجو البيان، علما أن من أعداء الدعوة من قصد وصول الحق ولعل منهم من رجع وتاب إلى آخره؟
هذا راجع إلى تفصيل الكلام في مسألة الظاهر والباطن، بالنسبة إلى اجتهاده في الوصول إلى الحق هذا بينه وبين الله جل وعلا، لكن إذا كان مشركا دعا إلى الشرك وحسّنه وأبطل حجج أهل التوحيد وعادى التوحيد وأهله، فلا شك أنه مشرك كافر ولا كرامة، إذا كان من العلماء لأن الحجة عليه قامت، والقوة عنده قريبة يمكن أن يبحث ويبحث والحق موجود في الكتب، بل هناك من قال أهل العلم في هؤلاء إنّ الله جل جلاله قال في القرآن ?لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ?[الأنعام:19] وهؤلاء العلماء بلغهم القرآن وفهموا معناه، فإن كانوا أعرضوا على القرآن مع علمهم فهؤلاء قد قامت عليهم الحجة.
فالمقصود أن الرؤساء رؤساء الضلال والكفر والشرك من الذين حسنوا الشرك ودعوا إليه وأبطلوا التوحيد أو أبطلوا حجج أهل التوحيد ودعوا الناس لمعاداة أهل التوحيد، هؤلاء طواغيت مشركون.
11/ الذين خلّطوا في باب الأسماء والصفات قسمان: منهم علماء وصلهم اجتهادهم إلى ذلك ومنهم من هو على جهل واتباع هوى فعل يساوى بينهم؟
لا، لاشك المخطئون والضلاّل ليسوا على درجة واحدة في أبواب الاعتقاد.
نفعني الله جل وعلا وإياكم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ([31])
?????
[الجواب المجمل]
[المتن]
وأنا أذكر لك أشياء مما ذكر اللهُ في كتابه جوابًا لكلام احتج به المشركون في زماننا علينا.
فنقول: جواب أهل الباطل من طريقين مجملٍ ومفصّل.(17/180)
أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها، وذلك قوله تعالى: ?هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?[آل عمران:7] وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى اللهُ، فاحذروهم».
مثال ذلك: إذا قال لك بعض المشركين: ?أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62]، أو إن الشفاعة حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلامًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك: إن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتّبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله تعالى ذكر أن المشركين يقرّون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: ?هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ?[يونس:18] هذا أمر محكم بيّن، لا يقدر أحد أن يغيّر معناه، وما ذكرت لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعرف معناه ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف كلام الله عز وجل.
وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى فلا تستهن به فإنه كما قال تعالى: ?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ?[فصلت:35].([32])
[الشرح](17/181)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا وتُقًى وخشية يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فمِن هذه الجملة من هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات يبتدئ الكلام على الشبهات وعلى إبطالها، وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى قبل ذلك مقدمات غاية في الأهمية وهي المحكَمات التي يحتاج الموحد إلى أن يرجع إليها في حجاجه مع أهل الباطل وأهل الظلم والطغيان.
قال الإمام رحمه الله هنا (وأنا أذكر لك أشياء مما ذكره الله في كتابه جوابا لكلامٍ احتج به المشركون في زماننا علينا، فنقول: جواب أهل الباطل علينا من طريقين: مجمل ومفصل) كل شبهة في كلام المشركين أدلَوْا بها فإن جوابها في القرآن، إما عن طريق الجواب المجمل وإما عن طريق التفصيل، لقول الله جل وعلا ?وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا?[الفرقان:33]، فالله جل وعلا أبطل حجج المشركين بالإجمال وبالتفصيل، وقول الشيخ رحمه الله هنا (جواب أهل الباطل علينا من طريقين : مجمل ومفصل).
كلمة (مجمل) تارة يقابل بها المبيَّن، وتارة يقابل بها المفصَّل، ومعناها إذا قوبل بها المبيَّن يختلف عن معناها إذا قوبل بها المفصل:
?والأول هو الذي يبحثه الأصوليون حين يجعلون في مباحثهم في الركن الثالث من أركان أصول الفقه -وهو البحث في الاستدلال- المجمل ويقابلون به المبيَّن، والمجمل الذي يقابل به المبيَّن اختلفت عباراتهم في تعريفه؛ ولكن حاصلها يرجع إلى:
· أن المجمل ما لم تتضح دلالته.
· أو كما قال بعضهم: ما احتمل شيئين ولا مرجِّح.
· أو كما قال بعضهم: ما لم يكن متحد المعنى، ولم يكن ثَم ما يبين ذلك المعنى فيه.(17/182)
فإذن المجمل الذي يقابَل بالمبيَّن هذا يبحث فيه من جهة دِلالة الألفاظ ومن جهة الاستدلال، فيقال هذا مجمل وهذا مبيَّن.
ومعلوم أن النصوص إذا جاء فيها شيء مجمل فلا بد من البحث عما يبيِّنه حتى يتم الاستدلال؛ لأن الاستدلال بالمجمل لا يصح؛ لأنه محتمل لأشياء ولا مرجح لأحد الاحتمالات من اللفظ أو من التركيب، وإنما لابد من البحث؛ البحث عن البيان في أدلة أخرى.
?وأما في مقام البرهان وعند أهل الحجاج والاستدلال فإنهم يستخدمون لفظة المجمل المقابل لها المفصَّل، وهو الذي عناه الشيخ رحمه الله في هذا المقام حيث قال (من طريقين: مجمل ومفصل)، والمجمل هنا هو المجمل في باب الحجاج وباب الاستدلال وإقامة البرهان، وذلك أنّ البراهين في إقامتها تنقسم إلى براهين مجملة وبراهين مفصَّلة.
ويُقصد بالإجمال البرهان العام الذي يمكن أن تُرجع أفرادا كثيرة إليه من جهة الاحتجاج، فيصلح حجة لأشياء كثيرة دون تحديد.
وأما المفصل المقابل بالمجمل هذا فإنه الرد الذي يقابل به كل شبهة على حدا، وتكون الشبهة لها رد بالتفصيل عليها. وقد يكون هناك في الرد المفصل ما يشترك فيه بين رد ورد، وهذا يأتينا إن شاء الله تعالى.
فتحصّل لك أن قول الإمام رحمه الله تعالى (جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل ومفصل) أن:
المجمل: هو الجواب العام، والاستدلال العام، والبرهان العام، الذي يصلح لكل حجة يوردها المورد؛ يوردها المجادِل.
والمفصل: هو البرهان والدليل لإبطال كل شبهة على حِدَى ذلك على وجه التفصيل.
فإذن عندنا هنا الإجمال غير الإجمال المعروف في أصول الفقه، الإجمال هنا واضح بخلاف المجمل في أصول الفقه فإنه ما لم تتضح دلالته.(17/183)
فإذن قول الشيخ رحمه الله (أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة) يعني أما الجواب الذي فيه البرهان والدليل العام والشامل لردّ أفراد كثيرة من شبه أهل الباطل -بل لرد كل شبهة يوردها المبطلون- قال (فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقَلَها) وهذا واضح فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحال على هذا الجواب المجمل وأحال على هذا الأمر العام في قوله عليه الصلاة والسلام في بيان آية آل عمران «فإذا رأيتهم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» وهذا إحالة إلى تحذير عام من كل صاحب شبهة، وهذه يحتاجها كل مسلم كل موحد؛ لأن درجات العلم تختلف حتى بعض أهل العلم قد يخفى عليه جواب بعض الإشكالات؛ لكن إن كان من الراسخين في العلم ومن الموفَّقين آمن بما اشتبه وأحال الجواب على المحكمات، ولا يلزم من ذلك أن تكون كل شبهة مردودة عند كل عالم -كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى-؛ لكن المحكَمات -الأمر المجمل العام- هذا تستفيده في كل موقف من المواقف التي يجادلك من يخالف طريقة أهل التوحيد طريقة أهل السنة والجماعة طريقة السلف الصالح، فالاستمساك بهذا الجواب المجمل هذا غاية في الأهمية؛ لأنه قد لا يستحضر طالب العلم أو يستحضر الموحِّد جواب كل شبهة على تفصيلها، فإذا تمكَّن من هذا الجواب المجمل فإنه يتمكن من رد كل شبهة أوردها المبطلون.(17/184)
وتفصيل هذا الاستدلال المجمل بردِّ كلام أهل الباطل في التوحيد وبه تنكشف شبههم جميعا قال فيه (وذلك قوله تعالى ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[آل عمران:7]) هذه الآية في بيان من الحق جل وعلا أنّ هذا القرآن أُنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قسمان: منه محكم، ومنه متشابه.
والمتشابه والمحكم راجعان إلى دلالة الألفاظ وراجعان إلى المعنى، لا إلى المراد به.
فالمحكم اختلفت أقوال العلماء في تعريفه، ما هو المحكم وما هو المتشابه؟
فقال بعضهم: إن المحكم هو ما استبان معناه واتضحت دلالته، فلا لَبْسَ فيه متضح لكل أحد، لا لَبْسَ فيه ولا إشكال، والمتشابه ما يشتبه معناه المراد به فلا يتَّضح.
فإذن رجع على هذا التعريف المحكم إلى المتضح البيِّن، والمتشابه إلى ما يحتاج إلى اجتهاد ونظر لا يتضح معناه.
ومن الأقوال في ذلك ما رواه علي بن أبي طلحة في صحيفته المعروفة في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المحكم هو ناسخه وأمره ونهيه وحلاله وحرامه. فأرجع ابن عباس المحكم إلى ما يكون من جهة العمل، وأما الأخبار فإنها لا يعلم تأويلها إلا الله جل جلاله؛ لأنّ حقيقتها غير معلومة -يعني في الأمور الغيبية- كما سيأتي.
وقال آخرون من أهل العلم: المحكم راجع إلى ما لا تعدد في دلالته، والمتشابه إلى ما تتعدد الدلالة فيه.
والأقوال في هذا كثيرة معروفة في كتب الأصوليين.(17/185)
ومن الباطل فيها ما يجعل المحكم ما رجع إلى أمور الفقه -الأحكام- والمتشابه ما يرجع إلى أمور العقيدة؛ لأن هذا معناه أن الله جل جلاله لم يبين لنا بيانا محكما شيئا من أمور العقيدة، وهذا باطل.
ومن الباطل فيه ما يقال إن من المتشابه أو المتشابه منه آيات الصفات ومنه الحروف المقطّعة في أول السور، وهذا أيضا من الأقوال الباطلة فيه، وليس هذا محل ضبط الكلام في المحكم والمتشابه.
لكن المقصود من ذلك أن الراجح عند أهل العلم أن:
المحكم: هو ما تبينت دلالته واتضحت.
والمتشابه: هو ما يحتاج في بيان دلالته إلى اجتهاد ونظر.
والقرآن جعله الله جل وعلا محكما كلَّه، وجعله جل وعلا متشابها كله في آيات أخر.
قال جل وعلا في بيان أن القرآن جميعَه محكم ?كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ?[هود:1]، فالقرآن على هذا كله محكم، بمعنى أنه لا تفاوت فيه ولا اختلاف، مُتقن لا تفاوت فيه ولا اختلاف لا من جهة الأخبار ولا من جهة الإنشاءات، فهو جل وعلا أحكمه لا اختلاف فيه كما قال جل وعلا ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82].
والقرآن أيضا متشابه كله كما قال جل وعلا ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا?[الزمر:23]، فالقرآن متشابه لأنه بعضه يشبه بعضا آيات في التوحيد وآيات في التوحيد، وآيات في وصف أحد الرسل وبيان حاله مع قومه وآيات كذلك، آيات في الجنة والجنة والنار والنار والآخرة والآخرة، كذلك في صفات الله وصفات الله وهكذا فبعضه يشبه بعضا، في الأمر والنهي وفي الأمر والنهي، في الحلال والحرام في الحلال والحرام وهكذا.(17/186)
وهذان القسمان غير القسم الذي في هذه الآية، هذه الآية فيها تقسيم ثالث للقرآن، وهو أن القرآن منه محكم ومنه متشابه، والمحكم ما اتضحت دلالته وبان، والمتشابه ما يحتاج في بيان دلالته إلى اجتهاد أهل العلم فيه أو إلى رده للمحكم، ومن الاجتهاد أن يرد إلى المحكم، فالمتشابه من القرآن ما لم تتضح دلالته في نفسه، يشتبه على الناظر فيه، وذلك من قوله تعالى ?إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا?[البقرة:70]؛ يعني لا ندري المراد أي واحدة من هذه البقر (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) فلا ندري أي واحدة من البقر أردت بالأمر، وهذا هو المراد هنا في قوله (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) يعني يشتبه بعضها من حيث الدِّلالة والأمر فلا بد من إرجاعها إلى المحكم.
إذا كان كذلك فالمحكمات التمسك بها هو الأصل الأصيل في رد الشبه، وهذه الآيات المحكَمات أنواع؛ الآيات المحكمات في رد شبه أهل الباطل في التوحيد جميعا.
النوع الأول: الآيات التي فيها بيان أن الكفار مُقِرُّونَ بتوحيد الربوبية، وأنه لا إشكال عندهم في ذلك، هذا نوع.
والنوع الثاني: من الآيات أن الكفار ما أردوا عبادة ما عبدوا إلا لأجل التقرب إلى الله جل جلاله، بالزلفى والشفاعة، إلى آخر الآيات في ذلك.
والنوع الثالث: من الآيات المحكمات في هذا الباب الواضحة أن الأموات التي عُبدت لا تملك شيئا وأنها يوم القيامة تتبرأ ممن عبدها.
والنوع الرابع: من الأدلة المحكمة في هذا الباب في رد حجج المشركين، الآيات التي فيها بيان أنّ الله جل جلاله لم يتَّخذ ولدا ولم يتَّخذ شريكا ولم يتَّخذ وليا ولم يتخذ شفيعا، كآية سورة سبإ، وآية سورة الإسراء، وآية الفرقان، وأشباه ذلك.
والنوع الخامس: من هذه الأنواع المحكمة أن معبودات المشركين في القرآن مختلفة:
فمنهم من عبد الأصنام.
ومنهم من عبد الأوثان، والصنم ما كان على هيئة صورة مصورة منحوتة، والوثن ما لم يكن على هيئة صورة؛ شجر قبر كوكب إلى آخره.(17/187)
ومنهم عبد الملائكة.
ومنهم من عبد الأولياء.
ومنهم من عبد الجن.
ومنهم من عبد الشجر والحجر إلى آخره.
فهذه التصانيف في الآيات لمعبودات المشركين، هذه تُنزل عليها كل حالة من حالات أهل الشرك في هذا الزمن وفي ما قبله وما بعده.
فهذه آيات محكمات أصول في باب توحيد العبادة؛ هذه الأنواع.
لهذا ترى أن شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يكثر من تنويع هذه الأدلة؛ لأنها حجة في هذا الباب محكمة، لا يستطيع أحد أن يَنْقُضها ولا أن يردَّها.
قال جل وعلا (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)، معنى (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) أي هُنَّ الأصل الذي يُرجع إليه في الكتاب فالمحكمات البينات الواضحات، وما من آية مشتبهة في القرآن إلا ويمكن إرجاعها إلى محكم فيه، فمعنى (أُمُّ الْكِتَابِ) يعني هُنَّ أصل الكتاب الذي يرجع إليه؛ لأن الأم هي أصل الولد، وأم الكتاب الأصل الذي يرجع إليه الكتاب في آيِهِ وذلك أنها مشتملة على معاني الكتاب، ومن هذا كانت الفاتحة أم القرآن؛ لأن جميع آيات القرآن راجعة على آيات الفاتحة إما بظهور أو بشيء من البيان.
قال (وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) فهنا بين أن القرآن منه كذا ومنه كذا، منه محكم ومنه متشابه -متشابه لم تتضح دلالته- وهذا المتشابه قد يكون في الأخبار، وقد يكون في الأمر والنهي، قد يكون في الأخبار وقد يكون في الإنشاءات، فلا يُحَد المتشابه لقسم الإنشاء دون الإخبار أو بقسم الأخبار دون الإنشاء؛ بل التشابه وقع في قسمي الكلام، الأخبار والإنشاءات، ومعنى الأخبار يعني التي يكون امتثالها بالتطبيق، والإنشاءات معناه التي يكون امتثالها بالعمل.(17/188)
قال هنا في بيان موقف الذين زاغوا قال (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)، وهنا تلحظ أنّ قوله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) فيه إثبات أنَّ القلوب زاغت قبل النظر في القرآن، فَهُم زاغوا قبل، ثم بعد ذلك تلمسوا الدليل على زيغهم، قال (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ) فزاغت قلوبهم ثم اتبعوا ما تشابه منه، (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يستدلون بما تشابه بما لم يتّضح معناه أو بما يحتمل أو بما لو رُدّ إلى المحكم لبان، (يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يعني يتبعونه ويجمعونه لأجل الاستدلال به، ويتركون المحكم.
وهذا مثل ما حصل من النصارى أنَّهم نظروا في القرآن فزعموا أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصّة بالعرب لقول الله جل وعلا ?وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ?[الزخرف:44]، وأيضا في قول الله جل وعلا ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ?[الشعراء:214]، فاحتجوا بآيات على خصوص بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - للعرب.
وهذا احتجاج بالمتشابه واتباع له؛ لأن في قلوبهم زيغا، فوجود الزيغ في القلوب، وهو عدم رد الكتاب، وعدم اتباع محمد عليه الصلاة والسلام، فتلمسوا وتتبعوا الدليل.
كذلك كما هو ظاهر في هذه الأمة الفرق الضالة من الخوارج والمرجئة والقدرية والمعتزلة وأشباه هذه الفرق، فإن كل فرقة احتجت بالمتشابه وتركت المحكم.
فأخذت بعض الآيات الخوارج على بدعتهم في تكفير صاحب الكبيرة استدلوا بقول الله جل وعلا ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا?[النساء:93]، فقالوا هذا يدل على أن فاعل الكبيرة كافر لأنه حكم عليه بأنه خالد في النار.(17/189)
واحتجت المرجئة مثلا على بدعتهم بآيات، واحتجت القدرية على بدعتهم بآيات، والجبرية على بدعتهم بآيات.
إذن القرآن فيه احتجاج لكل صاحب زَيْغ، حتى في هذا العصر أتت طائفة وقالوا الصلوات في القرآن ثلاث؛ لأن جل وعلا لم يذكر في القرآن خمس صلوات فلا نصلي إلا ثلاثا.
وهنا قال عدد من أهل العلم المفسرين وغيرهم إن الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الابتلاء؛ لأنه لو كان القرآن واضحا صار الزائغ عنه معاند فقط؛ لأنه واضح فلم يزيغ إلا المعاند، والله جل وعلا بحكمته جعل القرآن منه محكم ومنه متشابه لم تتضح دلالته؛ ليبتلي الناس كيف يعملون، هل يسلطون أهواءهم مستدلين بالمتشابه أم يتخلصون من الهوى، فيُرجعون المتشابه إلى المحكم، ويرجعون ذلك إلى الراسخين في العلم وإلى أهل العلم الذين يفهمون المتشابه فيفهمون المحكمات.
فإذن الحكمة من وجود المتشابه في القرآن الابتلاء، والله جل وعلا ابتلى الناس بالحياة ?لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا?([33]) وابتلاهم بالرسول عليه الصلاة والسلام هل يؤمنون به أم لا يؤمنون «إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك» كما في صحيح مسلم، وكذلك ابتلى الله جل وعلا الناس بالقرآن بجعل بعض القرآن متشابها؛ هل يُرجعونه للمحكم ويسلمون لأهل العلم أم أنهم يخوضون في المتشابه فيقعون في الفتنة.
لهذا قال أهل العلم بالتفسير معنى قوله (فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) يعني ابتغاء فتنة أتباعهم كما نص عليه ابن كثير في تفسيره، فهم اتبعوا ما تشابه منه لأجل أن يُضِلوا ويفتنوا الأتباع معهم.(17/190)
فهم إذن تقررت عندهم أشياء ثم نظروا ولم يُسلِّموا لأهل العلم الانقياد الراسخين في العلم، فلم يرجع الخوارج للصحابة ولم يرجع القدرية للصحابة، وهكذا في أشياء كثيرة، ولم يرجع المعتزلة لأئمة السنة، ولم يرجع الأشاعرة إلى أئمة أهل الحديث والسلف قبلهم فيما اُختلف فيه، فاتبعوا ما تشابه منه وتركوا المحكمات ابتغاء الفتنة؛ يعني لأجل أنْ يحصل لهم اتِّباع الأتباع.
وقوله (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) نفهم منه أنّ من أضلَّ بشبهة فهو مبتغ للفتنة، سواءً قال أنا لم أرد الإضلال أو قال أنا أردته؛ لأن الله جل وعلا قال (مَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ) وإذا نظرت إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» ما يبين أنهم لم يبتغوا الفتنة في الناس قصْدا في الإضلال فيعلمون أنهم على باطل فيضلون الناس، هذا غير مراد، وإنما ابتغوا الفتنة كحالة لهم فهم حين اتبعوا ما تشابه منه فقد ابتغوا الفتنة في حالتهم، فحالهم حين اتبعوا المتشابه وتركوا المحكم أنهم يبتغون الفتنة، فنُزِّ لوا منزلة القاصد لذلك؛ لأنهم تركوا المحكم واتبعوا المتشابه، فلما أنهم لم يتخلَّصوا من الزيغ مع وضوح الهدى ووضوح طريقه ولم يتبعوا المحكم وإنما اتبعوا المتشابه فالحال أنهم بطريقتهم هذه ابتغوا الفتنة لهم ولأتباعهم، فكأنهم قصدوا ذلك قصدا وإن كانوا يقولون إنما أردنا الخير، فالخوارج كانوا أشد الناس عبادة؛ أشد من الصحابة عبادة، يحقر أحد الصحابة عبادته مع عبادتهم وصلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، فلا يُظن بهم أنهم اتبعوا المتشابه من القرآن قصدا في مخالفة القرآن وقصدا في الإضلال، وإنما حصل منهم الضلال لشيئين:
أولا: أنهم تركوا المحكم واتبعوا المتشابه.(17/191)
ثانيا: أنهم لم يرجعوا في بيان المتشابه على الراسخين في العلم في زمانهم في زمن الصحابة رضي الله عنهم.
قال جل وعلا (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) والتأويل هنا الذي ابتغوه أن ينزلوا المتشابه على ما أرادوا؛ يعني وابتغاء تفسيره، والذي يجب أنه إذا عرض المتشابه فإنه يُرجَعُ في تفسيره إلى المحكم ويرجع إلى تفسيره إلى أهل العلم، أما من عرض له المتشابه فدخل في تأويله بجهله وبهواه وبما عنده فلا شك أنه سيقع في الزيغ والضلال؛ لأنه ليس متأهلا لرد المتشابه إلى المحكم في كل مسألة أو إلى بيان معنى المتشابه.
والتأويل في القرآن أتى على معنيين:
المعنى الأول للتأويل: ما تؤول إليه حقيقة الشيء، ما تؤول إليه حقيقة الآيات، والآيات على قسمين: منها آيات أخبار ومنها آيات إنشاء، ?وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا?[الأنعام:115]، صدقا في الأخبار، وعدلا في الإنشاء يعني في الأمر والنهي. فالأخبار تأويلها ما تؤول إليها حقيقتها، فإذا كانت الأخبار غيبيات عن الله جل وعلا، فتأويل الخبر حقيقته وكنهه الذي عليه الله جل وعلا، وتأويل الخبر الذي هو وصف مثلا للجنة تأويله ببيان حقيقة الجنة ما هي، هذا معنًى للتأويل، ومنه قوله جل وعلا في سورة الأعراف ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ?[الأعراف:53]الآية؛ يعني هل ينظرون إلا ما تؤول إليه حقيقة الأخبار التي أخبر الله جل وعلا بها، (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) يعني ما تؤول إليه حقيقة الأخبار، رأوا الجنة ورأوا النار وحصل يوم البعث (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) إلى آخر الآيات، هذا هو النوع الأول من التأويل في القرآن.(17/192)
الثاني: التأويل بمعنى التفسير: وهذا في قول الله جل وعلا ?وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ?[يوسف:44] ومنه أيضا في هذا قوله جل وعلا ?أَناَ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأَوِيلِهِ?[يوسف:45]، وأشباه ذلك، فالتأويل هنا بمعنى التفسير، تأويل الأحلام بمعنى تفسير الأحلام، فالتأويل بمعنى التفسير هذا في القرآن، وهذا هو الذي اعتمده ابن جرير الطبري في ما اعترى في تفسيره حيث يقول: قال أهل التأويل، وبنحو الذي قلنا في هذه الآية قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك، قال أهل التأويل يعني قال أهل التفسير.
وهناك معنى ثالث للتأويل ليس في القرآن ولا في السنة وإنما هو اصطلاح حادث للأصوليين، وهذا ليس هو المراد هنا؛ لأن التأويل عندهم في مقابلة الظاهر، وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى معنًى آخر قريب، هذا معنى جديد اصطلاحي، وهو منقسم إلى ثلاثة أقسام كما هو معروف عند الأصوليين صحيح وضعيف وباطل.
هنا والمراد بـ(وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) في هذه الآية يحتمل المعنى الأول ويحتمل المعنى الثاني، (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)يعني ابتغاء معرفة ما تؤول إليه أخباره وأوامره ونواهيه، أو (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) بمعنى ابتغاء تفسيره، فيصح الأول ويصح الثاني.
وهنا نقف عند قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)، (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) اختلف السلف على الوقف هنا، هل الوقف على قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)؟ أو الوقف على (الْعِلْمِ)؟ فيكون معطوف على ما قبله، (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) على قولين للسلف، وسبب الخلاف أنه هناك قولين، هنا ما المراد بالتأويل؟(17/193)
فمن نظر إلى أن التأويل هو العلم بما تؤول إليه حقيقة أخباره؛ حقيقة صفات الله جل وعلا، حقيقة الجنة، حقيقة الإخبار عن النار، حقيقة الإخبار عن الملائكة، فهذا لاشك أمر غيبي لا يعلمه أحد، فمن نظر إلى هذا قال: الوقف على لفظ الجلالة. فقال (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ) يعني وما يعلم تأويل ما تؤول إليه حقائق أخباره إلا الله جل وعلا، وهذا المعنى صحيح فإن حقيقة الأخبار وما تؤول إليه ليس ثم أحد يعلمها إلا الله جل وعلا.
ومن نظر إلى أنَّ التأويل المراد به ما تؤول إليه حقيقة الأمر حقيقة النهي، قال: الأوامر تأويلها بامتثالها بفعلها بعملها على وجه أحكام الشريعة، والنواهي تأويلها بالاجتناب لها والبعد عنها على أحكام الشريعة، وهذا من التأويل في الإنشاءات يعلمه الراسخون في العلم من جهة العلم والعمل جميعا، في هذا قال بعضهم هنا: يقف على (الْعِلْمِ)؛ لأن الراسخين في العلم يعلمون التأويل على ما ذكرنا يعني ما تؤول إليه حقائق الإنشاءات، ما تؤول إليه حقيقة الأمر: امتثال الأمر على الوصف الشرعي، ما تؤول إليه حقيقة النهي: امتثال النهي على الأمر الشرعي يعني الأمر بالكف.
وقال آخرون الوقف على (الْعِلْمِ)، فالعلماء يعلمون كما قال ابن عباس: أنا ممن يعلمون تأويله. فيكون المعنى هنا في التأويل التفسير؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لابن عباس فقال «اللهم علمه التأويل»، قال: أنا ممن يعلمون تأويله. فيكون هنا معنى (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) يعني وابتغاء تفسيره فلا يعلم تفسيره الحق إلا الله جل جلاله وإلا الراسخون في العلم.......([34]) هو الصحيح.
فإذن نقول يحتمل أن يكون الوقف على لفظ الجلالة ويحتمل أن يكون على العلم، فمن وقف على لفظ الجلالة ورأى أن الراسخين في العلم لا يعلمون التأويل فهو إنما يعني من أهل السنة ومن الصحابة؛ لأنه مروي عن السلف نوعان من الوقف هنا:(17/194)
فمن رأى أن الوقف على لفظ الجلالة رأى أن التأويل هو ما تؤول إليه حقائق الأخبار فقط.
ومن رأى أن الوقف على العلم قال التأويل هو ما تؤول إليه حقائق الإنشاءات مثل ما قال ابن عباس: ناسخه وحلاله وحرامه وأمره ونهيه، أو التأويل هنا بمعنى التفسير.
ومن قال إن المتشابه لا أحد يعلمه البتة إلا الله جل جلاله، فليس علم المتشابه إلى علم أحد من الخلق، فهذا غلط ولا يصح نسبته إلى أحد من أهل السنة، وهذا يعني أن المتشابه المطلق الذي لا يعلمه أحد هذا غير موجود في القرآن عند المحققين من أهل السنة والجماعة، فإن المتشابه الموجود في القرآن متشابه نسبي إضافي، فعندنا المتشابه هنا في هذه الآية قسمان: متشابه مطلق، ومتشابه نسبي.
فالمتشابه المطلق غير موجود البتة؛ بمعنى يشتبه معناه فلا يعلم له معنى أصلا.
والثاني المتشابه النسبي الإضافي نقول اشتبه عليّ، اشتبه على العالم الفلاني المعنى، اشتبه على الإمام الكلام في هذه المسألة، اشتبه عليه تأويل الآية وأشباه ذلك، فهذا ممكن، فيكون متشابها إضافيا.
لكن لا يوجد آية في القرآن معناها - ما نقول تأويلها يعني ما تؤول حقائق الأخبار فيها؟ لا- إنما معناها، هذا لا يوجد آية في القرآن يشتبه معناها على جميع الراسخين في العلم من هذه الأمة، هذا القول ليس من أقوال أهل السنة والجماعة وإنما هو من أقوال أهل البدع الذين ذهبوا مذهب التجهيل.
فإذن نقول الصحيح أن الراسخين في العلم يعلمون؛ لكن يعلمون المتشابه الذي يمكنهم علمه وهو ما كان في باب الإنشاءات أو كان باب التفسير تفسير المعنى، وهذا متعيِّن لأن الله جل وعلا قال ?وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا?[آل عمران:7] لو كان الراسخون في العلم لا يعلمون البتة وإنما يقولون آمنا به كل من عند ربنا، فليس لهم فضيلة على ما سواهم في المتشابه.(17/195)
فما فضيلة أهل العلم الراسخين فيه في المتشابه إذا كانوا كعوام المسلمين إنما يعلمون المحكم والمتشابه جميعه يقولون فيه آمنا به كل من عند ربنا؟ هذا فيه إبطال لمزية أهل العلم في العلم، والمحكمات قلنا إن معناها هي ما تضح معناه وبانت دلالته، والمتشابه ما خفي معناه ولم تتضح دلالته.
فإذن على قول من قال: إن الراسخين في العلم لا يعلمون. فهذا فيه إبطال لمزية أهل العلم كما حرره ابن عطية رحمه الله تعالى والخطَّابي وأجادا في ذلك؛ في هذا البيان، وهذا يعني أن الراسخ في العلم يعلم.
وإذا كان كذلك فهنا يشكل على كثيرين تركيب الآية (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)كيف يكون التركيب على هذا الوجه؟ فنقول قال أئمة التفسير على هذا الوجه يكون التركيب ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ?[آل عمران:7] يعني حالتهم أنهم يقولن آمنا به، فيعلمون مع الإيمان به ويقولون كل من عند ربنا؛ لأجل أنه ليس في قلوبهم شك من ورود المتشابه، وأما ضعاف الإيمان وأما ضعاف العلم فقد يكون في قلوبهم شك من وجود المتشابه في القرآن، كما فعل صبيغ بن عسل المعروف في زمن عمر حيث كان ما ?وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا?[الذاريات:1]، ويشكك الناس بها، فإذا ضعف العلم ربما وقعت الشبهة في القلب من صحة القرآن، أما الراسخون في العلم فيعلمون ويقولون آمنا به كل من عند ربنا، فليس في قلوبهم شك ولا شبهة من ورود المتشابه في القرآن لأنهم يعلمون أن المتشابه في القرآن لأجل ابتلاء الناس.
هذا خلاصة معنى الآية ومعناها مهم في هذا الموضع.(17/196)
قال (وقد صح هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم») فإذن الواجب على الموحد، الواجب على المسلم، أنه إذا ضبط المحكمات في التوحيد بأنواعه وفي الشريعة فإنه إذا أتى من يتَّبِع ما تشابه منه فإنه يجب عليه أن يعمل شيئين:
الأول: الحذر كما أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) والحذر هذا يوجب المفاصلة في القلب بأن لا يصغي إلى حديثه ولا يجعل أحدا يلبِّس عليه دينه، هذا الأول.
والثاني: يجب عليه أن يقول آمنا به كل من عند ربنا، فيُرجع سبب الإشكال إلى جهله، وأما الآية في نفسها فواضحة يعلمها الراسخون في العلم.
ولهذا مثلا في باب التوحيد يأتيك من يحتج بالمتشابهات، مثلا وربما مجالها سيأتي؛ ولكن لإيضاح المقام يقول في قول الله جل وعلا ?وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا?[الكهف:82]، فهذا فيه دليل على تأثير الصلاح فيما بعد، أو يقول الشهداء أحياء وأنت لا تسأل ميتا إنما تسأل حيا بنص القرآن هم أحياء لقوله ?وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ?[البقرة:154]، ?وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا?[آل عمران:169]، ونحو ذلك.
فإذن هناك احتجاجات في توحيد العبادة بآي من القرآن، وفي توحيد الأسماء والصفات بآي من القرآن وهكذا، حتى إن أهل شرب الخمر والعياذ بالله وأهل الربا ونحو ذلك من الموبقات وجدوا لهم بعض المشتبهات فاحتجوا بها.
فالموحد المسلم يحرص تمام الحرص على أن يحذر ممن يوقع في قلبه الشبهة، ولهذا انتبه لقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ)، فاحذر أشد الحذر من أن يوقع أحد في أذنك شبهة تبقى ولا تستطيع الرد عليها، ثم ينميها الشيطان حتى يوقع في القلب الزيغ.(17/197)
ولهذا قال بعض السلف: لا تُصغي إلى ذي هوًى بأذنيك فإنك لا تدري ما يوحي إليك.
إذا كان الرجل غير محكم العلم قوي لا يجلس مع أهل الشبه، يحذر؛ لأن السلامة في الدين([35]) أعظم ما ينبغي الحرص عليه.
قال الشيخ رحمه الله هنا (مثال ذلك) الآن الجواب المجمل اتضح وأنه في كل مسالة تُرجعه إلى المحكم إذا أتى بشبهة فترجعه إلى المحكمات، وذكرت لك أنواع المحكمات في القرآن من الآيات، فإذا أتى أحد بشيء من المشتبهات فأنت ترجعه إلى نوع من الآيات المحكمات فتبطل شبهته، ولو شبه وشبه فتقول له: ما عندي من الاستدلال محكم بين لا يستطيع أحد أن يدفعه وما أتيت به شبهة، فأنا أومن أن الجميع من عند الله؛ ولكن لا أترك المحكم للمتشابه؛ لأن هذا طريقة أهل الزيغ. فتمسَّك بها فإن هذه من أعظم الفوائد والعوائد.
قال الشيخ رحمه الله بعد ذلك (مثال) مثال تطبيقي لما ذكرنا، الجواب المجمل عرفناه بالاستمساك بالمحكم في ورود المتشابه، إذا أتى استدلال متشابه ما عرفت الجواب عليه، أو جاوبت فأورد عليك شبهة ثانية تتمسك بالمحكم واترك الإصغاء للمتشابه.
قال (مثال ذلك إذا قال لك بعض المشركين ?أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62]) استدل هنا المشرك بهذه الآية ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ?[يونس:62-64] الآية دلت على أن الأولياء لهم منزلة عند الله جل وعلا لأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، معنى ذلك أن الولي له المنزلة العظيمة عند الله جل وعلا.(17/198)
ثم يستدل بأن الشفاعة حق، الشفاعة حق فيقول هنا: الولي له جاه وله حرمة وله منزلة عند الله جل وعلا، والشفاعة حق، والأنبياء لهم جاه أيضا والمنزلة العظمى عند الله جل جلاله، فكيف تجعل من سأل الأولياء من الأموات أو سأل بعض الأنبياء من الأموات ودعاهم يكون مشركا مع منزلتهم الرفيعة عند الله، والشفاعة حق والمنزلة لهم ثابتة؟ فهنا هذه شبهة يأتي جوابها تفصيليا؛ لكن إذا وقعت هذه الشبهة في القلب، أو وقعت على الأذن وعرضت على القلب، فكيف يكون الجواب؟ إذا لم تعرف الجواب التفصيلي -هذه شبهة عظيمة- فماذا تقول؟
تقول: ما عندي من العلم محكم، وهذه محتملة لأنه هو دخل فيها باستدلال؛ لأن الأولياء الله جل وعلا بيّن أن لهم فضل (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، أن الله أكرمهم واستدل بهذا الإكرام على أن لهم جاها عند الله جل وعلا، وهذا النوع صار متشابها؛ لأنه جعل الفضل الذي آتاه الله جل وعلا الأولياء أو الشهداء أو الأنبياء بعد مماتهم دالا على الجاه، وعلى أن هذا الجاه لا يُرَدّ إذا توسطوا به، فتلحظ أنه أدخل أشياء زائدة عن معنى الآية، فالآية فيها اشتباه في المعنى؛ لكن إذا فسّرها أهل العلم أوضحوا معنى ذلك.(17/199)
فإذن هنا يأتينا رد ذلك تفصيليا؛ لكن هنا كيف ترد عليه فتقول ما عندي محكم وهو أنّ الله جل جلاله بين أن المشركين الذين كفرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاتلهم إنما أرادوا الزلفى إنما أرادوا القربى، وهم ما توجهوا إلا للأولياء ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، فأولئك تقربوا للأولياء لماذا؟ لأجل الزلفى فهذه محكمة واضحة المعنى، كذلك بيان أن المشركين كانوا يقرون بالربوبية وأنهم مشركون، وسبب شركهم -مع عبادتهم وطاعتهم بأشياء كما ذكرنا- سبب الشرك هو طلب الشفاعة، كما قال جل وعلا ?أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ وَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ(43)قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، فنفاها عنهم فهذا أصل.
كذلك النوع الثالث من الآيات المحكمات التي فيها بيان أن الله جل جلاله حكم على من ألَّهَ عيسى بالكفر ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72].(17/200)
إذن فهو يورد الشبهة وأنت تورد عليه المحكمات، المحكمات واضحة المعنى؛ لكن هذه الشبهة التي أوردها في هذه الآية تلحظ أن الاستدلال بها فيه مقدمات، فقال جل وعلا (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) فهو يأتي ويقول هذا معناه أنَّ لهم جاه عند الله، تلحظ أن هذا الاستنتاج هذا اتباع للمتشابه؛ لأن الآية تدل على أنهم مُكرَمون وليسوا أصحاب جهل؛ لأن الآية فيها ما أعطاهم الله جل وعلا من الفضل؛ لكن أنّ لهم جاها هذه لم تأت في الآية، فجعل من تبع المتشابه هناك تلازما بين المكانة والرفعة وبيّن أن يكون لهم جاها، ما معنى الجاه؟ الجاه معناه إذا توسط فلا يرد، فجعل هذه ملازمة لهذه وهذا لاشك أنه اتباع للمتشابه؛ لأنه ليست دلالة الآية على ذلك.
فإذن هذا مثال لحجة يُدلي بها المشرك فإذا أدلى بهذه الحجة فتدمغه بالمحكمات الكثيرة.
قال هنا (أو ذكر كلاما للنبي - صلى الله عليه وسلم - يستدل به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره) يعني لا تفهم معناه الصحيح، لا تستطيع أن توضح له كلام المفسرين فيه كلام أهل العلم فيه إبطال ما أرد من الاستدلال، قال (فجاوبه) يعني أجبه (بقولك إن الله ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم ?هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ?[يونس:18]، هذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه) يعني ليس له معنيان لأن المشركين عبدوا غير الله للزلفى قال ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3] هذا بين واضح لا يحتاج إلى مقدمات في الاستدلال، كذلك قولهم (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ) فهم طلبوا الشفاعة أيضا هذا أمر بين واضح.(17/201)
قال الشيخ رحمه الله (هذا أمر محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه، وما ذكرته لي أيها المشرك من القرآن أو من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعرف معناه) هذا هو الذي يجب به الموحد إذا أدلى أحد بشبهة تقول: أنا لا أعرف المعنى. وهذا ليس بعيب، وأن تكون لا تعلم بعض الآيات؛ لأن العلم واسع فتقول: أنا لا أعرف معنى هذه الآية الصحيح؛ لكن أعلم أن المحكم هو كذا؛ لكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، لم؟ لأن القرآن كله من عند الله جل وعلا وهو محكم وكله حق والحق لا يناقض حقا بل يؤيده ويدلّ عليه.
قال (وأن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف كلام الله عز وجل) لأن الرسول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إذا ثبتت سنته وصارت مقبولة محتجا بها فإنها مبينة للقرآن ودالة عليه، كما قال جل وعلا ?وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ?[النحل:44]، فأنزلت السنة وكان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما يأتيه بالقرآن لبيان معنى الذكر، تارة يكون بيانا لفظيا وتارة بيانا عمليا، فكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخالف ما جاء في القرآن؛ لكن التوفيق بين هذا وهذا تقول: أنا أجهله. تقول: كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - هو بيّن لا يخالف كلام الله جل وعلا، وكلام الله جل وعلا لا يناقض كلامه جل وعلا؛ ولكن التوفيق بين هذه الآية وهذه الآية رد هذا المتشابه إلى المحكم حتى يتضح المعنى هذا لا أعلمه أنا، وإنما يعلمه الراسخون في العلم؛ لكن ما عندي من العلم بالتوحيد هذا بين محكم لا يستطيع أحدٌ أن يرده أو يشكك في دلالته.
قال رحمه بعد ذلك في نهاية هذا الجواب المجمل (وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى) تحتاج إلى توفيق بالتخلّص؛ هنا التوفيق يأتي بتخلص العبد من هواه وتخلّص العبد من رؤيته لعقله ونفسه.(17/202)
بعض الناس يأتي للمتشابه ويخوض فيه؛ لأن عقله جيد، يقول أنا عقلي ليش ما أحاول أفهمها؟ ليش؟ ما أفهم؟ أنا أفهم، فيدخل في المتشابه يغوص ويغوص فيُخرج منه أشياء يضل بها، كما قال جل وعلا ?فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?[آل عمران:7]؛ يعني ابتغاء تفسيره، فيخوض في المتشابه المشكل المعنى رغبة وطلبا للتفسير فيضل في التفسير فيعتقد أن تفسيره صواب وأن فهمه للآي صواب وفهمه للسنة صواب، فيكون ممن اتبع المتشابه وترك المحكم، والواجب عليه ألا يخوض في ذلك وأن يرد معناه إلى أهل العلم الراسخين فيه.
قال (وهذا جواب جيد سديد ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى) وإذا أردت الخير في هذا الباب فإياك ثم إياك من تعظيم عقلك وأن تقول قد حصلت من العلم كذا وكذا، فتخوض في أشياء وتطعن بفهمك على فهم أهل العلم.
فإذا خالفت في فهمك فهم الراسخين في العلم فاعلم أنك لو استرسلت في فهمك فإن هذا من اتباع المتشابه؛ لأننا نقطع بأن الراسخين في العلم يعلمون المعنى، ولا يمكن أن يكون المعنى مفقودا من الراسخين في العلم وأنْ يؤتاه من ليس براسخ في العلم؛ لأن الله جل وعلا قال ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ?[آل عمران:7].(17/203)
قال(ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله تعالى فلا تستهن به فإنه كما قال جل وعلا ?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا?[فصلت:35])، يحتاج إلى صبر؛ لأن النفس تُنازع -خاصة طالب العلم أو الذي قرأ عنده قراءات وثقافات وأشباه ذلك- تنازعه نفسه في حل كل إشكال، تنازعه نفسه في الدخول في الاستدلال كل متشابه، ولهذا تجد بعض طلبة العلم الآن أو بعض المنتسبين للعلم والقراء تجد أنهم يوردون إشكالات كثيرة، فالعالم يردّ عليهم بالمحكمات ولا يضطرب لورود المتشابه؛ لكن من ليس براسخ في العلم إذا ورد المتشابه عنده فإنه يضطرب،لم؟ يضطرب لأنه لا يعرف عظمة المحكمات وكثرتها ووضوح معناها، فإن المحكمات في الأدلة والمحكمات في العقيدة والمحكمات في الأحكام هذه واضحة عند أهل العلم بينة ما يمكن أننا نضطرب معها، فقد يرد إشكال فنقول والله هذا مشكل نبحث عن جوابه ماذا قال أهل العلم في جوابه؛ لكن من لم يكون صابرا على الاكتفاء بالمحكمات فإنه سيدخل في المتشابهات متعجلا وسيضل من حيث ظن أنه سيبحث أو سيحل الإشكال، ولهذا هنا لابد في المتشابه من الصبر (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا) مثل ما قال الشيخ رحمه الله وأجزل له المثوبة، تحتاج إلى صبر، كثيرين ما صبروا جاءتهم الشبه فاتبعوها ما صبروا، دخلوا فيها بأهوائهم وآرائهم وما صبروا، ولو صبر زمنا طويلا وتمسك بالمحكمات كان قد أدى الذي عليه.
قال (?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ?[فصلت:35]) ولا شك أنّ الذي يستمسك بالمحكم في رد المتشابه فإنه قد أدّى الذي عليه وامتثل قول الله جل وعلا وخَلَصَ من الابتلاء والفتنة بالمتشابه، ويكون حاله -إذن- أنه ذو حظ عظيم؛ لأنه سلِم من الابتلاء بذلك وسلِم من الفتنة فنجح حيث لم يتبع المتشابه ورد المتشابه إلا المحكم.(17/204)
ولا شك أن هذه كلمة ينبغي لك أن ترددها في مسائل العلم جميعا، وخاصة المسائل التي يكون هناك فيها إلقاء للشبه في أمر توحيد العبادة وكذلك في أمور العقيدة بشكل عام:
فلا تجهل لها قدْرا وخذها
شكورًا للذي يحيي الأناما
ونختم بهذا ونسأل الله جل وعلا أن ينور قلوبنا بالعلم الصالح النافع، وأن يجعلنا ممن يحذر من المتشابهات ويفقه المحكمات، ويستعين بالله جل وعلا وبأمره كله.
اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك فأنر قلوبنا بالإيمان، واجعلنا من الصابرين، نعوذ بك أن نَضل أو نُضل أو نجهل أو يجهل علينا أو نزل أو نزل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
??¹™™
[الجواب المفصّل]
[المتن]
وأما الجواب المفصّل: فإن أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل، يصدّون بها الناس عنه: منها قولهم: نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلاً عن عبد القادر أو غيره، ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم.
فجاوبه بما تقدم؛ وهو أنّ الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرّون بما ذكرتَ، ومقرّون أنَّ أوثانهم لا تدبّر شيئًا وإنما أرادوا الجاه والشّفاعة، واقرأ عليهم ما ذكر الله في كتابه ووضَّحه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أسأل الله لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع، ربنا اجعل ما علمتنا حجة لنا، نعوذ بك أن نضل أو نُضل أو نزل أو نُزل أن نجهل أو يُجهل علينا.(17/205)
لما ذكر إمام الدعوة رحمه الله تعالى ورفع درجته أنّ جواب أهل الباطل من طريقين مجمل ومفصل: ذكر المجمل، ثم ذكر المفصل.
ومن المعلوم في فن التأليف أن التقاسيم إذا وردت فإنه يناسب أن يقدَّم ما كان الكلام عليه مختصرا، وما كان الكلام عليه مطولا فإنه يؤخر، ولهذا الشيخ رحمه الله قدَّم المجمل على المفصل لاعتبارات:
منها أن الكلام على المجمل قليل والكلام على المفصل كثير، ولو أخر الكلام القليل لذهب الذهن في المفصل ونسي أنه سيأتي المجمل.
ومن فوائد تقديم المجمل على المفصل أن المجمل يفهمه كل أحد، يحتاجه كل موحِّد، وسهل الفهم إذا علم عقيدة التوحيد وفهم بعض أدلتها فإنه يمكنه أن يجعل ذلك محكَما، فإذا أتى من يشبِّه عليه دينه ومن يجعله يتردد في بعض هذه أو يشككه أو يورد عليه الشبه فإنه يحتجّ عليه بالمحكَم فلا يجد ذلك صعبا، وأما المفصَّل فيحتاج إلى علم، يحتاج إلى مقدمات تارة لغوية وتارة أصولية وتارة من واقع حال العرب.
وقال رحمه الله تعالى ابتداء بالمفصل بعد المجمل؛ ابتداء برد شبهة وهي شبهة تحتاج إلى تأمل؛ لأنَّ أكثر الذين يكون عندهم نوع قرب أو قبول للتوحيد ربما تروج عليهم هذه أكثر من غيرها.
فقال (وأما الجواب المفصَّل فإن أعداء الله لهم اعتراضات كبيرة على دين الرسل يصدُّون بها الناس عنه)، هذه الكلمة (وأما الجواب المفصل) ليست موجودة في كثير من النسخ المطبوعة، ولم أرَ النسخ الخطية حتى نتثبت هل هي موجودة أم لا؟(17/206)
وعلى العموم فإن الشبهة على الجواب المفصل الشبهة التي سيجيب عليها في المفصل هي قوله (نحن لا نشرك بالله) إلى آخره، فقوله إذن (وأما الجواب المفصل فإن أعداء الله لهم اعتراضات كبيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه) هو إيراد لهذه الاعتراضات الكبيرة على التفصيل، ويلزم من إيراد الاعتراضات إيراد الأجوبة فقوله (فإن أعداء الله لهم اعتراضات) هذا لأجل أنه سيورد بعد الاعتراضات الأجوبة، هذا من ناحية الأسلوب ومن ناحية التأليف؛ لكن المعنى ظاهر.
قال (منها قولهم تحت لا نشرك بالله بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عن عبد القدر أو غيره؛ ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله بهم)، قال (فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقِرُّون بما ذكرت ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة واقرأ عليه ما قال الله في كتابه ووضحه) هذه الشبهة يمكن تقسيمها إلى أقسام:
الجملة الأولى: قولهم (نحن لا نشرك بالله)، وهذا القول منهم (نحن لا نشرك بالله) يريدون به الإشراك بالله في الربوبية، ولهذا قالوا بعده (بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق) إلى آخره، وقولهم (نحن لا نشرك بالله) راجع إلى أن الشرك له حقيقة شرعية جاءت في النصوص؛ ولكن حُرِّفت هذه الحقيقة وصُرفت عن وجهها.
ففي النصوص الإشراك والشرك هو اتخاذ الند مع الله جل وعلا في المحبة والعبادة الإشراك أو الشرك هو أن يجعل لله شريك إما في ربوبيته أو في ألوهيته أو في أسمائه وصفاته يعني أن يعتقد أن له مماثلا في اتصافه وفي أسمائه، هذا معنى الشرك.
ولهذا الشرك في النصوص تارة يتوجه إلى الشرك في الإلهية، وتارة يتوجه إلى الشرك في الربوبية.(17/207)
أما الشرك في الربوبية فكقوله جل وعلا في سورة سبإ مثلا ?وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ?[سبإ:22]، يعني من شركٍ في التدبير والتصريف.
وتارة يكون نفي الشرك أو النهي عنه لأجل الألوهية كقوله جل وعلا في آخر سورة الكهف ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]، هذا شرك في الألوهية في العبادة والآيات أيضا في هذا كثيرة.
والشرك الثالث في الأسماء والصفات كقوله جل وعلا ?وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا?[الكهف:26]، وكقوله ?فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ?[النحل:74]، وكقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، وكقوله ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4].
هذا هو الذي يعلمه أهل العلم بما دلّت عليه بالتنصيص الآيات فكان ذلك معلوما عند العرب تفهمه بلغتها.(17/208)
لما أتى اليونان إلى بلاد المسلمين بكتبهم؛ يعني استقدم بعض المسلمين كتب اليونان في قصة معلومة، ولا بأس أن نذكرها، وهي أن أحد ولاة العباسيين أرسل وفدا إلى ملك الروم، وطلب منه أنْ يُرسل إليه بكُتب الأوائل التي عنده، كتب الأوائل المقصود بها كتب الروم واليونان وكتب من يسمونهم الحكماء والفلاسفة، فعرضوا هذا على الملك الوافدون من عند الوالي المسلم من ولاة العباسيين، فقال: أمهلوني، فاستشار علماء النصرانية وعلماء بلده، فقالوا له وكانت موجودة في بيت للكتب قالوا: هذه هي زينة مملكتنا فكيف تعطيهم إياها، فأجبه بالنفي، فإن هذه لا يجوز أن تُخرج من بلدنا. وسكت واحد منهم فقال له: مالك سكت؟ وكان من حكمائهم وحذاق علماء نحلتهم وملتهم، فقال: يا عظيم قومنا أرى أن ترسل بالكتب إليهم ولا تمنعهم منها. فقال له ولم؟ قال لأن هذه الكتب ما دخلت إلى أمة إلا أفسدت عليها دينها. ووافقه عليه البقية، فحصل أنها أرسلت الكتب -كتب اليونان- وتُرجمت إلى آخر ذلك، اليونان فلاسفة، أرسلت كتب أرسطو وأفلاطون، هذه الفلسفة غايتها توحيد الربوبية، غايتها أن ينظر في الملكوت ينظر في الوجود فيُثبت أن هذا الكون له صانع؛ لأن هذا غاية الحكمة؛ يُثبت أن هذا الكون معلول عن علة، وهذه العلة عاقبة فيسمونها علة العلل أو العقل الأول في كلام فلسفي؛ يعني له تفاصيل.(17/209)
فدخل هذا على المسلمين، فلما دخل رأى من قرأ تلك الكتب بعد ترجمتها أن هذه هي كتب الحكمة وكتب الحكماء وكتب الفلسفة؛ يعني طلب الحكمة، قالوا: إن هذه هي الغاية، فكيف نوجد وسيلة للجمع ما بين الشريعة ما بين الإسلام -القرآن- وما بين هذه الكتب وفلسفة اليونان؟ فأخرجوا ما يسمى بعلم الكلام؛ وهو خليط من الشريعة -من النصوص- وما بين عقل الفلاسفة، وهذا الخليط جُعلت فيه الشريعة والعقل هذا يقارِن هذا، وهذه تقارن ذاك، يعني ما قدموا الشريعة على العقل ولا العقل على الشريعة، فنظروا في هذا ونظروا في هذا؛ لكن ينظرون في الشريعة بالعقل وينظرون في العقلانيات بالشريعة، هنا نظروا إلى أن غاية الغايات هو النظر في الملكوت، فلهذا أجمع المتكلمون على أنَّ أول مهمة، على أن أول واجب على العبد أن ينظر في الملكوت ويُثبت وجود الله جل وعلا.
هذا الأصل صار مستغرقا عندهم لا مَحيد عنه، وخاصة بعد مرور عقيدة جهم أن الغاية عنده إثبات وجود الله أيضا في مناظرته مع طائفة السُّمنية كما ذكرت لكم فيما سبق.
هذا الخليط الذي نتج صار هو الغاية عند كثير من الناس، فبالتالي نظروا في تفسير كلمة التوحيد، الشريعة فيها لا إله إلا الله هذه أصل التوحيد، وكلام الحكماء -كما يقولون- فيه أن الغاية هو إثبات وجود الله والنظر في علة العلل، والنظر في الملكوت حتى يطلب الحكمة فيما وراء الطبيعة. قالوا: إذن معنى هذا لأن ذاك عقل صحيح وهذه الشريعة صحيحة معناه أن يفسَّر بالعلة؛ علة العلل؛ لأن أول واجب في الشريعة لا إله إلا الله، أول واجب في الفلسفة أن ينظر في الملكوت فيُثبت أن لهذا الملكوت أو لهذا الكون علة نتج عنها.(17/210)
فخلطوا ما بين هذا وهذا، فقالوا: إذن ولا يمكن للعقل أن يكون مخطئا -عندهم نتاج الفلاسفة عقل قطعي-، ولا يمكن أن تكون الشريعة أيضا فاسدة، فهذا صحيح وهذا صحيح، فقالوا: إذن نفسر الإله بأنه الخالق؛ بأنه القادر على الاختراع. قالوا: إله هنا، نظروا قالوا: لكن إله في اللغة ليس معناها الخالق. فتأملوا في ما جاء في كتب اللغة فوجدوا أن هناك من قال: إله هذا بمعنى آلِهْ إذا جعله غيره متحيِّرا، فَأَلَه الرجل تحيَّر وتردد، وهذه مادة ربما تكون موجودة في بعض استعمالات العرب، أَلَهَ الرجل يعني تحير وتردد، فقالوا: إذن (لا إله إلا الله) إذا كان معنى الإله هو الخالق القادر على الاختراع فهو الذي فيه تتحير الأفهام؛ لأن قصدهم هنا أن ينظر، وهم إذا نظروا وتأملوا تحيرت الأفهام حتى يثبت الوجود، فقالوا: هنا التقت اللغة مع الشريعة مع العقل. وهذا قرروه في كتبهم، فحصل منه أنّ معنى لا إله إلا الله عندهم يعني لا قادر على الاختراع إلا الله، لا خالق إلا الله.
وإذا كان كذلك فيكون الشرك الذي يخرج من كلمة التوحيد هو أن يقول: ثَم قادر على الاختراع، ثَم رازق، ثَم من تحيرت الأفهام في حقيقته غير الله جل وعلا، فمتى يكون مشركا عندهم؟ إذا لم يثبت لا إله إلا الله، ومتى لا يثبت لا إله إلا الله؟ إذا قال إنه ثم خالق غير الله جل وعلا.
هذا الخليط من العقل واللغة الضعيفة التي نقلوها أو القليلة والشرع فيما نظروا فيه -يعني في بعض النصوص- أنتج لهم: أن الشرك هو الشرك في الربوبية؛ يعني اعتقاد أن ثم خالقا مع الله جل جلاله، ودُوِّنَ هذا في كتب المتكلمين الأوائل ونقله عنهم الأشاعرة، وأثبتوا ذلك في كتبهم، ولهذا الأشاعرة يقولون والماتريدية: أول واجب عند العبد النظر، وبعضهم يقول: الشك، وبعضهم يقول: القصد إلى النظر فهذا أول واجب.
والإله من هو؟ الإله:
منهم من يقول: الإله هو القادر على الاختراع.(17/211)
ومنهم من يقول: الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.
ومنهم من يقول: الإله بمعنى آلِه وهو المحيِّر، فلا يوصل إلى حقيقته وهو الله جل وعلا.
فنتج من هذا -وهو موجود في كتب المتكلمين وكتب الأشاعرة والماتريدية إلى يومنا هذا- نتج من هذا انحراف خطير في الأمة، وهو أن الإله ليس هو المعبود، وأن لا إله إلا الله معناها لا قادر على الاختراع إلا الله، لا مستغنيا عمل سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله، لا متحيِّرا في حقيقته إلا الله، فنتج من ذلك إخراج العبودية عن أن تكون في كلمة التوحيد، ونتج من ذلك الانحراف الخطير أن لا إله إلا الله ليست نفيا لاستحقاق أحدا العبادة مع الله جل جلاله.
فنتج وهي النتيجة قدم لها الشيخ هنا أن طوائف كثيرة من المؤمنين يعني من المسلمين فَشَا فيهم كلام الأشاعرة هذا وكلام المتكلمين وكلام المبتدعة هذا في معنى كلمة التوحيد، فيكون معنى الشرك عندهم راجع إلى واحد مما دلت عليه النصوص وهو الإشراك بالربوبية الذي جاء مثلا في سورة سبإ وفي غيرها.(17/212)
أما الإشراك في العبادة ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]، فهذا عندهم لا يَنْقُضُ كلمة التوحيد طيب نظروا بعد ذلك فيما فعلته العرب -ستأتي في الشبهة التي تليها- فيما فعلته العرب بما أشركت العرب؟ قالوا أشركت بعبادتها الأصنام وفي أنها ما وحَّدت الله في ربوبيته ولم تقل لا إله إلا الله؛ بل قالت إن الأصنام لها نصيب من الإلهية؛ يعني لها نصيب من الربوبية؛ ولهذا من أعظم ما راج على كثير من المفسِّرين من المتقدمين والمتأخرين، وراج على كثير من علماء الأمصار أن الألوهية تفسر بالربوبية، وأن لا إله إلا الله تفسر بمقتضيات الربوبية هذا نتيجة إلى هذا الانحراف، لهذا هذا المشرك الذي قال في شبهته -قد يكون عالما وقد يكون غير عالم- يقول (نحن لا نشرك بالله) هو قال هذه بحسب اعتقاده، هو لا يشرك بالله بحسب اعتقاده أن الشرك إنما هو الشرك في الربوبية وليس في الإلهية، وهذا نتيجة لما ذكرت لكم.
فإذن هذه الكلمة (لا نشرك بالله) ردُّك عليها كشف هذه الشبهة كما ذكر الشيخ رحمه الله في آخر الكلام وبما أوضحت لك في أنه:
أولا: تُوضِحُ موارد الشرك في القرآن، ما الذي نُفي من الإشراك بالله، نفيت الثلاثة التي ذكرت لك وكل واحدة عليها أدلة، حبذا تجمع هذه الأدلة في كل موضع يعني في كل نوع وتحفظ ذلك، هذا نوع.
الثاني: معنى الإشراك في النصوص.
الثالث: أن تبين أن الانحراف وقع، فصُرِف معنى الإشراك عن معناه في النصوص إلى المعنى الباطل ونتج عنه أن كلمة التوحيد فهمت أيضا غلطا، وفهم منها أنها نفي لربوبية غير الله جل وعلا، وهذا باطل.
فإذن قولهم (نحن لا نشرك بالله) هذه جملة يمكن أن تردَّها تفصيلا، وهذه الشبهة التي أوردوها لها رد بما أورده الشيخ رحمه الله.(17/213)
الشيخ ما أجاب عن كل جُملة جملة؛ لكن أجاب عن النتيجة التي وصلوا إليها بهذه المقدمات الباطلة، قالوا (نحن لا نشرك بالله) لِمَ لا تشركون بالله؟ قالوا (لأننا نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له) يعني لا يخلق ولا يرزق استقلالا ولا ينفع ولا يضر استقلالا إلا الله وحده لا شريك له، (وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا) كما جاء في النصوص يقولون نحن نقول ذلك؛ فهو عليه الصلاة والسلام لا يملك نفعا ولا ضرا، استقلالا لا يمكن أن يعطينا شيء؛ ولكن هو عليه الصلاة والسلام يمكن أن يعطينا عن طريق الوساطة، عن طريق التقريب، عن طريق التزلف؛ يعني أن يقربنا زلفا.(17/214)
وهذه الشبهة أوّل من أوردها فيما أعلم في كتابه إخوان الصفا في كتابهم ورسائلهم المشهورة رسائل إخوان الصفا الرسائل الخمسين المعروفة، فإنهم قرروا أن التوحيد هو الربوبية وأن هؤلاء الأموات من الأنبياء والصالحين أنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا كما قال هنا هذا الذي أورد الشبهة ولكن تتوسط بهم، لِمَ تتوسط بهم؟ عللوا بأن أرواحهم عند الله؛ لأن الله قال عن أرواح الشهداء ?أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ?[آل عمران:169]، والعندية معناها أنهم لهم القربى عند الله، فلهم الجاه ولهم الزلفى عند الله جل وعلا، فإذا سألتهم إذا دعوتهم فإنما تتوسط بهم لا تسألهم استقلالا، فيقول هؤلاء نحن لا نعتقد أن هذا ينفع ويضر بنفسه ينفع ويضر استقلالا ويخلق استقلالا يرزق استقلالا، حاشا وكلا، ولكن يمكن أن يخلق الله بواسطته، الولد في رحم الأم إذا سألناه أن يرزق الله بواسطة شفاعته؛ لأنه مقرب عند الله جل جلاله([36]) ..... هذا التقريب عند الله جل جلاله وَصَفوه بقولهم (ولكن أنا مذنب والصالحون لهم جاه عند الله) فقدموا هاتين المقدمتين، يقول (أنا مذنب) والمذنب لا يمكن أن يكون وليا لله أو مقربا عند الله، فعلى اعتقاده أنه لا يمكن أن يصل إلى الله مباشرة، وأولئك قالوا (والصالحون لهم جاه عند الله) هذا الجاه ماذا يفعل قالوا هذا الجاه بمعنى أنه لو سأل لم يَرُد، وإن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه، فأتى من هذه الشبهة ورد التوحيد باعتبار أن هذا الصالح الذي عند الله جل وعلا مقرب وهذا الصالح الذي عند الله له الزلفى والمقام الأعظم بحيث إنه لو سأل لم يُرد، تكملة الشبهة قالوا (وأطلب من الله بهم ) أطلب من الله لا منهم؛ يعني أني لا أسألهم؛ ولكن أطلب من الله بهم، كلمة (بهم) هما ليس معناه التوسل بهم يعني بجاههم؛ يقول أسأل الله بالنبي أسأل الله بالولي أسأل الله بأبي بكر وعمر؛ لأن سؤال الله بالصالحين هذا بدعة ووسيلة إلى الشرك وليس شركا أكبر؛(17/215)
ولكن القصد من قولهم (وأطلب من الله بهم) يعني أطلب من الله بوساطتهم وبشفاعتهم وبتقريبهم إياي عند الله زلفى.
فإذن كلمة (بهم) لا يقصد بها التوسل بالجاه؛ لأن هذه بدعة وليس شركا وإنما يقصدون بها الشفاعة والتقريب زلفى.
قال (فجابه بما تقدم) هذه الشبهة تلحظ شكلها مركبة، لاشك أنها شبهة وهي التي تروج عند الجميع، كيف واحد يؤمن بالله ويقول إن الله واحد في ربوبيته لا ينفع إلا هو، لا يخلق إلا هو، ولا يرزق إلا هو، إلى آخر ذلك، ويقول أنا مذنب؛ ولكن أتوسل يعني أتقرب إلى الله بالصالحين بشفاعتهم، أسألهم أن يدعو الله لي، أتقرّب إليهم بالدعاء حتى يشفع لي عند الله جل وعلا، هذا لا يجعلني مشركا، معناه -على حد قولهم- هو لا يشرك بالله وهذا ليس شركا بالله، فما الجواب؟
قال (فجاوبه بما تقدم وهو أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُقِرُّون بما ذكرت).
هذا الآن الدرجة الأولى من الجواب، تقول الآن له: نحن معك فيما ذكرت؛ لكن ننظر إلى حال المشركين الذين قاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكم عليهم بالكفر والشرك، ما حالهم؟ ننظر إلى القرآن ماذا فيه؟(17/216)
القرآن فيه أنهم مقرون بأن الله هو الخالق وحده وهو الرازق وحده وهو الذي ينفع وحده وهو الذي يضر وحده، إذا قال: ما الدليل على هذا؟ هل المشرك كان يعتقد هذا؟ نقول: نعم مشركوا العرب كانوا يعتقدون ذلك كما قال الله جل وعلا ? وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُِم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[الزخرف:87]، ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ?[الزمر:38]، وفي الآية الأخرى ?لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9] وقال جل وعلا ? قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ?[المؤمنون:84-85]، وفي آية سورة يونس ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31]، إذن في آيات كثيرة هذا الاعتقاد الذي وصفت أنك لست مشركا باعتقاده، نقول هذا وصف الله جل وعلا به مشركي العرب مشركي أهل الجاهلية، هذه الدرجة الأولى من جواب هذه الشبهة.(17/217)
الدرجة الثانية (ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا)، الأوثان جمع وثن وهو المتجَه إليه بالعبادة، وفي غالبه لا يكون على هيئة صورة، والأصنام ما كان على هيئة صورة، وقد يقال للأصنام أوثانا باعتبار أنها معبودة من دون الله جل وعلا كما قال جل وعلا في صورة العنكبوت في قصة إبراهيم ?إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا?[العنكبوت:17]، وفي الآيات الأخرى في قصة إبراهيم قال ?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ التِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ?[الأنبياء:52]، فإذن هي أصنام وأوثان، فالأوثان ما لم يكن على هيئة صورة، فإذن نذهب إلى شرك المشركين ونقول له: المشركون مقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئا. إذن المشرك مقر بأن الوثن ليس له نصيب في التدبير، فإذن ما رفضه من كلمة لا إله إلا الله وصار به مشركا ليس من جهة اعتقاده أن ثَم مدبرا غير الله جل جلاله؛ لأن الله جل وعلا قال ?وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31] هذه المقدمة الثانية.
المقدمة الأولى: اعتقاد المشركين في الربوبية في الله جل وعلا أنه هو المتفرد بالأمر، كما قال ذلك عن نفسه؛ يعني كما قال المشرك عن نفسه أنه يشهد هذه الشهادة.
الخطوة الثانية: اعتقاد أولئك في الأوثان بم؟ قال اعتقد في الأوثان العربُ أنها لا تدبر شيئا.(17/218)
إذا استدللت على هذه بالآيات وبحال العرب يأتي النتيجة وهي وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، لماذا أرادوا الجاه والشفاعة فقط؟ لأن الله جل وعلا قال ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3] ومن المتقرر في اللغة أن كلمة (مَا) وبعدها (إلا)، (ما) النافية التي تأتي بعدها (إلا) هذه تفيد الحصر فكأنه قال عن قولهم: لا نعبدهم لشيء ولا لعلة من العلل، لا لأنهم يملكون الرزق ولا يملكون الموت والحياة، ولا لأنهم يدبرون الأمر، ولا نعبدهم إلا لشيء واحد: وهو أن يقربونا إلى الله زلفى.
فإذن ينتج من ذلك أنّ المشركين كان شركهم باعتقاد أن هذه الأوثان تقرِّب إلى الله زلفى، باعتقاد أن هذه الأوثان لأجل أن لها منزلة عند الله وأن لها جاه عند الله فهي تقرّب، ما هذه الأوثان التي عُبِدت؟ الملائكة، أليس كذلك؟ ?وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ?[سبإ:40-41]، وقال جل وعلا في الأولياء ?أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ?[الشورى:9]، وقال جل وعلا في قصة عيسى عليه السلام ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[المائدة:116]، وقال للنبي عليه الصلاة والسلام ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[ الجن: 18 ].(17/219)
فإذن نُوِّعت المعبودات المنفية ولما نزل قول الله جل وعلا ?إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا?[الأنبياء:98-99] فرح المشركون قالوا: إذن سنكون مع الصالحين، سنكون مع اللات، وسنكون مع عيسى، وسنكون مع عزير، وسنكون مع كذا وكذا، مع من عبدنا. فأنزل الله جل وعلا قوله ?إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ?[الأنبياء:101-102]الآيات.
إذن ترتَّب على ما ذكرنا أن ما قاله صاحب الشبهة هي دعوى، لا تجابهه بأن تقول هذه دعوى بل أنت مشرك، لا، تقول له: نأخذها واحدة واحدة، أنت الآن تقول أنا لا أشرك بالله وأنك تشهد كذا وكذا، فنقول ننظر إلى حال المشركين في الآيات.
فإذا تأملت حال المشركين وقصصت عليه وتلوت عليه الآيات وأفهمته إياها كيف كانت حالة المشركين وأنهم مُقِرُّون بما أقر هذا به.
فإذن تنقله إلى الخطوة الثانية: وهي أن المشركين كانوا لا يعتقدون في أوثانهم أنها تدبر شيئا
ننقله بعد ذلك الخطوة الثالثة فيما قدمت لك سالفا في معنى الشرك، ما معنى الشرك، ومعنى كلمة لا إله إلا الله، ثم تنقله إلى أن أولئك لم يرضوا بلا إله إلا الله لأنهم إنما أرادوا الزلفى بنص الآية، وأرادوا الشفاعة بنص آية الزمر أيضا ?أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ وَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ(43)قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، فهي له وحده دون ما سواه؛ يعني مِلكا، هو الذي يخبرك عن حكمها جل وعلا لا تبتدئ أنت بتصريف أمرك في الشفاعة كما تريد؟ لا، هي لله جل وعلا سبحانه استحقاقا، وله جل وعلا مُلكا وأمرا ونهيا.
قال(واقرأ عليه ما ذكر الله في كتابه ووضحه).(17/220)
بهذا يتبين لك أن هذه الشبهة وهي من الشبه التي قد تواجهها، كثير من الناس تروج عليه؛ يقول كيف أنا مؤمن أنا كذا وكذا، يعني على شان ذهبت إلى رجل من الصالحين والأولياء عند قبره وقلت له: اشفع لي فأن لك جاه عند الله ومقاما عند الله، فاسأل الله لي أن يرزقني ولدا، واسأل الله لي أن يعطيني وظيفة، واسأل الله لي أن ييسر أمري، أكون مشركا كأبي جهل وكذا. هذه تروج على كثير من جهة العاطفة ومن جهة التقريب، إنما أنا أصلي وأنا أزكي وأنا كذا، وأعتقد أن الله هو الخالق الرازق، أنا لا أشرك بالله جل وعلا، فينفي شيئا هو في حقيقته واقع فيه، ولهذا قال الصنعاني في رسالته تطهير الاعتقاد([37])، هذا الصنعاني وكذا الشوكاني في رسالته توحيد العبادة المعروفة قالوا فيما جابهوه في اليمن قالوا: إن الأسماء لا تغير الحقائق؛ يعني إن غير المشركون وعلماء المشركين الأسماء فإن الحقائق لا تتغير، إذا سمَّوْا طلب الشفاعة وطلب الزلفى توسلا فإن هذا لا يغير الحقيقة، إذا سموه سؤالا بهم كما قال الشيخ هنا عنهم (قالوا: وأطلب من الله بهم) فهذا لا يغير حقيقة الأمر وهو أنهم يطلبون من الله صحيح؛ ولكن متوسلين بشفاعة أولئك لا بذواتهم، فالتوسل بشفاعتهم: اشفع لي، واسأل الله لي، وأطلب من الله لي، واسال الله لي وأشباه ذلك، هذا كله هو طلب الزلفى، أو يتقرب إليهم ليشفعوا من دون التنصيص على الشفاعة، يقول: أنا أتقرب إليه أذبح صحيح الولي؛ ولكن أنا أقصد الذبح لله؛ لكن للولي حتى ينعطف قلب هذا العبد الصالح علي لأني ذبحت فيسأل الله لي.
فإذن مقصود من عبد غير الله، من عبد الأوثان، من عبد الأصنام، من عبد القبور، من عبد الأولياء، من عبد الموتى، مقصودهم أن يشفع أولئك لهم، ليس مقصود أولئك أن يتخذوا هذه أربابا أو آلهة استقلالا، ما هذا المقصود أحد ممن أشرك؛ ولكن هذا مقصود أولئك من أنهم يريدون القربى والزلفى.
فإذن تحتاج في رد الشبه إلى:(17/221)
· أن تتدرج في المقدمات أولا.
· الثاني أن تفهم كيف ترد الشبهة بعمومها وكيف تفصل جمل الشبهة فترد عليها بخصوصها.
· الثالث أن تقدم الرد المجمل أو الرد الإجمالي على ما أورد من الشبهة برد مفصل على تفصيل كل جملة جملة، مثل ما ذكر الشيخ رحمه الله.
هنا قال (حالتهم) أذكر لهم حالة المشركين لا تجادلهم بأنه لست أنت مشرك أو أنه كذا وكذا لا؛ ولكن صف له حال المشركين وتفصيل الكلام الذي ذكرنا، ثم انتقل بعد ذلك إلى معنى كونه مشركا إلى معنى كونه نافى كلمة التوحيد إلى آخر ما ذكرنا.
هذه من المهمات في أن تتصور كيف تتدرج في رد الشبهة، واحذر من أن تنساق وراء الشبهة مع العاطفة فتجبهه بكلام قد يقوي الشبهة عنده، فلا بد أن يكون الانتقال كما عليه قواعد إقامة البرهان وإقامة الحِجاج مع المخالف؛ أن تنتقل في شأنه من المتفق عليه إلى ما هو أقل اختلافا، ثم إلى ما هو أكثر، وهكذا.
المسألة التي يقوى الاختلاف فيها لا تبتدئ بها، ابتدئ بالواضح واضح جدا، ثم انتقل بعده درجة إلى الأقل وضوحا، ثم إلى الأقل وضوحا وهكذا، أما إذا ابتدأت بما هو أكثر إشكالا فإنه لن يقتنع؛ لأن ما هو أكثر إشكالا يحتاج إلى مقدمات كثيرة.
فإذن تبتدئ معه بما هو أكثر وضوحا، والأكثر وضوحا:
· وصف حال المشركين من مشركي العرب من جهة إقرارهم بالربوبية، واحد.
· الثاني إقرارهم بأن أوثانهم لا تدبر شيئا.
· الثالث بأنهم إنما أرادوا الزلفى والشفاعة بنصوص القرآن في ذلك.
لكن لو ابتدأت معه بمعنى العبادة ربما يأتيك بمخالفات، يقول لك: لا العبادة هي كذا، إذا أتيت معه في التكفير، هنا يخالفك يقول لك: لا، هو كذا وكذا وكذا، فتبتدئ معه بتقرير شرك المشركين وترد عليه شبهته هذه بأن أولئك ما أرادوا إلا الزلفى، والتدرج إذن مهم.(17/222)
وبعض الذين دعوا إلى التوحيد مع الأسف أوقعوا المدعو في شبهة أعظم مما كانت عنده، لأنه جاء للمستغرق من المسائل فأراد أن يجيب عليها بما عنده واضح؛ لكن هي ليست بواضحة، فأراد أن يجيب فزاد الإشكالَ إشكالا.... ([38])
الشبهة الثانية تحتاج إلى وقت أيضا وهي قوله (فإن قال هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟) هذه تحتاج إلى رد أيضا مفصَّل.
ننبه إلى أنه بقرب الحج والمدة القادمة أكثر الوقت ربما أكون في مكة إن شاء الله، فالدروس تقف بعد اليوم، ونبدأ إن شاء الله في 20/12 إن شاء الله.
[الأسئلة]
س1/ هل توزيع رسالة كشف الشبهات مناسب ؟
ج/ نعم مناسب ما فيه شك؛ لأنه هو وضع سهل العبارة واضح البيان.
س2/ هل يمكن لأهل السنة والجماعة أن يستخدموا كلمة إله بمعنى محيِّر؟
ج/ لا، لا يمكن؛ لأنها صارت لها معنى شرعي جاءت في النصوص بمعنى معبود، خلاص لا تستخدم تلك الكلمة في غير ما جاءت في النصوص؛ لكن نقول: هذا المعنى هم قالوا إنه ورد في اللغة هذا على شكل شاذ. بمعنى إذا ورد في نص يعني في شعر أو في خطبة من خطب العرب أو نحو ذلك فنفهم المعنى بمراجعة كتب اللغة، أما كلمة إله فهي لا نستخدمها إلا بمعنى المعبود، إله بمعنى مألوه معبود.
س3/ ما الفرق بين أن يدعو أحد الله بأبي بكر أو بعمر، أو أن يدعو بواسطة أبي بكر أو عمر؟
ج/ أنا نبهتكم على هذا.
التوسل، التوسل بغير الله في الدعاء له قسمان:(17/223)
الأول: أن يسأل الله بذات فلان، أن يسأل الله بجاهه؛ يعني يقول: اللهم إني أسألك -في دعاء في المسجد أو في بيت أو في أي مكان- اللهم إني أسألك بمحمد عليه الصلاة والسلام، أسألك برسولك محمد، أسألك بأبي بكر، أسألك بعمر، أسألك اللهم بعثمان أن تعطيني كذا وكذا، فيكون هو قد سأل الله؛ ولكن جعل وسيلته فلان يعني عمل فلان وعمل فلان له، وعمل النبي عليه الصلاة والسلام له، عمل أبي بكر له، عمل عمر له، فلا مناسبة بين سؤالك وسؤاله، والنبي عليه الصلاة والسلام ما أرشد إلى هذا، لهذا نقول: هذا النوع بدعة، ولا يجوز لأنه لا مناسبة بين عمل فلان وعمله، وما بين ما عمله وقدمه وما بين ما عملت.
أو يسأله بجاهه فيقول: أسألك اللهم بجاه نبيك، بحرمة نبيك، بجاه أبي بكر، بجاه فلان من الصالحين أن تعطيني كذا وكذا، هذا أيضا بدعة واعتداء في الدعاء، ووسيلة إلى الشرك وهو القسم الثاني.
القسم الثاني: الذي هو شرك أكبر أن يكون معنى التوسل أن يسأل الله متوسطا بأولئك، ما يقول الله أعطني بفلان، لا، يقول: يا فلان اشفع لي عند الله اللهم اعطني كذا وكذا بشفاعة فلان لي؛ هذا التركيب جميعا، أو يقول يا نبي الله اسأل الله لي كذا وكذا، يا حسين اشفع لي عند الله بكذا وكذا، يا عبد القادر أسألك أن تسأل لي الله كذا اشفع لي بكذا، يكون قد صلى مثلا عند قبته عند قبره ركعتين تقربا أو طاف أو ذبح أو نذر أو من دون ذلك، فهذا معنى الوساطة، الوساطة يعني أنه طلب منهم الوساطة، طلب منهم الزُّلفى، طلب منهم الشفاعة، ففرق بين أن يسأل الله بهم وما بين أن يتوسَّط عند الله بهؤلاء، فالسؤال بهم أن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك أسألك بأبي بكر هذا بدعة ووسيلة للشرك واعتداء في الدعاء، أما لو سأل هذا أن يشفع له عند الله أو تقرب إليه بشيء من العبادات ليشفع له عند الله فهذا هو الشرك الأكبر الذي عناه الشيخ بما ذكرت.(17/224)
س4/ هل المعبودات من الأحجار والأشجار تكون في النار مع من عبدها؟
ج/ نعم، كلها والأصنام والجن الذين عُبدوا ورضوا بالعبادة.
س5/ الأخ يقول أنا ما اتضحت لي الشبهة ولا ردَّها.
ج/ مع أني اجتهدت أن يكون الأسلوب بأكثر سهولة وأكثر وضوح، ما لأدري إذا كان [...] هذه مشكلة يعني صعب أني أسهّل أكثر من كذا، ودي اتضح له الشبهة ويتضح له الرد يشير بأصبعه يعني يرفع أصبعه، طيب جزاكم الله خيرا، الذي هي واضحة عنده جدا، واضحة جدا، إيراد الشبهة والرد أيضا يرفع أصبعه، طيب، وضوح متوسط واضحة؛ لكن بوضوح متوسط، التوسط معناه أنه يحتاج إلى مراجعة يعني فيما أوردت يحتاج إلى مراجعة حتى يفهمه من؟ طيب الأخير الذي ما اتضحت له يعني كان فيه قصور عنده في إيراد الشبهة أو إيراد الرد عليها يرفع، ما فيه عيب هذا عشان أجتهد لكم أكثر أو أشوف لنا طريقة.
يقول لماذا لا تصاغ الشبهة بأسلوب أكثر وضوحا مما عليه ثم يكون الجواب بأسلوب أوضح كذلك؟
أنا عندي أوضحتها وربما يُعتب علي ليش أوضحت الشبهة بمثل هذا التوضيح، هذا الذي جعلني في ما مضى أتردد في شرح الكتاب كثيرا؛ لأن تعليم الشبهات مشكلة، يعني إيضاح الشبهة ثم الرد عليها صعب ليس منهجا؛ لكن بما أنكم من دعاة التوحيد وممن سينافحون عنه فلابد من إيضاحها؛ لعل الله جل وعلا يجعل منكم مجاهدين في سبيل الله.
س6/ هل تدخلون بعض المناظرات التي تقوم اليوم بين بعض الدعاة مع النصارى وغيرهم من إيراد الشبهة على المدعو وإضعافها؟
ج/ طبعا والمحاجة والمجادلة فن، ولها علم خاص بها؛ علم البرهان وعلم الحجاج، وهي من علوم المنطق أو من علوم الفلسفة بالعموم وعلوم المنطق بالخصوص، تحتاج إلى فهم؛ لأنه لابد من ترتيب المقدمات؛ يعني تهتم في الجواب سواء في الفقه في أي حجة تريد إبطالها أو تريد مناقشتها:(17/225)
أولا تأتي بالمقدمات جميعا، وتنظر هل النتيجة بنيت على هذه المقدمات مجتمعة أو على واحدٍ منها، فإن كانت عليها مجتمعة نظرت في صلة المقدمات بعضها ببعض، فإن وجدت سبيلا إلى الطعن فيها كان هذا أقوى حجة؛ يعني شيخ الإسلام مع المتكلمين والفلاسفة يأتي للمقدمة ويطعن فيها، لما بنيت عليه النتيجة، يطعن فيها بالعقل ويطعن فيها أيضا بالنقل، إذا كانت المقدمات كل واحدة أنتجت نتيجة، فتناقش كل مقدمة على حِدا، إذا كانت هذه المقدمات ظنية ناقشتها مناقشة الظنيات، إذا كانت قطعية أيضا نظرت إلى النتيجة التي أنتجتها وتناقشها، هنا ترتب الحجاج بالأسهل فالأسهل، لا تأتي بالأصعب ثم الأسهل ثم آخر شيء الأسهل، لا، تبتدأ بالمتفق عليه بالأسهل قبولا، ثم بما بعده.
فإذا تناقش واحد حتى عند في البيت أو المجلس يأتيك مثلا في كلامك يأتي إلى جزئية ويمسكها، تأتي أنت تنشغل عن الكلام كله وهو مهم ويُشغلك بجزئية في كلامك، تروح تناقشه في جزئية ويضيق لب الموضوع، هذا يكون إذن أنت ضعيفا في الحجاج والنقاش؛ لأنه أضاع عليك الأصل بجعلك تلتفت إلى جزئية، وهذا الآن مع الأسف أهل الصحف وأهل المجلات أغرقوا كثير من الذين يكتبون كتابات إسلامية بشبهات صغيرة والتأصيل العام لا يناقش، يأتي في كلام يعني شبهة فرعية من فروع الإسلام، فرع من الفروع ويستغرقون ويسلطون عليه الضوء ويناقشونه وأخذ ورد وأخذ وعطاء ليشغلوا الناس بذلك؛ لكن أين أصول الإسلام؟ هنا تُحجب؛ لأنه لو نوقشت الأصول صار الكلام فيها أقرب وأوضح وصارت الحجة فيها من جهة العمل أقوى وإقامة الحجة على المخالف أوضح، خلاف الفرعيات، الفروع يكون كثير الخلاف فيها أو الجزئيات قد ما تصل مع المخالف فيها إلى نتيجة واضحة.(17/226)
فينتبه الذي يجيب على الشبهات ويحاج أي مخالف أو أي صاحب شبهة سواء في الأصول يعني في التوحيد أو في الفروع في الفقه فإنه ينبغي له أن ينتبه كيف يورد الجواب، وكيف يرتب الأجوبة حتى يكون ذلك أبلغ في التأثير.
هنا الاعتبار بـ: لا تأتي في رد الشبه في المحاجة بتقديم العذر لمن تحاجُّه، لا تقل له أنت معذور؛ لأن هذا يقويه هو، خل سماعه لك ضعيفا، الأخ يقول فلا أقول له إن هؤلاء معذورون لأنهم جهال، لا تقل له معذور؛ بل تقول له المسألة عظيمة وهذا كفر وإيمان وشرك وإيمان، لابد تفهمها، لابد أن تكلم عنها بوضوح، إذا سهلت له الأمر تساهل صار ما عنده قلق من وضعه.
نكتفي بهذا القدر، أسأل الله جل وعلا أن يجمعنا وإياكم بعد الحج في ثبات على الطاعة وقبول للعمل.
وصلى الله وسلم على محمد.
?????
[المتن](17/227)
فإن قال هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام، أم كيف تجعلون الأنبياء أصناما؟ فجاوبه بما تقدم، فإنه إذا أقرّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، ولكن إذا أراد أن يفرِّق بين فعلهم وفعله بما ذكر فاذكر له أنَّ الكفار منهم من يدعو الأصنام ومنهم من يدعو الأولياء الذين قال الله فيهم ?أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ?[الإسراء:57] ويدعون عيسى ابن مريم وأمه، وقد قال الله تعالى ?مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75)قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[المائدة:75-76]، واذكر قوله تعالى ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41]، وقوله تعالى ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ?[المائدة:116]، فقل له: عرفتَ أنّ الله كفَّر من قصد الأصنام وكفَّر أيضا من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
[الشرح](17/228)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أنّ محمدا عبد الله ورسوله هو النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد:
فأسأل اللهَ جل وعلا لي ولكَ العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع والدعاء المسموع، وأن يثبِّت العلم في قلوبنا، وأن يرزقنا البصيرة فيما نقول وفيما نعمل وفيما نترك.
ثم إنَّ هذه الرسالة العظيمة -كشف الشُّبهات- ساق فيها الإمام المجدد رحمه الله تعالى مقدِّمات قد مرَّ بيانها مفصلا، ثم ساق أصول شبه المشركين وأجاب جملة يعني بجواب مجمل ثم بدأ في ذكر شبههم والجواب المفصل على ذلك، فذكرنا من ذلك ما ذكرنا، ووقفنا عند قوله رحمه الله تعالى (فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام، كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناما؟ فجاوبه بما تقدم؛ فإنه إذا أقرَّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله وأنهم ما أرادوا ممن قصدوا إلا الشفاعة، إذا أراد ذلك فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام ومنهم من يدعو الأولياء) إلى آخر ذلك مما سمعت.
هذه الشبهة راجت على كثيرين، حتى إنّ المفسرين المتأخرين إذا ذكرت عبادة غير الله جل وعلا في القرآن من جهة النهي عنها أو وصف المشركين أنهم يعبدون غير الله فسروا ذلك بعبادة الأصنام، وقد تقرر في اللغة أنًَّ الصنم صورة منحوتة؛ يعني ما نُحِت على شكل صورة، وإذا كان كذلك فإن الصنم إما أن يكون حجرا وإما أن يكون خشبا وإما أن يكون عجينا وإما أن يكون تمرا إلى آخر ذلك.(17/229)
فعليه جعلوا العبادة التي توجه بها المشركون من العرب وغيرهم إلى غير الله جعلوها متوجَّهة إلى الأصنام، ولهذا جعلوا كفّار قريش ما كفروا إلا بعبادتهم الأصنام، وكذلك الكفار فيمن قبلهم كفروا بعبادتهم الأصنام، وهذا أصل أصّله كثيرون في جملة من المنتسبين إلى العلم في كتب التفسير وفي كتب العقائد المخالفة لعقائد أهل السنة وغيرها، وأصل هذا الباب وأصل هذا الضلال جاء -كما وصفتُ لكم فيما قبل- من جهة الباطنية ومن جهة المتكلمين.
فإنّ الباطنية لمّا قرروا أن التوسل بالأرواح؛ بل لما قرروا أنَّ الأرواح لها تصرف بعد مفارقتها للجسد أعظم مما كانت تفعل لما كانت في الجسد، قالوا: لأنها لما كانت في الجسد كانت محجوزة بهذا الجُثمان، لا تنطلق، لا تتصرف إلا بما يطيقه هذا الجثمان؛ فلا تعطي، ولا تمنع، ولا تأخذ، ولا ترفع، إلا بمقدرة الجثمان، فأما إذا انفصلت عن هذا الجثمان فإنها تعود إلى انطلاقها، وتكون مهيأة لقوة أعظم مما كانت عليه لمّا كانت في الجسد، فالجسد محل الشهوات ومحل العاهات ومحل الأمراض والروح مقيدة مسجونة فيه، فإذا فارقت الروح البدن انطلقت وصار لها من القوة ما ليس لها لما كانت مرتهنة بالجسد.
لما كان كذلك قالوا: إن التوسل بهذه القوى وبهذه الأرواح والرَّغب إليها حتى تتوسط عند الله جل وعلا، ليس هو مثل توسط المشركين؛ لأن المشركين توسَّطوا بأصنام والأصنام لا مكانة لها عند الله جل وعلا، وأما التوسط بالأرواح فإنّ الأرواح الطيبة الصالحة -أرواح الأنبياء والأولياء- هذه لها مكانها ولها مقامُها ولها جاهها وحرمتها عند الله جل وعلا، فجعلوا هذا الفرق لازما.
ولهذا جعلوا الوساطة هذه ليست داخلة في التوحيد، والتوحيد عندهم هو توحيد الربوبية دون توحيد الإلهية؛ يعني هو التوحيد بأن الله هو المتصرف القادر على الاختراع المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه.(17/230)
وراج هذا على المتكلمين، فكان المتكلِّمون يجعلون الغاية من تحقيق الإيمان هو الإيمان بالرُّبوبية؛ الإيمان بلا إله إلا الله التي معناها أن لا ربّ إلا الله؛ يعني أن لا قادر على الاختراع والإبداع إلا الله جل وعلا وحده، فمتى أقر بذلك كان مؤمنا وكان مسلما.
فعندهم أن مشركي العرب لم يكونوا على هذا الاعتقاد، وأنهم يعتقدون أن الأنواء تخلق، وأن الأصنام هذه تخلق وأنها تضر وأنها تنفع، وأمّا من وحّد الله في الربوبية فإنه يكون مؤمنا، لهذا قالوا: لا إله إلا الله معناها لا قادر على الاختراع والإبداع إلا الله، أو كما قال الآخر: لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله.
هذه الفكرة وهذا الانحراف راج في المسلمين ولما كان مذهب المتكلمين مذهب الأشاعرة والمعتزلة في التوحيد هو السائد، تأثر أكثر المفسرين وأكثر الفقهاء بهذا القول الخبيث، لهذا يفسِّرون الآيات التي فيها ذكر عبادة غير الله بأنها عبادة للأصنام.
ولهذا استنكر وأنكر طوائف على الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله دعوته، كيف تجعل الصالحين والأولياء مثل الأصنام؛ لأن الأصنام لا روح لها، والصالحون والأولياء أرواحهم مطهرة مقدسة عند الله جل وعلا.
لهذا أورد الشيخ رحمه الله هذه الشبهة، وأورد الجواب عليها، فقال(فإن قال: هؤلاء الآيات نزلت فيمن يعبد الأصنام كيف تجعلون الصالحين مثل الأصنام؟ أم كيف تجعلون الأنبياء أصناما؟) قال (فجاوبه بما تقدم فإنه إذا أقر أنّ الكفار يشهدون بالربوبية كلها) إلى آخر كلامه.(17/231)
يعني بقوله (فجاوبه بما تقدم) ما قدمه في المقدمات فيما سبق، وقوله (فإنه) هذا تفصيل لذلك الجواب، قال (إذا أقرَّ أن الكفار يشهدون بالربوبية كلها لله) فأوَّل إبطال لقولهم أن يقام عليه حال الكفار مع الربوبية ([39]) والله جل وعلا بيَّن لنا أنَّ أفراد توحيد الربوبية كان الكفار يقرون بها، فلما كان الكفار مقرين بتوحيد الربوبية كان شركهم جائيًا من جهة توحيد الإلهية، فقد بيَّن ذلك جل وعلا في آيات كثيرة كقوله جل وعلا ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:9]، وكقوله ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[لقمان:25]، وكقوله ?[وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ]([40]) مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً?[العنكبوت:63] الآية، وكقوله ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ?[يونس:31] الآيات، وكقوله الآيات التي في أول النمل، والآيات ذكرناها وهي كثيرة في بيان إقرار المشركين بالربوبية.
إذا كان كذلك وأقر بهذا فإن جزءا من شبهته قد زال، حتى يعلم أنَّ شرك مشركي العرب لم يكن من جهة اعتقادهم أنّ هذه الأصنام تخلق أو قادرة على الاختراع أو لها نصيب في الملك.
فإذا كان كذلك نقول: هم من هذه الجهة أرادوا من الأصنام هذه الشفاعة، كما قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، وكقوله جل وعلا ?هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ?[يونس:18]، وكقوله جل وعلا ?أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5].
فإذن المشركون لهم اعتقاد في إلهية هذه الأصنام، ويرون أنهم إنما يتقربون إليها لأجل التوسط لأجل الشفاعة، فهذا برهان ثاني.(17/232)
فالبرهان الأول على هذه الشبهة: حال المشركين مع إقرار الربوبية.
والبرهان الثاني في الرد على هذه الشبهة: بيان أنهم مع الأصنام ما قصدوا إلا التوسط والشفاعة؛ لأن الله جل وعلا بيَّن لنا أنهم لا يعتقدون في الأصنام أنها تخلق وترزق وتأتي بالمطر وتسيِّر الرياح إلى آخر ذلك؛ بل إنما قصدوا منها الشفاعة واتخاذ الأصنام وسائل.
البرهان الثالث ما ذكره الشيخ بعد ذلك بقوله: (ولكن إذا أراد أن يفرق بين فعلهم وفعله بما ذكر، فاذكر له أن الكفار منهم من يدعو الأصنام ومنهم من يدعو الأولياء).
كما أسلفنا أنَّ عبادة المشركين بغير الله كانت متجهة إلى أربعة أنواع ذكرناها لكم فيما سلف، وتلخيصها:
· أنهم عبدوا الأصنام المصوَّرة.
· وعبدوا الملائكة.
· وعبدوا الأنبياء والأولياء.
· وعبدوا الأشجار والأحجار يعني اعتقدوا فيها وعبدوها.
فهذه جملة الأنواع.
ويدخل في الأشجار والأحجار عبادة الشمس والقمر والكواكب؛ لأن لها نصيبا من كونها أحجارا.
ويدخل في عبادة النوع الثاني أصناف.
ويدخل في النوع الأول أصناف، إلى آخره.
فإذن لم تكن عبادة العرب منصبّة على نوع واحد.(17/233)
إذا أراد الدليل فنقول له: من جهة أن العرب وغير العرب من المشركين والكفار عبدوا أنبياء وعبدوا صالحين فالآيات في هذا كثيرة كقوله جل وعلا ?مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ?[المائدة:75] وكقوله جل وعلا ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ?[سبإ:40-41]، وكقوله جل وعلا ?أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ?[الإسراء:57] وكقوله جل وعلا ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[المائدة:116]، وكقوله جل وعلا ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20]، على القراءة (اللّاتَّ والعُزَّى) وهو رجل صالح كان يلتُّ السويق فمات فعكفوا على قبره إلى آخر ذلك.
إذن فنجمع لهم الآيات التي هي صريحة في أن الصالحين عُبدوا.(17/234)
ثم الدرجة الثانية من هذا البرهان الثالث أن نقول في القرآن أيضا بيّن جل وعلا أن الذين عبدهم المشركون كانوا أمواتا غير أحياء كما قال جل وعلا في سورة النحل في ذكر الحِجاج مع المشركين قال في وصف الآلهة ?لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(20)أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ?[النحل:20-21]، فهذه الآية فيها بيان أنَّ الذين عَبَدَهم المشركون والكفار من العرب كانوا لا يَخلقون شيئا وهم يُخلقون، وأنهم أموات غير أحياء ومعنى قوله (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ) أنهم الآن ليسوا على وصف الحياة بل هم على وصف الموت وهذا يعني أنهم كانوا قبل هذا الوصف أحياء لأن الذي يوصف بأنه ميت هو من كان حيا، قال جل وعلا هنا (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ)، ثم أكد ذلك بقوله (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) يعني ما يشعرون متى يبعث، والذي يُبعث هو الميت الذي يوصف بأنه كان حيا فمات، وهذا واضح في خروج الجمادات والأصنام عنها، الذي يبعث ذووا النفوس الجن والإنس والحيوان، وهنا معلوم أن المقصود من عُبِدَ من الإنس.
فإذا كان كذلك بطل ادِّعاء أن العرب إنما عبدت أصناما لها وصف الحجارة فقط.(17/235)
وقد ذكرنا لكم لِم تعلق العرب ومن قبلهم بالأصنام؟ لأنهم يعتقدون أن هذا الصنم الذي هو مصوَّر على هيئة صورة ما تحلُّه روح أو كما يقولون روحانية تلك الصورة، فإذا كانت الصورة صورةَ بشر حلَّت فيه حين الخطاب، وإذا كانت الصورة صورة كوكب حلت فيه روحانية الكوكب حين الخطاب، وإذا كانت الصورة ملك حضر الملك حين الخطاب، وهكذا، فيما يزعمون، وكل الذين يحضرون ويخاطبونهم، وهم صادقون حين يقولون: خاطبنا الصنم فخاطبنا وكلمناه فكلمنا وسألناه فأجابنا. ولكن لم تجبهم الأرواح الطيبة وإنما أجابتهم الأرواح الخبيثة؛ أرواح الشياطين والجن، ولهذا قال جل وهلا في آية سبإ ?وَيَوْمَ يحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41]، يعني أن الحقيقة أن الذي خاطبهم وأوقعهم في هذا إنما هم شياطين الجن، وقد قال جل وعلا ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوُّ مُبِينٌ(60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ?[يس:60-62]، وكان إضلال الشيطان ليس من جهة الشهوات فحَسْب؛ بل هو في أعظم إضلال وهو في عبادة غير الله جل وعلا.
إذن جواب هذه الشبهة ترتَّب على ثلاث أنواع من البراهين مرتبة:
الأول: كما ذكرنا في أن عبادة المشركين كانت في أنّ إقرار المشركين كان في الربوبية على وجه التفصيل وتسوق الآيات.
الثاني: أنهم ما أرادوا ممن عبدوهم ولو كانت الأصنام إلا التوسّط والشفاعة كما هي الآيات.(17/236)
الثالث: أن الآيات فيها ذكر أن تلك المعبودات لم تكن أصناما فحسب؛ بل كانت تلك المعبودات من البشر والملائكة والجن يعني أنَّ غير الله جل وعلا عبد بجميع أنواع غير الله، فعُبدت الملائكة وعُبد الصالحون وعُبد الأولياء وعبد الأنبياء.
إذا تبين ذلك واتضح، فنأتي إلى خاتمة هذا البرهان قبل أن نمشي مع كلام الإمام رحمه الله تعالى فنقول: إن هذا البرهان وَرَدّ هذه الشبهة بما ذكرنا واضح؛ ولكن يبقى نتيجته وهو فهم معنى التوسط، وفهم معنى التوسل، وفهم معنى الشفاعة -وهذا سيأتي في جواب الشيخ أو في تكملة جواب الشيخ رحمه الله-؛ لكن المقدمة قبل هذا أنه إن سلم بهذه البراهين الثلاث مرتبة تنتقل معه إلى الكلام على الشفاعة، ولا تتكلم بالشفاعة قبل هذه البراهين؛ لأن الكلام في الشفاعة الشبه القولية فيه والعملية والنقلية كثيرة، فيحتاج إلى محكم وإلى واضح حتى يُرجع إليه عند الاختلاف.
فإذن حين الحجاج مع المشركين يقدم لهم إذا قالوا إنّ الأولين ما عبدوا إلا الأصنام البراهين الثلاثة ولا يُتكلم في الشفاعة إلا بعدها؛ ما معنى الشفاعة وكيف توسلوهم ومعنى التوسل وما شابه ذلك.
سؤال: يسأل فيقول ما الفرق بين درجتي البرهان الثالث؟
الجواب: قلنا:
الدرجة الأولى في البرهان الثالث الآيات التي فيها ذكر عبادة الأنبياء والصالحين صراحة.
والرجة الثانية منه كالاستحضار بأن قال: لا، هذا ليس بصحيح إنما عبدوا الأصنام عبدوا أصنام هؤلاء، ما عبدوهم مباشرة، فيقال له: الله جل وعلا بين أن الذين دعاهم المشركون ?أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ?[النحل:21]، والآيات في أول الأحقاف أيضا واضحة في الدلالة على هذا.
فإذن الدرجة الثانية من البرهان لتبين أنهم ما عبدوا صور الصالحين أصنام فقط، وإنما عبدوا من كان حيا فمات ومن لا يشعر متى يبعث، واضح؟ نعم.
?????
[المتن](17/237)
فإن قال: الكفار يريدون منهم وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه والصالحون ليس لهم من الأمر شيء ولكن أقصد من الله شفاعتهم.
فالجواب أن هذا قول الكفار سواء بسواء فقرأ عليه قوله تعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، وقوله تعالى ?وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ?[يونس:18].
[الشرح]
هذه الشبهة وأنهم ما قصدوا إلا الشفاعة تحتاج إلى شيء من التقرير:
فإن المشركين وأشباه المشركين والمدافعين عن المشركين يقولون: إنّ الأسباب جعلها الله جل وعلا منتجة لمسبباتها، فجعل الأكسية سببا في دفع الحر ودفع البرد، وجعل القلم سببا للكتابة، وجعل الطعام سببا لدفع الجوع، وجعل الشراب والماء سببا لدفع الضمأ، إلى آخر ذلك، وجعل بيتك سببا، وجعل العصا التي تحملها سببا، وجعل كذا وكذا سببا.
قالوا: فكيف يعقل أن تكون هذه الأسباب نافعة، والأنبياء والأولياء والصالحون بعد الموت لا ينفعون؟ فلا شك أنهم أعظم قدرا وسببيّتهم أعظم من هذه الأشياء، فكيف يقال أن الطعام ينفع والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينفع -كما يقولون-؟ وكيف يقال أن الأكسية تنفع والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته لا ينفع أو أن الأولياء والصالحين لا تنفع؟
فيدخلون لك في تقرير الشفاعة والتوسل من جهة الأسباب والارتباط بالمسببات.
وجواب هذا يكون بمعرفة حال المشركين، فإن المشركين حين أشركوا ما أرادوا إلا أن يتخذوا هذه الأسباب مسبِّبات، حينما توجهوا إلى عيسى عليه السلام وإلى أمه وإلى اللاتِّ وإلى الصالحين وإلى القبور لِم توجهوا؟ هل يعتقدون فيها الاستقلالية؟ إنما اعتقدوها أسبابا.(17/238)
فإذن شبهة السببية هي مقدمة شبهة الشفاعة، فإنهم يقررون السببية حتى يصلوا منها إلى أنه لا بأس أن تتشفع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو تتشفع بالأولياء والصالحين.
فإذن فهمُك لعبادة المشركين يقضي على هذه الشبهة من أساسها، وتستطيع بفهمك لعبادة المشركين أن ترد على من أتى بهذه الشبهة التي هي مقدمة للقول بالشفاعة.
الأسباب كما هو معلوم في الشرع نوعان:
· أسباب مأذون بها.
· وأسباب محرمة.
فليس كل سبب جائز في الشرع أن يتعاطى، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - سببا بعد موته أو كون الصالحين أسبابا بعد موتهم، هذا عند الجدال والبرهان نقول هذا احتمال؛ احتمال أن يكونوا أسبابا واحتمال ألا يكونوا أسبابا؛ لأن السبر والتقسيم ومقتضى الجدل الصحيح يقضي أن نقسِّم بأنه احتمال أن يكونوا كذلك واحتمال ألا يكونوا كذلك.
فننظر في حال الأولين فنقول: الله جل وعلا بين لنا أن أرواح الشهداء عنده في مقام عظيم وأنه لا يجوز لنا أن نقول إن الشهيد ميِّت كما قال جل وعلا ?تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ?[البقرة:153]، وقال جل وعلا في آية آل عمران ?وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ?[آل عمران:169-170]، وأوَّلهم شهداء بدر وشهداء أحد...(17/239)
وفي زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنة الثانية إلى وفاته عليه الصلاة والسلام ننظر في هذا السبب، هل كان شيء من النبي عليه الصلاة والسلام أو فيما تنزل من القرآن وجهنا إلى الانتفاع بهذا السبب على فرض أنه سبب نافع، فهذا باليقين لا يقول أحد إنّ ثمة آية أو حديث أو سلوك للصحابة بأنهم توجهوا إلى أرواح الشهداء -وهم أحياء بنص القرآن- للانتفاع بهذا السبب، وحال الصالحين والأولياء الذين توجه لهم المشركون غير الأنبياء لاشك أنهم أقل حالا من هؤلاء الشهداء الذين شهد الله جل وعلا لهم بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون؛ لأن أولئك ما شاركوهم في وصف الشهادة، الأنبياء أعظم وأرفع درجة من الشهداء.
فإذا كان كذلك صار هذا إجماعا قطعيا في زمن النبوة -وهو أعلى أنواع الإجماع- صار هذا إجماعا قطعيا في زمن النبوة أنَّ هذا السبب ولو فُرِض أنه ينفع فإنهم تركوه قصدا، ولم ينزل فيه شيء، فدل على أنه سبب غير نافع وأنه سبب غير مأذون به، هذا من جهة.
والدرجة الثانية: أنه بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام وكونه عليه الصلاة والسلام مع الرفيق الأعلى واضحا كان هذا عند الصحابة، ومع ذلك لم يتوجه الصحابة ولا التابعون قطعا إلى روح النبي عليه الصلاة والسلام يطلبون منها أو يجعلونها سببا، فهذا إجماع ثانٍ توالت عليه أعصر.(17/240)
والإجماع الثالث في حادثة نُقلت أن عمر رضي الله عنه لما أصاب الناس في عام الرَّمادة سنة 17هـ، لما أصاب الناس الضيق والكرب والجفاف والجوع كان يستسقي كما في الحديث المعروف في البخاري وفي غيره، فلما خطب قال: إنا كنا نستسقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني في حياته، والآن نستسقي بعمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يا عباس قم فادعُ. فقام العباس فدعا وأمَّن الناس على دعائه، وهذا يدل دِلالة قطعية على أنهم انتفعوا بسبب دعاء العباس ولم يطلبوا الانتفاع بسبب دعاء النبي عليه الصلاة والسلام لعلمهم بأنّ ذلك السبب غير مشروع وأنه من توجَّه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طالبا منه أن يدعو أنه مخالف للشريعة وأنه شرك؛ لأنه لا يمكن أن يتوجهوا إلى المفضول ويتركوا الفاضل، لا يمكن أن يتوجهوا إلى الأقل ويتركوا الأعلى وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ بل هذا لو كان..... ([41]) لغير المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهم في حياته كانوا يستغيثون به فيما يقدر عليه ويستشفعون به فيما يقدر عَليه عليه الصلاة والسلام إلى آخر ذلك، وهذا إجماع ثالث لأن الحديث صحيح فيه.
إذا تقرر هذا فنقول هذا كله على فرض أنَّ السبب نافع ولكنه لم يؤذن بالسبب، فقد تكون الخمر نافعة لكن لم يؤذن بها، والله جل وعلا قال في الخمر والميسر ?فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ?[البقرة:219]، ومع ذلك حرمها، وقال عليه الصلاة والسلام «تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام»، وقال «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» الحديث في أبي داوود وفي غيره.
إذا تبين ذلك فنقول إذن على فرض أن هذا السبب ينفع فإنه سبب محرم غير مأذون به في الشرع لتلك الأنواع الثلاثة من الاجماعات.(17/241)
ثم ننتقل إلى درجة ثانية من الحجاج معهم فنقول: في الحقيقة هذا السبب غير نافع في الدنيا. وهو ما تعلقوا به من جهة الشفاعة أيضا نقول: تقرر أن هذا السبب غير مأذون به وأنه مردود في الشريعة؛ لأنه شرك المشركين. نقول الدرجة الثانية نقول هذا السبب في الحقيقة غير نافع، لم؟ نقول للآتي:
أولا: أنَّ الله جل وعلا بين أن روح عيسى عليه السلام وروح أمَّه لا تنفعهم ولا تضرهم بنص القرآن، فقال جل وعلا ?مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(75)قُلْ أَتَعْبُدُونَ? يعني عيسى وأمه ?قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ?[المائدة: 75-76]، فإذن في هاتين الآيتين من سورة المائدة والتي ساقها الشيخ رحمه الله في الأولى بيان التوجه إلى أرواح الأنبياء والصالحين؛ لأن عيسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، ولأن أمه من عباد الله الصالحين ومن القانتات، فتوجهوا إلى روح نبي وإلى روح أَمَة صالحة وأم نبي وأم أحد أولي العزم من الرسل، بيَّن جل وعلا أن توجههم لتلك الأرواح تعلُّقٌ بسبب غير نافع ما الدليل؟ قال ?قُلْ أَتَعْبُدٌونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا?[المائدة:76]، وهذا يدلُّ على أن هذا السبب غير نافع، وقال جل وعلا في الآية الأخرى في سورة الجن في وصف النبي عليه الصلاة والسلام وبالأمر له أن يقول ?قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا?[الجن:26]، بيَّن جل وعلا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يملك لهم ضرا ولا رشدا إلا فيما جعله الله جل وعلا سببا نافعا في حياته وهو أعظم عليه الصلاة والسلام أعظم سبب نفع الناس وأعظم الأسباب(17/242)
النافعة في حياتهم حيث هداهم إلى الإيمان وأنقضهم من الضلالة إلى الهدى وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام السبب هذا الذي هو سبب الهداية وما أقدره الله عليه في الدنيا أصبح باطلا لأنه جل وعلا بيَّن أن الأنبياء والصالحين لا يملكون ضرا ولا نفعا لما عبدوه، وقد قال جل وعلا في أول سورة الفرقان ?تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1)الذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا(2)وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً?[الفرقان:1-3]، اربطها بمن اتخذ ولدا من اعتقد أن لله جل وعلا ولدا قال ?وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَنُشُورًا?[الفرقان:3].
إذن فهذه كلها تبيِّن أن هذه الأسباب غير نافعة، وإنما هي نافعة في حياتها أو يوم القيامة، كيف؟ لأن الله جل وعلا جعلها أسبابا نافعة في هذين النوعين من الحياة.
هذا تدرُّج في البرهان، وإيضاح فيما ذكره الإمام رحمه الله تعالى، وهو الذي فتح هذه المعاني بما ذكر بعد توفيق الله جل وعلا.
قال (فإن قال: الكفار يريدون منهم، وأنا أشهد أن الله هو النافع الضار المدبر لا أريد إلا منه، والصالحون ليس لهم من الأمر شيء؛ ولكن أقصد من الله شفاعتهم.
فالجواب أنَّ هذا قول الكفار سواء بسواء) لأنهم ما عبدوهم إلا ليشفعوا، ما توجهوا إليهم إلا للشفاعة، ما قصدوهم إلا لاعتقاد أنهم أسباب تنفع، الصنم سبب ينفع، والروح سبب ينفع، وروح النبي سبب ينفع والوثن والقبر سبب ينفع، والجني سبب ينفع فيما حرم الله جل وعلا، وهذا من الشرك الذي بينه الله جل وعلا في القرآن.(17/243)
قال (فقرأ عليه قوله تعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، وقوله تعالى ?هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ?[يونس:18]) ثم قال (واعلم أن هذه الشبه الثلاث هي أكبر ما عندهم فإذا عرفت أن الله وضحها في كتابه وفهمتها فهما جيدا فما بعدها أيسر منها) ورحمه الله رحمة واسعة كم كان بصيرا بشُبه المشركين وبالحجاج عنها في ذلك وبيان الصواب ووجه الحجة في وضبطها ودحضها، فكانت الشبه واضحة عند إمام الدعوة رحمه الله، وكان فقه الكتاب والسنة والرد عليها أوضح وأبيّن عنده، فشرح الله صدره لذلك، وإلا فإن كثيرين إذا جاءتهم الشبه وراجت عليهم فإنهم يترددون؛ ولكن الله جل وعلا شرح صدره بالقيام بهذه الدعوة وبيان التوحيد فضلا من الله جل وعلا ونعمة.
إذن نقف عند هذا، وليكن لك مراجعة على المقدمات والشبه الثلاث والجواب عليها الجواب المجمل والمفصل؛ لأن تأصيل ما ذكرنا وفهمه فهما جيدا ينبني عليه ما سيأتي من ذكر الشبه والجواب عليها.
أسأل الله جل وعلا أن يرحم إمام الدعوة وأن يرفعه في عليين وأن يجعله مع الأنبياء والصديقين والصالحين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقا.
اللهم أجزهم عنا أحسن الجزاء على ما أوضحوا وبينوا وجاهدوا في الله حق الجهاد.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
??¹™™
[المتن]
فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة.
فقل له: أنت تُقِرُّ أن الله افترض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك.
فإذا قال: نعم.(17/244)
فقل له: بين لي هذا الذي فرضه الله عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده وهو حقه عليك لأنه لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقولك قال الله تعالى ?ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ?[الأعراف:55]، فإذا أعلنته بهذا قل له: هل علمت أن هذا عبادة لله؟ فلا بد أن يقول نعم فالدعاء مخ العبادة فقل له إذا أقررت أنه عبادةٌ لله ودعوت الله ليلا ونهارا خوفا وطمعا ثم دعوت في تلك الحاجة نبيا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيره؟
فلا بد أن يقول: نعم.
فقل له: إذا علمت بقول الله تعالى ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?[الكوثر:2]، وأطعتَ الله ونحرت له فهل هذا عبادة؟
فلابد أن يقول: نعم.
فقل له: فإن نحرت لمخلوق نبي أو جني أو غيرهما هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟
فلابد أن يقر ويقول: نعم.
وقل له أيضا: المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة و الصالحين وغير ذلك؟
فلابد أن يقول: نعم.
فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك وإلا فهم مقرون أنهم عبيده وتحت قهره وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكن دعوهم والتجأوا إليهم في الجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جدّا.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
نشهد أنَّ لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الآل والصحب أجمعين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وخالصا.
اللهم نعوذ بك أن نَضل أو نُضل أو نَزل أو نُزل أو نَجهل أو يُجهل علينا.
اللهم اجعل قلوبنا خاشعة لك وعيوننا دامعة لك.
اللهم وهيئ لنا من أمرنا رشدا، نعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات ومن فتنة المسيح الدجال ومن فتنة القبر.(17/245)
وهذه صلة للكلام على ما قرره إمام هذه الدعوة رحمه الله تعالى في كشف شبهات المشركين، فإن المشركين لهم شبهات متنوّعة قد مرّ معنا أعظم شبهاتهم وأكثرها تفصيلا.
ثُم يأتي الآن من شبهاتهم ما انتشر فيهم؛ لكنه عن طريق المكابرة والجهل، فقال طائفة منهم إنهم لا يعبدون إلا الله وإنّ الالتجاء للصالحين وسؤال الصالحين ودعاءهم والاستغاثة بهم ليس بعبادة، وهذا هو الذي ذكره الإمام رحمه الله في قوله (فإن قال أنا لا أعبد إلا الله)، وإذا قال الشيخ في هذا الكتاب (فإن قال) فلا يستحضر أن الذي قول الشبهة هو الذي قال بالشبه التي قبلها؛ بل هو يستحضر جنس المدلين بالشبه، فقال (فإن قال) يعني الذي يورد الشبهة أو الذي يقع في الشرك، وقد يكون من الأولين وقد لا يكون.
قال (فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة) وهذه يقولها كل مشرك فإنه ما من مشرك يُقِرُّ على نفسه بالشرك وبأنه يعبد غير الله جل وعلا لأن هذه الأمة ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - أُنقذت من الشرك إلى التوحيد ومن عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده دونما سواه.
وكل أحد من هذه الأمة يقول: أنا لا أعبد إلا الله. وقد يكون مصيبا في قولِه، وفعلُه يحقق قوله، وقد يكون ضالا يقول شيئا وهو يخالفه إلى غيره.
وهذه المخالفة ناتجة عن أنه يظن أنّ ما يفعله من صرف العبادة لغير الله أنه ليس بشرك وليس بعبادة، فعنده أن الدعاء؛ دعاء غير الله ليس بعبادة، وأن الالتجاء إلى الصالحين وسؤال الأولياء الأموات كشف الكرب ورفع الضر والشفاعة وأشباه ذلك أنه ليس من العبادة، وكذلك يزعمون أن النّحر لهم وأن الذبح ليس بعبادة، وأنّ النذر لهم ليس بعبادة، وهكذا، ما من صورة شركية يفعلها أهل الشرك إلا وإذا احتججت عليهم بأنّ فعلهم شرك قالوا نحن لا نعبد إلا الله، وهذه الأشياء التي نفعلها ليست بعبادة، وإنما هي للوسيلة، وأما العبادة إنما هي لله وحده دونما سواه.(17/246)
وهذا القول منهم دعوى بلا برهان ولا دليل؛ بل هم المشركون الذين عبدوا مع الله جل وعلا غيره، قال رحمه الله مقررا لشبهتهم ومستحضرا الجدال والحجاج مع رجل منهم (فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة فقل له) فترتَّبت هذه الشبهة على مرتبتين:
الأولى: زعمه أنه لا يعبد إلا الله.
المرتبة الثانية: زعمه أنّ الالتجاء للصالحين ودعاء الصالحين بأنواع الدعاء من الاستغاثة والاستعانة والاستشفاع إلى آخره أنه ليس بعبادة.
والثانية هي التي قادتهم إلى الأولى؛ لأجل عدم وضوح الثانية قالوا إنهم لا يعبدون إلا الله، فلهذا الشيخ رحمه الله ابتدأ بالثانية لأنها هي وسيلة إثبات صحة الأولى أو خطأ المرتبة الأولى.
قال (فقل له أنت تقر أن الله افترض عليك إخلاص العبادة وهو حقه عليك) فتسأله وتقول له: هل تقر بأن الله فرض عليك إخلاص العبادة وأنّ العبادة حق الله عليك؛ لأن الله أمر بها في القرآن في قوله ?فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ?[غافر:14]، وفي قوله جل وعلا في سورة الزمر ?قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ?[الزمر:14-15]، وكذلك قوله في آية البينة، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي فيها إثبات وجوب الإخلاص لله جل وعلا، وهذا نوع من الأدلة التي فيها الأمر بالإخلاص.(17/247)
والنوع الثاني من الأدلة الذي فيه الأمر بالإخلاص بيان أن المشرك الذي لم يخلص لله جل وعلا أنه كافر ([42]) وأنه من أهل النار، كقول الله جل وعلا ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]، وكقول الله جل وعلا ?وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72] ونحو ذلك من الآيات التي فيها بيان مصير المشرك الذي جعل مع الله في العبادة غيره؛ يعني لم يخلص دينه لله، وأشباه ذلك من الأدلة.
فتقول له: أنت تُقِر بأن الله فرض عليك إخلاص العبادة وهو حق الله عليك. وكل منتسب للقبلة يقول: نعم أنا مُقِر أن الله جل وعلا فرض علينا الإخلاص -إخلاص العبادة-، وأن إخلاص العبادة حق الله علينا.
قال الشيخ (فإذا قال: نعم. فقل له: بيِّن لي الذي فرض عليك وهو إخلاص العبادة لله وحده) تسأله عن بيان هذا الذي يقر أن الله فرضه عليه، وكثير بل الأكثر من المشركين جهّال؛ لا يعلمون معنى العبادة، ولا يعلمون معنى الإخلاص، ولا يعلمون معنى الذي فرض الله جل وعلا عليهم، ولهذا فإذا سألته عن هذه فإنه لن يجيب؛ بل سيقول لا أعرف معنى العبادة أو لا أعرف جواب هذا؛ بل إخلاص العبادة لله أن أصلي لله وأزكي لله وأشباه ذلك، فإنه يجعل الإخلاص في بعض الصور.(17/248)
لهذا قال الشيخ رحمه الله (فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له بقولك) إلى آخره، (فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له)، وهذا خلوص منه في الحجاج إلى تعليم الجاهل، فإن المحتج على الخصم لا يسوغ أن ينزِّله دائما منزلة المعاند أو أن يجعله معاندا فيُغلظ به في القول ويغلظ له في الحجة؛ لأنه ربما نفر من ذلك وانتصر لنفسه وترك سماع الحجة، فإنك تستدرجه حتى يُقِرَّ بأنه جاهل، فإذا أقر بأنه جاهل لا يعرف معنى العبادة ولا يعرف معنى الإخلاص ولا يعرف معنى الدعاء وأشباه ذلك، فإنك تبين له ذلك حتى تقوم الحجة على أفراد واضحة في قلبه وفي عقله وذهنه.
لهذا هذا الحوار الذي ذكره إمام الدعوة فيه فائدة عظيمة ذكرتُها لك الآن؛ وهي أنه من أقوى وأنفع وسائل الحجاج أن تنزِّل من أمامك منزلة الجاهل، حتى تنقلب معه إلى معلم غير مناظر؛ لأنّ المعلم دائما أعلى من المتعلم؛ أعلى من جهة الحجة وأعلى من جهة قَبول المتعلم لما يقول، فإنّ المقابل لك إذا أحسّ أنه عند علما ليس عنده فإنه سيصير إلى الاستفادة منك، وهذا يثير كثيرا من النفوس في قَبول الحق إذا علم أنه جاهل بما أَوْجب الله جل وعلا عليه وهو يدعي شيئا يجهله، فهذه وسيلة من الوسائل العظيمة في الحجة وفي جواب الشبهة.
فإذن نستفيد من هذا أننا إذا رأينا من هو مشرك بالله جل وعلا أو من جادل عن نفسه بأنه ليس بمشرك فإنه لا يَحسُن أن يُنَزَّل دائما منزلة المعاند الذي تقام عليه الحجة بنوع من الشدة والغِلظة؛ بل يُنظر في أمره ويستدرج حتى يجعله في منزلة الجاهل، وإذا كان كذلك فإنك تقيم عليه الحجة وتعلمه دين الله جل وعلا.
قال (فإن كان لا يعرف العبادة ولا أنواعها فبينها له) والعبادة سبق أن أوضحنا معناها في شرح ثلاثة الأصول وفي كتاب التوحيد، وأنَّ العبادة تحصل معرفتها في الأدلة من الكتاب والسنة بنوعين من الاستدلال:(17/249)
أما النوع الأول من الاستدلال: فالنصوص التي فيها الأمر بالعبادة بعبادة الله وحده دون ما سواه، وأن من صرف العبادة بغير الله فهو كافر مشرك.
كقول الله جل وعلا في الأول ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ أعْبُدُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلَقَكُمْ?[البقرة:21] الآية في أول البقرة.
ومن الثاني قول الله جل وعلا في آخر سورة المؤمنون ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، ومن السنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «الدعاء هو العبادة».
فإذا بينت له هذه الأدلة بعامة فتقول له: العبادة نعلم أن هذا الشيء عبادة لأن الله جل وعلا أمر به أو أمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان هذا الشيء مأمورا به علمنا أنه عبادة؛ لأن الله جل وعلا لم يأمرنا إلا للتعبّد، فصحّ أن هذا الذي أُمِرنا به أمر إيجاب فإنه عبادة وكذلك أمر استحباب. فتقول له:
أمرنا الله جل وعلا بإخلاص الدين له، فإذن إخلاص الدين لله عبادة.
أمرنا الله جل وعلا بخوفه، فالخوف عبادة.
أمرنا الله جل وعلا برجائه، فالرجاء عبادة.
أمرنا الله بالصلاة، فالصلاة عبادة.
أمرنا الله بالزكاة، فالزكاة عبادة.
أمرنا الله بالنحر، فالنحر عبادة.
أمرنا الله بكذا وكذا فهذه عبادات، وهذا النوع الأول من الاستدلال.
والنوع الثاني: ما جاء في كل مسألة من تلك المسائل التي عددناها من العبادة؛ لأن الله أمرنا بها، ما جاء في كل مسألة من دليل خاص يُثبت وجوب اختصاص الله جل وعلا بهذا النوع من العبادة.
فإذن الدليل الأول دليل عام، تقول: إن هذا الشيء قد أمر الله جل وعلا به فهو عبادة والله جل وعلا أمرنا أن نعبده دون ما سواه وأخبرنا أنّ من عبد غيره فإنه مشرك كافر.(17/250)
والنوع الثاني من الأدلة والاستدلال ما كان في كل مسألة بحسبها فنقول مثلا: أمر الله جل وعلا بإفراده بالعبادة بقوله ?إَيَّاكَ نَعْبُدُ?[الفاتحة:5] فقدّم المفعول على الفعل والفاعل ليفيد الاختصاص؛ اختصاص العبادة به وقصر العبادة عليه وحده دونما سواه، وقال ?وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5]، فقدّم المفعول على الفعل من المفاعيل والفاعل ليدلنا على أن الاستعانة في العبادة إنما تكون بالله جل وعلا وحده هو المختص بها، وكذلك قوله جل وعلا ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?[الأنعام:162-163]، فيها أنَّ هذه الأشياء لله وحده المستحقة؛ يعني الصلاة والنسك مستحقة لله دون ما سواه لا شريك له.
كذلك تأتي للإنابة والتوسل فتقول قال الله جل وعلا ?عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ?[هود:88]([43])فدل على أن التوكل عليه وحده دون ما سواه لأنه قدم الجار والمجرور على ما يتعلق به وهو الفعل فدلّ على اختصاص التوكل بالله جل وعلا؛ يعني بأن التوكل يكون عليه وليس على غيره، وكذلك الإنابة فإنها إليه لا إلى غيره، وهكذا في غيرها من المسائل.
وكذلك الدعاء فإن الدعاء أمر الله بدعائه وحده فقال ?فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ?[غافر:14]، وقال?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18].(17/251)
إذن فتوضح له معنى العبادة، ثم توضح له الأمر بالعبادة بأن يعبد الله دون ما سواه، ثم تبين له ما أمر الله به إن كل مسألة مما أمر الله به أنها تدخل في العبادة؛ فدخل الذبح في العبادة، ودخلت الصلاة في العبادة، ودخل الخوف في العبادة، ودخل التوكل في العبادة، ودخلت الاستغاثة في العبادة، ودخل الرجاء في العبادة، إلى آخر مفردات توحيد العبادة، ثم بعد ذلك تقيم عليه الدليل الثاني أو النوع الثاني من الأدلة والاستدلال بأنّ الله في القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة جعل هذه الأنواع مختصة به وحده دون ما سواه، فصار الدليل من جهتين:
· من جهة دخولها في العبادة والله أمر بعبادته وحده دون ما سواه.
· ومن جهة أن الله جعلها مختصة به دون ما سواه.
وهذان نوعان من الأدلة يكثر أفرادهما، وتكثر الآيات والأحاديث في كل واحد من هذين النوعين.
فإذا بينت له ذلك فقد تم البيان في إيضاح أن هذه المسائل من العبادة.(17/252)
والشيخ رحمه الله تعالى مثل بذلك بمثال، بمثال في الدعاء لأن الدعاء هو الذي يدخل فيه كثير من الصور، فقال (فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى ?ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً?)، وفي قوله رحمه الله (فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى) أنَّ حجة الموحد يجب أن تكون دائما بالأدلة وألاّ يحتج بحجج عقلية لأنه قد يكون الخصم عنده من العقليات ما ليس عند الموحد فيغلبه إما بتأصيل أو برد إلى المنطق أو ما أشبه ذلك فتضعف حجة الموحد؛ ولكن يبين له الحجة بأدلة ثم يوضح له وجه الاستدلال من الدليل، قال(فبيّنها له بقولك: قال الله تعالى ?ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً?) ووجه الاستدلال من هذا الدليل أن الله جل وعلا أمرنا بدعائه، فيكون الدعاء عبادة لأنه مأمور به، وأمر بدعائه تضرعا وخفية، وسبب ذلك أن المشركين يدعون آلهتهم التي يعبدونها مع الله أو من دونه يدعونها جِهارا يدعونها برفع الصوت، والله جل وعلا حي سميع بصير أقرب إلى الداعي من نفسه ومن عُنق راحلته، فلما أمر الله جل وعلا بذلك علمنا أن هذا مخالفة لصنيع المشركين، قال سبحانه (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) وذلك لأنه سبحانه يعلم السرَّ وأخفى، وقد قال الحسن رحمه الله تعالى: ما كان دعاؤهم إلا فيما بينهم وبين ربهم إلا همهة. أو قال: إلا حديثا بينهم وبين ربهم حتى إنه يدعو الداعي والرجل بجنبه لا يسمعه. في حديثٍ له ساقه ابن جرير رحمه الله تعالى في تفسيره ونقله عنه أيضا ابن كثير وجماعة، فالتضرع والخُفْيَة صفة الداعي.(17/253)
فنقول له: أليس الدعاء ؛ دعاء الرب جل وعلا على هذه الحالة عبادة لله جل وعلا، (فلابد أن يقول نعم والدعاء مخ العبادة) يعني أن الدعاء لب العبادة، فإن العبادة أنواع وأعظم أنواعها الدعاء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «الدعاء هو العبادة» تعظيما لشأن الدعاء، كما قال «الحج عرفة»، فالدعاء مخ العبادة ومعظمها ولبها، ولهذا قال الشيخ رحمه الله (فلابد أن يقول: نعم)، (والدعاء مخ العبادة) هذه جملة استطرادية، (فقل له: إذا أقررت أنه عبادة) لأنّ الخصم لابد أن يقر أن دعاء الله وحده عبادة، قال(إذا أقررت أنه عبادة ودعوتَ الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره) تبدأ تناقشه في تعريف العبادة وما قدمنا تقول: إذا دعوت الله وحده ليلا ونهارا في حاجة خوفا وطمعا، ثم في هذه الحاجة بعينها سألت الوليَّ أو الميت أو صاحب السّر أو صاحب المشهد أو صاحب القبة أو ما أشبه ذلك، دعوته وسألته هذا السؤال، هل يكون هذا شركا في العبادة أم لا؟ فلابد أن يقول: نعم. لم؟ إلا أن يكون مكابرا، لابد أن يقول: نعم. لأن عين الشيء سأله الله جل وعلا ودعا به الله وحده طمعا وخوفا ورجاء ليلا ونهارا ثُم تَوَجَّه به إلى غير الله في الحاجة عينها، فلابد أن يقول: نعم، سألتُ الله الحاجة وسألتُ الولي الحاجة، فيقول: نعم هذا شرك بالله جل وعلا، لهذا قال الشيخ رحمه الله (فقل له: إذا أقررت أنه عبادة ودعوت الله ليلاً ونهارًا خوفًا وطمعًا، ثم دعوت في تلك الحاجة نبيًا أو غيره هل أشركت في عبادة الله غيرَه؟ فلابد أن يقول: نعم، فقل له: فإذا عملت بقول الله تعالى ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?[الكوثر:3]) هذه صورة ثانية، الصورة الأولى في الدعاء، الصورة الثانية في النحر قال (فإذا عملت بقول الله تعالى: ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?) يعني انحر لربك ولا تنحر لغيره، ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ(17/254)
الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?[الأنعام:162-163]، قل له إذا نحرتَ لله وحده وذكرتَ اسم الله على الذبيحة ونحرت الإبل أو البقر أو ذبحت الذبائح متقربا بها إلى الله جل وعلا هل هذا عبادة؟ فسيقول: نعم هذا من أعظم العبادات؛ لأن الذبح في الأضاحي والنحر في الحج وأشباه ذلك، هذا من أعظم العبادات لله جل وعلا، (فقل له: إذا نحرت لمخلوق) يعني تقربت بهذا الدم لمخلوق كما فعلت بأن تقربت بدم آخر لله فتقربت بالدم لمخلوق، فما الفرق بين هذا وهذا؟ لا فرق؛ لأنك تقربتَ بالذبح الأول لله، وبالذبح الثاني تقربت للنبي أو لولي أو لصالح، أو لجني تخاف شره أو لساحر أو ما أشبه ذلك، (هل أشركت في هذه العبادة غير الله؟ فلا بد أن يُقِرَّ ويقول: نعم) لأنه لا مفرّ له، فعين الفعل فعلته لله والفعل عينه فعلته لغير الله، فهل هذا شرك أم لا؟ فلابد أن يقول: إن هذا النوع عبادة لغير الله؛ لأني قصدت بها غير الله، وذاك عبادة لله لأني قصدت بها الله جل وعلا. ولا يمكن أن يقول في الصورة الثانية: إن هذا ليس بعبادة ولم أقصد بها غير الله؛ لأنه حين فعل تقرُّبا إلى الله بالذبح أقر بأن الذبح عبادة وحين توجه إلى غير الله بهذا الذبح وإراقة الدم أقرّ بأن هذه العبادة توجه بها لغير الله، فلابد إذن أن يقول: نعم. للحجة.
وهذا تمام الوجه الأول من هذا الاحتجاج، وهو ظاهر بين قوي في أن يُتدرج مع المشرك ومع هذا الذي يَعبد غير الله ويدعو غير الله ويستغيث بغير الله -نعوذ بالله من الخِذلان- أو يذبح لغير الله أو أنواع الصور الشركية، فإنه يُتدرج معه في هذا حتى يُقر بأنّ الحجة واضحة، وأنه إذا فعل ذلك فقد عَبَد مع الله جل وعلا غيره، نسأل الله السلامة والعافية.(17/255)
وعلى هذا الاحتجاج ولابد أن يقر، وما أُمر به فهو عبادة هذا بالاتفاق العلماء، فإنْ جادلت عالما فإنه إن لم يكن مكابرا فسيُقر بأن ما أمر به عبادة؛ لأنّ الله جل وعلا لا يأمر بشيء ويكون مباحا، لابد أن يكون عبادة، إما أن تكون عبادة واجبة أو أن تكون عبادة مستحبة يترتب عليها الثواب.
وإذا كان لا يعلم فليس بعالم فتدرجه مثل ذكرنا مثل ما ذكر الشيخ رحمه الله، حتى ولو كان عالما فإنك إذا ذكرت هذه الحجج مع المقدمات التي ذكرنا فإنها أبلغ ما يكون من الحجاج معه.
والْحَظْ أن الشيخ رحمه الله صار هذا النوع من الحجاج لتجربته ولكثرة ما جادل عن المشركين، فهو أعلم رحمه الله بالحجة الأقوى وبالشبه التي أدلى بها الخصوم وكيف تُكْشَف هذه الشبه، هذا نوع.
وأما النوع الثاني قال (وقل له أيضًا) يعني هذه الوجهة الثانية، وهذه الوجهة أيضا متجهة إلى المرتبة الثانية فيما قاله المشرك حيث قال: هذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة. فبينا له أنه عبادة بما ذكرنا له أولا.
فإذن تكون النتيجة أنه يعبد غير الله، فيكون.. قوله: أنا لا أعبد إلا الله. قول ليس له نصيب من الصحة؛ بل هو قول مجرد دعوى.
النوع الثاني قال (وقل له أيضًا)وهذا وجه آخر من الحجة (المشركون الذين نزل فيهم القرآن هل كانوا يعبدون الملائكة والصّالحين واللاتّ وغير ذلك؟) فإنه (لا بد أن يقول: نعم.) إن كان عارفا لما حصل من المشركين، وإن كان غير عالم بذلك فتُقيم عليه الحجة بإيضاح حال شرك المشركين بما قدمناه لك في الدروس السابقة، فإذا أقمت عليه ذلك وأوضحته فلابد أن يقول: نعم. لأن القرآن أوضح ذلك أتم إيضاح.(17/256)
قال (فقل له: وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك) عبادتهم لآلهتهم فيما كانت؟ إنما كانت في الدعاء كانوا يدعونهم قال ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، يعني ما ندعوهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وكانوا يذبحون لغير الله،كما في حديث ثَابِت بن الضّحّاكِ - رضي الله عنه -، أنَّ رَجُلا نَذَرَ أنْ يَنْحَرَ إبِلاً بِبُوَانَةَ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِهم؟». قال: لاَ. قالَ: «فهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أعْيَادِهِمْ؟» قال: لاَ. قالَ: «فأوْفِ بِنَذْرِكَ»، فدل قوله (هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أوْثَانِهم) أنهم كانوا يذبحون للأوثان، فإذن تعبد المشركين بالذبح وبالنذر وبالدعاء ونحو ذلك هذا أمر معروف، ولم يكن شركهم من جهة أنهم يصلون لهم، أو أنهم يزكون لهم أو أنهم يحجون لها؛ لهذه الآلهة؟ لا، كانوا يحجون لله وكانوا يصلون لهم صلاة وكانوا يغتسلون من الجنابة وكانوا يذكرون الله ونحو ذلك مما ذكرناه من أنواع العبادات في أول هذا الشرح، إنما كان شركهم من جهة أنهم يدعون غير الله ويذبحون لغير الله ويلتجئون لغير الله ويتخذون تلك الآلهة والأولياء والأنبياء وُسطاء بينهم وبين الله جل وعلا.
قال (وهل كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك. وإلا فهم مقرون أنهم عبيد الله وتحت قهره) يعني بما قال الله جل وعلا في آيات كثيرة في إقرار المشركين بالربوبية، (وأن الله هو الذي يدبر الأمر ولكنهم دعوهم والتجأوا إليهم بالجاه والشفاعة، وهذا ظاهر جدا)، لاشك أنه ظاهر جدا وحجة واضحة مبنية على فهم حال المشركين، وقد أوضحنا حالهم مفصلا في أول شرح هذا الكشف المبارك .(17/257)
بعدها انتقل إلى مسألة الشفاعة، وهي مسألة طويلة تحتاج منا إلى درس مستقل فنرجئها إن شاء الله تعالى.
[الأسئلة] نجيب عن بعض الأسئلة.
س1/ كثير مما شُرح في الدرس الماضي لم يُفهم لدى كثير من الإخوة، ولم نفهم إلا أشياء مما كانت تكرارا لبعض ما سبق؟
ج/ هذه مشكلة؛ لكنها ليست مشكلتي، إنما هي مشكلة من حضر هذا الدرس دون مقدمات؛ لأن كشف الشبهات في الحقيقة ترددتُ كثيرا مثل ما تذكرون في الابتداء به؛ لأنه لا يصلح إلا لمن ضبط ثلاثة الأصول بشرحها، وضبط كتاب التوحيد بشرحه، فينتقل إلى فهم كتاب كشف الشبهات، هذا من جهة.
والجهة الأخرى أن أوائل هذا الشرح فيها كثير من المقدمات التي نحيل إليها فمن لم يستحضر ما ذكرناه في المقدمات في أوائل هذا الشرح ربما يخفى عليه بعض المقدمات التي ينبني عليها الحِجاج.
وكما قال الشاعر:
غيري جنى وأنا المعذَّبُ فيكم فكأنني سبابة المتندم
س2/ شخص ذهب إلى القبر ولكن لم يدعُ صاحب القبر، ولكنه التجأ إلى الله بإخلاص وصدق أن يكشف كربته، ولم يكن لصاحب القبر عند الدعاء شيء في قلبه، ولكن دعا الله بصدق هل هذا العمل جائز؟
ج/ الجواب أن هذا العمل بدعة وخيمة ووسيلة من وسائل الشرك؛ لأنّ تحري إجابة الدعاء عند قبور الصالحين والأولياء هذا يفضي إلى اعتقاد أنّ لهم حرمة وأنّ لمكان قبرهم خصوصية، فيؤدي إلى التوسل بهم وإلى الاستغاثة أو الاستشفاع بهم، فالله جل وعلا يُسأل الحاجات بأي مكان، وأعظم الأمكنة التي يدعى الله جل وعلا فيها المساجد وهي أحق البقاع إلى الله، فمن أراد أن يُجاب طلبه وأن يُعطى ما سأل فليتحرّى الأمكنة التي يحبها الله جل وعلا في المساجد وشبه ذلك وحِلق الذكر، وليتحرّى أيضا أوقات الدعاء التي يجاب فيها، ويتحرّى الدعاء الجامع ويتوسل إلى الله جل وعلا بأسمائه وصفاته، ويكون عنده اضطرار وأشباه ذلك مما هو من أسباب إجابة الدعاء.(17/258)
أما من دعا عند قبر لنفسه سأل الله جل وعلا ولو كان مخلصا فإنه مبتدع آثم على أمرٍ أكبر من الكبائر.
... لا، القبر ليس الفائدة منه أن تدعو عنده، القبر الفائدة منه أن تتذكر الآخرة، «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة»، «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» والزيارة المشروعة هي التي فيها تذكّر والسلام على الأموات المسلمين وسؤال الله جل وعلا لهم والدعاء للميت، ويجوز أن يدعو لنفسه عَرَضا مع الدعاء للميت دون القصد، فأما أن يتحرى الدعاء عند القبور فهو بدعة، أو أن يقصد الدعاء لنفسه عند القبور فهو بدعة أيضا؛ لكن يدعو بنفسه عرضا مع الدعاء للميت كما كان عليه الصلاة والسلام يقول إذا زار القبور «نسأل الله لنا ولكم العافية» فهذا على جهة العرض لا القصد.
س3/ قال: قلت أن المشرك لا يشهد على نفسه بأنه مشرك فما معنى قوله تعالى ?شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ?[التوبة:17]؟
ج/ الشهادة في هذه الآية شهادة بلسان الحال لا بلسان المقال كما قال ابن كثير وغيره من المفسرين، الشهادة هنا كالشهادة في قوله جل وعلا ?وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا?[الأعراف:172]، فهذه شهادة بلسان الحال لا بلسان المقال.
س4/ هل يجوز التوجه بالدعاء إلى الله بالتوسل بجاه محمد عليه الصلاة والسلام أو بحق الصالحين من عباد الله؟
ج/ الجواب أن التوجه أو التوسل في الدعاء بالجاه بدعة ووسيلة من وسائل الشرك، فلا يجوز أن يدعو متوسلا إلى الله بجاه نبيه أو بجاه عبد صالح أو بالحرمة أو بالمكانة أو ما أشبه ذلك..... ([44])
والاعتداء في الدعاء بأن يدعو بما لم يؤذن به، هذا من جهة.
والثانية أن هذا الدعاء وسيلة إلى الشرك بهؤلاء باعتقاد عظمتهم أو أنهم يشفعون أو ما أشبه ذلك.(17/259)
والثالث أن السؤال بالجاه بجاه فلان وبحرمته سؤال بأمر أو بشيء أجنبي عن السائل وعن الداعي، والمشروع أن تسأل بشيء لك أو بشيء تملكه كالسؤال والتوسل بالعمل الصالح أو أن تسأل بأسماء الله جل وعلا وبصفاته أو أن تسأل الله جل وعلا بإيمانك وطاعتك لله، فهذا توسل بأمر لك وليس بأجنبي عنك، وعمل غيرك وحرمته وجاهه له وليس لك.
ولهذا ترك الصحابة رضوان الله عليهم هذا السؤال وهذا الدعاء فإنه اعتداء وبدعة ووسيلة إلى الشرك.
س5/ تقول كل ما أمر الله به عبادة وقد قال تعالى ?فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا?[البقرة:109] هل هذا عبادة؟
ج/ نعم إذا عفا متقربا بالعفو إلى الله جل وعلا فقد تعبَّد، وإذا صَفَحَ متقربا بالصفح إلى الله جل وعلا فقد تعبّد؛ لأن المأمور به عبادة إذا تقرب به، أما إذا فعله هكذا من غير قربة فليس بعبادة.
س6/ ما حكم قول بعض الصحف إن الغبار الذي أتى مدينة الرياض هو بسبب دخول فصل الخريف؟
ج/ إذا كان قول هذا القائل يعني به أنّ هذه الفصول تسبب هذه المتغيرات الكونية فإن هذا لا يجوز ومحرم وهو نوع شرك بالله جل وعلا، وإذا كان يجعلها زمنا وظرفا ووقتا أجرى الله جل وعلا سنَّته أنه يحصل في هذا الوقت هذه الأشياء هذا لا بأس به، فيفرَّقُ في هذا الباب ما بين الباء التي للسببية و(في) التي للظرفية.
فمثلا نقول: في الوسم تأتي الأمطار؛ لكن ليس معناه أنه بالوسم يأتي المطر، وإنما أجرى الله سنَّتَه أنه في هذا الوقت الذي هو طلوع هذا النجم الذي هو الوسم وأشباه ذلك، طلوع أنجم يكون عنها الوسم، هذا ظرف ووقت يحصل فيه أنواع من سنة الله جل وعلا في كونه، إذا جاء نجم كذا جاء البرد؛ لكن مجيء البرد ليس بسبب النجم وإنما ظهور النجم وقتٌ للبرد؛ مثل ما يكون ظهور الهلال وقت لدخول الشهر، وليس هو الذي أدخل الشهر، وأشباه ذلك.(17/260)
فإذن هذه الأشياء الفصول والأنجم إذا جُعلت ظرفا ووقتا فلا بأس، وإذا جُعلت سببا باستخدام الباء؛ باء السببية فإن هذا كقول من قال مطرنا بنوء كذا وكذا .
وبهذا القدر كفاية وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
??¹™™
[المتن]
فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟
فقل: لا أنكرها ولا أتبرّأ منها؛ بل هو - صلى الله عليه وسلم - الشَّافع والمشفَّع وأرجو شفاعتَه؛ ولكن الشفاعة كلَّها لله تعالى كما قال تعالى ?قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، ولا تكون إلا بعد إذن الله كما قال تعالى ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ?[البقرة:255]، ولا يَشْفَعُ في أحد إلا بعد أن يأذن اللهُ فيه، كما قال تعالى ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28]، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد، كما قال تعالى ?وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل عمران:85].
فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيرُه في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن اله تعالى إلا لأهل التوحيد، تبيّن لك أن الشفاعة كلَّها لله وأطلبها منه فأقول: اللهمَّ لا تحرمني شفاعته، اللهمَّ شفّعه فيّ، وأمثال هذا.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا.
اللهم نعوذ بك أن نذل أو نذل أو نضل أو نضل أو نجهل أو يجهل علينا.(17/261)
وقفنا عند قول الإمام المصلح المجدد رحمه الله تعالى (فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟ فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها؛ بل هو - صلى الله عليه وسلم - الشَّافع والمشفَّع وأرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلُّها لله) شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - جنس تحته أنواع، فهو عليه الصلاة والسلام يشفع يوم القيامة؛ في أنواع من الشفاعة وأعظمها وأجلُّها شفاعته عليه الصلاة والسلام في أهل الموقف أن يُعَجَّل لهم الحساب بعد أن نالهم من الكرب والشدة ما جعلهم يستغيثون به عليه الصلاة والسلام في عرصات القيامة في ذلك الموقف العظيم، وهذا هو المقام المحمود الذي خصّ الله جل وعلا به محمدا عليه الصلاة والسلام كما قال سبحانه ?عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا?[الإسراء:79]، وهذا المقام المحمود هو شفاعته عليه الصلاة والسلام في الناس جميعا لكي يُفْصَلَ بينهم ولكي يعجل لهم الحساب، ولهذا جاء في حديث جابر وغيره أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من سمع النداء فقال مثل ما يقول المؤذن ثم قال -في الدعاء المعروف بعد الأذان-: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته. إلاّ حلت له شفاعتي يوم القيامة». وذلك أنه سأل الله جل وعلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - المقام المحمود وسأل له الوسيلة والفضيلة ([45]) وهي متحققة للنبي عليه الصلاة والسلام؛ ولكن السائل إذا دعا الله جل وعلا بذلك وسألها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ففي سؤاله ذلك له عليه الصلاة والسلام أنواع من العبادات التي بها استحق أن تَحِلَّ عليه له شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -:
منها يقينه بما وعد جل وعلا نبيه.(17/262)
ومنها حبه للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - ودخوله في أمته ورغبته ومحبته أن يكون عليه الصلاة والسلام أنفع الخلق للناس يوم القيامة، وهو عليه الصلاة والسلام كذلك إذْ خصه الله جل وعلا بالشفاعة.
ومر معنا في شرح الواسطية، ومر معنا في غير ذلك أنواع الشفاعات التي أعطاها الله جل وعلا نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المقام العظيم يوم القيامة.
فهنا قال (فإن قال: أتُنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟) هذا يشمل إنكار الشفاعة العظمى والشفاعات الأُخَرْ الشفاعة في أهل المعاصي ألا يدخلوا النار، والشفاعة فيمن دخل النار واستحقها ودخلها أن يخرجه الله جل وعلا منها، والشفاعة في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلهم ربهم جل وعلا الجنة، وأشباه هذا.
(فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟ فقل: لا أنكرها ولا أتبرأ منها؛ بل هو - صلى الله عليه وسلم - الشَّافع والمشفَّع)، (الشافع) يعني لما أعطاه الله جل وعلا، (والمشفَّع) فيمن شفع له عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يشفع في أحد يوم القيامة إلا أعطاه الله جل وعلا ما سأله وإلا أعطاه الله جل وعلا ما شفع فيه، حتى الكافر -عمُّه- فإنه يشفع فيه عليه الصلاة والسلام ويخفّف عنه من العذاب بسبب شفاعته عليه الصلاة والسلام، فهو عليه الصلاة والسلام الشافع وهو عليه الصلاة والسلام المشفَّع، ونرجوا شفاعته، نرجو أن نكون ممن شفّع الله جل وعلا فيهم نبيه عليه الصلاة والسلام، ونأخذ بأسباب تلك الشفاعة فإن شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فيمن يشفع فيه هي بإذن الله كما سيأتي ولا تكون إلا فيمن رضيه الله جل وعلا، وهذا يعني أن يبلغ العبد الأسباب التي بها يكون المصطفى - صلى الله عليه وسلم - شفيعا له، وهذه الأسباب كثيرة جاء بيانها في سنة محمد عليه الصلاة والسلام.(17/263)
قال (وأرجو شفاعته) وكوننا نرجو شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ونسأل ذلك ببذل الأسباب الشرعية في هذا لا يعني أن نسأل الشفاعة ممن لا يملكها ابتداء؛ بل الذي يملك الشفاعة هو الله جل وعلا لظاهر قول الله جل وعلا ?قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، واللام هنا لام الملكية فالشفاعة ملك لله جميعا وجميع أنواعها يملكها الرب جل وعلا، ويعطيها من شاء بشرط الإذن والرضا كما سيأتي.
قال (لكنّ الشفاعة كلَّها لله تعالى كما قال تعالى: ?قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]).
والشفاعة معناها ضم الداعي والسائل طلبه إلى طلب سائل آخر ليتحقق طلبه، ويكون الشافع -يعني الثاني- أقوى من الأول. هذا في مقتضى اللغة، وهي مأخوذة من الشفع وهو ضد الوِتْر كما قال جل وعلا ?وَالفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2) وَالشَّفْعِ وَالوَتْرِ?[الفجر:1-3]، فالشفع مغاير للوتر، وسُمِّي الشافع شافعا والشفيع شفيعا لأنه صار بالنسبة للسائل زوجا وشَفْعا بعد أن كان الطالب والسائل واحدا، فشفع طلبه؛ يعني صار هذا الشافع ثانيا في السؤال، فبدل أن يطلب الشيء واحد في الشفاعة صار الطالب له اثنين، الأول صاحب الحاجة والثاني صاحب الشفاعة.
فإذن الشفاعة حقيقتها ضم الشافع طلَبه لطلب السائل ليحقق له مراده، وهذا عامّ في موارد الشفاعة في اللغة.(17/264)
فإذن على هذا تكون الشفاعة ممن يمكنه ذلك، فإذا دعا الداعي في الدنيا لأخ من إخوانه أو لمن دعا له فإنه شافع له بالدعاء؛ يعني أنه سأل الله جل وعلا أن يعطي فلانا مطلوبه الذي هو كيت وكيت، وكما جاء في حديث الأعمى المروي في السنن بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه الأعمى يشكو حاله علمه دعاء ثم قال له « فقل اللهم إني استشفع إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -» وهذا يعني أنه يجعل دعاء المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حياته شافعا له؛ يعني دعا هو بما أوصى عليه الصلاة والسلام ثم رغب في أن يكون الشافع له محمدا عليه الصلاة والسلام؛ يعني الداعي له بما أراده من الرب جل وعلا.
فإذا كان كذلك صارت حقيقة الشفاعة قائمة على أن الشافع يطلب كما طلب الأول وأنه لا يشفع إلا فيمن رضي أن يشفع له، لا يشفع ممن طلب منه الشفاعة رغْمًا عنه؛ يعني إذا سأل سائل آخر أن يشفع له فالشافع لا يشفع إلا إذا رغِب أن يشفع، وليس كل من طلب الشفاعة من الناس، من فلان، من النبي عليه الصلاة والسلام، من أهل العلم، أن يجاب إلى طلبه فيشفع فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام ويشفع فيه العلماء إلى آخر ذلك بالدعاء في الدنيا، فإنه قد يطلب ويرد، قد يطلب من الشافع أن يشفع فيقول الشافع لا أشفع لك، والمصطفى عليه الصلاة والسلام هو الذي أنزل الله جل وعلا عليه قوله ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ? ولهذا قال الشيخ رحمه الله (ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال عز وجل: ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ?[البقرة:255]) وإذْن الله في القرآن وفي الشفاعة نوعان: إذن قدري كوني، وإذن شرعي ديني.
فحصول الشفاعة لا يكون إلا بعد أن يأذن الله بالنوعين:(17/265)
فالأول الإذن الشرعي: يعني أن يكون هذا المشفوع له ممن أذن شرعا أن يُشفع فيه، ومعلوم أن الله جل وعلا نهى المؤمنين أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى، فقال جل وعلا في سورة براءة ?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ(113)وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ?[التوبة:113-114]، فدل هذا على أن الشرع نهى أن يُستغفر للمشرك؛ يعني أن يشفع في مغفرة الذنوب عند الله جل وعلا لأهل الشرك.
وإذا كان كذلك فإن اشتراط الإذن الشرعي؛ يعني أن من طلب الشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا وهو من أهل الشرك، أو في الآخرة وهو من أهل الشرك، فإنه لم يؤذن الإذن الشرعي في أن يُشفَّع فيهم أو أن يسأل الشفاعة لهم، وكذلك في البرزخ -وهو ما بين الحياتين الأولى والآخرة وهو حياة خاصة- كذلك فإن من سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة وهو في قبره عليه الصلاة والسلام فقد سأل ما لم يؤذن به شرعا، ولهذا الصحابة رضوان الله عليهم ما سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة بعد موته، وكذلك ما سألوا شهداء أحد الشفاعة، والشهداء يشفعون كما جاء في الحديث؛ لأن الشفاعة مشروطة بالإذن الشرعي، ولو حصل من أحد أنه طلب الشفاعة فإنه لو فُرض أنه عليه الصلاة والسلام يشفع في البرزخ فإنّ هذا الذي طلب الشفاعة فإنه أشرك حيث سأل الشفاعة بما لم يؤذن به في الشرع؛ لأنه طلب الشفاعة ممن لم يؤذن له في ذلك والشفاعة كلها لله جل وعلا.
فتحصَّل لنا من الشرط الأول وهو الإذن أنه ينقسم إلى قسمين:(17/266)
· الإذن الشرعي وهو أنْ يكون الله جل وعلا أذِنَ للشافع أن يشفع الإذن الشرعي.
· وكذلك أذن للمستشفع أن يطلب الشفاعة الإذن الشرعي.
وربنا جل وعلا قال في الشافع ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ?[البقرة:255] يعني لا أحد يشفع عند الله جل وعلا إلا بعد أن يأذن الله جل وعلا الإذن الشرعي، فإن أهل الإيمان من الرسل والأنبياء والصالحين والملائكة لا يشفعون لمن لم يؤذن له شرعا لمن خالف الشرع وطلب الشفاعة من غير الله؛ لأن الله جل وعلا قال ?قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44].
فإذن طلب الشفاعة منهي عنه بقوله (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)، وطلب الشفاعة معناه طلب الدعاء، فالشفاعة وطلب الدعاء واحد، فإذا جاء أحد إلى قبر وقال لصاحب القبر: أسألك أن تدعو الله لي. معناه أنه سأل الشفاعة فهي بمنزلة قوله: أسألك أن تشفع لي. لأن الشفاعة -كما ذكرت لكَ- هي طلب الدعاء؛ ضم الشافع طلبه إلى المشفوع له، فقول القائل لأحد: أسألك أن تدعو لي. يعني أن تشفع لي، وهذا بالنسبة للأموات مهما علت مرتبتهم فإنه لا يجوز، وطلبها منهم لا يوافق إذن الله جل وعلا الشرعي.
إذا تبين ذلك:
فالقسم الثاني من الإذن؛ الإذن الكوني القدري: يعني أنَّ الشافع عند الله جل وعلا لا يشفع ابتداءً كما هو الحال في الدنيا في أحوال الشافعين عند البشر، يأتي ويطلب سواءً كان المشفوع عنده يرضى بهذه الشفاعة أو لا يرضى، يرغب فيها أو لا يرغب، هذا من حال أهل القصور حال أهل الفقر والمسكنة؛ يعني هم أهل الدنيا.(17/267)
أما ربنا جل وعلا ذو الكمال المطلق وذو الإحسان إلى خلقه وذو الغنى التام وذو القدرة التامة جل وعلا فإنه لا يشفع أحد عنده ابتداءً؛ بل لا يشفع أحد حتى يأذن الله للشافع أن يشفع الإذن الكوني القدري؛ يعني يعلم الله جل وعلا أنّ هذا يريد أن يشفع فيقول له: اشفع، كما ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام إذا كانت الشفاعة العظمى يوم القيامة ويأتيه الناس قال «فآتي فأخِرُّ بين يدي العرش، فأحمد ربي بمحامد يفتحها عليّ لا أحسنها الآن» يخر ساجدا فيبتدئ بالحمد والثناء على الله جل وعلا، والله سبحانه يعلم أنه يريد أن يشفع، ولا يشفع ابتداءً؛ لأنه لابد من الإذن الكوني لابد أن يقال له: اشفع، قال عليه الصلاة والسلام «فيقول الرب أو فيقول: يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع» فهذا يدل على أن الشفاعة يوم القيامة لا يبتدئ بها أهلها حتى يأذن الله جل وعلا لهم في أن يشفعوا، وهذا أصل عظيم في هذا الباب.
إذن الإذن الكوني القدري -بالدليل الذي ذكرت لك- يدلُّ على أن هذا الذي شفع لا يملك الشفاعة، وإنما هو محتاج لأنْ يشفع كما أنّ الطالب محتاج في أن يُشفع له، والله جل وعلا هو الذي يملك الشفاعة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يملكها فيشفع شفاعة من يملك، وإنما هو يرجو أن يُقبل منه أن يشفع، كما جاء في هذا الحديث ودِلالته واضحة على ما ذكرنا.
إذن قوله جل وعلا (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه) يعني لا أحد يشفع عند الله جل وعلا إلا بإذنه سبحانه الشرعي وبإذنه سبحانه القدري، فإن شفع من لم يأذن الله فيه شرعا فإنه لا تقبل شفاعته مثل ما شفع نوح عليه السلام في ابنه قال ?رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ?[هود:45]، فأجابه ربنا جل وعلا بقوله ?يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ?[هود:46] الآيات.(17/268)
فإذن دلَّ على أنه إذا ابتدأ أحد في أن يشفع فيمن لم يُؤذن له بالشفاعة شرعا فإنه لا تقبل شفاعته وترد عليه، وأما الإذن الكوني فإنه في الآخرة لا يحصل يعني بعد الموت لا تحصل الشفاعة ولا تقع إلا بعد الإذن الكوني.
أما في الدنيا فإنه قد يشفع أحد فيؤذن له كونا بالشفاعة بحسَب إرادته، فيبتدئ بالشفاعة ثم ترد عليه إن لم يكن شفاعته موافقة للإذن الشرعي أو لم تكن شفاعته موافقة لحكمة الله جل وعلا.
فتحصّل من هذا أن الشفاعة لها من حيث الزمن حالان: في الدنيا، وما بعد الممات.
أما في الدنيا: فإن الإذن الكوني للشافع يحصل بإرادة الشافع، فقد يشفع والله جل وعلا يأذن سبحانه ولو كانت حكمته في أنْ يرد هذا الشافع في الدنيا، مثل ما حصل من شفاعة نوح عليه السلام في ابنه، ومن شفاعة إبراهيم في أبيه، ومن شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام في عمه فأنزل الله جل وعلا ?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى?[التوبة:113].
أما بعد الممات: فإنه لا يبتدئ أحد الشفاعة -يعني في يوم القيامة ولا في البرزخ- حتى يأذن الله جل وعلا، ومعلوم أن الله جل وعلا لا يأذن في وقوع الشرك، ولا يأذن إذنا كونيا ولا إذا شرعيا في حصول ذلك من الأموات؛ لكن من الأحياء قد يبتدئون ويطلبون ذلك لأنها دار تكليف، فيأذن الله جل وعلا كونا بحصول ما لم يأذن به شرعا لأنها دار تكليف.
فقوله سبحانه (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه) معناها لا أحد يشفع عن الله إلا بإذنه وذلك لكمال قدرته جل وعلا وقهره وجبروته وكمال مُلكه وكمال عزته وكمال صفاته سبحانه وأسمائه، أما الخلق فقد يُشفع عندهم بلا إذن منهم.
قال الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك (ولا يَشْفَعُ في أحد) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أو (يُشفع في أحد) يعني من جميع أنواع الشفعاء (إلا بعد أن يأذن الله فيه) هذا إذن آخر.(17/269)
فباعتبارٍ آخر الإذن ينقسم إلى قسمين:
· إذن للشافع أن يشفع.
· وإذن للمشفوع فيه أن يشفع له.
قال (ولا يَشْفَعُ في أحد إلا بعد أن يأذن الله فيه) يعني في حق المشفوع له أن يشفع.
أما أن يشفع لكل أحد، والله جل وعلا لا يأذن لهذا أن يُشفع له فإن هذا لا يحصل، والله سبحانه وتعالى لا يرضى إلا بالشفاعة لأهل التوحيد كما سيأتي.
قال (كما قال عز وجل ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28]) (وَلا يَشْفَعُونَ) يعني الملائكة هذه الآية في سورة الأنبياء (وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى) يعني الملائكة، فلا يشفعون فيمن يريدون كما يظن أهل الشرك؛ بل لا يشفعون إلا لمن رضي الله جل وعلا قولَه وعملَه فيمن ارتضاهم ربنا جل وعلا، والله سبحانه لا يرضى إلا لأهل التوحيد، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال «أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» فقوله (أسعد الناس بشفاعتي) قال العلماء (أسعد) هنا جاءت على أفعل التفضيل لكن معناها الوصف لا التفضيل؛ يعني سعيد الناس بشفاعتي يوم لقيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبله أو نفسه، فـ(أسعد) بمعنى سعيد ،كقوله جل وعلا في سورة الفرقان ?أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا?[الفرقان:24]، ومعلوم أن مقيل أهل النار ليس فيه حُسْنٌ بل هو قبيح وشر وعذاب عليهم، فقوله (أَحْسَنُ مَقِيلًا) يعني حسنا مقيلهم.(17/270)
فهذا معلوم في اللغة أن أفعل قد تخرج عن بابها إلى الوصف وهذا كقوله كما ذكرنا (أسعد الناس بشفاعتي) فسعيد الناس بشفاعتي عليه الصلاة والسلام أهل التوحيد، والذين يرضاهم الله جل علا ورضي لهم قولا هم أهل التوحيد، فإذا كان كذلك فمن سأل من لا يملك الشفاعة الشفاعة فإنه ليس ممن رضي الله قوله ولا رضي عمله؛ لأن الله جل وعلا نهانا عن ذلك ولأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يفعلوا ذلك.
قال جل وعلا قال ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28] وهذا هو الشرط الثاني وهو شرط الرضا فإن الشفاعة لا تنفع عند الله جل وعلا إلا بتحقق شرطين: الإذن والرضا.
والرضا نوعان أيضا:
· رضًا عن الشافع.
· ورضًا عن المشفوع له.
فالذين يشفعون هم الذين رضي الله عنهم، وهم الأصناف الذين جاء ذكرهم في الأحاديث: الأنبياء وأولهم محمد عليه الصلاة والسلام، والعلماء، والشهداء، والصالحون. هؤلاء هم الذين يشفعون فرضي الله جل وعلا قولهم.
وكذلك النوع الثاني الرضا لمن شُفِعَ له وهذا الرضا قد يكون رضا عن مآل حاله؛ لأنه من أهل الإسلام، وقد يكون رضًا في الشفاعة لحكمة يعلمها جل وعلا وهذا إخراج لحال أبي طالب.
قال (?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28] وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد) لدلالة الحديث الذي ذكرنا وكذلك دلالة قول الله جل وعلا ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85]، وكقوله جل وعلا ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ?[آل عمران:19]، يعني التوحيد الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، هذا هو الإسلام وهو التوحيد الذي جاء به الأنبياء والرسل جميعا.(17/271)
فإذن هو سبحانه لا يرضى إلا الإسلام العام ومن كان من هذه الأمة فلا يرضى يعني بعد بعث محمد عليه الصلاة والسلام لا يرضى إلا اتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام فقوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) يعني من ابتغى غير دين محمد عليه الصلاة والسلام (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)؛ لأن محمدا عليه الصلاة والسلام بعثه الله وبعثه بالإسلام الخاتم الذي نسخ كل دين قبله.
قال رحمه الله بعد ذلك (فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله) هذا استنتاج؛ ترتيب النتائج على المقدمات، (فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله ولا تكون إلا بعد إذنه، ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد) يعني هذه أربعة أشياء.
(إذا كانت الشفاعة كلُّها لله) أولا هذه مقدمات في الحجة ليبني على هذه المقدمات النتيجة، وهذه المقدمات كل واحدة منها سبق شرحها ودليلها.
قال (فإذا كانت الشفاعة كلُّها لله) يعني من جهة المِلك، في أن الذي يملكها الرب جل وعلا، فإذن هو الذي يتصرّف ويقول سبحانه هذا يُشفع فيه وهذا يشفع وهذه الحال فيها شفاعة وهذه الحال ليس فيها شفاعة إذْ هو المالك للشفاعة سبحانه بخلاف أهل الدنيا فإنه يملك المرء الشفاعة في أحد، أنا مثلا أريد أن أشفع لفلان فإني أملكها بحيث أبتدئ الشفاعة ولو لم يرض المشفوع عنده، فأبتدئ سواء قبل أو لم يقبل، هذا لأجل حال القصور الذي أنا عليه والضعف والمسكنة فلا أملك ولا أستطيع أن أفرض على أحدٍ شيئا.
أما حقيقة الشفاعة فإنها لله جل وعلا يملكها سبحانه، فالشفاعة عنده جل وعلا ليست كالشفاعة عند خلقه جل وعلا بل هو الذي يملك الشفاعة، فالذي يجيء يطلب الشفاعة لا يجيء وهو يتقدم عند الله جل وعلا بشيء يملكه هو؛ بل الذي يملك الشفاعة الرب سبحانه وتعالى.(17/272)
فحقيقة الشروط ?مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ?[البقرة:255]، قال ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28] ونحو ذلك من الآيات دالة على أن الشفاعة ملك لله، فآية الزمر ?قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، دالة وكذلك الشروط دالة على أن الشفاعة كلها لله جل وعلا.
قال في الشرط الثاني (ولا تكون إلا بعد إذنه) مثل ما مر معنا، (ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه) هذا الشرط الثالث، (ولا يأذن إلا لأهل التوحيد) هذا الشرط الرابع، (تبين لك أن الشفاعة كلَّها لله) يعني أن لا أحدا ليس له من الأمر شيء كما قال جل وعلا ?لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ?[آل عمران:128].
قال بعدها (فأطلبها منه) يعني إذن إذا كانت لله وهذه الشروط الأربعة والمقدمات الأربعة واضحة فتحصل ان الشفاعة لله والطلب إذن يكون لمن يملك قال (فأطلبها منه فأقول: اللهمَّ لا تحرمني شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، اللهمَّ شفّعه فيّ) فتسأل الله جل وعلا أن يأذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يسخره عليه الصلاة والسلام للشفاعة فيكَ، وهذا هو وجه التوحيد والطريقة الشرعية المأذون بها، قال (وأمثال هذا) يعني من الأدعية التي تناسب هذا المقام.(17/273)
إذن فهذا الكلام الذي ذكرناه جواب على قول من قال (أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟) وهذه الشبهة كثيرا ما تقال لأهل التوحيد، فإذا قالوا لغيرهم ممن طلبوا الشفاعة من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أو من الأولياء قالوا لهم: الشفاعة لله وطلب الشفاعة من الموتى شرك؛ لأن الله جل وعلا لم يأذن بهذا والله هو الذي يملك الشفاعة، هذا لا يملكها، ومن طلب من الميت ما لا يملكه ولا يقدر عليه ابتداءً فقد طلب منه، ما هو مختص بالله وهذا يعني أنه أشرك به، قالوا أتنكر الشفاعة؟ فإذن هم إذا أُنكر عليهم الشرك قالوا: أتنكر شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؟ لأن أهل العلم من أهل السنة ومن الفرق الأخرى غير المعتزلة -الأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء- مجمعون على أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يشفع، وعلى أنّ الأولياء والصالحين يشفعون، فإذا قلت لهم: طلب الشفاعة شرك. أرادوا أن ينسبوك لأهل الضلال ممن يُنكرون الشفاعة فقالوا أتنكر الشفاعة؟ حتى ينسبك إلى الخوارج أو إلى المعتزلة أو ما أشبه ذلك.(17/274)
فإذن قوله هنا (فإن قال: أتنكر شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منها؟) هذه يقولها المشرك للموحد حتى ينسِبَه -وحتى ينسُبه يصح الوجهان- لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة، فكأنه قال لك: أأنت خارجي؟ إذا أنكرت عليه طلب الشفاعة. أأنت خارجي؟ أأنت معتزلي؟ فتقول له: لا أنكرها ولا أتبرأ منها؛ بل أنا سلفي سني موحد ولست من أهل البدع والفرق الضالة؛ بل هو عندنا عليه الصلاة والسلام هو الشافع المشفَّع بأنواع من الشفاعات نثبتها قد لا يثبتها بعض أهل البدع كالأشاعرة ونحوهم، وأرجو شفاعته عليه الصلاة والسلام، نرجو شفاعته ونبذل الأسباب في ذلك، ونسأل الله جل وعلا أن يشفع فينا نبيه عليه الصلاة والسلام، وكذلك نأتي بالأسباب من الدعاء بعد الأذان، ومن محبة المدينة، ومن الرغبة في الموت فيها، وكذلك السعي في القتال في سبيل الله، وأشباه ذلك مما هو من أسباب نيل شفاعته عليه الصلاة والسلام([46]) ... وإنما نطلبها ممن يملكها والذي يملكها هو الله جل وعلا.
هذا حقيقة هذا البرهان وهذا التفصيل من الشيخ رحمه الله تعالى.
قال (فإن قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - أُعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله تعالى.)
قال (فالجواب: أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا) يعني نهاك عن طلب الشفاعة (فقال سبحانه ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن: 18]، فإذا كنت تدعو الله أن يشفّع نبيّه فيك فأطعه في قوله: ?فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?) وهذا دليل وبرهان سديد للغاية.(17/275)
كما ذكرت لك أن الشفاعة طلب والشفاعة هي الدعاء، فإذا طلب أحد من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في البرزخ -مع حياته الكاملة عليه الصلاة والسلام أكمل من حياة الشهداء عليه الصلاة والسلام- إذا طُلب منه أن يشفع، فهذا الطالب سأله والسؤال دعاء، فحقيقة طلب الشفاعة أنها دعوة الميت -سؤال الميت-، سؤال النبي عليه الصلاة والسلام في قبره وهو في الرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام، سؤاله ودعاؤه وقد طلب منه، فإذا قال القائل: يا محمد، يا رسول الله اشفع لي. فقد دعاه وطلب منه، إذا قال: يا محمد، يا رسول الله اسأل الله لي. فقد سأله وطلب منه عليه الصلاة والسلام، وهذا طلب الدعاء ممن ليس في الحياة الدنيا ممن هو عند الله جل وعلا، والله سبحانه نهانا أن ندعوا أحدا غيرَه فقال جل وعلا (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)، وقوله (فَلا تَدْعُوا) هذا نهي، نهانا عن الدعاء.
ومن المعلوم المتقرر في الأصول أنَّ الفعل المضارع لاشتماله على مصدر ينزل منزلة النكرة في سياق النهي أو النفي فتعم أنواع الدعاء، (فَلا تَدْعُوا) هذا يعم جميع أنواع الدعاء؛ لا يدعى مع الله أحدا؛ دعاء استغاثة، دعاء استعانة، دعاء استسقاء، دعاء شفاعة، دعاء نذر إلى آخره، فجميع هذه الأنواع داخلة في النهي في قوله جل وعلا (فَلا تَدْعُوا) دعاء العبادة ودعاء المسألة، وكذلك دلّت الآية على عموم آخر وهو قوله جل وعلا (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)؛ لأن (أَحَدًا) نكرة جاءت في سياق النهي فدلت على عموم كلِّ أحد، فالملائكة لا يدعون والأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه لا يُدعون، وكذلك الصالحون ممن انتقلوا عن الدنيا لا يُدعون، والأولياء الأموات لا يُدعون، والشهداء شهداء المعركة لا يُدعون أيضا.(17/276)
وكما ذكرتُ لكم في درس سبق أن الصحابة أجمعوا في حياة النبي عليه الصلاة والسلام والنبي عليه الصلاة والسلام مقرهم على ذلك بل والتشريع ينزل أنَّ أحدا منهم لم يسأل الشهداء شهداء أحد الشفاعة، ولم يطلب منه شيئا مع أنهم كانوا في حياة أولئك الشهداء ربما طلبوا من أولئك؛ لكن لما ماتوا تركوا الطلب مع أنهم قال الله جل وعلا ?أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ(169)فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ?[آل عمران:169-170]الآية.
فدلّ هذا على أنَّ طلب الشفاعة من الميت داخل في سؤال الميت وفي دعاء الميت، وهذا كما قال الشيخ رحمه الله (فإن قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - أُعطي الشفاعة وأنا أطلبُه مما أعطاه الله) قل: نعم النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة في عرصات القيامة بأنواعٍ من الشفاعة؛ لكن الذي أعطاه الشفاعة في عرصات القيامة هو الذي نهاك عن طلب الشفاعة في البرزخ؛ يعني أن تطلبه وأنت في الحياة الدنيا وهو في البرزخ، فالجواب كما ذكر الشيخ (أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا) ما الدليل على النهي؟ قال (فقال تعالى: ?فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?) ووجه دخول طلب الشفاعة في الدعاء ما ذكرته لك وهو واضح تقريره.
فال (فإذا كنت تدعو الله أن يُشفّع نبيّه فيك) إذا كنت تريد أن يشفع فيك المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (فأطع الله في قوله ?فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?-، يعني فلا تسأل مع الله أحدا وقوله (مَعَ اللَّهِ) فيه إشارة إلى سؤال من لا يملك شيئا، ومن لا يقدر عليه، وأن من سأل غير الله وهذا الغير لا يملك الشيء فقد دعا مع الله أحدا، وهذا ظاهر من جهة الاستدلال ومن جهة البرهان الواضح القوي.(17/277)
قال في برهان آخر (وأيضًا) هذا نوع آخر من البرهان على المسألة (فإن الشفاعة أعطيها غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فصح أن الملائكة يشفعون، والأفراط([47]) يشفعون والأولياء يشفعون أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم؟) فإذا قال إن الفَرَط لأنه يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله، فقل -هذا من جهة الإلزام؛ لأن الإلزام إن التزمه تناقض فصار مبطلا، وإن لم يلتزمه تناقض أيضا وصار مبطلا- فقل له (الأفراط يشفعون) ولهذا إذا مات فرط صغير فندعوا لوالديه بالمغفرة وندعو أن يشفعه في والديه، كما جاء في السنة من الدعاء في الآثار.
فإذن هل يكون هذا الذي احتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة يقول بأن كل من أعطي الشفاعة يُسأل الشفاعة ونقول هؤلاء الأفراط يشفعون فاسألهم الشفاعة، ولا قائل به أن الأطفال الصغار يؤتى إلى قبورهم ويطلب منهم الشفاعة، مع أن الحجة التي احتجوا بها في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الحجة التي تسوغ في حق هؤلاء الصبيان.
كذلك الملائكة إذن الملائكة يشفعون فهل يطلب المسلم الشفاعة من الملائكة ويقول: يا جبريل اشفع لي عند الله، وهذا لا قائل به حتى عباد القبور لا يقول بهذا لأنهم لو قالوا به صاروا إلى دين الجاهلية بالاتفاق وصاروا مشركين بالاتفاق.(17/278)
فإذن هذه الحجة حجة إلزامية، يُحتج عليهم بما يقرون به على ما يحتجون له، فهم يقرون أن الملائكة يشفعون، ويقال لهم: النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة كما ذكرتم؛ ولكن نهينا أن نسأله الشفاعة، فإن قالوا: لا؛ بل أعطيها ونسأله الشفاعة، نقول لهم الملائكة يعني نبرهن لهم بالبرهان الأول (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) فإن لم ينفع فيهم فنقول لهم الملائكة أيشفعون؟ فإن قالوا: لا. فنقول لهم: بل يشفعون؛ لأن الله جل وعلا قال فيهم قال ?وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى?[الأنبياء:28] ولأنه ثبت في الحديث الصحيح أن الله جل وعلا يقول يوم القيامة«شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء وشفع العلماء ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيخرج بعثا من النار» إلى آخر الحديث.
فإذن إذا قلنا له الملائكة تشفع بنص القرآن، وأخبر الله أنهم يشفعون والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر، فاسأل الملائكة أن يشفعوا لك، فإن قال به ولا قائل به فيصير إلى دين المشركين بالاتفاق الذي بيننا وبين عباد القبور.
كذلك قل (الأفراط يشفعون) لما جاء في الحديث، أفتذهب إلى قبر طفل وتسأله الشفاعة، وهذا لا قائل به بالاتفاق.
إلى أن قال (أتقول إن الله أعطاهم الشفاعة وأطلبها منهم، فإن قلت هذا فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه.) يعني بالاتفاق هذه عبادة الصالحين، عبادة الملائكة، عبادة غير الله التي أجمع عليها الناس بأن يسألوا الشفاعة ويُتقرب إليهم بطلب الشفاعة.(17/279)
(وإن قلت: لا)؛ لا أطلبها من هؤلاء، لا أطلب الشفاعة من الملائكة، ولا أطلب الشفاعة من الأفراط، قال الشيخ رحمه الله (وإن قلت: لا.) يعني لا تطلبها منهم (بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله) لأن هذا إلزام بما هو لازم في نفس الأمر، فإما أن يطرق الباب فيجعل هذا وهذا بابا واحدا، وهذا يُرجعه بالاتفاق إلى دين المشركين، وإما أن يفرق بين هذا وهذا فيتناقض فيدل على بطلان حجته التي ادعاها بقوله أطلبه مما أعطاه الله.
نقف عند هذا إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يمنَّ علينا بشفاعة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
[الأسئلة]
... هم احتجوا قالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطي الشفاعة، على هذا القدر من الإطلاق نقول نعم أعطي الشفاعة، فيقول إذن أنا أطلبه مما أعطاه الله، فإذن لو ما شفع لي يوم القيامة فأطلبه مما أعطاه الله يشفع يوم القيامة، فيقول أيضا الملائكة تشفع يوم القيامة والأفراط يشفعون يوم القيامة أفتطلب منهم الآن أن يشفعوا لك؟ فإذا قال ذلك رجع إلى عبادة المشركين بالاتفاق.
... هذا من عندك، هذا من كِيفِك؛ لأن أهل التوحيد هم الذين يقولون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الملائكة، أما أهل الشرك يعني الأشاعرة والماتريدية فعندهم أن الملائكة أفضل من الأنبياء والمرسلين، وما أحد يحتج منهم بهذا -واضح؟، يعني أنت جمعت بين قولين متناقضين، هم ما يقولون، واضح.
س/ في الحقيقة سؤال غريب لا بأس أن نذكره -ما له علاقة بالدرس يقول: أعتذر عن هذا السؤال فهو خارج عن الدرس، ظهر فلم فيديو بعنوان فاتح القسطنطينية، وفي هذا الفلم يمثلون القائد محمد الفاتح بشكل أفلام كرتونية مع العلم أن هذا القائد شخصية إسلامية، فما حكم...، وقد رأينا بعض طلاب العلم يشاهدون هذا الفلم ويسهرون عليه الليل أغلبه.(17/280)
ج/ ما أظن طالب علم يسهر على هذا اللهو وأمثاله قد يستفيد منه لصغار عنده أو نحو ذلك لكن يسهر عليه ويشاهده هذا ما يصلح أن يكون طالب علم، لأنّ طالب العلم عليه واجبات كثيرة والله جل وعلا يعين الجميع على أدائها.
لكن بالنسبة لتمثيله هذا مختلَف فيه؛ يعني تمثيل مثل الشخصيات هؤلاء مختلف فيه ما بين العلماء منهم من يجيز ومنهم من لا يجيز، أنا ما أعرف هذا الفلم على حقيقته كيف هو.
إيش يعني كرتون، إذا كان رسم تصوير، فالمصوِّر له يأثم لكن المشاهد لما صور لا يأثم؛ لأنه ما دخل في التصوير، هذا يحتاج منكم إلى نظر من نظر إليه يعطينا صفة هذا حتى يكون الحكم فرعا عن التصور.
س/ هل تجوز الشفاعة من الشخص الغائب؟
ج/لا، دعاء الغائب هذا شرك بالله؛ يعني يكون في مكة ويقول يا خالد لا تنسني من دعائك هذا شرك بالله؛ لأنه كيف يصل إلى ذلك.
س/ قال: ما جاء في لامية أبي طالب
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال لليتامى عصمة للأرامل
هل يصح قول من قال فيه استغاثة بغير الله؟
ج/ لا، هو عليه الصلاة والسلام يسأل الله أن يسقي الناس، وهو في حال حياته يدعو من جنس دعائه عليه الصلاة والسلام بالاستسقاء وفيمن طلب منه الدعاء في الدنيا، فهذا له أن يدعو؛ بل قد دعا لعمه ولم يستجب له عليه الصلاة والسلام فيه.
س/ ما الضوابط في أسماء الله الحسنى؟
ج/ الأسماء الحسنى موضع الكلام في درس العقيدة العام يعني كالواسطية والطحاوية وغيره؛ لكن نذكره على عجل.
الأسماء الحسنى هي ما جمع ثلاثة شروط:
الأول مجيئها في الكتاب والسنة.
والثاني أنها هي التي يدعا الله جل وعلا بها.
والثالث هي المشتملة على الكمال المطلق الذي لا نقص فيه.
فما لم تتوفر فيه هذه الشروط الثلاثة جميعا فإنه ليس من السماء الحسنى، قد يكون اسما من أسماء لله لكن لا يكون من الأسماء الحسنى، وقد يكون اسما يخبر به عن الله جل وعلا ولا يكون من الأسماء الحسنى.(17/281)
بالنسبة لدرس يوم الاثنين الزاد لانشغالي ليلة الثلاثاء لفترة تتوقف وأخبركم إن شاء الله باستئنافه، هذا نبهت في أول الدروس لكن بعض الإخوان ما سمعوا صاروا يحضرون جزاهم الله خيرا.
س/ إذا قيل للشهيد أو للرسول عند قبره اشفع لي يوم تبعث فما حكم ذلك؟
ج/ هذا الذي نتكلم فيه من الصباح، هذا هو الذي نتكلم فيه من بعد صلاة العشاء، هو شرك لأنه سأل طلب منه دعاه سأله، هذا شرك.
س/ هذا سائل يقول: مهم. جعل الكتابة بالقلم الأحمر عشان تصير خطر يعني، يقول: ما رأيك فيمن ينسب لشيخ الإسلام ابن تيمية أن سؤال الميت أن يدعو الله لك ليس من الشرك الأكبر بل هو بدعة؟
ج/ هذا جاء في كلام شيخ الإسلام صحيح لكن البدعة يريد بها البدعة الحادثة؛ يعني التي حدثت في هذا الأمة، وليس مراده رحمه الله بالبدعة أنها البدعة التي ليست شركا لأن البدع التي حدثت في الأمة منها بدع كفرية شركية ومها بدع دون ذلك فإذن قوله: وأما سؤال الميت أن يدعو الله للسائل فإنه بدعة. يعني هذا حدث في هذه الأمة حتى أهل الجاهلية ما يفعلون هذا، ما يقولون أدعو الله لنا، إنما يقولون اشفع لنا.
فمسألة أن يطلب من الميت الدعاء هذه بدعة حدثت، حتى المشركين ليست عندهم، وأهل الجاهلية ليست عندهم بل حدثت في هذه الأمة، وإنما كان عند أهل الجاهلية الطلب بلفظ الشفاعة اشفع لنا، يأتون ويتقربون لأجل أن يشفع، يتعبدون لأجل أن يشفع أو يخاطبونه بالشفاعة ويقولون اشفع لنا بكذا وكذا، أما أدع الله لنا هذه بدعة حدثت في الأمة.(17/282)
فكلام شيخ الإسلام صحيح أنها بدعة محدثة، وكونها بدعة لا يعني أن لا تكون شركا أكبر، فبناء القباب على القبور وسؤال أصحابها والتوجه إليها على هذا النحو الذي تراه من مشاهد والحج إلى هذه المشاهد وجعل لها مناسك كلها بدعة، نقول بدعة حدثت في هذه الأمة، وهي يعني سؤال أصحاب هذه المشاهد والذبح لها وعلى هذا النحو الموجود لم يكن موجودا في الجاهلية على هذا النحو، وإنما كانت عبادتهم للأموات على شكل أصنام وأوثان والتجاء للقبور وأشباه ذلك؛ لكن ليس على هذا النحو، فلم يكن أهل الجاهلية يحجون كالحج إلى بيت الله الحرام يحجون إلى مشهد أو إلى قبر أو ما أشبه ذلك.
نقول هذه بدعة؛ لكن هل يعني أن هذا ليس شركا أكبر؛ لا؟ لأن البدع منها ما هو مكفِّر.
س/ ما حكم إطلاق لفظ خير خلق الله جميعا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولفظ سيد الخلق، وحبيب الله والحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؟
ج/ هو عليه السلام هو سيد ولد آدم وأشرف الأنبياء والمرسلين وخير خلق الله جميعا عندنا لأن الصحيح عندنا في مسألة التفضيل بين الملائكة والرسل والأنبياء أنّ الرسل والأنبياء أفضل من الملائكة، ولا نقول البشر أفضل من الملائكة؛ بل نقول الأنبياء والرسل وأولياء الله أفضل من الملائكة، ولهذا يصح أن نقول خير خلق الله محمد عليه الصلاة والسلام، وهو عليه الصلاة والسلام سيد الخلق وهو حبيب الله وخليل الله.
س/ قول القائل: اللهم إني أسألك بحق جبريل عندك أن تفعل لي كذا وكذا هل يجوز؟
ج/ هذا سؤال بالحق وبالجاه وأشباه ذلك وهو سؤال بأمر أجنبي، قد ذكرت لكم أن هذا ممنوع من ثلاثة أوجه ذكرناهم في الدرس الماضي أو في الدرس الذي قبله.(17/283)
فمن سأل الله بحق فلان بحق ملك أو حق نبي سأله بأمر أجنبي عنه، وهؤلاء لهم منزلة عند الله وجاه لكن ليس هذا الحق لك، وسؤالك به سؤال بأمر خارج عنه، فسؤال العبد ربه جل وعلا متوسلا يكون بأسماء الله جل وعلا وبصفاته؛ لأن هذا سؤال بإيمانه بالأسماء والصفات وإيقانه بها وإقراره بذلك ووصف الله جل وعلا بذلك وتسميته بها، وسؤال أيضا بالعمل الصالح تسأل الله جل وعلا بأعمالك الصالحة.
أما سؤالك الله بعمل غيرك الصالح أو بمُقامه عند الله أو بالمنزلة عند الله فهو سؤال بأمر أجنبي ولذلك صار اعتداء في الدعاء وبدعة وخيمة ووسيلة أيضا إلى الشرك.
س/ هل يجوز -لا حول ولا قوة إلا بالله- يقول هل يجوز الاستشفاع بأحد من الخلق مثل طلبة العلم، وهل تأذن لي في الاستشفاع بك في دعائي؟
ج/ نحن نذكر في هذه الدروس من أولها إلى آخرها أن مثل هذا لا يجوز، وأن مثل هذا بدعة، حتى ولو استشفعت بحي سواء كان صالحا وعالما أو من تظن فيه، هذا كله من البدع المحدثة في الدين، إنما تسأل الدعاء على قولٍ بجوازه، تقول يا فلان أدعو الله لي هذا الذي يجوز في الحياة، مثل ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يا عمر لا تنسنا من دعائك».
والعلماء مختلفون هل يجوز طلب الدعاء من الحي مطلقا أم يجوز في بعض الأحوال أم هو مكروه؟ على أقوال.
والسلف الصالح رضوان الله عليهم ما كانوا يأذنون لأحد أن يطلب منهم الدعاء فقد جاء مرة رجل لحذيفة فقال: أدع الله لي. فدعا له فجاءه آخر مرة أخرى فصاح في وجهه فقال: أأنبياء نحن؟ فإذا ساغ مرة فلا يسوغ أن يؤتى فلانا حتى ولو كان صالحا أو عالما أو كان يَظن فيه هذا ظن خير أن يطلب منه الدعاء دائما، والمسؤول الدعاء أيضا يجب عليه أن ينكر مثل ما أنكر حذيفة، حتى لا تتعلق القلوب بغير الله، مرة يحصل ذلك فلا بأس.(17/284)
إلا في حال ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: إن طلب الدعاء يجوز إذا كان من طلب الدعاء من غيره يريد منفعة ذلك الغير ولا يريد منفعة نفسه، وعلى هذا يحمل طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من عمر أن يدعو له؛ لأن هذا فيه إحسان إلى السائل، فإذا أردت لفلان مثلا من الناس أن يدعو لك لكي ينتفع هو بتأمين الملائكة له بقولهم: ولك بمثل هذا. وأشباه ذلك، يقول شيخ الإسلام هذا هو الجائز.
أما الدعاء أصلا يا فلان أدعو الله لي لا تنسنا من دعائك ونحو ذلك فيقول شيخ الإسلام: هو مكروه.
وإن قيل بجوازه فإنه ليس على وجه الديمومة.
أما أن يقول الطالب في دعائه: أستشفع بفلان أو يا فلان اشفع لي وهو غائب فهذا شرك بالله جل وعلا ولا يجوز أن يحوم حول مثل هذه المعاني ذهن طالب علم أو موحد، ولو قيل مثل هذا لعامي من العامة من أهل نجد أو من غيرهم ممن عرفوا التوحيد لصاح في وجه من قال هذا؛ لأن هذا هو الشرك أو وسيلة الشرك.
فينبغي أن يُنتبه لمداخل الشيطان على النفوس.
س/ ما الفرق بين قول القائل: اللهم مُنّ علينا بشفاعة نبيك وبين سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة؟
ج/ مثل ما ذكر الشيخ محمد رحمه الله: تطلب الشفاعة من الله، تسأل الله أن يُشفِّع فيك نبيه، فإذن طلبت الشفاعة ممن يملكها وهو الله جل وعلا، أما إذا طلبت الشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد دعوته عليه الصلاة والسلام ودعوة غير الله شرك، ثم سألته الشفاعة وهو بعد موته عليه الصلاة والسلام لا يملك أن يشفع حتى يأذن الله جل وعلا له، والله جل وعلا لا يأذن في هذه الصورة.
وطلب الشفاعة منه عليه الصلاة والسلام هو الذي بحثناه في هذه الجلسة من أولها.
س/ كيف يكون الذي يطلب الشفاعة من الملائكة كافر بالاتفاق، مع أن هناك من لا يقر أن عبادة المشركين للملائكة هي بالدعاء؟(17/285)
ج/ أنا لا أذكر أحدا من أهل العلم -يعني من المفسرين- قال: إن تعبد المشركين من أهل الجاهلية بالملائكة أنه ليس بالدعاء، لا أعرف من قال بغيرها؛ يعني على ظاهر السؤال هناك من لا يقر أنَّ عابدة المشركين للملائكة هي الدعاء لا أدري من قال هذا، لعل السائل يفيدنا فإذا كان هناك من يقول به من الأولين يعني من السلف أو من المتأخرين فإنه يمكن حصر الإجماع في فترة زمنية، أما على علمي فإنه لا أحد قال إنّ العرب مثَّلت الملائكة على صور على أصنام وإنما يدعون الملائكة ويطلبون منهم كما قال جل وعلا ?وَيَوْمَ يحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41].
س/ هل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعمر «لا تنسنا يا أخي من دعائك» ثابت؟
ج/ رواه أبو داوود والترمذي وجماعة وإسناده ضعيف.
س/ هل جميع أنواع الشفاعة التي ذكرها الشيخ في كتاب التوحيد ثابتة في الكتاب والسنة؟
ج/ ما أدري إيش يعني كتاب التوحيد، كتاب التوحيد ما ذكر فيه أنواع الشفاعة، أنواع الشفاعة مذكورة في الواسطية وفي كتب العقيدة العامة.
في شرح كتاب التوحيد؟
إذا كان في الشرح نعم ثابتة.
س/ لو بلغ شخصا خبرٌ يسره فقال للذي أعلمه: أشكر حياتك. فما حكم قول هذه العبارة؟
ج/ يعني أشكرك ما فيه بأس إن شاء الله.
س/ قوله جل وعلا ?وَالذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهُمْ وَيُصْلِحْ بَالَهُمْ?[محمد:4-5]، قرأت في أحد مختصرات التفسير أن معنى (سَيَهْدِيهُمْ) إلى العمل فكيف يكون العمل بعد الموت؟(17/286)
ج/ هذا أحد الأقوال في الآية وهو أن قوله تعالى (سَيَهْدِيهُمْ) يعني في الدنيا وأن مجيء السين فيها مع إفادتها التعقيب هذا باعتبار القَدَر يعني (وَالذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قدرا يعني بما مضى في علم الله، (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4)سَيَهْدِيهُمْ) في الدنيا ويبين لهم الطريق هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق.
والقول الثاني وهو الصحيح أن الهداية هنا هداية في الآخرة لطريق الجنة فهو ليس اعتبار القتل هنا اعتبار قدري سابق بل هو اعتبار بالواقع فقوله (وَالذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني فحصل لهم القتل (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) يعني أن الله جل وعلا يبارك عملهم القليل وينمي لهم عملهم إلى يوم القيامة كما ثبت في الحديث «أن الشهيد ينمى له عمله إلى يوم القيامة»، قال (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهُمْ) يعني في الآخرة ويصلح بالهم الهداية إلى طريق الجنة يعني سيهديهم على الصراط لأن هذا هو النوع الرابع من أنواع الهداية عند أهل السنة وهو هداية أهل الجنة لطريق الجنة وهداية أهل النار للنار، ففي أهل الجنة في الشهداء قال هنا ?سَيَهْدِيهُمْ وَيُصْلِحْ بَالَهُمْ(5)وَيُدْخِلُهُمْ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ?[محمد:5-6]؛ يعني بعد أن يهدوا إلى طريق الجنة.
في الهداية إلى النار قال جل وعلا في سورة الصافات ?فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ(23) وَقِفُوهُمْ إِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ(24)مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ?[الصافات:23-25] الآيات.
س/ من يرى عليه سمات الصلاح تقول العامة لها زرنا تحصل البركة، هل هذا جائز؟
ج/ البركة كما هو معلوم نوعان: بركة ذات، وبركة عمل وإيمان وصلاح.(17/287)
بركة الذات: بمعنى أن أجزاء الذات تكون مباركة، فإذا لمست هذا المبارك الذات انتقلت لك بركة وحصل لك بركة وانتفاع من ذاته -من شعره من عرقه من بدنه-، فهذه ليست إلا للأنبياء والمرسلين، فهم الذين يتبرك بذواتهم بعرقهم ببقية سورهم بدمهم إلى آخره، فهذا لا بأس به، كما جاء ذلك في السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والنوع الثاني من البركة بركة عمل: وهذه لكل مؤمن بركة راجعة إلى عمله الصالح وذلك من جهة إيمانه وتقواه وصلاحه وعمله الصالح، فلكل مؤمن بركة بقدر ما عنده من الإيمان والعمل الصالح، مثل ما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره أن أُسيد قال لأبي بكر لما نزلت آية التيمم في قصة عائشة المعروفة تخفيفا على الأمة قال: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر. وثبت أيضا في البخاري وفي غيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن من الشجر شجرة بركتها كبركة المسلم» فدل على أن كل مسلم فيه وله بركة، ولما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - صفية وأعتق قومها وجعل عتقهم صداقها قال: فلم تكن -أو معنى ما جاء- لم تكن امرأة لها بركة على قومها أعظم من بركة صفية. فدل هذا على أن كل مؤمن له بركة؛ بركة عمل.
فإذن إذا أتى رجل صالح أو زارك أحد من إخوان المؤمنين وقال قائل: حلت البركة أو جاءت البركة يعني أن هذا الزيارة عمل صالح والعمل الصالح مبارك، وهذا العبد الصالح إذا جاء، وقال القائل: حلت البركة؛ يعني لأنه إذا جاء العبد الصالح فإنه سيشغل أهل البيت في زيارته لهم بما ينفعهم في آخرتهم فهذه من بركة إيمانه وعمله الصالح فلا بأس.
أما بركة الذات فليست إلا للأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه.
في هذا القدر كفاية، وأسأل الله لي ولكم المغفرة والعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد.([48])
??¹™™
[المتن](17/288)
فإن قال: أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا؛ ولكن الالتجاء إلى الصّالحين ليس بشرك. فقل له: إذا كنت تقر أن الله حرّم الشرك أعظم من تحريم الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري فقل له: كيف تبرئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ أم كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ أتظن أن الله يحرّمه ولا يبيّنه لنا؟
فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام.
فقل له: ما معنى عبادة الأصنام؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبّر أمر من دعاها؟ فهذا يكذّبه القرآن، كما في قوله تعالى ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ?[يونس:31]،الآية.
وإن قال: هو من قصد خشبةً أو حجرًا أو بِنْيَةً على قبرٍ أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له يقولون: إنه يقربنا إلى الله زلفى، ويدفع الله عنا ببركته أو يعطينا ببركته، فقل: صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها. فهذا أقرّ أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب.
ويقال له أيضًا: قولك: (الشرك عبادة الأصنام) هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصّالحين ودعاءَهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يردّه ما ذكره الله في كتابه من كُفْر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصّالحين، فلا بد أن يُقِرّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهذا هو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.
وسر المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله. فقل له: وما الشرك بالله، فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام. فقل: وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي، فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده، فقل: ما معنى عبادة الله وحده فسرها لي؟ فإن فسّرها بما بيّنه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدَّعي شيئًا وهو لا يعرفه؟(17/289)
وإن فسر ذلك بغير معناه، بيّنتَ له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان أنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي يُنكرون علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا: ?أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5].
[فإن قال: إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله، فإنّا لم نقل عبد القادر ابن الله وغيره.
فالجواب: إن نسبة الولد إلى الله كفر مستقل ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ?[الصمد:1-2]والأحد الذي لا نظير له والصمد المقصود في الحوائج، فمن جحد هذا فقد كفر ولو لم يجحد السورة، وقال تعالى ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91]، ففرق بين النوعين، وجعل كلاَّ منهما كفرا مستقلا وقال تعالى ?وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ?[الأنعام:100]، ففرق بين كفرين، والدليل على هذا أيضا أن الذين كفروا بدعاء اللاتّ -مع كونه رجلا صالحا- لم يجعلوه ابن الله، والذين كفروا بالجن لم يجعلوهم كذلك، وكذلك أيضا العلماء في جميع المذاهب الأربعة يذكرون في باب حكم المرتد أنّ المسلم إذا زعم أن لله ولدا فهو مرتد، ويفرقون بين النوعين وهذا في غاية الوضوح.] ([49])
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا من العلم والعمل، يا أرحم الراحمين.
ربَّنا لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، لا حول لنا ولا قوة لنا إلا بك.
اللهم كما علمت العلماء فعلمنا وكما فهمتهم ففهمنا، ألحقنا بزمرة ورثة الأنبياء، يا أرحم الراحمين.
أما بعد:(17/290)
فهذا الكلام الذي سمعناه جواب على شبهة أدلى بها طائفة أخرى، وهذه الشبه التي ذكرها الشيخ رحمه الله تجد فيها تكريرا؛ وذلك أنه أورد ما أورده الناس من الشبه على التوحيد،وقد يكون ما قاله فلان يدخل بعضه في ما قاله الآخر، ولهذا ترى أنه فيها نوع تكرير ونوع إعادة؛ لأن الشبه متداخلة، وهذا يدلّ على أن القوم يتواردون على شبه أصلها واحد.
فإذا أحْكم طالب العلم المقدمات التي ذكرناها في أول هذا الشرح وجواب الشبه الثلاث التي هي أكبر ما عندهم، سَهُل عليه الجواب عن الشبه الأخرى مهما اختلفت وتلوَّنت، وهذا الذي ذُكر هنا جواب الشبهة التي يمكن أن تُعَنْوَنَ بقولهم: الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، وأنّ الشرك مخصوص بعبادة الأصنام.
وفي الحقيقة أنّ الذين عبدوا غير الله جل وعلا لا يعرفون معنى الشرك؛ كجهلهم بعلوم الشريعة وبأصول الدين، فإنهم لا يعرفون معنى العبادة، ولا يعلمون معنى الشرك ولا يعلمون معنى التوحيد، لهذا قد ينكرون شيئا وهم واقعون فيه، وقد ذكر الشوكاني رحمه الله في رسالته الدّر النضيد([50]) أن عُبّاد القبور عندهم تغيير للأسماء، فيسمونها بغير اسمها؛ فيسمون الشرك توسلا، ويسمون طلب الشفاعة من الأولياء توسلا، ويسمون إنزال الحاجات بالأولياء والأنبياء التجاءً إلى الصالحين؛ لأنَّهم عند الله جل وعلا لهم المقامات العالية وأشباه ذلك، قال الشوكاني: وهذا لا يغير من الحقائق شيئا إذِ العبرة بالحقائق لا بالأسماء، العبرة بالمسميات لا بالأسماء. فلو سُميت الخمر ماءً -هذه تتمة من عندي- فلو سميت الخمر ماء فإنها خمر، ولو سميت سرقة الأموال إنها هدايا فإنها سرقة، فالأسماء لا تغيِّر في الأحكام الشرعية، إذ الأحكام مرتبطة بحقائق الأمور، فإذا وجدت حقيقة الأمر الذي حرّمه الشرع أو أمر به الشرع فإنه هو المقصود بالتحريم وهو المقصود بالأمر وإن اختلفت الأسماء إذْ لا عبرة باختلاف الأسماء.(17/291)
هنا تفريعا على ذلك قال الإمام رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة (فإن قال) يعني المُدلي بالشبهة (أنا لاَ أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا) وهذا صنيع كل من يعبد غير الله يعبد الأولياء والأنبياء ويتقرب إليهم أو يتقرب إلى المشاهد أو إلى الجن أو إلى ما شابه ذلك من أنواع المعبودات من دون الله، كلهم يقولون: نحن لا نشرك. إذْ لا أحد يقر على نفسه بالشرك والكفر.
قال (فإن قال) يعني بعد ما ذكرنا من مسألة الشفاعة أو من أدلى بهذه الشبهة (أنا لا أشرك بالله شيئًا حاشا وكلا) يعني أنا لستُ من المشركين وعندي إباء أن أكون من أهل الشرك أو أن أفعل الشرك، فحاشا وكلا أن أشرك بالله شيئا، لِم؟ قال لأن (الالتجاء إلى الصّالحين ليس بشرك).
فإذن رجع أمر هذه الطائفة إلى أنهم يتبرؤون من شيء يفعلونه، وإذا كان هذا المتبرّأ منه من أصول الدين من التوحيد، فإن فعله يدل على أنهم لم يعلموا معنى الشرك ومعنى التوحيد، فلابد لهم إذن من إقامة الحجة؛ لأنه ينفي عن نفسه أن يكون من المشركين ويكره الشرك ويكره الكفر؛ لكنه واقع فيه، فلابد من البيان لهم والتعليم وإقامة الحجة عليه في أنَّ ما يفعله داخل فيما نفاه عن نفسه.
قال رحمه الله (فقل له) هذا ابتداء جواب الشبهة (إذا كنت تُقِرُّ أن الله حرّم الشرك أعظم من الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره) إلى آخر الكلام هذا الجواب للشبهة ملني على مراتب:
الأولى: هذه المرتبة التي سمعتَ وهي أن يُطلب منه تفسير الشرك، ما هو هذا الشرك الذي لا يغفره الله وأنت تنفيه عن نفسك؟ هاتِ معنى الشرك.
المرتبة الثانية: أن يفسر الشرك بعبادة الأصنام؛ فيُسأل ما معنى عبادة الأصنام؟
الثالثة: هل الشرك مخصوص بعبادة الأصنام أم لا؟(17/292)
فهذه ثلاث مراتب لجواب هذا الإشكال فمن قال إن التوسل بالصالحين ليس بشرك يعني التوسل الشركي الذي يفعله عباد القبور والخرافيون ويعدونه توسلا وهو دعاء غير الله جل وعلا وطلب الشفاعة من الأموات هذا مبني على هذه الثلاث مراتب، فنأتيها واحدة واحدة.
فالأولى: قال الشيخ رحمه الله (إذا كنت تقر أن الله حرّم الشرك أعظم من الزنى، وتقرُّ أن الله لا يغفره، فما هذا الأمر الذي حرمه الله وذكر أنه لا يغفره؟ فإنه لا يدري) هذا تنزيل لطائفة إذا قلت له: ما هذا الشرك الذي حرمه الله وعظمه بين أنه لا يغفره وأن أعظم من الزنى ومن شرب الخمر ومن إتيان المحارم إلى غير ذلك فطائفة منهم يقولون لا ندري، ما هذا الشرك لا نعلم ما هذا الشرك.
فإذن هذه الطائفة يقال لها: كيف تُبرِّئ نفسك من الشرك وأنت لا تعرفه؟ إذا كنت لا تعرف حقيقة الشرك فكيف تقول: أنا لا أشرك بالله شيئا ومعلوم أن المشركين الذين بعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفون عن نفسهم الكفر وينفون عن أنفسهم الشرك بالله جل وعلا؛ لأن هذا الشريك الذي دعوه مع الله جل وعلا هو لله جل وعلا فنفوا أن يكونوا مشركين على الحقيقة، مثل ما قال قائلهم وهو يُلَبِّي: إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فإذا كان الشريك لله فإن سؤاله لا يعد سؤالا لأحد غير الله جل وعلا، مثل اعتقاد النصارى واعتقاد الملائكة أنها بنات الله وكذلك الاعتقاد في الأصنام والأوثان.
وهم إذن لا أحد يُقِرُّ على ننفسه أنه مشرك مطلقا، إذْ يلزم من ذلك أن الشرك المطلق يعني أنه يقرّ بأن ثمة مصرّف للأمور غير الرب جل وعلا، والمشركون مُقِرُّون بأن المصرف للأمور هو الله جل وعلا وحده، إذ يلزم لازما عقليا واضحا وأيضا شرعيا أنّ من اعتقد مع الله إله آخر يلزمه أن يعتقد أنه ربٌّ وأنه يعطي ويمنع وأنه هو الذي يسخِّر الأمر يدبر الأمر وهو الذي يسخر السحاب وينزل المطر.(17/293)
ولهذا تجد أن في القرآن كثيرا ما يحتج على المشركين بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية.
فهم خروجًا من هذا الإلزام قالوا: إن هذه الآلهة لله جل وعلا فهو يملكها وهي تحت تصرفه، وهم ينقلون ما يحتاجه خلقه إلى الله جل وعلا، مثل ما فعل غلاة المتصوفة حيث قالوا: إن العالَم له أقطاب أربعة فوَّض الله إليهم رفع حاجات أهل الأرض، فالقطب الفلاني في مصر، والقطب الثاني في الهند، والقطب الثالث في الشمال، والقطب الرابع في الجنوب؛ يعني أن هؤلاء فوّض الله إليهم أمر رفع الحاجات.
فنخلص من ذلك: أن من وقع في الشرك فإنه قد يقول أنا لم أقع في الشرك وحاشاي أن أشرك، فإذا طُلِب منه تفسير الشرك لم يعرف تفسيره، وهذه مرتبة العوام، فهؤلاء جوابهم أن يقال: كيف تبرئ نفسك من شيء وأنت لا تعرفه؟ كيف تبرئ نفسك من الشرك، وأنت لا تعرفه؟ كيف يحرم الله عليك هذا ويذكر أنه لا يغفره ولا تسأل عنه ولا تعرفه؟ لا شك أنّ هذا يدل على عدم رغبة في الخير؛ بل يدلّ عدم معرفة وعلم بما خلق الله جل وعلا العباد له، فإنه إذا علم أن الشرك محرم وأنه لا يغفره الله وأن أهله مخلدون في النار إن لم يتوبوا، فكيف يقول أنا لا أعرف هذا الشرك؟ فهذا إعراض عن الدين كما قال الله جل وعلا ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ?[الأنبياء:24]،
فإذن لا تسأله عنه؟ كيف تَتَعَرَّفه؟ (أتظن أن الله يحرمه ولا يبينه لنا؟) وهذا في الحقيقة جواب يصلح للعوام؛ لأن العامي لا يصلح له ما يصلح لمن يجادل ببعض الشبه العلمية، فهذا يقول: أنا لا أشرك. فتسأله عن الشرك فيقول: أنا لا أعرفه. فيقال له كيف تنفي عن نفسك شيئا وأنت لا تعرفه؟(17/294)
فهذا يكفي في جواب هذا العامي أن يجعلك معلما له، وكما ذكرنا لك في السابق إذا استطعت في مجادلة عوام المشركين في أنْ تجعلهم في مرتبة أدنى منك فتكون معلما بحسن عبارة في أن تجرَّه إلى أن يعترف على نفسه بالجهل، ثم تنتقل من مناظر إلى معلم، فهذا من أعظم الوسائل للإقناع ولإحداث الخير وإقامة الحجة وبيان المَحَجَّة، فلا ينزل العالم العامي منزلة العالم، لا ينزل من هو خال من الحجة أصلا جاهل من هو عنده شبه، فإذا عاملتَ هذا معاملة هذا فإنك تخسر؛ بل ينبغي أن تسلك ما ذكره الشيخ رحمه الله هنا في أن تطلب منه تفسير الشيء فإذا كان عنده علم ناقشه برد تفسيره، وإذا لم يكن عنده علم فتقول له: كيف تكون على هذه الحال تنفي عن نفسك شيئا وأنت واقع فيه وأنت جاهل بمعناه.
فإذن تنتقل معه إلى التعليم لهذا تقول له كما قال الشيخ رحمه الله (أتظن أنَّ الله يحرّمه ولا يبيّنه لنا؟) فلا شك أنه سيقول: لا، إنّ الله إذا حرّم علينا هذا فهو سيبينه لنا وستبدأ معه في بيان التوحيد ومعنى لا إله إلا الله والشرك والكفر بالطاغوت والعبادة إلى غير ذلك.
ثم قال وهي المرتبة الثانية في أناس من أهل هذه الشبهة وهم الذي قولون: نحن لسنا مشركين وحاشانا من ذلك والالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، أهل المرتبة الثانية من هذه الطائفة هم الذين يقولون (الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام) تلحظ أن هذه الكلمة مرت معنا في شبهة قبل ذلك؛ لكنها مرتبة لطائفة ممن يقولون الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، والشيخ رحمه الله كرّر لأن المقام يحتاج إلى هذا؛ لأن هؤلاء يدخلون تحت مَظَلَّة من يقول الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك، وأولئك يدخلون تحت مظلة الشفاعة يعني طلب الشفاعة من الأموات، وآخرون يدخلون تحت مظلة أخرى.
إذن أصول الشبهات مختلفة وقد يختلف أهلها في الإيراد في طوائف منهم كما يمر معنا هنا.(17/295)
إذن فهؤلاء طائفة ثانية مرتبة ثانية من أهل هذه الشبهة قال الشيخ رحمه الله (فإن قال: الشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام) قد يكون لُقِّنَ هذه الحجة فيكون عاميا وقد يكون عنده شبهة في هذه المسألة؛ لأن الشرك إنما هو عبادة الأصنام، ولذلك احتاج إلى التفصيل (فقل [له]: وما معنى عبادة الأصنام؟) تسأله ما معنى عبادة الأصنام:
إما أن يقول: لا أعرف معنى عبادة الأصنام.
وإما أن يقول: عبادة الأصنام هي كذا وكذا.
فإن قال: لا أعلم معنى عبادة الأصنام، فنقول له" كيف تفسر شيئا بشيء وتحتج عليه وأنت لا تعلمه؟ فإذا سكت فإنك تدلي عليه معنى عبادة الأصنام.
فإن قال: معنى عبادة الأصنام أنهم يتوجهون إلى هذا الحجر بسؤاله فهو يعتقدون في الأحجار لأنها أحجار، فتقول له مثل ما قال الشيخ هنا (أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق وتدبّر أمر من دعاها؟) فتسأله هؤلاء الذين عبدوا الأصنام كيف عبدوها؟ وكيف سُمُّوا عبدة للأصنام؟
فإما أن يقول لأنهم اعتقدوا فيها الخلق والرزق والإحياء والإماتة فتقول له: هذا يكذبه القرآن وتسرد له الآيات مثل ما قال الشيخ (كما في قوله تعالى ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ?الآية) الآية في يونس ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31]؛ يعني إذا كنتم مقرِّين بتوحيد الربوبية أفلا تتقون الله في إشراككم معه آلهة أخرى، فهذا نوع، إذا قال: اعتقدوا فيها أنها تخلق وترزق وتنفع وتضر وترسل المطر إذا غير ذلك فقل هذا بكذبه القرآن وتسرد له الأدلة.(17/296)
(وإن قال) هذا احتمال ثاني (وإن قال: هو من قصد خشبةً أو حجرًا أو بِنْيَةً على قبرٍ أو غيره يدعون ذلك ويذبحون له) فإنه قد يقول هذا نتيجة لعلم له بحال المشركين؛ لأنه يقصد الخشبة يقصد الحجر يقصد البنية على القبر على أنواع من أشرك بهم في الجاهلية يدعون ذلك، مثل ما أخبر الله جل وعلا في كتابه بقوله ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65]، فإذن صار الشرك دعاء لأنه قال (دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ) ثم قال (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) يعني الشرك في الدعاء، فإذا فسره بهذا التفسير بأنه قصد الخشبة أو الحجر أو البنية على قبر؛ يعني قصد هذه الأشياء لم يقصد من في القبر قصد الخشب قصد الحجر قصد نفس البناء (يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفا ويدفع عنا ببركته ويعطينا ببركته فقل صدقتَ) هذا هو الشرك، وهم ما قصدوا خشبة يدعونها لاعتقاد في الخشبة؛ بل لاعتقاد في الروح التي تحُلُّ في الخشب حين السؤال، فالمشركون يعتقدون أنّه إذا سُئلت الخشبة التي هي ممثلة على صورة كوكب من الكواكب المؤثرة - في اعتقادهم- أو على صورة ملك، أو على صورة نبي، أو على صورة ولي، أو على صورة صالح، أو على صورة من يعتقدون فيه، فإن هذا الصنم أو الوثن إذا سئل تكلم، وهذا الكلام منه إنما هو من شيطان، فهم يعتقدون أنهم إذا خاطبوه ودعوه فإن رَوْحانية هذا الكوكب تتكلم، أو روحانية الملك، تتكلم أو روحانية الولي أو النبي تتكلم، حتى ربما إنه ينطق الجني على لسان الميت وهم يعرفون أن هذا هو كلامه، فيقول سمعنا من القبر كذا وكذا وكذا بصوت الولي فلان الذي نعرفه، ويكونون قد صدقوا فيما سمعوا لأنهم سمعوا صوت الولي نفسِه؛ ولكنه لم يسمعوا الولي نفسَه، وإنما سمعوا صوته الذي قلّده الشيطان والجني،(17/297)
ومعلوم أن شياطين الجن عندها قدرة على التشكّل بالصور، وعندها قدرة على التشكل في الأصوات، وعندها قدرة أيضا على أن تنزل الأشياء على غير حقيقتها، وهذا مما أقدرهم الله جل وعلا عليه ليحصل الابتلاء وتحصل الفتنة، فإبليس عليه لعنة الله حصل منه ما حصل من التشكل في صورة رجل وصورة شيخ نجدي عند المشركين إلى آخره وفي يوم بدر كذلك، والجن يتشكلون ربما أتاك جني في صورة آدمي وأنت لا تعلم، ربما تكلم من تكلم بصوت وهو شيطان.
فإذن ما يذكرونه من أنهم حين يسألون الأخشاب أو الأحجار أو الغرف التي على القبور أو المشاهد أو يأتون إلى القبر وأن هناك من تكلم وقال سَأُلبِّي حاجتكم أو أمرهم بأشياء فهم صادقون لكن هذا من الجن ودخلوهم في هذا الأمر إنما من جراء الشرك بالله جل وعلا، كما قال سبحانه في آخر سورة سبإ ?بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41] يعني في الحقيقة مع أنهم إنما دعوا الملائكة ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ?[سبإ:40] لأنهم كانوا يطلبون من الملائكة، وقالت الملائكة ?سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ? يعني في الحقيقة أنهم كانوا يعبدون الجن؛ لأن الذي تكلم وخاطبهم هو الجني وهم تقربوا لمن خاطبهم وهو الجني، وفي الحقيقة العبادة توجهت للجن لا إلى الملائكة كما قال جل وعلا ? بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41]، وكما قال سبحانه في سورة الأنعام ?وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ?[الأنعام:100]، (جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ) فالجن اتخذوا له شركاء، وإن لم يعتقدوا ذلك هم أنهم عبدوا الصنم يعني عبدوا الجن لكن في الحقيقة هم عبدوا ذلك واتخذوهم شركاء.(17/298)
فإذن فتقول له: صدقت في أنهم قصدوها يدعونها ويذبحون لها ويقولون إنها تقربنا إلى الله زلفا ويُدفع عنا ببركتها ويعطينا الله ببركتها.
مثل ما قال بعضهم لبعض الموحدين من نحو أكثر من مائة سنة، قابل رجل من المشركين فقال له الموحد: كثير من أهل الطائف لا يعرفون الله إنما يعرفون قبر ابن عباس، فأجابه المشرك بقوله: معرفة ابن عباس تكفيهم، معرفة ابن عباس تكفيهم.لم؟ لهذا الأمر؛ لأنهم إذا توجهوا إلى ابن عباس معناه توجهوا إلى الله جل وعلا مثل ما قال هذا القائل.
(فقل له صدقت، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها) إذا أتوا إلى البنايات التي على القبور، أكثر القبور الآن التي بنيت عليها بنايات لا يوصل إلى القبر ولا يُخلص إليه، وإنما هم يدعون ويعتقدون ويتمسحون ويطلبون بركة هذه النية وفي قلبهم من في هذا القبر وقد لا يكون في القبر أحد أصلا أو يكون فيه مشرك أو يكون فيه حيوان ونحو ذلك، يكون قد دفن في هذا واعتقد فيه.
فإذن الذي سأله هؤلاء الأولون عند الأصنام والأوثان والخشب والحجر والبنايات التي على القبور هو الذي فعله أهل هذه الأزمان عند البنايات التي على القبور، (فقل له: صدقت وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور [وغيرها]. فهذا إن أقر أن فعلهم فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب) وهذه حجة واضحة بينة.
إن كابر وقال: لسنا معتقدين فيهم الاستقلال؛ بل نعتقد فيهم الأسباب مثل ما يقول طائفة يقولون: نحن لا نعتقد أنهم يعطوننا استقلالا ولا يغفرون لنا ولا يشفون مرضانا ولا يدفعون عنا الضر بأنفسهم وإنما هم أسباب، فكما أن الله جل وعلا جعل أسبابا تقينا الحر وأسبابا تقينا البرد وأسبابا تقينا كذا وأسبابا تجلب لنا كذا وكذا فإن الله جل وعلا جعل هؤلاء أسبابا.(17/299)
فيجاب بما أجبته لك مفصلا من قبل ومطولا، فيجاب بأن هذا السبب هو عينه الذي تعلق به المشركون، فإنهم قالوا: ما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. وهذا هو معنى السببية بنفسها، وهذا هو معنى طلب الوساطة وطلب الجاه.
(ويقال له أيضًا) وهذه الفئة الثالثة من أهل هذه الشبهة، (قولك) واضح التعلق بين هذا القول وبين قوله (الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك)؛ لأن الالتجاء معناه عندهم الدعاء؛ دعاء الصالحين، طلب بركة الصالحين بسؤالهم، وطلب الشفاعة عندهم، الالتجاء إليهم بالذبح لهم مثل ما فسره هنا.
فإذن قوله الالتجاء مساو لقوله (يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون إنه يقربنا إلى الله زلفا ويدفع الله عنا ببركته ويعطينا ببركته) هذا هو الالتجاء إلى الصالحين، وهذا هو عين ما يُفعل عند الأصنام والأوثان والآلهة المختلفة.
(ويقال له أيضا قولك الشرك عبادة الأصنام)، هذا تتمة لهذا الجواب (هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا) هذا تتمة لهذا الجواب لكنه في طائفة ثالثة؛ فيمن يقول الشرك مخصوص بعبادة الأصنام (هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصّالحين ودعاءَهم لا يدخل في ذلك؟) فإذا قال: نعم الشرك مخصوص بعبادة الأصنام، (فهذا يردّه ما ذكره الله في كتابه من كُفْر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصّالحين) وهذا قد قدمناه بوضوح في أن أنواع الشرك عند أهل الجاهلية متنوعة ليست نوعا واحدا، فمنها الأصنام وفيها أدلة في القرآن كثيرة، ومنها الأوثان المصورة الأنبياء الأولياء وما شابه ذلك، ومنها الاعتقاد في الأحجار والأشجار المصورة على صور الكواكب وأشباه ذلك.(17/300)
قال (فهذا يردّه ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصّالحين، فلا بد أن يقِرَّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.) يعني تقول لهذا الذي قال الشرك مخصوص بعبادة الأصنام هل عيسى عليه السلام أُشرك به أم لا؟ فإن قال: لا. فقل بل أُشرك به كما قال جل وعلا في القرآن ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[المائدة:116]، وكذلك كقوله جل وعلا ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إلهاً?[التوبة:31] والآيات في هذا الباب كثيرة.
فإذن قل هل عيسى عبد عليه السلام واتخذ إلها أم لا؟
· فإن قال: لا. بيّن له الآيات.
· وإن قال: نعم. فهو المقصود أيضا.
وعلى كل من الاحتمالين مع الجواب فإنه يردّ هذا تخصيصه الشرك بعبادة الأصنام، وهذه الكلمة الشرك عبادة الأصنام تراها في كثير من تفاسير المتأخرين، فقلّ أن ترى تفسيرا من تفاسير المتأخرين إلا وإذا ذُكر الشرك بالله في القرآن وعبادة غير الله فسروها بأنها عبادة الأصنام، والمفسرون الأولون كالإمام ابن جرير رحمه الله تعالى وكغيره من الأئمة يفسِّرون الشرك حيث ورد بعبادة غير الله بأنواع ما ورد، فيكثر أن يقول ابن جرير رحمه الله تعالى نهى الله عن الشرك به ودعوة غيره من الأصنام والأوثان والأنداد، ابن جرير يكثر من هذه الثلاثة الأصنام والأوثان والأنداد لأنها أنواع ما جاء في القرآن.(17/301)
قال (فلا بد أن يُقِرَّ لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهو الشرك) فهو إذن يكون قوله: الشرك مخصوص بعبادة الأصنام. يكون غلطا فتقول له إذن (فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحدًا من الصّالحين فهو الشرك المذكور في القرآن وهذا هو المطلوب.)
قال رحمه الله (وسِرّ المسألة أنه إذا قال: أنا لا أشرك بالله فقل له: وما الشرك بالله، فسره لي؟ فإن قال: هو عبادة الأصنام فقل وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي: فإن قال: أنا لا أعبد إلا الله وحده، فقل: ما معنى عبادة الله وحده فسرها لي؟ فإن فسّرها بما بيّنه القرآن فهو المطلوب، وإن لم يعرفه فكيف يدَّعي شيئًا وهو لا يعرفه؟ وإن فسر ذلك بغير معناه، بيّنت له الآيات الواضحات) يبين لك الشيخ رحمه الله أن سِرّ إقامة الحجة وكشف الشبهة في هذه المسألة مبني على هذه المراتب التي ذكر.
(سر المسألة) يعني سر مسألة جواب هذه الشبهة أن تقول (إذا قال: أنا لا أشرك بالله. فقل له: وما الشرك بالله؟) لكن أن تسأل ما هذا الذي نفيته؟ (إن قال: هو عبادة الأصنام. فقل: ما عبادة الأصنام؟)، (إن قال أنا لا أعبد إلا الله فقل ما عبادة الله وحده؟) فدائما تجعله جاهلا بمعنى تجره إلى ميدان الجهل حتى يقول: أنا جاهل، فإن قال: أنا جاهل. فتنتقل معه من الحجاج إلى التعليم.
وإن فسرها هذا نوع ثاني من الناس إن فسرها بما في القرآن لكنه جهل أو اشتبه عليه دخول المعاصرين وعبادة غير الله في هذه الأزمنة بما جاء في القرآن، ففسرها بما في القرآن، فتقول هذا هو المطلوب فتبيِّن له وجه الشبه.
إن فسر ذلك -هذه الحال الثالثة- بغير معناه، وهذه خاصة بأهل العلم ومن يُدلون بالشبه من المنتسبين إلى العلم وعلمهم غير نافع، إن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحة في معنى الشرك بالله.(17/302)
إن فسر الشرك بغير معناه الصحيح تذكر له الآيات الواضحة في معنى الشرك، وأنّ الشرك يكون بأنواع كما جاء في القرآن وكما بينه الشيخ رحمه الله في كتاب التوحيد.
بيّن له معنى عبادة الأوثان، فإذا بينت له ذلك يتضح (أنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرونها علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا ?أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5])
قال رحمه الله بعد ذلك (فإن قال) هذا دخول في شبهة جديدة، (فإن قال) يعني نوع من موردي الشبه (إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء) هذا نوع من الناس يقول: لا كفرهم كان بشيء آخر ليس بالشرك بالله ولا بالتوجه بالصالحين ولا التوجه للأنبياء، هذه الأمور جائزة؛ لكن كفرهم كان بشيء آخر ما هذا الشيء؟
قال (وإنما يكفرون لما قالوا: الملائكة بنات الله، فإنّا لم نقل عبد القادر ابن الله ولا غيره) وهذه كثير ما يوردها الصوفية في أن الأولين كفروا باعتقادهم أن الملائكة بنات الله جل وعلا، وهذا الاعتقاد مبين في القرآن في سور كثيرة كسورة النحل وسورة الصافات وسورة الزخرف وغير ذلك من السور.
قال (لم نقل عبد القادر) يعني الجيلاني وهو معظم ومؤلَّه في العراق وفي الباكستان والهند وفي غيرها أيضا إن قال أنا لم أعتقد في عبد القادر أنه ابن لله ولا في النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ابن لله ولا في عيسى أنه ابن لله ولا في كذا أنه ابن لله ولا في البدوي أنه ابن لله ولا في علي رضي الله عنه أنه ابن لله إلى آخر ذلك، وهؤلاء إنما كفروا في أن الملائكة بنات الله؛ يعني اعتقاد البنوة، مثل ما قال البوصيري في قصيدته الميمية المعروفة قال:
دَعْ ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت [مدحا] فيه واحتكم
أو كما قال.
وقال أيضا
لو ناسبت قدْرَه.......... ...........................
يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -(17/303)
لو ناسبت قدره آياته عظما أحيى اسمه حين يُدعى دارس الرمم
فيقول قل ما شئت في النبي - صلى الله عليه وسلم - من وصفه بما شئت إلا في شيء واحد، وهو ألا تقول كما قالت النصارى في عيسى إنه ابن لله جل وعلا، ويفهمون هذا على الحديث الذي رواه البخاري وغيره في قوله عليه الصلاة والسلام «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» قالوا فمعنى الحديث أنه لا تبلغوا بي مبلغ النصارى في قولهم إن عيسى ابن الله وما هو غير ذلك فجائز لكم، هكذا يفهمونه، وهذه حجة طائفة كبيرة من غلاة الصوفية وأصحاب الطرق في قولهم: إنّ المحرم والشرك هو ادعاء البنوة، أما غير ذلك فليس من الشرك بالله كما قال:
دع ما اعدته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
أو كما قال.(17/304)
قال (فالجواب) هذا جواب هذه الشبهة (إن نسبة الولد إلى الله كفر مستقل) بيّن أن نسبة الولد إلى الله كفر لكنها ليست كل الكفر، فقال جل وعلا ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)?[الصمد]، (والأحد الذي لا نظير له) (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أحد يعني لا نظير له في ذاته ولا نظير له في أسمائه ولا نظير له في صفاته جل وعلا، واحد في ألوهيته لا شريك له واحد في ربوبيته لا شريك له واحد في أسمائه وصفاته لا سمي له، فكما أنه لا شريك له في الربوبية.....([51]) (المقصود في الحوائج) ودلت الآية على نوعين (فمن جحد هذا كفر ولو لم يجحد السورة) دلت الآية على نوعين النوع الأول هو من لم يجعل الله واحدا وجعله اثنين كاعتقاد طائفة من النصارى، أو اعتقده ثلاثة كاعتقاد طائفة أخرى من النصارى وغيرهم، فقوله جل وعلا (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ... لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) هذا فيه رد على من اعتقد البنوة، وقوله (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ) رد على أنه يُصمد في الحوائج إلى غيره.
فإذن سورة الإخلاص دلت على كفر نوعين من الناس:
· وهم من لم يجعل الله مختصا بالأحدية.
· ومن لم يجعل الله مختصا بالصمدية، والصمد هو الذي يصمد إليه في الحوائج؛ يعني يقصد وحده كزن ما سواه.(17/305)
قال (فمن جحد هذا فقد كفر ولو لم يجحد السورة) هذا برهان على أن الشرك في القرآن ليس هو وأن المشركين -مشركي العرب وغيرهم- ليسوا معتقدين في البنوة وحدها بل معتقدين في البنوة ومعتقدين أيضا في الشريك مع الله جل وعلا في العبادة، وقال تعالى ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91]، قال الشيخ رحمه الله (ففرق بين النوعين وجعل كلاًّ منهما كفرا مستقلا) وهذا استدلال واضح قوي؛ إذ قال جل وعلا (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ) يعني قبل أن يخلق الخلق ولا بهد أن يخلق بعد أن خلق الخلق ولو اتخذ الرحمن ولدا لعبدنا ذلك الولد طاعة لله جل وعلا وامتثالا لأمره كما سبحانه في سورة الزخرف ?قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ?[الزخرف:81]، على الصحيح في تفسيرها أنها على ظاهرها: أنا أول من يعبد هذا الولد لو اتخذه الرحمن امتثالا لأمر الله وطاعة له جل وعلا، والواقع أن هذا لا يكون ولا يمكن إذ الله جل وعلا ما اتخذ مما يخلق بنات ولم يتخذ سبحانه ولدا؛ لأنه لم يلد ولم يولد، ولو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء، بتنزهه سبحانه وتعالى عن الولادة بدأ وأصلا وفرعا.
فإذن فقوله (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ) هذا نفي للولادة ولاتخاذ الولد، قال (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) وهذا نفي لنوع آخر، وكما هو مقرر في العربية والأصول أن واو العطف هذه تفيد التغاير -تغاير الذات وتغاير الصفات-.
· فتغاير الذات كما تقول دخل محمد وخالد، فذات محمد غير ذات خالد.
· وتغاير الصفات كما في قوله جل وعلا ?تِلْكَ آيَاتُ القُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ?[النمل:1]، فهنا القرآن هو الكتاب؛ ولكن الواو هنا دلت على تغاير الصفة فهو كتاب وهو قرآن.(17/306)
فقوله جل وعلا هنا ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91] كما قال الشيخ (فرّق بين النوعين) ودلت الواو على تغاير ذات الإله عن ذات الولد باعتبار اعتقاد المشركين وعلى تغاير صفة الإله عن صفة الولد وهذا هو الواقع في اعتقدهم، فإنهم إذا توجهوا للولد فإنهم إنما يتوجهون إلى الله كما يقول النصارى أب وابن وروح القدس إله واحد يجعلون الإله الواحد له ثلاثة أقانيم، أو كما يقول طائفة أخرى من النصارى إنه أب وابن فيجعلونه أقنومين فقط، فهذا توجه لشيء واحد باختلاف الأقانيم، وهذا داخل في الولادة حيث قال جل وعلا (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ) الشيء الثاني (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) فالآلهة في الواقع هذه مغايرة في الذات للولد ومغايرة في الصفات، لا يقال إن الولد متخذ إله؛ لأن قول العلماء "مغايرة في الذات" يصدق عليه اختلاف الجمع والمفرد والعام والخاص، فإذا عُطف عام على خاص فيعتبر عندهم تغاير في الذات.
مثل ما قال جل وعلا ?مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ?[البقرة:98]، فعطف جبريل وميكال على الملائكة وهذا تغاير في الذات، واضح؟ تغاير في ذوات؛ لأن الثاني بعض الأول فالعام إذا جاء بعده خاص يعتبر تغاير في الذوات.
?إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ?([52]) هذا تغاير في الصفات -لأني أشوف كثير منكم وأنا أتكلم يفكر في.... يعني ما فهم هذا-.(17/307)
المقصود أن استدلال الشيخ في محله حجة واضحة حيث قال (ففرّق بين النوعين وجعل كلا منهما كفرا مستقلا وقال تعالى ?وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ?) بعني مع خلقه لهم جعلوا له شركاء الجن (?وَخَرَقُوا لَهُ? -وفي القراءة الأخرى ?وَخَرَقُوا لَهُ?- ?بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ?[الأنعام:100] ففرَّق بين كفرين) فجعل الشرك بالجن هذا نوع، وجعل خرق البنين والبنات له سبحانه نوع آخر، قال (ففرق بين كفرين والدليل على هذا أيضا أن الذين كفروا بدعاء اللاتّ) إلى آخره.
المقصود من هذه الأدلة أن قول القائل: ما كفرت العرب ولا النصارى ولا اليهود إلى آخره إلا باعتقاد البنوة. فهذا الكلام باطل وهذه الشبهة مردودة على أصحابها بالأدلة التي ذكرت.
وتوسع الشيخ رحمه الله فقال (والدليل على هذا أيضا أن الذين كفروا بدعاء اللاتّ -مع كونه رجلا صالحا- لم يجعلوه ابنا لله والذين كفروا بالجن لم يجعلوهم كذلك، وكذلك أيضا العلماء في جميع المذاهب الأربعة يذكرون في باب حكم المرتد أن المسلم إذا زعم أن لله ولدا فهو مرتد ويفرقون بين النوعين، وهذا في غاية الوضوح) الأمة مجمعة والفقهاء والأئمة مجمعون على أن الردة ليست مخصوصة باعتقاد الولد لله جل وعلا، فدلّ هذا على بطلان هذه الشبهة، وهذا استدلال واضح بين والحمد لله وهذا كما قال الشيخ في آخره (وهذا في غاية الوضوح).
نقف عند هذا، ونسأل الله جل وعلا أن يوفقني وإياكم إلى ما يحب ويرضى.
وأكرر في أن الانتفاع فيما نذكر يعظُم عندما تعرف كتاب التوحيد وشرحه، وخاصة ما ذكرناه من الأدلة وأوجه الاستدلال في شرحي على كتاب التوحيد؛ لأن فهم كشف الشبهات مبني على فهم كتاب التوحيد؛ لأنك إذا قلت إيراد: ما معنى العبادة؟ ما معنى عبادة الأصنام؟ الشفاعة؟ كل هذه تفصيلها هناك وليس تفصيلها في هذا الكتاب.
[الأسئلة](17/308)
... أنا نبهت في أول الأمر إلى أن هذه الشبهة التي جاءت اليوم هي تكرير لما سبق لكن باعتبار مختلف؛ لأن المُورِد لهذه الشبهة عنده ما ليس عند المورد للأولى، الشيخ قد يكرر لهذا.
... هذا الذي خلاّني أستطرد بعض الشيء، لما قلت المغايرة بين الذات والصفات شفت كثير من الإخوة حلقت عيونهم في السماء، الواو تقتضي في اللغة الجمع مطلق الجمع والمغايرة، وإذا قلنا مطلق الجمع فالمراد بلا ترتيب، بلا ترتيب في الزمان ولا في المكان ولا في الفضل، وتفيد أيضا المغايرة، والمغايرة تعني أنّ ما بعد الواو غير ما قبل الواو، وقد يكون ما بعد الواو يعني المعطوف والمعطوف عليه ما قبل الواو قد يكون هذا وهذا من الذوات.
فإذن الثاني غير الأول مثل ما مثّلتُ لكم دخل محمد وخالد، (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ) كل شيء مختلف عن الثاني هذا تغاير في الذوات واضح؟.
الثاني التغاير في الصفات.
ذكرت لك أن التغاير في الذوات لا يسقط بأن يكون الأول بعض الثاني ولا أن يكون الثاني بعض الأول؛ يعني إذا جاء عام بعد خاص معطوف بالواو، فيصدق عليه أنه تغاير ذوات؛ لأن الذات الثانية أعظم وأكثر من الذات الأولى في عطف العام على الخاص، أو الأولى أكثر ذواتا من الثانية.
فإذن تغاير في الذوات يعني هذا ليس هو هذا، من جهة الذات.
والثاني تغاير في الصفات، والتغاير في الصفات يكون في المعاني مثل ما ذكرت لكم (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) الإيمان والعمل الصالح ليس ذاتا، وإنما هو معنى، أليس كذلك؟ الإيمان هل هو ذات تُرى؟ العمل الصالح ذات ترى؟ ليس عينا ولا ذاتا وإنما هو معنى، فإذن العطف بالواو بين المعاني يدل على تغاير الصفات، فيكون الأول غير الثاني من جهة الصفة، ولهذا نقول إنه إذا قيل (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) على تعريف أهل السنة للإيمان ودخول العمل في مسماه هذا يفهم من وجهين:(17/309)
الأول: أن العمل خاص بعد عام، فالإيمان عام والعمل خاص فحصل تغاير في الصفة من جهة الشمول.
والثاني: أن الإيمان إذا قرن به العمل الصالح فيعنى بالإيمان التصديق الجازم بالأشياء والعمل الصالح هو العمل، فهذا يغاير ذاك في الحيثية.
والثاني اختيار شيخ الإسلام بن تيمية (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدَّا?[مريم:96]، يعني بالإيمان الأصل اللغوي ومعناه وهو أيضا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخره؛ يعني ما هو قسيم للإسلام، الإسلام العمل الظاهر الإيمان الاعتقاد الباطن (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) تغاير في الصفة، إذْ الأول يدل على العمل الباطن والثاني يدل على العمل الظاهر مثل قوله جل وعلا ?تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ?[الحجر:1].
بعض المعاصرين الجهلة قال: هذا يدل على أن القرآن غير الكتاب؛ لأن الواو تقتضي المغايرة فالقرآن شيء والكتاب شيء، والقرآن هو ما لا يقبل التغيير أما الكتاب فيقبل التغيير في مؤلف ألفه باطل معروف، هذا ناتج من الجهل باللغة.
فقوله (تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)، (تِلْكَ آيَاتُ القُرْآنِ وَكِتَابٌ مُبِينُ) في سورتين هذا يدل -العطف بالواو- على تغاير صفة الكتاب عن صفة القرآن، لا على تغاير القرآن عن الكتاب، والصفة التي حصل فيها التغاير أن القرآن فيه صفة القراءة، والكتاب فيه صفة الكتابة.
فإذن هذا دليل على أنه مكتوب وأنه سيُقرأ حيث كان مكتوبا.
وهذا البحث يُبحث في الأصول وأيضا في النحو وفي كتب حروف المعاني وبحث معروف ومهم؛ لأن فهم الاستدلال مبني عليه.
س/ الآية في قوله جل وعلا ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91] ما وجه المغايرة في الصفات؟ يسأل الأخ.(17/310)
ج/ الجواب: أن الإلهية غير صفة اتخاذ الولد وما كان معه من إله فالاتخاذ اتخاذ الولد شيء غير كون إله معه، فاتخاذ الولد من الله كما يقول أولئك اتخذ الله عيسى ولدا، أو اتخذ الله العزير ولدا.
فإذن جعلوا عيسى ولدا ليس بدعواهم ولكن باتخاذ الله له، وأما وجود الإله (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) فهذا وجود للإله الحق مع الله جل وعلا فمن هذه الجهة كان غير متخذ، فالأولى فيها الاتخاذ والثانية فيها وجود الإله، فهذا كفر وهذا كفر.
نقف عند هذا وأسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد وصلى الله وسلم على نبينا محمد
??¹™™
[المتن]
[وإن قال: ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62]، فقل: هذا هو الحق لكن لا يعبدون ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه وإلا فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم، ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهلُ البدع والضلال، ودين الله وسط بين الطرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.]([53])
فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا هذا "كبيرُ الاعتقاد" هو الشرك الذي نزل فيه القرآن وقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس عليه، فاعلم أنَّ شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين:(17/311)
أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشّدَّة فيخلصون لله الدين كما قال تعالى ?وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا?[الإسراء:67]، وقوله ?قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ?[الأنعام:40-41]، وقوله ?وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ?[الزمر:8]، وقوله ?وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ?[لقمان:32].
فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذي قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يدعون الله تعالى ويدعون غيره في الرخاء، وأما في الضر والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم، تبيّن له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين، ولكن أين من يفهم قلبُه هذه المسألة فهمًا راسخًا؟! والله المستعان.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:(17/312)
فأسأل الله جل وعلا لي ولك العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع، وأن يجعلنا ممن إذا علموا عملوا، وإذا عملوا سألوا الله جل وعلا الثبات والرشد والسداد، اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، فلا حول لنا إلا بك.
ذكر الإمام رحمه الله تعالى مسألة جديدة يوردها المشركون ويُلَقَّنُها من يلقنها من عوام المشركين ومن المتعلمين عندهم، وهذه المسألة هي مسألة كرامات الأولياء، فإن عبَّاد الأموات وعبَّاد غير الله جل وعلا في الأعصر المتأخرة يروِّجون كرامات الأولياء ليدلُّوا الناس بذلك على أن هذا الولي الذي صار له من الكرامات كذا وكذا أنه يستحق أن يُدعى وأن يستشفع به وأن يستنصر به وأن يستعاذ به وأن يتوكل عليه إلى آخر أنواع العبادة، فجعلوا حصول الكرامات ورؤية من رأى هذه الكرامات والإقرار بذلك، وأنَّ أهل السنة يقرون بكرامات الأولياء، جعلوا ذلك سُلَّما لدعوة الناس لعبادة غير الله جل وعلا، وهذه حجة كثير ما يرددها الخرافيون، فينبغي لأهل التوحيد وللدعاة إليه أن يقفوا عند هذه الشبهة كثيرا، وهذا الوقوف بيّنه الشيخ رحمه الله تعالى أتم بيان.(17/313)
فقال (وإن قال ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62] فقل هذا هو الحق ولكن لا يُعبدون)؛ يعني أن قوله تعالى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) رُتِّبَ آخره على أوله فجُعل الأولياء لهم كرامة، وهذه الكرامة هي أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فالولي ولي الله جل وعلا الذي حقق الوَلاية بالإيمان التقوى لا خوف عليه ولا يحزن، وهذا ظاهر الآية ودلَّ ذلك على أن هؤلاء لهم منزلة خاصة عند أهل الإيمان؛ بل عند الله جل وعلا وهذه المنزلة إنما هي لأجل إيمانهم ولأجل تقواهم، ولهذا قال بعدها في وصف الأولياء ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ?[يونس:63-64]، ففي الآية التي ساقها الشيخ ذِكر الأولياء وذِكر أنهم لا خوف ولا هم يحزنون، وهذه يحتج بها كل من يعبد غير الله جل وعلا، ويحتجون بها على أن الوَلي له ما ليس لغيره، فماذا يصنع الموحد لجواب هذه الشبهة؟ قد ينساق إلى أن يقول إنَّ هذا الذي تقول إنه ولي ليس بولي أصلا، وهذا يجعل الموحِّد في زاوية ضيقة ويحرج نفسه كثيرا لأنه يخرج عن ميدان الحجة إلى ميدانٍ الحجة فيه متوهمة.
فميدان الحجة أن الولي يَعبد ولا يُعبد، وهو من جهة غيرته يخطئ فيقول: هذا أصلا ليس بولي.
فمثلا لو ناقش أحدا عن عبادة البدوي وما يحصل عند قبره من الاستغاثة بغير الله ومن النذور للبدوي ومن الاستعانة به ومن طلب كشفه للضر وأشباه ذلك، لو جاء وناقش من يقول هذا ولي والله جل وعلا يقول (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد يبتدئ بعض أهل التوحيد فيقول: من قال لك أن هذا ولي؟(17/314)
فتنصرف الحجة إلى مسألة يصعب معها الإثبات أو النفي، فيكون ذاك يستدل بما يورده أصحاب الكرامات أنه كان له كذا وكذا، ونذهب عن أصل المسألة وهي أنه لا يُعبد سواء كان وليا أو غير ولي إلى هل هو ولي أم لا؟
وبعض الموحدين في بعض الأقطار الإسلامية يسلكون هذه الطريقة، وهي غلط وليست على طريقة أهل العلم وأئمة الدعوة رحمهم الله، وليس كذلك أيضا ما جاء في القرآن لتقرير التوحيد ومناقشة المشركين في آلهتهم، فإن الذي في القرآن أنَّ ألآلهة التي عُبدت أنها لا تستحق العبادة قال جل وعلا ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20] إلى آخره، بيَّن أنه لا تستحق العبادة، وكذلك فيما هو غير ذلك من عبادة من يُعبد، بين أنه لا يستحق العبادة، أما الكلام في ذاته وأحواله فهذا ليس من الدعوة الحقة؛ بل يترك هذا لأن الغرض هو تقرير التوحيد.(17/315)
فإذا قال لك هذا ولي من أولياء الله. فلو كان عندك ليس بولي بل نقل عنه العلماء ونقلت عنه التراجم أنه كان ينرك الصلاة أنه كان يقول كلمات كفرية أو لم يكن صالحا أو كان كافرا أو إلى آخره، فلا تذهب إلى هذا؛ لأن مصير هذا الرجل عند الله جل وعلا، ولكن إذهب إلى الحق المطلق وهو أن الولي يَعبد ولا يُعبد، وأن الكرامات التي أعطيها الولي له وليست لغيره، وهذا هو الذي بينه الإمام رحمه الله تعالى هنا فقال (فقل هذا هو الحق)؛ يعني أن الأولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (ولكن لا يُعبدون)؛ يعني أن الأولياء في الآية أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأنهم الذين آمنوا وكانوا يتقون وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لم يذكر أنهم يعبدون؛ بل في آيات أخر بين أن من اتخذ وليا من دون الله فقد ضلّ وخسر خسرانا مبينا كما قال جل وعلا ?قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ?[الرعد:16]، وكقوله جل وعلا ?وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا?[النساء:119]، يعني أنّ المردّ ليس إلى كونه وليا أو غير ولي، المردّ أن العبادة لله جل وعلا، قال سبحانه (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) فهذه الآية قد تنفع أهل التوحيد في الاحتجاج على أهل الشرك في أن الله جل وعلا ذكر أن الأولياء لا يتخذون من دونه، (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) يعني فيكون من دونه يعني من دونه في العبادة أولياء فجعلتهم الأولياء معبودين، وهذا وإن كان ليس هو من تفسيرها الصحيح؛ ولكنها حجة في رد الاحتجاج بلفظ الأولياء على العبادة، وإلا فمن المعلوم أن قوله تعالى (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) لا يقصد به فلان الولي إنما يقصد به الوَلاية يعني النصرة والمودة وأشباه ذلك؛ لكن هذه الآية وأشباهها في(17/316)
القرآن يُحتج بها على إبطال التعلق بلفظ الأولياء، والشيخ رحمه الله هنا قال (فقل هذا هو الحق؛ ولكن لا يُعبدون) لأن الآية دلت على أن هؤلاء الأولياء لهم الكرامة لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكن ليس في الآية أنهم يُعبدون ولا أنهم يستغاث بهم ولا أنهم يُدعون من دون الله جل وعلا.
قال بعد ذلك (ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه جل وعلا) يعني أننا لم نتكلم معك بأن هذا ليس بولي وليس بصالح وليس له كرامات؛ بل له كرامات وهو ولي وهو كذا وكذا؛ لكن ليس معبودا مع الله جل وعلا، ونحن لم نناقشك في شأنه؛ بل شأنه وكرامته حصلت له والأمر غيبي فهو عند الله جل وعلا ولا يُدرى بماذا خُتِم له؛ لكن إن كان مات على الولاية فهو عند الله جل وعلا له مقام الأولياء، ونحن لم نتكلم معك في شأن ولايته هل هو ولي أو ليس بولي، إنما الكلام في أنه هل يستحق أن يُعبد هل هو يشرك به مع الله في هذه الأفعال أم لا؟ فهذا يجعل الموحد مُنصفا ويجعله صاحب برهان جيد وواضح ويجعله أيضا حاذقا بأن لا يجرُّه الخصم إلى ميدان معركة يصرفه فيها عن الحق.
مثل مرة أتاني بعض الإخوة وقال: هناك رجل من بعض البلاد الأفريقية يريد أن يبحث بعض الأمور وأنا ذكرت له أن يأتيك، جاءني وذكرت له بعض المسائل في التوحيد وتعريف التوحيد والعبادة وكلام أهل العلم في الشرك إلى آخره بكلام مطوّل. فقال: الذي كرَّه الذين يدعون إلى التوحيد في بلادنا -كره الناس فيهم- هو أنهم ينشرون في الناس أن هؤلاء الذين يتعلَّقون بهم أنهم ليسوا بصالحين وليسوا بأولياء؛ بل هؤلاء الأموات منهم المشرك ومنهم الكافر ومنهم الذي كان يفعل كذا ويفعل كذا ويفعل الموبقات، فينشرون أشياء عنهم لا يمكن أن نقبل حمية لهم ولهؤلاء الأولياء لا يمكن أن يتكلم أحد فيهم، فأخذتنا الحمية لهم عن سماع ما عند هؤلاء من الكلام في التوحيد.(17/317)
وهذه في الحقيقة أفادت كثيرا مع أنها واضحة في كشف الشبهات؛ لكن أفادت من حيث التطبيق فإن الذي ينبغي على طالب العلم أن يكون صبورا في دعوته، وأن لا يستجره الخصوم إلى ميدان ليس هو ميدان الدعوة؛ بل يركِّز على الأصل الذي دعا الناس إليه، وأما الكلام على فلان وهل هذا كان وليا أو ليس بولي صالح أو ليس بصالح ليس الكلام في هذا.
أولياء الله جل وعلا عندنا لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولهم الكرامات؛ لكن الكلام في أنه هل يجعل الولي معبودا مع الله؟ هل يستغاث بالولي؟ هل يذبح للولي؟ وإلا فلا شك أن الولي له المقام عند الله جل وعلا إذا خُتم له بخير.
وهذا يجعل الموحد يحتج بحجة واضحة ولا ينساق بعاطفته إلى إثبات شيء أو إبطاله لا صلة له بمحض الحق أو ربما يكون هذا متأخرا من حيث الاحتجاج.
قال (فقل هذا هو الحق ولكن لا يعبدون ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه) وهنا من قال كيف أُشرك بهم هل عبدوا لم يعبدوا؟ ترجع إلى المسائل التي مرت في الدرس الماضي بتفصيلاتها.
قال (وإلاّ فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكراماتهم) الواجب علينا جميعا حب أولياء الله جل وعلا إجمالا وتفصيلا فيمن علمنا أنه من أهل الإيمان والتقوى واتباعهم على ما هم عليه من العمل؛ ولأنهم لم يكونوا أولياء إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام، ولهذا نتبعهم فيما به صاروا أولياء، فنحب نبينا عليه الصلاة والسلام ونتبع سنته ونحكِّم ما جاء فيها على مرادات القلب وعلى الظاهر وعلى المقامات وعلى الأحوال التي تعرض، والإقرار بكراماتهم يعني الواجب أن نقر بكرامات الأولياء؛ لأنه لا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال.
وذكرنا لك في الكلام على الواسطية معنى كرامات الأولياء، ومن هو الولي، وما شروط الولاية، ومذهب أهل السنة في كرامات الأولياء، والمذاهب في ذلك، فيراجع في ذلك الموضع.(17/318)
فقول الشيخ رحمه الله (ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال) يعني بهم الخوارج والمعتزلة فإنه الذين ينكرون كرامات الأولياء كما سبق.
قال (ودين الله وسط بين الطرفين) هذا بعامة دين الله وسط بين الغالي والجافي، الإسلام وسط ما بين غلو النصارى وما بين جفاء اليهود، وأهل السنة وسط ما بين الفرق بين الخوارج والمرجئة وما بين المجسمة والمعطلة وما بين الطوائف المختلفة في هذا الباب في الإيمان وفي أسماء الله جل وعلا وصفاته، وفي الأسماء والأحكام وفي الصحابة وفي أمهات المؤمنين وفي الفتن إلى آخره، وأهل السنة أيضا وسط؛ لأن دين الله جل وعلا وسط، قال (وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين).
أشار بذلك إلى أن مسألة الأولياء منهم من غلا فيها فجعل الولي ينازع الله في الألوهية أو له نصيب من الألوهية كقول غلاة الصوفية والباطنية وطوائف جعلوا الولي له شيء من خصائص الألوهية بل جعلوا الولي يفوض إليه شيء من الربوبية والعياذ بالله فهذا في الجهة الغالية.
والجهة الجافية كالخوارج والمعتزلة الذين أنكروا كرامات الأولياء، وذكرنا لكم أنهم أنكروا كرامات الأولياء حتى لا تشتبه حجج الأنبياء والآيات والبراهين والمعجزات التي يعطيها الأنبياء بكرامات الأولياء فنحن أعني أهل السنة يقرون بأن الأولياء لهم كرامات، وأنهم مكرمون عند الله وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة كما أخبر الله جل وعلا بذلك عنهم؛ لكن لا نغلوا في ذلك ونجعل لهم صفات ليست في البشر ولا نجفوا عنهم وننكر كراماتهم؛ بل نحن وسط بين الجافين والغالين، فهم يَعبدون ولا يُعبدون ويُرزقون ولا يَرزقون، ويدعونه جل وعلا رغبا ورهبا وكانوا له جل وعلا خاشعين، ويدعون الناس إلى محبته جل وعلا وإلى توحيده وإلى نصرته.(17/319)
كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن نفسه أنّ أصحابه وقعوا مرة في دمشق ومرة في خارجها في شدة فظهر لهم الشيطان في صورة شيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: أتَحتاجون شيئا فأنصركم؟ فمنهم من طلب منه فلما ذكروا ذلك لشيخ الإسلام، ظن بعضهم أنه في دمشق أنه جاءهم فقال لا أنا لم أبرح مكاني وهذا الشيطان عرض لكم ليوقعكم في الشرك.
وإذا تأملت في سيرة الأولياء الصالحين من الصحابة فمن بعدهم ومن أهل البيت وجدتهم جميعا ينكرون الشرك بالله جل وعلا، ويأمرون أتباعهم بالإخلاص -إخلاص الدين لله- واتباع السنة وعدم مخالفة الكتاب والسنة والرغب فيما عند الله وحده وألا يُعَظَّم البشر كتعظيم الله جل وعلا التعظيم الذي لا يجوز إلا له إلى آخر ذلك.
فمن جمع كلام الأولياء في التوحيد وجاء أنهم أقاموا الحجة على من اقتدى بهم أو من اتبعهم، ومعلوم أن الفِرَق الصوفية والطرق المختلفة بَنَتْ كلُّ طريقة على أقوال شيخ لها اعتقدوه وليا فأخذوا كلامه.
فيناسب الموحِّد في البلد الذي يكون فيها طائفة من الطوائف الصوفية أو الطريقة أن يجمع كلمات هذا في مؤلَّف وينشرها بينهم لتكون حجة بين من أخذ بطريقة هذا الشيخ.
فمثلا في البلاد التي فيها عبد القادر الجيلاني عبد القادر له كتب قيمة الغنية وغيرها والفتوحات كتب فيها التوحيد وفيها الأمر بعبادة الله وحده، فلو استخرجت لكان فيها حجة على أقوامهم.(17/320)
شيخ الإسلام ابن تيمية هو الذي لفت النظر إلى هذه الطريقة حيث كتب الرسالة السنية المعروفة المسماة بالوصية الكبرى لأتباع عدي بن مسافر، وعدي بن مسافر يغلو أصحابه فيه وطائفته يقال لهم العدوية في الشام، وكذلك نقل عن أحمد الرفاعي كلمات في الأمر بالسنة والنهي عن البدع والنهي عن الشرك، فيَحسن أن تكون طريقة الداعية في البلد أن يجمع كلام هؤلاء الأولياء -إذا كانوا بحق أولياء- ويقول للناس هذا كلام الأولياء في التوحيد، فهذا فيه حجة في هذه المسألة ويعطي الحقيقة المخالف أننا نحب أولياء الله بعامة، وأننا نتولاهم ولا ترد كلّ ما يقولون، وإنما نرد ما خالفوا فيه الحق فقط.
قال (فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد والشرك الذي أنزل فيه القرآن وقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه) قوله (الذي يسميه المشركون في زماننا هذا الاعتقاد) أو (الاعتقاد الكبير) أو (كبير الاعتقاد) يعني اعتقاد الناس في الأولياء وما لهم من الكرامات، لأنّ الاعتقاد قسمان عند الضلال عند الخرافيين:
الاعتقاد العام وهو الاعتقاد في الله جل وعلا العقيدة المعروفة كل على حسب مذهبه، الأشعري على أشعريته، والماتريدي على ماتريديته، بحسب البلد الذي هو فيه.
وهناك شيء يتّفقون عليه وهو الاعتقاد الكبير أو كبير الاعتقاد وهو الاعتقاد في الموتى وفي تصرّف أرواحهم، وأن أرواحهم لها من التصرف والجولان في الملكوت ما يمكنها أن تسمع نداء من يناديها، أو أن تجيب طلب من يطلب منها وأنّ لها التصرف في الكون وأنها تطلب من الله وأن الله جل وعلا لا يردّ لها طلبا إلى آخره، ويُدخلون هذا في الحديث عن الأولياء؛ بل يجعلون كرامات الأولياء منشأ هذا الاعتقاد، فيذكرون الكرامات ثم يبعثون هذا الاعتقاد.
وكان هذا موجود في نجد وهناك كتب أو رسائل مؤلفة في هذا في ذلك الزمان.(17/321)
قال (فإذا عرفت هذا الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد أو كبير الاعتقاد هو الشرك الذي أنزل فيه القرآن وقاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين).
الأول: التفريق ما بين حال المشركين في هذا الزمان وفي زمان العرب الأول؛ لأن أولئك لا يُشركون إلا في السّراء، وأما إذا جاءت الشدة والكرب يعلمون أنه لا منجِيَ إلا الله، ويخافون أن يفوت الوقت عليهم باتخاذ الواسطة، فيقولون هذا متى يصل إليك ومتى يرفع وهل سيرفع الآن أم لا يرفع الآن([54]) حاجاتهم فيجعلون التشفع في وقت السعة والإخلاص في وقت الضيق كما أخبر الله جل وعلا عنهم بقوله ?[وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]([55]) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ?[لقمان.32]، آية لقمان، والآية الأخرى في العنكبوت ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65]، وقال جل وعلا أيضا في الآيات التي ساقها الشيخ (?وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا?[الإسراء:67]) وهذه المسألة مُبَيَّنة على التفصيل في شرحنا للقواعد الأربع هذه هي القاعدة الرابعة الأخيرة في القواعد الأربع.(17/322)
أهل هذا الزمان من المشركين عندهم أن الإشراك يكون في السراء والضراء على السواء؛ بل ربما عظم الرغب في وقت في وقت الضُّر فكانوا مثلا يعتقدون حتى في الكتب، مثل ما ذُكر مثلا في بعض التراجم أن أهلا بلد سموها كانوا لا يرحلون في البحر إلا وقد وضعوا نسخة من كتاب الشفاء للقاضي عياض المغربي المعروف في السفينة فهو إذن ليس اعتقادا في شخص ولكن هو في كتاب لما اشتمل عليه الكتاب من حقوق النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وهذه تراجع في شرح القواعد الأربع.(17/323)
قال في آخرها (ولكن أين من يفهم قلبُه هذه المسألة فهْمًا راسخًا؟! والله المستعان.) صحيح فإن كثيرين ممن عارضوا الدعوة استغربوا من الشيخ أن يقول شرك هؤلاء أعظم من شرك الأولين، قالوا: ما اكتفيت أن جعلتنا مساووين لأهل الجاهلية في الشرك حتى تجعل شرك أهل الإسلام أعظم من شرك أهل الجاهلية، فقال (أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهما راسخا)، وفي قول الشيخ (أين من يفهم قلبُه) فيه إشارة للمذهب الحق وهو أن الفهم والإدراك وأشباه ذلك مردُّها إلى القلب، وليس إذا الذهن أو المخ أو العقل أو أشباه ذلك ولكن العقل إدراكه من جهة القلب كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» والقلب ليس محط الإدراك لأنه مضغة؛ ولكن لأنه المكان الذي فيه أصل انتشار الروح في البدن تعلق الروح بالبدن، ومعلوم أن الإدراكات تبع للروح، فالروح هي المدركة ووسيلة الإدراك الآلات التي في البدن، فكما أن اليد وسيلة تناول الشيء والمحرك الروح، وكذلك المحرك الروح للسان والكلام الطيب أو بالكلام الخبيث المحرك الروح في التصرفات، والبدن أعضاؤه هذه وسائل لتنفيذ ما قام في النفس، لهذا المدرك في الحقيقة ليس هو البدن إنما المدرك الروح، والبدن وسيلة، البدن آلات، العينان آلة، واللسان آلة، والشم آلة، والمخ والدماغ آلة، والقلب آلة إلى آخره آلة لتحصيل المعارف للروح فهذه المسألة طويلة معروفة، قال الشيخ رحمه الله هنا (ولكن أين من يفهم قلبُه هذه المسألة فهمًا راسخًا؟!)، لاشك أن من فهم هذه المسألة فهما راسخا علِم أن هذا الذي قاله الشيخ حق وأن شرك هذا الزمان أعظم من شرك الأولين لمن أين من يفهمه.
?????
[المتن](17/324)
والأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أُناسًا مقرّبين عند الله: إما أنبياء، وإما أولياء، وإما ملائكة، أو يدعون أشجارًا وأحجارًا مطيعة لله ليست عاصية، وأهل زماننا يدعون مع الله أناسًا من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنى والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك، والذي يعتقد في الصّالح والذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يُشاهد فسقه وفساده ويشهد به.
[الشرح]
هذه المسألة لأهل التوحيد، وليست للجواب على أهل الشبهات؛ بل هذه ليفهمها أهل التوحيد فهما راسخا، وهي أن الأولين يدعون مع الله أناسا مقرّبين عند الله، أو يدعون أشياء مطيعة لله جل وعلا، إما يدعون أنبياء مثل ما كان يدعى موسى ويدعى عيسى وتدعى أنبياء بني إسرائيل ويدعى إبراهيم عليه السلام أو أولياء من الصالحين كاللات وكغيره وإما ملائكة، ويدعون أشجارا أو أحجارا مطيعة لله ليست بعاصية، يدعون أشياء مسبحة لله مطيعة لن تخرج عن توحيده وطاعته، وأما أهل الزمان هذا فيدعون مع الله أناسا من أفسق الناس، فمثلا قوله (من أفسق) الناس، قد يكون من جهة أنه قد عرف في حياته الفسق والفجور بدعواه أنه سقطت عنه التكاليف، أو بكونه كان مجنونا وكان يفعل الأشياء لجنونه يفعل أشياء من الفسق والمنكرات والكبائر لجنونه، أو لكونه محادا معاندا فاسقا فاجرا أو كافرا في نفس الأمر، هذا نوع.(17/325)
والنوع الثاني قد يدعون أشياء في محلاَّت يكون الدعاء منصبّ على نصراني، أو يكون الدعاء منصب على حيوان، أو يكون الدعاء منصب على يهودي أو نحو ذلك، وهذه المسائل تختلف باختلاف التحقيق فيها؛ يعني أن يقال هذا الذي يدعى ليس بصالح؛ بل هو نقل عنه أنه قال لأتباعه كذا وكذا، ذكر عن نفسه أنه سقطت عنه التكاليف، كان يعاشر المردان أو النساء فيفعل كذا وكذا من الفواحش، كان يشرب الخمر، كان لا يصلي كان يسرق كان يحتال إلى آخر ذلك، وهؤلاء لاشك أنهم ليسوا بأولياء وليسوا بصالحين؛ بل هم فسقة فجار وقد يكونون كفارا.
صنف من هؤلاء يدعى ويسأل، وهذا عند التحقيق إذا جمعت الكلام وجدت هذا الكلام صحيحا.
المعاندون أو الخرافيون ينقسمون تجاه هذا الكلام إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول من يقول هذا الذي تقولونه عنه ليس بصحيح أصلا، الذي ينقل عن عبد الوهاب الشعراني أنه قال كذا وكذا وكذا، يقولون هذا مدسوس على كتبه ليس من كتبه أصلا.
والصنف الثاني من المتأولين من يقول هذا الكلام لأهله فيه تأويل فإن اصطلاحات الصوفية تختلف عن اصطلاحات غيرهم فقد يقولون العبارات التي فيها كفر وليسوا يعنون ظاهرها، إنما يعنون معاني باطنة أخرى يفهمها القوم، مثل ما نقل عن ابن عربي أنه كذا وكذا أراد مقاصد طيبة؛ ولكن فهم كلامه على ظاهره، وهو لم يرد الظاهر ومثل ما ينقل عن التلمساني وابن سبعين وأشباه هؤلاء.
والطائفة الثالثة من تقول هؤلاء سقطت عنهم التكاليف أصلا، والتكليف يُراد منه أن يصفو الباطن ويَفْنَى عن شهود سواه ويفنى عن شهود غير الله جل وعلا، فإذا وصل إلى هذه المرتبة فلم ير إلا الله جل وعلا ولم يتجه إلا إلى الله جل وعلا فإن التكاليف والصلاة وتحريم الفواحش إنما هي لإصلاح نفسه، ونفسه قد بلغت المرتبة العليا فليس لإصلاحها مجال، وهذا قول الغلاة منهم، فيقول لا بأس لو فعل هذه الأفعال هو أصلا وصل وسقطت عنه التكاليف.(17/326)
وهؤلاء الطوائف الثلاثة موجود حتى في المؤلفات من يتجه إلى فئة من هذه الفئات الثلاث.
هناك من المدفونين من الموتى من يتجه إليه على أن المدفون فلان الولي ويكون المدفون غيره، مثل ما ذكر شيخ الإسلام عن قبر الحسين بن علي رضي الله عنه في القاهرة، فقد حقق والعلماء كذلك حققوا والمؤرخون أنه لم يصل القاهرة، وإنما سيق من العراق إلى دمشق إلى يزيد بن معاوية رحمه الله تعالى ودفن هناك، والآن تجد قبر للحسين في العراق ومشهد عظيم، وفي الشام، وفي القاهرة. قال إن المدفون في القاهرة رجل يهودي في المكان هذا، وقالت طائفة المدفون حيوان أصلا في هذا المكان.
فإذن هم اعتقدوا في شيء؛ اعتقدوا في يهود، اعتقدوا في حيوانات، وهذا الصنف لم يكن يحوم حوله ذهن أهل الجاهلية أصلا ولهذا صار هؤلاء أعظم وأقبح.
هناك عمود كان في دمشق يُذهب إليه بالحيوانات، أو لأنواع من الحيوانات مثل البقر أو الجاموس أو الأغنام أو الإبل أو أشباه ذلك التي لم تلد؛ يعني طالت ولادتها أو صار فيها مرض أو أشباه ذلك فيطوقونها على هذا العمود فتلقي ما في بطنها فورا، فيظنون أن هذا من بركة ما تحت العمود، ويقولون هذا العمود كان يتعبد عنده رجل صالح، وشيخ الإسلام رحمه الله بيّن قال: هذا العمود دفن تحته رجل نصراني وساق الأدلة على ذلك، والحيوانات تسمع تعذيب النصراني في قبره، فلذلك إذا سمعت العذاب لن تتحمل فتسقط ما في بطنها؛ لأنه قد جاء في الحديث أنه إذا تولى عنه أهله طرق بمطرقة يسمعها من يليه إلا الثقلان، فالجن والإنس لا يسمعون العذاب لأنهم مكلفون لو سمعوا لهلكوا ولرعبوا ولما استقامت لهم الحياة أم الحيوانات فربما وصلها من ذلك شيء وربما سمعت، فكان تعلقهم ليس بولي وليس بنبي، وإنما بمكان تحته رجل نصراني وأشباه ذلك.(17/327)
وهذه الأشياء لم يكن عليها شرك الأولين فالأولون لم يجعلوا يعني ما اتخذوا لعمرو بن لحي المشرك -الذي هو أول من سيب السوائب وساق الآلهة- ما اتخذوا له قبرا يعبدونه إلى آخر أصناف علمائهم المشركين لكن أهل الأزمنة المتأخرة اعتقدوا في أنواع من الناس من فسقة هذه الأمة أو ممن ارتد أو من النصارى أو من اليهود.
لهذا قال الشيخ رحمه الله تعالى هنا (والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور) -وفي النسخة التي عندي (هم الذين يُحِلُّون لهم الفجور) - (يحكون عنهم الفجور) هذا الذي أعرفه (يحكون عنهم الفجور من الزنى والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك) والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب أو الحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده، لاشك يراه يزني ويعتقد أنه ولي من أولياء الله، يراه لا يصلي ويعتقد أنه من أولياء الله هذا لاشك أنه ضلال ما وراءه ضلال، ويسأله ويدعوه ويراه أنه يستشفع به لاشك أن هذا أعظم وأبشع مما يذكر عن أهل الجاهلية.
نقف عند هذا لأن التي بعدها يدخل فيها شبهة جديدة.
والمطلوب من كل طالب علم بعد معرفته لدلائل التوحيد والحجج أن يُمَرِّنَ نفسه على جواب الشبه بعد إحكام الأصل، الإخوة الذين لم يحكموا كتاب التوحيد ولم يحكموا ثلاثة الأصول ودخلوا في كشف الشبهات مباشرة أو ما ضبطوا تلك الكتب، فلا يَحسن أن يجيبوا عن الشبه إلا بعد أن يحكموا الأصول؛ لأن هذه فرع عن تلك، من أحكم تلك يدرب نفسه على جواب هذه الشبه على طريقة الشيخ رحمه الله، يتأنى ويكون حليما يعرف موقع الاحتجاج، يعرف كيف يجرّ المخالف إلى الحجة الصحيحة، يعرف كيف يخلي القلب قلب -قلب المخالف-؛ من الحجة ثم يبتدئ يعطيه الحق إلى آخر ذلك فتحتاج إلى دُربة والملاحظ أن كثيرين يرغبون ورغبهم محمود لله جل وعلا ولكن يكون جوابهم للشبهات ليس على أصوله فيوقعون المجادل في شبهة جديدة؛ بل قد يقتنع أن ما عليه حق؛ لأن هذا ما استطاع أن يجيب بجواب جيد.(17/328)
فالواجب على طالب العلم أن يكون متأنيا في جواب الشبهات، حاذقا، يعرف كيف يسوق المجادل أو يسوق الخصم إلى ميدان الحجة دون أن يلزمه شيء وفي كشف الشبهات......
.... أهل لشرك فيقيده حتى نجمعه في الآخر يكون كالمقدمة و الخاتمة لهذا الكتاب، ذكرنا أنا أذكر ذكرنا أربع أو خمس فيما مضى، وهذه الآن واحدة جديدة لعل أحدكم تنهض همته فيجمع هذه الأصول الهامة في كيفية المناقشة يعني كيف يجمع الموحد نفسيته ليواجه الخصوم.
نكتفي بهذا القدر فيه بعض الأسئلة؟
[الأسئلة]
س1/ ذكرت في الدرس السابق في تفسير قوله تعالى ?قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ?[الزخرف:81]، بأن العبادة تكون للولد إرضاء لله تعالى، فبهذا التفسير يكون حجة للنصارى؟
ج/ هذا ظاهر الآية يحتجون أو لا يحتجون هذا ظاهر الآية، (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ) يعني لو كان للرحمن ولد فأنا سأعبده إرضاء له لأنه هو الذي أمرنا بعبادته، وهذا هو تفسير الجمهور.
والتفسير الثاني للآية أن معنى (العَابِدِينَ) الرافضين فإن كان للرحمن ولد فأنا أول من يرفض هذه العبادة، وهذا التفسير ساقه ابن جرير وابن كثير عن طائفة من المفسرين؛ لكن قالوا هذا الوجه ضعيف لأن هذه اللغة لا يحمل عليها الكلام وإن كانت موجودة في لغة العرب؛ لكن لا يحمل بمخالفتها لتفسير جمهور الصحابة فمن بعدهم.
بالعكس فقد يكون هذا حجة على النصارى (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ) هل له ولد؟ لا، القرآن كله فيه نفي أن يكون لله سبحانه وتعالى ولد ?مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَّلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91].(17/329)
...?قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(40)بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ?[الأنعام:40-40]، صححوها (قُلْ أَرَأَيْتَكُم) طيب الآية الثانية يصححها الأخ جزاه الله خيرا ?قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ?[الرعد:16].
س2/ ذُكر في الأربعين النووية أن العقل في القلب، وقد أشكلت عليّ، ما هي ولو باختصار؟
ج/ العقل إدراك ليس جرما، العقل إدراك، عَقَل الشيء أي أحاط به فأدركه، هذا العقل من الذي يعقل؟ الذي يعقل إيش البدن أو الروح؟ الذي يعقل الروح والبدن وسيلة، وسيلة لتحصيل معارف الروح مثل ما ذكرنا، الروح منتشرة في البدن، أصلها مركزها -هي منتشرة-؛ لكن مركزها والله أعلم بكيفية ذلك مركز الادراكات في الموقع الذي فيه القلب، ولهذا قال «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله» والأصوليون يبحثون هذا ويفيضون فيه هل العقل أم في القلب، والصحيح أنه في القلب ما هو موافق لظاهر الآيات هكذا.
س3/ كلهم يسألون نفس المسألة: هل يُفهم أن الروح في القلب؟(17/330)
ج/ لا، الروح ليست في القلب، الروح على هيئة البدن ، الروح منتشرة مثل البدن بمعنى لو فصلت الروح على البدن فصارت نفس الصورة؛ لكنها صورة غير جثمانية؛ لأن الميت يُرى في المنام، يرى الرائي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي» ومعلوم أن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام على صورته التي كان عليها رؤية لروحه؛ لأن بدنه مدفون عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء في السماء رأى موسى ورأى آدم ورأى عيسى، رأى إيش؟ رأى أرواحهم، لهذا صورة الإنسان الجثمانية في البدنية، وغير لجثمانية في الروح، الروح منتشرة لها أيضا موقع أصل مثل ما يكون القلب هو الأصل بالنسبة للبدن؛ يعني من حيث ضخ الدم وحركة البدن، كذلك من جهة الادراكات ومن جهة تعلقات الأشياء بالروح فموقعها في هذا الأصل.
هذا ظاهر ما دلت عليه النصوص ويجمع على هذا النحو، وليس هذا من الخوض في الروح المنهي عنه في قوله تعالى ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً?[الإسراء:85]؛ لأن البحث في الروح الذي يكون نتيجة للتفقه في الكتب والسنة هذا مطلوب؛ ولكن إذا كان عن ظن وعن عقل وتجارب وأشباه ذلك بلا برهان شرعي فهذا هو المذموم.
س4/ هل يكون المقصود من الكلام الثاني خاص لأهل التوحيد؟
ج/ نعم، أنا ذكرت أن الثاني أن منهم أنهم يعبدون ويدعون أو أن منهم من لا يصلي ومنهم من يأمر بالفسق ويُحكى عنه الزنى وشرب الخمر إلى آخره هذه لإيقان الموحد لكن لا تدخل معه في النقاش، تقول هذه الأشياء جادلك فيهم، وهيهات كيف تثبت، لا سبيل إلى الإثبات يعني لكل مجادل.(17/331)
س5/ لو قام دعاة للتوحيد وقالوا لعباد القبور نحن نوافقكم أن هؤلاء أولياء، فإنه يكون هناك تناقض بين الدعاة الذين قالوا أنهم ليسوا بأولياء فيشك المدعوون في هذه الدعوة؟
ج/ الداعي لابد أن يكون حكيما قد يكون المناسب أن يسكت يكون ليس الكلام فيها، إذا كانوا أولياء ومقامهم عند الله تعلقها بالشرط إذا كان يرى مصلحة، وإذا كان هذا المدفون وليا من أولياء الله يقر بذلك، إذا قال الحسين بن علي قال نعم أهل البيت الذين لم يعرف عنهم شيء من الفسق إلى آخره فيقول نعم هم أولياء، لا مانع من هذا، ولو صار فيه تعارض بينه وبين غيره، والحق أحق أن يتبع.
س6/ سؤال لم أفهم المقصود منه لكن أقول:
كتب أهل العلم الراسخين أليس فيها بركة ويؤجر حاملها ويتوسل مقتنيها بطلبه لعلمها الشرعي؛ لأن ذلك مما يتقرب به إلى الله بذلك؟
ج/ الجواب نعم لا شك، كتب أهل لعلم الراسخين فيها بركة، ويؤجر حاملها بنية طلب العلم، ويتوسل مقتنيها بطلبه لعلمها الشرعي، هذا ما لها علاقة بوجود الكتاب في السفينة، أو وجود الكتاب في السيارة، فجعل الكتاب في السيارة توسلا به هذا من التبرك الباطل، حتى المصحف ما يجعل يتخذ تميمة على الصحيح مثل ما ذكرنا لا يجوز، فاتخاذ كتاب آخر تميمة يرجو نفعه ويرجو دفع الضر هذا من الشرك، نوع من أنواع اتخاذ التمائم، التوسل بطلب العلم بعملك أنت للكتاب هذا شرك.
س7/ أستشيرك في حضور هذا الدرس، وهو أني لم أسمع شرح كتاب التوحيد والقواعد الأربع، فهل أستمر؟
ج/ الذي ينبغي أن لا تستمر، فتنظر تحضر درس آخر أو دروس أخر ويكون فيها بداية لطالب العلم، بداية صحيحة.
س8/ ذُكر في كتاب نُزُل الأبرار أن الحامل إذا اشتد عليها الحمل يوضع على بطنها موطأ الإمام مالك فيخف بإذن الله وهو مجرب.(17/332)
ج/ يمكن الشافعية يقولون تحط مسند الشافعي، هذا المالكية قالوا تحط موطأ الإمام مالك، والشافعية يقولوا تحط مسند الشافعي، هذا يقال مجرب ولا أثر لذلك، قد يتفق أنه حصل مرة حصل مرتين بإذن الله فوافق هذا؛ لكن لا يجوز الاعتقاد في الكتب هذا الاعتقاد أن فيها بركة وتتخذ تمائم.
س9/ الكلام على الشهداء مر علينا، يقول: الذين يطوفون حول أضرحة وقبور الشهداء ويقول الله يقول ?وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ?[آل عمران:169]؟
ج/ ذكرنا في أول شرح كشف الشبهات الجواب عن حال الشهداء بالتفصيل؛ لكن من أقوى الحجج اختصارا أن شهداء أحد الذين نزلت فيهم هذه الآية من آل عمران أجمع المسلمون في حياة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهو بينهم وكذلك أجمع الصحابة في حضرة الخلفاء، وأجمع من بعدهم إلى انتهاء القرون المفضلة الثلاث، أجمعوا على أنهم لا يؤتى الشهداء في قبورهم ليسألوا، وإنما يأتي من مر عليها دون قصد أو شد رحل فيسلِّم عليهم السلام المعتاد، فهذا الإجماع قطعي والإجماع حجة وقد قال جل وعلا ?وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115].
س10/ هل يجوز أن نقول فلان من الناس ولي جازما وهو رجل معروف بالفضل؟
ج/ ترجو أن يكون وليا، وعموما هدي السلف ليس فيه أنه يقل هذا ولي وهذا ولي، يرجون أن يكون فلانا وليا، وتطالع هدي الصحابة والتراجم الصحابة والتابعين لا تجد هذه الأسماء هذا ولي وهذا ولي، إنما يذكرون فضله وصلاحه ليقتدي الناس به، أما منزلته فهي عند الله جل وعلا.(17/333)
س11/ بعض الناس يشتبه يقول تقسيم التوحيد المعروف لدينا لم يكن على أصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمر من أراد الإسلام بالشهادتين ولا يقسم التوحيد المعروف عند الناس؟
ج/ لو كان الناس كألئك ما احتجنا إلى تقسيم التوحيد، إنما لما فشى الجهل في الناس احتاج أن تقول له خرج محمد ومحمد فاعل، أما عند الصحابة تقول خرج محمد فعل وفاعل إيش هذا، يضحكون عليك إيش هذا؟ فحين وقع الناس في الجهل احتجنا إلى التفصيل، وإلا من المعلوم أن من قال أشهد أن لا إله إلا الله فهو مقر بأنواع التوحيد الثلاثة، تكفي لأنها متضمنة لتوحيد الربوبية مطابقة في توحيد الإلهية ومستلزمة لتوحيد الأسماء والصفات، أو تقول أيضا متضمنة لتوحيد الأسماء والصفات، فهذه ظاهرة من كلمة لا إله إلا الله.
فإذا فشى الجهل في لناس فلا بأس أن يفصل لهم من العلم ما هو ثابت في الكتاب والسنة بتقسيمات ليتّضح المراد
مثل: ما عند الصحابة شروط الصلاة كذا، أركان الصلاة كذا، وواجباتها كذا، كل هذه العلوم تقسيمات لأجل حاجة في الناس.
س12/ ما صحة الحديث الذي يحتج به على دعاء غير الله «إذا كنت في أرض فلاة فقل يا عباد الله احبسوا»؟(17/334)
ج/ هذا الحديث رُوِي من أهل العلم من حسنه، وعلى القول بتحسينه فلا حرج يعني لا إشكال فيه؛ لأن قول الذي ضل الطريق يا عباد الله احبسوا يقصد به الملك الذي معه، لا يقصد به الجن أو يقصد به مخاطبة من لا يقدر أو ما أشبه ذلك، وهذا على القول بصحته وقد استعمله بعض العلماء، فدُلُّوا على الطريق ، فليس في الحديث مناداة الغائبين الذي يحتج به أهل الشرك، وإنما هو قول (يا عباد الله احبسوا) تتمة الحديث «فإن له جل وعلا عبدا حاضرا سيحبسه» والظاهر عند أهل العلم أن المراد بالعبد الحاضر هو الملك الذي يسدده لأن الإنسان معه الملائكة كم قال سبحانه ?لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ?[الرعد:11]، يعني يحفظونه بأمر الله.
س13/ ما معنى قول بعض السلف أن معنى (الصَّمَد) هو الذي لا جوف له. ما معنى ذلك وكيف نوفق بينه وبين المعاني الأخرى؟
ج/ الصمد فسرت بتفسيرات مثل ما ذكرنا لكم آنفا أو فيما سبق:
الصمد الذي يصمد إليه عند الحوائج وهذا أكثر التفاسير على هذا عند السلف.
والصمد أيضا في اللغة يقال فلان صمد إذا كملت خصال سؤدده وصفات فضله، كمال الصفات والخصال المحمودة يقال فلان صمد، يقال لسيد القبيلة التي كملت صفاته هذا صمد؛ يعني بلغ في الصفات البشرية عندهم الغاية؛ في الكرم كذا، وفي التواضع كذا وفي الحنكة كذا وفي الحكمة كذا وفي الرأي إلى آخره.
وفُسرت أيضا الصمد بأن الصمد هو الذي لا جوف له؛ يعني الإنسان والمخلوق لذي تراه هذه لها جوف ولها أحشاء ولها أشياء في داخلها فالصمد هو الذي لا جوف له هذا يخرج مشابهة المخلوقات، فلا يُظن أن اتصاف الله جل وعلا باليد أن ذلك عن طريق تجويف، أو اتصاف الله جل وعلا بالقدم أن ذلك عن طريق تجويف أو اتصاف الله جل وعلا بالعينين أن ذلك عن طريق تجويف إلى آخره، فهو سبحانه وتعالى صمد قد كَمُل سبحانه في أسمائه وصفاته.
س14/ ما معنى الأقانيم؟(17/335)
ج/ الأقانيم هذه عند النصارى، التي ذكرناها عندكم في الدرس الماضي، الأقانيم النصارى يعجزون عن أن يفسرونها بتفسير صحيح، مثل الكسب عند الأشاعرة يعجزون عن تفسيرها تفسيرا صحيحا، ومعناه القريب.
معنى الأقنوم الصورة أو إحدى الصور للأصل؛ يعني أن الشيء إذا كان له ثلاث جهات يعني أشبه ما تقول يعني شيء له بعد ثلاثي، إذا أتيت من هنا قلت هذا هو، وإذا أتيت من هنا قلت هذا هو وإذا أتيت من الجهة الثالثة قلت هذا هو.
فعندهم أن الله جل وعلا ثلاثة أقانيم إله واحد آب يعني أب وابن وروح القدس هذا عند الكاثوليكيين؛ أب وابن وروح القدس يشكلون جميعا ثلاث صور لشيء واحد وهو الله.
لهذا يقولون بعدها إله واحد وهذا كّرهم الله جل وعلا بهذا فقال ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ?[المائدة:73]، ونعلم أن قول (ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) من حيث اللغة يعني أنه منها وليس خارجا عنها، ففي اللغة أن الشيء إذا كان من جنس عدده أُدخل فيه، وإذا لم يكن من جنسه أخرج منه، تقول مثلا كنت ثالث ثلاثة، كنت رابع أربعة، كنت خامس خمسة إذا كانوا من الإنسان، الله جل وعلا قال ?مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ?[المجادلة:7]، لاحظ هنا قال (ثلاثة رابعهم) لأن الله مباين لهم أما إذا كان المعدود من جنس المعدود عليه من جنس المعدود فيدخل في العدد، مثل ما قال جل وعلا في سورة المائدة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)، فهم قالوا إن الله ثالث ثلاثة يعني داخل في العدد؛ الآب الذي هو الله والابن وروح القدس شيء واحد كلها إلهية لم تأخذ صفة الناسوتية، فلهذا يكون ثالث ثلاثة بحسب تعبيرهم فهو دخل في التثليث، نسأل الله العافية.
س15/ ما حكم الأبيات التي في نهج البردة، وهل يجوز للموحدين حفظها؟(17/336)
ج/لا، يجوز لأحد يحفظ الأبيات الشركية؛ إلا لأهل العلم الذين يحتاجون إذا حفظوها أن يردوا على الخصوم، أما لسائر الناس أو لعامة طلبة العلم؛ لأن هذا شرك والشرك لا يحث عليه ولا يخاطب المرء بتوحيده فيه، فالأصل السلامة إلا عند الحاجة فيؤخذ الشيء بقدره.
نكتفي بهذا وصلى لله وسلم وبارك على نبينا محمد.
??¹™™
[المتن]
إذا تحقَّقتَ أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحّ عقولاً وأخف شركًا من هؤلاء، فاعلم أن لهؤلاء شُبْهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها وهي:
أنهم يقولون إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذّبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينكرون البعث ويكذّبون القرآن ويجعلونه سحرًا، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟
فالجواب: أن لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء وكذّبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضَه، كمن أقرّ بالتّوحيد وجحد وجوب الصلاة أو أقرّ بالتوحيد والصّلاة وجحد وجوب الزكاة أو أقرّ بهذا كله وجحد الصوم، أو أقرّ بهذا كله وجحد الحج، ولما لم يَنْقَدْ أناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج أنزل الله في حقهم: ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ?[آل عمران:97].(17/337)
ومن أقرّ بهذا كلِّه وجحد البعث كفر بالإجماع وحلّ دمه وماله كما قال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا للكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا?[النساء:150-151].
فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقًا زالت هذه الشبهة وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا. ([56])
[ويقال أيضًا: إذا كنت تقرّ أن من صدّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء وجحد وجوب الصّلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقرّ بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدَّق بذلك كله وهنا لا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا.
فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج. فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور؟ كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟! سبحان الله ما أعجب هذا الجهل!]
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا، ربنا لا تكلنا لأنفسنا في ديننا وفي دنيانا طرفة عين.
اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا، نسألك أن تجعلنا ممن إذا أُعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
أما بعد:(17/338)
فهذه شبهة جديدة ذكرها إمام الدعوة رحمه الله تعالى مما يورده الخصوم، وهذه الشبهة شبهة العلماء لأنّ الذي يوردها من أهل العلم، فإن لشبه التي ذكرنا فيم سبق وإن جوابها الذي ذكره الشيخ أقرّ بحسنه جمع كثير من أهل العلم في الأمصار كما قال إمام الدعوة رحمه الله تعالى: وقد عرضت ما عندي على علماء الأمصار فوافقوني في التوحيد وخالفوني في التكفير والقتال. يعني وافقوه في معنى العبادة وفي معنى التوحيد وفي معنى الشرك بالله جل وعلا؛ لكن خالفوا بأن عبّاد القبور وعبّاد الأضرحة والأوثان والأشجار والأحجار إلى آخره خالفوا في أن هؤلاء مشركون تقام عليهم الحجة فإن استجابوا وإلا قوتلوا.
خالفوا لشبهة وهي أن هؤلاء ليسوا كالأولين؛ لأن الأولين الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعثت إليهم الأنبياء هؤلاء يقرون بأنهم اتخذوا آلهة مع الله جل وعلا ولم ينقادوا للرسل؛ بل قالوا: إن هناك آلهة مع الله، كما قال سبحانه مخبرا عن ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلهَِتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ?[الصافات:35-36]، وكقول الله جل وعلا ?أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ(5) وَانْطَلَقَ المَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ?[ص:5-6]، وكقوله جل وعلا في سورة هود ?إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ?[هود:54]، إلى آخر الآيات في هذا الباب التي فيها اعتقاد أولئك بأن هناك آلهة مع الله جل وعلا.(17/339)
قال طائفة من الناس من المنتسبين للعلم: إن المشركين من هذه لأمة من عباد القبور هؤلاء وقعوا في الشرك، نعم؛ ولكن هذا الشرك ليس كفرا منهم لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، فإذا سألتَ الواحد منهم هل هناك إله مع الله؟ قال: لا. فحين يَفعل يفعل الشيء بعدم اعتقاد أنه تأليه لغير الله جل وعلا فخالف صنيع أولئك المتقدمين الذين اعتقدوا بإلهين؛ بل اعتقدوا بآلهة مع الله جل جلاله كذلك قالوا هؤلاء إن وقعوا في هذه الأشياء فهي كفر عملي لا يُخرج من الملة ككفر من قاتل مسلما، وكفر من أتى حائضا، وكفر من أتى امرأة في دبرها، وكفر كذا وكذا مما جاء في النصوص تسميته كفرا وليس بالكفر الأكبر؛ بل هو كفر أصغر وأشباه ذلك.
وقالوا أيضا إن هؤلاء الذين من هذه الأمة فعلوا تلك الشركيات هؤلاء لا يكذِّبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا ينكرون البعث ولا يكذبون القرآن ويجعلونه سحرا، ولا ولا يقولون بإنكار الزكاة والصلاة أو بعد تحريم الخمر أو بعد تحريم الزنى كفعل المشركين في الزمن الأول؛ بل هم مقرون بكل هذه التفاصيل لكنهم فعلوا ما فعلوا، فهذا يعني أنه لا يُخرجهم من الملة وليسوا بمشركين الشرك الأكبر.
وإذا تقرر هذا فإن هذه الشبهة كما ذكر الإمام رحمه الله تعالى وما عرضه من شبه القوم قال (فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها) ففي هذه الجملة ذكر أنّ هذه الشبهة يوردونها على ما ذكر الإمام؛ يعني ما ذكره في المحاجة ورد الشبه في التوحيد، في معنى التوحيد، ومعنى الشرك، ومعنى عبادة غير الله، ومعنى الالتجاء؛ إلى الالتجاء إلى لصالحين والالتجاء إلى الصالحين شرك أم لا؟ ومعنى التوسل وأشباه ذلك وتفاصيله مما ذكر من أول الرسالة إلى هذا الموضع.(17/340)
فإذا تبين ذلك قال (لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا) يعني من كل جواب الشبه السالفة فإن محصل الشبه السالفة أن يقال أنت محق في هذا الجواب، وأن هذا لذي يفعل شرك، وأن الالتجاء إلى الصالحين شرك، وأما طلب الشفاعة من الأموات شرك، إلى آخر ذلك وأن صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله شرك، وأنت محق وأن هؤلاء لذين أدلوا بالشبه في استحسان الأفعال مبطلون، وما ذكرته صواب بأن هذه الأشياء شرك؛ لكن هذه الأشياء شرك ولكنها لا تخرج من الملة من صنعها من فعلها، وهذا هو جواب هذه الشبهة فيما يأتي من كلام الإمام رحمه لله تعالى.
قال الشيخ رحمه الله (وهي من أعظم شبههم) لم صارت من عظم الشبه؟ لأنها كما ذكرت شبهة العلماء التي يذكرونها ويروجون به على العامة، فكثيرون من الذين ردوا على الشيخ نقلوا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن القيم وقالوا أنت محق في ما تقول؛ لكن كون هؤلاء يكفرون الكفر الأكبر هذا ليس بصحيح؛ بل هؤلاء على كفر أصغر، هؤلاء على شرك أصغر وليسوا بمشركين الشرك الأكبر.
هذا تقرير الشبهة على حسب ما يوردونها وهذه الشبهة أجاب عنها الإمام رحمه الله تعالى هنا إجابة مختصرة، وفي ردود أئمة الدعوة ابتداء من الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه إفادة المستفيد في كفر ترك التوحيد، وكتب تلامذته وأبنائه وتلاميذهم إلى هذا الزمن ما يُبين رد هذه الشبهة.
فإن هذه الشبهة من أعظم الشبه فتفصيل رد هذه الشبهة في ردود أئمة الدعوة المختلفة من وقت الشيخ محمد رحمه الله إلى زماننا هذا فيها تفصيل الرد على هذه الشبهة، ولا يتسع المقام لإيراد كل ما ذكروه؛ لكن نذكر تقرير ما ذكره لإمام رحمه الله وهو أصل هذه الردود وبه كفاية.(17/341)
قال (وهي: أنهم يقولون: إنّ الذين نزل فيهم القرآن) يعني من المشركين (لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذّبون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويُنكرون البعث ويكذّبون القرآن ويَجعلونه سحرًا، ونحن) يعني نفارق أولئك (ونحن نشهد أنّ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟) وهذه لاشك إذا أوتي إليها من ناحية عاطفية فإنها تروج، وأن الناظر نظرا عاطفيا مجردا عن الحجة والبرهان قد يروج عليه ذلك، فيقول هؤلاء مصلون ويصومون، وقد يكون بعضهم في جبهته أثر السجود، وبعضهم يصوم يوما ويفطر يوما، وبعضهم تصدق بكل ماله، وبعضهم مجاهد في سبيل الله وحارب الكفار، وفعل ما فعل من أنواع الجهاد وبعضهم كذا وكذا، فيسرد جملة الأعمال الصالحة التي عملهاذ، فيقول كيف تجعله كأبي جهل؟ كيف تجعله مثل أبي لهب؟ كيف تجعله مثل فلان وفلان؟ كيف تجعله مثل المشركين؟
وهذه حجة عاطفية ومعلوم أن الديانة قامت على البرهان، والبرهان العاطفي أو القضية العاطفية ليست برهانا باتفاق العقلاء؛ لأن العاطفة لها مدخل أو للهوى مدخل عليها، والبراهين خارجة عن مقتضى الهوى.
البرهان يقام بالحجة المتفق على الاحتجاج بها شرعية سمعية أو عقلية في كلام العقلاء وكلام النظّار من جميع الفرق؛ يعني في كون الحجة تمضي والحجة العاطفية ليست بحجة؛ لأنها ناشئة عن رغبة وهوى.
فلذلك نقول: هذه الشبهة ينبغي أن يتخلص صاحبها أولا من العاطفة، والعاطفة لا مدخل لها في الدين؛ لأنها ليست أحد الأدلة، وإنما الأدلة على المسائل التي يُحْتَجُّ بها في هذه الشريعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح والعقل الصريح وأقوال الصحابة إلى آخر الأدلة المتفق عليها والمختلف فيها؛ يعني أن الحجج في الشريعة ليست فيها الحجة العاطفية؛ كيف نجعل هذا مثل هذا؟ هذا أمره عظيم، هذا فيه كذا وكذا فكيف يجعل على شبه بأولئك.(17/342)
فقال الشيخ رحمه الله مبديا حجة علمية وإبطالا لهذه الإيرادات العاطفية قال (فالجواب: أنّه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء وكذّبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام) وهذا حكاية للإجماع وهذا القدر من الحجة صحيح كما أورده الإمام رحمه الله تعالى في أنّ الإجماع انعقد باتفاق الأئمة الأربعة وأتباعهم، وكذلك غيرهم في أنه من أراد الدخول في الإسلام، فقال: أنا أدخل مصدِّقا بأشياء ومكذبا في أشياء أنه لا يدخل في الإسلام وإن قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن ومحمدا رسول الله فإن تصديقه ببعض الأشياء في الدين وتكذيبه ببعض آخر لا يدخله في الإسلام أصلا وهذا من جهة أنه أول ما يدخل في الإسلام كذلك من دخل في الإسلام فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ثم كذب ببعض القرآن ولو بحرف واحد متفق عليه فإنه لا يدخل في الملة ويخرج منها بتكذيبه؛ لأن العلماء نصوا على أن من أنواع الردة أن يكون مكذبا أو شاكا أو جاحدا فمن كذب بشيء؛ ولو بحرف واحد من القرآن متفق عليه فإنه كافر ولا تنفعه صلاته ولا صيامه بالاتفاق؛ قال (وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه) آمن ببعض القرآن يعني من حيث الألفاظ، وجحد بعضه يعني من المتفق عليه، ولم يؤمن به لو قال هذا ليس من القرآن والأمة متفقة على أن هذا اللفظ الذي جحده من القرآن يعني لفظا فإنه يكون كافرا بالاتفاق بالإجماع، وكذلك من آمن ببعض أحكام القرآن المتفق عليها وجحد بعض أحكام القرآن المتفق على معناها؛ يعني التي دلالتها قطعية فإنه يكون أيضا كافرا خارجا من الدين باتفاق العلماء وبالإجماع، حتى من أورد هذه الشبهة فإنه لا ينكر هذا الإجماع.(17/343)
مثّل لهذا بقوله (كمن أقرّ بالتّوحيد وجحد وجوب الصلاة) من أقرّ بالتوحيد موحد مؤمن بأنه لا إله إلا الله وبأنّ محمدا رسول الله، وكثير الزكاة والصدقات، ويصوم فرضا ونفلا، ويحج بيت الله جل وعلا كل سنة؛ لكن قال: هذه الصلاة ليست بواجبة إما مطلقا أو ليست بواجبة عليه، فإن هذا يعد كفرا بالإجماع لأنه جحد معلوما من الدين بالضرورة، وبالإجماع لا يشفع له توحيده، وبالإجماع لا يشفع له كثرة زكاته وصدقاته، وبالإجماع لا يشفع له صومه الفرض والنفل، وبالإجماع لا يشفع له التزامه بقية أحكام الشريعة؛ لأنه جحد وجوب الصلاة إما مطلقا أو عليه.
فإذا كان كذلك صارت هذه القاعدة التي أوردوها أو هذه الشبهة منتقِضة بالإجماع إذْ إنهم قالوا كيف تجعلون من جحد الرسالة من المشركين ومن لم يؤمن بالله إله واحدا ومن كذّب الرسول كيف تجعلونه من كذب بالبعث يعني لم يؤمن بالبعث كيف تجعلونه كالذي يصلي ويصوم ويفعل ويفعل من هذه الأفعال والأعمال الصالحة؟ ونقول بالإجماع هذه منتقضة بالصلاة، وكذلك منتقضة بالزكاة بالاجماع، فإنه لو كان مصليا كثير الصلاة وجحد وجوب الزكاة إما مطلقا -يعني على الناس جميعا-، وإما عليه بخاصة ولم يلتزم، فإنه يكون كافرا بالاتفاق.
فإذن يدل على أن الإيراد العاطفي الذي أوردوه ليس بواردٍ شرعا باتفاق أهل العلم.(17/344)
قال (أو أقرّ بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة، أو أقرّ بهذا كله وجحد الصوم، أو أقرّ بهذا كله وجحد الحج) العلماء من كل مذهب من المذاهب الأربعة المتبوعة مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى جميعا، وكذلك غيرهم من المذاهب المهجورة كمذهب سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق ابن راهوية وابن جرير وجماعات أهل العلم وكذلك مذهب الظاهرية الذي ألف فيه ابن حزم وقبله داوود الظاهري متفقون على أنّ المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يخرج من الإسلام بقول أو فعل أو اعتقاد أو شك، فذكروا أن المكفرات بالاتفاق أربعة تُخرج الموحد من الدين وهي: القول والفعل والاعتقاد والشك.
وذلك لأنهم اتفقوا على أنّ من قال قولا يناقض الشهادة أو يناقض أصل توحيده أو يناقض أمرا معلوما من الدين بالضرورة فإنه يخرج من الدين، وكذلك إذا عمل عملا أو اعتقد اعتقادا يعني مكفرا يعني شركا؛ اعتقد في الله بأنه جسك كالأجسام أو اعتقد في الله صفة قبيحة، أو شك في أمر من الأمور فإنه يكفر لو كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
إذن الأئمة متفقون على أن المسلم الذي يعمل بأركان الإسلام ويعمل بفروعه قد يكفر بعمل أو قول أو اتقاد أو شك.
فإذن هذه الشبهة التي أوردوها مخالفة أيضًا لإجماع علماء الذين ألفوا في هذا الباب، وفي كل مذهب تجد بابا خاصا بهذا وهو باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه.(17/345)
وفي الحقيقة قولنا عن هؤلاء -يعني عباد القبور- الذين نشأوا على ذلك أنهم مرتدون، أصعب من أن نقول إنهم كفار أصليون، ولهذا ذهب جمع من علماء الدعوة بل الأكثر منهم ومن غيرهم أنّ هؤلاء الذين لم يعرفوا التوحيد أصلا ونشأوا عليه وشبوا عليه وكانوا مشركين بالله جل وعلا ولم يعرفوا الإسلام الصحيح أنهم لم يدخلوا في الدين أصلا حتى يقال إن أحكام المرتد تجري عليهم؛ بل هم كفار أصليون ومعلوم أن الكافر الأصلي في أحكامه أخص من أحكام المرتد لأن لهم في ذلك تفاصيل معلومة في بابها.
نقول: وهنا الإجماع إذن منعقد على هذا، ومن احتج بهذا القول من أتباع مذهب مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو الإمام أحمد يقال لهم ما قاله علماؤهم في كتب مذاهبهم، فإنه سيقف.
ولهذا يناسب أن يقوم الدعاة إلى الله جل وعلا في كل بلد فيه أنواع الشرك بالله بالمقبورين والمدفونين والأولياء وغيرهم أن يوردوا الأدلة والأقوال من أقوال علماء مذهبهم، ويجمعونها وينشرونها في الناس؛ لأن في هذا إقامة للحجة عليهم؛ ولأن في هذا أيضا إبعادا للشبهة التي أوردها هذا المورد؛ لأنه قد يتخيل بعض من لم يحقق من طلبة العلم أو بعض العوام أن هذا القول إنما جاء به الوهابية، وليس عليه علماء المذاهب، فإذا جمعت هذه الأقوال ونشرت في البلد؛ البلد الذي يشيع فيه مذهب الإمام مالك ينقل فيه كلام المالكية، والمالكية لهم توسع في هذا أيضا، والحنفية أيضا أكثر منهم، والشافعية والحنابلة في باب التكفير أقل؛ يعني فيما يحصل به الكفر، فيُنقل من كتبهم ما به يكون رد هذه الشبهة، حتى لا يتوهم أن هذه الشبهة تفرّد به الوهابية كما يزعمون.(17/346)
والدعوة السلفية بعامة في كل بلد إنما عمدتها الكتاب والسنة وإجماع هذه الأمة؛ إجماع علمائها وما كان عليه سلفنا الصالح وما عقده أئمة أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح وأتباع الأثر، هذه عمدتهم في أي بلد، فالوسيلة التي يقررون بها الحجة ويُضعفون بها الشبهة ينبغي لهم أن يسلكوها؛ لأن الحق أحق أن يُتَّبع.
قال رحمه الله بعد ذلك (ولما لم يَنْقَدْ أُنَاسٌ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج أنزل الله في حقهم: ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ?[آل عمران:97])، قوله (ولما لم يَنْقَدْ أناس) عبر رحمه الله بانقياد الذي معناه الالتزام، وإلا فإن عدم الحج مع الانقياد للحكم -يعني مع اعتقاد وجوبه على المخاطب به- ليس بكفر، وإنما يكفر من جحده أو من لم يلتزم به -يعني قال لا يجب علي وإنما يجب على غيره-، من لم ينقد للحكم؛ قال: هم واجب على الناس واجب على غيري وأنا لا يجب علي الحج. فهذا غير ملتزم به، كحال الرجل الذي نكح امرأة أبيه بعد نزول قول الله جل وعلا ?وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا?[النساء:22]،لم يلتزم بالحكم، لم ينقد له، فقال: أنا غير مخاطب بذلك. ولم يلتزم به ولم ينقد له فصار كافرا.
خلاف من لو التزم وانقاد يعني قال: أننا ملتزم، وهذا حرام علي. لكن فعله فهذا له حكم أمثاله من أهل الكبائر.
فقول الشيخ رحمه الله (ولما لم ينقد) هذا تعبير دقيق.(17/347)
ولهذا قرأتم في شروط لا إله إلا الله وتعلمتم أنّ من شروطها الانقياد، فالانقياد معناه الالتزام، التزام بما دلت عليه ولو لم يفعل؛ لكنه يلتزم أن يقول: هذا واجب وأنا مخاطب به وهذا محرم وأنا مخاطب بذلك بتحريم كذا، لكنه لم يفعل، فله حكم أمثاله من أهل الكبائر؛ لكن إن قال هذا غير واجب عليّ، أنا ممن ارتفعت عنه التكاليف هذا يجب على الناس، وأما أنا فلا يجب علي هذا يحرم على الناس أما أنا فلا يحرم علي، فيعتقد أنه واجب في نفسه هذا الأمر محرم في نفسه يعني محرم؛ لكن يقول أنا لا ألتزمه لأني غير مخاطب به، كفعل طوائف من هذه الأمة فهؤلاء لم ينقادوا للحكم الشرعي.
فالشيخ عبر بالانقياد وهو تعبير علمي له دلالته في الأحكام الفقهية وفي التوحيد.
قال (ولما لم يَنْقَدْ أناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - للحج أنزل الله في حقهم: ?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ?[آل عمران:97]) قوله (عَلَى النَّاسِ) هذا من ألفاظ الوجوب عند الأصوليين (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ) عليك كذا وأشباه هذا، فإن ألفظ الوجوب عندهم كثيرة متعددة، ومنها كلمة (عليك) وعلى وأشباه ذلك ولله على الناس يعني يجب عليهم (حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ) بهذا الحكم ولم ينقد له (فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).(17/348)
بعد ذلك قال الإمام رحمه الله (ومن أقرّ بهذا كلِّه وجحد البعث كفر بالإجماع) ما رأيكم فيمن قال: أنا موحد أقول لا إله إلا الله محمد رسول، لا أعبد إلا الله مقر لله بالواحدنية في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، ومقرّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - وشاهد له بالرسالة وبأنه خاتَم المرسلين، وأصلي وازكي وأصوم وأحج؛ لكن مسألة البعث هذه فيها نظر عندي والأقرب أنْ لا بعث بعد الموت. ولو كان من أتقى الناس في تلك الأمور؛ لكنه قال: أنا أتعبد لله وأصلي وأصوم هذا طاعة لله جل وعلا؛ لكن لا بعث فإنه بالإجماع كافر ويحل دمه وماله لإجماع المسلمين لذلك (كما قال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(150) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا للكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا?[النساء:150-151]) فهذه الآية دلت على أن من فرّق بين حكم وحكم فجحد حكما وقبل حكما فإنه يكون كافرا لقوله تعالى (أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا).(17/349)
قال رحمه الله (فإذا كان الله قد صرّح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقًا زالت هذه الشبهة) لأن الذي أنكر عبادة الذي قال إن عبادة غير الله جل وعلا ليست شركا أكبر وإنما هي شكر أصغر فإنه لم يؤمن بقول الله جل وعلا ?إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72]، وبقول الله جل وعلا في سورة الحج ?وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ?[الحج:31]، ونحو ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الباب فآمن بأن المشرك بدعاء غير الله مشرك؛ لكنه ليس بالمشرك الشرك الأكبر الذي يستحق معه النار، فإن هذا لاشك جحْد أو عدم إيمان ببعض ما أنزل الله جل وعلا.
هذا من حيث التأصيل العام.(17/350)
ومن حيث التفصيل قال رحمه الله بعد ذلك (ويقال أيضًا) يعني تفصيلا للجملة السالفة، (إذا كنت تقرّ أن من صدّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء وجَحَدَ وجوب الصّلاة فهو كافر حلال الدم والمال بالإجماع) يعني بعد أن تقوم عليه الحجة (وكذلك إذا أقرّ بكل شيء إلا البعث، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدَّق بذلك كله وهنا لا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا) يعني إذا كنت تقر هذا؛ يعني ما أوردناه من الإجماع وأن المذاهب متفقة على هذا، وأن من أنكر البعث فهو كافر حلال الدم والمال باتفاق العلماء وبإجماعهم ويذكر هذا في كتبهم، فنرجع إلى خصوص المسألة التي أوردت الشبهة فيها وهي مسألة التوحيد قال (فمعلوم أنّ التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج.) وجه كونه أعظم أنه بدأ به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة، فالنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ دعا الناس سنين عددا إلى التوحيد فقط، ولم تُفرض الصلاة ولم تُفرض الزكاة ولم يفرض الصوم ولم يفرض الحج، ومعلوم أنه في هذا الحال -يعني في حال الأمر بالتوحيد دون غيره- أنه إنما تكون البداءة بالأهم كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لمعاذ حين أرسله إلى اليمن «إنك تأتي قوما أهل كتاب» يعني من اليهود وثم نصارى هناك «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله»، «فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله» فهذا يدل على أن هذا أعظم من غيره، ومعلوم أنّ الصلوات الخمس لم تفرض إلا ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة من البعثة، ومعلوم أن صوم رمضان الفرض لم يكن إلا في السنة الثانية من الهجرة، ومعلوم أن الزكاة المفروضة بأنصبائها المعروفة لم تفرض إلا في السنة الثانية من الهجرة، وأن الحج فلم يفرض إلا في السنة التاسعة من الهجرة، وهذا يدل على تأخر هذه المسائل(17/351)
التي تقول إن من جحد واحدة منها ولم يأت بها فإنه يكفر بالإجماع، فما شأن أصل الأصول؟ ما شأن أول واجب؟ ما شأن الأمر الذي دعا إليه النبي في مكة سنين عددا؟ ما شأنه؟ هل هو أقل من هذه في الحكم؟
فالجواب: أن التوحيد هو أعظم فريضة بالاتفاق. ولهذا يذكر العلماء في المكفرات في باب حكم المرتد أول ما يذكرون في المكفِّر ما يتصل بالتوحيد؛ توحيد العبادة أو توحيد الربوبية أو توحيد الأسماء والصفات، فإنهم يذكرون هذا قبل غيره؛ لأنه أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ودعت بها الأنبياء، ومعلوم أن الصلوات والزكاة والصوم والحج إلى آخره اختلفت فيه الشرائع والأنبياء جميعا اتفقوا في التوحيد، فدل على أنه حق الله الأعظم وعلى أنه الفريضة العظمى فإذن يكون منزلتها أعظم من غيرها.
قال (فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟! سبحان الله ما أعجب هذا الجهل!) وهذا الاستدلال بالقياس وهذا قياس صحيح قوي.
ومعلوم أن قاعدة الشريعة العظيمة التي دلت عليها النصوص واتفقت عليها العلماء أنّ الشريعة لا تفرّق بين المتماثلات، ولا تماثل بين المختلفات، فإن المتماثلات في العلّة لا تفرّق بينها الشريعة إذِ الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.(17/352)
ومما جاءت به الشريعة وجاء في القرآن الاستدلال به والاستدلال بقياس الأولى، فإنه القياس الذي اتفقت عليه هذه الأمة حتى الظاهرية لا ينكرون القياس المسمى عند الفقهاء الأربعة بقياس الأولى، لا تنكره الظاهرية وإن كانوا لا يسمونه قياسا؛ بل يسمونه تمثيلا أولويا، فيقال هذا مثل هذا عندهم بل أولى منه، ويخرجون من تسميته قياسا، وفي الحقيقة أنهم يقرون به، فالقياس الأولوي؛ يعني أن هذا أولى من هذا فهذا بالاتفاق عند الجميع، وإذا أنكر المرء متفقا عليه بين العقلاء وبين الفقهاء ومجمعا عليه من الدليل فإنه يكون ليس على أصل لا في التفريع ولا في التأصيل، ومعلوم أن هذا رد قوي على الذين يفرقون فإن الشريعة لم تأت بالتفريق بين المتماثلات، فكيف بالتفريق ما بين هو أدنى وأعظم رتبة.
التوحيد أعظم رتبة، كيف يتفق العلماء، كيف تقول أنت أيها المورد لهذه الشبهة كيف تقول إن الذي جحد الصلاة وهو يقر بغيرها، أو جحد الزكاة وهو يقر بغيرها، أو جحد الصوم وهو يقر بغيره، أو أقر بهذه كلها وجحد البعث، كيف تقول أنه يكفر وحلال الدم والمال، ومن ترك التوحيد وجحده لا يكفر ولا يكون حلال الدم والمال بعد إقامة الحجة عليه؟ كيف تقول هذا سبحان الله ما أعجب هذا الجهل؛ لأنه جهل بالعقليات وجهل أيضا بالشرعيات وجهل بكلام العلماء!!!
نقف عند هذا([57]) ....
....قتال بني حنيفة وقتال المرتدين وهذه تحتاج إلى تفصيل ونأتي إليها إن شاء الله في المرة القادمة.
فتحصل من هذا إلى أن هذه الشبهة هذا جوابها العام، وحبذا لو يطالع الإخوة وطلاب العلم الردود التي صنفها إمام الدعوة على المخالفين، وخاصة كتابه (مفيد المستفيد بكفر تارك التوحيد) وكتب أئمة الدعوة في الردود على المخالفين، فإن فيها تفصيلا لهذه الجملة التي أوردها الإمام رحمه الله تعالى، والحجة التي ذكرها كافية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
[الأسئلة](17/353)
الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان عظيم الإطلاع على كتب التفسير، وله عناية بالتفسير وكلام السلف فيه عناية عظيمة جدا، ولهذا من أشْكَل عليه شيء مما يذكره الإمام رحمه الله تعالى في مسائل الآيات ومعاني الآيات فإنه يرجع إلى التفاسير وسيجد ما ذكره، وقد اختبرتُ ذلك مرارا فوجدته كما قال رحمه الله تعالى، فيُراجَع ما أشكل مما ذكره أحد السائلين فستجد في كتب التفسير ما ذكره الشيخ رحمه الله.
س/ يقال: إن الأشاعرة كما ضلوا في باب الأسماء والصفات فهم ضالون أيضا في توحيد الألوهية فأكثرهم يعتقد في القبور ويتوجه إلى الأموات بالدعاء والاستغاثة إلى آخره، فما مدى صحة هذا القول؟
ج/ الجواب أن قول الأشاعرة ضالون في باب الأسماء والصفات فقط دون غيره هذا غلط، فالأشاعرة ليس خلافهم مع أهل السنة في باب الأسماء والصفات؛ بل في مسائل كثيرة؛ فهم في معنى الربوبية يخالفون أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح، وفي معنى الألوهية يخالفوننا، وفي معنى توحيد السماء والصفات أيضا يخالفوننا، وفي التطبيق العملي لكل هذه المسائل في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات وما يجب على المكلَّف فيها وما يُعتقد أيضا يخالفوننا، وفي معنى الإيمان يخالفوننا في ذلك؛ لأن الأشاعرة مرجئة في باب الإيمان، وكذلك في القدر يخالفوننا، وهم جبرية في باب القدر وفي مسائل تفصيلية وتفريعية كثيرة يخالفون أهل السنة.(17/354)
لهذا شاع عدم التكفير؛ تكفير عباد القبور لأن الأشاعرة أصَّلوا أنَّ التوحيد هو اعتقاد وحدانية الله جل وعلا في ربوبيته وأسمائه وصفاته، فمن اعتقد أن القادر على الاختراع والخلق هو الله وحده فهو موحِّد عندهم لأنهم يفسرون الإله بأنه القادر على الاختراع، ومن اعتقد بأن الله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه فهو موحد عندهم، فمن اعتقد هذه العقيدة في الربوبية وعبد غير الله فلا يكون ناقضا لتوحيده، وهذه شاعت في الناس ببلاء عظيم عندهم وعند الماتريدية في أصناف كثيرة.
ولهذا نقول الخلاف مع الأشاعرة ليس في مسألة واحدة في الأصول والفروع؛ يعني في الأصل وفي فروع ذلك الأصل والله المستعان.
س/ ما رأيك في من يقول إن القياس كالميتة لا يرجع إليه إلا عند الضرورة؟
ج/ هذا القول معروف عند طائفة من أهل العلم، والجواب عليه: أن الضرورة هذه ما هي؟ الضرورة لهم تعاريف فيها لا تنطبق على هذا الكلام.
فالقياس يقال: يؤخذ به عند الحاجة، إذا احتيج إليه أخذ به، والحاجة إلى القياس تكون في مسائل:(17/355)
الأولى: عند تدعيم دليل شرعي؛ يعني إذا دلّ الدليل على شيء فإن دعم هذا الفهم من الدليل بالأقيسة يقوّيه، وهذا الذي يسمى عند العلماء ذكر النظائر في المسائل، وهذه طريقة أهل السنة وقد امتثلها كثيرا في الفقه شيخ الإسلام ابن تيمية، فتجده يذكر دلالة القرآن والسنة على مسألة، ثم يذكر النظائر الكثيرة ويفرِّع ويقول هذا نظيره كذا ونظيره كذا، مثل مثلا في أول كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم تجد أنه نحو 150 صفحة كلها تنظير، هذا الاستدلال بالقياس؛ يعني أن هذا مثل هذا وهذا مثل هذا وهذا مثل هذا، وهذه لها نظير كذا ونظير كذا، والاستطراد في هذا الباب يقوي الاستنتاج والاستدلال من الدليل؛ لأنه قد يأتي آت ويقول فهمك للدليل قاصر وناقص فليس الكلام في الدليل؛ ولكن في وجه الاستدلال، فيأتي الفقيه والعالم فيُنَظِّر ويأتي بنظائر كثيرة -يُنَظِّر يعني يأتي بنظائر ليس معنى يُنَظِّر يعني يقول فيه نَظَر، يُنَظِّر يعني يأتي بنظائر كثيرة- فيقول هذه مثل هذه مثل هذه مثل هذه مثل هذه ليقوي استدلاله وأن استدلاله لم يخرج عن القواعد.
ثانيا من إيراد القياس: أن يورِد القياس لإلغاء الفارق، ومعلوم أن الجمع والفرق من أصول قواعد الفقهاء، فإن فقه المسائل مبني على فهم الجمع والفرق في التعليل ما بين المسائل، وعلم الجمع والفرق كعلم المقاصد من أهم علوم المجتهدين، فيَحتاج المجتهد إلى أن يقيس ويذكر المسائل واحدة تلوى الأخرى ليبين الجمع بينها وليبين إلغاء الفارق بينها، ومعلوم أنه إذا حصل الجمع وأُلغي الفارق قامت الحجة.
الثالث أن تكون المسألة لا دليل فيها نقلي؛ يعني من الكتاب أو السنة، وإنما هي مسألة اجتهاد، فيحتاج إلى القياس ليلحق الفرع بالأصل لعلة جامعة بينهما، أو يلحق الحكم المسكوت عليه بالحكم المنصوص عليه لعلة جامعة بينهما.(17/356)
وهذا النوع الثالث هو الذي يجري فيه قول بعضهم القياس كالميتة لا يرجع إليه إلا عند الضرورة، وهذا ليس بجيد؛ يعني هذه المقالة ليست بجيدة على إطلاقها، ومن قالها فيُفهم منه هذا النوع الثالث لأنه إذا احتيج إلى القياس قيل به وتفاصيل هذه الكلمة معلومة في الركن الرابع في مباحث القياس في الأصول.
... لا، لا يكفَّرون، الأشاعرة مبتدعة ضلال على بدعة عظيمة راجت في الأمة بسببهم، لا يكفَّرون؛ ولكن يضللون ويبدعون على اعتقاداتهم الفاسدة في صفات الله جل وعلا وفي ربوبيته وإلهيته وفي الإيمان وفي القدر وفي بعض مسائل البعث، إلى آخره.
س/ ماذا تعلمون عن الرسالة التي أُرسلت إلى الشيخ من الأحساء؟
ج/ هناك عدة رسائل تأتي للشيخ من بعض علماء الأحساء، وأخص منهم الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي، عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف له عدة رسائل مع الشيخ، والشيخ رحمه الله لما رجع من البصرة مرّ عليه في الأحساء وجلس عنده عدة ليالي، وفرح الشيخ رحمه الله بعبد الله بن عبد اللطيف فرحا عظيما؛ لأنه وجده يخالف الأشاعرة الذين مشى على طريقتهم في مسائل الإيمان، حيث قال له مرة في رسالة له: ولما كنتُ جئتك ورايتك كتبت على أول صحيح البخاري في مسائل الإيمان هذا هو الحق الذي يجب القول به، فرِحتُ بذلك لأنك خالفت ما عليه أهل بلدتك من كلام الأشاعرة. يعني في مسألة الإيمان، وقال الشيخ رحمه الله في رسالته أيضا لعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي هذه: وأنا كثير الدعاء لك، وأدعو لك في سجودي، وكنت أقول أرجو أن تكون فاروقا لهذه الأمة في آخرها كما كان عمر بن الخطاب فاروقا للأمة في أولها.(17/357)
ورسائله مع عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي هذه فيها فوائد كثيرة في العلم تبين لك عظم علم الشيخ لأنه إمام الدعوة؛ لأن إمام الدعوة إذا كاتب العلماء كاتبهم بلهجة علمية قوية وتفصيل في المسائل، وإذا خاطب العوام أو المتوسطين في العلم خاطبهم بما يعرفون، حدثوا الناس بما يعرفون.
س/ أليس الشك إذا دافعه الإنسان واستعاذ بالله من الشيطان ليس خروجا من الملة ومجرد الشك لا يخرج من الملة؟
ج/ معلوم أن الشك ليس هو العارض، الشك حين يعبّر به العلماء يريدون الشك في اصطلاحهم، والشك عندهم استواء طرفي القضية في العلم، استواء طرفي القضية يسمى شكا، وأما العارض والتوهمات التي تأتي للقلب والأوهام التي يلقيها الشيطان هذه لا تسمى شكا عند العلماء، الشك أن يقول هذه وهذه مستوية عندي، فيكون شاكا ليس من جهة اعتقاد سريان الشيء على قلبه؛ ولكن يقول جواز البعث وعدم جوازه، إمكان البعث وعدم إمكانه في حد سواء عندي، قد نبعث وقد لا نبعث، هذا قد وقد، هل تُرجَّح أحد الجانبين على الآخر؟ قال لا هذه وهذه مستوية، فهذا يسمى شكا.
وإذا قال: نعم أرجح جانب البعث ولكن قد يكون ألا نبعث فهذا يسمى ظنا.
فإن قال لا البعث قائم وأومن به ولا احتمال عندي لعدم البعث، فيكون هذا علما.
وهذا على حسب كلامهم، ففهم مصطلحات العلماء ينبغي أن يكون على لغتهم لا على لغة العوام.
س/ ذكرتَ بأن من شك في شيء مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر؟
فما معنى الحديث الصحيح الذي جاء فيه أن رجلا قال: «إذا مت فحرقوني وذروني في اليم والله لئن قدر الله علي ليعذبني» إلى آخره، الحديث المعروف الذي في الصحيح.
ج/ هذا الحديث اختلف العلماء في الإجابة عليه.(17/358)
والتحقيق فيه الذي يتفق مع أصول الشريعة من جهة الاعتقاد والفقه أنّ هذا الرجل لم يشك في صفة من صفات الله، وإنما شك في تعلق الصفة ببعض الأفراد، فهو لم يشك في القدرة أصلا، ولو شك في قدرة الله لكفر ولم ينفعه إيمانه، إذا قال: أنا لا أدري هل الله قدير أم ليس بقدير؟ يعني شك في أصل القدرة، فهذا يكفر، أما شك هذا ففي نعلُّق القدرة بإعادة الأجزاء، وهذا فرد من الأفراد التي تتعلق بها القدرة، ومعلوم عندنا أنَّ من أنكر فردا من الأفراد في أصلٍ ليس كافرا، وإنما هو على ذنب عظيم.
لهذا نقول: هذا الرجل شك في فرد من أفراد القدرة، فرد من أفراد تعلق القدرة بذلك الفرد ولم يشك في قدرة الله أصلا، وحاله كحال حواريِّي المسيح الذين قالوا لعيسى عليه السلام ?هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلُ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ? -وفي القراءة الأخرى ?هَلْ تَسْتَطِيعُ ربَّك أَنْ يُنَزِّلُ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ?- ?قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[المائدة:112]، هل يستطيع الله أن ينزل علينا مائدة فهم لم ينكروا القدرة وإنما شكوا في تعلق القدرة بهذا النوع، هل يستطيع أو لا يستطيع؟ فتعلق القدرة بإنزال مائدة من السماء حصل لهم شك فيها، فقال لهم عيسى عليه السلام (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فبينوا وجهتهم قالوا ?نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنَّكَ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ?[المائدة:113]، إلى آخر السورة.
المقصود أن الشك في فرد من أفراد الصفة ليس كالشك في أصل الصفة، وهذا الرجل غُفر له بسبب خوفه، ومعلوم أن الحسنات يذهبن السيئات، فأحسن إذ خاف من الله جل وعلا، وأساء إذ شك في تعلق قدرة الله بهذا الفرد من مخلوقات الله وهو الأجزاء التي فرقها بإحراقه.(17/359)
ولهذا تلحظ في الحديث قال: لئن قدِرَ الله علي ما قال لئن قدر الله مطلقا، قال: لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين؛ يعني أنه تعلق قوله ذلك بقدرته عليه بالخاصة لما ذر جسمه ورماده.
وهذا هو التحقيق لهذا القول في هذا الحديث وهو الذي يستقيم مع الاعتقاد ومع الفقه.
س/ ما رأيك فيمن يقول إن مجرد الطواف على القبر ليس عبادة؟
ج/الطواف عبادة؛ لأن الله جل وعلا أمر به ?وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ?[الحج:29]، معلوم أن الله إذا أمر بشيء وأثاب عليه فإنه عبادة، وإذا كان كذلك فمن تعبَّد؛ يعني طاف على مكان يرجو الثواب ويتقرب إلى الله أو إلى هذا المقبور بالطواف على غير الكعبة وما بين الصفا والمروة فإنه صرف العبادة لغير الله.
س/ إذا رأى أحد الناس في منامه أنه يفعل منكر كجماع من لا تحل له أو لواط، هل يدل هذا على فسق في دينه، مع أنه في المنام لا يرى أنه محرم وأنه فاعل لمنكر؟
ج/ الجواب أن هذا تكلم عليه العلماء وذكروا فيه تفصيلا، قالوا هذا له حالان:
الحال الأول أن يكون هذا الذي يرى معروف بالفسق فهذا إذا رأى مثل هذه المرائي فإنها إنذار له وتخويف ويُخشى أن يفعلها.
وإذا كان وهو القسم الثاني من الصالحين فإن فعله لذلك لا يكون في خاطره فعل بالمحارم أو يدور في ذهنه استحسان المرأة التي هي محرم له أو استحسان الرجال أو أشباه ذلك فإنه يكون دليلا على أنه سيصل هؤلاء؛ لأن الذَّكر من الذِّكر، والصلة من الوصل؛ يعني إذا كان صالحا فإنه سيصلهم ويزيد في صلتهم.
ولا شك أن مثل هذه المرائي ينبغي أن يستعيذ العبد بالله جل وعلا إذا رآها وأن ينفث عن يساره ثلاثا وأن يغير جنبه الذي نام عليه وألا يحدث بها أحدا.
س/ هل زوجة المرتد تطلق من حين ردته ولو رجع بعد ردته بساعات؟
ج/ لا، تطلق إذا حكم حاكم شرعي قاضٍ بردته أما دون ذلك فلا يتفسخ العقد تلقائيا لابد من حكم حاكم.(17/360)
س/ ما مدى صحة العبارة لكل نبي حوض إلا صالح عليه السلام فحوضه ضرع ناقته؟
ج/ هذه ذكرها بعض من صنّف في السنة كالبربهاري وهو على عهدته فإني لا أعلم لها أصلا.
س/ ما معنى قول شيخ الإسلام في التدمرية وقوله ?وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ?[الذاريات:47]، أي بقوة فما معنى تفسير الأيد بالقوة؟
ج/ الجواب أن الأيد هنا هذه مصر آدَ الشيء أو آد فلان يئيد أيدا إذا قوي، وليست جمع يد كقوله جل وعلا ?وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ? يعني ذا القوة ?إِنَّهُ أَوَّابْ?[ص:18] فالأيد هذا مصدر بمعنى القوة، هذا في اللغة ليس جمع يد.
س/ متى يعذر بالجهل وما الضابط في ذلك؟
ج/ هذه لها تفصيل إن شاء الله.
نكتفي لهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
??¹™™
[المتن]
ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ويصلّون ويؤذّنون فإن قال إنهم يقولون: إن مسليمة نبي. قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شَمْسَان أو يوسف أو صحابيًا أو نبيًا إلى مرتبة جبَّار السماوات والأرض سبحان الله ما أعظم شأنه ?كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ?[الروم:59].
ويقال أيضًا: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنَّار كلهم يدّعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أتظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب كفر؟(17/361)
ويقال أيضًا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويدّعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياءَ دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا من العلم والعمل وأنتَ أرحم الراحمين.
أما بعد:(17/362)
فهذه صلة لما سبق تقريره من كشف شبهةٍ أدلى بها الأكثرون؛ وهي أن المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلي ويزكي ويصوم رمضان ويحج بيت الله الحرام ويأتي بنوافل الطاعات والعبادات، كيف يُجعل مثل مَنْ عبد اللات والعزى والأصنام ويُكفَّر ويخرج من دين الإسلام ويقاتل إلى آخر ذلك، فأجاب الإمام رحمه الله بما أجاب به في أول الكلام، ثم واصَل أيضا الأوجه التي بها يجاب عن هذا الإيراد أو هذه الشبهة، فقال رحمه الله تعالى (ويقال أيضًا: هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلّون ويؤذّنون، فإن قال إنهم يقولون: إن مسليمة نبي. قلنا: هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شَمْسَان أو يوسف أو صحابيًا أو نبيًا إلى مرتبة جبار السماوات والأرض سبحان الله ما أعظم شأنه: ?كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ?[الروم:59]) خلاصة هذا أنَّ بني حنيفة الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومعه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكفروا بكل أمور الدين؛ بل كفروا بأنَّ محمدا خاتَمُ الأنبياء والمرسلين فرفعوا مسيلمة الكذّاب إلى مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الرسالة، وهذا النوع من كُفرهم تبعه معه أنهم أطاعوا مسيلمة فيما أمرهم به وجعلوا رسالة مسيلمة الكذاب لهم، فمَا أمرهم به ائتمروا به وما نهاهم عنه انتهوا عنه، وهذا هو الذي جعلهم كفّارا وذلك لأنهم جعلوا مسيلمة الكذاب نبيا بعد محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يجعلوا رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتمة الرّسالات والاستدلال هذا الذي أوردوه كما قال الشيخ رحمه الله (هذا هو المطلوب)؛ لأن(17/363)
كفر هؤلاء دون ما يكفَّر به غيرهم من عبدة القبور والأوثان وعبدة الصالحين وعبدة الأولياء وغير الأولياء والأشجار والأحجار؛ لأنَّ من عبد هؤلاء واستغاث بهم وأنزل بهم حاجتَه طلب منه دفع الضر ودفع المدلهمات في الواقع قد رفع منزلة هذا المدفون إلى منزلة رب العالمين، فقتال الصحابة رضوان الله عليهم لبني حنيفة الذين اتَّبعوا مسيلمة الكذاب يدل بدلالة الأَوْلى على أن من رفع شخصا مسلما كان أو غير مسلم إلى مرتبة جبار السموات والأرض في استحقاق العبادة أو الطاعة المطلقة الدينية فإنه أعظمُ كفرا من أولئك الذين لم يشركوا بالله جل وعلا أحدا، وإنما كفروا من جهة أنهم جعلوا مسيلمة نبي؛ لأنهم لم يعودوا إلى عبادة الأصنام وإنما جعلوا مسيلمة الكذاب نبيا لهم وبعد محمد عليه الصلاة والسلام إلى آخر تفاصيل قصتهم، وكذب مسيلمة في نبوته واتباع أولئك له.(17/364)
فتحصَّل من هذا الإيراد الذي أوردوه ليدلُّوا على أن المسلم الذي يدعو غير الله جل وعلا؛ يدعو نبيا أو يدعو صالحا أنه لا يكفر بدلالة أن أولئك الذين قاتلهم الصحابة ما كفروا إلا بادّعاء نبوة مسيلمة، قلنا: ما هو أَوْلى يدل على أن غيرهم ممن ألَّهوا الأشخاص أعظم كفرا من أولئك، فمن انخرم في حقه الشق الأول من الشهادة وهو شهادة أن لا إله الله لاشك أنه أعظم كفرا ممن انخرم في حقه الإقرار بأنَّ محمدا رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين؛ لأن تأليه الله جل وعلا وحده دونما سواه فرْض ودليله الشهادة، وهذه الشهادة تنفي هذا القِسْم، والشهادة بأن محمد رسول الله تنفي أن يكون أحدٌ نبيا بعد محمد عليه الصلاة والسلام، فدلّ هذا على أن من جعل بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا فهو كافر ومن جعل مع الله جل وعلا إلها يعبده ويرجوه ويستغيث به ويسأله رفع الضُّر وجلب النفع أنه كافر من باب أولى؛ لأن حق الله جل وعلا أعظم من حق خلقه، وهذا الذي ذكره الإمام رحمه الله تعالى وجيه وعظيم من جهة أنَّ حال أولئك هو دون ما نحن فيه.
فالذين اتبعوا مسيلمة الكذاب وأقروا له بالنبوة هم أخفّ حالا ممن ألَّه غير الله وسجد له واستغاث به وتقرَّب إليه رجاءَ شفاعته ليكون له شافعا عند الله جل وعلا وطالبا وداعيا له عند الله جل وعلا فَكُفْر هؤلاء أعظم كفرا من الأولين بدلالة القياس الذي ذكرناه.(17/365)
ثم أيضا يقال: إنَّ قتال مانعي الزكاة وتكفير الصحابة لمن لم يلتزم وجوب الزكاة لخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتال أولئك قتال المرتدين لا قتال البغاة يدل على ما نحن فيه من باب الأوْلى، فإن مانعي الزكاة أكثرهم مرتد على الدين ولهذا سماهم الصحابة رضوان الله عليهم مرتدين، وقالوا في قتال بني حنيفة وفي قتال مانعي الزكاة جميعا قتال المرتدين، ولم يفرقوا ما بين طائفة وطائفة؛ لأن أهل العلم أجمعوا على أن الطائفة الممتنعة عن تحريم ما حرم الله جل وعلا أو عن تحليل ما أحلّ الله أو الطائفة الممتنعة عن امتثال ما أمر الله جل وعلا أنه يجب قتالها.
ثم إن كان امتناعها من جهة عدم الالتزام والانقياد فإنها تكفر بذلك، ولهذا نص العلماء على أنه لو اجتمع أهل قرية على أن يتركوا الأذان فإنه يجب قتالهم مع أنَّ الأذان سنة عند كثير من أهل العلم وفرض كفاية عند آخرين، ولو اجتمعوا على ترك سنة من السنن فإنهم يقاتَلون حتى يلتزموها يعني حتى يعملوا بها ولا يجتمعون على تركها، فإنْ كانوا غير منقادين ممتنعين امتناع عدم التزام فإنهم مرتدون بذلك.
ومعنى الممتنعة؛ الطائفة الممتنعة يعني غير الملتزمة، ومعنى الالتزام في هذا الموضع أن يقول: إن هذا الأمر إما الواجب أو المحرم حق في نفسه فهو واجب أوجبه الله أو هو حرام حرَّمه الله؛ ولكن أنا غير مخاطب بهذا يخاطب به غيري من الناس فأنا غير داخل في هذا الخطاب، كما قال مانعي الزكاة: إن هذا طلب الزكاة أن ترسل إلى المدينة هذا لغير أهل نجد لغيرنا -يعني فيما قالوا-.... يلتزموا تجاه الخطاب إليهم، فخرجوا إذن بقولهم عن عموم المخاطبة، وهذا رِدَّة عن الدين لنه انتفى معه شرط الانقياد؛ لأنَّ من شروط لا إله إلا الله الانقياد، ومعنى الانقياد الالتزام بتحليل ما أحلَّ الله يعني باعتقاد حله وأنَّ هذا المسلم مخاطَب بهذا التحريم، وتحريم ما حرم الله باعتقاد حرمته، وأنه مخاطب بهذا التحريم.(17/366)
فمانعوا الزكاة كانوا على صنفين:
منهم من لم يلتزم؛ يعني امتنع حيث قال إنه غير مخاطب بهذا الحكم، ولا يلزمه أن يعطي الزكاة للخليفة، مع إقراره بأنّ هذا الحكم متوجه إلى غيره، فيقول هذا واجب ولكن أنا لا أدخل في هذا الواجب، فلم ينقد لكل الأحكام؛ يعني لم يجعل نفسه داخلا في خطاب الله جل وعلا للمكلَّفين بأحكام الإسلام، فهذا يسمى امتناع؛ امتناع عن دخوله في بعض أحكام الشريعة، وهذا كفر وردة كما ذكرنا.
ومنهم من مانعي الزكاة طائفة أخرى منعوها للتأويل، فقالوا أهل المدينة ليسوا بحاجة ونحن بحاجة إلى الزكاة فنحن أولى بها.
والصحابة رضوان الله عليهم لم يفرقوا بين هؤلاء وهؤلاء؛ بل جعلوا قتال مانعي الزكاة كقتال المرتدين؛ بل لم يجعلوا المرء من المرتدين الأولين من بني حنيفة أتباع مسيلمة ولا من مانعي الزكاة لم يجعلوه سالما حتى يشهد على قتلاهم أنهم في النار وعلى قتلى المؤمنين أنهم في الجنة.
وهذا يدلّ على أن من لم يلتزم توحيدَ العبادة بمعنى جعل توحيد العبادة حقا؛ ولكن قال نحن غير مخاطبين بذلك لأنَّ الناس لهم كذا وكذا من التأويلات فهذا داخل في جنس هذه المسألة.
ولهذا استدلال الشيخ رحمه الله بالاستدلال الأولوي في محله واستدلال وجيه وحكيم؛ لأن هذه المسألة التي نحن فيها أعظم مما قاتل فيه الصحابة رضوان الله عليهم المرتدين ومانعي الزكاة، فقِتالهم لهم في شأن أقل مما نحن فيه، وليس كل طائفة تترك شريعة من شرائع الله أو شعيرة من شعائر الله فتقاتل تعتبر مرتدة؛ بل تقاتل لتلتزم:
· وقد يكون تركها لعدم الالتزام؛ يعني من جهة الامتناع فتكون كافرة.
· وقد يكون تركها لأجل شبهة أو تأويل لا لأجل عدم الالتزام فلا تكفَّر بذلك.(17/367)
وإنما يكفر من لم ينقد لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وضابط الانقياد هو ما ذكرتُ لك في أن يكون ملتزما، وبهذا يكون هناك فرق عظيم ما بين الجحد والامتناع، وما بين القبول والالتزام، فالجحد في الحكم على الطوائف يقابله القبول، والامتناع يقابله الالتزام، فالامتناع والالتزام لفظان لدخول المخاطََب في الأحكام الشرعية، والقَبول والجحد لفظان لإقرار المخاطب بالحكم له ولغيره.
فمن أقرَّ بأن هذا الحكم شامل له ولغيره هذا واجب عليه وعلى غيري فهذا يُعتبر قابلا.
وإذا قال: هذا الحكم ليس لي ولا لغيري ليس واجبا فهذا يعدّ جاحدا.
وإذا قال: نعم هذا الحكم واجب أداء الصلوات واجب فرضه الله جل وعلا لكن إنما وجب على طائفة من الناس، وطائفة أخرى لا يجب عليها كحال الذين سقطت عنهم التكاليف وارتفعت أحوالهم حتى لا تؤثِّر فيهم الطاعات في زيادة يقين، فهذا كحال غلاة الصوفية فهذا يكون ممتنعا غير ملتزم.
وهذا قررَّه العلماء في مواطن عدة، وبحثه شيخ الإسلام ابن تيمية في بحث جيِّد في الفرق ما بين الالتزام والقبول والامتناع والجحد في كلامه على ترجيح الطاعة أو ترجيح الأمر على النهي أو النهي على الأمر في مجموع الفتاوى، وهو مقرر عند كثير من أهل العلم.(17/368)
إذا تقرر هذا: فمسألة مانعي الزكاة ربما تجد من أهل العلم من يقول إنهم قوتلوا قتال بغاة، ومنهم من قال إنهم قوتلوا قتال مرتدين، وهذا لأجل انقسامهم في أنفسهم فليس الجميع غير ملتزم، ليس الجميع ممتنعا؛ بل فيهم هذا وفيهم هذا؛ لكن الصحابة أجمعوا على قتالهم قتال مرتدين، حتى قال عمر رضي الله عنه ما زلت بأبي بكر لعله أن يترك القتال حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لو منعوني عَنَاقا كانوا يؤدُّونها للرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها، والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة. قال عمر: فما رأيت إلا أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمتُ أنه الحق. وقاتل مع الصحابة رضوان الله عليهم وأقرّ بذلك.
إذا تقرر هذا فالمسألة التي نحن فيها أعظم وأبلغ من هذه المسائل التي قاتل الصحابة الناس عليها، والتي كفَّروا المرتدين بها.
لهذا نقول من رفع كما قال الشيخ هنا من رفع شمسان ويوسف أو تاج أو صحابيا أو نبيا إلى مرتبة الله جل وعلا فأعطاه صفات الحق تبارك وتعالى في كونه يغيث الملهوف وينيب المضطر وكونه يغفر الذنب وكونه يمنع ويعطي ويتصرف في الملكوت، فلا شك أن هذا أعظم كفرا من الأولين وأن قتالهم بعد إقامة الحجة عليهم أوجب من قتال الأوائل، فإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم قاتلوا من لم يلتزم حكم الزكاة وتأدية الزكاة إلى الخليفة وقاتلوا الطائفة الممتنعة عن هذا الحكم فإن قتال الطائفة الممتنعة عن توحيد العبادة أظهر في البرهان وأوجب.
فهذه الشبهة التي أوردوها هي في الواقع تنعكس عليهم، والحجة لنا فيها وليست علينا؛ ولكن كما قال الله جل وعلا ?كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ?[الروم:59].(17/369)
قال الشيخ رحمه الله (ويقال أيضًا: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنَّار كلهم يدّعون الإسلام وهم من أصحاب علي رضي الله عنه وتعلموا العلم([58])من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أنَّ الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر؟) هذا جواب أيضا من أجوبة على الشبهة التي أوردوها أولا؛ من أنَّ المسلم الذي شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأتى بأركان الإسلام أنه لا يكفر، قال الإمام رحمه الله (ويقال أيضًا: الذين حرّقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه) لِم حرَّقهم؟ وحديث تحريقهم في الصحيح، هل حرقهم لأنهم أنكروا أمرا من الإسلام أو أنهم عبدوا الأصنام أو عبدوا الأوثان؟ أم أنهم جعلوا لعلي منزلة الإله؟ فجعلوا عليا رضي الله عنه له ما للرب جل وعلا، ولهذا قال علي رضي الله عنه ورحمه لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قندرة يعني مولاه -هذا في الصحيح- فخدّ لهم الأخاديد وأتى بهم واحدا واحدا ورماهم في النار، وخالفه أكثر الصحابة رضوان الله عليهم في التحريق، ولم يخالفوه في قتلهم، واحتج عليه ابن عباس رضي الله عنه بما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنه لا يُعِّذب بالنار إلا ربُّ النار» لكن هم مجمعون على من ادّعى هذا فهو كافر يجب قتله لأنها ردة والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث» وذكر منها «التارك لدينه المفارق للجماعة» فالذي يترك دينه ويرتد فإنه يجب قتله ويحل دمه والصحابة أجمعوا على قتلهم وكفرهم، وحرّقهم علي رضي الله عنه لم؟ لأنهم جعلوا لعلي بعض خصائص الألوهية.(17/370)
وإذا كان كذلك فهذا الإجماع يمكن أن يسلط على هذه المسألة التي يوردون علينا فيها الشبهات، وهي مسألة هؤلاء الذين يعبدون الطواغيت أو يعبدون الأولياء أو يعبدون الصالحين ويقولون: إنَّ هؤلاء يغيثون، وأنهم يُعطون المرأة الولد، وأنهم يغفرون الذنب، وأنهم يقضون الدَّين؛ بل ربما جعلوا لهم أعظم مما للرب جل وعلا وتعالى وتقدس.
هؤلاء لاشك أنهم مثل الذين حرّقهم علي رضي الله عنه فأولئك ادعوا الإلهية قولا وهؤلاء ادّعوا الإلهية فعلا وعملا حيث جعلوا ما للإله من حقه في عبادته وحده دون ما سواه لهؤلاء البشر.
قال (ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما) اعتقدوا في علي مثل هذا الاعتقاد لا فرق بين هذا وهذا، قالوا علي له صفات الألوهية، وهؤلاء قالوا هؤلاء يغيثون، هؤلاء الموتى يغيثون ويُعطون العطايا ويتصرَّفون في الأرض ويغفرون الذنب، والمرأة الحامل يجعلون لها ولدا إلى آخر ذلك، فإذا تُقُرِّب إليهم أعطَوْا السائل هذا، ومنهم من يعتقد فيهم الاستقلال يعني أنه يعطي استقلالا ويمنع استقلالا ويغفر استقلالا بتفويض الله جل وعلا له وهذه الأمور، ومنهم من يقول لا هو يعطي ويمنع بتوسطه عند الله جل وعلا، مثل ما قال الأولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفا.
قال الشيخ (فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟ أتظنون أن الصحابة يكفّرون المسلمين؟ أم أتظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفِّر؟) لاشك أن هذا لا يقوله أحد منهم؛ لأن معناه أن مرتبة تاج وشمسان إلى آخره أرفع من مرتبة علي رضي الله عنه، إذا قالوا إن من اعتقد في علي يكفر ومن اعتقد في شمسان وتاج لا يكفر، من اعتقد في علي يكفر ومن اعتقد في البدوي وفي العيدروس وفي المرغني وفي فلان وفي عبد القادر لا يكفر، لا شك أن هذا معناه رفع هؤلاء عن مرتبة علي رضي الله عنه، وهذا تكفيره من باب أولى.(17/371)
وهذه الحجة واضحة في الدلالة وواضحة في البيان.
قال الإمام رحمه الله في إيراده للأدلة والتقعيدات على جواب هذه الشبهة (ويقال أيضًا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلُّهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويدّعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياءَ دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كُفْرِهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين)، (بنو عبيد القداح) هم الذين يسميهم كثير من المؤرخين الفاطميين ويسمون دولتهم العبيدية الدولة الفاطمية، ونسبتهم إلى فاطمة الزهراء رضي الله عنها أو إلى علي نسبة مرفوضة؛ إذْ إنّ المحققين من المؤرخين غلَّطوا هذه النسبة وقالوا: إن هؤلاء من المجوس ومن الفرس ولا ينتسبون إلى علي رضي الله عنه في النَّسب. ولهذا يُقال لهم العبيديون ولا يقال لهم الفاطميون، فهم بنو عبيد القداح.
وهذا القدَّاح قد نشأ على عقيدة الإسماعيلية ثُم هرب بعقيدته إلى اليمن، وأنشأ فيها دعوة إسماعيلية باقية إلى الآن، وانتقل بعد ذلك لما طلب إلى المغرب الأقصى فابتدأ فيها دعوته وانتقل بعد ذلك وقوي، ثم مع الزمن كثر أتباعه وجنده فبدؤوا بالحروب.
فابتدؤوا من المغرب إلى أن وصلوا إلى مصر واحتلوا كل هذه البلاد وغلبوا عليها، وأقاموا فيها الدولة المسماة بالدولة العبيدية.
والقرامطة نوع منهم من الإسماعيليين، وكان بينهم وبين بني عبيد القداح صلات قوية، وهؤلاء خدموا لهؤلاء؛ لكن حصل بينهم خلاف في آخر الأمر أدى إلى استقلال هؤلاء وهؤلاء.(17/372)
فالقرامطة هم الذين غزوا البيت الحرام وقتلوا الناس فيه مثل ما قال: كبيرهم أنا الله، والله أنا، يخلق الخلق وأفنيهم أنا. وهذا لأجل اعتقادهم في نوع من الحلول واعتقاداتهم الباطنية كفرهم العلماء بها، ولما وَلُوا مصر وكانت شوكتهم فيها لم يتقدموا إلى الشام ولا إلى العراق، وإنما كانت شوكتهم فيها، ودام حكمهم نحو مائتين من السنين.
ابتلوا العلماء في عقائد باطلة حتى ذكر الحافظ الذهبي في العبر وفي غيره أنهم يأتون بالعالم السُّني فيذكرون له أشياء من عقائدهم الباطنية فإن لم يقر سُلخ جلده أمام الناس؛ يعني أحميت الناس والحديد وسلخ جلده كما تسلخ الذبيحة، وعَظُم هذا في الناس جدا.
وأسسوا للدعوة إلى دين الباطنية الأزهر المعروف الآن، ومضى عليه قرون وهو على طريقة الإسماعيلية ثم بعد ذلك لما انتهت الدولة العبيدية رجع إلى جملة أهل السنة مقابلة طوائف الباطنية.
فكانت عقائدهم في الباطن عقائد إلحادية من جنس الذين حرقهم عليه رضي الله عنه وخدّ لهم الأخاديد.
ومنهم ظهرت النصيرية.
ومنهم ظهر الدروز الذين يؤلهون الحاكم بأمر الله العبيدي.(17/373)
ويعتقدون ولم يُظهروا ذلك أن الإله يَحِل في الأشخاص وأنه تنقل في سبعة حتى كان آخر هؤلاء السبعة هو الحاكم بأمر الله العبيدي؛ لأنهم يعتقدون في هذا الرقم سبعة وأول ما يدعون حين يدعون إلى الحكمة من الرقم سبعة ويذكرون له -لهم كتب كثيرة ومطبوعة وموجودة بينت مذاهبهم على الحقيقة- يذكرون له الرقم سبعة وما فيه يقولون مثلا هل تعتقد أن الله جل وعلا الحكيم يخلق سبعة سموات ويخلق سبع أراضين، ويجعل أيام الأسبوع سبعة، ويجعل الطواف سبعة، ويجعل السعي سبعة، ويجعل كذا سبعة وسبعة وسبعة، ويترك الأئمة بلا عدد سبعة فلا بد أن الإمامة ستقف عند سبعة؛ لأن الإمامة أعظم من هذه الأشياء فإذا أقر لهم بهذه المقدمة، قالوا الأئمة السبعة آخرهم إسماعيل لأن الرافضة افترقوا فرقتين فرقة يعني أبناء جعفر الرافضة بعد جعفر الصادق افترقوا فرقتين فرقة تسمى الجعفرية وفرقة تسمى الإسماعلية.
وكانت القاعدة في بنيهم -لو فصلنا بعض الشيء- كانت القاعدة في الإمامة فيهم أن الإمام هو الولد الأكبر بعد الإمام الذي قبله، وكان جعفر الصادق الإمامة منعقدة عند الرافضة والشيعة له، وكان ولده الأكبر اسمه إسماعيل وولده الأصغر اسمه موسى، فغاب إسماعيل في حياة والده جعفر الصادق في نحو ثمان وأربعين ومائة ذهبت به أمه وغابت به؛ لأن الذين كانوا يحبون أن تكون الولاية في موسى كادوا لأمه في قصة تاريخية، المهم أنها هربت وغاب إسماعيل عن الناس، فلما غاب إسماعيل مات جعفر الصادق رحمه الله تعالى وهو من العلماء الأخيار والفقهاء، لما مات رحمه الله جعفر الصادق اختلفوا من الإمام بعده؟ فقالت طائفة القاعدة أن الإمام هو الولد الأكبر فإسماعيل هو الإمام، وقال آخرون إسماعيل أمره هل نُبقي الناس بلا إمام؟
فمن قال ببقاء الإمامة في الولد الأكبر وأن إسماعيل هو الإمام وأنه هو المستحق سنقف بالإمامة حتى يرجع، سمي هؤلاء إسماعيلية.(17/374)
ومن قال بإمامة موسى إذ إن الابن ألأكبر في جعفر مات أو انقطعت أخباره سُمُّوا موسوية.
ولهذا تجد أن الرافضة الاثني عشرية يركزون على نسبتهم إلى الاثني عشرية الموسوية الجعفرية، فبنسبتهم إلى جعفر يخرجون عن أهل السنة، وبنسبتهم إلى موسى يُخرجون الإسماعيلية، وبنسبتهم إلى الأئمة الإثنا عشر يخرجون كثيرا من طوائف الشيعة التي كانت في الزمن الأول لا تقول ببقاء الإمامة في اثني عشرة فقط بل تتسلسل وآخر أئمتهم العسكري، حصل له مثل ما حصل لإسماعيل في الاختفاء.
حصل للطائفتين اعتقادات مختلفة في أن هذا الغائب هو المهدي المنتظر.
فالإسماعيلية اعتقدوا في إسماعيل وأنه هو الإمام المنتظر فدعو في مواجهة الموسوية إلى نحلتهم سرا، فأصبح لهم عقائد باطنية مختلفة، وأصبح لهم تفسيرات غير ظاهرة، فهم من جهة تفسير النصوص أكثر غلوا من الرافضة؛ لأنهم يجعلون لكل نص ظاهرا وباطنا، فالظاهر للعامة يعني للسنة، والباطن لأهل الحكمة وهم الإسماعيلية.
فبنو عبيد القداح لما أقاموا دولتهم دعوا في الباطن إلى نحلتهم، بتفاصيل الأحكام الشرعية التي هي عند الإسماعيلية، ومعلوم أن حكم الإسماعيلية من جهة الفقه خارج عن نصوص الكتاب والسنة، فمن جهة فهمهم للأدلة واستنباط الأحكام من الأدلة إنما هو بالاعتقادات الباطنة؛ لأنهم جعلوا لكل نص ظاهرها وباطنا، كذلك عندهم نصوص من الأثر الذي يعتمدون عليه خلاف ما عند السنة.
فصار أمرهم إذن نبذ أحكام كثيرة من الشريعة التي جاءت في الكتاب والسنة وقررها أئمة.
فحاصل أمرهم أنهم في الباطن ملاحدة زنادقة، وفي الظاهر دعوا الناس إلى نبذ أحكا كثيرة من الشريعة، وإبطال كثيرا من ألأحكام التي دلت عليها السنة.
فرجع أمرهم إلى أنهم لم يلتزموا أحكام الكتاب والسنة، وامتنعوا عن أحكام الكتاب والسنة في كثير بل في الأكثر من المسائل الفقهية وكذلك العقدية.(17/375)
فصار إذن حكمهم حكم الممتنعين عن تحكيم الكتاب والسنة في المسائل، وصار حكمهم حكم المشرِّعين الذين أتوا بدين جديد للناس والزموا به الناس، فينطبق عليهم قاعدة الطائفة الممتنعة الذين لم يلتزموا الأحكام الشرعية؛ بل هم أبلغ من غير الملتزمين؛ لأنهم جحدوا الأحكام وعذبوا الأئمة والعلماء في مصر على تلك المسائل.
فإذن قول الشيخ رحمه الله (فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه) يعني بإظهار مخالفة الشريعة يعني أظهروا عدم الالتزام، وأظهروا جحد الشريعة في الأحكام الشرعية التي هي دون ما نحن فيه من مسألة التوحيد والعبادة، ومن عرف حقيقة أمرهم عرف أن كفرهم وقتال العلماء لهم وتكفير العلماء للدولة العبيدية كان من جهة أنها دولة باطنية في عقيدتها مؤلِّهة لغير الله جل وعلا هذا في الباطن، وفي الظاهر أظهروا جحد الشريعة وعدم الالتزام بأحكامها وعدم الانقياد لها بضابط الانقياد والالتزام الذين ذكرتهما لك آنفا.
فلا شك أن من أله غير الله وتوجه إلى غير الله فحكمه الردة أولى من هؤلاء بحسب الظاهر، لهذا قال الشيخ رحمه الله (قد فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه) وهم الذين سنّوا في الناس الموالد المختلفة، فجعلوا لكل ليلة مولدا، هذا مولد لفلان، وهذا مولد لفلان، وهم الذين سنوا السنة السيئة الاحتفال بمولد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وبمولد الحسين، وبمولد فلان وفلان من الأئمة إلى آخر أمورهم.
المقصود أن كفرهم جاء من جحدهم للشريعة وتكذيبهم لتفسير الأئمة للنصوص وتفسيرهم للآيات القرآن وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بتفسيرات باطنية مبتدعة، فلا شك أن هذا إظهار للكفر.
قال (أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب)، وقوله (وأن بلادهم بلاد حرب) لأن هؤلاء تغلبوا عليها وحكموها بتلك العقيدة الباطنية والشريعة الإسماعيلية وغلب هذا.(17/376)
والبلاد التي فيها اختلاط ما بين أحكتم المسلمين وأحكام الكفار اختلف العلماء هل تسمى بلاد حرب أم لا؟
فقالت طائفة: إنها تسمى بلاد مسلمين باعتبار الأصل، دار إسلام باعتبار الأصل، ما لم يغلب حكم الكفر.
وقال آخرون: إنها دار إسلام ما دام يسمع فيها الأذان.
وقال آخرون من أهل العلم: إن دار الإسلام ودار الحرب -يعني البلد التي فيها هذا وفيها هذا- لا يطلق عليها يتوقف في أن يطلق عليها اسم دار الإسلام أو اسم دار الحرب بل يعامل كل فيها بحسبه ولا تعامل معاملة دار الإسلام من كل وجه ولا معاملة دار الحرب من كل وجه في البلاد المختلطة.
وقال آخرون من أهل العلم: إن أحكام الإسلام، إذا غلبت فالدار دار إسلام، وإذا غلبت أحكام الكفر فالدار دار كفر، فالمدار على ما يغلب منهما.
وهذا الأخير يذهب إليه أكثر أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى، والذي قبله من أنه لا يعطى هذا ولا هذا هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية لما سئل عن بلد أظنها [دارين] في سؤال بأنها فيها أحكام الإسلام وفيها أحكام الكفرة.
قول الشيخ رحمه الله (وأن بلادهم بلاد حرب ) لأن أحكام غير الإسلام غلبت فيها فأحكام الإسلام لا توجد..... من بلدان المسلمين .
هذا الذي ذكره الإمام رحمه الله تعال واضح الدلالة فيما نحن فيه من أن العلماء لم يجعلوا من أظهر الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وبعض العبادات أنه لا يكفر مطلقا؛ بل نصوا على أنه يكفر في باب حكم المرتد إذا فعل أشياء أو اعتقد أشياء أو قال أشياء، كذلك هذه الأمة حصل منها تكفير لطوائف كفّروا من قال برسالة مسيلمة وقاتلوهم، وكفّروا ما نعي الزكاة غير الممتنعين عن الالتزام بها، وكفروا بني عبيدة القداح لعقائدهم الباطلة وتأليههم لعلي رضي الله عنه وللأئمة، وعلي رضي الله عنه كفر من ألهه وحرقهم بالنار.(17/377)
فهذا كله يدل بوضوح على أن ما ذكره صاحب الشبهة من أن المسلم الذي يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلي ويزكي ويصوم ويحج أنه لا يكفر بها أن هذا باطل بالأوجه الكثيرة التي أوردها في الدرس السابق وبهذا الدرس.
نقف عند هذا.
[الأسئلة]
س1/ يقول هل لك مؤلف في كرامات الأولياء وهل هو مطبوع أم لا؟ وإذا كان الجواب لا فكيف أستطيع الحصول عليه؟
ج/ كرامات الأولياء فيها كتاب الفرقان لشيخ الإسلام ابن تيمية الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وفيها كتاب كرامات الأولياء للالكائي هو مطبوع أيضا، ولمقدمة المحقق كافٍ في بابه، كتاب النبوات فيه أيضا بحثا كبير للكرامات والكتب التي بحثت هذا كثيرة.
بالنسبة لدرس فتح المجيد الذي أنهيناه بحمد الله ونعمته، نبتدئ إن شاء الله في كتاب آخر ربما الأسبوع القادم نبلغكم إن شاء الله في حينه، يكون في الغالب الثلاثاء ليلة الأربعاء بعد العشاء، الأسبوع هذا ما فيه، نبلّغكم الأسبوع القادم إن شاء الله إن كنا سنبدأ.
س2/ هل كان المرتدين من كان قابلا للزكاة منقادا لها إلا أنه ممتنع عن دفعها للإمام؟
ج/ الجواب السؤال ينبغي أن يكون كالتالي: هل كان من المرتدين من كان قابلا للزكاة منقادا لها إلا أنه ممانع عن دفعها للإمام؟
يعني لفظة ممتنع ليست هي ممانع، ممتنع مصطلح ممتنع يعني غير ملتزم، ممانع يعني منع هذا الشيء لم يفِ به، منع، مثل ما قال الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع خالد زكاة ماله؛ لكن ما امتنع، فالمنع شيء في النصوص وفي كلام أهل العلم والامتناع شيء، منع خالد زكاة ماله قال «فأما خالد فإنكم تظلمون خالدا إنه احتبس أسيافه وأذرعه في سبيل الله» المنع هنا غير الامتناع، المنع يعني يقول: أنا لن أأدي هذه. هذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب والمعاصي، أما الامتناع يقابل الالتزام، لهذا يقول إلا أنه ممتنع ممانع عن دفعها للإمام.
الجواب كما ذكرنا أن مانعي الزكاة على فئتين:(17/378)
منهم من كان ممتنعا.
ومنهم من كان مانعا.
لكن المانعين قاتلوا مع الممتنعين قاتلوا قتالا واحدا، فلما صاروا يقاتلون الصحابة تحت هذه الراية راية الامتناع عن أداء الزكاة صار لهم حكمهم من هذه الجهة.
أما مسألة المنع فهي غير مسألة الامتناع، فلا يكفر المانع وإنما المانع غير المستجيب الرافض، وإنما يكفر الممتنع غير الملتزم الذي يُخرج نفسه من الدخول في الخطاب التكليفي في هذه المسألة بخصوصها.
س3/ هل هناك فرق بين الطائفة والفرد في هذه الأحكام؟
ج/ الفرق بين الطائفة والفرد في القتال، أما في مسألة الامتناع والالتزام واحد، الطائفة الممتنعة والفرد الممتنع الطائفة التي تقول لا ألتزم بهذا الحكم يخص غيري، والفرد الذي يقول هذا الحكم لا يوجَّه لي وإنما لغيري، الحكم من حيث الردة واحد، أما في القتال فيفرق ما بين الفرد وما بين الجماعة، فالجماعة التي لها منعة تقاتل، والفرد يستتاب فإن تاب وإلا قُتل.
س4/ كيف خفي على جُلهم كفر من لم يلتزم بالزكاة؟
ج/ ما خفي عليهم كفر من لم يلتزم، خفي عليهم أن هل هؤلاء منعوا أو امتنعوا الزكاة أم لا، يعني ما يدرون أوش حقيقة أمرهم. عمر كان يرى أن يرسل إليهم أحد وينظر حالهم.
س5/ على قول أئمة الدعوة أنه إذا غلبت أحكام الكفر على أحكام الإسلام فهي دار كفر؟
ج/ أنا ما قلت قول أئمة الدعوة، أنا قلت إيش؟ أكثر، أكثر أئمة الدعوة في علمي؛ يعني بحسب ما اطلعت على كتبهم، لكن هذا قولهم يعني قولهم جميعا؟ لا؛ أنه إذا غلبت أحكام الكفر على أحكام الإسلام فهي دار كفر.
هنا نقول يعني يشخَّص على بعض بلاد المسلمين، اليوم نقول هنا هل غلبت أحكام الكفر أم لم تغلب هذه يختلف فيها العلماء؟ فالنظر يكون للعالم في تشخيص البلد، هل هذا البلد غلبت فيه أحكام الكفر أم لم تغلب.(17/379)
الذين سألوا شيخ الإسلام ابن تيمية عن [دارين] أظن قالوا له أن فيها كذا وكذا فما حكمها، ولهذا ينبغي أن يشخص لأهل العلم والفتوى العلم بأحكام المرتد هذه المسائل، والفتوى تكون تبعا لذلك.
س5/ ...
ج/ دار الكفر ودار الإسلام لا علاقة لها بالحاكم، قد يكون الحاكم مسلما والدار دار كفر، مثل النجاشي في الحبشة هو مسلم وداره دار كفر، وقد يكون الحاكم كافرا والدار دار إسلام، إذا كان حصل منه موجب للردة بشخصه، فلا ارتباط بين حكم الدار والحاكم، الحاكم إذا كفر يجب خلعه مع الاستطاعة مع القدرة؛ يعني إذا لم يكن له شبهة أو تأويل كالمأمون ومن بعده.
المهم أنّ حكم الدار لا صلة له بالحاكم:
· قد يكون الحاكم مسلما والدار دار كفر.
· وقد يكون الحاكم كافرا والدار دار إسلام.
· وقد تكون المسألة مشتبهة.
فهذه الأحكام دقيقة، ودائما أوصي الشباب بأن لا يخوضوا فيها؛ لأن الشاب أو طالب العلم المبتدئ ربما خاض فيها من جهة الغيرة، فأثرت غيرته على الحكم، وهذا غير مطلوب بل ينبغي تركه.
س6/ ما أدري هذا السؤال تحبون نقرأه أو لا، على كل حال ينشطكم شوي يقول: إذا جلست على يدي أو رجلي فترة من الزمان فإنها تنام؛ أي لا أقدر أن أحركها وأحس فيها مثل الدبابيس وهناك طريقة لرفعها.
إذا كان فيه طريقة جزاك الله خيرا.
يعني وضع -ما أدري كذا- على الجسم؛ يعني طريقة خاصة به، أنا ما أعرف أن هذه من الطرق الممنوعة. نكتفي بهذا القدر وفقكم الله.
صلى الله وسلم على نبينا محمد.
??¹™™
[المتن](17/380)
ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يَكْفُرُوا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول [- صلى الله عليه وسلم -] والقرآن وإنكار البعث [وغير ذلك]، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (بابِ حكم المرتد) وهو المسلم يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفّر ويحل دمَ الرجلِ وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها؛ مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزْح واللعب.
ويقال أيضًا: الذين قال الله فيهم: ?يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ?[التوبة:74]، أما سمعت الله كفّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و[هم] يجاهدون معه ويصلّون معه ويزكّون ويحجّون ويوَحِّدون؟
وكذلك الذين قال الله فيهم: ?وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ(65)لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?[التوبة:65-66].
فهؤلاء الذين صرّح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزْح.
فتأمل هذه الشبهة هي قولهم تكفّرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون.
ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق.
ومن الدليل على ذلك أيضًا ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع [إسلامهم] وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى: ?اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ?[الأعراف:138]، وقول أناس من الصحابة «اجعل لنا ذات أنواط» فحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا مثل قول بني إسرائيل لموسى: ?اجْعَل لَّنَا إِلَهًا?.(17/381)
ولكن للمشركين شبهةٌ يُدْلُون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - :«اجعل لنا ذات أنواط» لم يكفروا.
فالجواب أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا [ذلك]، وكذلك الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلوا [ذلك]. ولا خلاف في أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا. وكذلك لا خلاف أن الذين نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب.
ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم -بل العالم- قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أنّ قول الجاهل: التوحيد فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا من العلم والعمل يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعلنا من المتقين لك، المنيبين إليك، المتوكلين عليك، المؤمنين بك، الصادقين في دينهم يا أكرم الأكرمين.
نسألك الله أن تعيذنا من مظلات الفتن، وأن تجنبنا ما ظهر منها وما بطن وأن تحملنا على الحق وأن تعيننا عليه، وأنت على كل شيء قدير.
أما بعد:
فهذه تتمة للأجوبة التي ساقها إمام هذه الدعوة على الشبهة التي أوردها المشركون الذين عبدوا غير الله جل وعلا ولم يعترفوا بأنهم يعبدون غير الله جل وعلا.
وهذه الشبهة هي قولهم: كيف تكفرون وتحكمون بالشرك على من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلي ويصوم ويزكي ويحج البيت الحرام ويؤمن بما أنزل الله جل وعلا على رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(17/382)
فأجاب عن هذه الشبهة بأجوبة متعددة، إلى أن قال في جواب هذه الشبهة ولعله يكون الجواب السابع أو الثامن من الأجوبة قال (ويقال أيضًا: إذا كان الأولون لم يَكْفُرُوا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (بابِ حكم المرتد) وهو المسلم يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفّر ويُحل دمَ الرجلِ وماله، حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه أو كلمة يذكرها على وجه المزْح واللعب.) وتحصيل هذا أن العلماء من جميع المذاهب المتبوعة من الحنفية والمالكية ولشافعية والحنابلة والظاهرية كل هؤلاء من المذاهب المتبوعة الباقية ومن المذاهب المنقرضة أيضا كمذهب ابن جرير ومذهب سفيان ومذهب الأوزاعي ومذهب الليث إلى غير ذلك، هؤلاء عندهم المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قد يكفر بعد إسلامه، وجِماع أنواع الكفر عندهم -يعني عند جمهور هؤلاء- ترجع إلى أربعة:
الأول الاعتقاد.
والثاني القول.
والثالث الفعل.
والرابع الشك.
فيُرجعون جميع أنواع الكفرات إلى أحد هذه الأنواع: إما باعتقاد يضاد لا إله إلا الله محمد رسول الله ولوازم الشهادتين، وإما بقول يضاد الإسلام، أو بفعل يضاد الإسلام، أو بشك فيما أنزل الله جل وعلا على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فمن اعتقد عقيدة تضاد الإسلام من أصله خرج من الدين، ومن قال قولا يضاد الإسلام من أصله خرج من الدين وكفر بعد إسلامه.
ولهذا قالوا باب حكم المرتد وهو المسلم الذي كفر بعد إسلامه، قالوا: ويكفر المسلم -وبعضهم يقول يرتد المسلم- باعتقاد ككذا وكذا أو قول ككذا وكذا أو فعل أو شك، فهذه الأربعة جعلوها أنواعا لأصول المكفرات.(17/383)
وإذا كان كذلك فإن العلماء بهذا مجمعون على أن من كان مسلما فإنه قد يكفر ببعض ما يَعرض له مما يضاد الإيمان من أصله، أو يضاد الشهادتين من أصلهما، أو يضاد الإسلام من أصله، والجميع بمعنى واحد.
فإذا كان كذلك لم يكن لهذه الشبهة معنى عند الأئمة وعند أتباع الأئمة؛ لأنهم نصوا على كفر المسلم إذا أتى بشيء من المكفرات.
فإذن قولهم لا يكفر من عبد غير الله، لا يكفر من استغاث بالأموات، لا يكفر من ذبح لغير الله، لا يكفر من استعاذ بغير الله بشرطه، لا يكفر من استغاث بالأموات، لا يكفر من استعاذ بالأموات، لا يكفر من توكل على ميت، لا يكفر كذا وكذا لأنه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فنقول هذا باطل، ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم تتابعوا على نقل الإجماع على أن من اتخذ مع الله جل وعلا وسائط يدعوهم أو يتوكل عليهم فقد كفر إجماعا، وهذا إجماع أقره عليه علماء الحنابلة وطائفة من علماء الشافعية وغير هؤلاء من علماء المذاهب الأخر.
وهذا من الإجماع المعلوم من الدين بالضرورة المعروف؛ لأن معنى التوحيد معنى الشهادتين أن يوحد الله جل وعلا في العبادة، فمن اتخذ مع الله جل وعلا وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم معنى ذلك أنه توجه بالعبادة لغير الحق جل وعلا، ومن توجه بالعبادة لغير الحق جل وعلا فإنه مشرك كافر.
فإذن هذه الشبهة التي أوردوها يقال لهم فيها: ما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب (باب حكم المرتد)؟
ولهذا ([59]) من العلم الجيّد أن يفرد من كل مذهب أنواع المكفرات التي يقولها أئمة ذلك المذهب في كتبهم سواء منهم المتأخرون أو المتقدمون، فإنك تجد أن الجميع قد أقرّ بأن المسلم الذي ثبت إسلامه قد ينتقل عنه بنوعٍ من أنواع المكفرات.
قال الشيخ رحمه الله هنا (ثم ذكروا أنواعًا كثيرة، كل نوع منها يكفّر ويُحِل دمَ الرجلِ ومالَه) وإحلال الدم والمال بالمكفرات فيه تفصيل:(17/384)
منها ما يحتاج معه إلى إقامة حجة، ومنها ما لا يُحتاج معه إلى إقامة حجة.
ومنها ما يستتاب فيه، ومنها ما لا يُحتاج معه إلى استتابة.
كمثل المعلوم من الدين بالضرورة يعني الذي لا يحتاج فيه إلى الاستدلال يُعلم ضرورة لا يحتاج إلى إثباته استدلال فيه إذ كل مسلم ثبت إسلامه فإنه يعلم هذه المسائل بالاضطرار؛ يعني علمها لأن أصل دخوله في الدين متوقف عليها، إلا في حالات نادرة من نزعة بدائية بعيدة أو ما أشبه ذلك؛ لكن المسائل المعلومة من الدين بالضرورة يعني التي لا يُحتاج في إثباتها لاستدلال بل هي شائعة في المسلمين مثل وجوب الصلوات الخمس ووجوب الزكاة في الجملة وتحريم الزنى وتحريم الخمر وأشباه ذلك، فإنه لا يحتاج إلى دليل؛ لأن كل مسلم نشأ على الإسلام أو دخل في الدين وفهمه فإنه يقر بوجوب هذه ويحرم تلك المحرمات، فليست مما تقع في الشبهة.
فإذن التكفير قد يكون في مسائل يحتاج إلى إقامة حجة وفي مسائل لا يحتاج معه إلى إقامة حجة، والذي يكفر ويحل الدم والمال هو الحاكم الشرعي -يعني القاضي أو العالم المفتي- فإنه هو الذي يفتي بكفره وحِلّ دمه وماله، وهذا ليس لآحاد الناس لأن التكفير حكم شرعي يُحتاج في إثباته إلى وجود شرائط وانتفاء موانع وإزالة شبهة فيما يُحتاج معه إلى إزالة شبهة إلى غير ذلك، فيُحتاج في ذلك إلى حكم حاكم.
ثم -كما ذكرت لك- منها ما يحتاج فيه إلى استتابة، ومنها -يعني في القتل- ما لا يحتاج فيه إلى استتابة، فلو تاب تكون توبته بينه بين ربه جل وعلا، وأما في الظاهر ففي مسائل لا تُقبل التوبة الظاهرة، وإن كان يجوز أن تُقبل باطنا؛ يعني إذا صدق في توبته.(17/385)
قال (حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه) وهذا متفق عليه ما بين علماء المذاهب الأربعة والأئمة الأربعة في أنّ الكفر قد يكون بالكلمة دون اعتقاد القلب، فليس من شروط الخروج من الدين أن يعتقد بقلبه، بل يقول كلمة يذكرها بلسانه دون اعتقاد القلب لما دلت عليه فيكون كافرا بذلك، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب ولا يواطئ قلبُه عليها، لأن حماية الشريعة واجبة، ولأن من فعل ذلك فقد ترك التعظيم الواجب، وأصل الديانة والتوحيد هو تعظيم الله جل وعلا، فإذا وقع في كلمة مكفرة فإن بعض الكلمات لا يحتاج معه إلى اعتقاد القلب؛ مثل سب الله جل وعلا أو سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معيّنا أو سب دين الإسلام هكذا بالإطلاق أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا يحتاج معه إلى أن يعتقد؛ بل إذا سب الله جل وعلا كفر ولو لم يعتقد، وكذلك إذا سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر ولو لم يعتقد كما حقق ذلك شيخ الإسلام بن تيمية في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول.
(أو كلمة يذكرها على وجه المزْح واللعب) هذا من جنس المستهزئين الذين قال الله جل وعلا فيهم ?قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?[التوبة:65-66].(17/386)
قال الشيخ رحمه الله بعد ذلك (ويقال أيضًا) وهذا جواب آخر لأصل الشبهة (الذين قال الله فيهم: ?يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ?[التوبة:74]، أما سمعت [أنّ] الله كفّرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و[هم] يجاهدون معه ويصلّون [معه] ويزكّون ويحجّون ويوَحِّدون؟) وهذا الذي نسبه الشيخ رحمه الله إليهم قد يكون باعتبار الظاهر والباطن جميعا، وقد يكون باعتبار الظاهر؛ فإن العلماء اختلفوا هل هؤلاء كانوا من المنافقين أصلا أو لم يكونوا من المنافقين؟ يعني الذين نزل فيهم قوله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ) وعلى كلٍّ فإن قوله (وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ) حيث جعل الكفر بعد الإسلام والإسلام هو الظاهر، دلّ على أن الكفر حصل منهم بمنافاة ما قالوا للإسلام الظاهر، وهذا يشمَل أن يكونوا منافقين أو أن يكونوا غير منافقين؛ لأن المنافق أسلم ظاهرا ولم يؤمن باطنا، وهو إذا أظهر شيئا مما يخالف أصل الدين يكفر بعد إسلامه، وكذلك إذا كان من غير المنافقين فإن كلمته تلك جعلته يكفر بعد إسلامه.
قال (وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ) وهذا يدل على أن الكفر يكون بالكلمة ولم يُشترط هنا ولا في آية الاستهزاء الاعتقاد، ولهذا بنى العلماء قولهم: إن المسلم يكفر باعتقاد أو قول أو فعل أو شك على أدلة منها كهذه الآية.(17/387)
قال الإمام رحمه الله (وكذلك الذين قال الله فيهم:?قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ?) أيضا يضاف إلى ما سبق في تقرير الجواب الأول أنه قال جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ)، قوله جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ) دل على أن الكفر معتبر فيه القول، ولو كان يحميهم منه عدم الاعتقاد لنفوا عن أنفسهم الاعتقاد وأقروا بالقول؛ لأنهم يقصدون البعد عن الكفر، فلما لم يحتجوا باعتقادهم الباطن ولا بإيمانهم الباطن دل على حصول الكفر منهم بالظاهر بكلمة الظاهر، فقوله جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ ) احتاجوا إلى الحلف بالله أنهم لم يقولوا؛ لأن الكفر يعلمون أنه يحصل بقولهم، ولو علموا أنهم لو حلفوا بأنهم لم يعتقدوا أو لم يقروا بهذا أو يلتزموه في قلوبهم؛ يعني لو علموا أنهم لو أحالوا على ما في قلوبهم لنجوا لأحالوا على ما في قلوبهم؛ ولكن الله جل وعلا بيّن أنهم حلفوا على انتفاء قولهم أصلا، وذلك لأجل أن يسلموا من الكفر وقد قال جل وعلا بعدها (وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ).(17/388)
(كذلك الذين قال الله فيهم: ?قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ(65)لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?[التوبة:65-66]) ففي هذه الآية (صرح الله جل وعلا أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح)، وهؤلاء كانوا من المنافقين كما قال الله جل وعلا ?يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً?[التوبة:64-66]، فدلت هذه الآيات على أن هؤلاء كانوا منافقين وأن تكفيرهم لأجل ما حصل منهم من الاستهزاء بالله والآيات والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتعليق حكم التكفير في الآية بالاستهزاء بهذه الثلاثة دلّ على أن المسلم الذي يُحكم بإسلامه ظاهرا:
· إذا استهزأ بالله فإنه يكفر بعد إيمانه.
· أو استهزأ بآي الله المتلوة -يعني القرآن- فإنه يكفر بعد إيمانه.
· أو استهزأ بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يكفر بعد إيمانه.(17/389)
(قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ) فدل هذا على تغليق التكفير بالاستهزاء بهذه الثلاثة وهي الاستهزاء بالله ويدخل في ذلك السب واللعن واشباه ذلك أو الاستهزاء القرآن بنفس الآيات في الآيات نفسها أو بالآي نفسها أو بسورة من القرآن، أو استهزاء بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو سب القرآن أو سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا يقبل منه اعتذاره بأنه لم يعتقد أو أنه إنما قالها على وجه المزح واللعب (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)، فدل هذا على أن من حصلت منه كلمة الكفر فإنه يكفر بعد إسلامه ويكفر بعد إيمانه، وهذا هو المراد من تقرير هذا الجواب.(17/390)
قال رحمه الله بعد ذلك (فتأمل هذه الشبهة [و]هي قولهم تكفّرون من المسلمين أناسًا يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون. ثم تأمل جوابَها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق) وهذه الأجوبة أظنها تبلغ تسعة أو عشرة التي ذكرها الشيخ رحمه الله في جواب هذه الشبهة، وهي لاشك مثل ما وصفها الإمام رحمه الله أنها (من أنفع ما في هذه الأوراق)؛ لأن الأكثرين ممن أقروا بالتوحيد واعتقدوا صحته صعُب عليهم أن يُخرجوا أحدا ممن أظهر الإسلام عن إسلامه بدعوة غير الله ودعاء الأموات والذبح لهم وأشباه ذلك مما فيه صرْف العبادة لغير الله؛ لأجل أن هؤلاء مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون إلى آخره، حتى إن بعضهم في جبهته أثر العبادة، وحتى أن بعضهم يصوم يوما ويفطر يوما، فيقول كيف تحكمون عليه بالكفر من الدين وهذه حاله وهذا ديدنه في العبادة وفي الطاعة وفي قيام الليل وفي الصيام وفي كثرة التلاوة وكثرة الصلاة لأجل أنه دعا غير الله أو استغاث بغير الله أو اعتقد في الولي الفلاني أنه يملك له نفعا أو ضرا أو أنه يتصرف بشيء من العالم كيف تكفرونه وهو من أهل الصلاح؟ والجواب أن العلماء -كما ذكر- ذكروا أجوبة كثيرة على هذا، وكل مسلم مهما كانت منزلتُه فإنه يكفر بعد إسلامه بالشرك باعتقادٍ باطل أو بقولٍ باطل يضاد الإسلام من أصله أو بعمل يضاد الإسلام من أصله كالسجود لصنم أو رمي المصحف في القاذورات متعمدا عالما وأشباه ذلك، فإنه يكفر بعد إسلامه لأنه فعل هذه الأشياء، والله جل وعلا قال لنبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهو أكرم الخلق ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ?[الزمر:65-66]، قال (لَئِنْ أَشْرَكْتَ ) يا محمد (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، وفسر الشرك بعد(17/391)
ذلك بقوله (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ)؛ يعني أن من عبد غير الله فهو المشرك الذي حبِط عمله، فقال (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)؛ يعني الذين خسروا عبادتهم وخسروا دنياهم وخسروا آخرتهم، (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) يعني اُعبد الله وحده دون ما سواه (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ).
ثم ذكر تطبيقا لهذا الأصل وهو أن المسلم قد يكفر بعد إسلامه بأشياء بمَثَلَين أو حادثتين:
الأولى لأصحاب موسى عليه السلام.
والثانية لبعض أصحاب محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.(17/392)
قال (ومن الدليل على ذلك [أيضًا]) يعني على الجواب الأخير (ما حكى الله تعالى عن بني إسرائيل مع [إسلامهم] وعلمهم وصلاحهم)، قوله (ما حكى الله تعالى) يعني قصّ، فالحكاية هنا بمعنى القصة، (حكى الله تعالى عن بني إسرائيل) يعني قص الله تعالى عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم هربوا من فرعون وآمنوا بموسى وهاجروا معه وساروا في التيه حنى حصل منهم ما حصل قال الله جل وعلا عنهم أنهم قالوا لموسى: ?اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ?[الأعراف:138]، قال سبحانه ?وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ?[الأعراف:138-139] وجه الاستدلال أن المسلم والمتبع للنبي المؤمن به قد يتخذ إلها مع الله جل وعلا حيث قالوا لموسى عليه السلام (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) وهؤلاء فهموا وهم أهل الفهم والإدراك أن طلب العكوف على الأصنام والتماثيل أو على الأوثان أو على القبور أو ما أشبه ذلك أن العكوف عند هذه الأشياء تقربا بأصحابها عبادة وأنه اتخاذ إله مع الله جل وعلا فقال (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا) يعني يعني نتوجه إليه في الأرض كما نتوجه لله جل وعلا في السماء (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) واحد نتوجه إليه في الأرض تمثال أو وثن أو صنم فقال لهم موسى عليه السلام (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) فطلبوا فلما أنكر عليهم موسى وعلمهم الصواب عليه السلام تركوا طلبهم ورجعوا إلى توحيدهم.(17/393)
قال الشيخ رحمه الله وهو المثال الثاني (وقول أناس من الصحابة « اجعل لنا ذات أنواط» فحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا نظير قول بني إسرائيل لموسى: ?اجْعَل لَّنَا إِلَهًا?) وهذا حديث ذات الأنواط أنه لما خرج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه إلى حنين وجدوا للمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يعني يعكفون ويعلقون الأسلحة رجاء البركة.
وهذان الفعلان وهو العكوف ونوط الأسلحة نوط الأشياء لتنتقل البركة من الشجر إلى الأسلحة فينتفعون بذلك في الدنيا والآخرة جميعا هذان نوعان من العبادة:
· فالعكوف والاعتكاف عبادة مستقلة.
· وطلب البركة والانتفاع في الدنيا والآخرة أيضا عبادة أخرى.
فهؤلاء طلبوا إلها مع الله جل وعلا حبث قالوا للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وذات الأنواط تلك فعل عندها المشركون فعلين:
الأول العكوف.
والثاني تعليق الأسئلة للتبرك بها؛ يعني لينتفعوا بالتبرك في الدنيا لمضاء أسلحتهم، وفي الآخرة بثوابهم على ذلك أو طلب القربى عند الله.
قال «الله أكبر الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده ما قال أصحاب موسى لموسى إجعل لنا إلها كما لهم آلهة» و فدل على أن العكوف عند شيء غير ما أذن الله جل وعلا به وهو البيت الحرام في المساجد عكوف لله جل وعلا يتقرب إلى الله وحده أنّ هذا صرْف للعبادة بغير الله، فمن عكف عند شيء يتقرب باعتكافه وعكوفه عند هذا الشيء فإن هذا شرك أكبر، وكذلك طلب البركة في الدنيا والآخرة جميعا من أحد بفعل من الأفعال فإن هذا شكر أكبر.
هل كفر أولئك الذين قالوا تلك الكلمة؟ قال أهل العلم طلبوا شيئا ولم يفعلوه، فتكفير المشركين حصل بشيئين:
· بالعكوف.
· وبطلب البركة وبنوط الأسلحة بالشجرة.(17/394)
وهذان الفعلان التكفير بهما والحكم بالشرك بهما راجع إلى العمل، ولذلك من قال هذه الكلمة فإنه لا يكفر؛ لأنه لم يفعل، فكفر أولئك بالعمل، وهؤلاء لم يكفروا لأنهم لم يعملوا، وطلبهم أُنكر عليهم فرجعوا إلى توحيدهم فلم يحصل منهم ذلك، ولهذا من طلب هذتا الطلب من طلب شيئا أو قال شيئا كُفْرُه بالعمل يعني كفره بشيء ما ولم يحصل منه الفعل فإنما حصل منه القول فقط، فأُنكر عليه أو عُلِّم إن كان جاهلا، قال (إنكم قوم تجهلون)، فرجع فإنه لا يكفر ولا يخرج عن دينه بمقالته، مثل مثلا يقول أحد لماذا لا نذهب إلى الولي الفلاني ندعو عنده ندعوه ونسأله أن يحصل لنا كذا وكذا؟ فبمجرد القول إذا أنكر عليه فالتزم وفهم الصواب ووحد فإنه لا يكفر؛ لأنه بالقول طلب شيئا ومن طلب شيئا كفره بالفعل فإنه لا يُكفر بالقول لأن القول كبيرة وليس بكفر في هذه الصورة .
قال (ولكن للمشركين شبهةٌ يُدلُون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون: إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك، وكذلك الذين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - :«اجعل لنا ذات أنواط» لم يكفروا.) وهذا صحيح يعني هذا الإيراد كما ذكرت لكم صحيح لكن ليس على ما أرادوا من لزوم هذا الإيراد على شبهتهم فأجواب الإمام على شبهاهم فقال :
(فالجواب أن نقول: إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك) فإذن لم يكفروا لا لأجل أنه لا يكفر المسلم؛ ولكن لأجل أنهم لم يفعلوا بل هم قالوا (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا) واتخاذ إله مع الله جل وعلا ينافي لا إله إلا الله.(17/395)
قال (وكذلك الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلوا. ولا خلاف) يعني بين أهل العلم (في أن بني إسرائيل [لم يفعلوا ذلك] ولو فعلوا ذلك لكفروا. وكذلك لا خلاف) يعني بين العلماء ([في] أن الذين نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب) وهذا تقرير عظيم وجيه صحيح متفق كما ذكر الشيخ مع كلام أهل العلم في تقريرهم على الآية وعلى الحديث، فإن أهل العلم مجمعون -كما ذكرت لك- على أن ما كان كفره بالفعل فإن طلبه بالقول دون ممارسة للفعل لا يكفر صاحبه بذلك يعني إذا طلبه .(17/396)
قال وهذا استطراد من الإمام رحمه الله -هذا استطراد مهم وعظيم- قال (ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري [عنها] فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) التوحيد فهمانه يعني فهمنا التوحيد وهذا الاستطراد مناسب جدا لأن قصة بني إسرائيل وقصة من كان مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ خرج في حنين وكانوا حدثاء عهد بكفر وكان نهم من طلب ذلك مسلمة الفتح ممن تأخر إسلامهم ولم يعلموا حقيقة الدين بعدُ هذا يفيد شيئا عظيما وهو أن الموحد الذي دخل في الإسلام وهو يعلم معنى كلمة التوحيد قد تقع له بعض الأفراد في التوحيد يجهلها ولا يفهمها فيقع في قول كفري وهو لا يعلم، قال (تفيد أن المسلم [بل العالم] قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري [عنها]) وهذا ظاهر فإنهم فلو لم يكن معهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد يكونون يفعلون ما طلبوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأذن لهم به، وهذا راجع في الواقع إلى كثير من اهل العلم ومن المنتسبين للديانة فإنهم على ديانتهم وعلى علمهم قد استحسنوا بعض الأفعال الشركية سواء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بغيره من الصالحين أو الأنبياء كإبراهيم الخليل ونحو ذلك، فدل على أن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة بالإجماع أفضل من علماء هذه الأمة بالإجماع أنهم لما وقعوا في ذلك لا يُؤمن أن يقع فيه من هو دونهم في الرتبة والمنزلة، فإذا وقع فيه عالم لا يقال هذا عالم كيف تقول إنه وقع في ذلك؛ بل نقول قد يقع فيه أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما حصل من أصحاب موسى وحصل من بعض أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم على فضلهم وصحبتهم لكن جهلوا بعض أفراد التوحيد، وإذا جهل فإن التعليم والإنكار على الجاهل والإنكار على المعاند وتعليم الجاهل واجب، ولا يجوز(17/397)
أن يقال أن العالم لا يخطئ في هذه المسائل البتة؛ بل قد يقع الغلط في هذه المسائل ممن هو في المرتبة العليا في زمنه أو في بلده، وإنما المقصود أن الأمة لا يمكن أن تُجمع على ضلالة فإذا وجد من قام بالحق فبين له أن قوله ذلك يقود إلى باطل أو إلى شرك كفعل بعض المتأخرين حيث ذكروا في كتبهم الفقهية بعض الصور الشركية التي تحستحسن أن تفعل عند قير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يذكرون قد ذكره طائفة من الكبار العلماء في كتب الحج سواء الفقهية المطولة أو المناسك المخصوصة في الحج ذكروا أنهم إذا أتى المسلم قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: يستحب له أن يدنو منه وأن يناديه بقوله:
يا خير من دفن في القاع أعْظُمُه فطاب من طيبه القاع والأكم
إلى آخر الأبيات التي فيها استغاثة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والطلب منه، فذكروا أنه يفعل أشياء هي من الشرك بالله جل وعلا لا يقال هؤلاء علماء كيف نقول إنهم استحسنوا هذا الأمر؟ نقول من هو أفضل منهم قد يخفى عليهم ولا يُنقص هذا ن منزلتهم لأن الصحابة الذين قالوا ذلك وطلبوا هذا الطلب الكفري لما أُنكر عليهم وعلموا وتركوا هذا القول وأنابوا هم على منزلتهم وفضلهم وعظم مكانتهم في هذه الأمة وهم خير الناس لأنهم صحبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا وقع شيء من ذلك فإن العالم إذا لم يكن داعيا إلى الشرك فإنما وقع هذا في كتبه من جهة الغلط فإنه قد يغلط الكبير قد يغلط العظيم غلطة وأشباه ذلك، وهذا لا ينزل من مرتبته؛ لأن هذا لو قيل به لكان معنى القول بمعدم غلط العالم أنه معصوم مطلقا، والصحابة رضي الله عنهم لم يعصموا وكذلك من بعدهم أولى بأن لا تكون لهم العصمة؛ لكن الإجماع لا تجمع هذه الأمة على ضلالة بل لا يزال في الأرض قائم لله بالحجة يُدلي بالحجة الشرعية الصحيحة ويبينها للناس.(17/398)
فإذن قوله هنا رحمه الله (ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري [عنها] فتفيد التعلم) تفيد التعلم لأن أفراد التوحيد كثيرة وربما سمعتم وقرأتم ورأيتم في هذا الزمن من بعض في هذا الزمن من بعض من ينتسبون إلى الدعوة في بعض البلاد وفي بعض الأمصار من فعلوا أشياء كثيرة وعلموا أشياء كثيرة يريدون نصرة دين الله جل وعلا؛ ولكن عندهم بعض شركيات، تجد عندهم بعض الأفعال أو أقوال التي فيها شرك، كمن استحسن الاستغاثة ببعض الأموات إما بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بأبي بكر أو بعمر وكمن طلب أن يحضلا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتتلى عنده أبيات معينة فيها الاستغاثة به وأشباه ذلك فالداعية وصاحب المقام إذا كان هو يريد نصرة دين الله إذا كان يريد نصرة دين الله فلا يعني أنه لا يقع في ذلك لا يعني أن فيه أن يخاف أشد الخوف أن يقع في الشرك وهو لا يعلم كما قال الشيخ رحمه الله هنا (فتفيد التعلم..... ([60])
والجهلُ داء قاتلٌ وشفاؤه
أمران في التركيب متفقانِ
نص من القرآن أو من سنة
وطبيب ذاك العالم الرباني(17/399)
العلم هو شفاء الجهل فالتعلم لابد منه ومن قال التوحيد أمر فطري لا نحتاج إلى أن تعلمه ولا إلى أن نبذل فيه الوقت ولا الجهد فهذا جاهل بنفسه وجاهل بحق ربه جل وعلا؛ بل التوحيد يحتاج العبد إلى أن يتعلمه دائما حتى لا يقع في شيء من نواقض ذلك التوحيد، وأعجب ما يكون من ذلك قول إبراهيم عليه السلام لربه في دعائه المخبت المنيب ?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ?[إبراهيم:35-36]، فدعا ربه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام؛ يعني عبادة غير الله جل وعلا، وإبراهيم هو خليل الله، قال إبراهيم التيمي من سادات التابعين رحمه الله تعالى لما تلا هذه الآية قال: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. فالعبد يجب عليه أن يتعلم وأن يخاف ويتحرز فمن علامات سعادة المؤمن وطالب العلم والدعي إلى الله جل وعلا:
أن يكون دائم التعلم للتوحيد والقراءة في مسائله لأنه أعظم حق لله جل وعلا.
والثاني أن يكون دائما خائفا من الشرك ووسائله فيكون متحرزا خائفا.
كما قال الشيخ رحمه الله هنا في وصيته العظيمة (تفيد التعلم وهذا واحد والتحرز وتفيد أيضا معرفة قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) فإنه لا يقال التوحيد فهمناه، نريد شيء غير التوحيد؛ لأن التوحيد ينسى وتتشابه مسائله وصور الشرك تتجد مع الأزمنة فلا بد أن يتعلم وتبين مسائله، والشيطان ينسي الناس أصل التوحيد ومسائله حتى يقع في الشرك ولهذا تعلمون حديث ابن عباس الذي في الصحيح صحيح البخاري لما عبد الصالحون من قوم نوح قال ابن عباس في شارة عظيمة قال لما اتخذوا صور الصالحين جاءهم الشيطان إلى آخر القصة -حديث عطاء عن ابن عباس- قال: فلما تنسَّخ العلم عبدت. ففي قوله تنسخ فائدتان:
الأولى أن العلم بعد وجوده قد يذهب وإنما يذهب بإهماله.(17/400)
والفائدة الثانية أن قوله فلما تنسخ العلم يعني ذهب شيئا فشيئا يدل على أنّ العلم بالتوحيد لا يذهب جملة من الناس، وإنما يذهب شيئا فشيئا لأنه يتنسّخ، ما ينسخ ما يرفع فجأة ولكن يتنسخ شيئا فشيئا يذوب بإهمال الناس وعدم رعايتهم لهذا الأصل العظيم.
قال (تفيد معرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) وهذه الكلمة التوحيد فهمناه قالها بعض تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إمام الدعوة قالوها له في درسه.
فإنه لما أتم إقراء كتاب التوحبد وبيان مسائله فأراد أن يعيد الكرة ثالثة أو رابعة.
قالوا له: يا شيخ نريد كتابا آخر، نريد الفقه أو الحديث.
قال: لم؟
قالوا: التوحيد فهمناه نريد علما آخر.
فقال لهم: أنظروني حتى أنظر في هذه المسألة.
فلما أتى بعد بضعة أيام سألهم، جلس في مجلس درسه وبدا على وجهه التكدر جدا.
قالوا له: ما به وجه الشيخ؟
قال: أبلغت بشيء كدرني.
فقالوا له: وما هو؟
قال: بلغني أن بيتا في الدرعية ذبح أصحابُه عند الباب ديكا لأجل نزولهم البيت، أرادوا أن ينزلوا البيت وعند النزول عند الباب ذبحوا ديكا وسال الدم على عتبة الباب، وأنا أرسلت من يتثبت في الأمر، ونقوم في ذلك بما يجب.
فلما أتى من غد قالوا له: ماذا حصل يا شيخ ما الذي صار في هذا الذي...؟
قال: وجد الأمر غير ذلك.
قالوا: ماذا وجدت؟
قال لهم: وجدت أن أهل البيت ما حصل منهم ذلك؛ ولكن فلان وقع على أمه.
قالوا: أعوذ بالله وقع على أمه!! أعوذ بالله وقع على أمه،،،،،،(17/401)
فالشيخ قال هذه الكلمة منه تعلم أن قول الجاهل التوحيد فهمناه من أكبر الجهل ومكايد الشيطان؛ لأنهم استعظموا كبيرة من الكبائر، وأما الشرك الأكبر بالله المخرج من الملة ما أنكرته قلوبهم، لماذا ما أنكرت قلوبهم هذه الصورة وهو إسالة الدم عند عتبة الباب عند النزول نزول الدار؟ لأنهم لا يعلمون أن هذه الصورة لأجل التقرب إلى الجن لدفع شره أو لدفع شر أصحاب العين الذي هو تقرب بالذبح إلى غير الله الذي هو شرك أكبر بالحق جل وعلا، فاستعضموا كبيرة من الكبائر ولم يستعظموا الشرك الأكبر بالله جل وعلا، كما يحصل وترون ذلك من بعض الجهلة من أنهم إذا رأوا بعض الكبائر تغيضوا وقاموا وقعدوا، وأما إذا سمعوا بالشر الأكبر بالله جل وعلا وفلا يتحرك لهم ذلك، وتجد أنهم إذا تحرك أو سمعوا ببعض المنكرات في الأخلاق أو الزنا أو وسائل الزنا في بعض البلاد أو تبرّج النساء أو بعض الفجور أو بعض الظلم أو نحو ذلك قاموا وقعدوا وأصبحوا يتكلمون؛ لكن الشرك الأكبر بالله كونه يرى قبة تحتها معبود من دون الله جل وعلا أو يرى الناس يذبحون لغير الله جل وعلا أو يقرأ هذا في مجلة او يقرأ هذا في كتاب لا يحرك قلبه لحق الله الأعظم، وهذا دليل جهله، ودليل أنه لم يعرف مصلحة نفسه بأن هذا الجاهل إذا لم يتعلم التوحيد ويتغيض قلبه في حق الله جل وعلا بعيادته وحده دونما سواه فإنه على شر، فإن وجد في نفسه أنه إذا رأى منكرا تغيض وأما إذا رأى الشرك الأكبر بالله جل وعلا لا يتحرك قلبه، فليعلم أنه ما فهم التوحيد ولا عظمم الله جل وعلا حق تعظيمه، وهؤلاء الذين قالوا التوحيد فهمناه هؤلاء جهلة ودخل إليهم الشيطان من أكبر مكايده، كما قال الشيخ رحمه الله وأجزل له المثوبة (فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان). ([61])(17/402)
نقف عند هذا ولاشك أن هذه مسائل عظيمة تحتاج ممكن إلى درس ونظر وترديد لأن المسألة في هذا الأمر عظيمة جدا فنسأل الله جل وعلا أن يعيذنا وإياكم من الجهل بحقه والجهل بتوحيده وأن يجعلنا من يكثرون من قراءة التوحيد وتعلمه وتعلم مسائله، وإدمان المطالعة في كتب أئمة هذه الدعوة الذين مكثوا أكثر من قرنين من الزمان يتتابعون في تجلية مسائل هذا، واختصوا به وتفرغوا له، حتى غدت مسائله بإيضاحهم وبيانهم واضحة جلية لا لبس فيها.
فالله الله في هذا الأمر الجلل والمداومة على فهم التوحيد وعلى مطالعة كتبه وحفظ ذلك ومدارسته، فإنه نعم العلم ونعمة العاقبة لأصحابه والعاقبة للمتقين.
[الأسئلة]
س1/ هل يكفر قوم بأن عندهم عادة سب الدين والرسول ومنهم جاهل بأن ذلك كفر وأنه منكر هل يكفر بالجهل؟
ج/ من سب الإسلام الذي أنزله الله جل وعلا على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كافر ولا يعذر بالجهل ولا بأن يقول ما قلته على وجه المزاح واللعب أو غلطت ما علمت إلى آخر ذلك، كذلك سب الله جل وعلا كذلك سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن تعظيم الله جل وعلا تعظيم رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيم القرآن وتعظيم دين الإسلام هذا واجب من الواجبات ويعلم بالضرورة من دين الإسلام فإذا سب معناه أنه نافى ذلك التعظيم وهذا كفر بمجرده.
أما سب دين فلان فهذا لا يكفر به، فإذا سب معين من الناس، مثلا تخاصما اثنان فقال أحدهما للآخر: كذا دينك. فسب دينه فهذا لا يكفر، لأن هذا يحتمل أن يريد تدينه، والديانة التي هو عليها، فلا يكفر إلا إذا سب الإسلام مطلقا، أما إذا سب الدين المضاف إلى بعض الناس فإنه لا يكفر به، لأن هذا فيه شبهة لكن يعزر ويؤدب.
س2/ الدرس الجديد متى سيكون؟
ج/ ربما يكون ليلة الإثنين أو ليلة الإربعاء، وربما الراجح يكون ليلة الإثنين لكن إلى الآن ما تحدد ولا متى نبدأ به، ونبلغكم في حينه إن شاء الله .(17/403)
س3/ هناك بعض الإخوة في المنطقة الشرقية في مدارس يكون مديروها من الرافضة أو مدرسوها ؟
ج/ أما إذا كان المدير من الرافضة فهذا يجب عليك أن تبلغنا به نسعى إن شاء الله في أمره، أما المدرس الذي يدرس فهذا فهذا له أحكام معاملة المبتدع معروفة في كتب أهل العلم وفي فتاويهم يمكن أن ترجع إليها.
أما المدير فلا يجوز أن يسكت عليه لأن المدير موجه وآمر ناهي فتبلغنا بذلك إن شاء الله.
س4/ فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب بما فيه اختبار التلاميذ هل يعتبر من الكذب من أجل العلم والتعلم وهل هو جائز؟
ج/ نستفيد من فعل الشيخ أنه جائز، هذا للتعلم الكذب للمصلحة الشرعية جائز كما هو معلوم، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «ليس الكذاب الذي يقول خيرا أو ينوي خيرا».
وهذا الذي فعله الشيخ هذا خير له وليس من الكذب هذا بالمناسبة يذكر أن بعض الإخوة يكثر من الإعتراض وهذا لا ينبغي فإن أفعال أئمتنا والراسخين في العلم نستفيد منها، فالأصل فيها الاستفادة والسلامة إلا إذا عارضت نصا أو دليلا الكتاب والسنة أو فعل الصحابة أو نحو ذلك فإنه لا عصمة لهم؛ لكن الأصل فيها السلامة وأننا نستفيد من أقوالهم ومن أفعالهم.
س5/ ما رأيكم من يزور أماكن الشرك للوقوف على حقيقة الشرك دون أن ينكر عليهم بحجة أنه سيتعرض للخطر إذا هو أنكر؟(17/404)
ج/ لا يجوز له أن يحضر مكان يعبد فيه غير الله، يستغاث فيه بغير الله، يصلى فيه للميت يتجه إليه للقبلة يطاف على قبره ويسكت ولا ينكر؛ لأن هذا أعظم المنكر وهو الشرك لكن كيف ينكر هذا يحتاج إلى بيان الشيخ محمد رحمه الله إمام الدعوة لما كان يحضر الذين كانوا يعبدون زيد بن الخطاب كان يقول لهم في أول الدعوة الله خير من زيد، فينبههم أن دعوة الله جل وعلا وحده أنها أفضل، وهذا من التدرج في الدعوة، فإذا كان يرى أن الإنكار عليهم ينفعهم وأنه إذا قالهم مثل هذه الكلمة أنها أنفع لهم، هذا لما يراه أن المصلحة الشرعية فيه، أما أن يحضر مثل هذه الأماكن ولا ينكر البتة فهذا حرام عليه ولا يجوز.
ونسأل الله لنا ولإخواننا العفو والعافية والمغفرة.
... السياحة!! يتفرج على الذين يعبدون غير الله!! أعوذ بالله يتغيض الواحد من رؤية قبة من دون أن يعرف ماذا تحتها فكيف يذهب وينظر ويجلس ويسمعهم ويسكت!! هذا..
....طبعا مفهوم الشرك في صوره المخنتلفة هذا يختلف فيه الناس، لكن ينبغي بل يجب أن لا يأخذ الشباب هذه المسائل من غير الراسخين في العلم؛ لأن كون صورة ما صورة شركية هذ ه إنما يعلمها أهل العلم في المسائل هذه الحادثة الجديدة
هذا يسأل عن بعض ما يفهم من الأنظمة الرأسمالية والشيوعية والوطنية وتمجيد الماضي إلى آخره وغيره من الصور، فهذه تعرض المسألة على أهل العلم فإن قالوا إن هذه حكمها كذا فيصار إليه، لأن المسائل تختلف وليس كل ما ظنه المرء شركا يكون يكون شركا.
بل قد رأيت في بعض الكتب كتاب اسمه الأوثان أو شيء أن مؤلفه جعل التلفاز وثنا وأن حال الجالسين أمامه لينظروا أنهم عاكفون عند هذا الوثن، فكل من فعل بأن عكف عند هذا الجهاز الساعات الطويلة، فإن هذا عبادة لغير الله جل وعلا، هذا لاشك أنه إفتآت على الدين وقول بلا علم وخروج عن ما يجوز، فإن القول على الله بلا علم أكبر من الكبائر العملية.(17/405)
س7/ ما رأيك يا شيخ في من ينكر أهمية هذا المتن ويقول إن كان له أهمية تذكر فهي للدعاة في الخارج ونحن تكفينا قراءته ؟
ج/ هذا كلام الشيخ فيه (ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) فليحذر على نفسه .
س8/ ذكرت أن من سجد للصنم أنه يكون كافرا هل هذا بعد الاستفصال؟
ج/ لا شك من سجد للصنم فإنه كافر ظاهرا، السجود للصنم من الكفر العملي الذي يضاد الإيمان، فإن الكفر قسمان:
كفر اعتقادي يكون بالاعتقاد.
وكفر عملي والكفر العملي قسمان -كما ذكر ابن القيم في أول كتابه الصلاة-:
قسم يضاد الإيمان من أصله كسب الدين أو الإسلام أو سب الله أو سب رسوله أو السجود للصنم أو إلقاء المصحف في القاذورات متعمدا عالما وأشباه ذلك، فهذا كفر عملي؛ يعني كفر بعمله هو مخرج من الملة لأنه مضاد للإيمان.
وقسم آخر من الكفر العملي ما لا يضاد الإيمان مثل المسائل التي ذكروها، ترك الصلاة عند طائفة كبيرة عند أهل العلم ومثل الحكم بغير ما أنزل الله، ومثل سباب المسلم، قتاله، سباب المسلم فسوق وقتاله كفر؛ يعني تقاتل المسلمين وأشباه ذلك مما جاء في الشريعة أنه كفر.
فإذن من فهم أن تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي: أن العملي لا يكفِّر هذا غلط عظيم، حتى غلط على ابن القيم رحمه الله فإن ابن القيم في كتابه الصلاة الذي نقلوا عنه هذا التقسيم قال وكفر عملي مثل السجود للصنم وهذا يضاد الإيمان وقال كفر عملي ومنه ما يضاد افيمان كالسجود للصنم مثل إلى آخره منه ما لا يضاد أفيمان كترك الصلاة والحكم بغير ما أنزل الله إلى آخر كلامه ، فالعلماء حيننما يقسمون الكفر إلى اعتقادي وعملي، هذا تقسيم لمورد الكفر فإن الكفر قد يكون مورده من جهة الاعتقاد وقد يكون من جهة العمل والاعتقاد منه الشك أيضا والكفر العملي منه القول ومنه ما لا يكفر.(17/406)
فإذن قول العلماء: أن الردة تكون باعتقاد أو عمل أو فعل أو شك. راجع إلى هذين القسمين: اعتقاد أو عمل ولكن الكفر العملي منه ما يضاد افيمان من أصله كما ذكرنا ومنه ما لا يضاد الإيمان من أصله فليس معنى كفر اعتقادي وكفر عملي أنها مساوية للكفر الأكبر والأصغر كما يظنه طائفة هذا غلط عظيم على أهل العلم؛ فإن الكفر قسمان كفر أكبر وأصغر، باعتبار كفر أكبر يعني مخرج من الملة وكفر أصغر يعني غير مخرج من الملة، فباعتبار حكم هذا الفعل فإنه يكون أكبر ويكون أصغر وباعتبار مورد الكفر قد يكون اعتقاديا وقد يكون عمليا واعتقادي أكبر ويكون بعض أقسامه أصغر والعملي قطعا منه أكبر ومنه أصغر.
فقول بعض أهل العلم الكفر العلملي هو الكفر الأصغر هذا غلط؛ بل الكفر العملي منه أكبر ومنه أصغر، فكلمات العلماء متداخلة مثل ما نقول في الشرك أكبر وأصغر، والشرك يكون باعتقاد ويكون بالعمل، فإن من ذبح لغير الله فهو مشرك بالعمل ومن نذر لغير الله فهو مشرك بالعمل، ومن استغاث بغير الله فهو مشرك بالعمل، وهذا الفعل منه قد يؤول إلى اعتقاد وقد لا يؤول إلى اعتقاد، فالمكفرات العملية الكفر الأكبر أو الأصغر من الكفر العملي قد ترجعها إلى اعتقاد وقد ترجعها إلى عمل مجرد.
فإذن ليس كل ما قيل فيه إنه كفر عملي يساوي الكفر الأصغر؛ بل قد يكون هذا وقد يكون هذا.
س9/ نرى بعض الأشخاص يستشهد ببعض ما يحصل له من أحداث في حياته اليومية ببعض الآيات والأحاديث، فيضحك من حوله وهو في تلك الحالة ليس بمستهزئ، وإنما قالها لمناسبة الموقف، ما حكم هذا الفعل وبما ينصح هؤلاء؟
ج/ أما من جهته فإذا كان أوردها إيرادا عاديا وهم الذين ضحكوا فهو ليس عليه حرج إذا لم يتعمد إضحاكهم بما أورده، وهم على قسمين :
· إن ضحكوا لفعله فهذا مما هو سائغ مما هو مباح.
· وإن ضحكوا على استشهاده بالآية أو ضحكوا على الآيات فهذا يدخل في الاستهزاء.(17/407)
هنا يستفصل ضحكوا لأي شيء؟ هل ضحكوا لفعله لما حصل له، أو ضحكوا على الآيات؟ إن ضحك على الآية فهذا داخل في الاستهزاء بالآيات.
إن ضحكوا على استدلاله، فهذا ضحك على فعله فقد يكون ذلك خلاف الأدب فقط.
س10/ يقول لم لا يكفر بعينه من فعل كذا وكذا؟
ج/ التكفير حكم شرعي فقهي راجع إلى أهل العلم، ليس لمن سمع، فمن سمع كفرا يجب عليه إنكاره؛ لكن لا يكفر إلا بعد حكم عالم، التكفير ليس لآحاد الناس، حكم، فتوى.
س11/ من يمثل في مسرح أو تمثيلية يمثل دور |أحد الكفار فيسب الممثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل يكفر بذلك؟
ج/ هذا من المنكر الأعظم يمثل سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا لاشك أنه منكر أعظم وصاحبه إن لم يكن له شبهة في ذلك فإنه يجب أن يعزر وأن يقام عليه؛ لأنه لا يجوز أن يمثِّل بسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا من الاستهزاء.
س12/ كيف نفرق بين ما بين تكفير الذين نزل فيهم قول الله ?قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ?[التوبة:65]، وبين الصحابة الذين ورد ذكرهم في حديث ذات أنواط، حيث إن أولئك كفروا بمجرد القول وهؤلاء قالوا واعتقدوا ولم يكفروا؟
ج/ الفرق بينهما ما ذكرت لك التكفير قد يكون باعتقاد أو بقول أو بعمل أو بشك، فالذي قال تلك المقالة هو طلب كفرا، وطالب الكفر –أي القائل- ليس بكافر أما من عمل العمل المكفر فهذا انتقل إلى العمل المكفر فقول المستهزئين هذا داخل في قسم قول المكفر وأما من سألوا ذات أنواط فقوله لا يدخل بقول المكفر ولكن يدخل في العمل المكفر فالتقسيم يجعل فرقا بين هذا وهذا فأوةلئك مردهم إلى الفعل وأولئك مردهم إلى القول.
وبهذا القدر كغاية وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن](17/408)
وتفيد أيضًا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبّه على ذلك فتاب من ساعته فإنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وتفيد أيضًا أنه لو لم يكفّر فإنه يغلّظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وللمشركين شبهة أخرى يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وقال له: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وأحاديث أخر في الكف عمن قالها.
ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل.
فيقال لهؤلاء المشركين الجهّال: معلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله وأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويصلّون ويدّعون الإسلام، وكذلك الذين حرَّقهم علي بن أبي طالب وهؤلاء الجهلة مقرُّون أن من أنكر البعث كفّر وقتل ولو قال لا إله إلا الله وأن من جحد شيئًا من أركان الإسلام كفّر وقتل ولو قال لا إله إلا الله. فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئًا من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه؟ ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث. ولن يفهموا.(17/409)
فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادّعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالفه ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ?[النساء:94] أي فتثبّتوا، فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت. فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله: (فتبيّنوا) ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه: أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك.
والدليل على هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» وهو الذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم. لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد» مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحا حتى إن الصحابة يحقّرون أنفسهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة.
وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة من هذا الباب، وكذلك أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو بني المصطلق لمَّا أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ?[الحجرات:6] وكان الرجل كاذبًا عليهم(5) ، فكل هذا يدل على أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:(17/410)
فهذه صلة للجواب عن الشُّبه التي أدلى بها المشركون في أن من قال لا إله إلا الله فإنه لا يكفر أبدا ولو فعل ما فعل لأن لا إله إلا الله تدخله في الإسلام، وفي أثناء ذلك ساق الشيخ رحمه الله قصة ذات أنواط والحديث في ذلك، وأخذ منها ثلاث فوائد، وذكرنا منها الفائدة الأولى في تلك القصة أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل التوحيد فهمناه أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان، وقد تقدم لنا الكلام على هذه الجملة.(17/411)
قال رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ورفع درجته في الجنة في الفائدة الثانية (وتفيد أيضًا) يعني تلك القصة قصة ذات أنواط (وتفيد أيضًا أن المسلم إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنُبّه على ذلك فتاب من ساعته فإنه لا يكفر) لأن هذا الكلام الذي طلبوه قال في معناه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة»، ومن طلب إلها مع الله جل وعلا فإنه يطلب عبادة ذلك الإله، فكفره يكون بعبادته غير الله جل وعلا، ومعلوم أن الطلب متصل بالمطلوب اتصال اللازم بالملزوم، ولهذا نستفيد منه أن الكفر إذا كان مورده القول فإن صاحبه إذا نبه عليه وهو جاهل به فتاب من ساعته فإنه لا يؤاخذ بذلك؛ يعني أنه لا يكفر بقول كفري؛ لأنه جاهل بهذا القول، وذلك إذا نبه فتنبه، إذا قيل له هذا كفر والدليل على ذلك كذا أو أجمع العلماء على كذا أو قال الأئمة كذا فتنبه فإنه لا يكفر بذلك؛ لأن مورد الغلط في اللسان والجهل يعذر به صاحبه في مثل هذا كما عَذَر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة في قولهم بل أنكر عليهم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ غلظ الكلام عليهم شديدا فأفاد كما قال الشيخ رحمه الله تعالى (أن المسلم إذا تكلم لكلام كفر وهو لا يدري) وقوله (وهو لا يدري) راجعة إلى أنه لا يدري أنه مؤاخَذ بقوله ذلك، لا يدري أن كلامه كفر وأن كلامه لا يجوز له أن يقوله، والجهل راجع إلى جهتين:
جهة الحكم، والحكم بأن قوله لا يحل أو أن قوله كفر.
والجهة الثانية راجع إلى الحكم عليه بما قاله.
والأحكام الشرعية متعلقة بالنوع الأول لا بالنوع الثاني.
يعني أنه إذا كان جهله وعدم درايته راجعة إلى أنه لا يعلم أنم هذا الكلام لا يحل له، لا يعلم أن هذا الكلام لا يجوز له، لا يعلم أن هذا الكلام كفر، فإنه إذا نبه فتنبه فإنه يعذر بذلك.(17/412)
وأما إذا علم أنه لا يجوز له ذلك، فيقول أعلم أن هذا كفر أن هذا لا يجوز، ولكن لا أدري أن هذا يوصل القائل إلى درجة الكفر، لا أدري أني أصير كافرا بذلك، فهو يدري أنه محرم ولكن لا يدري أنه يصير كافرا بذلك، فهذا لا يُعذر به مثل من يقول أدري أن القذْف محرم لكن لا أدري أني أجلد فهذا لا يعذر بجهله، يقول أدري ....
فإذن هنا فعدم الدراية بالأحكام الشرعية إذا كان مردها إلى عدم الدراية بحرمة القول، عدم الدراية بأن القول حرام كبيرة كفر، فهذا يُعذر به في مسائل كثيرة.
أما إذا علم الحكم ولكن جهل أنه يجب عليه الحد بهذا أو أنه يكفر بهذا فإنه يؤاخذ فيكفي درايته أنه لا يحل له هذا القول.
وهذا له تطبيقات كثيرة في القواعد الفقهية في تقسيم عدم الدراية أو الجهل إلى جهل بالحكم يعني إلى جهل بعاقبة الحكم، معلوم أنه إذا كفر فإنه يصبح مرتدا، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل، وفي بعض صور الكفر يقتل زندقة، ولا تقبل منه توبته، فإن قال أنا أعلم أن الكلام حرام ولكني أجهل أني إذا قلت ذلك أني أصبحت مرتدا أو أني أصبحت زنديقا قتل بهذا الكلام فإنه لا يعذر.
فإنه يعذر إذا كان يجهل الحكم.
فإذا قال مثلا في الزنا أنا أعلم أن الزنا حرام لكن لا أدري أن الزاني المحصن يرجم، فهنا لا يعذر بجهالته، ولكن يعذر إذا قال أنا لا أعلم أنه حرام.
وهذا تفريق مهم في مسائل كثيرة عند العلماء والفقهاء في عدم دراية بعض المسائل، فإن عدم دراية الحكم أصلا شيء، وعدم دراية الحكم على صاحبه أو العقود المقدرة على صاحبه وأشباه ذلك هذا شيء آخر.
لهذا قال الشيخ رحمه الله هنا (وتفيد أيضًا أن المسلم إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبّه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -) فإن بني إسرائل نبهوا فتنبهوا وإن الصحابة الذين كانوا حدثاء عهد بكفر نبهوا فتنبهوا.(17/413)
الفائدة الثالثة قال (وتفيد أيضًا أنه لو لم يكفّر فإنه يغلّظ عليه الكلام تغليظًا شديدًا كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يغلظ عليه الكلام تغليظا شديدا، وجه التغليظ الشديد أن ذاك تعزير، ومعلوم أن باب التعزير يكون -يعني التعزير في الشريعة- يكون بالقول، ويكون بالفعل، ويكون التعزير بالمال:
القول بأن يقال له كلام يأنبه كلام شديد قال قوي.
وبالفعل إما بضرب أو بهجر أو بأشباه ذلك.
وبالمال بأخذ بعض ماله كثير له، وهذا من جهة القاضي.
فإذا كان كذلك فالتعزير في الشريعة مطلوب لمن وقع منه المنكر بحسب الحال، فهؤلاء كان قولهم قبيحا، وكان طلبهم قبيحا إذ طلبوا إلها مع الله جل وعلا، فلهذا قال النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» وهذا الكلام قد يقال إن ظاهره ليس بشديد إن ظاهره ليس فيه تعزير، لكن هذا ليس بصحيح بل المسلم الموحد إذا قبل له الذي أحب التوحيد ودخل في دين الله بلا إله إلا الله وقد فقه هذه الكلمة ا قيل له أنت طلبت إلها مع الله جل وعلا، فإن هذه الكلمة تتفطر لها القلوب، فهي أعظم مما لو قيل له أسكت أو قيل له كذا أو كذا؛ بل قيل له أنت طلبت إلها مع الله جل وعلا، ومعلوم أنه ما دخل في الدين إلا للتوحيد إلا للإسلام الوجه لله جل وعلا وحده دون الآلهة المتعددة، فلهذا الوضوح في حال الواقع في المنكر نوع من التعزير فمن وقع في الباطل فقيل له أنت وقعت في كذا وكذا تأنيبا له، فإن هذا نوع من التعزير الشديد وتغليظ الكلام بما يناسب الحال.
إذن أفادت أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظا شديدا كما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا انتهاء لأحد الأجوبة على تلك الشبهة.(17/414)
ويتصل بتلك الشبهة التي مرت معنا قبل درسين وهي قولهم: أنتم تكفرون بالشرك من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وقام وصلى وزكى وحج ويكون له أعمال صالحة، فلهم شبهة متصلة بتلك الشبهة وهي قوله (وللمشركين شبهة أخرى يقولون: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وقال له: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وكذلك قوله) إلى آخره، وهذا الكلام مع جوابه أفاد أن شبهة من احتج بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله) الجواب على هذه الشبهة مترتب بأمور الأول أن يقال: لا إله إلا الله تدخل في الإسلام، ومن دخل في الإسلام بلا إله إلا الله فإنه يُنتظر له حتى يرى أيكون آتيا لحقوق لا إله إلا الله أم لا، فلا إله إلا الله لها حقوق وأعظم حقوقها التوحيد بل هي في التوحيد مطابقة، وإذا كان كذلك فإن قول القائل لا إله إلا الله محمد رسول الله يُنتظر به إذا كان قاله في معركة أو استسلامٍ أو نحو ذلك ولا يعاقب على ما كان منه من الكفر وإنما ينتظر به، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الله وأن محمدا رسول الله»، وجاء في الحديث الآخر أيضا قال «حرم دمه وماله إلا بحقها»؛ «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني وقاتل النفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» وقوله (إلا بحقها التارك لدينه المفارق للجماعة) وهنا (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) كلها متفقة غير مختلفة ولهذا نقول في جواب هذه الشبهة ما ذكره الشيخ رحمه الله أن من قال لا إله إلا الله فيما ظاهره أنه خوف فينتظر به فإن أتى بحقوق لا إله إلا الله قبلت وإن خالف حقها من التوحيد فإنه دل على نفاقه وإنما قالها تعوذا.(17/415)
وأسامة بن زيد رضي الله عنهما قتل قبل التثبت، قتل قبل أن يستفصل وأن يرى هل هذا قالها تعوذا أو قالها على الإسلام حقيقة.
والجواب الثاني عن هذه الشبهة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل اليهود وسباهم بني قريضة أو بني النضير أو يهود خيبر، قاتلهم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهم يشهدون أن لا إله إلا الله أو يقولون لا إله إلا الله بحسب تفسيرهم يقولون لا إله إلا الله فعَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قاتلهم على الشرك، قاتلهم على اتخاذهم ندا مع الله جل وعلا قال تعالى ?وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ?[التوبة:30]، فدل على أن قول لا إله إلا الله مع عدم تطبيقها مع عدم عمل ما دلت عليه لا ينفع صاحبه؛ لأنه خالف مقتضاها.
كذلك بنو حنيفة الذين قاتلهم الصحابة قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه فيما قدمنا وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانوا يقولون لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلون ويدعون الإسلام، لكن لما لم يلتزموا بحكم أداء الزكاة لخليفة المسلمين قوتلوا قتال ردة لا قتال بغاة؛ لأنهم ادعوا أنهم مخاطبين بحكم الله جل وعلا بأداء الزكاة لخليفة المسلمين.
كذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار فيما تقدم هم كانوا يقولون ظاهرا لا إله إلا الله محمدا رسول الله.
وهؤلاء الجهلة يقولون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله وأن من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها.(17/416)
يعني أن هؤلاء الذين احتجوا بفعل أسامة قالوا ما قاله الفقهاء والعلماء بأن من جحد البعث كفر وأن من جحد شيئا من أركان الإسلام كفر، فكيف إذن تقولون هنا يكفر مع قوله بلا إله إلا الله محمدا رسول الله وإتيانه بالصلاة والزكاة والصيام والحج إلى غير ذلك؟ وفي هذه المسألة العظيمة -مسألة التوحيد- تقولون لا يكفر؟ لا شك أن هذا خلف من القول وتناقض القاعدة عند أهل العلم واحدة وهي أنه من أتى بمكفر قولي أو عمليا أو اعتقادي أو شك فيما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما كانت دلاللته قطعية فإنه يكفر ولو كان أصلح الصلحاء بل قد قال الله جل وعلا لنبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ?[الزمر:65-66].
قال المصنف رحمه الله في بيان تناقض أهل هذه الشبهة (فكيف لا تنفعه إذا جحد شيئًا من الفروع) يعني كيف لا تنفعه لا إله إلا الله محمد رسول الله إذا جحد فرعا من الفروع مسألة من المسائل جحد الصلاة جحد الزكاة جحد الحج جحد تحريم الربا جحد حِلّ البيع إلى آخر ذلك (وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس الملة وأساس دين الرسل ورأسه) لا شك أن هذا تناقض بل الباب باب واحد، الأصول والفروع في هذا سواء، فمن جحد التوحيد كفر من جحد الصلاة كفر ومن جحد الزكاة كفر إلى آخر الأمور،([62]) الباب باب واحد ولا ينفعه قوله: لا إله إلا الله.(17/417)
قال (ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث [ولن يفهموا]) أما كونهم ما فهموا فهذا واضح هي ما قدمنا، أما كونهم لن يفهموا لأن الشبهة إذا قامت في القلب والبدعة إذا قامت بالروح وبالقلب فإن صاحبها يصعب عليه الخلاص منها، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره أن أهل الأهواء تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه مفصل ولا عرق إلا دخله ذلك، فأهل البدع استغرقت البدعة في قلوبهم حتى حجبتهم عن نور فهم الكتاب والسنة، وهذه من أنواع العقوبات التي يعاقب بها من ترك الكتاب والسنة إلى غيرهم، فهذا ملاحظ أن طائفة منهم من الأذكياء ومن العلماء وممن عنده علوم مختلفة في التفسير وفي الفقه وفي العقائد إلى غير ذلك، ومع ذلك يقعون في هذه المسألة، وإذا أفهمتهم لن يفهموا.
وهنا بحث في أنهم إذا لم يفهموا فإنهم لا يُعذرون بذلك لأن فهم الحجة ليس بشرط؛ بل الشرط هو إقامة الحجة في التكفير يعني لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة الرسالية التي يكفر من أنكرها أو ترك مقتضاها.
وأما فهم الحجة فإنه لا يشترط لهذا قال الشيخ هنا رحمه الله (ما فهموا ولن يفهموا) وإذا كانوا لم يفهموا فإنه لا يعني أنه يسلب عنهم الحكم بالشرك الأكبر؛ لأن فهم الحجة ليس بشرط.
وهذا مبحث بحثه علماء الدعوة والعلماء قبلهم هل فهم الحجة شرط أم ليس بشرط والله جل وعلا قال في كتابه ?وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ?([63]) يعني جعلنا على قلوبهم أكنة أغطية وحجب أن يفهموا هذا البلاغ وهذا الإنذار (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ) فدل على أن المشرك لم يفقه الكتاب ولم يفقه السنة يعني لم يفهم.
وتحقيق المقام هنا لأن بعض الناس قال كيف لا تشترطون فعهم الحجة وكيف تقام الحجة إلى فهم، وتفصيل الكلام هنا أن فهم الحجة نوعان:
النوع الأول فهم لسان.
والنوع الثاني فهم احتجاج.(17/418)
أما فهم اللسان فهذا ليس الكلام فيه فإنه شرط في بلوغ الحجة لأن الله جل وعلا قال ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ?[إبراهيم:4]، والله جل وعلا جعل هذا القرآن عربيا لتقوم الحجة به على من يفقه اللسان العربي.
وإذا كان كذلك فإن فهم اللسان هذا لابد منه؛ يعني إذا أتاك رجل يتكلم بغير العربية فأتيت بالحجة الرسالية باللغة العربية، وذاك لا يفهم منها كلمة، فهذا لا تكون الحجة قد قامت عليه بلسان لا يفهمه، حتى يَْبُلَغُه بما يفهمه لسانه.(17/419)
والنوع الثاني من فهم الحجة هو فهم احتجاج يفهم أن تكون هذه الحجة التي في الكتاب والسنة حجة التوحيد أو في غيره ارجح وأقوى واظهر وأبين أو هي الحجة الداحضة لحجج الآخرين، وهذا النوع لا يشترط؛ لأنه جل وعلا بين لنا وأخبر أن المشركين لم يفقهوا الحجة فقال جل وعلا (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ) وقال سبحانه ?وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا?[الكهف:101]، ?أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ?[الفرقان:44]، فهم لا يسمعون سمع فائدة، وإن سمعوا سمع أُذُن ولا يستطيعون أن يسمعوا سمع الفائدة وإن كانوا يسمعون سمع الأذن، وقد قال جل وعلا ?وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ?[الأنفال:23]، وقال سبحانه ?مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن [رَّبِّهِم] ([64]) مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ?[الأنبياء:2]، (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حتى وصفهم بأنهم يستمعون وليس فقط يسمعون بل يستمعون يعني ينصتون ومع ذلك نفى عنهم السمع بقوله (وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) وبقوله ?أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ?[الفرقان:44]، وقوله جل وعلا في سورة تبارك ?وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ?[الملك:10].
فإذن هم سمعوا سمع لسان لكن لم يسمعوا الحجة سمع قلب وسمع فهم للحجة يعني أنها راجحة فلم يفهموا الحجة ولكنهم فهموها فهم لسان فهموها لأنها أقيمت عليهم بلسانهم الذي يعلمون معه معاني الكلام ولكن لم يفهموها بمعنى أن الحجة هذه راجحة على غيرها، ولهذا قال تعالى (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ).
الوجه الثاني أن الكفر والكفار أنواع:(17/420)
منهم من كفره كفر عناد.
ومنهم من كفره كفر تقليد.
?إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ?[الزخرف:22]، ?وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ?[الزخرف:23].
ومن الكفار من كفره كفر إعراض معرض عن الحق ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ?[الأنبياء:24].
وإذا أشترط فهم الاحتجاج للحجة، فمعنى ذلك المصير إلى مخالفة الاجماع بالقول بأنه لا يكفر إلا المعاند، إذا قيل إنه يشترط فهم الاجتجاج يعني أن يفهم من أقيمت عليه الحجة أن هذه الحجة أقوى وتَدحض حجة الخصوم، فمعنى ذلك أن يصير القول إلى أنه لا يكفر إلا من كان معاندا فقط.
ومعلوم أن الكفار ليسوا كلهم معاندين؛ بل منهم المعاند، ومنهم غير المعاند، فمنهم من جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم، ومنهم المقلد ومنهم المعرض إلى غير ذلك.
فإذن فهم الحجة ليس شرط في إقامتها ونعني بفهم الحجة فهم الحجة من حيث كونها داحضة بحجج الخصوم ومن حيث كونها أوضح من حجج الخصوم، فلو قال بعد إقامة الحجة عليه وبيان الأدلة من الكتاب والسنة وبيان معنى العبادة ويقيم الحجة عالم يعلم كيف يقيم الحجة ويزيل الشبهة، لهذا يقول العلماء الحجة الرسالية، كما يقول شيخ الإسلام في مواضع كثيرة: ويكفر من قامت به الحجة الرسالية. الحجة الرسالية يعني التي يقيمها الرسل أو ورثة الرسل ممن يحسن إقامة الحجة سمع بالحجة وأنصت لها ثم لم يقتنع، وقال أنا لم أقتنع، عدم الاقتناع هو عدم الفهم ليس بشرط في سماع إقامة الحجة، لهذا الشيخ رحمه الله نبه على ذلك بقوله (ولم يفهموا) وكونهم لم يفهموا بما أشربت قلوبهم من حب الشرك وحب البدع ومخالفة السنة.(17/421)
ثم بين رحمه الله فقال (فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادّعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادّعى الإسلام إلا خوفًا على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالفه ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا? الآية)، إلى أن قال في آخرها ?كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ?[النساء:94]؛ يعني أن الله جل وعلا يمن فمن قال هذه الكلمة فينتظر في شأنه حتى يُرى ما يأتي به من حقوق لا إله إلا الله.
قال (فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت. فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله: (فتبيّنوا) ولو كان لا يقتل، إذا قالها لم يكن للتثبت معنى.
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه: أن من أظهر الإسلام والتوحيد وجب الكف عنه إلا إن تبين منه ما يناقض ذلك.) هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله محل إجماع بين أهل العلم في تفسير حديث أسامة بن زيد في قتله للرجل، وغير هذا الحديث من اسشباهه.
وأما الحديث التي علق فيها قتال الناس بقول لا إله إلا الله أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فإن في الحديث الاستثناء بقوله (إلا بحقها) وأعظم حقوقها الواجبة التي تدل عليها الكلمة المطابقة التوحيد.
قال (والدليل على هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: «أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله» وقال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله») وهذا واضح أيضا، (وهو الذي قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم. لئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد» مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحا) إلى آخر الكلام.(17/422)
وهنا تنبيه على أنه ليس ثم تلازم ما بين القتال والحكم بالكفر فقد يحكم بالكفر ولا يقاتل، وقد يقاتل وليس بكافر يعني ليس كل من قوتل فإنه كافر بل تقاتل الطائفة التي تمتنع عن إظهار شريعة من شرائع الإسلام التي تمنع شعيرة من شعائر الإسلام فاقول أنا لا أظهر الأذان لا أظهر الصلوات جماعة مثلا كل يصلي في بيته لا نقيم المساجد ونحو ذلك من شعائر الإسلام فإنه وإن كانوا مقرين بذلك؛ لكن إن منعوا هذا فإنهم يقاتلون وإن كان تركهم لبعض السنن؛ لأن الطائفة المانعة لشعيرة من شعائر الله تقاتل حتى تظهر شعائر الله.
وأظهر منه الطائفة الممتنعة التي لم تلتزم حكم من أحكام الله فإنها تقاتل قتال كفر وردة.
إذن فمن حكم عليه بأنه يقال أو يقاتل لا يلزم منه أنه يكفر وكل من كفر فقد بقتل وقد لا يقتل أيضا.
فإذن قد يكون الحال أن الكافر يقتل، وقد يؤخر فلا يقتل، وكذلك حال القتال فقد يقاتل من كان كافرا وقد يقاتل من ليس بكافر.
ومن النوع الأخير هذا الخوارج، فإن الخوارج لا يحكم بكفرهم لأن عليا رضي الله عنه سئل عنهم: أكفار هم؟ فقال من الكفر فروا. وفي كفرهم روايتان عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله والمنصور من الروايتان أنه لا يطلق القول بتكفير الخوارج لأن الذين قاتلوا عليا رضي الله عنه، وحصل منهم ما حصل مما هو معروف.(17/423)
قال (وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله) الصحابة رضوان الله عليهم علّموا العلم في المدينة وفي مكة وفي مصر وفي الشام وفي اليمن، والخوارج اجتمعوا من هذه الأقطار أتى طائفة منهم من اليمن وطائفة من المدينة وطائفة من مصر وطائفة من الشام، فتجمعوا على هذا، فلا يزكون بأنهم تلاميذ الصحابة، فإن التلمذة شيء والثبات على الحق شيء آخر، بل إن عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عن علي كان في المدينة من أكثر الناس إحكام للقرآن فكتب عمر رضي الله عنه إلى عاهله في مصر عمرو بن العاص فقال له: إني مرسل إليك برجل آثرتك به على نفسي وهو عبد الرحمن بن ملجم، اجعل له دارا يعلم الناس فيها القرآن، فلما وصل للمكتوب إلى عمرو استأجر له دارا أو اكترى له دارا فجعله يعلم الناس. وكان من أكثر الناس عبادة؛ عبد الرحمن بن ملجم، ومن أكثر الناس صلاحا في أول أمره حتى دخلته الفتنة بالقيام على عثمان رضي الله عنه، ثم سار مع علي إلى أن حصل قتل علي رضي الله عنه حتى إنه لما قتله وأرادوا القصاص منه قال لا تقتلوني دفعة واحدة؛ بل قطعوني أجزاء حتى أرى جسدي يقطع وأنا صابر في سبيل الله ولساني يلهج بذكر الله، وهذا من أعظم الفتن التي حصلت طائفة بعده حتى قال أصحابه بعده ممن غرهم هذا المظهر في مدح عبد الله بن ملجم قاتل علي:
يا ضربة من تقي – يعني عبد الرحمن بن ملجم يصفه بأنه تقي صالح -.
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
كان هذا من قول عمران بن حِطان وقد تاب -فيما يقال- في آخر عمره من قول الخوارج .(17/424)
المقصود من هذا أن قول الشيخ رحمه الله (حتى إن الصحابة يحقّرون أنفسهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصحابة) يدل على أن تعلم العلم على من هو على الحق لا يعني أن يوصف صاحبه بأنه على الحق دائما فإن المعلم لا يكوم حكما على من تعلم العلم دائما، فكم خرج ممن علمهم أهل السنة والأئمة وأهل العلم ممن ليسوا على طريقة أهل السنة بل راحوا إلى البدع وإلى الضلالات وإلى بعض الكفريات، نسأل الله جل وعلا والعافية، حتى بعض من درس التوحيد في هذه المدارس والجامعات إلى آخره وعرف السنة وعرف العقيدة الصحيحة زاغ عنها بعد ذلك، فليست التزكية بأن شيخه فلان، وإنما التزكية بأنه ثبت على قول أشياخ من أهل السنة، وهذا ظاهر والحمد لله وفي قصة الخوارج عبرة لمن اعتبر.
قال (وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم لا إله إلا الله) يعني في الكف عنهم بأن لا يقاتلوا (ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة) فإذا ظهرت مخالفة الشريعة فإنهم يقاتلون سواء أقلنا بكفرهم أو لم نقل بكفرهم؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم لمن قتلهم أجرا عند الله (جل وعلا)» وقال لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد .(17/425)
قال (وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة من هذا الباب، وكذلك أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغزو بني المصطلق لمَّا أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ?[الحجرات:6] وكان الرجل كاذبًا عليهم، فكل هذا يدل على أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه) وهذا تطويل من الشيخ رحمه الله للإيضاح واستطراد للبيان بأن قول لا إله إلا الله محمد رسول الله لا ينفع صاحبه إلا إذا أتى بحقوقه إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل، فإذا لم يأت بحقها فإنه لا يقبل منه ذلك بل إنما يقاتل قتال كفر إذا كان من ترك من حقها التوحيد، وإما أن تقاتل الطائفة قتال بغاة إذا كان الذي تركوا من حقها دون التوحيد فمنعوه ولم يمتنعوا منه.
نكتفي بهذا القدر ..
[الأسئلة]
س1/....
ج/ هذه موجودة عندنا (لم يفهموا ولن يفهموا) لأن صاحب البدعة ما يرجع عن بدعته إذا دخلت قلبه، إذا استحكمت منه لا يرجع مثل ما جاء في بعض الأحاديث «أبى الله أن يقبل صاحب بدعة توبة» وفي لفظ آخر «إن الله حجز التوبة عن كل صاحب بدعة» وزاد في بعض ألفاظه «حتى يدع بدعته» والملاحظ أن الذين دخلت فيهم البدعة واستحكمت فيهم أنهم لا يرجعون لأن أولئك يرونها تدينا يرون أن هذا هو الحق وأن غيره باطل، فلهذا لا يدعه إلى غيره، فالعبرة بالحق المطلق لا بالحق الإضافي.
س2/ ذكرت أن للإمام أحمد روايتين في تكفير الخوارج.
ج/ في تكفير الخوارج الذين خرجوا على علي الحرورية، وأما الخوارج الذين ظهروا بعد ذلك ولهم اعتقادات مختلفة فإن هؤلاء يعامل كل بحسب حاله.
س3/ هل هناك فرق بين الجهل والجهالة؟
ج/ نعم الجهالة تعد، والجهل عدم العلم.
س4/ أليس ظاهر كلام الشيخ أنه يرى كفر الخوارج كما ذهب إليه بعض العلماء من السلف؟(17/426)
ج/ نعم هو ظاهر كلامه وهو كلامه على القتال وعدم الانتفاع بلا إله إلا الله في ترك مقاتلتهم .
س5/ « يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» هل يدل على كفرهم استدل به من رأى كفر الخوارج لكن الصواب أنه لا يدل على ذلك لأن المروق من الدين كما يمرق السهم من الرمية قد يكون مروقا مع بقاءء الأصل وقد يكون مروقا كاملا فهو محتمل.
س6/ من عمِل عمَلَ كفر سواء أكان قوليا أو فعليا لكنه يجهل الحكم أن هذا كفر لأن عادة بدله هذا؟
ج/ السؤال غير منضبط ، كيف يكون عمل كفر وهو قولي أو فعلي لابد يحدد الصورة التي يسأل عنها.
س/ لم قام ابن ملجم بأمر أصحابه بتقطيع نفسه حنى الموت ؟
ج/ هو ما أمر أصحابه أن يقطعوه حتى الموت هو طلب من ورثة علي من الحسن والمسلمين أن لا يقتلوه دَفعة واحدة وهو قتلوه بالسيف ضربة واحدة.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن]
ولهم شبهة أخرى وهي ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا.
والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها كما قال في قصة موسى: ?فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ?[القصص:15]، وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها في الأشياء التي يقدر عليها المخلوق، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله.(17/427)
إذا ثبت ذلك، فإن استغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منها أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرْب الموقف، وهذا جائز في الدنيا والآخرة، [وذلك] أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السَّلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه نفسِه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، واجعلنا من عبادك المتقين.
أما بعد:
فهذه شبهة أخرى جديدة ذكرها الإمام المجدد رحمه الله تعالى بأن أهل الشرك في زمانه من العلماء وأشباههم كانوا يوردونها على الشيخ رحمه الله مستدلين بهذه الشبهة على إبطال توحيد الله جل وعلا في عبادة الاستغاثة، والمشركون حين احتجوا بهذه الشبهة وجادلوا بها يريدون إبطال الأصل الذي يعتمد عليه الموحدون، وهو أن صرف العبادة لغير الله جل وعلا شرك أكبر، فهم استدلوا ببعض ما ورد لإبطال توحيد العبادة، ويريدون بعد هذا أن يقصروا الشرك في عبادة الأصنام وفي عبادة الأوثان التي كان عليها أهل الجاهلية في الزمن الأول على ما فهموه من عبادة الأصنام والأوثان.(17/428)
وهذا الإيراد الذي ذكره الشيخ رحمه الله من العجب أنه تتابع عليه الذين ردوا على الشيخ قبله؛ يعني في زمانه وبعده رحمه الله تعالى، فالذين كتبوا في تجويز الاستغاثة بالقبور وبالمقبورين وبالأولياء الصالحين وغير الصالحين، هؤلاء احتجوا بهذا الدليل وهو أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، وهذا النوع من الاستغاثة هي استغاثة بعد الممات، فيقولون الممات حلَّ والاستغاثة هذه بعد الممات، وحياتهم في قبورهم كحياتهم في الموقف ولا فرق إذ هذا وهذا حياة لهم، فيستدلون بالاستغاثة بآدم وبنوح وبإبراهيم بموسى ثم بعيسى ثم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يستدلون بذلك على أن الاستغاثة بغير الله جل وعلا ممن ليس في الحياة الدنيا جائزة.
وهذا هو الذي ذكره الشيخ رحمه الله هنا حيث ساق ما ساق قال في آخر كلامه (قالوا: فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا فالجواب أن نقول) وقبل سياق جواب الإمام رحمه الله تعالى نذكر أصلا في أصل شبه المشبهين من المشركين وذلك أن توحيد العبادة أدلته كثيرة محكمة والمجيب على الشبه إذا اشتبه عليه جواب، فإنه يعود إلى الأصل وهو تقرير الأدلة التي جاءت في توحيد العبادة، ثم يُدخل الصورة هذه التي أوردها المشبه في تلك الأدلة حتى يبطل الاستدلال من وجه إجمالي فهذه طريقة نافعة.
ثم بعد ذلك يأتي إلى الجواب الذي يكون فيه تخصيص بتلك المسألة التي احتجوا عليها ببعض الأدلة، ومسألة الاستغاثة راجعة إلى الدعاء، فإن الاستغاثة طلب ودعاء؛ لأن الأصل في فعل (استفعل) أي طلب الشيء، وقد يكون من غير الطلب في مواضع متعددة، فإذا أوتي بـ(استفعل) فإنها تحمل على الطلب لأنها تدل عليه في مواضع فاستسقى طلب السقيا، واستغاث طلب الغوث، واستعان طلب العون إلى آخر أمثال ذلك.(17/429)
فإذا كانت طلبا فإنها سؤال وإنها دعاء، ولهذا الأدلة العامة في الكتاب والسنة امنع السؤال بغير الله جل وعلا تمنع دعاء غير الله تمنع الطلب من غير الله جل وعلا كما في قوله ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]وكما في قوله جل وعلا ?وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، وبخصوص الاستغاثة قال جل وعلا ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ?[الأنفال:9]، وكما في قوله ?إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ?[الرعد:36]، ونحو ذلك من الآيات التي فيها إفراد الله جل وعلا بالطلب وإذا كان كذلك في القرآن فهذا عام يشمل ما يقدر عليه المطلوب منه وما لا يقدر عليه وكذلك ما جاء في السنة من قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» حتى السؤال والطلب من مخلوق لا يجوز بل يجب إفراد الله بالطلب هذه أدلة الكتاب والسنة في هذا بخصوصه.(17/430)
لكن هذا العموم أو هذا الإطلاق ورد ما يقيده في النصوص، فالنصوص العامة كما ذكرنا لك أو المطلقة تمنع السؤال مطلقا إذا سألت فاسأل الله بلا تفصيل، هل يقدر أو لا يقدر؟ هل هو حي أم ليس بحي؟ هل هو حاضر أم ليس بحاضر؟ إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وكذلك ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18] لكن جاء في القرآن والسنة تقييدات جعلتنا نقيد هذا العموم نقيد هذا الإطلاق أو نخص هذا العموم ببعض الصور، ولهذا القيود في الأدلة ظاهرة فجعلوا تلك المطلقات مشروطة بشروط ولهذا قال العلماء تلك المطلقات ينظر في النصوص هل قيدت أم لا ؟ كفهم عام فإنه يبقى على عمومه حتى يرد مخصص كفهم مطلق فإنه يبقى على إطلاقه حتى يرد ما يقيده فنظرنا في القرآن فوجدنا أن الرب جل وعلا ذكر أن نبيه موسى عليه السلام في أول سورة القصص ذكر قوله جل وعلا (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فعلمنا بذلك أن موسى عليه السلام وهو نبي الله وكليم الله وإن كان هذا قبل أن يوحى إليه فهو ليس إذ قال ذلك بمشرك الشرك الأكبر لأن الأنبياء منزهون عن الشرك الأكبر قبل النبوة وبعدها من باب أولى كما هو واضح ظاهر.
فإذن قوله (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) هنا الله جل وعلا ذكر الاستغاثة فدل على أن هذا النوع من الطلب خارج عن الإطلاق، فهذا ننظر في هذا الحال في بساط الحال في هذه الآية، فنقول: هذا طلب الغوث من موسى وهو حي أمامه وهو قادر لأنه وكزه فقضى عليه أو أنه في محل القدرة، أي في حكم القادر وكذلك أنه يسمع خطابه، فظهر لنا من هذا الدليل قيودات.
وكذلك نعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم استغاثوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته في مواضع، وإذا كان كذلك فإنهم استغاثوا بمن يسمع وهو حي ويقدر على أن يغيثهم.(17/431)
وكذلك إجازة طلب الغوث بهذه فيما يستغيث المرء بمن هو يقدر على إجابة ما به من كرب؛ يعني بشروطه.
فدلنا ذلك على أن تلك المعلومات إذا سألت فاسأل الله (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) مقيدة، فلهذا قيّد العلماء بهذه النصوص المقيدة العموم فقالوا إذا كان المستغاث به المسؤول المطلوب إذا كان حيا -يخرج الميت-، إذا كان قادرا على الإنفاذ أو بحكم القادر، إذا كان حاضرا يسمع فإن الأدلة دلت على جواز الطلب منه وعلى جواز الاستغاثة به وعلى جواز الاستعانة، فإن كان غائبا فإنه يبقى العموم على بابه يبقى المطلقات على بابها، فإن كان غير حي فيبقى.
فإذن هنا العمومات بالإجماع يعمل بها والمطلقات بالإجماع يعمل بها العموم مثل قوله (وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ومثل قوله (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) وأشباه ذلك، فيُعمل بالعموم حتى يرد المخصص، وهنا المخصصات المنفصلة كما يرد في الأصول دلتنا على اعتبار الشروط.
فإذن من منع هذا منع الاستغاثة بغير الله جل وعلا فيما لا يقدر عليه ذلك المستغاث به، مستمسك بالأصل مستمسك بالعمومات، مستمسك بالأدلة المحكمة في هذا الباب، فمن أجاز صورة من الصور فهو الذي عليه الدليل.
ولهذا نقول هذا الدليل الذي أورثتموه لا يخرج عن القيود التي ذكرناها، هذه الشبهة بالاستدلال بهذا الدليل لا يخرج عما ذكرناه؛ بل هو مؤيد ودليل من السنة على ما ذكرناه من القيود.(17/432)
واستدلالكم به على أن الحياة التي بعد الموت لا تسمى حياة وإنما هي حياة الدنيا ثم بعده موت ويوم القيامة والبعث له حكم ما قبل الموت؛ لأن هؤلاء أحياء في قبورهم، ثم بعد ذلك هم أحياء، فلا فرق نقول هذا لا يستقيم مع الأدلة الكثيرة في القرآن في أن الناس أُحيوا حياتين وأميتوا ميتتين قال جل وعلا ?كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً?[البقرة:28]، يعني في بطون أمهاتكم فأحياكم بنفخ الروح ثم يميتكم بذهاب الروح ثم يحييكم بعود الروح، وكذلك قوله جل وعلا في سورة غافر ?رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ?[غافر:11]، فدل على أن النصوص فيها حياتان وفيها مِيتتان، فمن جعل الموت والحياة حالة واحدة كحال هؤلاء المشبهة الذين أوردوا هذه الشبهة فإن النصوص تبطل هذا الإيراد، فهذا الإيراد هذه الشبهة مبطلة كما ذكرنا من هاتين الجهتين:
أولا من حيث إن هذا الدليل هو لنا وليس علينا؛ لأن فيه القيود بأن هؤلاء أحياء يتكلمون قادرون، آدم قادر على الدعاء، نوح قادر على الدعاء، وموسى قادر على الدعاء، ومحمد عليه الصلاة والسلام قادر على الدعاء، وعيسى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قادر على الدعاء، ثم نقول إن هؤلاء كانوا في حياة ثم صاروا إلى موت، وهم مع موتهم في حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء؛ لكن فرق بين أحكام الموت وأحكام الحياة، ثم يصيرون إلى حياة، فدل على تنوع الأحوال فلكل حال دليلها الذي يخصها.
فإذن أولا جواب الشبهة هذه العمومات باقية، أدعاء هذا الدليل يصلح لجواز الاستغاثة بغير الله جل وعلا باطل؛ لأنهم استدلوا بدليل في الحياة والكلام معهم في الممات إذا قالوا الممات وما([65]) بعده من يوم القيامة كل هذا يعتبر نوع واحد من الحياة، نقول النصوص دلت على أن ثمة حياتين وثمة موتين، فإذن يحتاجون إلى دليل آخر ولا دليل عندهم.(17/433)
هذا تقرير لهذه المسألة، ولك أن تُنَظِّرَ مثلها في كل أنواع الطلب، كل الأنواع التي يستدلوا بها في أنواع الطلب تستدل بمثل هذا؛ لأنهم يوردون بعض الأدلة والآثار والإشراك بالله في مثل هذا ولك أن تطرد هذا في أمثاله.
قال الإمام رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة (والجواب أن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه) وهذا تنبيه من الله جل وعلا في مسألة عظيمة وهي مسألة القدر؛ لأنهم طبع على قلوبهم فلا يفقهون إلا قليلا، (فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها)، تستدلون بشيء ليس هو في المسألة التي فيها البحث، المسألة التي فيها البحث الاستغاثة بالأموات، الاستغاثة بمن لا يقدر، وأنتم تستدلون بدليل ليس في محل الدعوى فلا شك أن هذا باطل عند جميع العقلاء استدلال في بدليل ليس بمحل الدعوى استدلال باطل، فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها، وتلحظ هنا قوله فيما يقدر عليه، وفي آخرها قال (في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله)، وبين العبارتين فرق، هنا (فيما يقدر عليه) وهناك (فيما لا يقدر عليه إلا الله).
والجواب عن هذا الإيراد أن ضابط الاستغاثة كما ذكره في أول الكلام أن الاستغاثة بالمخلوق جائزة فيما يقدر عليه، والاستغاثة الشركية وأن يسنغيث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق أو فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأن بين العبارتين فرقا، هو لا يقدر ولكن الآخر يقدر قد لا يقدر هو ولكن الآخر يقدر، وهذه من حيث الاستغاثة بغير الله جل وعلا مما لا يقدر عليه ذلك الغير يحتاج إلى تفصيل، وقد ذكرنا شيئا من تفصيلها في شرح كتاب التوحيد كما هو موجود في شروح كتاب التوحيد.
وخلاصة الأمر أن الضابط الأيسر أن تقول فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأما فيما يقدر عليه المخلوق بأنه جائز، وفيما لا يقدر عليه المخلوق لأنه شرك هذه تحتاج إلى ضوابط.(17/434)
فمثال ذلك لو استغاث بمهندس للعمارة فيما يتعلق بأمر طبي، هو لا يقدر على ذلك، صحيح؟ إنما يقدر عليه الطبيب لكن هنا الاستغاثة لا نقول إنها شرك أكبر لأن هذا جنسه وليست القدرة على ما يقدر عليه الطبيب بخصوصه بل القدر متنوعة، يأخذه ويذهب به إلى طبيب يكون معه إلى آخر الأنواع ولهذا بعض أهل العلم يعبر بقوله إن الاستغاثة بالميت فيما لا يقدر عليه أو الاستغاثة بالغائب فيما لا يقدر عليه إنها شرك أكبر، وهذه لا تنضبط عند أكثر الناس فهي صحيحة لكن تحتاج إلى عالم يضبطها لأن المسائل متشابهة فالذي يضبط المسألة هو قول الشيخ بآخر الكلام أو بغيبته في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله؛ يعني إذا طلب من المخلوق الميت أو الغائب شيء لا يقدر عليه إلا الله فإنه يكون شركا أكبر أما فيما يقدر عليه المخلوق لكن هذا المخلوق المعين لا يقدر عليه، قد تكون وقعت شبهة عند المستغيث وحال الاستغاثة يكون هناك ضعف، وقد يكون هناك ظن أن هذا يقدر أن يضيف إلى آخر مات يتصل بهذا مما ذكرنا شرحه.
المقصود من هذا أن الضابط الأخير الذي ذكره الشيخ في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله هذا ضابط صحيح كما ذكره الشيخ في الحكم بالشرك والأول في الحكم بالجواز، لهذا الشيخ نوّع العبارة فقال الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائز، والاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر.
وهذا ضابط صحيح وهو أحسن من أن نقول في المقامين فيما يقدر عليه المخلوق أو فيما لا يقدر عليه بما يحصل معه من الاشتباه.
قال رحمه الله (وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب وغيرها من الأشياء التي يقدر عليها المخلوق ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم) استغاثة العبادة يعني طلب الغوث من الغائبين مع اعتقاد أن لهم تدبيرا في غيبتهم هذه استغاثة العبادة، ويكون معها رجاء وخوف، أو رجاء ومحبة أو خوف ومحبة أو الثلاثة معا.(17/435)
فإذن الاستغاثة منها ما هو عبادة ومنها ما ليس بعبادة، وما أنكرناه هو استغاثة العبادة، وهو أن يستغيث بغائب إما ميت أو حي غائب فيما يقدر عليه إلا الله جل وعلا يستغيث به في شفاء مرضه، يستغيث به في أن يخلص من المدلهمات التي أصابته، في كشف الكربات في إزالة المصائب التي أصابته، في مغفرة الذنب في إتيانه الولد في تأمينه مما يخاف إلى آخر ذلك.
قال (إذا ثبت ذلك) يعني الجواب الأول الذي ذكره الشيخ وجه الاستدلال لصالحهم، قال هذا الدليل لنا وليس علينا ثم قال (إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الله حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف وهذا جائز في الدنيا والآخرة) جوازه في الدنيا لأنه يجوز أن تطلب من أحد في الدنيا أن يدعو لك؛ لأنه يقدر على هذا الشيء، كذلك في الآخرة يجوز أن تطلب أن يدعو لك لأنه يقدر على ذلك وهاتان حياتان، والكلام في الموت، الكلام في الموت أو حين الغيبة هو محل النزاع قال (أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك وتقول له: ادع الله لي، كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه ذلك في حياته، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره) يعني أن الصحابة لم يرد عنهم شيئا البتة وحاشاهم وكلا أنهم أتوا قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستغاثوا به، أو أتوا قبره فاستشفوا به طلبوا منه الدعاء فهذا لم يكن يفعله الصحابة رضوان الله عليهم بعد موته البتة، قال (بل أنكر السَّلف على من قصد دعاء الله عند قبره، فكيف بدعائه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نفسِه) يعني السلف كما في قضية علي بن الحسين وعدة حوادث في هذا عن السلف أنهم أنكروا من يأتي إلى القبر للدعاء، وإنما من دخل المسجد أن من أتى من سفر كما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنهما وغيره يأتي فيسلم عن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ سلاما، أما أن يتخذ القبر للدعاء(17/436)
يعني ما حول القبر أو أنه يدعى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نفسه هذا لم يكن عند السلف؛ بل بعضهم غلط ودعا الله جل وعلا وحده عند القبر فأنكر عليه بعض السلف كما ذكرت لك، إذا أنكروا على من قصد القبر لدعاء الله جل وعلا فكيف لا يُنكرون من قصد القبر لدعاء المقبور نفسه، لا شك أن هذا أولى بالإنكار.
المقصود من هذا أن الشبهة هذه ليست بمستقيمة؛ بل هي داحضة كما هي شبه أهل الشرك، ولله الحمد أهل السنة وأهل التوحيد ليس لهم غرض في هذا الأمر، لم يأتوه عن هوى لم يأتوه عن شهوة وإنما أتوه تطبيقا لما جاء في الكتاب والسنة ورعاية لما ورد وإقامة لحق الله جل وعلا فلو أجاز الله جل وعلا ذلك لاتبعناه كما قال سبحانه ?قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ?[الزخرف:81]، لو أجاز الرب جل وعلا ذلك لاتبعناه ولكن لا دليل البتة يجيز هذا لأن هذا هو الشرك الأكبر وهذا عند أهل التوحيد وظهور ولهذا قال في القصة المعروفة أن رجلا حاج عن أهل الشرك ما هم عليه من الشرك فقالوا له انتم تقولون هذا لأجل أن محمد بن عبد الوهاب قال تعصبا له فقال هذا الموحد كلمة التوحيد خالصة نتيجة عن بينة لا عن تقليد، قال: لو قام محمد بن عبد الوهاب من قبره فقال ما قلت لكم غلط ما اتبعناه. لم؟ لأنهم أخذوه بالحجة ليس بالحجة من قول محمد بن عبد الوهاب إنما بالحجة من قول الله جل وعلا وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإجماع سلف الأمة، والإمام محمد بن عبد الوهاب إمام مصلح مجدد دل الناس على معاني النصوص، وهذه وظيفة أهل العلم أهل العلم الراسخون منهم يؤخذ قولهم؛ لأنهم دلوا الناس على نعاني النصوص، وفي فقههم للنصوص وفهمهم لها قالوا هذا معنى الآية، وهذا ما دل عليه القرآن وهذا ما دلت عليه السنة، أو تارة يجتهدون ويذكرون من القواعد ما يكون في نفوسهم من دلالات النصوص، فيفهمون من الشريعة بمجموع أدلتها وبروح الشريعة أن(17/437)
الشريعة أتت بكذا، فيقولون هذا ويقبل كلامهم لأنهم هم الفقهاء بالكتاب والسنة، والإمام المصلح رحمه الله إنما قال للأمة معنى الآيات كذا، ومعنى الأحاديث كذا، ودلت على هذا.
فإذن هو ناقل للكتاب والسنة وموضح لمعناهما لما آتاهما الله جل وعلا من متابعة السلف الصالح ومن الرسوخ في العلم وفهم الأدلة.
فإذن ليست المسألة عن تقليد، وإنما هي عن وضوح حجة ووضوح برهان، ولله الحمد والمنة.
?????
[المتن]
ولهم شبهة أخرى: وهي قصة إبراهيم عليه السّلام لما ألقي في النّار اعترض له جبريل في الهواء فقال له ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا(1) فقالوا: فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركًا لم يعرضها على إبراهيم.
فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى، فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله تعالى فيه: ?شَدِيدُ الْقُوَى?[النجم:5]، فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم [عليه السلام] في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل. وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجًا فيعرض عليه أن يُقرضه أو أن يهب له شيئًا يقضي به حاجته فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر حتى يأتيه الله برزق لا منّة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟
[الشرح](17/438)
هذه الشبهة أضعف من الشبهة الأولى ولكن المشرك والعياذ بالله يتشبث بخيط العنكبوت للإبقاء على ما هو عليه، قصة إبراهيم هذه ذكرها بعض المفسرين وأن جبريل عليه السلام اعترض له في الهواء لما ألقي في الهواء فقال له يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه السلام وهو إمام الحنفاء، قال: أما إليك فلا؟ قالوا لو كانت الاستغاثة شركا لم يعرضها على إبراهيم، وكما ترى ان الاستدلال ليس في محل الدعوى والدليل ليس في محل الدعوى، فالكلام في الاستغاثة بالأموات، وأما الاستغاثة في أصلها كما قلنا دلت الأدلة على جوازها بشروطها، وأما الاستغاثة التي نتكلم فيها الاستغاثة بالغائبين الاستغاثة بالأموات، ولهذا لو قال قائل لهم، إذا قلتم تقولون ذلك فهل يجيز أحد منكم أن يستغيث بإنسان اليوم، مجمع على حياته بين المسلمين وهو عيسى عليه السلام رسول من أولي العزم من الرسل، فهل تجيزون الاستغاثة والطلب من عيسى عليه السلام، وهو حي في السماء رفعه الله جل وعلا إليه، ولا قائل بين المسلمين البتة أنه تجوز الاستغاثة والطلب من عيسى عليه السلام إنما كلامهم في الأولياء المقبورين.(17/439)
لهذا نقول هذه الشبهة لأنه عرض جبريل على إبراهيم هذه لنا وليست علينا؛ لأن جبريل عليه السلام قوي بل شديد القوى فقد أتى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وقال له: يا محمد لو شئت لأطبقت على أهل مكة الأخشبين، فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهو الرؤوف الرحيم «لا لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله» عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فجبريل عليه السلام يخلص إبراهيم من النار هذا امر سهل ميسور عليه وجبريل كان حاضرا عرض الإغاثة لإبراهيم، هذه بلا شك محل للدعوى لكن كما ذكرت لك المشرك يتشبث بخيط العنكبوت (فالجواب: أن هذا من جنس الشبهة الأولى فإن جبريل عليه السلام عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله تعالى فيه: ?شَدِيدُ الْقُوَى?) -?عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى?[النجم:5-6]- (فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل، ولو أمره أن يضع إبراهيم عليه السلام في مكان بعيد عنهم لفعل، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل.) ولكن إبراهيم عليه السلام في هذا أرادها من الله جل وعلا، وهذا يدل على الأصل الذي أصلناه ودلت عليه النصوص وهو أنه من استغنى عن الخلق فهو أحمد فهو المحمود؛ لأن الأصل أن يستغنى عن الخلق لكن الناس لا تستقيم أمورهم إلا بحاجة بعضهم إلى بعض، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصى عددا من أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا، قال: كان أحدهم يسقط سوطه وهو على دابته فلا يسأل أحدا أن يرفعه إليه فينزل ويأخذه. وذلك الكمال، والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان قلما يحتاج إلى غيره، إذا كان الشيء يمكن أن يعمله بنفسه عمله بنفسه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ –يعني في الأصل- وأما غير ذلك فهو جائز لكن ليس هو الأصل يعني أن هذا الدليل الذي أوردوه وغن لم يستقم دليلا(17/440)
هذا لنا وليس لهم.
فقال من حيث التمثيل (هذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجًا فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئًا يقضي به حاجته فيأبى ذلك المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منّة فيه لأحد، فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون؟) وهذا الجواب واضح الدلالة واضح القوة، ولكن المشركون طبع الله على قلوبهم.
نكتفي بهذا القدر بقي معنا قد يكون بقي درسان أو ثلاثة.
[الأسئلة]
س1/ لم نفهم حكم الاستغاثة بمهندس بأمر طبي!!
ج/ لا، ليس شركا لأنه استغيث بغير عمله .
س2/ هل المرأة التي قالت: وامعتصماه ارتكبت شركا أكبر؟
ج/ لا، ليس ذلك من الشرك الأكبر، قد يكون إذا أرادت النداء وهي تعلم أنه لن يصل إليه وليست متوجعة قد يحصل ذلك، لكن الأصل فيها أنه ليس شركا.
كل يسألون هل هذه القصة ثابتة تحتاج إلى مراجعة.
س3/ ماذا تعني بقولك أن عيسى مجمع على حياته في السماء؟
ج/ عيسى عليه السلام ما مات وما قتل وما صلب ولكن الله جل وعلا توفاه؛ يعني استوفى له مدته الأولى في الأرض ?إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ?[آل عمران:55]، فرفع إلى السماء حيا ووجه الشبه مكانه فتقل اليهود الشبه فصلبوا الشبه وأما عيسى عليه السلام فهو حي في السماء وينزل ونزوله من أشراط الساعة الكبرى. ينزل عليه السلام ويعيش في الأرض مدة قالوا سبع سنين ومنهم من قال أقل ومنهم من قال أكثر ثم يموت، ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، وهو الآن عليه السلام حي في السماء، ولا قائل إنه يجوز الاستغاثة به وهو حي، ما أحد يقول هذا إلزام لهم لو قالوه، لصرحت عليهم جميع المراجع التي يرجعون إليها شرك وأن هذا يضاهي فعل النصارى.
س4/ هل الاستغاثة بعيسى عليه السلام شرك؟
ج/ نعم. بلا شك.
س5/ هل طلب الدعاء من شخص سنة؟(17/441)
ج/ طلب الدعاء من الحي؛ يعني ترى من ترجو أن يجاب إما بكونه صالحا، أو لأنه يتحرى أوقات الإجابة أو أنه في سفر، أو ما أشبه ذلك من أسباب الإجابة، فتطلب منه أن يدعو لك الأولى أن لا تطلب منه، وإذا طلبت فإن السنة أن تنوي نفعه ونفعك جميعا، لا تنوي حين تطلب أنك محتاج إلى أن يدعو لك، هذا خلاف السنة، السنة أن تنوي النفع حين تطلب منه الدعاء تريد أن تنفعه يعني بأن ينوي الملك ويقول لك بالمثل وتنفع نفسك أيضا بالدعاء هذا هو التحقيق.
وعليه يحمل ما ورد من في السنن من حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لعمر أن يدعو له مع أن لحديث ضعيف.
وكذلك طلب الدعاء من [...].
س6/ لماذا قول المرأة وامعتصماه شرك؟
ج/ قلت أنه ليس بشرك، بمعنى أنها استغاثت بغائب ليس بموجود لأن وامعتصماه الواو هذه ليست متمحضة للنداء والاستغاثة في اللغة، تحتمل أنها للتوجع تحتمل أنها للندبة، وفي اللغة اللفظ محتمل وتدرأ الحدود بالشبهات.
بارك الله فيكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
?????
[المتن]
ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة [جدًا] تفهم مما تقدم ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا، فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون إن حق ونحن نفهم هذا ونشهد أنه الحق ولكن لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم، أو غير ذلك من الأعذار ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال تعالى ?اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً?[التوبة:9]، وغير ذلك من الآيات كقوله ?يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ?([66]).(17/442)
فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهرًا وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق وهو شر من الكافر الخالص ?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ?[النساء:145].
وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تتبيّن لك إذا تأملتها في ألسنة النّاس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دُنيا أو جاه أو مداراة [لأحد].
وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا فإذا سألته عمّا يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى.
اللهم علمنا ما ينفعنا ونفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
أما بعد : فهذه صلة لما اتفق أن بينا من مقاصد هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات لما أورد الإمام المجدد رحمه الله تعالى جملا من أصول الشبهات التي يوردها أعداء الدين وأعداء دعوة والتوحيد، ختم الكلام بإيراد شبهة، وهذه الشبهة راجعة إلى العمل، والشبه السابقة راجعة إلى العلم يعني بالتوحيد وببيان أنه الحق ورد ما يجادل به المشركون في صحة التوحيد وصحة اعتقاد ما دلت عليه كلمة التوحيد.(17/443)
قال الإمام رحمه الله (ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة جدًا) وفي قوله هنا (ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى) فيه يعني في إيراده للاستثناء هذا إن شاء الله تنبيه لطالب العلم؛ بل ولكل مؤمن أن يستعمل هذه الكلمة فيما يريد أن يفعله من الأمور العلمية ومن الأمور العملية، واستعمال هذه الكلمة ينقسم إلى واجب مستحب ومتأكد فأما الواجب فهو إذا قرنها بتأكيد وعزم وتصميم او كان مع ذلك أو كان معها قسم في فعل شيء ما وهذا مأخوذ من قول الله جل وعلا ?وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ?[الكهف:23-24]، فقوله هنا جل وعلا (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ) فيها النهي كما هو ظاهر، والنهي متعلق بقوله (إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا) وهذه الجملة مأكدة بإن كما هو وعلوم وأعظم من ذلك إذا أقسم على الشيء كأن يقول القائل والله لأسألن كذا وكذا فهذا يجب عليه أن يقول في ذلك إن شاء الله، والحال الثانية أن تكون متأكدة الاستحباب وذلك في غير ما ذكرنا مما يجري في عادة الكلام فيما تستقبل من أمور سأفعل كذا، وسأقوم بكذا وسأقول كذا وسأذهب ونحو ذلك هنا يسحب بتأكد أن يقول المرء إن شاء الله؛ لأنه لا يدري هل يفي أو لا يفي وتعليقه بالمشيئة إخراج له من الحول والقوة والتذلل والتبرؤ من الحول ولقوة إلى حول الله جل وعلا وقوته.(17/444)
فإذن فيما يستعمل أهل العلم فيما يعدون به يأتون بهذه الكلمة إن شاء الله تعالى، والإمام رحمه الله استحضر فيما يظهر عدة أشياء حين قال (ولنختم الكلام) استحضر عدة أشياء، فخشي أن ينسى فأتى بإن شاء الله تعالى؛ لأنه بالاستقراء وجدنا كثيرا من المصنفين وعدوا في كتبهم بأنهم سيبسطون القول في مسألة في موضع آخر ولم يقولوا إن شاء الله ففاتهم في الموضع التذكر، وهذا موجود في كتب كثيرة، فيكثر في فتح الباري في مواضع عدة قال ستأتي في كتاب كذا وسيأتي بيانها في باب كذا ولم يقل إن شاء الله ففاته، مع طول مدة التأليف حيث أمضى في تأليفه أكثر من ثلاثين سنة كما هو معلوم، كذلك صاحب الروض المُرْبع في فقه الحنابلة في مواضع بل في موضع أو موضعين قال وستأتي في كذا ثم لم يأت بها.
المقصود أنّ طالب العلم حتى ولو كان بحثه قريبا فيما يكتب أو فيما سيتحدث به، فيقول إن شاء الله سنتكلم عليها إن شاء الله، حتى يوفَّق لأن كل شيء بمشيئة الله جل جلاله، قال هنا رحمه الله (ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة جدًا تُفهم مما تقدم) يعني أنها لم تتقدم بنصها ولكن بمفهومها فما تقدم يفهم منه هذا التقرير والمفهوم لا يتفطن له كل أحد؛ بل الناس يختلفون في التنبه لباطن الكلام ولجِماعه وإشارته ودلالاته اللازمة، ولهذا أورد هنا ما يفهم لكن التصريح والإيضاح لشدة أهمية ذلك، قال (ولكن نُفْرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها) لعظم شأنها لأنها تفرق بين المؤمن والمنافق -كما سيأتي إن شاء الله- ولكثرة الغلط فيها؛ لأن الذين زعموا أنهم من أهل التوحيد وأنهم أقروا به في زمن الشيخ رحمه الله غلطوا في ذلك وظنوا أن الإقرار بالتوحيد يكفي، هل أن يتركوا الشرك فقالوا نعم هذا الذي قال محمد بن عبد الوهاب حق وهذه دلالات النصوص صحيحة؛ ولكنهم لم يتركوا الشرك هملا ولم يتبرؤوا منه عملا مداراة لقولهم أو خوفا على مال أو جاه أو ما أشبه ذلك.(17/445)
ولهذا قال (ولكثرة الغلط فيها) يعني في زمانه وفي كل زمان يشبه زمانه (فنقول: لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا)، قوله (لا خلاف) يعني عند أهل السنة والجماعة لأن أهل السنة والجماعة عندهم الإيمان ثلاثة أشياء مسماه يقع على ثلاثة أشياء الاعتقاد الباطل والقول باللسان والعمل بالأركان، فالإيمان عندنا هو:
· اعتقاد بالجنان وهذه هي النون الأولى.
· والقول باللسان وهذه هي النون الثانية.
· والعمل بالأركان.
والإيمان أركانه ستة وأعظمها وأولها الإيمان بالله.
والإيمان بالله منقسم إلى ثلاثة أقسام:
· إيمان بتوحيد الله في ربوبيته.
· وإيمان بتوحيد الله في إليهته.
· وإيمان بتوحيد الله في أسمائه وصفاته.
فإن أقر بقلبه بتوحيد الربوبية والألوهية ونطق بلسانه بتوحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات؛ لكنه لم يعمل بتوحيد الألوهية فلا خلاف أنه فقد ركنا من أركان الإيمان، لم يعمل بالإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله فيه توحيد الله بالعبادة فإذا أشرك مع الله جل وعلا إلها آخر فإنه لا خلاف كما ذكر الإمام رحمه الله أنه لم يَصِر مسلما بإيمانه بكل الأركان إذا فقد العمل بتوحيد الإلهية، ولهذا قال فإن اختل شيء من هذا؛ يعني من هذه الثلاثة مجتمعة، أن يكون بالقلب والمقصود به قول القلب وهو اعتقاده.(17/446)
وقولنا قول القلب هذا مسماها بعض السلف سمّى الإخلاص والاعتقاد قول القلب، وهذه تسمية اصطلاحية وإلا فإن القول لا يُنسب للقلب لفظا، وإنما قيل قول القلب للتقسيم ما بين العمل والقول، فالقول قسيم العمل، ولما كان للقلب عمل بالاتفاق سموا ما ليس من عمل القلب قول القلب، لاكتمال التقسيم، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول في مواضع عن الإخلاص والاعتقاد يقول هو الذي يسميه بعضهم قول القلب، وهذا ظاهر المقصود أن قول الشيخ رحمه الله (لابد أن يكون بالقلب) يعني الإيمان يكون بالقلب الذي هو الإقرار بتوحيد الله جل وعلا والعلم بذلك وإخلاص الدين لله جل وعلا إخلاص الإقرار يعني أن لا يكون مقرا كحال المنافقين؛ بل أن يكون في اعتقاده مخلصا، أو كحال المستكبرين وما أشبه ذلك، واللسان يعني أن يشهد فيما دل عليه الإيمان، والشهادة عند السلف فيما فسروا به موالد الشهادة في القرآن كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولي العزم قائما بالقسط وكقوله إلا من شهد بالحق وهم يعلمون وأشباه ذلك، ففسروا الشهادة بأنها اعتقاد ونطق وإعلام وإخبار، فالشهادة ليست هي القول وحده وليست هي الاعتقاد وحده؛ بل لابد أن يعتقد وأن يقول وأن يُعلم غيره بذلك إلا إذا كان ثم ما يرخص به في كتمان الإيمان في مواضع، فالشهادة تضم هذا، ولهذا صار قول اللسان هذا جزء من الإيمان، هناك اعتقاد بالجنان وقول باللسان والعمل بالأركان يعني بما دل عليه.(17/447)
إذا تقرر هذا فمن المتقرر أيضا عند أهل السنة والجماعة بلا اختلاف بينهم أن الإيمان لا يصح من أحد إلا بقدر يصحح هذا الإيمان من الإسلام وكذلك من المتقرر عندهم باتفاق أن الإسلام لا يصح من أحد -يعني الأعمال العمل بالأركان الأربعة العملية وغير ذلك- إلا بقدر من الإيمان هو القدر المجزئ هذا القدر المجزئ من الإيمان الذي به يصح الإسلام هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على القدر المجزئ، وإيضاح ذلك له موضعه وأوضحنا مرارا يعني القدر([67]) المجزئ في الإيمان بالله، القدر المجزئ في الإيمان بالرسل، القدر المجزئ في الإيمان بالرسل إلى آخر ذلك، فلا يصح إسلام حتى يأتي بقدر مجزئ من الإيمان به يسمى مسلما فلا يتصور أن يكون ثم مسلم ليس معه إيمان البتة أو ثم مؤمن ليس معه إسلام البتة؛ بل لابد في الإسلام من إيمان يصحح ذلك الإسلام ولابد في الإسلام من إيمان يصحح \لك الإسلام ولابد في الإيمان من إسلام يصحح ذلك الإيمان يعني قدرا مجزئا.
إذا تقرر هذا بلا خلاف تنبهت لدقة المصنف رحمه الله إذ قال (فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا) ولم يقل مؤمنا، لم يقل مؤمنا لسببين:
الأول أنه لو نفى الإيمان قد يتوهم أنه يثبت الدرجة التي هي اقل منه وهي الإسلام، وهذا غير مراد فنفى الأقل حتى لا يتوهم المعنى الباطل.
السبب الثاني هي الإسلام لأنه أتى بعبادات ولكن لم يأتِ بالإيمان المصحح لها، فنفي عنه الإسلام لأنه وإن كان أتى بظاهر الإسلام لكن لم يأتِ بالتوحيد الذي دلت عليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ففيه الركن الأول من الإسلام، وكذلك لم يحقق الإيمان الذي هو بالقلب واللسان والعمل.(17/448)
إذا تبين لك ذلك ففصل بعد ذلك الإمام عليه رحمة الله تعالى بقوله (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما) وتقرير هذا أن الكفر عندنا -يعني عند أهل السنة والجماعة- الكفر يكون إخراجا مما ضده الذي هو الإيمان فالإيمان إذا كان فيه اعتقاد وقول وعمل، فضده الكفر يكون باعتقاد يضاد الاعتقاد، وبقول يضاد القول، وبعمل يضاد العمل، ولهذا مورد الكفر يكون بالاعتقاد، ويكون بالقول، ويكون بالعمل؛ لأن الكفر ضد الإيمان، ويتصور أن يكون المرء يعتقد اعتقادا حقا؛ لكن لا يعمل، فليس إذن داخلا في الإيمان، فهؤلاء هم المستكبرون والاستكبار أحد نوعي الكفر؛ لأن الذين كفروا على قسمين منهم من كفر بعد علم هؤلاء هم المستكبرون إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين وقال جل وعلا في فرعون ?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا?[النمل:14]، وقال جل وعلا أيضا عن فرعون في آخر سور الاسراء في قِيلِ موسى عليه السلام ?قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا?[الإسراء:102]، (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ) فعلمه حاصل بذلك فإذن حين كفر لم يكفر عن جهل وإنما عن إباء واستكبار وكذلك أبو جهل وكذلك صناديد قريش سمعوا القرآن وعلموا حجته لكن صدهم عن ذلك الإيباء والاستكبار ?وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ?[الزخرف:31].
والقسم الثاني مما يكون به الكفر الإعراض، والإعراض قد يكون إعراضا بعد علم، وقد يكون إعراضا عن العلم، قال جل وعلا ?بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ?[الأنبياء:24]، هذا في الإعراض الذي هو إعراض عن العلم، كذلك إعراض بعد علم كما في آيات أُخر.(17/449)
فإذن العلم بالاتفاق لا يكفي في صحة الدين، حتى يعمل بما دل عليه العلم، علم التوحيد فلم يعمل به هذا مستكبر، علم الحق الذي هو الإيمان بالأركان فلم يعمل بما دل على ذلك فهو مستكبر.
لم يعلم أصلا مع تمكنه من العلم؛ ولكن أعرض فهذا معرض، فإذا أعرض عن التوحيد مع التمكن فهذا معرض وهو غير عامل بالتوحيد وغير معتقد له، فلا يكون مؤمنا، لابد من اجتماع الإيمان بحدوده؛ يعني الإيمان الذي هو في القلب وهو الاعتقاد وقول اللسان وعمل الأركان.
قال (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند) وتعبيره هنا رحمه الله بقوله (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به) فيه إشارة إلى أن معرفة التوحيد لمن لم يعمل به أنسب من أن يقال (علم التوحيد)؛ لأن المعرفة في القرآن أكثر ما جاءت على سبيل الذم، كما في قوله جل وعلا ?يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]، ?يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ?([68]) ونحو ذلك من الآيات فمن رد الحق نقول عرفه ورده، وإن قلنا علمه ورده فلا بأس كما قال جل وعلا ?قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ?[الإسراء:102].(17/450)
قال رحمه الله (وهذا يغلط فيه كثير من الناس، يقولون إن حق، ونحن نفهم هذا، ونشهد أنه الحق؛ ولكن لا نقدر أن نفعله، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم) يعني أن هذا الأمر هو ما عليه كثير من الناس يقولون هذا حق ونحن نفهم هذا الشيء الذي هو دلالة التوحيد وأن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه، وأن صرف العبادة لغير الله بأنواعها من الدعاء والاستغاثة والاستعانة وأنواع الطلب والذبح والنذر والرجاء والخوف ورجاء العبادة وخوف السر ومحبة العبادة وأشباه ذلك، نعلم أنها حق لله جل وعلا؛ لكن لو لم نفعل ما يوافق أهل البلد ما تمكنا من الحياة، فلابد أن نوافقهم في الشرك، ففعلوا الشرك مع علمهم بالتوحيد، وهذا لا ينجيهم لأنهم علموا فلم يعملوا بالتوحيد، فمن علم بالتوحيد، علم حق اله جل وعلا في توحيده ولم يعمل به هذا كافر، مثل ما ذكر الإمام قال (فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند) يعني مستكبرا.
(ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم) يعني ما يمشي عند أهل البلد الذين نسكن فيهم ونسكن معهم ما يمشي فيهم إلا الذي يوافقهم، لو عاندناهم وخالفناهم لثارت علينا مصائب، (أو غير ذلك من الأعذار. ولم يدر المسكين) وحقا هو مسكين؛ بل هو أكثر المساكين في عقله وفي عدم معرفته بمصلحته وما يؤول إليه أمره، قال (ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق) الأكثر في الناس في أئمة الكفر المعرفة والعلم بالحق؛ لكن تركوه إيباء واستكبارا، لم يتركوه عن شبهة قائمة، لم يتركوه عن عدم علم به أو إعراض عنه، إنما هم تركوه بعد العلم به بعد المعرفة به، قال (ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق)، ولاحظ استعمال كلمة (يعرفون) مرة أخرى، قال (ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار) لهم عذرهم، الأعذار تختلف:
فهذا عذره أن يوافق أهل البلد.
وهذا عذره أن يعيش.
وهذا عذره أن يأكل هو وأولاده.
وهذا عذره كذا وهذا عذره كذا.(17/451)
وإذا كان الله جل وعلا لم يعذر طائفة من أهل الإسلام في مساكنة المشركين وعدم الهجرة مع أنهم لم يعملوا الشرك ولم يوافقوا أهل الشرك في الشرك، فأنزل الله جل وعلا فيهم قوله العظيم ?إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا?[النساء:97]، مع أن هؤلاء ليسوا مشركين؛ ولكنهم تركوا الهجرة مع القدرة على الهجرة وعدم القدرة على إظهار الدين، يقدرون على الهجرة لأن الله استثنى المستضعفين جل جلاله، ولم يقدروا أن يظهروا الدين وإنما تعبدوا بالتوحيد وسكتوا ولم يهاجروا، في أرضٍ لم يستطيعوا أن يظهروا فيها التوحيد، فتوعدهم الله جل وعلا بقوله (فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) فكيف بمن مكث في بلد لا يستطيع فيها أن يظهر الدين وأعظم من ذلك أنه يعمل بالشرك والكفر موافقة لأهل البلد من غيره والله جل وعلا قال في سورة النحل ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ?[النحل:106] الآية فاستثنى المكره، وأما هؤلاء الذين وصفهم الشيخ رحمهم الله فكل واحد يعتذر بعذر، فكذلك أئمة الكفر كل واحد له عذر هذا عذره جاهه وهذا عذره ماله، وهذا عذره أنه يشتري بآيات الله ثمننا قليلا يعني يبيع فيها ويشتري، وهذا عذره وهذا عذره والكل يجتمعون في أنهم علموا وعرفوا الحق ولكنهم سألوا وعلموا الشرك ولم يعملوا التوحيد، قال (كما قال تعالى ?اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً?[التوبة:9]، وغير ذلك من الآيات كقوله: ?يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ?([69])).(17/452)
ثم قال (فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهرًا وهو لا يفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق) لأن الإيمان كما ذكرنا بتوحيد الإلهية ثلاثة أقسام لابد منها مجتمعة اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان، فإن هو عمل بالتوحيد عملا ظاهرا موافق للناس؛ لكنه لا يعتقد ذلك بقلبه لا يعتقد أن هذا حق وأن ما عليه أهل الشرك هو الباطل، لا يعرف الطاغوت ولم يكفر به؛ يعني لم يتبرأ من عبادة غير الله جل وعلا، فهذا حاله كحال المنافقين؛ لأنه أحسن الظاهر وفي الباطن لم يقم شرط الباطن وهو العلم، المنافق في الباطن مخالف ففاته شرط الاعتقاد؛ لأنه اعتقد اعتقادا مخالفا، وهذا الذي عمل بالتوحيد عملا ظاهرا ولا يفهمه في الباطن ولا يعتقده، هذا فاته أن يكون في الباطن معتقدا للحق أصلا، لم يعتقد خلافه لكنه لم يعتقد الحق وإنما يفعله كما يفعله أهل بلده، فهذا منافق أيضا، قال (وهو شر من الكافر الخالص: ?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ?[النساء:145].) لأن حاله حال أهل النفاق عمل شيئا بلا قصد، عمل شيئا بحركة آلة دون اعتقاد، وهذا في هذه الأزمنة نادر؛ لأن الذي يعمل للتوحيد مع وجود الشرك وأهله فهو قاصد للعمل للتوحيد.(17/453)
قال (وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تتبيّن لك إذا تأملتها في ألسنة النّاس، ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دُنيا) يخاف أن تنقص دنياه، لا أن يصير فقيرا؛ بل حتى نقص الدنيا يوافق أهل الشرك على شركهم ويتعبد معهم بالشرك لأجل ألا تنقص دنياه، مثل ما حصل لأمير العيينة في وقت الشيخ لما قال له والي الأحساء أو أمير الأحساء أنك إذا وافقت الشيخ على ما هو عليه وأقمته عندك سوف أقطع عنك الخراج، قال للشيخ: أنا ما أقدر أن يقطع عني الخراج كيف يعيش أهل البلد. وأوصاه بقتله فأخرجه من البلد وبعث خلفه بأحد العبيد ليقتله، هذا لخوف نقص دنيا، يخاف أن تنقص دنياه أو جاه يخاف أن لا يكون معظما من كل الناس ينقسم عليه الناس، ناس يرضون وناس لا يرضون، هذا فيعمل بالشرك والكفر لكي يرضي طائفة من الناس، وهو يعلم الحق ولكن يريد بفعله الكفر والشرك أن يرضي طائفة، فهذا أيضا لم يعمل بالتوحيد وإنما علم وترك، أو مداراة لأحد؛ يعني مجاملة، جامل شيخه، جامل أمير بلده، جامل رئيس البلد إلى آخره، كما يحصل عند طوائف من الصوفية بعض مريديهم يدركون الحق لكن يجاملون مشايخهم فيما هم عليه من الضلالات الكفرية بالله.(17/454)
قال رحمه الله بعد ذلك (وترى من يعمل به ظاهرًا لا باطنًا) هذا قسم ثاني من الناس (ترى من يعمل به ظاهرا لا باطنا فإذا سألته عما يعتقده وبقلبه فإذا هو لا يعرفه) يعني وقع منه هذا الشيء اتفاقا يعم بالتوحيد ما أحب هذه الأشياء وما أحب هذه الخرافات؛ يعني ما أحب هذه الأشياء تعتقد التوحيد تعتقد بطلان الشرك؟ فيقول لا، ما أدري، هؤلاء عقولهم ناقصة سميا باللي يسميها، فهو يعمل بالتوحيد لكن لا يعتقد أن التوحيد هو الحق، وأن غيره باطل، لا يتبرأ من الكفر، لا يتبرأ من الطاغوت، لا يكفر بالطاغوت، وهذا فاته شرط لصحة التوحيد وهو الكفر بالطاغوت وهو اعتقاد أن عبادة غير الله جل وعلا باطلة، وأنها شرك؛ لابد أن يعتقد أن عبادة غير الله شرك، فإذا عمل بالتوحيد ظاهرا وهو لا يعتقد أن عبادة غيره شرك، فإن هذا كما ذكر الشيخ منافق، أو له أحكام المنافقين لأنه لم يعتقد بقلبه أن عمله هذا الذي هو التوحيد عمل واجب.
ثم قال رحمه الله (ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله تعالى) وهذا نتركه للمرة القادمة.
ونُذكّر أننا إن شاء الله تعالى نختم هذا الكتاب العظيم كشف الشبهات في الدرس القادم بإذنه تعالى وتوفيقه ومنّه، ثم بعده نبتدئ في شرح متن الطحاوية كما رغب ذلك عدد من الإخوة، وسيكون الشرح للمتن بطريقة ربما مخالفة لما عليه الشرح المعروف -شرح ابن أبي العز الحنفي- لأن الطحاوية فيها مسائل ليست في كتاب العقيدة الأخرى التي شرحناها، فنحتاج فيها إلى بسط الكلام تأصيلا وترتيب المسائل بما ينفع المبتدئ والمتوسط والذي سار معنا من زمان.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهدى والسداد وصلى الله وسلم وبارك وعلى نبينا محمد
[الأسئلة] أجيب عن بعض الأسئلة.
س1/ ما رأي فضيلتكم في رجل يداهن قومه الذين هم على مذهب مخالف لمذهب أهل السنة قد يحتج بحجة تأليف قلوبهم للدعوة أرجو النصيحة وما هي الحلول؟(17/455)
ج/ أولا كلمة رجل يداهن قومه، ينبغي أن نفهم معنى المداهنة؛ لأن هناك مداراة هذه مشروعة، وهناك مداهنة والمداهنة لا تجوز؛ لأن الله جل وعلا قال لنا ?وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ?[القلم:9]، فمداهنة أهل الكفر والبدع والمعاصي محرمة.
والمداهنة معناها أن توافقهم على ما هم عليه من الباطل، تقر بالموافقة، أو أن تَدخل معهم في عملهم، فإذا كانت على هذا الوصف فهي مداهنة محرمة؛ لأن الموافقة هذه باطلة، والعمل أيضا باطل، ولا يكون هذا وهذا من مؤمن يعني العمل بالكفر، ولا أن يقول الكفر حق يوافقهم على الكفر، كما جاءوا للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقالوا له: تعبد إلهنا سنة ونعبد إلهك سنة. نوحّد فترة ونشرك فترة. هذا المداهنة.
أقر بالبدع، احضر معنا الموالد احضر معنا الذبح عند القبور، ونحن ندخل معك في برامجك الإصلاحية، وفي برامجك السياسية الإصلاحية السلفية أو غيرها إلى آخره، فهذه المداهنة محرمة وقد تكون كفرا شركا إذا فعل شركا، أو أقر بكفر وشرك ووافق عليه، وقد تكون معصية محرمة بحسب ذلك.(17/456)
المسألة الثانية أو اللفظ الثاني المداراة، المداراة مأخوذة من لفظها دارى يداري مداراة؛ يعني لم ينكر لأجل مصلحة تتحقق له لكن لم يوافق ولم يعمل فعندنا إذن ثلاثة أشياء عدم الإنكار فقط؛ يعني لم ينكر فقط، ولكن في قلبه بطلان ما هم عليه، والبراءة مما هم عليه وهم، وهذا لا بأس به إذا كان في مقدور مصلحة شرعية، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره ربه جل وعلا بأن لا يسب هو والمؤمنون الآلهة التي تعبد من دون الله فقال جل وعلا ?وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ?[الأنعام:108]، وقال جل وعلا في آية آل عمران ?لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً?[آل عمران:28]، وهي المداراة، والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ دخل عليه رجل فبش في وجهه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأكرمه، ثم لما دخل إلى عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قال «بئس أخو العشيرة» فقالت: يا رسول الله رأيتك معه كيت وكيت. قال «يا عائشة إن شر لرجال أو شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره أو اتقاء سخطه» أو نحو ذلك، أو اتقاء لسانه.
فإذن هذه مداراة المداراة أن تسكت عن شيء لأجل ما هو أصلح لك منه، وهذا يدخل ضمن القواعد الشرعية أن القاعدة الشرعية المعروفة أنه تفوت أدنى المصلحتين لتحقيق المصلحة العليا وتعمل أدنى المفسدتين لدرأ المفسدة الكبرى وهذا شيء معلوم باتفاق أهل الشريعة .
فإنه إن داراهم بمعنى لم ينكر عليهم في البداية مثل ما فعل الإمام المصلح محمد عبد الوهاب يأتي إلى قبة زيد بن الخطاب ما يقول لهم هذا شرك بل يقول الله خير من زيد هذه مداراة حتى يصل معهم إلى ما هو الحق.
وهذا لاشك أنه من الحكمة ومن النظر الصائب.(17/457)
س2/ ما حكم ذبح الذبائح عند نزول المنزل الجديد؟
ج/ هذا معروف هذه إن كانت لإكرام الناس وجمعهم بمناسبة سكنى البيت لا بأس، وهذه المعروفة عندنا هنا وفي غيرها وهي للإكرام ولجمع الناس بمناسبة دخول مناسبة سكنى المنزل وشكرا لله جل وعلا على ما جدد من نعمة، وهذا أمر حسن ومرغب فيه.
والشرك يكون أنه إذا نزل المنزل ذبح الذبائح عند أعتاب الأبواب يعني يأتي بكبش يأتي بخروف ويذبحه يسيل دمه عند عتبة الباب هذا اعتقاد شركي لأنه ذبح لاتقاء العين، ذبح لاتقاء الجن لاتقاء الضر فيكون ذبحا.... ([70])
س3/ أحد الإخوة مصاب بمرض وذهب إلى طبيب وعمل له عملية بدون آلات الطب بل إنه بأحد أصابعه يفتح اللحم والجلد ويخرج منه وأوضحت له أن هذا قد يكون ساحرا إذا كان هذا عمله أرجو بسيط الكلام منكم على الموضوع.
ج/ هذا ينبني على تصور كيف عمل هذا الشيء يعني صورة هذه المسألة ووش الذي حصل بالضبط؟ ما أدري، إذا كان يفتح الجلد بدون سبب الفتح المعتاد المعروف ند الناس فهذا لاشك أن يكون ساحرا أو كاهنا؛ لأن الفتح فتح الجلد وشق الجلد لإخراج ما هو داخل البدن هذا لا يكون إلا بالأسباب المعروفة بالمشرط والسكين إلى آخره وأن يكون يفتح بلا سبب ظاهر هذا الأصل فيه أن يكون عنده إما سحر أو كهانة لكن لا نحكم قولا واحدا حتى نتصور المسألة وما هو عليه.
لكن النهي عن مثل هذا هو الأولى والحمد لله في الأسباب الشرعية ما يغني عن ذلك.
س4/ ذكرت في أول الدرس أن هذه الشبهة راجعة إلى العمل والشبهة السابقة راجعة إلى العلم؟(17/458)
ج/ لأن الشبه التي ذكرت من أول الكتاب إلى آخره هي في التوحيد هل هذا هو التوسل هل هذه هي العبادة هذا ليس داخل في العبادة، هاذول ما عبدوا إلا الله هم طلبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو له جاه عند الله ومنزلة كلها راجعة في العلم بالتوحيد، الذي أتى في هذا المقام أنه يعلم ولكن لم يعمل، علم ولم يعمل، لم يعمل إما استكبارا لم يعمل مدارة بقومه ويقول أنا خائف من كذا وكذا أو لم يعمل مع عدم الاعتقاد، هذه التي ذكرها الشيخ الآن ولذلك ذكر أن الأول راجع إلى العلم يعني في الاعتقاد نفسه شبهة أصلا الشبهة راجعة إلى العلم بالتوحيد، وهذا الذين ذكرناهم الآن هؤلاء من جهة العمل إذا استثنينا الذي لم يعتقد شيء هذا ما عنده شبهة، فلا يقال ما عنده شبهة راجعة إلى العلم هو لم يعتقد شيئا حتى يكون عنده شبهة في العلم.
س5/ يقول هناك طبعة فيها عنواوين مضافة عنونوا للفصل الأخير بقولهم وجوب التوحيد بالقلب واللسان والجوارح إلا لعذر شرعي؟
ج/ عذر شرعي ما ذكرها الشيخ رحمه الله يذكرها بعد ذلك في الإكراه، العذر الشرعي للإكراه بس.
س6/ هل يكفر المسلم بالأعمال، أم لابد أن يكون مع العمل اعتقاد، مثل أن يعمل عملا كفريا لكن من غير أن يعتقد ذلك؟
ج/ هذه المسألة أوضحناها مرارا وذكرت لكم أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، لهذا العلماء يقولون في باب حكم المرتد، المرتد: وهو المسلم الذي كفر بعد إيمانه بقول أو فعل أو اعتقاد أو شك. بهذه الأربعة عند أهل العلم يكون الكفر، القول والعمل والاعتقاد؛ لأنها كما ذكرت لك مقابلة لأمور الإيمان، الإيمان قول وعمل واعتقاد، إذا كان يدخل في الإيمان بقول فإنه يخرج من الإيمان بقول، يدخل في الإيمان باعتقاد معناه يخرج منه باعتقاد، يدخل في الإيمان بعمل يعني مع القول والاعتقاد، كذلك يخرج منه بعمل مع بقاء القول والاعتقاد، هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة.(17/459)
الذين يقولون الإيمان اعتقاد وقول فقط، وهم مرجئة الفقهاء هؤلاء يقولون لا يخرج إلا بالاعتقاد؛ لأن العمل أصلا عندهم ليس داخل في مسمى الإيمان، فلا يخرجونه من ذلك، هذا من حيث التنظير تنظير المذهب؛ لكن من حيث الواقع فإن أشد المذاهب في التكفير بالعمليات الحنفية الذين هم مرجئة الفقهاء، فهم أشد الناس في التكفير، حتى إنهم نصوا في كتبهم و قال هذا مصيحف ارتد، ولو قال هذ مسيجد ارتد، يعني حتى في تصغير ما أوجب الله جل وعلا تعظيمه.
فالمسألة نقول أن الكفر يكون بالقول والعمل والاعتقاد هذا بالاتفاق بين أتباع الأئمة الأربعة، حتى المرجئة عندهم يخرج بذلك، وهذا ما حدا طائفة من أهل العلم أن يقولوا الخلاف مع المرجئة خلاف لفظي أو يؤول إلى أن يكون الخلاف لفظيا؛ لأنهم يجعلون العمل شرط صحة ويجعلونه يكفر إذا لم يعمل أو عمل عملا مخالفا.
هذه المسألة تكلمنا عنها مرارا لأنه ثم بعض الكتب التي شككت في هذه المسألة.
س7/ هل هناك فرق بين قول القلب والتكلم الذي عليه المعتزلة نرجو البيان؟
ج/ لا، الكلام الذي عليه –قصده- الأشاعرة الكلام النفسي الذي هو في الداخل، قول القلب ذكرنا أنه الإخلاص والاعتقاد فقط، هذا تسمية، سماها بعض السلف القرن الثاني والثالث سموها قول القلب تقسيما كما ذكرت لأن عمل القول معروف قالوا الأشياء التي لا تدخل في عمل القلب أنها قول القلب، لكن الكلام الذي هو الكلام النفسي هو كل ما يجري في النفس من حديث ولم ينطق به هذا يسمونه كلام نفسي، ليس هو الإخلاص والاعتقاد كل ما يجري في النفس، إذا دوت في نفسك كلاما فيقولون هذا يسمى كلاما نفسيا قبل خروجه، فهو كلام قبل أن يخرج.
س8/ هل يجوز الجمع أكثر من نية في العمل الواحد كأن يصوم يوم الخميس الموافق للرابع عشر من الشهر بنية صيام أيام البيض صيام يوم الخميس؟(17/460)
ج/ أما من حيث التأصيل من حيث القواعد الفقهية المعروفة الجمع بين عدة أعمال في نية واحدة يجوز في مواضع ولا يجوز في مواضع، كما هو معلوم في القواعد.
هذه الصورة التي ذكر وهي أن يصوم الست وينوي معها مثلا القضاء فإن هذا لا يجزئ؛ لأن القضاء فرض مستقل والست نفل مستقل، والست تكملة، وإذا صام ثلاثين يوما في الشهر فهذه عشرة أشهر أن الحسنة بعشر أمثالها والست شهران فإذا صام القضاء وفي داخله الست ما حصل ذلك، ولهذا القضاء مقدم ما تقرب عبدي إلي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه أولا ينتهي، يقضي لأن القضاء أحق، وأما أنه يصوم الست ويوافق ثلاثة أيام البيض، فهذا أمر طيب من أنه صيام الثلاثة البيض لا تقصد لذاتها المقصود منها صيام ثلاثة أيام في الشهر، فإذا صام ثلاثة أيام الست والبيض لكن لا يجمع النيتين وافقت البيض فيكون قد صام أيام البيض، وإن أحب أن يزداد بستة أيام بثلاث من كل شهر فهذا أفضل.
...النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال» صام رمضان، الذي صام رمضان، الذي صام رمضان إلا ستة أيام ما يسمى صام رمضان، هو صام بعض رمضان، فلا يسمى صائما لرمضان حتى يكمله ثلاثين يوما الأداء والقضاء «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال» فإذا صام رمضان في الشهر ثم قضى ما ما قد أفطر فيه لعذر فهذا يكون قد صام رمضان فيتبعه بست من شوال، وكذلك في صيام القضاء ليوم عرفة فإنه يقع قضاء.
س9/ هل يدخل في تكفير السنة الماضية في هذا الموطن ؟
ج/ الظاهر لا لكنه إذا صامه في العشر يعني في الثمان الأول عشر ذو الحجة فلا بأس هذا يدخل في الفضل فضل ذو الحجة لأنها فضلها خاص ليس متقيدا بعام.
س10/ كتاب ابن الجوزي زاد المسير ولما لا يؤخذ تفسير ابن عباس رضي الله عنه لا سيما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دعا له بالعلم والتأويل ودعاؤه مجاب؟(17/461)
ج/ دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بالعلم والتأويل حصل في مواضع «اللهم فقهه في الدين» في موضع «اللهم علمه الحكمة» في موضع «اللهم عمله التأويل» في موضع «اللهم فقهه في الدين وعلمه الكتاب» ونحو ذلك فهذا دعاء لابن عباس رضي الله عنهما وابن عباس تفاسيره معتمدة وإذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به كما سفيان وغيره لأنه أخذ التفسير عن ابن عباس.
لكن قد يكون تفسير ابن عباس مخالف لتفسير غيره من الصحابة فتكون الحجة هنا الترجيح بحسب الدليل.
س11/ ألم يقتل الخوارج علي بن أبي طالب، ألم يستحل الخوارج دماء الصحابة فيكفرون بذلك؟
ج/ الجواب أن كفر الخوارج في قولان لأهل العلم:
من أهل العلم من قال يكفرون لقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» السهم مشبه بالخوارج فالفعل ذاك خرجوا من الدين.
والقول الثاني أنهم لا يكفرون كما قال علي رضي الله عنه وهو الذي قاتلهم وهو الذي حصل معه بينه وبينهم الحجاج والمجادلة لما سئل عنهم أكفار هم ؟ قال: من الكفر فروا. يعني أنهم تأولوا في ذلك وهم كلاب أهل النار، وشر القتلى تحت أديم السماء؛ لكن التكفير ما نطلقه عليهم.
طبعا المقصود الخوارج الذين قاتلوا عليا، أما الخوارج الذين فشوا بعد ذلك، هؤلاء عندهم اعتقادات قد يكفرون ببعضها.
س12/ ما الحكم إذا قال رجل: أنا مؤمن إن شاء الله وعلق إيمانه بالمشيئة؟
ج/ لا بأس أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله باعتبار أنه لا يدري ماذا يختم له .
س13/ الشخص الذي يجاهد القبوريين ويبين لهم التوحيد ولكنهم يستهزؤون به ولا يسمعون كلامه هل يتركهم في شركهم أم يستمر معهم دون أن يهجرهم أم ماذا يفعل؟(17/462)
ج/ يفعل مثل ما فعل نوح عليه السلام في قومه فلبث فيم ألف سنة إلا خمسين عاما، قال جل وعلا عن نوح في سورة نوح وهي سورة عظيمة في بيان هذا الأمر قال ?ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا?[نوح:8-10]، إلى آخره فدعاهم ليلا ونهارا وسرا وجهارا ولم ييأس حتى يأتي أمر الله.
خلاص يأمرهم وينهاهم حتى يأتي أمر الله.
س14/ ما حكم من علق القسم بالمشيئة هل عليه كفارة يمين، إذا حلف بالقسم؟
ج/لا، اليمين إذا تبعها بـ (إن شاء الله) فليس عليه كفارة إذا حلف، كذلك النذر إذا قال والله لأفعلن كذا إن شاء الله، فليس عليه كفارة.
وهنا مسألة مهمة ننبه عليها، وقلّ من ينبه عليها أو ينتبه لها، وهي أن الاستثناء في اليمين هذا يُقبل ولو كان بعد مدة، الاستثناء في اليمين يقبل ولو كان بعد مدة إذا كان لم يفعل، ثبت عن ابن عباس أو غيره أنه قال: وله استثناؤه ولو بعد سنة. وذلك عند قوله تعالى ? وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّه?[الكهف:23-24]، فإذا استتثنى فله استثناؤه يعني له استثناؤه لو امتد به القسم فيسلم من الإثم في ذلك.
نكتفي بهذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وفقكم الله وبارك فيكم
?????
[المتن]
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله أولاهما ما تقدم من قوله: ?لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?[التوبة:66]، فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراةً لأحد، أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها.(17/463)
والآية الثانية قوله تعالى: ([71]) ?مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ?[النحل:106-107]، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان. وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفًا أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض؛ إلا المكره.
والآية تدل على هذا من جهتين
الأولى قوله: ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ?، فلم يستثن الله تعالى إلا المكره ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليها.
والثانية قوله تعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ?، فصرّح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين.
والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم أسألك علما نافعا، وعملا صالحا، وقلبا خاشعا، ودعاء مسموعا.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
فهذا ختام هذه الرسالة العظيمة رسالة كشف الشبهات التي كشف فيها الشيخ رحمه الله تعالى ما شبه به أعداء التوحيد وأعداء الإسلام وصدوا به عن دعوة الحق التي هي دعوة إخلاص الدين لله جل وعلا.(17/464)
قد ذكر في آخر ما عرضنا له في الدرس الماضي انه يختم كشف الشبهات بذكر مسألة مهمة خطيرة وهذا المقطع تعليل لما تقدم من ذِكر تلك المسألة التي بيناها وأوضحنا ما يتصل بها من المقامات والضوابط.
قال رحمه الله ورفع درجته (ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله أولاهما قوله تعالى: ?لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ?) قال (فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد، أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها) وهذه الآية من سورة التوبة هي قوله جل وعلا ?وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ?[التوبة:65-66]، هذه الآية فيها أن كفرَهم كان بسبب الاستهزاء بالله وبآياته وبرسوله، وقول الإمام رحمه الله هنا (فإذا تحققت أن بعض) هذه راجعة إلى الظاهر من حال أولئك فإن أولئك الذين تكلموا بتلك الكلمة ظاهرهم محكوم بإسلامهم وحالهم أنهم يعدون مع الصحابة وإلا فإنهم منافقون ظهر نفاقهم بذلك الاستهزاء، وهذه مسألة حصل فيها خلاف بين أهل العلم، فمن قائل إنهم ليسوا منافقين، وقال الجمهور من المفسرين وأهل العلم إنهم منافقون، والصواب من القولين في ذلك أن أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم بالاستهزاء أنهم منافقون، وهم في الأصل منافقون ودلّ هذا على نفاقهم، والاستهزاء كفر لأنه يدل على عدم تعظيم الله جل وعلا وعدم توقيره والاستهانة بالله وبآياته وبرسوله؛ لأن المعظم المبجل لا يستهزئ بمن عظمه وبجله، بل يكون له في قلبه المقام الأعظم(17/465)
حيث لا يستهزئ به ولا يستنقصه ولا يسبه إلى آخر ذلك، ودلّ على أن المراد بهم المنافقون أوجه:
الأول أن الآية يفهم معناها بدلالة السياق والسباق وهذه الآية أولها ?وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ? الضمير لابد أن يرجع إلى مذكور معلوم، والآية التي قبل هذه الآية هي قوله جل وعلا ?بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ? يعني أيها المنافقون ?إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ?[التوبة:64-65]، فدل إرجاع الضمير على الآية قبلها أن المراد بذلك المنافقون.
ودل عليه أيضا الآية التي بعدها وهي التي تسمى السياق أو اللحاق فقبلها سباقها وبعدها سياقها أو لحاقها وهي قوله جل وعلا (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ) إذ قال جل وعلا ?لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ?[التوبة:66-67]، فهذه الآية أيضا تدل على أن هذا الذي استهزأ أو تلك الطائفة التي استهزأت هم المنافقون لأن السياق والسباق يدل على ذلك.
وأيضا يدل عليه أن السورة وهو الوجه الثالث أن السورة سورة براءة تسمى الفاضحة، وهي التي فضحت المنافقين، وبعد ذكر المنافقين في أثناء السورة استمر ذكرهم واستمر فضحهم وبيان ما هم عليه إلى آخر السورة.(17/466)
الوجه الرابع أن الله جل وعلا قال بعد آيات ?يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ?[التوبة:74]، فقوله جل وعلا في هذه الآية (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ) المقصود بهم هؤلاء الذين استهزءوا فإنهم حلفوا أنهم ما قالوا، قال جل وعلا (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ) فدل على أن المستهزئ بالكلام قال كلمة الكفر قال سبحانه (وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ) ودلت هذه لآية على أن المراد بالإيمان في قوله تعالى (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) هو الإسلام لأنه قال وكفروا بعد إسلامهم والمنافقون محكوم بإسلامهم ظاهرا.
وهذا يجاب به عن قول من قال أنهم ليسوا بمنافقين لأن هؤلاء احتجوا بأن المنافقين لم يحكم بإيمانهم وإنما حكم بإسلامهم فالمنافق يقال له مسلم باعتبار الظاهر ولا يقال إنه مؤمن لأن الإيمان باطن فقوله جل وعلا هنا (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) دل على أنهم ليسوا بمنافقين.(17/467)
وهذا الاحتجاج منهم والإيراد له وجهه لكن ليس قويا بقوة ما ذكرنا من أوجه، وجوابه أن الإيمان -كما هو معلوم- اعتقاد وقول وعمل، والاعتقاد هو الإيمان الباطن والقول والعمل هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام فإذا قيل في المنافق إنه كفر بعد إيمانه يعني بعد إيمانه الظاهر الذي هو الإسلام لأن الإسلام لا يصح إلا بإيمان تصححه وإيمان لا يصح إلا بإسلام يصححه، والإيمان منقسم إيمان باطن وهو الاعتقاد، وإلى إيمان ظاهر وهو القول والعمل، فأولئك معهم قول وعمل فقيل لهم هنا بعد قوله (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) باعتبار الظاهر، وهذا الظاهر هو الإسلام كما قال جل وعلا في الآية الأخرى (وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ)، فالإيمان في هذه الآية هو الإسلام في الآية الأخرى، ويقوي هذا ما تعلمه من قواعد أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى أن الإيمان إذا أفرد عن الإسلام والإسلام إذا أفرد عن الإسلام فإنه يدل أحدهما على الآخر، فقوله (قد كفرتم بعد إسلامكم) يعني ما يناسب المخاطب بذلك وهو الإسلام لأن الإيمان إذا أفرد دل على الإسلام وهذا بحسب حال المخاطبين.(17/468)
إذا تقرر لك ذلك فهؤلاء الذين كفروا بعد إسلامهم كفروا بكلمة قالوها على وجه المزح واللعب، على وجه المِزاح –أو المُزاح- واللعب، وهذا الكفر منهم هي الاستهزاء، كلمة الكفر هي الاستهزاء، والاستهزاء مكفر إذا كان استهزاء بالله جل جلاله أو بآيات القرآن أو بالرسول محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بمجموع ذلك وهو الدين الذي بعث الله به محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا استهزأ أحد بالله جل وعلا كفر، وإذا استهزأ أحد بالقرآن كفر، وإذا استهزأ أحد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني بشخصه بذاته كفر، وإذا استهزأ بالدين الذي نزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيقين المستهزئ أنه نزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يكفر أيضا.(17/469)
فإذن رجع الاستهزاء المكفِّر إلى أحد الثلاثة وهي التي جاءت في الآية (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ) هذا واحد (وَآيَاتِهِ) اثنين (وَرَسُولِهِ) ثلاثة (كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) قال هنا الإمام رحمه الله تعالى (فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب، تبيّن لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفًا من نقص مال أو جاه أو مداراةً لأحد، أعظم ممن تكلم بكلمة يمزح بها) وذلك لأن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به قصد ذلك؛ ولكنه خاف، ولكن القصد موجود قصد الكفر وقصد العمل بالكفر موجود عنده، ولهذا لم يُعذر بالخوف أو بالمداراة نقص المال أو الجاه أو المداراة لأنه قصد الكفر وقصد العمل الكفري دون إكراه، والمستهزئ قد يقال إنه ما قصد الكفر، ولو قيل له أقلت هذا كفرا لقال لا إنما قلت هذا مزحا على سبيل المزاح وعلى سبيل اللعب وعلى سبيل الخوض (كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) ما قالوا قصدنا ذلك ولهذا كلام الإمام رحمه تعالى متين إذ قال (تبين لك أن الذي تكلم بالكفر) يعني قاصدا الكفر (أو يعمل به) عالما بأنه شرك عالما بذلك قاصدا له لاشك أنه أعظم كفرا ممن يتكلم بكلمة يمزح بها لأن ذاك فاته التعظيم فدخل في الكفر من جهة الاستهانة، وهذا قصده أصلا ومعلوم [...] لم يقصد الشيء من كل جهاته.(17/470)
ثم قال رحمه الله (والآية الثانية قوله تعالى ?مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ?[النحل:106-107]) هذه الآية في حال الذي يكفر بدون عذر، والعذر الذي لا يؤاخذ به من صدر منه الكفر قولا أو عملا شيء واحد وهو الإكراه.
والإكراه معناه ما لا يتحمله من العذاب، أكره على هذا القول بما لا يتحمله من العذاب، أو ما هو أعلى من ذلك وهو القتل، فإذا كان لا يتحمل أن يعذب، لا يتحمل أن يضرب ضربا شديدا، لا يتحمل أن يسجن سجنا طويلا، لا يتحمل في ذلك ويخشى على دينه، ويخشى أن يوافق ويخشى أن يحصل له فتنة أو يخشى أن يتلف بدنه، فإنه معذور مع أن الكمال أن يصبر، لكنه معذور بشرط اطمئنان القلب بالإيمان، فتكون الموافقة ظاهرا للضرورة ولكن القلب مطمئن بالإيمان.(17/471)
وذلك أن الإيمان كما هو معلوم ثلاثة أركان اعتقاد وقول وعمل، والاعتقاد هو الأصل الذي ينشأ عنه القول الإيماني وينشأ عنه العمل الإيماني، فلم يُعذر بالأصل في الموافقة أحد البتة، حتى لو أكره فإن الإكراه ولو وصل إلى القتل لا يصل إلى تغيير عقيدة القلب والله جل وعلا قال سبحانه ?الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ?[العنكبوت:1-3] الصدق هو استقرار العقيدة في القلب وأن يصبر المرء على ما جاءه من ابتلاء، فإذا عرض له الإكراه بما لا يتحمله ويؤدي ببدنه إلى التلف ويخشى على دينه فإن له أن يوافق أولئك ظاهرا لا باطنا؛ لأن الظاهر في الشريعة فيه يُسر في الأحكام بخلاف الباطن، الباطن هو أشد شيء.
فإذن هذه الآية دلت كما قال الشيخ رحمه الله هنا في قوله (فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئنًا بالإيمان) فإذن له إذا أُكره بشرطه أن يقول كلمة يوافقهم بها أو أن يعمل عملا يوافقهم به؛ ولكن يكون ذلك مع اطمئنان القلب بالإيمان، والقلب قول كلمة الكفر موافقة لأجل الإكراه هذا محل اتفاق بين أهل العلم.
أما العمل فاختلفوا فيه:(17/472)
فمنهم من قال لا يعذر بالعمل أن يعمل عملا كفريا؛ لكن الإكراه له فيه القول، مثل ما حصل في قصة عمار في قصة آل ياسر المعروفة ولها نزلت هذه الآية وقول النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ له«إن عادوا فعد» وهذا قول لطائفة من أهل العلم إن هذا مختص بالقول وأن العمل ليس فيه إكراه بل إذا وصل الإكراه للعمل فإنه لا يجوز أن يوافق أولئك على عمل كفري ويستدلون أيضا بحديث الذباب المعروف، حديث طارق بن شهاب الذي تعلمونه في كتاب التوحيد، كان هناك صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب فمر به رجلان فقال قربا، فقرب أحدهما فدخل النار، والآخر قال: أما أنا فما كانت مقربا شيئا لغير الله جل وعلا، فقتلوه فدخل الجنة قالوا هذا يدل على أن الإكراه يعني يعلمون من الحال أنهم سيقتلون أما الإكراه لم يعذر به بالفعل.
والقول الثاني أن الإكراه يقع في القول والعمل وهذا هو الصحيح لأن العمل والقول شيء واحد من جهة التكفير الله جل وعلا قال في الأقوال ?وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ?[التوبة:74]، وإذا كان ذلك في القول وعذر به بالاتفاق فالعذر بالعمل ظاهر وبالنسبة لحديث الذباب وغيره هناك أجوبة عليه مذكرو في وضعها من شرح كتاب التوحيد.
قال رحمه الله ورفع درجته (وأما غير هذا) يعني غير المكره (فقد كفر بعد إيمانه) يعني المكره، غير المكره إذا وافق الكفار على الكلام الكفري فقاله ووافق الكفار على العمل الكفري فعمله هذا كافر فلا يعذر في ذلك إلا إذا كان مكرها قال (وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه) يعني غير المكره كفر بقوله وعمله سواء فعله خوفا أو مداراة و مشحة لوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض.(17/473)
يعني أن ما ذكره الإمام رحمه الله فيما تقدم فيما ذكرناه في الدرس الماضي من أن أناس عرفوا التوحيد ولكنهم يعملون بالشرك مداراة أو خوفا على أعمالهم أو خوفا على أهلهم أو خوفا على نقصهم خوف متوهم ولم يتركوا الشرك بالله جل وعلا هذا لا يعذرون فيه إلا في حال الإكراه أو إذا كان مستضعفا فإن له أن يبقى بين ظهراني المشركين لكن لا يقول كلمة الكفر ولا يعمل عملا كفريا فيرخص له عدم الهجرة لأجل أنه من المستضعفين كما قال جل وعلا بعد آية الهجرة ?الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ?[النساء:97]، قال بعدها ?إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء?الآية ?لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً?[النساء:98].(17/474)
المقصود من هذا أن كلام الشيخ ظاهر وهذه مسألة عظيمة جدا وهي أن التكلم بالكفر خشية نقص المال أو خشية ذهاب المال لا يعذر به صاحبه عمل الكفر خشية شيء هذا لا يعذر به صاحبه بل لابد أن يجدد دينه وإسلامه ولكن إذا كان فعله عن قصد ثم فالواجب على كل موحد أن يتبرأ من الشرك وأهله، أن يبغض الشرك وأن يعادي الشرك، وأن يبغض أهل الشرك وأن يعادي أهل الشرك، وهذه حقيقة الإيمان، وهذا معنى كلمة التوحيد كما قال جل وعلا ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28]، وفي آية سورة الممتحنة قال جل وعلا مخبرا عن قول إبراهيم ?إِنَّا بُرَءَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ?[الممتحنة:4]، لهذا قال أئمتنا البراءة من الشرك وأهله وهذه سنة إبراهيم ? قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ? يعني من المرسلين ?إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ?[الممتحنة:4]، هذه الكلمة أجمع عليها لمرسلون (إِنَّا بُرَءَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ) نتبرأ من العبادة ومن الشرك ومن أهل الشرك ببغضهم وبمعاداتهم يعني المعاداة القلبية أما الظاهر فله أحكام معروفة مختلفة.
قال الإمام رحمه الله بعد ذلك (فالآية تدل على هذا) يعني هذا الذي كره (من جهتين: الأولى قوله ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ? فلم يستثن الله تعالى إلا المكره) وهذا ظاهر لأن مقام الاستثناء مقام حصر وإن لم يذكر في هذا المقام غير المكره دل على أنه لا يعذر إلا المكره.(17/475)
وأيضا الاستثناء معيار العموم فقوله ?مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ?[النحل:106]، هذا عام واستثني منه يعني خرج من العموم المكره الذي حصل منه الكفر ظاهرا لكن لا يحكم بكفره لأنه مكره قال (الأولى قوله: ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ? فلم يستثن الله تعالى إلا المكره. ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام) يعني القول (أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكره أحد عليه) القلب لا يمكن أن يكره أحد أحدا على تغيير القلب حتى يختار هو لأن القلب لا أحد يطلع عليه إلا الله جل وعلا، فعقيدة القلب الموافقة فيها كفر بالاتفاق حتى ولو قال أكرهت فهو كافذب؛ لأن العقيدة الباطنة لا يمكن لأحد أن يصل إليها، يكذب في الظاهر يقول إذا قيل له أنت في الباطن في قلبك مقتنع بالشرك تقول هذه مع اعتقاد الباطن فيكذب ظاهرا يقول نعم هذا نوع من الإجابة بالإكراه؛ لكن لا يقول ذلك عن صدق بأن يغير قلبه؛ لأنه إن تغير القلب ووافق أو تردد أو شك فإنه كافر كما ذكر الإمام في مسائل كتاب التوحيد.
ثم قال (والثانية قوله تعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ?[النحل:107] فصرّح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد) يعني أن العذاب العظيم الذي جاءهم وهو قوله جل وعلا ?فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ?[النحل:106]، عليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ما سبب الغضب الذي جاءهم وحل عليهم ما سبب العذاب العظيم؟ لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البُغض للدين أو محبة الكفر؛ لأن هذه الأشياء لم يعلل بها في الآية إنما قال الله جل وعلا (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ)، وقوله (ذَلِكَ) للمفسرين فيه وجهان في الرجوع الرجوع اسم اشارة يعني (ذَلِكَ) إشارة لأي شيء؟(17/476)
قال طائفة: الإشارة هنا للكفر، كفروا بعد إيمانهم ولم يكونوا مكرهين، ما سبب ذلك؟ قال الله (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ) والباء هنا للسببية، ذلك بسبب كونهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة؛ يعني أنهم آثروا الدنيا على الآخرة فوافقوا الكفار من دون إكراه، فقالوا قول الكفر أو عملوا عمل الشرك والكفر من دون إكراه، فتكون (ذَلِكَ) الرجوع إلى قوله (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ).
والوجه الثاني: أنه راجع للعذاب العظيم قال (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ) العذاب بسبب أنهم (اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ).
وهاذان قولان معروفان عند المفسرين والأوجه منهما وارجح هو الأول؛ لأن (ذَلِكَ) ضمير إشارة فهو اسم إشارة فيه اللام التي هي للبعد والعذاب العظيم قريب، والأصل أن الإشارة إلى القريب لفظية، أعني بذلك من قال (ولهم عذاب عظيم) أن إسم الإشارة ذلك يقرون أن اللام للبعد ولكن يقولون هو بعد معنوي؛ لأن مجيء اللام مع اسم الإشارة قد يكون للبعد اللفظي وقد يكون للبعد المعنوي، البعد اللفظي معلوم مثل ما قال ابن مالك في الألفية:
ولدى البعد انطقا بالكاف حرفا دون لام أو معا
فإذن في البعد يشار باللام، أولاء هذا قريب، هذا قريب، ذاك قريب ذلك بعيد.
وقد يكون المراد بمجيء اللام البعد المعنوي وهذا كثير في القرآن كما في قوله تعالى ?الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ?[البقرة:1-2]، وقد يكون بُعْدا معنويا للتعظيم كقوله (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ) يعني جعله بعيدا لعلو مرتبته ومنزلته وقد يكون بعدا معنويا في السفول مثل ما يوصف عذاب الكافرين في مواضع قالوا هنا من قال أن الضمير يرجع إلى العذاب العظيم ذلك هذا رجوع معنوي.
مقصود البحث في الترجيح ليس هذا محله لكن إشارة في معنى قول لفظية؛ لأن الأصل أن تكون الإشارة للبعيد لفظا لا معنى هذا هو الأصل.(17/477)
ولهذا قال الشيخ رحمه الله هنا والإمام محمد بن عبد الوهاب عليه رحمه الله كان من أدق أهل زمنه في التفسير وأعلم من أهل زمنه بأقوال المفسرين قال رحمه الله (فصرّح أن هذا الكفر والعذاب) فجمع القولين هذا الكفر والعذاب، فكأنه قال لا يمنع أن يقال رجع الضمير اسم الإشارة إلى العذاب أو يرجع إلى الكفر؛ لأن العذاب حاصل والكفر حاصل، فإرجاع ذلك للجميع متجه.
قال (فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر) هذا ظاهر بين، (وإنما سببه أن له في ذلك حظ من حظوظ الدنيا فآثره على الدين) وهذا الذي ذكره حاصل وواقع؛ بل إن الذين استحبوا الكفر على الإيمان وكفروا بعد إيمانهم سبب ذلك محبة الدنيا، محبة المال، محبة الجاه، لابد فيه حظ من حظوظ الدنيا وإلا لو قام الإيمان بالآخرة في النفس لما آثر المرء عليه شيئا من الدنيا.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنّ النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال –غاب عني- يعني أن في آخر الزمان يمسي الرجل مؤمنا أو تكون فتن، تكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، وهذا حاصل في أن من كفر؛ بل من فتن عن الدين إنما هو بسبب من الدنيا بشهواته إما شهوة المال أو شهوة الجاه أو شهوة المنصب أو شهوة النساء أو شهوة الأمر والنهي أو إلى آخر ذلك من الشهوات الفانيات.
فما ذكره هنا الإمام رحمه الله هذا ينبغي أن يتنبه إليه كل موحد، فيحذر أشد الحذر من الكفر ومن وسائله.
قال (وإنما سببه أن له في ذلك حظا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين) وهذا الاستدلال المراد ومقيم للبرهان على أولئك الذين يقولون: نحن نعلم التوحيد وإنما علمنا الشرك لأجل الحفاظ على أموالنا أو على جاهنا أو على دنيانا.(17/478)
نسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وبصفاه العلى أن يرفع درجة الإمام المصلح المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وسائر أئمة الدعوة الذين تركوا الناس بعدهم على أمر واضح بيّن لا لبس فيه في أمر الدين التوحيد الإخلاص، ونرجوا أن يكونوا ممن وعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بظهورهم في تجديد أمر الدين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعلي مقامهم وأن يغفر ذنوبهم وأن يجعلنا ممن ورِثَ علمهم فعلم وعلم وأقام الحق في نفسه وفيمن حوله.
ونسأله سبحانه أن يثبت في قلوبنا التوحيد، وأن يكشف عنا كل شبهة، وأن يثبت هذا العلم في نفوسنا، وأن يحببه إلينا وأن يبغّض إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
اللهم نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن تجعل التوحيد حجة لنا لا حجة علينا.
اللهم نسألك أن تهدينا نحن الحاضرين جميعا إلى أقوم طريق، ونسألك أن تجعلنا ممن يفرح بإخلاص الدين لك، ويفرح بهذا العلم الذي هو علم التوحيد، ويفرح بعلم العقيدة ويظهره على غيره، لأن ذلك هو الأساس.
اللهم علمنا علما نافعا واختم لنا بالصالحات، واغفر لنا جميعا الحاضر والسامع وأحبابنا إن جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ([72])
... والأسبوع الذي بعده -يعني درس السبت والخميس- أنا غير موجود الأسبوع القادم والذي بعده إن شاء الله بشرح العقيدة الطحاوية شرح المتن فتخبرون الإخوان الحريصين على بداية الدرس من أوله لأن كثيرين يقولن نريد درسا مؤصلا نبدأ فيه من أوله، فهذه بداية من أول العقيدة الطحاوية، وهو كتاب كما هو معلوم كتاب مهم.
{س1/ ما حد الاستضعاف المرخص به للبقاء بين ظهراني المشركين؟
ج/ لا يستطيع الهجرة، مستضعف لا يستطيع أن يهاجر ?إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً?[النساء:98].(17/479)
س2/ هل المقصود من الإكراه أن من أكره على عمل من الأعمال التي نهى الله عنها سواء كان في الشرك أو معصية أم فيها تفصيل ؟
ج/ إذا كان يعذر في الشرك بالإكراه، فعذره فيما هو أدنى من الشرك من المعاصي لا شك أنه من باب أولى؛ لكن هناك ذنوب كبائر لا يصح فيها الإكراه وهذه معلومة في تفصيل القاعدة عند الفقهاء.
س3/ وهل من أكره على معصية من المعاصي مثل الزنا فهل يعذر بالإكراه أم ماذا ؟
ج/ الزنا اختلف فيه العلماء، هل يقع فيه إكراه، يعني إكراه من مرأة لرجل في الزنا أم لا يقع؟ وسبب الخلاف في أن الرجل لا تنتشر آلته إلا بشهوة ورغبة، أما إذا كان القلب كارها فإنه لا يحصل معه انتشار، حتى مع أهل الرجل ومن أُبيح له أن يعاشرهم إذا كره كرها شديدا لا يكون في قلبه رغبة للجماع حتى دواعي الجماع، لهذا قال طائفة من المحققين من أهل العلم: يستثنى من القاعدة الزنا؛ لأن الزنا لا يكون انتشار الرجل إلا عن وجود رغبة في قلبه ولو قليلة والتفات إلى هذه المرأة أو إلى ما تعمل إلى آخره.
والقول الثاني أنه يقع الإكراه حتى في الزنا لأن بعض الرجال ربما ينتشر دون رغبة القلب.
وعلى العموم، هذا راجع إلى الحال وكل أعلم بحاله والله حسيب على الخلق.
س/ كيف التوجيه بين هذه الآية وحديث الذباب؟
ج/ ذكرنا التوجيه وأشرنا إليه في شرحنا لكتاب التوحيد ومعروف .
س/ ما أفضل شرح للعقيدة الطحاوية يمكن اقتناءه، ومتابعة الدرس من خلاله؟
ج/ أنا سأشرح المتن إن شاء الله تعالى بطريقة تجمع ما بين السهولة للمبتدئ وكثرة المادة للمتوسط، ولهذا لا أعرف شرحا سيكون على ما أريد إن شاء الله؛ لكن شرح ابن أبي العز هذا شرح معروف، وكذلك شرح ابن مانع رحمه الله، أو تعليقات الشيخ عبد العزيز (رحمه الله)، أو تعليقات الشيخ ناصر الألباني (رحمه الله)، هذه كلها فيها فائدة إن شاء الله.(17/480)
س/ متى يكون الخلاف خلافا سائغا يُعذر فيه المخالف، وهل يكتفى في تسويغ الخلاف أن يقول به إمام من الأئمة؟
ج/ هذه مسألة أصولية مشهورة، والجواب عليها أن الخلاف في المسائل ينقسم إلى قسمين:
الأول: خلاف فيما لم يرد به النص، في مسألة نازلة، اختلف العلماء فيها، فهذا الخلاف فيها سائغ إلا إذا كان هناك اتفاق من أكثر أهل العلم في ذلك فالذي يرى غير ما عليه الأكثر في المسألة النازلة له أن يعمل بما يرى أو يعتقد في ذلك في نفسه؛ لكن لأجل قول الأكثر في المسألة الاجتهادية فإنه لا يخالف الأكثر لأن الأكثر في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها، إنما هي تنزيل على الواقع هذا في الغالب أن لا يكون معه الصواب.
فإذن النوع الأول من الخلاف خلاف في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها، وهذه يعذر بعضهم بعضا لأنها اجتهاد في تنزيل المسألة النازلة على النصوص.
والثاني، النوع الثاني: الخلاف في المسائل التي فيها دليل؛ لكن اختلف فيها العلماء نزع كل إلى جهة من الدليل، وبعضهم مثلا لم يقل بالدليل، قال بغيره؛ قال بقياس، قال برأيه، فهذا الخلاف في المسائل التي فيها دليل ينقسم إلى قسمين:
الأول : خلاف ضعيف. والثاني : خلاف قوي.
والخلاف الضعيف هو الذي يكون في مقابلة الدليل؛ يعني قال قياسا مع ظهور الدليل، لاحظ كلمة ظهور الدليل، يعني دلّ الدليل على المسألة بظهور أو بما هو أعظم من الظهور وهو النص، وقال طائفة من أهل العلم بخلاف ما دل عليه الدليل ظاهرا أو نصا فهذا لا شك أن هذا الخلاف يكون ضعيفا.
الثاني: أن يكون الخلاف قويا بحيث يكون أن تكون الأدلة متعارضة، قد يرجح هذا وقد يرجح هذا، فإنه حينئذ يكون الخلاف قويا، وإذا كان الخلاف قويا فإنه لا إنكار في مسائل الخلاف القوي.
وأما إذا كان الخلاف ضعيفا فإنه ينكر في مسائل الخلاف الضعيف.(17/481)
أطلق بعض أهل العلم قاعدة وهي قولهم: لا إنكار في مسائل الخلاف. وهذا الإطلاق غلط؛ لأن المسائل الخلافية الصحابة بعضهم أنكر على بعض فيها، والتابعون أنكر بعضهم على بعض فيها.
والمسائل الخلافية على التفصيل الذي ذكرته لك:
· إذا كان الخلاف في مسألة لم يرد فيها الدليل فهذه تسمى المسائل الاجتهادية، هذا الخلاف سائغ.
· والقسم الثاني أن يكون الخلاف في مسائل فيها الدليل وهي منقسمة إلى خلاف قوي وإلى خلاف ضعيف.
مثلا من مسائل الخلاف القوي:
مسألة زكاة الحلي الأدلة فيها مختلفة، وفهم الدليل أيضا مختلف بين أهل العلم، فهذه نقول الخلاف فيها قوي فلا إنكار، من زكى فقد تبع بعض أهل العلم، ومن لم يزك فقد تبع بعض أهل العلم، فلا حرج في ذلك ولا إنكار في هذه المسألة.
كذلك مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة للمأموم، هل يقرأ المأموم أو لا يقرأ، الخلاف فيها قوي والأدلة متنازع فيها، وكلام الأئمة في من يقول كذا وفي من يقول كذا، والجمهور؛ جمهور الصحابة والتابعين، قول المحققين كشيخ الإسلام؛ بل كالإمام أحمد وشيخ الإسلام وابن القيم وجماعة أنه يتحمل الإمام عن المأموم، هذا يجعل المسألة فيها خلاف قوي فلا إنكار فيها كذلك.
مثلا بعض المسائل التي يختلف فيها أهل العلم في هذا الزمن:
مثل مثلا مسألة التصوير بالفيديو، بعضهم يجعله داخلا في التصوير فيمنعه، بعضهم لا يجعله داخلا في التصوير فلا يمنعه فهذا، المسألة فيها خلاف قوي، بعضهم يجيز وبعضهم لا يجيز، كذلك يلحق أو من هذه المسألة التي فيها الخلاف القوي بين أهل العلم مسألة التصوير الضوئي؛ لأن بعضهم أباحه، وبعض أهل العلم منعه، وهذا له حجة وهذا له حجة، واختلف فيه علماؤنا المعاصرون، مع أن الصحيح كما هو معلوم أنه لا يجوز ذلك لعموم الأدلة كما هو مبسوط في موضعه.
المسائل التي فيها خلاف ضعيف كثيرة.(17/482)
وهذا نقول فيه لأجل أن ينتبه طالب العلم إلى ما ينكر فيه وما لا ينكر فيه، فمسائل ترى أهل العلم ما ينكرون فيها لأجل الخلاف القوي فيها، أحيانا ينكرون لأجل الخلاف أن يكون خلافا ضعيفا.
مثل مسألة كشف المرأة لوجهها الخلاف فيها ضعيف وبعض أهل العلم يرى أن الخلاف فيها قوي لكن الصحيح أنه ضعيف لأن الحجة التي أدلى بها من أجاز ذلك ليست بوجيهة إلى آخر المسائل التي فيها..
الخلاف ضعيف مثل المعازف، خلاف ابن حزم فيها شاذ وضعيف.
كذلك إباحة النبيذ وما شابهه مما لا يسكر قليله، هذا معلوم الخلاف فيها لكن الخلاف فيها ضعيف.
كذلك أكل لحم ذي الناب من السباع خلاف، خالف فيه أهل المدينة مالك ومن معه، غيره من الأئمة، ونقول الخلاف فيه ضعيف لوجود النص الواضح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلاف ذلك.
إلى ذلك من المسائل المعروفة.
س/ نقل القرطبي وغيره إجماع العلماء على أن من أكره على الكفر فالأفضل والأحسن أن يصبر على القتل فهو أولى من أن يجيبهم.
ثم رأيتُ لبعض الشافعية تفصيلا قد ذكر بعضهم أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فمن كان يرجى به النكاية بالكفر فالأولى أن يدرأ عن نفسه القتل بالإجابة، وإن كان ممن ليس كذلك فالأفضل له الصبر فهل يعد هذا التفصيل ناقضا أو خارما للإجماع؟
الجواب: لا، ليس كذلك هو قولهم الأفضل والأحسن أن يصبر، هذه هي القاعدة، ومعلوم أن كل قاعدة لها شواذ، والقاعدة أمر كلي ومجيء بعض الأفراد على خلاف الأمر الكلي لا يخرج الأمر الكلي عن كونه كليا مقطوعا به، كما قرره الأصوليون والعلماء في القواعد.
س/ ما توجيه أهل العلم رحمهم الله تعالى لحديث التائب الذي قال فيه اللهم أنت عبدي وأنا ربك فقد تلفظ بالكفر؟
ج/ هذا قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام «أخطأ من شدة الفرح».
س/ هل صحيح أن حديث الذبابة فيه شيء من الضعف؟
ج/ هذا أحلناكم على ما قبله.
س/ متى يبدأ وقت أذكار المساء والصباح ومتى ينتهي؟(17/483)
ج/ في أول النهار وفي إقبال الليل، يعني في المساء من بعد العصر إلى المغرب، أو بعد المغرب، كل هذا وقت المساء، المساء إلى غياب الشفق يطلق عليه مساء باتفاق أهل اللغة، هل يطلق المساء لما بعد ذلك فيه خلاف، من بعد الزوال إلى غياب الشفق يعني إلى دخول وقت العشاء هذا يطلق عليه مساء في اللغة، فأذكار المساء من بعد العصر بالنية قبل المغرب قبل الأذان بعد الصلاة، كل هذه فيها سعة.
س/ إذا كان الرجل جاهل بأحكام الغسل وكان في هذا الوقت يصلي وهو جنب وبعد أن علم أحكام الغسل هل يعيد الصلاة أو لا ؟
ج/ إذا كانت سنين كثيرة ما يعيد؛ لكن إذا كانت صلاة أو صلاتين معلومة فيعيد لأنه ما أتى بالشرط؛ لكن كيف يعني أحكام الغسل –أخاف أن يكون مدخل للوسوسة-، الغسل تعميم البدن بالماء، أخشى أنه يكون مدخل للوسوسة، يعني الغسل يعرفه كل أحد، أنه تعميم البدن بالماء ، إذا وصل إلى جميع أجزاء الجسم حصل الغسل الشرعي من الجنابة
س/ هل نصرح بكفر من رأيناه يسب الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
لابد تعرض كلامه على أهل العلم وهم يفتون ، مسائل الكفر ليست لآحاد الناس أو لآحاد طلاب العلم.
س/ هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التورك في التشهد الأول؟
هل هناك فرق بين البراءة من الشرك وبين الخلوص من الشرك ؟
ج/ التورك النبي عليه الصلاة والسلام كان يفترش قدمه اليسرى ويجلس عليها، هذه هي السنة، التشهد الأول لا أعلم فيه ما يكون فيه التورك سنة، ربما السائل رآني اليوم، أنا معي عذر في رجلي يمنعني من ذلك.(17/484)
ما الفرق بين البراءة من الشرك وبين الخلوص من الشرك؟، الخلوص من الشرك هذه كلمة يعني تتركونها لما ليس لها أصل في كلام أهل العلم المتقدمين، إنما هي جاءت متأخرة، ما أدري كيف جاءت في كتاب ثلاثة الأصول، نبهنا عليها في شرحنا على الثلاثة الأصول لأن تعريف الإسلام اللي ذكره الشيخ في أول ثلاثة الأصول، الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، هذا تعريف الإسلام المعروف عند أئمة التوحيد، أما تعديل ذلك إلى والخلوص من الشرك وأهله، أو الخلوص من الشرك ، هذا ليس صحيحا؛ لأن البراءة غير الخلوص البراءة فيها بغض ومعاداة والخلوص فيها انتقال، فيها خلاص من الشيء، البراءة لفظ شرعي جاء في النصوص في القرآن وفي السنة فلابد من اعتماده، وتعريف الإسلام مأخوذ من القرآن يعني لأن قصة لإبراهيم عليه السلام فيها تعريف الإسلام.
نكتفي بهذا القدر.} ([73])
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ([74])
?????
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1]) وتمام البيت:
قد أفسدا هذا الوجود وخبَّطا الـ أذهانَ والآراءَ كلَّ زمانِ
([2])انتهى الوجه الأول من الشريط الأول.
([3])لم أجدها وإنما وجدت: ?فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ?[الأعراف:135]، ?فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ?[يونس:12] إلى آخره.
([4])انتهى الشريط الأول.
([5]) قال البهوتي في كشف القناع: قال الفخر إسماعيل وأبو البقاء: العبادة ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي. كتاب الصلاة باب صلاة التطوع.
([6]) الأعراف:59، 65، 73، 75، هود: 50، 61، 84، المؤمنون:23، 32.
([7])انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.
([8]) هود:119، السجدة:13، الناس:6.
([9]) الحجر:40، ص:83.
([10])انتهى الشريط الثاني.
([11]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.
([12])الحجر:40، ص:83.
([13]) لم يذكرها الشيخ.
([14])الظاهر يوجد قطع في الشريط.(17/485)
([15]) لم يذكرها الشيخ.
([16])الشيخ قال وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله... ولعلها التي في سورة لقمان التي فيها وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين... الآية.
([17])الشيخ قال ركبوا.
([18]) انتهى الشريط الثالث.
([19]) النمل:60، 61، 62، 63، 64.
([20])الفاتحة:2، يونس:10، الزمر:75، غافر:65.
([21])انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع.
([22])الأنعام:57، يوسف:40، يوسف:67.
([23])انتهى الشريط الرابع.
([24]) النساء:38، 116.
([25])البقرة:146، الأنعام:20.
([26]) النساء:38، 116.
([27])انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس.
([28])الأنعام:112، الفرقان:31.
([29]) الظاهر وجود قطع في الشريط.
([30]) انتهى الشريط الخامس.
([31])انتهى الوجه الأول من الشريط السادس.
([32]) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس.
([33])سورة هود: 7. الملك:2.
([34]) في الشريط مسح.
([35])انتهى الشريط السادس.
([36]) انتهى الوجه الأول من الشريط السابع
([37]) تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد تأليف الأستاذ المحدث الشهير محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني.
([38]) يوجد مسح في الشريط.
([39]) انتهى الشريط السابع.
([40]) الشيخ حفظه الله قال:قل.
([41]) يوجد مسح في الشريط.
([42]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن.
(1) وهي أيضا في سورة الشورى الآية:10.
([44]) يوجد مسح في الشريط.
([45]) انتهى الشريط الثامن.
([46]) انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع.
([47])الأفراط: هم الأولاد الصغار الذين ماتوا قبل آبائهم. انظر لسان العرب 7/366 مادة «فرط».
([48]) انتهى الشريط التاسع
([49]) قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي في جامعه الفريد: "المحصور بين هاتين العلامتين[ ] سقط من جميع الطبعات وأكملناه من المخطوطة المعاصرة لشيخ الإسلام المؤلف ص8 وهي في خزانة كتبنا الخاصة برقم 5138." ط4، 1420هـ ص271.(17/486)
([50]) وهي رسالة الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد للعلامة محمد بن علي الشوكاني.
([51]) انتهى الوجه الأول من الشريط العاشر.
([52]) الشعراء:227، ص:24، الانشقاق:25، التين:6، العصر:3.
([53]) قال الشيخ عبد الرزاق عفيفي في جامعه الفريد: "المحصور بين هاتين العلامتين[ ] سقط من جميع لطبعات وأكملناه من المخطوطة المعاصرة لشيخ الإسلام المؤلف ص8 وهي في خزانة كتبنا الخاصة برقم 5138." ط4، 1420هـ ص271.
([54]) انتهى الشريط العاشر.
([55]) الشيخ قال وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله... ولعلها التي في سورة لقمان التي فيها وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين... الآية.
([56]) انتهى الوجه الأول من الشريط الحادي عشر.
([57]) انتهى الشريط الحادي عشر.
([58]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني عشر.
([59]) انتهى الشريط الثاني عشر.
([60]) يوجد قطع في الشريط.
([61]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث عشر.
(5) انظر تفسير ابن كثير 4/210-211
([62]) انتهى الشريط الثالث عشر.
([63]) الأنعام:25، الإسراء:46.
([64]) الشيخ –حفظه الله تعالى- قال: الرحمن. وهي الآية (5) من سورة الشعراء: ?وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ?.
([65]) انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع عشر.
(1) ذكر هذا الأثر ابن كثير عن بعض السلف كما في البداية والنهاية 1/146 في قصة إبراهيم خليل الرحمن. نقل من شرح الشيخ صالح الفوزان.
([66])البقرة:146، الأنعام:20.
([67]) انتهى الشريط الرابع عشر.
([68]) البقرة:146، الأنعام:20.
([69])البقرة:146، الأنعام:20.
([70]) يوجد قطع في الشريط.
([71]) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس عشر.
([72]) انتهى الشريط الخامس عشر.
([73]) قامت بتفريغ ما بين الحاضنتين الأخت المشكدانة الكويتية.
([74]) انتهى الشريط السادس عشر.(17/487)
شَرْحُ الْفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرَى
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية
- رحمه الله تعالى-
[(11) شريطا مفرغا]
ملاحظة: تفريغ الأشرطة لا يعني الاستغناء عنها.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
سئل شيخ الإسلام العالم الرباني تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى:
ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات كقوله تعالى?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وقوله ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?[الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4]، وقوله ?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ?[فصلت:11]، إلى غير ذلك من آيات الصفات وأحاديث الصفات كقوله - صلى الله عليه وسلم - «إنّ قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن»، وقوله «يضع الجبار قدمه في النار» إلى غير ذلك، وما قالت العلماء فيه، وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى؟
فأجاب –رضي الله عنه-:
الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها ما قاله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره؛ فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهِدَ له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، وأمره أن يقول ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي?[يوسف:108].(18/1)
فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردُّوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بُعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته، محال -مع هذا وغيره- أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه.
فإنّ معرفة هذا أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصّلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يُحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا!
ومن المحال أيضا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علّم أمته كل شيء حتى الخِراءة([1])، وقال «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»، وقال فيما صح عنه أيضا «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم».
وقال أبو ذر :- رضي الله عنه - لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاما فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه. رواه البخاري.([2])(18/2)
ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقّت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم ربِّ العالمين، الذي معرفته غاية المعارف وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام، ثم إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصَّروا في هذا الباب؛ زائدين فيه أو ناقصين عنه.
ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة القرن الذي بعث فيه رسول - صلى الله عليه وسلم - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين به وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق. وكلاهما ممتنع.
أما الأول فلأن من في قلبه أدنى حياةٍ وطلب للعلم ونهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه؛ أعنى: بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته.
وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر.
وهذا أمر معلوم بالفطرة الوُجدية([3])، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى الذي هو من أقوى المقتضيات أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم. هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم أعرضا عن الله وأعظمهم إكبابا على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟!
وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم.([4])
ثم الكلام في هذا الباب عنهم أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى أو أضعافها يعرف ذلك من طلبه وتتبعه.(18/3)
ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدّر قدر السلف بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعنى بها معنى صحي.
فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف إنما أُتوا من حيث ظنوا أنَّ طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم ?وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ?[البقرة:78]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات.
فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف؛ فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف.([5])
وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين؛ فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف- وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف -وهي التي يسمونها طريقة الخلف-، فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلمَ عن مواضعه.(18/4)
فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين كانت النتيجة: استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأنّ الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله.
ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة بل في غاية الضلالة.
كيف يكون هؤلاء المتأخرون، لاسيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين([6]) اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه أمرهم حيث يقول
لعمري لقد طُفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذَقَنٍ أو قارعا سن نادم([7])
وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا([8])
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروى غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ?[فاطر:10]، واقرأ في النفي ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]، ?وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا?[طه:110]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ا.هـ
ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي.ا.هـ([9])
ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكًّا عند الموت أصحاب الكلام.([10])(18/5)
ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف([11]) إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضلون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون: أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعرفة وبواطن الحقائق بما لو جُمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة.
ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لاسيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلاّل اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم؛ أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟!
وإنما قدمتُ هذه المقدمة لأنّ من استقرت هذه المقدمة عنده علم طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره. وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وبشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة؛ وليس غرضي واحدا معينا وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء. ([12])(18/6)
وإذا كان كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر([13]) في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى وهو فوق كل شيء وهو عليٌّ على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، مثل قوله تعالى ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، ?إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ?[آل عمران:55]، ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ(16)أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا?[الملك:16-17]، ?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ?[النساء:158]، ?تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ?[المعارج:4]، ?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ?[السجدة:5]، ?يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ?[النحل:50]، ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ?([14]) في ستة مواضع، ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ?يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا?[غافر:36-37]، ?تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ?[فصلت:42]، ?مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ?[الأنعام:114]. إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة([15]).
وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة.
مثل قصة معراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه؛ وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم.(18/7)
وفي الصحيح في حديث الخوارج «أَلاَ تَأْمَنُونِي؟ وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السّمَاءِ, يَأْتِينِي خَبَرُ السّمَاءِ صَبَاحاً وَمَسَاءً».
وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: «رَبُّنَا الله الّذِي في السّماء تَقَدّسَ اسْمُكَ أَمْرُكَ في السّمَاءِ وَالأرْضِ كما رَحْمَتُكَ في السّمَاء اجْعَلْ رَحْمَتَكَ في الأرْضِ اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا أنْتَ رَبّ الطّيّبِينَ أنْزِلْ رَحْمَةً مِن رَحْمَتِكَ وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ».
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل ربنا الله الذي في السماء» وذكره.
وقوله في حديث الأوعال «والعرش فوق ذلك والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه» رواه أحمد وأبو داود
وغيرهما.
وقوله في الحديث الصحيح للجارية «أين الله» قالت: في السماء. قال «من أنا» قالت: أنت رسول الله. قال «فأعتقها فإنها مؤمنة».
وقوله في الحديث الصحيح«إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبى».
وقوله في حديث قبض الروح «حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها([16]) الله تعالى» إسناده على شرط الصحيحين.
وقول عبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - الذي أنشده للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأقره عليه:
شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينَ
وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينَ
وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو وغيره من شعره فاستحسنه، وقال آمن شعره وكفر قلبه حيث قال:
مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الناس وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا ما يناله بصر العين ترى دونه الملائك صورا
وقوله في الحديث الذي في المسند «إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا».(18/8)
وقوله في الحديث «يمد يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب»، إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية،([17]) التي تورث علما يقينيا من أبلغ العلوم الضرورية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - المبلِّغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أنّ الله سبحانه على العرش وأنه فوق السماء، كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام؛ إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته.
ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جُمع لبلغ مئين أو ألوفا.
ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف، حرف واحد يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا.
ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء. ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أنّ جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخلَ العالم ولا خارجه، ولا أنه لا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها؛ بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل يقول: «ألا هل بلغت» فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكبها إليهم ويقول «اللهم أشهد» غير مرة، وأمثال ذلك كثيرة.(18/9)
فإن كان الحق ما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة، من هذه العبارات ونحوها دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصا وإما ظاهرا، فكيف يجوز على الله تعالى ثم على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائما بما هو إما نص وإما ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصا ولا ظاهرا حتى يجيء أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلَّف أو كل فاضل أن يعتقدها.
لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أُحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصا أو ظاهرا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير؛ بل كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين.
فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل، وما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة.
ولكن أنظروا أنتم فما وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به -سواء كان موجودا في الكتاب والسنة أو لم يكن- وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به؟
ثم هم ها هنا فريقان:
أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه.(18/10)
ومنهم من يقول بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم -الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافا أكثر من جميع اختلافٍ على وجه الأرض- فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحقُّ الذي تعبدتكم به، وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم -على طريقة أكثرهم- فاعلموا أني أمتحنكم بتنزيله، لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات، هذا حقيقة الأمر على رأى هؤلاء المتكلمين.([18])
وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوما لا محيد عنه، ومضمونه أنّ كتاب الله لا يُهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول،([19]) بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة -وهم المشركون- والمجوس وبعض الصابئين.(18/11)
وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة ولا يرتفع الخلاف به إذْ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم، وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا(60)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا(61)فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا?[النساء:60-62].([20])
فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول -والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته- أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علما وعملا بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية.([21])
ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل إنما تَقَلَّدوا أكثرها عن طواغيت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم؛ مثل فلان وفلان، أو عمن قال كقولهم لتشابه قلوبهم، وقال الله تعالى ?فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[النساء:65]، ?كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ?[البقرة:213] الآية.(18/12)
ولازم هذه المقالة أن لا يكون الكتاب هدى للناس، ولا بيانا ولا شفاء لما في الصدور ولا نورا، ولا مردا عند التنازع، لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون أنه الحق الذي يجب اعتقاده لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصا ولا ظاهرا، وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4]، ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا?[التحريم:65].
وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دلّ الخلق على أن الله ليس على العرش، ولا فوق السموات ونحو ذلك بقوله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) لقد أبعد النجعة، وهو إما مُلْغِز وإما مدلس لم يخاطبهم بلسان عربي مبين.
ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيرا لهم في أصل دينهم؛ لأنّ مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمى وضلالة.([22])
يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول يوما من الدهر ولا أحد من سلف الأمة هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه؛ ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا وكذا فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاقبلوه وما لا فتوقفوا فيه أو أنفوه.
ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله».
وروي عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي».(18/13)
فهلا قال من تمسك بالقرآن أو بدلالة القرآن أو بمفهوم القرآن أو بظاهر القرآن في باب الاعتقادات فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة في هذه المقالة، وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين. ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين؛ فإن من حُفِظَ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام أعني أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقة وأن معنى استوى بمعنى استولى ونحو ذلك هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان؛ وأظهرها فنُسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل أن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان الجعد بن درهم هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، بقايا أهل دين النمرود، والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم، والنمرود هو ملك الصابئة الكنعانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك مصر القبط الكفار، والنجاشي ملك الحبشة النصارى، وبطليموس ملك اليونان، وقيصر ملك الروم، فهو اسم جنس لا اسم علم.(18/14)
فكانت الصابئة إلا قليلا منهم إذ ذاك على الشرك وعلماؤهم هم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركا؛ بل مؤمنا بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى ?الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[البقرة:62]، وقال ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[المائدة:69].
لكن كثيرا منهم، أو أكثرهم كانوا كفارا أو مشركين، كما أن كثيرا من اليهود والنصارى بدّلوا وحرفوا وصاروا كفارا أو مشركين، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك؛ كانوا كفارا أو مشركين وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل.
ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة الفلاسفة.
وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حرّان وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضا -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره- لما ناظر السُّمنية([23]) بعض فلاسفة الهند -وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات-.
فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين هم إما من الصابئين وإما من المشركين. ([24])
ثم لما عُرِّبَت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء، من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم.(18/15)
ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل مالك، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والفضيل بن عياض، وبشر الحافي، وغيرهم، في هؤلاء كثير في ذمهم وتضليلهم.
وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فُورك في كتاب التأويلات، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه تأسيس التقديس، ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني، وأبي الحسين البصري، وأبي الوفاء بن عَقيل، وأبي حامد الغزالي، وغيرهم؛ هي بعينها تأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه: وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضا، ولهم كلام حسن في أشياء.
فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي، ويدلُّ على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري، صنف كتابا سماه: رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضى أن المريسي أقعد، بها وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم.
ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية وأكثرهم كفّروهم أو ضللوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسية تبين الهدى لمن يريد الله هدايته ولا حول ولا قوة إلا بالله. ([25])
والفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب، وإنما أشير إشارة إلى مباديء الأمور والعاقل يسير فينظر.(18/16)
وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر هاهنا إلا قليلا منه، مثل كتاب السنن للالكائي، والإبانة لابن بطة، والسنة لأبي ذر الهروي، والأصول لأبي عمرو الطلمنكي، وكلام أبي عمر بن عبد البر، والأسماء والصفات للبيهقي، وقبل ذلك السنة للطبراني، ولأبي الشيخ الأصبهاني، ولأبي عبد الله بن منده، ولأبي أحمد العسال الأصبهاني، وقبل ذلك السنة للخلال، والتوحيد لابن خزيمة، وكلام أبي العباس بن سريج، والرد على الجهمية لجماعة، مثل البخاري وشيخه عبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي، وقبل ذلك السنة لعبد الله بن أحمد، والسنة لأبي بكر بن الأثرم، والسنة لحنبل، وللمروزي ولأبي داود السجستاني، ولابن أبي شيبة، والسنة لأبي بكر بن أبي عاصم، وكتاب الرد على الجهمية لعبد الله بن محمد الجعفي شيخ البخاري، وكتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وكتاب الرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم.
وكلام أبي العباس عبد العزيز المكي صاحب الحيدة في الرد على الجهمية، وكلام نعيم بن حماد الخزاعي.
وكلام غيرهم، وكلام الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن سعيد ويحيى بن يحيى النيسابوري، وأمثالهم، وقبل هؤلاء لعبد الله بن المبارك وأمثاله وأشياء كثيرة.
وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وأنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة، ولكن لا يمكن ذكرها في الفتوى، فمن نظر فيها وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه فإنه يسير.
فإذا كان أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل والتأويل- مأخوذا عن تلامذة المشركين، والصابئين، واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن بل نفس عاقل أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم أو الضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ([26])
فصل(18/17)
ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يُتجاوز القرآن والحديث.
قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -:([27]) لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوز القرآن والحديث.
ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أن ما وُصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي؛ بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه لاسيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد. ([28])
وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما يتيقن أنّ الله سبحانه له ذات حقيقية، وله أفعال حقيقية، فكذلك له صفات حقيقية، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزه عنه حقيقة، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقه العدم([29]) ولافتقار المحدث إلى محدث، ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى.
ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون([30]) ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله؛ فعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العليا ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويلحدوا في أسماء الله وآياته.
وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل.(18/18)
أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل؛ مثلوا أولا وعطلوا آخرا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى.
فإنه إذا قال القائل لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا، وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال الله تعالى ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها، كما يلزم من سائر الأجسام.
وصار هذا مثل قول الممثل إذا كان للعالم صانع، فإما أن يكون جوهرا أو عَرَضا ([31]) وكلاهما محال، إذ لا يعقل موجود إلا هذان، و قوله إذا كان مستويا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، إذ لا يُعلم الاستواء إلا هكذا فإن كليهما مثّل وكليهما عطّل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين. ([32])
والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط؛ من أنّ الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير وأنه سميع بصير، ونحو ذلك ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها.(18/19)
وأعلم أنه ليس في العقل الصريح، ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا؛ لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق، فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير، ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة -من المتأولين لهذا الباب- في أمر مريج، فإن من أنكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أنّ لله علما وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل. بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة، يزعم أن العقل أحال ذلك، وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش: يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل.
ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل؛ بل منهم من يزعم أن العقل جوّز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله.
فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة، فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس، حيث قال: أَوَ كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - لجدل هؤلاء.
وكلٌّ من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر وهو من وجوه:
أحدها: بيان أن العقل لا يُحيل ذلك.
والثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل.
والثالث: أنّ عامة هذه الأمور قد عُلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها بالاضطرار، كما أنه جاء بالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان؛ فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصلاة والصوم، وسائر ما جاءت به النبوات.(18/20)
الرابع: أنْ يبين أنَّ العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص، وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن دَرَك تفصيله، وإنما عقله مجملا إلى غير ذلك من الوجوه على أن الوجوه الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية.
وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه.
ومن المعلوم للمؤمنين أن الله تعالى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ?لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا?[الفتح:28]، وأنه بين للناس ما أخبرهم به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر.([33])
والإيمان بالله واليوم الآخر يتضمَّن الإيمان بالمبدأ والمعاد، وهو الإيمان بالخلق والبعث كما جمع بينهما في قوله تعالى ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ?[البقرة:8]، وقال تعالى ?مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ?[لقمان:28]، وقال تعالى ?وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ?[الروم:27].
وقد بين الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما هدى الله به عباده، وكشف به مراده.
ومعلوم للمؤمنين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم من غيره بذلك، وأنصح من غيره للأمة، وأفصح من غيره عبارة وبيانا، بل هو أعلم الخلق بذلك وأنصح الخلق للأمة وأفصحهم، فقد اجتمع في حقه كمال العلم والقدرة والإرادة.([34])
ومعلوم أن المتكلم أو الفاعل إذا كمل علمه وقدرته وإرادته: كمل كلامه وفعله، وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه وإما من عجزه عن بيان علمه وإما لعدم إرادته البيان.(18/21)
والرسول هو الغاية في كمال العلم، والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين،([35]) والغاية في قدرته على البلاغ المبين، ومع وجود القدرة التامة، والإرادة الجازمة: يجب وجود المراد، فعُلم قطعا أن ما بينه من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر حصل به مراده من البيان، وما أراده من البيان فهو مطابق لعلمه، وعلمه بذلك أكمل العلوم، فكل من ظن أن غير الرسول أعلم بهذا منه، أو أكمل بيانا منه، أو أحرص على هدى الخلق منه فهو من الملحدين لا من المؤمنين؛ والصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم في هذا الباب على سبيل الاستقامة.
وأما المنحرفون عن طريقهم فهم ثلاث طوائف: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل.
فأهل التخييل: هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف، فإنهم يقولون: إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بيّن به الحق، ولا هُدِي به الخلق، ولا أوضح به الحقائق.
ثم هم على قسمين:
منهم من يقول: أن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه. ويقولون: إن من الفلاسفة الإلهية من علمها وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم أولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة والأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين،([36]) وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية.
ومنهم من يقول: بل الرسول علمها لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق.
ويقول هؤلاء يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل، ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل. قالوا: لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد.
فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر.(18/22)
وأما الأعمال فمنهم من يقرها ومنهم من يجريها هذا المجرى، ويقول: إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض، ويؤمر بها العامة دون الخاصة، فهذه طريقة الباطنية الملاحدة والإسماعيلية ونحوهم.
وأما أهل التأويل: فيقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يُقصد بها الرسول أن يعتقد الناس الباطل؛ ولكن قصد بها معاني ولم يبيّن لهم تلك المعاني ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرف الحق من غير جهته، وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك.
والذين قصدنا الرد عليهم في هذه الفتيا هم هؤلاء، إذ كان نفور الناس عن الأولين مشهورا، بخلاف هؤلاء فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة، وهم في الحقيقة لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا،([37]) لكن أولئك الفلاسفة ألزموهم في نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات. فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بمعاد الأبدان وقد علمنا فساد الشبه المانعة منه.
وأهل السنة يقولون لهم: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد، ويقولون لهم: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول وناظروه عليه، بخلاف الصفات فإنه لم ينكر شيئا منها أحد من العرب.
فعُلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، ([38]) فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به.(18/23)
وأيضا: فقد علم أنه - صلى الله عليه وسلم - قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه، ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات، فلو كان هذا مما بدل وحرف لكان انكار ذلك عليهم أولى، فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات يضحك تعجبا منهم وتصديقا لها ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة أهل الإثبات، مثل لفظ التجسيم والتشبيه ونحو ذلك، بل عابهم بقولهم ?يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ?[المائدة:64]، وقولهم ?إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ?[آل عمران:181]، وقولهم إنه استراح لما خلق السموات والأرض، فقال تعالى ?وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ?[ق:38].
والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن. فإذا جاز أن نتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى، والثاني مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه باطل، فالأول أولى بالبطلان.
وأما الصنف الثالث وهم أهل التجهيل: فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف. يقولون: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات ولا جبريل يعرف معاني الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك.(18/24)
وكذلك قولهم في أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله، مع أنّ الرسول تكلم بها ابتداء فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه، وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ?[آل عمران:7]، فإنه وقف أكثر السلف على قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)، وهو وقفٌ صحيح، ثم فرقوا بين معنى الكلام وتفسيره، وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعلمه، وظنوا أن التأويل المذكور في كلام الله تعالى هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين وغلطوا في ذلك.([39])
فإن لفظ التأويل يراد به ثلاث معان:
فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك، فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلا على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلا يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله، أولا يعلمه المتأولون، ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجري على ظاهرها فظاهرها مراد. مع قولهم: إن لها تأويلا بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله. وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم.
والمعنى الثاني: أن التأويل هو تفسير الكلام سواء وافق ظاهره أو لم يوافقه، وهذا هو التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، وهو موافق لوقف من وقف من السلف على قوله ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ?[آل عمران:7]، كما نقل ذلك عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم، وكلا القولين حق باعتبار كما قد بسطناه في موضع آخر، ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا وكلاهما حق.(18/25)
والمعنى الثالث: أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، وإن وافقت ظاهره فتأويل ما أخبر الله به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك هو الحقائق الموجودة أنفسها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان، ويعبر عنه باللسان، وهذا هو التأويل في لغة القرآن كما قال تعالى عن يوسف أنه قال ?يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا?[يوسف:100]، وقال تعالى ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ?[الأعراف:53]، وقال تعالى ?فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا?[النساء:59]، وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله.
فتأويل الصفات هو الحقيقة التي انفرد الله تعالى بعلمها، وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السلف كمالك وغيره: الاستواء معلوم والكيف مجهول. فالاستواء معلوم يعلم معناه ويفسر ويترجم بلغة أخرى وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقد روى عن ابن عباس ما ذكره عبد الرزاق وغيره في تفسيرهم عنه أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه:([40])
تفسير تعرفه العرب من كلامها.
وتفسير لا يعذر أحد بجهالته.
وتفسير يعلمه العلماء.
وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل فمن ادعى علمه فهو كاذب.([41])
وهذا كما قال تعالى ?فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[السجدة:17]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».(18/26)
وكذلك علم الساعة ونحو ذلك، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، وإن كنا نفهم معاني ما خوطبنا به ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا إياه كما قال تعالى ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا?[محمد:24]، وقال ?أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ?[المؤمنون:68]، فأمر بتدبر القرآن كله لا بتدبر بعضه.([42])
وقال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل. قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.
وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته، أقف عند كل آية وأسأله عنها.
وقال الشعبي: ما ابتدع أحد بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها.
وقال مسروق: ما سئل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه.
وهذا باب واسع قد بسط في موضعه.
والمقصود هنا التنبيه على أصول المقالات الفاسدة التي أوجبت الضلالة في باب العلم والإيمان بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن من جعل الرسول غير عالم بمعاني القرآن الذي أنزل إليه، ولا جبريل جعله غير عالم بالسمعيات، ولم يجعل القرآن هدى ولا بيانا للناس.
ثم هؤلاء ينكرون العقليات في هذا الباب بالكلية فلا يجعلون عند الرسول وأمته في باب معرفة الله عز وجل لا علوما عقلية ولا سمعية، وهم قد شاركوا الملاحدة في هذه من وجوه متعددة، وهم مخطئون فيما نسبوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى السلف من الجهل، كما أخطأ في ذلك أهل التحريف والتأويلات الفاسدة وسائر أصناف الملاحدة.
ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها، وألفاظ من نقل مذهبهم إلى غير ذلك من الوجوه بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما لم يعلم به مذهبهم.([43])(18/27)
روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى ذكره فوق عرشه ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته.
وقد حكى الأوزاعي -وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابع التابعين الذين هم: مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق- حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش، وبصفاته السمعية.([44])
وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف خلاف ذلك.
وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها كما جاءت.
وروى أيضا عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت. وفي رواية. فقالوا أمروها كما جاءت بلا كيف.
فقولهم رضي الله عنهم أمروها كما جاءت، رد على المعطلة، وقولهم بلا كيف، رد على الممثلة، والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما.([45])
وروى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرَّف بن عبد الله([46]) قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد من خلق الله تعالى تغييرها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتَّبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.(18/28)
وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق.
وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه.
منها ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبدالله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا. فأمر به أن يخرج.
فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نَفَوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة.
ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ([47]) ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنَّ الاستواء حينئذ لا يكون معلوما بل مجهولا بمنزلة حروف المعجم.
وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية، إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتتَ الصفات.
وأيضا فإن من ينفي الصفات الخبرية، أو الصفات مطلقا لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان من مذهب السلف، نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف.(18/29)
وأيضا فقولهم: أمروها كما جاءت. يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظ دالة على معاني؛ فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن الله([48]) لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذْ نفى الكيف عما ليس بثابت لغو من القول.([49])
وروى الأثرم في السنة، وأبو عبد الله بن بطة في الإبانة، وأبو عمرو الطلمنكي وغيرهم بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون -وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة الذين هم: مالك بن أنس، وابن الماجشون، وابن أبي ذئب- وقد سئل عما جحدت به الجهمية:
أما بعد: فقد فهمتُ ما سألتَ فيما تتابعت الجهمية ومن خَالفَها، في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتدبر وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحصرت العقول دون معرفة قدرته، وردت عظمتَه([50]) العقولُ فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وهي حسيرة، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول، ولم يزل، وليس له مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى، وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى، يعرفه عارف أو يحد قدْرَه واصف على أنه الحق المبين لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه. الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، لا تكاد تراه صغرا يجول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر؛ لما يتقلب به ويحتال من عقله، أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين، وخالقهم وسيد السادة وربهم ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].(18/30)
اعرف رحمك الله غِناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها؛ إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف، هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزدجر به عن شيء من معصيته؟
فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد ?اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ?[الأنعام:71]، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمَّى من نفسه بأن قال: لابد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البيّن بالخفي، فجحد ما سمى الرب من نفسه، بصمتٍ عمّا لم يسم منها، فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ?[القيامة:22-23]، فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه، ونضرته إياهم ?فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ?[القمر:55].
قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون، إلى إن قال: وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة؛ لأنه قد عرف أنه إذا تجلّى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين، وكان له جاحدا.
وقال المسلمون: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟» قالوا: لا. قال «فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟» قالوا: لا. قال: «فإنكم ترون ربَّكم يومئذ كذلك».
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تمتلئ النار حتى يضع الجبَّار فيها قدمه، فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض».
وقال لثابت بن قيس «لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة».(18/31)
وقال فيما بلغنا «إن الله تعالى ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم» فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال «نعم»، قال: لا نُعْدَمُ من رب يضحك خيرا. إلى أشباه لهذا مما لا نحصيه.
وقال تعالى ?وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا?[الطور:48]، وقال تعالى ?وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي?[طه:39]، وقال تعالى ? مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وقال تعالى?وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ?[الزمر:67].
فوالله ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم، إن ذلك الذي أُلقي في روعهم، وخلق على معرفة قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه -لا هذا ولا هذا- لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. ([51])
اعلم رحمك الله أنَّ العصمة في الدين أن تنتهيَ في الدين حيث انتهى بك ولا تجاوز ما قد حد لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارثت علمه الأمة، فلا تخافنَّ في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيبا، ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدرا.
وما أنكرته نفسك، ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث عن نبيك -من ذكر صفة ربك- فلا تكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك واصمت عنه كما صمت الرب عنه([52]) من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل انكار ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها.([53])(18/32)
فقد –والله- عزَّ المسلمون الذين يعرفون المعروف وبهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن.
وما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى وما وصف الرب تعالى من نفسه.
والراسخون في العلم -الواقفون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم بما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها- لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدا، ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقا؛ لأن الحق ترك ما ترك وتسمية ما سمى، ?وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115]. وهب الله لنا ولكم حكما وألحقنا بالصالحين.
وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام فتدبره، وانظر كيف أثبت الصفات ونفى علم الكيفية موافقة لغيره من الأئمة، وكيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا كما تقوله الجهمية: أنه يلزم أن يكون جسما أو عَرَضا فيكون محدَثا.([54])
وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر؟ فقال: لا تكفرن أحدا بذنب، ولا تنف أحدا به من الإيمان، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا توالي أحدا دون أحد([55])، وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله عز وجل.
قال أبو حنيفة: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأنْ يفقه الرجلُ([56]) كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير.(18/33)
قال أبو مطيع الحكم بن عبد الله قلت: أخبرني عن أفضل الفقه، قال: تعلم الرجل الإيمان، والشرائع والسنن، والحدود، واختلاف الأئمة، وذَكَرَ مسائل الإيمان، ثم ذكر مسائل القدر، والرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعَه.
ثم قال: قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك أناس فيخرج على الجماعة، هل ترى ذلك؟ قال: لا. قلت: ولم؟ قال: أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ قال: هو كذلك لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام.
قال: وذكر الكلام في قتل الخوارج والبغاة إلى أن قال: قال أبو حنيفة عمن قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض: فقد كفر؛ لأن الله يقول ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5] وعرشه فوق سبع سموات.
قلت: فإن قال أنه على العرش استوى، ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعا من أعلى لا من أسفل.
وفي لفظ سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض قال: قد كفر. قال: لأن الله يقول ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وعرشه فوق سبع سموات، قال: فإنه يقول على العرش استوى، ولكن لا يدرى العرش في الأرض أو في السماء، قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.
ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه أنه كفَّر الواقف([57]) الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؛ فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول: ليس في السماء أو ليس في السماء ولا في الأرض، واحتج على كفره بقوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، قال: وعرشه فوق سبع سموات.
وبين بهذا أنّ قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) يبين أن الله فوق السماوات، فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش.(18/34)
ثم أنه أردف ذلك بتكفير من قال إنه على العرش استوى. ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض، قال: لأنه أنكر أنه في السماء لأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.
وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء، واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وقد جاء اللفظ الآخر صريحا عنه بذلك فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. ([58])
وروى هذا اللفظ بإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب الفاروق، وروى أيضا ابن أبي حاتم أن هشام بن عبيد الله الرازي -صاحب محمد بن الحسن، قاضي الري- حبس رجلا في التجهم، فتاب فجئ به إلى هشام ليُطلقه فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب.([59])
وروى أيضا عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضِلِّيل وهالك مرتاب، يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان. ([60])
وروى أيضا عن ابن المديني لما سئل ما قول أهل الجماعة قال: يؤمنون بالرؤية والكلام. وأن الله فوق السماوات على العرش استوى، فسئل عن قوله ? مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ?[المجادلة:7]، فقال اقرأ ما قبلها ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ?[المجادلة:7].
وروى أيضا عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه، وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان.(18/35)
وروى عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، فقال تفسيره كما تقرأ: هو على العرش وعلمه في كل مكان، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله.([61])
وروى أبو القاسم اللالكائي الحافظ الطبري -صاحب أبي حامد الإسفرائيني- في كتابه المشهور في أصول السنة بإسناده عن محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة- قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسَّر اليوم شيئا منها فقد خرج مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفارق الجماعة، فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء.
محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء، وقد حكى هذا الإجماع، وأخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالبا أو دائما، وقوله من غير تفسير أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الإثبات.
وروى البيهقي وغيره بإسناد صحيح عن أبي عبيد القاسم بن سلاّم قال: هذه الأحاديث التي يقول فيها «ضحِك ربُّنا من قنوط عبادة وقرب غيره»، و«إنَّ جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك فيها قدمه»، و«الكرسي موضع القدمين»، وهذه الأحاديث في الرؤية هي عندنا حق حملها الثقات بعضهم عن بعض؛ غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها، وما أدركْنا أحدا يفسرها.
أبو عبيد أحد الأئمة الأربعة الذين هم: الشافعي، وأحمد، وإسحاق وأبو عبيد، وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل ما هو أشهر من أن يوصف، وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء، وقد أخبر أنه ما أدرك أحدا من العلماء يفسرها -أي تفسير الجهمية-.(18/36)
وروى اللالكائي والبيهقي بإسنادهما عن عبد الله بن المبارك أن رجلا قال له: يا أبا عبد الرحمن أني أكره الصفة -عني صفة الرب-. فقال له: عبد الله بن المبارك وأنا أشد الناس كراهية لذلك، ولكن إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه ونحو هذا.
أراد ابن المبارك أنا نكره أن نبتدئ بوصف الله من تلقاء أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار.
وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية: أنه هاهنا في الأرض. وهكذا قال الإمام أحمد وغيره.
وروى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء.
وروى ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي -إمام أهل البصرة علما ودينا من شيوخ الإمام أحمد- أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم أشر قولا من اليهود والنصارى، وقد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وهم قالوا: ليس على شيء.
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة: من لم يقل: إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة، ولا أهل الذمة. ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن عباد بن العوام الواسطي -إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد- قال: كلمتُ بشرا المريسي، وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء.
وعن عبد الرحمن بن مهدى الإمام المشهور أنه قال: ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء، أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا.(18/37)
وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الرحمن بن مهدى قال: أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: إن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء، وإن الله ليس على العرش. أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
وعن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فنزلت بالدباغين فقال رجل عندها: الله على عرشه، فقالت محدود على محدود، فقال الأصمعي كفرت بهذه المقالة.
وعن عاصم بن علي بن عاصم -شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما- قال: ناظرت جهما فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربا.
وروى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني قال أخبرنا سريج بن النعمان، قال: سمعت عبد الله بن نافع الصائغ قال: سمعت مالك بن أنس يقول: الله في السماء، وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان.
وقال الشافعي: خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء وجمع عليه قلوب عباده.
وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات. وهذا مثل قول الشافعي.
وقصة أبي يوسف -صاحب أبي حنيفة- مشهورة في استتابة بشر المريسي حتى هرب منه لما أنكر الصفات وقال بقول جهم قد ذكرها بن أبي حاتم وغيره.
وقال أبو عبد الله محمد بن أبي زَمَنِين -الإمام المشهور من أئمة المالكية- في كتابه الذي صنفه في أصول السنة قال فيه: باب الإيمان بالعرش.
قال: ومن قول أهل السنة: أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وقوله ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ?[الحديد:4] الآية.(18/38)
فسبحان من بعد وقرب بعلمه، فسمع النجوى، وذكر حديث أبي رزين العقيلي؛ قلتُ يا رسول الله: أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال «في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء» قال محمد: العماء السحاب الكثيف المُطْبِق -فيما ذكره الخليل- وذكر آثارا أخر.([62])
ثم قال: باب الإيمان بالكرسي. قال محمد بن عبد الله: ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش، وأنه موضع القدمين. ثم ذكر حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة، وفيه فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه، ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها.
وذكر ما ذكره يحيى بن سالم صاحب التفسير المشهور: حدثني العلاء بن هلال عن عمار الدهني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الكرسي الذي وسع السموات والأرض وموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه.
وذكر من حديث أسد بن موسى ثنا حماد بن سلمة، عن زر عن ابن مسعود قال: ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه.
ثم قال في باب الإيمان بالحجب، قال: ومن قول أهل السنة أن الله بائن من خلقه يحتجب عنهم بالحجب فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ?كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا?[الكهف:5]، وذكر آثارا في الحجب.(18/39)
ثم قال: في باب الإيمان بالنزول، قال: ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا، وذكر الحديث من طريق مالك وغيره. إلى أن قال: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري([63]) عن ابن عباد قال: ومن أدركت من المشائخ -مالك وسفيان وفضيل بن عياض وعيسى بن المبارك ووكيع- كانوا يقولون: إنّ النزول حق.
قال ابن وضاح: وسألت يوسف بن عدي عن النزول، قال: نعم. أومن به ولا أحد فيه حدا. وسألت عنه ابن معين، فقال: نعم أٌقِرُّّ به ولا أحد فيه حدا.
قال محمد: وهذا الحديث يبين أن الله عز وجل على العرش في السماء دون الأرض، وهو أيضا بين في كتاب الله وفي غير حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى ? يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ?[السجدة:5]، وقال تعالى ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ(16)أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ?[الملك:16-17]، وقال تعالى ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، وقال ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ?[الأعراف:18 و61]، وقال تعالى ?يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ?[آل عمران:55]، وقال ?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ?[النساء:58].
وذكر من طريق مالك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للجارية «أين الله؟» قالت: في السماء. قال «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله. قال «فاعتقها».
قال: والأحاديث مثل هذا كثيرة جدا، فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض، لا إله إلا هو العلي العظيم.(18/40)
وقال قبل ذلك في الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه، قال: وأعلم بأن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله، ([64]) يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علما، والعجز عن ما لم يدع إليه إيمانا، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه، وعلى لسان نبيه.
وقد قال -وهو أصدق القائلين- ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ?[القصص:88]، وقال ?قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ?[الأنعام:19]، وقال ?وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ?[ آل عمران:28 و30]، وقال ?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي?[الحجر:29]، وقال ?فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا?[الطور:48]، وقال ?وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي?[طه:39]، وقال ?وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، وقال ?وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ?[الزمر:67]الآية، وقال ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه:36]، وقال ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا?[النساء:164]، وقال تعالى ?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?[النور:35] الآية، وقال ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة:255] الآية، وقال ?هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ?[الحديد:3]، ومثل هذا في القرآن كثير.
فهو تبارك وتعالى نور السموات والأرض، كما أخبر عن نفسه، وله وجه ونفس وغير ذلك مما وصف به نفسه، ويسمع ويرى ويتكلم، هو الأول لا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية ولا شيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيء والباطن بَطُنَ([65]) علمُه بخلقه فقال: وهو بكل شيء عليم، قيوم حي لا تأخذه سنة ولا نوم.(18/41)
وذكر أحاديث الصفات ثم قال: فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه، وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير، ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، لم تره العيون فتحدَّه كيف هو، ولكن رأته القلوب في حقائق الإيمان. ا.هـ([66])
وكلام الأئمة في هذا الباب أطول وأكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره، وكذلك كلام الناقلين لمذهبهم.
مثل ما ذكره أبو سليمان الخطَّابي في رسالته المشهورة في الغنية عن الكلام وأهله، قال: فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة. فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه.
والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويُحتذا في ذلك حذوه وأمثاله. فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: أن معنى اليد القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي وبالأسماع وبالأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول إن القول إنما وجب بإثبات الصفات لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لأن الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات. هذا كله كلام الخطابي. ([67])
وهكذا قاله أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك.(18/42)
وهذا الكلام الذي ذكره الخطّابي قد نقل نحوا منه من العلماء ما لا يحصى عددهم مثل أبي بكر الإسماعيلي، والإمام يحيى بن عمار السجزي، وشيخ شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي([68])، صاحب منازل السائرين وذم الكلام وهو أشهر من أن يوصف، وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني، وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب، وغيرهم.
وقال أبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية في عقيدة له قال في أولها: طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ قال: فمما اعتقدوه أنّ الأحاديث التي ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرش واستواء الله يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وإن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم([69])، وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه.(18/43)
وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه محجة الواثقين ومدرجة الوامقين تأليفه: وأجمعوا أنّ الله فوق سمواته عالٍ على عرشه مستو عليه، لا مستول عليه كما تقول الجهمية أنه بكل مكان خلافا لما نزل في كتابه ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ?[الملك:16]، ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ?[فاطر:10]، ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، له العرش المستوي عليه والكرسي الذي وسع السموات والأرض، وهو قوله ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ?[البقرة:255]، وكرسيه جسم، والأرضون السبع والسموات السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة، وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية؛ بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، كما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفا صفا، كما قال تعالى ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22]، وزاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين، ويعذب من يشاء. كما قال تعالى ?يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ?[آل عمران:129، المائدة:18، الفتح:14]. ([70])
وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني -شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده- قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كيف وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين.(18/44)
قال فيها وأن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، والاستواء معقول والكيف فيه مجهول، وأنه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق، وأن الله عز وجل سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، فيقول: هل من داع فاستجيبَ له؟ هل من مستغفر فاغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر، ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه، ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وسائر الصفوة من العارفين على هذا. ا.هـ([71])
وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتاب السنة: ثنا أبو بكر الأثرم، ثنا إبراهيم بن الحارث -يعني العبادي- حدثنا الليث بن يحيى، قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث، قال أبو بكر -وهو صاحب الفضيل- قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؛ لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)?[الإخلاص]، فلا صفةَ أبلغُ مما وصف به نفسه.
وكل هذا: النزول، والضحك، وهذه المباهاة، وهذا الإطلاع، كما يشاء أن ينزل، وكما يشاء أن يباهي، وكما يشاء أن يضحك، وكما يشاء أن يطَّلع. فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف؟ فإذا قال الجهمي: أنا أكفر بربٍّ يزول عن مكانه. فقل: بل أومن برب يفعل ما يشاء.
ونقل هذا عن الفضيل جماعة؛ منهم البخاري في أفعال العباد، ونقله شيخ الإسلام بإسناده في كتابه الفاروق فقال: ثنا يحيى بن عمار ثنا أبي، قال ثنا يوسف بن يعقوب، قال ثنا حرمي بن علي البخاري وهانئ بن النضر عن الفضيل.(18/45)
وقال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه التعرف بأحوال العباد والمتعبدين قال: باب ما يجيء به الشيطان للتائبين، وذكر أنه يوقعهم في القنوط، ثم في الغرور وطول الأمل، ثم في التوحيد، فقال: من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكل أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل.([72]) فقال بعد ذكر حديث الوسوسة:
وأعلم -رحمك الله- أن كلما توهمه قلبك، أو سنح في مجارى فكرك، أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء، أو ضياء أو إشراق، أو جمال، أو سنح مسائل، أو شخص متمثل: فالله تعالى بغير ذلك بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر، ألا تسمع لقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]، وقوله ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4] أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مِثل، أو لم تعلم أنه لما تجلَّى للجبل تدكدك لعظم هيبته، وشامخ سلطانه، فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك، كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك، فَرُدَّ بما بيّن الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل والنظير والكفْء.
فإن اعتصمت بها وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب تبارك وتعالى وتقدس في كتابه وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال لك: إذا كان موصوفا بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة الرب تعالى.(18/46)
وأعلم -رحمك الله تعالى- أنَّ الله تعالى واحد لا كالآحاد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، إلى أن قال: خلصت له الأسماء السَّنية فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث تعالى صفة كان منها خليا، واسما كان منه بريا تبارك وتعالى، فكان هاديا سيهدي، وخالقا سيخلق، ورازقا سيرزق، وغافرا سيغفر، وفاعلا سيفعل، ولم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل، فهو يسمى به في جملة فعله، كذلك قال الله تعالى ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22] بمعنى أنه سيجيء، فلم يستحدث الاسم بالمجيء، وتخلف الفعل لوقت المجيء، فهو جاء سيجيء، ويكون المجيء منه موجودا بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه؛ لأن ذلك فعل الربوبية، فيستحسر العقل وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود، فلا تذهب في أحد الجانبين لا معطلا ولا مشبها، وارض لله بما رضي به لنفسه، وقِف عند خبره لنفسه مسلما مستسلما، مصدقا؛ بلا مباحثة التنفير ولا مناسبة التنقير. ([73])(18/47)
إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل أنا الله، لا الشجرة الجائي قبل أن يكون جائيا، لا أمره المتجلي لأوليائه في المعاد؛ فتبيض به وجوههم، وتفلج به على الجاحدين حجتهم، المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان تبارك وتعالى، الذي كلم موسى تكليما، وأراه من آياته، فسمع موسى كلام الله لأنه قربه نجيا، تقدَّس أن يكون كلامه مخلوقا أو محدثا أو مربوبا، والوارث بخلقه لخلقه السميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسامهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته، خلق آدم ونفخ فيه من روحه -وهو أمره تعالى وتقدس أن يحل بجسم، أو يمازج بجسم، أو يلاصق به تعالى عن ذلك علوا كبيرا، الشائي له المشيئة، العالم له العلم، الباسط يديه بالرحمة، النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة، وليرغبوا إليه بالوسيلة، القريب في قربه من حبل الوريد، البعيد في علوه من كل مكان بعيد، ولا يشبه بالناس.
إلى أن قال ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، القائل ?أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ(16) أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا?[الملك:16-17] تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء جل عن ذلك علوا كبيرا. ا.هـ([74])
وقال الإمام أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي في كتابه المسمى فهم القرآن قال -في كلامه على الناسخ والمنسوخ وأن النسخ لا يجوز في الأخبار- قال: لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وصفاته ولا أسماءه يجوز أن ينسخ منها شيء.(18/48)
إلى أن قال: وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عُليا أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى، فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب، وأنه لا يبصر ما قد كان، ولا يسمع الأصوات، ولا قدرة له، ولا يتكلم، ولا الكلام كان منه، وأنه تحت الأرض لا على العرش جل وعلا عن ذلك.
فإذا عرفت ذلك واستيقنته علمت ما يجوز عليه النسخ وما لا يجوز، فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون ?حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ?[يونس:90] الآيات، وقال ?حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ?[محمد:31].
وقال: قد تأول قوم أن الله عنى أن ينجيه ببدنه من النار لأنه آمن عند الغرق، وقال: إنما ذكر اللهُ أن قوم فرعون يدخلون النار دونه، وقال ?فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ?[هود:98]، وقال ?وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ?[غافر:45]، ولم يقل بفرعون، قال: وهكذا الكذب على الله؛ لأن الله تعالى يقول ?فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى?[النازعات:25]، كذلك قوله ?فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا?[العنكبوت:3] فاقرأ التلاوة على استئناف العلم من الله عز وجل عن أن يستأنف علما بشيء؛ لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر أن يصنعه -نجده ضرورة-.
قال ?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك:14]، قال: وإنما قوله (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ) إنما يريد حتى نراه، فيكون معلوما موجودا؛ لأنه لا جائز أن يكون يعلم بالشيء معدوما من قبل أن يكون، ويعلمه موجودا كان قد كان، فيعلم في وقت واحد معدوما موجودا، وإن لم يكن وهذا محال.
وذكر كلاما في هذا في الإرادة.([75])(18/49)
إلى أن قال: وكذلك قوله ? إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ?[الشعراء:15] ليس معناه أنه يحدث له سمعا، ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم، وقد ذهب قوم من أهل السنة أنَّ لله استماعا في ذاته، فذهبوا إلى أنَّ ما يعقل من أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقد فهم عما أدركته أذنه من الصوت، وكذلك قوله ?وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ?[التوبة:105]، لا يستحدث بصرا محدثا في ذاته،([76]) وإنما يحدث الشيء فيراه مكونا كما لم يزل يعلمه قبل كونه.
إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ?[الأعراف:18 و61]، وقوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وقوله ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ?[الملك:16]، وقوله ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، وقال ?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ?[السجدة:5]، وقال ?تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ?[المعارج:4]، وقال لعيسى ?إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا?[آل عمران:55] الآية، وقال ?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ?[النساء:158]، وقال ?إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ?[الأعراف:206].
وذكر الآلهة أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا حيث هو فقال ?قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا?[الإسراء:42]، أي طلبه، وقال ?سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى?[الأعلى:1].
قال أبو عبد الله فلن ينسخ ذلك لهذا أبدا.(18/50)
كذلك قوله ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]، وقوله ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16]، وقوله ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ?[الأنعام:3]، وقوله ?مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ?[المجادلة:7] الآية، فليس هذا بناسخ لهذا، ولا هذا ضد لذلك.
واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته فيكون في أسفل الأشياء، أو ينتقل فيها لانتقالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فنائها، جل وعز عن ذلك، وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال، فزعموا أن الله تعالى في كل مكان بنفسه كائنا، كما هو على العرش، لا فرقان بين ذلك، ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأن كل من يثبت شيئا في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه، واحتجوا بهذه الآيات؛ أنّ الله تعالى في كل شيء بنفسه كائنا ثم نفوا معنى ما أثبتوه، فقالوا: لا كالشيء في الشيء.
قال أبو عبد الله لنا قوله ?حَتَّى نَعْلَمَ?[محمد:31]، ?وَسَيَرَى اللَّهُ?[التوبة:94]، و?إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ?[الشعراء:15]، فإنما معناه حتى يكون الموجود فيعلمه موجودا، ويسمعه مسموعا، ويبصره مُبْصَرا لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر.
وأما قوله ?إِذَا أَرَدْنَا?[الإسراء:16]، إذا جاء وقت كون المراد فيه.(18/51)
وأن قوله ?عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ?وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ?[الأعراف:18 و61] الآية، ?أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16] ?إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا?[الإسراء:42]،([77]) فهذا وغيره مثل قوله ?تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ?[المعارج:4]، ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ?[فاطر:10]، هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء كلها منزه عن الدخول في خلقه، لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده لأنه قال ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]، يعني فوق العرش والعرش على السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء، وقد قال مثل ذلك في قوله ?فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ?[التوبة:2]، يعني على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها. وكذلك قوله ?يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ?[المائدة:26] يعني على الأرض لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله ?وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ?[طه:71] يعني فوقها عليها.
وقال ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ ?، ثم فصل فقال ?أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]، ولم يصل فلم يكن لذلك معنى -إذ فصل قوله (مَنْ فِي السَّمَاءِ)، ثم استأنف التخويف بالخسف-، إلا أنه على عرشه فوق السماء.(18/52)
وقال تعالى ?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ?[السجدة:5]، وقال ?تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ?[المعارج:4]، فبين عروج الأمر وعروج الملائكة، ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال ?فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ?[المعارج:4]، فقال صعودها إليه، وفصله من قوله (إِلَيْهِ) كقول القائل إصعد إلى فلان في ليلة أو يوم، وذلك أنه في العلو وأن صعودك إليه في يوم، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل، وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع في علوه فإنهم صعدوا من الأرض وعرجوا بالأمر إلى العلو، قال تعالى ?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ?[النساء:158]، ولم يقل عنده.
?وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى? ثم استأنف الكلام فقال ?وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا?[غافر:36-37]، فيما قال: قال لي أن إلهه فوق السموات.
فبين الله سبحانه وتعالى أنّ فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال: قال وعمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب ولو أن موسى قال إنه في كل مكان بذاته لطلبه في بيته أو في بدنه أو حُشِّه،([78]) فتعالى الله عن ذلك ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح.(18/53)
قال أبو عبد الله: وأما الآية التي يزعمون أنها قد وصلها ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه فقال ?أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ?[المجادلة:7] فأخبر بالعلم ثم أخبر أنه مع كل مناج ثم ختم الآية بالعلم بقوله ?إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[المجادلة:7]، فبدأ بالعلم وختم بالعلم، فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا لا يخفون عليه، ولا يخفى عليه مناجاتهم، ولو اجتمع القوم في أسفل وناظر إليهم في العلو فقال: إني لم أزل أراكم وأعلم مناجاتكم لكان صادقا -ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق- فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة، وقالوا هذا منكم دعوى. خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة؛ لأن من هو مع الاثنين فأكثر هو معهم لا فيهم، ومن كان مع شيء خلا جسمه وهذا خروج من قولهم.
وكذلك قوله تعالى ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16]؛ لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليس في حبل الوريد.
وكذلك قوله ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]، لم يقل في السماء ثم قطع -كما قال ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ?[الملك:16] ثم قطع فقال ?أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]- فقال (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ) يعني إله أهل السماء إله أهل الأرض وذلك موجود في اللغة، تقول فلان أمير في خراسان، وأمير في بَلْخ، وأمير في سمرقند، وإنما هو في موضع واحد، ويخفى عليه ما وراءه، فكيف العالي فوق الأشياء لا يخفى عليه شيء من الأشياء يدبره، فهو إله فيهما إذ كان مدبرا لهما، وهو على عرشه وفوق كل شيء تعالى عن الأشباه والأمثال.([79])(18/54)
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه: اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات قال في آخر خطبته: فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه، قولا واحدا وشرعا ظاهرا، وهم الذين نقلوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك حتى قال «عليكم بسنتي» وذكر الحديث، وحديث «لعن الله من أحدث حدثا» قال: فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف، وهم الذين أُمرنا بالأخذ عنهم إذ لم يختلفوا بحمد الله تعالى في أحكام التوحيد وأصول الدين من الأسماء والصفات، كما اختلفوا في الفروع، ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنُقل إلينا كما نقل سائر الاختلاف، فاستقر صحة ذلك عند خاصتهم وعامتهم حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان، فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين حتى نقلوا ذلك قرنا بعد قرن؛ لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر ولله المنة.
ثم إني قائل: وبالله أقول أنه لما اختلفوا في أحكام التوحيد وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين من الصحابة والتابعين، فخاض في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار، ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار، وصار معولهم على أحكام هوى حسن النفس المستخرجة من سوء الظن به([80]) على مخالفة السنة، والتعلق منهم بآيات لم يسعدهم فيها ما وافق النفوس، فتأولوا على ما وافق هواهم وصححوا بذلك مذاهبهم، احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين، ومأخذ المؤمنين، ومنهاج الأولين؛ خوفا من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ومنع المستجيبين له حتى حذرهم.
ثم ذكر أبو عبد الله خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يتنازعون في القدر وغضبه، وحديث «لألفين أحدكم» وحديث «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» وأن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه.(18/55)
ثم قال: فلزم الأمةَ قاطبة معرفةُ ما كان عليه الصحابة،([81]) ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة التابعين لهم بإحسان المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة، فيتصل ذلك قرنا بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة والأمانة، الحافظين على الأمة ما لهم وما عليهم من إثبات السنة.
إلى أن قال: فأول ما نبتدئ به ما أوردنا هذه المسألة من أجلها، ذكر أسماء الله عز وجل وصفاته مما ذكر الله في كتابه، وما بين - صلى الله عليه وسلم - من صفاته في سنته، وما وصف به عز وجل نفسه مما سنذكر قول القائلين بذلك مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك ومما قد أُمرنا بالاستسلام له. ([82])
إلى أن قال: ثم إن الله تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية، والإقرار بالألوهية: إن ذكر تعالى في كتابه بعد التحقيق، بما بدأ من أسمائه وصفاته، وأكده عليه السلام بقوله، فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله لا إله إلا الله.
إلى أن قال بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل، فقال لموسى عليه السلام ?وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي?[طه:41]، وقال ?وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ?[ آل عمران:28 و30.].
ولصحة ذلك، واستقرار ما جاء به المسيح عليه السلام فقال ?تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ?[المائدة:116].
وقال عز وجل ?كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ?[الأنعام:54]، وأكد عليه السلام صحة إثبات ذلك في سنته فقال يقول الله عز وجل «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي».
وقال «كتب كتابا بيده على نفسه أن رحمتي غلبت غضبي»، وقال «سبحان الله رضي نفسه» وقال في محاجة آدم لموسى «أنت الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه».
فقد صرح بظاهر قوله أنه أثبت لنفسه نفسا، وأثبت له الرسول ذلك؛ فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر الله به عن نفسه، ويكون ذلك مبنيا على ظاهر قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]. ([83])(18/56)
ثم قال فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه السلام بنقل العدل عن العدل حتى يتصل به - صلى الله عليه وسلم -، وأن مما قضى الله علينا في كتابه ووصف به نفسه ووردت السنة بصحة ذلك أن قال ?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?، ثم قال عقيب ذلك ?نُورٌ عَلَى نُورٍ?[النور:35]، وبذلك دعاه - صلى الله عليه وسلم - «أنت نور السموات والأرض»، ثم ذكر حديث أبي موسى «حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وقال (سُبحات وجهه) جلاله ونوره، نقله عن الخليل وأبي عبيد، وقال: قال عبد الله بن مسعود: نور السموات نور وجهه.([84]) ([85])
ثم قال: ومما ورد به النص أنه حي، وذكر قوله تعالى ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة:255] والحديث «يا حي يا قيوم برحمتك استغيث».
قال ومما تعرف الله إلى عباده أنْ وصف نفسه أن له وجها موصوفا بالجلال والإكرام فأثبت لنفسه وجها، وذكر الآيات.
ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم فقال في هذا الحديث مِن أوصاف الله عز وجل (لا ينام) موافق لظاهر الكتاب ?لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ?[البقرة:255]، وأن له وجها موصوفا بالأنوار وأن له بصرا كما علمنا في كتابه أنه سميع بصير.
ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه, وفي إثبات السمع والبصر, والآيات الدالة على ذلك.
ثم قال: ثم إن الله تعالى تعرف إلى عباده المؤمنين, وأنه قال: له يدان قد بسطهما بالرحمة. وذكر الأحاديث في ذلك, ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت, ثم ذكر حديث: «يلقى في النار وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رجلَه»([86]) وهي رواية البخاري وفي رواية أخرى «يضع عليها قدمه».(18/57)
ثم ما رواه مسلم البَطين عن ابن عباس: أنَّ الكرسي موضع القدمين. وأن العرش لا يقدر قدره إلا الله, وذكر قول مسلم البطين نفسَه, وقول السدي, وقول وهب بن منبه, وأبي مالك, وبعضهم يقول: موضع قدميه. وبعضهم يقول: واضع رجليه عليه.
ثم قال: فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة موافقة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - متداولة في الأقوال و محفوظة في الصدر، ولا ينكر خلف عن السلف، ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم, نقلتها الخاصة والعامة مدونة في كتبهم، إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم ممن حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مجالستهم ومكالمتهم, وأمرنا أن لا نعود مرضاهم, ولا نشيع جنائزهم, فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس, وكَفَّروا المتقدمين, وأنكروا على الصحابة والتابعين وردوا على الأئمة الراشدين فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل. ([87])
ثم ذكر المأثور عن ابن عباس, وجوابَه لنجدة الحروري؛ ثم حديث الصورة وذكر أنه صنف فيه كتابا مفردا, واختلاف الناس في تأويله.
ثم قال: وسنذكر أصول السنة وما ورد من الاختلاف فيما نعتقده فيما خالفنا فيه أهل الزيغ, وما وافقنا فيه أصحاب الحديث من المثبتة -إن شاء الله-.
ثم ذكر الخلاف في الإمامة واحتج عليها, وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم الصديق وأنه أفضل الأمة.
ثم قال: وكان الاختلاف في خلق الأفعال, هل هي مقدَّرة أم لا؟ قال: وقولنا فيها أنَّ أفعال العباد مقدرة معلومة وذكر إثبات القدر.
ثم ذكر الخلاف في أهل الكبائر ومسألة الأسماء والأحكام، وقال: قولنا فيها أنهم مؤمنون على الإطلاق, وأمرهم إلى الله, إن شاء عذبهم, وإن شاء عفا عنهم.(18/58)
وقال: أصل الإيمان موهبة يتولد منها أفعال العباد فيكون أصل التصديق والإقرار والأعمال, ([88]) وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه، وقال: قولنا إنه يزيد وينقص. قال: ثم كان الاختلاف في القرآن مخلوقا وغير مخلوق، فقولنا وقول أئمتنا أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه صفة الله منه بدأ قولا، وإليه يعود حكما.
ثم ذكر الخلاف في الرؤية وقال: قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد أنَّ الله يُرى في القيامة، وذكر الحجة.
ثم قال: اعلم رحمك الله أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدثين في كل الأزمنة. وقد بدأت أن أذكر أحكام الجمل([89]) من العقود، فنقول ونعتقد أنَّ الله عز وجل له عرش، وهو على عرشه فوق سبع سمواته([90]) بكل أسمائه وصفاته، كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، و?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ?[السجدة:5]، ولا نقول أنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه؛ لأنه عالم بما يجرى على عباده ثم يعرج إليه.
إلى أن قال: ونعتقد أن الله تعالى خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء([91]) لا للفناء.
إلى أن قال: ونعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرج بنفسه إلى سدرة المنتهى.
إلى أن قال: ونعتقد أن الله قبض قبضتين فقال «هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار».
ونعتقد أن للرسول - صلى الله عليه وسلم - حوضا، ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفَّع، وذكر الصراط، والميزان، والموت، وأن المقتول قُتل بأجله([92])، واستوفى رزقه.
إلى أن قال: ومما نعتقد أنَّ الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيبسط يده فيقول «ألا هل من سائل» الحديث، وليلة النصف من شعبان،([93]) وعشية عرفة، وذكر الحديث في ذلك. قال: ونعتقد أن الله تعالى كلم موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا، وأن الخلة غير الفقر، لا كما قال أهل البدع.(18/59)
ونعتقد أنّ الله تعالى خص محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية، واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا.
ونعتقد أن الله تعالى اختص بمفاتح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله ?إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ?[لقمان:34]الآية.
ونعتقد المسح على الخفين ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم.
ونعتقد الصبر على السلطان من قريش([94]) ما كان من جور أو عدل، ما أقام الصلاة من الجمع والأعياد، والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة، والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب إذا لم يكن عذر أو مانع، والتراويح سنة، ونشهد أن من ترك الصلاة عمدا فهو كافر، والشهادة والبراءة([95]) بدعة، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، ولا ننزل أحدا جنة ولا نارا حتى يكون الله ينزلهم،([96]) والمراء والجدال في الدين بدعة.
ونعتقد أن ما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم إلى الله، ونترحم على عائشة ونترضى عنها([97]).
والقول في اللفظ والملفوظ؛ وكذلك في الاسم والمسمى بدعة، ([98]) والقول في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة، واعلم أني ذكرت اعتقاد أهل السنة على ظاهر ما ورد عن الصحابة والتابعين مجملا من غير استقصاء، إذْ تقدم القول من مشائخنا المعروفين من أهل الإبانة والديانة إلا إني أحببت أن أذكر عقود أصحابنا المتصوفة فيما أحدثته طائفة نسبوا إليهم ما قد تخرصوا من القول بما نزه الله تعالى المذهب وأهله من ذلك.
إلى أن قال: وقرأت لمحمد بن جرير الطبري في كتاب سماه التبصير، كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم؛ وسألوه أن يصنف لهم ما يعتقده ويذهب إليه فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية الله تعالى؛ فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة.(18/60)
ونسب هذه المقالة إلى الصوفية قاطبة، لم يخص طائفة، فبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المخلصين منهم، وكان من نسب إليه ذلك القول -بعد أن ادعى على الطائفة- ابن أخت عبد الواحد بن زيد، والله أعلم محله عند المخلصين، فكيف بابن أخته، وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولا نسب إلى الجملة؛ كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولا في الفقه، وليس فيه حديث يناسب ذلك ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين.
وأعلم أنّ ألفاظ الصوفية وعلومهم تختلف، فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجري فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه رجع عنهم وهو خاسئا وهو حسير.
ثم ذكر إطلاقهم لفظ الرؤية بالتقييد. فقال: كثيرا ما يقولون: رأيت الله يقول. وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل هل رأيت الله حين عبدته؟ قال: رأيت الله ثم عبدته. فقال السائل: كيف رأيته؟ فقال: لم تره الأبصار بتحديد الأعيان، ولكن رؤية القلوب بتحقيق الإيقان.
ثم قال: وإنه تعالى يرى في الآخرة كما أخبر في كتابه وذكره رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
هذا قولنا وقول أئمتنا دون الجهال من أهل الغباوة فينا.
وأن مما نعتقده أن الله حرم على المؤمنين دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وذكر ذلك في حجة الوداع. فمن زعم أنه يبلغ مع الله إلى درجة يبيح الحق له ما حظر على المؤمنين -إلا المضطر على حال يلزمه أحياء للنفس- لو بلغ العبد ما بلغ من العلم والعبادات فذلك كفر بالله، والقائل ذلك قائل بالإباحة وهم المنسلخون من الديانة.
وأن مما نعتقده ترك إطلاق تسمية العشق على الله تعالى؛ وبيَّن أن ذلك لا يجوز لاشتقاقه، ولعدم ورود الشرع به، وقال: أدنى ما فيه أنه بدعة وضلالة، وفيما نص الله من ذكر المحبة كفاية.([99])(18/61)
وأن مما نعتقده أنَّ الله لا يحل في المرئيات، وأنَّه المتفرد بكمال أسمائه وصفاته، بائن من خلقه، مستو على عرشه، وأن القرآن كلامه غير مخلوق، حيث ما تلا ودرس وحفظ.
ونعتقد أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلا، واتخذ نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - خليلا وحبيبا، والخلة لهما منه على خلاف ما قاله المعتزلة إن الخلة الفقر والحاجة.
إلى أن قال: والخلة والمحبة صفتان لله هو موصوف بهما ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخلة جائز عليها الكيف، فأما صفاته تعالى فمعلومة في العلم، وموجودة في التعريف، قد انتفى عنهما التشبيه، فالإيمان به واجب، واسم الكيفية عن ذلك ساقط. ([100])
ومما نعتقده أنّ الله أباح المكاسب والتجارات والصناعات وإنما حرم الله الغش والظلم، وأما من قال بتحريم تلك المكاسب فهو ضال مضل مبتدع؛ إذْ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء، إنما حرم الله ورسوله الفساد لا الكسب والتجارات، فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة.
وأن مما نعتقد أن الله لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة، والمعتقد أنَّ الأرض تخلو من الحلال، والناس يتقبلون في الحرام فهو مبتدع ضال، إلا أنه يقل في موضع ويكثر في موضع؛ لا أنه مفقود من الأرض.([101])
ومما نعتقده إنا إذا رأينا مَنْ ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه، جائز أن يؤكل طعامه، والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عما قاله، فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط جاز إلا من داخل الظَّلَمة.(18/62)
ومن ينزع عن الظلم وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك: فالسؤال والتوقي؛ كما سأل الصديق غلامه، فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا، فلا يطلق عليه الحلال ولا الحرام، إلا أنه مشتبه؛ فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق، وأجاز ابن مسعود وسلمان الأكل منه وعليه التبعة. والناس طبقات والدين الحنيفية السمحة.([102])
وأن مما نعتقد أن العبد ما دام أحكام الدار جاريةً عليه فلا يسقط عنه الخوف والرجاء، وكل من ادعى الأمن فهو جاهل بالله، وبما أخبر به عن نفسه ?فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ?[الأعراف:99]، وقد أفردت كشف عوار كل من قال بذلك.
ونعتقد أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقَل وعلِم ما له وما عليه، فيبقى على أحكام القوة والاستطاعة؛ إذ لم يسقط الله ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن زعم أنه قد خرج عن رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية والخروج إلى أحكام الأَحدية المُسْدِية بعلائق الآخرية, فهو كافر لا محالة, إلا من اعتراه علة, أو رأفة؛ فصار معتوها. أو مجنونا, أو مبرسما، وقد اختلط عقله, أو لحقه غشية يرتفع عنه بها أحكام العقل, وذهب عنه التمييز والمعرفة؛ فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة.
ومن زعم الإشراف على الخلق يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند الله بغير الوحي المنزل من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو خارج عن الملة, ومن ادعى أنه يعرف مآل الخلق ومنقلبهم و على ماذا يموتون عليه ويختم لهم, بغير الوحي من قول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد باء بغضب من الله.([103])
والفراسة حق على أصول ما ذكرناه, وليس ذلك مما رسمناه في شيء.
ومن زعم أن صفاته تعالى بصفاته ويشير في ذلك إلى غير آية العظمة والتوفيق والهداية وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة: فهو حلولي قائل باللاهوتية والالتحام, وذلك كفر لا محالة. ([104])(18/63)
ونعتقد أن الأرواح كلها مخلوقة. ومن قال إنها غير مخلوقة فقد ضاهى قول النصارى –النسطورية- في المسيح, وذلك كفر بالله العظيم([105]).
ومن قال: إن شيئا من صفات الله حال في العبد, أو قال بالتبعيض على الله فقد كفر؛ والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ولا حال في مخلوق, وأنه كيفما تُلي وقرئ وحفظ: فهو صفة الله عز وجل وليس الدرس من المدروس, ولا التلاوة من المتلو, لأنه عز وجل بجميع صفاته وأسمائه غير مخلوق, ومن قال بغير ذلك فهو كافر.
ونعتقد: أن القراءة الملحنة بدعة وضلالة. ([106])
وأن القصائد بدعة, ومجراها على قسمين: فالحسن من ذلك من ذكر آلاء الله ونعمائه, وإظهار نعت الصالحين وصفة المتقين, فذلك جائز, وتركه والاشتغال بذكر الله والقرآن والعلم أولى به, وما جرى على وصف المرئيات, ونعت المخلوقات, فاستماع ذلك على الله كفر, واستماع الغناء والربعيات على الله كفر, والرقص بالإيقاع ونعت الرقاصين على أحكام الدين فسق, وعلى أحكام التواجد والغناء لهو ولعب.
وحرام على كل من يسمع القصائد والربعيات الملحنة الجائي بين أهل الأطباع على أحكام الذكر, إلا لمن تقدم له العلم بأحكام التوحيد, ومعرفة أسمائه وصفاته, وما يضاف إلى الله تعالى من ذلك وما لا يليق به عز وجل مما هو منزه عنه فيكون استماعه كما قال ?الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ?[الزمر:18] الآية.(18/64)
وكل من جهِل ذلك وقصد استماعه على الله على غير تفصيله فهو كفر لا محالة، فكل من جمع القول وأصغى بالإضافة إلى الله فغير جائز إلا لمن عرف بما وصفت من ذكر الله ونعمائه، وما هو موصوف به عز وجل مما ليس للمخلوقين فيه نعت ولا وصف بل ترْك ذلك أولى وأحوط، والأصل في ذلك أنها بدعة، والفتنة فيها غير مأمونة، على استماع الغناء و الربعيات بدعة، وذلك مما أنكره المطلبي ومالك والثوري ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق، والإقتداء بهم أولى من الإقتداء بمن لا يُعرفون في الدين، ولا لهم قَدَم عند المخلصين.
وبلغني أنه قيل لبشر بن الحارث: إنّ أصحابك قد أحدثوا شيئا يقال له القصائد، قال: مثل أيش؟([107]) قال: مثل قوله:
اصبري يا نفس حتى تسكني دار الجليل
فقال: حسن، وأين يكون هؤلاء الذين يستمعون ذلك؟ قال: قلت: ببغداد. فقال: كذبوا والله الذي لا إله غيره، لا يسكن ببغداد من يستمع ذلك.
قال أبو عبد الله: ومما نقول -وهو قول أئمتنا- إن الفقير إذا احتاج وصبر ولم يتكفف إلى وقت يفتح الله له كان أعلى، فمن عجز عن الصبر كان السؤال أولى به على قوله - صلى الله عليه وسلم - «لأن يأخذ أحدكم حبله» الحديث.
ونقول إن ترك المكاسب غير جائز إلا بشرائط موسومة من التعفف والاستغناء عما في أيدي الناس، ومن جعل السؤال حرفة وهو صحيح، فهو مذموم في الحقيقة خارج.
ونقول: إنّ المستمع إلى الغناء والملاهي فإن ذلك كما قال عليه السلام «الغناء ينبت النفاق في القلب»، وإن لم يكفر فهو فسق لا محالة.
والذي نختار: قول أئمتنا: إن ترك المراء في الدين، والكلام في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، ومن زعم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - واسط يؤدي وأن المرسل إليهم أفضل: فهو كافر بالله، ومن قال بإسقاط الوسائط على الجملة فقد كفر.ا.هـ([108])(18/65)
ومن متأخريهم الشيخ الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني، قال في كتاب الغنية: أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد.
إلى أن قال: وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء، ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، ?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ?[السجدة:5]، ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان؛ بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5].
وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش. قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف. وذكر كلاما طويلا لا يحتمله هذا الموضع، وذكر في سائر الصفات نحو هذا.
ولو ذكرتُ ما قاله العلماء في هذا لطال الكتاب جدا.
قال أبو عمر بن عبد البر: رَوينا عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت. قال أبو عمر: ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نقل الثقات، أو جاء عن أصحابه رضي الله عنهم فهو علم يُدان به؛ وما أُحدث بعدهم ولم يكن له أصلٌ فيما جاء عنهم فهو بدعة وضلالة.
وقال في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال: هذا حديث ثابت النقل، صحيح من جهة الإسناد، ولا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو منقول من طرق سوى هذه، من أخبار العدول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش استوى من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله تعالى في كل مكان بذاته المقدسة.(18/66)
قال: والدليل على صحة ما قال أهل الحق قول الله -وذكر بعض الآيات-.
إلى أن قال: وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.
وقال أبو عمر بن عبد البر أيضا: أجمع علماء الصحابة والتابعون الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله ?مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ?[المجادلة:7]، هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله.
وقال أبو عمر أيضا أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدّون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج: فكلهم ينكرونها ولا يحملون شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون: بما نطق به كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أئمة الجماعة.
هذا كلام ابن عبد البر إمام أهل المغرب.([109])
وفي عصره الحافظ أبو بكر البيهقي مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري، وذبه عنهم، قال في كتابه الأسماء والصفات: باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين لا من حيث الجارحة لورود خبر الصادق به، قال الله تعالى ?قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وقال ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64].(18/67)
وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب، مثل قوله في غير حديث؛ من حديث الشفاعة «يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده»، ومثل قوله في الحديث المتفق عليه «أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده» وفي لفظ «وكتب لك التوراة بيده»، ومثل ما في صحيح مسلم أنه سبحانه «غرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده»، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها بيده كما يكتفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة».
وذكر أحاديث مثل قوله «بيدي الأمر»، «والخير في يديك»، «والذي نفس محمد بيده»، و«إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل»، وقوله «المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين»، وقوله «يطوى الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»، وقوله «يمين الله ملآ لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار،([110]) أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع». وكل هذه الأحاديث في الصحاح.
وذكر أيضا قوله «إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان إختر أيهما شئت. قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة». وحديث «إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بيده» إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع.
ثم قال البيهقي: أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب؛ وكذلك قال في الاستواء على العرش وسائر الصفات الخبرية مع أنه يحكى قول بعض المتأخرين.([111])(18/68)
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها؛ لكن على ما روى عن الإمام أحمد وسائر الأئمة.
وذكر بعض كلام الزهري، ومكحول، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، والأسود بن سالم، وإسحاق بن راهوية، وأبي عبيد، ومحمد بن جرير الطبري، وغيرهم في هذا الباب. وفي حكاية ألفاظهم طول.
إلى أن قال: ويدل على إبطال التأويل: أنّ الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفوها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغا لكانوا أسبق إليه لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة.
وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم، صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين، وذكر فرق الروافض والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم.(18/69)
ثم قال مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث جملة: قول أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن الله تعالى، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يردون شيئا من ذلك، وأن الله واحد احد فرد صمد لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال ?خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وكما قال ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?[القمر:14]، وأن له وجها كما قال ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?[الرحمن: 27].
وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علما كما قال ?أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ?[النساء:166]، وكما قال ?وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ?[فاطر:11]، وأثبتوا له السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة؛ وأثبتوا لله القوة كما قال ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً?[فصلت:15]، وذكر مذهبهم في القدر.
إلى أن قال: ويقولون أن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في اللفظ والوقف من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال غير مخلوق.
ويقرون أنّ الله يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون، قال عز وجل ?كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ?[المطففين:15].
وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء. ([112])(18/70)
إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار.
إلى أن قال: وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، ويسلمون للروايات الصحيحة، كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لا يقولون كيف ولا لم؟ لأن ذلك بدعة عندهم.
إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22]، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16]. ([113])
إلى أن قال: ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الآثار والنظر في الفقه مع الاستكانة والتواضع، وحسن الخلق مع بذل المعروف، وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والشكاية، وتفقد المآكل والمشارب. قال: فهذه جملة ما يأمرون به، ويستسلمون إليه، ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان.([114])(18/71)
وقال الأشعري أيضا في اختلاف أهل القبلة في العرش: فقال قال أهل السنة وأصحاب الحديث إن الله ليس بجسم ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ولا نتقدم بين يدي الله في القول؛ بل نقول استوى بلا كيف، وأن له واجها كما قال ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?[الرحمن:127]، وأن له يدين كما قال ?خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وأن له عينين كما قال ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?[القمر:14]، وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22]([115]) وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش بمعنى استولى وذكر مقالات أخرى.
وقال أيضا أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه الإبانة في أصول الديانة -وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه- وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه، فقال: فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة. فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرِّفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها؛ التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل – رحمه الله تعالى نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل؛ الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين؛ فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهَّم.(18/72)
وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا نردّ من ذلك شيئا؛ وأن الله واحد لا إله إلا هو فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو على عرشه كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وأن له وجها كما قال ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?[الرحمن:127]، وأن له يدين بلا كيف كما قال ?خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وكما قال ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ?[المائدة:64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?[القمر:14].
وأنَّ من زعم أن أسماء الله غيرُه كان ضالا -وذكر نحوا مما ذكر في الفِرَق-.
إلى أن قال: ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا، وندين بأن الله يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل،([116]) وأنه عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
إلى أن قال: وإن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي رواها الثقات عدلا عن عدل([117]) حتى ينتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: «هل من سائل؟ هل من مستغفر؟» وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل.(18/73)
ونعوِّل فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22]. ([118])
وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16]، وكما قال ?ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8)فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى?[8-9].
إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره بابا بابا. ثم تكلم على أن الله يُرى واستدل على ذلك، ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك، ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال: لا أقول أنه مخلوق ولا غير مخلوق، ورد عليه.
ثم قال: باب ذكر الاستواء على العرش.(18/74)
فقال: إن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله مستو على عرشه كما قال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وقال تعالى ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، وقال تعالى ?بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ?[النساء:158]، وقال تعالى ?يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ?[السجدة:5]، وقال تعالى حكايةً عن فرعون ?يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا?[غافر:36-37]، كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال تعالى ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]، فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال (ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)؛ لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السموات، وليس إذا قال (ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال تعالى ?وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ?[نوح:16]، ولم يرد أن القمر يملؤهن وأن فيهن جميعا.
ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله على عرشه الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. ([119])(18/75)
ثم قال: فصل: وقد قال القائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية أن معنى قوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5] أنه استولى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها- لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار؛ لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادرا على الأشياء كلِّها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الحشوش([120]) والأخلية. لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها.
وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل.([121])
ثم قال: باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين.
وذكر الآيات في ذلك، ورد على المتأولين لها بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته، مثل قوله: فإن سئلنا أتقولون لله يدان؟ قيل نقول ذلك، وقد دل عليه قوله تعالى ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ?[الفتح:10]، وقوله تعالى ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال«إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته»، وقد جاء في الخبر المذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن الله خلق آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده».(18/76)
وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي ويريد بها النعمة، وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهوما في كلامها، ومعقولا في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل البيان أن يقول القائل: فعلت كذا بيدي ويعني بها النعمة، بطل أن يكون معنى قوله تعالى (بِيَدَيَّ) النعمة.
وذكر كلاما طويلا في تقرير هذا ونحوه.([122])
وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقِلاَني([123]) المتكلم -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري؛ ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده- قال في كتاب الإبانة تصنيفه: فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قيل له: قوله ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?[الرحمن:127]، وقوله تعالى ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، فأثبت لنفسه وجها ويدا.
فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إن كنتم لا تعقلون وجها ويدا إلا جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى، وكما لا يجب في كل شيء كان قائما بذاته أن يكون جوهرا؛ لأنّا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، وكذلك الجواب لهم، إن قالوا يجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرَضا واعتلوا بالوجود، وقال: فإن قال: فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له معاذ الله؛ بل مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، وقال الله تعالى ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ?[فاطر:10]، وقال ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ?[الملك:16].(18/77)
قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يُرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصحَّ أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله.([124])
وقال أيضا في هذا الكتاب صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان والغضب والرضا.
وقال في كتاب التمهيد كلاما أكثر من هذا لكن ليست النسخة حاضرة عندي، وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في مثل هذا الباب كثير لمن يطلبه، وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام. ([125])
وملاك الأمر أن يهب الله للعبد حكمة وإيمانا بحيث يكون له عقل ودين، حتى يفهم ويدين، ثم نور الكتاب والسنة يغنيه عن كل شيء؛ ولكن كثيرا من الناس قد صار متنسبا إلى بعض طوائف المتكلمين، ومحسنا للظن بهم دون غيرهم، ومتوهما أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم، فلو أتي بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم.(18/78)
ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم، فلو أنهم أخذوا بالهدى الذي يجدونه في كلام أسلافهم لرُجي لهم مع الصدق في طلب الحق أن يزدادوا هدى، ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة، ثم لا يتمسك بما جاءت به من الحق: ففيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم ?وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[البقرة:91]. فإنَّ اليهود قالوا: لا نؤمن إلا بما أنزل علينا قال الله تعالى لهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم، يقول سبحانه وتعالى لا لما جاءتكم به أنبياؤكم تتبعون، ولا لما جاءتكم به سائر الأنبياء تتبعون، ولكن إنما تتبعون أهواءكم، فهذا حال من لم يقبل الحق، لا من طائفته ولا من غيرها، مع كونه يتعصب لطائفته بلا برهان من الله ولا بيان.([126])
وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتابه الرسالة النظامية:([127]) اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها وإلتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب.
فقال: والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة اتِّباع سلف الأمة، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الأمة وهو حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة.(18/79)
وقد درج صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها، ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام، والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما: لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل: كان ذلك هو الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزُّه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى فليجر آية الاستواء والمجيء وقوله ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ?[الرحمن:127]، وقوله ?تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا?[القمر:14]، وما صح من أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه. ([128])
قلت: وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب، وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله من المتكلمين وغيرهم يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره؛ ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به، وكان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه، الذي رواه أبو داوود في سننه: إقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافرا -أو قال فاجرا- واحذروا زيغة الحكيم، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إنَّ على الحق نورا. أو قال كلاما هذا معناه.([129])
فأما تقرير ذلك بالدليل، وإماطة ما يعرض من الشبه وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المهامه، فما تتسع له هذه الفتوى، وقد كتبت شيئا من ذلك قبل هذا وخاطبت ببعض ذلك بعض من يجالسنا، وربما أكتب إن شاء الله في ذلك ما يحصل به المقصود.([130])(18/80)
وجِماع الأمر في ذلك أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتِّباع الحق وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته.
ولا يحسب الحاسب أنَّ شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة؛ مثل أن يقول القائل ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ?[الحديد:4].
وقوله - صلى الله عليه وسلم - «إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الله قِبل وجهه» ونحو ذلك فإن هذا غلط([131]) وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[الحديد:4].
فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأوعال «والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه».
وذلك أن كلمة (مَعَ) في اللغة إذا أُطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قُيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة.(18/81)
ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) إلى قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)، دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطَّلِع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه. وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.([132])
كذلك في قوله ? مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ? إلى قوله ?هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا?[المجادلة:7]الآية، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه في الغار«لا تحزن إن الله معنا» كان هذا أيضا حقا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الإطلاع والنصر والتأييد.
وكذلك قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128]، وكذلك قوله لموسى وهارون ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه:46]، هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد.
وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي فيشرف عليه أبوه من فوق السقف فيقول: لا تخف أنا معك، أو أنا هنا، أو أنا حاضر ونحو ذلك. ينبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه؛ ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها، فيختلف باختلاف المواضع.
فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها -وإن امتاز كل موضع بخاصية- فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها.(18/82)
ونظيرها من بعض الوجوه الربوبية والعبودية، فإنهما وإن اشتركتا في أصل الربوبية والعبودية فلما قال ?رَبِّ الْعَالَمِينَ(121)رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ?[الأعراف:121-122]، كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق، فإن من أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره: فقد ربَّه وربَّاه ربوبية وتربية أكمل من غيره. ([133])
وكذلك قوله ?عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا?[الإنسان:6] و?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا?[الإسراء:1].
فإن العبد تارة يعني به المعبد فيعم الخلق كما في قوله ?إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا?[مريم:93]، وتارة يعنى به العابد فيُخَص، ثم يختلفون فمن كان أعبد علما وحالا، كانت عبوديته أكمل، فكانت الإضافة في حقه أكمل، مع أنها حقيقة في جميع المواضع.
ومثل هذه الألفاظ يسميها بعض الناس مشككة لتشكك المستمع فيها، هل هي من قبيل الأسماء المتواطئة، أو من قبيل المشتركة في اللفظ فقط، والمحققون يعلمون أنها ليست خارجة عن جنس المتواطئة؛ إذْ واضع اللغة إنما وضع اللفظ بإزاء القدْر المشترك، وإن كانت نوعا مختصا من المتواطئة فلا بأس بتخصيصها بلفظ.([134])
ومن علم أن المعية تضاف إلى كل نوع من أنواع المخلوقات -كإضافة الربوبية مثلا- وأنَّ الاستواء على الشيء ليس إلا للعرش، وأن الله يوصف بالعلو والفوقية الحقيقية، ولا يوصف بالسفول ولا بالتحتية قط، لا حقيقة ولا مجازا: علم أن القرآن على ما هو عليه من غير تحريف.(18/83)
ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه، فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحدا يفهم هذا من اللفظ، ولا رأينا أحدا نقله عن واحد، ولو سئل سائر المسلمين هل تفهمون من قول الله ورسوله إن الله في السماء أن السماء تحويه؟ لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا.
وإذا كان الأمر هكذا فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئا محالا لا يفهمه الناس منه، ثم يريد أن يتأوله بل عند الناس إن الله في السماء وهو على العرش واحد، إذْ السماء إنما يراد به العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السموات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقا يحصره ويحويه، وقد قال سبحانه ?وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ?[طه:71]، وقال ?فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ?[آل عمران:137] بمعنى على ونحو ذلك، وهو كلام عربي حقيقة لا مجازا، وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني الحروف، وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة.([135])
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبل وجهه، فلا يبصق قِبل وجهه» الحديث حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قبل وجه المصلى؛ بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه.(18/84)
وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل بذلك -ولله المثل الأعلى- ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه لا تشبيه الخالق بالمخلوق،([136]) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مَخْلِيًّا به» فقال له أبو رَزِين العُقَيْليْ: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله، فالله أكبر» أو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال «إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر»، فشبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي، فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه كما يرى الشمس والقمر، ولا منافاة أصلا.
ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد.([137])
واعلم أن من المتأخرين من يقول: مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا اللفظ مجمل فإن قوله ظاهرها غير مراد، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين؛ مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلي، أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، وأن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا، ونحو ذلك، فلا شك أن هذا غير مراد.
ومن قال: إن مذهب السلف إن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث، فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار، معذورا في هذا الإطلاق.(18/85)
فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية، وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر، أن هذا ليس هو الظاهر، حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظا ومعنى.
وإن كان الناقل عن السلف أراد -بقوله الظاهر غير مراد عندهم- أن المعاني التي ظهرت من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته ولا يختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازا ذهنيا، أو جوازا خارجيا: غير مراد، فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السلف، أو تعمد الكذب، فما يمكن أحد([138]) قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل -لا نصا ولا ظاهرا- أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة.
وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف، بمعنى أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تَدُلَّ([139]) على صفات الله سبحانه وتعالى، ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها، لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقولون: الفرق بين الطريقين أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل، وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره. ([140])
وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف: أما في كثير من الصفات فقطعا، مثل أن الله تعالى فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم -الذي لم يحك هنا عشره- علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك.(18/86)
والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف، ما رأيت كلام أحد منهم يدل -لا نصا ولا ظاهرا ولا بالقرائن- على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر؛ بل الذي رأيته أن كثيرا من كلامهم يدل -إما نصا وإما ظاهرا- على تقرير جنس هذه الصفات، ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة؛ بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة، وما رأيت أحدا منهم نفاها، وإنما ينفون التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضا؛ كقول نعيم بن حمّاد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها.
وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا: هذا جهمي معطل. وهذا كثير جدا في كلامهم، فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئا من الصفات مشبها -كذبا منهم وافتراء- حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك، حتى قال ثمامة بن الأشرس من رؤساء الجهمية: ثلاثة من الأنبياء مشبهة موسى حيث قال ?إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ?[الأعراف:135]، وعيسى حيث قال ?تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ?[المائدة:116]، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حيث قال «ينزل ربنا».
وحتى إن جل المعتزلة تُدخل عامة الأئمة مثل مالك وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وإسحاق بن راهوية، وأبي عبيد، وغيرهم في قسم المشبهة.
وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءا سماه تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة، ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب، وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه، يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد؛ كما أنَّ المشركين كانوا يلقبون النبي بألقاب افتروها.(18/87)
فالروافض تسميهم نواصب، والقدرية يسمونهم مُجَبِّرَة،([141]) والمرجئة تسميهم شكاكا، والجهمية تسميهم مشبهة، وأهل الكلام يسمونهم حَشْوِية ([142]) ونوابت([143]) وغثاء وغثرا، إلى أمثال ذلك، كما كانت قريش تسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة مجنونا، وتارة شاعرا، وتارة كاهنا، وتارة مفتريا.
قالوا: فهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة، فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتقادا واقتصادا وقولا وعملا؛ فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماءٍ مذمومة مكذوبة -وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة-، فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات باطنا وظاهرا.
وأما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر، والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن، والذين وافقوه ظاهرا وباطنا بحسب الإمكان: فلابد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به، ويسمونهم بأسماء مكذوبة -وإن اعتقدوا صدقها- كقول الرافضي: من لم يبغض أبا بكر - رضي الله عنه - وعمر فقد أبغض عليا؛ لأنه لا وَلاية([144]) لعلي إلا بالبراءة منهما. ثم يجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبيا، بناء على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة أو عاند فيها وهو الغالب.
وكقول القدري: من اعتقد أن الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد: فقد سلب من العباد الاختيار والقدرة، وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة.
وكقول الجهمي: من قال أن الله فوق العرش فقد زعم أنه محصور، وأنه جسم مركب محدود وأنه مشابه لخلقه.
وكقول الجهمية والمعتزلة: من قال أن لله علما وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب، وأنه مشبه؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرَض لا يقوم إلا بجوهر متحيز، وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد، ومن قال ذلك فهو مشبه؛ لأن الأجسام متماثلة.(18/88)
ومن حكى عن الناس المقالات وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة بناء على عقيدته التي هم مخالفون له فيها فهو وربه([145]) والله من ورائه بالمرصاد، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله. ([146])
وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام ، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة:
قسمان يقولان: تجري على ظواهرها.
وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها.
وقسمان: يسكتون.
أما الأولون فقسمان:
أحدهما: من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف وإليهم يتوجه الرد بالحق.
الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله، كما يجري([147]) ظاهر اسم العليم، والقدير، والرب، والإله، والموجود، والذات، ونحو ذلك، على ظاهرها اللائق بجلال الله، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق: إما جوهر محدث، وإما عرض قائم به.
فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض.
والوجه واليد والعين في حقه أجسام.
فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة -وإن لم يكن ذلك عرضا يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين- جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليس أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين.
وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطَّابي وغيرُه عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات.
فمن قال: لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودين.
قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين، ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته؛ فمن لم يفهم من صفات الرب -الذي ليس كمثله شيء- إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه.(18/89)
وما أحسن ما قال بعضهم: إذْ قال لك الجهمي كيف استوى؟ أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا؟ أو كيف يداه؟ ونحو ذلك، فقل له: كيف هو في ذاته؟ فإذا قال لك: لا يُعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف، لم تعلم كيفيته، وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك، بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
وقد أخبر الله تعالى أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر».
فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله كذلك فما ظنك بالخالق سبحانه وتعالى.([148])
وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى؟ مع أنا نقطع بأن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وإنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة، لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة، ومن وافقهم حيث نفوا عنها الصعود والنزول، والاتصال بالبدن والانفصال عنه، وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته، فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها، إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص، فيكونون قد أخطئوا في اللفظ، وأنَّى لهم بذلك؟(18/90)
ولا نقول إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلا أو صفة من صفات البدن والحياة وإنها مختلفة الأجساد ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة كما يقول طوائف من أهل الكلام بل نتيقن أن الروح عينٌ موجودة غير البدن وإنها ليست مماثلة له وهى موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازا فإذا كان مذهبنا في حقيقة الروح وصفاتها بين المعطلة والممثلة فكيف الظن بصفات رب العالمين. ([149])
وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأن الله لا صفة له ثبوتية؛ بل صفاته إما سلبية وإما إضافية، وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر، أو يثبتون الأحوال دون الصفات، ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين.
فهؤلاء قسمان:
قسم يتأولونها ويعينون المراد مثل قولهم استوى بمعنى استولى؛ أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلفين.
وقسم يقولون الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه.([150])
وأما القسمان الواقفان:
قسم: يقولون يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك، وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.
وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات.
فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها.(18/91)
والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثابتة([151]) كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى فوق عرشه، ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، دلالة لا تحتمل النقيض، وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.([152])
ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدعُ بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ يصلي مِنَ اللّيْلِ، قال «اللّهُمّ رَبّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ. فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِكَ إِنّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».
وفي رواية لأبي داود: أنه كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك.
فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه, وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين: انفتح له طريق الهدى.
ثم إن كان قد خبر نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب, وعرف أن غالب ما يزعمونه برهانا هو شبهة, ورأى أن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها, أو شبهة مركبة من قياس فاسد, أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية, أو دعوى إجماع لا حقيقة له, أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة.
ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف اصطلاحهم, أو همت الغر ما يوهمه السراب للعطشان, ازداد إيمانا وعلما بما جاء به الكتاب والسنة, فإن الضد يُظهر حسنه الضد وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما, وبقدره اعرف إذا هُدي إليه.(18/92)
فأما المتوسطون من المتكلمين فيخاف عليهم ما لا يخاف على من لم يدخل فيه, وعلى من قد أنهاه نهايته, فإن من لم يدخل فيه فهو في عافية, ومن أنهاه فقد عرف الغاية, فما بقى يخاف من شيء آخر, فإذا ظهر له الحق وهو عطشان إليه قبله، وأما المتوسط فيتوهم بما يتلقاه من المقالات المأخوذة تقليدا لمعظمه([153]) تهويلا.
وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان.
ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب في قول مختلف، يؤفك عنه من أفك، يعلم الذكي منهم والعاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حجته ليست ببينة وإنما هي كما قيل فيها:
حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي - رضي الله عنه - حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من اعرض عن الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القَدَر([154]) -والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم وترفقت بهم، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة ?فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون?[الأحقاف:26].
ومن كان عليما بهذه الأمور: تبين له بذلك حِذْقُ السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه وذموا أهله وعابوهم؛ وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعدا.
فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. آمين.(18/93)
والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين. ([155])
---
([1])الخراءة التي هي كيفية وهيئة وآداب قضاء الحاجة، التي جاءت في الأثر: علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة.
([2]) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه الرسالة الموسومة بالحموية رسالة عظيمة في تقرير مذهب السلف، في صفات الله جل وعلا، وهي جواب سؤال ورد لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وسبب السؤال أنّ مذاهب الناس في زمنه كان أكثرها على غير الهدى في باب صفات الله جل وعلا، فكثير منهم أشاعرة، وماتريدية، وثَم معتزلة قليل، وثَم من أهل الفرق الأخرى أيضا جماعات، وهؤلاء كلهم في باب الصفات ضُلاَّل ولم ينج في باب الصفات إلا من تبع السلف الصالح، ولهذا كانت الحاجة ماسة لكثرة ما خاض الناس في هذا الباب في زمن شيخ الإسلام وما قبله أن يُبسط القول في مذهب السلف المنجي في باب صفات الله جل وعلا.
ومن المتقرر أن طريقة النجاة في هذا الباب أن يسلك فيها طريقة سلف هذه الأمة؛ لأن الله جل وعلا وصف السلف بأنهم خير القرون، قال«خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وكونهم خير القرون يدل على أنهم جمعوا من العلم أسلمه وأعلمه وأحكمه، وجمعوا أيضا من العمل ما كان على صواب فيه إخلاصهم ومتابعتهم.
وهذا الباب باب صفات الله أعظم أبواب الدين؛ لأن به معرفة الله جل وعلا والعلم به، فإن الله جل جلاله لن تره العيون في هذه الدنيا، وما آمن به من آمن لرؤية وإنما رأته القلوب بحقائق الإيمان، وهذا الإيمان أعظمه العلم بالله جل وعلا وبأسمائه وبنعوت جلاله وصفات كماله وجماله.(18/94)
فلما كان الإيمان بصفات الله جل وعلا بهذه المثابة نجزم قطعا بأنه لا يمكن أن لا يذكر باب النجاة فيه في الكتاب والسنة؛ لأن هذا أعظم ما تصح به القلوب وأعظم ما يكون به الهدى، فإن العبد كلما كان أعرف بالله جل وعلا كان أتبع لشرعه وكان أتقى لله جل وعلا.
ونقطع أيضا أنّ الله جل جلاله قد أكمل لنا الدين وبين ذلك لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وهذه هي المقدمة الثانية-، وكمال الدين يقضي بأن ما كان في ذلك الزمن الأول هو العلم المحكم، العلم الكامل في باب صفات الله جل وعلا وفي غيره، فقول الله جل وعلا ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ?[المائدة:3] من الدين الكلام في العقائد ومن ذلك الكلام في صفات الله جل وعلا؛ بل ذلك ما به تصح القلوب، وتشرق الأرواح على المعارف الربانية والحقائق الإلهية، وإذا كان كذلك كان ذكره على وجه الكمال في الكتاب والسنة لا بد منه، بل كان ذكره متيَقَّنا لم؟ لأنّ الله أكمل لنا الدين، أتمَّ علينا النعمة، وهذا من الدين، وهذا الإكمال يقتضي أن طريقة الصدر الأول طريقة محكمة في هذا الباب، وأن ما فهموه من الكتاب والسنة في هذا الباب هو العلم وهو الحكمة، وهذا فيه -كما أشار الشيخ - فيه إبطال لقول من قال: إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم. فهذه المقالة باطلة -كما سيأتي-؛ لأنها مبنية على أن الصدر الأول الذين هم خير هذه الأمة لم يُحكموا هذا الباب وإنما طلبوا فيه السلامة، وفرق بين السلامة والعلم والحكمة والإحكام؛ لأن السلامة مرتبة دون العلم والإحكام، فلهذا كان قول من قال إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، باطل من وجوه متعددة.
هذا التأصيل من شيخ الإسلام والتقديم لكي يدخل في هذا البحث، وما ذكر مبني على هاتين المسألتين.
([3]) الوُجدية بضم الواو نسبة إلى الوجود، الفطرة الوجدية نسبة إلى الوجود يعني الوجود الأول الذي كانوا عليه...(18/95)
([4]) من عرف حال السلف من الصحابة فمن بعدهم، خاصة في عهد النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بالنسبة للصحابة، وبعد حياته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يجزم قطعا أنهم لا يمكن أن يتفقهوا في أمور الدين المختلفة في أبواب الطهارة والصلاة والعبادات والبيوع وإلى آخره ولا يتفقهون في باب صفات الله جل وعلا؛ بل نجزم ونقول من المحال ألا يكون الصحابة اعتنوا بهذا الباب اعتنوا بهذا الباب اعتناء عظيما؛ لأن الأمم مجمعة على أن معرفة الله جل وعلا غاية المطالب وأن عبادته سبحانه وتعالى والوصول إليه غاية المقاصد وأشرف المقاصد، العلم بالله جل وعلا بما هو عليه سبحانه وتعالى من نعوت الجلال وصفات الكمال، هذا مطلب مهم وكل طالب علم أو طالب هدى يسعى في فهم صفات الله جل وعلا؛ لأن هذا به العلم الحق، والله جل وعلا هو معبوده فلا بد أن يعلم معبوده، كيف يعلمه؟ هل يعلمه بالعقليات؟ وبإعطاء المقاييس العقلية له جل وعلا؟ فيدرك الصفات من جهة العقل، كما فعل الفلاسفة من قبل؟ أم يدرك ذلك عن طريق الوحي؟
الأصل في هذا الدين التسليم للنصوص ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ?[الأحزاب:36]، فما فيه نص من الكتاب أوالسنة وجبت متابعته.
فنقول من المحال أن يكون السلف من الصدر الأول غير معتنين بهذا الباب.
وهذه المقدمات من شيخ الإسلام ضرورية لا بد أن ترجع إليها من أول الكتاب، وتكتب المقدمات الحجة على المخالفين، فقدم بذلك للوصول إلى حقيقة وهي أن طريقة السلف في ذلك واضحة، وأنها مسطورة، وأنها مأخوذة من النصوص، وأنها هي الأعلم والأحكم والأسلم جميعا.
هذه مقدمات حتى يدخل في البحث في قوة لأجل الحجة للمخالفين في هذا الباب.(18/96)
ومن المعلوم أن طريقة السلف في صفات الله جل وعلا هي أنهم يمِرُّونها كما جاءت، وأنهم لا يدخلون فيها بلا تأويل ولا تفسير يخرجها عن ظاهرها، وطريقتهم فيها أنهم يأخذون بحقيقة ألفاظها، وبظاهر ألفاظها، فباب الغيبيات باب تسليم لا تعمل فيه العقول ولا تصح فيه الأقيسة، وخاصة ما يتعلق بالله جل وعلا، لهذا طريقة السلف فيه التسليم بما دل عليه الظاهر، وظاهر النصوص ليس هو التشبيه أو التمثيل، وإنما ظاهر النص هو ما دل عليه النص من إثبات الصفة ومن معناها، أما الكيفية فهي التي يتطرق إذا تُحدِّث عنها إلى التمثيل أو إلى التشبيه، وأما الظاهر المجرد الظاهر المتعلق بالمعنى فإنه لا مدخل للكيفية فيه، ولهذا من القواعد المقررة في هذا الباب -كما سيأتي مفصلا- أننا نقول في باب الصفات: نأخذ بظاهر ما دلت عليه النصوص، ونثبت ظاهر ما دلت عليه النصوص، وهذا الظاهر ما دل عليه اللسان العربي في هذا النص.(18/97)
يدلنا على ذلك قطعية معلومة بلا نزاع وهي أن النبي عليه الصلاة والسلام يأتيه الناس المختلفون في ذكائهم وفهمهم وفي علمهم وإدراكهم، يأتونه من خارج المدينة ومن خارج مكة، ويأتونه ويسألونه ويتلو عليهم القرآن ويتكلم عليهم بحديثه عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك علم صفات الله جل وعلا، ثم لم يُتبع ذلك عليه الصلاة والسلام بكلام يدل على أن ظاهر تلك الألفاظ غير مراد، أو أنّ اللغة التي نفهم بها ما دلت عليه تلك الكلمات في باب الصفات أن لا نأخذ بها، وهذه قطعية يأتيه الجميع فيتلو عليهم القرآن، ويتلو عليهم ما أنزل الله جل وعلا، ويخبرهم بالسنة، وفي ذلك صفات الله ولم يعقب ذلك بشيء يصرفها عن ظاهرها، فدلت [.....] هو ظهور المعنى وأن صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه ليس بجائز؛ لأنه ما علمهم ولا في مسألة أن يصرفوا الألفاظ في الصفات ولا في الغيبيات عن ظاهرها المتبادر منها، وإذا قلنا الظاهر فإنه يقابله التأويل، وإذا قلنا الحقيقة فإنه يقابل ذلك المجاز، والمجاز غير التأويل، والظاهر غير الحقيقة.
([5]) في أوّل الكلام مر معك قوله (هؤلاء المبتدعة من المتفلسفة) وهذا من أقوال أهل الكلام الذي سمعت، ومن الناس من يقول: إن أهل الكلام ليسوا بفلاسفة، والفلاسفة شيء وأهل الكلام شيء آخر. وهذا في الواقع غلط؛ لأن أهل الكلام من الفلاسفة؛ لكن فلسفتهم كانت مع وضع الاتصال بين الحكمة والشريعة.
فالفلاسفة أقسام:
فلاسفة نهجوا نهج اليونان في الفلسفة، وجعلوا طريقة اليونان هي الأصل، وجعلوا النصوص محمولة على طريقة أهل اليونان، هؤلاء الذين يقال لهم فلاسفة الإسلام أو الفلاسفة الإسلاميين.(18/98)
ومنهم من الفلاسفة من جمعوا بين الحكمة -وهي الفلسفة- وما بين الشريعة فركبوا منها الكلام، وذلك أنهم قالوا نأخذ بما دل عليه العقل من القوانين التي يطلب بها الحكمة، نأخذ بما دل عليه العقل بشرط أن لا يخالف الشرع، فإذا خالف الشرع أخذنا بالوحي، وبالتالي جعلوا نصوص الوحي محكومة بالعقل.
ولهذا ألف ابن رشد وغيره كتبا فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ككتابه: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال. وكتاب: مناهج الأدلة. له، وكتب كثيرة، فأهل الكلام هم الذين جمعوا بين الفلسفة والشريعة، ركَّبوا منهما شيئا جديدا غريبا سمي علم الكلام.
فشيخ الإسلام دقيق حينما يقول (من المتفلسفة) فأهل الكلام الذين يقولون طريقة الخلف أعلم وأحكم من طريقة السلف ليس هذا في الواقع كلام الفلاسفة الإسلاميين، هو كلام أهل الكلام، وأهل الكلام فلاسفة بالاعتبار الذي ذكرت.(18/99)
وهذا الظن الفاسد منهم -وهو أن طريقة الخلف أعلم وأحكم- جعلهم يخوضون في نصوص الغيبيات بتأويلات غريبة، بما يصرفها عن حقائقها، كما قال شيخ الإسلام هنا بأنواع المجازات وغرائب اللغات، يريد بغرائب اللغات ونحو ما ذكره ابن العربي في كتابه عارضة الأحوذي حينما تكلم على حديث الاستواء يعني في حديث فيه ذكر الاستواء ونحو ذلك قال: فإن قلتَ ما معنى الاستواء في كلام العرب؟ قلنا: الاستواء في كلام العرب يرد على خمسة عشر معنى هي الأول الثاني العاشر الخامس عشر. ذكرها جميعا، ثم قال: فإن قلت على أيها تحمل الآيات؟ قلنا: هذا غير ممكن، فلا ندري على أَيِّها يحمل: فلابد من نفي أصل المعنى؛ لأنه لا ندري أي المعاني يراد فيكون معنى استوى غير معلوم، هذه طريقة لبعضهم الذين يصرفون الحقائق بغرائب اللغات، ولهذا ولهذا تحذر إذا وجدت في كتب بعض الناس في العقائد كثرة التحاليل اللغوية في آيات الصفات، إذا قال هذه الكلمة من آيات الصفات ترد بعدة معاني كذا وكذا وكذا، ثم يسكت فلا يذكر المعنى المراد، فهذا دليل شيء من الخوض في هذا الأمر، بخلاف من قال إن هذه الصفة في كلام العرب ترد لعدة معاني وكلها ثابتة في حق الله، مثل طريقة طائفة من العلماء كابن القيم يذكر للفظ عدة معاني ويقول كلها صحيحة بحق الله جل وعلا مثل ما قال في تفسير (العزيز):
وهو العزيز فلن يرام جنابه أنا يرام جناب ذي السلطان
وهو العزيز بعزة وهو وصفه فالعز حينئذ ثلاث معاني
يعني بعد كلام له.
المقصود أنه تارة المفسر يفسر في كتب الحديث أو في كتب التفسير اللفظ من الصفات أو من الغيبيات، ويأتي بمعان ويسكت، فهذا يحذر منه، وتارة يقول يأتي بمعان وهذه كلها ثابتة والمعنى بصفات الله هو كذا، فهذا إذا موافقا لطريقة السلف فيقبل.
([6]) عندكم كلها في باب الدين؟ كأنها (في باب أصول الدين)، على كل حال المعنى (باب الدين) المقصود (أصول الدين) لا المقصود الفروع.(18/100)
([7]) هذا الشهرستاني في أول كتابه نهاية الإقدام، هو أيضا كتاب فيه عجائب أعني على طريقة المتكلمين.
([8])هذا الرازي فخر الدين الرازي وهو من عمداء الكلام -وهم الأشاعرة الذين نحو منحى المعتزلة في تقرير المسائل- في أول كتاب له اسمه أقسام اللذات لم يطبع، موجود منه نسخة خطية في أسبانيا في مكتبة [....]
المقصود من الشاهدين أن أولئك الذين أتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء، أنهم يتندَّمون في آخر عمرهم على ما مضى من ترك طريقة السلف، فالغزّالي أبو حامد المعروف توفي وصحيح البخاري على صدره يعني ينظر في الحديث، وكأنه ندم -فيما ذكروا- على مضي عمره في غير طريقة السلف ولم يدرك طريقة السلف.
وكذلك الشهرستاني فيما سمعت، وكذلك الرازي، وجماعات أيضا عندي بعض أسمائهم، فيما اطلعت عليه يندمون في آخر أعمارهم؛ لأنهم أذكياء ويصلون في آخر الأمر إلى أنهم ما جمعوا حقائق بعلم الكلام؛ لأن علم الكلام يعارض الشريعة، يعارض الوحي، الحقيقة أنه لا يحصل منه الإنسان على تحقيق.(18/101)
مثلا الآمدي وهو من رؤوس أهل الضلال في العقائد حينما تكلم عن تقرير كلام الله جل وعلا وأنه كلام قديم وأن القول بأنه كلام نفسي حادث هو قول الأشاعرة وهو قول الحق إلى آخره، قال: لكن يشكل على هذا شيء عظيم عندي، وهو أن في القرآن ألفاظا جاءت بصيغة الماضي ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا?[المجادلة:1]، ?قَدْ نَعْلَمُ?[الأنعام:33]، ونحو ذلك من الأفعال التي فيها الخبر عن شيء حدث في الزمن الماضي، قال: وهذا له احتمالان: إما أن يكون قد سبق فعلا، وإما أن يكون الكلام غير مطابق للواقع، وإذا كان الكلام غير مطابق للواقع فهو الكذب، قال وهذا عندي مشكل يعني استعمال الأفعال في صيغة الماضي، (قَدْ سَمِعَ) إذا كان الكلام؛ كلام الله جل وعلا في القرآن قديم، وقال الله جل وعلا (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) معناه أنه قد سمع، حصل السمع وتحقق، فهل هناك شيء قد سُمع قبل ذلك؟ يُشكل على أصولهم؛ لأن من أصولهم أنه ليس ثمّ مخلوقات يعني جنس المخلوقات، ليس بقديم في مسألة تسلسل الحوادث، وهو إما الخبر يكون كذب في نفسه، وإما أن يكون أحيل على شيء ماضٍ وهذا يبطل أصلا من أصول الأشاعرة، قال وهذا مشكل عندي جدا، وهذا ذكي وانتبه لهذه المسألة.(18/102)
وهكذا كثير من حذّاق الأشاعرة وحذّاق المتكلمين يترددون في إثبات ما راموه؛ لأنه يخالف الواقع، ويخالف الشريعة، ويخالف النصوص، وإنما يشتد الواحد منهم في مسألة وهي إذا دخل في باب التأويل، إذا دخل في باب التأويل من جهة اللغة هنا تعظم الشبهة عنده، أما إذا دخل بعقليات؛ تأصيلات عقلية فإن العقل يناقضه عقل، ولهذا تجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه درء تعارض النقل والعقل، قال: إن الأصل الذي أصله الرازي حيث قال هو في قانونه العام الذي رد عليه شيخ الإسلام بكتاب درء التعارض قال الرازي: إما أن نجعل النقل مقدم على العقل فهذا...[انتهى الوجه الأول من الشريط الأول] فهذا فيه إثبات الدليل قبل المدلول لأنه ما عرفنا صحة النقل إلا بالعقل، تقديم العقل على النقل مستقيم هذا في أصله، جاء شيخ الإسلام وانتبه إلى ناحية وجهة في هذا البرهان في إبطاله مع عدة جهات مهمة جدا تنتبه لها، وهو أنه قال: تقول إذا اختلف العقل والنقل، العقل هذا عقل من؟ ونحن نجدكم أيها المتكلمون تختلفون في العقليات، تختلفون مع الفلاسفة، أنتم تختلفون فيما بينكم في كثير من العقليات، وهناك أقوال لأهل الكلام في المسألة الواحدة، وكذلك تختلفون مع الفلاسفة وهم عندكم حكماء، فالعقل هذا الذي اختلف مع النقل، عقل من؟ وجواب السؤال: أنه ليس ثم عقل محدود؛ أنه عقل فلان، وإذا كان كذلك كان العقل غير منضبط، وإذا صار غير منضبط وجب أن تدخل في العقل هذا عقل السلف؛ لأنهم جزء من العقول، وإذا عقل السلف دخل فحجتهم أقوى ولا مناقضة بين عقل السلف وما بين النقل في النصوص.ف
هذا التأصيل مهم في أنهم يستعملون كلمات تناقشهم في دليلها، فهنا طريقة الخلف أعلم وأحكم من أي شيء وأحكم من أي شيء لم؟ لعقلهم، هذا العقل اختلفوا فيه، بل هم اعترفوا في آخر أعمارهم كما سمعت في أن عقولهم لم تكن صحيحة:
............................ وحاصل دنيانا أذى ووبال(18/103)
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
قيل وقالوا لاختلاف العقول في ذلك، فإذن مناقضة العقل للنقل هذه باطلة، فوجب التسليم إذن لما دلت عليه النصوص، والذين سلموا لما دلت عليه النصوص هم السلف الصالح، فلذلك صارت طريقة السلف أسلم أعلم وأحكم.
هذا الذي يريد أن يصل إليه شيخ الإسلام.
([9]) يعني عقيدة صافية (على عقيدة أمي) يعني ما دخلتها هذه الكلمات، وهذه أريد أن تستفيد منها فائدة عظيمة وهي قول هذا المتكلم (أموت على عقيدة أمي) في إبطال قول من قال: إن عامة الأمة والسواد الأعظم من الأمة على طريقة الأشاعرة والماتريدية، أو على غير طريقة السلف.
طريقة الأشاعرة والماتريدية موجودة في أذهان من درسها، في أذهان المتكلمين، في أذهان العلماء منهم، أما العامة فلو تأتي تسأل عاميا في أي بلد، أثبت لك ما أثبت القرآن، ما قام في ذهنه إلا ما يسمع بظاهر اللفظ، فهذا يقول (أموت على عقيدة أمي) أمك لماذا لم تكن مثلك؟ لأنه هو انصرف عن الفطرة بالتعليم، فلهذا لا يجوز أن يُتسامح في قول من قال إن عامة الأمة أشاعرة، أو السواد الأعظم على غير طريقة السلف، أو على هذه الطريقة الوهابية؛ بل العامة في باب الصفات لا في باب توحيد العبادة، في باب الصفات لا يعرفون الطرق الكلامية ولا يعرفون التأويلات يسمعون ويسلمون، لو تأتي لهم بتفسير ابن جرير وابن كثير وتقرؤه عليهم لما استنكروا فيه شيئا، بخلاف من تعلم فإنه خرج عن فطرته إلى شيء آخر، وهذا يقول (أموت على عقيدة أمي)، فأمه على الفطرة وهو بما تعلّم فسدت فطرته وخرج عن طريق السلف، فالعامة من المسلمين لا يعرفون هذه الطرق ولا التأويلات وإنما هم يسلمون للنصوص.
([10]) (عند الموت) يعني إذا جاء الموت شكُّوا في معلوماتهم السابقة فماتوا على غير عقيدة، ماتوا مترددين، متذبذبين، متشككين. نسأل الله العافية والسلامة.
([11]) [السؤال:.... غير مسموع](18/104)
هذه ما ودّي أنك سألت عنها؛ لأنه استعملها بعض الفضلاء، بعض الأئمة (طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم) ويريد بها من استعملها ممن هم مأمونون؛ بأن طريقة السلف الاستمرار الإثبات؛ إثبات الظاهر والاستمرار على هذا الإثبات، وطريقة الخلف –يعين من تأخر على السلف- طريقتهم إثبات ما أثبته السلف بأنواع البراهين، مثل الآن طريقتنا في الشرح، تقرير العقائد، طريقة شيخ الإسلام فيها التفصيل والبرهان والردود، فيها إثبات الصفات لكن على طريقة برهانية، فيها طول وشرح، لكن السلف ما عندهم هذا، السلف آمنوا بالصفات، وأمروها على ظاهرها، آمنوا بظاهرها ظاهر اللفظ وأثبتوا ما فيها من المعنى، دون خوض في البراهين، دون خوض في التفصيلات؛ لكن من الخلف من أثبت ما أثبتته السلف لكن على طريقة التفصيل والبرهان، فهذا معناه صحيح.
ولهذا نقول في تفسير هذه العبارة: قد يستعملها بعضهم ويريد بها معنى صحيحا، هنا يريد بكلمة الخلف ما يشمل المتأخر جميعا، ولا يريد بالخلف المتكلمين؛ لأن المتكلمين حين قالوا: طريقة الخلف أعلم وأحكم، يريدون بالخلف: المتكلمين، وهذا الذي يعني المعنى الصحيح يريد بالخلف المتأخر؛ لأن الخلف من تبع أو من جاء بعد من سلف يقال له خلف، الألف واللام هنا إما للعهد وهو مراد المتكلمين، وإما للجنس؛ جنس من تأخر وهو مراد من عني بها معنى صحيحا.
([12]) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأول ما سمعتم من الكلام تبعٌ لما قبله في بيان فضل الصحابة رضوان الله عليهم وفضل التابعين وتبع التابعين على المتهوكين الحيارى المتأخرين من المتكلمين والمتفلسفة.
ولاشك أنّ الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبع هداهم، أفضل وأزكى وأعلم وأحكم؛ ذلك لأن العلم والحكمة مكتسبة، فإما أن تكتسب عن طريق العقل، وإما أن تكتسب عن طريق الشرع عن طريق النص.(18/105)
فإن كانت مكتسبة عن طريق العقل فالعقل بإجماع الناس يخطئ ويصيب، يدرك الحق وقد يخفى عليه، والأخذ من الكتاب والسنة هذا فيه العصمة؛ لأنّ الكتاب وحي من الله جل وعلا؛ ولأنّ السنة وحي من الله جل وعلا، فمن أخذ بالكتاب –بنصوصه- وأخذ بالسنة فقد نطق بالعلم والحكمة؛ لأنه متيقن الصحة.
وأما العقل فإنه دون ذلك بمراتب لتعرضه للخطأ.
لهذا أولئك لما جعلوا الأصول العقلية هي المقدَّمة صاروا مفضولين، وصار الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبع هداهم هم أعلم والأحكم في باب أسماء الله جل وعلا وصفاته وباب معرفة الله بعامة، فلا يتصور أن هؤلاء المتكلمين ومن نحى نحوهم الذين ورثوا علوم الهند واليونان، كما قال الشيخ وورثوا أقوال اليهود والنصارى الصابئة لا يمكن أن يكونوا مقاربين لسلف هذه الأمة الذين قال فيهم عليه الصلاة والسلام «خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»، والخيرية راجعة إلى الصفات، ومن أعظم الصفات التي يكون بها الفضل: العلم والعمل، فدل على أن علم الصحابة والقرون المفضلة أغزر وأحكم، وعلى أن عملهم أزكى وأطيب، وبهذا ظهر فضلُهم على من عداهم.
الصابئون فيما ذكر قال (ضلال اليهود والنصارى والصابئين) جاء ذكرهم في القرآن كما هو معلوم?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ?[البقرة:62] فُسر ذلك بوجهين من التفسير:
?إما أن يكون الصابئون ملة من الملل؛ يعني أتباع رسول من الرسل، هم موجودون في شمال الجزيرة يعني في العراق وبعض الشام في الوقت الحاضر -يعني من حيث التقسيم-؛ ولكنهم في القديم كانوا أتباع رسول من الرسل، ولهذا قال جل وعلا ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ?[البقرة:62].
?والقول الثاني أن الصابئين طائفة لهم نحلة انتحلوها وليسوا بتبعٍ لرسول.(18/106)
وهذا بخلاف استعمال العرب لهذه الكلمة؛ لأن استعمال العرب لكمة صبأ بمعنى خرج عن دينه، صبأ محمد يعني خرج عن دينه، هؤلاء صابئة يعني خارجون عن دينه الذي نشؤوا عليه فيما زعموا.
([13]) (إما نص وإما ظاهر) النص يُراد به ما لا يَحتمل غيره، نص وظاهر هذه الألفاظ الأصوليين في بحثهم في الاستدلال، الركن الثالث من الأصول الاستدلال.
والنص: ما لا يحتمل غيره؛ يعني لا يتطرق للكلام احتمال أن يراد غير المعنى المفهوم.
الظاهر: ما يحتمل بمرجوحية، يحتمل ولكن هذا احتمال ضعيف؛ ولكن الأرجح، الغالب، الأظهر، هو الاحتمال الأول، فيكون في الظاهر إما احتمال ظاهر بيّن للمعنى، وثَم احتمال ضعيف خفي للمعنى.
فهذا هو الفرق بين النص والظاهر، ولهذا تجد أن السلف يستعملون كلمة ظاهر كثيرا، أمروا على ظاهرها، أمروها كما جاءت، الأخذ بدلالة النص والظاهر، أما قولهم النصوص، والنص، قد جاء في النص، فيريدون بالنص الكتاب والسنة، وهذا ليس المراد منه الاصطلاح الخاص عند الأصوليين بذلك، وإنما راد بالنص الدليل من الكتاب والسنة.
فإذن تنتبه للفرق بين هذين الاستعمالين.
([14]) الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4.
([15])وابن القيم في النونية جمع أنواع الأدلة على العلو، فهذه الآيات والأحاديث في علو الله جل وعلا:
علو الذات.
وعلو الصفات.
هذه كثيرة جدا يمكن أن تقسم إلى أنواع كما قسمها ابن القيم رحمه الله إلى أكثر من عشرين نوعا.(18/107)
فهذا –مسألة العلو والفوقية- نص لا تحتمل غيرها؛ لأن الآيات دالة بما لا يحتمل أن المراد علو غير علو الذات, إما علو قهر أو قدر فقط أو علو جبروت أو علو هيمنة ونحو ذلك، أو علو جنس على جنس، وإنما هذه الآيات فيها علو الذات، ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ?[فاطر:10]، يصعد إليه, الصعود ظاهر المعنى، بيِّن، نص, انتقال الشيء من وضعه إلى ما هو أعلى، وقوله (إِلَيْهِ), وتقديم (إِلَيْهِ) يفيد أن هذا الصعود يكون إليه جل وعلا دون غيره، فهو سبحانه المتصف بالعلو المطلق, كذلك قوله ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ?[الملك:16]، (السَّمَاء) هنا بمعنى العلو أأمنتم من في العلو، ولما لم يَحُدَّ ذلك بحد دل على أن السماء هنا هو العلو المطلق، نهاية العلو المتصور, نهاية العلو, فلا أَحَدَ أعلى من الله جل وعلا, الله جل وعلا فوق خلقه بذاته، كما أنه فوق خلقه بصفاته, والعلو من أهل العلم من يقول: إن علو الله جل وعلا على خلقه له ثلاث معان:
- علو الذات.
- علو القهر.
- علو القدر.
ومنهم من يقول العلو قسمان:
- علو الذات.
- علو الصفات.
والمخالفون لطريقة السلف يحصرون علو الله جل وعلا في علو القدر والقهر، أو في علو الصفات، أو في علو جنس الله جل وعلا على جنس خلقه، والله جل وعلا واحد في ذلك الجنس فهو سبحانه المتفرد، فقالوا: العلو علو قدر وقهر وعلو جنس، يعني جنس الربوبية عال على جنس المخلوقين، جنس الرب عال على جنس غيره، كما يقال الفضة أعلى من الحديد؛ بمعني لأن جنسها أعلى، أو يقال الذهب أعلى من الفضة بمعنى أن جنس الذهب أعلى من جنس الفضة، وهكذا.
المقصود من هذا أن هذه المسألة مسألة علو الله جل وعلا -علو الذات- من أبشع ما خالف فيه المخالفون، حتى إن طائفة من أهل العلم كفَّروا من لم يُثبت علو الذات لله جل وعلا.
ولا يثبت علو الذات من الفرق إلا أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح.(18/108)
([16])(فيها) هنا في قوله (فيعرج بها إلى السماء التي فيها الله تعالى) (فيها) هنا بمعنى (على)، (في) بمعنى: على السماء التي عليها الله تعالى، كما قال جل وعلا ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ?[الملك:16]، فسرت السماء هنا بمعنى العلو، فيكون في علا من العلو وفسر السلف هنا السماء بجنس السموات، فتكون (في) بمعنى (على): من على السموات. ومجيء (في) بمعنى (على) معروف، من أمثلة ذلك قوله جل وعلا ?وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ?[طه:71]، والتصيلب إنما يكون عليها من الخارج لا في داخلها.
([17]) لهذا قال جماعة من أهل العلم منهم المناوي من الشافعية وغيره: إنه في النصوص أكثر من ألف دليل على علو الله جل وعلا على عرشه، علو الله جل وعلا، مطلق العلو بدون العرش، فعلو الله جل وعلا أدلته كثيرة بالمئات، علو الذات، كما سمعتم بعضها، فنفيه نفي لنص، ولهذا ذكرتُ لك أن ابن القيم رحمه الله جعلها أنواعا كثيرة؛ يعني جعل الأدلة أنواع؛ لأنه لا يمكن أن تسرد بنوع واحد أوهذا تلو هذا، فهي كثيرة متنوعة.
والعلو والفوقية بمعنى واحد، إذا قيل علو الله جل وعلا أو فوقية الله جل وعلا فهما بمعنى واحد.
([18]) هذا الكلام من شيخ الإسلام رحمه الله كالتفصيل لرد قول من قال: إن طريقة السلف أسلم ولكن طريقة السلف أعلم وأحكم.(18/109)
فإننا نعلم باليقين أن السلف تكلموا في مسائل الغيبيات ومنها مسائل الصفات بما هو نص أو ظاهر في إثباتها، ولم يأتِ عنهم نقل لا نصًّا ولا ظاهرا في نفي شيء منها، أو تحكيم العقل في شيء منها، أو تخريج بعض تلك النصوص على شواذ اللغة وغرائب اللهجات واللغات، هذا علم يقين، من أبلغ –كما قال- من أبلغ العلوم الضرورية يعني قد يكون بعد التأمل فيه يكون عند الإنسان المتأمل في ذلك أنه علم ضروري لا يحتاج معه إلى استدلال، إذا تأمل كلام السلف ونظر فيه صار عنده علم ضروري بأن طريقة السلف هي الإثبات، وأنهم لم يدخلوا العقل في ذلك، بمنزلة الشيء الذي يلمسه والذي يحسه والذي يراه يعني يصبح أمرا ضروريا عنده لا يحتاج إلى استدلال.
وهذا هو البين لمن رأى طريقة السلف.
إذا افترضا أن كلام أولئك صحيح وهو أن طريقة الخلف أعلم وأحكم، فنقول طريقة الخلف هي الدخول بعقولهم بنصوص الغيبيات والصفات، والدخول بالعقل في هذه يشترك فيه كل من خالف طريقة السلف، ولكن هؤلاء الذين أجمعوا على وجوب الأخذ بالعقل وتأويل النصوص بما يوافق العقل، هؤلاء الذين أجمعوا على تحكيم العقل على النصوص لا نراهم اتفقوا على تلك المسائل التي خاضوا فيها:
فالجهمية أسسوا هذا المبدأ، ولهم نظر في النصوص خاص بنصوص الصفات والغيبيات والأسماء لله جل وعلا.
المعتزلة خالفوا عقل الجهمية، وأثبتوا بعض الصفات، أثبتوا ثلاثا من الصفات، وأعملوا بعض الأقيسة وخالفوا الجهمية؛ لأن الجهمية في أبواب القدر جبرية، والمعتزلة نفاة للقدر؛ للقدرية؛ القدرية يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه، فالكلية العقلية ما اتفقوا عليها لا في الصفات ولا في أبواب القدر.
وكذلك إذا نظرت إلى الكلابية أيضا أبطلوا هذا الأصل تبعا للجهمية؛ ولكن عقلهم أداهم إلى شيء آخر غير ما قالته المعتزلة، وغير ما قالته الجهمية.
الكرَّامية ؛ أدّاهم عقلهم إلى شيء.
السَّالمية أدّاهم عقلهم إلى شيء.(18/110)
الأشاعرة أدّاهم عقلهم إلى شيء تبعوا فيه الكلابية في جل المسائل.
الماتريدية أداهم عقلهم إلى شيء خالفوا به الأشاعرة في مسائل كثيرة معروفة.
المقصود من هذا أنّ أولئك قالوا إن العقل قاطع والنصوص موهمة. فذكر شيخ الإسلام في هذا التأصيل أن تنازعهم في العقليات من أعظم التنازع والاختلاف، أعظم من اختلاف من اختلف في فهم النصوص؛ بل إن نصوص الغيبيات والصفات لم يحصل بين السلف اختلاف فيها.
فهذا القاطع الذي يسمونه القاطع العقلي ويريدون أن يُرجعوا [انتهى الشريط الأول] النصوص إليه وأن لا تُفهم النصوص إلا بعد عرضها على بعض تلك العقليات.
نقول العقليات اختلفتم فيها اختلافا بينا ظاهرا، فهل يمكن أن يُحيل الشارع إلى عقولكم؟ هل يمكن أن يَعدل السلف عن ما دلَّت عليه النصوص نصا ظاهرا ولا يتكلموا في أي مسألة من دلائل العقول، فيُحجب ذلك ويكتمون؟ هل يمكن يكتموا الحق ولا يبينوه لمن بعدهم؟ والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يكتم الحق ولا يبين ذلك لمن بعده؟ لا شك أن هذا من أمحل المحال، فيبين... فكل واحد له عقل خاص ينظر به للنصوص.
فإذن الإحالة إلى العقل إحالة إلى شيء غير واضح، ومن قواعد المتكلمين المعروفة الإعمال [بالعقل العام] فيستفاد من ذلك لإبطال نظريتهم هذه وهي تحكيم العقل على النصوص بأن العقل ليس بشيء واضح معلوم متفق عليه، فأي عقل هذا؟
ولو كان الأمر كذلك، كما قال شيخ الإسلام هنا فإن الله جل وعلا يكون أحالك إلى العقل ولم يحتج الناس إلى بعثة الرسل لتُبين لهم صفة الله جل وعلا وما له جل وعلا من الأسماء الحسنى والصفات العلا.
هذا استطراد في بيان طريقة السلف، وأنها تفصيل وإثبات، وليس فيها نفي ولا تأويل ولا تفويض، وأنَّ طريقة الخلف عقليات مختلفة متضاربة، وأنّ السلف لم يختلفوا في ذلك، وأن أولئك اختلفوا أكثر اختلاف وأبين اختلاف.(18/111)
فهذا الكلام الذي قالوه من أن طريقة السلف أسلم وطريق الخلف أعلم وأحكم باطل؛ لأن ما يوصف بالعلم والحكمة يجب أن يكون متفقا، غير مختلف غير متباين، فإذا كان متضاربا فكيف يكون علما وحكمة؟ وهم يختلفون في المسألة إلى أقوال؛ بل حتى في المذهب الواحد، تجد أنهم اختلفوا في تفسير بعض الألفاظ إلى مذاهب شتى، سبعة، ثمانية، كما عند الأشاعرة في مسائل، وعند المعتزلة في مسائل، إما في جليِّ الكلام أو في دقيق الكلام.
([19]) على تأصيلهم يقولون الكتاب والسنة غير واضحة مجهولة، فلا يرجع إليها في هذه المسائل، هذا كفر والعياذ بالله.
([20])وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة ليس خاصا في الخصومات العملية بين الناس؛ بل حتى في الخصومات العلمية يجب الرد إلى الكتاب والسنة، فهؤلاء الذين تنازعوا في العلميات في مسائل الصفات والإيمان والقدر والأسماء وغير ذلك، هؤلاء اختلفوا فيها ولم يردوها إلى الكتاب والسنة؛ بل قالوا: إن الكتاب والسنة لا يهدي في هذه المسائل؛ بل الذي يهدي هو العقل. فصار ذلك اتخاذا لطاغوت، تجاوزوا به حدَّه، والطاغوت يكون بأشياء منها طاغوت المتكلمين هذا الذي ردُّوا به الكتاب والسنة وتحاكموا إليه، ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ?[النساء:60]، تحاكموا إلى العقل، تحاكموا إلى الفلسفة، تحاكموا إلى أقوال اليونان، تحاكموا إلى أقوال جهم، إلى أقوال كبرائهم، وتركوا ما يدل عليه الكتاب والسنة.
وهذه هي حقيقة قول المتكلمين، فإن المتكلمين تركوا تحكيم الكتاب والسنة في مسائل الصفات وأخذوا بتحكيم أرائهم وأقوال كبرائهم، وهو من تحكيم الطاغوت.(18/112)
ويمنع من تكفيرهم عدم الجزم بأنهم أرادوا هذا التحاكم، قد يكونون تحاكموا من غير إرادة له ورغبة، إنما لشبهة فيه، فقوله جل وعلا (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) الإرادة هنا مقصودة، (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) فمن أراد واختار التحاكم إلى الطاغوت لا لشبهة قامت عنده فإنه كافر، ولهذا أهل العلم ما كفروا عامة المتكلمين، وإنما ربما كفروا أفاردا منهم الذين تبينوا منهم الحق وتركوه وتحاكموا إلى الطاغوت رغبة منهم في ذلك وإرادة منهم لأقوال الفلاسفة واليونان، والعياذ بالله بعضهم يضيق إذا جاءت النصوص كما في مصنفات بعض المعتزلة وأشباههم، إذا جاء النص ضاق، تحس أن في صدره حرجا منه.
حتى أني سمعت كلمة لبعض المعتزلة أو من ينحون منحى المعتزلة في هذا الوقت يتكلم عن بعض المسائل في الصفات، لما جاء الكلام العقلي قرر مذهبه، ولكن لما جاءت الأدلة من النصوص تلحظ منه وهو يتكلم أن في صدره حرج من إيرادها، فهذا من أعظم الاختلاف، يتلو النص وفي صدره عدم راحة، يود أنه لو لم يكن في الباب هذا النص، هذا بلاء عظيم.
([21]) هذا زعمهم يقولون: نريد أن نوفق بين الدلائل العقلية والنقلية. هذا عمل المتكلمين، أما الفلاسفة، الفلاسفة الإسلاميين يقولون: نرجع النصوص إلى العقل، العقل عندهم أساس، المنطق، الفلسفة وما دلت عليه التجربة والنظر والتأمل هذا أساس, والنص يرجع إليه إن وافقه أخذ به وإن لم يوافقه حمل على محمل يناسب المقام.
ففرق بين المتكلمين والفلاسفة, الذين يوفقون بين الدلائل النقلية والعقلية, هؤلاء هم المتكلمون الذين يوفقون، مثل ما ألف ابن رشد كتابه فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال.(18/113)
فقد ذكرت لكم في أحد هذه المجالس أنّ طلب الحكمة الذي كان عند اليونان -يعني طلب معرفة الصواب بالأشياء إما الأشياء المنظورة أو غير المنظورة-، هذا يكون بالعلم أو العمل، العلم بالعقليات دخل إلى المسلمين فمن ردّ هذه العقليات من السلف.
ومن قال نقبل ذلك ونجعله أساسا، وإذا وافقته النصوص أخذنا بها وإذا خالفته النصوص تركنا النص؛ لأنه تكون دلالته غير واضحة وهم أهل التجهيل، وهؤلاء الفلاسفة.
وطائفة تقول نأخذ بالنص ونأخذ بالدليل العقلي ونوفق بينهما، فجمعوا بين علوم اليونان وعلوم الشريعة في خليط وعجينة جديدة سُمّيت علم الكلام.
هذا من جهة العلم.
ومن جهة العمل صار عندنا شرائح دخلت اشراقات اليونان وآراء فلسفية في إصلاح النفس، ومما أثّر في الأمة منها القول بالإشراق والخير ونحو ذلك الذي شاع عند الصوفية في آواخر القرن الثالث والرابع وما بعده.
المقصود من العلم المهم أن تعرف كيف دخل الانحراف على المسلمين، كيف دخل؟ ما تفهم الأقوال في العقيدة ولا التفصيلات حتى تعرف تطور ذلك في السنين، في القرن الأول كان كذا، والقرن الثاني كان كذا، وتدرج ذلك، تفهم كل قول ما منشؤه، ولم نشأ الخلاف فيه؟ والأقوال المتضاربة ما سببها؟ أما إذا أخذت الأقوال أقوال الأئمة، أو أقوال المخالفين دون معرفة بتسلسل القول، وكيف نشأ يكون عندك ضعف لإدراك المراد من كلامهم والرد عليهم، إلى آخره، من العلم المهم أن تعلم كيف دخل الانحراف على المسلمين في شتى المجالات؛ في الاعتقاد، في العمل، بالتفصيل إلى آخره.
.. ما أعرف في الحقيقة أن هناك بحثا مفصلا فيه؛ لكن يمكن أن يؤخذ باستطراد من كلام شيخ الإسلام من درء تعارض العقل والنقل ........
([22]) هذا الكلام واضح من حيث دلالته على إبطال ما تكلم به المتكلمون وزعموه دلائل ويقينيات من نقض النصوص بالعقليات.(18/114)
التنبيه هنا على قوله (ولازم هذه المقالة) هذا يكثر عند أهل العلم أن يذكروا اللوازم التي تلزم على الأقوال الباطلة، وذلك من جهة البرهان؛ لأن من البرهان على إبطال المقالة أو على فسادها أو على ضعفها أن يلزم منها لوازم باطلة، فإذا كان القول يلزم عليه لوازم باطلة فإن القول باطل، وليس هذا من شيخ الإسلام ولا من أهل العلم بإلزام للقائل بلازم مذهبه؛ لأن التحقيق أن لازم المذهب ليس بمذهب حتى يُصَرِّح صاحبه بمذهبه؛ لكن لازم المذهب يدل على بطلان المذهب، إذا كان ذلك اللازم باطلا، وهذا يستفاد منه في المناظرات، وفي إبطال أقوال أهل الضلال خاصة في العقائد، يستفاد منه أكبر فائدة، فنجد مثلا هنا يقول (لازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خير لهم في أصل دينهم) معلوم أن المتكلمين لا يقولون أن ترك الناس بلا رسالة خير لهم في أصل دينهم؛ لكن هذا لازم على تلك المقالة، ولما كان هذا اللازم يشترك فيه يعني في بطلانه المتكلمون يشترك في إبطاله المتكلمون وأهل السنة دل على فساد تلك المقالة.
فهذا تنبيه على طريقة من طرق الاحتجاج على إبطال أقوال الخصوم.
([23]) السُّمنية بضم السين.
([24]) هذه الكلمة من شيخ الإسلام مهمة ونفيسة رحمه الله تعالى؛ لأن فيها بيان أصل الضلال في هذا الباب، وأن زعم من زعم أن طريقة المتكلمين هذه أنها أحكم أنها باطلة؛ لأن هذا القول قول فيه الإجحاف بالسلف الصالح -كما مر معنا-، ومن المعلوم أنه لم يأتِ شيء في النصوص ولا في هدي النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يرشد الناس إلى ألا يأخذوا بظواهر النصوص؛ بل قال «إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله» كما رواه مسلم في الصحيح، ورواه غيره في قوله «كتاب الله وسنتي ولن يفترقا حتى يرد علي الحوض».(18/115)
وقد قال بعض العلماء: إنه من اليقين القطعي أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تلا القرآن وذكر النصوص التي فيه في الغيبيات والصفات وغيرها، كذلك لما ذكر حديث الصفات على الناس، لم يرد أنه أتبعها بشيء يصرفها عن ظاهرها؛ بل أوردها وترك فهم المعنى للناس، وهذا يدل على أنَّ المعنى الذي اشتملت عليه تلك النصوص هو ظاهر اللفظ؛ لأنه لو كان المعنى غير الظاهر معنى آخر يؤول يجب على النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أن يبينه حتى لا يعتقدوا في الله العقيدة الباطنة، فلما لم يُتبِع ذلك عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بشيء يصرفه عن ظاهره دلنا على أن الظاهر مراد.
ثم نقول إنّ هذه المقالة وهي مقالة التأويل إنما هي مأخوذة عن الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، والجهم ابن صفوان كما ذكر في آخر الكلام، وهو كلام مهم، الجهم بن صفوان كان فقيها عنده علم بالفقه بعض الشيء، ووقع له اجتهاد في مناظرة هذه الطائفة من الطبائعيين الذين يقولون بتناسخ الأرواح وهي طائفة السُّمنية، طائفة من طوائف خراسان والهند، ناظرهم في وجود الله جل وعلا فحيَّروه، حتى قالوا عنه إنه تحير فبقي أربعين يوما لا يصلي من شدة الحيرة، وهذا لأجل أنه خاض في مناظرة أولئك دون علم واسع بما يجب وينبغي في مناظرة أمثال هؤلاء، فقاده ذاك إلى أنه يثبت وجود الله لهم، فلم يجد دليلا يثبت به وجود الله جل وعلا إلا ما سُمي فيما بعد بطريقة حلول أو حدوث الأعراض في الأجسام أو طريقة الجوهر الفرد. هذه الطريقة لها تفاصيل؛ لكن المقصود أنها طريقة مخالفة لما جاء في القرآن والسنة من إثبات الله جل وعلا، ولما تقتضيه الضرورة الفطرية في الإنسان أنه جاء لا من فعل نفسه، ولا من فعل والديه، وقد رُكِّبت فيه هذه الآلات تركيبا عجيبا، محال عند كل ذي عقل أن يكون الزمن أو أن تكون الطبيعة أوجدتها على هذا النحو العجيب.(18/116)
سلك تلك الطريقة التي هي طريقة حلول الأعراض في الأجسام، وقال إنَّ العرض لا يقوم بنفسه – العرض مثل اللون أو الألوان والطبائع الأربعة: الحرارة البرودة والرطوبة واليبس، ومثل الارتفاع والانخفاض والحركة ونحو ذلك، هذه أعراض تكون في الجسم - فلما كان كذلك، قال: إن هذه الأعراض في الجسم الجامد تحل فيه، تحدث فيه، والجسم الجامد هذا لا يمكن أن يكون أحدث تلك الأعراض؛ بل إنما أُحدثت فيه، كذلك هذا الجسم الجامد إذا جزأناه إلى أجزاء صغيرة صغيرة ينتهي إلى ما سَمَّوه بالجوهر الفرد، وهذا الجوهر الفرد يعني الخلية الواحدة أو الجزيء الواحد هذا فيه عرضا أيضا من تلك الأعراض التي ذكرنا.
ومعلوم أن هذا الجزيء الواحد لا يمكن أن يُحدث ذلك العرض لنفسه، لا يحدث الارتفاع في نفسه ولا البرودة ولا الحرارة ولا الرطوبة، إلى آخره، فَعُلم أنه محدَث فيه، وإذا كان محدثا فيه فلا بد له من محدث.
وإذا كان كذلك فخرج هذا الجزيء الصغير، أو خرج هذا الجسم الذي حلت فيه الأعراض، عن حكم الطبيعة؛ لأنه لا يمكن لهذا الجزيء وهو الطبيعة أن يؤثر تلك التأثيرات.(18/117)
المقصود أنهم سلَّموا له بأن الأجسام لابد لها من محدث، قالوا: من هذا المحدِث؟ قال هذا هو ربي هو الله جل وعلا. فلنا سلموا له بذلك فرح، ثم قالوا له صِفْ لنا ربك، فلما أراد أن يصفه بما جاء في القرآن من الصفات تحيَّر أكثر؛ لأنه وجد أنه إذا وصف الله جل وعلا بما جاء في القرآن فإنه سيعود على دليله الذي ذكر بالإبطال؛ لأنه إذا وصف الله بأنه رحيم بأنه ذو رحمة، فالرحمة عرض ليست بجسم يُرى، إنما هي عرض، فمعنى ذلك أن هذا العرض حل في جسم، وهذا يقضي على برهانه الذي أتى به بالإبطال، لأنه يعود يقول من الذي أحدث الرحمة في ربك يا جهم؟ نظر في الصفات؛ الحركة ، في المجيء والإتيان ونحو ذلك، نظر في الاستواء وهو الاستواء على العرش، والعلو، ونحو ذلك، فتحير فلما لم يجد برهانا على وجود الله إلا ذلك البرهان، قال: إنَّ هذا البرهان قطعي فلابد أن كل ما عاد على هذا البرهان القطعي بالإضعاف أو بالبطلان أنْ يؤول، فأوَّل نصوص الصفات جميعا وهذا الذي تبعه عليه المعتزلة ثم الكلابية ثم الأشاعرة، إلى آخره.
هذا مقصود شيخ الإسلام لما ذكر في هذه الجملة، وهي جملة لها تفاصيل كبيرة معروفة.
([25]) هذا الكلام ظاهر لك في أصل الضلال، والجهم بن صفوان هو الذي أسس تحكيم العقول على النصوص، وأن النص لا يحكم بظاهره حتى يعرض على العقل، ولهذا كل من حكم العقل على النص يقال له جهمي، فالمعتزلة من السلف يقولون عنهم أنهم جهمية، بشر المريسي هذا من كبار المعتزلة وهو من الجهمية، وكذلك الكلابية يطلق عليهم طائفة من أئمة السلف أنهم جهمية، كذلك الأشاعرة يقال عنهم جهمية باعتبار أنهم شاركوا جهما في الأصل الذي به رد دلالة النصوص وهو مشاركتهم له في تحكيم العقل على النص.(18/118)
إذن نسبة الطوائف وفرق الضلال إلى جهم بالتبعية له في الأصل الذي أصله إن كانوا لا يقولون بكل ما يقول جهم فليست النسبة مقتضية بالمماثلة في كل شيء والمساواة بل إذا وافق في الأصول، وإن زعم أنه لا يقول بقوله.
التأويلات التي ذكرت في كتب الأشاعرة مثل [......] كتاب التأويلات [....] وهو مطبوع، ومثل كتاب الرازي تأسيس التقديس، الذي رد عليه شيخ الإسلام في كتاب كبير سماه [محو التأسيس] وكغيرهم من المعتزلة والماتريدية لما أولوا من النصوص، هؤلاء إنما تبعوا أوائل المعتزلة والجهمية في تأويل النصوص، تبعوا بشرا المريسي وأمثاله، بل إن بشرا المريسي أعرف بدلالات المنقول والمعقول –مثل ما ذَكر- من هؤلاء؛ لأنه لم يخض في تأويل كل الصفات وإنما خاض في تأويل ما يعظم الشبهة عنده في تأويله، وأما هؤلاء المتأخرون فإنهم خاضوا في تأويل كل الصفات التي لا يثبتونها بجراءة وعدم مراعات عقول الناس، ومن أعظم ذلك دخولهم في تأويل العلو وتأويل الاستواء ونحو ذلك من الصفات.
فالمقصود أن الطريقة متتابعة وأنَّ طريقة هؤلاء إنما هي تبع لطريقة بشر المريسي، وبشر المريسي وأتباعه أجمعت الأمة في وصفهم يعني الفرقة الناجية، أجمع السلف في وصفهم الأئمة ومن تبعهم على أنهم ضلاَّل، وكفّرهم طوائف كثيرة من أهل العلم، وهذا ظاهر بيّن، فالأخذ بمقالتهم أخذ بالضلال الذي أجمع على تضليل من قال به السلف الصالح رضوان الله عليهم، ورحمهم الله تعالى.
([26]) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يبصرنا في ديننا وأن يجعل هذا العلم نورا في القلوب وبصيرة لما نأتي ونذر.(18/119)
ما ذكره هنا تَعداد للكتب التي توجد فيها أقوال السلف في الاعتقاد، وسمعت منها كتبا كثيرة سيأتي كثير من النقول عنها، كذلك نقل عنها وعن غيرها ابن القيم رحمه الله في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية وينقل عنها أهل العلم نصوص السلف في العقيدة في باب الإيمان والقدر وغير ذلك، هذه الكتب التي ينقل عنها يكتفى فيها بشهرة الكتاب ونقل العلماء عنه، ولا يشترط فيها أن يثبت الكتاب لمصنفه وذلك لأن الكتاب إذا نقل عنه أهل العلم واعتمدوه فإن هذا يكفي في النقل عنه، يعني أن يُعتمد وينقل عنه لأن العلماء نقلوا عنه، ولا يفتقر ذلك إلى صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف؛ لأن المقصود ما اشتمل عليه الكتاب من الأقوال، وذلك لأن في بعض ما سمعنا من الكتب شيئا من البحث في نسبة الكتاب إلى مؤلفه مثل كتاب الحيدة للكناني، فإن هناك بحثا [انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني] معروفا في نسبته إلى مؤلفه، وهكذا أيضا غيره.
المقصود أن هذه الكتب اعتمدها المتقدمون من أهل العلم ونقلوا عنها، وكلام السلف من حيث الأصول وأيضا أفراد العقيدة موجود في هذه الكتب، من حرص على كلام السلف وجده في هذه الكتب.(18/120)
المسألة الثانية مما يتعلق بهذا المقام أن كتب المتقدمين من السلف ليست بسهولة الأخذ منها ومنهجية تصور مسائل العقيدة منها كالكتب التي صنفت متأخرة لأئمة السنة كلمعة الاعتقاد والواسطية والحموية والتدمرية هذه وأشباه ذلك؛ وذلك لأن تلك الكتب تعتمد على نقل أقوال السلف، كلام السلف واحد كقواعد في العقائد، وليس يُفهم على أن كل قول منه أصل وقاعدة في بابه، كلام السلف يفهم بعضه مع بعض، سواء كان ذلك كلام الصحابة أو كلام التابعين أو كلام تبع التابعين، أو كلام الأئمة، وذلك لأنه يوجد في كلامهم متشابه، لابد من إرجاع بعضه على بعض، حتى يحكم القول في مسائل الاعتقاد، نعم أكثر كلامهم واضح؛ لكن طالب العلم إذا لم يكن عنده تقعيد جيد في العقيدة، فإنه إذا نظر في كلام الأولين قد يشتبه عليه، ولا يدرك المراد منه، وذلك لأن فهمه يحتاج إلى جمع أقوالهم ومعرفة اصطلاحاتهم؛ بل ومعرفة ما يجري في ذلك الزمن من ردود وأقوال، فمن الكلام المنقول عن السلف ما لا يفهم إلا بفهم بساط الحال الذي كان يعيش عليه ذلك الكلام، وهذا كثير في فهم كلام أهل الفتوى في كل زمان.(18/121)
ذكر أيضا فيما سمعت كتاب الصفات للبيهقي، والبيهقي معدود في الطبقة الأولى من طبقات الأشاعرة، والطبقة الأولى هي أقرب طبقات الأشاعرة لأهل الحديث، فالبيهقي رحمه الله في كتابه الأسماء والصفات خلّط في أبواب الصفات، ولم يجر فيها على طريقة أئمة السنة المتقدمين، فقسم الصفات إلى صفات ذات وإلى صفات فعل، فما كان من صفات الذَّات وجاء نصه في القرآن يعقد له الأبواب لإثباته، وما كان من صفات الفعل -في بعضها- فإنه يتأوله، ويعقد الباب لذكر ما جاء فيه، يقول مثلا: باب ما جاء في الضحك، باب ما جاء في الإتيان، باب ما جاء في الهرولة، وذكر شيخ الإسلام له لا لأجل أنه من كتب أئمة السنة ولكن لأجل أن أقوال السلف موجودة فيه، فهو كتاب ينقل فيه البيهقي بالأسانيد عن المتقدمين، فتؤخذ منه أقوال السلف في مسائل الاعتقاد في الأسماء والصفات.
([27]) الأصل في الترضي أنه للصحابة، ?رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ?[التوبة:100]، ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ?[الفتح:18]، وغير الصحابة يجوز أن يُترضى عنهم؛ ولكن بشرط أن لا يكون ذلك شعارا؛ معناه ألا يلتزم مع ذكر من هم دون الصحابة دائما الترضي، مثل الصلاة، فيجوز أن يُصلى على غير الأنبياء لكن لا يكون ذلك دائما على جهة الشعار، صلَّى الله على أبي بكر، كما قال بعض الصحابة فهذا جائز على جهة المرة والمرتين، فالنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان إذا أتاه قوم بصدقاتهم صلَّى عليهم، فأتاه ابن أبي أَوْفَى بصدقة قومه قال«اللهم صلِّ على ابن أبي أوفى» أو «على آل أبي أوفى»، وأوسع من الصلاة الترضي، فإنه يسوغ الترضي؛ لكن لا يُجعل ذلك بندية الترضي على الصحابة، يعني يقال مرة مرتين ثلاث، ونحو ذلك، ولا يلتزم مع إمام من الأئمة.
([28]) هذا الكلام قواعد كلها تحتاج إلى تفصيل لكن تأخذون تفصيلها من مظانه.(18/122)
ننبه هنا إلى التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل هذه العبارة جُمعت من أقوال متنافرة للسلف بفهم مذهب السلف بعامة.
التحريف: صرف اللفظ عن معناه إلى معنى آخر لا يحتمله البتة، قد يكون بزيادة أو نقصان، مثل تفسير استوى استولى، هذا تحريف لا تدل عليه اللغة ولا يحتمله اللفظ، مثل تفسير الإتيان بإتيان الأمر هذا تحريف أيضا؛ لأنه لا دليل يدل على ذلك.
كذلك التعطيل: التعطيل هو الإخلاء يعني إخلاء الرب جل وعلا عن الصفة، فحقيقة قول النفاة أنهم عطلوا الله عن صفاته يعني أخلوه جل وعلا من أن يكون موصوفا بصفة.
والتكييف: أن تُجعل الصفة على كيفية من الكيفيات، يكيف الصفات، فيقول مثلا: كيفية استواء الله جل وعلا هو كذا وكذا، كيفية سمع الله جل وعلا هو كذا وكذا، كيف يسمع؟ يقول كذا وكذا؛ يجيب، هذه الطريقة لبعض الضالين في القديم، يكيفون، وهذا منفي لأن الله جل وعلا إثبات الصفات له إثبات وجود لا إثبات كيفية.
والأخير التمثيل: التمثيل هذا نفي يقول الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، التمثيل قد يكون، التمثيل هو إثبات المثل أو المثلية، قد يكون في صفة من الصفات، وقد يكون إثبات المثل في أكثر من صفة أو في الذات والصفات، وهو خلاف التشبيه، فالتمثيل أن يقال يده كيد الإنسان، استواءه كاستواء الإنسان، هذا يقول هذا مثل هذا، هذا أيضا منفي؛ لأن الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].
وتفاصيل هذه الجملة بتعريف هذه الألفاظ الأربعة تجدونها فيما سبق ذكره في شرح الواسطية أو في الكتب المعروفة في ذلك.(18/123)
قال بعدها كلمة مهمة هي قوله: إنما وصف الله جل وعلا به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - حق لا مرية فيه، يُفهم من حيث مقصود المتكلم بكلامه. هذه الكلمة دقيقة؛ وذلك أن مقصود المتكلم بكلامه: تارة يكون من جهة أفراد الكلام، وتارة يكون من جهة التركيب.
مثلا يقول هذا كتابي، تفهم معنى الكتاب هو الذي في ذهنك منه، يقول مررت بفلان، تفهم معنى المرور حيث هو كلمة وفلان تتصوره، هذا استعمال للألفاظ وفهم المعنى العام مبني على فهم هذه الألفاظ.
هذا يسمى المعنى الإفرادي للكلام؛ يعني يفهم الكلام بفهم أفراده، هذا نوع.
والثاني وهو مهم في هذا الباب أن المتكلم يُفهم كلامه بتركيب الكلام بسياق الكلام، وهذا هو الذي يسمى عند الأصوليين بالدلالة الحملية للكلام، هذا في غاية الأهمية للناظر في هذا الباب باب الأسماء والصفات؛ لأن من ادعوا التأويل وأن السلف أوّلوا في باب الأسماء والصفات احتجوا ببعض كلامهم في هذا الأمر، وهم إنما أرادوا دلالة التركيب ومعلوم أن الكلام إذا دل بتركيبه فإنه لا يكون نفيا بما دلت عليه أفراده.
مثال ذلك قول الله جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ?[الفرقان:45]، الظاهر الإفرادي للكلام (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) أن الرؤية تكون لله؛ يعني يرى اللهَ جل وعلا يرى الرب جل وعلا (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ)؛ لكن لما قال (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) علمنا بدلالة التركيب وهو ما يُفهم به مقصود المتكلم من كلامه أنه أراد قدرة الله جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا?[الفرقان:45].(18/124)
كذلك قوله جل وعلا ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ?[النحل:26]، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) هل هذه من آيات الصفات فيها الإتيان؟ لا، ولم يحملها السلف على ذلك، وليست من آيات صفة الإتيان؛ لأن المقصود بالإتيان إذا أثبتت الصفة إتيان الذات وليس إتيان الصفات، هنا (أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) نقول ليس هذا دليلا على صفة الإتيان لأن التركيب تركيب الكلام يدل على أن المراد إثبات الصفة بقوله (أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) ومعلوم أن المتقرر في أنه جل وعلا ليس كمثله شيء أن الله جل وعلا لا يأتي بذاته للبنيان من قواعده، فهو جل وعلا أجلُّ من ذلك ومستوٍ على عرشه سبحانه، وإنما المقصود إتيان صفاته اللائقة في هذا الموضع وهي قدرته وبسطه وقوته وعقابه ونكاله بالكافرين لذلك قال(فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ).
أيضا من أمثلته –نطيل فيها لأجل أهمية ذلك- قوله جل وعلا في سورة البقرة? وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ?[البقرة:115]، هنا فسر السلف الوجه بالقبلة؛ لأن الوجه من حيث اللفظ يطلق على الجهة ويطلق على الصفة، وجه بمعنى وِجهة، والوجه وجه الله بمعنى الصفة التي هي الوجه المعروفة، هنا ما حُمل على الصفة مع أنها إضافة وجه الله، إضافة صفة إلى متصف، وذلك لدلالة السياق لدلالة التركيب، وهذا ظاهر لقوله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) لسياق الآيات في القبلة (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يعني القبلة؛ ولهذا خرجت هذه الآية من أن تكون من آيات الصفات.(18/125)
كذلك قوله جل وعلا ? يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ?[القلم:42]، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) هذه هي الآية الوحيدة التي اختلف فيها السلف هل هي من آيات الصفات أم ليست من آيات الصفات؟ وبعضهم قال من آيات الصفات وبعضهم فسرها بما يخرجها عن كونها من آيات الصفات، لم؟ لتنازع هذا الموضع بين أن يُقصد الفرد فتكون من آيات الصفات، أو أن يكون المقصود التركيب فتكون من غير آيات الصفات، يعني هل يفهم الكلام بفهم كلمة (سَاقٍ)، أو نفهمه مع سباقه ولحاقه فمن فهمه مع سباقه ولحاقه، العرب تقول كشفت الحرب عن ساقٍ إذا كشفت عن هول وشدة، وهذا استعمال تركيبي تستعمله العرب للدلالة على الهول والشدة، فلهذا قال ابن عباس وغيره (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يعني عن هول وشدة. وآخرون كأبي سعيد وغيره: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يعني عن ساق الرحمن جل وعلا فيما جاء في الحديث في الدلالة على ذلك.
المقصود هذا البحث مهم وطويل فروعه، تضبطه بأن ظاهر الكلام قد يكون من جهة اللفظ، وقد يكون من جهة التركيب؛ لأن الذي يفهم به مقصود المتكلم من جهة ظاهر كلامه، لأننا لا نعلم بواطن الكلام، لكننا نعلم ظاهر الكلام، هذا مقصود المتكلم نفهمه من جهة ظاهر الكلام، وهذا الظاهر قد يكون من جهة الأفراد، وقد يكون من جهة التركيب، ولهذا ينقسم الظاهر إلى ظاهر إفرادي وتركيبي.
هذا البحث أطال عليه شيخ الإسلام في مواضع كثيرة من كتبه، وهو معروف من جهة أصول الفقه في الركن الثالث من علم الأصول وهو دلالة الألفاظ أو الاستدلال.
([29]) يعني يلزم من كون الشيء حادثا أن يكون قبل ذلك عدما، حدوث الشيء يستلزم سبق حدوثه بالعدم.(18/126)
([30]) (كما لا يمثلون) هنا الكاف هذه كاف التقعيد، يعني ما بعدها قاعدة، ذكرت لكم أنه عند الفقهاء والعلماء تتأتي الكاف تارة للتنضيد التمثيل وتارة تأتي الكاف للتقعيد، يعني يكون ما قبلها فرع من فروع ما بعدها ، هنا قال: لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه. هنا تمثيل ذاته بذات خلقه هذا شيء مجمع عليه أنه لا تمثل الذات بذات الخلق وإنما الخلاف بين الصفاتية في مسألة الصفات، فإنه كذلك لا يمثلون الصفات بصفات خلقه خلافا للمجسمة، فهم لا يمثلون الصفة بالصفة لأنهم لا يمثلون الذات أصلا بشيء من الذوات، فكما أن ذات الله جل وعلا لا تشبه الذوات وكذلك صفاته لا تشبه الصفات، وهذه القاعدة جاءت في التدمرية تبعا لما ذكره الخطابي في كتاب معالم الإيمان أو نحو ذلك، ذكر قاعدة السلف في هذا أن القول في الصفات كالقول في الذات، يحتذى فيه حذوه، وينهج فيه على منواله.
([31])الجوهر ما يقوم بنفسه، والعرض ما لا يقوم إلا بغيره.(18/127)
([32]) هذا الكلام من شيخ الإسلام تقرير لأصل متفق عليه، وبهذا الأصل يرد على الطوائف الضالة؛ ذلك هو قول الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فالله جل وعلا ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، فالذين أوَّلوا، الذين عطلوا الله جل وعلا عن صفاته إما جميعا كالجهمية، وإما بعض الصفات كالصِّفَاتية من المعتزلة والكلابية والأشاعرة والماتريدية ونحو هؤلاء، هؤلاء وقعوا في التمثيل أولا، ثم وقعوا في التعطيل ثانيا، لأنه لا يمكن أن يعطل الله جل وعلا عن صفة من صفاته إلا بسبب أنَّ الذي عطّل قام في قلبه التمثيل ثم لأجل ما قام في قلبه من المعنى الباطل عطَّل، فمثلا إذا أتى لقول الله جل وعلا ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وقع في قلبه أن اليدين في هذه الآية مثل يدي المخلوق، فلما وقع في قلبه هذا المعنى الذي هو التمثيل، قال: اليدان هنا بمعنى القدرة، أو بمعنى النعمة. وسبب هذا التأويل أنه وقع في قلبه أن النص فيه التمثيل، فنفى هذا التمثيل الذي قام بقلبه، أو وقع في قلبه بدلالة النص فنقول هذا من شر ما يكون؛ لأنَّ المعطل شر من الممثل؛ لأن الممثل مثَّل أولا والمجسم جسَّم، لكن المعطل مثل في قلبه ثم سعى لنفي هذا التمثيل الذي قام في قلبه وحمل عليه النص أو ظن أن النص يمكن أن يدل عليه فسعى لتأويله أو لدلالة المجاز عليه أو نحو ذلك. لهذا قال هنا كل معطل لا بد أن يجمع بين التمثيل والتعطيل؛ لأنه ما عطل إلا وقد مثل في قلبه أولا، فنفى ما قام بقلبه من المثلية التي نفاها الله جل وعلا بقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11] سبحانه وتعالى.
تعلمون الكلمة المشهورة عند السلف: الممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدما، والسني يعبد إله واحدا فردا صمدا.(18/128)
([33]) ?لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا?[الفتح:28]، هذه الجملة التي سمعنا من كلام المصنف رحمه الله فيها تأصيل فساد تأويل الآيات والأحاديث التي في الغيبيات بالعقل، والعقل قد حكّمه المبتدعة من الجهمية فالمعتزلة فمن بعدهم إلى يومنا هذا، حكموا العقل في ردّ النصوص، ولهذا وصف العقلانيين يشمل كل من ردّ النصوص بحجج أو بتأويلات عقلية.
والواجب على عباد الله أن يسلموا في الأمور الغيبية بما دلت عليه النصوص؛ لأن الله جل وعلا أعلم بخلقه سبحانه وتعالى، ?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك:14]، وقال جل وعلا ?قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ?[البقرة:140]، وقال جل وعلا ?قُلْ صَدَقَ اللَّهُ?[آل عمران:95]، وقال جل وعلا ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا?[النساء:87]، وقال?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا?[النساء:122]، فالله جل وعلا خبره صدق وحق ويأخذ على ما دل عليه في ظاهره، والذين أولوا الآيات والأحاديث في الأمور الغيبية وصرفوها على حقائقها اللائقة بها إلى معان أخر احتجوا بالعقل، قالوا العقل الصريح اضطرنا إلى ذلك، فمثلا حينما نفوا رؤية الله جل وعلا في الآخرة، قالوا: العقل الصريح يردُّ إمكان هذه الرؤية. كما هو قول الجهمية والمعتزلة، قالوا: لأن الذي يرى لابد أن يكون في جهة، ولابد أن يحاط به من جهة الرؤية، وإذا كان في جهة معناه أنه في مكان، وإذا كان في مكان معناه أنه متحيز وأن ثم مكان من مخلوقاته يسعه، وهذه كلها كما يقولون نعلم بالعقل أنها لا يمكن أن تكون؛ أنها باطلة؛ لأن الله جل وعلا ليس بمحاط بشيء من خلقه ولا متحيز بشيء من خلقه من الأمكنة ونحوها، فدلنا ذلك على بطلان الرؤية، وعلى بطلان الاستواء على العرش وما أشبه هذا.(18/129)
فنفوا الرؤية لأجل هذا الصريح عندهم، وسبب ذلك أنهم جعلوا الصفة من الله جل وعلا من جنس ما يتصف به المخلوق فهم لم يحكموا على الله جل وعلا إلا ما رأوا في الدنيا، ومعلوم أن الفعل الصريح أيضا يدل على أنه يحتمل أن تكون أشياء لا يعقلها العقل.
وهناك مثل بين في ذلك وهو الروح؛ روح الإنسان: فهذه الروح هي في الجسد؛ ولكن هل هذه الروح باقية في الجسد؟ متحيزة به لا تخرج عنه؟ أم أنها تذهب وتجيء وتصعد إلى الله جل وعلا وترسل ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى?[الزمر:42]، فهذه الروح لا يعقلها ابن آدم، فدل على أن تحكيم بعض قوانين المخلوقات في بعض، أن هذا ليس من الحكمة، وليس من العقل، فكيف بتحكيم قوانين المخلوقات على الله جل وعلا؟ ولهذا قال سبحانه ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فلا يجوز أن يوصف الله جل وعلا، أو أن ينفى عنه الوصف في قياس شمولي، ولا بقياس منطقي؛ وذلك لأنه لا ينطبق عليه جل وعلا ما ينطبق على المخلوقات، هذا العقل الذي أولوا به النصوص متناقض أصلا؛ لأننا نجد أنَّ المعتزلة مثلا يثبتون البعث بعد الموت، ويثبتون بعض الصفات.
والنافي للبعث والنافي للصفات التي أثبتها المعتزلة يقول: دلنا العقل الصريح على عدم إثباتها. والمعتزلة يقولون: العقل دل على عدم امتناعها.
ويأتي بعد المعتزلة الكلابية فيقولون المعتزلة أثبتوا ثلاث صفات ونحن نثبت سبعا؛ لأن العقل الصريح دل على إثبات هذه السبع.
والماتريدية وجاءوا وقالوا نثبت ثمان صفات لأن العقل الصريح دل أيضا على إثبات ثمان صفات.(18/130)
فإذن العقل الذي به تأول المعتزلة النصوص وظن أنه هو الصريح وأنه هو الذي يجب أن تخضع إليه الآيات والأحاديث، خالفهم فيه عقل الكلابية، وعقل الأشاعرة، وعقل الماتريدية، وخالف الأشاعرة أيضا في عقلهم الماتريدية.
فإذن عقول أصحاب هذه الفرق التي تعتمد على العقل بعضها يضاد بعضا، فأي عقل هذا الذي يُحكَّم على النصوص؟ لا مناص من القول في أن هذا العقل لا يوجد؛ لأن أصحاب العقل الذين يحكمونه مختلفون في تحكيمه، وهذا قطعي.
لهذا نقول ما من شيء قال فيه المبتدعة إن العقل يحيله من الأمور الغيبية، إلا وثَم دليل على أن العقل لا يحيله.
وخذ مثلا على ذلك الرؤية التي مثل بها شيخ الإسلام؛ رؤية الله جل وعلا، الأشاعرة أثبتوا الرؤية، والمعتزلة نفوا الرؤية، الأشاعرة قالوا: يرى لا في جهة؛ يعني شيء يكون إدراكه في نفس الإنسان لكن رؤيته لا تكون إلى جهة معينة, والمعتزلة قالوا: إن رؤية الله جل وعلا إن أثبتناها بحسب ما جاء بالآيات والأحاديث فمعنى ذلك أن الله في جهة, وإن نفيناها نفينا أن الله في جهة، وعقل المعتزلة في هذه -من اطراد الإثبات والنفي- صحيح، وأما الأشاعرة فمتناقضون.
ولهذا أهل السنة قالوا بإثبات الرؤية وإثبات علو الله جل وعلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى له علو الذات وعلو الصفات سبحانه؛ فإذن هو يُرى وهو في جهة العلو جل وعلا، فالعقل [انتهى الشريط الثاني] مع النقل دلّ على إثبات ذلك وعدم التناقض بين هذا وهذا, ولهذا جعل شيخ الإسلام من الأوجه وهو الوجه الأول: في كل مسألة زعموا أن العقل يحيل الإثبات, نقول في العقل ما يدل على الإثبات، وتضرب بعض المبتدعة ببعض، فالجهمية تضربهم بالمعتزلة, والمعتزلة تضربهم بالأشاعرة, والأشاعرة تضربهم بالماتوريدية, وهكذا في تناسق؛ يعني هذا ضد هذا, هذا ضد هذا، حتى تصل إلى أن قول السنة هو الحق وأن العقل لا يحيل شيء من الصفات.(18/131)
وأعظم دليل على ذلك أن الله جل وعلا لا يقاس بأحد من خلقه، لا قياس شمول، ولا قياس منطق.
المسألة الثانية التي تعرض لها هي: أن نصوص الصفات تُعلم بالاضطرار ليست دليلا واحدا يمكن تأويله، ولا هما نصان يمكن أن يتأولا؛ ولكن هي كثيرة، كثيرة جدا، حيث إنه يعلم بالاضطرار أنَّ المراد بها وصف الله جل وعلا بهذه الصفات. فوصف الله جل وعلا بالعلم, وصف الله جل وعلا بالقدرة, بالكلام، بالسمع, بالبصر, بالحياة، هذا كثير, كثير جدا في القرآن، ولهذا في هذه الصفات لم ينكرها الأشاعرة, ولم ينكر بعضها المعتزلة كذلك غيرها من الصفات؛ الصفات الذاتية أو الفعلية, كصفة الوجه لله جل وعلا أوصفة اليدين، أو صفة القدم له سبحانه وتعالى, أو صفة الساق، أو غير ذلك من الصفات، كلها ثابتة لله جل جلاله، لا يُدخل فيها بتأويل, لأن التأويل يمتنع في هذا بقوة؛ بل بجزم لأن النصوص كثيرة جدا مما يُعلم معه أنه لا مجال للتأويل قطعا، ولا يدخل فيها التأويل؛ لأن التأويل كلمة أو جملة تأتي ويراد منها غير ظاهرها لقرينة -كما يُعرِّفون التأويل بأنه صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره بقرينة دلَّت على ذلك-, هذا يكون في دليل, يكون في مسألة, أما في نصوص الصفات فهي كثيرة كثرة يمتنع معها أن يكون كل هذه الكثرة يُخاض فيها بالتأويل، وإلا يكون أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بل النبوات جميعا أتت بما لا يدركه في صفات الله جل وعلا أحد.(18/132)
([34]) وهذه الثلاث هي صفات الكمال، صفات الكمال في البشر ترجع إلى هذه الثلاث؛ كمال العلم والقدرة والإرادة، إذا كان هناك علم وقدرة وإرادة نتج الفعل أو القول بما يوافق الحكمة، وإذا كان كلامه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حكمة فإنه ينفى عنه الباطل، فكمال هذه الصفات تنتج أنَّ ما قاله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ هو الحق في نفسه، وكونه عليه الصلاة والسلام كاملا في العلم، وكاملا في القدرة البشرية، وكاملا في الإرادة الجازمة التي ليس فيها تردد، هذا متفق عليه بين الفرق، وإذا كان متفقا عليه فيلزم من ذلك أن يُتَّفق على كونه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حكيما صادقا فيما أخبر به، وإذا كان حكيما فيما أخبر به عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ من صفات الله، فمعنى ذلك أن ظاهر هذه الصفات مرادة؛ لأنه إذا كان يخبر عن الله بصفات كثيرة في كل مجلس وبتنوعها ولا يكون ظاهرها مرادا، فيقع في الخلق اعتقاد ما ليس ظاهره مرادا، هذا ينافي الحكمة.
ولهذا نقول: هذا البرهان ضد كل مبتدع، فنقول لكل مبتدع تأوَّل أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام في الصفات أو في الغيبيات، نقول: أليس هو عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق علما؟ فسيقول: بلى. أليس هو عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق قدرة؟ فسيقول: –يعني القدرة البشرية المناسبة له- بلى. أليس هو عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق إرادة فلا تردد في قلبه، بل هو جازم بما يعتقده عليه الصلاة والسلام، أكمل الخلق إرادة؟ فسيقول:بلى. فينتج من ذلك أنه أكمل الخلق حكمة، ثم ينتج من ذلك أنّ ما أخبر به هو الموافق للحكمة، وهو هذه الأخبار التي ظاهرها إثبات الصفات، ظاهرها إثبات البعث، إلى آخره.(18/133)
وإذا كان أكثر الخلق لا يستطيعون الدخول في هذه الأحاديث بالتأويل، وإنما التأويل صنيع الخاصة عند هؤلاء المبتدعة، فإما أن تنفى عنه عليه الصلاة والسلام، فيكون ناقضا لذلك الاعتقاد الأول في أنه عليه الصلاة والسلام كامل العلم والقدرة والإرادة، وإما أن يقال هو عليه الصلاة والسلام حكيم؛ بل هو أحكم الخلق، فيكون إذن في ذلك البرهان على إثبات الصفات والغيبيات.
([35]) ولهذا قال جل وعلا ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا?[فاطر:44]، فقال جل وعلا (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) العجْز إما أن يكون:
عن عدم علم أو نقص في العلم.
وإما عن عدم قدرة أو نقص في القدرة.
وإما عن عدم إرادة أو نقص في الإرادة.
هذا به يكون العجز، ولهذا قال سبحانه (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) وعلل ذلك يعني لِمَ لم يُعجزه شيء سبحانه؟ علل ذلك بقوله (إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) لكمال علمه وكمال قدرته ليس يعجزه شيء سبحانه وتعالى، فهكذا هو عليه الصلاة والسلام لكمال علمه البشري ولكمال قدرته البشرية وإرادته البشرية كَمُل قوله فعله عليه الصلاة والسلام وصار موافقا للحكمة.
([36]) الفلاسفة الإلهية؛ لأن الفلسفة لها عدة أقسام، فهنا قوله (الفلاسفة الإلهية) يعني الفلاسفة الذين اعتنوا بالإلهيات، والفلاسفة منهم من اعتنى بالرياضيات، ومنهم من اعتنى بالطبيعيات، ومنهم من اعتنى بأثر الأصوات والألحان والموسيقى إلى آخره، ومنهم من اعتنى بالإلهيات هؤلاء هم الذين اعتنوا بما يسميه الفلاسفة ما وراء الطبيعة، قسم من أقسام الفلسفة، وهو أعظمها شأنا عندهم.
يريد أن يقول أنّ الفلاسفة الإلهيين هم الذين اهتموا بالفلسفة الإلهية علموا تلك الحقائق.
([37]) يعني الأشعرية مثل الرازي والآمدي وأشباه هؤلاء.(18/134)
([38]) قوله (أن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات) يعني -لا من جهة الإثم، إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات من جهة الإثم، لا، قصده من جهة البرهان.
([39]) هذا التقسيم لطريقة الضلاّل في الوحي وفي النظر في النصوص مهم، وتأصيل وتقعيد لهذه الانحرافات العظيمة، فإن الضلال في هذا الباب على ثلاثة أقسام: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل.
وأهل التخييل: سماهم شيخ الإسلام بذلك؛ لأنهم قالوا الغيبيات عرضت في النصوص بما عرضت به من جهة الخيال لا أنها حقائق وإنما هي خيال، فليس ثَم بعث للأجساد وإنما هو خيال، وليس ثم جنة على ذلك الوصف إنما هو خيال، وليس ثَم نار على ذلك الوصف إنما هو خيال، وليس ثَم كذا وكذا وإنما هذه خيالات، وكذلك في أبواب الصفات فإنّ الله وصف نفسه بكذا وكذا وكذا وقالوا هذه أخيلة كلها؛ لأجل أن يتخيل الجمهور من الناس هذه الأشياء، فسئلوا لِمَ يُحتاج إلى ذلك؟ قالوا: لأن فلسفتنا دلت على أن الجماهير لا يُصلحها البرهان العقلي وإنما تصلحها الأخيلة، فإذا جُعلت لهم الأمور بتخييل يناسب ما يحدث الإصلاح عندهم بأن يكونوا أناسا صالحين في الدنيا، يَعْمُرونها دون تعدي وظلم، فإن هذا الذي يناسب ويصلح، فإذن يكون المراد كمن ذكر العذاب تخييل ليخوف الناس حتى يكونوا صالحين عند أهل الوهم والتخييل، وذكر الصفات كذلك المقصود منها التخييل.(18/135)
وهذا والعياذ بالله أعظم تكذيب لما جاءت به الرسل، ولما أخير الله جل وعلا به في كتبه جميعا، فإن الأخبار لا تقبل النسخ ولا التخصيص؛ لأنّ –الأخبار- إنما مدارها على الصدق أو الكذب والله جل جلاله أخبر بصفة الجنة وصفة النار وأخبر بالبعث في كتبه جميعا، فهذه أخبار لا تتغير بتغير الشرائع ولا بتغير الرسل؛ لأنها خبر صادق من الله جل جلاله، فهذا من قال إنه تخييل هو تكذيب لله جل وعلا ذلك أن الله أخبر بما هو كذب في نفسه، وهذا أعظم ذنب أن يكون المرء مكذبا لله جل وعلا فيما جاءت به الرسل جميعا.
هؤلاء في نصوص الصفات أيضا سلكوا هذا المسلك، فقالوا: في نصوص الصفات ظهرت مظهر التجسيم -كما يقولون- لله وجه، ولله يدان، ولله أعين، ولله جل وعلا صفة كذا وكذا وكذا، وإنما المقصود أن يتخيل الناس أن إلههم له هذه الصفات التي هي من جنس صفاتهم، فيكون قويا قديرا له ذلك، كما يتخيلون الملك القوي في الدنيا فيكون ذلك أبلغ في طاعته وفي عبادته. وهذا قول الفلاسفة الإسلاميين يعني المنتسبين للإسلام الغلاة منهم، وإلا فإن الفلاسفة طبقات في هذا.
وكذلك منهم يعني من الفلاسفة في هذا: الباطنية -لأن الباطنية فلاسفة-، الإسماعيلية وإخوان الصفا والفرق التي تفرعت عن ذلك فإن منهم طوائف تقول بهذا التخييل وحتى النبوات قالوا إنها يمكن أن يتحصل عليها، والحقائق -إذا كانت هذه تخاييل- الحقائق من يدركها؟ يقولون يدركها من صَفَّى باطنه عن الأوهام من الفلاسفة الإلهيين وأشباههم.
المقصود من هذا أن هذا القسم هم الغلاة وهم كفار عند علماء الإسلام؛ بل أجمعت الأمة على كفر من قال بهذا، فمن قال إن شيئا من النصوص إنما هو للتخييل وللإيهام لأجل مناسبة الجمهور وإلا فإنه لا حقيقة له، فإنه تكذيب لما أخبر الله جل وعلا به، وهذا كفر بالاتفاق.(18/136)
وكذلك الباطنية والفلاسفة من جهة الأعمال أيضا يقولون إن الأمر بالأعمال كان لأجل الإصلاح، فإذا صلحت النفس وأشرقت فلا حاجة إلى العمل، لهذا الفلاسفة وغلاة الباطنية يسقطون على أنفسهم العلم فلا يعملون البتة لا صلاة وصيام ولا زكاة ولا حج ولا سائر الأعمال الصالحة؛ لأن العمل مقصود منه شيء وهو الوصول إلى الحقيقة وتصفية الباطن عن الأغيار، فإذا وصل إلى ذلك سقط عنه ما فُرض على العامة، وهذه طريقة غلاة الباطنية والفلاسفة.
القسم الثاني من الضلال في الوحي؛ أهل التأويل: وأهل التأويل المقصود بهم الجهمية؛ فإن الجهمية هم الذين أسسوا بدعة التأويل بصرف النص عن ظاهره إلى معنى آخر بقرائن عقلية، فلا يصفون الله جل وعلا بما يستحق من الصفات التي أخبر بها عن نفسه أو أخبر بها عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يقولون لابد فيها من التأويل لأن البرهان العقلي القاطع دلنا على أنه لا يمكن أن يوصف بهذه الصفات، هذا قول الجهمية الأوائل، فإنه لا يوصف الله جل وعلا عندهم إلا بصفة واحدة وهي صفة الوجود المطلق من القيود، والمعتزلة أتوا بعدهم فأثبتوا ثلاثا من الصفات وأولوا الباقي، ثم الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب فأثبتوا سبعا، وتبعهم عليها الأشاعرة والماتريدية فجعلوا الصفات سبعا أو جعلوها عشرين بنوع من التفصيل، وأوَّلوا الباقي، وعندهم القاعدة أن التأويل هو طريقة المحققين، وطريقة الناقصين التفويض.
لهذا كل من تفرع عن الجهمية يقول بالتأويل، لهذا السلف كل مؤول يعدونه جهميا، فالأشعري يقولون هو جهمي؛ لأنه أوّل، وبدعة التأويل أتى بها الجهمية فيُنسب كل من تأوَّل إلى جهم لأنه وافقه على هذا الأصل وهو أن التأويل يكون في الصفات، فنفوا على الله جل وعلا ما يستحقه من صفات الجمال والجلال وغير ذلك لأجل التأويل بجامع القرينة العقلية التي أصَّلوها من عند أنفسهم.(18/137)
الفرقة الثالثة؛ أهل التجهيل: وأهل التجهيل ذكر منهم شيخ الإسلام صنفا وهم صنفان:
ذكر أن أهل التجهيل الذين يقولون إنَّ النصوص نصوص الصفات والغيبيات لا يعلم أحدا معناها على الحقيقة، وإنما تمر كما جاءت ولا يُعلم معناها، كما ينقلون مخطئين في فهم ما نقلوا في كلام من نقلوه بأن الأئمة أحمد وغيره قالوا: لا كيف ولا معنى في نصوص الصفات والغيبيات. فيقولون إن المعنى لا يدركه أحد لا جبريل كان يعرف المعنى، ولا الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرف المعنى ولا الصحابة كانوا يعرفون المعنى، فلا أحد يعلم المعنى على الحقيقة، وعلى هذا يكونون أهل تجهيل لأنهم قالوا إن الأمة؛ بل إن جميع الخلق يجهلون معنى النصوص فلا أحد يعلم معنى النصوص الغيبية، وهذا معناه أنهم جهال بما أنزل الله جل وعلا على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فمثلا عندهم معنى (يأتي) معنى الإتيان قد يكون هو معنى الرحمة، وقد يكون هو معنى الاستواء، وقد يكون هو معنى الغضب، وقد يكون هو معنى القدرة إلى آخره، فالمعاني لا تفهم بالعربية، وإنما الكلام جرى على هذا النحو لكن معناه لا يعلم، لا أحد يعلم معناه، هذه فرقة وهم الغلاة في هذا الباب، مع أنه منسوب هذا إلى طائفة من المنتسبين إلى السلف كما قال شيخ الإسلام هنا.
والطائفة الأخرى من أهل التجهيل: الذين يفوضون المعنى يقولون المعنى لا نعلمه فنفوّض المعنى إلى الله جل وعلا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم المعنى ولكن لم يبينه، ومن الصحابة من علم المعنى ولكن لم يبينه، وإنما سِيقت نصوص الصفات والغيبيات هكذا دون تفسير لها، ومعانيها غير هذه الظاهرة منها، لهذا يقولون معنى قول السلف أمروها كما جاءت يعني لا تخوضوا فيها.(18/138)
وهذا باطل بوضوح؛ لأنهم قالوا كما جاءت، ولم يقولوا أمروها فقط، وإمرارها كما جاءت في نصها العربي كما هو معلوم، وهذا هو المذهب المعروف بمذهب أهل التفويض، مذهب المفوضة، فإن المفوضة أهل التجهيل لأنهم يقولون نجهل المعنى، وهذا قول كثير من المنتسبين لأحمد من المتأخرين، وقول طائفة من المنتسبين للأشعرية من المتأخرين، ويظنون أن هذا مذهب السلف، وهذا باطل فإنه مذهب أهل التجهيل، ولهذا من عقائد الأشعرية التفويض؛ تفويض المعنى من عقائد الأشاعرة، لهذا في منظومتهم المشهورة في الجوهرة:
وكل نص أوهم التشبيه أوِّله أو فوّض ورُم تنزيهَا
أوِّله كطريقة أهل التأويل وهو الكمال عندهم (أو فوّض) المعنى (ورم تنزيها) وهذا قول طائفة منهم.
السلف وأئمتهم يفوضون ولكن يفوضون الكيفية؛ لأن الكيفية لا يعلمها إلا الله جل وعلا، كيف اتصف بهذه الصفة؟ كيف صفته الوجه؟ كيف صفته القدم؟ كيف صفته اليد؟ كيف صفته القدرة؟ لا يعلمها إلا الله جل وعلا، أما معنى اليد فنعلمه معنى الوجه نعلمه، معنى القدم نعلمه، معنى الرحمة نعلمها، إلى آخره.
فإذن التفويض اللائق أنّ يفوَّض ويوكل العلم إلى الله جل وعلا ولا يعلم أحد تأويله إلا الله سبحانه وتعالى هو تفويض الكيفية لا تفويض المعنى، أما تفويض المعنى فهو من التجهيل، وهذا قول طائفة من الضُّلاَّل؛ بل قد قال الأئمة إنَّ أهل التفويض يعني أهل التجهيل شر من أهل التأويل؛ لأنهم سلبوا المعنى أصلا عن النص الذي يعلم، وأولئك أوَّلوا فأبقوا المعنى ولكن أولوا فأبقوا المعنى ولكن أولوه إلى معنى آخر، والمعنى الآخر الذي أوَّله إليه أهل التأويل صحيح في نفسه ولكنه ليس صحيحا بالنسبة لفظ الذي أولوه، فمثلا أولوا الرحمة بأنها الإنعام، الإنعام صحيح في نفسه أن الله متصف بالإنعام، ولكن لا يصلح أن يكون تفسيرا للرحمة؛ لأن الرحمة صفة من حيث هي معلومة المعنى.(18/139)
المقصود من ذلك أن يُحذر من هذه الطرائق الثلاث، وكلها مناقضة لطريقة السلف، فأعظمها الأولى أهل التخييل وهم كفار، ويليها أهل التجهيل ومنهم من يكفر إذا ادَّعى أن هذه النصوص لا معنى لها البتة، وأخفهم أهل التأويل وأولئك لا يطلق القول بكفرهم؛ ولكن منهم وهم الغلاة؛ غلاة الجهمية وغلاة المعتزلة وأشباههم منهم من حكم بكفره لتكذيبه ما جاءت به النصوص ورده ما دلت عليه. نكتفي بهذا القدر.
.. هو إذا كان يقول أن جبريل لا يعلم، النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم، الصحابة لا يعلمون، لا أحد يعلم المعنى، هذا صنف.
وإذا كان هؤلاء علموا المعنى، والسادات من العلماء وعلموا المعنى؛ لكن لم يبين المعنى لأحد؛ بل يعلمون ويسكتون هذا قول المفوضة، يقول أنا ما أعلم المعنى، أفوض المعنى لله جل وعلا.
([40]) هذا البحث مهم جدا؛ وذاك لأنّ لفظ (التأويل) لفظ جاء في الكتاب والسنة، وجاء به اصطلاح جديد عند علماء الأصول، وتداخل المصطلحات فيما يأتي به العلماء من مصطلح يكون بخلاف المراد بالمصطلح الشرعي يُحدث لَبْسًا كثيرا إلا عند المحقق من أهل العلم، وذلك أنّ العلماء قد يحتاجون إلى وضع اصطلاح لمعنى من المعاني أو شيء من العلوم، فإذا كان هذا اللفظ الذي اصطلح عليه لمعنى من المعاني بتعريفه موجودا في الكتاب والسنة بمعنى آخر وقع الالتباس؛ في أن المتعاطي لذلك العلم يظن أن المراد بلفظ (التأويل) فيما يرد في الكتاب والسنة هو المراد به في ذلك العلم، وهذا له نظائر ذكرت لكم بعضها فيما مضى، ومنها لفظ (التأويل) هذا فإنه لفظ قد جاء في القرآن وجاء في السنة.(18/140)
ففي القرآن مثلا قول الله جل وعلا ?يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ?[يوسف:100]، ?وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ?[يوسف:44]، وقال جل وعلا ?هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ?[الأعراف:53]، وقال جل وعلا ?فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا?[النساء:59]، فهذه النصوص فيها استعمال لفظ (تأويل) وهذا اللفظ يراد منه ما تؤول إليه حقيقة الشيء، ما يؤول إليه الشيء أو تؤول إليه حقيقته؛ لأنه مأخوذ من آل يؤول بمعنى صار يصير، آل الشيء إلى كذا وكذا يؤول إلى كذا، ومعلوم أن الكلام قسمان:
إنشاء وهو الأمر والنهي والطلب والاستخبار ونحو ذلك.
وخبر.
فالإنشاء له تأويل, والخبر له تأويل؛ يعني في النصوص.
فتأويل الإنشاءات امتثالها؛ تأويل الأمر امتثال الأمر، وتأويل النهي امتثال النهي يعني البعد عنه, وذاك لأنه ما تؤول إليه حقيقة الشيء -كما ذكرنا-، هذا التأويل, فحقيقة الأمر بالشيء من الآمر يؤول إلى أنَّ المطلوب امتثاله، وحقيقة ما يؤول إليه النهي أن المطلوب الانتهاء عنه، فأوامر الله جل وعلا ونواهيه تأويلها امتثال الأمر والانتهاء عن النهي.(18/141)
والأخبار مثل الخبر عن الجنة والنار والخبر عن صفات الله جل وعلا، الخبر عن العذاب, عن النعيم, عن ما يكون في عرصات يوم القيامة، وأشباه ذلك من المغيبات، أو ما يكون من المغيب في الدنيا بعد زمن تنزل القرآن، فهذه تأويلها وقوعها؛ لأنها هي الحقيقة التي تؤول إليها كما قال جل وعلا (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ)؛ يعني ما تؤول إليه حقيقة تلك الأخبار للوعد والوعيد، وما تؤول إليه الحقيقة هو وقوعها، لهذا قال (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث] يعني يوم يأتي وقوع ذلك وما تؤول إليه تلك الأخبار من وقوعها كما أخبر الله جل وعلا ?يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ?[الأعراف53].إلى آخر الآيات.
هذه المغيبات التي أخبر الله جل وعلا بها إما من صفاته أو أفعاله أو الجنة والنار أوما سيكون في المستقبل أو أخبار الملائكة إلى آخره، ما تؤول إليه حقيقة الخبر منقسم إلى:
المعنى الذي يُفهم منه وقوع الشيء.
والكيفية لوقوعه.
المعنى والكيفية، فاجتماع المعنى والكيفية يُقال له تأويل وهو أتم التأويل؛ يعني ما تؤول إليه حقيقة إخبار الله عن صفاته هو معناها وكيفية اتصاف الله بها، ما تؤول إليه حقيقة نعيم الجنة -مما أخبر الله به- هو معنى ذلك وكيفيته.
فإذن وقوع تلك الأخبار هو تأويلها، وما تؤول إليه حقيقتها إما أن يكون آيِلاً تأويلا لعناها حيث نفهم الوقوع بمعنى معين، وإما أن يكون تأويلا لكيفيتها يعني مع المعنى.(18/142)
ولهذا جاء إثبات فهم التأويل وجاء نفيه، تأويل المغيبات، نقول نعلم التأويل ولا نعلمه؛ فنعلمه باعتبار، ولا نعلمه باعتبار؛ فإذا أريد بالتأويل ما تؤول إليه حقيقته من حيث وقوعها من جهة المعنى فقط فإن هذا نعلمه؛ لأن القرآن جاء بلفظ عربي مبين، وعلى هذا وقْف من وقَف من السلف على قوله تعالى ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ?[آل عمران:7]، فيعلم الراسخون في العلم التأويل، والله جل وعلا يعلم تأويله، والمراد من هذا بعلم الراسخين المراد منه أنهم يعلمون تأويل المعنى.
والنوع الثاني من تأويل الخبر أن تعلم الكيفية وهذا هو الذي في المغيبات لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وعلى هذا قول من وقف من السلف على لفظ الجلالة (اللَّهُ) وعدّه وقفا لازما (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) يعني الكيفية.
لهذا في تفسير الأحلام ?وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ?[يوسف:44]، ?هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ?[يوسف:100] يعني ما تؤول........
أنّ التأويل في الكتاب والسنة يُراد منه ما تؤول إليه حقيقة الشيء، وهذا الشيء قد يكون إنشاء؛ أمر أو نهي، وقد يكون خبرا، ففي الإنشاء آية النساء ?ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا?، لأنه هناك أمر ونهي ?فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا?[النساء:59]؛ يعني من جهة إنفاذ أمر الله ونهيه.
والخبر مثل ما في آية آل عمران وآية الأعراف وفي غيرها.(18/143)
جاء أهل الاصطلاح وعرّفوا التأويل بأنه صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لقرينة، وبعضهم يعرِّف التأويل بقوله صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة، وهؤلاء الذين عرَّفوا بهذا التعريف، الكلام الصحيح ويُحتاج غليه في الفقه في بعض الأشياء، وهذا التأويل منه ما هو صحيح في نفسه، ومنه ما هو ضعيف، ومنه ما هو باطل لا يصح أن يسمى تأويلا حتى عند الأصوليين.
فإذن هذا القسم من التأويل، يُدَّعى في أشياء أنها تأويل وهو لا يصح عليها التأويل حتى في اصطلاح أهل الأصول.
في نصوص الصفات -وهو ما الكلام عليه الآن- يُقال هذه الآية ليس المراد بها الظاهر وإنما المراد بها كذا، وهذا هو الذي يسمى التأويل، وتأويلها كذا؛ بمعنى أن هذا اللفظ في الصفات ليس مرادا، والمراد كذا للتأويل، والتأويل غير المجاز، الظاهر والمؤول غير الحقيقة والمجاز، فهذا التأويل ظنَّه أصحابه حقا لمجيء النصوص به في قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) فعرّفوا التأويل باصطلاحهم وحملوا هذا التعريف على ما جاء في النصوص فوقع الخلط والباطل.
والصواب في هذا أن التأويل على شرح الأصوليين صحيح إذا تمت شروطه، ولكن إنما ينقل اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إذا لم يكن الظاهر مرادا، هذا شرطه، بحيث إنه يُنقل اللفظ عن الظاهر إلى غيره، يُنقل عن الاحتمال الراجح إلى المرجوح، إذا ظهر أنَّ هذا الاحتمال الراجح غير مراد، أو أنَّ الظاهر غير مراد.
ولهذا يتناقض بعض أهل التفويض مثل ما ذكر لكم شيخ الإسلام من أتباع الأئمة الأربعة يقولون: تُمرّ على ظاهرها أو تُجرى على ظواهرها وتأويلها كذا، ما يستقيم، هذا غلط حتى في تعريف التأويل عند أهله، فلا يقال تجرى على ظاهرها ولا يعلم تأويلها إلا الله، هذا تناقض؛ لأن معنى: تجرى على ظاهرها: أنك لم تحتج إلى التأويل فتفهم المعنى على الظاهر.
فإذن لا إعمال لتعريف التأويل هنا.(18/144)
فإذن تعريف التأويل يكون النزاع أدق فيه مع من يقول: هذا اللفظ ظاهره غير مراد، وإنما المراد كذا وكذا من الاحتمال المرجوح لقرينة كذا وكذا.
وأما من قال الظاهر مراد ولا يَعلم المعنى إلا الله، فهذا خلط من الكلام وتناقض، مثل ما ذكر لك الشيخ تقي الدين رحمه الله.
إذن يبقى الكلام مع من يقول بتعريف التأويل على نحو ما ذكرنا، وجوابه فيما يورد من آيات الصفات أن الظاهر هو الذي ينبغي أن يفهم الكلام عليه؛ ظاهر اللفظ أو ظاهر الكلام؛ لأن السلف قالوا أمروها كما جاءت، وقال بعضهم تجرى على ظاهرها، وإجراؤها على ظاهرها ليس راجعا إلى لفظ، وإنما يرجع إلى اللفظ والتركيب جميعا، فإجراء الكلام على ظاهره يعني ما تفهمه من الكلام على ظاهره، والكلام هذا قد يكون كلمة وقد يكون جملة، فإذا قلنا بهذا فلا احتياج إلى إدخال التأويل في نصوص الغيبيات أصلا، وذلك لسببين:
الأول: أنَّ نصوص الغيبيات لا يُعلم فيها المعنى والكيفية جميعا حتى نقول إنَّ الاحتمال الراجح غير مراد وإنما المراد الاحتمال المرجوح، ومن المتقرر أنَّ صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه أو عن الاحتمال الراجح في تعريف التأويل مشروط بعدم مناسبة الاحتمال الراجح أو الظاهر -كما ذكرتُ لك-، وهذا في نصوص الغيبيات غير متحقق؛ لأننا لا نعلم حقيقة الكيفية وإنما نعلم تأويلها بمعنى المعنى؛ نعلم معناها، أما الكيفية فلا.
فإذن صرفُها ليس له وجه لأنَّ الحقيقة بكمالها معنى وكيفية لا نعلمها، وإنما نعلم المعنى فقط، والمعنى لا يخوِّلنا أن نصرف اللفظ عن احتماله الراجح؛ لأن اللفظ مشتمل على معنى وكيفية، والكيفية غير معلومة فلا بد من إبقاء دلالة اللفظ على ما هي عليه. هذا واحد.
الثاني: أن ظاهر الكلام إذا فهمناه فإننا لا نحتاج معه إلى التأويل؛ لأنَّ ظاهر الكلام يُفهم المراد.(18/145)
مثال ذلك قول الله جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا?[الفرقان45]، في قوله(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) ليس ظاهر الكلام أننا نرى ربنا جل وعلا في الدنيا وكيف يمد الظل في الدنيا, ليس هذا ظاهر الكلام، وإنما الذي يفهمه العربي من ذلك (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) يعني إلى بديع صَنعته وإلى بديع قدرته سبحانه وتعالى.
فإذن ظاهر الكلام يفهم منه العربي شيئا لا يحتاج الذي يريد فهمه إلى أن ينظر إلى كلمة فيه؛ لأنه إذا نظر إلى كلمة حجبته عن رؤية الكل، فلهذا احتاج كثير من العجم إلى التأويل؛ لأنهم ما يفهمون الكلام إلا بتركيب أفراده كلمة كلمتين ثلاثة، أما الكلام بعمومه ليس عندهم من فهم إلا بفهم مفرداته، مثل عندما تأتي تدرس مثلا اللغة الإنجليزية أو تدرس لغة أخرى، حتى تفهم الجملة لابد تحللها، تقول هذه معناها كذا وهذه معناها كذا ثم تتصور الجميع، العربي الذي يفهم العربية لا يحتاج إلى أن يحلل الألفاظ، وإنما يفهمه جميعا بفهم واحد وهو المسمّى: الظاهر التركيبي.
فإذن الظاهر يكون ظاهر الكلام بتركيبه وهو الذي يُفهم منه وهذا لا يُحتاج معه إلى التأويل.
مثاله أيضا قول الله جل وعلا ?وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ?[البقرة:115]، ظاهر هذه الآية واضح في أنها ليست من آيات الصفات وإنما المقصود بها الكلام عن القبلة، (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) يعني الوُجْهَة؛ وُجْهَة الله وهي القبلة.(18/146)
ومثال ذلك أيضا قوله جل وعلا في سورة النحل ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ?[النحل:26]، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) يعني أتاه الله جل وعلا بعذابه بقدرته من القواعد وليس في الآية كما يفهمها أي عربي صحيح العربية أنّ المقصود منها إتيان الله جل وعلا بذاته إلى ذلك المكان إلى قواعده فيهدمه جل وعلا بإتيانه بذاته من القواعد، ليس هذا هو ظاهر الكلام؛ لأن ظاهر الكلام (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ) المقصود هنا الإتيان بالصفات ليس إتيان الذات، هذا واضح من ظاهر الكلام، ولهذا لا أحد لا من السلف ولا من الخلف يقول هنا تأويلها أن المراد هنا بالإتيان إتيان الله وتأويلها هو كذا وكذا وإنما المقصود هو الإتيان بالصفات.
وهذا بخلاف قول الله جل وعلا، قالوا –يعين أهل التأويل- ?وَجَاءَ رَبُّكَ?[الفجر:22]، وجاء أمر ربك، فتلحظ من الكلام أنه على هذا التأويل ظاهر الكلام يضطرب ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22]، يصبح المعنى وجاء أمر ربك والملك صفا صفا، هذا تلحظ أن المعنى اختلّ بهذا، ولهذا نقول الظاهر هنا –ما يفهم من ظاهر الكلام- هذا غير ما أولوا به وإنما هو على ظاهره من أن المجيء هو صفة وهكذا.
فإذن المقصود هنا أنّ الظاهر تارة يُفهم بكلمة، وتارة يفهم من تركيب، فما أُدعي فيه التأويل من المواطن التي أُحتيج فيها إلى التأويل مثل الأمثلة التي ذكرنا، فإنه نقول ليس ثم تأويل فيها هنا على اصطلاحكم، وإنما هذا ظاهر فالكلام لم يزل باقيا على ظاهره، والمقصود به الكلام التركيبي.(18/147)
فتحصلنا من هذا البحث -وله طول تراجعونه في مظانه- أنَّ التأويل صار له ثلاث استعمالات: اثنان منها جاءت في الكتاب والسنة، وواحد في اصطلاح المتأخرين وهو الذي حملوا آيات الصفات عليه وهذا باطل لأنه:
أولا: لفظ محدث اصطلاحي فلا تحكم الاصطلاحات على النصوص.
وثانيا: ما ذكرنا من أن ذلك يُبطل دِلالة الأخبار الغيبية، وهذا باطل أيضا.
([41]) كلام ابن عباس هذا ظاهر ومعنى قوله وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل فمن ادعى علمه فهو كاذب، المقصود به حقيقة الغيبيات التي انفرد الله بها وهو الكيفية.
([42]) وتدبر القرآن جميعا بقوله ?أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ?[المؤمنون:68]، ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا?[محمد:24]، ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82]، ونحو ذلك من الآيات، تدبر القرآن جميعا هو الذي أُمرنا به، تدبر القرآن جميعا يوجب أن يرد المتشابه منه إلى المحكم كما قال جل وعلا ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ?[آل عمران:7]، فالكتاب؛ القرآن منه متشابه ومنه محكم، فمن تدبر القرآن كله كما أمر الله جل وعلا ردّ ما تشابه منه إلى المحكم فخَلَصَ من الإشكال، وكل زائغ عن الحق فاته تدبر القرآن جميعا، فإنه قد يتدبر بعضه، الخوارج تدبروا بعض القرآن وتركوا تدبُّر بعضه، المرجئة كذلك، القدرية كذلك، الأشاعرة، الماتريدية، المعتزلة، الجهمية، جميع الفئات، ضُلاّل الصوفية وهكذا، لكن أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح رحمهم الله تعالى وأجزل لهم المثوبة، هؤلاء تدبروا القرآن كلَّه فما تشابه في موضع ردّوه إلى المحكمات فاتضح لهم الشبيه، اتضح لهم المعنى، سواء ذلك في باب الأسماء أو في باب الأحكام أو في باب المغيبات.(18/148)
([43]) ما سبق كما ذكر إنما هو أصول لتُعْلَم القواعد التي بنى عليها السلف مذهبهم، والقواعد التي بنى عليها المبتدعة مذاهبهم، وتقاسيم المبتدعة في ذلك، وهذه الرسالة مصنفة لبيان مذهب السلف، ولهذا ما سيأتي في الفصل نُقُول كثيرة طويلة عن السلف، وعن من صنف في عقيدة السلف في هذا الباب، ما ينبئ عن معتقدهم في الصفات، وفي الإيمان، وفي الغيبيات، وفي أشباه ذلك، والمخالفون –كما ذكر- هم يعتمدون العقل ويجعلون السمع تابعا للعقل، هذا أصل من أصول الضلال، وإن المتكلمين جميعا اتفقوا على تقديم العقل على النقل، اتفقوا على أن النقل هو القاضي المحكَّم، وأما السمع الشرع، النقل فإنه شاهد من الشواهد، فإن زكاه العقل قُبِل وإلا رُدّ وهذا جعل الجهمية والمعتزلة والكُّلابية والأشاعرة والماتريدية والإكرامية وأصناف الضالين في هذا الباب، جعلهم فرقة واحدة.
فهذا الأصل يجعل كل من تفرَّع بل كل من قال به يجعله جهميا؛ لأن الجهمية والمعتزلة هم الذين أصلوا هذا الأصل، وأن النصوص تابعة للعقل وليس العقل تابعا للنصوص، ولهذا السلف كل من خالف في هذا الباب يعدونه جهميا، قد لا يكون جهميا من جهة تفاصيل المذهب؛ ولكنه جهمي إذْ تبعهم في الأصل الذي أصلوه وهو أن العقل مقدم على النقل، وأنَّ النقل إذا خالف العقل أو لم يدلَّ عليه العقل فإنه لابد من تأويله أو ردّه.
فإذن كل من خالف منهج السلف فيُعزى إلى الجهمية من هذه الجهة، وقد يُعزى كلٌّ إلى مذهبه باعتبار النسبة الأخص، فالنسبة العامة للمبتدعة في أبواب الصفات والغيبيات: الجهمية، والنسبة الخاصة كلٌّ إلى مذهبه المعتزلي ينسب إلى قومه، والأشعري أشعري وهكذا.
هذا الفصل فيه ذَكَرَ نُقول عن السلف وعمّن نقل مذهبهم وهي مهمة في هذا تأصيلا وتفريعا.(18/149)
([44]) وكون الله جل وعلا فوق العرش دليله النقل؛ السمع، أما العقل فلا يدل عليه، ولهذا قال أهل العلم: العلو يدل عليه النقل والعقل، وأما الاستواء على العرش فدليله السمع.
([45]) إذن قول السلف (أمرّوها كما جاءت) وفي رواية لبعضهم (أمروها كما جاءت بلا كيف)، قوله (أمروها كما جاءت) يعني بما دلّ عليها ظاهرها، وظاهرها يدل على إثبات الصفة، لهذا قال (أمرّوها كما جاءت ردّ على المعطلة) لأن المعطلة هم نفاة الصفات الذين يُخلون الله عز وجل من صفات الجلال والجمال، فقوله (أمروها كما جاءت) ردّ على هؤلاء المعطلة؛ لأن قوله (كما جاءت) يعني على ظاهرها وظاهرها إثبات الصفات.
وقوله (بلا كيف) حتى لا يتوهم أن ظاهرها فيه الكيفية كما في قوله جل وعلا ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، لأن اليدين لهما كفيفة معينة وكذلك ?فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا?[الطور:48]، ?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه:46]، وأشباه ذلك، كيفية السمع، كيفية البصر، كيفية العينين كذلك ?يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ?[القلم42] التي هي ساق الرحمن جل وعلا، كذلك لما جاء في الأحاديث «إن الله ينزل إلى سماء الدنيا آخر كل ليلة» في رواية «في الثلث الأخير» في رواية «في النصف الأخير» كيف ينزل؟ ، و(وإن الله استوى على العرش) ، ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، كيف استوى؟ ، هذا كله ليس مرادا، فإثبات الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية، مع وجوب أن يقطع الموحِّد الطمع في إدراك الكيفية، لا يمكن لأحد مهما أجال ذهنه أن يدرك الكيفية، مهما فكر وفكر وفكر لا يمكن أن يدرك ولا أن يعلم ولا أن يأتي على ذهنه أصلا كيفية اتصاف الرحمن بصفاته، لا من جهة الصواب في ذلك، ولا من جهة مقاربته، يعني أن كيفية اتصاف الله جل وعلا بصفاته لا يحوم حوله ذهن بشر مطلقا، حتى ولو فكَّر فكل الأوهام والتفكيرات لن يكون منها كيفية اتصاف الله جل وعلا بصفاته.(18/150)
قال أهل العلم ذلك لأن عقل البشر إنما يدور فيه أحد ثلاثة أشياء:
الأول: أن يدور فيه ما رآه، واحد شفته فيأتي في الذهن صورة هذا المرئي، بناء رأيته إذا أدرت في ذهنك أتى في ذهنك صورة هذا المرئي، وهذا واضح، والله جل وعلا لم يُرَ، فلا يمكن أن يدور في الذهن ذلك.
الثاني: أن يدور في الذهن رؤيةُ مثيله، مثل ما ترى إنسان فتقول أنا رأيت أحدا سُعوديا، والثاني يقول وأنا أيضا رأيت سعوديا، هذا وهذا مثيلان تكوّن صورة من جهة اللباس والهيئة إلى آخره لأنه رأى مثيلا له، رأيت البِناء الفلاني هذا يقول أنا رأيت مثل ذلك، فيتصور هذا ما عند ذاك، وذاك ما عند هذا باعتبار رؤية المثيل، فرؤية المثيل تجعل الصورة والكيفية في الذهن.
النوع الثالث: مما يدور في الذهن ما يكون داخلا ضمن تفريع الجزئي عن الكلي وهو القياس؛ يعني يدور في الذهن من تصور الشيء من جهة الكيفية ما يقاس عليه، مثلا لو أتى أحد وقال لك: هناك خبز في الصين من صفته أنه مستطيل ثم يكون مدوّرا ثم يكون مستقيما، يعني اختلف شكله؛ لكن لمعرفتك بالخبز يمكن أن تتصور كيفية ذلك الخبز لاشتراكه معه في الجنس.
وهذا من جهة التنظير، فإذن الذهن يمكن أن يدور فيه رؤية الشيء أو رؤية مثيل له أو رؤية ما يقاس عليه، وأما غير ذلك فلا يدور في الذهن كيفية شيء أصلا لم يره ولم ير مثيلا له ولاما يقاس عليه، كيف يأتي للذهن؟ فهذا واقع في اتصاف الله جل وعلا بصفاته، فإن اتصافه سبحانه وتعالى وجل وتقدس وتعاظم بصفاته له المعنى وله الكيفية، لنا من ذلك العلم بالمعاني، والعلم بأصل المعنى دون كماله أيضا.
وأما الكيفية فلا يمكن أن تحوم لأحد من البشر على بال، في هذا في يوم القيامة يأتيهم الله جل وعلا في صورة حتى يعرفه خاصة عباده.(18/151)
فإذن الكيفية مقطوع الطمع عن إدراكها، لهذا قال بعض أهل العلم: كل ما دار بذهنك فالله جل وعلا بخلافه؛ لأنه لا يمكن أن تتصور ذلك، لا يمكن أن يأتي للذهن شيء؛ لأن العقل إنما تأتيه المعرفة لرؤية الشيء أو رؤية مثيله أو رؤية ما يقاس عليه، لهذا كلمة السلف هذه عظيمة جدا (أمروها كما جاءت بلا كيف) وإمرارها كما جاءت ليس تعطيلا لها عن المعنى كما يقول المفوضة.
.. السلف حين قالوا أمروها كما جاءت بلا كيف أرادوا صفات الرب جل وعلا، أما الأمور الغيبية فلا، ليست كل الأمور الغيبية، مثلا الميزان أمر غبي؛ لكن رأينا ميزان فيمكن أن نتصور الميزان في الآخرة من جهة ما يقاس عليه، لكن الله جل جلاله لا يمكن، الجنة رأينا في الدنيا بعض النعيم فيمكن أن نتصور نعيم الجنة؛ لكن على كماله وكيفيته التامة؟ لا، لكن أصول الكيفية يمكن أن نتصورها، وكذلك عذاب أهل النار يمكن أن نتصوره لأننا رأينا مثالا له، فالدنيا هذه جعل الله جل وعلا فيها أمثلة للجنة وأمثلة للنار؛ بل ما من شيء إلا وهو مثال لما في الجنة أو ما في النار، ما من شيء إلا وهو مثال لهذه أو هذه، لهذا قال بعض أهل العلم: إن جميع المؤنسات في الدنيا؛ جهة المنظر ما يؤنس العين، أو ما تلذ له الأذن، أو ما يلذ له المتكلم، أو يلذ له البدن داخل البدن أو خارج البدن، لكل ما في الدنيا، إنما هو مثال يذكرك بالجنة، إذا رأيت شيئا مؤنسا، صاحب القلب الحي يتذكر الجنة مباشرة هذا نعيم جُعل في الدنيا لأهلها نعمة من الله جل وعلا وهو يُذكِّر بالجنة، وكذلك إذا رأيت أي مؤذٍ في الدنيا بجميع أنواع المؤذيات من البشر، ومن الجمادات التي تؤذي، ومن الحشرات والطيور والكواسر والسباع وأشباه ذلك، فإن هذا مثال للمؤذيات.(18/152)
لهذا لما ذكر بعضهم وجود المؤذيات من الحشرات وأشباه ذلك مما يؤذي، فأجابه بعض أهل العلم بقوله: لتتذكر النار. قال وجود العقارب، وجود الحيات، وجود كذا وكذا وجود السباع وهذا يهجم، قال: هذا لتتذكر النار.
وهذا من توفيق الله لهذا العالم هذا الرد الجميل، هذا واقع، فإن من حب الله جل وعلا في وجود ما تستلذ له وما لا ترغب في رؤيته، أو ما يؤذي، سواء آذاك أو آذى غيرك أنك تتذكر العذاب، تتذكر النار.
فإذن الحجة قامت على العباد بالقرآن، وبآيات الله في الآفاق وفي الأنفس وفي ما حولك، ما من شيء إلا يذكرك بما أخبر الله به، فالعباد إذن كما قال الله جل وعلا ?لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ?[الملك:10-11]، هذا باب واسع. نعم
([46]) مُطَرِّف بن عبد الله الشِّخِّير.
([47]) إذن لقالوا الاستواء مجهول، لو كانوا يجهلون كالمفوضة، لو كان السلف يجهلون المعنى لقالوا الاستواء مجهول، لكن ما قالوا الاستواء غير مجهول وفي بعض ألفاظها الاستواء معلوم هذا يدل على أن معنى الاستواء على العرش يعلمونه هذا فيه رد على هؤلاء. نعم.
([48]) [انتهى الشريط الثالث].(18/153)
([49])هذا واضح تمام الوضوح، وهو قول السلف (أمروها كما جاءت) فيه إثبات المعنى، وقولهم (بلا كيف) دليل آخر على أنهم يثبتون المعنى؛ لأن من لا يثبت المعنى لا يحتاج أن يقول (بلا كيف)، وإنما الذي يحتاج إلى أن ينفي الكيفية لم يثبت المعنى، فلما نفي السلف الكيفية في إثبات الصفات دلّ ذلك على أنهم يثبتون المعنى، ولكن ينفون العلم بالكيفية، وهذا ظاهر أيضا في قول ربيعة ومالك (الاستواء غير مجهول) يعني علمه، فإن الاستواء في لغة العرب يدل على العلو، يقول العربي إذا كان مرتفعا استوي إلي يعني ارتفع، إلي استوى على الدابة يعني أُعْلُ عليها، استوي على الكرسي يعني أُعْلُ عليه، وعلى هذا قول الله جل وعلا ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، يعني علوتم على الفلك واستقررتم عليها.
([50]) (عظمته) مفعول به للفاعل (العقول)، العقول هي الواردة (وردت عظمتَه العقولُ) يعني العقول دخلت ووردت لعظمة الله جل وعلا لتفهم كيف هي عظمته، فرجعت خاسئة، أما المعنى معنى عظمته ومعنى صفاته فهو معلوم. نعم
([51]) الكلام السابق في كلام ابن الماجشون رحمه الله تعالى تفصيل للقاعدة المعروفة؛ أنّ الكلام في الصفات باب واحد، وأنّ بعض الصفات مثل بعض من جهة الإثبات والإيمان، وأنَّ الحق أنه لا يفرق بين صفة وصفة من جهة التعامل معها؛ أعني العلم والإيمان، فكل صفات الله جل وعلا حق كما وصف بها نفسه جل وعلا وكما وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فصفة الاستواء مثل صفة السمع والبصر، مثل صفة الاستواء مثل صفة الضحك، مثل صفة امكان رؤية الرب جل وعلا يوم القيامة، أو حصول رؤية الرب جل وعلا للمؤمنين في الجنة و في العرصات وأشباه ذلك.
فهذه الصفات الباب فيها باب واحد، ما نقول إن بعض الصفات يُدخل فيه بالعقل فيقبل المجاز والتأويل وبعضها لا يقبل، مثل ما ذهب إليه طائفة من المتأخرين كالخطَّابي والبيهقي وجماعة.(18/154)
بل الحق الذي عليه السلف أن هذا الباب باب واحد لا يختلف، ولا نتجاوز فيه ما حُدَّ لنا نؤمن به، فصفة الضحك، وصفة الاستواء، وصفة النظر إلى وجه الله الكريم يعني أن الله جل وعلا ينظر إليه، وصفة السمع والبصر، هذه الصفات كلها شيء واحد من جهة أنها صفات، لا نقول هذه صفة ذاتية فنتعامل معها بكيت وكيت، وصفات فعلية فيدخلها التأويل، وأشباه هذا.
لهذا قعّد العلماء في هذا عدة قواعد ذكرها شيخ الإسلام في التدمرية:
منها أن الكلام في الصفات كالكلام في بعض.
منها أن الكلام في الصفات الكلام في الذات يحتذا فيها على حذوه وينهج فيه على منواله.
ومنها أن إثبات الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية وأشباه ذلك.
فإذا كان كذلك لا نفرّق إذن بين صفة وصفة، فالعقول هي وردت إلى عظمة الله جل وعلا وأرادت أن تتصور كيف يتصف الرب جل وعلا بهذه الصفات رجعت خاسئة حسيرة فيما أرادت؛ بل الواجب التسليم.
والمؤولة أنواع:
منهم من أوّل الجميع؛ جميع الصفات.
ومنهم من أوّل جميع الصفات إلا ثلاثا المعتزلة.
ومنهم من أوّل جميع الصفات إلا سبعا الكلابية والأشاعرة.
ومنهم من أوّل جميع الصفات إلا ثمان الماتريدية.
ومنهم من أوّل جميع الصفات الفعلية وأثبت الصفات الذاتية كطائفة من المنتسبين إلى الحديث كالبيهقي والخطَّابي وأشباه هؤلاء.
ومنهم من لم يلتزم في هذا شيئا واحدا بل أوّل بما يدخل بعقله وأثبت في بعض الأشياء دون بعض كابن حجر وأشباه هؤلاء وابن الجوزي وجماعة، تناقضوا.(18/155)
فالمؤولة لم يجعلوا الباب بابا واحدا وهم أصناف وطبقات يمكن أن تقسمهم إلى خمس أو ست طبقات، والواجب طريقة السلف هي لا يفرقون في هذا الباب بين وصف ووصف، فإذا تكلموا على صفة الحياء فهو من جنس كلامهم على صفة الاستواء، هو من جنس كلامهم على صفة العلو، الإثبات بلا تكييف ولاتمثيل للرب جل وعلا بخلقه، هوإثبات للمعنى للصفة مع قطع الطمع لإدراك الكيفية والمثلية، جل ربنا وعظم وتقدس سبحانه.
([52]) هذا كما قال الأئمة: لا نتجاوز القرآن والحديث، ابن الماجشون رحمه الله توسع بعبارات للتأثير، القواعد العامة فهذا الكلام، (وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في الحديث عن نبيك عليه الصلاة والسلام فلا تكلفن عمله بعقلك) إلى آخره هذا كقولهم (لا تتجاوز القرآن والحديث). نعم.
([53]) قال المجسمة الذين تجاوزوا القرآن والحديث وجعلوا الله جل وعلا جسما كالأجسام، فإثبات بعض الصفات عندهم دال على صفات أخر، فإثبات القدم دال على وجود الأصابع عندهم، وإثبات الساق دال على وجود الفخذ، وإثبات اليد دال على وجود الساعد والعضد، وإثبات الضحك دال على وجود اللهوات، وإثبات السمع دال على وجود الأذن، وهكذا.
فإذن هناك من عطّل كمن زاد على ما جاء في القرآن والحديث فجعل كل صفة أثبتت دالة على صفة لم ترد باعتبار الالتزام، فجعلوه جل وعلا جسما كالأجسام، لهذا هؤلاء أثبتوا أن الله جل وعلا جسم كالأجسام، وأيدوا ذلك بزعمهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «رأيت البارحة ربي بأحسن صورة»، وفي بعضها إن كانت لا تصح «على صورة شاب[قطط]» إلى آخره، فهذا باطل لأنه تجاوز، فالمجسمة غلوا وتجاوزوا، والمعطلة جفوا ونقصوا، والحق ما بين هذا وهذا أن لا نتجاوز القرآن والحديث نثبت ما أثبته الله جدل وعلا عن نفسه وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.(18/156)
([54]) الجسم هو ما يقبل الحركة عندهم، الكلام، الكلام في الصفات يبحثون في هذه الأمور يقسمون الحديث في الصفات، وغيرها إلى قسمين:
دليل الكلام.
ودقيق الكلام.
دليل الكلام: هذا يتكلمون فيها عن الصفات العامة.
ودقيق الكلام: يتكلون فيها عن التعريفات تعريفات الألفاظ.
فالجسم -عندهم- ما يقبل الحركة، والعَرَض ما لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بالجسم، فالعَرَض مثل الألوان، مثل الأحوال الأربعة: الرطوبة، الجفاف، الحرارة والبرودة وأشباه ذلك.
لماذا ذكر الجسم والعَرَض هنا؟
قال (كما تقوله الجهمية أنه يلزم أن يكون جسما أو عرضا فيكون محدثا) هذا لأن جهم أثبت وجود الله جل وعلا عن طريق حدوث الأجسام، وأثبت حدوث الأجسام عن طريق حدوث الأعراض في الأجسام فكانت هذه الأشياء محدثة عنده عن طريق برهان الجسم والعرض، لهذا ذكر هنا قال (كما تقوله الجهمية أنه يلزم أن يكون جسما أو عرضا فيكون محدثا) لأنهم ما أثبتوا المحدثات إلا عن طريق الأجسام والأعراض.
وذلك أن جهم قال لما ناظرته السُّمنيَّة، طائفة من التناسخية في الهند، ناظرته وقالوا له: أثبت لنا وجود ربك. وشككوه فتأمل مدة، وكان من الفقهاء جهم بن صفوان الترمذي كان فقيها، وكان عنده علم بالشريعة وبالنصوص، فنظر كيف يقنع السُّمينة بإثبات وجود الله جل وعلا، فتأمل تأمل في العقليات، فوجد أن البرهان الصحيح هو حدوث الأعراض في الأجسام، فالعَرَض باتفاق بينه وبينهم أنه لا يقوم بنفسه –حرارة، برودة، لون، رطوبة، جفاف- هذه أشياء لا تقوم بنفسها، غير محسوسة، وإنما توجد في غيرها.
فنظر فإذا الجسم تحله الحرارة، تحله البرودة، تحله الألوان المختلفة، الجفاف، والرطوبة، فقال: الجسم حلَّت فيه هذه الأشياء، فدل على أنه مكان للتغيُّر، ومكان لحلول الأعراض فيه، والعرض لا يوجِد نفسَه بالاتفاق، وإنما يُوجَد.(18/157)
فإذن الجسم أُوجد فيه؛ جُعل فيه العرض؛ أُحدث فيه العرض، فمعناه أن الجسم لابد له من عرض؛ يعني لا يبقى بلا عرض لا يمكن أن لا يكون له لون ولا يمكن أن لا يكون له صفة من الصفات الأرض حرارة برودة رطوبة ويبوسة.
فإذا كان كذلك، فلابدّ من إيجاده، فمن الذي أوجده؟ فقال: إذن هنا الجسم لما كان يقبَل إحداث العرض فيه دل على أنه محدث؛ لأن الجسم لا يكون إلا بعرض؛ لابد له من عرض، فالجسم حقيقته ما يقبل الحركة والعرض فيه، والعرض لا يوجد بنفسه، والأجسام تتغير الأعراض فيها، فدلّ أن الجسم لا يوجد العرض بنفسه، فإذا كان العرض محدث في الجسم، فدل على أن ما حل فيه ذلك المحدث ذلك المتغير محدَث.
فسلموا له هذه القضية، فقالوا: دل ذلك على أن الأجسام محدثة. فقال لهم: فالمحدث لها هو الله جل وعلا.
ثم قالوا له: ما صفة ربك؟ لأنهم هم بالهند كل إله له كذا الآلهة لها صفات، فقالوا ما صفة ربك؟ فنظر فإذا هم أمام مشكلة كبيرة، وهي أنه إذا أثبت ما جاء في الكتاب من الصفات فسيعود ذلك الإثبات إلى برهانه الذي برهنه بالإبطال؛ لأنّ عندنا صفات لا تقوم بنفسها مثل صفة مثلا الإتيان، الإتيان هذا على حسب تعريفهم عَرَض ليس جسم يقبل الحركة هو بنفسه، الإتيان شيء يكون في الموصوف، صحيح؟ مثل مثلا الاستواء، مثل الرحمة، الرأفة، الغضب، الرضا، فوجد صفات كثيرة إن أثبتها كما جاء في القرآن صارت جميعا أشياء غير موجودة بنفسها وإنما توجد في شيء ، الوجه ، اليدين إلى آخره، فوجد أنه لا يستقيم له صفة إلا صفة واحدة لا تطعن على برهانه في وجود الله بالإبطال وهي صفة الوجود، ولهذا قال لا نصف الله جل وعلا إلا بالوجود الأعظم فقط. وما جاء في الكتاب والسنة من الأسماء والصفات يؤولها بمخلوقات منفصلة عن الرب جل وعلا.
المعتزلة سلموا بهذا البرهان ولكن قالوا العقل دليل رابع على إثبات ثلاث صفات، فالبرهان سليم ولكن ثمّ ثلاث صفات دلّ العقل على إيجادها فأثبتوا ثلاثة.(18/158)
الكلابية قالوا البرهان صحيح والعقل دلّ على إثبات سبعة فزادوا بهذا.
الماتريدية قالوا البرهان صحيح لكن دل العقل على زيادة الثامن وهو صفة التكوين؛ لأنه محدِث فلا بد أن يكون موصوف بالتكوين إلى آخره.
هذا كله يبين لك أن كل من نفى الصفات فهو جهمي؛ لأنه ما نفى الصفة إلا لتسليمه ببرهان جهم في وجود الله جل وعلا، ولهذا إذا كان ثَم حاذق في طريقة الأشاعرة والماتريدية فإذا زُلزل عن هذا البرهان صار ما بعده أسهل؛ لهذا شيخ الإسلام ابن تيمية كرر نقض هذا البرهان الجهمي على وجود الله جل وعلا يعني إبطاله من أوجه كثيرة في كل كتبيه: في منهاج السنة عرض له بالتفصيل، في النبوات عرض له بالتفصيل، في درء تعارض العقل والنقل عرض له بالتفصيل، في الجواب الصحيح عرض له بالتفصيل، في كل موضع يأتي بهذا الكلام، في الرد على الرازي؛ الرد المطول أيضا عرض له بالتفصيل وهكذا.
فإذن هذه الكلمة فيها إشعار بهذا، فكل من نفى صفة من الصفات فإنما كان عن هذا الطريق، لقوله هنا (كيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها -يعني على حسب قولهم –كذا وكذا كما تقوله الجهمية أنه يلزم أن يكون جسما أو عرضا فيكون محدثا).
هذه كلمة مُهمة مهمة، ولها تفاصيل وفهم مسيرة الانحراف في أقوال الناس في الصفات نابع من هذه المسألة.
فإذا فهمت هذه المسألة جيدا فهمت قدر تفرع الفرق إلى أقوال، ليش قال المعتزلة ثلاث صفات؟ وليش قال الأشاعرة سبع؟ والماتريدية ثمان؟ والكرامية قالوا كذا؟ السالمية لماذا قالوا كذا؟ والمرجئة إلى آخره، كلها مبنية على هذه المسألة.
([55])لا توالي أحدا دون أحد يعني من الصحابة.
([56]) (ولأنْ يَفْقَهَ الرجلُ ) اللام هذه واقعة في جواب القسم تسمى المواطئة، مفتوحة وليست مكسورة (ولأَن).
([57]) الواقف الذي لا يثبت ولا ينفي، ما يدري، لا يقول كذا ولا كذا، هذا يسمى الواقف.(18/159)
([58]) كتاب الفقه الكبر -لأبي حنيفة النعمان بن ثابت أحد العلماء الكبار المتبوعين في الفقه- كتاب اشتمل على كثير من مسائل الاعتقاد وسماه الفقه الأكبر مقابلة بالأصغر، وكما سمعت حثّ فيه على العلم النافع، وقال (لأن يفقه الرجل كيف يعبد ربّه خير له من يستزيد ويكثر في العلم) لأن العلم نوعان علم مقصود للعمل وعلم غير مقصود للعمل، وإذا كان العبد يكثر من العمل الذي لا يقصد للعمل وهو جاهل أو ينقصه كثير والأكثر فيما يحتاجه للعمل، هذا لا شك أنه من جهله وعدم معرفته بغاية العلم، فالعلم الغاية منه العمل؛ والعمل -عمل قلب وعمل الجوارح- هذا يكون بالعلم بالتوحيد وبالعقيدة الصحيحة، وكذلك بالعمل بالفرائض وفقه ذلك.
والاستزادة بالفنون المختلفة هذا ما يجري على أصحابه شيئا من جهة الفقه الصحيح والأجر والثواب إلا إذا كانوا على علم بما يعبدون ربهم به وفيما يتعاملون به، فإذا كان يبتاع ويشتري يعرف كيف يبتاع وكيف يشتري، وإذا كان له زوجة يعرف كيف يعامل أهله المعاملة الشرعية الصحيحة ويعاشرها بما أمر الله جل وعلا به، وإذا كان له أكثر من زوجة يعرف كيف يعامل هذه وهذه، وإذا كان له أصحاب يعرف كيف يعاملهم بالشرع وهكذا.
فإذا كان في نوع من تعامله يحتاج إلى الشرع؛ إلى معرفة حكم الشرع فيه ولم يطلب علم الشرع فيه، وطلب علم آخر لا يحتاجه من جهة العمل، فهو مقصر ويلحقه الإثم بذلك.
مثل بعض الناس يتوسع في علوم ليست مرادة من جهة العمل مثل التوسع في معرفة السيرة أو التراجم، أو في تخريج الأحاديث، أو في المصطلح، أو في النحو، أو في أصول الفقه، فيفوته العلم بنصوص الكتاب والسنة والعلم بالفقه والعقيدة الصحيحة والتوحيد، وهو يتوسع في علوم -كما يقال- على حساب العلوم الأصلية هذا لاشك أنه خلاف المقصود شرعا، وذكر لك هذا أبو حنيفة رحمه الله تعالى.(18/160)
أيضا ذكر في هذا الكتاب مسائل كثيرة تتعلق بالاعتقاد، وهذا الكتاب له أكثر من رواية منها رواية أبي مطيع البلخي التي نقل عنها شيخ الإسلام هنا، فهي الرواية المعتمدة عند أصحابه، وله روايات أخر وعند الحنفية من تفصيل هذه الروايات والفروق بينها شيء كثير.
الكتاب عليه مؤاخذات في بعض المواضع مخالف فيها لعقيدة السلف، وهذا يطلب في مكانه في وقت آخر إن شاء الله.
ذكر فيما سمعت: الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذِكره له لغرض مخالفة الخوارج، فإن الخوارج وأشباه الخوارج في ذلك الزمان احتجوا على خروجهم عن طاعة الإمام بنصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فبيّن أنه لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر بجماعة تخرج عن الإمام، تخرج عن الطاعة بالسيف أو بغيره؛ لأن هذا كما قال: إنهم ما يفسدون أكثر مما يصلحون. وهذا واقع فإنه ما خرج أحد في تاريخ الإسلام على طاعة الإمام الحق إلا وكان ما يفسد أكثر مما يصلح، ويروم الصلاح ويروم الإصلاح ولكن يحصل من الفساد أكثر مما أراد من الإصلاح.
وهذا ذكره شيخ الإسلام في مواضع كثيرة، وقد أطال في هذا الموضع -يعني في بيان الأمر والنهي- في رسالته المعروفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيّن أوجه الصلاح الباقية في طاعة الإمام، وأوجه الفساد في الخروج عنه، وحال الفرق المخالفة.(18/161)
كذلك ذكر مسألة العلو لله جل وعلا والاستواء على العرش، ومن كذّب وأنكر أن الله جل وعلا في السماء مثل ما قال أبو حنيفة فهو كافر إلا أن يكون له تأويل مستساغ، ولهذا كثير من أهل العلم كفروا الذين ينفون علو الذات لله جل جلاله، والصواب في ذلك أنه لا يقطع في تكفيرهم؛ لأنه قد يكون لهم تأويل فلابد من إقامة الحجة عليهم؛ لأنه وقع في ذلك كثير من علماء كبار في الأمة، ولم ينص المحققون والأئمة على تكفيرهم، فيقال بالكفر من جهة الوعيد والتخويف لكن من جهة التطبيق فلا نعلم أنه طُبق على من أنكر علو الذات من العلماء؛ لأن علماء الأشاعرة والماتريدية هؤلاء يُنكرون علو الذات لله جل وعلا وأن الله مستو على عرشه كما يليق بجلاله جل جلاله، بل يقولون الاستواء بمعنى الاستيلاء والقهر، ويقول العلو بمعنى علو القهر والقدر وليس بعلو الذات.
الاستواء دليله سمعي؛ دليله القرآن والسنة، والعلو دليله فطري مع الكتاب والسنة والإجماع، ففرق بين المسألتين، شيخ الإسلام فيما سمعت قال لك (وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية) لا يقصد بها الاستواء والعلو وإنما يقصد بها العلو واتجاه الداعي، جهة الدعاء؛ يعني الداعي يدعو من أعلى لا من أسفل، يتجه إلى العلو في دعائه، وهذا الاتجاه ليس لأن العلو قبلة الدعاء والسماء قبلة الدعاء كما تقوله المبتدعة، إنما اتجاه إلى المدعو، الله جل جلاله في السماء وهذا فطري قد أجمع عليه الناس: المسلمون والكفار والمشركون؛ بل وحتى الذين لا يعرفون الله جل جلاله، كما ذكر ذلك بعض أصحاب الرحلات قالوا ذهبنا –تسمى برحلة [ابن طبلان] المعروفة- قال ذهبنا إلى قوم ليس لهم دين ولا يعرفون الله؛ ولكن كانوا إذا أصابتهم شدة وقحط أو بلاء أومصيبة خرجوا إلى الصحراء خرجوا إلى خارج البلد فتوجهوا إلى السماء بأدعية وهذا مما ورثوه ممن قبلهم أو هو فطري في الأنفس، وهذا بين واضح.(18/162)
فإذن الاستواء ليس دليله فطريا، ليس دليله عقليا وإنما دليله السمع، أما الدليل الفطري العقلي فهو في العلو وفي اتجاه الداعي، اتجاه الداعي أنه يدعو متجها إلى العلو طلبا للمدعو جل جلاله هذا فطري، وعلو الله جل وعلا هذا على خلقه علو الذات هذا أيضا عقلي.
فلهذا إذن نقول دليل العلو الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة.
فما دل عليه الإمام أبي حنيفة ظاهر من كون الله جل جلاله فوق سمواته مستو على عرشه كما يليق بجلاله وأن إنكار ذلك كفر؛ لأنه جل وعلا أثبت ذلك بقوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5] سبحانه وتعالى.
([59]) لأن الفرق بين الجهمية وغيرهم القول بالحد، القول بالحد هو الفرق، القول (بائن من خلقه) هذا هو التفريق، ولهذا نص كثير من الأئمة قال بحدٍّ، وهذه كلمة لم ترد في الكتاب والسنة؛ لكن لأجل التفريق ما بين الذين ينكرون العلو، علو الذات والاستواء على العرش وبين المقرين به؛ لأنه قد يقول أقرّ بأن الله على العرش استوى ويعني به مستول، أو يعني به معنى آخر في ذهنه، أو يقول لا أدري –أيضا في نفسه- ما معنى استوى؟ لكن إذا قال بحد، أو بائن من خلقه هنا صار المعنى استواء الذات وعلو الذات.
ولهذا دخل كثير من الأئمة في لفظ الحد وألفاظ غير واردة في الكتاب والسنة لأجل الفصل ما بين قول المبتدعة وقول غيرهم، فاتخذوا هذه الألفاظ حتى لا يضيع الحق فيما بين ألفاظ المبتدعة، فاحتاجوا إليها احتياجا حتى يُفرق بين أقوال أهل البدع وأقوال أهل الحق. [انتهى الوجه الأول من الشريط الرابع]
([60]) يعني يقول في كل مكان، هذا المعنى، (يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان) يعني يقول الله في كل مكان, أو يخلط منه الذات بالأقدار والأنتان يعني يقول الله في كل مكان والعياذ بالله.(18/163)
في مكة، في السنة هذه، في رمضان، في الحرم فيه ثلاثة يتكلمون واحد يقول – يبدو واحد من الشباب يناقش مسألة العلو– وأغلظ عليه وشدد، ولا تحتج بقول علماء الأزهر، وهذا الشاب يبدو أنه قال أن هؤلاء علماء الأزهر لا يفقهون شيئا، وأنا أفهم منهم وهؤلاء كذا وكذا فأخذتهم الحمية، هم يتكلمون, أنا أمشي أسمعهم، قال واحد منهم كيف يقول الناس أنَّ الله استوى على عرشه, هو على عرشه يعني في كل مكان, أنا سمعتها من الدكتور عبد الحليم محمود, كان يرددها, كيف هذا.
الشاهد من هذا أن إضلال الناس وقع في هذه المسائل بأقوال العلماء, علماء الظلال أو العلماء المخالفين أوقعوا في الناس خلاف ما دل عليه النص, لهذا بعض الناس يقول أكثر الأمة أشاعرة, هذا غلط وباطل؛ بل أكثر الأمة على السنة في الصفات؛ إلا إذا أتاهم مبتدع يعلمهم غير العقيدة الصحيحة، هنا ينتقلون، أما فطرتهم ما عليه, يسمع ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، ما يأتي في ذهنه المعنى الباطل إلا بالتعليم إنما يأتي في ذهنه التسليم (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) سبحانه وتعالى، فيأتي من يقرر له خلاف العقيدة الصحيحة بالتعليم.(18/164)
ولهذا نقول أكثر هذه الأمة في الصفات على الفطرة، يعني على التسليم؛ إلا إذا أتاهم من يعلمهم العقيدة الأشعرية أو يقرر لهم العقيدة الماتوريدبة، فإنهم يخرجون عن ذلك وتقر في أذهانهم الأقوال المبتدعة؛ لأن العامي ما يعرف كيف يصرف لفظ الكتاب والسنة إلى التأويل، أو إلى المجاز، أو ينفي الحقائق التي دلت عليها النصوص، وإنما هذا بفعل علماء الظلال، الذين أظلوا الأمة، وهذا من المصائب الكبيرة. يأتي من يحتج بقول عالم, هذا كيف تقنعه, لذلك مثلا شاب أو طالب علم صغير يناقش واحد كبير، يقول أنا سمعت من العالم الفلاني الذي فيه كذا وكذا أنه قال كذا أو ذكره في كتابه كذا, كيف تناقض هذا القول، أنت أفهم من فلان, أنت أعلم من فلان, فيذهب في القول في المسألة بالترجيح بقول الرجال، بقول العلماء هذا قال كذا وكذا, لكن أنظر إلى النصوص، فإذا احتجت إلى مناقشة من عنده شبهات في العقيدة وفي التوحيد فلا تدخل في الحكم على القائل؛ لأن الحكم على القائل يصرف ذهن ويصرف قلب المناقَش إلى الدفاع عن هذا المتهم, أو هذا المقدوح فيه, تقول العلم هذا فيه كذا وكذا وكذا، خلاص ينصرف عن أصل المسألة وتأخذه الحمية للدفاع عن[......] من يعظِّمهم يُحدث من الفرقة ما يحدثه الخروج عن الإمام.
لهذا ترى شيخ الإسلام لما كتب الوصية الكبرى عظّم عدي بن مسافر وبين أنه كذا ومقامه في السنة, لما أتى يتكلم شرح كلمات في نصوص الغيب عظّم عبد القادر الجيلاني وما قدح فيه بشيء؛ لأن هؤلاء أئمة طرق صوفية، فقال هؤلاء فيهم وفيهم وذكر النصوص عنهم في رجوعهم للسنة ومحبتهم للسنة ومحبتهم لأهل الحق, فهذا أصل في أنك عند نقاش المخالف لا يستجرك الخلاف إلى أن تتكلم في الشخص؛ لأنه يصد عن قبول الحق، يصبح هناك تعصب هو يتعصب للشخص وأنت تتعصب عليه، فيحجز ذلك عن قبول الحق في المسألة.(18/165)
المقصود ليس الكلام في العلماء, العلماء أدوات لنقل الشريعة, فإن نقلوها على الصواب فذلك من كرامة الله لهم, وإن نقلوها على الغلط فلا يتبع العالم بزلته و لا يقدح فيه بزلته، إلا إذا احتيج إلى ذلك في مقامات, أما في النقاش تنتبه إلى أنك تقرر الحق وتصبر مهما بالغ في مدح العالم لا تقدح فيه، حتى لا يكون في قلب المتحدث معه حاجزا عن قبول الحق الذي تأتي به؛ لأن النفوس جبلت على تعظيم الأشخاص، فإذا تقدح فيه ولو كان كلامه حقا لكن يؤخر بعض الحق في مصلحة راجحة ويبين الحق في نفسه حتى يقبل.
وهذا هو الذي عمله علماء الملة وأئمة المتقين، فإذا نظرت شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه ما تكلم بالأئمة شيء ولو كان عندهم بعض المخالفات، مثل أبي حنيفة رحمه الله, بل جعله من الأئمة الأعلام، كما في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وأتى من أتى وقال أبوا حنيفة ذها فيه وفيه وقد وقدحوا، وهكذا.
أئمة الدعوة رحمهم الله ما قدحوا في الأئمة الذين حصلت عندهم مخالفات، ما قدحوا في ابن قدامة ولا في النووي مع أنهم أوردوا بعض القصص التي استدل بها المبتدعة، وما قدحوا في ابن حجر ولا في العلماء الذين شرحوا كتب الحديث والمفكرين، وإنما أخذوا منهم ونقلوا الحق، وتركوا ذلك ولم يتعرضوا له.
إذا احتاجوا للتبيين في موقع وأتى نقل مثل نقل للنووي فيه التأويل قال مثلا: والنووي رحمه الله كان يتأول الصفات وكان كذا وينهج منهج كذا وهذا من الغلط، ففرق ما بين الرد على المقالات الباطلة، وما بين القدح في العلماء السابقين الأئمة الذين لهم مقام في الدين.
وتحتاج إلى هذا كثيرا في النقاش و الجدال ومع أتباع المعظمين، فإنه لا يسوغ الخوض في القدح في أولئك المعظمين؛ لأنه يحجب عن قبول الحق إلا إذا احتيج إليه في موضعه، ولكل مقام مقال إذا صُرف عنه [استحال]. نعم.
([61])هذا وعيد (فعليه لعنة الله) لعنة لغير معين، أما لعن المعين فلا يجوز؛ لأن «لعن المؤمن كقتله».(18/166)
ولعن الكافر فيه قولان لأهل العلم، أصحهما أنه لا يلعن إلا لحاجة؛ لأن المؤمن ليس باللعان، فلعن الجنس غير لعن المعين، مثلا في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح في النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات قال في أحد الروايات «أينما لقيتموهن فالعنوهن فإنهن ملعونات» هذا يُقصد به لعن الجنس لا لعن المعينة من النساء؛ فإن لعن المعين من المسلمين لا يجوز، لأن «لعن المؤمن كقتله»، ففرق ما بين لعنة الجنس ولعنة المعين على التفصيل الذي ذكرته، مثل ما قال هنا (ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله) هذا حتى يحذر من هذا العمل ويخاف منه. نكتفي بهذا.
.. «لعن المؤمن كقتله»، الذي أحفظه أنه حديث.
([62])هذا الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله من النقول، دال على الأصل الذي أصله من أن طريقة أئمة أهل الحديث والأثر والسلف أنهم يثبتون ما جاء في النصوص، وأن لا يتجاوزا ذلك، وأنه لولا أن صفة الرحمن جل وعلا جاءت في النصوص لأمسكوا عن ذلك، وهذا قاعدة عامة عندهم؛ بأنهم لا يصفون الله جل وعلا إلا بما دلت عليه النصوص، لا يخرجون عنه.(18/167)
كذلك فيما ذكر الفرقان ما بين أهل البدع من الجهمية ومن نحى نحوهم وبين أهل السنة في أن الله جل و علا في السماء، فالجهمية وأتباع بشر المريسي وأشباه هؤلاء يصفون الله جل وعلا -كما هو معلوم- بالمنفيات يجعلون السَّلب مفصلا ويجعلون النفي مفصلا، فيقولون إن الله جل وعلا ليس بـ-يعني في الصفات- ليس في السماء ولا ينزل، وليس بجسم، وليس بذي أعضاء، وليس بكذا وليس بكذا، إلى آخره، فيجعلون معرفة الرب جل وعلا من جهة نفي ما لا يليق به جل وعلا، هذا هو طريقتهم حتى إنهم يصلون بنفي جميع الصفات إلى أنه جل وعلا معدوما، فيرجع قولهم إلى أنه معدوم أو يرجع قولهم إلى أنه جل وعلا ليس له وجود في الحقيقة إلا في أذهان المؤمنين به جل وعلا، ولهذا صار حقيقة قولهم نفي أن يكون الله جل وعلا في السماء، وأنه سبحانه وتعالى في الأرض كما يزعمون، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
الذي دلت عليه النصوص وإجماع السلف أن الله جل وعلا في السماء كما قال سبحانه ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]، وكما في قوله ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ?[الأنعام:3]، وكما في قوله جل وعلا ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:84]، وأشباه هذه الآيات، فالله سبحانه وتعالى في السماء كما دلت على ذلك النصوص، ومعنى كونه (فِي السَّمَاءِ) أنه على السماء، لا أن السماء ظرف له تحيط به. ومعنى (فِي) هنا بمعنى على فيكون قوله (أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) يعني على السماء.
فنحن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى على سمائه بائن من خلقه سبحانه وتعالى وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلال عظمته وعظيم سلطانه سبحانه.(18/168)
فالإثبات عندنا مفصل والنفي مجمل بخلاف الجهمية وأرباب البدع، فإنّ عندهم النفي مفصل ليس بكذا وليس بكذا إلى آخره، وأما الإثبات عندهم فإنما يثبتون صفة واحدة وهي صفة الوجود المطلق غير المقيد.
وما ساقه عن ابن أبي زمنين في كتابه السنة واضح في الإيمان بعرش الرحمن جل وعلا، وهذا حق كما دلت عليه النصوص، فالعرش مأخوذة مادته من الارتفاع، ولهذا جعله الله جل وعلا مرتفعا، وله علو على جميع المخلوقات، حتى الجنة فإن عرش الرحمن فوقُها؛ يعني سقفها، فله ارتفاع وعلو خاص على جميع المخلوقات يعني العرش، والله جل وعلا إستوى على العرش، يعني ارتفع عليه وعلا عليه علوا خاصا، عبَّر عنه بعض السلف بأنه جل وعلا استقر عليه سبحانه وتعالى وأشباه ذلك.
فإذن العرش مادته مأخوذة من الارتفاع والعلو، والاستواء عليه أيضا ارتفاع وعلو خاص، فهذا يقضي من الجهتين على أن الله جل وعلا مستو على عرشه سبحانه؛ يعني أنه عالٍ عليه وعلوه عليه، وعلو على جميع المخلوقات، هذا بخلاف من زعم أنه سبحانه في كل مكان فإن مادة العرش تنافي ذلك، فلو آمن بالعرش لآمن بأن الله جل وعلا لابد أن يكون عاليا على العرش، وأن الاستيلاء لا يناسب؛ لأنه لابد أن يكون عاليا على جميع المخلوقات سبحانه وتعالى. نكتفي بهذا.
([63]) الزهري هذا من هو؟ يراجع، إذا كان أبو مصعب الزهري راوي الموطأ، ماشي لكن يقال له أبو مصعب ما يقال له الزهري، إذن فالزهري هذا هو أبو مصعب تلميذ مالك راوي الموطأ. ماشي.
([64])هذا النقل عن ابن زمنين واضحا في أن طريقة السلف من الصحابة فمن بعدهم رضي الله عنهم هي أنهم يقرون بما جاء في النصوص على ما تقتضيه اللغة، وأن الإيمان بالظاهر هو الإيمان بما تدل عليه اللغة، والكرسي كرسي الرحمن جل وعلا جاء تفسيره عن ابن عباس بأنه موضع قدمين.(18/169)
واشتقاقه؛ الكرسي اشتقاقه من الجمع؛ لأن مادة (كَرَسَ) هذه راجعة إلى الجمع، فقيل للأوراق المجتمعة كراسة؛ لأنها جمعت، وقيل للكرسي كرسي لأنه أعواد تجمع فيجلس عليه، وقيل أيضا للعلماء كراسي العالَم في اللغة؛ لأنهم جمعوا العلم فأصبحوا يُرجع إليهم، وأما من قال مادة الكرسي راجعة إلى العلم هذا غلط والرواية به عن ابن عباس أيضا مرجوحة أو غلط.
والصواب أن الكرسي خلاف العلم، وأن كرسي الرحمن جل وعلا هو موضع القدمين منه جل وعلا، وهذا الكرسي وسع السموات والأرض، كما قال سبحانه ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ?[البقرة:255], وأهل السنة متفقون على أن الكرسي موضع القدمين، وأن الرواية عن ابن عباس هذه الموثوقة حجة وأنها لها حكم المرفوع، وأنّ الكرسي بين يدي العرش كالمرقاة يعني أنه بين يديه ليس بعيدا عنه وأنه كالمرقاة إليه ليس مرقاة إليه؛ لكن كالمرقاة إليه؛ يعني كما تضع شيئا أمام شيء، فهو بالنسبة للعرش صغير جدا، وهو موضع قدمي الرحمن جل وعلا, هذا الذي جرى عليه اتفاق أهل السنة في مسألة الكرسي.
وذكر مسألة النزول, والنزول يقولون به على ظاهر ما جاء في الأحاديث, ينزل ربنا آخر كل ليلة إلى سماء الدنيا وهذا النزول بغير حد يحده, ولا يتكلمون في النزول بأكثر مما دل عليه ظاهره؛ بل يمرونها كما جاءت، فلا يقولون نزول مع خلو العرش، ولا نزول بلا خلو العرش ولا يقولون نزول يكون في زمان كذا وفي زمان كذا، وإنما يقرون بظاهر الصفة ولا يدخلون في التفصيل, ولا يحدون حدا للصفات, صفات الرحمن جل وعلا، لا من جهة الكيفية ولا من جهة استغراق المعنى, بل يمرونها كما جاءت على ما دلَّت عليه اللغة، وهذا مهم في العلم بمذهبهم فإنهم يتركون التفسير لا لأجل أنَّ التفسير باللغة غير وارد عندهم ولكن لأجل أن التفسير في اللغة معلوم.(18/170)
لهذا قال مالك رحمه الله تعالى: الاستواء معلوم يعني في اللغة, يعلمه أهل اللسان فلا يحتاج إلى تفسيره، وفي رواية, الاستواء غير مجهول يعني في اللغة, والكيف غير معقول. وذكر الترمذي رحمه الله في الجامع: أن العلماء يقولون كلمة مالك في النزول، فيقولون: النزول غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة, يعني عن كيفيته وحدِّه.
([65]) البطون كمال مع العلو، الله جل وعلا قال (هُوَ الْأَوَّلُ)........... فليس فوق ذاته ذات وهو جل وعلا مستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك هو الظاهر فوق كل شيء من صفاته سبحانه كما فسرها عليه الصلاة والسلام، وأما البطون فإنه يفسر ببطون العلم، وبطون الإحاطة والقدرة، فالبطون بطون صفات لا بطون ذات، ومن قال: إن البطون بطون ذات فهذا يناقض أنه جل وعلا ظاهر ليس فوقه شيء، وهو قول الأشاعرة والحلولية الذين يقولون إن الله في كل مكان، إما من جهة الحلول أو من جهة الوحدة أو من جهة عدم التمُّيز.
فإذن البطون كلمة «الباطن فليس دونه شيء» السلف يفسرونها ببطون الصفات، وهو أن الله جل وعلا أقرب لأحدنا من حبل الوريد، وأقرب إلينا من عنق الراحلة، وأقرب إلينا من أي شيء بصفاته سبحانه؛ لأنَّ القرب قرب العلم هذا هو المراد بالبطون، فهنا قال (بَطُنَ علمُه) هذا التفسير صحيح وافق تفاسير السلف للباطن.
فإذن قوله جل وعلا (وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) فسره عليه الصلاة والسلام بقوله «أنت الباطن فليس دونك شيء»، (ليس دونك شيء) يعني أنه الله جل وعلا أقرب الأشياء إلى العبد، أقرب الأشياء إلى المخلوق من جهة قرب صفاته سبحانه، (فليس دونه شيء) فهو أقرب ما يكون، أقرب حتى من النفس جل وعلا لعلمه بما بخلقه وإحاطته التامة، والله بكل شيء محيط سبحانه.
([66]) هذا من كلام علي رضي الله عنه، قيل له: أتؤمن ولم تر ربك؟ قال: إن لم تره العيون فقد رأته القلوب بحقائق الإيمان. [انتهى الشريط الرابع](18/171)
([67])هذا كلام الخطابي أصل، واعتمد شيخ الإسلام في التدمرية في أحد القواعد أن الكلام في الصفات كالكلام على الذات يحتذا فيه حذوه وينهج فيه على منواله. وعلى منواله.
والخطَّابي رحمه الله في الجملة على طريقة السلف؛ لكن له بعض التأويلات رحمه الله تعالى، له اجتهاد في ذلك، وهو معذور في هذا رحمه الله، فهو من أئمة الدين، والعلماء الربانيين، ألف في التوحيد والصفات، وألف في السنة، وله مؤلفات متنوعة في نصرة علوم الكتاب والسنة.
ما ذكره هنا من أننا لا نقول اليد بمعنى القدرة والنعمة؛ لأن هذا هو قول المبتدعة، هذا معنى هو قول من قال من الأئمة الشافعي وأحمد وجماعة نقول الصفات بلا كيف ولا معنى، يعني لا كيف كما يقوله المجسمة، ولا معنى كما يقوله المؤولة، وهنا ذكر أنه غلا فيها قوم فحققوها فخرجوا بها إلى ضرب من التشبيه وجفا قوم فتأولوها أو عطلوها.
والصواب ما بين هذين وأنه إثبات بلا تكييف يليق بجلاله وعظمته كما قال سبحانه ?يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ?[المائدة:64]، وكما قال?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وكذلك وجهه سبحانه حق على حقيقته صفة له ذاتية ?كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ?[القصص:88]، وكذلك سمعه وبصره وكلامه وتكليمه وعزته وقوته وإرادته ورحمته كل هذا من باب واحد، فكما أن إثبات الصفات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فإنك لو سألت كل مؤمن بوجود الله جل وعلا، ما كيفية ذاته فإنه لا يمثلها ولا يكيفها لأنه يعرف إلا أن يكون مجسما.
فكذلك نقول إثبات الصفات وجود لا إثبات كيفية، فعندك أهل الاعتزال حينما أثبتوا ثلاث صفات وزاد عليهم الأشاعرة أربعا فأثبتوا سبع صفات، والماتريدية ثمان صفات، ثم محققوهم إلى عشرون صفة، قسموها إلى صفات ذاتية وسلبية ومعاني ومعنوية إلى آخره، كل هذا على أصولهم أن إثبات الذات وجود الذات أنه إثبات وجود لا إثبات كيفية.(18/172)
فكذلك يقال لهم طريقة السلف الصالح في إثبات الصفات إثبات وجود بلا كيفية.
فنقول: كما أنكم أقررتم في صفة السمع وأنكرتم على المعتزلة يا أشاعرة، بأنَّ السمع ليس هو العلم، والبصر ليس هو العلم، فقولوا كذلك في الرحمة أنها ليست الإرادة، وقولوا كذلك في الغضب أنه ليس إرادة الانتقام، وهكذا، فيلزمكم فيما فررتم منه؛ فيما أثبتم ما فررتم منه، يلزمكم فيما رددتم به على الأشاعرة أن تردوا على أنفسكم به، القاعدة مطردة مأخوذة من قول الخطابي، الكلام على الصفات كالكلام على الذات، أو فرع على الكلام عن الذات، فكلٌّ مثبت لبعض الصفات تطعنه بهذه القاعدة كل بحسبه.
فإذا قال لك الجهمي: أنا أُومن بوجود مطلق بشرط الإطلاق بلا صفة.
فقل له: لم؟
فلابد أن يقول: لأن الصفات الأخر المخلوقات متصفة بها، وأنا أنزه الله جل وعلا عن أن يشابه خلقه.
فقل له: ما من مخلوق من مخلوقات الله إلا له صفة الوجود، فإذن ثَمَّ اشتراك.
فسيقول: قلت أنا إن صفة الله موجود المطلق بشرط الإطلاق.
فنقول له: قل كذلك: صفة الله جل وعلا أو من صفاته اليدان بشرط عدم التكييف، وقل كذلك: صفة الله اليدان بشرط عدم التكييف، فكما أنك اشترطت في الوجود الإطلاق حتى لا يشابه وجوده جل وعلا وجود مخلوقاته، فكذلك قل في كل الصفات ما يخرجها عن مماثلة مخلوقاته.
كذلك المعتزلي يؤمن ببعض الصفات، فألزمه فيما أثبت المماثلة أو المشابهة.
فإنه يقول: أنا لا أشبِّه الله بخلقه.
قل: إثباتك لهذه الصفات فيها تشبيه؛ لأن هذه الصفات عند المخلوق، فالإرادة؛ المخلوق عنده الإرادة، الحياة؛ المخلوق فيه حياة، فلم إذن ما نفيت هذه الصفات لوجود المماثلة؟
فسيقول: هذه لابد لما دل عليها بالعقل، وإذا كان لابد منها فلا يمكن لي أن أتأولها.(18/173)
فإذن نقول له: إذن قاعدتك في المماثلة أنَّ إثبات الصفة فيه مماثلة، هذه ليست جيدة؛ لأنه لابد أن يخرج شيء عن هذه القاعدة، فإذا أخرجت هذه الثلاث صفات، فأخرج الصفات الأخر؛ لأن الكتاب والسنة دل عليها، وانْفِ عن الرحمن جل وعلا مماثلة المخلوق.
كذلك الأشاعرة يثبتون سبع وينفون البقية، يلزمهم فيما نفوا نظير ما لزم الأولين؛ لأن القاعدة عندهم نفي المشابهة والمماثلة، ودرج عليها الجميع وهي تلزمهم فيما أثبتوا.
المقصود من ذلك أن هذه القاعدة مهمة جدا، وأنه يحتاج إليها المناظر.
والمناظر للمبتدعة إذا حباه الله جل وعلا:
فقها في النصوص، ومعرفة بكلام السلف عليها في الصفات.
ثم معرفة باللغة وأوجه التوجيه اللغوي.
والثالث حسن إلزام ومجادلة ومعرفة لمذاهبهم.
فإنه لاشك سيكون غالبا، كما قال جل وعلا ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ?[الأنبياء:18].
وإنما يؤتى من يناظر القوم أو من يتكلم معهم من جهله بهذه الثلاثة جميعا أو بأحد منها، فإنه إذا لم يعلم النصوص ودلالة النصوص على فهم السلف الصالح ربما خانته الحجة، ثم إذا لم يعلم اللغة ربما خانته الحجة؛ لأن ذاك يقول هذا في اللغة كذا، مثل الكرسي الذي مرّ معنا، يقول الكرسي في اللغة العلم، وليس ثَمّ مخلوق محسوس يقال له كرسي، وأنه موضع القدمين، وإنما الكرسي العلم مثل ما جاء عن ابن عباس في أن الكرسي العلم، وفي اللغة العلماء يقال لهم الكراسي؛ لأن الكرسي هو العلم، مثل ما ذكره ابن جرير في تفسيره عند الآية وأطال عليها، ويأتي المحقق في اللغة فيقول الكرسي بمعنى العلم ليس معنى أصليا، وإنما صار العالم كرسيا لجمعه للعلم، فيقول قال الشاعر في وصف قانص.
فلما احتازها –يعني حاز الصيد، رماه السهم فاحتازه؛ يعني أمسكه-.
قال:
فلما احتازها تكرَّس ....................
قال تكرس هنا علم بأنه صاده، يفسرونها بأنه علم بأنه صاده.(18/174)
وعند أهل العلم بالتوحيد هنا تكرّس يعني جمع (عندما احتازها كان بها بقية حياة فجمعها إليه حتى لا تنفلت).
فيكون إذن حتى ما يريدونه عند من يعلم اللغة يكون حجة عليه.
كذلك مثلا إذا قال اليد تأتي في اللغة ويراد بها النعمة، ويقال فلان له علي يد؛ يعني نعمة وفضل، نقول هذا صحيح في أنه يقال هذا؛ لأن الناس إنما يعطون باليد، فقيل لفلان عليّ يد للقطع عن الإضافة لأنه استعلى حين أعطاه بيده، أما عند الإضافة فلا يمكن أن تكون بمعنى النعمة، فلا يقول قائل من العرب: يد فلان عليَّ. ويعني بها النعمة، ولا يأتي أحد من العرب ويقول لفلان يدان عليَّ، أو عليّ منه يدان. ويقصد بها نعمتين، هذا لا أصل له في اللغة، وأشباه ذلك.
والبيهقي وجماعة ومنهم الخطابي راج عليهم بعض الشبهات اللغوية فما تتخلصوا منها، هذا هو النوع الثاني مما يحتاجه طالب العلم المحقق في العقيدة في اللغة وفي الشواهد وكلام أئمة التفسير عليها وكلام السلف معاني الصفات.
الثالث أن يكون عنده علم بمذاهب القوم ومواقع الحجاج؛ لأنَّ عندهم ثغرات كبيرة في مذاهبهم حتى على أصولهم؛ لأنه ما من أحد يخالف الحق إلا وله نصيب من التناقض، لابد له نصيب من أنه يتناقض، فيقولون بالإثبات مرة، بالتأويل مرة، بالتفويض مرة، وهكذا، فيلزم طالب العلم أن المبتدعة بما يكون معه حجته أقوى وبرهانه أمضى.
نكتفي بهذا القدر، وفقكم الله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
([68]) أليس إسماعيل هو؟ أبو إسماعيل! راجعوها، هو إسماعيل الهروي، راجعوها، هو صاحب كتاب منازل السائرين الذي شرحه ابن القيم في مدارج السالكين. [هو: أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي توفي سنة 481 هـ، قاله المفرغ](18/175)
([69])(بائن من خلقه وهم بائنون منه) فسَّرها بقوله (لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم) هذا التفسير صحيح؛ فإن قول السلف بائن من خلقه يعني عدم الحلول وعدم الامتزاج، لهذا فسرها بعضهم بقوله بحد (بائن من خلقه بحد)، يعني أن هناك حدا يمنع حلوله جل وعلا في خلقه أو اختلاطه في خلقه؛ بل هو جل وعلا بائن منه، لا يختلط بهم جل وعلا، ذاته لا تختلط بذواتهم، ولا يحل جل وعلا في شيء منهم، والحلول هنا منفي ما يشمل نوعي الحول العام والخاص. نعم.
([70]) هذا النقل مشتمل على إثبات استواء الله على عرشه وأنه ليس بمعنى الاستيلاء، وأن قول الجهمية إن العرش ليس عليه استواء من الرحمن جل وعلا وإنما هو سبحانه في كل مكان، وهذا باطل؛ لأن استوى في اللغة بمعنى علا وارتفع ارتفاعا خاصا.
ويكون معناه أيضا علا وارتفع واستقر وجلس كما في قوله جل وعلا ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، يعني إذا علوتم عليه وارتفعت ثم استقررتم عليه وجلستم، فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك، استوى عليه يعني ارتفع عليه.
وهذا يعني الاستواء على العرش دلت عليه الآيات الكثيرة، والأحاديث الكثيرة.
والكرسي، كرسي الرحمن جل وعلا غير العلم، وغير العرش.
فمن فسر الكرسي بأنه العلم فهو من أهل البدع، بخلاف من فسر الكرسي بأنه العرش فإن هذا غلط؛ لأنه منقول عن بعض السلف؛ لكنه غلط فإن الكرسي غير العرش؛ لأن:
مادة الكرسي مأخوذة من الجمع، وأما العرش فمأخوذة من الارتفاع.
كذلك ما دلت عليه السنة من أن العرش يستوي عليه الرحمن جل وعلا، والكرسي موضع قدمي الرب جل وعلا.
فإذا نقول الصحيح أنَّ الكرسي غير العرش، وأن الكرسي؛ كرسي الرحمن جل وعلا مخلوق عظيم وسع السموات والأرض.(18/176)
([71]) هذا الكلام مشتمل على تقرير عقيدة كبار أئمة التصوف في الزمان الأول، فإنهم كانوا في الصفات على منهج أهل السنة، ولم يكن بينهم وبين أهل السنة فرق كما هو مقرر في كتاب الإمام [الكلابادي] رحمه الله التعرف على أقوال أهل التصوف أو ما شبه ذلك أو نحو هذا العنوان، وهو مطبوع ذكر فيه اعتقاد أئمة الصوفية وهو مشتمل على ما يوافق اعتقاد السلف في جل المسائل.
وهذا النقل واضح في مسألتين عظيمتين خالف فيهما الجهمية أهل السنة، وهما الاستواء ومسألة النزول؛ فإن الاستواء فرقان وكذلك النزول فرقان، فنبه على أن الاستواء معقول؛ يعني معقول معناه كما قال الإمام مالك الاستواء غير مجهول يعني المعنى في اللغة، كذلك قوله الكيف مجهول؛ يعني أن إثبات الاستواء إثبات معنى لا إثبات كيفية بلا تشبيه، والتشبيه يستعمله الأئمة المتقدمون بمعنى التمثيل؛ لأن المشبهة في زمانهم هم الذين جعلوا الله جل وعلا يُمثل بالأجسام وله كصفات الأجسام فإذا قالوا بلا تمثيل. يعنون التشبيه الكامل وإذا قالوا بلا تشبيه. فيعنون بذلك التمثيل.
.. وهو سبحانه (فرد)، ولكنه ليس من الأسماء الحسنى، وهو وصف عن الله جل وعلا بأنه (فرد)؛ لكن ليس من الأسماء الحسنى التي ثبتت في الكتاب والسنة ويدعا بها الله جل وعلا؛ لأنه مشتمل على احتمال نقص كلمة (الفرد) تحتمل نقصا، فلهذا لا تدخل في الأسماء الحسنى، نعم.... يعني من جهة أنه ليس بمتعدٍّ؛ لأنه إذا أطلق فلان فرد يعني له ضعف، يعني كأنه ضعيف. نعم.(18/177)
.. لا هو ما يرد من النفي المفصل في كلام السلف حق، وليس مخالفا للقاعدة؛ لأنه ردّ على أهل البدع، وهناك فرق ما بين الإثبات؛ إثبات الصفات ابتداء وما بين نفي أقوال أهل البدع، فإذا أردت أن تنفي أقوال أهل البدع فلك أن تنفيها مفصلا، وليس هذا من جهة الوصف، ولكن من جهة إثبات الوصف؛ وصف الله جل وعلا بالتفصيل، والنفي يكون لأقوال أهل البدع، فنقول مثلا في قاعدتنا الله جل وعلا ليس بحال في الأمكنة، ولا بممازج، ولا بمخالط، وليس هو جل وعلا مشبها بخلقه، وليس هو جل وعلا معطلا عن صفاته، وأشباه ذلك، هذا رد على أهل البدع جائز، هذا، هذا لا يخالف منهج السلف لأنه يجامع التفصيل في الإثبات. نعم
([72]) يكثر هنا رحمه الله من تسمية شيخ الإسلام، شيخ الإسلام الهروي، شيخ الإسلام الأصبهاني، شيخ الإسلام كذا، وهذه كلمة درجت في تلك الأزمنة على من كان حجة في علومه، فمن كان حجة في علمه وجمع علما كثيرا فيقال له شيخ الإسلام، يعني في العلم الشرعي، فهي تطلق على العملاء في الشرع الذين بلغ علمهم مبلغا عظيما وصاروا أئمة وحجة.
وأول من أطلقت عليه كلمة شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك من السلف؛ يعني بهذا المعنى.
أما من جهة الإطلاق فإنها أطلقت أبي بكر الصديق وعلى عمر في حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «هما شيخا الإسلام»، وهذا جاء في حديث، لكن المعنى الاصطلاحي هو ما ذكرت لك، وأول من قيلت فيه هو ابن المبارك رحمه الله تعالى، فتوسع الناس فيها حتى صارت منصبا دينيا، في الخلافة أو في الدولة العثمانية صارت منصبا دينيا، يقال منصب شيخ الإسلام يعني كالمفتي، ومشيخة الإسلام دار مثل دار الفتوى، يقال هذا شيخ الإسلام هذا وكيل شيخ الإسلام، إلى آخره، ومعناها على ما ذكرنا.
والإمام لمن كان قدوة مع كونه حجة، وكلمة شيخ الإسلام هذه لجمع العلوم ولو لم يتبع الإمام يزيد عليه بأنه أُتبع وأهل بأن يقتدى به.(18/178)
([73]) على كل حال الجملة الأخيرة تحتاج إلى بحث لغوي ( مباحثة التنفير ومناسبة التنقير) كأنها غير مستقيمة.
هذا الكلام مشتمل على عدة مسائل:
فمنها أنَّ ما توهمه خيال المرء أو حلم عليه ذكره في صفة الرب جل وعلا؛ يعني في كيفية اتصافه أو دار بخياله، فليعلم بأن الله جل وعلا على خلافه، وهذا لأن كسب المعارف إنما يكون في رؤية الشيء أو مثيله أو بما يقاس عليه، فتتصور شيئا ما في ذهنك إذا رأيته فذُكِّرت به، أو رأيت مثيلا له فذكرت بمثيله، فقلت هذا مثل هذا, مثل هذا بيت مثل بيت, وخبز مثل خبز وأشباه ذلك، أو ما يقاس عليه, يعني ما يمكن أن يجمع بينهما قياس فيكون هذا مع هذا مشترك في الكيفية في شيء، فيمكن أن نتصور ونتوهم ما دلَّت عليه الرؤية أو دل عليه التمثيل أو دل عليه القياس، والله سبحانه وتعالى لم تُرَ ذاته العلية الجليلة، ولم ير مثل له سبحانه وتعالى، ولم ير شيء يقاس عليه.
فإذن لا يمكن أن يتصور الذهن صفة الرب جل وعلا من جهة الكيفية، لا يمكن؛ لأن الذهن لا يكتسب أو القلب لا يكتسب المعرفة وتصور صورة الشيء إلا بهذه الثلاث لا غير.
أما إذا لم يكن ثَم مثيل، ولا ما يقاس عليه أو لم ير الشيء، فإنه لا تأتي الصورة إلى الذهن، وإن أتت صورة، فالصورة من نسج الخيال ليست على جهة الواقع والحقيقة.
ولهذا قال العلماء ما دار في ذهنك فالله سبحانه وتعالى بخلافه؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد سبحانه وتعالى.
وما بقي من الكلام واضح، إلا أنه ذكر مسألة أسماء الله جل وعلا وصفاته، وأنه سبحانه كان متسميا بالأسماء متصفا بالصفات قبل أن يفعلها، فقال (خالقا سيخلق، ورازقا سيرزق، وجائيا سيجيء، ومستويا على عرشه سيستوي) وأشباه ذلك، وهذه الكلمة مجملة تحتاج إلى استفصال، فإنها رد على كلام المعتزلة.
وهذه الكلمة التي قالها قد تكون من مذهب السلف وأهل الحديث، وقد لا تكون؛ يعني تكون على مذهب أو على رأي الأشاعرة.(18/179)
فأما كونها على رأي الأشاعرة، فهذا يحصل بتقرير أهل في هذا الباب، وهو أن المعتزلة قالوا: إن الله جل وعلا لم يستفد اسم الخالق إلا من الخلق، ولم يستفد اسم الرازق إلا من الرزق، ولم يستفد اسم المحيي إلا من الإحياء، ولم يستفد اسم المميت إلا من الإماتة، وهكذا، ولا المصور إلا من التصوير، ولا البارئ إلا من البرء، فقبل أن يخلق ليس له اسم الخلق، وقبل أن يرزق، ليس له اسم الرازق إلى آخره، وهذا كلام المعتزلة، وهو باطل.
فإنّ الله جل وعلا لم يزل متسميا بهذه الأسماء.
الأشاعرة يقولون إنه جل وعلا كانت له هذه الأسماء؛ ولكن لم يشأ أن يظهر أثر الاسم في خلقه، فكان اسمه الخالق ولم يخلق شيئا حتى ابتدأ خلق هذا العلم، وكان اسمه الرازق والرزاق ولم يرزق أحدا وأشباه هذا.
وهذا القول يحوم حوله الكلام الذي سمعتم، وبهذا نقول: إن كان مراده هذا الكلام فهذا غير صحيح؛ بل هو مخالف لمنهج ما عليه أهل الحديث والأثر في أن الله جل وعلا له هذه الأسماء الحسنى، وهذه الأسماء الحسنى والصفات لابد لها من أثرٍ، لابد لها من أثر، والله سبحانه وتعالى لم يزل خالقا عليما قديرا رزَّاقا سبحانه وتعالى، فعالا لما يريد، لم يزل سبحانه يفعل ما يريد. [انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس].
فإذن هو جل وعلا يفعل ما يريد، حي خالق رازق قبل خلق هذا العالم، ولا يجوز أن يعتقد أن الله جل وعلا مُتَسَمٍّ بهذه الأسماء دون ظهور أثر هذه الأسماء في خلقه؛ بل هو سبحانه لابد من ظهور آثار أسمائه وصفاته في ملكوته، والملكوت لا يقصد به هذا الملكوت المرئي السموات والأرض إلى آخره؛ بل هو سبحانه له الملكوت كله؛ ما علمنا منه وما لم نعلم، ما سبق هذا المرئي وما سيخلقه.
فإذن نقول إنه سبحانه وتعالى خالق ظهر أثر خلقه ورزاق ظهر أثر رَزقه، ولا بد.(18/180)
وكلمته أنه (خالق سيخلق) إن أراد بها هذا الملكوت فهذا يوافق قول الأشاعرة، وإن أراد بها جنس المخلوقات، خالق يعني أنه سبحانه وتعالى خالق سيخلق جنس مخلوقات في الأزل أو في القديم فهذا مستقيم، فإذن تعلق الخلق، بأي شيء؟
فإن كان تعلقه بهذا العلم هذا من قول الأشاعرة.
وإن كان تعلقه بجنس المخلوقات بما لا نعلم فإن هذا متفق مع قول أهل الحديث.
.. لا، الأشاعرة ما يقولون بتعطيل الأسماء والصفات، هم ما يلزمهم، هم يقولون متصف لم يظهر أثر اتصافه، لم يظهر أثر فيه، لأنه لا مخلوق.(18/181)
.. خالف منهج أهل السنة؟ بل وافقهم، بل هو رحمه الله وافق قول أهل السنة في المسألة، شيخ الإسلام قرر منهج أهل الحديث العام، ما نصّوا عليها، لكن مخالفتهم للمعتزلة وللأشاعرة في المسألة وتقريرهم خلاف ما قالوا، علمنا مذهبهم؛ وهو أن الله سبحانه وتعالى حي لم يزل حيا، قدير لم يزل قديرا فعال لما يريد، لم يزل سبحانه وتعالى فعال لما يريد، ولابد أن يكون لهذا أثر، فامتناع الرب جل وعلا عن الفعل زمنا طويلا جدا حتى خلق هذا العالم، يعني أن صفات الرب جل وعلا لم تظهر آثارها في شيء من بريته، هذا ممتنع؛ لأن معنى هذا أنه سبحانه وتعالى متصف بصفات ولا أثر لهذا الاتصاف، فهو سبحانه محيي بلا إحياء على هذا القول، مميت بلا إماتة، خالق بلا خلق، هذا ممتنع، لا شك أنه لابد أن ثَمة ابتداء للخلق في زمان، لاشك أنه لابد لابتداء الخلق في زمان، لكن الزمان محدَث، والزمان نسبي فهل الزمان ابتدأ مع خلق السموات والأرض؛ لأن الزمان زمن يتكرر بشيء، هل ابتدأ مع خلق السموات والأرض وخلق الشمس؛ صار اليوم هو كذا، أو صار اليوم بالنسبة اليوم عند الله جل وعلا كألف سنة مما نعد؟ واليوم في مكان آخر في المريخ يختلف، واليوم في مكان آخر يخنلف، فالزمان كله نسبي ، ثلث الليل ، نصف الليل، هذا نسبي، منسوب يعني منسوب إلى أهل، فالزمان مخلوق، كما أن المكان مخلوق، فالزمان مخلوق، فلهذا لابد للزمان من ابتداء.
الإنسان لا يتصور خلاف الزمان؛ لأنه في معارفه لم يكتسب بالنسبة شيء إلى شيء بالتقدم أو التأخر إلا من جهة الزمن.
فإذن نسبت الأشياء عنده من حيث أن هذا قبل هذا من جهة الزمان، رأى أن فيه هذا قبل هذا أو علم فيه أن هذا قبل هذا، ومعلوم أن هذا من جهة كسب المعارف.(18/182)
فنظرية المعرفة المعروفة إنما هي قائمة على النسبية، كما قال جل وعلا ?وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?[النحل:78]، فهو سبحانه أخرجنا لا نعلم شيئا، فكل معلومة اكتسبها الإنسان فهي منسوبة، فليس عند الإنسان علم مطلق، وإنما كل شيء ينسبه؛ هذا كبير لأنه رأى أصغر منه، وهذا عالم لأنه رأى أجهل منه، وهذا زمن لأنه احتاج أن يقيم شيئا من جهة حصوله، فهو يوم وراءه يوم؛ لأنه رأى التكرر، شمس شهر، رأى التكرر، سنة، رأى التكرر.
يمكن يعني من جهة النظر لا من جهة الواقع والشرع؛ يمكن أن نصطلح على أن كل عشر سنين أن نسميها سنة، وهذا اصطلاح، فتجعل كل عشرة أشهر شهر يعني ما ممضى من رمضان إلى رمضان، نجعلها شهر، ونجعل رمضان أسبوع؛ يعني من حيث الاصطلاح لا يمنع، يعني كل شيء منسوب عند الإنسان.
ويأتي غلط الإنسان أنه يقيس العالم فيما قبل هذه النسب بالعالم المنسوب، فيأتي ويقول إنما قبل خلق السموات والأرض هو مثل ما بعد خلق السموات والأرض من جهة الزمان، وهذا غير وارد؛ لأن ما بعد خلق السموات والأرض صار الزمن منسوبا إلى علامات حدوث الزمن بما في السموات والأرض؛ يعني الشمس، القمر، الأرض، الحركات إلى آخره، وما قبل ذلك فلا تنسبه إلى الزمن هذا الذي حصل بعد خلق السموات والأرض، أو هذا قائم على أن كل علم يكتسبه الإنسان فهو منسوب إلى شيء، ولهذا غاية ما عند الإنسان من العلم محدودة؛ لأنها منسوبة، فجميع ما يمكن أن يحصله من المعارف منسوب إلى الأشياء التي حوله، والأشياء التي حوله محدودة، فيبقى علمه محدودا.(18/183)
ولهذا يجب تنزيه الرب جل وعلا عن أن يكون اتصافه بصفاته أو تسميه جل وعلا بأسمائه مقيدا بزمان هو عندنا زمان، أو مقيد بمكان هو عندنا مكان؛ لأن هذا كله راجع إلى ما نكتسبه من المعارف أومن المعلومات، والله سبحانه وتعالى هو العليم بكل شيء المتوحد في الجلال بكمال الجمال.
فإذن أهل السنة والحديث يرون في مقتضى كلامهم حيث خالفوا الأشاعرة والمعتزلة في مسألة الأسماء؛ أسماء الرب حل وعلا والصفات: أنه سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد سبحانه، ولا نحد ذلك بحد ولا نقول ابتدأ خلقه بخلق السموات والأرض، أو ما أشبه ذلك؛ فإنه سبحانه له أن يتصرف وأن يفعل كما يشاء لا معقب لحكمه وراد ما يريد جل وعلا.
والإنسان يصل بحد ينتهي فيه تصورُه، يعني إذا امتد في تصوره أن هذه الأشياء سينقطع إما بانقطاع الزمن أو بانقطاع المكان في حسب رأيه، فإذا انقطع الزمن وانقطع المكان انقطع هو، فإنه يمكن أن يبدأ في ذهنه ويمشي إلى أزمان، أزمان، أزمان، ثم يقول ما بعد ذلك؟ يقول إيش بعد هذا؟ أو إيش قبل هذا؟ من الزمن؟ فينتهي تصوره، لم؟ لأنه لا يمكن أن يدرك شيئا غير الزمان، هو لا يعرف إلا الزمن ينسب إليه الأشياء، والزمن هذا أبتدئ، الزمن مخلوق أبتدئ.
فإذن هو سيصل، سيصل لو قدّر أنه يصل إلى ابتداء الزمن، وابتداء الزمن لا يمكن أن نحد به صفات الرب جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء.
فإذن غلط الذين غلِطوا من المعتزلة والأشاعرة وأشباه هؤلاء في هذه المسألة العظيمة، أنهم نظروا إلى الزمان وإلى هذا العالم، فجاء الغلط من هاتين الجهتين:
? النظر إلى أن هذا العالم هو الذي خُلق ليس قبله عوالم.
?ومن جهة الزمن أن الزمن محدود بابتداء هذا العالم وهذا أيضا منسوب لا ندري هل هو صحيح أم غير صحيح.
والله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء من الأزمنة والأمكنة، إلى غير ذلك.(18/184)
في الجنة الزمن يختلف، اليوم يختلف على ما قد يختلف مروره، يوم القيامة يوم ألف سنة هو يوم واحد، إذن الشمس تدنو من الخلائق، إلى آخره.
فإذن كل هذه الأزمان منسوبة، نسب، الناس يعيشون بنسب تعارفوا عليها، واصطلحوا عليها، وجاءت الشرائع بتقريرها لإصلاح حالهم ?يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ?[البقرة:189]، ?إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ?[التوبة:36]، يعني جعل الله جل وعلا لما خلق السموات والأرض جعل القمر عَوْدُه دلالة على شهر لأنه يحصل به الظهور والاشتهار، واثنا عشرة شهرا فيها ترجع الشمس إلى موضعها الأول، فصار هذا بعد خلق السموات والأرض هو ما يُنسب إليه الأزمنة الشهرية والأزمنة السنوية واليوم إلى آخره.
فهذا نسبي للإنسان، وأما الزمن المطلق فلا نعلمه، مثل ما تقول: الآن نحن أعلى. نحن الآن أعلى أو أسفل؟ ما فيه شيء اسمه أعلا أو أسفل، أما بالنسبة لمن تحتنا في الجوف فنحن أرفع منهم، أما بالنسبة لمن في السطح فنحن أسفل، ما فيه شيء أعلا مطلقا أو أسفل مطلقا، لابد من شيء ينسب إليه، ولهذا غلط من غلط في حديث النزول في قوله «ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر» فقال ثلث الليل يمتد الأرض كلها، فهل يعني ذلك أن الله جل وعلا نازل كل الليل، نظر إلى أن فعل الله جل وعلا في الزمن هو كالزمن الذي ينسبه إلى نفسه، الزمن المنسوب، وهذا تشبيه لصفات الله جل وعلا بصفات خلقه فإن الإنسان هو الذي يبقى إذا كان في الثلث بقي مع الزمان خلاص استغرق هذا الزمان.
الله جل وعلا ليست هذه صفته ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، بل هو سبحانه ينزل كيف يشاء على الصفة التي شاء جل وعلا.(18/185)
المقصود أن هذه المسألة مهمّة مهمة جدا للغاية وهي أن المعارف نسبية، وهذه تجيب على جميع الإشكالات التي ترِد على الغيبيات، الغيبيات إذا استشكل شيء منها فيطرد بهذه القاعدة؛ قاعدة النسبي والمطلق، فإذا فهمتها حصّلت خيرا كثيرا.
([74]) الكلام الذي سبق نقله كلام في الجملة موافق لكلام السلف رحمهم الله تعالى، إلا أن قوله (من غير ممازجة أو يلاصق به) كلمة (يلاصق به) هذا نفي أو تنزيه لما لم يرد، أما أن يحل أو يمازج فهذه واضحة؛ لأن الله جل وعلا مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه.
أما الملاصقة به بجسم فهذه تحتاج إلى نظر والأشبه عدم جواز قولها؛ لأن الله سبحانه وتعالى غرس جنة عدن بيديه ولأنه سبحانه خلق آدم بيده، ولأنه سبحانه كتب لموسى الألواح بيده، وأشبه ذلك، ولأنه سبحانه مستو على عرشه بذاته، وهذا يدل على بقاء هذه الأشياء على ظاهرها، فلا يسوغ أن ننفي هذه الكلمة؛ لأنه قد يكون النفي حقا وقد يكون باطلا، ومعلوم أننا في الإثبات نتوقف على النصوص وكذلك في النفي نتوقف على ما جاء أيضا في النصوص.
فهذه لم يرد نفيها وهي محتملة، فلا ينبغي الإثبات ولا النفي، وبعض السلف بعض الأئمة أثبت المسيس، وهذا له محل بحث.
([75]) فهذا الكلام الذي سمعت قاله الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى وهو صحيح، لأن النسخ إنما في الأحكام في الإنشاءات فإن كلام الله جل وعلا منقسم: إلى أخبار وإلى إنشاءات.
والخبر: هو ما يكون قابلا للتصديق وللتكذيب.
والإنشاء: هو الأمر والنهي وما يدل عليهما.
فهذا يعني الإنشاء فيه الامتثال، وأما الأخبار ففيها التصديق أو التكذيب من الخلق، فالأحكام والإنشاءات هي التي يجوز أن تنسخ كما قال جل وعلا ?مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[البقرة:106]، يعني في الأحكام.(18/186)
أما الخبر عن الغيب؛ عن الجنة أو عن النار أو عن الملائكة أو عن صفات الله جل وعلا أو أسمائه أو عن الأمم الماضية فهذه لا يجوز أن يدخلها النسخ، ولا أن يعتقد في الآية المتأخرة أنها ناسخة للآية المتقدمة، كما ذهب إليه قوم من الضُّلال من الرافضة والملاحدة وأشباه هؤلاء، فإن هؤلاء ظنوا أن النسخ يكون في الأخبار ويكون في الإنشاءات، وهذا غلط عظيم؛ لأن الخبر يَدخله التصديق أو التكذيب، والخبر كيف يُنسخ؟ إذا قيل بجواز نسخ الخبر، معنى ذلك أن الأول ليس بصدق، والله جل وعلا كلامه حق وصدق كما قال سبحانه ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا?[النساء:22]، وكقوله ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا?[النساء:87].
ولهذا لا يجوز أن يقال إن هذه الآية في الأخبار هذه الآية نسخت ما قبلها، بمعنى أزالت الحكم.(18/187)
أما النسخ الذي هو بمعنى إيضاح للمجمل الذي قد يستعمله السلف بمعنى النسخ؛ يعني أن هذه الآية أوضحت مجملا في الآية الأخرى في الغيبيات، فهذا لا بأس أن يكون في الأخبار؛ لأنه من قبيل البيان ليس من قبيل إزالة خبر وإتيان بخبر جديد يقوم مقامه، فكل ما أخبر الله جل وعلا به حق، والعلم علم الله جل وعلا أوّل فهو سبحانه وتعالى لم يزل عالما وعلمه في خلقه يظهر، كما قال سبحانه ?وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ?[البقرة:143]، وفي قوله تعالى في آية محمد ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ?[محمد:31]، هنا في قوله (لِنَعْلَمَ)، و(حَتَّى نَعْلَمَ) مثل ما ذكر لك الحارث في آخر الكلام وهو قول السلف أن معناها حتى يظهر علمنا فيها، (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ) يعني حتى يظهر علمنا السابق في المجاهدين، (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) يعني إلا ليظهر علمُنا فيكون حجة على الناس حجة على الموافق والمخالف على المطيع والعاصي.
وهذا يجرُّ تبعا للأصل أن الله جل وعلا لا يستأنف علما لم يكن علمه قبل؛ بل هو سبحانه وتعالى لم يزل عالما سبحانه قبل أن يخلق الخلق ويعلم أحوالهم على التفصيل والإجمال سبحانه وتعالى، يعلم الكليات والجزئيات، يعلم الظاهر ويعلم الباطن؛ إذْ هو جل وعلا بكل شيء عليم.
فصفات الله جل وعلا وأسماؤه والأخبار الغيبية هذه كلها من قبيل الأخبار، لا يجوز عليها النسخ، ولا يستأنف سبحانه وتعالى شيئا منها لم يكن عليه؛ بل هو سبحانه لم يزل في صفاته جل وعلا.(18/188)
([76])هو يريد الكلام على قوله ?إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ?[الشعراء:15] أنه ليس بتكلف؛ يعني مستمع قد يفهم منها الإصغاء، قد يفهم منها تكلف السماع، والله سبحانه وتعالى سميع بالغ في السمع نهاية هذه الصفة من الجمال والجلال لا يتكلف شيئا؛ بل هو سبحانه وتعالى يسمع دبيب النملة السوداء على [الصخرة الصماء] سبحانه وتعالى، ويعلم السر وأخفى، بل حديث المرء في نفسه يعلمه سبحانه وتعالى دون عناء ودون مشقة، فلا يفهم من قوله (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) أن هذا بكلفة ومشقة، بل هو سبحانه كامل في صفاته وكل شيء هيِّن عليه جل وعلا، وسع سمعه الأصوات سبحانه وتعالى.
([77])هو هذا الكلام في الحقيقة ليس على الجادة؛ لكن يمكن أن يفسر بتفسير صحيح؛ لأن شيخ الإسلام لما نقله لعله أراد ما اشتمل عليه من إثبات الصفات وما ذكره من الكلام –يعني الحارث – فيه بعض ما لا يتفق مع طريقة السلف في تقرير الصفات، ويمكن أن يحمل على محمل صحيح، ففي آخره جعل السمع والبصر مثل العلم، وهذا ليس كذلك، فالعلم علم الرحمن جل وعلا هو سبحانه يعلم الأشياء قبل حدوثها.
أما السمع فهو سبحانه يسمع الأصوات بعد صدورها من أهلها، أو صدورها من الأشياء، ويرى المبصرات بعد وجودها كونا، مثل ما قال في أول الكلام (يحدث شيئا فيراه كونا فإذا أحدثه جل وعلا رآه) واقترانه أو قرنه السمع والبصر بالعلم في هذا الباب ليس بجيد؛ لأن العلم للأشياء قبل أن تكون، أما السمع والبصر للأشياء فإنها بعد أن تكون، فتعلق العلم عند أهل السنة، متعلق العلم غير متعلق السمع والبصر؛ لكن يحمل على تفسير صحيح وهو أنه أراد الرد على من قالوا بأنه جل وعلا يستأنف علما أو يستأنف سمعا أو يستأنف بصرا وهذا المراد صحيح.
([78]) حش: مكان قضاء الحاجة.(18/189)
([79]) [انتهى الشريط الخامس] الحارث المحاسبي في هذا الكلام الطويل يريد الرد على طوائف أساءت فهم القرآن، وكتابه فهم القرآن أو تفهيم القرآن مبني على الرد على من أساء فهم القرآن سواء في الأصول أو في الصفات أو في السلوك أو غير ذلك، والكتاب مطبوع، والطوائف التي ظلت في فهم القرآن أصناف منهم من ظلوا في باب التوحيد، وهذا النقل كله مختص بهذا، فمنهم المعتقدون بالحلول وأن الله جل وعلا في كل مكان بذاته في الأماكن الطاهرة وفي الأماكن النجسة في الحش وفي المسجد وفي الشارع وفي كل مكان، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، احتجوا ببعض الأدلة كقوله جل وعلا ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ?[الأنعام:3]، وكقوله جل وعلا ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]، وردّوا على بعض الأدلة التي يُرد بها عليهم كقوله ?ءَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ?[الملك:16]، لأن هذا فيه فصل ثم فيه استئناف وأشباه ذلك مما سمعت من الاحتجاج والرد عليهم.(18/190)
وحجة أهل السنة واضحة وما قرره الحارث في هذا جيد وواضح، فإن قوله مثلا في آخر الكلام (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) يعني هو جل وعلا الذي يُعبد في السماء وهو الذي يُعبد في الأرض، مع كونه جل وعلا على عرشه مستوٍ عليه كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه، كما يقول القائل فلان أمير في كذا وأمير في كذا وأمير في كذا، أو هو الأمير في كذا وكذا وهو في مكان واحد، وإنما يصدر أمره في هذه جميعا، ويطاع في ذلك، فقوله ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ?[الزخرف:84] هذا معناه وهو المعبود في السماء وهو المعبود في الأرض، فلا معبود غيره في السماء ولا معبود غيره في الأرض، وأما آية الأنعام ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ?[الأنعام:3]، فإن تفسيرها فيه أوجه منها:
?أن قوله (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ) يعني على السموات؛ يعني هو جل وعلا في السموات يعني على السموات، (فِي) هنا بمعنى (على) كقوله ?وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ?[طه:71]، يعني على جذوع النخل ثم تستأنف وتقول (وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ).
? القول الثاني أن الوقف على (وَفِي الْأَرْضِ) يعني (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) هذا الوقف، ثم تقول (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) فيكون المعنى وهو المعبود الحق في السموات وهو المعبود في الأرض إذْ إنّ لفظ الجلالة علم على المعبود بحق.
? أو تصلُها جميعا الآية فتقول (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ).(18/191)
والوجه الأول أظهر هذه الأوجه، والثاني أيضا ظاهر والثالث بين، فيقرأ القارئ يقول (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِص وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) يعني أنه سبحانه على السموات وفي الأرض يعلم فعلمه مع خلقه أو تقول (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) يعني وهو المعبود سبحانه في السموات وهو المعبود في الأرض كآية الزخرف (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ).
هو يريد الردّ -يعني الحارث المحاسبي- على أصحاب الحلول والوحدة النافية لصفات الله جل وعلا.
نكتفي بهذا القدر.
([80]) (هوى حسن النفس المستخرجة) هذه هي الأحكام؛ وصار معلوم لهم على الأحكام المستخرجة من سوء الظن، والأحكام هذه هي أحكام هوى النفس، أو هوى حسن النفس؛ يعني تحسين النفس، ماشي، كلها صحيحة (على الأحكام هوى حسن النفس المستخرجة) يعني هوى تحسين النفس؛ يعني هوى مصدره تحسين النفس، يعني حسن النفس ما تراه النفس حسنة، والمستخرجة هي الأحكام.
([81]) (معرفةُ) هذه وأشباهها تضبطها بأن تسندها إلى ياء المتكلم، فإذا أسندتها إلى ياء المتكلم فالياء مفعول وما بعدها فاعل، تقول مثلا (لزم محمدا القراءةُ), (يلزمني القراءةُ), (كفى محمدا العلمُ), لأنك تقول:كفاني العلمُ، سرني الخبرُ، يسرني علمُك، وأشباه ذلك، فالأفعال من هذا تضبطها ما يشتبه فيها الفاعل بالمفعول، تشتبه على القارئ.
فما أسند إلى ياء المتكلم هذا يكون ما بعده فاعل؛ يعني الياء مفعول وذاك فاعل، تقول سرَّني الخبر؛ يعني سرّ الخبر إياي، كفى محمدا العلم، لأنك تقول كفاني العلم، كفاني المال، وأشباه ذلك.
([82]) ما سبق إيراده من خطبة كتاب التوحيد لأبي عبد الله الخطيب هذا مشتمل على تأصيل منهج التلقي عند أهل السنة والجماعة.(18/192)
وهذا المنهج مأخوذ من الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين في فهم الكتاب والسنة، والتابعون لا يستقلون بأحكام التوحيد؛ بل إنما هم مقرّرون لما جاء في النصوص، فلو جاء عن أحد منهم شيء لم يكن في النصوص -يعني عن التابعين- لكان هذا على عهدة قائله ولا يكون عقيدة ولو تبعه عليها بعض من بعده.
فشرط الاعتقاد الصحيح أن يكون جائيا في الكتاب أو السنة وكان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فهذا هو قيد الاعتقاد الصحيح وقيد مصدر تلقيه.
فهذا هو الذي أجمع عليه السلف بإجماع المهاجرين والأنصار على ذلك فمن بعدهم.
ثم إن العقل لا مأخذ له في الغيبيات، العقل وتحسين النفوس ورؤية الصواب من جهة عقلية في الأمور الغيبية ليست واردة وليست من مواد التلقي أو من مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة؛ بل التلقي إنما يكون كما ذكرنا من النصوص وما عليه السلف الصالح يعني بما أجمعوا عليه، والعقل إنما هو لفهم النصوص.
فالأمور الغيبية العقلُ لا يحسنها؛ لأن العقل راجع في إدراكه وفي تصوراته إلى قياس الأمور بعضها مع بعض، فهذا هو الذي قرره العقلاء في الكلام في ما يسمى نظرية المعرفة وما يكتسبه الناس من المعارف كيف يكون؟
والأصل في اكتساب الناس المعارف إنما هو بالأقيسة على الضروريات، فالضروريات التي شاهدوها بأعينهم أو سمعوها أو ذاقوها أو لمسوها يقيسون المعارف على ما شاهدوا فتنتج لهم المعارف، وتنتج لهم الأقيسة العقلية والإدراكات العقلية.
ففي ما هو معلوم في المنطق وفي الفلسفة بعامة ما يسمى بنظرية المعرفة؛ يعني ما به تكون معرفة الأشياء فيه:(18/193)
أولا: الضروريات كما قال جل وعلا?وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?[النحل:78]، فجعل الأبصار، فجعل الأفئدة، جعل السمع ، قبل ذلك لم؟ لأن هذه هي وسائل التحصيل، فما كان مأخوذا من هذه الحواس فيسمى عندهم ضروري؛ يعني لا يحتاج إلى استدلال نظري لإثباته، بل نقول هذا هو أمامي لمسته سمعته أسمعك الآن لا يحتاج إلى إثبات، ومن احتاج إلى إثبات الضروريات هؤلاء قوم أهل بدع يقال لهم السفسطائية الذين يجادلون حتى في الضروريات.
المقصود أن العقل يدرك المعارف بعد تحصيل الضروريات بقياس ما لم يره على ما رآه، بقياس ما لم يسمعه على ما سمعه، ومعلوم أن المعارف إنما حُصِّلت بأشياء دنيوية، بأشياء مرئية، بأشياء مسموعة بعالم الشهادة.
وقياس عالم الغيب على عالم الشهادة وإدخال العقل في ذلك هذا من مناهج أهل الضلال.
وعندنا -عند أهل السنة والجماعة- أن قياس الغيب على الشهادة باطل شرعا، كما أنه باطل عقلا عند العقل الصريح؛ لأن الأقيسة هذه العقلية مبنية على المدارك الضرورية، والمدارك الضرورية الدنيوية مشهودة، فكونك تقيس غير المشهود على المشهود هذا فيه بطلان في تحكيم حتى القواعد العقلية.
فخلصنا من ذلك: أن قياس عالم الغيب سواء في صفات الله جل وعلا وأسمائه أو في صفة الجنة والنار أو في الميزان أو في الصراط المنصوب على متن جهنم، أو في عالم الملائكة، أو في أي أمر غيبي يأتي في النصوص إثباته، فإن الخوض فيه بدلالة عقلية بمخالفة ظاهر ما دلت عليه النصوص، هذا راجع إلى الأصل الذي ذكرنا، وهو إعمال العقل في قياس عالم العقل على عالم الشهادة، وهذا خلف من القول وباطل من التقرير بل الغيب له قواعده وأقيسته العقلية الصحيحة، والشهادة لها قواعدها وأقيستها الصحيحة فجعل هذا لذاك أو ذاك لهذا لا يصح.(18/194)
نخلص من ذلك إلى أن العقل التفكير في النصوص في الثواب في العقاب في الغيبيات هذا من الباطل.
([83]) هذا النقل والكلام فيه ذكر صفة النفس لله جل وعلا، والنفس له سبحانه فسرت بتفسيرين:
الأول أن النفس بمعنى الذات يعني انه جل وعلا له ذات؛ لأنه يقال في اللغة النفس بمعنى الذات، كما في قول القائل: جاءني خالد نفسُه؛ يعني ذاته من جهة التأكيد؛ يعني لم يأتِ رسول منه ولم يأت كتاب منه وإنما أتى خالد نفسه يعني بذاته.
وتأتي النفس ويراد بها في المخلوق الروح, الروح كما في أدلة كثيرة منها: قول الرجل في الحديث الصحيح (إِنّ أُمّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا) يعني روحها، ?إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ?[ التوبة:111] يعني أرواحهم، وأشباه ذلك.
وفي صفة الله جل وعلا صفة النفس:
?منهم من أهل العلم من قال: النفس بمعنى الذات. يعني من أهل السنة.
?ومنهم من قال النفس يعني له جل وعلا نفسا خاصة، ونثبت اللفظ ولا نقول هم بمعنى الذات فقط؛ بل نقول له سبحانه وتعالى نفس وهو جل وعلا له ذات ،كما أن له صفات وأفعال والصفات قائمة بالذات.
وقوله جل وعلا ?تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ?[المائدة:116]، هذا ظاهر في إثبات النفس لله جل وعلا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «سبحان الله رضا نفسه» وأشباه ذلك.
ومنهم من قال في الآية إن هذه بمعنى الذات لأنه (وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) هذا يعني ما تعلمه أنت ذاتُك.
? لكن بقاء النص على ظاهره، بدون الدخول في تفسير أحد الاحتمالين أولى، فنقول: إن النفس قد يكون المراد بها الذات، وقد يراد به صفة خاصة هي النفس، وقد يكون المراد الاثنين جميعا، وهذا الثالث أولى لأنه ظاهر الكلام لغة، فنقول إذن الأولى أن يقال (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) يعني فيها إثبات صفة النفس للذات.(18/195)
([84]) ذكر صفة النور لله جل وعلا، والنور المضاف إليه جل وعلا نوعان:
نور هو صفته سبحانه فهو جل وعلا نور، ومن أسمائه النور جل وعلا، وهذا النور من صفاته غير مخلوق؛ صفة من صفاته، كما جاء في الحديث «لو كشفه لأحرقت سَبُحات وجهه -أو سُبُحات وجهه- ما انتهى إليه بصره من خلقه» والسُّبحات هي الأنوار، وهذا صفة من صفاته سبحانه.
والثاني نور مخلوق، وهذا النور المخلوق يبتدئ من الحجاب قال «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه» فالحجاب نوره هذا مخلوق فيه، وتعالى الله جل وعلا وتقدس، وكذلك نور السموات والأرض ما فيها هذا نور مخلوق، كما قال جل وعلا ?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?[النور:35]، معناها نوّر السموات والأرض كما في القراءة الأخرى (اللَّهُ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) يعني هذا النور المخلوق، بل قال ابن عباس وجماعة في الآية؛ آية سورة النور: إنَّ النور هنا مثل ضربه الله جل وعلا لنور الهداية في قلوب أهل الإيمان، لهذا قال في آخرها ?يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ?[النور:35]، (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) يعني مثل نور هداية في قلوب عابديه (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) الآية.
فإذن تقرر أنَّ النور منه ما هو صفة ومنه ما هو مخلوق، والنور المضاف إلى الله جل وعلا على هذين القسمين.(18/196)
ونور السموات والأرض هذا نور مخلوق، ليس هو نور وجه الحق جل وعلا؛ لأنه سبحانه لو كشف الحجاب لتدكدك ما انتهى إليه بصره [انتهى الوجه الأول من الشريط السادس] من خلقه، ولما قال موسى عليه السلام لربه ?رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ?[الأعراف:143] (تَجَلَّى) أي أزيل الحجاب فوصل نور الحق جل وعلا إلى الجبل جعله دكا؛ يعني من قوة أثر النور.
بل كان السلف يقولون -كسفيان وجماعة وهو مأثور عمن قبلهم ويروى مرفوعا-: أن الحق جل جلاله وتقدست أسماؤه كشف من الحجاب قدر هذه, وأشاروا إلى الخنصر بالأنملة العليا، قدر هذه، قالوا كشف قدر هذه فتدككك الجبل ?فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا?[الأعراف:143]، يعني من قوة النور الذي رآه في لحظة.
المقصود من هذا أن الله جل وعلا موصوف بصفة النور، فنوره سبحانه من صفاته، وله نور مخلوق جل وعلا يضاف إليه إضافة المخلوقات تشريفا وتعظيما.
[سؤال: شيخ النور الذي يدل عليه الحديث هل هو نور الله «نُورٌ فأَنّىَ أَرَاهُ»؟]
..لا، «نُورٌ فأَنّىَ أَرَاهُ» هذا معناه رأيت نورا مثل ما جاء في الروايات الأخرى «نُورٌ أَنّىَ أَرَاهُ» يعني هناك نور وهو نور الحجاب فكيف أراه وبيني وبينه حجاب النور؟ مثل ما جاء في الرواية الأخرى قال «رأيت نوراً» هَلْ رَأَيْتَ رَبّكَ؟ قَالَ «رأيت نوراً» يعني نور الحجاب (حجابه النور) جل وعلا.(18/197)
..?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?[النور:35]، ?اللَّهُ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ?[النور:35]، تفسير القرآن بالقرآن قراءة السبعية المتواترة (اللَّهُ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) فمن فسرها الله مُنَوِّر السموات والأرض على هذه القراءة (اللَّهُ نَوَّرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) هي قراءة سبعية وأعلى ما يفسر به القرآن القرآن، فمن قال الله منور السموات والأرض صحيح، الله نوّر على القراءة الثانية المتواترة، هذا أجود الله نوّر السموات والأرض.
.. ?نُورٌ عَلَى نُورٍ?، لا هذا ?كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ?[النور:35].
.. الآن عندك:
نور على نور. هذا واحد.
أنت نور السموات وأرض. هذا اثنين.
الثالث لأحرقت سَبُحات وجهه. هذا ثلاثة
قول ابن مسعود: نُور السموات والأرض نُور وجهه. هذا فيه إثبات صفة النور في الوجه.
([85]) هذه كلها، الآن عندك:
نور على نور. هذا واحد.
أنت نور السموات وأرض. هذا اثنين.
الثالث لأحرقت سَبُحات وجهه. هذا ثلاثة
قول ابن مسعود: نُور السموات والأرض نُور وجهه. هذا فيه إثبات صفة النور في الوجه.
([86]) رجلَه؛ لأن الغلط في الإعراب في الصفات أو في أسماء الله جل وعلا يغيِّر المعنى.
([87]) ذكر عدة صفات سواء من الصفات الذاتية أو من الصفات الفعلية له جل وعلا.
ومن صفاته الذاتية أنه سبحانه وتعالى حيّ، وأنه جل وعلا له صفة اليدين، وله صفة القدمين، أو الرجل له جل وعلا، كل هذا ثابت في الأحاديث، هذا، والسمع والبصر وإلى آخره.(18/198)
وهذا هو قول النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته «إنَّ الله خلق آدم على صورته» فالله جل وعلا خلق آدم على صورة الرحمن سبحانه وتعالى؛ يعني على صفاته سبحانه، فخصَّ آدم من بين المخلوقات بأنَّ له من الصفات من جنس صفات الحق سبحانه وتعالى؛ يعني أن الله سبحانه وتعالى له وجه وجعل لآدم وجها، وله سمع وجعل لآدم سمعا، وله بصر وجعل لآدم بصرا، وله أصابع سبحانه وجعل لآدم أصابعا، وله جل وعلا قدمان وجعل لآدم قدمين، وله سبحانه ساق وجعل لآدم ساقا، إلى آخر ذلك.
فهذا اشتراك في الصفة، والاشتراك في الصفة لا يعني الاشتراك في الكيفية؛ لأن هذا باطل، فالله سبحانه وتعالى جعل لآدم من الصفات مثل الصفات التي ذكرنا؛ يعني الصفات سواء الذاتية أو الصفة القوة والغضب والرضا والكلام إلى آخره، هذه الصفات جعل صفات آدم على صفات الرحمن سبحانه وتعالى وكما جاء في الحديث هذا «خلق الله آدم على صورته» و(على) ليست للتمثيل وليست للتشبيه، وإنما هي في اللغة للاشتراك، وهذا الاشتراك حاصل بدلالة النصوص.
فما فصل في هذا الموضع مما ينقله العلماء أجمل في قوله عليه الصلاة والسلام «خلق الله آدم على صورته» فقوله (على) يقتضي -كما ذكرت لك- الاشتراك ولا يقتضي المشابهة ولا المماثلة في الكيفية ولا في الصفة؛ يعني في غاية الصفة، وإنما هو اشتراك في جنس الصفة؛ في أصل معناها.
والصورة في اللغة، الصورة في اللغة هي الصفة، قال هذه صورة الشيء يعني هذه صفته، كما جاء في الحديث المتفق على صحته وقوله عليه الصلاة والسلام «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة البدر ليلة التمام» فقوله (على صورة البدر) يعني على صفة البدر ليلة التمام.
فهذا الحديث فيه كما ذكرت الاشتراك في الصفات.(18/199)
وكذلك من الصفات التي جاءت في الأحاديث أن لله جل وعلا صورة خاصة، والصورة الخاصة غير الصورة العامة، الصورة العامة يعني الصفات، والصورة الخاصة التي هي هيئة اجتماع الصفات، والله جل وعلا له صورة ليست كصورة المخلوق، وهذا بمعنى الصورة الخاصة، وهو جل وعلا له صورة يعني له صفات، وجعل المخلوق له من الصفات على صفات الرحمن سبحانه «خلق الله آدم على صورته» وهذا خاص بآدم؛ يعني لو تأملت كل المخلوقات ما تجد أنها مثل الإنسان في الاشتراك فيما بين صفاته وصفات الرحمن جل وعلا، فصفات الرحمن سبحانه وتعالى تجد معانيها في الإنسان بما يناسب ذات الإنسان.
وهذا هو التحقيق في معنى الحديث، خلافا لمن فهموا منه التمثيل أو التشبيه أو الذين ردوه أو الذين جعلوا معنى الصورة الصورة الخاصة، وليست الصورة العامة التي هي بمعنى الصفات.
[سؤال: ما الفرق بين الصورة الخاصة والصورة العامة]
.. مثل ما الفرق بين الإسلام الخاص والإسلام العام، الإسلام ثلاث مراتب إسلام وإيمان وإحسان، هذه ألفاظ في اللغة يكون اللفظ عاما ويدخل في تقاسيمه خاص هو نفس اللفظ، فالصورة هيئة اجتماع الصفات هذه صورة، الصفات صورة، مثل ما ذكرت لك في الحديث الذي في الصحيحين «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة البدر» يعني على صفته في الوضاءة والضياء والكمال كما أجمع عليه الشراح. هذا هو دِلالة اللغة ودلالة موارد الكلمة في الأحاديث.
الله سبحانه له صورة مثل ما جاء في أحاديث كثيرة غير أحاديث الصورة هذا، كما جاء مثلا في قوله «سيأتيهم في غير الصورة التي رأوه عليها أولا، فيقول لهم أنا ربكم، فيقولون له: لا نزال هنا حتى يأتي ربنا. قال: هل بينكم وبينه آية؟ قالوا نعم الساق. فيكشف ربنا عن ساقه فيخر...» إلى آخره.(18/200)
فجاء في الأحاديث إثبات الصورة لله جل وعلا، وهذه مثل ما قلنا لكم الصورة الخاصة؛ يعني الصورة التي معناها هيئة اجتماع الصفات فالله سبحانه وتعال له صورة تليق بجلاله وعظمته، واجتماع صفاته سبحانه ليست كاجتماع صفات المخلوق، فما خطر في بالك، فإن الله جل وعلا بخلافه، فالمخلوق اجتمع صفة الأصابع مع صفة اليد فيه مع صفة الوجه مع صفة القدمين على هذا النحو الذي أمامك في الإنسان، فالله سبحانه اجتماع صفاته في صورة لا يجوز أن نجعل هذه الصورة كصورة الإنسان؛ لأن هذا تمثيل والقاعدة ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].
والحديث هذا «إن الله خلق آدم على صورته» لفظة (على) تقتضي الاشتراك والمطابقة في الصفات؛ لكن لا تقتضي المماثلة، فالله جل وعلا عُدْ من صفاته سواء الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية تجد أن الله جل وعلا خلق آدم على صفاته سبحانه: فالوجه والعينان والسمع والبصر والقوة والإرادة والمشيئة والمحبة والرضا والغضب، والصفات الذاتية: الأصابع والقدم والساق إلى آخره والنفس -يعني عُدْ الصفات-، العلو الاستواء المجيء الإتيان، خذ، لكن هذه الصفات هي معنى قوله «خلق الله آدم على صورته» يعني على صورة الرحمن، فليس في الحديث على هذا شيء جديد، الحديث إجمال تفصيله في الأحاديث الأخرى، فليس فيه جديد هذا الحديث.
وهذا أشار إليه ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث قال: استعظموا هذا الحديث لعدم إِلْفِهِم له ولعدم سماعهم له، وإلا فليس هو أعجب من نصوص إثبات الصفات كقوله ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، وكقوله ?وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ?[الرحمن:27]، وكقوله ?وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى?[طه:81]، والآيات يعني في الصفات، هذا وهذا الباب واحد ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11] سبحانه وتعالى.(18/201)
.. لا، الحديث الذي في الصحيحين جاء بألفاظ مختلفة «خلق الله آدم على صورته»:
فمرة جاء في بدأ خلق آدم «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا في السماء، فقال له ائتي هؤلاء النفر من الملائكة فانظر بما يحيونك» إلى آخر الحديث، هذا واحد.
الثاني الذي رواه مسلم «إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته»، بعضهم قال على صورته يعني على صورة المضروب.
وفيه مستقل بدون هذا وهذا «خلق الله آدم على صورته».
وفيه «خلق الله آدم على صورة الرحمن»، هذا الحديث الذي صححه الإمام أحمد وإسحاق وجماعة من أهل السنة.
أما من أرجع الضمير إلى آدم فهذا قول الجهمية؛ لأن آدم لم تكن له صورة قبل أن يُخلق، كما قال الإمام أحمد قيل له: فلان يقول على صورته يعني على صورة آدم. فقال: وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلق، هذا قول الجهمية. يعني قول الذين يريدون نفي الصفات؛ يعني معنى على صورته يعني على الصفات، الإمام أحمد يعلم أن على صورته وكذلك أهل اللغة في زمانه -وحتى الجهمية- يعلمون على صورته يعني على صفاته، فإذا قالوا على صورته يعني على صورة الرحمن على صفاته اضطروا إلى إثبات تفصيلاتها في النصوص، ولكن لما أرجعوا الضمير إلى آدم صار المقصود منتفيا، فصار ليس في الحديث إثبات الصفات أصلا.
الحديث هذا يدمغ المؤولة والمشبهة والمعطلة؛ لكن الشأن في فهمه كيف يُفهم.(18/202)
وأنا أعجب كثير من بعض من ينتسب إلى العلم، ويظن أن الحديث فيه تمثيل أو فيه تشبيه، وهذا لأجل فساد اللغة؛ فإن (على) في اللغة ليست بمعنى (مثل) بالاتفاق؛ (على) ليست بمعنى المثلية، خلق آدم على صورته، على صورة الرحمن، ليس معناه مثل صورة الرحمن، نقول هذا أخلاقه على أخلاق فلان، هذا عمله على عمل فلان؛ يعني أنه يتصف بصفات عمله؛ يشترك معه؛ لكن إذا أتيت إلى الكيفية إلى مقدار العمل لا يقتضي المماثلة في ذلك، قد يقتضي المشابهة (على) قد تقتضي التشابه والتشابه في أصل المعنى لا ننفيه، إنما ننفي التشابه في تمام المعنى يعني في كماله أو في الكيفية.
لهذا شيخ الإسلام أطال جدا في بحثه على هذا الحديث ورد على ابن خزيمة على تضعيفه لحديث «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» ونفيه لمعنى الصورة مما زلَّ فيه ابن خزيمة رحمه الله، في بحث معروف رد عليه في نحو خمسين ستين صفحة كبيرة في بحث من أحسن ما كتب على ذلك، في كتابه بيان تلبيس الجهمية، وفي الرد على الرازي في الجزء الذي لم يطبع.
.. كل صفات الله جل وعلا غير مخلوقة، إذا قلنا صفة معناه أنها غير مخلوقة، لكن النور أضيف إلى الله جل وعلا، فهذا النور الذي أضيف إلى المولى جل وعلا ينقسم إلى قسمين:
نور مخلوق.
ونور غير مخلوق.
النور المخلوق هذا من جملة المخلوقات يضاف إليه كما يضاف إليه بيت الله وناقة الله إلى آخره.
والنور الذي هو صفة إضافته إليه إضافة صفة إلى موصوف.
.. نور الهداية مخلوق، ما فيه شك
.. النور من التسعة والتسعين في الحديث المعروف.
([88]) لعله يكون أصلُه، أو فيكون أصلَ التصديق، لكن التصديق ما يستعمل مع كلمة أصل، أصلُ التصديق هذه العبارة ما يستعملها العلماء أصلُ التصديق والإقرار، وإنما يقال التصديق والإقرار.
على كل حال المقصود أن الإيمان هو التصديق والإقرار والأعمال؛ يعني تصديق القلب وإقرار اللسان أعمال الجوارح.(18/203)
([89]) الجمل يعني المجملة، الأحكام المجملة من العقيدة، هذه العبارة كانت عند العلماء.
([90]) العقود جمع عقد وهي العقيدة، عقد القلب على شيء يقال له عقد، تعاقد بينك وبين فلان عقد وبينك وبين الله جل وعلا عقد يعني العقيدة، وجمعها عُقود.
([91]) [انتهى الشريط السادس]
([92]) هذه مسألة (المقتول قُتل بأجله)، خلاف ما بين أهل السنة والمعتزلة القدرية فيها معروف، وهي فرع عن مسألة؛ مسألة كبيرة في القدر ويأتي تقريرها إن شاء الله؛ لكن عندنا أن المقتول قتل بأجله، وعندهم لا، هذا القاتل قطع عليه أجله؛ وذلك لأن الأفعال عندهم خلْق الإنسان غير مخلوقة لله جل وعلا، الأسباب عندهم خلْق الإنسان، فالقدر واحد لا يدخل فيه الأسباب ولا أفعال العبد، والقتل ظلم أو اعتداء، والأسباب التي أدت إليه من فعل الإنسان فخرجت عن القدر، والقدر هو أن أجله كذا، لهذا قالوا المسألة كان يبتلى بها الناس كانت مسألة من المسائل التي يكثر الكلام فيها بين المعتزلة وأهل السنة، في هل المقتول قُتل بأجله أم قُطع أجله، والأجل واحد؟
تقرير مذهب أهل السنة أن المقدَّر هو الأجل مع السبب، السبب الذي يكون به موت الإنسان أيضا مقدَّر، وهو من خلق الله جل وعلا، والله جل وعلا هو الذي خلق العباد، وهو الذي خلق الأسباب، وهو الذي خلق المسببات، فما تغلب قدرة الإنسان قدرة الله وإرادة الإنسان إرادة الله جل وعلا، هؤلاء يقولون إن كان عمره بأجل الثمانين وقتل وهو أبو عشر سنين يقول هذا قطع المخلوق؛ القاتل على المقتول أجله، ولو لم يقتله لعاش ثمانين سنة، لكنه اعتدى فقطع عليه أجله، وهذا خلوص منهم إلى نفي الظلم على الله جل وعلا بالقاعدة التي يقعدها أهل الاعتزال.(18/204)
المقصود هو أشار إلى هذه لأنها من المسائل التي كان يكثر فيها الحجاج والأخذ والرد بين أهل السنة والقدرية المعتزلة، وهي مبناها على مسألة الظلم وعلى مسألة الأسباب، الأسباب هل الله خالقها؟ ثم الظلم المنفي عن الله ما هو؟
([93]) ليلة النصف من شعبان جاء فيها أحاديث أثبتها بعض العلماء بأن فيها فضلا، والظاهر أن أصل الفضل فيها ثابت، وذهب كثير من أهل العلم إلى أن الليلة النصف من شعبان هي الليلة التي يكون إنهاء الآجال والتقديرات استعدادا ليلة القدر في رمضان، ولهذا كان عدد من السلف يُحيون هذه الليلة يقومون فيها لما ورد فيها من الفضل.
والمحققون يقولون إن ورود الفضل فيها لا يعني أن تُخَصَّ بقيام أو بصيام أو ما أشبه ذلك؛ يعني بقيام من بين الليالي وصيام من بين الأيام لأجل أنها –ليلة النصف أو يوم النصف- فيها فضل ليلة النصف من شعبان؛ لكن هذا الفضل من أجل التقدير ما يحصل فيها من أجل التقدير، والله أعلم بحقيقة ذلك.
([94]) وقوله في السلطان: الصبر على السلطان إذا كان من قريش. هذا لأجل ما جاء في الأحاديث من أن الأئمة من قريش، فالوِلاية ولاية المسلمين العامة والاختيارية ينبغي أن تكون في قريش؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «الأئمة من قريش ما بقي من الناس اثنان» يعني حين الاختيار، أما إذا حصل تغلب من إمام ودعا الناس إلى بيعته وتغلب بسيفه فهذه تسمى عند العلماء بيعة غلبة ليست بيعة اختيار، وللإمام هذا جميع حقوق الأئمة من قريش لما جاء من الأحاديث لقوله عليه الصلاة والسلام «وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زُبيبة». نعم
([95]) (الشهادة والبراءة بدعة) لأنها معتقد الرافضة يقولون لا ولاء إلا ببراء، ولا شهادة -يعني لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله- إلا ببراءة.(18/205)
ويعنون بالولاء؛ لا ولاء إلا ببراء: يعني لا مولاة لعلي وآله إلا بالبراءة من جمع الصحابة عدى النفر صاروا مع علي، فلا يصح عندهم موالاة لعلي إلا بالتبري من الصحابة الآخرين.
كذلك الشهادة عندهم لا شهادة لعلي بأنه على الحق، ولا شهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله نافعة إلا بالبراءة، فعندهم البراءة أصل في هذا.
ولا شك أن الولاء والبراء أو الشهادة والبراءة بهذا المعنى بدعة؛ بل الولاء والبراء في النصوص ليس المقصود منه البراءة من الصحابة؛ بل البراءة من الشرك وأهله. نعم
([96]) يعني لا يشهد لأحد بجنة أو نار إلا من شهد له أو عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأما الكفار الأصليين؛ مشرك أصلي مات على الشرك، أو يهودي أو نصراني، هذا ما يدخل في هذا الكلام بل إذا مات وقد أقيمت عليه الحجة فيبشر بالنار، ويشهد عليه بمعينا، كما جاء في الحديث الصحيح «حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار» وقوله عليه الصلاة والسلام «أبي وأبوك في النار».
وهذا خارج عن قول أهل العلم لا نشهد لمعين بجنة ولا نار إلا من شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يقصدون المعين من أهل القبلة، فلا نقول هذا سيعذب بالنار، أو هذا من أهل الجنة قطعا ولا هذا سيعذب في النار قطعا؛ لأننا لا نشهد إلا بالعلم، وهذا لا علم لنا به.
وهذا بالاتفاق بين أهل السنة.
وثَمة مسألة متصلة بهذا فيها اختلاف بين أهل السنة وهي: هل يشهد لغير من شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ اختلفوا:
فقال طائفة من أهل السنة وهم الأكثر لا يشهد لأحد على هذا الإطلاق.(18/206)
وقال آخرون يشهد لمن تواتر فضله وإيمانه، وشهد له المسلمون جميعا؛ يعني استفاض خيره وإيمانه وتقواه، وشُهد له بذلك، فمثل هذا يُشهد له بالجنة عند أصحاب هذا القول، كعمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكالشافعي، والإمام أحمد وأشباه هؤلاء، وإلى هذا القول كان يميل شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن هؤلاء يشهد لهم، أستدل له بحديث أنه مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال «وجبت»، ثم مرّ بجنازة أخرى فأثنوا عليها شرا فقال «وجبت» قالوا يا رسول الله ما وجبت؟ فقال«تلك مرّت فأثنيتم عليها خيرا فوجبت لها الجنة، وهذه مرت فأثنيتم عليها شرا فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في أرضه» يستفاد من هذا أن من استفاض بين المسلمين أنه من أهل الإيمان وكان من السابقين في دينهم بما يعلمه الناس فشهدوا له بذلك أنه يجوز الشهادة له بالجنة على هذا القول.
ولا شك أن الأسلم عدم الخوض في ذلك؛ لأن الله جل وعلا أعلم بخاتمته، وكل من المسلمين يُرجى له، وأهل الإيمان والمقامات العالية نرجوا لهم أعظم؛ لأن الله جل وعلا قوله الحق ووعده الصدق.
([97]) عائشة بالذات لأن الرافضة يتبرؤون منها، ولأن بعض الذين لم يلزموا أنفسهم السنة ربما تكلم في عائشة لما حصل في وقعة الجمل ودخولها في ذلك.(18/207)
فعائشة رضي الله عنها حينما ذهبت إنما ذهبت للصلح، ذهبت لتحقن الدماء رضي الله عنها، فكانت غايتها أعظم غاية لقول الله سبحانه ?فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ?[الأنفال:1]، فكانت ساعية في تقوى الله لإصلاح ذات البين وكف الشجار بين المؤمنين والتوفيق بين علي رضي الله عنه وبين المخالفين؛ لكن حصلت الحرب والقتال لا باختيار عائشة رضي الله عنها فإنها قيل لها لو ذهبت لهاب الناس مجيئك وقبلوا ما تقولين وسارت على جملها وقيل لهم هذه عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحب نسائه إليه بعد خديجة، فإيتوها فإنها تطلب أن لا تريقوا الدماء.
فالخوارج الذين صحبوا عليا ضد معاوية هم الذين أثاروا المقتلة، فسعوا في الفتنة ما بين هؤلاء وهؤلاء، فقالوا لمن مع عائشة إن عليا ومن معه سيصبِّحونكم بالقتال، وذهبوا إلى أولئك وقالوا لهؤلاء إن أولئك سيأتونكم على غرة منتصرين لمعاوية ومن معه، فحصل ما حصل من الوشاية العظيمة هذه، فحصلت المقتلة بغير اختيار علي رضي الله عنه وطلحة والزبير ومن معهم، ولا باختيار عائشة رضي الله عنها، فالجميع لم يكن يختارون مثل هذا الأمر، ولكن وقع بفعل الوشاية.
ولهذا نترحم على الجميع ونترضى عن الجميع، نعلم أن الجميع رجال صدق، وأنهم كما أثنى الله جل وعلا عليهم، ونتولاهم جميعا، وإنما حصلت الفتنة من أهل الفتنة، وأما الصحابة فإنما وقعوا فيها بغير اختيار، ولا رغبة في ذلك، ولكن وقعت بفعل أهل الشر الذين قادوهم لذلك ولا مناص لهم من هذا الأمر.
.. عدم الترضي على الصحابة ليس كفرا، سب الصحابة له أحوال:
إذا سب الصحابة جميعا فهو كفر جميعا بلا استثناء.
وإذا سب طائفة منهم ولو كانوا الأكثر فهنا:
o إن سبّ تدينا؛ تدينا يعني متأولا فلا يُكَفَّر.
o وإن سبَّ تغيضا بغضا لهم، بغضا لنصرتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا كفر، لقوله جل وعلا ?لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ?[الفتح:29].(18/208)
o وإن سب ولعن تنقصا لهم في دينهم فهذا أيضا ليس بكفر؛ لأنه قد يكون جاءه شبهة، هذا مثلا يقول معاوية كذا وكذا من السب رضي الله عن معاوية لأجل مثلا أنه طلب الملك أو لأنه فعل، هذا ليس بكفر وإنما هو فسق من صاحبه، وحرام عليه وكبيرة من الكبائر، «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده فلو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه».
فيه تفاصيل معروفة، خمسة أقوال في السب.
وأما عائشة فمن سبها من جهة عرضها فهو كافر؛ لأنه مكذِّب للقرآن، تنقَّصها في عرضها فهو كافر لأنه مكذب بالقرآن؛ لأن الله أنزل براءتها من فوق سبع سموات، وأما إذا لما حصل منها يوم الجمل وأشباه ذلك، لا لأجل العِرض هذا له حكم سب الصحابة، على التفصيل السابق الذي هو تغيض أو هو تدين.
([98]) اللفظ والملفوظ؛ يعني هل اللفظ بالقرآن مخلوق أو لا؟ هل يجوز أن يقول القائل لفظي بالقرآن مخلوق؟ لما قَوِيَ أهل السنة صارت هذه الكلمة لفظي بالقرآن مخلوق لا يقولها إلا جهمي؛ لأنه يريد أن يهرب من إلزامه بشيء.
فاللفظ مصدر:
يُعنى به تارة التلفظ.
ويُعنى به تارة الملفوظ.
مثل (خَلْقٌ) يعني به التخليق، ويُعنى به المخلوق، نقول هذا خلق الله، يعني تخليقه سبحانه الذي هو فعله، أو ما انفصل عن فعله وهو المخلوق.
وهذا كثير في المصادر التي على وزن فعل، إما يعنى به الحدث وإما يعنى بها المحدث.
فاللفظ، تقول لفظي هل تعني به التلفظ أو تعني به الملفوظ هل هو الملفوظ الخارج أو حركة اللسان التلفظ؟
معلوم أنه إن أريد الأول وهو التلفظ: فالتلفظ من أفعال العبد، وأفعال العباد مخلوقة.
وإن عُني باللفظ الملفوظ فالملفوظ هو القرآن.
لهذا صارت الكلمة محتملة، واستعمال المحتملات في العقيدة بدعة؛ فإنه لا يجوز أن تستعمل مثل هذه العبارة التي قد تحتمل شيئا آخر فيفهم الناس منها فهم غير سليم.(18/209)
ولهذا كان الإمام أحمد يقول من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع أيضا؛ لأنها تحتمل هذه وهذه والإطلاق سكت عنه السلف، قد قال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا?[البقرة:104]، كلمة (رَاعِنَا) من المراعاة كلمة طيبة؛ لكن يستعملها اليهود من الرُّعُونة، ولهذا نهي عنها للاحتمال، فأخذ أهل السنة من هذا أصلا عظيما وهو: أنَّ الألفاظ المحتملة فيما يتصل بذات الله جل وعلا أو صفاته أو أفعاله أو أمور العقيدة والغيبيات لا يجوز استعمالها، فينهى عنه، فاستعمال مع بقاء الاحتمال والإجمال بدعة.
ولهذا قال ابن القيم رحمه الله:
فعليك بالتفصيل والتبيين فالإجمال والإطلاق دون بيان قد أفسدا هذا الوجود.
فالمجملات والمحتملات لا يستعملها السلف في العقيدة، كلامهم واضح فيها لأن المقام مقام وضوح.
أما الاسم والمسمى، فهذا متعلق بشيئين إما بأسماء الله جل وعلا؛ يعني هل الاسم هو عين المسمى؟ أو هو غيره؟ هل اسم الله الديان أو اسم الله الرحيم هل هو عين الله؟ أو هو غير الله؟ محتملة:
إن قلنا الاسم هو عين المسمى فهذا صحيح باعتبار؛ لأن اسم الله جل وعلا دال على ذلك، فالرحيم هو الله جل وعلا، والقدير هو الله جل وعلا، فالاسم دال على المسمى.
وإن قلنا هنا الاسم غير المسمى فأيضا صحيح؛ لأن الاسم زائد على الذات.
الأسماء والصفات زائدة على الذات، فالاسم مشتمل على صفة، وصفات الله جل وعلا قائمة بذاته، فهي ليست هي الذات ولا غير الذات يعني باعتبار؛ ليست هي الذات باعتبار، ولا هي غير الذات باعتبار آخر، لهذا صار المقام يحتاج إلى تفصيل.
فمن أهل البدع من قال الاسم هو عين المسمى، ومنهم من قال: لا، الاسم ليس عين المسمى.(18/210)
وأهل السنة لا يطلقون لا هذا ولا هذا؛ يعني في أكثر أقوالهم أو جمهورهم لا يطلقون هذا ولا هذا؛ لأن هذه من المسائل المحدثة؛ ولأنها محتملة، قد يعنى به وقد يعنى به هذا، وفي كل مقام له حكم.
وأيضا يعنى بالاسم والمسمى مسألة الأسماء والأحكام؛ يعني المسلم والإسلام، والمؤمن والإيمان، فالاسم الإسلام والمسمى به المسلم، والاسم الإيمان والمسمى به المؤمن، والاسم الفسوق والمسمى به الفاسق، والاسم الكفر والمسمى به الكافر، والاسم البدعة والمسمى به المبتدع، وهكذا.
وعندهم هناك الثنائية لا يلزم من وجود الكفر أن يكون كافرا، ولا وجود البدعة أن يكون مبتدعا، ولا يدخلون في أمثال ذلك؛ لكن المسلم من حقق الإسلام فهو مسلم، يطلق عليه هذا، ولا نقول هو مسلم إن شاء الله باعتبار الحال؛ بل نقول هو مسلم، الآن، وباعتبار المآل يجوز أن نقول إن شاء الله، هو مؤمن مادام معه إيمان فهو مؤمن بلا استثناء، وباعتبار المآل -يعني ما يموت عليه- نقول مؤمن إن شاء الله يعني إن شاء الله يموت على الإيمان وهكذا.
والظاهر أنه يعني بالاسم والمسمى المسألة الأولى المتعلقة بالصفات؛ لأن الأكثر يستعمل كلمة الاسم في الأسماء والأحكام أو الاسم والحكم على الصورة الثانية التي ذكرتها.
([99]) هذا الكلام من أوله إلى هذا الموطن: فيه ذكر بعض حال الصوفية الذين سئل عنهم، والأوائل منهم توسعوا في الألفاظ وجعلوها رموزا وإشارات لمعاني يريدونها، ولمصطلح خاص لهم، وتوسع من بعدهم في ذلك حتى وصلوا إلى ألفاظ منكرة ظاهرها الكفر.
واعتذار ابن جرير عنهم محمول على حال الأولين الذين سبقوا وقته رحمه الله، وذكر مثل قولهم: رأيت الله يقول، أو بعضهم يقول رأيت الله يعني بها الأوائل الرؤية العلمية، وهذا جهله من بعدهم، فجعلوا رؤية الله جل وعلا البصرية ممكنة فمنهم من قال أنه كشفت عنه الحجب حتى أصبح يرى الله عيانا إلى آخر ما هو مخالف للشرع عندهم.(18/211)
عندهم ألفاظ كثيرة أحدثوها باطلة مخالفة للشرع ولا يجوز أن تحمل على اصطلاح خاص، ومنها ما يجوز أن تحمل على اصطلاح خاص، فصار الأمر إلى أن ألفاظ الصوفية المحدثة سواء في ذلك المتقدمون منهم أو المتأخرون على قسمين:
منها ما يمكن حمله على معنى خاص.
ومنها ما لا يمكن حمله
وما يمكن حمله على معنى خاص هو ما وضح فيه الاصطلاح. وصنف المؤلفون في اصطلاحات الصوفية كالقشيري والسلمي وجماعات.
ومنها ما ليس لهم اصطلاح فيه غلا القول بالظاهر والباطن -والعياذ بالله- حتى صار من ألفاظ بعض كبارهم ما هو كفر في نفسه.
اعتبر أتباعهم عنهم بأن هذا من باب الاصطلاح الخاص كاعتذار القاساني لابن العربي الطائي وابن الفارض وأشباه هؤلاء.
والصواب أن ألفاظهم منها ما يحمل على اصطلاح خاص ومنا ما لا يجوز حمله.
من الألفاظ التي أحدثها الصوفية العشق مثل ما ذكر لك، وقال إن العشق لا يجوز إطلاقه على الرب جل وعلا؛ يعني لا يجوز أن يقول قائل أنا أعشق الله، أو الله معشوقي؛ بل يكتفى بما ورد في الكتاب والسنة من محبة الله جل وعلا أو الخلة وهي أعظم درجات المحبة.
وسبب منع كلمة العشق في حق الله جل وعلا؛ أعشق الله، معشوقي الله وما اشتق من ذلك لأمرين:
الأول: عدم ورودها وهذا الذي علل به فيما سمعتم؛ لأنها لم ترد في الكتاب والسنة فنقتصر على اللفظ الوراد، والعشق نوع من أنواع المحبة، ولكن لكن المحبة وردت والخلة وردت؛ لكن لم يرد العشق هذا يدل على عدم جواز استعماله.(18/212)
والثاني: هو تعليل لسبب المنع وسبب عدم الورود بالكتاب والسنة، أنَّ العشق فيه تعدٍّ وهو غير المحبة فإن العاشق يتعدى في عشقه على نفسه وعلى معشوقه، فالعشق من درجات المحبة لكن فيها التعدي على النفس، ولهذا كلمة عَشَقَ وعِشْقٌ تدل على تعد حتى في اللغة فيما استعملت فيه، ولهذا لا يجوز أن يقال إن أحدا تعدى في حبه لله على نفسه؛ إذْ محبة الله جل وعلا حق وكذلك لا يجوز أن يتعدى على الرب جل وعلا في حبه له لأن محبة الله جل وعلا له حق؛ لكن عشق العبد لربه هذا فيه تعدٍّ؛ لأن العاشق من غلبه هواه أو من غلبته محبته حتى جعلته يتصرف بعقله أو يتصرف بعلاقته بمحبوبه على غير ما يقتضيه الصواب.
فلهذا منع لفظ العشق فإن لفظ معشوقي وعشق وما اشتق منها لا يجوز لهذين الأمرين؛ لعدم الورد والثاني للتعدي وما أوضحت لكم من التعليل.
.. (رأيت الله يقول) سوء في التعبير هو ما رآه، (رأيت الله يقول) هذا ما رآه، علمت الله يقول، مثل ما تقول رأيت في الكتاب الفلاني كذا أو رأيت الحق في المسألة كذا، هم استعملوا رأيت الله على معنى عندهم يعني أنه صار هذا القول حقا كمقام الرؤية، ففهمها من بعدهم على غير مرادهم بأنهم رأوا الله عيانا، فهم غلطوا في التعبير فقط، رأيت الله يقول يعني علمت الله يقول علما يقينيا هو في مقام الرؤية، فعبروا بتعبير أوقع في الالتباس.
.. التتيم ما يجوز في حق الله لأنه فيه تعدٍّ، ذكر شارح الطحاوية نقلا عن ابن القيم في روضة المحبين ذكر مراتب المحبة عشرة ابتدأها من أولها إلى آخرها، وبين فيها ما يجوز وما لا يجوز.
([100]) يعني هذه المسائل معروفة في العقيدة، المسائل التي مرت، يعني الكلام في القرآن والحلول والاستواء والرؤية والخلة يعني هذه مرّت.
([101]) هذه المسالة كثرت في زمان القرن الثالث الهجري وما بعده.(18/213)
وهي مسألة التكسب بالتجارة، وأن التجارة أصابها ما أصابها ودخول الحرام فيها، وأن التوكل بترك السبب أفضل، وهذا شاع عند الصوفية، وأحد المسألتين قادت إلى الأخرى، يعني مسألة دخل إلى التجارة أو ما دخلها تركوها، وعللوا ذلك أيضا بحسن التوكل على الله جل وعلا وصنف فيها عدد من أهل العلم مصنفات في الحث على التجارة والصناعة والعمل، ككتاب الخلال، وأيضا للجاحظ رسالة في ذلك التبصر بالتجارة، وكله رد على هذه الطائفة التي زعمت أن ترك العمل أفضل، وأن التوكل على الله جل وعلا بعدم ملابسة الأسباب أفضل، وهذا باطل بل التكسب أفضل، وهو صنيع الأنبياء والمرسلين، وعباد الله الصالحين، وأطيب ما كسب المرء من عمل يده، هذا أطيب ما كسب المرء، فما يأتيه من الصدقات وما يأتيه من العطيات ليس في الطيب مثل كسبه بيده، وأحل ما يكسبه المرء وأنفعه له ما كسبه بيده.
كذلك المسألة الثانية التي ذكرها: وهي مسألة ضيق الحلال، هذه أيضا كان فيها اعتقاد بأن الحلال عدم، وأنه لا يوجد أكل حلال؛ لأن مثلا في العراق في ذلك الوقت أو في الشام الأراضي فتحت وأصبحت أرض خراجية فأعتدي عليها بالإقطاع وبغيره، فصارت بدلا أن تكون ملكا عاما أصبحت ملكا خاصا، فأصبحت إذن مخصوبة وما يخرج منها له حكم الغصب وإلى آخر هذه التدرجات، فأصبح كثيرون من الصوفية يتركون الأكل تماما من كل ما يوجد في السوق لأجل الاشتباه، اشتباه ما يخرج من الثمرات من الأرض المغصوبة.
كما يحكى أيضا حتى عن بعض المتأخرين النووي أنه كان لا يأكل مما تخرجه مزارع دمشق لأجل هذا.(18/214)
وهذا في الواقع ليس بصحيح، وليس بسائغ شرعا؛ لأن من اعتقد أن الحلال عُدم تماما، فإن هذا اعتقاد بأن الله جل وعلا أحل على عباده شيء ثم عدمه سبحانه، أو حرم عليهم شيء وجعله هو المتعين أزمانا متطاولة دون غيره، وهذا لا يجوز، فالله جل وعلا جعل الحلال موجودا في كل مكان وفي كل زمان لكن يقل ويكثر، نعم قد يقل في موطن ويكثر في موطن، ويقل الحرام في موطن ويكثر في موطن، أما أن يعدم بالكلية في مكان، فهذا لا يقول به فقيه ولا عالم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله.
الصوفية في جهة الورع زادوا في هذه المسائل زادوا حتى كان بعضهم لا يأكل إلا صيده، وكان بعضهم لا يأكل إلا شيئا أنبته في بيته، وأشباه هذه الأفعال التي هي من الورع المذموم.
.. لا يوصف الله جل وعلا بالتردد سبحانه وتعالى؟ الحديث على ظاهره[انتهى الوجه الأول من الشريط السابع] «وما ترددت في شيء ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته».
التردد:
إما أن يكون ناتجا عن عدم العلم أو الجهل بالعاقبة فهذا مذموم.
وإما أن يكون التردد للإكرام، لا للجهل إنما تردد إكرام، ما تدري والله تذبح له ذبيحة أو ثنتين، هذا تردد إكرام، ليس ناتج عن عجز أو جهل ولكن بما يكرم به، تردد هل تهدي له كتاب أو كتابين ليس عجزا ولا جهلا ولكن من جهة المناسب.(18/215)
فالله جل وعلا أكرم عبده المؤمن، ومن أجل إكرامه له تردد فيما يكرمه به، ومعلوم أن التردد إما أن يكون فضلا وإما أن يكون عدلا، فليس التردد فيه للأفعال لجهل عاقبتها وعدم معرفة ما يناسبها؛ بل هذا احتمال أمرين إما الفضل أو العدل والله جل وعلا، قد يتفضل على عباده، وقد يعاملهم بالعدل، وفي كل منهما هو سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة، فلا يوصف الله جل وعلا بالتردد لا مطلق ولا مقيد، لا تردد بالاتفاق مطلق، ولا أيضا مقيد يتردد في قبض النفس أيضا لا يوصف لا هذا ولا هذا، لأن معنى التردد هنا غير المعنى الذي يفيده كلمة تردد في غير هذا السياق.
([102]) المسألة الأولى ذكر فيها توقي من مكسبه حرام وأن الأصل في المسلم السلامة فلا يُتورع في معاملة المسلم الذي ظاهره السلامة، وهذا الذي ذكره هو الصحيح في انقسام المسألة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: معاملة عامة المسلمين الذين لم يظهر من مكاسبهم الريبة، فهذا الصنف وهذا القسم التورع في التعامل معه بدعة، وخلاف هدي السلف، لأن الأصل في المسلم السلامة، ولم يظهر على هذا ما يدل على مكسب خبيث، فإذا تورع لأجل قد يكون عنده مكاسب خبيثة، فهذا بدعة وغلو في التوقي.
والقسم الثاني: من يخالط الظلمة الذين يظلمون الناس في أكل الأموال بالباطل، أو في التعدي على الحقوق، أو بالتعدي على ممتلكاتهم، أو ما أشبه ذلك، وكان ذلك شائعا في الدولة العباسية بكثرة، حتى قيل إن أكثر بغداد أنها منتزعة من أصحابها، حتى قيل أن أكثر دمشق منتزعة من أصحابها؛ يعني من أملاك كانت للناس فنزعت منهم لغيرهم.(18/216)
فهذا الصنف من عُلم منه أنه يخالط من يأكل أموال الناس بالباطل فيكون عنده المال الحرام، فهذا يسمى صاحب المال مختلط، وصاحب المال المختلط الأقوال فيه أربعة لأهل العلم، والتحقيق أنه لا يجب ترك الأكل مما يقدمه أو يضيف به أضيافه، أو يهديه إلى آخره، أنه لا يجب تركه؛ لأن المال لم تعين للحرام بل المال مختلط من هذا وهذا، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: كل والحرام عليه.
وهذا يدل على أن من لم يتمحض ماله للحرام فإنه لا يجب ترك ماله؛ ترك الأكل من ماله، أو ترك أخذ ماله إلى آخره أو ما أشبه ذلك.
ولكن يستحب -وهذا هو الذي ذكره هنا أنه يستحب من جهة الورع- يعني من استطاع ذلك فإنه يستحب له ذلك، وبعض أهل العلم يرى أن هذا ليس من جهة الاستحباب؛ لكن من جهة التورع فإن تورع فهو أفضل، وإلا فلا يستحب لأن الصحابة كثير منهم لم يتورعوا هذا التورع.
والقسم الثالث: من الأقسام من ماله حرام، يُعلم أن مكاسبه حرام؛ يعني كل ماله حرام، فهذا لا يجوز الأكل من ماله عند جمهور أهل العلم، ما يجوز الأكل من أكله، ولا من ماله؛ لأنك تعلم أنه اكتسبه على وجه محرم، وهذا الحقيقة نادر من جهة الوقوع؛ لأن من هو في الناس لا مكسب له إلا من الحرام هذا نادر.
وأكثر المسلمين أموالهم مختلطة يعني قد يغلب الحرام وقد يغلب الحلال، فأكثر المسلمين؛ بل جل المسلمين من القسم الثاني من يختلط فيه هذا وهذا يعني ممن مكسبه حرام، ولكن الأصل في المسلمين هو الأول -كما ذكرنا أن الأصل السلامة- إلا إذا عُرف؛ لكن من يكسبون مالا حراما فإن الأصل فيهم أنهم خلطوا أموالهم، فلهم حكم من اختلط ماله الحرام بمال حلال.
ولهذا نقول إنه إذا عُلم أن الشيء من مال حرام بعينه؛ يعني أُشتري شيء بمال حرام بعينه فإنه لا يؤكل منه.
ومعلوم أن مسألة الهبات غير مسألة الأكل، الأكل هو أشدُّها، وأما مسألة الهبة فهذه فيها تفصيل، هل الكسب بظلم وتعدي أم هو حرام بلا ظلم.(18/217)
.. لا، الكافر النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من طعام اليهود وهم أكلة الأموال بالباطل، لا هذا في المسلم بس.
..الكافر لا يضر الأكل من عنده، لكن بخلاف التعدي ظلم بهذا بعينه، مثل ما قلت لك، المال الذي كسب بالتعدي، غير الذي كسب بالرضا ولكنه حرام؛ يعني هل الحرمة وصف عارض أو وصف ملازم، هذا فيه بحث، إذا كان عارضا هذا له حكم وإذا كان ملازما له حكم، يعني في الكافر.
([103]) هذه المسائل الثلاث تكلم فيها عن حال غلاة المتصوفة فإن منهم من قال: أنا أعبد الله لا خوفا من عقابه، ولا طمعا في ثوابه، ولكن محبة له، كما يقوله طائفة من كبارهم، فيقول إنَّ العبد ما دام أن أحكام هذه الدار يعني الدنيا جارية عليه فإنه لابد أن يعيش بين الخوف والرجاء؛ خوف عبادة ورجاء عبادة، فيرجو رضا الله ويرجو الجنة ويخاف من عقاب الله من النار وعذابه، هذا هو الإيمان.
وأما من قال أنا أعبد بالمحبة لا بالخوف والرجاء فهذا باطل، ويدل على نوع زندقة وخروج عن طريقة الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، والخوف والرجاء يجب أن يجتمعا في القلب.
وهل يغلب الخوف الرجاء، أو يغلب الرجاء الخوف؟ فيه تفصيل:
أما عامة الناس وأكثرهم ظالم لنفسه، فهذا يجب عليه في حال حياته أن يُغلِّب جانب الخوف على الرجاء، فيُعظم الخوف أكثر من الرجاء حتى ينيب ويُقلع عن ظلمه وعن معاصيه.
والخاصة المقتصدون أو السابقون بالخيرات فهؤلاء يقومون على استواء الخوف والرجاء في قلوبهم، الخوف والرجاء يكونان متساوين؛ لا يغلِّب جانب الرجاء فيترك العمل ولا يغلِّب جانب الخوف فيقنط.(18/218)
والحال الثالثة حال أهل المرض -الذين يظن أن مرضهم مرض هلكة- فهذا يجتمع في قلبه الرجاء والخوف، ويعظم خوفه ويعظم رجاؤه، ولكن يكون رجاؤه أعظم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه قال «لا يمت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه»، وقال «قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء»، فإذا كان في مرض فإنه يجتمع في قلبه الخوف والرجاء، ويعظم عنده الخوف ويعظم الرجاء؛ لكن يزيد في الرجاء لأن الله جل وعلا أمر بإحسان الظن به وأنه رحيم بعباده.
هذا تحقيق المقام في الجمع ما بين الخوف والرجاء.
وعبارات العلماء والأئمة بعضهم أطلق تغليب الرجاء، بعضهم أطلق تغليب الخوف، بعضهم قال بالتساوي، حتى عن الإمام الواحد كالإمام أحمد نقل طائفة من أصحابه عنه تغليب الخوف ونقل آخرون تغليب الرجاء، والتحقيق أن لكل مقام ما يناسبه على هذا التفصيل الذي ذكرت لك، فمن قال نغلب الرجاء فقط حق، ومن قال يغلب حق، ومن قال يتساويان حق كل بما يصلح له من الحالات.
من حالات الصوفية الغلاة أنهم مع انسلاخهم عن الخوف والرجاء يقولون تخلصنا من أمور العبادة إلى مشاهدة الأحدية السرمدية؛ يعني إلى الفناء في الربوبية ومشاهدة تصرف الله في الملكوت يعني ارتفعت عنهم التكاليف، وهذه زندقة وردة؛ لأنه إذا اعتقد أحد أنه وسعه الخروج من شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى فإنه مرتد، كل من اعتقد أنه يجوز أن لا يلتزم بأحكام الشريعة وأنَّ أحكام الشريعة لطائفة من الناس وأنه لا يخصهم الخطاب لارتفاع التكاليف عنه وعدم التزامه بالتكاليف، وهذا أيضا ردة وزندقة، مثل ما هو حاصل مع غلاة المتصوفة.
والمسألة الثالثة: هذه أحوال أيضا لغلاة المتصوفة الذين ادعوا أنهم كشفت لهم الحجب فأصبحوا يعلمون الغيب، يعلمون الغيب من جهة أحوال الناس ومقاماتهم، وما سيؤول إليه أمرهم سواء في أمور الدنيا أو أمور الآخرة.(18/219)
فكل هذه الثلاث أنواع من الزندقة التي هي عند بعض غلاة المتصوفة.
([104]) هاتان مسألتان، كل هذه المسائل عظيمة ومهمة الفِراسة ذكرنا لكم في درس سابق أنواع الفراسة الثلاثة وأنها:
فِراسة خَلْقِية.
وفراسة إيمانية.
وفراسة رياضية؛ والرياضية يعني مما يدخل فيها القياسة وأشباها.
والفراسة الإيمانية التي جاء فيها الحديث «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»، ذكرت لكم تفاصيل ذلك في كلامنا على الفرقان.
أما المسألة الثانية التي ذكرها بعد الفِراسة هي الحلول هذه وقع فيها طائفة من بداية القرن الثالث الهجري.
والحلول والإتحاد لفظان متباينان، فالحلول شيء والاتحاد شيء آخر.
والحلول ينقسم إلى حلول عام وحلول خاص.
والإتحاد ينقسم إلى اتحاد عام واتحاد خاص.
فالفرق بين الحلول والاتحاد أن الحلول يقبل الانفصال والإتحاد لا يقبل الانفصال.
مثاله أنك لو وضعت سكرا في ماء فحركته، صار حلولا أو اتحادا ؟ صار اتحادا؛ لأن هذا لا يقبل أن ينفصل مرة أخرى، أما لو وضعت في الماء شيئا من الأشياء -حصاة أو وضعت ورقة فصارت في داخله- فهذا يسمى حلول لأنها أصبحت هي والماء شيء واحد.
مثل لو وضعت ورقة الشاي يعمي مثلا (ليبتون) أو غيره في كأس ماء، هنا اجتمع حلول واتحاد أما الحلول فوجود هذه الورقة التي تستطيع أن ترفعها، والإتحاد؛ الشاي هذا الذي بعد أن كان الماء لا لون له أصبح اتحد بالشاي وتغير لونه، هو ماء وتعرف أنه ماء ودخله شيء آخر وهو الشاي فتغير فاتحدا.
لهذا القائلون بالحلول غير القائلين بالاتحاد، والحلول قسمان عام وخاص، والاتحاد قسمان عام وخاص(18/220)
فالحلول العام: هو قول من يقول هو حل في كل شيء، لكن حلوله من قبيل حلول اللاهوت في المخلوق، يمكن أن يبقى للمخلوق صفة المخلوق ويبقى لللاهوت صفة الإله، مثل من يعتقد في حلوله في الصور الجميلة في كل صورة جميلة يقول انحل فيها الإله، أو حلول الرب جل وعلا في كل مكان، حيث إنه ليس مندمجا في الذات، ولكن فيه تَبَايُن، حالٌّ في كل مكان مع الانفصال.
والحلول الخاص: هو أنه يحل في بعض الأشخاص، مثل ما يقول الصوفية، بعض الصوفية يقول ما في الجبة إلا الله يعني حلول خاص فيه، أو قول النصارى إن الله جل وعلا حل في عيسى فصار عيسى له صفتان صفة الناسوتية البشرية في جثمانه وصفة الإلهية في ما حل فيه، ومثل قول القرامطة والإسماعيلية إن الله جل وعلا حل في الحاكم أو في فلان أو فلان من الناس، هذا حلول خاص.
أما الاتحاد مثل ما ذكرنا لك فهو اتحاد عام وخاص:
أما الاتحاد العام: فهو أن يكون الوجود هو عين الله جل وعلا، الوجود هو عينه، الوجود الذي تراه وجود الأشياء هو وجود الله، وصفة الأشياء هي صفة الله، فهذا يسمى اتحاد، اتحاد بكل شيء وهو قول الاتحادية كابن عربي وابن سبعين وابن الفارض إلى آخره، مثل ما قال ابن الفارض قبحه الله
لك صلاتي في المقام أقيمها وأشهد أنها لي صلت
فله صلاته، ولنفسه صلت لأجل اتحاده بالخلق، هذا قول أصحاب وحدة والوجود، وحدة الوجود اتحادية لا حلولية؛ لأنهم يقولون الوجود واحد، هو عين وجود الحق جل وعلا، يعني لهم بحوث تفصيلية في هذا.
أو الاتحاد القسم الثاني اتحاد خاص: اتحد ببعض المخلوقات دون بعض، فلم يتحد بكل شيء، نزهوه عن الاتحاد بالأشياء القذرة الأشياء القبيحة، ولكن اتحد ببعض الأشياء دون بعض، فاتحد بالأولياء، اتحد بالصالحين، اتحد بالأنبياء، اتحد بالفلاسفة، فصاروا هم عين وجود الله جل وعلا.
وهذا لاشك جميع الأقوال هذه كفرية، فمن قال بالحلول أي نوع أو الاتحاد أي نوع فهو كافر بالله جل وعلا.(18/221)
([105]) أما الأرواح فالروح التي أضافها الله جل وعلا لنفسه هي روح مخلوقة، وأضافها الله جل وعلا لنفسه تشريفا، قال سبحانه ?فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ?[الحجر:29]، من روحه الإضافة إضافة مخلوق إلى خالقه؛ لأن الروح مخلوقة، وإضافة المخلوق إلى الخالق تقتضي التشريف مثل? فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى?[النجم:10]، تشريف العبد ?نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا?[الشمس:13]، الناقة تشريف لها، «بيت الله» تشريف لهذا البيت إلى آخره، وكذلك الروح، طائفة ظنوا أن إضافة الروح لله جل وعلا إضافة صفة إلى موصوف، وهذا غلط وهو الذي به ضلت النصارى، فظنوا أنه لما نفخ الله جل وعلا فيه من روحه أنه حلت فيه اللاهوتية، حل فيه الإله، ولهذا قال ضاهى قول النصارى النسطورية طائفة من النصارى.
([106]) صفة الكلام والقرآن.
القرآن كلام الله ليس بمخلوق، هذا اعتقاد السلف الصالح من أولهم إلى آخرهم منه بدأ جل وعلا قوله وإليه يعود سبحانه وتعالى، وهو كلام الله إذا تلي، وهو كلام الله إذا كتب، وهو كلام الله جل وعلا إذا حفظ، ففي أي صفة كان تناوله العبد فهو كلام الله ليس بمخلوق.
ومعلوم أنه ثم فرق ما بين التلاوة وبين المتلو، وما بين الدراسة والمدروس، وما بين القراءة والمقروء، فكما قال أئمة السلف: الصوت صوت القاري والكلام كلام الباري جل وعلا، فالجهة منفكة لا تلازم بين التلاوة والمتلو؛ لأن التلاوة فعل العبد والمتلو كلام الله جل وعلا، ولهذا بدَّع السلف من قال لفظي بالقرآن مخلوق؛ لأن كلمة لفظي تحتمل أن يكون المراد التلفظ الذي هو عمل العبد فتكون الكلمة صحيحة، تلفظ العبد مخلوق لأن أعمال العباد مخلوقة، وما بين اللفظ الذي هو الملفوظ؛ لأن (فعل) تأتي بمعنى المصدر وتأتي بمعنى المفعول خلْق بمعنى المخلوق ، لفْظ بمعنى الملفوظ وهكذا.(18/222)
فـ(لفظ) تأتي بمعنى الملفوظ، فالملفوظ هو كلام الحق جل وعلا ليس بمخلوق، فمن قال لفظي بالقرآن مخلوق هو مبتدع؛ لأن هذه الكلمة لا تجوز أن تقال لاحتمال أن يكون المراد باللفظ المصدر أو يكون المراد باللفظ الملفوظ.
فإن كان المراد بالمصدر فهو صحيح أن فعل العبد وتلفظه مخلوق.
وإن كان المراد بالمصدر الملفوظ فالملفوظ كلام الحق جل وعلا ليس بمخلوق.
لكن استعمل هذه اللفظة بعض أهل البدع والاعتزال والجهمية ليستروا قولهم بخلق القرآن، فاستعملوا قولا محتملا حتى لا يؤخذ على أيديهم.
فاستعمال هذا اللفظ لا يجوز.
فإذن مثل ما قال لك هناك فلاق بين التلفظ والملفوظ، وما بين المتلو والتلاوة، والدرس والمدروس إلى آخره.
([107]) مثل أيْشٍ، أيش يعني هذه مختصر أي شيء عربية فصيحة، أيش مختصر أيُّ شيء وتسمى منحوتة.
([108]) هذا الكلام مما يحتاج إلى تفصيل وعناية، وهو تكلم على مسألة المعازف والغناء وسماع الألحان من غير المعازف والقصائد، والقصائد الرُّبعية وأشباه ذلك.
وذكر أن الأشعار أيضا تنقسم إلى قسمين، وهذا كله مبني على قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح» ولا شك أن ما كان من الشعر في وصف الله جل وعلا وصف آلائه، ووصف الصالحين، والتذكير بالدار الآخرة، والجهاد وأشباه ذلك من المعاني الإسلامية والدينية العظيمة، فإن هذا مما أمر به؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أنشدت الأشعار بين يديه، وقال عليه الصلاة والسلام لحسّان بن ثابت «أهجهم وروح القُدُس معك» وهذا أمر ثابت متفق عليه بين أهل العلم.
لكن التشاغل به عن غيره أيضا من العلم الواجب أو من العلم المستحب هذا لا ينبغي؛ بل الانشغال بالعلم الواجب والمستحب هذا لا شك أولى بل آثر أن ينشغل عنه بإنشاد الأشعار في المعاني الإسلامية العامة.(18/223)
وأما الأشعار التي في اللهو والمجون وأشباه ذلك، فهذه لا تجوز، ولا يجوز نشرها أيضا من أن ما كان وسيلة إلى الشيء فله حكمه، فالأشعار التي فيها وصف النساء أو وصف الخنا والفجور أو وصف الخمر شرب الخمر ونحو ذلك، نشرها بين الناس يعني إذاعتها أو إقرارها وأشباه ذلك، هذا لا يجوز لأنه وسيلة على الشر.
لكن قد يتناقل العلماء من هذه الأشعار أشياء في الشواهد أو أشياء في الوصف وبيان بعض معاني اللغة وبيان بعض البلاغة تشبيه فهذا، إذا كان بقدره فلا حرج منه، فقد نقل العلماء كثيرا من الأشعار في كتبهم من التفسير وفي شروح الأحاديث ببيان معاني كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي بعضها ما ينكر؛ لأن ذلك ليس مقصودا به المنكر، وإنما المقصود به [حقيقة..].
أما المسالة التي ذكرها من سماع الألحان المطربة والقصائد الزهديات بالألحان فهذا هو الذي كان يسمى في العصر الأول بالتغبير، والتغبير كان بنوع ضرب على الجلود وقد يكون بالدفوف أيضا، وفيه إنشاد للقصائد الزهدية، استعمله طائفة من المتصوفة لأجل إشغال الناس بالقصائد التي تحث على الدار الآخرة، وتزهد في الدنيا، عن الغناء والفجور وأشباه ذلك.
والعلماء أنكروا التغبير وأنكروا سماع القصائد الملحنة يعني بألحان مبتدعة؛ الألحان التي يستخدمها أهل التصوف، بما يشبه الرنة، وعدوا ذلك من البدع المحدثة. ووجه كونه بدعة ظاهر، وذلك أنه يقصد بذلك التقرب إلى الله، ومعلوم أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بما شرع، وهذه القصائد على هذا النحو التي كان يلقى في الماضي، ويلقيه المتصوفة في الحاضر، هذا مبتدع محدث لا يجوز ترقيق القلوب به.
أيضا من سماع الألحان ما يتصل بالتعبد بها، وهذا لاشك أنه كفر، مثل ما ذَكَرَ لك بأن سماعها واستماع ذلك تعبدا كفر؛ لأنه:
جَعَل من الدين ما لم يأذن به الله جل وعلا هذه واحدة.(18/224)
وجعل أن الله جل وعلا شرع هذا ورضيه ودل عليه وبه يحصل توحيده، كما يعتقده المتصوفة.
فأصل الاستماع استماع الألحان استماع الغناء أصله فسق إذا كان يصحبه معازف، وإذا كان لا يصحبه معازف فهو بحسب الحال وقد يكون فسقا في بعض الأمور كحال الصوفية [انتهى الشريط السابع]
... أن هذا الاستماع عبادة، استماع هذه الألحان المطربة والغناء وأشباه ذلك عبادة، وهذا فسق، وهو عند طائفة كفر.
والثاني أنهم يعتقدون أن الله جل وعلا يستمع هذا اللحن ويرضى به، وهذا كفر؛ لأن الله جل وعلا لا يجوز نسبته إلى الرضا بالفسوق والفجور، تعالى الله جل وعلا عن قولهم.
هذا ما يمكن حمل كلام من نقل عنه شيخ الإسلام هنا بقوله في أكثر من موضع (فاستماع هذا كفر) أو (استماعه على الله كفر في هذا الحال)؛ لأنهم يعنون به تعبد الذي يعتقدون معه أنَّ الله جل وعلا يستمع لهذا ويرضى به، كما قال في أوله فاستماع ذلك على الله كفر؛ يعني اعتقاد أنَّ الله يرضى بهذا ويستمع إليه وينصت إليه سبحانه وتعالى كما يعتقد طائفة من غلاة المتصوفة والجهلة، هذا كفر إذ فيه وصف الله جل وعلا بما يتنزه عنه.
وهذا معنى قوله فيما يظهر، وإلا فالعبارة مشكلة (فكل من جهل ذلك وقصد استماعه على الله على غير تفصيله فهو كفر) يحمل على ما ذكرته لك من الحالين، وهذا يعرف معناه بمعرفة حال أهل التصوف.
ذكرتُ وجهين:(18/225)
الوجه الأول: أن التقرب إلى الله جل وعلا عبادة، وجعلوه عبادة أذن الله بها ورضيها، وهذا كما قلت لك عند طائفة كفر؛ لأن الله جل وعلا لم يأذن لأحد أن يجعل عبادة يخترعها جديدة بأمر منكر، فيتعبد بالحرام، تعبده بالحرام كفر عند جماهير أهل العلم؛ يعني يفعل حراما ويقول أتعبد الله به، ينظر إلى النساء ويقول أتعبد الله بالرؤية –ما له دخل الاستحلال قد يكون استحلال وقد يكون شيء آخر-؛ المقصود أنه تعبد الله بالحرام، يعني أمر محرم تقرب إلى الله بهذا المحرم، معلوم أن هذا جماهير أهل العلم على رده يعني السماع المحدث، ولذلك قلت لك أنه قول طائفة من العلماء أنه كفر.
والثاني وهو واضح: أنهم يعتقدون أن هذه الألحان التي تقرب إلى الله جل وعلا أن الله رضيها، وأنه يستمع ذلك؛ بل ويقصد الله إلى سماعه، وهذا وصف الله جل وعلا بما لا يجوز أن يوصف به، وهذا كفر.
هذا تخريج لكلامه وإلا كما ذكرت لك فالكلام مشكل.
.. هي عبارته مشكلة لكن بما أوضحته لك ما يصير فيه إن شاء الله إشكال، قال(وقصد استماعه على الله) ، ( فاستماع ذلك على الله كفر).(18/226)
.. الاستماع في نفسه بدعة محدثة، عند هذا الناقل قد يكون كفرا في المواطن التي ذكرها، طبعا إذا جاءتك المواطن المشكلة من كلام العلماء فإن كلام العلماء فيه متشابه، ما نأخذها بالتسليم إلا بعد رده إلى المحكم، فإذا رددناه إلى المحكم في قواعد التكفير، رجعنا إلى أنه لا يكفر المستمع إلا بأحد الصفتين التي ذكرت لك، إما بالتقرب على الله بالحرام، وهذا عند طائفة كفر حتى حكى العلماء، أن من زنى وقال في أوله بسم الله وعلى بركة الله أنه يكفر بالإجماع -نقل بعض العلماء الإجماع عليه- وإن كان لا يُسلم –لأنه ما أعرف من قال بالإجماع من المتقدمين-، لكن من قال بسم الله على بركة الله فإنه يكفر؛ لأنه هنا يريد الاستعانة بالله هذا الأمر المحرم، ويطلب البركة في هذا الأمر المحرم، كذلك من أراد التعبد بالحرام كالذين قال جل وعلا فيهم ?وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ?[الأعراف:28]، هذا يمكن الرجوع إليه؛ لأنه من تعبد بالحرام تقرب إلى الله بما حرَّم هذا عند طائفة من العلماء؛ بل عند الجمهور كفر.
والثاني أنه جل وعلا يرضى بهذا ويستمع إليه وينصت إليه فإن هذا أيضا كفر؛ لأن الله جل وعلا لا يستمع إلى الفسق والفجور ويرضى به.
.. هذا ما فيه كلام الله سبحانه وتعالى يسمع كل شيء.
.. نحن نخرّج كلامه على وفق الأصول، ما نقرر ما يقوله.
([109]) كلام الحافظ أبي عمر بن عبد البر صاحب كتاب التمهيد والاستذكار وغيرهما كلام عظيم تأصيلي مهم في هذا الباب، وهو تقرير لما سبق إيراده وتقريره.
قوله رحمه الله تعالى (إن السلف تتابعوا على أنه في الصفات نمرها كما جاءت بلا كيف) هذا مما اتفق عليه السلف من أئمة في الدين وعلماء المسلمين أمروها كما جاءت وهذا معناه على وجهين:(18/227)
الوجه الأول: أن قولهم أمروها كما جاءت يعني بلا تفسير، فالأصل أنّ أحاديث الصفات والآيات في ذلك لا تفسر؛ بل تُمر كما جاءت؛ يعني قال فيها وصف الله جل وعلا بكذا، ولا يقال معنى هذا كذا؛ لأن المعاني معلومة عند المستمع، فمعنى قول الله جل وعلا ?الرحمن الرحيم? معلوم من صفة الرحمة، و?غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ?[المجادلة:14]، معلوم صفة الغضب، ? بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ?[الصافات:12] على القراءة المعروفة، العجب ?وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ?[الرعد:5]، معروف صفة العجب إلى آخر ذلك، فلا يدخل في هذا بتفسير، إن الله ? اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا?[البقرة:26]، أيضا صفة الاستحياء معروفة، فهذا يكتفى بإمراره، بذكر ما جاء فيه بدون أن يخاض فيه بتفسير؛ لأن هذه المعاني معلومة، كذلك صفة الوجه صفة اليدين، إلى غير ذلك من الصفات في القرآن وفي السنة.(18/228)
والوجه الثاني: في معنى قوله أمروها كما جاءت: أن هذا الإمرار وعدم الدخول في الكيفية ولا في بحث المعاني التي ادَّعاها المبتدعة، ولهذا قال طائفة من أهل العلم: أمروها كما جاءت لا كيف ولا معنى، وهذا القول -أمروها كما جاءت لا كيف ولا معنى- موافق لأمروها كما جاءت؛ لأن نفي الكيفية يراد به الكيفية التي ادعاها المجسمة في نصوص الصفات، ونفي المعنى لا كيف ولا معنى هو المعنى التأويلي الذي صرف معاني الصفات إليه أهل البدع، فقولهم لا كيف ولا معنى يعني لا كيف كما كَيَّفَهُ المجسمة ولا معنى كما ادعاه المؤولة، وهو موافق لقولهم أمروها كما جاءت، وبهذا قال طائفة أيضا من الأئمة تفسيرها تلاوتها، فنفس التلاوة تفسير لها؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ما خاضوا في آيات الصفات بتفسير كما تكلموا بآيات العلم والفقه، وإنما في آيات وصف الله جل وعلا أو في الأحاديث ذكروها وأمروها كما جاءت بلا شيء زائد عن ذلك، فأيقنوا بما وصف الله به نفسه باستوائه على العرش، وهم يعلمون معنى الاستواء في اللغة، لهذا لا حاجة لهم في تفسيره، وكذلك في حديث النزول «إن الله ينزل إلى سماء الدنيا آخر كل ليلة» أو «في الثلث الأخير من الليل» أو «في النصف الأخير من الليل» أو «حين يبقى ثلث الليل الآخر»، أو الأحاديث الجائية في هذا، وهذا كله يقال به ويمر كما جاء، فلا يجوز الخوض فيه بزيادة عن ذلك، إلا بحالة واحدة وهي في حالة الرد على الخصوم.
ولهذا يخطئ بعض المنتسبين إلى طريقة السلف وإلى السنة في أنهم يحدثون العامة بأحاديث الصفات ويفسرونها لهم، هذا ليس هو طريقة السلف طريقة السلف، أن تتلى عليهم الآيات والأحاديث في هذا الباب، وأن يمر كما جاء وأن لا تفسر لهم وإنما يقال لهم إن الله استوى على العرش يؤتى بالآيات في هذا، علو الله على خلقه، الآيات والأحاديث في هذا، يذكر صفات الله سبحانه وتعالى؛ لأنها معلومة يدركها المرء بلغته وبفطرته.(18/229)
([110]) يجوز أن تقول: سَحَّاءُ الليلِ والنهار أو تقول: سحَّاءُ الليلَ والنهار، فيكون الليل والنهار هذا ظرف، أو سحاءُ الليلِ والنهار على الإضافة، وجهان في رواية الحديث.
([111]) البيهقي رحمه الله من علماء الحديث المعروفين، له كتاب السنن الكبرى والسنن الوسطى والسنن الصغرى، وكتب كثيرة في الحديث، وله كتاب الأسماء والصفات، وطريقته في العقيدة -في الأسماء والصفات بخصوصها- هي طريقة الخطّابي وأشباه هؤلاء، وهم في أعلى طبقات الأشاعرة؛ لأن عندهم دفاع عن المتكلمين، ولأن عندهم كثيرا من التأويل؛ لكنهم أخفُّ من غيرهم.
شيخ الإسلام في موضع له قسم الأشاعرة إلى خمس طبقات، وجعل البيهقي والخطابي وأشباه هذين من الطبقة العليا من الأشاعرة؛ يعني أن ما تأولوه قليل، أو أنهم الأصل عندهم الإثبات بخلاف قومهم؛ فلم يجعلوا هؤلاء كالبيهقي لم يجعلوا القاطع العقلي فيما يزعمون حكما على النصوص، بل نظروا في اللغة وتأولوا تأويلات من جهة اللغة كما هو ظاهر في كتابه الأسماء والصفات.
والبيهقي في الأسماء والصفات تارة يقول باب إثبات يدي للرحمن، أو باب ما جاء في إثبات كذا، وتارة يقول باب ما جاء في كذا، أو باب ما يذكر في كذا ولا يذكر الإثبات، لهذا قال بعض أهل العلم: إنه يثبت الصفات الذاتية كالوجه واليدين وأشباه ذلك، وأما الصفات الفعلية فيتأولها.
وكتابه من الكتب التي اشتملت على أدلة كثيرة في الصفات، واشتملت في كثير من ذلك على تأويلات باطلة، وهو يدافع عن المتكلمين، وينقل كلامهم.
نسأل الله جل وعلا له العفو والرحمة؛ لما له من قدم راسخة في نشر السنة، ورواية الحديث وتدوين ذلك، والاجتهاد، نرجو أن يكون مجتهدا أخطأ في اجتهاده؛ لكنه آثم بما خرج عن طريقة السلف الصالح.(18/230)
مما ذكر: صفة اليدين لله جل وعلا وصفة الوجه وكل هذا الباب الذي ذكره راجع إلى إثبات صفة اليدين للحق جل وعلا، وهذه الصفة كثيرة النصوص فيها في الكتاب والسنة، وأجمع عليها السلف، والله جل وعلا له يدان وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه وتعالى متصف فيهما بصفة الكمال.
والمؤولة أوَّلوا اليدين إلى أنواع من التأويل، ذكرناها لكم في عدة مواضع؛ منها تأويل اليدين بأنها القدرة أو بالنعمة أو ما شاكل ذلك.
وإضافة اليد إلى الله جل وعلا إضافة صفة، واليد هي اليد الحقيقية المعروفة، والله جل وعلا لا يقال في حقه إنه متصف بها على نحو كيف وكيف؛ لأنه ما دار في البال فالله جل وعلا بخلافه.
قد ذكرنا القواعد في هذا وتقرير منهج أهل السنة في شرح الواسطية وفي غيره.
المقصود من هذا أن قول البيهقي فيما ذكر كلامه جيد وصواب في نقله للنصوص وتقرير هذه الصفة، وكل الصفات على هذا النحو الذي ذكره في كثرة النصوص فيها، وفي أنها لا يخاض فيها بتأويل.
ومما ذكر أن السلف لم يخوضوا في تفسيرها، إذا جاءت صفة اليدين في كتب التفسير القديمة وفي كلام السلف لا تجد أنه يقول اليدان هما كذا؛ بل معروف اليدان هما اليدان، والله جل وعلا متصف بذلك. نكتفي بهذا.
([112]) كلام أبي يعلى في كتاب إبطال التأويل: تأصيل لرد أنواع التأويل لآيات الصفات والأمور الغيبية. وكتاب إبطال التأويلات ليس من كتب تقرير الاعتقاد الحق في الصفات من كل وجه؛ لكن يستفاد منه ما نقله شيخ الإسلام عنه في تأصيله في رد التأويل؛ لأن أبا يعلى وجماعة من المنتسبين لمذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى ذهبوا إلى الإثبات فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا أشياء لم يصح بها الدليل أو لم يرد بها الدليل أصلا؛ ولكن الكتاب معقود لإبطال التأويل في أخبار الصفات، وهذا القدر أورد عليه أدلة كثيرة وأبطل تأويل المبطلين.(18/231)
ذكر فيه أن الذي يجب: أن يؤمن بظاهر النصوص التي فيها الإخبار عن الله جل وعلا وعن أسمائه وصفاته، وأنه لا يجوز التشاغل بردها ولا بتأويلها، ولا بصرفها عن ظواهرها، بل الواجب حملها على ظاهرها، وهذا حق.
وإذا قلنا الواجب حملها على ظاهرها، فإن الظاهر كما هو معلوم يقابله التأويل، والمجاز يقابله الحقيقة.
فعندنا فيما تحمل عليه آيات الصفات وأحاديث الصفات بل آيات وأحاديث الأمور الغيبية بعامة، أنه يجب حملها على ظاهرها وعلى حقائقها، ولا يجوز حملها على التأويل ولا على المجاز.
والظاهر قسمان كما أن الحقيقة قسمان، فنحمل الآيات والأحاديث على الظاهر، والظاهر للآيات والأحاديث على قسمين:
منها ظاهر للألفاظ بمفردها، وهذا يسمى الظاهر الإفرادي، الظاهر للمفردات، فهذا يُفهم الكلام على ظاهره في اللفظ، ولا يجوز أن يحال اللفظ عن ظاهره إلى شيء آخر.(18/232)
وذلك لأن تعريف التأويل عندهم: صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة، وسبب الصرف -أنهم صرفوه عن ظاهره-، أنه لا يجوز نسبة هذا الظاهر إلى المنسوب إليه، وهذه مقدمة هي الدعوة، هي الدعوة جعلوها مقدمة، لماذا صرفوا اللفظ عن ظاهره؟ قالوا لأنه لا يجوز أن يوصف الله بصفات الأجسام، فجعلوا الدعوى هي البرهان، ولذلك باطل أن يسلط التأويل على الظاهر؛ ظاهر الألفاظ كما في قوله مثلا ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، ?فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ?[التوبة:6]، ?وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا?[النساء:164] وأشباه ذلك، ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ?[الفرقان:59]، فهذه ظواهر، ظواهر هذه الآيات فيها إثبات الصفة على ما دل عليه معنى الصفة في اللغة، فاليد في اللغة ليست هي القدرة؛ لأن القدرة إذا أريد باليد القدرة أو النعمة فإنها لا تضاف بل تقطع عن الإضافة، فتقول مثلا لفلان علي يدٌ، أو عندي لفلان يدٌ، هذا جاء في كلام العرب وأرادوا بها النعمة؛ لأن النعمة تسدى باليد، ولكن لا يقال يد فلان عليَّ ويراد بها النعمة، أو يدا فلان عليَّ ويراد بها النعمة، فإذا ثنيت وأضيفت فإنه لا يمكن بحال أن يراد بظاهرها هذا المعنى الذي ذهبوا إليه، فيكون الذي ذهبوا إليه غلطا في اللغة، وأيضا فيه تأويل والتأويل لا يجوز لهذا لأنه لا برهان عليه.
إذا تبين ذلك فهذا الظاهر نفهم الآيات على ظاهرها، يعني اللفظ هذا ظاهره فنؤمن به على ما دل به ظاهره، ولا نتشاغل بتأويله ولا برده، ولا بضرب الأمثلة إلى آخره بل نؤمن، والله جل وعلا وصف نفسه بذلك، نؤمن بذلك ولا نخوض فيه.
النوع الثاني من الظاهر: ظاهر الجمل الظاهر التركيبي، والظاهر التركيبي أو ظاهر الجمل، هذا معناه ما يفهم من ظاهر الكلام بمجموعه لا بمفرداته.(18/233)
فإن المقصود من الكلام إفهام المتكلم المخاطَب بما يريد، وقد يُفهم المخاطِبُ المخاطَبَ بمفردات يعني المفرد، وقد يفهمه بمجموع الكلام فإذا ظهر المراد بمجموع الكلام سمي ذلك ظاهرا تركيبيا، والأول ظاهر أفرادي أو لفظي.
والظاهر التركيبي هذا مثلا في قوله جل وعلا ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26]، لم يفهم منها أحد أن فيها إثبات صفة إتيان الله بنيان الكفار من القواعد؛ لأن المراد هنا بالتركيب ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ?[النحل:26] المراد أنه إتيان عذاب الله جل وعلا بقدرته سبحانه، هذا يفهم من ظاهر التركيب -تركيب الجمل-، وإذا أتيت إلى قوله (فَأَتَى اللَّهُ) لقلنا فيه إثبات صفة الإتيان لكن هذا غير مراد؛ لأن (فَأَتَى اللَّهُ) هنا نفهمها مع الجملة.
بخلاف قوله مثل في آية البقرة أو في آية الفجر ?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22] وهذا واضح أن الظاهر منها الظاهر الإفرادي نفسه الظاهر التركيبي.
كذلك في قوله ?أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ?[البقرة:115]، (أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّك) هل فيه إثبات رؤية الله بالأوصاف كما يدعيه الصوفية يعني غلاة الصوفية؟ لا، هنا المراد الظاهر التركيبي (أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) فظاهر الآية التركيبي دلّ على أن المراد برؤية الله جل وعلا هنا رؤية آثار ربوبيته في خلقه، ولهذا قال ?كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا?[الفرقان:45].(18/234)
ولهذا لما قيل لشيخ الإسلام إن هناك آية أجمع السلف على تأويلها -وهي قوله جل وعلا في سورة البقرة ?وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ?[البقرة:115]-، فقال: أعلم ما تريدون، تريدون قوله تعالى هذه الآية أصلا ليست من آيات الصفات حتى يقال إن السلف أولوا آيات الصفات؛ بل هذه الآية تركيبها المراد بالوجه هنا الوِجهة، وليس المراد بالوجه الذي هو صفة الله جل وعلا، قال (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) يعني فثم القبلة، فثم الوِجهة وِجهة الله التي أمركم بالتوجه إليها دل عليها قوله قبلها (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) سبحانه وتعالى.
كذلك الحقيقة منقسمة إلى حقيقة إفرادية وإلى حقيقة تركيبية.
وهذا البحث أجاد فيه شيخ الإسلام في أوائل المجلد الثالث من رده على الرازي وهو لم يطبع بعد؛ لأن الرازي ذكر تأويل الآيات والأحاديث، فأصل شيخ الإسلام تأصيلا عميقا قويا كعادته رحمه الله في بيان الظاهر والتأويل وأقسام الظاهر والحقيقة وهذه المباحث.
المقصود أن هذا الذي ذكر أن نؤمن بالظاهر ولا نتشاغل بالتأويل، هذا هو الحق، والظاهر على قسمين والحقيقة على قسمين.
نقل أيضا عن أبي الحسن الأشعري صاحب الطريقة المنسوبة إليه والمعروفة، الكلام الذي نقله في أول عقيدة أهل السنة والحديث واضح: الإقرار بالله وملائكته والإيمان بالصفات، كل هذا واضح.
لكن نحتاج إلى التعليق على قوله (وإن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج) أسماء الله جل وعلا سمَّى بها الله سبحانه وتعالى نفسه، وأسماؤه مترادفة متباينة، أما ترادفها فباعتبار الذات، كلها تدل على نفس الله جل وعلا وذاته سبحانه وتعالى، فالعليم هو ذات القدير هو ذات الرحيم إلى آخره.(18/235)
وهي متباينة باعتبار أن كل اسم فيه صفة ليست في الاسم الآخر، فالقدير فيه صفة القدرة، والرحيم فيه صفة الرحمة إلى آخره.
والله جل وعلا لم يزل متسميا بهذه الأسماء قبل أن يخلق الخلق.
والمعتزلة يرون أن أسماء الله جل وعلا سمَّاه بها الخلق، فلم يكتسب اسم الخالق إلا بعد أن خلق الخلق، ولا اسم القدير إلا بعد أن قدر، ولا العليم إلا بعد أن وجد شيئا يعلمه إلى آخره، فالخلق هم الذين كسوه بهذه الأسماء بحسب ما رأوا من صفاته أو من آثاره أو من خلقه إلى آخره.
فعندهم على هذا الأسماء تكون مخلوقة، وهي على هذا عندهم غير الله جل وعلا.
وأهل السنة يردون هذا ويقولون إن أسماء الله جل وعلا سمَّى بها نفسه قبل أن يخلق الخلق سبحانه وتعالى «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» وهذا ليس من صُنع الخلق؛ بل هو من تسمية الله جل وعلا لنفسه، فهي الأسماء الحسنى له سبحانه وتعالى.
إذا كان كذلك فأسماء الله لا يجوز أن يقال إنها مخلوقة.
والثاني إن أسماء الله جل وعلا لا يجوز أن يقال [انتهى الوجه الأول من الشريط الثامن] أنَّ الصفات تفسر بمخلوقات منفصلة؛ لأن الله جل وعلا ما قام به ذات واحدة ليست صفاته سبحانه وتعالى منفكة عن ذاته؛ يعني صفاته الذاتية أو صفاته الاختيارية حين تقوم به جل وعلا، ليست منفكة عن ذاته.
فكلمة (غير) تفهم الانفصال، وهذا يوافق معتقد الجهمية والمعتزلة الذين يفسرون الأسماء والصفات التي لا يقرون بها بمخلوقات منفصلة، ولذلك يستعملون كلمة (غير).
إذن هنا في قوله (وإن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله) على ما ذكرت لك من مبادئ البحث فيها، كذلك لا يقال إنها مخلوقة، فالغيرية ممتنعة بل هو قول المعتزلة والخوارج، كذلك قول بأنها مخلوقة كذلك من فروع قول بأنها غير الله.(18/236)
سبق أظن أن مر معنا الكلام على اللفظ والملفوظ، من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع؛ لأن كلمة لفظ تشتمل على لفظ مصدر، اللفظ مصدر، قد يكون المراد به تلفظ، وقد يراد به الملفوظ، فلما احتمل هذا وهذا، صار إطلاق قول القائل لفظي بالقرآن مخلوق بدعة؛ لأن كلمة لفظ تحتمل أن يكون المراد بها التلفظ، والتلفظ الذي هو عمل الإنسان، هذا مخلوق ?وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ?[الصافات:96].
وإن كان قصد باللفظ الملفوظ، فالملفوظ كلام الله جل وعلا، فلا يجوز أن يقول كلام الله ملفوظ.
فإذن قول القائل ما ذكر إن اللفظ مخلوق مثل ما قال (والكلام في اللفظ والوقف، من قال بالوقف واللفظ فهو مبتدع)، فمن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ومن قال لا أقول لفظي بالقرآن مخلوق ولا أقول ليس لفظي بالقرآن مخلوق بل أتوقف لا أعلم هذا أيضا بدعة، أو أتوقف وأقول القرآن مخلوق أو غير مخلوق فهذا بدعة؛ بل الواجب أن نقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن اللفظ قول القائل لفظي بالقرآن مخلوق، هذا لا يجوز أن يقال لأنه يحتمل، مثل ما قال السلف من قال أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، ومن توقف هجروه.
البخاري رحمه الله تعالى هجره محمد بن يحيى الزهري، ومسلم وأبو حاتم، وأبو زرعة، لما أظهر عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق، كما قيل في الرواية.
والبخاري أراد شيئا حقا لكنهم من شدة تمسكهم بالسنة ما اكتفوا منه باللفظ الغير واضح فأطلقوا أنه مبتدع، ولذلك تركوا التحديث عنه حتى مات رحمه الله تعالى.
ترك المجلس وذهب إلى بلده فاستقر فيه مدة، ثم توفي.
لهذا تجد في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ترجم للبخاري قال: محمد بن إسماعيل البخاري أبو عبد الله تركه أبي وأبو زرعة لما أظهر عندهم مسألة اللفظ. يعني متروك.(18/237)
ومسلم أيضا دافع عن البخاري في هذه المسألة وانحرف عنه بعد ذلك؛ لأنه من تلامذته الخاصين فلما ترجم له ابن أبي حاتم -وهو من أئمة السنة هو وأبوه وأيضا أبو زرعة- قال لما ترجم لمسلم: مسلم بن حجاج النيسابوري صدوق. لأجل هذه المسألة.
فإذن ينبغي إلى الذين ينظرون في التراجم، طلاب العلم، والذين يخرِّجون ويستخرجون أقوال في الجرح والتعديل، أن لا يأخذوا ظاهر اللفظ دون أن يعلموا تواريخ الرواة، وما حصل من الفتن التي حصلت ووأثرها على الناس.
يحيى بن معين أيضا تركه علي بن المديني وحصل ما حصل؛ لأنهم أجابوا في المسألة أو توقفوا فيها؛ يعني فتنة عظيمة حصلت فيمن تقدم وفيمن بعدهم. والله المستعان.
([113]) قوله هنا (وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال ?وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ?[ق:16])
الصحيح هنا في قوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) أن المراد به قرب الملائكة؛ لأن القربة نوعان: قرب عام وقرب خاص.
والقرب الذي يوصف الله جل وعلا به هو القرب الخاص؛ قرب خاص من خاصة خلقه؛ من الداعي «الله أقرب من أحدكم من عنق راحلته» وأشباه ذلك.
أما عامة الخلق فإن قرب الله جل وعلا منهم إنما هو قرب بصفاته العظيمة سبحانه وتعالى، فهو يقرب من خلقه كيف شاء سبحانه وتعالى؛ يعني إما قرب الذات أو قرب الصفات فهو سبحانه وتعالى كيف شاء في ذلك.
فالقرب الذي يوصف فالله جل وعلا به هو القرب الخاص أما القرب العام فهو قرب الملائكة من عباد الله جل وعلا كما في هذه الآية (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) يعني حين الوفاة بقرب الملائكة ?إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَن الْيَمِينِ وَعَن الشِّمَالِ قَعِيدٌ?[ق:17].
وقد أوضحت هذا فيما أذكر مفصلا، ومسألة القرب تقتضي بحثا طويلا في شرح الواسطية فيرجع إليه هناك. نعم(18/238)
([114]) هذا من أعظم الصفات التي ينبغي أن يكون عليها أهل السنة في سلوكهم، فأهل السنة وأهل الحديث وأهل الأثر وأتباع السلف ليسوا متكلمين بأقوال لا عمل معها ولا سكينة ولا خشوع ولا تواضع؛ بل هم يأمرون بعقيدة صحيحة معها إتباع، ومعها استكانة، ومعها خضوع.
فالسلوك جزء من عقيدتهم لهذا ترى في آخر الواسطية كما مرّ معنا ذكر شيخ الإسلام فصل؛ لأن أهل السنة والجماعة يأمرون مع ذلك بقيام الليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلاة إلى آخره.
وهنا ذكر الأشعري رحمه الله بعض صفاتهم التي عرفهم الناس بها، فهم يجانبون كل داع إلى بدعة، لا يقولون بالبدع ولا يحبون أهلها ويجانبونها، كذلك يتشاغلون عن القيل والقال بقراءة القرآن وبكتابة الآثار وبالنظر في فقه الأثر؛ فقه السنة، وفي ذلك ليسوا متكبرين على الخلق بل أهل استكانة وتواضع، هذه صفة أهل العلم الراسخين فيه المتبعين للسلف أنهم أهل استكانة وتواضع، أما إذا رأيت الذين يتكبرون تعلم أنهم فقدوا بعض صفات السلف الصالح، حتى ولو كانوا منتسبين إلى طريقة السلف، فطريقة السلف كاملة، فطريقة السلف كاملة، وإنما الشأن في بعض أتباعهم إذا تكبروا أو اغتابوا أو نَمُّوا أو سعوا في الأرض لغير هدي السلف.(18/239)
فأهل السنة أهل الحديث أهل الأثر أتباع السلف الصالح فيهم خشوع في قلوبهم، خشوع في أقوالهم، خشوع واستكانة وتواضع لله جل وعلا في أحوالهم مع الخلق، ينفعون الخلق ويبعدون المضرة عنهم، ويسعون في نفعهم، ويأبون أن يضروهم بشيء، وكذلك في عباداتهم لهم الهدي، وفي فقهم وفي نظرهم يتبعون الآثار ولا يخرجون عن ذلك، ومعهم حسن خلق مع الناس، وبذل للمعروف وسعي في مصالح الله جل وعلا، وكذلك يكون الأذى أذاهم لا يصل، كما قال عليه الصلاة والسلام «المسلم من سلم المسلون من لسانه ويده» هم يكفون الأذى، ويبذلون الندى، ويحسنون خلقهم مع الناس، ويتركون آفات اللسان من الغيبة والقيل والقال والنميمة والخوف من عباد الله جل وعلا.
بل كلامهم كلام دائما فيه خير، فيه معروف، فيه صلاح، وإذا لم يأت الكلام الصالح سكتوا فهو خير لهم.
هذه صفة أهل العلم صفة أتباه السلف الصالح وهي التي يجب أن نصابر ونصبر على امتثالها، قد يغلط المرء قد يصيبه بعض الغفلة؛ لكن يجب عليه أن يوطن نفسه وأن يطبّع نفسه على الصفات المحمودة، وخاصة في حال قلبه بخشوعه واستكانته، وحال لسانه فيما يتكلم به وما يذر وفي بذله بجوارحه للناس الخير وكف الأذى.
فهذه من كمُلت له كان صالحا، والصالح من عباد الله من قام بحق الله وأتى بحق الله الواجب، وقام بحق المخلوق الواجب، فمن أدى حق الله وأدى حق المخلوقين فهو الصالح من عباد الله، ومن فرّط نقص من صلاحه أو ظهر فيه فساد بقدر ذلك. والله المستعان.
والكلمة هذه الأخيرة التي قالها (وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب) أستدل بها على أن الأشعري ترك المقالة المعروفة عنه؛ لأن الأشعرية له مرحلتان:
المرحلة الأولى التي كان فيها معتزليا؛ لأنه نشأ في حجر الجُبَّائي المعتزلي، وبعد أن عرف مذهب الاعتزال رجع حيث أقام عليه أربعين سنة، رجع إلى مذهب آخر خلط فيه ما بين قول أهل الاعتزال وقول الكلابية، مال إلى أتباع ابن كُلاّب فقال بقولهم.(18/240)
قالوا وفي آخر أمره صنّف ثلاثة مصنفات ترك فيها المصنفات التي صنفها على مذهب الكلابية، وهذه المصنفات الثلاث هي مقالات الإسلاميين هذه التي نقل عنها شيخ الإسلام هذا النقل، فيه أنه ذكر في هذا الموضع بعد الفصل مقالة أهل الحديث والسنة قال (وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب) والثاني كتابه الإبانة المعروف، والثالث كتابه رسائل أهل الثغر. وهذه الثلاث كلها مطبوعة لبيان منهج أو طريقة أهل السنة في الجملة.
أتباعه -أتباع الأشعري- على مذهبه الذي رجع عنه، يقولون هذه الكلمات التي في مقالات الإسلاميين مدسوسة عليه، كعادة أهل الأهواء في رد الحق، وكتاب الإبانة أيضا لا تصح نسبته إليه وكتاب رسائل أهل الثغر لا تصح نسبتها إليه، وهذا باطل؛ لأن كل هذه الكتب والألفاظ التي فيها تناقلها العلماء من بعد الأشعري إلى وقتنا هذا.
ولهذا كان الحنايلة والأشاعرة بعد الأشعري كان الحنابلة والأشاعرة متفقين غير مختلفين إلى أن حديث فتنة ابن القشيري المعروفة في بغداد في أواخر المائة الخامسة يعني في أربعمائة و في أواخر المائة الخامسة فتفرق الحنابلة والأشاعرة؛ لأن الأشاعرة أخذوا المذهب المتوسط وردوا قول الأشعري في نصرة اهل السنة والحديث وافترقوا واتضح الافتراق إلى وقتنا هذا. نكتفي بهذا القدر.(18/241)
([115]) قوله في أول الكلام (قال أهل السنة وأصحاب الحديث إن الله ليس بجسم) هذه النسبة لأهل السنة ولأهل الحديث ليست بصحيحة بل أهل السنة وأهل الحديث لا يجاوزون في الإثبات والنفي ما جاء به القرآن والحديث على القاعدة المقررة عندهم؛ أنه لا يتجاوز في صفات الله تعالى القرآن والحديث، فلا نثبت ما لم يثبت في القرآن والحديث بالأقيسة ولا ننفي ما لم يُنف في القرآن والحديث بالأقيسة؛ لأن المنفي له جهات كثيرة، ولفظ هنا الجسم المنفي وأنه ليس بجسم هذا لا يستعمل هذه العبارة أهل السنة ولا يقولون إن الله تعالى جسم لا كالأجسام ولا يقولون أيضا ليس بجسم؛ لأن هذا لم يرد وهذا لم يرد.
ولفظ الجسم هذا يحتمل المراد منه إلى أن الجسم هنا ما له صفات مختلفة ذاتية ومعنوية متشكلة على هيئة صورة، أو الجسم المراد به الأجسام المعهودة المخلوقة.
إذن نريد بالجسم ما له صفات ذاتية معنوية صفات ذاتية وصفات أفعال على هيئة صورة اجتماعها يشكل صورة، فإن الله جل وعلا له صورة سبحانه وتعالى كما ثبت في ذلك في الأحاديث الصحيحة، وصفاته جل وعلا باجتماعها بها يكون صورة الرب جل وعلا، لهذا في الحديث المعروف بعرصات القيامة «قال: هل تعرفون ربكم؟ قالوا: نعم. قال: فيأتيهم في صورة غير التي عرفوها أو رأوه عليها، فيقول: أنا ربكم فاسجدوا لي، فيقولون: لا نسجد إلا لربنا، حتى يأتينا ربنا، قال: هل بينكم وبينه آية؟ قالوا: نعم الساق، فيكشف ربنا عن ساقه، فيخر من كان يسجد له في الدنيا، ويبقى من كان لا يسجد له -يعني من المنافقين-، فيريد أن يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا» الحديث المعروف الصحيح المقصود من هذا أن لفظ الجسم هذا لم يرد، فلا يصح أن ينسب لأهل السنة والحديث نفيا للجسمية ولا إثبات الجسمية فهذا ليس بمثبت ولا بمنفي.
مقصود شيخ الإسلام بهذه النقول مقصود جملة الكلام، ما يقصد منها تحقيقها هو حققها في التدمرية هذه المباحث.(18/242)
هذا التعليق من شيخ الإسلام، هذا التعليق من كلامه، هو الذي علمنا هذا رحمه الله.
.. نقول الألفاظ المجملة إن فسرت بمعنى صحيح قُبلت، فالنافي من يقول ليس بجسم نقول ماذا تريد بالجسم؟ إن قال أريد بالجسم الأجسام المخلوقة المعهودة فنقول نعم جل وعلا ليس بجسم من الأجسام المعهودة المخلوقة.
وإذا أراد بالجسم صفات الله جل وعلا من أن له جل وعلا وجها وله عينين سبحانه وله سبحانه وتعالى يدان وله عينان وله قدم إلى آخر ذلك، وله صورة سبحانه وتعالى، وله صفات سمع وقوة إلى آخره، قال أنا أريد بنفي الجسم هذا نفي الصورة، وأن الصفات هذه مجتمعة على هيئة صورة فنقول هذا باطل إلى آخره.
مثل ما تفضلت الألفاظ المجملة التي تحتمل معنيين يعني تحتمل هذا وتحتمل هذا هذه لا يطلق إثباتها؛ لأنها أصل لم ترد ولا في القرآن كلها سواء ولله الحمد؛ لأن المقام مقام إيضاح لصفات الرب سبحانه.
.. السّفّاريني له أغلاط في عقيدته، له أغلاط متعددة، سواء في المتن أو في المنظومة أو في الشرح؛ لوامع الأنوار، له فيها أغلاط كبيرة علق على بعضها أئمة الدعوة منهم الشيخ أبا الطين والشيخ سلمان بن سحمان، وتركوا أشياء أيضا لم يعلقوا عليها، مثل قوله ........... أهل الحديث والأشاعرة والماتريدية وأشياء كثيرة من هذا، عنده أغلاط فيها.......رحمه الله تعالى، وهذا الذي أداه إليه اجتهاده في هذه المسائل التي في عصره ما كان أحد يفهمها يعني، في عصره ما كان أحد يفهم مثل فهمه، هو اجتهد وجمع من كلام شيخ الإسلام وكلام الأئمة ما ظن أنه الصواب هو مأجور على ذلك؛ لأن اجتهاد الحاكم يدخل في المسائل العلمية والعملية، فإن لم يستطع غير هذا ولم يعرف غير هذا فهذه قدرته.(18/243)
([116]) هذا واضح سبق إيضاحه في الشروح المختصرة والمطولة، الإسلام أوسع من الإيمان هذا صحيح؛ لأن أوامر الإسلام ومن ينطبق عليه لفظ الإسلام أو خصال الإسلام، هذا أكثر من خصال الإيمان، والمؤمن أخص من المسلم كما هو معروف، فلهذا اختلف أهل العلم في تمثيل الدوائر في حديث عمر المعروف، قال«الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» إلى آخره «والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» الدائرة الكبرى ما هي؟ والدائرة الصغرى ما هي؟
بعضهم قال الدائرة الكبرى هي الإسلام، والصغرى هي الإيمان التي في داخلها، على اعتبار أن الإسلام أوسع من الإيمان.
وبعضهم عكس الكبرى هي الإيمان، والصغرى هي الإسلام.
هنا نظر من قال الإيمان والإسلام أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم ليس بمؤمن[ الشيخ يريد: ليس كل مسلم بمؤمن، المفرَّغ]؛ لأن الإيمان أخص من الإسلام، لهذا إذا نظرت إلى أهل الإسلام وأهل الإيمان فأهل الإسلام في أهل الإيمان أكثر؛ لأنهم أخذوا بالإسلام صار أوسع من هذه الجهة، فصارت الدائرة الكبرى دائرة الإسلام والدائرة الصغرى دائرة الإيمان.
ومن نظر إلى أن الإيمان والإسلام يشتركان في شيء فقال الدائرة الصغرى هي دائرة الإسلام والدائرة الكبرى هي دائرة الإيمان؛ لأنه ليس كل مسلم مؤمنا، وهذه تنتبه لها كثيرا يحصل فيها الاختلاف باختلاف الاعتبار.
فيصح أن تجعل الكرة الإسلام داخلها الإيمان باعتبار أوامر الإسلام؛ الإسلام في نفسه لا في أهله أوسع من الإيمان، وإذا عكست ونظرت على أهل الإيمان كل مؤمن مسلم نرسم دائرة الإسلام في داخلها داخل دائرة الإيمان، فهذه صحيحة وهذه صحيحة.
وقوله الإسلام أوسع من الإيمان وهذا صحيح، والمسلمين أكثر من المؤمنين هذا صحيح، من ثمرات هذا الكلام، وإذا قلنا الإيمان أخص من الإسلام هذا صحيح، وإذا قلت الإيمان يشمل الإسلام زيادة يشمل الإسلام وزيادة يعني يصبح الإسلام داخل الإيمان فهذا أيضا صحيح.(18/244)
فإذن الاعتبارات مختلفة في هذه المسألة تداخل الإسلام والإيمان، حصل فيها النقاش المعروف والبحث المعروف عند السلف، وأئمة كثيرون مثل مالك والبخاري وغيره ممن لهم آراء مختلفة في تداخل الإيمان والإسلام.
[ سؤال: منهج أهل السنة يا شيخ أنهم ينفون نفيا مجملا كيف الجواب عن قولهم أن ....]
النفي عندهم ليس بكمال، فتقول مثلا فلان ليس بكاتب ولا قارئ ولا ذكي ولا عالم ولا صانع، هذا ما فيه شيء، النفي المحض ليس كمالا، النفي المحض ما يدل على شيء، يدل على ضعف المنفي عنه، إلا في حالة واحدة وهي أنك أردت بالنفي كمال ضد المنفي عنه، فتنفي عنه خصالا تريد بها إثبات ضدها، فمثلا يتكلم واحد عن غلط عالم فيقول: فلان غلط. فيأتي واحد ويقول العلام الفلاني ليس بجاهل. لا يقصد في الحقيقة نفي الجهل عنه لأنه عالم هو يقصد أنه ليس بجاهل بل هو عالم في هذه المسألة وفي غيرها، فكيف تُغَلِّطه؟ ففي صفات الله جل وعلا أن النفي يراد منه إثبات كمال الضد يراد منه المدح.(18/245)
فكل نفي في القرآن أو في السنة متعلق بالله جل وعلا أو بصفاته سبحانه فإنما يراد منه إثبات الصفات، النفي يرجع إلى الإثبات، فقوله سبحانه وتعالى ?اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ?[الإخلاص:2-3] هذا نفي ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4]، المراد من النفي هنا إثبات كمال غناه سبحانه وتعالى وكمال أحديته. كذلك ?لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ?[البقرة:255]، المراد كمال غناه وكمال قيوميته وكمال حياته وقدرته سبحانه وكذلك قوله ?وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ?[فصلت:46]، لكمال عدله سبحانه، وكذلك قوله هنا ?مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ?[المؤمنون:91]، الآية التي هنا ?مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا?[الجن:3]، كل هذا المراد منه إثبات ضد هذه الصفات؛ لأن هذه في المخلوق اتخاذ الصفة والولد، ليش يتخذ المخلوق الصاحبة والولد؟ لحاجته للصاحبة لتخدمه ويسكن إليها وحاجته للأولاد، لإبقاء اسمه وإبقاء ذكره حتى لا ينقطع، أما الله جل وعلا فهو ذو الغنى الكامل سبحانه وتعالى، لا يحتاج إلى أن يلد ولا أن يولد، ولا أن يتخذ الصاحبة، سبحانه وتعالى من إله عظيم سبحانه وتعالى ربنا وتقدس وتعالى.(18/246)
.. هم لماذا رجعوا إلى النفي؟ لأنهم لا يثبتون الصفات، هم أصلا لا يثبتون الصفات ففروا من الإثبات إلى النفي، فتعرفوا إلى الله جل وعلا بالنفي، لذلك تجد في كتب المتكلمين صفحة كاملة في صفات الله فيها نفي، وما يأتي يثبت، ما يثبت إلا صفة واحدة أو ثلاث صفات أو سبع بحسب مذاهبهم، ولهذا لا يقولون إن النفي نريد بكل نفي إثبات صفات، لو قالوا ذلك ليكون جمعوا جميع المنفيات؛ لكن هم ما يقولون هذا لأنه يأتي للمنفيات المفصلة في النفي، ما ينفون نفيا مجملا ?مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا?[الجن:3]، هذا نفي مجمل مو مفصل، يعني هو مفصل من جهة ولكنه مجمل من جهة الصاحبة والولد، لكن أولئك ماذا يقولون هو ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عَرَض ولا دم ولا أبعاض وليس أعلى ولا أسفل ولا يمين ولا شمال وقدّام ولا خلف وليس وليس في صفحة كاملة أو أكثر يذكرون مثل هذه، يعني كل ما يتعلق بالصفات أو يوهم عندهم شيئا نفوه.
فإذن هم لا يريدون بالنفي إثبات صفة، ولو أرادوا لقلنا يرجع نفيهم إلى نفي مجمل، ويكونون موافقون لأهل السنة ولكنهم لا يقرون بهذا.
([117]) العدل يراد به هنا الثقة، يعني العدل الضابط، ما يطلق العدل ويراد به العدالة بالسلامة من خوارم المروءة دون الضبط، إذا أطلق لفظ العدل في مثل هذا فيراد به الثقة، وإلا فمعلوم أن العدالة وحدها لا تكفي في صحة الإسناد لابد أن ينظم إلى العدالة الضبط؛ لأنهم عرَّفوا الحديث الصحيح أنه ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط عن مثله إلى منتهاه من غير ما شذوذ ولا علة، فقد يستعمل الأولون لفظ العدل ولا يريدون به السلامة من خوارم المروءة أو من البدع فقط، يريدون به العدل الضابط السالم الضابط يعني الثقة، ما عبَّر عنه المتأخرون الثقة، بنقل ثقة عن ثقة.(18/247)
([118]).?وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا?[الفجر:22] يعني وجاء ربك، وحالة الملائكة أنهم صفا صفا، وليس أنه الملائكة يجيئون صفا صفا؛ لأن الملائكة تنزل قبل ويصفون صفوفا، كما قال سبحانه في سورة الفرقان ?وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا(25)الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ?[الفرقان:25-26]، الملائكة ينزلون في ضلل من الغمام، والله سبحانه وتعالى يجيء يوم القيامة يصف الملائكة صفوفا، بعد ذلك ينزل الرب جل وعلا على عرشه سبحانه.
([119])ذكر أدلة الاستواء المختلفة المعروفة: من القرآن أدلة متنوعة في علو الله جل وعلا واستوائه على عرشه وذلك دليل الفطرة في علو الله جل وعلا.
ومسألة العلو في الاستدلال غير مسألة الاستواء، العلو أوضح، العلو ثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع، وأما الاستواء؛ الاستواء على العرش فهو ثابت بالسمع بالكتاب والسنة وليس مما مصيره العقل أوالفطرة، ولكن علو الله جل وعلا هذا واضح لذلك هو أدخل أدلة الاستواء في أدلة العلو، فانتبه لفرق ما بين أدلة هذا وأدلة هذا، ودليل الفطرة راجع إلى العلو مثل ما ذكره الأخير، الذي يدعو يتوجه إلى السماء، يتوجه إلى العلو هذا لأجل الفطرة التي في قلبه، هذا يصلح دليلا للعلو لا للاستواء على العرش؛ لكن الاستواء على العرش هو علو خاص كما هو معلوم.
.. في الصلاة، لا؛ في الصلاة لا يجوز أن يرفع البصر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دعا في الاستسقاء رفع يديه حتى وصل بها إلى وجهه عليه الصلاة والسلام حتى رئي بياض إبطه رفع يديه هكذا وعينيه للسماء لا بأس في ذلك، لكن في الصلاة لا، الصلاة فيها خشوع والبصر السنة فيه يكون موضع السجود.(18/248)
.. قال (لَعَلِّي [أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَـ]أَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا) أتعرف ليش ذهب يبحث عنه في السماء؟ الكذب يرجع إلى الشيئين وجود إله وكون هذا الإله في السماء، لذلك هو طلب إله في العلو، فالكذب يرجع إلى قوله [انتهى الشريط الثامن].....
.. السنة إذا استسقى الإمام في الجمعة أن يرفع يديه، وأن يرفع الناس أيديهم كما ثبت في البخاري من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى يوم الجمعة فرفع يديه عليه الصلاة والسلام ورفع الناس أيديهم، فالإمام إذا استسقى يوم الجمعة يرفع يديه.
والدعاء السنة فيه أن يرفع يديه إلى صدره هكذا، هذه سنة الدعاء، هكذا إلى صدرك، هكذا كان عليه الصلاة والسلام يدعو، إلا في الاستسقاء فإنه تُرفع، ومن شدة الرفع قال بعضهم إنه جعل ظهور كفيه إلى السماء، بعضهم قال جعل بطن كفيه إلى السماء، من شدة الرفع اشتبهت على بعض الرواة، لهذا قال بعضهم –بعض أهل العلم- يجعل ظهور كفيه إلى السماء يدعو، يعني يدعو هكذا، يجعل ظهور كفيه على السماء؛ لكن هذا ليس بجيد بل هذا؛ دعاء الاستسقاء مثل غيره لكن يشتد الرفع بحيث أنه قد تشتبه.
.. رفع النبي عليه الصلاة والسلام يديه ورفع الناس أيديهم، هذا في الاستسقاء، خاص به. يرفع يديه إلى وجهه، الدعاء العادي هكذا هذه السنة، الناس اتبعوا العادة في الدعاء المعتاد هكذا، تضعها في وجهك؟ لا، هذا خلاف السنة ملتصقة أو قريبة بعضها من بعض، ليست متفرقة كهيئة المستطعم المسكين، مثل ما جاء في دعاء عرفة يدعو كهيئة المستطعم المسكين...(18/249)
.. هذا مذكور عن مجاهد جاءت فيه بعض الآثار يثبتها أهل السنة في الجملة لأجل إثبات الاستواء لكن ما جاءت به أحاديث مرفوعة، هذا ليس مما فيه الاجتهاد.. .. لا، مثل هذا الحديث مثل هذا الأثر أثر مجاهد في قوله تعالى ?عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا?[الإسراء:79] وأن يجلسه تعالى على عرشه هذا كان الناس يمتحنون به في زمن الفتنة في القرن الثاني والثالث لما حصلت فتنة خلق القرآن وقبل ذلك كان الناس يمتحنون بهذا الأثر أثر مجاهد، ومن لم يكن من أهل السنة نفاه وقال لا أقول به، ومن كان من أهل السنة أثبته؛ لأن المراد ليس هو الإجلاس المراد منه فيه التصريح بالاستواء الذي معناه الجلوس، فأوضح الاستواء أنه بمعنى الجلوس إجلاس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الرب جل وعلا على العرش، وإلا فالإجلاس لم تثبت به السنة، ما نقول ابتداء أنه من عقيدتنا أنه يجلس عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نسكت عن ذلك لا نذكرها؛ لكن قالها مجاهد رحمه الله، وابتلي الناس بذلك لأنها تفسر معنى الاستواء، فمن رد هذا؛ لأن بعض الناس يقول أنا أقر بالاستواء ويعني بالاستواء معنى آخر، فهذا الأثر صار فارقا بين الاسم وغيره، فمن لم يقل به قيل أنه من المبتدعة في الزمن الأول، لهذا من أهل العلم طوّل عليه الكلام مثل الخلاَّل في السنة أربعين صفحة أو خمسين صفحة على هذا، وكذلك الدار قطني والطبراني ومن الآثار التي ينبغي الانتباه لمعناها، وإلا فالقاعدة عندكم أنه لا يتجاوز القرآن والحديث. نقف عند هذا.
([120]) الحشوش جمع حُشْ وهي الحمامات وأماكن قضاء الحاجة.
([121]) هذا الكلام من أبو الحسن الشعري رحمه الله كلام حق يخالف ما عليه أهل البدع من معتزلة والرافضة والخوارج والكلابية والماتريدية والأشاعرة أيضا الذين انتسبوا إلى مذهب الأشعري في مرحلته التي كان فيها على مذهب الكلابية.(18/250)
هذا الكلام واضح وحق وهو أن الاستواء ليس معناه الاستيلاء والقهر؛ وذلك استولى غير استوى، استوى مادة واستولى مادة أخرى، ثم إن الاستواء جاء مخصوصا بالعرش، استوى على العرش، واستوى إلى السماء سبحانه وتعالى، ولما كان مخصوصا الاستواء بأنه على العرش وإلى السماء دلَّ على أن هذين؛ يعني العرش والسماء خُصَّ بالاستواء إلى السماء وعلو عليها مع القصد، واستواء على العرش، وهو علو عليه علوا خاصا، وهذا يدل على أن تعميم الاستواء على الأشياء جميعا هذا غلط على القرآن وتحريف لما أنزل الله جل وعلا، فلفظ (استوى) من حيث اللغة يدل على العلو والارتفاع، وإذا عُدِّي بـ(على) فهو علو وارتفاع على الشيء الذي عُدي عليه بـ(على) كما قال سبحانه ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، يعني علوتم وارتفعتم على الفلك، وقوله سبحانه ?ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ? واستوى في القرآن جاءت على ثلاثة أنحاء:
جاءت معداة بـ(إِلَى) في قوله?ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ?[فصلت:11].
وجاءت معداة بـ(عَلَى) (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ)، وفي قوله (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).
وجاءت غير معداة بقوله الآيات التي ذكرناها لكم في التفسير ?وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى?[القصص:14]، فآتيناه حكما وعلما، وفي قوله ?ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى?[النجم:6] ونحو ذلك، وكلها راجعة إلى معنى العلو.(18/251)
المقصود من ذلك أن من فسر الاستواء بالاستيلاء والقهر والملك وأشباه ذلك، فإن التخصيص عنده ممتنع؛ بل متناقض فيكون استيلاؤه جل وعلا على كل شيء، ويكون استيلاؤه على الأمكنة القذرة وعلى الأمكنة المباركة العظيمة كلها استيلاء واحد، فهو سبحانه الذي قهر الأشياء واستولى عليها من غير مغالب، وملكها سبحانه وتعالى بخلقه لها وهي راجعة إليه وأمرها سائر إليه سبحانه وتعالى، ولكن الاستواء جاء مخصوصا بالاستواء إلى السماء والاستواء على العرش، فدل على أن تعميم ذلك غلط على القرآن ومخالف فيما دلت عليه الآيات والأحاديث في ذلك.
نخلص من هذا إلى أن أقوال المبتدعة في هذا مناقضة لدلالات القرآن والسنة ولدلالة اللغة، وكذلك لدلالة العقل التي تمنع أن يكون الله جل وعلا في كل مكان، فإنّ هذا مما يأباه العقل الصريح؛ إذْ لابد أن يكون الخالق الصانع المدبر متميزا عن مخلوقه، فإذا كان المخلوق حالا في الخالق والخالق حالا في مخلوقه غير متميز عنه، فإن هذا مما تأباه والعقول والفطر السليمة.
لهذا مسألة العلو عند أهل السنة والجماعة راجعة في دليلها إلى الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، دليلها هذه الأشياء الخمسة: كتاب وسنة وإجماع وعقل صريح وفطرة سليمة، فإذا كان الأصل صريح والفطرة سليمة يرد به قول هؤلاء المبتدعة.
فمسألة الاستواء مسألة، ومسألة العلو يعني كثر الكلام فيها والتأليف فيها وفيه مصنفات كثيرة وقد قررناها لكم من جاه مختلفة.
لكن الشاهد في هذا الموضع قول الأشعري في إبطال كون الله حالاًّ في كل مكان هو أن الاستواء يكون استيلاء وقهرا لكل شيء؛ لأن هذا يمنعه تخصيص الاستواء في القرآن بالعرش وبالسماء.
.. [ سؤال: من قال إن الله استولى على الأشياء كلها، هل يقال أن الله مستولٍ على الأشياء كلها؟](18/252)
من غير مغالبة، إذا كان المقصود من غير مغالبة فما فيه إشكال، هو مستول على الأشياء سبحانه وتعالى من غير مغالبة، ولفظ هذا الاشتقاق استفعل واستولى قد تكون من طرفين، وقد تكون من طرف واحد في اللغة أصلا، ولا يلزم من استولى وجود طرفين متنازعين، ولهذا نقول في بيان المعنى نقول استولى من غير مغالبة ولا منازعة، فملك الأشياء وقهرها سبحانه وهي في ملكه مذ خلقها، فاستيلاؤه سبحانه وتعالى على كل شيء؛ يعني أن كل شيء تحت حكمه وقهره وأمره وتدبيره لقيوميته عليه وولايته سبحانه عليه ?أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ?[الرعد:33]، ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة:255].
جاء الاشتباه من لفظة استولى، استولى هي استفعل من وَلِيَ الشيء، أصلها وَلِيَ فاستولى فيها الألف والسين والتاء هذه من استفعل فأصل المادة هي ولي، فيفهم من استولى أنه طلب الوِلاية؛ يعني طلب ملكها، وطلبها قالوا أنه يكون لأن ثم منازعا فيها، وهذا غير دقيق الكلام هذا؛ لأنه راجع إلى أظن أن كلمة استفعل ترجع إلى طَلَبَ، هذا غير صحيح بل استفعل في اللغة قد تكون للطلب وقد تكون لتحقق الصفة فيها، كما في قوله ?وَاسْتَغْنَى اللَّهُ?[التغابن:6]، (اسْتَغْنَى اللَّهُ) غني فصار الغنى وصفا لازما له سبحانه، ما طلب الغنى مثل استوى واستولى وكل هذه، ما طلب ذلك لكن كانت صفة له سبحانه وتعالى في غاية ما يكون الوصف.
([122]) صفة اليدين لله جل وعلا ثابت بالكتاب والسنة والأدلة عليها كثيرة، فجاء وصف الله جل وعلا باليد وباليدين وبالأيدي.
والمقصود من الجميع أن الله جل وعلا له يدان؛ لأن المثنى في اللغة وعند الأصول نص في دلالته، خلاف المفرد فإنه قد يراد به الجنس، والجمع أيضا قد يراد به المثنى.(18/253)
فالمفرد يطلق ويراد به أكثر من واحد في بعض الأحيان، فدلالة المفرد على فرد بخصوصه ليست نصية بل ولا ظاهرة؛ بل قد يكون المراد في الدلالة على واحد ويكون المراد على اثنين أو ثلاثة أو أكثر بحسب الحال؛ لأنه يراد بالمفرد في مواضع الجنس، وهذا يحكمه السياق.
كذلك الجمع؛ الجمع قد يراد به المثنى، ويعبر بالجمع للإضافة إلى ضمير تثنية أو جمع، وقد يراد منه الجمع: ثلاثة أو أربعة أو خمسة.
فلما جاء وصف الله جل وعلا باليد والأيدي وباليدين علمنا أن النص الصريح راجع إلى اليدين كما قال سبحانه ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، (يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) هذا وصف لله فله يدان وليست بثلاثة.
وقوله جل وعلا ?مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا?[يس:71] جمع الأيدي؛ لأن القاعدة العربية أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير تثنية أو جمع فإنه يجمع المثنى لأجل سهولة الكلام، كما في قوله سبحانه ?إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا?[التحريم:4]، (إِنْ تَتُوبَا) يعني المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ولكل واحدة منها قلب واحد، فجمع القلبين على قلوب؛ لأجل أنه أضافه إلى ضمير التثنية.
فرجع الكلام إلى أن ذكر اليدين الثنتين نص فيهما لا يقبل التأويل، النص لا يقبل التأويل بالإجماع، أما الذي يقبل التأويل؟ الظاهر والمجمل وأشباه ذلك؛ لكن النص الصريح هذا لا يقبل التأويل لأنه نص في دلالته، ومن ذلك الأعداد يعني الدلالات النصية عند الأصوليين كثيرة متعددة، تأتي الدلالة النصية في عشرة أنواع منها الأعداد ومنه التثنية.(18/254)
فقوله سبحانه (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) يدل على أنهما اثنتان، كذلك قوله جل وعلا لعدوه إبليس ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، هذا دال على أنه من الله جل وعلا خلق آدم بيديه الثنتين، فما جاء في الحديث إن الله خلق آدم بيده المقصود منه الجنس يعني بيديه.
ومن أول اليدين أنه المراد منهما القدرة إنما هو قول طائفة من المبتدعة وأهل الكلام، أو أولوا اليدين أن المراد بهما النعمة، فنقول: هذا غلط وهذا غلط.
فأولا اليد في اللغة إذا أضيفت إلى المتكلم فإنها لا تأتي بمعنى القدرة ولا بمعنى النعمة وإنما يُراد بها الصفة.
والثاني أن قوله ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، لما فسروها بالقدرة أو فسروها بالنعمة بطل إذ قدرة الله جل وعلا ليست قدرتين؛ بل إنما أنها هي قدرة عظيمة واحدة تدخل فيها جميع أنواع القُدَر، أو هي قُدَر كثيرة كثيرة جدا، كون آدم خلق بقدرتين هذا باطل وخُلْفٌ من القول وكلام لا معنى له، وكذلك نقول خُلق بنعمتين فآدم خلقه الله جل وعلا بنعم كثيرة عليه، فكل ما في آدم من خلقه منة من الله جل وعلا عليه.
وهذا التأويل يؤولون به ترويجا على الجهال في آية صورة ص ? مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، ولكنهم [يَشْرقون] إذا جاءت الآية ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ?[المائدة:64]، هذه لا تحتمل قدرتين ولا تحتمل نعمتين.
الوجه الثالث فيما قرره الأشعري هنا أن اليد ربما أتت في لغة العرب بمعنى النعمة لكن تأتي بمعنى النعمة بشرطين:
الأول: أن تكون نكرة وليست بمعرفة.
والثاني: أن تقطع عن الإضافة.
فلا تقول العرب هذه اليد لفلان عليّ؛ يعني هذه النعمة، وإنما تقول هذه أو لفلان عليّ يدٌ، هذه التي تقولها العرب فتعبِّر بالنكرة.(18/255)
والثاني أنها تقطعها من الإضافة وتنون، ولا تقول العرب: يد فلان عليّ، يد محمد عليّ، تريد به نعمة محمد، لا، إذا أرادت النعمة قطعت فقالت: لمحمد عليَّ يدٌ، يعني نعمة أو لمحمد عليَّ إصبعٌ، أيضا، إذا كانت نعمة قليلة إذا كانت نعمة كبيرة قالوا لفلان يدٌ فيقطعونها عن الإضافة ويُنَكِّرون. هذا جاء.
وهذا من قبيل المقاربة؛ لأن اليد هي وسيلة الإعطاء؛ إعطاء النعمة وإيصال النعمة إلى المنعم عليه باليد، فقالوا لفلان عليَّ يدٌ؛ لأن الأصل في اليد المعروفة هي اليد المعروفة لفلان عليُّ يد وعنوا بها النعمة؛ لأنَّ النعمة لا تصل إلا باليد يد المرسل أو يد من أنابه، فإكراما له قالوا عن نعمته: إن له عليهم يد، إكراما ليده وإعلاء لها، هذا سائغ في اللغة.
أما التعبير بأن يد فلان علي أو يداه علي فهذا لاشك أنه غلط على العربية وعلى لسان العرب.
فتحصَّل من هذا أن لله جل وعلا يدين سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته لا تماثل يد المخلوق، وإنما هي يد عظيمة تليق به جل وعلا، وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى.
وأما تفسير من فسر اليد بالنعمة أو بالقدرة هذا من تفاسير المبتدعة الضلال وأهل الكلام ومن شايعهم.
([123]) البَاقِلاَني بالتخفيف، نسبة إلى بيع البَاقِلاَء، بالتخفيف، وإذا شددت تقول: البَاقِلِّي. فالباقلاني هي بالتخفيف لا بالتشديد.
([124]) هذا الكلام واضح سبق تقريره في إثبات صفة الوجه لله جل جلاله وإثبات صفة اليدين.(18/256)
وذكر هنا قاعدة مرّ تقريرها: وهي أن إثبات الصفات لله جل وعلا -إثبات الوجه واليدين والقدم وسائر صفات الحق سبحانه- إثبات للصفة، لا من جهة كونها جارحة؛ يعني لا من جهة كونها عضو كالأعضاء التي معنا؛ لأننا لا نعقل في الإنسان؛ في مخلوق إلا هذا، فنثبت لله جل وعلا ما عَقَلْناه فقط، لا شك أن هذا باطل فإن إثبات الصفة لله إنما هو من جهة الإثبات أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أثبتها، وليس عَقْلُنا أن الصفة هذه لا ترد أو لا نعقلها في المخلوقات فيما رأينا إلا جارحة أن نثبت لله صفة من حيث كونها جارحة.
بل نقول نثبت لله صفة من حيث هي والله أعلم كيف يتصف بصفاته، فنحن نصدق القرآن والحديث ولا نتجاوز القرآن والحديث، ولا ندخل في ذلك بآرائنا، نحن لا نعقل في الحياة الدنيا إلا أشياء، نعقل أشياء من الوصف؛ لكن لا يعني ذلك أن كل الاحتمالات والأنحاء هي فيما رأينا، بل الله جل وعلا أظهر لنا بعض خلقه، فرأينا بعضه، وبعض خلقه لم نره فكيف بذاته سبحانه وتعالى.
فإذن لا يجوز أن نقيس عالم الغيب على عالم الشهادة؛ بل عالم الغيب مستقل بنفسه في مخلوقات الله في الجنة والنار والملائكة، فكما أنه لا يقاس فما في الجنة على ما في الدنيا، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس من الجنة في دنياكم إلا الأسماء. في الجنة أنهار وفي الدنيا أنهار وليست الأنهار كالأنهار، وفي الجنة شجر وطير وأكل ونساء وليس كطير وأكل وشرب الدنيا، فكيف، هذه صفات مخلوقات الله، الملائكة لها أجنحة مثنى وثلاث ورباع فهل هي مثل أجنحة الطير، وأنواع ذلك، ليس الأمر كذلك، فكيف إذن -إذا كان في الصفات الغيبية في المخلوقات لا تشارك فيما نراه بحقيقة الاتصاف- فكيف بصفات الحق جل جلاله وتقدست أسماؤه؟(18/257)
فإذن إثباتنا للصفات يعني إثبات لها من حيث الوجود، أما الكيفية فالله أعلم بها، والإنسان لا يبني على ما رآه على أنَّ كل شيء محتمل، لا، هناك أشياء أخرى محتملة لا نعلمها، من حيث الاحتمال من حيث هو، وكذلك من وجود أنواع المخلوقات التي نراها، فدلَّ ذلك على أن الله جل وعلا لا يجوز أن يقاس اتصافه باتصاف خلقه فيما أخبر به عن نفسه أو أخير به عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الذي قرره الباقلاني رحمه الله. نعم
([125]) هذا التمثيل الذي مثله الباقلاني؛ ذكر عددا من الصفات واختياره لها موفق، وذكر الصفات التي يثبتها الأشاعرة الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة، وذكر الصفات التي يؤولونها وينكرونها الصفات الذاتية والصفات الاختيارية، وذكر بعد ذلك الوجه وذكر العينين واليدين وذكر الغضب والرضا، الوجه والعينان واليدان صفات ذاتية والغضب والرضا صفات اختيارية فعلية، فجمع بين ما يقرره الأشاعرة وما يقرره أهل السنة في صفات الذات وفي صفات الأفعال.
وفي هذا الذي ذكر رد على كل الطوائف، على المعتزلة والجهمية والأشاعرة والكلابية والماتريدية بهذه الصفات التي ذكر، فكان تمثيلا موفقا.
([126])هذا وصف لأهل البدع جميعا، فإنهم يتعصبون للأشخاص وينتصرون لهم، ولا ينتصرون لدلالات الوحي من الكتاب والسنة، هذا وصف كل أهل الأهواء على هذا النحو، إذا قالت الرجال قدموها والنصوص عندهم فيها نظر.
ولهذا شيخ الإسلام أطال من النقول في هذا الكتاب عن العلماء السابقين في تقرير الصفات والعقيدة الصحيحة ليكون في ذلك أبلغ تأثير والرد على المخالفين.(18/258)
ولاشك أن هذه الصفة من صفة أهل الأهواء، فإن أهل الأهواء دائما إنما يتعلقون بمعظميهم، وإذا أتاهم معظمهم بشيء من الكلام قبلوه، فربما جادلوا في دلالة الكتاب والسنة، ثم إذا قلت قاله فلان من معظميهم، قال قاله؟ فيقبله؛ لأن إمامه أو لأن متبوعه أو كبيره قالها، وهذا من علامات سوء النظر، ومن علامات عدم التوفيق الخذلان.
نعم يحتاج إلى قول الأئمة إذا كانت دلالة الدليل محتملة، فنأخذ، نحتاج إلى كلام العالم والإمام لتبيين المعنى؛ لكن إذا كان المعنى واضحا إذا كان المعنى نصا يشترك الجميع في فهمه كذكر صفات الله جل وعلا وذكر العقيدة الصحيحة، فإن هذا مما لا يتنازع الناس في فهمه؛ بل هذا واضح لكثرة الأدلة الدالة عليه، فهي دلالة نصية لا تحتمل تأويلا ولا تحتمل أوجها، فإنما دلالتها على ما دلت عليه نصية قاطعة.
وهذه ينبغي أن يحذر منها كل صاحب اتِّباع، أن يحذر من أن يرد الحق لقول أحد، أن يحذر من أن يترك دلالة الوحي لقول أحد؛ بل يجب عليه أن يجعل كلام الناس تبعا لكلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إذا كانت الدلالة ظاهرة أو نصا فإنه لا يلتفت بعدها إلى قول أحد، وإذا كنت محتملة فيها فهم تعارض في الآيات محكم ومتشابه أو عام وخاص أو مطلق ومقيد واشتبه عليه الأمر، فيرجع في فهم ذلك ولا شك إلى أهل العلم فيكون قول العالم مريحا له، بأن فهمه صواب أو أن فهمه غير صحيح.(18/259)
فأهل السنة لا يعظمون أئمتهم ويغلون فيهم بحيث يجعلون كلامهم حكما على النصوص، ولا يجفون بحيث يجتهدون في الفهم دون مرجع ومرجعية يرجعون إليها في فهم الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح والطريقة والقواعد المقررة في الملة؛ بل يكونون على وسط في ذلك؛ فهم يعظمون أهل العلم ويحبونهم وتولونهم ويدافعون عنهم وينصرونهم، ويعلمون أن أهل العلم إنما هم فضلهم الله جل وعلا بفهم الكتاب والسنة فهم الوحي، فإذن هم وسطاء وأدلاء في فهم دلالة النصوص؛ يشرحون للناس معنى ما أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يشرحون للناس ما فهموه من الشريعة ما فهموه من الوحي، وأما أن يكون العالم مستقلا بفهم أو تشريع أو تقعيد أو نحو ذلك فهذا لا يقبل منه، وهذا لاشك أنه بلاء كبير، فنحن لا نغلوا ولا نجفوا ونترك أقوال أهل العلم ونقول نستقل بفهم النصوص ونترك العلماء، ولا نقول نأخذ بكلامهم حرفيا في كل ما قالوه من العلماء المتقدمين والمتأخرين؛ بل نأخذ بكلامهم في دلالتنا لفهم النصوص لفهم الوحي؛ لأنا متعبدون باتباع الوحي والعلماء من أراد جعلهم الله أدلاء لفهم الوحي وكفى بها منزلة، والمعطوف على المرفوع مرفوع.
.. اليد هل هي يمين أو شمال؟ هذا ليس خلافا في العقيدة، العقيدة أن لله جل وعلا يدين هذا بالاتفاق؛ لكن النصوص تعارضت، ففي الحديث الذي في النصوص قال «إن المقسطين على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين» إلى آخر الحديث، فهذا يدل على أن لله جل وعلا يدين، وعلى أنَّ يديه سبحانه يمين، وجاء في مسلم أيضا أنَّ الله جل وعلا يأخذ بشماله القسط يخفضه ويرفعه قال.
المقصود فيها ذكر الشمال الذي رواه مسلم في الصحيح ومن أهل العلم من ضعفها وفي الواقع تفرد بها أحد الضعفاء راح من بالي لفظ الحديث ....[انتهى الوجه الأول من الشريط التاسع](18/260)
...ومن قال فيه إثبات الشمال لله جل وعلا قال: قوله (كلتا يديه يمين) في الخير، (كلتا يديه يمين) في الوصف؛ لأن المخلوق تعارف على أنه اليمنى أشرف من اليسرى، اليمنى يأكل بها الشريف من الأشياء، واليسرى أو الشمال للأشياء المستكرهة، فاليمنى مشرَّفة.
فقال (كلتا يديه يمين) يعني أن يدي الرحمان جل وعلا كلا منهما فيها الخير والوصف الكامل وأنه لا يعترى أحد يديه نقص؛ بل كلها في الوصف واحدة بل كلها في الكمال واحدة، فليست إحداهما أكمل من الأخرى.
فهذا الخلاف ليس خلافا في العقيدة هذا خلاف في فهم الأدلة، هذا الدليل أصح دلالته أو هذا دلالته أصح؛ لكن العقيدة كلتا يدي الرحمان جل وعلا يمين.
والصحيح عندي أنه لا يقال إن لله جل وعلا شمالا لأن الحديث الذي فيه الشمال إسناده ضعيف، مع أنه أثبتها بعض الأئمة كإمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في آخر كتاب التوحيد، وذكر في المسائل قوله إثبات اليدين لله جل وعلا، وبعد هذا قال التصريح بالأخرى أنها الشمال، وهذا معروف، وإليه يميل بعض مشايخنا الموجودين الآن حفظ الله الجميع ورحم الأموات.
المقصود هذه مسألة راجع إلى النصوص ليست خلافا في الاعتقاد، ولذلك حتى لما ذكر حتى الأولون هذه المسألة لم يذكروها خلافا. نكتفي بهذا
([127]) الرسالة النظامية مطبوعة باسم العقيدة النِّظامية، وصنفها لوزير نظام الملك، سميت نظامية نسبة إلى من صنفت لنظام الملك، أو للمدرسة النظامية أيضا التي نسبت أيضا للوزير نفسه الذي هو نظام الملك.
([128]) نقل فيما سمعتم نقلا عن العقيدة النظامية للجويني، وهو آخر النقول التي يريد منها شيخ الإسلام رحمه الله تقرير تتابع العلماء على نفي التأويل وعلى الإثبات.
والعقيدة النظامية على طريقة الأشاعرة، والأشاعرة في آيات الصفات والغيبيات على فرقتين: منهم من يؤول، ومنهم من يفوِّض المعنى. والمؤولة من الأشاعرة، والمفوضة أيضا من الأشاعرة.(18/261)
وفي هذا الكتاب أو في هذه العقيدة النظامية أو الرسالة النظامية جرى فيها على التفويض؛ تفويض المعنى، ويَظن أن هذا هو مذهب السلف.
وهذا كثير في المتكلمين الذين تابوا وتركوا طريقة أهل البدع والكلام إلى ما يظنونه طريقة أهل الحديث والسنة، يظنون أن طريقة السلف هي تفويض المعاني وترك التعرض لها، وأننا نثبت استواء لا نعلم معناه، ونؤمن باستواء لا نعلم معناه، ونزول لا نعلم معناه وهكذا في نظائرها، ويدان لا نعلم معناها، وهذا لاشك أنه شرٌّ من التأويل، التفويض شر من التأويل، لأن:
المؤول قال إن هذه الكلمات نزلت بلسان عربي ونفهمها باللسان العربي واللسان العربي أدى إلى هذا التأويل، فيكون غلِط من جهة أنه حمل اللسان العربي ما لم يحتمله، وأوَّل مع عدم ورود التأويل لغة أو جوازه شرعا.
وأما المفوض -مفوض المعنى- فإنه يزعم أن هذه الصفات الكثيرة جدا في القرآن والسنة أنه لا يعلم معناها، لها ألفاظ لا يعلم معناها، فهم داخلون في فرقة أهل التجهيل الذين يقولون نجهل المعاني، فعندهم أكثر القرآن مجهول المعنى، هذا فيه إبطال بما يلزم وإن لم يلتزموه، إبطال للاحتجاج بالقرآن ولكونه قائما على وصف الرب جل وعلا ووصف ما يستحقه سبحانه وذكر الغيبيات والجهة والنار وذكر الملائكة والأنبياء إلى آخره.
فإذن العقيدة النظامية هذه هذا على حالها، ولذلك طبعها وتحمس لها أول ما طُبعت الكوثري لاشتمالها على ما يُظن أنه مذهب السلف؛ ولكنه هو في الواقع مذهب أهل البدع قد قال قائلهم في جوهرته:
وكل نص أوهم التشبيه أوِّله أو فوِّض ورُم تنزيها
التأويل والتفويض كلاهما من مذاهب المبتدعة، من مذاهب المتكلمة، من مذاهب الأشاعرة وأشباههم.(18/262)
فتفويض المعنى ضد مذهب السلف، مذهب السلف يجرون الظواهر ويؤمنون بها على مواردها مثل ما قال؛ لكن لا يفوضون المعنى، الإيمان بها على مواردها يعني على ما وردت في اللغة، وهذا صحيح، ومعلوم أن ما يستحق الرب جل وعلا من الصفة التي وردت في الكتاب والسنة على كمالها وشمولها مع عدم مماثلته سبحانه لخلقه في اتصاف الصفة كيفية وتمام صفة وكمال معنى، فله من الصفات ما يستحقه سبحانه، وللناس للمخلوق ما يناسب ذاتهم الوضيعة.
لما فرغ شيخ الإسلام من هذا الأصل الهام، وهو كثرة إيراد النقول عن العلماء للتدليل على إبطال التأويل وعلى الإثبات، وأن القول في أمور الصفات وأمور العقيدة راجع إلى الأخذ من الكتاب والسنة وعدم التعرض لها بتأويل، وأن موردها مورد واحد لا يتعدد، وأن العقل ما هو أعلى بالفهم، وليس مصدرا لإبداء الحق، وإنما الحق في القرآن والسنة دون غيره، النقول التي من أول قرأنا إلى الآن علق عليها بعد ذلك، وختم هذه الرسالة بتأصيل المنهج العام للسلف في الاعتقاد بما نسمعه إن شاء الله.
([129]) وهذا منهج عام لإقامة الحجة وإيضاح المحجة في أبواب الدين كله، وهو أنه لا يلزم من نقل الناقل عن كتاب أنه يزكيه مطلقا، وقد ينقل عنه ما وافق فيه الحق تأييدا للحق وإن كان خالف الحق في غير ذلك، فلا يُعاب على من نقل من كتاب اشتمل على حق وباطل، إذا نقل ما اشتمل عليه من الحق.
وأيضا تكثير النقول عن الناس على اختلاف مذاهبهم هذا يفيد في أن الحق ليس غامضا؛ بل هو كثير، شائع، بيِّن.
وأيضا لا يلزم من اختلاف الناقل مع المنقول عنه أن يترك الاستفادة مما قاله.(18/263)
لهذا ينقل علماؤنا عن بعض المتكلمين، وعن بعض المفسرين الذين عليهم ملاحظات، كـ: ما ينقلون عن أبي السعود مثلا، وعن الرازي وعن القرطبي، وأشباه هؤلاء، الذين عليهم ما عليهم من ملاحظات في العقيدة؛ لكن ينقلون ما أصابوا فيه، فإذا أصاب القائل فإنه يُنقل عنه إذا احتيج إلى ذلك في تقرير الحق في مسألة ما، كما فعل شيخ الإسلام ها هنا.
فيقبل الحق ممن جاء به ولو كان كافرا.
كما قُبِل الحق من الشيطان في قصة أبي هريرة مع الشيطان في صدقة الفطر المعروفة، حيث جاء يأخذ فمسكه أبو هريرة، ثم جاء يأخذ فمسكه، ثم جاء يأخذ فمسك، ثم قال له: ألا أدلك على كلمة إذا قلتها كنت في أمان، أو عصمتك ليلتك كلها؟ إقرأ آية الكرسي كل ليلة فإنه لا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح. فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام «صدقك وهو كذوب» سَلِم بهذا التعليم، وأخذ به مع أنه من الشيطان.
كذلك النبي عليه الصلاة والسلام أقر إفادة اليهود والنصارى لنا بما فيه تنزيه رب العالمين وعدم التشريك به في قول من قال ما شاء الله وشاء محمد، فقال عليه الصلاة والسلام «قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد»؛ لأن اليهود قالوا: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تنددون.
كذلك قالت طائفة من النصارى: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تنددون. تنددون يعني بقول ما شاء الله وشاء محمد، فأخذنا هذا منهم مع أنهم ليسوا بأهل توحيد، هم أهل شرك وهم أهل التنديد الأعظم بالله؛ لكن ينطق الله بعض عباده بالحق وإن كان على الباطل في بعض أموره.
لهذا ذكر الأئمة -أئمة الدعوة رحمهم الله- وخاصة الشيخ محمد رحمه الله في مسائل كتاب التوحيد: أنّ صاحب الهوى يكون له فهم فيؤخذ من فهمه، فلهم ذكاء فيؤخذ من ذكائهم ما أصابوا فيه.
وهذه قاعدة عامة في طريقة الأئمة.(18/264)
فإذن فهذه النقول الكبيرة من مخالفين في العقيدة، ومن متكلمين، ومن أشاعرة فيما نقل شيخ الإسلام في هذه العقيدة الحموية تدلُّ على أن النقل لإقامة الحجة وللتكثير والإفادة منه عن من عليه نزعة اعتقاد باطل أنه لا بأس به إذا كانت الحاجة للنقل عنه قائمةً: إما في إقامة الحجة أو في تكثير من قال بهذا القول أو لغرض شرعي صحيح.
.. كلامي واضح؟، لا تبني على شيء في ذهنك، خذ الكلام مستقلا.
.. مرَّ معنا من هذا كثير، فيه إطلاقات!! هو لا يريد أن كل ما نقل صواب، هو مجمل ما نقل هو الرجوع إلى مذهب السلف، هذا بالاتفاق لكن فهمه هو لمنهج السلف هو الذي أخطأ فيه؛ لكن الاتفاق من كل من نقل عنهم شيخ الإسلام أن الرجوع إلى مذهب السلف هو الحق وهو الذي يجب، وعدم الخوض فيما لم يخض به السلف، هذه القاعدة الكلية للأمور الغيبية، أما فهمه هو لمذهب السلف، فهذا غلط منه لا يعود على القاعدة بالإبطال؛ مثل من يقول قاعدة حق ثم إذا جاء لتفسيرها أخطأ، هذا القاعدة تكون مقبولة وتفسيره يُرد، هذا مر معنا كثير، تعقبنا ما أورده أو ما نقل شيخ الإسلام في مواضع كثيرة أخطؤوا، فيه أغلاط في العقيدة وأغلاط في... نعم
([130]) فالظاهر أنه كتب رحمه الله تعالى كتب كتبا في ذلك، فمن أعظمها وأجلها قدرا في هذه المسائل كتاب درء تعارض العقل والنقل، أو كتاب العقل والنقل الذي قال فيه ابن القيم رحمه الله لما عدد كتب شيخ الإسلام، قال:
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له مثيل ثاني
يعني في وجود في زمان شيخ الإسلام من الكتب المؤلفة
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له مثيل ثاني
فرد فيه على أهل البدع على اختلاف أقوالهم على الفلاسفة وعلى الباطنية يعني في أصول مذهبهم وعلى المبتدعة وعلى نفاة الصفات وأمثال هؤلاء.(18/265)
كذلك كتاب الرد على الرازي في كتاب تأسيس التقديس؛ فإنه أيضا من الكتب العظيمة جدا في هذا الباب، فهو وكتاب درء تعارض العقل والنقل أعظم ما ألف في أبواب الصفات والغيبيات والعقائد بجملتها.
([131]) هذا شروع من شيخ الإسلام في رد الشبه على مذهب السلف.
فإن من الشبه التي وردت على مذهب السلف أن طريقة السلف في ذلك تؤول إلى التناقض، تؤول إلى أن بعضها ينقض بعضا ويخالف بعضا، وأن إثبات الظواهر لا يستقيم مع العقل، فبعضها يخالف بعضا من أساسه.
مثل الاستواء والمعية؛ فإذا قلنا الاستواء على عرشه، ?وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ?[الحديد:4]، فهذا وهذا مخالف، وإن الله قبل وجهك، ?فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ?[البقرة:115]، وأشباه ذلك. فيقولون هذا تناقض لو أثبتنا الاستواء لتناقضنا مع الآيات الأخرى، فعندهم أن الإثبات والإيمان بالظاهر يؤول على التناقض، وهذه من أعظم ما أُدْلِي به على مذهب السلف، وردها في هذه الرسالة وفي غيرها.
([132])هذا ظاهر الخطاب وحقيقته في هذا الموضع، أنها معية علم ليست معية ذات، نعم، وهو سبحانه مع خلقه جميعا بعلمه وإحاطته وإطلاعه وقدرته إلى غير ذلك من مقتضيات المعية العامة.
وكذلك هو مع المؤمنين والمحسنين والمتقين وأهل البر والإحسان، ومع أهل الصلاح، ومع أهل الإيمان بعامة بحسب مراتبهم في ذلك، للتوفيق والتأييد وما تقتضيه المعية الخاصة.(18/266)
ويدل على تأصيل المسألة بما ذكره شيخ الإسلام عليه رحمه الله أنَّ كلمة (مع) إنما تقتضي المقارنة المطلقة، ولو كان ثم بعد في الذوات، فالله سبحانه قال لعباده المؤمنين ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ?[التوبة:119]، (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) يعني في صفاتهم، أخلاقهم؛ الصدق في الإيمان، الصدق في الإخلاص، الصدق في العبادة، الصدق في السلوك، الصدق في امتثال الشرع، كونوا معهم؛ يعني مقارنين لهم في تلك الصفات، وإن لم يكونوا معهم بذواتهم، فإن كان معتزلا على رأس جبل فكن مع الصادقين.
وهذا يدل على أن المعية لا تقتضي مقارنة الذات للذات، لا تقتضي اختلاط الذات بالذات، وإنما تقتضي المقارنة.
ويقال أيضا فلان معه زوجه، وفلانة معها زوجها إذا كان عقد الزوجية باقيا، وإن كانت هي في بلد وهو في بلد؛ لأن المراد ما تقتضيه المعية من المقارنة في كل مقام بحسبه.
وهذا التفصيل العام لا بد أن تلحظه في كل مسائل الصفات، والمسائل الغيبية في الرجوع إلى المعنى اللغوي العام، والمعاني اللغوية العامة قد يمكن تفسيرها، وأحيانا لا يمكن لكل أحد أن يفسرها؛ لأن المعنى العام الكلي ليس له وجود في الخارج، إنما يوجد كليا في الأذهان، وفي الخارج يوجد مخصصا مضافا؛ يعني في الواقع يوجد مخصصا مضافا.
وإذا كان كذلك فتفسيره يغلب على ذهن الأكثرين حتى من أهل اللغة أن يفسره بما في الخارج لغرض التقريب؛ ولكن المعنى الكلي الذي يصدق على ما تراه وما لا تراه، هذا قد لا يوفق إليه كل أحد، ولهذا إذا جاء بعض الناس فتكلم في معنى الرحمة أو في معنى النزول أو في معنى الغضب أو في معنى الرضا أو في معنى الأسف أو في ما أشبه ذلك، ربما فسرها بما يراه في الخارج، فيغلبه الحس الذي يراه؛ ما يحسه وما اكتسبه من معارف على الأمر الكلي النظري الذي لا يوجد إلا في الذهن.(18/267)
ومعلوم أن الله جل وعلا في اتصافه بالصفات وما أثبت لنفسه في كتابه أو في سنة نبيه عليه الصلاة والسلام فإنه له أكمل المعنى سبحانه، أكمل المعنى للصفة، وأشمل المعنى وأعظمه وأنزهه، وهذا ما لا يمكن كل أحد أن يعبر عنه لغلبة النظر إلى الخارج خارج الذهن في التعبير عن المعاني.
هذا تنتبه له كثيرا لأن بعضهم يأتي إلى أفراد أهل السنة ممن ليسوا بمحققين أو ليسوا بمتمكنين بالعلم، فإذا اراد أن يثبت الصفة قال بيِّن لي معنى الغضب، بيِّن لي معنى الرضا، بيّن لي معنى المعية، فإذا أخذ في البيان ربما عجز لأنه لا يعرف القواعد الكلية للغة في تفسير الألفاظ، ولا المعنى الكلي المجرد عن الإضافة والتخصيص.
وهذا مما ينبغي التنبه له، وهذا مثال أورده شيخ الإسلام على ما يدخل ضمن هذه القاعدة في كلمة (مع)، فإن (مع) لا تقتضي في اللغة إلا اقترانا، وقد يكون اقتران ذات بذات، وقد يكون اقتران ذات بصفات، واقتران الذات بالذات قد يكون مع قربها، وقد يكون مع بعدها، وقد يكون مع اتصالها، وقد يكون مع انفصالها؛ لأنه هو الاقتران المطلق، مطلق الاقتران، مثل ما تقول سرت والقمر معنا والنجوم معنا إلى آخره، مع ديمومة ما بينك وبينه.
إذن فالرجوع إلى المعنى الكلي بشرط كونه كليا، هذا من أعظم الحجج في رد التأويل؛ لأن الخارج خصص وأضاف، والمعنى الكلي يضاف على الله جل وعلا بما تستحقه ذاته على قاعدة ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].
وعلى العموم هذه المسائل لها إن شاء الله بسط آخر في موضعه، وتحتاج إلى بصر عميق في اللغة في دلالاتها دلالات الأفراد والمعاني الكلية ودلالة الوضع وأشباه هذه العلوم.(18/268)
.. أنا ما أعلم كتابا من كتب اللغة تكلم على الكليات بشرط كونها كليات، ما فيه؛ لأنهم يريدون أهل اللغة إيضاح المعاني التي يستعملها الناس، والناس إنما يستعملون كلامهم، ويستعملون في أشعارهم وخطبهم، وجاء أيضا في كلام العرب الأولين وفي كلام الناس المتأخرين جاء في كلامهم ما هو في الخارج، ما هو واقع أمامهم؛ يعني المعاني المضافة المخصصة، فلذلك يأتي التفسير للمعاني المضافة المخصصة؛ لكن الفقيه في اللغة قد يأخذ من أصل الاشتقاق معنى كلي.
والكتب المؤلفة في هذا الباب في اللغة بعضها يصيب في المعنى العام، وبعضها يغلب عليه التخصيص مثل ما ذكرت لك لأجل الإفادة، لأن المعنى العام نظري، فتحديده لا حاجة إليه، والإيمان بصفات الله جل وعلا إيمان لما اشتملت عليه من المعنى الذي تعرف مطلقه، أما المعنى المطلق الكامل فهذا كلي، البيان له يحتاج إلى علوم كثيرة.
.. نحن الآن رجعنا للخارج؛ لكن المعنى الكلي يمكن أن يُفسر، لكن يصعب على الأكثرين أن يفسروه، أما تفسيره هو كلمة [...] لابد لها معنى –واضح؟- لابد أن يكون لها معنى عام.
.. المضادة ما هي تفسير، المضادة ليست بتفسير.(18/269)
يزيد الإشكال في المعاني الكلية إذا كان بحثا عن الصفات النفسية في الإنسان، إذا كان -ليست الصفات الظاهرة- يعني التي يُرى أثرها مثل ما ذكرت ولا ترى فيها؛ يعني مثل اليد الأصابع مثل النزول، مثل الاستواء، مثل الهرولة إلى آخره، مثل السمع والبصر هذه كلها، القدرة الكلام هذه كلها يمكن تفسيرها بوضوح؛ لكن قد لا يمكن كل أحد تفسيرها بالمعنى الكلي؛ لكن المعاني القلبية في الإنسان، المعاني النفسية في الإنسان، إخراج معنى كلي يشمل المعنى بشرط كونه كليا مطلقا هذا صعب على الأفراد، لكن ما يقال ما لها تفسير لها معنى، الغضب، تكون أنت من نفسك تعرف الغضب وتعرف أنك غضبت، ثم تظهر آثار الغضب، فهذا الغضب الذي تعرفه من نفسك قبل ظهور آثاره هو أصله الذي يناسب المخلوق، ولله جل وعلا كمال ذلك بغير مماثلة للمخلوق، وهذا تفسير بالواقع؛ يعني إرجاعه لما يعرفه من نفسه، أما بالتفسير اللفظي الغضب والرضا وإلى آخره، الذين فسروه، فسروه بأشياء ترجع إلى الخارج، والخارج كما هو معلوم بما رأوا، والله جل وعلا لم يروه ولم يعرفوا كيف يتصف بصفاته، لذلك لم يفسروا هذه الألفاظ نعني علماء اللغة.
الآن يذكر شيخ الإسلام تفصيل لهذا.
([133])هذا إرجاع كلمة الربوبية إلى التربية.
وهذا أحد وجهي التفسير لها أن الرب هو الذي ربَّى الخلق بنعمه.
والتفسير الثاني المشهور أن الرب هو السيد المطاع، فالرب هو المالك هو السيد المطاع.(18/270)
.. دائما في الإنسان تكثر، حتى في أمورك العادية، من ليس دقيقا يرى حالة فيعممها وهذه كثيرة، قد يكون التعميم مع سلامة قصد، وقد يكون تجني يرى حالة حالتين يقول هذا كذا أو باين كذا أو أكيد كذا وأنه رأى مرة أو مرتين، مع أن النظر المطلق النظر الكامل يقتضي احتمالات أكثر من هذا، فلا يسوغ تعميم شيء برؤية بعض أفراده حتى يكون الاستقراء تاما أو أغلبيا؛ لأن الاستقراء حجة إذا كان تاما أو أغلبيا؛ لأنه ما من قاعدة إلا ولها شواذ يعني واحدة ثنتين ثلاث تخرج عنها. فإذا كان ثَم استقراء تام أو أغلبي يمكنك أن تقول: هذا كذا أو هذا داخل في كذا إلى آخره، أما إذا كانت واحدة أو ثنتين أو جاء إلى الذهن أو غلب على الظن حالة معينة، ويريد أن يؤول المعنى لها أو يحوِّل الوجهة لها، فهذا ولا شك أنه تجني، وهذا من التجني العلمي، وهذا يؤدي إلى اختلاط العلم بالجهل، كثير من الأخطاء التي أخطأ فيها الناس من أحكام وفي الرقى وفي أحوالهم جاءت من هذا القبيل، يتبادر إلى الذهن حالة معينة أو احتمال، فيعمم هذا الاحتمال يجعله واحدا، يجعله أكيدا، يجعله قطعيا، ثم تنتهي إليه.(18/271)
وإنما العاقل ينظر إلى احتمالات كبيرة، ولهذا يأتي نظر المتبصر في كل فن بفنه، المتبصر باللغة يكون نظره واسعا عن من لم يكن متبصرا باللغة، الفقيه يكون نظره أوسع من المتفقه الذي عرف مسألة مسألتين عشرة مائة، يظن أنها هكذا؛ لكن ذاك يأتي في مسألة تصير واسعة عنده يعني واسعة النظر، فيقارن بين هذه وهذه يجمع بين هذه وهذه، ويفرق، يأخذ بالقواعد إلى آخره؛ يعني أن صاحب الاختصاص يتسع أفقه في النظر إلى الشيء، في النظر إلى مسألة، بحيث إنه عند غيره لا يخطر له على بال أن تكون المسألة بهذه السعة كلها، ولهذا طالب العلم على العموم يكون دقيقا في تعبيره عن العلم، هذه دائما أوصيكم بها أن تكون في تعبيرك عن العلم دقيقا، وأن لا تعبر عن العلم بما تحسه من نفسك، حتى تكون عندك عليه حجة، ودائما تنظر إلى المطلقات العامة حتى يسع كلامك الزمان الذي أنت فيه والزمان الذي يأتي، لا تخصص شيئا بغير تخصيص جازم له، تقول هذا هو كذا، لا في المكتشفات ولا في الأمور العادية، يكون المرء أوسع، فلا يتكلم بشيء إلا بحجة واضحة، لا يقيد حتى يأتيه حجة في التقييد؛ لأن المؤمن بل لأنّ طالب العلم أو العالم ربما أُخذ كلامه على أنه حجة للشريعة أو على الشريعة، فقد يقال: هذا شوف كلامه. مثل ما قيل في أزمنة مضت بعيدة وقريبة في أشياء كثيرة.
فطالب العلم دائما ينظر إلى الأمور المطلقة من حيث هي، سواء في الصفات التي يعرفها أو في الصفات التي لا يعرفها، ينظر لها مطلقة، ثم بعد ذلك ينزل منها إلى التخصيص، ويفهم أن هذا التخصيص لا يعارض الإطلاق؛ بل هو بعضه، [انتهى الشريط التاسع] فيقيد في كلامه يعرف أنه ما تجاوز القدر العلمي الحق في نفسه؛ لأنك إذا كنت متجردا لم يصاحبك في نظرك إلى العلم هوى أو عجلة فإنك تصيب، أما إذا صاحبك في نظرك للعلم هوى أو تعجُّل فإنك تخطئ العلم ولا بد، سواء من ذلك المسائل النظرية أو المسائل العملية.(18/272)
فينتبه طالب العلم لهذا دائما في أن يكون نظره وأفقه واسعا في النظر للمسائل العلمية والمسائل العملية، ولا يحكم بشيء إلا بحجة.
ولهذا يكثر من الأئمة تكثر الوصية بالاحتجاج بالكتاب والسنة والرجوع إلى القرآن والسنة فهو من الحق المطلق الذي لا يخطئ من استدل به؛ لأن فيها الحق الذي هو الحق، أما إذا أتى نظر الناس وعقل الناس إذا كان مستقلا فإنه لابد أن يخطئ، وإذا كان راجعا للكتاب والسنة بفهمها فإنه يصيب في ذلك.
على العموم هذه مسائل نظرية فتحها الأخ عبد الرحمن -جزاه الله خيرا- ينبغي الانتباه لها؛ الدقة في الألفاظ، طالب العلم لا يقول شيء إلا وهو مفكر فيه، في دلالته أبعاده بقدر الإمكان، ولابد أن يخطئ مع ذلك لأن البشر لابد أن يخطئ؛ لكن يكون خطؤه قليلا، أما إذا توسع كل ما جاء في باله قاله بدون قواعد عقلية وقواعد نظرية ولا حجج، هنا يصير الخلاف كثير وتكثر الأقوال في الشريعة.
لهذا قال ابن الجوزي أو قال غيره: لو سكت من لا يعلم لقلَّ الخلاف، لو سكت من لا يعلم من أول الزمن إلى يومنا هذا، لو سكت من لا يعلم لقل الخلاف، يصير الخلاف محدودا لأن الميدان الذي يمكن فيه الخلاف قليل جدا المسائل التي يمكن فيها الخلاف قليل؛ لكن خاض من لا يعلم فاتسع الخلاف، سواء في ذلك المسائل الفلسفية العقلية المجردة، أو المسائل الحياتية أو المسائل الشرعية، إلى آخره.
([134]) الألفاظ دلالتها على معانيها -يعني عند أهل اللغة مع تنازع فيما سأذكر- راجعة في كلامهم إلى: تواطؤ ترادف تخالف مشتركة، هذه: متواطئة مترادفة متخالفة مشتركة.
وفي المتواطئ يدخل المشككة هذه أربع بس، تواطؤ ترادف تخالف تشارك إلى آخره، فيه منازعة فيها منازعة تحقيقية لغوية. نذكرها بَعْدِين.
تذكر هذه الأربع في مقدمات أصول الفقه تذكر هذه الأربع والفرق بينها إلى آخره.(18/273)
([135]) وهذا صحيح هذا تحقيق وهذا هو التحقيق، الترادف غير موجود، والاشتراك قليل، والتواطؤ غالب، هذا هو التحقيق في الألفاظ.
.. متواطئة في اللفظ، اللفظ واحد لكن المعنى مخصص.
([136]) سبحان الله العظيم، الأرض بالنسبة للسماوات كما هو معلوم صغيرة، كل سماء تحيط بالأرض، سماء الدنيا تحيط بالأرض، ثم السماء التي بعدها طبقة فوقها، ثم السماء التي بعدها طبقة فوقها، فهي طباق، والسموات والأرض وسعها الكرسي ?وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ?[البقرة:255]، وهي كحلقة ملقاة في ترس، أو كحلقة ملقاة في فلاة، والسموات السبع بالنسبة للكرسي كدراهم سبعة، يعني تناهي في الصغر، مثل ما تأتي إلى نقطة صغيرة وتحطها وسط كرة كبيرة، فهي الكرة لو كانت بعيدة عنها، مثلك أنت الآن السماء، الآن السماء أمامك ولكنك أنت متناهي في الصغر، وين رحت السماء أمامك، رحت يمين السماء أمامك، رحت شمال السماء أمامك، وهذا مثل من مخلوقات الله جل وعلا ولله المثل الأعلى في ذلك.
يبين لك أن هذه الحقائق التي جاءت في النصوص حق على ظاهرها؛ لكن مشكلة البشر أنهم لا يعقلون من الحقائق إلا ما أدركوه بحواسهم، هذا يعطل باب الإيمان بالغيبيات، الغيبيات مطلقة والحواس مقيدة، فلا يجوز الحكم على المطلق بالمقيد في هذه الأمور، ما أطلق شيء ماله حدود، كيف تقيده بما له حدود، فإذن الأرض كلها صغيرة بالنسبة للسموات صغيرة بالنسبة للكرسي، والكرسي بالنسبة للعرش كيف مقامه والله جل وعلا قدرته وعظمته، فإذن صارت الأرض بمن عليها متناهي في الصغر.
.. لا، هذا يقول إنّ عرشه على سمواته بس، قال: ويحك أنظر ما تقول، شأن الله أعظم من ذلك، إنّ عرشه على سمواته كمثل القبة وأشار أو هكذا، قال إن عرشه على سمواته هكذا، وأشار بيديه، لهذا العرش على السموات وأشار.(18/274)
ظاهر الحديث ضعيف، الحديث مضطرب فيه اضطراب؛ لكن المعنى هو هذا، لذلك العلماء يقولون في العقائد العرش على السموات كالقبة، العرش على السموات كالقبة، طبعا لا يعني كالقبة أنها أصغر منها، لا، الآن السماء على الأرض قبة يعني بمعنى أنها هكذا، والأرض بالنسبة للسماء صغيرة، يعني لا يفهم من كون العرش على السموات كالقبة، أن السموات أكبر منه، لا، أو أن القبة صغيرة، لا، هذا شكله؛ شكله كالقبة. نكتفي بهذا القدر، وفقكم الله، لما يحبه ويرضى.
([137]) هذا الموضع وهو الكلام على المعية، أو الكلام على ما يصح أن يُقَرَّبَ به وصف الله جل وعلا -والله سبحانه له النعت الأعلى- يمكن أن تَضرب له كثيرا من الأمثلة على ما جاء في الكتاب والسنة، فإنّ الله سبحانه ضرب الأمثلة العامة التي تقرب صفاته سبحانه سواء كانت صفات الربوبية أو الألوهية أو الأسماء والصفات بعامة.
وهنا قال (لله المثل الأعلى) وهذا منزع من الآية فإن الله سبحانه وتعالى ?لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى?[الروم:27]، ومعنى المثل الوصف والنعت الأعلى فالله سبحانه له المثل الأعلى يعني الوصف الأعلى والنعت الأعلى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب الأمثال، والله له المثل الأعلى، وهذه ينبغي إذا قُرِّبَ شيء من ذلك مما يتعلق بحق الله جل وعلا فيقال له سبحانه ولله المثل الأعلى في ذلك، تنزيها له سبحانه عن أن يكون ثم مثل أو وصف يطابق ما هو عليه سبحانه من كل جهة، ولهذا قال سبحانه ?ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ?[الروم:28] إلى آخر الآية.(18/275)
وقال سبحانه ? فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?[النحل:74] فالأصل أن ضرب الأمثلة يعني الأوصاف التي تقرب ما لله جل وعلا من ربوبية وألوهية وأسماء وصفات وأشباه ذلك أنه لله جل وعلا ولرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قال (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) لكن يسوغ لأهل العلم العالمين بالله جل وعلا وبما يستحق أن يضربوا مثلا في ذلك زائدا عما جاء في النص في أمثلة الكتاب والسنة إذا كان ذلك ظاهرا في ..... عندهم إذا كانوا من العلماء الراسخين في الدين.
وهذه الكلمة (ولله المثل الأعلى) المثل الأعلى يعني الوصف الأعلى، إذا كان كذلك فلا يجوز أن يُطلق أحد أنه مثل أعلى لك، لا في أمورك ولا في سلوكك، مثلا يقال من مثلك الأعلى؟ فيقال مثلي الأعلى فلان من الصحابة، أو من العلماء أو نحو ذلك المثل الأعلى هو الله جل وعلا، فلا يجوز أن يقال فلان هو المثل الأعلى؛ لأن الأعلى هو الرب سبحانه، والوصف الأعلى هو وصف الرب جل وعلا، فلله الأسماء الحسنى والصفات العلا، وهذا هو الصحيح في إطلاق مثل هذه الكلمة.
المقصود ليس هذا، المقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب لنا أمثلة في ذلك، منها قوله عليه الصلاة والسلام في رؤية القمر «ما منكم من أحد إلا وسيرى ربه كما يرى أحدكم القمر ليلة التمام» هذا في روايات مختلفة ساقها ابن تيمية هنا بعض الألفاظ فيها.
فإذن المثل هنا تعلق للرؤية، شبّه المقال الرؤية بالرؤية، وإن كان المرئي غير مشبه بالمرئي.(18/276)
وهذا يُقَرِّب لك مسألة المعية التي غلط الناس فيها، كذلك في الصفات جميعا، فإنّ المعية لا تقتضي إذا قلنا إنّ الله جل وعلا معنا سبحانه حقيقة لا تقتضي أن تكون معية ذاتية، ولا أن تكون معية كمعية الفرد للفرد؛ لأن القمر مع المسافر وغيره؛ ولأن الرب سبحانه سيُرى يوم القيامة كما يرى القمر يشترك فيه الجميع مع علوه سبحانه وتعالى في الرؤية، وكذلك علوه سبحانه وتعالى في المعية.
المقصود من هذا أن المعية إذا أثبتت فإنها تثبت على ما دل عليه معناها في لغة العرب، ومعناها في لغة العرب لا يدل على اختلاط، ولا على مماسة، ولا على قدر زائد عن الاشتراك أو الاقتران، والاقتران هذا يكون كما ذكرنا اقترانا في الصفات كما قررناه لكم سابقا.
كذلك في غير المعية مثل الرؤية التي أنكرها المعتزلة أصلا، أو أنكر كونها في جهة الأشاعرة، فإن التمثيل كان تمثيلا للرؤية بالرؤية، وتمثيل الرؤية بالرؤية هذا يقتضي أن الرؤية حق وأنها في جهة، وأن ذلك كما يليق بالحق جل وعلا «ما منكم من أحد إلا وسيرى ربه»، وقال «سترون ربكم كما ترون البدر ليلة التمام لا تضامون في رؤيته» وأشباه ذلك.
([138]) (أحدا) لأنها مفعول به، وهذه كلام شيخ الإسلام غريبة، فما يمكن أحدا نقل، مثل ما تقول ما يمكنني فعل ذلك، لا يمكنني فعل كذا، الاسم الظاهر أو الضمير إذا اتصل بيمكن فإنه يكون مفعولا به ثم الفاعل يأتي بالمصدر.
([139])لم تَدُلَّ إذا جاء الفعل المشدد الآخر ودخل عليه جازم فيفتح تقول لم تقرَّ قرَّ دخلت عليها لم؛ لم تقرَّ أعين الأعداء، لم تدلّ الأدلة، علَّ؛ لم تعُلَّ، نصَّ؛ لم ينصَّ أحد من أهل العلم على ذلك، الفعل المشدد الآخر إذا أدخلت عليه جازما يعني جازما من أنواع الجوازم لم إلى آخره كل هذا يفتح فهو يفتح لالتقاء الساكنين فهو لم يضم لأنه لو ضم نفى دخول الجازم ولم يكسر لأن الفعل لا يدخله الكسر والسكون ممتنع، فلجؤوا إلى الفتح ولأنها أخف الحركات.(18/277)
([140]) هذا الكلام يحتاج إلى بسط طويل وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى أجمل وفصل هذا في مواضع كثيرة من كتبه كما فصله قبله أئمة أهل العلم.
وتقرير هذا الموضع أنّ الكلام في الظاهر من نصوص الصفات ما هو؟ وقول من قال من الناس: مذهب السلف إمرارها أو إقرارها على ما جاءت مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وبيان ما في هذا القول من المنافاة لمذهب السلف، وذلك لما فيه من الإجمال أو الغلط، هذه كلها مسائل تحتاج إلى بيان طويل.
لكن خلاصة ذلك أن تنتبه إلى أصل هذه المسألة، وأصلها راجع إلى دلالات الألفاظ في اللغة، ودلالات اللفظ في اللغة على ثلاثة أقسام:
إما أن يدل اللفظ على المعنى بلا تخلف لأي فرد من الأفراد، هذا يسمى النص.
وإما أن يكون دلالة اللفظ على المعنى أو على أفراد المعنى ظاهرة، وهذه قد يتخلف فيها بعض الأفراد؛ يعني احتمالا لغويا، هذا الذي يسمى عندهم حقيقة اللفظ وظاهر اللفظ، والحقيقة يقابلها المجاز، والظاهر يقابله عندهم -يعني عند المتأخرين- التأويل.
والثالث المجمل الذي لم يستبن معناه، يحتمل هذا ويحتمل هذا ويسمى مجملا.
فإذن الألفاظ:
إما أن تكون نصا.
وإما أن تكون ظاهرة، وهذا الظاهر الثاني قد يكون حقيقة التي يقابلها المجاز، وقد يكون ظاهرا الذي يقابله التأويل.
والثالث قد تكون مجملة.
والصفات صفات الله جل وعلا دائرة ما بين كونها نصا وما بين كونها ظاهرا، فبعضها نص لا يحتمل التأويل، واستفادة التنصيص قد يكون من دليل واحد وقد يكون من مجموع أدلة:
فمثال الدليل الواحد كقوله سبحانه ?اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[الأعراف:59، 65، 73، 75، هود:50، 61، 84، المؤمنون:23، 32]، هذا نص صريح في عموم بطلان الآلهة جميعا بلا استثناء، وإثبات العبادة الحقة في الله جل وعلا، هذا إذا كانت من دليل واحد.(18/278)
إذا كانت من مجموع أدلة مثل صفة العلو لله سبحانه، ومن مثل صفة اليدين لله جل وعلا، وجميع الصفات الذاتية، الرحمة صفة الوجه وأشباه ذلك لله جل وعلا، فإن هذه تنصيصية لا تحتمل غيرها؛ لأنها جاءت بها أدلة كثيرة تنفي الاحتمال الذي قد يعرض -طبعا نعني بالاحتمال الاحتمال اللغوي، لا الاحتمال العقلي- تنفيه وتحدد المراد لو كان ثم احتمال في اللغة.
فهذا وجه مجيء التنصيص أو كيف نعرف أنها نص ولذلك من أنكر ما نُصَّ عليه، وقولنا نُصَّ عليه يعني ما صار اللفظ دالا على مراده بالنصية فإنه كافر، إلا إذا كان ثم شبهة قوية عرضت، مثل ما عرض لنفاة العلو ما عرض، وكثير من أهل العلم يكفر من أنكر علو الرحمن جل وعلا على خلقه.
والثاني من الألفاظ؛ الألفاظ التي دلت على المعنى لما هو دون النص وهو الظاهر، وهذا -كما ذكرت لك- قد يكون من جهة –يعني عند المتأخرين– جهة الحقيقة، قد يكون من جهة الظاهر، وتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، وظاهر ومؤول، هذا اصطلاح حادث وإلا فكلام العرب يدل على معناه إما بنصية وإما بظهور، وهذا الظهور قد يكون من جهة الحقيقة وقد يكون من جهة الظاهرية، كما أن النص يكون حقيقة لا غير.
إذا تبين لك ذلك، فالظهور هنا إذا قلنا دل ظاهر المعنى على كذا فإن كلام العرب دال على ما اشتمل عليه المعنى بظاهره وبحقيقته، ولكن الحقيقة والظاهر تنقسم إلى حقيقة إفرادية وحقيقة تركيبية، وكذلك الظاهر إلى ظاهر إفرادي وظاهر تركيبي؛ يعني ما نستفيد منه المعنى يعني من الألفاظ بلفظ واحد، فهذا يسمى حقيقة إفرادية، وبالسياق أو بأدلة مختلفة فهذه تكون تركيبية.(18/279)
كذلك الظاهر كقوله مثلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ?[الفرقان:45]. (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) هنا (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) هذا فيه إضافة الرؤية إليك توجه إلى الرب جل وعلا، ومعلوم أن ذلك غير مراد، وهذا لا يعني تأويلا أو صرفا عن الظاهر؛ بل ظاهر الكلام أن المراد، ظاهر الآية أن المراد هو رؤية قدرة الله جل وعلا وآثار صنعته في خلقه، لأنه قال بعدها (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، وكقوله جل وعلا في آية النحل ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26] ليست هذه من آيات الصفات فيها الإتيان؛ لأن المقصود هنا إتيان صفات الله إتيان قدرة الله جل وعلا لقوله بعدها (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) هذا يقال له حقيقة تركيبية أو الظاهر المركب وهو الظاهر الذي يفهم من السياق.
فكلام العرب يفهم على حقيقته يفهم على ظاهره والظاهر معناه المعنى الذي دل عليه اللفظ على ما ذكرت لك، وهذا كما ذكرت يحتاج إلى تفصيل طويل في شرحه وبيانه؛ لأنه يجمع ما بين العقيدة والأصول.
التنبيه الذي يلي هذا على هذه المسألة التي تكلم عليها شيخ الإسلام أن من تكلم في أن الظاهر غير مراد نظر إلى المعنى الإضافي، فقال إن الظاهر غير مراد. والآيات التي في الصفات والأحاديث التي في الصفات أو في الغيبيات عموما لا يُنظر فيها إلى المعاني الإضافية؛ لأنه إذا نظر فيها إلى المعاني الإضافية كان ثم تمثيل أو تشبيه مذموم، وإنما ينظر فيه إلى المعنى الكلي الذي لا يدخله التخصيص أو لا تدخله الإضافة، فإذا نُظر إلى المعنى الكلي لظهوره أضيف إلى الرب جل وعلا ما يليق به سبحانه وتعالى وتقدس وتعاظم ربنا.
وهذا المعنى الأصلي أو الكلي قد يكون بالوضع معروفا، وقد يكون بكلية تقعيدية في اللغة يُنَصُّ عليها، والوضع الأول كما هو معلوم الوضع الأول هو الأصل في اللغة، والوضع الأول على قسمين:(18/280)
وضع أسماء وهذه قد علمها الله جل وعلا آدم في أصل اللغة التي تكلم بها آدم، ثم تشعبت إلى لغات أهل الأرض على اختلاف بينهم في الألفاظ؛ لكن على اشتراك في الدلالات ?وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا?[البقرة:31].
ثم المعاني والاشتقاقات والأفعال والمصادر وتنوع الدلالات فهذا يختلف باختلاف أهل الأرض في لغاتهم وقواعدهم ولهجاتهم إلى آخره.
فإذن الوضع الأول من جهة الأسماء يمكن أن يُعقل؛ لكن من جهة المعاني فإنه -كما ذكرت لك- مبني على أن المعاني لم تُعَلَّم، فإذن صارت راجعة إلى الناس في مواضعتها، والناس فيها توضعوا عليه يرجعون فيما تواضعوا عليه إلى ما أدركوه؛ يعني إلى ما جعلوه مضافا مخصصا بخلاف المعاني الكلية فإنهم لا يدركونها، ولهذا صار هناك فرق ما بين الأسماء والمعاني فيقع الاختلاف في المعاني كثيرا، وأما في الأسماء فيقل الاختلاف.
فإذا ذكر الوجه وذكرت اليدين وأشباه ذلك من الصفات التي هي راجعة إلى الأسماء -يعني أسماء أشياء ليست مصادر ولا معاني- فهذه تجد أن الخلاف فيها -يعني حتى مع المخالفين الخلاف فيها مع المخالفين قليل-؛ لأن هناك من يثبتها وإنما يأتي الكلام في المعاني، مثل صفة الرحمة والغضب والرضا والنزول والاستواء إلى غير ذلك من الصفات، وهذا سببه كما ذكرت لك أن المعاني كلية ينظرون فيها إلى ما تواضع عليه طائفة من أهل اللغة أو من الناس أو من العرب المتقدمين مع أن كلامهم إذا ورد فإنه يرد مخصصا مضافا وقد يرد أمثلة من المعاني الكلية تستنبطها.(18/281)
نذكر مثالا لذلك: مثل لفظ الجناح كلمة جَناح هذه جعلها المتأخرون أصلا في الطاهر قالوا الجناح حقيقة في الطائر؛ لأنه هو الذي له الجناح، وأما الإنسان فتشبه يده بالجناح أنها كجناح الطائر من جهة الاستعارة، ويجعلون قوله تعالى ?وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ?[الإسراء:24] الجناح هو اليد أو اليدين هذا على جهة الاستعارة، وذلك لأنهم جعلوا الجناح الذي هو من الأسماء ولكنه في الأصل معنى جعلوه صادقا على الطائر دون غيره.
وفي الحقيقة هو راجع إلى المعنى لا إلى الاسم، وذلك لأن لفظ جَنَحَ يَجنح جنوحا والاسم منه الجَناح والجُناح هذا كله راجع إلى الميل.
فالمعنى الكلي الذي يتفرع منه بأنواع الإضافة والتخصيص وما يناسب الأعيان المختلفة هذا راجع إلى الميل فقال جل وعلا ? وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ?[الأنفال:61] يعني مالوا إليه ?لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ?[الممتحنة:10] يعني لا ميل عن الشريعة، لا ميل عن طاعة الله، لا إثم عليكم في ذلك لاحظنا هذا من جهة المعنى.
فجاء من جهة الاسم أطلق على ما كان يميل من أعضاء المخلوق، أطلق عليه جناح في الطائر، لأن بدن الطائر الأصل فيه الاستقامة ولا يميل نفس البدن، وهذا الجسم الذي يميل يذهب ويجيء سمي جناحا في الطائر، وأيضا في الإنسان ويصدق عليه هذا الاسم فهو جناح، جناح فيه، ولهذا قال جل وعلا لموسى ?وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ?[القصص:32] فسمَّى اليد جناحا، وقال في موضع آخر ?وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ?[طه:22] يعني إلى جنبك وأشباه ذلك فهذا كله راجع إلى أصل المعنى.(18/282)
فإذن تنتبه إلى أن هناك أسماء قد تكون أسماء من جهة اللغة؛ لكنها من جهة الاشتقاق جُعلت أسماء برؤية المعاني، وهذا يبين لك أن [انتهى الوجه الأول من الشريط العاشر] قاعدة الحقيقة والظاهر هو الأصل عندنا في جميع ما يفهم من اللغة وفي التفسير، وهذا يرجع إلى انقسامها إلى أسماء مما علَّمها ربنا جل وعلا آدم، وأنه علمه بلغة غير اللغة العربية كما هو معروف؛ لكن نقول من حيث الألفاظ تغيرت؛ لكن من حيث الدلالات دلالات الأسماء بقيت لأن المسميات موجودة لكن الألفاظ التي يعبر بها عن المسميات اختلفت، ثم المعاني التي اشتقت للأشياء، اشتقت للأسماء؛ المصادر، أسماء اشتقت من المعاني يعني معناه أنها ليست أسماء جامدة.
وهذا موضع يحتاج أيضا منك إلى توسع فيه لأنه هو العمدة في فهم إبطال التأويل، هو العمدة في إبطال المجاز، هو العمدة في إبطال دعوى من قال إنَّ الوضع الأول هو كذا؛ لأن الوضع الأول لا يُعلم، إن كان معاني كلية وفُسِّرت بالتخصيص والإضافة، فنعلم أنها ليست الوضع الأول، الوضع الأول فيها غير مسلم به، وإن كانت من جهة الأسماء التي لا يدخلها اشتقاق، عرفنا أن هذه تدخل فيما علمه الله جل وعلا آدم على اختلاف في ذلك.
إذا تقرر لك هذا، فإن قول من قال ظاهر الآيات والأحاديث غير مراد، فهذه الكلمة محتملة إن قال ظاهرها غير مراد ويريد بهذا الطائر الذي هو غير مراد بالتمثيل فإن هذا صحيح، ظاهرها الذي يبدو للأذهان السقيمة من أن ثم فيها تمثيل صفات الله بصفات خلقه، فإن هذا لاشك أنه غير مراد، وإذا قلنا قال الله جل وعلا ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، فتصور أن الظاهر من يدي الرحمن جل وعلا كيدي المخلوقات فهذا باطل قطعا، نقول ظاهرها غير مراد قطعا؛ لأن الرب سبحانه ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، كذلك في صفة الوجه وفي غيرها من الصفات للرب جل وعلا.(18/283)
وإن كان المراد من تلك المقالة أن الظاهر غير مراد يعني أن الظاهر الذي فيه إثبات الصفة غير مراد حتى تُؤوَّل، فلاشك أن هذا لا يجوز أن ينسب للسلف، ولا أن يحكى عن السلف أصلا؛ لأن السلف أثبتوا ما دلت عليه الآيات والأحاديث دون دخول في التفسير الذي يخرجها عن معناها الظاهر.
وبالجملة وكما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله -فيما سمعتم- هذه المقالة مقالة خاطئة ولا يسوغ أن تستأنف لقول القائل ظاهرها غير مراد؛ لأنّ الظاهر مراد، والظاهر ليس الذي فيه التمثيل؛ لأن الله الذي وصف نفسه بهذه الصفات هو الذي قال ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11]. فمن صرفها عن ظاهرها فلأجل سوء في فهمه وسوء في عقيدته؛ لأنه أولا مثَّل وشبَّه ثم بعد ذلك أوّل وصرف عن الظاهر.
وكذلك الحقيقة كل نص فهو حقيقة وظاهر في الدلالة على معناه، وظاهرها مراد، وقول القائل وظاهرها غير مراد هذا غلط ولا يصح أن ينسب إلى السلف.
ومن أجله قال من قال إنه لا فرق ما بين التأويل والتفويض، لا فرق ما بين مذهب المؤولة ومذهب السلف -كما يزعمون-؛ لظنهم أن مذهب السلف أيضا أنه ينفي المعنى اللائق بالله جل وعلا ويكون المعنى غير مراد وكذلك أهل التأويل يقولون المعنى غير مراد على ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.(18/284)
المقصود من هذا أن هذه المسألة كبيرة جدا، وهي أصل باب الكلام في الصفات، وأصل الكلام مع المخالفين، وهي مرتبطة بمباحث لغوية وأصولية وعقدية والجمع بينها يحرر المقام ويتَّضح به حقيقة قول السلف وقوة قول السلف رحمهم الله، وضعف قول المخالفين في المسائل، لا من جهة لغوية، ولا من جهة أصولية؛ ولكن على التحقيق، ولكن جاء الخلط والغلط من جهة أن المتأخرين درجوا على فنون وعلوم أصلوها وجعلوا لها ألفاظا ومصطلحات وصاروا يحملون الشريعة أو يحملون لغة العرب -التي هي قبل ورود هذه العلوم والمصطلحات- يحملونها على قول من تأخر في اصطلاحاتهم فيجعلون كلام العرب منقسم إلى حقيقة ومجاز وظاهر ومؤول إلى آخره، بناء على تقسيماتهم، مع أن كلام العرب كان قبل هذه التقسيمات ولم يخطر ببالهم أصلا أن ثم مثل هذه التقسيمات حين تكلموا بما تكلموا.
وهذا كثير في استعمالاتهم مثل كلام في الوضع الأول هو كذا، وهذا استعارة لأن أصل المعنى هو كذا، ويمكنك أن تنازع في كل موضع يخالف ما عليه أهل التحقيق في أصل ما قالوه بقولك: من قال هذا؟ قالوا والوضع الأول كذا، من قال لك إن الوضع الأول كذا؟ ما فيه دليل عنده إلا نقل، الوضع الأول يعني ما تواضع عليه الناس ما تواضع عليه العرب ما تواضع عليه أهل اللغة، وهل أهل اللغة اجتمعوا في مؤتمر -يعني في الزمن الأول- اجتمعوا في مؤتمر أو في مجتمع عام وقالوا نضع لهذا المعنى كذا ونضع لهذا المعنى كذا يعني مما لا يتصور، وإنما انتشر في اللغة هكذا بمعاني كلية موجودة في الأذهان لكن تخرج بحسب ما يحتاج إليه، تخرج بحسب ما يضاف إليه تلك المعاني.
المعاني الكلية قد لا تجد تفسيرها لأنها كلية لا وجود لها في الخارج ولكنها موجودة في لَمِّ شتات المعاني.
هذه مسألة كبيرة لكن ذكرت لك بعض ما يفتح لك الباب في فهمها، فتنتبه لعظم هذه المسألة.
....أولا قولهم يعني إذا قيل فلان أسد، محمد أسد، فهذا غلط من جهات أن هذا مجاز.(18/285)
أولا المجاز عرَّفوه: بأنه نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما رجع إلى نقل عن الوضع الأول. فإذا كان كذلك فنقول: من قال إن الوضع الأول للفظ الأسد والعرب هو أنه على الحيوان المفترس؟ هذه تحتاج إلى نص وإلى دليل، ولا دليل يثبت ذلك، إلا أن يقول: هذا معروف.
وكل موضع أدعي فالمجاز فارجع فيه إلى التعريف: نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما. فقل: من قال إن هذا الوضع الأول؟ من قال إن هذا –مثل الجناح قالوا الجناح هذا حد الطائر- من قال لك إن الأسد هذا في الوضع الأول هو الحيوان المفترس؟ كما ذكرنا لك أنه يكون ثم معنى كلي، فبالتخصيص يختلف.
فلفظ الأسد -من جهة المعنى الكلي هذا- يدخل في كل -يعني المعنى الكلي له- كل من بلغ القوة والقهر لغيره، فهذا يطلق عليه أسد، فما كان من الحيوانات الذي يقهر غيره هو أسد، وعند العرب أسد غير الأسد عندك، الأسد الآن الحيوان المعروف، لكن عند العرب الأسد أوسع، أوسع في الدلالة وكل حيوان قهر غيره التي تفرس هذه يدخلونها في الأسد، فالأسد المعروف أسد، والنمر أسد عندهم، والفهد أسد إلى آخر ذلك، هذا شيء.
الشيء الثاني أن يقال إن القول بالمجاز بالاتفاق باتفاق أهله: أن كل مجاز يصح نفيه، كل مجاز يصح نفيه على اعتبار النفي سُلط على الوضع الأول، فإذا قلت فلان أسد، يصح أن تقول بعدها ولكنه ليس بأسد، وهذا إذا دخلنا في صفات الله جل وعلا فإنه تَجَرُّؤ وتكذيب أيضا.
إذا قلت مثلا في قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) لكنه لم يستوِ، هذه قاعدة في المجاز باتفاق أهله.
تقول (الرحمن الرحيم) ولكنه ليس بذي رحمة.
وأشباه ذلك في كل موضع أدعي فيه المجاز فإن ضابط المجاز أنه يصح نفيه، على اعتبار نفي الوضع الأول والانصراف للثاني.
رأيت أسدا فكلمني ولكنه ليس بأسد. هذا جناحك اخفضه ولكنه ليس بجناح، في نظائر ذلك.(18/286)
الثالث مما يبطل القول بالمجاز في مثل ما ذكرت أن المجاز في كلام العرب إذا وجد فهو موجود بلا اسم مجاز -واضح؟- موجود هكذا في لغتهم ولا اسم له عندهم ولم يضعوا له اسما يعنونون لذلك كصنيع المتأخرين من جهة فنية.
وإذا كان كذلك، فإن قول القائل هذا مجاز يحتمل أن يكون:
فيفرع عليه أحكاما وقوانين للمجاز أصَّلَها قبل استقراء كلام العرب وهذا باطل؛ لأنه تحكيم لقوانين متأخرة على وضعٍ قبل ذلك.
والثاني أن يكون سماه مجازا ولكن لن يزيد فيه على ما ورد.
وإذا كان هذا الثاني فنقول هذا صحيح لك أن تسميه مجازا لكن لا تجري عليه قوانين أهل المجاز، لذلك بعض العلماء المتقدين سموا كتبهم بالمجاز مثل أبي عبيدة معمر بن مثنى سمى كتابه مجاز القرآن يعني ما جاز في اللغة من التفسير، وهنا لم يجر عليه قوانين أهل العقائد أو أهل الأصول المعتزلة وغيرهم في ذكر المجاز وتعريفه، لا، ولكنه اعتبر أن هذا جاء عن العرب في موضع كذا، وجاء عنهم في الموضع الثاني كذا فهذا مما يجوز في لسان العرب أن تفسر هذه بهذه.
وثَم فرق ما بين إجراء كلام العرب على المجاز اصطناعيا يعني على جهة أهل الاصطلاح المتأخرين.
والقول الثاني الذي يسمى مجاز دون إرجاع إلى قواعدهم. والفرق بينهما أن صاحب القانون الذي عرف المجاز عرفه بتعريف سيطبقه على كلام العرب، سيطبقه على كلام المتقدمين، سيطبقه على كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا تحكم في الحقيقة لأنه قَنَّنَ قانونا ثم أراد أن يجري عليه كل الكلام.
لكن نقول الذي يقضي به البرهان الصحيح السليم من الهوى أن يقال كل موضع استعملته العرب في كلامها فهو حقيقة وظاهر ومجاز أيضا، هو حقيقة باعتبار ما دل عليه، وظاهر باعتبار دلالة المعنى دلالة ظاهر اللفظ على معناه، ومجاز يعني بمعنى أنه يجوز في لغتها.
هذه الثلاث حقيقة وظاهر ومجاز إلى آخره إذا استعملتها فهي ألفاظ لا تؤول إلى كلام المتأخرين.(18/287)
فنرجع من هذا كله إلى أن كلام العرب حجة، والله جل وعلا أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فما استعمل في كلام العرب صار حجة سمِّه حقيقة، سمِّه مجازا، سمِّه ما شئت؛ لكن لا على قوانين أهل الاصطلاح، فإذا قلت هذا حقيقته كذا، هذا ظاهره كذا، هذا مجازه كذا، باعتبار ما يجوز وما يظهر وحقيقة اللفظ كونه دليلا على حقيقة الأمر، فهذا لا شيء فيه.
لكن الإشكال جاء من كونهم قننوا القوانين ثم حكموها على اللغة، وقولنا سمه ما شئت هذا يجعل الدائرة ضيقة، إذْ يخرج هذا الباب عن الأقيسة يخرج هذا الباب عن القياس، وأما القول بالقوانين فإنه يدخل ما لم يرد في كلام العرب -مما يجوز- يدخله في التأويل أو في صرف الحقيقة عن ما هي عليه لأجل القانون.
فتلحظ أنه إذا اقتصرنا على كلام العرب سميناه مجازا، سميناه حقيقة، ظاهرا فإن الدائرة تكون ضيقة، وإذا سلطنا اصطلاح المتأخرين فإنه سيصرف اللفظ عن ظاهره، سيصرف اللفظ عن حقيقته بالقانون، وإن لم يرد ثم استعمال لكلام العربي به، وإن لم يرد استعمال يقال: لا، هذا غير مراد.
وفي الحقيقة إذا قلنا: صرف اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما. أو في تعريف التأويل صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة، هذا القرينة ما هي باتفاق أنها قرينة عقلية، العلاقة ما هي؟ العلاقة منها علاقة لغوية ومنها علاقة عقلية.(18/288)
إذا كان كذلك فكل واحد يمكن أن يقول: عقلي يصرف هذا اللفظ عن ظاهره، عقلي ينقل هذا اللفظ عن حقيقته، في الأمور الغيبية التي لم ير أمثالها، أما التي رأى أمثالها هذه يقرب الناس فيها؛ لأنه لو قال عقلي يخالفه يكذبه الحس؛ لكن في الأمور الغيبية سيأتي كل أحد يدعي أن عقله ينفي ذلك، هذا معناه أن يرجع القانون إلى أمر غير منضبط، وهذا باتفاق أهل المنطق وأهل الحدود أنه يرجع على القانون بالإبطال، فكل ضابط في قانون أو في حد أو في تعريف لا ينضبط لكون حد فيه أو جملة فيه لا تنضبط فإنه لا يصح أن يكون تعريفا.
ولذلك نحن ننازع أصلا في التعريفات هذه، تعريف التأويل ننازع، تعريف المجاز ننازع إلى آخره، في هذه الأشياء التي أحدثت البلبلة في العقيدة، وأحدثت البلبلة في الغيبيات، وفرقت الأمة وكل ذلك من جراء أهل البدع؛ لأنهم اعتقدوا اعتقادات ثم سعوا في العلوم ما يؤصلها، لذلك ما تجد عند أهل السنة هذه التعريفات، ما تجدها، والعلوم ما فسدت إلا لما دخلتها التعريفات، من جميع الفنون، التعريفات على صناعة المناطقة والحدود إذا دخلت خلاص لن تفهمها، إذا انشغلت بالتعريفات الأصولية فلن تفهم الأصول، إذا انشغلت بالتعريفات البلاغية فلن تفهم البلاغة، ولذلك جاء مثلا الذين اشتغلوا بالتعاريف البلاغية السَّكَّاكي والخطيب القديم لأنه معتمد على السكاكي وأشباه هؤلاء، هؤلاء تركوا البلاغة التي هي كلام العرب صرفوها على ما هي عليه على قوانين اصطلاحية يطبقها العجمي مثل ما يطبق واحد زائد واحد يساوي اثنين، لا، لغة العرب تذوق، لغة العرب فهم، لغة العرب إحساس، ليست قانونا، العرب ما اجتمعت وقالت واحد زائد واحد يساوي، الكلمة هذه زائد الكلمة هذه تطلِّع لنا استعارة تخيلية، الكلمة هذه تطلع لنا، هذا كله ليس مرادا.(18/289)
فدخلت التعاريف فأفسدتها، ولذلك أجمع أهل البلاغة على أن بلاغة أبي القاسم، وعلى أن بلاغة من تقدم مثل العسكري في الصناعتين، والجاحظ وأشباه هؤلاء ومن لم يدخلوا في التعاريف هذه الصناعية، لا شك أنها هي الأولى لأن المتأخرين انصرفوا عن المعاني إلى قوانين فأفسدت الفن.
وهذه لها أمثلة كثيرة:
حتى في مصطلح الحديث: مصطلح الحديث أيضا تجد أن من تعلق بألفاظ المتأخرين في التعريفات لم يطبق عليها أقوال المتقدمين مائة في المائة، يقرب و يجد ما يخالفها.
حتى في اللغة العربية: التعريفات أنظر إلى تعريف نائب الفاعل، نفس تقسيم الفعل إلى ماضي وأمر ومضارع إلى آخره، هذا يسبب إشكال، فيه إشكال معروف في موضعه أيضا، قول هذا نعت وهذا صفة النعت عندهم غير الصفة، النعت عندهم الذي هو من التوابع، والصفة ما كانت راجعة إلى المبنى، مثل اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة لاسم الفاعل، هذه الثلاث فقط التي يطلق عليها صفة، النعت عندهم..؛ لكن في اللغة عندنا وصف الله جل وعلا هو نعته سبحانه، نعت الله هو وصفه.
مثلا عندك في (مَنْ) ترجع لكتب اللغة جميعا تقول (مَن) اسم موصول لمن يعقل أو للعاقل، و(مَا) اسم موصول لغير العاقل، وهذا باطل؛ لأن هذا التعريف يدرج عليه الجميع، فالله جل وعلا يعبر عنه بـ(من) ويعبر عنه بـ(ما)، فمن يقال أنها للعاقل والله ليس في صفاته عاقل ولهذا صار من اسم لمن يعلم لا لمن يعقل.
هذا لو ندخل في الفنون كلها سنجد خلطا كبيرا خلطا في الفنون بعد زمان السلف، وهذا يعلم بعد التحقيق والنظر ومعرفة كيف مشى كل علم؟ كيف توسعت مؤلفاته؟ وكيف تحرك وتحرك أهله وكيف بنى المتأخر على قول من تقدمه؟ ثم يكون من تقدم أحسن التصنيف فأعتمد فصارت مدرسة كبيرة، قد يُنظر إلى من يرجع الناس في المدرسة إلى طريقة الأولين قبل حدوث هذه المدارس أنه ينهى عن العلم إلى آخره.(18/290)
وهذا يطول الكلام عليه؛ لكن ينبغي لطالب العلم أن يكون عنده بعد نظره في العلوم وفهمه للعلوم -سواء العلوم المساعدة الصناعية الأصول أو مصطلح أو لغة إلى آخره- أن يتعدى بعد فهمها أو إحكامها على طريقة المتأخرين، أن يتعدى اصطلاحاتهم إلى الزمن الأول.
ولذلك إذا نظرت إلى كتاب سيبويه مثلا في النحو هو أفضل مائة مرة؛ هو أفضل بما لا حد له من كتب المتأخرين من شروح الألفية وإلى آخره لأن ذاك ما فيه التقييدات المنطقية التي وردت في كتب المتأخرين، وفيه سعة، وفيه تذوق للنحو جعل النحو مع البلاغة جمع بينهما، جعل النحو والصرف والبلاغة تمشي جميعا؛ بينما المتأخرين جعلوا هذا وهذا للتوضيح، لكن إذا أتى طالب العلم فأحكم يرجع إلى كليات كلام المتقدمين الذي هو اللغة، كذلك في التعريفات المختلفة.
المقصود من هذا أن جناية الانحراف في العلوم بتعريفات لا تنطبق على التحقيق، هذا لاشك أنه أحدث غلطا كبيرا.
خذ مثلا في النحو تأتي مسائل تُجعل مسلمة ولكن هي ليست مسلمة، في النحو جعلت مسائل مسلمة وهي غير مسلمة، مسائل في الأصول جعلت مسلمة، بحيث أنك لو تقول لواحد كذا ......
قوله تعالى ?إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ?[طه:63] على القراءة الثانية (إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ)، في اللغة، النحو الشائع يقضي بإيش؟ إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ، هذين اسم إن، من أين أتى؟ كلهم خاضوا الذين وجهوا هذه القراءة على إضمار الضمير يعني إنه هذان لساحران، وأشباه ذلك، جاء شيخ الإسلام وقال: أصله كلكم اعتمدتم على أن هذان تنصب بالياء؛ لأنها ملحقة بالمثنى، وترفع بالألف لأنها، من قال هذا؟ لاحظ الذهاب إلى أصل الموضوع، أحيانا تأتي أنت وتعتبر شيئا مسلما، وأصل هذا المسلم غير مسلم.
وهذه حالة نفسية قد تُرَبَّى شيء أنت ويكون مسلما وفي الحقيقة غير مسلم، عند البرهان الصحيح غير مسلم، بكثير من الأشياء النفسية والاجتماعية والعلمية.(18/291)
قال: من قال أن (هذان) أصلا أنها تنصب بالياء، هذه مبنية، لا تقال بالياء أصلا، تقول قال هذان ورأيت هذان ومررت بهذان هذه مبنية في كل الأحوال.
وقراءة من قرأ (إِنْ هَذَانِ) على البناء، و(إِنَّ هَذَانِ) على البناء، فقالوا: له أنت الآن تقول هذا الكلام فيه آية في القرآن فيها نصب. قال ما فيه، ما يوجد إلا (هَذَانِ) تبنى على الألف، و(هَاتَيْنِ) للمرأة تبنى على ?أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ?[القصص:27]، (هَاتَيْنِ) ليست منصوبة، (هَاتَيْنِ) أصلا مبنية على الياء.
وهذا مذهب الكوفيين، البناء مذهب الكوفيين؛ لكن درج الناس على مذهب البصريين.
إذن مذهب الكوفيين الذي هو أقرب إلى حقيقة النحو -من جهة السماع- من مذهب البصريين، حتى قال بعض مشايخنا في هذا: إن مذهب البصريين هو مذهب مبتدعة النحو، ومذهب الكوفيين هو مذهب سلفيي النحو. يعني من جهة اعتمادهم على النقل، وأما البصريون فاعتمدوا على الأقيسة في ذلك، وعلى الأمثلة والقوانين ثم فرعوا عليها.
يعني قال شيخ الإسلام ما قال، وهذه أعجبت ابن هشام، فجعل كلام شيخ الإسلام لخصه تماما في أحد كتبه في النحو الذي هو في أظن شرح الشذور.
المقصود من هذا أن خوض طالب العلم مع المخالفين ينبغي بل يجب أن يكون من الأسس من القواعد، وإذا ما فهمت أسس الكلام كل كلمة تِفْلاَها، تعرف ما وراءها، فإنك ستكون مقصرا بقدر ما فاتك، والذي ينبغي لك أن تفلي كل مسألة.
نعم العلم كثير واسع؛ لكن لابد، لابد لك من هذا، لو فوَّت بعض الأشياء من الفروع التفريعات حتى تضبط هذه المسألة التي حصل فيها الخلل العظيم، هذا ليس الكثير إن شاء الله؛ لأنه لو فاتك بعض الفروع فإنه إحكامك للأصول التي انطلقت منها هذه العلوم وما حصل فيها من الانحراف.
في الحقيقة جاءت هذه الكلمة، وطالت؛ لكن ربما تفتح لكم أبوابا.(18/292)
وهذه لو تكلم الإنسان لاحتاج إلى مدة طويلة لو خضنا في كل فن ما فيه، وتحقيق أهله فيه والمسائل.
مثلا عند أصول الفقه هل تجد كتاب سلفي في أصول الفقه؟ ما فيه، الرسالة للشافعي يعني بداية في أصول الفقه؛ لكن ما فيه في أصول الفقه كتاب مأمون من كل جهاته، ما فيه، مؤتمن محقق.
إذن كيف نفهم أصول الفقه؟ نفهم طبعا كلام المتأخرين ونضبطه هذه طريقة صنعة، وتأتي المرحلة التي بعد ذلك نأتي للمسائل ونقارنها بكلام المتقدمين؛ لأنك تجد مثلا أن أصول الفقه كلما تقدمت أسلم من كتب المتأخرة، وأقرب لك لإفهامك للاستنباط والخوض عن الصناعة والتعريفات والمحترزات، تأتي ساعة لتفهم التعريف، ويقول هذا مردود عليه من أوجه ثم يرد تدخل في معمعة؛ لكن لو رأيت كتب المتقدمين وجدتَّ أن أصول الفقه فيها سهلة واضحة وهي التي تنفعك في الاستنباط.
نعم كلام المتأخرين مهم لابد من فهمه لكن المحقق أو طالب العلم الذي يريد أخذ العلم بحقيقته، ينتقل بعده إلى ما تقدم حتى يحكم أصوله.
وهذا يأتي في مسائل في العقيدة واللغة وغير ذلك.
....[ سؤال: ?لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، الظاهر غير مراد والحقيقة مرادة؟](18/293)
هل قلنا أن الظاهر غير مراد؟ نحن نرد على الذين يقولون أن الظاهر غير مراد، هو الظاهر مراد، نعم، هذه مشكلة التأصيلات تحوز، المقصود أن الظاهر مراد، لكن بعض الناس أطلق قال: الظاهر غير مراد، مثل ما قال لك شيخ الإسلام ابن تيمية هنا، معناه التمثيل، الظاهر الذي هو أن يدي الله جل وعلا كيدي المخلوق، نقول هذا لاشك أنه غير مراد، هذا غير مراد فعلا؛ لأن إثبات الصفات على قاعدة ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن تقال أصلا هذه العبارة حتى في آيات الصفات حتى لو كان المراد بها معنى صحيحا -واضح؟- ، قوله ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة:64]، الظاهر مراد بل لله يدين حقيقة سبحانه وتعالى ?يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ?[المائدة:64]، ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، الظاهر مراد إلى آخره، فنحن نبطل قول من قال الظاهر غير مراد أو من قال بالمجاز، إلى آخره.
.. هذه من كتب المتوسطين اسمها المُسَوَّدَة ليس المُسْوَدَّة، مسودة آل تيمية، هذه جمع فيها كلام والد شيخ الإسلام وجده، وكلام شيخ الإسلام وهو قليل فيها، كلام شيخ الإسلام قليل فيها، وهو من الكتب المتوسطين، جروا على اصطلاحات شيخ الإسلام له فيها بعض التحقيقات لكنها قليلة.(18/294)
.. «خلق آدم بيديه» وهنا قال ?مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا?[يس:71] ما قال خلقت، (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا) ونتيجة العمل وما ينتج عنه يصدق يصدق عليه أنه عمل اليدين في اللغة، هذا عمل يدي وإن كان نتيجة له، ولهذا قال سبحانه ?وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ? التسلسل في الآثار غير ممتنع عندنا عند أهل السنة، التسلسل في العلل والمعلولات والآثار غير ممتنع فقد يكون أثر ينتج عن أثر، وأثر ينتج عن أثر، والله سبحانه وتعالى هو الذي عمل الأول سبحانه وتعالى وأجرى سنته في أن الأول ينتج الثاني والثاني ينتج الثالث إلى آخره، مثل ألان خلق آدم وخلقك أنت آدم، هو خلقه الله جل وعلا بيديه سبحانه وتعالى، والإنسان مخلوق بيدي الله سبحانه وتعالى، خلق الله سبحانه وتعالى له، وعمل اليدين ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا?[يس:71].
.. ما فيه فرق، جرينا على اصطلاحه، قلنا: نص وظاهر ومجمل. هذا الذي في اللغة، كون هذا أن الظاهر ينقسم إلى حقيقة وظاهر هذا دخلنا في الأصول، دخلنا في مباحث لغوية اصطلاحية، واضح؟ لأنّ النص الذي لا احتمال فيه، الظاهر ثَم احتمال فيه، حتى على اصطلاحهم، ومجمل محتمل لهذا وهذا، كل هذا على اصطلاحهم، لكن تقسيم الثلاث جار على اللغة بلا إشكال، تقسيم حقيقة وظاهر ومجاز ومؤول هذا يدخله البحث.
([141]) مُجَبَّرَة ومُجْبِرَة.
([142]) حشوية يعني حشو الوجود ما لهم قيمة.
([143])هذه نوابت الذي ينبت الأشياء التي تنبت ما لها قيمة، كلها ألفاظ تعني أنهم ليسوا بشيء، ألفاظ اخترعها أعداء السنة في وصف أهل الحق لتنفير الناس منهم؛ يعني بأنهم ليسوا بشيء يعني أنهم حشوية ونوابت إلى آخره.[انتهى الشريط العاشر]
([144])الوِلاية الإمارة، والوَلاية المحبة.
([145]) لعلها: وَرِأْيُهُ.(18/295)
([146]) ما سمعتم من أول الكلام إلى هذا الموطن يبحث في مسألة واحدة، واستطرد في الكلام عليها، وهي ظنُّ المتأخرين أنّ السلف والخلف اتفقوا على أن آيات الصفات وأحاديث الصفات أو الصفات الخبرية التي جاءت في الكتاب والسنة أنه لا يراد بها ظاهرُها، وقد يُعلم المراد وقد لا يُعلم، ظنوا أن الجميع اتفق على أن إيراد فضائلها ممتنع، ثم هل المعنى معروف أو غير معروف؟ على قولين، وكل هذين القولين عندهم لا يخرج على اتفاق الخلف مع السلف، ولهذا يقولون التأويل متفق عليه فالسلف لما لم يثبتوا ظاهر المعنى، وإنما قالوا لا نثبت الألفاظ نجريها على ظواهرها ولا نثبت معانيها، فإن هذا مصير منهم إلى تأويلها، ولكن إلى غير معنى محدد.
وبالتالي فإن زعمهم هذا يؤول إلى تصحيح التأويل بالاتفاق، وسواء كان التأويل إلى معنى كقول المؤولة مثلا الرحمة إرادة النعمة أو أن الغضب إرادة الانتقام وأشباه ذلك، أو أن التأويل إلى غير معناه كقول من يقول نثبت رحمة لا ندري معناها الذي هو قول مفوضة المعنى.
ولهذا جعل الأشاعرة القولين حقا، فجعلوا المفوض للمعنى أو المؤول إلى غير معنى أن هذا منهجا صحيح، وهو قول السلف وقول الخلف، أو المؤول إلى معنى دل عليه العقل أن هذا أيضا قول صحيح، ونظموه في عقائدهم كقول قائلهم:
وكل نصٍّ أوهم التشبيه أوِّله أو فوِّض ورم تنزيها
يعني أوله على معنى معروف، أو فوض المعنى إلى الله؛ يعني لا تؤمن بظاهر ما دل عليه اللفظ.(18/296)
ولهذا يزعمون أن مذهب السلف هو إثبات الصفات لا على معنى، وإثبات الأسماء لا على معنى، كما قال ابن العربي مثلا في موضع من كلامه في العارضة قال: فإن قلت فما معنى الاستواء، قلنا لك الاستواء يرد في لغة العرب على خمسة عشرة معنى -وذكرها-، ولا نعلم المراد من هذه المعاني في قوله ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]. وكذب، فإن الاستواء في لغة العرب معروف المعنى، واحد، معناه واحد، وهو العلو والارتفاع، هذا هو معنى الاستواء ?فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ?[المؤمنون:28]، ?وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى?[القصص:14]، كل مواردها على ذلك.
فهذا الأصل الذي أصلوه وهو أن التأويل متفق عليه بين السلف والخلف، جعلهم يذمون كل مخالف لهم، فالذين يثبتون الصفات عندهم مشبهة، سواء كان إثبات الصفات إثبات بعض الصفات أو إثبات كل الصفات، فعند المعتزلة الأشاعرة مشبهة، وعند الأشاعرة أهل السنة مشبهة، وعند الجميع أهل الحديث والأثر أهل السنة مشبهة مجسمة حشوية نوابت إلى غير ذلك من الألفاظ التي يشنعون بها.
ومسألة الألفاظ والتشنيع على أهل الحق بالألفاظ البذيئة هذه كانت من العلامات الفارقة، لذلك من صنف من أهل السنة في التوحيد أو السنة يذكر مسألة الألفاظ عند ذكر الافتراق، يقول وعلامة أهل البدع تسميتهم أهل السنة والأثر بالحشوية أو النوابت، فإذا رأيت من يطعن على أهل الحديث والأثر في شيء من هذه الألفاظ أو بأمثالها فاعلم أنه على تأسيس ضلالة؛ لأن المسألة قديمة في التشنيع عن طريقتهم بألفاظ مختلفة، مثل ما سموه في هذا العصر الوهابية وما قبله حتى ينفروا الناس منهم، وهي ألفاظ يتداولها المتأخر عن السالف بالتشنيع وبالصد عن ذكر الله وعن السنة.(18/297)
فالمقصود أن العبرة اتِّباع الكتاب والسنة وأن السلف متفقون على إمرار هذه الآيات والأحاديث على ظاهرها ومعنى ذلك إثباتها على ما دلت عليه من اللغة، وأنهم مانعون للتأويل وليسوا قائلين به، وأن الخلف الذين زعموا أن السلف أولوا إلى غير معنى، أي فوضوا، أن هذا باطل وأن طريقة الخلف مخالفة لطريقة السلف جملة وتفصيلا.
فشيخ الإسلام يدور حول هذا المبحث؛ لأنّ طائفة من المبتدعة حسّنوا بدعتهم بالتأويل، بحكايتهم اتفاق السلف على التفويض، والتفويض عندهم ضرب من التأويل.
هناك كلمات مرت في كلام المعتزلي يعني إذا أحببتم أن نذكر معناها فلا بأس (من قال أن لله علما وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب وأنه مشبه لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد) هذا أصل، لأن هذا الكلام يتردد كثيرا في كتب القوم وفي كلام شيخ الإسلام أيضا يورد مقالاتهم، هذا مبني على فهم ثلاثة أشياء:
الشيء الأول: الأجسام ونوع الأجسام.
الثاني: نوع العرض ونوع الأعراض.
والثالث: معنى التركيب.
ثم نخلص من الثلاثة هذه إلى بنتيجة، هذه المقدمات الثلاث مهم أن تفهمها، حتى تفهم مثل هذا الكلام وأشباهه، مما يلي من شرح الطحاوية وكتب شيخ الإسلام.
الأول الجسم: الجسم نظروا إليه نظرا فلسفيا، كنظر اليونانيين وأشباههم، فقالوا: الأجسام مركبة من أجزاء صغيرة متناهية في الصغر، هي الجوهر الفرد، الذي يسمى الجزيئات التي لا تقبل الانقسام، فكل جسم عندهم مركب من جواهر فردة، جواهر؛ جوهر يعني لا يقبل الانقسام، الآن يسمونه الذرة أو يسمونه الخلية أو إلى آخره، يعني جزء صغير لا يقبل القسمة، نفرض عندك مائة جزء إذا فسمتها شيء واحد إلى مائة وهذا الواحد من المائة لا يمكن قسمته هذا الذي يسمى جوهرا فردا، جوهر باعتبار أنه الأصل الذي لا يقبل القسمة، وفرد يعني أنه ليس بقابل للاثنينية. الأجسام عندهم مكونة من هذه الأجزاء الصغيرة إلى آخره.(18/298)
وأهل السنة فيما حكى عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصفدية وفي النبوات وفي غير ذلك، يقولون إن الأجسام قد تتركب من جواهر فردة، وقد تتركب من جواهر مركبة؛ يعني أن الجسم قد يؤول إلى جزيء واحد لا يقبل الانفصال، وقد يؤول بتقسيمه إلى أكثر من جزيء اثنين ثلاثة مرتبطة منفصلة نظريا؛ لكنها من جهة الواقع غير قابلة للانفصال.
فإذن قول من قال إن الأجسام مبنية على ذرات منقسمة، وأن كل جسم يؤول إلى خلية واحدة، يتصور أن تكون موجودة دون غيرها، هذا ليس من أقوال أهل السنة، بل يقولون قد يكون ذلك في بعض الأجسام، وفي بعض الأجسام لا يمكن أن تكون ثَم جواهر فردة بل لابد أن تكون جواهر مركبة، يعني يؤول التقسيم إلى حقيقة تقبل الانقسام نظريا؛ لكنها واقعيا لا تقبل الانقسام.
وهذا العلم الحديث أيَّد قول أهل السنة في ذلك لأن البحوث المعاصرة الفيزيائية وغيرها تؤيد ذلك حتى في جسم الإنسان وفي الخلايا والمواد المختلفة التي لا محل لبيانها.
عندهم الأجسام هذه صفة جسمية وهي تركبها من الجواهر الفردة، ولها صفة معنوية عرضية وهي حلول الأعراض بها أو قبولها للعَرَض.
والأعراض -وهي المسألة الثانية في بحثنا أو المقدمة الثانية-: الأعراض هي ما يعرض ويزول وصف يعرض بالجسم ويزول، مثل أن يكون مرتفعا، أن يكون له طول، له عرض، له عمق، له ارتفاع، له حرارة، له رطوبة، له برودة، له صفة أخرى من الصفات المعنوية؛ عنده قدرة السمع إلى آخره، هذه كلها أعراض تعرض للجسم وتزول عنه، فهو يعرض له أن يكون طويلا ثم يزول ذلك عنه، يعرض له أن يكون حارّا ثم يزول ذلك عنه، يعرض له أن يكون سامعا ثم يزول ذلك عنه، وهذه الصفات العَرَضية راجعة في الجسم إلى الأجزاء التي تركب منها الجسم، ولذلك صار عندهم إثبات الصفات إثبات للأعراض في الأجسام ومعنى ذلك إثبات للجوهر الفرد، ومعنى ذلك إثبات للتركيب.(18/299)
فآل بهم القول بالمسألة الثالثة وهي أن القول بإثبات الصفات هو إثبات للأعراض في الأجسام، ومعنى ذلك إثبات بأن الله جل وعلا جسم ومركب؛ لأن العرض لا يحل إلا بجسم، لا يمكن أن تجد ارتفاعا بلا مرتفع بلا جسم، لا يمكن أن تجد عمق طول وعرض بغير جسم؛ يعني شيء يقال له طوله كذا وهو ما معنا شيء، هذا عرض طول عندهم صفة لابد لها من موصوف، كذلك الصفات المعنوية مثل العلم والقدرة إلى آخره كلها لابد لها من موصوف.
المقصود من ذلك أن تنتبه إلى أن هذا البحث بحث كلامي سيِّء ولكن لابد من فهمه لفهم كلام شيخ الإسلام ممعنى كلام القوم.
المسألة الثالثة مسألة التركيب: والتركيب عندهم هو تركب الجسم من جواهره الفردة، أو تركب الجسم من أعراض حلت فيه، ومعنى كونه مركبا: أنْ توجد الأشياء الصفات فيه أو الجواهر، الصفات أو الخصائص الجسمية على وجه الانفصال توجد على وجه الانفصال.
لهذا منعوا كل الصفات على هذا الأساس، ولماذا قدموا بهذه المقدمة ذكرت لكم فيما سلف أصل هذا الكلام، وهو أنهم لم يثبتوا وجود الله جل وعلا إلا عن طريق إثبات الأجسام أو الجواهر الفردة وحلول العرض في الجسم، فإنهم أثبتوا وجود الله جل وعلا عن طريق حلول الأعراض في الأجسام، فقالوا وجود العرض -الذي لا يقوم بنفسه- بالشيء، يدل على أن هذا الشيء مفعول به، وهذا من خصائص الأجسام ومعناه أنه هناك فاعلا إلى آخر السلسلة التي تكلمنا معكم بتفصيل فيها في أول الكلام أظن في الحموية أو في موضع آخر.
إذا حصل هذا فنرجع إلى نتيجة هذا كله أن إثبات صفة العلم والقدرة عندهم معناه إثبات لصفات لله جل وعلا، وهذه الصفات تعرض وتزول؛ يعني العلم والقدرة باعتبار المعين عَلِمَ هذا الشيء فلما انقضى المعلوم انتهى تعلق العلم به، فصار من جهة الأجزاء عارضا ثم زال، فصار عَرَضا.(18/300)
فإذن العرض لا يمكن أن يقوم بنفسه كما يقوم الجسم، والجسم لا يقوم إلا بجواهر فردة، فرجع الأمر إلى أن إثبات الصفات يستلزم التعدد، يستلزم عندهم التركيب، يستلزم الجسمية، لهذا قالوا عن كل مثبت للصفات أنه مجسم على حسب اعتقادهم؛ لأنه وإن لم يثبت التجسيم وإن نفى التجسيم عن نفسه فهم كل معتزلي وجهمي يقول المثبت للصفات مجسم وإن لم يقل إنه مجسم؛ لأن حقيقة أمره يؤول إلى التجسيم.
وهذا كله راجع إلى أنهم قدموا بمقدمة باطلة في النظر في الجسم والعرض والتركيب أصل هذه المقدمة بحثها بهذا الشكل غلط، وما نتج عنه جعلوه صوابا، ولاشك أن المبني على غلط يكون غلطا.
الحقيقة هم مثلوا وشبهوا الله جل وعلا بخلقه؛ لأنهم لم يتصوروا وصفا إلا على النحو الذي رأوا فجعلوا الصفات تشبيها.
وهذه المسائل يعني بسطها يعني وتحرير المقام فيها يحتاج إلى أطول من ذلك لكن هذه خلاصتها بما تفهم معه المراد.
.. تقول إثبات وجود الله جل وعلا عندهم كان عن طريق إثبات حلول الأعراض في الأجسام، هذا الأصل، فحلول الأعراض بالأجسام دلهم على أن الجسم محتاج؛ مفعول به، فدلَّهم على أن ثَم فاعل، فإذا أثبتنا الصفات صار عندهم الرب جل وعلا مفعولا به يحتاج إلى فاعل؛ لأنهم ما أثبتوا الوجود إلا عن طريق حلول الأعراض في الأجسام، واضح؟ أنت تأخذ باللازم مثل ما ذكرت أن دليل نفي الصفات هو امتناع حلول الأعراض بالأجسام، هذا الذي أصَّله جهم بن صفوان عليه من الله ما يستحق، وتبعه المعتزلة على هذا الأصل العقلي، تبعه عليه الأشاعرة كلهم يثبتون وجود الله على هذه الطريقة؛ لكن المعتزلة أثبتوا بعض الصفات للدلالات العقلية اللازمة، والأشاعرة كذلك للدلالة العقلية اللازمة، قالوا هذه ما تنافي القرآن.(18/301)
سبق أن أوضحتها لكم بالتفصيل، وهي تحتاج إلى درس خاص؛ لأنها إذا فهمت هذه المسألة كل مسائل الصفات وكلام القوم -أهل الكلام أو المعتزلة أو الأشاعرة- كلها مضبوطة بهذا الباب، إذا فهمت هذه المسألة انتهى، كل الباقي سيفهم، سواء الكلام العقلي لهم أو الألفاظ التي يستعملونها لها دائرة على هذه المقدمات الثلاث الأجسام الأعراض التركيب، إذا فهمت هذه الثلاث انتهى، نعم...
([147]) يَجري أو يَجري.
([148]) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم نسألك علما ينفع، ونعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع.
اللهم يسر لنا الأمر كله العلم والعمل، وفيما تحب وترضى.
أما بعد: فهذا الكلام الذي ابتدا به شيخ الإسلام هذا المقطع قال فيه (وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة) وهذه الأقسام جاءت من جهة السبر والتقسيم؛ يعني أن هذه الأقسام الممكنة:
إما أن تجرى على ظاهرها.
وإما أن لا تجرى على ظاهرها.
وإما أن يسكت فلا يقال نعلم ظاهرها أو لا نعلم ظاهرها.
وكل قسم ينقسم إلى قسمين، فصارت ستة:
فالأولون هم الذين يقولون نجري هذه على ظاهرها، وهؤلاء هم المنتسبون في الجملة إلى السلف الصالح رضوان الله عليهم؛ لأن السلف أجروا الأحاديث على ظاهرها، وما فسروها بما يخالف ظاهرها؛ بل أيدوا ظاهرها [بالتفسير]، وهذا التقرير العام لـ: أن السلف مجمعون من الصحابة والتابعين على عدم صرف هذه الألفاظ عما دل عليه ظاهرها، أخذ به من بعدهم -يعني من بعد الصحابة ومن بعد التابعين- أخذ به طائفتان:(18/302)
الطائفة الأولى المجسمة: الذين فهموا من الظواهر أنها تشبيه لصفات الخالق بصفات المخلوق، وأنها مثلها اليد كاليد، والعينان كالعينين، والسمع كالسمع، والبصر كالبصر وهكذا، من حيث الكيفية، وهؤلاء هم الذين سماهم السلف المجسمة الممثلة، ووصفوا مذهبهم بالكفر.
هؤلاء أُتُوا من جهة أن إثبات الظاهر ما المراد به؟ ظاهر الألفاظ ما المراد به؟ ظنوا أن الظاهر المراد منه ما يفهمه الإنسان من هذه الكلمة من جهة المعنى والكيفية؛ لأنَّ القرآن أنزل بلسان عربي مبين، فلن يعقل منها إلا هذا وهذا يعني إلا هذا المعنى وهذه الكيفية.
فإذن جاء ضلالهم من جهة فهم معنى الظاهر فهموا الظاهر أنه مثل ما للمخلوق، والسبب أن الله وصف المخلوق بصفات ووصف نفسه الجليلة بصفات وما فرَّق من حيث دلالة الألفاظ بين هذا وهذا بكلام يصرف الكلام عن ظاهره، فجعلوا هذا وهذا سواء، وقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فسَّروه بغير تفسير المماثلة في الكيفية، وإنما فسروه بمنع المماثلة في تمام المعنى دون الكيفية.(18/303)
الطائفة الثانية: ممن قالوا بإجراء اللفظ على ظاهره هم –يعني داخلة في القسم الأول الذين يجرون الألفاظ على ظواهرها- الطائفة الثانية ممن يجرون اللفظ على ظاهره: هم المنتسبون للحديث والسنة، فهم مجمعون على أن هذه الألفاظ يجب أن تجرى ظواهرها على الوجه اللائق بالله جل وعلا، وفهموا من كلام السلف أنه يجب إجراء الألفاظ هذه على ظواهرها والإيمان بما دل عليه ظاهر اللفظ، وقالوا ظاهر اللفظ لا يدل على الكيفية ولا يدل على تمام المعنى؛ بل ظاهر اللفظ في المخلوق ما يناسب ذاته، ظاهر اللفظ بالنسبة لجلال الله جل وعلا ما يناسب ذاته، فالمخلوق له من الصفة مثل ما لذاته، والله جل وعلا له من هذه الصفات يعني من ظاهرها ما يناسب ذاته، وذاته كاملة الكمال المطلق وصفاته كذلك، لهذا أجروا القاعدة القول في الصفات كالقول في الذات، يُحتذى فيه حذوه وينهج فيه على منواله، فكما أن إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود ومعنى لا إثبات كيفية.
والأولون -المجسمة- لم يقولوا إنَّ وجود الله جل وعلا مماثل لوجود المخلوق، ولهذا كل من خالف منهج السلف فهو ملزم بالتناقض، فإنه لابد أن يتناقض بين ما أثبت وبين ما نفى، بين ما حمل عليه الألفاظ -حمل عليه الأدلة- وبين ما لم يحمل عليه الأدلة.
المنتسبون للسلف الذين أجروا الألفاظ على ظاهرها هؤلاء ينقسمون على ثلاث طوائف:
?الطائفة الأولى: هم الحقيقون بصحة الانتساب إلى مذهب السنة والحديث، وهم الذين أثبتوا الصفات ولم يخالفوا منهج الصحابة والتابعين فيها؛ بل كان إثباتهم لها إثبات وجود وإثبات معنى على ما دل عليه اللفظ، وهذا هو مذهب أهل السنة والحديث بكل الصفات.
?والطائفة الثانية: الذين قالوا نجريها على ظواهرها، وظواهرها غير معلومة لنا، ومعنى الإجراء على ظاهرها أننا نذكر اللفظ ونسكت عن المعنى، هؤلاء هم المفوضة.(18/304)
?والطائفة الثالثة: من أجروا هذه الألفاظ على ظاهرها؛ لكنهم غلوا في إجرائها على ظواهرها، بحيث فسَّروا الظواهر باللازم، فأثبتوا صفات لم ترد باللوازم، وهذا عليه طائفة من الغلاة في الإثبات من المنتسبين للحنابلة ولغيرهم، ولهذا قال شيخ الإسلام قال بعضهم: رجلان جنى عليهما أصحابهما جعفر الصادق وأحمد بن حنبل؛ فإن أصحاب جعفر -يعني الشيعة الذين انتسبوا إليه وسُموا بالجعفرية- حرفوا طريقة جعفر وكان فقيها على مذهب أهل السنة، وصرفوا ذلك ونسبوا إليه كتبا في التوحيد وفي الفقه بما يخالف ما كان عليه حقيقة، وكذلك طائفة كبيرة من أصحاب أحمد المنتسبين إليه وليسوا من فقهاء الإسلام في التوحيد وفي السنة وفي الفقه؛ بل كانوا من المنتسبين إليه ومن غير العلماء بمذهبه، غلوا في الإثبات حتى نسبوا أشياء إليه لا يصح أن تنسب إليه، فأثبتوا باللوازم الصفات، وقالوا ظاهر اللفظ لابد له من إثبات ما يلزم منه، لهذا أيدوا هذه اللوازم بالأحاديث الضعيفة الكثيرة، كما فعله طائفة من مثل أبي يعلى في كتابه إبطال التأويلات، وأشباه هؤلاء، فيجعل من لازم إثبات القدم لله جل وعلا إثبات تركب الساق عليها؛ لأن هذا هو الظاهر، ويجعل من إثبات... [انتهى الوجه الأول من الشريط الحادي عشر] وما روي ويثبتون العضد والمنكب والجنب وأمن هذا على حسب اللوازم وما أيده اللازم من أحاديث رويت في هذا فهي إما غير صحيحة وإما لها دلالة غير ما ذهبوا إليه.
المقصود من هذا أن هؤلاء أعني من أثبتوا الظاهر سواء أكانوا مجسمة أو كانوا من أهل الحديث والسنة أو كانوا من الطوائف التي ذكرنا هؤلاء الخلاف بينهم في تفسير معنى الظاهر، فتنتبه إلى أن المراد من تفسير الظاهر ما هو؟ فإذا حدد فحدد فهم هذه المذاهب.(18/305)
ساق شيخ الإسلام المثالين على أن إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وهذان المثالان ساقهما أيضا في كتابه المعروف التدمرية، وهما: مثال الجنة وما فيها، والروح. وهما واضحان في الدلالة على ما أراده رحمه الله.
.. ولا شك هو على قاعدة الإمام مالك المتفق عليها: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. فالاستواء غير مجهول المعنى، والكيف غير معقول. فثَم كيفٌ لكنه غير معقول، نحن لا ننفي الكيفية لكن ننفي أن تكون الكيفية ككيفية اتصاف المخلوق بالصفات، أما كيفية اتصاف الرب جل وعلا بصفاته فلا يعلمها إلا هو سبحانه. نعم.
([149])في الروح مذهبان:
الأول: مذهب الفلاسفة في الروح.
والثاني: مذهب أكثر أهل الكلام.
الفلاسفة عندهم أن الروح خُلقت في الأزل أو أنها موجودة في الأزل، وللبقاء هي، وأنها تهبط لتدخل الجسد الذي يلائمها، وأنها إذا دخلت الجسد فإنها شيء واحد لا يتجزأ؛ لا ينفك عن الجسد إلا إذا لم يصلح الجسد لبقاء الروح فيه فتنفصل، فإذا انفصلت ذهبت إلى جسد آخر أو حُفظت.
وهذا هو مذهب الفلاسفة المعروف عنهم، وعندهم أنها ملازمة لا تنفك، لا تذهب لا تجيء، شيء واحد غير منقسمة؛ لأنها إذا خرجت معناه أنها ذهبت الحياة.
وأهل الكلام -أعني أكثرهم- يقولون هي جزء من أجزاء البدن مثل [...]، ومثل [الهضم] في الإنسان ومثل حركة القلب ومثل، ومثل ما يجري في بني آدم أو في الكائنات الحية، فالروح والنفس مثل هذه الأشياء جزء من أجزائه، أيضا لا تنفك عنه.
وهذا وهذا لاشك أنهما مخالفان لما دلت عليه النصوص في شأن الروح.
قصده من هذا التمثيل: أن الروح إثباتها بالاتفاق إثبات وجود لا لإثبات كيفية، وكذلك الصفات؛ صفات الرب جل وعلا إثباتها إثبات وجود لا إثبات كيفية. نعم
([150]) عما علمناه يعني بالعقل.(18/306)
([151]) (والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثابتة)، بالطريقة الثانية أو الثابتة؟ ما معنى الثابتة؟ الحقيقة ما هي واضحة. بالطريقة الثابتة كأنها الثانية لكن..، هو قسّم ست أقسام والطريقة الثانية أيدها وكأنه يريد الثانية. أنتم تأملوها.
([152]) هذان القسمان المتوسطان -يعني في التقسيم- وهم الذين قالوا إن هذه لا تجرى على ظواهرها، يقولون: إن هذه الآيات والأحاديث لها معنى باطن لها معنى في الحقيقة؛ لكن المعنى ليس هو ما دل عليه الظاهر لأن الظاهر غير مراد للشارع بدلالة قوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ?[الشورى:11].
وهذا الظاهر لما ذهب المجسمة إلى فهم الآيات والأحاديث على ظاهرها في التجسيم فيجب أن ينفى دلالة هذا الظاهر، وهؤلاء فروا من شيء إلى غيره لأجل شناعة من أثبت الظاهر وهم المجسمة، ولو فهموا معنى كلام السلف لما عدلوا عنه إلى غيره.
في الحقيقة هذا القول الذي تبناه ابن كلاب وتبعه عليه الأشعري وجماعة.(18/307)
الأشعري ومن معه لم يكونوا يعرفون حقيقة مذهب السلف، ولذلك يشكل عليه في كثير من المواضع مذهب السلف، فلا يعرفونه، ولما ساق الأشعري في كتابه مقالات الإسلاميين، ساق مذهب السلف ومذهب أهل الحديث، وقال في آخره: وبما قال به أهل الحديث أقول، وإلى ما ذهبوا إليه أذهب. إنما ساق مذهبهم إجمالا، ما ساقه على وجه التفصيل، ولما ساق مذاهب المبتدعة من أصحاب الفرق المختلفة ساقها على مذهب التفصيل، فيفصل أقوالهم في كل مسألة، وليس عنده من العلم بكلام أئمة السنة من التابعين ممن تكلموا في الصفات والأمور الغيبية، وعلماء السنة وممن أتى بعدهم، ليس عندهم من العلم بها ما يجعله يفهم مذهب السلف، وبناء على فهمه وكلامه نشأ الأشاعرة والمتكلمون في أكثر ما ذهبوا إليه، ولهذا لا يفهمون من إثبات الظاهر إلا ما عند المجسمة، هذا أصل الضلال في هذه المسألة؛ لأن الأشعري ما فهم تفاصيل كلام السلف بل ولا علمها، وإنما علم مذهبها جملة.
ولهذا لما صنف كتاب الإبانة تصنيفه له معروف وهو في الجملة مقبول؛ لكنه أيضا فيه إجمال تكلم عن كذا مسألة وأجمل قبول ما عليه الإمام أحمد بن حنبل.
لهذا نقول: إن الذين قالوا لا تجرى على ظواهرها استحضروا لإجراء الظواهر مذهب المجسمة، فأرادوا أن يفروا منه إلى ما لا إشكال فيه، فنفوا إرادة الظاهر، وهذا لاشك أنه أصل باطل في هذا الباب.
هذا منشأ الضلال عند من قال لا تجرى على ظواهرها.(18/308)
ومنشأ الضلال الثاني أنهم جعلوا العقل أصلا وجعلوا النقل تابعا، وعندهم العقل هو القاضي والنقل هو الشاهد، ولهذا ما دلَّت دلالة العقل على منع اتصاف الرحمن به فإنهم يمنعونه ولو جاء في النص، ولهذا اختلفوا منهم من أثبت ثلاث صفات وهم المعتزلة، منهم من أثبت سبعا وهم الأشاعرة، ومنهم من أبت ثماني صفات وهم الماتريدية، ومنهم من أثبت خمسة عشر، ومنهم من قسم إلى صفات وجودية وسلبية ومعاني ومعنوية وأوصلوها إلى عشرين، إلى تقسيمات لهم منهم من أثبت الأحوال دون غيرها.
فهذه التقسيمات كلها راجع الخلاف فيها على أن دلالة العقل ما هي؟ فلما لم يتفقوا على دلالة العقل لم يتفقوا على ما يثبتون من الصفات، فتنظر مثلا إلى المسألة الكبيرة بين الأشاعرة والماتريدية -وكلهم في الغالب واحد؛ لكنهم اختلفوا في شيء وأربعين مسألة بعضها من جليل المسائل وبعضها من دقيقه فاختلفوا في إثبات الصفات فقال الأشاعرة بإثبات سبع وزاد الماتريدية صفة ثامنة وهي صفة التكوين، وقالوا صفة التكوين يعني أنه سبحانه هو الذي يكون الأشياء فيخلق ويصوِّر ويبرأ بقوله كن فيكون ففهموا من قوله ?هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ?[الحشر:24] صفة التكوين وأنه سبحانه ينشئ ما قدر وما خلق وصور بقوله كن، وكل ما يلزم لتكوين المخلوق هو داخل في ذلك فيحدثونه بأصل الصفات، وهذا الفرق بينهما لأجل أن دلالة العقل لا تمنع، فلابد بصفة خاصة بالتكوين، أما الصفات الأخرى السمع والبصر والكلام والإرادة والحياة والقدرة إلى آخر السبع -إذا كنا نسينا منها شيء- هذه لا تكفي هناك خلق، فأين صفاته؟
فإذن تجد أن الخلاف في الدلالة العقلية، وهذا مما تمسكوا به في تأويل أو تحريف كل الأسماء والصفات.
والدلالة العقلية عندهم على نوعين:(18/309)
الأول: دلالة عقلية ملازمة دائمة، وهذه هي امتناع مماثلة الله جل وعلا للمخلوق، و امتناع مشابهة، فهذه تجري عندهم في كل الصفة، امتناع المشابهة وامتناع المماثلة، هذه الدلالة العقلية تجعلهم ينفون يقولون هذه الآيات في الصفات ليست على ظاهرها.
والدلالة الثانية: العقلية ليست عامة، وإنما هي خاصة لفظية.
والأول هو المدعى في التأويل.
والثاني هو المدعى في المجاز.
فيقولون مثلا استوى بمعنى استولى، لأنه لا يُعقل من الاستواء استواء المخلوق، وهذا منفي عن الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء أو لأن الله لا يشبه المخلوقين فيحيلون عن الدلالة العامة، وكل مسألة أوَّلوا وأحالوا فيها على التأويل، فهو إحالة على الدلالة العقلية العامة؛ لأن التأويل عندهم صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لقرينة، والقرينة هذه الحقيقة القرينة والعقلية العامة.
والثاني هي الدلالة العقلية الخاصة، وهي الدلالة اللفظية في المجاز فيما ادعوا فيه من الألفاظ أنه مراد به المجاز، وأنه ليس في وضعه الأول بل هو في وضعه الثاني.
وهو مختلف باختلاف الصفات، يقولون الرحمة مثلا إرادة الإنعام هذا تأويل، وإذا قالوا الرحمة هي الإنعام هذا مجاز، فإذا أحالوها صفة من الصفات السبع التي أثبتوها صار تأويلا، وإذا قالوا الرحمة هي النعمة ، مجاز عن النعمة، اليد مجاز عن القدرة وهكذا فهذا يكون مجازا؛ لأنه صار مرجعه إلى اللفظ يعني إلى الدلالة العقلية اللفظية.
وباقي الأقسام يعني فيها غموض ما نطيل الكلام فيها، أعني من قالوا أننا لا نعلم، المراد البتة هؤلاء هم أهل التجهيل، أو قالوا المراد خفي قد يكون هذا قد يكون هذا أيضا هؤلاء يدخلون في قسم أهل التجهيل.(18/310)
هذا الموضع فيه تفصيل له في أول درء التعارض، في أول درء تعارض العقل والنقل فصّل وأطال شيخ الإسلام لما ذكر مذاهب الناس في الصفات وقسمهم إلى أهل الوهم والتخييل وإلى أهل التجهيل الذين يقولون نجهل المعنى أو الذين صرفوها؛ يعني الأقسام الأربعة الأخيرة.
([153])يتوهم من المقالات المأخوذة تقليدًا، يتوهّم إيش؟ تأويلا لمعظمه؛ لأنه الآن يأخذ الأشياء بالتقليد ما يعرف ووش وراها، انخدع بالألفاظ يعني المتكلمون والضلال وضعوا اصطلاحات وضعوا ألفاظا توهم الناظر فيها أن وراءها علم لا يدركه إلا الخاصة لا يدركه إلا العلماء لا يدركه إلا الأئمة إلى آخره، إنما يؤخذ تقليدا، فتورث هذه الألفاظ تقليدا لهم؛ لأنها تعزل الناظر عن البرهان، فإذا قلدهم فيها أورثته تعظيما لمعظمه وتأويلا لمعظمه. العبارة ماشية صحيحة.
([154]) بعين القدر يعني ما قدر الله عليهم من الضلال وعدم إدراك الهدى والحيرة التي يتخبطون فيها، فانظرهم بعين القدر ترحمهم، وأنظرهم بعين الشرع تبغضهم والله المستعان.
([155]) هذه الجملة من الكلام سمعنا فيها كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وهي حرية منك بإعادة النظر وإمعانه في هذا الموطن؛ لأن الناظر في نصوص الكتاب والسنة وفي كلام السلف يُخشى عليه من شيئين:
الأول: يخشى عليه من الغلو في فهمها أو أن يسيطر عليه الشبهة فلا يفهم النصوص كما ينبغي، وهذا وقع فيه طائفة بل طوائف من هذه الأمة.(18/311)
والثانية: أن يمل من الرجوع إلى النصوص بما دلت عليه وإلى طريقة السلف، ويذهب إلى غير هذا النفي وهذه الطريقة مللا، وهذه من مكايد الشيطان أنه يُمِلُّه من هذا ويقول ما عند الآخرين فيه علم وفيه تفصيل فيعرض عن معرفة تفاصيل كلام السلف وشرحهم وبيانهم للآيات والأحاديث في هذا الباب باب العقيدة والاعتقاد في صفات الله وأسمائه وغير ذلك من أركان الإيمان، فيقبل على ما عند العقلانيين من المتكلمين والمبتدعة والضلال، فإذا نظر في كلامهم رأى في كلامهم عجبا من جهة تنوع الألفاظ وتجددها وكثرة المصطلحات، وهذه قد تغري الناظر بأن وراءها علما، وإنما وراءها كما قال شيخ الإسلام سراب لا العلم فكل الكلام والفلسفة فيه حريق وظلمة حريق للإيمان وظلمة للقلوب، وزخرفوها بالألفاظ والاصطلاحات حتى غدت عجيبة في كثرة ما يوردون وما زعموا أن طريقتهم برهانية صحيحة، فالواقع أن طريقتهم عقلية مخالفة لطريقة السلف والاعتماد على ما جاء في الكتاب والسنة.
فإذن تنتبه على أن أصل الضلال هو الذهاب إلى أحد الطريقين:
الطريق الأول: وهو أن يغلو العبد في النصوص وأن يُحَمَّلَها ما لا تحتمل أو أن تسيطر عليها الشبه فيها ولا يعلم ما دلت عليه علم الحق واليقين.
والثاني: أنه يخشى عليه من الملل؛ الملل من قراءة كتب السنة والحديث والتوحيد على طريقة السلف فيذهب إلى غيرها فيحصل عنده أولا إعجاب ثم بعد ذلك تحصل عنده شبهة ثم بعد ذلك يحصل عنده بدايات الانحراف والضلال ولهذا قال من قال من السلف: لا تصغي إلى ذي هوى بأذنيك فإنك لا تدري ما يوحي إليك.
ولا شك أنَّ كلام المتبعين للسلف قليل كثير الفائدة وأن كلام غيرهم كثير قليل الفائدة إن لم يكن كثيرٌ كثيرَ المضرة.
والمتكلمون أقل كلاما من الفلاسفة والفلاسفة أكثر كلاما من المتكلمين وكل له نصيبه من الضلال عن منهج السلف.(18/312)
فإذن الواجب علينا أن نضرع إلى الله جل وعلا دائما في أن يرينا الحق حقا، وأن يمنَّ علينا باتباعه في المسائل العظيمة وفي المسائل التي قد تبدو غير عظيمة.
فلنضرع دائما إلى الله في أن يلهمنا الحق وأن يرينا الحق حقا وأن يمن علينا باتباعه.
وأن نضرع إلى الله دائما أن يهدينا طريق عباده المتقين الذين رضيهم ورضي عنهم سبحانه وتعالى، ووصفهم الرب بقوله ?وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا(66)وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا(67)وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(68)وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا(69)ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا?[النساء:66-70].
إذا كان كذلك، فالاهتمام بطريقة السلف لا تنتهي، لا يقول طالب العلم أنا عرفت طريقة السلف عرفت مذهب السلف أريد أن أعرف ما عند أهل الفرق أريد أن أعرف ما عند المتكلمين، ونحو ذلك، فيأتيه النقص والضلال من هذا.
فكلام أهل العلم في الاعتقاد ينسى إذا ما حافظ عليه العبد بالترداد والقراءة، والرجوع على الأصول التي تعلمها بين حين وحين، وإذا تركه واقبل على غيره صار جناية على ما سبق أن تعلمه وانتفع به من كلام أئمة أهل الحق والدين.
أسأل الله سبحانه أن يرفع درجة شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن يجزيه عن الموحدين خير الجزاء، فإن في عنق كل موحد ومتبع للسلف في عنقه لشيخ الإسلام رحمه الله منة، ولشيخ الإسلام علينا منة، فيجب علينا أن نسأل الله جل وعلا له دائما رفعة الدرجات وأن يجعله ربنا مع الصديقين ومع أهل المقامات العالية والدرجات الرفيعة.(18/313)
وأسأله سبحانه أن يمكن في قلوبنا العلم النافع، وأن يثبت ما تعلمنا منه يعني من كتب شيخ الإسلام في قلوبنا، وأن يمن علينا بالدعوة إلى ذلك وبتعليمه وبالصبر عليه، فإن في ذلك الفائدة العظيمة لنا في الدنيا والأخرى.
اللهم فثبتنا وتقبل منا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
تم بحمد الله(18/314)
شرح لُمعة الاعتقاد
الهادي إلى سبيل الرشاد
موفق الدين بن قدامة المقدسي
هذه دروس علمية قيمة بعنوان شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، لفضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ والتي ألقاها في مسجد حمزة بن عبد المطلب بالدمام ابتداء من فجر الثلاثاء 28من شهر الله المحرم 1413هـ حتى فجر الخميس غرة شهر صفر 1413هـ وقد كانت هذه الدروس بإشرافٍ من مركز الدعوة والإرشاد بالدمام.
بسم الله الرحمن الرحيم
1- الحَمْدُ للهِ المحمُودِ بِكُلِّ لِسانٍ، المعبودِ في كُلِّ زَمانٍ، الَّذِي لا يَخْلُو مِنْ عِلْمِهِ مَكانٌ، ولا يشغَلُه شانٌ عن شانٍ، جلَّ عَنِ الأشباهِ والأنْدادِ، وتَنَزَّهَ عَنِ الصَّاحِبَةِ والأولادِ، ونَفِذَ حُكمُهُ في جميعِ العبادِ، لا تُمَثِّلُهُ العقولُ بالتفكيرِ، ولا تَتَوَهَّمُهُ القلوبُ بالتصوير، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]، { لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } ([1]) والصفاتُ العُلى، { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(5)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6)وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [طه:5-7]، { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق:12]، وقَهَرَ كلَّ مخلوقٍ عِزَّةً وحُكْمًا، ووسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعِلمًا، { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [طه:110]، مَوْصوفٌ بما وصفَ به نفسَهُ في كتابِهِ العظيمِ، وعلى لسانِ نَبِيِّهِ الكريمِ.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:(19/1)
فهذه الرسالة الموسومة بلُمعة الاعتقاد من نبذ العقيدة؛ يعني من متونها المختصرة، وقد ضمّت مباحث الاعتقاد، وأثنى عليها العلماءُ بعد الموفَّق رحمه الله تعالى، وهي حقيقةٌ بأن تفصل كلماتها وجُملها، وأن تُبين مباحثُها بشيء من التفصيل، ولمّا كانت هذه الأيام الثلاث التي نستقبلها لا تكفي ولا تفي؛ بأن تُشرح هذه العقيدة شرحا وافيا، لهذا سنمرُّ عليها مرورا فيه إيضاحُ كثير من مسائلها على شكلِ ووجه الإيجاز.
وهذه الخطبة التي ذكر المؤلف بين يدي كتابه ورسالته، فيما يسميه علماء البلاغة براعة الاستهلال؛ و براعة الاستهلال يعتني بها أهل العلم، ومعناها أن يُضمِّنوا الخطبة التي بين يدي كتبهم، أو بين يدي كلامهم وخطبهم؛ يضمنونها ما سيتكلمون به أو يُفصِّلونه، فلما كان بحثُ هذا الكتاب في الاعتقاد، وفي تنزيه الله جل وعلا، وما يستحقه جل وعلا، وهذا أعلى وأعظم ما في مباحث الاعتقاد, ضمّن هذه الخطبة الثناء على الله جل وعلا، وذِكر استواءه جل وعلا على عرشه، وذِكر علمه جل وعلا واحاطته بكل شيء، وذَكر أنه جل وعلا موصوف بما وَصف به نفسه، وغير ذلك مما بيَّنه في هذه الخطبة، وأمّا خطبة الحاجة المشهورة التي وردت في حديث ابن مسعود وغيره، مِن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بين يدي حاجاته ”إن الحمد لله نحمده ونستعينه...“ إلى آخره، فهذه مشروعةٌ بين يدي الحاجات وكثيرا ما كان يقولها عليه الصلاة والسلام، ولكن ليس هذا أمرا مطَّردا، ولهذا أهل العلم تارة يبدؤون كتبَهم وخطبهم ومؤلفاتهم بتلك الخطبة المعروفة بخطبة الحاجة، وتارة يجعلون خطبهم مذكورة بما يريدون ذكره في خطبتهم أو مؤلفهم أو رسالتهم، وهذا هو الذي أسلفتُ لك أنه يسمى براعة الاستهلال، ولهذا يجتهد أهل العلم في الابتداء بمثل هذا اللفظ العظيم الموجز الذي يدلّ على المراد، بل ويتنافس العلماء في أن يُضمِّنوا صدور خطبهم لكتبهم ولغيرها ما يريدون إيضاحه في كتبهم أو في(19/2)
خطبهم ونحو ذلك.
المسألة الثانية أن مباحث الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة مبنية على شرح أصول الإيمان الستة؛ ألا وهي الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى؛ فالإيمان بالله يشمل الإيمان بأنه جل وعلا واحد في إلهيته مستحق للعبادة دونما سواه، والإيمان بأسمائه جل وعلا وصفاته، وأنه واحد في أسمائه وصفاته لا شبيه له ولا مثيل في أسمائه وصفاته، وهذا البحث -أعني الكلام على الإيمان بالله- لم يكن في أول الإسلام -يعني في القرون الأولى-؛ لم يكن ثَمََ حاجة إلى إفراد الكلام عن توحيد الألوهية بخصوصه؛ وإنما كانوا يكتفون بالإجمال فيه لأجل عدم وقوع الشرك في هذه الأمة وعدم ظهوره، فكانت جُل مباحث الاعتقاد فيما يتصل بمبحث الإيمان بالله عن الأسماء والصفات، وغيرُها يُعرض له بشكلٍ من الإجمال، لكن لما ظهر الشركُ وفشى كان لزاما أن يفرد هذا بالتصنيف، ولهذا لا تجد في مباحث الاعتقاد التي في هذه الرسالة الكلام مفصلا عن توحيد العبادة وعن توحيد الالهية بما اعتنى به العلماء من بعد، وإنما تجد الكلام مفصلا في مباحث توحيد الأسماء والصفات، وهذا لأجل الحاجة إليه في زمن تأليف مثل تلك الرسالة، فكلَّما كانت حاجة العباد إلى إيضاح أمر أكثر كلما اعتنى به أهل العلم، وأظهرُ إذن كتبُ توحيد الإلهية توحيد العبادة مثل كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، وثلاثة الأصول ونحوها من الكتب هذه فيها بيان لتوحيد الإلهية الذي هو أحد مباني العقيدة في ركنه الأول وهو الإيمان بالله. ثم يذكر الإيمان بالملائكة والكتب والرسل -كما سيأتي إيضاحه إن شاء اللهُ تعالى-، ثم الإيمان باليوم الآخر وهذا يدخل فيه الإيمان بالغيبيات، إذا أتى أهل العلم للكلام على اليوم الآخر والإيمان به فإنهم يذكرون الكلام على الغيبيات وما يجب على المسلم اعتقاده فيها، وطريقة أهل السنة والجماعة فيها المخالِفة والمنابِذة لطرق أهل الزيغ(19/3)
والضلال والبدعة، ثم الإيمان بالقدر خيره وشره، فإذا تم بيان أركان الإيمان الستة ذكروا ما يتبع ذلك من أمور الاعتقاد التي اعتنى بها أهل السنة والجماعة؛ وهي في أصلها ليست من مسائل الاعتقاد، لكنها أُدرجت في مسائل الاعتقاد لأجل الحاجة إليها من جهة أن أهل السنة والجماعة خالفوا فيها أهل الزيغ والضلال وأهل البدعة والفرقة؛ من مثل الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ومن مثل الكلام في أمهات المؤمنين جميعا على المؤمنين بعامة، ومن مثل الكلام في الإمامة وما يجب من طاعة أولي الأمر في المعروف، وأن الإمامة واجبة، وأن البيعة للإمام الذي بُويع أنها متعيِّنة، ولا يجوز الخروج على الأئمة بجورهم وتجب الصلاة خلفهم والجهاد معهم، ونحو ذلك من مباحث الإمامة التي خالف بها أهل السنة والجماعة الخوارج والمعتزلة ومن شابههم, كذلك يذكرون من مباحث الاعتقاد مثل المسح على الخفين، وذلك مخالفة لمن لا يرى المسح على الخفين، كذلك يذكرون في مباحث الاعتقاد كرامات الأولياء وما يُجري الله على أيديهم من أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات كما هو معلوم ويبسطون ذلك لأجل وجود من يُخالف في الأولياء وفي كراماتهم من جهة إنكارها تارة كما فعلت المعتزلة، ومن جهة الغلو في الأولياء حتى جعلتهم طائفة فوق منزلة الأنبياء، وهكذا مسائل الأخلاق تُذكر ضمن مسائل اعتقاد أهل السنة والجماعة.
إذن فمعتقد أهل السنة والجماعة يشمل هذه الأمور جميعا، وليس معتقد أهل السنة والجماعة خاص بالاعتقاد في الله جل وعلا وأسمائه و صفاته واليوم الآخر والقدر كما قد يُظن؛ بل معتقد أهل السنة والجماعة يشمل هذا جميعا، لأنه به فارقوا أهل البدع والزيغ الذين يردُّون النصوص، ولا يلتزمون بالسنة، ولا يخضعون لها ويحكِّمونها على أنفسهم تحكيما تاما، وبهذا التوجّه تميَّز أهل السنة بأنهم يعظمون السنة ويعظمون أهلها، وينبذون من خالفها أو خالف أئمتها.(19/4)
إذن فنحن فيما نستقبل إن شاء اللهُ تعالى سنعرض بإيجاز لهذه المباحث التي سيذكرها المؤلف بدون تطويل ولا تفصيل، مع أنه كان ينبغي أن تُفَصَّل، لكن لما كان الوقت قصيرا فإننا نكتفي بإشارات مجملة.
?????
2- وكلُّ ما جاءَ في القرآنِ أو صَحَّ عنِ المصطفى عليه السلامُ منْ صفاتِ الرحمنِ وَجَبَ الإيمانُ بِهِ وتَلَقِّيهِ بالتَّسْليمِ والقَبُولِ، وتَرْكِ التَّعَرُّضِ لَهُ بالرَّدِّ والتَّأْويلِ، والتَّشْبِيهِ والتَّمْثِيلِ. وما أَشْكَلَ مِنْ ذلك وَجَبَ إثْباتُه لفْظا، وتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِمعْناه، ونرُدُّ عِلْمَه إلى قائله، ونجعلُ عُهْدَتَهُ على ناقِلِه، إتِّباعا لطريقِ الرَّاسِخِين في العِلْمِ، الّذين أثْنَى اللهُ علَيْهِم في كتابِهِ المُبين بقوله سبحانَهُ وتعالى { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران:7]، وقالَ في ذَمِّ مُبْتَغِي التَّأْوِيلِ لمتشابِهِ تَنْزِيلِهِ { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } [آل عمران:7]، فَجَعَلَ ابْتِغَاءَ التَّأْويلِ علامَةً الزَّيْغِ وقَرَنَهُ بابْتِغَاءِ الفِتْنَةِ في الذَّمِّ، ثم حَجَبَهُمْ عمَّا أَمَّلُوهُ، وقَطَعَ أَطْمَاعَهُمْ عمَّا قَصَدُوهُ، بقوله تعالى { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } [آل عمران:7].
هذا بيان للأصل الأول؛ ألا وهو أنّ أهل السنة والجماعة تميّزوا عن غيرهم بالتسليم لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القرآن العظيم ومن سنته عليه الصلاة والسلام، فسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي، والقرآن كلام الله جل وعلا، فما أتانا في الكتاب والسنة وجب اعتقاده والتسليم له، وتصديقه في الأخبار، وإتباعه في الأمر والنهي والأحكام.(19/5)
وهاهنا ذكر المؤلف أن ما أشكل من النصوص وجب الإيمان به لفظا وترك التعرض لمعناه، وهذا لأنّ أهل السنة والجماعة قالوا: إن النصوص - نصوص الكتاب والسنة- واضحة بيّنة. لأن الله جل وعلا أنزل كتابه وجعله واضحا بيِّننا بلسان عربي مبين.
o وجعله محكما كما قال جل وعلا { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود:1]؛ فجعل جل وعلا كتابه كله محكما؛ يعني بيّنا واضحا لا يستبهم معناه، ولا يغمض ما دل عليه على الناس.
o كذلك هو جل وعلا ذكر أن كتابه متشابه، فقال جل وعلا { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } [الزمر:23] فجعله كلّه متشابها ومعنى ذلك أنه يشبه بعضُه بعضا.
o وفي آية آل عمران جعل جل وعلا { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران:7] وهذا يعني أنّه منه ما هو واضح بيّن، ومنه ما هو مشتبه.
فكيف نجمع بين هذه الآيات الثلاث؟ المؤلف ذكر الخلاصة لكن تحتاج إلى إيضاح.
فنقول: القرآن محكم كله، ومتشابه كله، ومنه محكم ومنه متشابه:
فالإحكام بمعنى الوضوح والبيان فهو كله واضح بيّن على جنس الأمة، قد لا يكون واضحا بينا لكل أحد، لكنه واضح بيّن لجنس الأمة.
كذلك وصفه بأنه متشابه بقوله { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } [الزمر:23] يعني يشبه بعضه بعضا، فهذا أمر وهذا أمر، وهذا نهي وهذا نهي، وهذا خبر وهذا خبر، وهذا وصف للجنة وذاك للجنة، وهذه قصة لنبي من الأنبياء وهذه قصة للنبي نفسه، وهكذا بعضه يشبه بعضا.(19/6)
أمّا الثالث -يعني القسم الثالث- هو ما ذُكر في آية آل عمران بقوله { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ } [آل عمران:7] يعني بعضه محكم واضح المعنى بيِّن الدلالة، وبعضه ليس كذلك؛ مشتبه المعنى ومشتبه الدِّلالة، وهذا المشتبه المعنى والمشتبه الدِّلالة لا يوجد في القرآن ولا في السنة عند أهل السنة والجماعة بمعنى التشابه المطلق؛ يعني أن قوله تعالى { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران:7] يُعنى به التشابه النسبي الإضافي؛ يعني أنه يشتبه على بعض الناس دون بعض، أمّا التشابه المطلق بحيث يقال هذه الآية من المتشابه، أو يقال { الم } ([2]) هنا من المتشابه يعني لا أحد يعلم معناه فهذا من الخطأ، ولا يقول به أهل السنة، بل أهل السنة يقولون: إنه يُمكن أن توجد الآيات تشتبه على بعض أهل العلم فلا يُعلم معناها. لا يُعلم معناها من جهة هذا المطالع، لكن ليس من جهة الأمة بأجمعها، فيعلم بعض أهل العلم المعنى، والبعض الآخر لا يعلم المعنى، ولهذا ابن عباس لمّا تلا هذه الآية قال ”أنا ممن يعلمون تأويله“ فإذن يُقال هذه الآية من المتشابه لا يوجد المتشابه المطلق؛ يعني الذي لا يعلم أحد معناه، بل لابد أن يوجد في الأمة من يعلم معنى كل نص، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، نزل ليهتدي به الناس، كذلك السنة، فلا يوجد نص يشتبه على جميع أهل العلم وعلى الأمة, لا، وهذا القول بأنه هناك ما يشتبه على الجميع، ولا يفهم معناه الجميع، هذا إنما هو قول أهل البدع.
فإذن المؤلف هنا قسم إلى قسمين:
باعتبار بعض الناس لا باعتبار الجميع فقال (النصوص نتلقاها بالتسليم والاعتقاد من غير أن نرُدها أو نُشبِّه أو نمثل) وهذا هو في القسم الأول يعني الآيات المحكمات الواضحات.(19/7)
ما اشتبه عليك قال (وجب الإيمان به لفظا) وهذا اللفظ الذي ذكره في قوله (وجب الإيمان به لفظا) مما أُنتقد على الإمام موفق الدين بن قدامة فإنه في هذه العقيدة الموجزة اُنتقدت عليه ثلاث مسائل هذه أولها وهي قوله (وجب الإيمان به لفظا) ويمكن أن يُخَرَّجَ كلامه يعني أن يُحمل على محمل صحيح
أما الانتقاد فهو أن يُقال: إن الواجب أن نؤمن به لفظا ومعنىً، لكن إذا جهلنا المعنى نؤمن بالمعنى على مراد الله جل وعلا، أو على مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم -،كما سيأتينا من كلمة الإمام الشافعي أنه قال ”آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مراد رسول الله“ يعني إذا جهل المعنى, فإذا جهلتَ المعنى تؤمن باللفظ والمعنى لكن المعنى على مراد من تكلم به، ووجه الانتقاد الذي اُنتقد به الإمام ابن قدامة في هذه اللفظة أنه يجب الإيمان باللفظ والمعنى، أمّا الإيمان بلفظ مجرد عن المعنى فهذا هو قول أهل البدع؛ الذين يقولون: نحن نؤمن بألفاظ الكتاب والسنة دون إيمانٍ بمعانيها لأن معانيها قد تختلف. والجواب أن هذا غلط بل معاني الكتاب والسنة هي على المعنى العربي فالقرآن نزل بلسان عربي، والنبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بلسان عربي، فلهذا وجب أن يُؤْمَنَ بالكتاب والسنة على ما تقتضيه لغة العرب، وعلى ما يدل عليه اللسان العربي، وهذا أصل من الأصول لكن إذا اشتبه عليك المعنى؛ كلمة في القرآن ما علمت معناها, حديثا إمّا في الصفات أو في الغيبيات لم تعلم معناه، نقول نؤمن به لفظا ومعنىً؛ يعني معناه مفهوم، لكن على مراد الله، ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الذي جاء في الآية حيث قال جل وعلا { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ(19/8)
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران:7].
هنا قال (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ماذا يُعنى بهذا التأويل؟ إذا قلنا أن كل آية لابد أن نعلم معناها وكل حديث لابد أن يوجد في الأمة من يعلم معناه فما معنى (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)؟
الجواب أن ما أنزل الله جل وعلا على قسمين:
1. إمّا أن يكون أخبارا.
2. وإمّا أن يكون أحكاما.
وتأويل الأخبار يكون بوقوعها. وتأويل الأحكام؛ الأمر والنهي يكون بإيقاعها.
فقول الله جل وعلا هنا (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) يعني تلك الأخبار ما يعلم تأويلها إلا الله، لأن الله جل وعلا هو الذي يعلم حقيقة ما تؤول إليه، أو يعلم ما تؤول إليه حقيقة تلك الألفاظ وتلك الآيات، وذلك أن التأويل في القرآن أتى بمعنيين لا ثالث لهما:
الأول: التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء وهذا كما في قوله تعالى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ } [الأعراف:53] الآية (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) يعني ما تؤول إليه حقيقة أخباره وأحكامه، فحقيقة الأخبار تؤول إلى ظهورها من الصفات والغيبيات، كذلك الأحكام حقيقتها تؤول إلى ظهور أثر من تمسك بها وامتثلها ممن عصى وخالف، هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: وهو فرع عن هذا، التأويل بمعنى التفسير قال { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } [يوسف:45] بتأويله يعني بتفسير الرؤيا، وهذا مرتبط بالمعنى الأول؛ يعني الحقيقة التي تؤول إليها الرؤيا في الواقع المشاهَد.(19/9)
فإذن قوله هنا (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ليس هو التأويل الحادث الذي يقوله بعض أهل الأصول؛ وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره لمرجح أو لقرينة تدل عليه. لا، هذا إنما هو اصطلاح حادث، أما التأويل فهو في القرآن والسنة له معنيان لا غير.
فإذن قوله هنا (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) فإذا كان في آيات الصفات ووقفنا على هذه الآية وقلنا (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ووقفنا، فنريد بالتأويل ما تؤول إليه حقيقة الأسماء والصفات يعني الكيفية لا يعلم الكيفية؛ وهي الحقيقة التي تؤول إليها آيات الأسماء والصفات والأحاديث التي فيها الأسماء والصفات، لا يعلم كيفية اتصاف الله جل و علا بها إلا هو سبحانه، وإذا أُريد بالتأويل معنى التفسير لا الكيفية فإن الراسخين في العلم يعلمون، ولهذا طائفة من السلف يرون الوقف على كلمة (الْعِلْمِ) يقولون (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ويقف، لأن الراسخون في العلم يعلمون المعنى، لكن لا يعلمون الكيفية، فإذا كان الاشتباه واقع في المعنى كان الراسخون في العلم ممن يعلمون، وإذا كان الاشتباه وقع في الكيفية كان العلم مقصورا على ربِّ الأرض والسماوات.
وهذا معنى قوله (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ولهذا قال ابن عباس: أنا ممن يعلم تأويلَه.
?????(19/10)
3- قالَ الإمامُ أبو عبدِ اللهِ أحمدُ بنُ محمدٍ بنِ حنبلٍ - رضي الله عنه - في قولِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - «إنَّ اللهَ ينزِلُ إلى سماءِ الدُّنْيَا»و«إنَّ الله يُرى في القيامَةِ» وما أشبه هذه الأحاديثَ، قال: نؤمِنُ بها ونُصَدِّقُ بها لا كَيْفَ ولا مَعْنَى ولا نَرُدُّ شيئا منْها، ونَعْلَمُ أنَّ ما جاءَ به الرَّسولُ حقٌّ، ولا نَرُدُّ على رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ولا نَصِفُ اللهَ بأكْثَرَ مما وَصَفَ بِهِ نفسَهُ، بِلاَ حَدٍّ ولا غايَةٍ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11]. ونقولُ كما قالَ، ونَصِفُهُ بما وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، لا نَتَعَدَّى ذلك، ولا يَبْلُغُهُ وصفُ الواصِفِينَ، نُؤْمِنُ بالقرآنِ كُلِّهِ مُحْكَمُهُ ومُتَشَابِهُهُ ولا نُزِيلُ عَنْهُ صفةً مِنْ صفاتِه لشَنَاعَة شُنِّعَتْ، ولا نَتَعَدَّى القرآنَ والحديثَ، ولا نَعْلَمُ كيفَ كُنْهُ ذلك إلاَّ بتصديقِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - وتَثْبِيتِ القرآنِ.(19/11)
هذا الكلام من إمام أهل السنة والجماعة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المتوفى سنة 241هـ الإمام الذي نصر به الله جل وعلا السنة وقمع به البدعة، وجعله جل وعلا في وقته ميزانا يوزن به الناس، يقول فيه (إننا نؤمن بما جاء من النزول-وغير ذلك من آيات الصفات- كما جاء، لا نتجاوز القرآن والحديث، قال: بلا كيف ولا معنى) وهذا الكلام منه رحمه الله تعالى رحمة واسعة، أشكل على بعضهم كيف يقول بلا كيف ولا معنى؟ وحقيقة هذا اللفظ الذي ورد عنه أنه يوافق مذهب المفوّضة، والمفوضة طائفة كانت تقول نؤمن بالألفاظ بلا معاني، يعني نفوض المعنى والكيفية جميعا، وهذا معتقد باطل وبدعة شنيعة، وإنما الواجب تفويضُ العلم بالكيفية، أما المعنى فهو ظاهر لأن القرآن أنزل بلسان عربي مبين، فإذا كان أهل السنة والجماعة يؤمنون بالألفاظ والمعاني؛ يعني بما دل عليه اللفظ من كلام العرب، فكيف إذن يُحمل كلام الإمام أحمد بقوله(بلا كيف ولا معنى) وهذه أيضا مما أُخذ على المؤلف حيث لم يُوضِح المراد من كلام الإمام أحمد.
وأهل العلم يقولون إن الإمام أحمد أراد بقوله (بلا كيف ولا معنى) الرد على طائفتين:
1. الطائفة الأولى المشبهة المجسمة رد عليهم بقوله (بلا كيف) يعني الكيفية التي تتوهمها العقول، أو وَصَفَ اللهَ جل وعلا بها المجسمة أو الممثلة.
2. وقوله (ولا معنى) ردّ بها رحمه الله على المعطلة، الذين جعلوا معاني النصوص على خلاف الظاهر المتبادر منها، فقالوا إن معنى النزول الرحمة، وقالوا إن معنى الاستواء الاستيلاء، وقالوا إن معنى الرحمة الإرادة؛ إرادة الإحسان أو إرادة الخير، وإن الغضب معناه إرادة الانتقام ونحو ذلك فهذا تأويل منه.(19/12)
فالإمام أحمد يقول (بلا كيف) الكيف الذي جعله المجسمة، (ولا معنى) الذي جعله المعطلة، يعني المعنى الباطل الذي صرف الألفاظ إليه المبتدعة المؤولة. فإذن قوله (بلا كيف ولا معنى) يريد بقوله (ولا معنى) المعنى الباطل الذي تأول به وإليه المبتدعة نصوص الصفات والنصوص الغيبية.
وهذا نأخذ منه قاعدة مهمة: وهي أن طالب العلم الذي يعتني بأمر الاعتقاد يجب عليه أن يفهم اعتقاد أهل السنة والجماعة تماما، فإذا فهمه وورد بعد ذلك ألفاظ مشكلة عن الأئمة, عن التابعين, من تبع التابعين، عن بعض الأئمة فإنه بفهمه للاعتقاد الصحيح سيوجّه معناها إلى معنىً مستقيم، لأنه لا يُظن بالإمام أحمد وهو إمام أهل السنة والجماعة الذي حكم بالبدعة على المفوضة أنه يقول (ولا معنى) يعني ليس للآيات والأحاديث معنى يفهم بتاتا، فإذن فهمُك لأصول الاعتقاد وأصول ما كان عليه أهل السنة والجماعة، وضبطُك لذلك، به يمكنك أن تجيب على كثير من الإشكالات، ونحن في هذا الزمان ربما كتب بعض الناس كتابات في أن السلف يقرّون التأويل، وأنه وُجد التأويل للصفات في زمن الصحابة، أو وجد في زمن الصحابة من ينكر بعض الصفات، أو وجد في التابعين من يؤول، والإمام أحمد أوَّلَ، ونحو ذلك، وهذا من جرّاء عدم فهمهم لأصول أهل السنة والجماعة، وابتغاء الفتنة، وابتغاء التأويل الذي وصف الله جل وعلا به الزائغين، وإذا فهمت الصواب وفهمت المنهج الحق والاعتقاد الحق فإنه يمكن بذلك أن تجيب عن ما ورد عن بعض أئمة أهل السنة من ألفاظ ربما خالف ظاهرُها المعتقد، أو ظُن أن فيها شيء من التأويل، يمكن أن تجيب عليها بأجوبة محققة واضحة.(19/13)
وهذه قاعدة مهمة؛ مثل ما ترون من كتابات نُشرت فيما مضى، بل ربما تنشر إلى الآن، من أن الأمر في التأويل وأمر الاعتقاد، السلف اختلفوا في الاعتقاد فلا تجعلوا الاختلاف في العقيدة سبب للتفريق وسبب لكذا، ثم يَستدل ببعض أقوال الإمام أحمد، ببعض أقوال الصحابة، وبعض أقوال التابعين، وهو كأنما يتصيَّد تلك ليُلبِّس بها، ولو كان يفهم معتقد أهل السنة والجماعة فهما كاملا لأَمكَن الإجابة عن تلك بوضوح، وذلك من مثل ما يُذكر؛ بل ما ثبت عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } [القلم:42] قال (يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يعني يكشف عن شدة، كما يقال كشفت الحرب عن ساقها يعني كشفت الحرب عن شدة وبأس, عن الشدة والبأس، قال هذا: ابن عباس لا يثبت صفة الساق لله جل وعلا. وأين هذا من المدعى؟ لاشك أن هذا خلاف ما يقتضيه العلم؛ كون هذا القول ثابتا عن ابن عباس - رضي الله عنه - لا يعني أنه ينفي صفة الساق؛ لأن صفة الساق جاءت موضَّحة في حديث أبي سعيد الخدري وفي غيره؛ حيث قال «ثم يكشف ربنا عن ساقه» فإذا أضيف لم يحتمل إلا الصفة؛ لأن الذوات إذا أضيفت فإمّا تقتضي الإضافة التشريف أو الصفة، وهذا لا يقتضي التشريف وإنما يقتضي الوصف، وأما إذا لم يضف في الآية فصحيح يمكن أن يحمل على ما فسرت به العرب من أنها تقول كُشف اليوم عن ساق يعني عن شِدّة؛ لأنه في الآية لم ترد مضافة، فاحتمل أن يكون المراد الكشف عن الشدة، ولهذا فسر ابن عباس وغيره الآية بهذا، بينما نقول إن الصحيح أن ما فسر الآية به عامة الصحابة والتابعين من أن المراد بـ(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) أنه يكشف عن ساق الله جل وعلا، لأنه دل على ذلك، وفسره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهل يؤخذ تفسير القرآن عن أحد أفهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو عليه الصلاة والسلام بيَّن ذلك فيما رواه البخاري في(19/14)
صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري ورواه غيره أيضا؟.
?????
4_ قالَ الإمامُ أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ إدريسَ الشَّافعيُّ - رضي الله عنه - ”آمنتُ باللهِ وبما جاءَ عَن اللهِ على مُرادِ اللهِ، وآمنتُ برسولِ اللهِ وبما جاءَ عَن رسولِ اللهِ على مُرادِ رسولِ اللهِ“.
5_ وعلى هذا دَرَجَ السَّلَفُ وأَئِمَّةُ الخَلَفِ - رضي الله عنهم -، كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ على الإقْرارِ، والإمْرارِ والإثْباتِ لما وَرَدَ مِن الصِّفاتِ في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لتأْوِيلِهِ.
6_ وقد أُمِرْنا بالاقْتِفَاءِ لآثارِهِمْ والاهتداءِ بمنارِهِم، وحُذِّرْنا المُحْدَثاتِ، وأُخْبِرْنا أنَّها مِنَ الضَّلالاتِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «عَلَيْكُم بِسُنّتِي وَسُنّةِ الْخُلَفَاء الرّاشِدِينَ المَهْدِيّينَ مِنْ بَعْدِي، عَضّوا عَلَيْهَا بِالنّوَاجِذِ, وَإِيّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ, فَإِنّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ, وَكلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ».
كلام الإمام الشافعي واضح، وقد استدل به المؤولة بأن الشافعي رحمه الله لا يعلم معاني تلك الآيات والأحاديث التي في الصفات، فقال ”آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم -“ فقالوا هذا يعني أنه أحال المعنى على مراد من تكلم به، وهذا يدل على أنه لم يفهم المعنى، وهو الإمام الشافعي.(19/15)
والجواب أنه لم يُرد ذلك، وإنما هذا إيمان مجمل، فنحن نقول كما قال الإمام الشافعي: آمنا بالله وبما جاء عن الله فيما علمنا وفي ما لم نعلم على مراد الله. هذا يقتضي تمام التسليم وتمام الامتثال لما أُمرنا به، كذلك: آمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما علمنا من النصوص وما لم نعلم. فهذا إيمان مجمل، معناه أننا لا نترك شيئا مما جاء عن الله ولا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ونحن مؤمنون به ما علمنا منه وما لم نعلم كل من عند ربنا. والشافعي رحمه الله قال هذه الكلمة إتباعا لما أمر الله جل وعلا به في كتابه حيث قال { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران:7]، فما علمنا معناه واضح الإيمان به، وما جهلنا معناه واشتبه علينا نقول: آمنا به على مراد ربنا جل وعلا وعلى مراد رسولنا - صلى الله عليه وسلم -، حتى نسأل فيه أهل العلم، فإذا سألنا فيه أهل العلم وبينوا لنا معاني الكتاب والسنة هنا نعتقد المعنى كما نعتقد في الألفاظ.(19/16)
ثم ذكر أن التأويلات هذه مُحْدَثة، وهذا ظاهر بين فإن الصحابة - رضي الله عنهم - في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقوا النصوص من الكتاب والسنة بالتسليم,([3]) بل إن هذا الأمر وهو حال الصحابة رضوان الله عليهم مع نصوص الكتاب والسنة هو الذي هدى اللهُ جل وعلا به بعض كبار الأشاعرة؛ مثل الجويني له رسالة مشهورة، وكان مما قال فيها: أنني وجدت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتيه الأعرابي وغير الأعرابي، والذكي والبليد، والفطن وغير الفطن، فيسمعون منه الآيات المشتملة على الصفات التي يقتضي ظاهرُها التشبيه والتمثيل؛ يعني عند المؤولة، ويشمل الآيات التي تشتمل على الأمور الغيبية، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُتبع ذلك ببيان يقول فيه ولو مرة واحدة، لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص فإن لها معاني تخفى، فيأتيه الأعرابي من البادية فيسمع القرآن، ويأمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمن بالكتاب، وبما يسمع من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يفهمه من معنى بلغة العرب. قال: وهذا يدل دلالة واضحة بينة على أن ظواهر هذه النصوص مُراد، وأنه لا يجوز تأويلها بحال؛ لأنه لو جاز تأويلها حيث إن ظاهرها يوهم المشابهة والمماثلة لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين ذلك للأعراب الذين يأتونه من بقاع شتى وهم على جهل وعلى عدم علم وربما توهمت أنفسهم في تلك المعاني ظاهر ما يدل عليه اللفظ. فقال: لمَّا لم يتبع ذلك ببيان دل على أن ظواهر النصوص مُرَادٌ وأن الإيمان بتلك النصوص واجب على ما ظهر من معناها على قاعدة قطع المماثلة التي ذكر الله جل وعلا في قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11].(19/17)
إذن في عهد الصحابة لم يحدث تأويل ولم يحدث خلاف في الاعتقاد، وكذلك في عهد التابعين، حتى بدت في أواخر عهد التابعين الضلالات تظهر مع طوائف من الخوارج، ثم المعتزلة ثم انتشر ذلك في الأمة، وهذا يدلّك على أن التأويل والمخالفة في النصوص؛ في التسليم للنصوص أن هذا من البدع والمحدثات، والبدع والمحدثات مردودة «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» من أحدث في أمرنا هذا في الأمور العلمية ما ليس منه فهو رد، يعني مردود على صاحبه ومن أحدث في أمرنا هذا مما في الأمور العملية ما ليس منه فهو رد؛ مردود على صاحبه، وهذا يدخل فيه الأمور العلمية والعملية، وهذا كما سيأتي من كلام ابن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال ” اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ “.
?????
7_ وقالَ عبدُ الله بنُ مسعودٍ - رضي الله عنه - ”اتَّبِعُوا ولا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ“.
8_ وقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ - رضي الله عنه - كلامًا معناهُ ”قِفْ حيثُ وَقَفَ القومُ، فَإِنَّهُم عَنْ عِلْمٍ وَقَفُوا، وبِبَصَرٍ نافِذٍ كَفُّوا، وَلَهُمْ عَلَى كَشْفِها كانوا أَقْوَى، وبالفَضْل لوْ كانَ فيها أَحْرَى، فَلَئِنْ قُلْتُمْ حَدَثَ بَعْدَهُم، فَمَا أَحْدَثَهُ إلا مَنْ خَالَفَ هَدْيَهُمْ، وَرَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِمْ، ولقَدْ وَصَفُوا مِنْهُ ما يُشْفِي، وتَكَلَّمُوا مِنْه بما يَكْفي، فَما فَوْقَهُم مُحَسِّرٌ، وما دونهم مُقَصِّرُ، لَقَدْ قَصُرَ عَنْهُم قَوْمٌ فَجَفَوْا، وَتَجاوَزَهُمْ آخَرُون فَغَلَوْا، وإِنَّهُمْ فِيما بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مستقيمٍ“.
9_ وقالَ الإمامُ أبو عمْرٍو الأوزاعيُّ - رضي الله عنه - ”عليْكَ بآثارِ مَنْ سَلَفَ وإنْ رَفَضَكَ النّاسُ، وإيّاك وآراءَ الرِّجالِ وإنْ زَخْرَفُوهُ لَكَ بالقوْلِ“(19/18)
رضي الله عن عمر بن عبد العزيز فقد نصحنا بنصيحة شافية كافية لو كان في القلوب حياة, قال ”عليك بآثار من سبق“ ثم وصف من سبق وهم الصحابة - رضي الله عنهم -، بأنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفُّوا, فقسم حال الصحابة إلى قسمين:
الأول: أنهم وقفوا على علم؛ فهم أعلم الناس، أعلم هذه الأمة هم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم أحرى بالعلم من غيرهم وما بعدهم ينقص فيهم العلم، فالصحابة هم أهل العلم، وأهل الإدراك، وأهل العقول المستقيمة، وأهل الأفهام المستنيرة, هم أهل فهم الكتاب والسنة, وتفسير الكتاب والسنة إنما يؤخذ من مشكاة الصحابة رضوان الله عليهم, وصفهم عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - بقوله ”فإنهم على علم وقفوا“ وقفوا على علم؛ العلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو على علم علموه من الكتاب والسنة بما فهموه بما تقتضيه لغة العرب، أو بما علّمه بعضهم بعضا، فما ذكروه من المسائل ذكروه على علم وعلى بصيرة، هذا القسم الأول.
والقسم الثاني: ما كفوا عنه وسكتوا عنه قال ”وببصر نافذ كفوا“ ببصر كفوا عمّا كفُّوا عنه، فلم يدخلوا في مسائل مما دخل فيها ممن بعدهم، لأجل عجزهم؟ لا، ولكن لأجل نفوذ بصرهم وبصيرتهم وفهمهم وإدراكهم وعلمهم، فإنهم تكلموا فيما تكلموا فيه على علم وقفوا عليه، وما سكتوا عنه أو لم يدخلوا فيه فإنهم كفوا عنه ببصر وبصيرة.(19/19)