" والثانية أن يكرموا في المجالس وأن يقدموا لأجل أنهم من آل رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وإذا كان العالم منهم مع علماء فإنه يقدم على من شاركه في العلم لأجل أن معه مزية النسب وفضيلة أنه من آل رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وإذا كان العامي مع أمثاله فإنه يقدم عليهم يقدم على أمثاله لأنه فاقهم لكونه من آل بيت رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
" الثالث من مقتضيات هذه المحبة أن آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حق أن يكرموا وأن يعانوا وأن يدافع عنهم وأن ينصروا وأن تحفظ أعراضهم ، ولهم حق في الفيء بعامة ، والصدقة يعني الزكاة المفروضة حرام عليهم ، فإذا كان آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ محتاجين إلى بعض المال فحق على من يحبهم أن يعينهم لأنهم إن منعوا الفيء فإنهم لا بد أن يُغْنَوا ، وقد اختلف أهل العلم هل لهم يعني لآل البيت أن يأخذوا من الزكاة إذا مُنِعوا الفيء ؟ فلم يجزه الأكثرون وأجازه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم وهو الأصوب في هذا ، فإذا منعوا الفيء ولم يكن ثَم من يعطيهم من الزكاة فإن الناس يعينونهم ولا بد لأنهم من آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهذا معنى الموالاة والمحبة لهم وقول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) يعني أذكرهم وصية الله في أهل بيتي وقد قال جل وعلا ?قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى? والمودة في القربى يعني أن تصلوني لأجل ما بيني وبينكم من القرابة ، والمخاطب بذلك قريش وآل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مشتركون في هذا الأمر .(13/187)
قال (وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) (أهل) و (آل) متقاربة لكن (آل) لا تطلق إلا على البيوت العظيمة المشتهرة ، إذا اشتهرت بعلم أو رياسة أو فاقت الناس يقال (آل فلان) و (أهل) هذه أعم .
و (أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) وأهل النبي هم آله ، لأن الأهل ليس معناه الزوجات فحسب وإنما كلمة أهل في اللغة وفي الشرع تطلق على الزوج - يعني الزوجة - وعلى الأبناء وعلى الإخوان وعلى الأخ ونحو ذلك ، وأدلة هذا معروفة ?إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي? وقال جل وعلا في قصة موسى ?وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي? فكلمة (آل) و(أهل) هذه وهذه تتناوب من حيث المعنى ، شيخ الإسلام استعمل لفظ (أهل) لأنه أعم في هذا السياق ، و (آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) لها إطلاقان :
الإطلاق الأول : أن يراد به خصوص آله ، يعني خصوص أهله ، لهذا شيخ الإسلام هنا عبر بلفظ الأهل لأجل هذا الإطلاق .
وهؤلاء يراد بهم الخمسة بيوت المشهورة بقرابة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما جاء ذلك في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم ، وهؤلاء هم (آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل العباس وبنو الحارث بن عبد المطلب) .
هؤلاء هم الذين تحرم عليهم الصدقة ، يعني تحرم عليهم الزكاة ، ومنعوها لأنهم طاهرون والزكاة أوساخ الناس كما قال عليه الصلاة والسلام (إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس) فهؤلاء الأربعة بيوت التي جاءت في مسلم وزاد عليها العلماء (بنو الحارث بن عبد المطلب) هؤلاء هم الذين تحرم عليهم الصدقة ، يعني الزكاة هم آل النبي عليه الصلاة والسلام .(13/188)
وهؤلاء منهم أهل الكساء الذين أدار عليهم النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كساءه وخصهم بذلك وفيهم نزل قول الله جل وعلا في سورة الأحزاب ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا? وقد أدار النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الكساء على طائفة من أهل البيت وهم (علي وفاطمة والحسن والحسين) فهؤلاء أخص لهم الحق الأخص وجميع آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لهم الحق وهؤلاء لهم حق أخص .
أيضا من الآل زوجات النبي عليه الصلاة والسلام .
فإذن شمل آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثلاث فئات :
" الخمس بطون الذين ذكرت .
" وعلي وفاطمة والحسن والحسين وهم يدخلون في آل علي في التفسير الأول .
" وزوجات النبي عليه الصلاة والسلام ، هذا الأول .
والثاني : أن آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ تطلق إطلاق عام ليس هو المراد في هذا الموطن ، وهذا الإطلاق يراد به الأتقياء الذين تبعوا النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ على دينه ورسالته وسنته ، وهذا اختيار ابن القيم رحمه الله في قول المصلي (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) يعني على أتباع محمد (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) يعني على إبراهيم وعلى أتباع إبراهيم .
قال (وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: "أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي")(13/189)
(يَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) لأنه عليه الصلاة والسلام قال (أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) يعني أذكركم أمر الله في أهل بيتي ، أذكركم وصية الله في أهل بيتي ، أذكركم تقوى الله بأهل بيتي ، فتذكر الله في أهل بيته هو تذكر شرعي ، الشرع الذي جاء من عند الله في آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وقد جاء في إكرام آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وفي محبتهم وتوليهم أحاديث كثيرة .
قوله (حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ) (خُمٍّ) مكان فيه ماء بين مكة والمدينة ولما رجع النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من حجة الوداع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة وقف عند هذا الغدير وخطب الناس في ذلك اليوم يوم الثامن عشر من ذي الحجة خطب الناس في ذلك الغدير ، ذلك المكان ، حيث قال في ذلك ذكّر الناس ووعظهم وحثهم على التقوى ثم أمرهم بالاستمساك بحبل الله جل وعلا وهو كتاب الله جل وعلا قال في ذلك عليه الصلاة والسلام (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله) ثم ذكر كلاما ثم قال في آخره (وَأَهْلَ بَيْتي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) .
منهم من روى هذا الحديث بالجمع قال (كتاب الله وعترتي أهل بيتي) وهذا من السياق بالمعنى وجعل في آخره كما هي رواية الترمذي - الحديث حديث غدير خم في صحيح مسلم حديث زيد بن أرقم حديث مشهور معروف الروايات فيه مختلفة منه رواية عند الترمذي وعند غيره - حيث قال فيها (وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) ففهم من ذلك أن هذين اللذين لن يتفرقا كتاب الله جل وعلا وأهل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(13/190)
وهذا الفهم غلط لأن هذا الحديث حصل فيه اختصار في الروايات وزيد بن أرقم رضي الله عنه ذكر بأنه اختصر الكلام كما في صحيح مسلم وأنه لم يسقه لشيء حصل له أو لعدم ضبطه لذلك ، والرواية التي في صحيح مسلم واضحة وفي غيرها جاء فيها هذا اللفظ (وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) وقد قال عدد من المحققين من أهل الحديث أن هذا اللفظ سيق بالمعنى وبعضهم جعله من الشاذ وأن هذه اللفظة غير محفوظة بل هي شاذة ، وقد وردت هذه الرواية عند الحاكم - الحديث على تخريج الحديث يطول لكن الرواية عند الحاكم - وعند غيره أن الذي حث عليه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فقال (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا) قال فيه (كتاب الله وسنتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) فهو عليه الصلاة والسلام أوصى بالاستمساك بكتاب الله وبسنة رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فلما فرغ من الوصية بالكتاب والسنة قال (أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) .
فإذن ليس المراد بقوله (تركت فيكم أمرين) في بعض الألفاظ أو (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا) ليس المراد بأحد هذين الأمرين أهل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بل هما الكتاب والسنة ، ومن جعل أحد هذين الأمرين آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أو العترة فقد أدخل شيئا في شيء وروى بالمعنى كما فهمه وليس هذا بصحيح كما حققه الأئمة من أهل الحديث ومن أئمة السنة في العقيدة .(13/191)
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه -وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ- فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي" ، وَقَالَ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ")
فأنا خيار من خيار من خيار ، وهذا ظاهر الدلالة على ما ذكره شيخ الإسلام من أن أهل السنة والجماعة يحبون آل البيت لمحبتهم لرسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
قال بعدها (وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ: خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه)
(وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) أزواج النبي عليه الصلاة والسلام هم زوجاته ، الأفصح أن يقال للمرأة : زوج الرجل ، وزوجة يجوز ذلك على قلة كما جاء ذلك في وصف عائشة في صحيح مسلم (وإنها زوجة نبيكم صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الدنيا والآخرة) .
وأزواج جمع زوج ، والزوجات جمع زوجة ، فقوله (وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ) يعني زوجاته ، والتعبير بالأزواج والمفرد زوج أفصح .
قال (أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) النبي عليه الصلاة والسلام تزوج عددا من النساء وتسرى بمارية القبطية التي أهداها له المقوقس عظيم مصر ، وكانت زوجاته حين توفي رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كن تسعة .(13/192)
وأول زوجاته خديجة ولم يتزوج عليها أحدا عليه الصلاة والسلام وكانت أعظم النساء عنده عليه الصلاة والسلام .
وأول زوجاته لحوقا به زينب بنت جحش حيث قال عليه الصلاة والسلام (أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا) فكانت الأطول يدا في الخير والصدقة والبذل زينب بنت جحش ، توفيت رضي الله عنها سنة عشرين من الهجرة وعائشة توفيت سنة سبع وخمسين وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه وعنها .
قال (وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) أمهات المؤمنين لأن الله وصفهن بذلك في قوله ?وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ? وهن أمهات المؤمنين من جهة المكانة لا من جهة المحرمية .
يعني من جهة المكانة ، ومن جهة الحرمة ، فلا يحل لأحد أن يتزوج امرأة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بعده ، والناس ليسوا محارم لزوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بل هن أجنبيات عن الأمة.
فإذن هن من جهة الحرمة محرمات أما من جهة المحرمية ليس الرجال محارم لزوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذه مرتبة بين المراتب ، وهناك من النساء من هن محرمات ومن حرمت عليه المرأة كان محرما لها ، وهناك من النساء من هن محرمات ولا تكون محرما يعني لا يكون الرجل محرما لها مع أنها محرمة عليه ، وهناك من النساء من هي محرمة ومحرم ولكن لا يستحسن أن يكون خاليا بها أو محرما لها في سفر ونحو ذلك على ما هو معلوم من تفاصيل ذلك في كتاب النكاح .
قال (وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ) ذلك لأن أزواج النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الدنيا هن زوجاته في الآخرة كما ثبت ذلك في الحديث .(13/193)
(خُصُوصًا خَدِيجَةَ) خديجة هي أفضل زوجات النبي عليه الصلاة والسلام في أول الإسلام وهي أعظم زوجاته نصرة له وهي أول زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهي أول الناس إسلاما وإيمانا بالنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
قال شيخ الإسلام في وصف خديجة (أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ) ، (أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ) يعني باستثناء إبراهيم فإنه كان من سريته مارية القبطية ، وأولاد النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من الرجال يعني من الذكور ومن الإناث كانوا من خديجة ، روي أن عائشة حملت وأسقطت لكن هذا ليس بصحيح فإن زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ما حمل منهن إلا خديجة ومارية .
قال عن خديجة (وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ)
وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ)
يعني وأخص الصديقة بنت الصديق .
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".
ذكر هاتين الزوجتين خديجة وعائشة لأنهما أعظم زوجاته وأحب زوجاته إليه ، وكانت عائشة كثيرا ما تغار إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام خديجة ، ولما توفيت خديجة أُري النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عائشة في المنام وكانت زوجته عليه الصلاة والسلام .
اختلف أهل العلم في خديجة وعائشة أي هاتين أفضل ، هل خديجة أفضل من عائشة ؟
أم عائشة أفضل من خديجة ؟
" فمنهم من فضل خديجة لما جاء في فضلها من الأحاديث الكثيرة ولأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وصفها بأنها كملت وهي التي ناصرت النبي عليه الصلاة والسلام وساندته وأيدته وبذلت له عليه الصلاة والسلام مالها وكانت له ردءا ولها من المقامات في أول الأمر ما ليس لعائشة .(13/194)
"ومنهم من فضل عائشة وقال عائشة أفضل لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ) والنساء يدخل فيها خديجة ، وقالوا أيضا عائشة رضي الله عنه نفعت الأمة جميعا بما روت من الأحاديث وما حفظت من سنة النبي عليه الصلاة والسلام وبما بينت للأمة من الأحكام حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرجعون إلى عائشة إذا اختلفوا ، واستدركت عائشة على عدد من الصحابة في الأحكام وصنف في ذلك بعض أهل العلم كتبا منها كتاب الزركشي (الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة) فقالوا عائشة أفضل لما لها من المحبة ولما لها من العلم ولتفضيل النبي عليه الصلاة والسلام لها .
" والذي عليه طائفة من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن هذا التفضيل ليس بوجيه لأن المسائل التي يختلف فيها أهل العلم من مسائل التفضيل إنما الحكم فيها للنص ، والنص لم يأت بتفضيل عائشة على خديجة ولا خديجة على عائشة مطلقا ، وإنما ورد أن هذه مفضلة أو أن هذه أفضل وورد أن الأخرى مفضلة وأنها أفضل ، فلهذا وجب أن ينظر في جهات الفضل وأن يتكلم في الفضل من جهة ما حصل ، لهذا قال شيخ الإسلام إن التحقيق أن يقال إن خديجة رضي الله عنها في أول الإسلام كانت أفضل من عائشة وعائشة إذ ذاك صغيرة لا تحسن شيئا وخديجة هي التي ناصرت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأيدته فهي أفضل من هذه الجهة في أول الإسلام ، ولما انتشر الإسلام النبي عليه الصلاة والسلام كانت عائشة عنده وحفظت عنه من السنن ومن أحواله في بيته ومن كلماته ومن أحكامه ما لم يكن عند خديجة وما لم تنقله الأمة عن خديجة ، فاستفادت الأمة من عائشة ما لم تستفده من خديجة ، فمن هذه الجهة تكون عائشة أفضل من خديجة ، وهذا كلام عدل وهو كالمتعين لأن هذه وهذه كل لها فضل .(13/195)
وهكذا ينبغي في سائر مسائل التفضيل سواء في مسائل العقيدة ، يعني في التفضيل في المسائل التي وردت في العقيدة أم في غيرها ، فإن مسائل التفضيل يختلف فيها الناس .
إذا رأى الناس المسائل أو الرجال هذا أصح أو هذا أصح أو هذا الرجل أفضل أو هذا العالم أعلم أو هذا أشجع أو هذا أقدر ونحو ذلك ، فإنها إذا جاء أفعل التفضيل يختلف الناس في ذلك لزما ، لأن جهات التفضيل ليست واحدة ، جهات التفضيل متعددة ، فلا بد أن يختلف في التفضيل لأن الجهات متعددة .
فإذا تكلم الناس في التفضيل بعدل وبحكمة لم يتبع ذلك الاختلاف تفرقا و أما إذا تكلموا في التفضيل بنوع ابتداء فإنه ربما أحدث ذلك تفرقا .
والذي ينبغي على طالب العلم أن يستفيد من تحقيق شيخ الإسلام في هذه المسألة في مسألة التفضيل بين خديجة وبين عائشة في نظائر ذلك من التفضيل الذي له جهات فإنه يفصِّل فيكون المقام مقام تفصيل ، فيقول إذا نظرت إلى هذه الجهة فتقول هذا العالم أفضل وإذا نظرت إلى الجهة هذه فتقول هذا العالم أفضل ، إذا نظرت إلى هذه الجهة تقول هذا العالم أعلم أزهد وإذا نظرت إلى هذه الجهة قلت ذاك أعلم وأحكم مثلا وهكذا .
إذن تعدد جهات التفضيل أو جهات الإعجاب فالتفصيل يكون هو العدل في الغالب إذا تنازع الناس في مسائل التفضيل وهو المستفاد من كلام شيخ الإسلام في مسألة التفضيل بين عائشة وخديجة .
تبرؤ أهل السنة والجماعة
مما يقوله أهل البدع والضلالة
في حق الصحابة وآل البيت
قال بعد ذلك (وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ)
(يَتَبَرَّءُونَ) يعني أهل السنة والجماعة ، (يَتَبَرَّءُونَ) يعني يعلنون البراءة وهي عدم الانتساب إلى طريقة الروافض وبغض طريقة الروافض ، فالبراءة تجمع البعد وإعلان عدم الانتساب وبغض ذلك الشيء.(13/196)
(وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ) الروافض جمع رافضي ، والرافضي اسم من قام به الرِّفْض ، والرفض عقيدة من العقائد .
وسمي أولئك رافضة لأنهم رفضوا إمامة زيد بن علي وقد كان الشيعة يتولون آل البيت حتى حصلت مسألة سب أبي بكر وعمر فتبرأ زيد بن علي ممن سب أبا بكر وعمر ولعنهما رضي الله عنهما وأرضاهما فقال زيد بن علي (أنا أتبرأ منكم وأرفضكم) فقالوا (ونحن نرفض إمامتك) فقال (أنتم الرافضة) فسموا رافضة لأنهم رفضوا إمامة زيد بن علي أو رفضوا الترضي وتولي أبا بكر وعمر .
رافضي اسم فاعل الرِّفض بالكسر وأصله من رفض يرفض رفضا ، مصدر الرفض بالفتح لكن العلماء جعلوا للعقيدة هذه اسم غير المصدر قالوا (هذا رِفْض) وهؤلاء رافضة كما قال الشافعي في بيته المشهور :
فليشهد الثقلان أني رافضي إن كان رِفضا حب آل محمد
فالرواية له (رِفضا) بالكسر كما نبه على ذلك شارح القاموس الزَّبيدي وغيره من أهل العلم وهي التي تسمع من أهل العلم خلافا لمن قرأها بالفتح (إن كان رَفضا حب آل محمد) بل هي :
فليشهد الثقلان أني رافضي إن كان رِفضا حب آل محمد
الرافضة الكلام عليهم له تفصيلات وتطويلات لكن على كل حال ما يخص هذا الموضع ذكره شيخ الإسلام بقوله (الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ) .
الروافض جمعوا بين بغض الصحابة وبين لعنهم كما ذكرنا عنهم أنهم يقولون (لا ولاء إلا ببراء) يعني لا تولي لأهل البيت إلا بالبراءة من الصحابة ، قد كفّروا الصحابة إلا بضعة نفر ، والروافض مع الصحابة يكفرونهم ويبغضونهم ويلعنونهم ويجعلون البغض والتكفير واللعن دينا يتقربون إلى الله به خاصة الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فالرافضة يلعنون أبا بكر وعمر وسائر الصحابة .
قال (وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ)(13/197)
النواصب جمع ناصبي ، والناصبي اسم فاعل النصب ، والنصب هو مناصبة آل الببيت العداء والعداوة ، هذه حصلت في زمن الفتنة :
" فإن منهم من تولى عليا وغلا فيه ، هؤلاء تدرج بهم الأمر حتى صاروا روافض.
" ومنهم من تبرأ من علي والآل هؤلاء سموا نواصب .
والنواصب في العموم ليسوا فرقة معروفة بعقائدها ، فليس ثَم فرقة من الفرق معروفة العقيدة لها تفاصيل الكلام في الأسماء والصفات وفي الإيمان وفي القدر إلى آخره يقال لهم النواصب ، وإنما النواصب يذكرون في هذا المقام لأجل أن لهم اعتقادا في الصحابة رضوان الله عليهم ، فهم كالخوارج عقيدة في الصحابة وفي آل البيت ولكن يشابهون الخوارج في آل البيت بالأخص ، فمن هذه الجهة يمكن أن يعتبروا من الخوارج يعني أنهم ناصبوا آل البيت العداء وجعلوا العداوة قائمة بينهم وبين آل البيت وكذلك نظرهم في الصحابة ليس كنظر الرافضة بل هو كنظر الخوارج .
أهل السنة وسط في آل البيت بين طريقة الرافضة الذين يغلون في آل البيت وجعلوا منهم أئمة بل جعلوهم أئمة وجعلوهم معبودين وعظموهم فوق ما يجب ، وبين طريقة النواصب الذين يسبونهم ويلعنونهم ويؤذون آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فأهل السنة وسط يتولون الصحابة ويتولون الآل لا يتبرءون من الصحابة ولا يتبرءون من الآل ، فعندهم الحق واضح يجمع بين هذا وهذا يعني بين حب الصحب وحب الآل جميعا .
قال (وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ)
هذه عقيدة أهل السنة أنه ما شجر بين الصحابة ، (شَجَرَ) يعني حصل ، وسمي الشجار شجارا لأنه يحصل فيه اختلاف واشتباك .
وأصل التشاجر هو التداخل لذلك سميت الشجرة شجرة لتداخل فروعها .
والاختلاف الذي حصل بين الصحابة هو الذي شجر بينهم ، (وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ) يعني عما حصل من الاختلاف في الأقوال أو في الأعمال بين صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(13/198)
قوله (يُمْسِكُونَ) هذا يعم عند أهل السنة الإمساك باللفظ وبالقول وبما يدور في القلب وبالعمل وبالكتابة والحكاية والإسماع والإقراء ، كل ما كان من قبيل القول أو العمل في جميع تصرفاته كلاما أو كتابة أو عملا من الأعمال كل هذا يمسك أهل السنة عن الخوض في الصحابة فيه فيمسكون عن التأليف فيما صدر بين الصحابة ويمسكون عن الإقراء ويمسكون عن الإسماع فلا يريدون ما شجر بين الصحابة أصلا وإنما عندهم في هذا أنهم يقولون عنهم جميعا يعني عن الصحابة جميعا ?اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ? وهذا يشمل جميع الصحابة رضوان الله عليهم .
(وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ)
كذلك أهل السنة في ما روي من الآثار في كتب التأريخ عن حكاية ما شجر بين الصحابة وعن تفاصيل الأحوال فإنهم يقولون إن هذه الآثار التي تروى وفيها مساوئ لهم هي على ثلاثة أقسام ،شيخ الإسلام ذكر منها ذكر هذه الثلاثة أقسام :
" فأول هذه الأقسام أن (مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ) وهذه معروفة في التواريخ كتاريخ ابن جرير وتاريخ .. بعض المعايب لهم منها ما هو كذب قطعا وهذا هو الذي هو كذب الذي روي عن طريق الكذابين وأشهرهم (أبو مخنف) في تاريخ الطبري وهناك رسالة مختصة بذلك اسمها (مرويات أبي مخنف في التاريخ) وكذلك (الكلبي) فإن هذين معروفَيْن بالكذب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم .(13/199)
" القسم الثاني (وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ) يعني منها أشياء صحيحة حصلت منهم لكن زيد فيها أشياء إما من جهة فهم الراوي أو من جهة ظنه أو من جهة إيضاحه للحال وأخطأ في ذلك ، أو منها ما نُقِض منه ما يُفَسَّر به الذي حصل ، فإذا كان كذلك فالزيادة والنقصان تغيير لتلك المرويات عن وجهها فبدل أن تكون تلك المرويات فيها عذر لهم صار بالزيادة والنقصان فيها ذكر شيء يفهم على أنه من مساوئ الصحابة رضوان الله عليهم .
" القسم الثالث ما اجتهدوا فيه ، وهذا كثير وهو صحيح لكن ما يمكن أن يفهم على أنه من مساوئهم هم مما اجتهدوا فيه .
فاعتقاد أهل السنة والجماعة في هذا الصحيح أنه ما كان من قبيل المساوئ مما صح فإنهم إما مجتهدون فيه لهم فيه الصواب أو الخطأ الذي يؤجرون عليه ، وإما ما هو من الذنوب التي تكون من الكبائر أو الصغائر وهم في تلك الذنوب معفو عنهم مغفور لهم .
هذا قال في القسم الأخير (وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ)
لم يذكر قسم الذنوب وسيأتي ذكره بعد ذلك .
وقوله (هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ) يعني به ما ليس من قبيل الذنوب إنما ما كان من قبيل الاجتهادات غير ما حصل من القتال بين طلحة والزبير وعلي ومثل ما حصل من القتال بين معاوية وعلي ومثل قصة الحكمين ونحو ذلك مما يذكر .
فما كان من ذلك هم مجتهدون فيه إما مصيبون مأجورون أجرين وإما مخطئون ، وهذا الذي حصل من الخلاف بين الصحابة نعتقد بأنهم ما دخلوا فيه إلا عن تأويل فإنما قصدهم نصره الحق وقصدهم أن ينتصروا للحق وأن يبطلوا الباطل ، فاجتهدوا فمنهم من هو مصيب في اجتهاده ومنهم من كان مخطئا في اجتهاده وليس فيهم من دخل في أمر وهو يعلم أنه ذنب ومعصية ودخل فيه عن عمد وإنما دخل فيه عن اجتهاد فإما أن يكون مصيبا أو أن يكون مخطئا .(13/200)
ولما حصلت الفتنة بعد مقتل عثمان ولم يقر معاوية رضي الله عنه لعلي رضي الله عنه بالخلافة وكانت الخلافة منعقدة لعلي ولكن معاوية لم يقر بالخلافة وحصل ما حصل من المسير إلى معاوية وإلى العراق الاختلاف المعروف لم يدخل من الصحابة في ذلك الاختلاف ما يقرب من ثلاثين رجل بل الأكثر اعتزلوا الاقتتال ، وأقروا بخلافة علي أكثر الصحابة بايعوا عليا وأقروا له بالخلافة وأنه هو الخليفة بعد عثمان رضي الله عنه لكن لم يسيروا معه في الاقتتال لم يبلغوا ثلاثين من الصحابة ، والصحابة فيما حصل من الفتنة والاختلاف كانوا على ثلاثة أقسام :
" القسم الأول منهم من رأى صواب علي وأنه هو الخليفة وأنه محق في قتاله لمعاوية أو في مسيرة لكي يذعن معاوية لبيعته ويبايع لأنه يجب على الإمام أن لا يقر أحدا لا يبايعه إذا بايعه أهل الحل والعقد يجب عليه أن يلجئ هذا إلى بيعته فرأى جمع من الصحابة أن عليا مصيب فساروا معه وأيدوه .(13/201)
" ورأى عدد آخر أن معاوية مصيب في ما طالب به من دم عثمان وأن تسليم القتلة لولي عثمان واجب وأنه يجب الانتصار للمظلوم وعثمان رضي الله عنه كان مظلوما بقتله ومعاوية هو وليه لأنه من آله والانتصار للمظلوم واجب وقد قال جل وعلا ?وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا? فجعل السلطان لولي المقتول ، فاجتهد بعض الصحابة فساروا أو كانوا مع معاوية لأجل هذا الفهم ، فهذا هو القسم الثاني . واستدل ابن عباس وغيره بأن الأمر صائر إلى معاوية وأن الأمر سيكون إليه والسلطان سيكون بيده بعد حين بهذه الآية ، وهذا من جهة الإشارة التي يفهمها بعض من آتاه الله العلم وليست ظاهرة لكل أحد لأن الله جل وعلا قال في ذلك ?وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا? ففُهِم من السلطان أنه السلطان العام ?فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا? هذا الذي حصل من معاوية فإنه لما ولي وجعل الله له السلطان فإنه لم يسرف في القتل ونصره الله جل وعلا بذلك والصحابة هم أفقه هذه الأمة وهم أبر هذه الأمة قلوبا وهم أعمق هذه الأمة علوما وأقلها تكلفا ، قوم صحبوا رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ولمقام أحدهم ساعة مع رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ خير من عبادة غيرهم كذا وكذا سنة .
" الفئة الثالثة من الصحابة هم الذين لم يصوبوا الاقتتال ، بايعوا عليا وأقروا بخلافته ولكنهم لم يصوبوا الاقتتال وعلي لم يلزم الجميع بالسير معه ، فبقوا في المدينة ومنهم من بقي في غيرها وتركوا الدخول في هذه الفتنة كابن عمر ومن معه . هؤلاء هم الأكثرون .
قال شيخ الإسلام هذه المسائل هي من قبيل التأريخ والتفصيل يعني نختصر الكلام فيها ، قال (إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ) فإن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد .(13/202)
قال (وَهُم مَّعَ ذَلِكَ) يعني أهل السنة (لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ)
أهل السنة لا يعتقدون عصمة الصحابة ، لا يعتقدون أن كل صحابي معصوم بل الصحابة تقع منهم الكبائر وتقع منهم الصغائر .
قد حد النبي عليه الصلاة والسلام عددا من الصحابة في وقته ، وحد الخلفاء بعده عددا من الصحابة أيضا في كبائر من الذنوب ، حصلت منهم الكبائر والصغائر لكن هذا من جهة التجويز على الجملة ، التجويز على الصحابة ، لكن لا يقال الصحابي فلان قد يقع منه كبيرة ، الصحابي فلان يمكن أن يفعل كبيرة بعينه وإنما نقول في الجملة لا نقول إن الصحابة معصومون من الكبائر أو الصغائر بل تقع منهم الكبائر والصغائر جوازا ممكن أنها تقع منهم الكبائر كما حصل وتقع منهم الصغائر ، لكن ما لم نعرف أنه وقعت منه الكبيرة فلا نقول أنه ممكن أنه عمل كبيرة لأن هذا ينافي محبتهم وتوليهم واعتقاد أنهم خير هذه الأمة .
(مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ) الكبائر والصغائر قسمان للإثم وللذنوب .
وتقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر هو الذي عليه الجمهور جمهور أهل العلم لقول الله جل وعلا ?إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا? فقالوا بمفهوم وجود الكبائر أنها توجد صغائر ، ولقوله تعالى ?إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ? وهذا في الصغائر ، والأحاديث كثيرة في ذكر تكفير الصلاة لما دون الكبائر إلى غير ذلك ، ذكرنا لكم فيما مضى ضابط الكبيرة وضابط الصغيرة فلا نعيده .
قال (بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ)
الذنوب جائزة عليهم ، جائز أن يعملوا الكبائر ، جائز أن يعملوا الصغائر .(13/203)
قال شيخ الإسلام هنا كلمة مهمة قال (فِي الْجُمْلَةِ) وهذا هو الذي ذكرت لكم أن معناه أن لا يحدد جواز ذلك على واحد منهم ، نقول في الجملة يعني لا نقول فلان من الصحابة يجوز عليه كذا وكذا بل نقول هم - الصحابة - في المجموع يجوز عليهم الذنوب ، وهذه الذنوب التي تجوز عليهم
(لَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ)
قال شيخ الإسلام (لَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ) يعني من الحسنات لأن الله جل وعلا قال ?إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ? وقد قال عليه الصلاة والسلام في حق عثمان لما جهز جيش العسرة (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) كما هو في الترمذي وغيره وقد قال أيضا عليه الصلاة والسلام في الحديث المعروف المتفق على صحته يعني أن أهل العلم صححوه (إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) والأحاديث في ذلك كثيرة .
قال (لَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا صَدَرَ مِنهُم) عبر شيخ الإسلام هنا بقوله (مَا يُوجِبُ) الوجوب هنا هو إيجاب من الله جل وعلا على نفسه بفضله ووعده لأن الله أوجب على نفسه وأحق على نفسه أنه يغفر لمن مات لا يشرك بالله شيئا، أوجب على نفسه وأحق على نفسه أنه جل وعلا يغفر لمن أتى بالحسنات ولمن أتبع السيئة بالحسنة فقال ?إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ? ومن تاب تاب الله عليه ، هذا بوعده الصادق .
وهذا الوعد الصادق بعض أهل العلم يعبر عنه بالحرام وبعضهم يعبر عنه بالإيجاب ، وقد قال شيخ الإسلام في موضع حين كلامه على حديث (أسألك بحق السائلين عليك) حديث أبي سعيد الخدري المعروف (وبحق ممشاي هذا) قال (هو حق أحقه الله على نفسه باتفاق أهل العلم وبإيجابه على نفسه في أحد أقوالهم) .(13/204)
إذن قوله (مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ) يعني بالوجود هنا وجوب الفضل ، والله جل وعلا يحرم على نفسه ما شاء ويوجب على نفسه ما يشاء ، ليس العبد هو الذي يوجب ولكن لما أخبر الله بوعده الصادق أن هذا سيكون ووعده لا يتخلف يكون إيجابا من الله جل وعلا على نفسه .
قال (مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ) فالله جل وعلا قال ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? ورضاه عنهم معناه أنه يعفى عنهم سيئات ما قد يكونون عملوه .
قال (مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُم مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ)
تكفير أو محو السيئات له أسباب عشرة معلومة دلت عليها نصوص ثلاثة من العبد وهي:
1 - الحسنات الماحية .
2 - والتوبة .
3 - والاستغفار .
وثلاثة من المؤمنين وهي :
1 - الصلاة .
2 - والدعاء .
3 - والاستغفار .
أو نقول بدل الصلاة (القرب التي يهديها المؤمنون لمن توفاهم) وفي الدعاء والاستغفار ، وأربعة
......
لا ما هو بواحد ، الدعاء قد يكون غير الاستغفار ، الاستغفار بعض الدعاء الاستغفار يمحو به ، (استغفروا لأخيكم اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) قال (أو ولد صالح يدعو له) الاستغفار بعض الدعاء ، الدعاء أعم .
......
نعم صلاة الجنازة هي الدعاء .
وأربعة من الله جل جلاله ، إذا قلنا الدعاء يدخل فيه الشفاعة ، إذا قلنا الدعاء من المؤمنين يدخل في الشفاعة في الدنيا وفي الآخرة ويدخل فيها أيضا شفاعة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وأربعة هي :
1 - المصائب التي تحصل للعبد في الدنيا فإنها كفارات .
2 - ما يعذب به العبد في القبر .(13/205)
3 - ما يحصل للعبد من مصاعب في عرصات يوم القيامة .
4 - والأخير هو مغفرة الله للعبد بدون سبب .
هذه عشرة ذكرها بعض أهل العلم ، والمقصود من ذكرها أن هذه العشرة للصحابة منها أوفر النصيب إذا كانت هذه للغيرة متصورة فهي للصحابة من جميع الأمة ، الصحابة فيما بينهم ومن غير الصحابة لهم من وقت الصحابة إلى يومنا هذا ، ولهذا قال شيخ الإسلام (لَهُم مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ) فلهم من ذلك الحسنات التي عملوها هم مقامهم جهادهم إلى آخره ، تقربهم إلى ربهم جل وعلا كذلك الحسنات التي تصلهم من المؤمنين هذه لهم ما ليس لمن بعدهم .
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ
إلى آخر الكلام ، التتمة إن شاء الله في المرة القادمة ...
ما حكم تخصيص آل البيت بلفظ (عليهم السلام) ؟
التخصيص بالسلام أو بالصلاة (عليهم الصلاة والسلام) أو (عليهم السلام) هذا ليس من طريقة أهل السنة والجماعة .(13/206)
والصلاة والسلام لغير الأنبياء تجوز إذا كانت أحيانا أما إذا كانت شعارا دائما لا يجوز ، لأن الشعار بالصلاة أو الشعار بالتسليم إنما هو للأنبياء ، وأما إذا كان أحيانا فقد كان النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ إذا أتاه قوم بصدقات أموالهم قال عليه الصلاة والسلام (اللهم صل عليهم) فأتاه ابن أبي أوفى بصدقة فقال (اللهم صل على آل أبي أوفى) وبوب عليه البخاري كما هو معروف (هل يصلَّى على غير النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) والتحقيق أنه يسوغ أحيانا (اللهم صل على أبي بكر) يسوغ أحيانا (عليه السلام) يسوغ أحيانا ، كذلك لفظ (رضوان الله عليه) أو (رضي الله عنه) في حق غير الصحابة ، الصحابة رضي الله عنهم بقوله جل وعلا ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? وبقوله ?رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ? إلى غير ذلك من الآيات ، فغيرهم لا يجعل له شعرا ، يذكر مثلا الإمام أحمد دائما يقال رضي الله عنه ، الشافعي رضي الله عنه ويجعل هذا شعارا دائما يلتزم في حق من هو من غير الصحابة ، إنما إذا قيل بعض الأحيان بما لا يكون شعارا فإنه لا بأس به لأنه دعاء .
يقول لدينا بعض الطلبة ينكرون أنهم من الرافضة أو الشيعة مع أن بعضهم بحراني والآخر يقال له .. ، فهل نأخذ بظاهر حديثهم أنهم ليسوا من الشيعة ، وكيف نتحقق من أنهم متبرئون من هذا المذهب ؟
ذكرنا مرارا أن الرافضة أو الشيعة عندنا إو في دار الإسلام لهم حكم المنافقين ، يعني يقبل منهم ظاهرهم وتوكل سرائرهم إلى الله جل وعلا ومن أظهر منهم بدعة فيعامل على أنه مبتدع ، إذا أظهر هذا الذي يعني لا نعامله باسمه ابتداء أو نعرف بلده فنعامله على أساس أنه رافضي أو شيعي ابتداء ، لا ، لهم حكم المنافق ، يعني يعامل ظاهرا معاملة المسلم .
انتهى الشريط الرابع و العشرون من شرح العقيدة الواسطية(13/207)
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الخامس و العشرون
ذكرنا مرارا أن الرافضة أو الشيعة عندنا أو في دار الإسلام لهم حكم المنافقين ، يعني يقبل منهم ظاهرهم وتُوكَلْ سرائرهم إلى الله جل وعلا .
ومن أظهر منهم بدعة فيعامل على أنه مبتدع ، إذا أظهر هذا الذي - يعني لا نعامله باسمه ابتداء أو نعرف بلده فنعامله على أساس أنه رافضي أو شيعي ابتداء - لا لهم حكم المنافق ، يعني يعامل ظاهرا معاملة المسلم .
فإن أظهر لك بدعة أو صرح بأنه تبع لهذا المذهب فتعامله على أنه من أهل هذه الفئة أو تلك النِّحْلَة
هل النواصب موجودون الآن ، وإن كانوا موجودين فأين يوجدون ؟
النواصب ذكرنا لكم أنه ليس ثَمَّ طائفة يُقال لهم الناصبة ، وإنما من سبَّ الصحابة وتبرأ من الآل يقال لهم ناصبة ، فلهذا الخوارج يدخلون في أنهم نواصب .
لماذا لا يقال إن خديجة أفضل من عائشة في الآخرة لما نُصَّ عليه الحديث أنها ومريم بنت عمران سيدتا نساء أهل الجنة ؟
هو طبعا الجهات مختلفة فيدخل التفضيل فنختلف أيضاً كما اختلف الأولون .
هل يكفر من سب الصحابة ؟
هذه تأتينا في آخر البحث ، حكم سب الصحابة وحكم سب الزوجات في آخر البحث .
ما صحة ما ينسب للشيخ عبدالعزيز من أنه يكفر الروافض في بلادنا ؟(13/208)
الروافض أصناف وطوائف ، فالرافضة الإمامية الغلاة الذين يُعرفون اليوم بهذا المذهب من حيث العموم يُكَفَّرون لأنهم يعتقدون أن أئمتهم آلهة يُدعَون ويُرجَون ، ويعتقدون جواز مناداة علي والاستغاثة به رضي الله عنه ومناداة الأئمة ولهم معتقدات كثيرة بها نقول من اعتقد ذلك الاعتقاد فهو كافر ، هذا من جهة الجنس لكن من جهة المعين في دار الإسلام ما يُحكم على المعين منهم بالكفر بل يُحكم عليه بظاهره مثل ما ذكرت لكم ، يُحكم عليه ظاهرا بالإسلام وتُوكَل سرائرهم إلى الله جل وعلا ، فمن أظهر منهم من المعينين بدعة حكم عليه بدعة حكم عليه بالبدعة ، من أظهر من المعينين شركا حكم عليه بالشرك ، من أظهر ردة حكم عليه بالردة ، وهكذا ، ولا تؤخذ الطائفة بفعل الواحد في دار الإسلام وهذا الذي عملته العلماء والقضاة في أزمنة الولايات الإسلامية من ولاية العباسيين وقبلهم الأمويين ومن بعدهم إلى زمننا هذا من جهة الفئات التي يحكم عليها بأنها كافرة كعقيدة عامة بفئة ، إذا أتى على المعين لا ، يعاملون كطائفة بأنهم منافقون ويقال الطائفة هذه حكمها كذا ، ولكن المعين يعامل على الإسلام ظاهرا حتى يظهر منه ما يخالف ذلك الأصل ، في الرياض معروف في زمن أئمة الدعوة والمشايخ إلى وقتنا هذا معروف أن الذين يبيعون الذهب هم من الرافضة ، بعضهم من شيعة القطيف ... وكانوا يأتون يصلون مع الناس وإذا مات الواحد منهم صُلِّيَ عليه ، لكن يجتنب الشيخ أو إمام المسجد إذا عرف أنه رافضي يجتنب الصلاة عليه تعزيرا له ، ولكن يجعل المسلمين يصلون عليه ويُدفن في مقابر المسلمين ، هذا عمل أئمة الدعوة رحمهم الله معهم .
ما وجه الجميع بين قولك أنه لا يجوز الدوام في الصلاة على الصحابة والسلام عليهم مع أننا نسلم على أنفسنا وعلى عباد الله الصالحين خمس مرات ؟(13/209)
هذا استشكال في غير مكانه لأن المقصود من ذلك فيما لم يرد به الدليل ، وهذا السلام على أنفسنا وعلى عباد الله الصالحين هذا ليس خاصا بهم ، بل لو قال شيئا أبلغ من ذلك من أن الناس أجمعوا يعني المسلمين أجمعوا على أنه يقال صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه ، فنُدرج الآل والصحب في الصلاة جميعا فهذا أبلغ ، هذا مما أجازه أهل العلم ، أما كلامنا السالف أن يُجعل على فئة شعارا ، يقال فلان عليه السلام مثل ما عند الزيدية أو عند الشيعة : جعفر عليه السلام ، علي عليه السلام الحسين عليه السلام ، الكاظم عليه السلام وهكذا .
هل ما يكتب في كتب التاريخ كتاريخ ابن جرير والبداية والنهاية وغيرها مما ذُكِرَ من الأحداث مما جرى بين الصحابة يشمل عدم الإمساك عما شجر بينهم ؟
الكتب ، كتب التاريخ على قسمين :
" منها ما هو بالإسناد ، ما كان بالإسناد فالقاعدة عند أهل العلم أن العالم إذا ذكر إسناده فقد تبرأ من العُهدة ، يذكر لك الإسناد وهذا الإسناد فيه رواية فلان المعروف بأنه كذاب ، انتهى من العُهدة ما دام ذكر لك الرجال وكان أمينا معك فذكر الرجال فقد تبرأ من العُهدة يعني عهدة ما ذُكر في الرواية .
" وأما الكتب التي ليس فيها إسناد كالبداية والنهاية وغير ذلك ففيها من التفصيل ما هو مهم في فهم ما جرى ، فالإمساك عما شجر بينهم يعني من الاختلاف ، أما إذا كان فيه بيان الحق أو بيان وإيضاح لما حصل فإنه قد يكون ذلك فيه مساعدة على الإمساك لأنك إذا عرفت الوِجهة أمسكت وأما إذا لم تعرف الوِجهة وِجهة هؤلاء ووِجهة هؤلاء لا يقتنع المرء بالإمساك فيكون وسيلة من وسائل الإمساك .
والتاريخ يُتَجَوَّزُ فيه ما لا يُتَجَوَّزُ في غيره .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :(13/210)
فهذا الدرس بداية لدروس هذا العام الذي أسأل الله جل وعلا فيه أن يكون عملنا فيه صالحا وعلمنا فيه نافعا وأن يجعلنا من المقبلين على الحق المتواصين به الذين يريدون وجه الله جل جلاله في كل أعمالهم .
ولا يخفى أن العلم هو أشرف مطلوب وأن السعي فيه سعي في أشرف المطالب وأعظمها فنَفَسُ طالب العلم عبادة وحركاته إذا كانت فيه في عبادة وذلك إذا كان مخلصا لله جل وعلا فيه ، فإن الملائكة كما جاء في الحديث الصحيح (تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) (ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة) .
فأعظم المطالب لمن عقل : العلم ، العلم بالله جل وعلا وبكتابه وبرسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وبسنة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، هذا هو أشرف المطالب وأعظمها .
فمن كان من الموفقين وُفِقَ إلى هذا الأمر العظيم وهو أن يطلب العلم لله جل جلاله وأن يخلص فيه القصد له سبحانه وتعالى .
وقد قال العلماء (أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون العلم لأن العمل يكون بعد العلم ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ? .
والعلم بلا إله إلا الله هو علم بالشريعة ، والشريعة تضم الاعتقاد والأحكام .
لهذا في إقبالنا على هذه الدروس نُكرر الوصية بالجد في طلب العلم ونكرر التحذير أن لا تتوالى الأيام وتنقضي الأعمار والناس إما في غفلة عن هذا العلم وإما أن يكونوا يطلبونه على غير وجهه.
والعلم سهل ميسور لأن الله جل وعلا سهَّلَه فقال سبحانه ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ? وتيسير القرآن للذكر يشمل تلاوته وتدبره والعلم بما فيه .(13/211)
فالعلم الشرعي سهل ميسور ، فإذا نظرت إلى العلوم الأخرى التي وُرِثت من الأمم المختلفة من حصاد العقول أو حصاد التفكير في الروحانيات كما يزعمون وجدت أنها مغلقة إلا بمجاهدة عظيمة ، أما هذا العلم بالكتاب والسنة فهو سهل ميسور ولكن لمن أنعم الله جل وعلا عليه بالنية الصالحة وبالإقبال عليه والثبات عليه والحرص على ما ينفعه .
وكما هو معلوم أن العلم له خطوات وله طرائق من فاتته فاته تحصيل العلم على وجهه .
ومن تأمل في طريقة السلف وجد ذلك ظاهرا بينا ، فإنهم يطلبون العلم شيئا فشيئا ، وإذا كتبوا رحمهم الله إذا كتبوا الأحاديث فإنهم يتفقهون فيها وينظرون فيها نظر المتأمل ونظر الذي يستنبط العلم أو يكتب العلم بعد معرفة دليله .
فالأصل في التعلم أن يكون بالأدلة ، يعني أن يطلب طالبُ العلم القرآنَ ويتفقه في القرآن ، و أن يطلب الحديث ويتفقه في الحديث ، هذا هو الأصل .
وأهل العلم مَشوا على هذا نحو ثلاثة قرون من الزمان وصار المتميز منهم يكون فقيها بالكتاب والسنة بعد مدة من الزمن طويلة لأن التفقه في النصوص ابتداء هو الأصل ولكن يَطْلُبُ طَالِبَ علمٍ مُجِدٍ ويَطْلُبُ معلما محيطا بنصوص الكتاب والسنة وبالعام والخاص والناسخ والمنسوخ وكلام الناس في ذلك .
ولهذا ترى في هذا الزمن هناك من يقرر العلم لكن لو أتي له بتفسير القرآن أو بتفسير السنة فإنه قد لا يُخْرِجُ نفسه من كثير من الإشكالات وذلك لأن الفقه في النصوص يطلب علما واسعا .
ولهذا لما فتر الزمان وضعفت همة طلاب العلم عن الاستقصاء وعن طلب الحديث ولقاء العلماء والرحلة في ذلك خفف أهل العلم على المحصلين فصنفوا لهم الكتب المختصرة في التفسير وفي الأحكام في الفقه وفي العلوم المساعدة بخلاف الأصل الذي درج عليه الأولون .
وهذا منهم رحمهم الله تعالى لأجل تيسير العلم على الناس لأن الناس ضعفوا عن حمل العلم كما حمله السلف الصالح .(13/212)
ولهذا تجد أن فقهاء الإسلام في الصحابة والتابعين كثير ثم فيمن بعدهم أقل ثم فيمن بعدهم أقل وهكذا ، وهذا لصعوبة العلم من جهة أنه يَطلب توسعا في النظر وتوسعا في أخذه .
هو سهل من جهة استقباله ميسر لمن أقبل عليه لكنه كثير المسائل كثير التفصيلات .
نظر أهل العلم بعد ثلاثة قرون فوضعوا الكتب المختصرة في فنون شتى ، ومن أهم ذلك العقيدة والفقه وأدلة الأحكام .
فالسلف لم يجعلوا العقيدة على شكل مختصرات بل كانوا يجعلونها في كتب مبسوطة كما ترى في كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد وفي كتاب التوحيد لابن خزيمة وفي كتاب التوحيد من صحيح البخاري والسنة من سنن أبي داود والسنة من ابن ماجه وهكذا في كتب كثيرة ، والإيمان والشريعة والتوحيد ونحو ذلك من الكتب والقدر وغيرها .
فكانت كتبهم فيها البسط لأنها تليق بمكانتهم وبمن يتلقى لكن صارت حاجة المتعلمين إلى المختصرات لتضبط الأصول فصار الأمر بعد ذلك تسهيلا أن يُبْدَأَ بالمختصر الذي فيه فقه النصوص يعني الذي كتب فيه مصنفه ما يعلمه من فقه النصوص ومما قرره أئمة الإسلام .
فكُتِبَت المختصرات في العقيدة وفي الفقه وجُمِعت أدلة الأحكام وكتبت المختصرات في العلوم المساعدة كأصول الفقه والنحو ومصطلح الحديث ونحو ذلك .
هذا كله تيسيرا ، هذا كله لأجل التيسير ومخالف للأصل ولكن هكذا لما ضعف الحفظ وضعفت همة الناس كان لزاما أن يُحفظ الدين بوضع هذه الكتب .
وإذا تأملت وجدت أن أكثر الذين يرومون طلب العلم على طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم من التوسع في فهم معاني نصوص القرآن بمطالعة كلام السلف عليها وكذلك في تتبع الأحاديث وأخذ الفقه منها تجد أن الأمر يطول عليهم جدا وربما التبست عليهم المسائل .
لا شك أن هذا هو الأصل ولكن ذاك أصل إذا شابهت طريقتنا واستعداداتنا استعدادات السلف وطلاب العلم في ذلك الزمان .(13/213)
لكن أهل العلم بعد القرون الأُول اختلفوا فيما يعلمون الطلاب عن تلك الطريقة الأولى ، وسلكوا عليها إلى زماننا هذا في العناية بالمختصرات وطلب الدليل بعد تقرير المسألة .
أما طريقة السلف فالدليل أولا ثم الاستنباط ، لكن طريقة المتأخرين المسألة ثم دليلها وهذا لأجل أن تكون المسألة التي هي حصيلة فهم ذلك العالم بنصوص كثيرة وقد يكون بعضها يحتاج إلى أن يوفَّق بينه وبين بعض آخر من النصوص بضرب من استعمال أصول الفقه وأوجه الدلالة المختلفة وقد يكون بالنظر إلى فهم الصحابة وقد يكون بالنظر إلى فهم اللغة ونحو ذلك فجعلوا المسألة أمامك بخلاصة ما أدى إليه اجتهاد ذلك المصنف ثم الدليل عليها .
هذا صار فيه مشاكل منه من جهة أن المتعصبين للآراء والمذاهب أصبح كلّ يدلي بتأصيله في المسألة ويكون الدليل على وفق ما يفهم من يقدِّم ما يفهم من يتعصب له ، وهذا لا شك أنه سبّب ثغرة في هذه الطريقة في العلم من جهة التعبد لأن الأصل الذي كان عليه السلف أن يأخذ بفقه النص من الكتاب والسنة وهو يأخذ على الفقه على جهة التعبد كما جاء (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) فهو في تعبد لأنه يطلب علم الكتاب والسنة .
بعد ذلك لما شاعت الأمور المختلفة كما ذكرنا صار العيب في شيء واحد وهو أن تُصنف المصنفات على جهة التعصب ، هناك كتب مختصرة في الفقه كانت على جهة التعصب أو على جهة نصرة مذهب معين ومنها ما هو لتقرير مذهب ، يعني أن يُنظر في هذا الكتاب المؤلَّف على اجتهاد إمام من الأئمة كما صُنفت المختصرات الكثيرة ، لكن منها ما هو على غير هذه الجهة بل على جهة نُصرة المذهب لا بتقريره للمتعلم .
لهذا كان هناك ضرورة للأخذ بما درج عليه الأئمة من فهم العلم على طريق تلك الكتب وبالأخذ عنها وكان هناك ضرورة أيضا أن الأخذ ذاك لأجل التصور لا لأجل التعصب .(13/214)
فهاتان مسألتان مقترنتان مهمتان ، أن هذه المختصرات تؤخذ على طريق التفقه والفهم والعلم ، ثم الأدلة عليها يهتم بها طالب العلم ولا تؤخذ على جهة التعصب لأن أصل التعبد في العلم أن تتعبد بفهم نصوص الكتاب والسنة .
من الذي يُفهمُك النصوص ؟
أهل العلم ، فأهل العلم وسائل ، أدوات لإفهام ما دلت عليه النصوص لأنهم أمضوا أعمارهم وأتعبوا أفهامهم في فقه النص ، في فقه ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فهم أدوات للفهم فهم يشرحون ليُفهِموا الشريعة .
فإذن أهل العلم على هذه المثابة فلا يُتعصب لقول وإنما يُتعصب لدليل ذلك القول .
إذا كانت المسألة اجتهادية فلك أن تثق بقول أوثق العلماء لديك إذا التبَسَت .
وهذا طبعا لا يصلح للمبتدئ في طلب العلم وإنما المبتدئ في طلب العلم يجتهد في تصوير المسائل وفي النظر فيها يعني في أن يفهم الصور صورة المسألة في العقيدة في الحديث في الفقه في العلوم المساعدة يفهم الصورة ثم الحكم عليه ، فالحكم حكم تلك الصورة ثم الدليل على ذلك الحكم .
هذه الثلاث المراتب المهمة : تحقيق الصورة ثم الحكم ثم الدليل .
واجْتَهِد أن لا تُدخل رأسَك إلا صورة صحيحة ثم بعد الصورة أن يكون الحكم منطبقا على تلك الصورة ثم أن يكون الدليل مع وجه الاستدلال لتلك الصورة .
هذا هو العلم الثلاث مراتب هذه : صورة واضحة ، إذا خالفت أن تكون الصورة واضحة معناه دخلت وفيه تشويش ، تقرأها بسرعة أو تسمعها ولا تجتهد أن تفهمها مئة في المئة تُدخلها الذهن على أن تكون واضحة لا لبس فيها ، هذا إذا احتجتها بعد فترة تكون مشوشة في ذهنك وإذا كانت مشوشة ما حصلت العلم .(13/215)
يأتي ما ينبني على تلك فيكون مشوشا ، يأتي ما يشابهها فيكون مشوشا وهكذا وأنا أرى من جهة الشباب في كثير مما يتعاطون من المسائل التي يلتبس فيها أو ما يوردون من الأسئلة التي فيها إشكالات إنما جاء من جهة أن فهمه لأصل المسألة أو لذلك الباب ليس مُقَعَّداً ، فهمه كان على شيء من التشويش وهذا لا ينبغي بل هو مضر بذهن طالب العلم . هذا ما يتعلق بالمسائل .
الجهة الثانية فهم الأبواب وهذا من أهم ما يكون في الذهن وما يرتبط العلم به لأن الأبواب مُقَعَّدَة ، كل باب له قاعدة ينبني عليها ذلك الباب أو له قواعد ينبني عليها ذلك الباب .
فمثلا الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم لو ما علمت تفاصيله لكن هو مبني على قاعدة إذا ضبطت القاعدة وتصورتها في الذهن تماما فلو أُورِدَت إشكالات في هذا الباب في باب الصحابة والكلام عليهم رضوان الله عليهم أجمعين لن يكون هناك مدخل للشبهة ، سوف تكون شبهة أو إيراد يحتاج إلى جواب لكن التقعيد الذي أخذته عن أهل العلم لا يهتز .
وهذا هو المهم في طالب العلم أن يكون الباب عنده مُقَعَّدَا لا يهتم بكثرة المسائل والصور إنما أن تكون قواعد الباب محكمة يعني أن ينظر في الباب مرة مرتين ثلاث حتى يتصور هذا الباب بُنِيَ على أي شيء ، بعد ذلك صوره إذا زادت أو المسائل إذا كثرت فهذا من ازدياد العلم لكن مع إحكام الأساس .
فصار عندنا إذن جهتان :
- الجهة الأولى جهة التقعيد تقعيد الأبواب وهذا من أهم المهمات .
- والجهة الثانية تقعيد المسائل .(13/216)
لهذا تجد أن أهل العلم لو استفتيت أو سألت أو أوردت على بعض أهل العلم حديثا مثلا فيه إشكال أو يصادم تقعيدا في باب أو أوردت آية ما فهمتها أو احتج بها بعض أهل العلم أو أوردها بعضهم في استدلال له مما يصادم ما تعلم من تحقيق العلم في باب من الأبواب ، قد لا يكون عند العالم اطلاع على هذه المسألة أو هذا الإيراد أو على هذا الاستدلال لكن يقول يكون عنده من فهم ذلك الباب وتقعيده ما يظل ثابتا على ذلك التأصيل ويقول هذا يُبحث عنه يُنظر لعله كذا لعلها توجَّه بكذا لعل المراد كذا أو المقصود كذا .
هذا هو حقيقة العلم ليست حقيقة العلم بأن تظل وراء المسائل بدون تأصيلات للباب في تقعيده وللمسائل في تصويرها لأن الإيرادات على القواعد كثيرة تختلف ما بين فن وفن لكن إحكام تقعيد الأبواب هذا مهما ورد عليك من الإيرادات والإشكالات وأنت تقرأ في كلام بعض أهل العلم فإنه يظل معك الأصل سليما.
وإذا ضبطت القواعد وتأصيلات المسائل فلو قرأت في الكتب المطولة في الحديث ، في شروح الحديث كفتح الباري أو في الفقه كالمغني والمجموع فإنه لن يضرك ذاك ، لم ؟
لأن التقعيد والتأصيل سليم ، فلو جاء ما جاء من الصور أو من المذاهب المختلفة أو من الاستدلالات أو الأقوال أو عشرة أقوال أو اثنا عشر قولا أو أربعين من الأقوال فإنك لن تلتبس عليك المسألة لأن التقعيد موجود عندك أما إذا لم يكن أو كان مهتزا فإنك تضيع ، لهذا أجد أن كثيرا من الإخوان الشباب طلبة العلم يوردون إشكالات وتستغرب أنه يورد الكثير من الإشكالات
لم ؟
لأن كثرة إيراد الإشكالات يدل على أن التأصيل غير جيد ، أو التقعيد فهم الباب غير جيد ، فمنهم من أورد إشكالات كثيرة على أبواب من كتاب التوحيد بل منهم من أورد إشكالات على تأصيل المسائل في التوحيد أصلا ، فجاء من قال أتى بأقوال ويستدل لها بما يرى بما يخالف ما هو مقرر في التوحيد والعقيدة ، هذا يدل على عدم الإحكام .(13/217)
ورود الدليل بما يخالف ما قعده الأئمة هذا تنظر إليه أولا في (كيف نفهمه) لكن لا يهتز ما عندك من التأصيل ، كيف تفهمه ؟ ما وجهه ؟ نذهب نبحث نسأل أهل العلم أو نبحث في الكتب ، تجد مخرجه خاصة في المسائل يعني في التقعيدات ، تقعيدات الأبواب في التوحيد والعقيدة وفي الفقه ، أما في المسائل يعني في الحكم على المسألة هذا نعم تختلف باختلاف ما جاءت به الأدلة .
فإذن هذان نوعان مهمان الأول في تقعيد الأبواب ، تتأمل تجلس تتأمل مع نفسك تتأمل حتى تحكم تقعيد الباب ، ثم تصوير المسائل ، والتقعيد يكون بعد التصوير في الواقع ، لأنك إذا قرأت مسألة مسألتين ثلاث فهمتها مع عالم يأتي التقعيد بعد ذلك تضبط ذلك الباب .
إذا ضبطت التقعيد تنتقل من مختصر إلى ما هو أطول منه تكبر عندك أوراق الشجرة أو تعظم عندك فروع الشجرة ، تتفرع تتفرع لكن الجذع الأصلي عندك محكم .
كثرة المسائل بحسب استعداد الذهن ، من الناس من يكون حافظا ذهنه مستعد لأن يقبل مئة صورة مئتين ثلاث مئة صورة في الباب الواحد ، منهم من لا يكون كذلك يكون أقل .
لكن المهم في طلب العلم أن تكون القاعدة سليمة ، أما المشوش فهذا لا يسمى طالب علم اللي دائما مشوش لابد أن يبدأ من جديد .
أيضا مما ينبغي طرحه في ابتداء هذه الدروس كوصية في العلم والتعلم أن يكون نظرك في العلم مستمراً حتى تحكم العلم أعني بذلك أن بعض العلوم لا تفقهها وتفهمها إلا إذا كنت لها دون غيرها
مثلا التوحيد والعقيدة هذه تحكمها وتقوى فيها إذا كنت لها دائما تبحث فيها دائما تبحث فيها شيء من عمرك حتى تحكم قواعدها جميعا وتضبط ذلك ، تكون عندك القاعدة ، بعد هذا لو انتقلت إلى علم آخر يعني من حيث الاستيعاب وكثرة البحث فيه يكون تأصيل هذه قد استقام.(13/218)
مثلا في العلوم المساعدة النحو ، النحو من العلوم التي لا تُطلب مع مشاركة شيء آخر ، يريد ذلك العلم طالبَ علم متفرغ له فترة من الزمن حتى تحكمه ، سنة إذا ضبطته جدا انتهى خلاص بعد ذلك يكون تفريعات مسائل وقراءات تكون سهلة تستلذ لها كما تقرأ كلاما صحفيا أو نحو ذلك لأن التقعيد مشى عندك لكن هذا ما يصلح بالمخالطة .
أقول هذا لأن بعض طلبة العلم يضع له جدولا يقول مثلا يوم السبت يكون لي كذا وكذا وكذا ، يوم الأحد أقرأ في كذا وكذا يوم الاثنين أقرأ في كذا يجعل له جدولا وإذا به يقرأ في تسعة أنواع من العلوم أو ثمانية أنواع من العلوم وهذا غير صحيح ، هذا يكون بعد التأصيل والتقعيد ، يكون استزادة من المعارف والعلوم نعم يصلح ، لكن في البداية وهو لم يحكم علما تختلط عليه العلوم يدخل عليه ما ورد في التفسير من مثلا الخلافات النحوية على ما في النحو على ما في أصول الفقه على ما في مصطلح الحديث ، ما في العقيدة ، التوحيد يدخل مثلا على ما في الفقه وهكذا تختلط معه .
لكن الذهن خاصة في ثلاثة علوم التوحيد العقيدة والفقه والنحو ، هذه العلوم الثلاثة ما تقبل الشركة ، أما غيرها فيمكن أن يؤخذ على مر الأيام والليالي بحسب ما جربت يعني شيئا فشيئا ، التفسير تأخذه شيئا فشيئا ، الحديث شيئا فشيئا حسب ما تقرأ تستفيد ، وكذلك العلوم الُأخر .
نعم سم الله .
العقيدة الواسطية بقي لنا فيها ربما أربع جلسات يعني أربعة دروس ...
الكلام في الصحابة بعضه متصل ببعض ما تركناه منه جُمَل تقرؤنها أنتم إن شاء الله .
موقف
أهل السنة والجماعة
من كرامات الأولياء(13/219)
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، كَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية رحمه الله تعالى :
(وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
هذا المبحث مبحث الكلام على كرامات الأولياء يُذكرُ في كتب الاعتقاد لمخالفة المعتزلة والعقلانيين فيه .
فكرامات الأولياء يُنكرها أهل الاعتزال ومن شابههم ، وأهل السنة يُقِرُّون بها ويصدقون بها لما جاء من الأدلة في ذلك .
فوضَعَ أهل السنة بحث كرامات الأولياء في كتب العقيدة لمخالفة أهل السنة للفرق الضالة في ذلك.
وسبب الضلال في هذا الباب عند أهل الاعتزال وغيرهم ومنشؤه أنهم أصَّلُوا أصلا في آيات وبراهين الأنبياء .
لأن آية النبي وبرهان نبوته قائم على خرقه للعادة .
فما أجرى الله من الآيات على يد الأنبياء والرسل كعصا موسى عليه السلام وكمسح عيسى عليه السلام للمريض والأكمه والأبرص ونحو ذلك وكدخول إبراهيم عليه السلام النار ونحو ذلك من الآيات والبراهين الدالة على صدق الأنبياء العمدة فيه في ذلك عندهم عند المعتزلة ومن شابههم أنها أمور خارقة للعادة .
قالوا فإذا كان ذلك خارقا للعادة فمعناه أن الآية قامت للنبي في نبوته .(13/220)
فإذا كان هناك خوارق للعادة أُخَر يجوز أن تقع لغيرهم من السحرة والكهنة أو من الأولياء فإن النبوة تكون مشتبهة وليس لها دليل واضح لأن عمدة الدليل عندهم على خرق العادة ، وكرامات الأولياء خوارق للعادات وسحر الساحر خوارق للعادات وهكذا .
لهذا لا يصدقون بكرامات الأولياء ولا بالخواق التي تكون على أيدي مُمَخرِقين لأن ذلك عندهم يجعل حجة النبي غير قائمة كما ذكرت لك .
هذا أصل شبهتهم وأصل ضلالهم في هذا الباب .
فخالفهم أهل السنة في التأصيل وفي التفريع :
- خالفهم في التأصيل من أن خرق العادة الذي ذكروه لا يُفهم على ما فهموه
- ومن حيث التفريع فإن النصوص ثبتت في كرامات الأولياء والأدلة عليها كثيرة جدا في الكتاب والسنة وفيما وقع وتواتر ، فمن حيث التفريع أيضا تُثبَت لمجيء الأدلة عليها في الكتاب والسنة وقيام الدليل القطعي العقلي من حيث التواتر بحصول ذلك في الأمم المختلفة .
قال هنا رحمه الله (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ)
قبل أن نتكلم على الكرامات والأولياء والولي هذه الكلمة مهم أن تُفهَمَ فهما صحيحا وهي (خَوَارِقِ الْعَادَاتِ) ما المراد بذلك ؟
وهذا اللفظ مُخْتَرَع اخترعه المعتزلة وليس في نصوص الكتاب والسنة هذا الاسم (خارق للعادة) ولهذا يجب أن يُفهم بما لا يعارض النصوص .
المصطلحات لا بأس بإحداثها لكن تُقَيَّد بما دلت عليه النصوص .
لهذا نقول في قولهم (خارق العادة) هذا (العادة) هذه عادة من ؟
فإذا فصّلنا في (العادة) هذه عادة مَنْ اتضح الفرق العظيم بين آيات الأنبياء وبراهين صدق الأنبياء وما بين كرامات الأولياء وما بين خوارق السحرة والكهنة ونحو ذلك .(13/221)
" فآيات الأنبياء وبراهين الأنبياء خارقة لعادة الخلق جميعا ومن أعظمهم في ذلك الجن والإنس جميعا ولهذا قال جل وعلا ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا? فعصا موسى عليه السلام بانقلابها حية تسعى تلقف ما يأفك أولئك السحرة هذه خارقة للعادة .
عادة من ؟
عادة المخلوقات جميعا ، عادة الجن والإنس والملائكة إلى غيرهم ، لا يمكن أن يأتي أحد بمثل هذا إلا الله جل وعلا لأن في ذلك تحويلا وخلقا وهذا إنما هو لله ، إحياء الميت ، إبراء الأكمه والأبرص بمسحة هذا ليس في عادة الإنس ولو اجتمعت أطباؤهم وليس في عادة الجن ولو اجتمعت حكماؤهم وأطباؤهم وليس في عادة أحد .
فإذن آيات وبراهين الأنبياء خارقة لعادة المخلوقات أو تقول خارقة لعادة الجن والإنس جميعا .
" وكرامات الأولياء خارقة للعادة ، لكن عادة من ؟
هل هي عادة الجن والإنس جميعا ؟
لا ، لو كانت عادة الجن والإنس جميعا لاشتبه ذلك بالنبوة لكن هي خارقة لعادة الناس في زمانهم.
ولهذا نقول كرامات الأولياء قد تكون من جنس آيات الأنبياء لكن يختلف خرق العادة في هذا وهذا ، ويختلف أيضا جنس الآية بين هذه وهذه .
قد تشترك معها ، مثل أن إبراهيم عليه السلام دخل النار فكانت بردا وسلاما عليه ، كذلك أحد الصحابة في اليمامة دخل النار فلم تحرقه ، فالنار هذه والنار هذه جنس لكن هذا من كونه من جنس تلك النار يعني نار إبرهيم والنار التي أججوها لهذا تختلف ، وأيضا سلامة إبراهيم تختلف عن سلامة هذا ، وآية إبراهيم في ذلك في تحديهم يختلف عما وقع للصحابي في ذلك .
هناك بعض آيات الأنبياء قد تكون من جنس ما حصل لكن لا تساويها في العِظَم وفي التحدي بها وفي إضطرار الناس على أن ذلك لا يكون إلا من عند الله جل جلاله .(13/222)
فإذن نقول كرامة الولي خارقة للعادة كما قال شيخ الإسلام هنا لكن هي عادة الناس في زمانهم ، ليست عادة الناس في كل زمان .
قد يكون يتقدم الزمان ويكون يُفعل بمثل ما فعل .
مثل مثلا منهم من انتقل إلى مكانه إلى مكان آخر في مدة وجيزة ، هذه كرامة ، في ساعة انتقل من الرياض إلى مكة في ذلك الزمن هي كرامة لأنها ليست من عادة الناس .
إذن من الذي جعل ذلك للولي ؟
الله جل وعلا فصارت كرامة له ، حصلت في هذا الزمان .
خوارق السحرة والكهنة ونحوهم هي خوارق لمن ليس منهم ، ليست للناس لكن خارقة لعادة من ليس ساحرا ، خارقة لعادة من ليس كاهنا فصارت أظهر لأن الشياطين تساعدهم والسحرة والكهنة كل منهم يُمِدُّه شيطان .
فإذن صار هذا المُسمى (خارق للعادة) اصطلاح جديد يجب أن يُفهم على ما يتفق مع ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة .
فالقرآن العظيم خارق للعادة ، عادة من ؟
عادة الثقلين بل وجميع المخلوقات والملائكة لهذا قال جل وعلا ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ? وقال جل وعلا ?قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ? فالآيات هذه من الله جل وعلا .
فإذن التأصيل الذي تأصل به الضُلاّل من المعتزلة وغيرهم في هذا الباب بما نفوا به كرامات الأولياء مبني على مقدمة غلط ، لفظ اخترعوه ثم فهموه غلطا ونتج عن ذلك أن قيدوه ببعض الأحوال وهذا من جراء عدم استيعاب فهم نصوص الشريعة .
قال (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
قوله (التَّصْدِيقُ) فيه الإقرار بحصول ذلك ، قد يحصل له وقد لا يحصل له لكن من حيث إيمانه بوقوع الكرامات للأولياء هو مؤمن بذلك مصدق ليس في شك من ذلك .
لم ؟
لأنه قد جاء في النصوص في الكتاب والسنة .(13/223)
فالتصديق بما دلت عليه النصوص واجب من الواجبات لذلك كان من أصولهم التصديق بكرامات الأولياء .
وقوله (كَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ) هذه فيها كلمتان :
- (كَرَامَاتَ) وهي جمع كرامة
- و (أَوْلِيَاءِ) وهو جمع ولي .
والولي له معنى في اللغة وهو المحب الناصر ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ? الولي هو الناصر .
والوَلاية المحبة والنصرة ?هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ? الوَلاية - بالفتح فتح الواو - المحبة والنصرة ، أما الوِلاية بالكسر فهذه هي الإمارة ، هذا في اللغة ، فالولي هو المحب الناصر تقول هذا وليي يعني محب لي وناصر لي ، ومنه قول الله جل وعلا ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ?.
أما في الاصطلاح فالولي هو (كل مؤمن تقي ليس بنبي) ، الولي عند أهل السنة كلُ مؤمن تقي ليس بنبي .
اشتمل التعريف على أن الولي من جهة الاسم الاصطلاحي لا يدخل فيه الأنبياء أما من جهة الأصل فإن الأنبياء أولياء بمعنى أنهم مؤمنون أتقياء لكن إذا قيل هنا كرامات الأولياء فنعني بهم كرامات المؤمنين الأتقياء الذين ليسوا بأنبياء ، فلا تدخل في بحثنا براهين الأنبياء وآيات الأنبياء وما يحصل على أيديهم من خوارق العادات لا يدخل في هذا البحث لأن الولي هنا لفظ اصطلاحي يُعنى به كل مؤمن تقي ليس بنبي .
قالوا (كل مؤمن تقي) لأن الله جل وعلا قال في سورة يونس ?أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ? فالله جل وعلا جعل الأولياء هم المؤمنون الأتقياء ..1 فالتعريف مأخوذ من الآية بظهور ووضوح .(13/224)
إذا تأملت ذلك فالتعريف نفهم منه أن الوَلاية تتبعض لأن الإيمان والتقوى في أهله يتبعض .
فكل مؤمن تقي ليس بنبي ولي .
والإيمان يتبعض والتقوى تتبعض فينتج من ذلك أن الوَلاية تتبعض .
لكن اسم الولي يطلق على من كَمَّلَ الإيمان والتقوى .
فقولهم (كل مؤمن تقي) يعني من كَمَّلَ الإيمان والتقوى واجتهد في ذلك ، وهذا هو الذي يطلق عليه الولي ، وقد يكون هناك كرامات لمن لم يكمل الإيمان والتقوى بحسب ما يناسبه .
هذا تعريف الولي ، هناك مباحث متصلة بذلك نتركها .
أما الكرمات فهي جمع كرامة وهي في الأصل نعمة خاصة ، يعني في اللغة الكرامة هي النعمة الخاصة ، ولهذا قال جل وعلا ?فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ? ?فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ? هذا الإكرام نعمة خاصة ، إنعام خاص مزيد على الإنعام العام .
أما في الاصطلاح فالكرامة عندهم هي - أعني تعريفها - أمر خارق للعادة جرى على يدَيْ ولي.
هذا تعريف الكرامة أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي .
وقولهم (خارق للعادة) هذا يُقَيد بأنه عادة الناس في زمانهم وليس هو عادة الجن والإنس ، بل قد تفعل الجن بأصحابها ، تفعل شياطين الجن بأوليائها كما يُفعل أو كما يحصل للولي .
فقد تجد مثلا من حيث الإمكان هذا وهذا هذا يمضي على الماء يمشي عليه وكأنه جَدَدٌ من الأرض يبس وذاك الآخر يمشي على الماء وكأنه جَدَدٌ من الأرض يبس ، وهذا يكون وليا وذاك يكون مُمَخْرِقا يعني خدمه شيطان .
ولهذا قال من قال من السلف (لا تغتر بهم وإن مشوا على الماء أو طاروا في الهواء حتى يكونوا على الكتاب والسنة) لا بد من شاهدين : شاهد من الكتاب والسنة يعني من حيث التزام هذا بالكتاب والسنة .
أهل البدع والضلال قد يحصل لهم شيء من الخوارق ، ولهذا نقول الخارق ليس هو ميزان للولاية ، بل الميزان أن يكون هذا الخارق جرى على يدي مؤمن تقي .(13/225)
قلنا الكرامة أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي ، والولي هو المؤمن التقي ، فخرج بذلك ما يجري من خوارق العادات على يدي من ليس بمؤمن تقي من أصحاب الفسق والفجور والبدع المضلة ونحو ذلك .
وهذا فيصل مهم بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فيما يحصل لهم من خوارق العادات .
قال شيخ الإسلام هنا رحمه الله (وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ)
قوله (يُجْرِي اللهُ) هذا فيه أن الذي حَصَّلَ لهم الكرامة أو الذي أَنْعَمَ عليهم بالكرامة هو الله جل وعلا ، فليس باختياره أن تحصل أو لا تحصل بل الله جل وعلا هو الذي ينعم عليه بذلك (يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم) ينعم عليه بذلك قد يكون لحاجته وقد يكون تفضل من غير احتياج :
- من جهة حاجته كما حصل أن أحد الصحابة مات فرسه فدعا الله فقام حيا - الفرس - حتى أوصله إلى أهله لأنه مات في مكان ليس فيه أحد يخشى معه بهذا الهلاك فدعا الله فأحياه له فلما وصل إلى بيته ودخل الدار خر الفرس ميتا مرة أخرى ،رؤية عمر لسارية وللجيش وسماع سارية لعمر هذا من جهة الحاجة .
- وقد يكون من غير حاجة ينعم الله جل وعلا عليهم ابتداء ، سفيان الثوري والحسن البصري كان هناك من يطلبهم من السلطان سلطان زمانهم فدخل الشُرَطُ ينظرون في المنزل ويفتشون وكان الحسن جالسا في صحن الدار وسفيان أيضا كان جالسا في صحن داره ولم ير الشُرَطُ الحسن ولا سفيان ، هذا من جهة إكرامه ، إنعام ، ليس هو بحاجة يعني يحتاج إلى ذلك أو هو وقع في نفسه أنه محتاج لكن إنعام من الله جل وعلا وإكرام .
ولهذا قال العلماء إن الكرامة لا تدل على رفعة من حصلت له .
وهذا من أصول أهل السنة في باب الكرامات أن الكرامة لا تدل على رفعة من حصلت له وأن من لم تحصل له أضعف ممن حصلت له ، وذلك لأن أكثر الصحابة ما حصلت لهم كرامات ، والكرامات في التابعين أكثر وهكذا .(13/226)
وقد قال بعض أئمة أهل العلم إن كثرة الكرامات فيما بعد القرون المفضلة راجعة إلى ضعف الإيمان لأن منهم من لو لم تحصل له كرامة لشك في الله أو لشك في الرسالة لأنه جاهد نفسه في الإيمان والتقوى فلو حرم الكرامة لحصل له شك ، وقد يكون ذلك من جهة ذنبه أو من جهة ضعف إيمانه ، فحصول الكرامة لمن حصلت له إنعام وإكرام من الله جل وعلا وإجراء على يدي ذلك الولي أو من حصلت له الكرامة ، وليس بدال على أنه أفضل ممن لم تحصل له .
قال (مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ)
هذه الكلمة من شيخ الإسلام (أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ) هذا ذكر لنوعي الكرمات .
الكرامات نوعان :
- كرامات من جهة العلم والكشف .
- وكرامة من جهة القدرة والتأثير .
" الكشف والعلم قد يكون - هذا أحد نوعي الكرامة - :
قد يكون من جهة كشف المعلوم العقلي .
وقد يكون من جهة كشف الحجاب والغطاء عن البصر .
وقد يكون من جهة كشف الحجاب والغطاء عن السمع .(13/227)
مثال البصر ما حصل لعمر رضي الله عنه حيث كان يخطب في المدينة فرأى سارية ورأى جيش الفُرس فقال (يا سارية الجبل الجبل) في حديث حسَّنَه وقواه الحافظ ابن حجر وغيره خلافا لمن ضعفه ، فهذا كشف من جهة عمر كشف بصري ، انكشف عنه الغطاء لأن البصر له حجاب فإذا انكشف رأى شيئا لم يره بحجابه الموجود له كما قال جل وعلا ?فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ? إذا انكشف الغطاء عن البصر بالموت رأى أشياء بروحه بعينيه رأى أشياء لم يكن يراها في الدنيا : رأى الملائكة ورأى من يخاطبه ورأى أشياء لا يراها في حياته ، هذا كشف الغطاء ، فهنا الكشف هنا التعبير بالكشف لقول الله جل وعلا ?فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ? فالكشف له أصله في الشرع ، عمر رضي الله عنه انكشف عنه غطاء البصر ، وسارية رضي الله عنه انكشف عنه غطاء السمع فسمع كلام عمر وعمر في المدينة وسارية في مكانه من بلاد فارس فانكشف عنه غطاء السمع فسمع كلام عمر يُدَوِّي هذا إكرام من الله جل جلاله ، فلزموا الجبل ونجوا .
أيضا من الكشف البصري أبو بكر رضي الله عنه رأى في بطن زوجته فقال (فيها أنثى) فلما ولدت بعد مدة كانت كذلك ، فهذا من الكشف كشف البصر .
أيضا الكشوف العلمية حيث يُكْشَفُ له وينكشف له من العلوم ما لا يكون بقدرة غيره هذا إكرام من الله جل وعلا للعبد .
ولهذا نقول إن هذا النوع ، نوع العلم والكشف من الكرامات مرتبط بكلمات الله جل وعلا الكونية وكلمات الله جل وعلا الشرعية :
- ارتباطه بكلمات الله جل وعلا الكونية راجع إلى الكشف البصري والسمعي ونحو ذلك .
- وارتباطه بكلمات الله جل وعلا الشرعية راجع إلى العلم فيعلم منها ما لا يعلم غيره فينكشف له من العلم بالنصوص ما ليس لغيره ويوفق حتى يكون ذلك كرامة له ، هذا نوع .(13/228)
" النوع الثاني من الكرامات قوله (وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ) يعني أن يقدر على ما لا يقدر عليه غيره أو يؤثر بما لا يستطيع أن يؤثر غيره ، يعني يكون عنده قدرة زائدة ليست في مقدور أهل زمانه .
مثل ما حصل لسعد حيث يَبَسَ الماء ومر الجيش هذا نوع من القدرة ، مثل إحياء الفرس للصحابي هذا نوع من القدرة والتأثير .
والقدرة في قوله (وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ) هو يقدر بما يُجْرِي الله على يديه وإلا فليس بوسعه أن يقدر لأنه خارج عن مقدوره لكن الله جل وعلا يعطيه قدرة خاصة من جهة الإكرام فصارت القدرة كرامة .
والتأثير قد يكون تأثيرا في الكون في الكونيات وقد يكون تأثيرا في الشرعيات ، صار عندنا هنا في القدرة والتأثير صار عندنا قسمان :
- قدرة وتأثير في الكونيات .
- وقدرة وتأثير في الشرعيات .
وهذا أيضا نؤمن به ونصدق :
- فمن جهة الكونيات كما مثلنا لكم
- ومن جهة الشرعيات ما جعل الله جل وعلا لبعض الناس من الكرامة في التأثير في الناس فيؤثر فيهم ويُقبل فيكون قوله فيهم مسموعا وإفهامه لهم مؤثرا وتكون دعوته لهم نافعة ووعظه لهم نافعا ، وقد ذكر أهل العلم عن بعض الوعاظ من العلماء أنه ربما أسلم على يديه في المجلس الواحد كذا وكذا من جراء وعظه وتاب على يديه عشرة آلاف كما ذكروا في بعض مجالس ابن الجوزي رحمه الله ، هذا نوع من الكرامة في التأثير ، تأثير مرتبط بالشرع ، تأثير في الشرعيات يعني أثَّر بالشرع بالالتزام بالشرع ونحو ذلك ، أثَّر في فهم الشرعيات ، أو تأثير في الكونيات بالإقدار على ما لا يقدر عليه غيره .
هذا خلاصة البحث في هذا التقسيم وهذه الجمل لها تفصيلات وتقسيمات تطلب من مظانها المطولة
إذا تقرر ذلك فبحث الكرامات بحث مهم ، وذكرت لكم أن المعتزلة ينفون الكرامات ولا يصدقون بكرامات الأولياء ، وأهل السنة يصدقون بكرامات الأولياء والأشاعرة يصدقون أيضا بكرامات الأولياء .(13/229)
وهناك فرق بين قول أهل السنة وقول الأشاعرة :
- فأهل السنة يصدقون بكرامات الأولياء وما يُجْرِي الله على أيديهم من خوارق العادات بالقيد الذي ذكرنا من أن كرامة الولي لا تبلغ آية النبي .
- والأشاعرة يقولون كرامة الولي تساوي آية النبي والفرق بينهما أن كرامة الولي ليست مقرونة بدعوى النبوة وآية النبي أو كرامة النبي أو البرهان الذي يعطيه الله جل وعلا للأنبياء والرسل هذه مقرونة بدعوى النبوة .
فالفرق بينهما عند الأشاعرة من جهة اقتران الكرامة أو الخارق للعادة بدعوى النبوة ، فإن كان مع الخارق للعادة دعوى النبوة صارت آية وبرهانا ومعجزة وإن خلت من دعوى النبوة صارت كرامة.
وهذا يخالف مذهبنا وطريقتنا وقول أئمة أهل السنة في أن كرامات الأولياء لا تبلغ آيات الأنبياء .
ولهذا نقول إن آيات الأنبياء وبراهين الأنبياء خارقة لجنس أو خارقة لمقدور جنس المخلوقات الجن والإنس والملائكة إلى آخره ، أما كرامة الولي فهي محدودة ، خارقة لعادة ناس زمانهم .
هذا فرق مهم ، بالمناسبة ابن حزم مع المعتزلة في مذهبه يعني ينكر الكرامات .
خلاصة القول في مذهب أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء :
أن كرامات الأولياء لا تتساوى .
وعدم تساويها ليس لأجل تفاضل الإيمان ، فقد يعطى الأكمل في الولاية من الكرامة ما هو أقل مما يعطى الأقل منه إيماناً وقد يعطى من عليه بعض المعصية أو من عصى شيء من الكرامة ولا يعطاها المؤمن التقي المسدد لأجل حاجة ذاك إلى ما يقوي إيمانه ولطف الله جل وعلا به وعدم حاجة ذاك .
من أصول أهل السنة في هذا أن أهل البدع والمحدثات والعصيان والكبائر ليسوا بأهل للكرامة فلا يُجرى على أيديهم خوارق للعادات .(13/230)
وهذا يعني أن ما يحصل لأهل البدع من خوارق العادات إنما هو من الشياطين أو من الاحتيال ، يحتالون ، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذُكِرَت له الرفاعية ، طائفة صوفية منسوبة إلى أحمد الرفاعي المعروفة في الشام أنهم من آياتهم التي تدل على أنهم أولياء أنهم يدخلون النار ولا تحرقهم فقال شيخ الإسلام ابن تيمية إن هناك زيتا يباع في المشرق إذا اطلي به الجسد لم تصل النار إلى الجسد فإن كانوا صادقين فليغتسلوا قبل أن يدخلوا النار ، يغتسلوا اغتسالا جيدا قبل أن يدخلوا النار ، فأبوا أن يفعلوا ذلك ، هذا من جهة الاحتيال .
من جهة أخرى قد يكون من جهة الشياطين كمن يدخل السكين في بطنه أو يأكل الأفعى ولا تصيبه ونحو ذلك ، هذا من جهة تصوير الشياطين .
فإذن التقعيد أن أهل البدع ما يحصل لهم من الكرامات ليست هي كرامات وإنما هي خوارق شيطانية إلا في حالة واحدة :
وهي حالة قتال أهل البدع للكفار والمشركين فهذه حالة مستثناة عند أهل السنة وهي أن أهل البدع إذا قاتلوا المشركين والكفار فقد يُكرمون وقد تكون لهم كرامات .
وهذه الكرامات ليست إكراما لأشخاصهم لأنهم أهل بدع وعصيان وضلالات ولكن إكرام لما حملوه من أصل الدين من أصل الإسلام ، لهذا قال شيخ الإسلام في كتاب النبوات وفي غيره إن أهل البدع يُعطون كرامات إذا كانوا في جهاد للمشركين إما جهاد لسان أو جهاد سنان :
- ففي جهاد السنان يعطى المبتدع كرامة لكن لا يدل على أن ما عليه من مخالفة الكتاب والسنة وأخذ البدع والعصيان أنه حق بل لأجل أن يفوق ما معه من أصل دين الإسلام على ما مع أولئك من الكفر والضلال .
فإذن يكون إعطاء المبتدع في حال القتال الكرامة لأجل إظهار أن الله جل وعلا أيد من على الإسلام ولو كان مبتدعا على من هو على الكفر .(13/231)
ويمثَّل لذلك بعدة أمثلة قاتل المبتدعة من هذه الأمة المشركين والملحدين في قديم الزمان وفي حديثه وهذا لأجل ما معهم من أصل الدين في مواجهة الكافر المشرك أو الملحد أيَّدهم الله جل وعلا بالكرامات لبيان أن هذا الدين أعظم مما هم عليه لأجل التصديق بهذا الدين
- المواجهة بالبيان والجهاد باللسان أيد الله جل وعلا وأكرم بعض المبتدعة من هذه الأمة ، بعض المعتزلة وبعض الأشاعرة في حجاجهم ومواجهتهم لطوائف الضلال من التناسخية في الهند والحُلولية واليهود والنصارى وأصحاب الملل المختلفة فيؤيَّدون حال الحجاج .
فإذن في حال الجهاد المسألة تختلف فقد يعطى المبتدع الكرامة لا لذاته ولكن لنصرة ما معه من أصل الدين كأنه في مقام الجهاد الله جل وعلا أكرمه لأجل ما معه من أصل الديانة .
وهذا فرق مهم ، وكثير ممن خاض في الزمن الأخير وفيما حصل للأفغان من أمور قالوا إنها كرامات من شاهدها قال إنها كرامات وتُنوقلت وهناك من يكذب يقول هؤلاء مبتدعة والمبتدع لا يحصل له كرامة أصلا وهناك من يقول هي كرامات وهذا يدل على أنهم عند الله جل وعلا لهم مكانة الأولياء ونحو ذلك .
وبهذا التفصيل يُفهم الفرق بين حال الكرامة في الجهاد وحال الكرامة في غير الجهاد فإنه في الجهاد ليست دليلا على أن المجاهد ولي بل قد يكون غير ذلك كما هو الواقع فإن الحال في أولئك كثير منهم مبتدعة وكثير منهم عندهم شركيات وخرافات فما حصل لهم من الكرامات فيما نَقَلَ النقلة قد يكون ، وذلك لأجل تأييد ما هم عليه من دين الإسلام على ما عليه أولئك الكفرة من الإلحاد والظلم العظيم .
قال (والْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ)
يعني التصديق بالمأثور عن سالف الأمة .
(فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا)(13/232)
سورة الكهف فيها قصة أصحاب الكهف وأن الله جل وعلا أنامهم في الكهف ?ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا? ومن العادة أن الإنسان لا ينام هذه النومة الطويلة ويسلم فيها والله جل وعلا جعل ذلك كرامة لهم .
قال (فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ فِرَقٍ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
يعني أن الكرامات لا تزال تحصل في هذه الأمة وذلك إلى يوم القيامة ، ويقصد بيوم القيامة يعني ما قبل قيام الساعة يعني قبل هبوب الريح التي تقبض أنفاس المؤمنين لأن الكرامات مرتبطة بأهل الإيمان ويبقى الناس مدة طويلة لا يقال في الأرض الله الله كما جاء في صحيح مسلم يعني لا أحد يعظم الله فيقول للآخر اتق الله اتق الله ، بل يتهارجون فيها كما تتهارج الحمر .
هذا خلاصة بحث كرامات الأولياء وهو بحث مهم والتوسع فيه له مجال كبير .
شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم لهم في مؤلفاتهم الكلام الكثير عن ذلك لكن أصول هذا الباب ذكرته لك .
نكتفي بهذا القدر ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ...
ما حكم من عَمَّمَ وقال إن الخوارق هي خوارق للعادات الطبيعية ؟
هي في عادة الإنس فيما يَجْري لهم عادة ، عادة أهل الزمان في ما يجري لهم عادة .(13/233)
العادات الطبيعية قد يكون شيء من جهة القدرة من جهة الكشف هذه ليس لها دخل - الطبيعة - فيها ، يعني ينظر هكذا فيرى ما يفعله الناس ، يُكشِف عما في قلبه يرى فلان ويعرف ما يدور في نفسه ، ولهذا تجد أنهم يذكرون الكلام على الفراسة (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) يذكرون الكلام على الفراسة وأنواع الفراسة وأصناف ذلك في مبحث الكرامات لأن لها صلة بمبحث الكرامات لأن الفراسة كشف ونعني بالفراسة الفراسة الإيمانية هي كشف كما أن الكرامة كشف فهي في الواقع كرامة ، وأما الفراسة الرياضية وأشباه ذلك فهذا يحصل بالتعلم وليس من جهة الإكرام .
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم السداد في القول والعمل وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يجعل أعمالنا جميعا خالصة لوجهه وأن يجعلنا في كل حركاتنا وسكناتنا ناصرين هذه الدعوة التي هي دعوة التوحيد الخالص التي بُعث بها المرسلون جميعا .
وما من شك أن الأزمنة تحتاج في إقرار الحق ودفع ضده إلى جهاد ومجاهده ، وكل ذلك لا بد من القيام به ، وإذا أتيح باب من أبواب الخير أو باب من أبواب المجاهدة في الصلاح والخير فإن العبد إذا أحسن نيته لله جل وعلا ورغب في الخير وصَدَقَ مع الله جل وعلا في تعامله واجتهد أن يكون كما أمر الله جل وعلا فإنه على باب من أبواب الفلاح والهدى لأن الله جل وعلا أمر بالجهاد ، والجهاد يكون بالقرآن قبل أن يكون بالسنان كما قال جل وعلا ?فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا? يعني جاهدهم بهذا القرآن .(13/234)
والجهاد بالقرآن وبالعلم وبالدعوة يحتاج إلى صبر ومصابرة ويحتاج إلى طول عناء وسؤال للثبات ، ولهذا كثيرون ممن راموا طريق العلم تركوه لأن العلم طويل ، فتجد أنه طلبه بعض السنين ثم تركه لأجل طوله ، والأمور كلها تحتاج إلى مجاهدة ومنها طريق العلم .
ومن الأبواب التي يحصل بها الخير في طريق طلب العلم والدعوة أن يتعاون الجميع لأن الدعوة إلى الخير والدعوة إلى هذه العقيدة الصافية الصحيحة التي نُدَرِّسُ كتابا من كتبها وهو العقيدة الواسطية إن إقرار ذلك ونشره في الناس وتعليم الجاهل وبثه في المساجد وغير ذلك لا شك أنه من المهمات ويجب أن يتعاون طلبة العلم والدعاة إلى الخير وأهل العلم وكل منتسب إلى الخير يتعاونون في ذلك جميعا لأن الله جل وعلا أمر بذلك في قوله سبحانه ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? وفي قوله جل وعلا ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? لهذا ربما ما حضر الدرس الماضي كثير منكم فابتدأنا بهذه الوصية العامة التي نرجو أن تكون على البال وفي القلوب وأن لا يترك بعضنا بعضا وأن يساعد بعضنا بعضا في الخير والصلاح والهدى .
وقد كنا شرحنا في الدرس الماضي جملة من كلام شيخ الإسلام ذكر فيها أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة في الأولياء وقد رُغِبَ أن يُكَرَّرَ ذلك لأن الحضور في الدرس الماضي كان نصف تقريبا الحضور اليوم وكثير من الإخوان ما حضروا فنستأذن الاخوة الذين حضروا الدرس الماضي وربما يكون فيه زيادة على ما ذُكر إن شاء الله تعالى وفي التكرار إن شاء الله تثبيت .(13/235)
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، كَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
كرامات الأولياء البحث فيها جاء فرعا عن الكلام في دلائل النبوة وآيات الأنبياء وبراهين الأنبياء.
فالله جل وعلا أيد كل نبي بآية وببرهان وهي التي سماها بعض المتأخرين المعجزات ، والتسمية الشرعية لها الآيات والبراهين والبينات ?قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ? قال ?فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ?
انتهى الشريط الخامس و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السادس والعشرون
فالله جل وعلا أيد كل نبي بآية وببرهان وهي التي سماها بعض المتأخرين المعجزات والتسمية الشرعية لها الآيات والبراهين والبينات ?قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ? قال ?فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ? وقال جل وعلا ?فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ? وقال سبحانه ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ? .(13/236)
ويلحق بذلك ما هو أثر في الآية والبرهان وهو ما جاء في بعض الآيات أنه السلطان قال ?فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ? والآيات لا يستملكها البشر وإنما هي عند الله جل وعلا كما قال جل وعلا ?إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ? .
والآيات جمع الآية وهي الدليل الواضح البيِّن على المراد حيث لا يتخلف عنه .
آيات الأنبياء وبراهين الأنبياء ودلائل صدقهم هذه خارقة للعادة .
ولفظ (الخارق للعادة) هذا كما ذكرنا استعمله المعتزلة والمتكلمون ، فجعلوا الدليل على كون الآية والبرهان حجة للرسول ومعجزة للرسول أن فيها خرقا للعادة ، وخرق العادة قالوا لا يكون إلا لله جل وعلا .
أصّل المبتدعة هذا التأصيل فلهذا أنكر طوائف : كالجهمية والمعتزلة وبعض الفقهاء ، أنكروا كرامات الأولياء لأن كرامات الأولياء عندهم أمور خارقة للعادة ، فالخارق للعادة هو ما يحصل بما لا يكون فيه إمكان للبشر أن يفعلوه ، فصار خارقا للعادة ، فأنكروا كرامات الأولياء لأن الكرامة شيء خارق للعادة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله هنا قال :
(وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ)
فسبب ضلال من ضلال من ضلَّ في هذا الباب وهو باب كرامات الأولياء أنهم جعلوا إثبات كرامات الأولياء بما جاءت به النصوص ، جعلوا ذلك يطعن في دليل النبوة .
قالوا : ولو أثبتنا كرامة للولي لاشتبه ذلك بمعجزة النبي ، ومعجزة النبي قامت على خرق العادة فلهذا لا يمكن أن يكون للولي كرامة تُخْرَقُ بها العادة .
أهل السنة رضي الله عنهم وأرضاهم من الصحابة والتابعين ومن سلك مسلكهم خالفوا المبتدعة في الأصل وهو أن مبنى آيات الأنبياء على خرق العادة .
قالوا : ومبنى آيات الأنبياء على أنَّ آية النبي ليست في إمكان المخلوقات بل لا يمكن أن يأتي بهذه الآية إلا الله جل جلاله سبحانه وتعالى .(13/237)
فهي خارقة للعادة ولكن كلمة (العادة) هذه وكلمة (خرق العادة) كلمة محدثة لم تأت في النصوص وإذا كان كذلك وجب تقييدها بما جاءت به النصوص .
فالعادة هنا التي تخرقها آيات الأنبياء هي عادة الجن والإنس والمخلوقات .
فالعادة في آيات الأنبياء غير العادة في كرامات الأولياء ، غير العادة في مخاريق السحرة والكهنة ، لأن الساحر والكاهن والمشعوذ والبطَّال يأتون بخوارق للعادات ، لكن عادة من ؟
هذه هي نكتة هذا الباب وهو مبني - يعني باب كرامات الأولياء والكلام على السحرة وإثبات ما جاء في النصوص في ذلك والرد على أهل البدع - مبني على هذا التأصيل الذي ذكرته .
لهذا نقول إن أهل السنة أثبتوا آيات الأنبياء وذلك بأنها خارقة لعادة المخلوقات ، يعني لا يمكن أن يكون مخلوق يأتي بمثل تلك الآية ، لا يمكن لمخلوق أن يقلب عصا حيةً لأن هذا من جهة الخلق ، فيقلب العصا حية وتكون حية فعلا ، ليست من جهة التمويه ولكن تكون فعلا حية ، أو يجعل البحر رهوا ، أو يجعل البحر يبساً ، أو يجعل فرق البحر فرقتين هذه كذا كالطود العظيم وتلك كذا كالطود العظيم ?فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ? هذا ليس في وسع أي مخلوق بل هو لله جل وعلا ، كذلك آية عيسى عليه السلام ، كذلك آية سليمان عليه السلام ، وآية عيسى أنه يُبرئ الأكمه والأبرص بمسحة ويحيي الموتى وهذا لا يمكن إلا لله جل وعلا .
ولهذا نقول عُمدة هذا الفصل أو هذا الباب في فهمه أن خرق العادة هنا يختلف .(13/238)
فإذا قلنا بهذا اللفظ المحدث واستعملناه فلا بد أن نفهم أنه مقيد بالسياق الذي يجيء فيه ، فإذا جاء في سياق ذكر آيات الأنبياء كانت العادة التي تُخرق في آيات الأنبياء هي عادة المخلوقات جميعا ، قال جل وعلا في القرآن ?قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ? فهنا وقع طلب المعارضة باجتماع الجن والإنس جميعا وهما الثقلان المكلفان قال ?لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ? يعني قد يأتون بشيء يسمونه قرآنا أو يسمونه مصحفا أو يسمونه كتابا من عند الله لكن لا يكون مثل القرآن فيكون كذبا .
مثل ما يدعي الدُّروز أن عندهم مصحفا خاصا بهم وصحف خاصة - وعندي من مصحفهم نسخة - شاكلوا به القرآن وأخذوا بعض الآيات ووسموه بأشياء وجعلوا له فواصل ونحو ذلك ، لكنه بارد وليس فيه تحريك لا للنفس ولا للقلب ولا السلطان بل هو سَمِجٌ لا تمضي فيه حتى تكرهه ، وكذلك بعض من ادَّعى معارضة القرآن ، فإذن المقصود هنا أن خرق العادة في آيات الأنبياء بعادة الجن والإنس أو تقول عادة المخلوقات يعني تُدْخِل فيهم الملائكة إلا بأمر الله جل وعلا .
هذا التأصيل لا بد منه .
هنا خرق العادة في كرامات الأولياء غير خرق العادة في آيات الأنبياء لهذا نقول ، مَبْنَى هذا الباب أن أهل السنة خالفوا المبتدعة في تأصيل هذا الباب وفي فروعه :
في التأصيل بما ذكرنا
وفي الفروع بالقول بأن كرامات الأولياء حق ، وأن سحر الساحر حق ،وأن السحر يُمرِضُ حقيقة ويقتل حقيقة وهو موجود على الحقيقة ،وأن مَخْرَقَة الكهنة والمشعوذين أن هذه هي مَخْرَقَة فعلا وحاصلة حقيقة ليست فقط تمويها لكنها تحصل حقيقة ، بأن يأتي بشيء بدل شيء ويخفي شيئا ويظهر شيئا، وهذه خارقة للعادة .
ولكن العادة التي خُرِقَتْ بكرامات الأولياء هي عادة الناس في ذلك الزمان .
والعادة التي خُرِقَتْ بمخرقة السحرة هي عادة أهل ذلك البلد ممن ليس بساحر .(13/239)
هذه هي القيود في هذا الباب .
قال رحمه الله (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
التصديق يعني اعتقاد أنها حق من حيث الوقوع ومن حيث الجنس ، لا من حيث الشيء المعين الذي يحصل لأفراد الأمة ، ما جاءت به النصوص من الكرامات نقول هو كرامة ونصدق بذلك لأن التصديق بالنصوص واجب .
قال (بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ) والأولياء جمع ولي ، والولي في اللغة هو المحب الناصر كما قال جل وعلا ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ? يعني بعضهم يحب بعضا وينصر بعضا ، وقال جل وعلا ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ? فالولي هو الناصر والمحب ، هذا في اللغة .
أما في الاصطلاح فأهل السنة إذا قالوا الولي فيريدون به (كل مؤمن تقي ليس بنبي) .
قولهم كل مؤمن تقي في التعريف لأن الله جل وعلا وصف الأولياء بأنهم المؤمنون الأتقياء قال سبحانه ?أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ? لكن اسم الولي عندهم يصدُقُ على من كَمَّلَ الإيمان والتقوى بحسب استطاعته .
قد يكون عنده بعض الذنوب لكن هو مجتهد في الإيمان والتقوى على الكمال .
قد ينقص طبعا عن ذلك لأن الناس ليس فيهم من ليس له ذنب .
(كل مؤمن تقي ليس بنبي) أخرج الأنبياء عن اسم الولي ، فإذا قيل في اصطلاح أهل السنة الولي وكرامات الأولياء فلا يدخل فيها الأنبياء مع أن النبي في اللغة والرسول في اللغة ولي لأنه محب ناصر لله جل جلاله ، والله جل وعلا (من عادى لي وليا فقد آذنته في بالحرب) لكن من حيث الإصطلاح لا يطلق على الأنبياء .(13/240)
أما الوَلايَة - بفتح الواو - فهي المحبة والنصرة ، وهذه لكل مؤمن تقي لكن تختلف درجاتها .
فكل مؤمن تقي له نصيب من الوَلاية .
ولا يقال لمن كان عنده بعض الإيمان والتقوى إنه ولي في الاصطلاح لكن له ولاية بقدر ما فيه من الإيمان والتقوى لأن الله جل وعلا علق ذلك بوصف الإيمان والتقوى فقال جل وعلا ?أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ? قوله ?الَّذِينَ آمَنُواْ? هذا يفيد استمرار الإيمان وكماله ?وَكَانُواْ يَتَّقُونَ? كذلك .
أما الوَلايَة فهو من عنده إيمان وتقوى .
فكل مؤمن له وَلاية بحسبه ، يعني أنه يحب الله وينصر الله جل وعلا بحسب إيمانه وتقواه وكذلك الله جل وعلا يحبه وينصره بقدر إيمانه وتقواه .
فالوَلاية ، وَلاية العبد لربه ، ووَلاية الله جل وعلا لعبده متبعضة لأنها مبنية على وصفين كل منهما متبعض ، قال جل وعلا ?الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ? والإيمان عند أهل السنة يتبعض والتقوى عند أهل السنة تتبعض فنتج من ذلك أن الوَلاية تتبعض أيضا .
فليست الوَلاية شيئا واحدا عند أهل السنة إما أن يأتي وإما أن يذهب ، لكن صار اسم الولي لمن كمَّلَ الإيمان والتقوى بحسب استطاعته .
أما الكرامات فهي جمع الكرامة ، والكرامة في اللغة هي النعمة الخاصة أو الإنعام الخاص كما قال جل و ?فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ? الإكرام عُطِفَ عليه الإنعام والعطف يقتضي التغاير في الصفات أو في الذوات .
لهذا نقول الكرامة شيء خاص على الإنعام ، هي إنعام لكن إنعام خاص ، في اللغة .
أما في الاصطلاح فالكرامة هي أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي ولهذا قال شيخ الإسلام هنا
(َوما يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ)(13/241)
عبر بـ (ما يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم) لأن الكرامة تجري على يدي الولي .
وقال (مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ) لأن الكرامة خارق للعادة .
فالكرامة إذن أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي .
(خارق للعادة) عادة من ؟
ذكرنا لكم التفصيل في ذلك :
فإذا قلنا آيات الأنبياء خارقة للعادة نقول عادة كذا أو يكون مُستحضرا .
وكرامات الأولياء خارقة للعادة نقول عادة الإنس أو عادة الناس جميعا أو أهل هذا البلد جميعا ، وهذا ليدل على أنه ليس باستطاعته هو أن يأتي بذلك وإنما هي من عند الله جل وعلا .
قبل أن نأتي لتفصيل الكلام فيها على كلام شيخ الإسلام نقول الناس فيها - في الكرامات - لهم أقوال المشهور منها ثلاثة أقوال :
- الأول قول أهل السنة وهذا ما ندرسُهُ ونوضِحُهُ على كلام شيخ الإسلام إن شاء الله تعالى.
- والقول الثاني قول المعتزلة والجهمية ومن حذا حذوهم من الفقهاء كابن حزم ونحوه ، وهؤلاء ينفون كرامات الأولياء أصلا للشَُبهة التي ذكرت في أول الكلام .
- والقول الثالث قول الأشاعرة وهو أن كرامة الولي ثابتة وقد تكون مساويةً لآيات الأنبياء .
وأهل السنة يثبتون الكرامة لكن يقولون لا تساوي آيات الأنبياء ، لا تبلغها ، لأن آيات الأنبياء خارقة لعادة الجن والإنس جميعا وأما كرامات الأولياء فتخرق عادة الناس أو ناس جهة معينة .
قال رحمه الله (وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ)
قوله (فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ) هذا نوع من أنواع الكرامة ، فإن الكرامة لها نوعان :
- إما أن تكون في علمٍ .
- وإما أن تكون في قدرة .
والعلم كشفٌ ، يعلم الشيء بشيء يكون في رُوعِهِ أو يعلمه بإبصاره أو يعلمه بسمعه .
يسمع ما لا يسمع غيره ، يبصر ما لا يبصر غيره ، يعلم ما لا يعلمه غيره .
هذا في أنواع العلوم والمكاشفات .(13/242)
من جهة البصر ينكشف له ما لا ينكشف لغيره كما حصل لعمر رضي الله عنه فإنه انكشف له حال سارية وحال الجبل فقال (يا سارية) وهو في المدينة (يا سارية الجبل الجبلَ) يعني الزم الجبل لأنه انكشف له حال المسلمين وموقع المسلمين وحال الفرس وموقع الفرس فنادى ، فانكشف لعمر الوضع ، والصورة اتضحت أمامه فرأى ما لم يره الناس .
هذه كرامة من جهة الكشف البصري .
سارية سمع ، وكان سماعه من جهة الكشف السمعي أو من جهة الكرامة في السمع .
وهذا لا يكون بالعادة ، ولكن عندنا مثلا في هذا الزمان يكون بالهاتف مثلا أو لا ؟
قد يكون هناك تسليط صور بأقمار صناعية أو نحو ذلك فيرون المكان ويكون مراقب ويتصل بالهاتف ويقول انتبه تحرك كذا كما هو في الجيوش الحديثة .
ولهذا أهل السنة من القديم قيَّدُوا الكرامة بتقييد عظيم في نفسه وبيَّنَ ما ظهر في الأزمنة المختلفة أنه تقييد حق في نفسه ، وهو أنهم قيدوه بما هو خارق للعادة ، عادة الناس في زمانهم ، لا يمكن لأحد أن يتصور ذلك ، فصار كرامة .
هنا العلم والمكاشفة لها ارتباط بكلمات الله جل وعلا لأن حصول الانكشاف قد يكون متعلقا بكلمات الله الكونية وقد يكون متعلقا بكلمات الله الشرعية :
فمثلا تعلقه بكلمات الله الكونية مثل ما حصل لعمر رضي الله عنه ، ومثل ما حصل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث نظر في بطن امرأته وكانت حبلى فقال فيها أنثى ، فولدت بعد فترة فصار أنثى ، ومثل ما يحصل من هذا الجنس من جهة المكاشفة .
هذه مرتبطة بكلمات الله الكونية ، يعني أنه انكشف له شيء راجع إلى كلمات الله الكونية لأنه نظر إلى كوَّنه الله جل وعلا أو سمع ما كوَّنه الله جل وعلا .(13/243)
من جهة الكلمات الشرعية ينكشف له العلم بالشرعيات ما لا ينكشف لغيره ، ولهذا تجد أن أكثر العصاة لا ينكشف لهم العلم الشرعي ، وكلما كان العبد أتقى لربه جل وعلا وأحرص على طاعته وأكثر استغفارا من الذنب وأكثر الإنابة إلى ربه جل وعلا كلما كان انكشاف العلم له أكثر .
وبالمناسبة هناك استدلال يخطئ فيه كثيرون وهو أنهم يستدلون بقوله تعالى في سورة البقرة ?وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ? على أن التقوى مؤثرة في تحصيل العلم .
وهذا الاستدلال ليس بصحيح لأن قوله جل وعلا ?وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ? هذا عطْف ، عَطَفَ ?يُعَلِّمُكُمُ? على التقوى، فليس العلم مُرَتَبَاً في الآية على التقوى .
لهذا قال كثيرون من أهل العلم هنا لا ارتباط بين هذا وهذا لأنه لو كان العلم أثر للتقوى لكانت مجزومة (واتقوا الله يعلمْكم الله) لأنه يكون بجواب الأمر كما في قوله ?أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ? وهو معروف في النحو .
فقوله ?واتقوا الله? هذا يَحْسُنُ الوقف عليها ثم تبتدئ فتقول ?وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? يعني بما كان قبل ذلك في الآية من الكلام على كتابة الدين وأحكام الشهادة ونحو ذلك .
النوع الثاني من أنواع الكرامات ما يكون في القدرة والتأثير .
يعني يقدر على ما لا يقدر عليه غيره ، يؤثر بما لا يستطيعه غيره بالقيد الذي أسلفنا ، القيد الذي سلف .(13/244)
فمثلا في القدرة ، يقدر على ما لا يقدر عليه غيره كما حصل لأحد الصحابة رضوان الله عليهم أنه لمَّا مات فرسه وكان في خلاة من الأرض دعا الله أن يحيي له الفرس فأحيا الله له الفرس ، دعا الله أن يحيي له الفرس حتى يرجع إلى بيته وإلا سينقطع وستصيبه هلكة فأحيا الله له الفرس ، فوصل إلى داره واستقبله ابنه ، فلما استقبله ونزل من فرسه قال يا بني اذهب بالفرس بعيدا فإنه عارِيَّةْ ، قال فذهب به الولد فلما أبعد به سقط ميتا .
هذا نوع من القدرة ، قُدْرَةٌ هذه راجعة إلى كلمات الله الكونية فإن الله جل وعلا أكرمه بأن أحيا له ميتا أحيا له نفسا ميتة ، مثل ما حصل لسعد رضي الله عنه حينما مرَّ بالجيش على الماء ، دعا الله أن ييبَسَ لهم الماء فيبِسَ الماء فمر عليه الجيش بخيولهم وبأسلحتهم ومن هم عليه إلى ماءٍ يابس وكأنهم في أرض صلبة ، هذا نوع راجع إلى القدرة .
هل هو قَدِرَ أو جرت على يديه القدرة ؟
الجواب جرت على يديه كرامة له ، لهذا تنتبه لقوله (وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم) .
والغلاة جعلوا ذلك من قدرة الولي ، فغلوا في الأولياء جعلوهم يستحقون شيئا من ما لله جل وعلا.
(أَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ) التأثير أن يؤثر في غيره .
قد يؤثر في الذوات مثل ما أثر سعد في الماء ، وقد يؤثر في الأزمنة مثل ما حصل لخُبيب بأنه يأتيه عنب في غير وقته وتأتيه الفاكهة في غير وقتها ، هذا تأثير راجع إلى قدرة لكن تأثير في الزمان .
مثل ما حصل ليوشع بن نون حيث حُبِسَتْ له الشمس فنادى الشمس فقال ، أو خاطب الشمس فقال (أنتِ مأمورة وأنا مأمور اللهم فاحبسها علينا) فظلت الشمس وكانت قريبة من الغروب ظلت زمانا طويلا حتى صار ذلك فتحا .
وهذه آية ليوشع لأنه على أحد الأقوال أنه كان نبيا من الأنبياء ولأن هذه خارجة على قدرة البشر.
المقصود التأثير بنوع التمثيل ، فالتأثيرات تختلف :(13/245)
تأثير في الأزمنة وتأثير في الذوات وأحيانا يكون تأثيرا في الأمكنة وتأثير في الحواس ، مثل ما حصل أن جند الحجاج بن يوسف أو شُرَط الحجاج بن يوسف دخلوا على الحسن البصري فدعا الله جل وعلا أن لا يبصروه فمروا وهو محتذ بفناء داره رحمه الله فنظروا ونظروا فلم يجدوا أحدا في الدار وهو ينظر إليهم وهم يتحركون بين يديه ، هذه كرامة ?وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ? .
فالمقصود من هذا أن التأثير فيما مثَّلْنَا به راجع إلى التأثير في الكونيات .
هناك نوع من التأثير والقدرة راجع إلى الكلمات الشرعية ، يعني مرتبط بالدين .
الكلمات الشرعية يعني القرآن ، السنة ، الدين ، الدعوة ونحو ذلك .
فيقدر في هذه الأمور على ما لا يقدر عليه غيره ، يُكْرَمْ .
تجد من أهل العلم من عاش زمانا قصيرا لكنه صنف من المصنفات وقَدِرَ على ما لم يقدر عليه علماء زمانه بمجموعهم ، أو أثر في الناس من جهة الدعوة أو من جهة إصلاحهم ووعظهم تأثيرا بالغا فدخل إلى قلوبهم فأَثَّرَ في الشرعيات وأُكْرِمَ بأن يُؤَثِرْ .
كما ذكر عن ابن الجوزي وغيره أنه كان يتوب على يديه في المجلس الواحد أحيانا نحو عشرة آلاف وكان مجلسه في مسجده يحضره الآلاف المؤلفة ، وكما قيل إنه أسلم في يوم وفاة الإمام أحمد بن حنبل كذا وكذا من اليهود والنصارى في بغداد ونحو ذلك .
هذا تأثر في الشرعيات ، يعني أَثَّرُوا حتى جعلوا الشرعيات مقبولة واستسلم لها الناس .
ولهذا يقول أهل العلم إنَّ كرامات الأولياء مرتبطة بكلمات الله الكونية وكلمات الله الشرعية ، وتفصيل المقام في ذلك بما ذكرته لك .
قال (والْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ)
وقصة أصحاب الكهف واضحة (وَغَيْرِهَا) كما في قصة مريم ، لأن مريم ولية من أولياء الله جل وعلا لأنه ليس في النساء نبية وإنما الرسالة والنبوة في الرجال .(13/246)
(وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ فِرَقٍ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
وهذا الأمثلة عليه واضحه وكثيرة .
بقي هنا تتمات لهذا المبحث .
فأهل السنة يعتقدون أن الولي تابع للنبي ، وأنهم لا يُفَضِّلُونَ أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء ويقولون نبي واحد أفضل من جميع الأولياء كما قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته .
وأول من أحدث القول بِخَتْمْ الوِلاية وباحتمال أن يَفْضُلَ الولي على النبي فيما يُذْكَرْ عنه الحكيم الترمذي .
الحكيم الترمذي صاحب كتاب نوادر الأصول له كتاب سماه (ختم الوَلاية) وعنى بها (ختم الأولياء) ذكر فيه أصولا في هذا الباب ، وكان سببا لضلال جهلة المتصوفة والاتحادية في هذا الباب .
فقالوا إن الولاية تُخْتَمْ كما تُخْتَمْ النبوة ، وأنه يمكن أن يكون الولي أفضل من النبي .
وقد تبنى هذا والعياذ بالله ، تبناه ابن عربي الحاتمي المعروف صاحب كتاب (الفتوحات المكية وفُصُوصْ الحِكَمْ) ذكره في كتابه الفُصُوصْ ، وذكر أن خاتم الأولياء - قالوا يعني نفسه - أفضل من خاتِم الأنبياء .
ولهذا كفَّرَهُ العلماء بذلك وحكموا عليه بالزندقة بل قالوا وأي كفر أعظم من هذا حيث قال هو:
إن النبي عليه الصلاة والسلام مثَّلَ لبناء الأنبياء بأنه لم يبق فيه إلا لبنة فكان هو عليه الصلاة والسلام تلك اللبنة .
قال وخاتم الأولياء يَنْظُرُ نفسه في موضع لبنتين ، لَبِنَة في الظاهر و لَبِنَة في الباطن .
فلبنة الظاهر تتابع رسم الشريعة ، ولبنة الباطن تَسْتَقِي من المَعْدِنْ الذي يَسْتَقِي منه المَلَكْ الذي أوصل الخبر إلى النبي .
وقد ألَّفَ هو كتاباً فيه الأحاديث التي يرويها عن ربنا جل وعلا مباشرة ، وهو مطبوع سمَّاه الأربعين عن رب العالمين ، فكانت جهة التفضيل هي هذه .(13/247)
ولذلك تجد أن هؤلاء يرون أنه سقطت عنهم التكاليف لأنهم خوطبوا بما لم يخاطب به غيرهم ، لكن في الظاهر يتبعون ، لكن في الباطن هم معذورون أو لهم شريعتهم الخاصة .
وهذا لا شك أنه زندقة وهو الذي ذكره إمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام ، هو هذا المعنى ، وكان كثيرا في نجد وما حولها وفي الحجاز وفي البلاد الإسلامية الأخرى إلى يومنا هذا من أن من الناس من يعتقد أنه يَسَعُهُ الخروج عن شريعة محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما وَسِعَ الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام ، يعنون به هؤلاء الذين يقولون بختم الولاية .....1
مبتدعا مقيما على بدعته ولا صاحب كبائر ، بل الولي هو الذي يتابع الكتاب والسنة ولا يُغْتَرْ بما يجري لهم من الخوارق يعني بأهل البدع والمعاصي أنهم قد يحصل لهم خوارق فلا يُغْتَرْ بهم ، فليس برهان الولاية ، أو كون هذا وليا ، ليس برهان ذلك أنه جرى له خارق للعادة ، بل برهان ذلك أنه تابع القرآن والسنة وأمَّر السنة على نفسه ظاهرا وباطنا بقدر الإستطاعة .
ولهذا قالوا تحصل مخاريق من الشياطين والجن ليغووا الناس بهذا حتى يذهبوا عن السنة .
وهذا هو الذي حصل فإنه في الفرق المختلفة الذين ضلوا في هذا الباب أغوتهم الشياطين وجعلت لهم كرامات ، أو جعلت لهم ما يشبه الكرامات فاغتر الناس وقالوا هذه كرامات وهي في الواقع من جهة الشياطين ، وقد تأتي بصورته وقد يكون هو في أكثر من محل في نفس الوقت مثل ما يقال فلان رُئي بدمشق يوم العيد - عيد الأضحى - ورئي بمنى يرمي الجمرة ذلك اليوم ، وفلان رحمه الله خطب الجمعة في سبعة مساجد ، شهد الناس بأنه خطب هنا وخطب هنا وخطب هنا وخطب هنا ، ويقول الشعراني عن هذا الذي خطب في أكثر من موضع يقول : وكان رحمه الله يتلو آيات ليست في القرآن .(13/248)
وهذا ضلال فوق الضلال ، يتلو آيات ليست في القرآن لأنهم يعتقدون أنه يصل إلى أن يكلمه الله جل وعلا فأعطاه آيات ليست في القرآن .
وهذا لا شك أنه كفر وزندقة وخروج عن الملة ، فالكرامة لا يُؤتاها إلا المتابعين للكتاب والسنة المؤمنون الأتقياء .
هل يحصل لأهل البدع كرامات ؟
نقول ما يحصل لأهل البدع والضلال والعصيان من خوارق للعادات هي من جهة الشياطين لتغوي الناس ، بل قد يحصل لأحد الأولياء أن الشياطين تتمثل به في أكثر من مكان حتى تُضِل الناس ، مثلما قال شيخ الإسلام عن نفسه ، قال : وكانت الشياطين تتمثل بي فتأتي إلى أصحابي كما حصل مرة أنهم وقعوا في شدة وكانوا في مكان بعيد عني فرأوني أنظر إليهم فاستغاثوا بي ، فأغاثهم ، يعني زال ما بهم من الشدة ، قال : فلما رجعوا أخبروني وشكروني على ذلك فقلت لهم لم أبرح دمشق وإنما كان الذي رأيتم شيطانا تمثَّل في صورتي ، فإِيَاكُم .
يحصل هذا كثيرا ، ولهذا نقول الشيطان إذا كان يتمثل في صورة العبد الصالح فقد يتمثل في صورة المبتدع ليضل الناس أكثر فلهذا يقول أهل العلم الخوارق ثلاثة أنواع :
- النوع الأول : ما يحصل للأنبياء وهذه آيات وبراهين .
- والنوع الثاني : ما يحصل للأولياء وهذه كرامات .
- والنوع الثالث : ما يحصل لأهل العصيان والمبتدعة وأهل الضلال أو السحرة أو الممخرقين وهذه خوارق شيطانية .
لأن كل واحدة لها اسم يجمعها اسم الخارق للعادة ، لكن ما يحصل على يدي المبتدعة وأهل العصيان يسمى خارقا شيطانيا .
وأوضح ذلك شيخ الإسلام بتفصيل في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .
المبتدعة قد تحصل لهم كرامات في حال واحدة ، وهي حال جهاد من ليس من أهل الإسلام ، إذا جاهدوا النصارى أو جاهدوا أهل الإلحاد والزندقة أو جاهدوا المشركين فقد يعطي الله جل وعلا الجيش الذي قاتل أولئك الملحدين أو اليهود أو النصارى ، يعطيهم بعض الكرامات ولو كانوا مبتدعة .(13/249)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وذلك لما معهم من أصل الدين الذي هو دين الحق وهو الإسلام ليظهر على ما مع أولئك من الشرك والدين الذي هو باطل أو أبطله الله جل وعلا .
ومثَّلْتُ على ذلك بما حصل وما جرى فيه النقاش كثيرا في وقت من الأوقات بالكرامات التي نُقِلَتْ عن الأفغان وما حصل لهم في ذلك ، ومنهم من ينفي ومنهم من يُثْبِتْ [5] ومنهم من يقول - يعني من إخواننا - من يقول إنهم مبتدعة والمبتدعة لا يُعْطَون كرامات ، بعضهم مشركين ، يعني عندهم شرك أصغر ، وبعضهم يكون عنده أعظم من ذلك ، فنقول :
القاعدة في ذلك أن المبتدع ، ومن عنده شرك أصغر ، ونحو ذلك قد يعطى كرامة كما حصل ، فلا نثبت أنها كرامة مطلقا ، ولا نقول ليست بكرامة بل نقول قد تكون كرامة وذلك كما عليه التأصيل عندنا أن ذلك لتأييد ما معهم من أصل الدين والإسلام ليظهر على ما عليه أهل الإلحاد وتقوم حجة الله جل وعلا أو تظهر حجة من حجج الله على الناس .
كذلك في المناظرات ، في المجاهدة بالقرآن فإن الله جل وعلا يؤيد ربما المعتزلي بكرامة ، يؤيد الأشعري بكرامة ، يؤيد المبتدع بكرامة إذا كان يُحاجْ أهل الإلحاد أو النصارى أو الفرق التناسخية أو أهل الملل الباطلة ليظهر أن ما معه من أصل الدين خير .
ولهذا ذكر الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله أن كثيراً من المبتدعة دعوا إلى الدين وأَدْخَلُوا في الدين طوائف من المشركين ، ومن عبدة الأوثان ومن أهل الديانات كاليهودية والنصرانية ، وأهل الملل الباطلة كمِلِلْ أهل الهند والفرس ونحو ذلك ، فكان ما حصل لهم من الإسلام الذي فيه بدع وخرافات وفيه ضلال عن السنة خير لهم من بقائهم على مِلَلْ الكفر والضلال .
وهذا لا شك أنه صواب كما قال رحمه الله تعالى لأن هذا يكون مسلما مبتدعا ، يكون مسلما ضالا ، لكن لو ترك وحاله الأولى لكان مشركا كافرا زنديقا ، لو مات على تلك الحال كان من أهل النار إن قامت عليه الحجة .(13/250)
من المباحث أيضا المتعلقة بهذا الباب مبحث الفراسة ، والفراسة ثلاثة أنواع :
- فراسة إيمانية .
- وفراسة طبيعية .
- وفراسة رياضية .
o يُعْنَى بالطبيعية ما يحصل من دِلالة تقاسيم الوجه على خُلُقِ صاحبه ، أو ما يُسْتَدَلُ به في سِعَةِ أو عِظَمِ صدره خِلْقَةً على أنه واسع البال ، لا يضيق سريعا ، على أنه حليم ، ومثل ما يُسْتَدَلُ بكبر الرأس على كبر العقل أو المخ ، ومثل ما يُسْتَدَلُ بصغر الرأس على البلادة ، أو حدة العينين على قوة في الذكاء ، و برود العينين على فتور الذهن .
هذه أشياء طبيعية خَلْقِيَّة تكلم فيها الناس ، وصُنِّفَ فيها مصنفات ، والشافعي رحمه الله تعالى دَرَسْ من هذا شيئا ، وكان رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة وعفا عنه ورفع درجته في العليين كان لما درس هذا في الصغر كان يؤثر عليه وغلب عليه كما ذكروا في ترجمته حتى أتى له الربيع تلميذه مرة أتى له فقال له اذهب فاشتر لنا باقلاء وخضراً - يعني مأكولات أشياء للبيت - فذهب فاشتراها .
قال ما صفة البائع ؟
فقال الربيع كان أعرج أعور . - أعرج يتكسب وأعور هذا خلقة الله جل وعلا - .
قال اصرفه عني ، تصدق به .
غَلَبَ عليه هذا .
كان مما يقول الشافعي رحمه الله : ذهبت إلى اليمن لطلب كتب الفراسة - وَوَلِيَ إِمْرَةً لأحد البلاد في اليمن فترة من الزمن -
ويقول : لما طلبت هذه الكتب فكان من الصفات في الكتب أن الرجل إذا كان من العرب وكان أشقر الشعر أزرق العينين فهي أخبث صفة .
قال : فبينا أنا سائر في تهامة وآواني الليل إلى مكان ، يقول : فإذا بنار فأتيتها فإذا برجل فلما رأيت صورته كرهته فكان أزرق العينين وكان شعره أشقر .
وقلت : هذه أخبث صفة في كتب الفراسة ، فقال : فرحب بي أعظم ترحيب ،وأنزلني
وقال : انزل عندنا وعشاءك عندنا وما تريد ؟(13/251)
يقول : وأخذ دابتي بنفسه بيده فقال هيا اذهب ، ووضع لي مكانا وأتى لي بالعشاء وأخذ الدابة وأعلفها وسهر علي وعلى دابتي ذلك الليل كله .
فقلت : يا خسارة ما أنفقت على هذه الكتب طيلة مسيري ومكثي في اليمن .
قال : فلما أتى الصباح قلت له لقد أسديت لنا يا فلان معروفا وإذا أتيت مكة فسل عن محمد بن إدريس حتى نكافئك .
فقال ذلك الرجل : ما رأيت رجلا مثلك قط ، أُكْرِمُ دابتك وأكرمك وأسهر عليك الليل وتقول إذا أتيتُ مكة اطلب فلانا ؟ انقد لي خمسة دنانير
يقول : وليس معي إلا خمسة دنانير وكان هو في فعله لا يستحق إلا دينارا واحدا .
قال : فتمسكت بكتب الفراسة .
وأثرت هذه على الشافعي رحمه الله في أخبار من ذلك .
المقصود أن هذه تسمى فراسة خَلقية طبيعية ، يعني من الشكل يستدل بشيء ، وفي كتاب للرازي في هذا وكتب يستدلون بالخلق على الخُلق .
" النوع الثاني فراسة رياضية وهذه هي التي يتعلمها القضاة وكذا .
من نظرته لحركة الرجل ولكلامه ولهيئته يعلم تصرفه يعلم هل هو مُحق أم مُبطل ونحو ذلك .
" وهناك فراسة أخرى ثالثة وهي فراسة إيمانية ، هذه الفراسة الإيمانية هي التي جاء فيها الحديث الذي في الترمذي وغيره عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) هذه فراسة إيمانة ليست من جهة الفراسة الرياضية التي تُتَعلم بالرياضة بالتعود وبالخبرة ، وليست خلقية طبيعية ولكن هكذا يُقْذَفْ في رُوعه في نفسه أن هذا كذا وكذا ، وهذه من جنس الكرامات بل هي كرامة ، ولهذا أهل العلم يبحثون الفراسة إذا بحثوا الكرامة ، فمبحث الفراسة في كتب العقيدة بعد كرمات الأولياء لأن من أنواع الفراسة الفراسة الإيمانة وهي جزء أو نوع من أنواع الكرامة .
هذا بعض ما يتصل بهذا الموضوع والبحث لا شك أنه متشعب وألفت فيه كتب كثيرة ولكن هذه أصول المسائل في هذا الباب .
يقول : ما معنى آيات الله الكونية وآيات الله الشرعية ؟(13/252)
آيات الله الكونية المراد بها ما جعله الله جل وعلا آية دالة عليه في الكون المنظور مثل الشمس والقمر والليل والنهار ?وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ? هذه آيات كونية ، آية لأنها تدل دلالة ظاهرة وواضحة على الله جل وعلا فإن من تأمل في الليل والنهار كفاه برهانا على وجود الحق جل وعلا وتقدس وتعاظم ربنا ، الشمس والقمر وتسخير الشمس والقمر لأهل الأرض تجد أن ذلك من الآيات الدالة عليه .
أما آيات الله الشرعية فهي القرآن وكتب الله المنزلة ، هذه آيات الله الشرعية وهي الكلمات الشرعية .
قال ما الفرق بين الكرامة والمعجزة ؟
الكرامة ذكرناها ، المعجرة لفظ حادث ، المعجرة لفظ لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلمات الصحابة ولا في التابعين ولا تبع التابعين ، وأول من استعمل لفظ المعجزة في آيات الأنبياء المعتزلة ، لم ؟
لأنهم بنوا آيات الأنبياء على العَجْزْ على عَجْزْ الناس عنها ولهذا أنكروا الكرامات ، ولفظ المعجزة ما جاء كما ذكرنا ولهذا ضَلَّ فيه من أحدثه لكن معناه بما تعورف عليه أنه هو معنى الآية والبرهان ، فإذا قيل معجزات الأنبياء يعني آيات الأنبياء براهين الأنبياء الدالة على صدقهم والبينات التي أيدهم الله جل وعلا بها ، لكن لفظ المعجزة مُحدث وينبغي أن يقيّد ويفهم أنه محدث وأن تقييده بما لا يضع التباسا في فهم آيات الأنبياء ودلائل الأنبياء .
ولمن تقع كل واحدة منهما ؟
الكرامة للولي وأما المعجزة وهي الآية والبرهان فهي للنبي .
وجاء في التاريخ أن صلة حصل له أشياء ..... حتى وصل .
هذه هي القصة التي ذكرتها .
هذا سؤال جيد يقول أَشْكَلَ علي إضافة العادة بالنسبة للنبي والولي إذ ما الفرق مثلا بين إحراق إبراهيم عليه السلام وبين إحراق أبي إدريس الخولاني ؟(13/253)
هذا الاستشكال أورده شيخ الإسلام في كتاب النبوات وقال الجنس مختلف ، النار التي أُجِّجَتْ لإبراهيم ليست هي النار التي أُجِّجَتْ لأبي إدريس الخولاني فمن حيث إن هذه نار وتلك نار نعم ، ولكن لا تساوي هذه تلك ولهذا قال أهل السنة إن كرامة الولي لا تساوي آية النبي ، والأشاعرة قالوا إن كرامة الولي تساوي آية النبي ولكن الفرق بينهما أن الولي لا يدعي النبوة والنبي يقول هو مرسل من عند الله جل وعلا .
قال من ذكر هذا الضابط في العادة بين الولي والنبي والساحر من أهل العلم وأين نجدها بالتفصيل ؟
المسألة مبحوثة في كتب كثيرة ولعل من أدق من تكلم عن هذا البحث شيخ الإسلام في كتاب النبوات فهو مُؤَصَل في بيان هذه المسألة .
يقول ذكرتم أن ظهور الكرامات لأهل البدع والمحدثات عند قتال أهل الكفر والشرك ، وضربتم مثالا بما ظهر من كرامات في الجهاد الأفغاني إن صح أنها كرامات ، ولا يفوتكم أن الجهاد الأفغاني شارك فيه سلفيون من شتى أنحاء العالم الإسلامي وكان لهم أمارة بكنر ، أفلا يصح أن تكون هذه الكرامات التي ظهرت ظهرت لأهل السنة منهم بعيدا عن القبوريين والخرافيين ؟
لا ، السلفيون ظهرت لهم كرامات والمبتدعة أيضا يقولون إنها ظهرت لهم أيضا كرامات ، لا نكذب بظهور الكرامات ولا نصدق ولكن نقول من ظهرت منهم هذا هو التأصيل حتى لا يَعْتَقِدْ أنهم ما دان أنه ظهرت له كرامة فإن معنى ذلك أنه على الحق ، نقول ظهور الكرامة وأنت مقيم على الشركيات الشرك الأصغر أو على البدع هذه تأييد لما معك من أصل الدين ، لأنك إذا كلمته في أصل الكرامة هو شهد شيئا خارقا للعادة ، وتأصيل أهل العلم على أنه لا يمنع من أن يكون مع أهل البدع كرامات لكن في حال مجاهدة الكفار والمشركين إما بالسنان أو باللسان كما ذكرت ذلك .(13/254)
قوله ?فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ? يستعملها بعض العامة عند إرادته إخفاء نفسه عن الناس كما فعله بعضهم فهل ورد في ذلك شيء ؟ ثم أين نجد أسانيد القصص المذكورة في الكرمات ؟
أسانيد القصص هذه موجودة في عدد من الكتب منها كتاب الزهد للإمام أحمد ومنها كتاب كرامات الأولياء للالكائي وكتب التاريخ أيضا ومناقب الصحابة فيها من ذلك شيءٌ كثير .
ما هو الفرق بين خوارق العادات وخوارم المروءة ؟
خوارم المروءة الأشياء التي تقدح في العدالة وهي الخروج عن ما أوجبه الشرع وما هو معروف عند أهل العلم والتقوى والصلاح ، أما خوارق العادات فهذه راجعة إلى أنه شيء ما يستطيع أحد يعني من الحاضرين أن يفعله إلا بقيود .
سؤال غير وجيه في مسألة النار وأن النار التي دخل فيها أبو إدريس الخولاني من الشياطين ، هذا فيه نظر .
هل هناك فرق بين ابن عربي وابن العربي أم أنهما شخص واحد ؟
ابن العربي هذا فقيه مالكي معروف صاحب كتاب أحكام القرآن وصاحب كتاب عارضة الأحوذي ، صاحب شرح الموطأ ، عالم من علماء المالكية معروف لكنه كان قليل العناية بالسنة كما سمعت ذلك من سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله ، ولكنه كان فقيها مالكيا وعالما وعنده ما عند غيره من أهل العلم ، أما ابن عربي بحذف الألف واللام فأصله هو ابن العربي أيضا مثل الأول لأنه هو أندلسي كما أن الأول أندلسي والعربي اسم هناك في تلك الجهات يكثر التسمية به ، لكن لمَّا كان على تلك الزندقة والضلال فرق العلماء بينه وبين الأول بأن حذفوا منها الألف واللام لأن الألف واللام تشريف وتعريف فحذفت من ابن عربي لأنه لا يستحقها فقيل ابن عربي بالتنكير .
هل من كان من أهل الكبائر من المسلمين ثم تاب وأحسن هل يكون من أهل الكرامات ؟(13/255)
نعم يكون من أهل الكرامات ، صاحب الكبيرة أو الكبائر إذا تاب منها فالتوبة تجب ما قبلها بل قد يكون في حقه أن الله جل وعلا يبدل سيئاته حسنات ، هذا من اعظم فضل الله جل وعلا كما جاء ذلك في آخر سورة الفرقان ?فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ? فصاحب الكبائر إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحا وأخلص لله جل وعلا فإنه قد تبدل سيئاته حسنات وهذا ليس للجميع ولكن لبعض التائبن ، لمن تاب توبة خاصة ، فيأتي العبد ويكون ليس له من الزمن في الإسلام إلا أو في السنة أو في الصَّلاح إلا فترة وجيزة ويكون أفضل ممن كان قبل ذلك لم ؟ لأنه وقع في قلبه من تعظيم الله جل وعلا وتوقيره واحتقار نفسه وعظم ذنبه الذي يتراءى بين عينيه ما يجعله أفضل من غيره فيبدل الله سيئاته حسنات وهذا من فضل الله جل وعلا على بعض عباده ، وفي هذا القدر كفاية وأسأل الله جل وعلا لي ولكم العفو والعافية ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
صفات أهل السنة والجماعة
ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ،حَيثُ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ".(13/256)
وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ.
وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ.
وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ.
وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ.
وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب المُخبت المنيب وأسأله جل وعلا أن يستعملنا فيما يحب ويرضى وأن يجنبنا طريق أهل الرَّدَى وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى .(13/257)
هذا الفصل فصل عام في بيان طريقة أهل السنة والجماعة ومنهاج أهل السنة والجماعة ، لأن أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الأثر وأهل الحديث وأتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم هؤلاء تميزوا عن غيرهم في الاعتقاد وتميزوا عن غيرهم في العمل وصاروا شامةً بين الناس فلهذا كانت طريقتهم في العمل وطريقتهم في تلقي النصوص وطريقتهم في التعامل مع آثار السلف الصالح مباينةً لطريقة المخالفين .
فذكر شيخ الإسلام رحمه الله وأجزل له المثوبة هذا الفصل ليبين لنا طريقة أهل السنة والجماعة ومنهجهم في العمل وفي مصدر التلقي الذي اعتمدوه ، فقال رحمه الله تعالى :
(ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا)
قوله (ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) يعني بالطريقة هنا المنهج ، والنهج والمنهاج والسبيل لأن الطريقة تعم ذلك .
فالطريقة فهي الطريق المطروق فهو النهج والمنهج كما قال جل وعلا ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا? والمنهاج هو السبيل وهو الطريق ، فجعل الله جل وعلا لأصحاب نبيه عليه الصلاة والسلام ومن تبعهم طريقا مايزوا به غيرهم .
وأهل السنة والجماعة مر معنا في أول شرح هذه العقيدة المباركة معنى أهل السنة ومعنى الجماعة .
فمنهجهم (اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا) واتباع الآثار أَفْهَمَ أنهم حين يتبعون اتبعوا عن علم وبصيرة لأن لفظ الاتباع يدل على متابعة عن علم وبصيرة ، فيختلف المتَّبِعُ عن المقلد .
فإن أهل السنة والجماعة طريقتهم هي الاتباع وليست طريقتهم هي التقليد .(13/258)
وفي أصول الدين منه ما لا يجوز التقليد فيه وهو القدر الواجب - يعني من العقيدة - ما لا يجوز التقليد فيه بل يجب أن يعتقد الحق فيه مع دليله ، ومنه ما يسوغ أن يتبع فيه قول عالم معتمد موثوق في دينه وسنته .
فإذن قوله (اتِّبَاعُ) نفهم منها أنهم علموا بذلك ، وإذا كانوا علموا فلا بد من وسيلة للعلم وهي كثرة ورودهم على سُنَن المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وكثرة قراءتهم في كتب الحديث وكتب السنة لأنه بذلك تعلم آثار المصطفى عليه الصلاة والسلام .
وال (آثَار) جمع الأثر وهو ما يُنْقَلُ من الخبر في الأقوال أو في الأعمال أو في الأحوال .
وعند أهل الاصطلاح الأثر يعم الحديث عن المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ والأقوال أو الأعمال للصحابة والأقوال أو الأعمال للتابعين فهذه هي الآثار ، ولهذا قيدها هنا بقوله (اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا) فاتباع الآثار هذه سمة أهل السنة والجماعة ، يعني أنهم يحرصون على الاتباع ولا يُحَكِّمُون عقولهم ولا أهواءهم .
(رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) التعبير بالرسول أو النبي جائز ، قد يستعمل لفظ النبي وقد يستعمل لفظ الرسول لكن في بعض المواضع يحسن استعمال لفظ الرسول ومنه هذا الموضع .
فقوله (اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) فيه التنبيه على أن هذه الآثار قد أُرْسِلَ بها من الله جل وعلا ، وهذا هو الذي يعتقده أهل السنة بأن السنة وحي من الله جل وعلا وليست اجتهادا منه عليه الصلاة والسلام بل هي وحي أوحاه الله جل وعلا إليه أن اعمل كذا واترك كذا وقد يكون هناك أشياء فيها اجتهاد لكن يكون مُقَرَّاً عليها وإلا لم تكن أثرا من آثاره عليه الصلاة والسلام .(13/259)
وهناك قسم ثالث وهو ما كان من الأمور الجِبِلِيَّة الطبيعية التي يعملها بمقتضى عادته عليه الصلاة والسلام من مثل طريقته في مشيته ومن مثل طريقته في نومته ونحو ذلك مما هو هيئة لم يأمر به ولم يحض عليه عليه الصلاة والسلام ، فهذا النوع يُتَّبَع أيضا ويكون الاتباع على جهة الاقتداء ليس لأنه سنة في نفسه ولكن يُؤْجر من فعل لأنه نوى الاقتداء .
فتلخص من ذلك أن هذا النوع الثالث وهو الأمور الجِبِلِيَّة الطبيعية مما فعل أو مما ترك عليه الصلاة والسلام فإن الاتباع فيها يكون بنية الاقتداء ، فإذا نوى الاقتداء أُجِرَ على هذه النية وإلا فإن الأمور الجبلية ليس مأجورا على أن يفعل مثلها إلا بنية الاقتداء فيؤجر على نية الاقتداء .
ولهذا قال العلماء في كتب الأصول إن هذه الأمور الجِبِلِيَّة يؤجر فيها بنية الاقتداء فيفعل - معنى نية الاقتداء - أن يفعل ما فعل عليه الصلاة والسلام لأجل أنه فعل وأن يترك ما ترك عليه الصلاة والسلام لأجل أنه ترك .
فمن اقتدى بالنبي عليه الصلاة والسلام في مشيته لأجل أنه مشى هكذا فإنه يؤجر على نيته وإلا فإن الأمور الجِبِلِيَّة نفسها ليست محل اتباع في نفسها ، وإنما الذي يُتَّبَع ما كان من قبيل السنة من قبيل التشريع .
وكل اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام فيه أجر في جميع الأحوال لكن منه ما يكون الأجر في اتباع العمل من حيث هو ، لأن العمل عبادة إما أن يكون واجبا أو سنة ، الترك إما أن يكون محرما أو مكروها ، ومنه ما يكون الأجر في أن يفعل على جهة الاقتداء وأن يترك على جهة الاقتداء .
قوله رحمه الله (بَاطِنًا وَظَاهِرًا) يعني به الإخلاص والمتابعة .
والاتباع لا بد فيه من الإخلاص وهو اتباع الآثار في الباطن ، ولا بد فيه من المتابعة للسنة وهو اتباع الآثار في الظاهر .(13/260)
فاتباع الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الباطن يقتضي أن تخلص لله جل وعلا وأن تخبت له وتنيب وأن تصحح عملك من الشوائب وأن تكون في أعمالك لله وحده دونما سواه ، وهذه حال المصطفى عليه الصلاة والسلام إذ هو أكمل خلق الله جل وعلا توحيدا وإخلاصا لربه جل وعلا .
فإصلاح الباطن واتباع الآثار في الباطن هذا من طريقة أهل السنة ، ولهذا أعظم وصية يوصي بها أهل السنة من حولهم ومن معهم ومن وراءهم الوصية بإخلاص الدين لله جل وعلا .
هذه هي اتباع الآثار في الباطن .
واتباع الآثار في الظاهر بأن يعمل على نحو ما عمل عليه الصلاة والسلام فيكون في هيئته وعبادته وسلوكه وأخلاقه وفي ملابسه وفي أكله وفي نومته وفي أحواله على طريقة المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فأكملهم اتباعا من كان على اجتهاد في متابعة النبي عليه الصلاة والسلام فمن كان أكثر اتباعا كان أكمل .
قال (وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ)
هذه تميز بها أهل السنة والجماعة عن غيرهم ، لأن اتباع الكتاب والسنة هذه يدعيها الأكثرون ، كلُ يقول الكتاب والسنة ، لكن أي تلك الدعاوي صوابا ؟
هي قول من اتبع سبيل السابقين الأولين ، وهذا على نحو الكلمة التي هي مشهورة بأن يكون ذلك على منهاج السلف الصالح ، نفهم الكتاب والسنة على طريقة الصحابة رضوان الله عليهم ، على طريقة السلف الصالح .
وهذا القيد مهم لأنه يميز أهل السنة عن غيرهم أما الأخذ بالكتاب والسنة أو طريقتنا طريقة الكتاب والسنة ونحو ذلك فإنها يشترك فيها الأكثرون ، لكن نفهم الكتاب بفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، نفهم السنة على طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، ولهذا لا بد من اتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .(13/261)
وتقييده بالسابقين الأولين لأنهم كانوا قبل حدوث الفتن ولم يحصل من أحد منهم افتتان رضي الله عنهم وأرضاهم ، لأن الله جل وعلا أحل عليهم رضوانه كما قال جل وعلا ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ? وقال جل وعلا ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ? .
وقوله (السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ) من هم السابقون الأولون ؟
فيها خلاف بين أهل العلم :
- ومنهم من قال إن السابقين الأولين هم الذين صلَّوا إلى القبلتين .
- ومنهم من قال السابقون الأولون هم من أسلم قبل الحديبية .
- ومنهم من قال من أسلم قبل فتح مكة .
- ومنهم من قال هم أهل بدر من المهاجرين والأنصار .
والصواب في ذلك أن السابقين الأولين هم الذين أسلموا قبل صلح الحديبية وأما بعد ذلك فكثر الذين دخلوا في الإسلام وذلك لقول الله جل وعلا ?لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى? ، وأما الأقوال الأخرى فكلها فيه ما فيه .
قد رد شيخ الإسلام رحمه الله على تلك الأقوال في كتابه منهاج السنة وأظن قد عَرَضْنَا لبعضها في ما سبق في الكلام عن الصحابة .
(مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ) المهاجرون اسم لمن هاجر من مكة إلى المدينة ، والأنصار هم الذين ناصروا المهاجرين .
والأنصار إما من الأوس وإما من الخزرج .
وهذان الاسمان (المهاجرون والأنصار) اسمان شرعيان .(13/262)
الله جل وعلا هو الذي سمى هؤلاء المهاجرين وسمى من نصرهم الأنصار ، مثل ما ذكرنا في الآية في قول الله جل وعلا ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ? فهذا يدل على أن الأسماء التي في التعريف تجوز ، شرط أن لا يُتَعَصَّبَ لها من دون اسم الإسلام ومن الإيمان .
فإحداث الأسماء في الإسلام غير اسم الإسلام المسلم والمؤمن جائز بشرط أن لا يُتَعَصَّبَ له ، لأنه إذا يُتَعَصِّبَ للأسماء كانت جاهلية ....
انتهى الشريط السادس و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السابع والعشرون
وإحداث الأسماء في الإسلام غير اسم الإسلام المسلم والمؤمن جائز بشرط ألا يُتَعَصَّبَ له ، لأنه إذا تُعُصِب للأسماء كانت جاهلية .
يدل على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نادى مهاجريٌ في خصومة بينه وبين الأنصار فقال)يا للمهاجرين(يندبهم لنصرته وقال الأنصاري)يا للأنصار(يندبهم لنصرته فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) استدل به أهل العلم على أن الأسماء التي للتعريف إذا تُعُصِب لها كانت جاهلية .
وهذا من جنس الأسماء المحدثة في الإسلام مثل حنبلي حنابلة شافعية ومالكية الحنفية والظاهرية ومن مثل المدارس السلوكية ونحو ذلك ، فهذه الأسماء إذا كانت للتعريف فلا بأس بها ، أما إذا تُعُصِب لها أو أُعتُقِد أن من هذا اسمه فهو على الحق و غيره على الباطل فإن هذا ليس من طريقة أهل السنة بل رَدُّوا ذلك ، حاشى التسمية بما كان عليه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من اسم أهل السنة والجماعة ، أتباع السلف الصالح ، أهل الأثر ، أهل الحديث ونحو ذلك فإن هذه الأسماء نصرتُها والتعصب لها بمعنى التعصب لما اشتملت عليه من العقيدة الصحيحة هذا تعصبٌ لأصل الإسلام وليس تعصباً لمُحدث فإذا تعصب لعقيدة أولئك فقد تعصب للحق .(13/263)
أما إذا تعصب لاسمٍ دون ما تميز به ذلك الاسم فإن ذلك باطل ولا يجوز .
مثل ما يحصل في هذا الزمن في بعض البلاد الإسلامية من أنهم يتعصبون للأسماء هذه وقد لا يكونون من أهل الاعتقاد الصحيح على وجه الكمال ، مثل ما يتعصب في بعض البلاد أهل الحديث ضد السلفيين واسم أهل الحديث في الأصل بمعنى أهل السنة والجماعة واسم أتباع السلف الصالح بمعنى أهل السنة والجماعة فهما بمعنى واحد .
لكن في هذا الزمن حصل هناك التعصب لأسماء دون ما احتوت عليه الأسماء لأنها صارت لها ... أحوال أحزاب أو متنافس ونحو ذلك .
فالواجب أن تكون مثل هذه الأسماء للتعريف ، وأما الاجتماع فهو على العقيدة الصحيحة التي كان عليها أهل السنة والجماعة فهي التي يُتَعَصَبُ لها وهي التي تنصر ويُدافَع عنها ويُدافَع عن أسماء أصحابها و أهلها .
وإذا كان الدفاع أو التعصب لاسمٍ دون الحقيقة فإن هذا نوع من أنواع الجاهلية .
فهذه الأسماء المحدثة تكلم عنها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم و أيضاً غيره فالواجب أن يُعرَفَ شروط جواز التسمي بهذه الأسماء .
وإذا كان الاسمان الشرعيان الأولان المهاجرون والأنصار قد صارا نوعاً من الجاهلية لمَا تُعُصِبَ له مع أن الله هو الذي سماهم بذلك دل على أن التسمية بغير ذلك إذا تعصب له من باب أولى أن يكون نوعاً من أنواع الجاهلية .
قال هنا (وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، حَيثُ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي)
هذا الأمر منه عليه الصلاة والسلام (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي) يدل على تعظيم سنة الخلفاء الراشدين وأهل العلم في فهم هذا على قولين :
" الأول أن سُنَة الخلفاء الراشدين ما أجمعوا عليه ، ما اجتمع عليه الأربعة .(13/264)
وهذا قول كثيرين من أهل العلم .
" والثاني أن سُنَة الخلفاء الراشدين هو ما سنه واحد منهم وقَبِلَهُ الصحابة في زمنه ، تكون سُنَة له أمضاها ، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر باتباع سٌنَتِه وسُنَة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده .
وهذا القول الثاني هو الصواب لأن القول الأول وهو أن لا تُتَبَع إلا السُنَة التي اجتمعوا عليها يُفْضِي القول به إلى تعطيل هذا الأمر في زمن أبي بكر وفي زمن عمر وفي زمن عثمان حتى تنقضي الخلافة الراشدة ، وهذا لا شك أنه باطل لأن هذا الأمر واجبُ الامتثال منذ تولي أبي بكر الخلافة ، ففي عهد أبي بكر يجب اتباع سنة الخلفاء الراشدين وأبو بكر أولهم فتُتَبَع سنته .
و هذا الذي كان يفهمه الصحابة فيطيعون الخليفة فيما سنَّه لأن وصية النبي عليه الصلاة والسلام بذلك .
فلهذا أخذ أهل السنة بكثير من سُنَن الخلفاء و أقرُّوها وإن كانت لم تكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وخاصةً ما كان في زمن عمر وفي زمن عثمان رضي الله عنهما ، فإنه في زمن عمر عمل أشياء منها صلاة التراويح ومنها إحداث الدواوين ونحو ذلك وإن كانت هذه من قبيل المصالح المرسلة لكن هي داخلةٌ في سنة الخلفاء الراشدين ، كذلك ما كان في زمن عثمان رضي الله عنه من إحداث الأذان الأول في الجمعة و تزيين المساجد وجمع المصاحف على حرف واحد وإلغاء بقية الأحرف فهذه كلها سنن يلزمُ اتباعها و لا يجوز تعطيلها لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده عليه الصلاة والسلام .
قال في هذا الحديث (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)
إياكم يعني أحذركم محدثات الأمور ، والمحدثات في هذا المراد بها البدع ، لأن المحدثات قسمان :
" محدثات ليست من الدين يعني من أمر الدنيا هذه لا بأس بإحداثها كما أحدث عمر الدواوين وترتيب الأرزاق و نحو ذلك .(13/265)
" ومنها محدثات في الدين هذه هي التي تكون من البدع ، الشافعي رحمه الله أُثِرَ عنه أنه قال المحدثات قسمان .
قال (فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ) ، وهذا العموم ظاهر ، فإن لفظ كل يدل على الظهور في العموم ، وهذا يرد على تقسيم من قَسَم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة فإن قوله عليه الصلاة والسلام كل بدعة ضلالة يدل على أنه ليس شيءٌ من البدع في الدين حسنة بل كلُ بدعةٍ ضلالة كما قال عليه الصلاة والسلام .
و البدعة في اللغة ما أُحدِثَ على غير مثالٍ سابق ومنه قول الله جل وعلا ?بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? يعني من أحدث السموات والأرض دون مثال سابق . ومنه قوله جل وعلا ?قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ? يعني لست بدعاً من الرسل جئت على غير رسل من قبلي بل سبقني رسل ولست برسولٍ مُبتدعٍ القول بالرسالة .
فهذا هو معنى البدعةِ في اللغة ومنه قول عمر رضي الله عنه لمَّا رآهم يصلون التراويح وقد اجتمعوا على إمام واحد و اكتظَ المسجد بذلك قال نعمة البدعة هذه ، يعني هذه البدعة اللغوية لأن هذا عُمِل على غير مثالٍ سابقٍ في عهده رضي الله عنه وليست بدعة في الشرع لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بهم لياليَ من رمضان واجتمع الناس معه كما روى ذلك أصحاب السنن .
و أما البدعة في الاصطلاح فإنها تُعَرَّفُ بتعاريف :
" منها ما كان على خلاف الدليل الشرعي
" وعُرّفَت بطريقة في الدين مخترعة تُضَاهى بها الطريقة الشرعية يُقصَدُ بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى ، كما هو تعريف الشاطبي في الاعتصام .
" ومن أهل العلم من عرف البدعة بقوله البدعة ما أُحْدِثَ على خلاف الحق المُتَلَقى عن رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في اعتقادٍ أو علمٍ او حالْ وجُعِلَ ذلك صراطاً مستقيماً وطريقاً قويماً .
هذه تعاريف مختلفة للبدعة وتعريف الشاطبي مشهور والتعريف الثالث أيضاً جيد .(13/266)
ويظهر لنا من تعريف الشاطبي للبدعة أن البدعة طريقة في الدين مخترعة :
فمعنى (الطريقة) أنها صارت مُلتَزَماً بها .
ومعنى كونها (مخترعة) أنها لم تكن في عهده عليه الصلاة والسلام ولا في عهد الخلفاء الراشدين.
و هذا القول يعطينا فرقاً مهماً بين البدعة ومخالفة السنة :
وهي أن البدعة مُلتَزَم بها ، وأما ما فُعِل على غير السنة ولم يُلْتَزَمْ به فإنه يقال خلاف السنة ، فإذا التزم به صار بدعة .
وهذا الفرق نبه العلماء على أنه فرق دقيق مهم بين البدعة ومخالفة السنة .
فالضابط بين العمل المبتدع وبين العمل المخالف للسنة أن يكون العمل هل هو الملتزم به أم غير ملتزم به ؟
فإذا عمل على خلاف السنة يتعبد بذلك مرة أو مرتين ما التزم به من جهة العدد أو من جهة الهيئة أو من جهة الزمن أو من جهة المكان فإنه يُقال خلاف السنة .
أما إذا عمل عملاً يريد به التقرب إلى الله جل وعلا والتزم به عدداً مخالفاً للسنة أو التزم به هيئةً مخالفةً للسنة أو التزم به زماناً مخالفاً للسنة أو التزم به مكاناً مخالفاً للسنة صار بدعةً .
هذه أربعة أشياء في العدد والهيئة والزمان والمكان .
فمن أخطأ السنة و تعبد ولم يلتزم يقال هذا خالف السنة ، و أما إذا التزم بطريقته وواظب عليها فإنه يقال هذا صاحب بدعة وهذا العمل بدعة .
مثال ما ذكرت مَن رَفَعَ يديه بعد الصلاة المكتوبة ليدعُوَ ، سلَمَ ثم رَفَعَ يديه بعد الصلاة المفروضة ليدعُوَ :(13/267)
نقولُ هذا الفعل منه خلاف السنة لأن السنة أنه بعد السلام يَشرَع في الأذكار وأما رفع اليدين بالدعاء بعد السلام فليس مشروعاً وليس من السنة ، فإذا رأيته يفعل ذلك تقول هذا خلاف السنة وسُنَةُ النبي عليه الصلاة والسلام أن يبتدئ بالأذكار بعد السلام ، فإن كان ملازماً لها كل بعد صلاة يفعل هذا الفعل صار بدعةًً ، أو يلتَزِم أن يسبح في وقت ما من اليوم عددا من التسبيح لا يتركه ، يجعل له بعد الصلاة مثلاً مائة تسبيحة ومائة تهليلة ومائة تكبيرة ومائة تحميدة هذا خلاف السنة لكن إن فعلها مرة أو نحو ذلك فهذا نقول خلاف السنة وقد يكون له حاجة في تكفير ذنب أو نحو ذلك هو أدرى به لكن إن التزمه صار بدعةً .
وقد ذكر ابن الحاج في المدخل أن أحد العلماء العُبَّادْ كان كثير الذكر ويَذكُرُ الله جل وعلا بعد الصلاة المكتوبة مائة تسبيحة ومائة تحميدة ومائة تكبيرة .
قال : فبينا هو نائم إذ رأى رؤيا كأنه - أنا سأستطرد هذا الاستطراد اسمحوا لنا لأجل إيضاح هذا المقام - يقول رأى في المنام أنه قد قامت الساعة وقد اجتمعت الملائكة لتُعطِيَ الناس أجورهم على أعمالهم فَصِيحَ أين أهل الذكر فقدموا وهو منهم - هذا الذي رأى المنام ، صاحب الذكر - منهم.
قال : فأعطوا الناس ومنعوا كثيرين .
قال : فتقدمت فقلت لقد كنت صاحب ذكر كنت أفعل كذا وكذا وكذا من الذكر .
فقالوا له :ليس لك عندنا شيء ،ليس ما فعلت على رسم صاحب الشريعة .
والتقييد بالأعداد مقصود شرعاً فلا بد من التَقَيُد هذه هي السنة ، فإذا تعدى الشرع وأراد أن يحوز فضلاً في شيء قد قُيِدَ بالشرع في وقته أو زمانه أو عدده أو مكانه فإن الزيادة تكون نوع من الإعتداء .
قال (تضاهى بها الطريقة الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى) قوله يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى هذا ليكون هناك فرق بين البدعة والمصلحة المرسلة .(13/268)
لا بد من إيضاح المقام في الفرق ما بين البدعة والمصلحة المرسلة :
- والبدعة فهِمتَ معناها وتعريفها
- أمَا المصلحة المرسلة فهي مُختلفٌ فيها في التعريف :
فمِن أهل العلم من يعُدُ العبادات التي أحدثها الخلفاء الراشدون أو الأعمال يُعُدُّها من المصالح المرسلة .
ومنهم من يُقيِد المصلحة المرسلة بالدنيا .
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وعدد من المحققين على الأول يجعلون المصلحة المرسلة ما لم يقم المقتضي لفعله في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفعله عليه الصلاة والسلام .
يعني لم يقم المقتضي للفعل في عهده ثم فُعِلَ من العبادات .
فهذا يُعَدُ مصلحةً مرسلة ، مثل الأذان الأول ونحو ذلك فهي عند شيخ الإسلام من المصالح المرسلة يعني في عهده عليه الصلاة والسلام لم يُقُم المقتضي للفعل وإنما قام المقتضي للفعل بعد ذلك من أمور العبادات هذه عنده تدخل في المصلحة المرسلة ، وكذلك من أمور الدنيا ما قام المقتضي على فعلها أو لفعلها في عهده عليه الصلاة والسلام وقام بعد ذلك فتسمى مصلحةً مرسلة لأن الشارع أرسل العمل بها ولم يقيد العمل بما كان في وقته عليه الصلاة والسلام .
والثاني من الأقوال أن المصلحة المرسلة ما كان من أمر الدنيا وما كان فيه تيسير العمل وتيسير أمور الناس في دنياهم ، فتكون المصلحة المرسلة مفارقة للبدعة من جهتين :
- الجهة الأولى أن البدعة في الدين في العبادة وأما المصلحة المرسلة فهي في الدنيا .
- والثاني أن البدعة تقصد لذاتها كما قال لك الشاطبي في تعريفه يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد ، و أما المصلحة المرسلة فهي لأمر الدنيا لا يقصد بها المبالغة في التعبد ، والمصلحة المرسلة وسيلة لتحقيق كلي من كليات الشريعة وأما البدعة فتقصد لذاتها ليست وسيلة وإنما هي مقصودة ذاتاً .(13/269)
هذا هو الفرق بين البدعة و المصلحة المرسلة والذي يظهر لي ويترجح هو القول الثاني أما قول شيخ الإسلام ابن تيمية فكأنه لا ينضبط في بعض المسائل من المحدثات فيما يظهر لي .
وما أُحدِثَ في عهد الخلفاء الراشدين ندخله ضمن قول النبي عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي فهي سنة الخلفاء وليست مصلحة مرسلة ، و الخلاف من جهة اللفظ أما من جهة التطبيق فيتفق الجمهور مع قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
هناك تفصيلات متنوعة في البدعة وما يتعلق بها تطلب من مظانها .
قال (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ - جل جلاله -).
وكلام الله هو القرآن الذي هو صفته سبحانه وتعالى ليس مخلوقاً منه بدأ وإليه يعود .
قال (وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) .
خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام فلا أحد يكون أحسن من هديه .
و الهدي ، هدي النبي عليه الصلاة والسلام ما كان من فعله و أقواله في العبادات أو في المعاملات أو في أحواله وسائرِ يومه .
وفي هذا الزمن أصبحوا يأخذون هدياً غير هدي النبي عليه الصلاة والسلام ، ومنهم من هم ممن يُسَمَّونَ بالاسلاميين في الداخل وفي الخارج تنظر إلى حقيقة الحال فكأنهم يستنكفون من بعض هدي النبي عليه الصلاة والسلام أو يرون أنه لا يناسب العصر أو لا يناسب هذا الزمان والنبي عليه الصلاة والسلام بيَنَ لنا أن خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام فلا يكون هدي أحد مهما كان أكمل من هديه عليه الصلاة والسلام سواءً في الأكل أو في الشرب أو في الدخول والخروج أو في المعاشرة أو في الهيئات العامة أو في العبادة أو في النظر أو في الحكم أو في الوصية أو في التعامل أو في التواضع أو في الأخلاق أو غير ذلك فأكمل الهدي هديُ محمد عليه الصلاة والسلام وخير الهدي هديه عليه الصلاة والسلام .(13/270)
إذا اختلف الزمان وتغير فيبقى خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام ، إذا اختلفت العقول واختلفت الأنظار وتوسع الناس فيبقى خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام .
وهذه تحتاج إلى قوة قلب وأهل السنة والجماعة أتباع آثار السلف الصالح قويةٌ قلوبهم ولله الحمد بذلك وهم بين الناس كالشامة لأنهم على الأمر الأول وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام
قال (وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ)
وهذا ظاهر فإن لهم من العناية بالقرآن ومن تلاوته وتَدَارُسِهِ ما بَزُّوا به غيرهم ، وكذلك السنة ومعرفتها والنظر فيها والفقه فيها ما ليس عند غيرهم ، فهم أهل الكتاب والسنة لهم عناية بالقرآن من جهة تلاوته وتدبره وحفظه وتدارسه والقيام به والصلاة به ، وكذلك أهل سنة ينظرون في السنة ويكثرون الورود عليها و يتفقهون فيها .
قال (وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)
فأهل الكتاب والسنة ، أهل القرآن والسنة هؤلاء هم أهل السنة والجماعة وهم أهل الأثر إذا كانوا أهل الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح 1
والمقصود بالجماعة ما كان في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فإنهم كانوا مجتمعين وإنما حصل الخلاف بعدهم .
قال (لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ)
قد ذكرت لك في أول شرح الواسطية أن الجماعة والفرقة لفظان متقابلان .
والجماعة اختلف السلف في تفسيرها وكذلك الفرقة ، وجِماعُ أقوالهم أن الجماعة نوعان :
جماعةٌ في الأبدان الذي هو اجتماعُ في الأبدان .
وكذلك جماعة في الدين الذي هو اجتماع في الدين .(13/271)
فالله جل وعلا أمر بأن نجتمع في أبداننا وأن لا نتفرق قال ?وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ? وأمر كذلك بالاجتماع في الدين فقال جل وعلا ? شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا? تفرق في الدين وبعدٌ عن الاجتماع فيه وهذه صفة فرق الضلال ، صفة الثنتين والسبعين فرقة ،كذلك من لم يجتمع في الأبدان وفي الدين تفرق وسعى في التفريق في الأبدان وفي الدين فهو ليس على طريقة أهل الجماعة الذين ذكرهم شيخ الإسلام رحمه الله هنا .
وفصَلتُ لك ذلك مطولاً فلا نحتاج إلى إعادته لكن نكتته أو قاعدته :
أن الاجتماع نوعان ويقابله الفرقة نوعان ، فرقة في الأبدان وفرقة في الدين وكلٌ منهما تؤول إلى الأخرى :
فإن من سعى إلى الاجتماع في البدن يسعى إلى الاجتماع في الدين .
ومن سعى إلى الاجتماع في الدين سعى إلى الاجتماع في البدن .
وكلٌ منهما ملازمة للأخرى ، فلا يُتَصَور الاجتماع في الدين مع التفرق في الأبدان إلا تفَرُق أهل الضلالة ، فمن سعى في أن يجتمع الناس في الدين فقد سعى في أن يجتمع الناس في أبدانهم .
ولهذا من أعظم الفرية أن يقالَ عن من كان على طريقة السلف الصالح والداعين إلى الحق والهدى أنهم يسعون إلى التفريق ، لأنهم إذا دعوا إلى توحيدِ الله وإخلاص الدين له وإلى الاجتماع في الدين وأن لا نفرق بين أوامر الله جل وعلا فهم في الحقيقة دعوا إلى الاجتماع ، ومن دعا إلى الاجتماع في البدن فهو يدعو إلى الاجتماع في الدين ، وإنما يؤتى الناس من جهة عدم معرفة الضابط بين هذا وهذا .
وهذه من المسائل العظيمة لأن مسألة الجماعة والاجتماع من أعظم نعم الله جل وعلا على عباده إذا منَ عليهم بالاجتماع ونبذ الفرقة .(13/272)
وكلٌ منهما لها صلةٌ بصاحبتها ، فمن سعى في اجتماع الناس في الدين فقد سعى في اجتماع الناس في أبدانهم وكذلك مقابله من اجتمع لاجتماع الناس في الأبدان سعى لاجتماع الناس في الدين لأنه به يمكن أن يُرشَد الناس دون تفرق ، والفرقة عذاب كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن (الاجتماع رحمة والفرقة عذاب) يعني الاجتماع في البدن وفي الدين رحمة والفرقة في البدن وفي الدين عذاب يعذب الله جل وعلا به من شاء .
قال (وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ)
هذا من باب الأصل يقال هذه جماعة بني فلان لأنهم مجتمعون أما في الشرع فالجماعة أعم من ذلك.
قال (وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ)
الإجماع بعد الكتاب والسنة .
فأهلُ السنة والجماعة عندهم ثلاثةُ أشياء : الكتابُ والسنة على فهم السلف الصالح ، ثم الإجماع.
لكن الإجماع لم ينضبط فكثيرون ادَعوا الإجماع على أشياء لا يصح فيها الإجماع ، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله في مسائل ادُعِيَ فيها الإجماع من ادَّعى الإجماع فهو كاذب يعني في مسائل معينة وإلا ثمَ مسائل أٌجمِعَ عليها .
قال (وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ) لا شك أنَ الإجماع أصل من الأصول الثلاثة التي عليها أهل السنة والجماعة .
ودليلهُ قول الله جل وعلا ?وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا?
قال ?وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ? وهذا هو الإجماع .
وقد سُئُل الشافعي ، لما ذَكَرَ الإجماع في بعض كتبه .
قيل له : هذا اللفظ الذي أتيت به لا دليل عليه فاتنا بدليل عليه .(13/273)
قال : فقرأت القرآن متدبراً من أوله إذ عندي (يعني هذا حاصل كلامه) إذ عندي أنه لا بد من دليل عليه فنظر .
قال : حتى أتيت هذه الآية من سورة النساء وهي قوله تعالى ?وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى? فصارت هذه الآية دليلاً للإجماع .
ذكر بعد ذلك أن (َالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ)
والإجماع بحثٌ أصولي معروف في كتب الأصول ، و يٌتَصَوَر الإجماع ، إجماع أهل السنة في غير زمن السلف الصالح ، ولكنه لا ينضبط لأنه قد يكون ثمَ من يخالف في مكان من الأرض ، لكن بما اشتهر يكفي الإجماع .
والإجماعُ المقصود به إجماع من هم من أهل الفقهِ في الدين الذين يفقهون معاني الكتاب والسنة ، أما أهل الرواية وأهل الأثر من جهة معرفة الحديث ومخارجه ونحو ذلك فالأصوليون نصُّوا على أنه من كان من أهل الرواية ولم يكن من أهل الدراية فلا يُعتَد به في الإجماع فلو خالف لا يكون مخالفاً للإجماع .
ولهذا ذكر عدد من أهل السنة أن ثمَ مسائل انعقد الإجماع عليها ولا عبرة بخلاف الظاهرية فيها لأنهم لم يكونوا على طريقة الأئمة ، أئمة الحديث في الفقه كمالك والشافعي واحمد إذ هم أئمة الحديث وهم أئمة الفقه عند أهلِ السنة والجماعة .
فالإجماع ينضبط في عهد السلف الصالح ، وما بعده فيه عدم انضباط وكثرة اختلاف .
لكن المقصود به إجماع أهل الفقه والدراية بالكتاب والسنة .
ويٌتَصَوَر بعدهم أن يُجمِعوا إذا أجمع الفقهاء المعروفون بالكتاب والسنة ولم يُعرف مخالف لهم .
قال (وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ)(13/274)
لا شك أن هذه الأصول الثلاثة يوزن بها الناس وتوزن بها الفئات والطوائف والأشخاص .
كتاب ، قرآن وسنة من جهة العناية بها والاستدلال بها واعتماد ما دلت عليه وأنها تفيد العمل وتفيد العلم سواءً كانت متواترة أو كانت آحاداً .
فإفادة السنة للعلم يُشْتَرَط له ثبوت السنة فإذا ثبتت السنة أفادت العلم وأفادت العمل أيضاً بعد ذلك .
وأما ما ذكره بعض الأصوليين من المعتزلة وغيرهم من أتباع المذاهب من أنَ حديث الآحاد لا يفيد العلم وإنَما يفيد العلم الظني فهذا مخالفٌ لطريقة السلف الصالح .
بل نقول يفيد العلم ولا نقول يفيد العلم الظني أو العلم اليقيني .
لكن كثيرٌ من أهل العلم يُعَبِّر بأن حديث الآحاد يفيد العلم الظني ، وقد يفيد العلم اليقيني بشروطه وذلك إذا احتفت به القرائن أو كان مُخَرَّجَاً في الصحيحين ونحو ذلك ، أو تلقته الأمة بالقبول كما ذكر ذلك الحافظ في شرح النخبة حيث قال : وخبرُ الآحاد إذا احتفت به القرائن أفاد العلم اليقيني.
هناك لفظان وهما :
" قطعية الدلالة .
" وقطعية الثبوت .
- قطعية الثبوت : يعني أن يكون ثبوت السنة قطعيا أو ثبوت ما كان من القرآن قطعياً .
القرآن نقول ثابتٌ بالقطع إذا كان من الروايات المنقولة بالتواتر ، أما الرواية التي لم تُنقل بالتواتر يعني الروايات الشاذة ونحو ذلك فهذه عند أهل السنة والجماعة موقوفة على صحة السند ، فإذا صح السند إلى القارئ كالأعمش ونحو ذلك فإنها مُعْتَبَرَة إذا لم تخالف القراءة المتواترة ، وتفيد العلم وتفيد العمل .
بخلاف طريقة القراء فإن عندهم القراءات الشاذة هذه ليست معتمدة .
لكن طريقة أهل السنة أن القراءةَ إذا صحت ، إذا صحت القراءة ، صح سندها ولو لم تكن متواترة فإنها تفيد العلم والعمل .
والقطعية راجعة إلى ثبوت ذلك من جهة صحة الإسناد في الشاذ ، والتواتر معروف في القراءات العشر أو ما هو أكثر من ذلك .(13/275)
فالسنة تكون قطعيةً إذا كانت متواترة ، قطعية الثبوت إذا كانت متواترة ، أما إذا كانت غير متواترة فيقال إنها ظنية الثبوت .
وهذا اصطلاح يعني أن طريقة إثباتها لم تكن على وجه القطع بل مظنونة لأنها لم تُنقل بالتواتر .
يقابل ذلك قطعية الدِلالة بالكتاب والسنة وهذا نادر .
و أغلب النصوص ليست قطعية الدلالة - نصوص الأحكام - أغلب نصوص الأحكام ليست قطعية الدلالة بل فيها مجال للاجتهاد وأما الأخبار ، خبر عن الله جل وعلا أو عن صفاته أو عن الغيبيات أو عن قصص الأنبياء فهذه قطعية الدلالة من جهة حصول اليقين بما دلت عليه .
قد يكون هناك ألفاظ تحتمل كذا وكذا هذا يكون فيه مجال للفهم والدلالة .
أما الأحكام فإنها قد تكون نص من الكتاب أو السنة قطعي الدلالة وقد لا يكون .
وعندهم - عند الأصوليين - (ما نريد نستطرد في القطعي والظني في هذا المقام لكن كلمات تبحثونها) عند الأصوليين النص يكتسب القطعية إذا سلم من اثني عشر أمراً وهي موجودة في كتب الأصوليين .
المقصود أن هذه الأصول يزن بها أهل السنة والجماعة الناس .
أما القياس فلم يُذكَر لأن القياس مُختلف فيه .
القياس مُختلف فيه حتى عند السلف الصالح منهم من لم يقس ولم يرض بالقياس .
والقياس نوعان : قياس قواعد وقياس فروع .
" قياس القواعد الذي هو من جهة عموم المعنى ، هذا لا خلاف فيه بين السلف بل كان السلف يُعملونه كثيراً وهو من العلم النافع العظيم .
وهناك قياس فروع ، وقياس الفروع هو المعروف عند الأصوليين بالقياس وهو (إلحاق فرعٍ بأصل لعلةٍ جامعةٍ بينهما) - يقصدون بالفرع الحكم المسكوت عنه والأصل الحكم المنصوص عليه - ، وأما القياس قياس القواعد فهذا هو الذي يسمى عموم المعنى ، هو الذي تكلم عنه ابن القيم في أوائل معالم الموقعين عن رب العالمين وأطال الكلام فيه وفي تقريره ، وهو الذي يسمى تحقيق المناط ، وهو الذي يكون من الفقهاء في العبادات .(13/276)
بعض أهل العلم أو بعض طلاب العلم ما يفرق بين القياس وبين القواعد ، تجد أنه في باب العبادات يرى أنه ألحق شيئاً بشيء فقال هذا قياس والقياس في العبادات ممتنع .
هذا ليس بجيد بل الصحابة ألحقوا بعض العبادات ببعض من جهة عموم المعنى من جهة القياس قياس القواعد ، وهذا مقبول عندهم باضطراد .
وأما قياس الفروع فهذا هو الذي بينهم خلاف ، وما كان منه جلياً هذا اعتمده أئمة السنة كمالك والشافعي وأحمد و ما كان منه خفياً وعرضة للأخذ والرد .
على العموم ثمَ مباحث طويلة في ذلك لكن هذه أصول تَجْمَعْ لك هذا الموضوع في طريقة ومنهج أهل السنة والجماعة .
قال هنا كلمة ، قال (يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ) عني هذه الأصول لا يُوزَنُ بها ما له تعلق بالدنيا ، لأن هذا الأصل فيه التوسع ، أما ما له تعلق بالدين فيزنون الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
فأحوال الناس الأفراد والطوائف تُوزن وأقوالهم تُوزن بهذه النصوص فمن كان متبعاً طريقة السلف الصالح فهو على طريقة أهل السنة والجماعة .
فهذه الأصول توزن بها الأقوال والأعمال وتوزن بها المقاصد وتوزن بها النيات ويوزن بها ما ظهر وما بطن ، ولا شك أنه ميزانٌ عظيم لكن لا يحسن تطبيقه إلا الراسخون في العلم لأن تطبيقه يحتاج إلى دقة ، خاصةً في الأمور الباطنة أما الأعمال الظاهرة هذه قد يشترك فيه الكثيرون من جهة الوزن بهذه الأصول .
نكتفي بهذا القدر و نجيب على بعض الأسئلة .
......
نعم عند الحافظ ابن حجر هذه نص عليها في النخبة وشرحها يقول : و خبر الآحاد يفيد العلم اليقيني بشروطه ، ذكر في الشرح أنه من شروطه إذا احتفت به القرائن أو تلقتها الأمة بالقبول أو اتُفِقَ على تخريجه ونحوه .(13/277)
هل يلزم من قولنا نفهم الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح أن يصير كلامهم حجة دون نظرنا في دليلهم مثل مثلاً أن نأخذ أقوال الحسن البصري وميمون بن مهران في الإعتقاد و يصبح هو حجة ؟
لا شك أن كلام السلف منه ما هو مُتَّفَقْ عليه موافق للأصول ، أصول الشريعة ، وقواعد الشريعة ونصوص الكتاب والسنة ، فهذا تأخذ بفهمهم لأنه فهمٌ للنصوص ، وقد يكون في أقوالهم ما هو مُشْتَبِهْ فهذا لا بد أن ينظر في أقوال غيرهم ، فلا تأخذ الحجة بقول واحد من التابعين أو بفعله ، كذلك قول أحد الصحابة أو بفعله إلا إذا لم يعلم له مخالف ، أما إذا كان ثَّمَ مخالف فإنه لا يؤخذ بقوله بل ينظر في الدلائل وقد ذكرت هذا الضابط وصلته بالمحكم والمتشابه في أحد الدروس العامة وكان بعنوان (قواعد القواعد) ويَحسُن الرجوع إليه لأن فيه تأصيلات للمنهج .
ما هو العلم الظني والعلم اليقيني ؟
العلم الظني ما يكون العلم به راجح لكن لا تتيقنه ، بعبارة العصر ليس مائة في المائة أن الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال هذه ، لكن نقول تسعين في المائة وغالب الظن أنه قالها لأن الإسناد صحَّ ونحو ذلك ، هذا قصدهم بالعلم الظني ، والعلم اليقيني ما نقول مائة في المائة قاله ، يعبر عنه بعض العلماء بما يصح التطليق عليه ، إذا صح أنك تطلِق مثلاً يقول قائل زوجته طالق إن لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ، هذا يكون عنده يقين والظني ما لا يكون عنده بهذه المثابة ، لكن هذه كلها من أقوال الخلف أما السلف فليس عندهم مثل هذه الألفاظ .
ما الحكم في من زعم أن هنالك بدعةً حسنة وبدعةً سيئة ؟(13/278)
وأول من قال بتقسيم البدع فيما أعلم إلى حسنة وسيئة الفقيه أبو محمد العز بن عبدالسلام هو الذي قسمها وتتابع الناس على هذا ولا شك أن هذا من المحدثات ومن البدع لأن الصحابة رضوان الله عليهم نفوا البدع جميعاً وقوله عليه الصلاة والسلام (كل بدعةٍ ضلالة) ينفي ذلك ، وقد رد الأئمة على هذا القول .
يقول ذكر بعض المتكلمين - يقول القائل دكتور في جامعة الإمام - أنه ينبغي أن لا يفهم الإسلام من خلال دعوةٍ من الدعوات ، أو حركةٍ من الحركات ، كدعوة الوهابية أو دعوة الإخوان المسلمين أو غيرها من الدعوات ، فما رأيكم في هذا القول ؟
الجواب بما سمعتم ، يظهر أن الدعوات و الانتساب إلى الأسماء هذا يوزن بالأصول التي ذكرنا وكما قيل :
وليلى لا تقر لهم بذاك وكلٌ يدعي وصلاً بليلى
لا شك أنه من الشرف العظيم أن يرفع الإنسان نفسه بالانتساب إلى الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح ، لكن الكلام على البرهان هل هو متبعٌ لطريقتهم أم لا ، والدعوات منها دعواتٌ شهد الجميع بأنها على الحق والهدى وعلى طريقة السلف الصالح مثل دعوة الإمام المصلح شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله تعالى - فإنها بشهادة الخصوم أنها دعوةٌ لتحقيق توحيد الله جل وعلا وهي على ميراث النبوة ، على مثل ما دعا عليه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ، وهذا أمرٌ ظاهرٌ بين وقد اتبع فيها طريقة السلف الصالح في القول والعمل و الاعتقاد وفي العلاقات ونحو ذلك وجمع فيها بين الفقه والعلم والبصيرة رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ، ولا يُعلم دعوة من وقته إلى هذا الزمن قاربت دعوته في الدعوة إلى ما دعا إليه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ، إلا من كان متأثراً بدعوته ، أما الدعوات الأخرى ففيها وفيها وأكثر أمورها على خلاف طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم .
هل يبدع المخالف لإجماع السلف ؟(13/279)
لا شك من خالف إجماع السلف فهو متوعَدْ ، هو يُبَدَع لأن الله جل وعلا قال ?وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا? .
ذكرت مما أُحدِثَ في زمن عثمان تزيين المصاحف ، هل هذا يعتبر سنة الخلفاء ولم يعارض ؟
أنا أظن يريد المساجد ، أنا ذكرت تزيين المساجد حيث هناك أحاديث في النهي عن تزيين المساجد ، نعم لاشك أنه هناك أحاديث في بيان أنه من أشراط الساعة تزيين المساجد و المباهاة في المساجد ونحو ذلك ، وقد قَرَّرَ أهل العلم أن ما جاء وصفه من الأعمال بأنه من أشراط الساعة فإنه لا يفيد ذماً أو مدحاً ، هذا من حيث التأصيل ، وتزويق المساجد سببٌ للإلهاء ، إلهاء المصلي ، حيث ينظر في الزخارف، ينظر في الكتابات ، ينظر في التخطيط فيلهيه عن صلاته ، هذا أمرٌ يُرغَب عنه وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام مرة فألهته عن صلاته ألهاه ما افترشه عن صلاته عليه الصلاة والسلام فأمر بإبعادها وأن يٌؤتى بامبجانية أبي جهم ، وقال إن خطوطها ألهتني عن صلاتي آنفا ، لهذا لم تزوق المساجد ، لكن في عهد عثمان جُصِّصَت يعني وضع لها الجِصْ ، تبييض فقط ، وما حصل تزيين المساجد بمعنى زخرفة المساجد إلا في عهد بني أمية في العهد الأخير عهد الوليد وما بعده ، وقد قال الفقهاء رحمهم الله تعالى أن الناس إذا كانت مساكنهم على نحوٍ ما من التزيين وتبديجها و نحو ذلك فإنه ينبغي أن تكون المساجد على نحو المساكن حتى لا يَرْغَبْ الناس عن المساجد ويتعففوا من حضورها ، وهذا ظاهر لو تأملت في زمننا الحاضر لو جعلنا هذا المسجد على ما كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام فرش بالحصباء - الحصب الحجارة - فإن كثيرين من أهل الترف قد لا يرغبون لأنهم يحتاجون إلى من يُرَغِبُهم ومع وجود هذه الآلات وهذه الفرش وهذا التيسير مع ذلك منهم من يكسل وهم الأكثرون ولهذا كان الفقهاء على بصيرة حينما قالوا تكون(13/280)
المساجد على نحو البيوت ، لا تزخرف زخرفة شديدة لكن من حيث الراحة تكون على نحو البيوت حتى يرغب الناس في المساجد ولا يرغبوا عنها .
يقول - هذا يتعلق بالشفاعة درس من السنة الماضية - يقول ذكر أهل السنة أن الشفاعات للرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثمان شفاعات خمسة منها ورد لها أدلة ولكن الثلاث الباقية ما هو دليلها حيث لم أجد لها أدلة والشفاعات هي : شفاعة في من تساوت حسناته وسيئاته وشفاعته في أهل المعاصي وغيرها ؟
ما أدري يعني يبدو اختلط عليه الأمر أو ما دقق ، على العموم دليل ما ذَكَر قوله عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ، و قوله شفاعتي لأهل الكبائر يشمل من كان من أهل المعصية من أهل الكبيرة وكذلك من تساوت حسناته وسيئاته لأن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر كما قال جل وعلا ?إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ? فتُغفَر الصغيرة بشرط اجتناب الكبيرة ، والصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهما إذا اجتُنبت الكبائر فـ (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) يدخل فيها الشفاعة لأهل الأعراف والشفاعة لأهل العصيان والشفاعة في قومٍ أمر بهم إلى النار أن يدخلوها أن لا يدخلوها وفي قومٍ دخلوا النار أن يخرجوا منها وهكذا ، والشفاعة لأهل الأعراف فيها بعض الأحاديث أيضاً الخاصة لكن نكتفي بهذا الحديث العام .
هذا يسأل عن نفس سؤال الأخ السابق عن زخرفة المساجد .
ما نقول بالزخرفة هي التي جاء فيها النهي - الزخرفة التي تلهي - أما تزيين المساجد بجعلها على نحو البيوت حتى يرى يرغب الناس فيها هذا من ما كان عليه الأمر الأول .
إذا نٌقِل الإجماع في العصور المتأخرة بعد القرون الثلاثة الأولى فهل يكون حجة لا يسع أحداً خلافه بحيث يصير إجماعاً قطعياً فإن كان كذلك فهذا لا ينضبط ؟
والإجماع عند المتأخرين لا ينضبط ولهذا قال الإمام أحمد من ادعى الإجماع فهو كاذب .(13/281)
هل الأحاديث الصحيحة الغير متواترة تعتبر العلم الظني أو العلم اليقيني ؟
ذكرنا الكلام عنه .
ما المقصود بالمصالح المرسلة ؟
ذكرناه .
هذا استفتاء في الجهاز الذي يقتل الحشرات الطائرة كالذباب والذي يعمل بالكهرباء يكثر في أماكن بيع الأطعمة ؟
ما عندي علم بجوابه كان في بالي أسأل المشايخ عنه من مدة لكن نسيت .
جاء كتاب من مَحَلَّهْ للمزني أنَ رجلاً قال ورب (يس) لا فعلت كذا ، فحنث ، قال المزني لا شيء عليه ومن قال يحنث فهو يقول إن القرآن مخلوق أو معناه، ما هي هذه العبارة ؟
(يس) - هذا إستشكالٌ جيد - (يس) حينما قال ورب (يس) هذه محتملة ، لأن (يس) قيل إنه من أسماء النبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى في أول سورة (يس) ?يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ? وكذلك (يس) اسم نبي من الأنبياء ?سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ? فمن أراد بقوله ورب (يس) النبي عليه الصلاة والسلام أو (يس) النبي فهذا أقسم بربوبية الله جل وعلا لمخلوق ، هذا واضح أنه حلف منعقد .(13/282)
المُزَنِي فيما نقل الأخ (ما أدري هل النقل دقيق أو لا) لكن في قوله ورب (يس) ، (يس) فُسِرت بأنه قرآن ، من أسماء القرآن ، كما هو معروف في الحروف المقطَّعة جميعاً (الم) من أسماء القرآن (ق) من أسماء القرآن منها (يس) هذه من أسماء القرآن ، وقوله ورب (يس) كأنه جُعِلَ هنا فَهِمْ منه أن الحالف برب (يس) حَلَفَ برب القرآن ، والقرآن ليس بمخلوق فكيف يكون له رب ، وهذا غير مفهوم عندي إذا كان على هذا النحو ، لأنه القرآن هو كلام الله جل وعلا وصفته وقول القائل ورب القرآن يحتمل أن يريد به الصفة ويحتمل أن يريد به - يعني القرآن الذي هو صفة الله جل وعلا - ويحتمل أن يريد أن القرآن مخلوق ، فيُمنَع منه لأجل هذا الإحتمال ،والأول أن يكون ورب القرآن يعني ورب الصفة بمعنى أنه جل وعلا صاحبها هذا جائز من جهة أنه ربٌ للصفة كقوله جل وعلا ?سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ? وهو رب العزة والعزة صفة من صفاته جل وعلا ، فيقال رب الرحمة بمعنى أنه جل وعلا صاحبها المتصف بها ، رب العزة بمعنى أنه جل وعلا المتصف بها .
رب القرآن بمعنى أنه المتصف به لكن مثل هذه الكلمة لا يسوغ أن تقال لأن هذه هي من كلمات من يقولون القرآن مخلوق ، فكأن المزني في وقته كان قول من يقول ورب (يس) رب القرآن ، يقولها من يعتقد أن القرآن مخلوق فلذلك نبه على ذلك رعاية للحال الذي كان في زمنه ، أما من جهة الأصل فإنه يقال رب القرآن بمعنى صاحبه أو بمعنى المتصف به الذي تكلم به جل وعلا ولكن هذا عند الإختيار لا يقال بل يُبتعد عنه لأن القرآن صفة الله جل وعلا والناس لا يعقلون من الربوبية إلا ربوبية المخلوق ، لا ربوبية الصفة بمعنى أنه المتصف بها .
ما هو اعتقاد الصوفية في المجانين ؟
اعتقاد الصوفية في المجانين ، واحد من الإخوان من السودان ولا من ... يجاوبنا ، هم يقولون :
عزيزاً على أبوابه يسجد العقل مجانين إلا أن سر جنونهم
لماذا جُنَّ ؟(13/283)
لأن عقله انصرف عن الفاني إلى الباقي ، فهو فيما يرى الفاني أنه مجنون لكن عقله مع الباقي جل وعلا ، ولهذا يعدونهم أولياء ، وعندهم أنَ المجنون يسمى مَجْذُوب يعني جُذِبَ عقله للحق جل وعلا فليس مجنوناً ولكنه جُذِبَ .
وهذا والعياذ بالله إعتقاد صار في كثيرين حتى الآن في كثير من البلاد في مصر و الشام وفي العراق وفي غيرها وفي السودان وفي أفريقيا يكثر وجود مثل هذا أنهم يعدون المجاذيب أولياء ، حتى ولو كانوا على أفحش الأمور ، ما دام أنه مجذوب فهو ولي .
وذكر الحافظ ابن حجر في كتاب (إنباء الغمر في التاريخ) أنَ أحد ولاة دمشق مر في موكبه - أحد السلاطين - مر في موكبه ، وكان ثم طريق ضيق بعض الشيء ، وكان أحد المجاذيب جالساً ، فلما مرَ الموكب قال هذا بصوتٍ مرتفع يا صاحب الرغيف ، فانذهل السلطان من هذه الكلمة والتفت إلى هذا المجذوب وأوقف المسير والتفت إليه ونزل وقال له ماذا تعني ؟
قال يا صاحب الرغيف ماذا فعل الرغيف البارحة ؟
كلمة جاءت هكذا ألقاها الشيطان في نفسه فانذهل ، هذا الوالي كان له قصة في الرغيف ما ادري خذا الرغيف عن أحد ، ما أدري وش قصة الرغيف هذه .
يقول فكان هذا المجذوب يدخل - يقول الحافظ ابن حجر - يدخل بيت السلطنة ويبصق في وجه السلطان والسلطان يتمسح ببصاقه .
هذا نوع من الاعتقاد الفاسد اللِي سبب انحراف في العقلية الإسلامية ، سبَب انحراف وصار هؤلاء هم الذين يتحكمون ويمشون ويعدون المجاذيب أولياء لله جل وعلا .
عصمة الأنبياء هل هي في كل شيء أم ماذا ؟(13/284)
مذاهب عند الناس ، لكن أهل السنة عندهم أن الأنبياء معصومون عن كبائر الذنوب وعن صغائر الذنوب التي لها صلةٌ بالتبليغ والرسالة وعمَا يشين من الذنوب الصغيرة فَيُجَوِزون لا يقولون إنها واقعة منهم ، يقولون قد يقع من الرسول أو من النبي بعض الذنوب الصغيرة لكن لا تكون لها مساس بالرسالة أو بالتبليغ أو بما يُشْتَرَطْ للنبوة ونحو ذلك ويؤيد ذلك قوله جل وعلا ، نقول ويدل على ذلك قوله جل وعلا ? إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ? فجعل له ذنباً والأشاعرة يقولون هم معصومون ، يقولون الأنبياء معصومون عن جميع الذنوب الكبيرة والصغيرة ، الأشاعرة يقولون حتى الأمراض يجوز عليهم اليسير منها وهذا ضلال واضح مصادم للنص ويقول صاحب عقيدتهم في منظومة له في عقائد الأشاعرة :
بغير نقصٍ كخفيفِ المرضِ وجائز في حقهم من عرضِ
يعني أنهم يجوز عليهم الأعراض منها الأمراض الخفيفة ، أين هم من قول النبي عليه الصلاة والسلام (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يُبتلى الرجل على قدر دينه) وقد دخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه ، دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يوعك وعكاً شديداً ، فقال يا رسول الله أئنك لتوعَكُ فقال أجل إني لأوعك كما يُوعك رجلان منكم) عليه الصلاة والسلام .
يقول قول فلان لفلان هذا الأمر من بركات مجيئك أو قدومك علينا هل في هذا اللفظ شيء ؟
البركة نوعان : بركة ذات وبركة عمل .
فبركة الذات للأنبياء وللرسل عليهم الصلاة والسلام .(13/285)
أما الصالحون فلهم بركة عمل يعني إذا عملوا خيراً ، دعوا إلى الله ، ذكَّروا ، وصلوا الصلة ، وصلوا الرحم ، أصلحوا ذات البين ، هذا يكون من بركات أعمالهم كما قال أحد الصحابة لمَا ضاع عقد عائشة - أظنه أسيد بن حضير - قال : ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر يعني بركة العمل ، أما بركة الذات بمعنى يُتَمَسَح بهم ونحو ذلك فهذه ليست إلا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام .
كيف نرد على من قال إن عثمان رضي الله عنه أحرق الأحرف الستة مع أنَ الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما ثبت عند مسلم كان يطلب من الله أن يزيده من الأحرف حتى وصلت إلى سبعة أحرف إلى آخره ؟
هذا سؤالٌ معروف في القراءات ، والقراءة بالسبعة أحرف كانت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام جائزة ، ليست واجبة أن تكون القراءة على سبعة أحرف ، وإنما نزل القرآن على سبعة أحرف توسعة من الله جل وعلا على هذه الأمة حتى تأتلف قلوبها ويأتلف العرب ويجتمعون على النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا كان على وجه الجواز ليس على وجه الوجوب ، فوقت الحاجة إليه انتهى فبقي ما تتحقق به مصلحة الإجتماع وهو أن يجتمعوا على حرفٍ واحد ، ولذلك عثمان أمرهم أن يكتبوا المصاحف على حرف قريش ، وكانت المصاحف غير منقوطة كما هو معلوم ، فبقيت بعض الأحرف السبعة فيما يحتمله رسم المصحف .1
قضايا كلية
ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ، وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ.(13/286)
وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ".
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم علماً نافعاً وعملاً صالحاً وقلباً خاشعاً ، اللهم استعملنا فيما تحب وترضى ونعوذ بك من وجوه الردى .
هذه الجملة من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذه العقيدة المباركة بيَّنَ فيها أصول مذهب أهل السنة والجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي أنواع التعاملات مع الولاة ، ولاة الأمور الذين ولاهم الله جل وعلا على المسلمين .
وهذا الأصل وهو الأمر والنهي من الأحكام العملية ، وإدخاله في العقيدة جاء من جهة أن الفِرَقْ الضالة كالخوارج والرافضة والمعتزلة خالفوا في هذا الأصل وتركوا ما كانت عليه الجماعة الأولى ، فخالفت الخوارج طريقة الصحابة ، وخالفت الشيعة والرافضة طريقة الصحابة والتابعين في هذا الأصل وكذلك خالف المعتزلة أهل السنة في هذا الأصل .
فذَكَرَ شيخ الإسلام كغيره من أئمة الإسلام والسنة ، ذكروا مسألة الأمر والنهي لأنها من المسائل الكبيرة التي خالف فيها أهل السنة أهل الضلال .(13/287)
ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسائل العظيمة في الدين لأن الصلاح في الدين سببه الأمر والنهي والدعوة إلى الخير ، والفساد في الدين أو في حياة الناس سببه ترك ما توجبه الشريعة في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لهذا صار من المسائل العظام وعده طائفة من أهل العلم من أصول الدين ومبانيه العظام .
قال شيخ الإسلام رحمه الله هنا: ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ - يعني ثم أهل السنة والجماعة مع هذه الأصول التي سلفت - يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ .
والأمر والنهي جاء في الكتاب وفي السنة في مواضع كثيرة منها قول الله جل وعلا ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ? ومنها قوله جل وعلا ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? ومنها قوله جل وعلا (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) ومنها قول الله جل وعلا (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) والآيات في هذا الأصل كثيرة .(13/288)
ومن السنة قول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وفيه أيضاً في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال (ما من نبي بعثه الله إلا كان له من أمته حواريون يستنون بسنته و يهدون بهديه ثم إنه تَخْلُفُ من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) وأيضاً كما جاء في السنن والمسند من حديث أبي بكر رضي الله عنه إذ خطب الناس فقال لهم (أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية فتضعونها في غير موضعها وهي قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ? و إني سمعت رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يقول : لتأمرن بالمعروف ولتنهوُنَ عن المنكر ولتأطرن السفيه أو قال على يد السفيه تأطرونه على الحق أطرا أو يوشك أن يعمهم الله بعقابٍ من عنده) أو كما جاء في الحديث . والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة معلومة يضيق المقام عن ذكرها وبسطها .
قد أجمعت الأمة أيضاً على هذا الأصل وهو وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهذه الجملة لا شك أنها مهمة وتحتاج إلى تفصيل وبيان لأن شيخ الإسلام أجمل أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله على ما توجبه الشريعة .
فهذه الكلمة هي التي فيها تفاصيل كثيرة ، تفاصيل أقوال أهل السنة وأهل العلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحن نذكر ذلك في مسائل حتى يكون أوضح للمقام .
" الأولى من تلك المسائل في تفسير كلمة المعروف والمنكر :
فإن المعروف في النصوص الذي جاء الأمر به هو ما عُرِفَ حسنه في الشرع .(13/289)
والمنكر ما عرف قبحه في الشرع .
وقال بعض أهل العلم المعروف إسمٌ جامع لكل ما يحبه الله جل وعلا ويرضاه من أمور الخير .
والمنكر إسمٌ جامع لكل ما يسخطه الله جل وعلا ويأباه من أمور الشر .
فدخل في المعروف الواجبات والمستحبات ، ودخل في المنكر المحرمات .
وأعظم المعروف توحيد الله جل جلاله ، وأبشع المنكر وأقبح المنكر وأردؤه الشرك بالله جل جلاله ولهذا قال أبو العالية في قول الله تعالى ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ? قال أمروا بتوحيد الله ونهوا عن الشرك .
وكل معروف في القرآن فهو التوحيد وكل منكر في القرآن فهو الشرك ، ذلك أن الطاعات وأبواب الخير كلها من فروع التوحيد ومن آثار التوحيد ، والمعاصي من آثار الشرك .
فلهذا أعظم ما يؤمر به التوحيد ويؤمر بفروعه ومسائله ومستلزماته من الطاعات وكذلك أعظم ما ينهى عنه وينكر الشرك بالله جل جلاله .
المعروف درجات والمنكر أيضاً درجات ولهذا كان من قواعد أهل السنة أن المعروف الذي يُطْلِبْ إذا تزاحم معروفان ما كان أعلى ، والمنكر الذي يُنْهى عنه إذا تزاحم منكران ما كان أعلى فتترك الأقل لما هو أعلى ، فتنكر الأعلى لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح ودرء المفاسد .
" المسألة الثانية حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتفصيل الكلام على أحواله .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سمعت في النصوص مأمور به وهو واجب وهذا الوجوب هل هو وجوب عيني أم كفائي ؟
في المسألة تفصيل : وهو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب عيناً ، يجب على المعين إذا رآه كما جاء في الحديث (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع) الحديث ، فيجب على من رآه عيناً مع القدرة .
وإنكار المنكر له مراتبه هذه التي سيأتي بيانها ، و يجب إنكار المنكر على الأمة على وجه الكفاية.(13/290)
والمنكرات قسمان ، والواجبات قسمان :
واجبات يشترك في معرفتها الجميع ومنكرات يشترك في معرفة أنها منكرة جميع المسلمين .
مثاله في الواجبات : الصلاة والزكاة وصلة الأرحام وما شابه ذلك وقراءة القرآن .
ومثاله في المنكرات شرب الخمر والزنا والسرقة وأخذ الرشوة وشهادة الزور ونحو ذلك .
فهذا الذي يشترك في معرفته الجميع يجب الإنكار فيه على الجميع، لا يختص في الإنكار فيه لأهل العلم .
وأما ما كان من مسائل الإجتهاد ومن المسائل التي فيها أدلة وفيها بيان من أهل العلم لا يشترك في معرفتها الجميع وإنما تحتاج إلى بيان واستدلال ونحو ذلك مما لا يعلمه إلا الخاصة أو إلا طلبة العلم وأهل العلم ، فهذه يُشْتَرَطُ فيها لمن أنكر العلم .
والمسائل التي يكون المورد فيها مورد اجتهاد فإن العلم فيها مَنُوطْ بأهل العلم الراسخين فيه .
وما كان من المسائل تتعلق بالفرد فإنه يكون الإنكار فيه بحسب علمه ، يعني إذا علم شيئاً أنكر بحسب العلم كما ذكر ذلك النووي وغيره .
فتفصيل المقام في هذا لا بد منه وهو أنه يُشْتَرَطُ لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العلم قبل الأمر والنهي ، لا يأمر ولا ينهى إلا عالم .
هناك مسائل العلم بها مشترك هذا يأمر بها كل أحد ، أي مسلم يجب عليه أن يأمر بالصلاة وأن ينهى عن الزنا لأن هذه مشتركة .
وأما المسائل الإجتهادية أو المسائل الخفية أو المسائل التي تحتاج إلى نظر ورعاية مصالح ونحو ذلك يعني من مسائل الإجتهاد فهذه لا بد فيها من علم ، لكن علم أهل العلم ، علم الراسخين فيه لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها .(13/291)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول (إنَ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب عليه أن يكون عالماً قبل أن يأمر وينهى وأن يكون متيقناً بحصول المصلحة في أمره ونهيه ودرء المفسدة ، فإن دخل في الأمر والنهي بظنٍ ولو كان ظناً راجحاً أثم لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .
فهذه القاعدة أظنها مجمعاً عليها فيما ذكره شيخ الإسلام من أن الأمر والنهي المقصود منه تحصيل المصالح ودرء المفاسد ، فإذا كان الآمر والناهي على علمٍ بأن المصلحة من الأمر راجحة وأن المصلحة ستكون برجحان وأن المفسدة لن تكون عنده برجحان فإذا تيقن ذلك دخل في الأمر والنهي ولم يأثم ،وأما إذا كان مظنوناً يقول نقول هذا أو نعمل هذا العمل ننكر على فلان قد يكون معه مصلحة ، إذا قال ذلك يأثم لأنه لا بد فيه من التيقن لا بد فيه من العلم أما الظن فلا يُكتفى به.
فتحصل من هذه المسألة أن أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجملة واجب ، وقد يكون واجباً عينياً وقد يكون واجباً كفائياً إذا قام به طائفة من الناس كفى البقية ، والمسائل العامة العظيمة الأمر فيها والنهي يكون لأهل العلم لا يدخل فيه العامة أو من لم يكن راسخاً في العلم .
" المسألة الثالثة في قول شيخ الإسلام هنا على ما توجبه الشريعة :
فيه أن من أمر و نهى دون رعاية لأحكام الشريعة في الأمر والنهي فليس على طريقة أهل السنة فأهل السنة يأمرون وينهون على ما توجبه الشريعة لا على ما توجبه الأهواء أو الآراء فلا بد أن يكون عند الآمر والناهي معرفة بالحكم الشرعي ودليلاً يعتمده وإلا يكون أمر على غير ما توجبه الشريعة ، وهذا لأجل مخالفة الخوارج والرافضة والشيعة والمعتزلة في هذه المسألة .
وقوله على ما توجبه الشريعة أخرج طوائف :(13/292)
أخرج من ذكرنا لأن هؤلاء غلوا في الأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر حتى جعلوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخروج على ولاة الجور و الولاة الذين يظلمون أو الفجار من الولاة ، جعلوا الخروج عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
انتهى الشريط السابع و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثامن و العشرون
وقوله (عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) أخرج طوائف ، أخرج من ذكرنا لأن هؤلاء غلوا في الأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر حتى جعلوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخروج على ولاة الجور والولاة الذين يظلمون أو الفجار من الولاة ، جعلوا الخروج عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهذا من الغلو وهذا باطل مخالف لطريقة أهل السنة والجماعة .
ويقابل هؤلاء من ترك الأمر والنهي أصلاً كحال المتصوفة وحال الذين يرون القَدَرَ ماضياً في الناس فلا يحتاج إلى أمر ونهي .
وبسبب هؤلاء المتصوفة دخل أعداء الملة والدين وأعداء الإسلام بلاد الإسلام .
وقد يشابههم غيرهم ممن يتركون الأمر والنهي بحججٍ واهية .
فمن أسباب دخول الفرنجة ودخول الصليبين بلاد الإسلام كثرة المتصوفة في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس ، فكثرة أولئك سببت دخول الصليبيين لأنهم أَقْعَدُوا الناس عن الأمر والنهي وأحبطوا في النفوس الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فعندنا طائفتان وأهل السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء .
قوم غلوا كالخوارج ومن شابههم ، وقوم جفوا وهم الصوفية ومن شابههم .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ يتطلب كما ذكرنا علماً و غَيْرَةً ، لابد أن يجتمع هذا وهذا .
فالعلم فات الخوارج والمعتزلة ومن شابههم ، والغَيْرَة على دين الله فاتت الصوفية ومن شابههم .(13/293)
فلا بد من علم صحيح ومن غَيْرَة فمن فاتته الغَيْرَة وكان عنده علم فإنه لن يأمر .
ومن كانت عنده غيرة وليس عنده علم بما توجبه الشريعة في الأمر والنهي أفسدته .
ومن جراء هذين الفريقين حصل الفساد وحصل إضعاف الشريعة في عصور الإسلام من أوائل الزمن إلى زمننا هذا .
فأناس دخلوا بغيرة دون علم ، وأناس علموا ولكن لم يغاروا على دين الله جل وعلا .
وهدى الله من تمسك بأصول أهل السنة فغاروا على حرمات الله وأمروا ونهوا لكن عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ فحققوا المصالح و درؤوا المفاسد .
" المسألة الرابعة في قوله عليه الصلاة والسلام (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)
هذا فيه الأمر بتغيير المنكر عند رؤيته (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) وفقه هذا الحديث مهم وذلك أن كلمة (رأى) فيه ، هذه جاءت بالشرط .
(من رأى منكم منكراً فليغيره) فعندنا :
" أولاً الشرط الذي جاء في الحديث وهو أنَّ شرط وجوب التغيير أن يكون ثَمَّ رؤية .
" والثاني المنكر .
" والثالث التغيير .
والمنكر تكلمنا عنه وهو ما عُلِم قُبحُه بالشرع ، أو أن مَثَارَتَهُ كانت بالشرع لا بمقتضى الهوى أو مقتضى ما يكون عن اجتهاد ناقصي العلم .
أولاً قوله (من رأى منكم منكراً) رأى هنا هي البصرية وليست العلمية ، ليس معنى رأى هنا عَلِمَ وإنما معناه رؤية البصر لأنه عداها إلى مفعول واحد .
فرأى إذا تعدت في النحو إلى مفعول واحد كانت رؤيةً بصرية (من رأى منكم منكراً) .
فتفسيرها بعَلِمَ ليس بصحيح .
فالرؤية هنا التي عُلِقَ عليها وجوب الإنكار هي الرؤية البصرية ،فيجب أن تنكر باليد فإن لم تستطع فباللسان إذا رأيت المنكر بعبينيك مع شرط القدرة .
أما إذا لم تره ولكن سمعته سماعاً محققاً كأن سمعت امراة تصرخ أو سمعت بسماع محقق رجل يراود امرأة أو سمعت سماعاً محققاً ملاهي ونحو ذلك فهذه وإن لم ترها تلحق بالرؤية .(13/294)
ألحقها أهل العلم بالرؤية لأنها متيقنة بحاسة السمع كتيقن المرئي بحاسة الرؤية .
وأما غير ذلك مما يُخبَرُ يه المرء فليس المجال فيه مجال إنكار ، وإنما يجب الإنكار على من رأى أو سمع سماعاً محققاً أما من أُخْبِرْ فمجاله مجال النصيحة .
والنصيحة غير الإنكار ، النصيحة باب والإنكار فصل منه .
يعني أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب من أبواب النصيحة .
النصيحة عامة ومن النصيحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فالنصيحة أوسع .
والأمر والنهي ما كان نصيحةٌ لها شروطها ولها أحوالها بما جاء في الشريعة .
والنصيحة هذه عامة كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، ثلاثاً ، قلنا لمن يا رسول الله - يعني - قال الصحابة لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم)
فالنصيحة عامة ، الدين كله نصيحة .
والنصيحة هذه لأئمة المسلمين ولعامتهم تشمل الأمر والنهي .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعض النصيحة لكن له شروط خاصة فهو كالمخصص من العام .
والتخصيص من العموم بشروطه ، هذا له أحكامه المعروفة .
فإذن ليست كل أحكام النصيحة جارية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليست كل أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جارية على النصيحة بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصيحة لعباد الله ولأئمة المسلمين ولعامتهم ولكن بشروطه الشرعية .
o ومن الفروق بينهما أن النصيحة الأصل فيها السر .
النصيحة تكون سراً وتكون مُجملةً بدون تحديد ، هذا الأصل فيها كما قرَّره أهل العلم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يكون في بعض أحواله سراً ولكن الأصل فيه أن يكون علناً .
o الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون إذا رُؤِي المنكر أو سُمِع سماعاً محققاً ، والنصيحة تكون بأوسع من ذلك فيما إذا رُؤي أو سُمٍع أو أُبلِغتَهُ ، أو بلغك أنه حصل كذا وكذا .(13/295)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون فيما إذا حصل المنكر أمامك ، أما إذا حصل في غيبة عنك فإنه نعود إلى الأصل العام وهو النصيحة لأن النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام قيَّد وجوب الإنكار بقوله (من رأى منكم منكراً) ، فمن رأى وجب عليه ومن لم يرى بل سمع أو قيل له فلان حصل منه كذا وكذا أو الأمر الفلاني حصل فيه كذا وكذا فالمجال فيه مجال نصيحة .
o من الفروق أيضاً أن النصيحة تحتاج إلى تثبت واستفصال والأمر والنهي بما حصل أمامك فإنك متيقن منه ، يعني أن النصيحة لمن يحتاج النصيحة تكون بما علمته وتثبت منه وأما الأمر والنهي فهو لا بد فيه من اليقين كما قال شيخ الإسلام وغيره .
o من الفروق بينهما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعلق بالمنكر ، أن النهي عن المنكر يعني في حديث أبي سعيد هذا (من رأى منكم منكراً فليغيره) هذا متعلق بالمنكر ، وأما النصيحة فهي متعلقة بمن ينتفع من الأمر أو النهي عن المنكر .
فحديث أبي سعيد متعلق بالمنكر وليس فيه ذكر لفاعل المنكر ، قال (من رأى منكم منكراً فليغيره) ، يعني ليغير المنكر ، أما الواقع في المنكر فهذا يختلف الحال فيه .
مقامه يحتاج إلى تفصيل :
الحال الأولى أن يكون المُنكِر للذي رآه من أهل الحسبة ، يعني من نواب الوالي في الإنكار ، فهؤلاء حالهم غير حال عامة الناس ، فهذا لَهُ أن يعاقبه بتخويل السلطان لَهْ ، بتخويل ولي الأمر لَهْ ، لَهُ أن يعاقب برؤية المنكر ، إذا رأى الفاعل للمنكر له أن يعاقب بحسب ما جُعِل له من السلطة في ذلك.
أما عامة الناس ، يعني غير أهل الحسبة يعني مثل ما نقول الآن غير رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير الهئية ، فهؤلاء في حقهم لا بد أن يُفَرِّقُوا بين المنكر وبين فاعل المنكر .(13/296)
المنكر يجب إنكاره وفاعله - يعني من قام به المنكر - فهذا المقام فيه مقام نصيحة ?ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? .
مثال ذلك إذا رأيت مع أحد المسلمين رأيت معه خمراً أو رأيت معه أمراً منكراً أو رأيته يمارس أمراً منكراً ، فإنكار المنكر بإزالته ، بتغييره باليد إن أمكن أو باللسان ، أما صاحب المنكر الواقع فيه فهذا تستعمل معه الرفق والأناة وما هو أنفع وأصلح له .
ولهذا قال العلماء إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يُشترَطُ له ثلاثة شروط :
2 الأول قبل أن يأمر وينهى ، وذلك الشرط هو العلم .
2 والثاني حين يأمر وحين ينهى ، وذلك الشرط هو الرفق .
2 والثالث بعد أن يأمر وبعد أن ينهى وهو الصبر .
فثّمَّ ثلاثة شروط :
علم قبل ورفق مقارن وصبر بعده كما قال ?وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ? ?يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ? فلا بد من الصبر بعد الأمر والنهي ، لأن الآمر والناهي يخالف ما يشتهيه الخلق ، أكثر الناس ولو كانوا من المسلمين تبع لأهوائهم ، فيحتاج من يأمر وينهى إلى الصبر ، ولا بد من رفق مقارِن فهذا رفق بمن عمل المُنْكَرْ .
والإنكار للمُنْكِرِ نفسه هذا لا بد فيه من قوة (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) ما يكون فيه مثل ما يقول أهل العصر مجاملة في المُنْكَرِ نفسه .
أما فيمن فعله فهذا تُهادِيْهْ وتدعوه بالتي هي أحسن .
رأيت معه شيء تكسر المنكر الذي معه أو تُقَطِعُهُ أو تحجز بينه وبينه بحسب ما تقتضيه المصلحة .
إذا كان كذلك فتعلق المُنْكَرْ بفاعل المُنْكَرْ يحتاج أيضاً إلى تفصيل :
ذلك أن المُنْكَرَ مع فاعله تارة يكون منفكاً وتارةً يكون ملازماً :(13/297)
فإن كان منفكاً بمعنى أن المعصية منفكة عن فاعلها أو المنكر منفك عن فاعله ، مثل ان تدخل على أحد - نسأل الله لنا وللمسلمين العافية والسلامة والهداية - تدخل على أحد فتجد أمامه كأس خمر أو تجد انه يسرق أو تجد أن أمامه صورة عارية ينظر إليها ونحو ذلك ، فهذه الجهة فيها منفكة لأن كاس الخمر منفصل عن من يريد أن يشربه .
الصورة العارية منفصلة عن من يريد أن يشاهدها .
والمال الذي يريد أن يسرقه منفصل عنه .
فهذا إنكار المنكر بأن تغير هذا الذي بين يديه - يعني المنكر - بيدك فإن لم تستطع فبلسانك بمعنى تحجزه عن ذلك باللسان ، أو تكسره بيدك إن كان ذلك بالامكان .
من كان مُريداً لإتيان هذا المنكر فهنا إذا كان منفكاً يكون معه النصيحة والرفق والأناة .
فالمُنْكَرُ نفسه لا تكن رفيقاً به ، وأما من وقع فيه فلا بد فيه من الرفق لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نُزِعَ من شيء إلا شانه) .
هذا بحسب تحقيق المصلحة فإن كانت المصلحة هنا هي أن تكون رفيقاً في إنكار المنكر ورفيقاً أيضاً في تعليم أو دعوة أو نصيحة من فعل هذا المنكر أو من يريد أن يواقعه فإن تحقيق المصلحة ودرء المفسدة في هذا المقام لابد منها ، ولكن الأصل أن الإنكار يكون بقوة إلا إذا كان ثَمَّ مفسدة ستكون فإنك تكون رفيقاً في الأمر والنهي وفي إنكار المنكر ، والإنكار على من واقعه .(13/298)
الحالة الثانية أن يكون المنكر ملازماً لصاحب المنكر مثل أن يكون حالقاً للحيته أو أن يكون مسبلاً لإزاره أو أن يكون لابساً لذهبٍ أو أن يكون سكراناً أو ما شابه ذلك ، فهذه فيها اختلاط المنكر بفاعله ، لا تستطيع أن تغير فتجعل الحليق ملتحياً ولا أن تجعل المسبل مُشَمِّراً ، هذا ليس مستطيع ، فيكون هنا الإنكار باللسان (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه) يكون الإنكار باليد لأهل الإختصاص ، لمن له ولاية أو باللسان ، هذا ما يكون هناك فرق بين الفاعل والمنكر ، فيكون هنا الرفق والأناة في الأمر والنهي .
في قوله عليه الصلاة والسلام هنا (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) عرفنا معنى رأى وأن الرؤية هنا بالبصر أو بالسماع المحقق ، أما إذا سمعت قيل قال هذا لا بد فيه من التثبت ثم النصيحة ، والنصيحة تكون سراً والأمر والنهي يكون بحسب الحال التي ذكرتها .
قال (فليغيره بيده) بل قبل (فليغيره بيده) (منكراً) هنا المنكر المراد هنا فيه ما عُلِم كما ذكرنا ما عُلِمَتْ نكارَتُهُ بالشريعة ، وهذا يدخل في صورتين :
" الصورة الأولى ما كان مُجمعاً عليه .
" والصورة الثانية ما كان مُختَلَفاً فيه ولكن الخلاف فيه ضعيف ، فهذا يُنكَر .
ما أُجْمِعَ عليه ينكر وما اختُلٍف فيه ولكن الخلاف فيه ضعيف أيضاً تنكره .
ما أُجْمِعَ عليه واضح مثل إنكار الزنا والسرقة والرشوة إلى آخره .
وما اختُلِف فيه ولكن الخلاف فيه ضعيف هذا أيضاً يجب إنكاره .
وما اختُلِف فيه والخلاف فيه قوي هذا لا يُنْكَرْ ، بل لا يجوز إنكاره ولكن يُنَاَظُر فيه ويُجَادَلُ فيه ويبحث فيه .(13/299)
مثال ما كان الخلاف فيه ضعيفاً النبيذ الذي تبيحه بعض الحنفية ويبيحه بعض الأوائل أو العصير الذي اشتد وصار مسكراً يعني جلس ثلاثة أيام في حر ، هذا يكون مسكراً ، طائفة من أهل العلم يبيحونه ، أو إباحة الفوائد الربوية ، يعني إباحة الفوائد البنكية والعملات والفائدة أو المنفعة من وراء القرض أو تفصيل أنواع القروض بقروضٍ صناعية وقروضٍ استهلاكية ونحو ذلك ، هذه فيها خلاف .
ولكن الخلاف فيها عندنا ضعيف لأنه ليس حجة لمن خالف في هذه المسائل حجة واضحة فهذه تُنكَرْ ، تُلْحَقْ بالمسائل المجمع عليها ، ولا تدخل في قول من قال (لا إنكار في مسائل الخلاف) .
أما ما كان الخلاف فيه قوياً فهذا لا يُنكَرْ ، مثل قراءة الفاتحة في الصلاة ، فمن تركها مثلاً هذا الخلاف فيه قوي ، هل تجب في الصلاة على المأموم أم لا تجب ، يتحملها الإمام ، هذا الخلاف فيها قوي معروف ، مثل زكاة الحل ومثل إعفاء اللحية بعدم أخذ شيء منها أو بما زاد عن القبضة ونحو ذلك من المسائل .
هذه المسائل فيها خلاف ، واختلف فيها العلماء ومذاهب الأئمة فيها معروفة ونحو ذلك .
هذه المسائل الخلاف فيها قوي ، الباب فيها باب دعوة ومجادلة لا باب إنكار .
وبهذه المناسبة نُفَصِّل القول في مسألة من يقول (لا إنكار في مسائل الخلاف) ، وبما ذكرت يتبين لك أن هذا القول على إطلاقه غلط ، بل الصواب فيه أن تُفَصِّل القول في مسائل الخلاف ، وذلك أن نقول مسائل الخلاف تنقسم قسمين :
- مسائل الخلاف فيها ضعيف فهذه يُنكر فيها .
- ومسائل الخلاف فيها قوي فهذه لا إنكار في مسائل الخلاف فيها .
ولهذا قيَّد طائفة من أهل العلم قول من قال (لا إنكار في مسائل الخلاف) بما إذا كان الخلاف قوياً ، أما إذا كان الخلاف ضعيفاً فإنه يُنكَر ، وتشابهها عبارة قول من قال (لا إنكار في مسائل الإجتهاد) هذه غير مسائل الخلاف لأن مسائل الإجتهاد غير مسائل الخلاف .(13/300)
مسائل الإجتهاد التي اجتهد فيها أهل العلم في نازلة من النوازل .
نازلة من النوازل نزلت فاجتهد فيها العلماء ، قال طائفة كذا وقال طائفة كذا .
فمسائل الإجتهاد ما يكون الإجتهاد فيها في إلحاق النازلة بالنص ، ومسائل الخلاف ما كان الإجتهاد فيها راجعاً إلى فهم النص .
فإذا كان الفهم راجعاً إلى النص في مثل المسائل التي ذكرت لكم فهذه تسمى مسائل الخلاف .
لا إنكار في مسائل الخلاف التي خلافها قوي .
وأما مسائل الإجتهاد في إنكار فيها مطلقاً بدون تفصيل ، لأنه اجتهد ، ما دام أنه اجتهد في النازلة ليلحقها بالنصوص ولا نَصَّ فيها ، فهذه لا يُثَرِّبُ أحد المجتهدين على الآخر ولا ينكر عليه إلا إذا كان اجتهاده في مقابلة النص أو في مصادمة القواعد الشرعية على ما هو معلوم في أصول الفقه .
(فليغيره بيد) هنا أوجب تغيير المنكر ، وإيجابه هنا كما ذكرنا مشروط بـ :
1- علمه بأن هذا منكر .
2 - وأن المصلحة مُتَيَقَنَة ، يعني بشروطه .
إذا غلب على ظنه أن الإنكار لا ينفع ، مثلاً يغلب على ظنه أنه إذا أنكر على ....1
ولن يحصل ثَمَّ فائدة منه ، فهل يجب الإنكار أم لا يجب ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
- قالت طائفة يجب الإنكار لأنه هو الأصل ولا دليل يُخرِجْ هذه المسألة عن ذلك ، وهذا أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله وهو قول الأكثر من أهل العلم .
- والقول الثاني أن الرائي للمنكر إذا غلب على ظنه عدم الانتفاع بإنكاره فإنه يُسْتَحَبُ له أن يُنْكِر ولا يجب ، ومال إلى هذا فيما يُفْهَمُ من كلامه شيخ الإسلام ابن تيمية ، واسْتُدِلَ بهذا بل ذكر شيخ الإسلام دليلاً على ذلك بقوله جل وعلا ?فَذَكِّر إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى? قال معنى الآية إن نفعت الذكرى فذكر ، فأوجب التذكير ويدخل فيه الأمر والنهي إذا غلب على ظنه الانتفاع .
مفهوم الآية أنه إذا لم يغلب على ظنه الانتفاع فإنه لا يجب عليه ، ويكون الحال إذاً على الإستحباب .(13/301)
وهذا القول أظهر عندي وأصح وهو قول جماعة كثير من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم ويؤيده أن الصحابة رضوان الله عليهم دخلوا على ولاة بني أمية ودخلوا على بعض الأمراء في زمنهم فوجدوا عندهم منكرات فلم يُنْكِرُوا ، حُمِلَ على أنه غلب على ظنهم عدم الإنتفاع لأنه أولى من أن يُحْمَلَ على أنهم تركوا واجباً .
وإذا قلنا أنه لا يجب يبقى الاستحباب حمايةً للشريعة وصيانةً لهذا الواجب الشرعي وكما جاء في الحديث (إن بني إسرائيل أول ما دخلهم النقص كان الرجل يلقى الرجل فيقول له يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وقعيده وشريبه) يعني أنه يأمره مرة و يترك ذلك فيبقى هذا على جهة الإستحباب دائماً إذا غلب على الظن أنه لا ينتفع في إنكار المنكر .
مثل ما ترى اليوم من وجود النساء كاشفات الوجه في المستشفيات أو في بعض الأسواق أو في المطارات أو في السيارات فإن هذا مُنْكَرْ لكن يغلب على الظن أن بعض ألئك النسوة لا ينتفعن بالإنكار.
فمن غلب على ظنه أن المرأة التي رآها على ذلك أنها لا تنتفع بالإنكار ، فإنه لا يجب عليه الإنكار ، بمعنى لا نُؤَثِمُهُ إن ترك .
وعمل أكثر أهل العلم على هذا ، ولكن قول أكثر أهل العلم كما ذكرنا هو بالإيجاب مطلقاً ، وتأثيم المسلمين فيه حرج سيما مع ظهور الدليل في قوله ?فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى? وما ذكرنا من عمل الصحابة وأهل العلم .
(فليغيره) هنا التغيير - أنا أطلت في شرح هذا الحديث لأن شيخ الإسلام في قوله (عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) يستحضر هذه المسائل كما فصلها في كتابه منهاج السنة وفي غيره من كتبه رحمه الله - .
(عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) هذه كلمة عظيمة تَمَيَّزَ بها أهل السنة عن غيرهم فلا بد من تفصيل المقام في ذلك .
......(13/302)
لا ، فرق بين هذا وهذا ، وذاك تَيَقُنٌ بأن المصلحة راجحة ، ولا يكفي أن يغلب على ظنه حصول المصلحة ، بل لا بد أن يتيقن أن المصلحة راجحة وأن المفسدة زائلة أو مهملة .
وتعلمون القاعدة المعروفة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) هذه لها ضابط :
وضابطها أن المصلحة والمفسدة إذا استوت عندك فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
إذا استوت هذه مصلحة وهذه مفسدة أو تقاربت فهنا نقول درء المفاسد مقدم .
وأما إذا كانت المصلحة راجحة والمفسدة قليلة مرجوحة ، ضعيفة ، فهنا لا نقول درء الفاسد مقدم على جلب المصالح ، بل تحصيل المصلحة راجح لأنه ما من مصلحة يُراد تحصيلها إلا وتكون مُخالِفَة لأهواء الخلق ، فلا بد أن يكون ثَمَّ نوع مفسدة ، مثل تأمر واحد يزعل عليك صحيح إنه بينفذ أو يَزُول المنكر لكن هو بيزعل وبيغضب أو نحو ذلك ، لكن لن تكون فتنة أو قطيعة رحم أو يكون هناك فساد أو اختلاف في القلوب لكن مجرد إنه يغضب أو يزعل أو نحو ذلك أو يتكلم عليك ، هذه نعم مفاسد لكنها لا تُقابَلُ بالمصلحة الراجحة .
فقول من يقول من أهل العلم وهي قاعدة صحيحة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فيما إذا تقاربت المصلحة والمفسدة أو تساوت المفسدة والمصلحة .
أما إذا كانت المصلحة راجحة بيقين والمفسدة مرجوحة وضعيفة جداً بيقين فإن هذا لا يُقال فيه (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) لأنه ما من مصلحةٍ يراد تحقيقها إلا ولا بد يحصل شيء من مفسدة بتحقيقها لأن الشريعة لم تأت على موافقة أهواء الخلق .
قوله (فليغيره) هذا اللفظ لا يساوي فليزله .
التغيير في الشرع لا يساوي الإزالة ، يدل عليه أنه قال (فإن لم يستطع) يعني أن يغير بيده (فليغيره بلسانه) .
(فإن لم يستطع فبلسانه) يعني فليغير المنكر بلسانه ، ومعلوم أن تغيير المنكر باللسان قد يكون معه إزالة وقد لا يكون .
قال (فإن لم يستطع فبقلبه) يعني فليغير المنكر بقلبه .(13/303)
فالتغيير قد يكون بإزالة وقد لا يكون ، وهذا من توسعة الله جل وعلا على هذه الأمة .
فيجب التغيير ولكن الإزالة لا تجب إلا إذا كانت مُستطاعة .
فقوله (فليغيره بيده) التغيير باليد يكون بإزالته ، والتغيير باللسان يكون بالإنكار ويُسمَّى مُغَيِّراً .
فمن أنكر منكراً بلسانه يكون قد غَيَّرْ .
والأمة إذا كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتغير المنكر باللسان لا تقره ولا تسكت على المنكر فإنها تكون مُغَيِّرَةً لا يلحقها الوعيد الذي جاء في قول الله جل وعلا ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ? إذا غَيَّرْ باللسان وذكر المنكر ونهى عنه فإن هذا يكفي ويحصل به التغيير إلا إذا استطاع اليد فإنه يكون مخاطباً بتغييره باليد .
من الأحكام التي في الحديث أن التغيير بالقلب له ضابط وهو أن يكره هذا المُنكر بقلبه ولا يرضى فعله ويترك المكان الذي فيه المنكر إن استطاع ، أو كانت المصلحة في ترك المكان .
فإذن التغيير بالقلب لا بد فيه :
o من كراهة المنكر ، هذا واحد ، البغض بغض المنكر .
o الثاني لا يرضى به وأن يمقته ، لا يرضى بحصوله .
o الثالث أن يفارق المكان إن كانت مفارقته راجحة من حيث المصلحة .
هذا بعض ما يتعلق بالأحكام المهمة في الحديث .
" المسألة الخامسة وهي مسألة مهمة تتعلق بالفرق بين نصيحة الولاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للولاة ، بل لعامة الناس .
النصيحة كما ذكرنا الأصل فيها أن تكون سراً والمنكر الأصل فيه أن يكون علناً .(13/304)
وقد جاء في بيان هذا الأصل قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبْدِهِ علانية ، وليأخذ بيده ، وليخلو به ، فإن قبل منه فذاك وإلا يكون قد أدَّى الذي عليه) وهذا الحديث إسناده قوي ، ولم يُصِبْ من ضعَّف إسناده وله شواهد كثيرة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد ، ويؤيده ما جاء في صحيح البخاري (من أنهم أرادوا أن يُنْكِرَ أسامة بن زيد على عثمان ، فأسامة بن زيد لم يفعل وقال أما إني قد بذلته له سراً لا أكون فاتح باب شر) وهذا موافق لهذا الأصل وهو أنه ما يقع في ولاية السلطان في ولاية الوالي من مخالفات للشرع فهذا بابه النصيحة ، لأنها ما تعلقت به من جهة رؤيةٍ لفعله أو سماعٍ محقق له .
أما من رأى السلطان بنفسه يفعل منكراً فإنه مثل غيره يأمره وينهاه .
وأمر ونهي السلطان يكون عنده لا يكون بعيداً عنه لما جاء في الحديث (أفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطانٍ جائر فأمره ونهاه فقتله)
فأمر ونهي السلطان يكون فيما رأيته منه بنفسك أو سمعته منه سماعاً محققاً ، سمعته منه بأذنك فتُنْكِر بحسب الإستطاعة ، بحسب القدرة بحسب ما يتيسر علناً أو غيرها .
أما النصيحة فهي ما يجري في ولايته .
وأهل العلم فرقوا في هذا المقام بما ذكرت لك، بين النصيحة بما يقع في الولاية وبين ما يكون منكراً يفعله السلطان بحضرة الناس .
وكثير من الحوادث والأدلة والأحاديث أنكر فيها الصحابة وأنكر فيها التابعون على ذوي السلطان علناً ، وكلها إذا تأملتها بدون استثناء يكون فيها الأمر أن المنكر فعله بحضرتهم ، رأوه منه أو سمعوه سماعاً محققاً منه .
مثل ما أنكر الرجل على مروان في تقديمه خطبة العيد على الصلاة ، فهذا شيء سُمِعَ منه ، ولو كان السلطان إذا فعل مُنْكَراً فإنه يُنْكَرْ عليه ، ولا يقال هنا سراً بل يُنْكَرْ عليه ولو كان بحضرة الناس بشرط أن يُؤمَنَ أن يكون ثمَّ فساد أعظم منه من مقتلة أو فتنة عظيمة أو نحو ذلك .(13/305)
وكذلك ما حصل من الإنكار على عمر في لبسه الثوبين .
وكذلك ما حصل من الإنكار على معاوية ، وأشباه ذلك كثير .
فإن باب النصيحة غير باب الإنكار .
باب الإنكار يكون برؤيةٍ ، سواء كانت رؤية المنكر من السلطان أم من عامة الناس .
إذا رأيته بنفسك .
أما باب النصيحة فما يقع في الولاية ، وتأمل في ذلك النصوص جميعاً ، وقد تأملتها رعايةً لتحقيق المقام في هذه المسألة المهمة وبراءةً للذمة ، ووجدت أن هذا الذي ذكرت لك مُنْضَبِطْ كما قال أهل العلم ، كما ذكر ذلك مُحَقَقَاً ابن رجب في شرحه لحديث (من رأى منكم منكراً) وكما ذكره ابن النَّحاس في كتابه (تنبيه الغافلين) بل قد قال ابن عباس رضي الله عنهما (لا تأمر السلطان ولا تنهاه عن منكر إلا فيما بينك وبينه) رواه عنه عبدالرزاق بإسناد صحيح .
وكلام السلف إذا تأملته يدور على هذا الفرق ما بين النصيحة وما بين الإنكار .
فباب الإنكار شيء وباب النصيحة شيء .
الإنكار بقيده برؤيةٍ ممن فعل أو سماع محقق ، وتلحظ أن الإنكار يكون بحسب التفصيل الذي ذكرنا من انفكاك المعصية أو ملازمتها .
" المسألة السادسة في هذا الباب المهم أن الأمر والنهي يجب على العين أو على الكفاية بشرط أن يأمن أن يُؤْذَى أذىً لا يناسبه .
يأمن أن يُقْتَل أو يأمن أن يُضْرَبْ أو يُجْلَدْ أو يُسْجَنْ ، فإن خاف على نفسه القتل أو السجن أو خاف على نفسه قطع الرِزق ونحو ذلك فإنه لا يجب عليه ، يبقى باب بالاستحباب وهذا نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى (يُشْتَرَط في الوجوب أن يأمن على نفسه ، فإن خشي فتنةً فإنه لا يجب عليه بل يُسْتَحَب إن قوي على البلاء) وليس كل أحد يقوى على البلاء .
وليس من الإيذاء الذي يُسْقِطُ وجوب الأمر والنهي السب أو الشتم أو إشاعة الإشاعات الباطلة على الآمر الناهي ، هذا لا يعذر به .(13/306)
يجب عليه أن يأمر وينهى ولو قيل في عرضه ما قيل ، إلا إذا كان ثَمَّ إيذاء لا يتحمله في نفسه أو في رزقه أو ما شابه ذلك .
" المسألة السابعة ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يحصل في هذه الأزمان في بعض البلاد من قتلٍ أو تفجيرٍ أو نحو ذلك ، أو خروج على ولاة الكفر أو على الدول الكافرة هذه المسألة مهمة.
ومسألة الخروج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نعلم فيها أن الخروج على أئمة المسلمين ما دام أن أصل الإسلام باقي لم يرتد عن الإسلام فإنه لا يجوز الخروج عليهم ولا الإعانة بالخروج عليهم ولا التثبيط عنهم .
هذا أصل عند أهل السنة والجماعة كما هو معلوم ويأتي تفصيله في الجملة التي تأتي بعدها .
وأما دول الكفر أو ولاة الكفر فإن الخروج عليهم جائز ، لكن جوازه مع القدرة وتحصيل المصلحة ودرء المفسدة .
والمصلحة والمفسدة في ذلك مَنُوطَةٌ بقول الراسخين في العلم كما ذكرنا في أول الكلام ، ليست منوطة باجتهاد المجتهد .
ولهذا ذكرنا لكم من كلام شيخ الإسلام أنَّ من دَخَلَ في هذا الأمر غير مُتَيِقِّنٍ أن المصلحة ستكون وتزول ويكون بعد المنكر خير فإنه لا يجوز له ذلك .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن مراتب إنكار المُنْكَر أربعة :
" الأولى منها أن يُنْكِر المُنْكَر فيزول و يَخْلُفُهُ الخير ، وهذه مشروعة وهي المطلوب الأعظم .
" المرتبة الثانية منها أن يُنْكِر المُنْكَر ويَخِفْ ، يقل المُنْكَر و لا يزول ، لكن يقل .
" والثالثة أن يزول المُنْكَر ويحصل منكر آخر مساوٍ له .
" والرابعة أن يزول المُنْكَر ويحصل منكر أنكر منه .
الأولى والثانية شرعيتان والثالثة محل اجتهاد والرابعة لا تجوز باتفاق .(13/307)
فما يحصل من أمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتفجيرٍ ونحوه في بعض البلاد هذا في عمل أصحابه يقولون : إنه فيه تحقيق مصلحة ، و هذا فيه إنكار منكر ، ولا يشترط في إنكار المنكر عندهم الشروط التي ذكرنا ، فيقولون فيه تحقيق مصلحة وفيه درء مفاسد ونحو ذلك .
فنقول هنا إن قاعدة أهل السنة أن تحصيل المصلحة في هذه المسائل ودرء المفسدة منُوطةٌ باجتهاد أهل العلم ، لأن هذه مسائل متعلقة بالعامة ، وهي إنكار سيسبب قتلاً ويسبب أذىً على غيره ، والمنكر إذا كان إنكاره يسبب أذىً على غيره لم يَجُزْ أن يِنْكِرَهُ إلا برضى الآخرين لأنه قد تعلق بهم
وأما إذا كان الإنكار ، إذا أنكر سيناله الأذى على نفسه فقط ، مثل من يقوم إلى سلطانٍ جائر فيأمره وينهاه ، فيقتله ، فنقول لا بأس إذا رضيت بذلك لنفسك فلا بأس بذلك ، وهذا خير الشهداء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام .
أما إذا أنكر سيُؤْذى غيره من النساء أو ستنتهك أعراض أو سيُؤْذى غيره من الناس ويُسْجَن فيكون هناك بلاء فإنه لا يجوز الإنكار باتفاق أهل العلم .
فإذا كان الإنكار بمثل هذه المسائل فإنه لا يجوز باتفاق أهل العلم لأنه قد تعدى الضرر ، وإذا تعدى الضرر فإنه لا يجوز إنكاره بمثل هذه التي فيها الإنكار بأبلغ ما يكون من أنواع الإنكار باليد .
فتحصَّلْنَا من ذلك أنَّ المصلحة والمفسدة منوطة بفهم بأهل العلم ، وأنَّ أهل العلم هم الذين يقدرون المصالح والمفاسد .
فلا يجوز لأحد أن يدخل في مثل هذه المسائل أصلاً إلا بفتوىً من أهل العلم ، وأهل العلم لا يُفتون في هذه الأمور بالجواز لأن تحريمها معلومٌ من أصول الشريعة لتَعَدِّي الضرر ولأن مفسدتها أعظم بكثير من المصالح التي تظن .
بل كثير من أبواب الخير وكثير من الأذى نال بسبب عمل من لم يأمر وينهى عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ ، والعباد يُؤاخذون بذنوبهم .(13/308)
المقام يحتاج إلى أيضاً تفصيلات في هذه المسائل لكن لعلنا نكتفي بذلك ، وتنظرون كتب أهل العلم في هذا وتجمعون الضوابط ، لأن من نفائس العلم معرفة الضوابط ، ضابط هذا الحكم ، لا تكن تأخذ المسائل بإجمال ، أو تكن عاطفتك في بعض المسائل غالبة على علمك .
لا بد أن يكون هناك غيرة وعلم متوازنة خاصة في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يتحقق طريق ونهج أهل السنة والجماعة فيما ذكر شيخ الإسلام هنا في قوله (ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) .
نكتفي بهذا القدر وأسأل الله جل وعلا لي ولكم الفقه في الدين والانتفاع بكلام أهل العلم .
قال ذكرتم أثناء الشرح انه لا يُنْكَر على المجتهد ، فهل إذا اجتهد أي أحد لا ينكر عليه ؟
لا ، المجتهد المراد أنه لا يُنْكَر عليه الذي هو من أهل العلم ممن يجوز له الاجتهاد ، أما إذا اجتهد جاهل أو شبيه الجاهل أو من ليس من أهل الاجتهاد فلا يجوز له أن يجتهد أصلاً فيُنْكَر عليه اجتهاده في مقابلة اجتهاد أهل العلم .
......
لا هذا غير صحيح إلا إذا أراد بمسائل الاجتهاد ما يدخل في فهم النصوص ، هذا يرجع إلى الأول .
ما رأيك في هذه القواعد في إقامة الحجة في التكفير والتبديع ؟(13/309)
ما أَحَبِذْ سؤال عن الرأي لأن الرأي مذموم ، ويُسْأَل عن هذه القواعد هل هي صحيحة أم لا حسب ما يقتضيه العلم ، أما الآراء لا يُسأَل الواحد عن رأيه ، أنا رأيي لنفسي ، لكن للناس ما نذكُرُ لهم إلا ما يقتضيه العلم الذي عليه كلام أهله أو ما بيَّنَهُ أهل العلم من دلالات النصوص ، أما الرأي ما يذكر العالم رأيه ، يذكر فقهه في النصوص ، فهمه لكلام أهل العلم ، نعم ، لأن العلماء إنما هم أدوات ، العلماء وسطاء في إيصال معاني النصوص للناس ، هذه وظيفة العالم وهي خير وظيفة وأعظم وظيفة أن تُبَيِّنَ للناس معاني الكتاب والسنة ، ليس مكان العالم عندنا أن يذكر آراءَهُ ، الرأي لا قيمة له ، إلا أن يُعْمِلَ فهمه في فقه النصوص ويستنير بأقوال أهل العلم نعم ، أما الرأي المجرد والاستحسان وأرى كذا وهذا أحسن ، ترجيحات ونحو ذلك فهذا لا قيمة لها ، العلم قال الله وقال رسوله ، قال اصحابة هم أولو العرفان ، مثل ما قال ابن القيم أيضاً رحمه الله :
من رابع و الحق ذو تبيان و العلم أقسامٌ ثلاثٌ ما لها
وكذلك الأسماء للديان علمٌ بأوصاف الإله ونعته
و جزاؤه يوم المعاد الثاني و الأمر والنهي الذي هو دينه
جاءت عن المبعوث بالفرقآن والكل في القرآن والسنن التي
بسواهما إلا من الهذيان والله ما قال امرؤٌ متحذلقٌ
أعظم ما ينعم الله جل وعلا به على طالب العلم أن يعتني بكلام أهل العلم في فهمهم للنصوص ، يعتني بتصوير المسائل ، وفهمها ، وأحكام أهل العلم ، ويربط ذلك دائماً بالنص ، هذه من أعظم ما يكون من الفوائد .
المقصود قال هذه القواعد لإقامة الحجة في التكفير والتبديع :
- أولاً قولٌ وفعلٌ كفر ويكفر صاحبه من غير إقامة حجة مثل سب الله وسب الرسول .
- قولٌ وفعلٌ كفر ولا يكفر صاحبه إلا بعد إقامة الحجة عليه ، وإنما يبدع مثل تأويل الصفات .
- قول وفعل لازمه البدعة ولا يبدع صاحبه إلا بعد إقامة الحجة عليه مثل الموالد .(13/310)
- خلاف أفهام مبني على الأدلة مثل صلاة التراويح وغيرها ليس فيه تبديع ولا تكفير .
مثل هذا التفصيل أو مثل هذا التقعيد لا يَحْسُنْ أن يخوض فيه طلاب العلم في أجناسه ، بسبب أن مثل هذه التقعيدات سواءً فيما ذكر أو في غيرها تكون مبنية على الواقع ، والتقعيد أعمْ من رؤية الواقع ، يعني بعض المُقَعِّدِين ينظر إلى الواقع فيستخلص الأحوال ويقسمها بحسب ما عنده من الرأي أو ما عند طائفته من الرأي ، ثم بعد ذلك يقَسِّم على حسب الواقع الذي في زمنه ، مثل من يشاهد في زمن معين الحال كذا وكذا وكذا يقول نقسمهم حتى يكون رأيه صواباً ، هذا ليس مقتضى العلم ، مقتضى العلم أن تنظر إلى ما دلت عليه النصوص وكلام أهل العلم قبل حصول هذا الواقع المعين ثم تنزل كلام أهل العلم في فهمهم للنصوص على الواقع ، لا أن تجعل الواقع هو الأصل ثم تحمل الكلام والتقسيمات عليه ، هذا لا يسوغ لأنه تَعَدٍ ، ولهذا نقول نفهم كلام أهل العلم وتقعيداتهم وننزله على الواقع ، أما كثرة التقسيمات فيما ذكر فلا أفهم أنها قواعد .
يقول عند النظر إلى بعض الدول الإسلامية نجد أن الأحداث التي تصلنا عن طريق الوسائل الإعلامية ، أن هناك من الجماعات الإسلامية من يتبنى منهج العنف ، أو قَصْدْ العنف بالسلاح والتفجير فهل صحيح أن هذه الأفعال تتبناها الجماعات الإسلامية ؟ وإذا كان صحيحاً فهل يصح أن تطلق على هذه الجماعة جماعة إسلامية ؟(13/311)
هو الجماعة الإسلامية بحسب الاسم ، هم يسمون أنفسهم الجماعة الإسلامية ، مثل ما في مصر أو غيرها ، أو الجبهة مثلاً في الجزائر أو نحو ذلك ، هذه أسماء لم يطلقها الناس عليهم وإنما هم سمَّوا أنفسهم بتلك الأسماء ، و يُنْظَر في تلك الأفعال بحسب الأحكام الشرعية ، هم عندهم مخالفات في فهم مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، البحث معهم في الأمر والنهي وأصوله الشرعية وكلام أهل السنة فيه والمصلحة والمفسدة والقواعد المرعية في ذلك والرجوع إلى الراسخين في العلم فيه .
يقول كيف الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام (أفضل كلمة حق قيلت عند سلطان جائر أو كما قال) وبين دخول بعض الصحابة على حكام بني أمية وعدم إنكارهم عليهم ؟(13/312)
ولاة بني أمية - أحسن من أن يقال حكام ، نقول الولاة - ، ولاة بني أمية فيهم معاوية رضي الله عنه وأرضاه وهو ملكٌ خليفة وخير ملوك الأرض ، والصحابة رضوان الله عليهم خالطوا ، والولاة في الزمن الماضي وفي كل زمن لا شك أنهم عندهم حماية بولايتهم ، معاوية رضي الله عنه كان شديداً في أمر الولاية ، كان لا يتكلم الصحابة في حضرته لأنه كان له حق في ذلك ، وكان لا يرضى أن يتكلم أحد إلا بإذنه ، ومن الحوادث التي كانت في ذلك ذكرها المؤرخون وهي ثابتة أن أحد الصحابة كان في الكوفية ، أظنه حجر بن عدي ، أو عدي بن حجر (كيف وحجرٌ على الطريق) أظنه حجر بن عدي ، تكلم هو ومعه أصحابه في أمير الكوفة وأنكروا عليه مرة وهو يتكلم ونالوا منه فأمر معاوية أن يُبعثوا إليه ، وكان حجر هذا أحد الصحابة وأحد الفقهاء أو العباد منهم فأتى إلى الشام وهو في سبعة عشر نفراً من أصحابه ، فلما كانوا على مقربة من دمشق أرسل لهم معاوية جنداً من جنده فقتلوهم جميعاً ، ولما كانت بيعة يزيد بن معاوية قال للصحابة ، قال لأنس وابن عمر فيما أحسب أو لغيرهما ، قال إن أردتما الكلام فتقدما فإذا تكلمت فلا يتكلمن أحد بعدي ، فقالا ليس عندنا كلام ، فقام على المنبر معاوية رضي الله عنه وقال أيها الناس إني عقدت البيعة وولاية العهد لابني يزيد بن معاوية فقوموا فبايعوه ، وهؤلاء صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حاضرون ، يعني ينبئ بذلك على أنهم مقرون بذلك ، فقام الناس فبايعوا فما استطاع الصحابة أن يتكلموا في ذلك وإلا فيزيد ليس بذي حق في ولاية العهد ، ونحو ذلك لما جاء الأحنف بن قيس إلى معاوية رضي الله عنه وكان في مجلسه وقد غصَّ المجلس بالناس ، ومعروف أن الأحنف رئيس قبيلة وكان حكيماً من حكماء العرب ، فصاح معاوية فقال يا أحنف ما تقول في بيعتنا ليزيد ، الأحنف أُحْرِجْ فأسر لمعاوية بينه وبينه فقال يا أمير المؤمنين ، فيما بينه وبينه ، الناس لا(13/313)
يسمعون ، نخاف الله إن كذبنا ونخافك إن صدقنا ، نخاف الله إن كذبنا وقلنا إنه أهل ونخافك إن صدقنا فقلنا ليس بأهل ، هذا بينه وبينه ، معاوية رضي الله عنه استغل هذا فصاح في الناس قائلاً جزاك الله خيراً عن الطاعة يا أحنف ، أوهم أنه يقول إنها نعم البيعة ، ومضت المسألة .
فمسائل الولاة وما يتعلق بها وأمراء المؤمنين في الزمن الأول إلى الزمن الحاضر ينبغي لطلبة العلم أن يعتنوا بها وأن يقرؤوا التاريخ حتى يكون عندهم فقه كيف عامل العلماء الولاة في كل زمن و ما الذي يحصل من الولاة ونحو ذلك حتى تحصل المصالح وتُدْرَءْ المفاسد ، لأن تحصيل المصالح ودرء المفاسد أمر عظيم وقاعدة من قواعد الشريعة ولها ولا بد من رعاية و النظر في سبر الأولين ، فالصحابة رضوان الله عليهم خالطوا ولاة بني أمية ولم ينكروا عليهم إما لظنهم بأن الإنكار لا ينفع أو لخوفهم أو لضعفهم أو نحو ذلك مما يُوَجَّه به فعله ، قد تكون هناك مسائل إجتهادية بعضهم يراها منكراً وهي مسألة إجتهادية ، والمسائل الإجتهادية لولي الأمر أن يجتهد فيها أو الوالي أن يجتهد فيها ولا تكون من باب الإنكار .
أرجو التفريق بين المصالح والمفاسد والانتفاع وعدم الانتفاع ؟
المصلحة معروفة والمفسدة معروفة .
المصالح جمع مصلحة ، والمصلحة هي ما أُمِرَ به في الشرع وكان فيه أداء حق الله أو أداء حق العباد.
والمصالح راجعة إلى تحصيل حق الله جل وعلا أو تحصيل حق العباد أو هما معاً .
والمفاسد ضدها ، ما كان فيه تعطيل لحق الله جل وعلا أو تعطيل لحق العباد أو جرأة على حق الله أو على حق العباد .
فهذا وهذا متقابلان ، المصلحة تقابلها المفسدة .
الانتفاع وعدم الانتفاع يعني يغلب على ظنه أن ينتفع المُنْكَر عليه بالانكار ، يعني يستجيب ، ينتفع ، قلبه يصلح ، ينتهي عن المنكر ونحو ذلك .(13/314)
عدم الانتفاع يغلب على ظنه أنه سمع هذا الكلام مراراً ، يعرف أن هذه محرمة ، يعرف أنه لا يجوز يفعل هذا الفعل ولن يتأثر ، قلت له أو ما قلت واحد عنده لكثرة ما ورد عليه ، مثل ما يحصل الآن مثل الإنكار على حالق اللحية يعرفون حلق اللحية محرم أو على تارك صلاة الجماعة يعرفون أن ترك صلاة الجماعة محرم وبعضهم يكون مُسْتَمْرِئْ لذلك ، أو مثل كشف بعض النساء خاصةً من ليست من أهل هذه البلاد ، تكشف وجهها ونحو ذلك ، عندها الأمر سيان ، فمثل هذه هي التي يقال فيها ينتفع بمعنى يستفيد فيترك يُحَصِّلْ الخير ويترك الشر ، أو لا ينتفع بمعنى أن واحد عنده هذا أو هذا.
يقول ما الضابط في الخلاف الضعيف والقوي وقد يكون الخلاف عند شخص قوي وعند آخر ضعيفاً ؟
إذا كان الخلاف عندك قوياً فلا تُنْكِر وإذا كان الخلاف عندك ضعيفاً فأنْكِرْ ، فبحسب ظن المكلف ، بحسب ما بينه وبين ربه جل وعلا ، يعني هذا بشرط أن يكون متأهلاً للنظر في المسائل الخلافية .
نخشى الإطالة عليكم ، نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ.
وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ :"الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ".
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ.(13/315)
وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا"، وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِِهَا.
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذا الفصل الذي ابتدأه شيخ الإسلام بالكلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما تلا ذلك من المسائل شمل قسمين من الأقسام التي يُدْخِلُها جَمْعٌ من أهل السنة في العقيدة .
وهذان القسمان هنا هما :
- منهج التعامل
- والثاني الأخلاق
أو ما يسمى المنهج بعامة ، حيث إنهم خالفوا طُرُقَ أهل الضلال في سلوكهم في أنفسهم وفي سلوكهم مع غيرهم فاتبعوا في ذلك نصوص الكتاب السنة واقتفوا أثر الرعيل الأول .(13/316)
وهذا هو الذي سمَّاهُ بعض المعاصرين المواجهة ، فكلمة التعامل أو طريقة المواجهة أو طريقة الدعوة أو الأخلاق وما شابه هذه الألفاظ وما دلَّ عليها من المعاني هذه كلها داخلة في عقيدة أهل السنة.
فالعقيدة كما مر معك من أول الكتاب إلى هذا الموطن اشتملت على مباحث متنوعة :
منها مباحث أصلية في شرح أركان الإيمان الستة .
ومنا متممات لذلك كما مر معنا .
ومنها الكلام على منهج التلقي والاحتجاج بما يكون وهو الذي مرَّ معنا في الفصل السابق حيث تكلم عن النصوص والتسليم لها والإجماع وحجية ذلك ، وما ينضبط به الأمر وما يتصل بهذه المسائل .
في هذا الفصل يتكلم الإمام رحمه الله تعالى عن أصول مسائل التعامل وهي من عقيدة أهل السنة والجماعة ، فعقيدة أهل السنة والجماعة أَتْباعْ السلف الصالح فيها طريقتهم في التعامل مع الخلق ، مع المسلمين ومع منافقين ومع الكافرين ، وكذلك في أصناف المسلمين تعاملهم مع ولاتهم ، تعاملهم مع علمائهم ، تعاملهم مع خاصة المسلمين و أتقيائهم ، وتعاملهم مع بقية أهل الإسلام من المطيعين ، وتعاملهم مع عصاة أهل الإسلام .
فهذه الأنواع من أصناف الناس كلها لأهل السنة والجماعة ضوابط في مواجهتهم وأمرهم ونهيهم وما ينضبط به الأمر ، لأن هذه المسائل دخل فيها أهل الابتداع وأهل الضلال من الخوارج والمعتزلة والرافضة ومن شابههم من الفرق القديمة والحديثة ، دخلوا فيها بأهوائهم ، فكان من مميزات أهل السنة والجماعة أن لهم منهجاً واضحاً في التعامل مع الخَلْقْ ، التعامل مع الناس ، وهذا من صلب العقيدة ، ودليل ذلك ظاهر في كتب أهل السنة القديمة والحديثة والمتوسطة ككتاب شيخ الإسلام العقيدة الواسطية وغيره .(13/317)
فإذن هذه المسائل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحج مع الأمراء والجهاد مع الأمراء والجُمَعْ والجماعات مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً والمحافظة على الجُمَعْ والجماعات والدَّيْنُونَةْ للأمة بالنصيحة وما شابه ذلك هذه كلها منهج لأهل السنة والجماعة تميزوا به عن غيرهم .
ومسائل الأمر والنهي سبق تفصيلها فيما مضى .
وذكر بعدها ما يتعلق بالأمراء وولاة الأمر
قال (وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا)
هذه هي السُنَّةُ الماضية فإنَّ فالنبي عليه الصلاة والسلام روي عنه كما في السنن أنه قال (الحج والجهاد ماضيان مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً) وفي إسناده بحث ، وأجمع أهل السنة على هذا الأصل لمَّا قَرَّ القرار وأنه لا يجوز الخروج على الولاة ولا يجوز التخلف عن حضور الجماعات معهم ولو أخَّرُوا الصلاة قال فيها عليه الصلاة والسلام (صل الصلاة لميقاتها وصلها معهم فإنها لك نافلة) وكذلك الجهاد معهم لأن بر الأمير أو فجور الأمير هذا يرجع إلى نفسه .
وقد قال ابن المبارك رحمه الله تعالى :
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبلٌ
في الأبيات المشهورة عنه .
وقال الحسن رضي الله عنه ورحمه ، الحسن البصري ، قال (إن ما يصلحون أكثر مما يفسدون)
وهذا الأصل عام عند أهل السنة والجماعة في كل أمير ووالٍ ما دام أنه لم يخرج عن الإسلام ، فإذا خرج عن الإسلام وكفر بالله جل وعلا كان البحث بحثاً آخر ، لكن ما دام أنَّ اسم الإسلام باقٍ عليه ولو كان معه ليس إلا القدر الذي يصح معه بقاؤه على الإسلام فإن الحج ماضٍ معه والجهاد ماض معه والجمعة ماضية معه والجماعات كذلك والأعياد ، وذلك سواءٌ أكان صالحاً أم طالحاً ، فاسقاً معلناً بالفسق أم مستتراً بالفسق ، الأمر عندهم واحد في ذلك .(13/318)
والنصوص الدالة على هذا الأصل كثيرة جداً في أن طاعة ولاة الأمور واجبة والخروج عليهم محرم والصلاة معهم وإقامة الحج والجهاد هذا من طريق أهل السنة فقد روى البخاري في صحيحه أن ابن عمر كان مُفْتِياً في الحج من جهة أمير المؤمنين من ولاة بني أمية ، وكان الذي في إمرة الحج الحجاج بن يوسف الظالم المبين ، وكان ابن عمر يدخل عليه ويستشيره ويكون معه وإياه بحث في أمور الحج والفتوى ، روى البخاري في صحيحه (أن ابن عمر في الحج كان يصلي خلف الحجاج وكان يقول للحجاج اقعد ، قال الحجاج في هذه الساعة ، قال نعم سنة أبي القاسم صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
فالصلاة خلف الضال وخلف المفسد وخلف المُقَتِّل لأولياء الله كالحجاج ونحو ذلك هذا من سمة أهل السنة فلا يتخلفون عن الاجتماع العام في الصلاة وما شابهها لأجل ظلم الأمير أو لأجل فسقه في نفسه أو في الأمة أو ظلمه في نفسه أو ظلمه الأمة أو تقتيله للصالحين أو للناس وما شابه ذلك ، فإن بقاء الهيبة وبقاء اتباع الأمر فيه من المصالح عند أهل السنة والجماعة ما هو راجح على مصلحة ترك الظالم والبراءة منه والبعد عنه .
لا يُتَابَع في ظلمه ولكن يُتَعَاوَن معه على ما أمر الله جل وعلا من البر والتقوى ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? .
والسلف رضوان الله عليهم كان لهم في مسألة الخروج على الإمام في أول الأمر كان لبعضهم اجتهاد خالف فيه النصوص .
وهذا الاجتهاد منه لا يُتَّبَع فيه بل ينسب إليه وليس طريقاً لأهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ، بل يقال هكذا فَعَلَ الصحابي مثلاً فلان أو هكذا فعل التابعي فلان أو هكذا فعل تبع التابعي فلان فيما خرجوا به على الوالي لتأويلٍ نظروا فيه .
والذين يخرجون على الولاة بالسيف قسمان :(13/319)
القسم الأول البغاة : وهم الذين يخرجون على الإمام بتأويل سائغ ، لهم تأويل إمَّا في المال أو لهم تأويل في الدين ونحو ذلك فهؤلاء يُسَمَون البغاة كما قال الفقهاء في تعريف البغاة في قتال أهل البغي قالوا (وهم الذين خرجوا على الإمام بتأويل سائغ) ، فإن كانوا خرجوا بتأويل غير سائغ فهم المحاربون الذين جاء فيهم حد الحرابة .
والصنف الثاني من الذين يخرجون على الولاة الخوارج الذين يتبعون عقيدة الخوارج الأُول ، فليس كل من خرج على الإمام الحق ، على ولي الأمر المسلم خارجياً بل قد يكون باغياً له تأويله ويُقاتَل حتى يفيء إلى أمر الله جل وعلا ، وقد يكون خارجياً ، والخارجي له أحكام الخوارج المعروفة وهم الذين يخرجون على الإمام لأجل معتقداتهم في ذلك .
والنصوص الدالة على وجوب السمع والطاعة كثيرةٌ معروفة مشهورة كقول الله جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً? ، وكما ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام قال (من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني) ، وثبت عنه أيضاً عليه الصلاة والسلام أنه قال (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر) وهذا فيه عموم ، قال أهل السنة إن هذا يشمل الأقوال والأعمال والاعتقادات .(13/320)
من رأى من أميره شيئاً يكرهه من الأقوال المخالفة للحق أو الأعمال المخالفة للحق أو الاعتقادات المخالفة للحق فسلك سبيل المبتدعة ، فإنه يجب الصبر ولا يجوز نزع اليد من الطاعة كما فعل الإمام أحمد مع ولاة بني العباس مع أنهم كانوا في شر مقالة أخذوا الناس بها ودعوا الناس إليها ، وقتلوا وحبسوا فيها من حبسوا فكانت طريقة الإمام أحمد أنه لم ينزع يداً من طاعة بل نهى ابن نصر الخزاعي في طريقته ورغبته في الخروج على الوالي حتى قُتِلَ الخزاعي في ذلك ، ولما قيل للامام أحمد في ذلك ما هو معلوم ، قيل له (ألا ترى ما الناس فيه ألا ترى هذه الفتنة - يعني فتنة الإبتلاء بخلق القرآن ، وفتنة الناس فيه - ألا ترى هذه الفتنة ، قال هذه فتنة خاصة وإذا وقع السيف وسالت الدماء صارت فتنة عامة ، إياكم والدماء ، إياكم والدماء ، إياكم والدماء) وجعل ينفض يديه كالكاره لذلك أشد الكراهية .
وقوله عليه الصلاة والسلام هنا (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر) كما هو معلوم في الأصول أن كلمة شيئاً نكرة جاءت في سياق الشرط فتعم الأشياء التي تُكْرَه ، ولهذا جاء في حديث آخر في الصحيح (أطع الأمير وإن جلد ظهرك وأخذ مالك) وذلك لأن ضرره يكون محدوداً أو الفتنة التي تحصل به أو الظلم الذي يحصل منه يكون محدوداً ، أما إذا عمّ َونُزِعَت اليد من الطاعة فإنه يكون ذلك مُسبباً لأنواع من الفساد .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلام له ، قال (ولم تخرج طائفة على ولاة الأمر إلا وكان ما أفسدوه بالخروج عليه أعظم مما ظنوه من الصلاح) وهذا جَرَّبَهُ من جَرَّبَهُ في عصر التابعين ومن بعدهم فما نفع .
ولهذا ذكر بعضهم كالحافظ ابن حجر أن الخروج على الوالي كان فيه قولان عند السلف ، ثم استقر - هذا تعبير الحافظ ابن حجر - قال ، ثم استقر أمر أهل السنة والجماعة على أنه لا يجوز الخروج على الولاة وذكروا ذلك في عقائدهم .(13/321)
وهذا الذي قاله من أنه ثَمَّ قولان فيه للسلف ، هذا ليس بجيد بل السلف متتابعون على النهي عن الخروج ، لكن فعل بعضهم ما فعل من الخروج وهذا يُنْسَبُ إليه ولا يعد قولاً لأنه مخالف للنص ، فالنصوص كثيرة في ذلك ، كما أنه لا يجوز أن ننسِبَ إلى من أحدث قولاً في العقائد ولو كان من التابعين أن يقول هذا قول للسلف ، فكذلك في مسائل الإمامة لا يسوغ أن نقول هذا قول للسلف لأن من أحدث القول بالقدر كان من التابعين ، ومن أحدث القول بالإرجاء كان من التابعين ، من جهة لُقِيِه للصحابة ، لكن رُدَّ ذلك ، رُدَّتْ تلك الأقوال عليه ولم يُسِغْ أحد أن يقول قائل (كان ثم قولان للسلف في مسألة كذا) فكذلك مسائل الإمامة أمر السلف فيها واحد ومن تابعهم ، وإنما حصل الاشتباه من جهة وقوع بعض الأفعال من التابعين أو تبع التابعين أو غيرهم في ذلك ، والنصوص مجتمعة عليهم لا حظ لهم منها .
(وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ) الجهاد مضى مع كل الولاة .
أهل الحديث والسنة لم يتخلفوا عن الجهاد في أي فترة من فترات تاريخ الإسلام ما دام أن الوالي الذي أمر بالجهاد مسلم .
انتهى الشريط الثامن و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط التاسع والعشرون
أهل الحديث والسنة لم يتخلفوا عن الجهاد في أي فترة من فترات تاريخ الإسلام ما دام أن الوالي الذي أمر بالجهاد مسلم ، أو حثَّ عليه ، أو كان الجهاد في زمنه ، فهم لا يتخلفون عن الجهاد أو يقولون لا جهاد اليوم لأجل أن الوالي فيه كذا أو أن ولي الأمر فيه كذا من الظلم والطغيان ونحو ذلك كما كان من بعض ولاة بني أمية وبعض ولاة بني العباس فمن بعدهم .
كذلك الجُمَعْ والجماعات ماضين مع الأئمة .(13/322)
وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيكون أمراء كما جاء في صحيح مسلم وغيره قال (سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، قالوا فما تأمرنا ؟ قال صلوا الصلاة لوقتها ثم صلوها معهم فإنها لكم نافلة (وقد ذكر ابن عبدالبر في التمهيد أن بعض ولاة بني أمية كانوا يحبسون الناس في صلاة الجمعة فلا يخرجون إلى صلاة الجمعة إلا قريب العصر وكان الصحابة في الناس وكان التابعون وسادات التابعين وعلماء التابعين في الناس وكان الشُرَطُ يقفون على الرؤوس أن لا يصلي أحد قبل إتيان الأمير فكانوا يَلْقَونَ من ذلك عنةً وشدة ، قال ابن عبدالبر فكان بعضهم يصلي إيماءً خشيةً من ذهاب الوقت) .
فكانت المسائل هذه في الزمن الأول شديدة ، في مسائل الصلاة و العبادة وكان الأمر ما يراه الأمراء في ذلك الزمان ومع ذلك كانت طريقة أهل السنة واحدة لأن النصوص دلَّت على شيء عام ونهت عن شيء محدد فلزموا ذلك ولم يختلفوا فيه مع تغير الأحوال في الأزمنة المختلفة .
قال (مَعَ الأُمَرَاءِ) والأمير يشمل ولي الأمر ويشمل الأمير الذي جعله ولي الأمر أميراً سواءً كانت إمارة حَضَرْ أو إمارة سفر .
فالأمير هو من جُعِل يأمر على من عنده ، فهذا إذا كان أميراً بالولاية العامة أو كان أميراً بالولاية الخاصة فإنه ينعقد له الأمر براً كان أم فاجراً .
وقد صلى ابن مسعود رضي الله عنه وغير ابن مسعود مع بعض ولاة الكوفة بعثمان وكان منهم من يشرب الخمر فكان يصلي بهم الفجر أربعاً ونحو ذلك كما هو معلوم .
المقصود من ذلك أنَّ بِرَّ الأمير أو فجوره هذه ليس لها نظر من جهة الطاعة ، طاعة الأمير ، فيطاع سواءً كان صالحاً أو فاسداً ، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوامٍ لا خلاق لهم) .
والإمارة أو الولاية أو الإمامة هذه تنعقد عند أهل السنة والجماعة بواحد من أمور :(13/323)
الأول ببيعة أهل الحل والعقد له واختيارهم له - اختيارهم له ثم بيعتهم له - وهي التي يسميها أهل العلم ولاية الإختيار ، وهذه هي أفضل أنواع الولاية لو حصلت لا يُعْدَلُ عنها إلى غيرها ، ولاية الإختيار ، أن لا يكون على الأمة إلا من يُختَارْ لها .
وولاية الإختيار هذه منها ولاية أبي بكر رضي الله عنه ، ولاية عمر ، ولاية عثمان ، الخلفاء الراشدين وكذلك ولاية معاوية بن أبي سفيان لما تنازل له الحسن بالخلافة فإنها كانت ولاية إختيار ، ثم بعد ذلك لم يَصِرْ ولاية إختيار إلا في أزمنة محدودة وفي أمكنة متفرقة ليست عامة ولا ظاهرة .
النوع الثاني ولاية الإجبار ، وولاية الإجبار تُسمَّى أيضاً ولاية التغلب ، وهي أن يغلب أحدٌ على المسلمين بسيفه وسنانه ويدعو الناس إلى بيعته فإنه هنا تلزم بيعته لأنه غَلَبَ .
وهذه تسمى ولاية تَغَلُبْ كما في شرح الطحاوية وفي غيرها وفي كتب الفقه .
هذا النوع ولاية التغلب تلزم به الطاعة وجميع حقوق الإمامة ، لكن هذا ليس هو الأصل وليس مُختاراً بل هذا لدرء الفتنة والالتزام بالنصوص فإن النصوص أوجبت طاعة الأمير وعدم الخروج عليه ، وهذا غلب على الناس ودعا الناس إلى طاعته فلا يجوز أن يُتخلَّفَ عن مبايعته .
مما حصل في أنواع الوِلاية في زمن الخلفاء أن أبابكر رضي الله عنه وَلِيَ بنص من رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وبالاجتماع عليه ، وعمر وَلِيَ بنص من أبي بكر رضي الله عنه ثم بالاجتماع عليه وعثمان رضي الله عنه وَلِيَ بجعل عمر الولاية في ستة نفر ، اختاروا عثماناً من بينهم ثم بايعه الناس وعليٌ رضي الله عنه لم يجتمع الناس عليه وإنما بايعه من كان في المدينة وبايعه غيرهم .(13/324)
هذا فيه أن الولاية الشرعية تحصل بالتنصيص عليه من الوالي قبله ، وهو الذي أخذه معاوية رضي الله عنه حين عقد بيعة ليزيد بن معاوية في حياته ولايةً للعهد ، ولما عقد البيعة ليزيد ولايةً للعهد لَزِمَتْ ذلك في حياته واستمرت بعده .
فولاية التنصيص هذه إن كان بعدها اختيار من أهل الحل والعقد صارت ولاية إختيار ، وإن كانت من جهة الغلبة أنه لا يستطيع أحد أن يخالف وإلا لفُعِلَ به وفعل صارت ولاية تغلب .
ولهذا يعدون ولاية يزيد بن معاوية من ولاية التغلب لا من ولاية الاختيار بخلاف معاوية رضي الله عنه فإنه خير ملوك المسلمين وولايته كانت بالاختيار لأن الحسن رضي الله عنه تنازل له عن الخلافة وعن إمرة المؤمنين فاجتمع الناس على معاوية سنة واحد وأربعين وسمي ذلك العام عام الاجتماع أو عام الجماعة .
المقصود من ذلك أن حصول الولاية الشرعية يكون بأحد هذه الأشياء .
ولاية الاختيار وولاية الإجبار ، أو ولاية التغلب فيها أفضل وفيها جائز :
أما الأفضل فأن تجتمع في الوالي ، أن تجتمع في ولي الأمر ، في الإمام الشروط الشرعية التي جاءت في الأحاديث ، من مثل أن يكون قُرشياً عالماً وأن يكون سليماً من خوارم المروءة أو نواقض العدالة أو سالماً من الفسق يعني صالحاً ونحو ذلك من الشروط المعتبرة العامة التي تكلم عليها الفقهاء .
هذه في ولاية الإختيار .
يشترط في الوالي أن يكون قُرشياً ، في أي ولاية ؟
في ولاية الاختيار .
أما ولاية التغلب فإنما هي لدرء الفتنة فيُقَرُ الوالي ولو كان عبداً حبشياً كما جاء في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (اسمع وأطع ولو كان عبداً حبشياً مُجَدَّعْ الأطراف كأن رأسه زُبيبَةْ)
وهذا في ولاية التغلب .(13/325)
والرواية الثانية - هذه وإن كان هذه عامة - والرواية الثانية قال (وإن تَأَمَرَ - فيها - وإن تأمر عليكم عبد حبشي) وفي رواية (وإن أُمِرَ عليكم حبشي) وهذه كلها فيها بيان أن فقد الشروط المعتبرة : الأئمة القرشية ونحوها هذه إنما ، يعني إجتماع هذه الشروط يكون في ولاية الإختيار أما في ولاية التغلب فلا يُنظَر إلى هذه الشروط لأن المسألة مسألة غلبة بالسيف .
فينبغي تحرير هذا المقام وظهور الفرق بين ولاية الإختيار وولاية التغلب وكلٌ منهما ولايةٌ شرعية عند أهل السنة والجماعة يجب معها حقوق الأمير كاملةً .
النصوص أوجبت طاعة ولاة الأمر كما جاء في قول الله جل وعلا ?أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ? قال ابن القيم رحمه الله وغيره طاعة ولاة الأمر تبع لطاعة الله ورسوله ليست استقلالية لأنهم ليست جهات شرعية وإنما الشرع يُؤخذ من الله جل وعلا ومن رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وأما ولاة الأمور فطاعتهم تبع لطاعة الله وطاعة رسوله فليس لهم الحق في أن يُحِلُّوا حلالاً ولا أن يُحرِّموا حرماً ولا أن يأمروا بما لم يبحه الله جلَّ وعلا ، فإن أمروا بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
يعني أن طاعة ولاة الأمور طاعةٌ واجبة في غير المعصية .
هذا الذي دلت عليه النصوص أن الأمير يطاع في غير المعصية ، والنصوص ما فرَّقت بين ولاة العدل وولاة الجور فإنها عامة في كل أمير وَلِي .
وهكذا عقائد أهل السنة يطلقون ويقولون براً كان أم فاجراً ويرون حقوقه كاملة سواءً كان براً أو فاجراً وذلك يعني سواءً كان عادلاً أم ظالماً ، فالنصوص أوجبت الطاعة وحرَّمت الخروج وحرَّمت طاعة الأمير في المعصية لأن حق الله جل وعلا أوجب فإذا أمر بمعصية فلا يطاع .
نفهم من ذلك أن أهل السنة والجماعة قالوا إن طاعة الأمراء تكون في أربعة أشياء من الحكم التكليفي :(13/326)
تكون في الواجبات ، وفي المستحبات ، وفي المباحات ، وفي المكروهات .
وهذه الأربعة جاريةٌ أيضاً في حق ولاية الوالد على ابنه فإنه يُطاع في الواجب ويُطاع في المستحب ويُطاع في المباح وُيطاع في المكروه ، إذا قال لك افعل كذا وهو مكروه فإن طاعته واجبة وفعل المكروه لا إثم فيه فيُرجَّح جانب الواجب لأنه أرجح من جهة الحكم .
يبقى الحكم التكليفي الخامس وهو ما نُهِيَ عنه نهي تحريم فإنه لا يُطاع فيه إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
بعض أهل العلم فرَّقَ وقال الولاة قسمان :
ولاة عدل وولاة جور .
- ولاة العدل يطاعون في غير المعصية .
- وأما ولاة الجور فلا يُطاعون إلا فيما يُعلم أنه طاعة ، أما ما لا يُعلم أنه طاعة فإنهم لا يطاعون فيه ، لأنه لا يُؤمَن أن يأمُر العبد بمعصية ،فلا بد أن تعلم أن هذا طاعة حتى تطيع .
وهذا القول فيه مخالفة للنصوص ، وهو موجود في بعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
وشيخ الإسلام حين ذكر هذا الكلام أراد به مَنْعَهُ حين مُنِعَ من القول بعقائد السلف الصالح ، ومَنْعْ شيخ الإسلام رحمه الله إذ ذاك فيه معصية إذ لا أحد في وقته قام بنشر عقيدة السلف الصالح إلا هو ، فلو مُنِع هو - هذا بحسب كلام شيخ الإسلام - فلو مُنِع هو واستجاب للمنع مطلقاً فإنه يكون انطفاء لعقيدة السلف الصالح ، وقد رأى في وقته أنه لا أحد يقول بعقيدة السلف الصالح وينشرها بين الناس .
فلهذا ذكر شيخ الإسلام هذا التفريق وهو من اجتهاداته وأكثر أهل العلم على خلافه .(13/327)
وشيخ الإسلام معذور فيما قال لأنه رأى ما تشتد الحاجة إليه في وقته بل هو من الضروريات ، أعظم من حاجة الناس إلى الأكل والشرب والمسكن والملبس أن يُبَيَّن لهم عقيدة السلف الصالح وليس ثَمَ من يقوم بها في وقته بل منذ انتهاء القرن الرابع الهجري لا أحد يقوم بعقيدة السلف الصالح بظهور وتفصيل إلا ما كان من أفراد ليس لهم جُهدُ وجهاد ، لكن - يعني أفراد قليلين لهم تصنيفات وكذا لكن ليسوا بمرتبة شيخ الإسلام في الظهور والبيان - والنبي عليه الصلاة والسلام وعد هذه الأمة بأنه لا يزال طائفة منها ظاهرة على الحق .
هذا التفريق بين الطاعة ، طاعةٌ للإمام العدل في غير المعصية ، طاعة للإمام الجور والظلم فيما يُعْلًم أنه طاعة ، هذا التفريق غير صحيح لأنه مخالف للنصوص ، إلا في حالة واحدة ، بل نقول إلا في حالة معينة وهي انه ليس ثَمَّ من يقوم بتبيين الناس الواجب عليهم من جهة الإعتقاد ومن جهة العبادة .
إذا كان ليس ثَمَّ من يقوم بتبيين ما يصحح للناس عقيدتها وعبادتها فإنه يقال إنه لا يطاع في ذلك لأن طاعته في ترك بيان العقيدة المتعيَّنَة على هذا الفرد أو بيان العبادات المتعينة على هذا الفرد هذه معصية ، رجع الأمر إلى الحال الأولى ، فصارت المسألة أن ما دلت عليه النصوص أن الولاة يطاعون في غير المعصية في الأحكام الأربعة التكليفية وإذا أمروا بمعصية فلا يطاعون .
قال في وصف أهل السنة والجماعة (وَيُحَافِظُونَ عَلَى الجُمَعِ الْجَمَاعَاتِ)
وهذا الوصف لهم منهج ، من منهجهم وطريقتهم وسلوكهم أنهم يحافظون على الجُمَعِ والجماعات مخالفين في ذلك طوائف الضلال .
" فأول الطوائف التي خالفوها بهذا الوصف طائفة المنافقين ، فإن المنافقين لا يحضرون الجماعات ولا يحضرون الجُمَع إلا ما اشتهوا .
" والطائفة الثانية التي خالفوها الروافض الذين يقولون لا جمعة ولا جماعة إلا مع الإمام المعصوم.(13/328)
" والطائفة الثالثة التي خالفوها الخوارج لأن الخوارج لا يصلون إلا خلف من كان على مثل عقيدتهم.
" والطائفة الرابعة الذين لا يصلُّون إلا خلف من يعلمون عقيدته في الباطن .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضع (ومن قال لا أصلي الجماعة ولا الجمعة ولا العيد إلا خلف من أعلم عقيدته في الباطن فإنه مبتدع مخالف لقول الأئمة الأربعة ولسلف الأمة) .
وهذا موجود في الزمن الأول وموجود في هذا الزمن ممن يُسَمَّون جماعة الوقف الذين يجعلون الناس لا تُعْلَمُ عقائدهم - يعني مستورون - إلا من ظهر أنه موحد أو ظهر أنه مشرك ، ومن لم يظهر توحيده أو شركه فهذا موقوف أمره فلا يُصلَّى خلفه حتى تُعْلَمَ عقيدته في الباطن .
هذا قولٌ مُبتَدَع مخالف لطريقة أهل السنة فإن أهل السنة والجماعة يجعلون الأصل في المسلم الإسلام ، ما دام أنه لم يظهر منه مُكفِّر ولم يظهر منه مخرج من الملة فإن الأصل فيه الإسلام ، فلا نشترط في الذي يصلي أن تُعلَمَ عقيدته الباطنة ، ونقول هذا ما ندري عنه فلا نصلي خلفه حتى نعلم حاله في الباطن واعتقاده في الباطن .
هذا باطل لأنه نصلي ونحافظ على الجُمَعِ والجماعات ، وقد صلى أئمة السلف خلف الجهمية في الجُمَع ، وصلوا خلف بعض المعتزلة وصلوا الجمع والجماعة خلف بعض غلاة المرجئة ونحو ذلك كما ذكره الأئمة عنهم ، منهم ابن تيميه وغيره ، ذَكَرَ ذلك عن السلف .
وهذا القدر متفق عليه بين السلف لأنهم يصلون خلف الإمام الذي يصلي بالناس الجمع والجماعة ، وإنما تنازع السلف في مسألة هل تعاد الصلاة أم لا ؟
هذه مسألة أخرى .
يعني الصلاة خلفهم تصلي ، خلف من يصلي بالناس ما تفارق الجماعة والجمعة .
لكن هل تعاد الصلاة خلف من ظهر منه عقيدة مكفرة كالجهمية والمعتزلة أم لا تعيد الصلاة ؟
على قولين عند الإمام أحمد وعند غيره معروفة في الفقه .(13/329)
لكن من جهة الأفضلية إذا كان ثَمَّ من سيتقدم بدون ولاية للصلاة ، ثَمَّ من يتقدم وهو لا تُعلم عقيدته وهناك من يُعلم أنه صحيح العقيدة متابع لطريق السلف موحد فإنه يُقدَّم على من تُجهل عقيدته ، لأنه لا يجوز الصلاة خلف مبتدع إذا كان المجال مجال اختيار ، أما إذا كان في المسألة إمامة بولاية - يعني الإمام اللي امعينه - هو الإمام فإنك تصلي وراءه محافظة على الجمع والجماعة والعيد
.......
هذه مسألة إجتهاد ، عُرِض علينا أسئلة في هذا من مثل بعض مناطق أفريقيا ونحو ذلك ، يكون الكثرة الكاثرة لا يكفرون بالطاغوت ، فهذا ما العمل فيه ؟
هل يُحافظ على الصلاة أم تُترك الصلاة معهم ؟
الظاهر من الحال أنهم إن تمكنوا من مسجدٍ يؤمون فيه بعضاً 1
لكن في منطقة أكثرهم مثل ما نقول مشركون والغالب فيهم أنهم لم يحققوا ولم يكفروا بالطاغوت ثُمَ يعني يصلي وله صلاته ولذاك صلاته ، وارتباط صلاة الإمام بالمأموم فيها خلاف كما هو معروف والصواب أن المأموم له صلاته والإمام له صلاته ، وقد سُئل في ذلك سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز فقال اجتهدوا في الأمر .. تجدون يعني مكان تصلون فيه إماماً مسجد لكم فإذا ما وجدتم صلُّوا خلفهم وصلاتكم لله مقبولة إن شاء الله .
......
هذه مسائل عملية يختلف فيها الوضع لأنه بعض الأحيان يكون هناك حرج شديد في هذه المسألة ، لأنه يعلمون أن هذا يحضر الموالد التي يذبح بها لغير الله ، يحضر الذبح لغير الله ولا يُغيِر أو إذا عُرِضَت مسائل التوحيد كان من المنفرين عنها ، هذا ما كفر بالطاغوت ، وهذا مشرك من جنس المشركين ، بل قد يكون إذا كان من العلماء أو من القراء أشد فتنة وأعظم شركاً من العامة ، فهذا هو الذي يحصل فيه إشكال .
على العموم إذا عَرَضْ من ذلك شيء فيحصل فيه استفتاء للمفتين فيُجابون بالصواب إن شاء الله .
قال (وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ) .(13/330)
الجُمَلْ الأُوَلْ هذه في منهج التعامل مع ولاة الأمور ومع من يلي الإمامة ، وأولها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع العصاة ، مع المبتدعة وغيرهم ، ذكرنا أمورها .
ننبه هنا على كلمة انتشرت في هذا الزمن وهي قول بعضهم (إننا نحتاج في هذا الزمن إلى عقيدة سلفية ومواجهة عصرية) ويقول (العقيدة على عقائد السلف والمواجهة تكون مواجهة تناسب العصر) وهذه الكلمة قالها بعض الإخوان المعاصرين وهي غلط على السلف الصالح وعلى عقيدة السلف الصالح لأن كلمة مواجهة عصرية هذه كلمة مجملة .
ماذا يراد بكون المواجهة عصرية ؟
إن كان المراد بالوسائل ، يعني مثلاً بالشريط وبالردود وبالدعوة وبالمكاتب التي تُفتح ونحو ذلك فهذا صحيح ، هذه وسائل قد يتوسع الناس فيها .
أما إذا كان المراد بعصرية المواجهة أن تُحدث أنواع من الإنكار ليست على عقيدة السلف أو أن يُواجَهْ الولاة بطرق جديدة ليست على منهج السلف فإن هذا مخالف لمنهج السلف .
والعقيدة منها المواجهة ، مثل هذه الألفاظ ، العقيدة منها المواجهة ، عقيدة أهل السنة والجماعة أحد أجزائها طريقة المواجهة ، طريقة التعامل مع العصاة مع المبتدعة مع الولاة مع العلماء مع الناس مع أئمة الصلاة ونحو ذلك كما مرّّ عليك في هذا الموضع .
فالواجب إذاً أن يقال عقيدة سلفية ، لأن عقائد السلف شملت جميع ما نخالف به عقائد أهل الضلال وأهل البدع فلا حاجة إلى شيء عصري في المواجهة يخالف طرق الأولين .(13/331)
لأن قول القائل مواجهة عصرية هذه قد تدخل فيها صور جديدة في هذا الزمان مما يحدثه بعض المجتهدين وبعض الناس في هذا الأمر فيكونون غالطين على السلف غالطين على الأئمة ، بل الواجب أن تكون العقيدة التي منها مسائل الإيمان ، منها مسائل القدر منها مسائل الصفات الأركان كلها والكلام في الصحابة وأمهات المؤمنين والكلام في كرامات الأولياء والكلام في بقية المسائل العلمية ، وكذلك في مسائل منهج التلقي الكتاب والسنة والإجماع ونبذ العقل وكذلك في مسائل المواجهة والتعامل وكذلك في مسائل الأخلاق ، هذه خمسة أشياء عند أهل السنة والجماعة لا بد من رعايتها ، وإخراج المواجهة من عقيدة السلف الصالح هذا لم يسبق إليه أحد قبل هذا الزمان فيكون من جملة المحدثات .
قال (وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ) .
هذا لقول النبي عليه الصلاة والسلام (الدين النصيحة) وقوله يدينون يعني يتعبدون .
الدينونة تعبد ، دان بكذا يعني تعبَّد بكذا ، فهم يتعبدون بالنصيحة للأمة ، يعني يتقربون إلى الله جل وعلا بنُصح الأمة كما جاء في حديث تميم الداري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) .
2 النصيحة لله بإخلاص الدين له .
2 والنصيحة للنبي عليه الصلاة والسلام بمتابعة سنته وترك البدع .
2 والنصيحة لكتاب الله بتلاوته وتحكيمه وتحليل حلاله وتحريم حرامه .
2 والنصيحة لأئمة المسلمين بطاعتهم في غير المعصية وفي ترك الخروج عليهم .
2 والنصيحة لعامة المسلمين في السعي في إرشادهم للحق والهدى ومحبة الخير لهم والسعي فيما يصلحهم والتعاون معهم على البر والتقوى .(13/332)
فكلمة النصيحة هذه كلمة جامعة تشمل أصول الدين وتشمل فروعه ، تشمل التوحيد وتشمل المعاملات ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (الدين النصيحة) فجعل الدين محصور في النصيحة لأن حقيقة النُصْحْ إخلاص القول والعمل لله جل وعلا .
و إخلاص القول والعمل لله جل وعلا يتضمن أن يخلص المتابعة ، ويخلص اتباع الكتاب ، ويكون دائماً بالطاعة ودائماً بمحبة الخير للأمة .
فالنصح مثل ما قالوا إن النصح هو خالص الشيء ، هذا شيء نصيح يعني خالص لم تشبه شائبة .
والنصيحة للأمة أن تحب لهم الخير بأن لا يشوب تلك المحبة شائبة .
وقد قال هنا (وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) .
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً يعني المؤمن كامل الإيمان للمؤمن مطلقاً كالبنيان يشد بعضه بعضاً .
والمؤمن الأولى المراد بها كامل الإيمان .
والمؤمن الثانية المراد بها من معه مطلق الاسم لا الاسم المطلق .
فالأولى المراد بها الإيمان المطلق ، والثانية المراد بها مطلق الإيمان .
المؤمن كامل الإيمان للمؤمن من معه أصل الإيمان كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، ولذلك كَمَلَتْ الإيمان يدينون بالنصيحة للأمة ويسعون في ذلك ويرشدونها ويصبرون على ما أصابها ولو سبوهم وآذوهم ولمزوهم بما يلمزون به فإنهم يحبونهم وينصحون لهم ، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره (وددت لو أن الخلق أطاعوا الله وقُرِّضَ جسمي بالمقاريض) يعني بالمقصات الكبار هذه قُطِّع قُطِّع والناس أطاعوا الله لكان الأمر هيناً .
وهذا من عِظم محبته لهم ، وقد قال أيضاً فيما رُوِيَ عنه رحمه الله أنه كان يدعو في سجوده بقوله (يا رب - هذا الإمام أحمد - إن جعلت أحداً من خلقك فداءً لعصاة أمة محمد عليه الصلاة والسلام فاجعلني ذلك الرجل)(13/333)
وهذا أعظم ما يكون من المحبة للخلق والنصح لهم ، فإنه يود أنهم جميعهم دخلوا الجنة ولو كان هو أصابه ما أصابه .
و هذا من شدة المحبة التي تغلب على النفس وهذه هي المرادة هنا .
فالمؤمن كامل الإيمان يحب الخير لإخوانه ويصبر على ما جاء منهم و لا يكون كما يقال أنانياً أو محتكراً الخير لنفسه بل يحب لأخيه ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث الآخر الصحيح (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) والمراد هنا لا يؤمن أحدكم الإيمان الكامل ، لأن محبة الخير لإخوانك المؤمنين هذه من كمالات الإيمان ، واجبة أو مستحبة بحسب الحال ، لكنها من كمالات الإيمان ليست شرطاً في صحته .
قال (وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ")
قال (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ) يعني الذين كَمُل إيمانهم في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد .
أما ناقصوا الإيمان فإنهم ليسوا بمثل هذه المثابة ، ناقص الإيمان يكون عنده بغض لأخيه المؤمن ، ويكون عنده كراهية له وسعي ربما فيما يضره وأحقاد عليه ونحو ذلك .
لكن كامل الإيمان هو مع إخوانه في تواده وتراحمه وتعاطفه كمثل الجسد الواحد لأنهم شيءٌ واحد.
قال (وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ)
إلى آخره ، هذه في الأخلاق وهو القسم الأخير من العقيدة .
الأخلاق عند أهل السنة والجماعة أو أخلاق أتباع السلف الصالح نرجئ الكلام عليها إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى .
......
ما تفسير الكفر البواح الذي قال عنه الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (إلا أن تروا كفراً بواحاً) ؟
الكفر البواح هو الظاهر الغالب ، البواح ما يجمع صفتين : الظهور والغلبة .
يعني غلب وظهر .(13/334)
إذا رُؤي كفراً ظاهراً غالباً فإنه هنا يصبح الخروج مأذوناً فيه .
......
هو إذا قلنا إذا قال العلماء على روايتين أو على قولين وش يكون ؟
القول الأول بالإعادة والقول الثاني بعدم الإعادة .
لقد قلت أنه لم يكن هناك علماء يبينون الحق ومذهب أهل السنة في زمن شيخ الإسلام وهذا في نظري غير صحيح ، وذلك لوجود كثير من مشايخ شيخ الإسلام وتلاميذه ؟
هو يعني الكلام اللي ذكره صواب ، بقوله يعني من قال لم يكن هناك علماء يبينون الحق ومذهب أهل السنة في زمن شيخ الإسلام ، يعني بهذا اللفظ الاعتراض عليه صحيح ، لكن لو تأمل كلمتي أنا قلت لم يكن هناك من يُظهرون ، تذكرون هذه ، كررتها كذا مرة ، في ظهورهم ، كان هناك من قبله علماء صنفوا لكن لم يكونوا في ظهورهم بالحق وإظهارهم له بمثابة شيخ الإسلام ابن تيمية ، أما أنه هناك علماء ، فهناك علماء .
شيخ الإسلام ابن تيمية نشأ على غير مذهب السلف ، نشأ مبتدعاً ،لم يكن على طريقة السلف الصالح بل نشأ على غير طريقة السلف الصالح ، ومشايخه لم يكونوا على طريقة السلف الصالح ، يعني أكثر مشايخه إلا نُدَّر منهم .
هذه ذكرها عن نفسه قال في موضع في الفتاوى (وأما أنا فقد كنت في الأصلين على غير طريقة السلف الصالح) هذه موجودة النص في الفتاوى ، شيخ الإسلام إنما هداه الله جل وعلا لذلك متأخراً يعني بعد سنة تسعين ، ستمائة وتسعين ، يعني وعمره جاوز الثلاثين أو هو حول الثلاثين ، لم ينشأ على العقيدة الصحيحة ، ولذلك رأى الغربة ، وأكثر مشايخه من الحنابلة على طريقة السلف لكنهم في الصفات يفوضون ، في الصفات عندهم يفهمون مذهب أحمد أنه التفويض .
وهذا باطل .
فشيخ الإسلام كان يواجه أشياء عظيمة في زمنه رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة وجزاه عنا خير الجزاء .
ما هي أفضل الكتب التي تنصحون بقراءتها التي تتحدث عن طاعة ولي الأمر ؟(13/335)
كتب العقيدة بعامة كلها فيها هذا المذهب وهناك مصنفات مستقلة في ذلك يعني بين رسائل مختصرة ومطولة لكن كتأصيل هي في كتب العقيدة ، في شرح الطحاوية بحثٌ جيد وكذلك في لوامع الأنوار للسفاريني أيضاً كذلك جمع النصوص فيه وفي كلام شيخ الإسلام ابن القيم من ذلك الكلام الجميل المفيد .
بعض الناس يعتبر إنكار بعض المشايخ لبعض المنكرات الظاهرة في المجتمع كالربا وبعض المظاهر المخالفة لأصول الدين ، فيعتبرون من تكلم في ذلك وأنكره خارجاً عن الطاعة ، فما رأي فضيلتكم في ذلك ، أرجو الإجابة لأني محتار ؟
ما انحيره إن شاء الله ، مع الإجتهاد في طلب الحق ما في حيرة .(13/336)
إنكار المنكرات في المجتمع من الربا أو انتشار الفساد فيما يتعلق بالنساء أو نحو ذلك من المنكرات هذا إنكاره واجب شرعي لأن الله جل وعلا أوجب على هذه الأمة إنكار المنكر فقال جل وعلا ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ? وأمر بذلك فقال ?وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? فإنكار المنكرات التي تكون في المجتمعات هذا واجب شرعي على أهل العلم وعلى من يُوَجِّهْ الناس ، لكن إيجاب إنكار المنكر هذا واجب مستقل ، وإيجاب الطريقة في إنكاره هذا واجب مستقل ، فهناك واجبان : واجب الإنكار وواجب الطريقة ، مثل ما مرَّ معنا في كلام شيخ الإسلام قال (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَة)ُ ، يعني ليس المقصود الأمر والنهي هذا الواجب فقط بل الواجب أن يكون الأمر والنهي على ما توجب الشريعة ، فمثل هذه المعاصي والذنوب من الكبائر وغيرها ، الطريقة الشرعية فيها أنه يُنهى عن المنكر بدون نَظَرٍ إلى الواقع فيه ، فيقال الربا محرم ، يذكر الربا كحكم شرعي ، هذا هو الذي يجب شرعاً ، وما عدا ذلك من الأساليب وغير ذلك ، هذه هي التي يكون فيها النظر هل هي أساليب موافقة لطريقة أهل السنة أم غير موافقة ، لأن بعضهم يتخذ أساليب غير مأذون بها شرعاً مثل تحديد الواقع في المنكر ، يقول مثلاً المُنْكَر الفلاني وقع في هذه الجهة ، وقع مثلاً في الوزارة الفلانية أو وقع في المؤسسة الفلانية ، ويعدُّ هذا التشخيص من الإنكار للمنكر بطريقة شرعية ، وهذا غلط ، النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا بلغه شيء وأراد إنكاره كما جاء في عدة أحاديث كان يقول (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا) (ما بال أقوام يشترطون(13/337)
شروطاً ليست في كتاب الله) ونحو ذلك ، وهذه هي طريقة أهل العلم والدين من قديم الزمن ، يعني في عهد أئمة الدعوة إلى وقتنا هذا ، هذه هي طريقة السلف الصالح ، لأنهم ينهون عن المنكر النهي العام بسماع الناس عامة ، لكن لا يحددون من الذي أتى بالمنكر أو من الواقع فيه بل ينهون عنه لأن الحديث فيه من رأى منكم منكراً فليغيره بيده والآية فيها ?كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ? فثم واجبان : واجب الإنكار هذا متعين فلو تركت الأمة الإنكار لكانت أمة ملعونة كما لعن الله جل وعلا بني إسرائيل .
والواجب الثاني أن يكون إنكار المنكر من الخطيب أو من الداعية أو من الشاب في بيته أو في سوقه أو في أي مكان ، أن يكون الإنكار بطريقة شرعية .
إذا اشتبه عليه وهي من المسائل المشكلة في بعض المسائل ، ما هي الطريقة التي يسلم بها من الإثم ، لا بد من الإستفتاء .
وقد ذكرت لك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الدرس الماضي أنه كان يقول (إن الآمر والناهي إذا أمر ونهي وقد غلب على ظنه أن المصلحة راجحة وأن المفسدة مرجوحة فإنه يأثم) ، إذا غلب على ظنه بإنكاره أن المصلحة راجحة والمفسدة مرجوحة يأثم ، لم ؟(13/338)
(قال لأنه لا بد من اليقين) ما يُكتفى بغلبة الظن في هذا (لأنه لا بد من اليقين بتحصيل المصالح وبدرء المفاسد) تعلم أن المصلحة راجحة بيقين ، أما اتقول والله يمكن خل انسويها والله يمكن لعلها تنفع ، هذا تأثم به ، لأنك لا تدري ربما يحدث شيء أعظم مما نهيت عنه ، ودرء المفاسد كما هو معلوم مقدم على جلب المصالح ، فتترك الأمر حتى تتيقن أن فعلك فيه تحصيل المصلحة ودرء المفسدة ، فإذن تحصيل هذا الكلام لأن الناس في هذه المسألة ، يعني الشباب ما فهموا كلام المحققين من أهل العلم فظنوا أن إنكار المنكر في الدعوة أو في الخطب أو في المجالس ونحو ذلك أن هذا مخالف لطريقة السلف ، بل هذا غلط كبير على منهج السلف ، بل يجب إنكار المنكر لكن يجب أن يكون بالطريقة الشرعية ، هذه هي طريقة أهل السنة والجماعة .
فمن أوجب إنكار المنكر على أي طريقة هذا مخالف لطريقة أهل السنة .
ومن قال لا تنكر بل الإنكار على أهل العلم فقط في كل المسائل هذا غلط .
والصواب التفصيل :
فما كان من العلم - كما ذكرنا لكم في الدرس الماضي - ما كان من العلم مما يشترك فيه الناس هذا الإنكار ، إنكار المنكر والدعوة إليه واجب على من علمه .
وما كان خاصاً أو ما يتعلق بمصلحة عامة في الأمة فهذا مختص بالراسخين في العلم .
قال لقد قلت إن تحديد الجهة أو الوزارة التي فعلت المنكر لا يجوز وقد أنكرت ما قال عبدالفتاح الحائك في مجلة الشرق الأوسط ، كيف أجمع بين ذلك ؟
هذا يعني السائل يعني كأنه رابح شيء فاحتج بشيء وهو من عدم فهمه لما قلت ، النبي عليه الصلاة والسلام قال (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) .(13/339)
هذا مقال نُشِر في جريدة باسمه ، فإذا نَشَرَ أحد مقالا له باسمه فقد أعلن المنكر مع التعيين ، فهنا الذي فعل المنكر مُعَيَّنْ ، وانتشر في الناس ، فهذا يجب أن يُرد عليه بمثل طريقته ، هذه طريقة إنكار المنكر ، أما ما حصل في وزارة لا يعلمه أحد ، مثلاً حصل في جهة وخطوط السعودية شيء أو حصل في شركة الإسمنت شيء ، الناس ما يعلمون عنه ، عَلِمَهُ الموظف اللي فيه أو أحد الشباب اللي فيه فأتاني بالخطاب قال اقرأ هذا لأن فيه لا بد ننكر هذا المنكر باسم الذي فعله المدير الفلاني أمر بهذا الأمر ونحو ذلك مما هو في الجهة تلك ، فهذا نقول نعم هنا لا يجوز إنكاره إلا إذا شهره هو ، نشر في جريدة فلان بأي جهة سواءً كان كبيراً في المسؤولية أو صغيراً ، وزير أو غيره ، نشر منكراً في جريدة من الجرائد فهنا يُرد عليه بمثل طريقته ، لأن هذا هو ما يجب شرعاً (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) فيُرَدْ عليه ، أما إذا كان شيئاً خفياً ، ما علمه إلا طائفة وما استعلم به فإن هذا ، أو كان ما تعرف الجهة التي له ، أو كان ما يتعلق بمصلحة عامة بالأمة ونحو ذلك هذا إنما يكون فيه الأمر بتحديد المنكر دون فاعله مثل ما قال عليه الصلاة والسلام (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا) (ما بال أقوامٍ يشترطون) لأن الذي علم بهذا المنكر من ذلك الذي فعل فئة من المسلمين وليس كل المسلمين ، أما عبدالفتاح الحائك في مجلة الشرق الأوسط فهذا نشر تلك المقالة الكفرية على العامة وأعلن توبته وبعد ذلك بأسابيع .
هذا يسأل عن الجزائر ، يقول هل الثوار الذين في الجزائر هل يعتبرون من الخوارج ؟(13/340)
لا يعتبرون من الخوارج لأن دولتهم هناك دولة غير مسلمة ، فليسوا من الخوارج ولا من البغاة ، وإنما الكلام معهم في مسألة هل هذا فيه مصلحة أم لا ، هل فعلهم هذا فيه تحقيق للمصلحة التي يرجونها شرعاً أم لا ، والواقع أنهم دخلوا في هذا الأمر دون علم شرعي ، ولذلك صار ما صار من مفاسد ، لكن البغاة والخوارج لا تقال إلا لمن خرج على ولي الأمر المسلم .
.......
هذا سؤال جيد جداً ، يقول ما صحة تسمية الولاة الآن بولاة الأمر ، وما الدليل على وِلايتهم مع تعددهم في العالم وعدم توحيد المسلمين جميعاً على وليٍ أمرٍ واحد ؟
سؤال جيد من حيث إثارة الموضوع وهو اشتبه عليه مسألتين :
مسألة أولى متفق عليها ، وهي تسمية هؤلاء ولاة أمر - يعني المسلم الذي يلي أمر المسلمين يسمى ولي أمر باتفاق سواءً كان بلد أو بلدين أو عشر أو عشرين أو مائة لا خلاف في ذلك - وإنما خالف بعضهم في تسميته إماماً ، وإنعقاد البيعة للامام المتعدد ، يعني عندهم أن الإمامة إنما تُعْقَدُ لمن اجتمع عليه المسلمون جميعاً ، هذا لفظ الإمام وهو الذي تجب له البيعة عندهم ، هذه شبهة عند بعض طلبة العلم أو بعض الشباب ، عندهم هناك تفريق بين ولاة الأمر والأئمة ، فعندهم ولي الأمر تجب له الطاعة ولكن ما تجب له بيعة حتى يجتمع المسلمون على والي واحد .(13/341)
وهذا القول مجانب للصواب ثَمَّ المجانبة وذلك أن المسلمين أجمعوا بلا نكير ولا اختلاف على انعقاد الإمامة الشرعية لإمامين هما إمام بني العباس في بغداد ، وإمام بني أمية في الأندلس ، ومضت الأمة على ذلك قروناً ، وكل واحد من هذين الإمامين العلماء وأئمة السنة في بلده يقول هذا الإمام الذي تجب بيعته ويحرم الخروج عليه ، وهذا إجماع منهم على أن البيعة لا يشترط لها الخلافة الراشدة العامة بل البيعة منوطة بمن وَلِيَ الأمر لأن البيعة تتجزأ حسب البلد ، بحسب الوالي كما جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال (من بايع أميراً فأعطاه صفقة يده و ثمرة قلبه) من بايع أميراً سواء بايع هذا الأمير على جهاد أو بايعه على إمارة عامة أو إمارة خاصة ، فهذه تنعقد البيعة ، فالبيعة مرتبطة بولاية الأمر وليست مرتبطة بالإمامة العظمى ، لذلك بعضهم يقول (الإمامة العظمى هي المعتبرة عند أهل السنة والجماعة) وهذا غلط كبير على معتقد أهل السنة والجماعة لإجماع أهل السنة في الأندلس على بيعة بني أمية في الأندلس ولإجماع أهل السنة في الشرق على بيعة المسلمين لولاة بني العباس ، وهاتان دولتان مسلمتان .(13/342)
لمَّا تعددت الطوائف أيضاً ، صارت الدول - يعني دول القرن الرابع الهجري والخامس - صارت دويلات مختلفة ، أيضاً ما نُزِعَ اسم الإمامة وأُنيط بإمام عام عند أهل السنة والجماعة ، فهذا البحث مهم ومن ظن أن الإمامة إنما تكون لمن أجمع عليه المسلمون في زمن ، فلم ينظر إلى وجود إمام بني العباس وإمام بني أمية وإجماع أهل السنة على أن كل منهما له إمامته الشرعية فقامت دولتان ، وتعلمون أن دولة بني أمية بالاندلس كانت قبل خروج العباسيين على بني أمية فخرج العباسيون على بني أمية فأخذوا من البلاد التي يليها الأمويون بعضاً فأقاموا فيها حكم العباسيين وما لم يستطيعوا بقيت فيه ولاية الأمويين ، اللي هي الأندلس والمغرب ، ثم المغرب دخل في العباسيين بعد فترة لكن الأندلس بقي في ذلك حتى سقط الأندلس وهو عند بني أمية ثم سقط بنو العباس ، ولاية بنو العباس وهم في بغداد ولا دخل لهم بالولاية في الأندلس ، فهذا إجماع مُتَيَقَنْ ولا أحد من أهل السنة قال إن ولاة بني أمية في الأندلس ليسوا بأئمة وليس لهم بيعة وكذلك ولاة بنو العاس ليسوا أئمة وليس لهم بيعة لوجود إمامين في ذلك الزمان ، هذا بحث .
والثاني في هذه المسألة أن هذا القول وهو أن البيعة لا تكون إلا مع الإمامة العظمى يلزمه أن البيعة قد ذهبت منذ أزمان وأن قول النبي عليه الصلاة والسلام (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) أن هذا مخصوص ببعض الأزمنة دون بعض ، وهذا تَحَكُمٌ في دلالة النص و تَحَكُمٌ أيضاً في كلام أهل السنة ، فالبيعة ليس لها زمن يحدها عند أهل السنة ، بل هي ماضية ولم يحدها أحد ، والقول بأن البيعة منوطة بالإمامة العظمى هذا يلزم منه هذين اللازمين الباطلين .(13/343)
وكما هو معلوم في بحث الجدل أن القول إذا لزم منه باطل فإنه يكون باطلاً ، ولذلك أهل السنة أبطلوا قول الجهمية بالحلول لأنه يكون يحل في الأشياء المستكرهة مع أن القائلين بالحلول لا يقولون بحلوله لكن قالوا يلزم منه ، أحياناً القائل بالقول لا يلتزم القول ، لا يلتزم يعني ما ينتج عن القول ، لا يلتزم لوازم القول ، يقول أنا ما ألتزم هذا ، ولهذا قال العلماء لازم المذهب ليس بمذهب ، لكن اللوازم الباطلة على القول تدل على أن القول باطل ، هذا الذي تجده ... في كتب أهل العلم .
......
إذا كان انتقاله انتقال سفر وإقامة فهذا تلزمه بيعة الأول لأنه هو مسافر وسيرجع ، وأما إذا كان انتقاله انتقال استيطان ، يعني ترك هذا الوطن واتخذ له وطناً آخر ، فما دام انه استوطن البلد الآخر فيلزمه أحكام ولي الأمر في ذلك البلد ، وكما تعلم أن الفقهاء قسموا الناس إلى ثلاثة أقسام :
مسافر ومقيم ومستوطن ، وبعضهم يقول مسافر ومقيم ويُدْخِل المستوطن في المقيم .
المستوطن مثلاً أنت ذهبت إلى بلد أخرى واستوطنت فيها ، .. تركت هذا البد لا تشتغل تبع المملكة ولا تشتغل تبع جهة فيها ونحو ذلك وإنما قلت أنا تركت هذه خلاص وسكنت في تلك البلد ، فهنا من حيث جريان الأحكام والسمع والطاعة بحسب البلد الذي ذهبت إليه ، من حيث عقد القلب ، ثمرة القلب وصفقة اليد إما بنفسك أو بواسطة أهل الحل والعقد هذه بحسب ما ترغب فيها أنت فإن رغبت في بقاء البيعة الأولى لأنها هي الأصل ولم تجدد بيعةً ثانية فأنت على الأولى ، وإذا جددت بيعة ثانية للوالي الآخر فأنت يلزمك ذلك الوالي ، وهي المسألة مسألة دين ماهي مسألة أهواء (من مات ولي في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) يعني على كبيرة من الكبائر ، وإذا كان على كبيرة من الكبائر فهو ايش ؟(13/344)
صغائره لا تُكَفَّر ?إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ? الصلاة إلى الصلاة غير مكفرات لما بينهما إذا مات وليس في عنقه بيعة ، والصيام إلى الصيام غير مكفر لما بينهما فالمسألة عظيمة لأنها دين و يعني التساهل في هذا الأمر بآراء أو بأقوال أو بحديث مجالس أو بسوالف شباب يعني من الإستهانة بشيء من عقائد أهل السنة والله المستعان .
ما رأيكم في قول (لقد تحدث القرآن) كما هو دارج على ألسنة كثير من المتكلمين ؟
تحدث القرآن ، قال القرآن ونحو هذه كلها من الألفاظ المحدثة والألفاظ الثقافية التي لا يجوز استعمالها لأن الذي تحدث وجعل هذا القرآن حديثاً هو الله جل وعلا ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا? القرآن لا يتحدث هو ، ليس بمخلوق ، إنما القرآن كلام الله جل وعلا فالذي يتحدث هو الله جل وعلا ?مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ? .
......
يقول ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ? ، لكن يعني أنا يظهر لي أن كلمة يقص غير قال ، تحدث ، يقص بما فيه من القصص ، لكن تحدث وقال الآن ما عندي جواب على هذه الآية تبيلها تأمل إن شاء الله .
هل تعتبر النصيحة أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ؟
ما ادري هذا ما حضر الدرس الماضي أو لا .
هل يأمر الفُسَّاقْ بالمعروف وينهون عن المنكر ؟
نعم ، الفاسق يجب عليه أن يأمر وينهى مثل المطيع ، وكونه فاسقاً لا يعني أن يترك الواجب لأن الواجبات متداخلة فيجب عليه أن يأمر ويجب عليه أن ينهى ، فإذا كان يفعل المعصية ما يترك الواجب عليه لأجل أنه واقع في معصية فيجتمع عليه مخالفات ، ولهذا قال الإمام مالك (لو لم يأمر بالمعروف إلا من فعله ولم ينهى عن المنكر إلا من تركه لما وجدت آمراً ناهياً) يعني لكثرة المعصية في الناس والمخالفة .(13/345)
هنا هذا سؤال أيضاً عن ولاة الأمر ، إذا قلنا ولاة الأمر يُعنى بهم - يعني في بحثنا هذا ، الدرس هذا - نعني بهم الأمراء ، مثل ما قال شيخ الإسلام هنا (مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا) أما كلمة ولي الأمر وأولي الأمر في النصوص فإنها في الأصل للأمراء لأنهم علماء ، ولما صار الأمراء غير والعلماء غير من عهد بني أمية قسم أهل العلم ذلك وذكروا في تفسير قول الله تعالى ?وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ? قالوا هم العلماء والأمراء يعني كُلٌ فيما تجب طاعته فيه ، فالعلماء فيما أوجب الله جل وعلا طاعتهم فيه من العلم والدين والأمراء فيما يتعلق بدنيا الناس والحفاظ على ثغورهم وإقامة الحدود والفرائض الشرعية ونحو ذلك .
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ.
وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا"، وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِِهَا.(13/346)
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي"، صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ، وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، أُولو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِيهِمُ الأَبْدَالُ، وَفِيهِمُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ".
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِن لَّدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الوَهَّابُ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم(13/347)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فهذه خاتمة هذه الرسالة المباركة التي سُمِّيت بالعقيدة الواسطية وفيها بيان أخلاق أهل السنة والجماعة .
وأهل السنة تميزوا عن غيرهم بأنهم أثَّرت فيهم المتابعة وأثَّرَ فيهم الاعتقاد فجعلهم أهل اتباع للنبي عليه الصلاة والسلام في المسائل العلمية وفي المسائل العملية .
وأهل البدع جعلوا المسائل العملية والأخلاق ، جعلوها في مرتبة ليست بمهمة أو يقولون إن هذه من قشور الدين .
وأهل السنة من جهة اعتنائهم وفقههم واتباعهم للنبي عليه الصلاة والسلام تابعوا في المسائل العلمية وفي المسائل العملية .
والمسائل العملية منها الأحكام الفروعية ومنها الأخلاق ، فلذلك هم في السلوك أهل اتباع لسبيل المؤمنين بطريقة المصطفى عليه الصلاة والسلام وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم من بعده .
والفِرَقْ المخالفة لطريقة أهل السنة في باب الأخلاق تنوعت :
منهم من لم يهتم بهذا أصلاً ، وإنما يهتمون بالأمور الكلية وأما إذا أتيت إلى سلوكهم وعملهم وأخلاقهم وديانتهم فإنهم لا يهتمون بذلك ، لا من جهة حقوق الله جل وعلا ، ولا من جهة حقوق الخلق ، من جهة الواجبات و المستحبات ، فيفرطون في ذلك وأخذوا الاعتقاد من جهة العقليات ، فصارت عندهم مباحث أشبه ما تكون بمباحث اللاهوت عند النصارى ، وليست بمباحث عقدية تؤثر في القلب عقداً فتستجيب لها الجوارح فعلاً وسلوكاً وحركة .
فالمتكلمون أقسى قلوباً مع أنهم يُثبتون وجود الله جل وعلا بما يثبتونه به ويثبتون البعث ويثبتون أشياء مما هي معلومة في العقيدة ويخالفون فيما يخالفون لكنهم ليسوا بذوي ذكاء في قلوبهم ، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في وصفهم ، أو في وصف أئمتهم (أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا ذكاءا ، وأوتوا علوماً ولم يؤتوا فُهُوما).(13/348)
وهذا واقع فإن كثيرين دخلوا في مباحث الاعتقاد من جهةٍ عقلية بحتة ولم يستفيدوا منها في تعظيم الله جل وعلا كما ينبغي له جل وعلا ولا في تعظيم رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ التعظيم الذي أذن الله به لرسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من جهة محبته وطاعته واتباع ما جاء به .
فهذه الفئة ، المتكلمون ومن شابههم ، هؤلاء لم يعتنوا أصلاً بالأخلاق ولا بالعمل ومثلهم الفلاسفة الإسلاميين كذلك لم يهتموا بالعمل ، وهؤلاء أصناف متنوعة .
يقابلهم جهة أخرى غلت في الأخلاق حتى جاوزت المأذون به وجاوزت السنة في ذلك وهم المتصوفة .
والصوفية فرقة نشأت في أواسط القرن الثاني للهجرة وكان لنشوئها سبب أو أسباب ومنها مخالطتهم للنصارى خارج الأمصار ، خارج البلاد - يعني البلد التي هي متأهلة بالسكان - خارج بغداد ، خارج دمشق ونحو ذلك .
كان النصارى يميلون إلى الرهبنة وينعزلون فخالطهم طائفة من جهلة المسلمين فقلَّدُوهم في ذلك حتى غلوا في هذا الجانب ، جانب الأخلاق ، فصاروا مخالفين لطريقة السلف الصالح فيه .
وهؤلاء الذين غلوا وهم الصوفية نُسِبوا إلى لُبْسِهِم الصوف تقليداً للنصارى وهناك أقوال أخر ، لكن هذا هو أظهرها .
ففي المقامات والأحوال لم يتابعوا ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام وإنما دخلوا بالذوق .
وهذا له سبب وذلك أن كتب اليونان لمَّا تُرجِمَتْ في أوائل القرن الثالث وقَدِمَتْ بلاد المسلمين ، كانت كتب ألئك فلسفية .
والفلسفة معناها طلب الحكمة .
والحكمة تارةً تكون في العقليات وتارةً تكون في الروحانيات .
والفلاسفة اليونان على هاتين الفرقتين :
- منهم من عُنُوا بالعقليات كأرسطو وأفلاطون وجماعة من كبارهم فحققوا المسائل الفلسفية بحسب ظنهم بطلب معرفة الأشياء الطبيعية على ما هي عليه ، وكذلك معرفة ما وراء الطبيعة على ما يظهر عليه البرهان العقلي عندهم .(13/349)
هذا ليس مهماً عندنا في هذا الموضع لكن الذي يُهمنا هنا القسم الثاني وهم الفلاسفة الذين اعتنوا بطلب إصلاح النفس ، طلب الحكمة عن طريق إصلاح النفس .
قالوا طلب الحكمة لا يكون إلا عن طريق إصلاح النفس ، وإصلاح النفس بأن تتجرد من العلائق الأرضية وتنطلق في الأجواء السماوية ، وإذا كان كذلك فلا بد لها من رياضة ، وهذه الرياضة مُعْتَمِدَةْ عندهم على فصل الروح عن الجسد ، فلا ينظروا إلى الجسد البتة بل ينظروا إلى الروح فيُخَلِّصْ الروح من تعلقها بالجسد ، يعني من تعلقها بالأرض .
وهؤلاء الفلاسفة يُسمون أهل الإشراق أو أصحاب نظرية الفيض .
هؤلاء لهم كتب يمثلهم أفلوطين - غير أفلاطون - أفلوطين كان يعيش في الاسكندرية وصار صاحب نظرية الفيض .
والبحث في هذا متشعب ، المقصود أنها وصلت هذه الأقوال وهذه النظريات إلى المسلمين ، فتُرجمت كتب اليونان في العقليات وفي الروحانيات ، يعني في إصلاح العقل وفي إصلاح الروح .
وأنتم تعلمون أن المنطق يُعَرِّفُونَهُ بأنه قوانين تضبط العقل عن الخطأ .
وقوانين الروح عندهم تضبط الروح عن الدَنَسْ ، فدخلت هذه وهذه عن طريق الكتب التي تعتني بالعقليات نشَاَتْ الفلاسفة ، والفلاسفة غير المتكلمين .
نشأت الفلسفة وظهر الفلاسفة الذين اعتنوا بفلسفة الأوائل كالفارابي من المتقدمين وأشباهه وابن سينا ونحو هؤلاء .
والجهة الثانية الذين غلوا في إصلاح النفس ، والذين غلوا في إصلاح النفس تأثروا بالنصارى كما ذكرت لك وبالكتب الإشراقية هذه .
كتب نظرية الفيض التي تُرجمت عن اليونانية .
صار إذاً إصلاح النفس مخالفاً لطريقة السلف .(13/350)
فأهل السنة رأوا كلام الذين بدأ فيهم الزيغ فتكلموا في الأخلاق وفي إصلاح النفس بغير ما دلت عليه النصوص ، مثل جماعة ممن كانوا في عصر الإمام أحمد وقبله كان أفراداً وفي عصر الإمام أحمد وبعده كان هناك من يتكلم في هذه المسائل على غير طريقة السلف ، وصنفوا فيها مصنفات معروفة وموجودة ولهذا قابلهم السلف بتأصيل الأخلاق ومخالفة أهل الضلال فيها عن طريق كتب الزهد والرقائق .
فتصنيف كتب الزهد والرقائق كان مقصوداً لمخالفة هذه الطائفة التي غلت في الأخلاق ، غلت في السلوك فتركت طريق النبي عليه الصلاة والسلام ، وأيضاً الرد على الذين نظروا إلى الدنيا وأخذوا بالعقليات ونسوا يوم الحساب .
فهؤلاء وهؤلاء رَدَّ عليهم السلف بكتب الزهد والرقائق ، ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من الزهد وما كان عليه أصحابه وما كان عليه الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه وهكذا .
فصار أهل السنة في باب إصلاح النفس مخالفين للجفاة الذين لم يعتنوا بإصلاح الأخلاق وللذين غلوا فابتدعوا طرقاً في إصلاح النفس والأخلاق .
كلمة الأخلاق هذه كلمة عامة والمقصود منها الصورة الباطنة لأن الخَلْقْ ، خَلَقَ يخلُقُ خلْقاً هو الإيجاد.
وهذا المخلوق له صورتان ، صورةٌ ظاهرة وهي الخَلْقْ ، خَلْقُهُ خِلْقَتُهُ وصورة باطنة وهي خُلُقُه .
ولهذا عظَّم النبي عليه الصلاة والسلام حسن الخلق في أحاديث كثيرة متعددة يأتي بعضها إن شاء الله تعالى .
قد قال الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام ?وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ? ، وفي صحيح مسلم من حديث عائشة في حديثٍ طويل في سؤال بعضهم عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وسألوا عائشة عن خلُقُ ْالمصطفى عليه الصلاة والسلام فقالت (كان خلقه القرآن) .
فأهل السنة ذكروا في تصانيفهم ما يتعلق بالزهد والأخلاق وإصلاح العمل والصورة الباطنة .(13/351)
المتابعة الظاهرة وإصلاح الصورة الباطنة من مكارم الأخلاق ، ونهوا عن كل ما يخالف طريقة السلف في هذا الأمر ، ذلك لأن مسألة التربية ومسألة الأخلاق ومسألة إصلاح النفس قد تكون على غير طريقة السلف الصالح .
فلهذا ذكروا أصول ما هم عليه في باب إصلاح الخُلُق ، إصلاح الصورة الباطنة ، إصلاح النفس مما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه الجملة .
المقصود في هذا البيان أن ذكر الأخلاق في كتب أهل السنة والجماعة مقصودٌ وهو من جملة ما تميزوا به عن غيرهم .
فغيرهم في هذا الباب ما بين جافٍ وغالٍ .
وإذا نظرت إلى تصانيف الغزالي مثلاً وجدت أنه غلا في هذا الباب فخالف طريقة أهل السنة ، ومشايخه أخف منه كمكي بن أبي طالب في كتاب (قوت القلوب) و القُشيري ونحو ذلك لكن عندهم أيضاً بلاء .
وهكذا كلما مضى الزمن وجدت أن المتأخرين في هذا الباب لسعة الانفراج يزيدون على من قبلهم انحرافا .
فمن المهم أن يُؤصل كلام أهل السنة في باب الأخلاق ، والكلام في الزهد والرقائق والخُلُقْ ليس أمراً ثانوياً كما يقوله من لم يفهم أو أمراً شكلياً أو قشور وليست بلُبَابْ .
الدين كله لُبَابْ وكله قولٌ ثقيل كما قال جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام ?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً? وقد سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن مسالةٍ فقال لا أدري .
فقال له السائل : إن هذه المسألة خفيفة .
فنهره وقال : ليس في العلم شيء خفيف العلم كله ثقيل قال الله جل وعلا ?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً?
فنأمر بما أمرنا الله جل وعلا به وما أمرنا به المصطفى عليه الصلاة والسلام والكل حق وهدى نأخذه ونخالف بذلك أهل الضلال .(13/352)
فإذن الدعوة إلى هذه الأخلاق هذه من خصائص أهل السنة ومن أثر العقيدة على النفس ، ومن تَمَثَّلَ العقيدة الصحيحة فهو الصالح ، فالصالح من عباد الله هو الذي صَلُحَ باطنه وظاهره ، وصلاح باطنه بالاعتقاد الصحيح والأخلاق الفاضلة ، وظاهره بأن يكون مقيماً لحقوق الله ومقيماً لحقوق الخلق .
فالصالح عند أهل العلم هو القائم بحقوق الله القائم بحقوق الخلق ، فمن جمع القيام بهذا وهذا فهو صالح ، فمن فرط في شيء من هذين فهو ينقصه من الصلاح ويدخله شيء من ضده بحسب ما فرط وترك .
انتهى الشريط التاسع و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثلاثون
فالصالح عند أهل العلم هو القائم بحقوق الله ، القائم بحقوق الخلق ، فمن جمع القيام في هذا وفي هذا فهو صالح ، ومن فرَّطَ في شيء من هذين فهو ينقصه من الصلاح ويدخله شيء من ضده بحسب ما فرَّطَ وترك .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هنا في وصف أهل السنة رحمهم الله تعالى وحشرنا معهم قال :
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ
يأمرون بهذه لأنه جاء الأمر بها .
والصبر عند البلاء هذا يشمل : صبر القلب وصبر الجوارح ، لأن الصبر في اللغة الحبس .
قُتِل فلانٌ صبراً يعني حبساً ، حُبِس ورُبِطَ بشيء حتى قتل ، يعني من غير قتال .
وهو في الشرع : حبس القلب عن التسخط وحبس اللسان عن التشكي وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك .
فإذا أتى بلاء فإنهم يصبرون .
إذا ابتلوا بشيء في أنفسهم أو في أهليهم أو في أولادهم من نقص في الأطراف أو نقص في الأموال أو ما شابه ذلك فإنهم يصبرون عند البلاء .
والصبر واجب من الواجبات وليس بمستحب .(13/353)
بل الصبر واجب ، واجبٌ أن لا يتسخط القلب ، يحبس القلب عن التسخط على فعل الله جل وعلا ، ويحبس اللسان عن شكوى الله جل وعلا إلى الخَلْقْ ويحبس الجوارح عن إظهار الجزع من لطم وشق وعويل وما شابه ذلك .
الصبر كما جاء في الحديث الصحيح الذي في مسلم وفي غيره قال عليه الصلاة والسلام (والصبر ضياء) وهذا من أعظم ما يكون عند الصابرين فإن الصبر حبس ولكنه يضيء القلب ويضيء الطريق
فالصبر واجب ، والأجر على البلاء هذا يكون بالصبر .
البلاء في نفسه مكفر للسيئات ، والصبر عليه يؤجر عليه العبد ، فصار البلاء في المؤمن له جهتان :
- جهة تكفيره للسيئات .
- وجهة إثابته على هذا البلاء .
البلاء يُكَفِّرْ ولكن الإثابة تكون على الصبر ، فإن فقد الصبر هل يقع التكفير أم لا ؟
خلافٌ بين أهل العلم والظاهر في ذلك أن الصبر لا يُشترط لتكفير السيئات بالمصيبة ، بل وقوع المصيبة بنفسها فيه تكفير للسيئات رحمة من الله جل وعلا كما قال جل وعلا ?وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ? وفي الصحيح (من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه)
فبالمصيبة يكون الخير للمسلم ، ولا شك إذا صبر عليها فإنه يُؤجرُ وتكفر عنه السيئات .
وتفاصيل الكلام على الصبر في كتاب التوحيد وفي مدارج السالكين في منزلة الصبر .
قال (وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ) الشكر عام يدخل فيه عبادات كثيرة .
والشكر مما يُؤمَرُ به العباد لأن الله جل وعلا أمر به في مثل قوله ?وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ? ?أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ? ?وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ? ?كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ? ونحو ذلك من الآيات ، فالشكر مأمور به وهو واجب .
والشكر له أركان ثلاثة واجبة كلها :(13/354)
" الأول أن يقوم في القلب أنه من عند الله ، أنَّ النعمة من عند الله جل وعلا ، فيكون القلب منطوياً على أن الفضل من الله جل وعلا لا من غيره ?وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ? .
" والثاني التحدث بهذه النعمة .
" والثالث استعمالها فيما يُحِبُّ من أَنْعَمَ بها لا فيما يَسْخَط ويَكْرَهْ ، وإذا قلنا إستعمالها فيما يُحِب يشمل ما أَذِنَ به من جهة التغليب ، يعني يشمل المباح من جهة التغليب وإلا فالأولى أن يقال استعمالها فيما أَذِنَ به فيدخل فيه المباح لأن من استعمل نعم الله جل وعلا في الواجبات أو في المستحبات أو في المباحات فإنه شاكر بخلاف من استعملها في المحرمات .
والشكر كما هو معلوم له تعلق بالقلب وتعلق بالعمل .
الشكر يكون بالقلب وبالعمل جميعاً .
والعمل عمل اللسان وعمل الجوارح .
فصار الشكر إذاً متعلقاً بالقلب واللسان والجوارح جميعاً ، بخلاف الحمد .
الحمد ليس له تعلق بالعمل والشكر له تعلق بالعمل .
الحمد ثناء على من اتصف بالصفات الحسنة سواءٌ أكان مُنْعِماً أم غير مُنْعِم ، فليس الحمد في مقابلة النعمة ، بل الحمد في مقابلة الصفات الحسنة .
وأما الشكر فهو في مقابلة نعمة .
ولهذا قال هنا ((وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ)) فإذا أصاب العبد رخاء شكر .
يشكر بقلبه يعني ينسب النعمة لله .
ويشكر بلسانه بأن يتحدث بهذه النعمة ?وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ? ما يكتم نعمة الله عليه .
ويشكر بعمله بأن يستعملها في ما يحب المُنْعِم كما قال جل وعلا ?اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ? .
فإذن صار الشكر غير الحمد ، الحمد ثناء والشكر فيه عمل .
الشكر على نعمة وأما الحمد على أوصاف الكمال ، فَتَحْمَدُ من لا تحب من جهة الإنصاف ، تثني عليه بما هو أهله .
والله جل وعلا هو المحمود بكل لسان سبحانه وتعالى .(13/355)
قال (وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ) والصبر والشكر هذان متقابلان كما جاء في الحديث (الإيمان نصفان نصفٌ صبر ونصفٌ شكر) لأن العبد ما يخلو في أي حال من حالاته :
إما أن يكون في شيء يستوجب شكراً لك .
أو في شيء يستوجب صبراً .
ولا يخلو من هذا وهذا جميعاً ، فلا بد من هذا وهذا فيكون إذاً متعبداً بالصبر وبالشكر .
قال (وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ) الرضا هنا مقام من المقامات العظيمة للقلب ، والله جل وعلا رضي عنه عباده الصالحون ?رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ? فما يأتي من الله جل وعلا شيء إلا والمؤمن يعلم أنه خير له فيرضى ويُسَلِّم فيما يأتيه من الخيرات وما يأتيه من غيرها .
الشكر لا يمكن أن يكون إلا برضا ، فمرتبة الشكر أرفع لأن الرضا منطوٍ تحت الشكر .
فكل شاكرٍ راضٍ ، والراضي بالنعمة يشكرها .
وهنا في قوله (وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ) تخصيص أحد وجهي الرضا وهو الرضا عن المصايب ، الرضا عن ما يصيب العبد .
والرضا مختلف عن الصبر ، الصبر حبس ، وأما الرضا فهو التسليم لهذه واستئناف القلب لها ورضاه عن هذه المصيبة أو رضاه عن من أتى بهذه المصيبة أو مُرْ القضاء .
ولهذا صار للرضا أحكام منها الرضا الواجب ومنها الرضا المستحب .
هل الرضا واجب أو الرضا مستحب ؟
هذه ذكرتها عدة مرات ، وتحقيق المقام في ذلك بأن الرضا تختلف جهته :
تارة يكون واجباً ، وتارة يكون مستحباً .
- فالرضا الواجب أن يكون النظر إلى جهة القضاء ، جهة فعل الله جل وعلا ، فإذا نظر العبد إلى فعل الله جل وعلا وجب عليه أن يرضى به وأن لا يَتَسَخَطَ فِعْلَ الله جل وعلا فهذا قَدْرٌ واجب .
- أما المقضي ، المصيبة في نفسها فهذه الرضا بها مستحب ، فإذا نظر إلى المصيبة وأنها شر بالنسبة إليه فقد لا يرضى بذلك من جهة فقد ولد أو فقد مال أو مرض أصابه لكن المستحب له أن يرضى بذلك .(13/356)
أمام من جهة فعل الله جل وعلا فيجب عليه أن يرضى وأن لا يتهم الله جل وعلا في فعله ولا في قضائه .
فالرضا بالقضاء واجب والرضا بالمقضي مستحب .
و هذا تحقيق القول في هذه المسألة التي اختلف فيها أهل العلم .
والصبر كما هو معلوم غير الرضا ، الرضا شيء والصبر شيءٌ آخر لأنه قد يصبر من لم يرض فإذا رضي عن الله جل وعلا ورضي بالمصيبة التي جاءته صار ذلك كمالاً في حقه وهو زيادة على الصبر
(وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ) القضاء معروف وهو ما قدره الله جل وعلا ، سمي قضاءً لأنه سيقع لا محالة .
القدر قد يسمى قضاءً قبل أن يقع باعتباره نهايته وأنه سيقع لا محالة .
لهذا اختلف أهل العلم هل القدر والقضاء متفاوتان أم معناهما واحد ؟
فمنهم من قال معناهما واحد باعتبار أن القدر لا بد أن يقع فهو قضاء ولو قبل أن يحصل لأن ما قَدَّرَ الله جل وعلا كائن لا محالة .
ومنهم من فرَّقْ بين القدر والقضاء بأن القدر ما يسبق وقوع المقضي فإذا وقع المُقَدَّرْ وانتهى قُضِيَ وصار قضاءً .
والمعنيان متقاربان يؤولان إلى شيءٍ واحد .
قال (وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ) .
يدعون يعني يأمرون بذلك ويدعون الخلق إلى مكارم الأخلاق .
الأخلاق كما ذكرت لك هي الصورة الباطنة ، جمع خُلُقْ ، والخُلُقْ الصورة الباطنة للانسان يعني ما يكون عليه في الباطن ويفصح عنه الظاهر من إصلاح حاله مع ربه وإصلاح حاله مع الخَلْقْ .
فيدخل في الخُلُقْ الإخلاص ويدخل فيه مقامات الإيمان من الصبر والرضا واليقين والعلم والعفة والشجاعة ونحو ذلك .
ويدخل أيضاً في الخُلُقْ : الظاهر ، يعني ما فيه صلاح ما بينك وبين الخلق بأداء الأمانة وصدق الحديث ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وترك التعدي على الخَلْقْ والنَصَفَة من العالم ونحو ذلك .(13/357)
قال بعض أهل العلم عماد حسن الخُلُقْ وكَرَمْ الخُلُقْ أن تكون منصفاً الخَلْقْ على نفسك وأن تكون مع الخَلْقْ على نفسك .
يعني إذا كان بينك وبين الخَلْقْ معاملة فتكون معهم عليك ، وهذا يجعلك تأخذ لنفسك القَدْرْ الذي أُذن به ، ما تتجاوز .
فتكون معهم على نفسك كما جاء في الأثر وأنَّ من أخلاق أهل الإيمان (والنَصَفَةْ من العالم).
تنصفهم منك يعني تكون معهم على نفسك ولا تكون عليهم متسلطاً ، بل إذا اختلفت معهم كن معهم على نفسك فتكون مُثْبِتاً للحق راداً بما ليس بحق .
والمكارم جمع مَكْرُمَةْ وهي مأخوذة من الكرم .
والكرم في الأقوال والصفات والأعمال الكامل منها .
والكريم هو الذي فاق غيره في صفات الكمال المناسِبَة .
فكريم الرجال من فاق غيره في صفات الكمال ، هذا من جهة عموم اللغة .
عُرْفْ العرب يسمون الكريم الجواد ، يعني يقولون للجواد إنه كريم وذلك لأن من أعظم ما يحتاج إليه الناس في ذلك الزمن الأكل والشرب والإكرام بالضيافة ، وإلا فإن لفظة الكريم هو أن يفوق غيره في صفات الكمال .
يدخل فيه أن يفوق غيره في الجود وفي الإحسان وفي صدق الحديث وفي أداء الأمانة وفي البعد عن المظالم إلى آخر ذلك .
ولهذا وصف الله جل وعلا الملائكة بأنهم كرام ?كِرَامًا كَاتِبِينَ? ووصف الزرع بأنه كريم ?أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ? النبات كريم باعتبار أنه فاق غيره مما يُتصوَّر مما يخرج من الأرض ، يعني لو تصورت فاق غيره في الحسن والبهاء في صفاته ، فلو تأملت هذا النبات لوجدت له في صفاته عجباً .
فكما قيل في هذا إن الكريم الذي فاق جنسه أو تقول غيره في صفات الكمال المناسبة له .(13/358)
ومن أسماء الله جل وعلا الكريم لأنه جل وعلا فاق غيره في صفات الكمال ، فالخلق لهم صفات قد يشتركون فيها مع الله جل وعلا في أصل المعنى ، لهم منها ما يناسب ذاتهم الحقيرة الوضيعة ، لكن لله جل وعلا من هذه الصفات الكمال الأعظم المطلق الذي لا يعتريه نقص ولا يتطرق إليه عيب بوجهٍ من الوجوه .
فإذن مكارم الأخلاق يعني الأخلاق التي فاقت غيرها .
فالخلق الكريم هو الذي فاق غيره .
فأهل السنة يدعون في معاملتهم مع ربهم جل وعلا وفي تعاملهم مع الخَلْقْ إلى الخُلُقْ الذي فاق غيره
فإذا أنت كان عندك اختيار في ثلاثة أنواع من التصرفات مع الخَلْقْ ، فإذا تصرفت بأحسنها وأكملها وأرقها وأبلغها صلة بالخَلْقْ فإن هذا هو الخُلُقْ الكريم وهو الخُلُقْ الحسن كما جاء في الحديث الصحيح (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وفي رواية في الموطأ (إنما بعثت - أو نحوها - لأتمم حَسَنَ الأخلاق) فمكارم الأخلاق كانت موجودة فبُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق ، فيدخل في مكارم الأخلاق الصورة الباطنة من الإخلاص والأخلاق جميعاً الباطنة وكذلك الظاهرة في التعامل مع الخلق .
قال (وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ) يعني يأمرون بكل خلق حسن .
فكلما كان العبد أحسن خُلُقاً مع صحة العقيدة كلما كان أقرب إلى طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم .
وإذا تأملت طريقة الإمام أحمد وسفيان ووكيع ومالك والشافعي مع الناس وجدت عجباً ، فهم الخِيَرَةُ ، وإذا قرأت تراجمهم وجدت أنهم صَلُحُوا في عباداتهم وصَلُحُوا مع الخلق فأدَّوا ما يجب عليهم تجاه الله جل وعلا وتجاه عباده .
قال (وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ) محاسن الأعمال يعني في العمل الذي هو مع الله جل وعلا أو مع الخلق .
قال (وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا")(13/359)
ولهذا نقول من كَمَّلَ خُلُقَهُ الحسن ، من سعى في إكمال أخلاقه الظاهرة والباطنة فإنه يكون أكمل إيماناً ممن لم يُكَمِّلْ ذلك .
(أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) وهذا يدل على أن إصلاح الصورة الباطنة وإصلاح الظاهر من جهة التعامل مع الناس فإن هذا من حُسْنْ الخُلُقْ وهذا يدل على أن حسن الخُلُقْ من أعظم أعمال الإيمان ، ولهذا كتب فيه جماعة منهم البيهقي في كتابه شُعب الإيمان ، فهو مبني على ذِكْرِ شعب الإيمان وأكثرها من جهة الأخلاق .
قال (وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ)
يندبون أن يحضون ويأمرون بذلك على جهة الدعوة والحض والأمر بذلك ، يندبون ، يُرَغِّبُون في أن تصل من قطعك .
والذي يَصِلْ من قَطَعَهُ هو الواصل .
وأما الذي يَصِلْ من وصله وأما من قَطَعَهُ فإنه يقطعه فهذا قد عامل بالعدل ولم يَصِلْ كما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال (ليس الواصل بالمكافئ) يعني اللي يعمل مثل ما يعمل .... ، يقول والله عمل معي جاني بجيه ، تكلم في طيب بتكلم فيه طيب تكلم فيني قبيح بتكلم فيه قبيح .
هذا يسمى مكافئ ، ترد الشيء بمثله قال (ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصلها) ، ولقد جاءه عليه الصلاة والسلام رجل فقال (يارسول الله إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيؤون إلي ، قال إن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهُم المَلَّ سفَّاً) - الرماد الحار في وجوههم - لأنك ... وقد قال جل وعلا ?وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى? وهذا في قصة أبي بكر مع قريبه الذي قطعه .(13/360)
والمقصود من ذلك أن صلة الرحم واجبة ?فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ? ، وصلة الرحم تكون بصلة من قطع ، وقد جاء في مسلم وفي غيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (يُغْفَرُ لكل مؤمن في يوم الاثنين من كل أسبوع ويوم الخميس إلا رجل كانت بينه وبين أخيه خصومة فيقال أركوا هذين حتى يصطلحا ، انْظِرُوا هذين حتى يصطلحا)فكل خير في الصلة وكل شر في القطيعة .
والوصل يكون صلة الرحم وصلة المسلم بعامة ، فتصل من قطعك ، ....1
وإعطاء المسلم أخاه المسلم حقه ليس مبنياً أن ذاك يعطيك حقك ، لا بل تعطيه حقه لأن الله أوجب ذلك ولو حَرَمَكَ حَقَكَ .
ولهذا العلماء ذكروا في كتب الفقه المسألة المعروفة بمسألة الظَفَرْ ، وهو ظَفَرُ صاحب الحق بحقه هل يجوز له أن يأخذه ؟
يعني مثلاً واحد خذ منك ألف ريال فوجدت عنده ، جيته في بيته ، وجدت على الكرسي أو كذا ألف ريال وهو خذها منك ... ونحو ذلك فهل تأخذ منه بمثل ما أخذ ؟ تقول تسرقها وتأخذها وتضعها في جيبك ؟
قال عليه الصلاة والسلام (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) فالأمانة تُؤدى وإذا ظفرت بمال لك فإن العلماء اختلفوا في ذلك تأخذه أو لا تأخذه على أقوال ، والتحقيق منها أن ما كانت دلائله ظاهرة بينة لا إشكال في ذلك جاز أخذه ، وأما إذا كان الأمر خفياً فإنه لا يجوز أخذه إلا عن طريق القاضي لأن الحقوق تقطع القطيعة وتُثَبِّتُ الصلة .
قال (وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ)
تعفو عن من ظلمك لأن العفو عن من ظَلَمْ هذا مُستحب .(13/361)
من أخذ بالقصاص فلا بأس ، هذا عدل ولكن الإحسان بالعفو عن من ظلمك ، كما قال جل وعلا ?وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ? وقال جل وعلا في آية الشورى ?وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ? وهذا هو الأفضل أن يصبر المرء وأن يعفو عن من ظلمه وأن يعفو عن من أساء إليه وهكذا كان عليه الصلاة والسلام .
(تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ) الظلم قد يكون في البدن وقد يكون في العرض وقد يكون في المال ونحو ذلك.
،وهنا مسألة ننبه إليها لأنها تتعلق بالعفو عن من ظلم ، بمن اغتاب إخوانه أو اغتاب أحداً من أصحابه أو أحبابه أو أحداً من المسلمين من أئمتهم أو عامتهم من أهل العلم أو من غيرهم فإنه يُستحب له ويتأكد عليه أن يطلب التحليل .
يطلب أن يُحَلَلَ ، وهذه من السنن المغفول عنها كما جاء في البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال (من كانت عنده مظلِمة لأخيه - مظلِمة بكسر اللام ليست مظلَمة - من كانت عنده مظلِمة لأخيه في مالٍ أو عرضٍ فليتحلل منه اليوم ، قبل أن يكون يومٌ لا درهم فيه ولا دينار)
فالمستحب أن تتحلل ممن ظلمته في عرضه أو في ماله ، فتقول لأخيك أنا أخطيت في حقك حللني .
ويستحب أن يعفو من طلب منه التحليل عن من ظلمه فلا يستفصل منه ، فيقول ماذا قلت ؟ إيش قلت في ؟ وش اللي تعديت ؟ وش اللي صاير منك ؟
فيستحب لمن أتاه قال له حللني أن يقول له حللك الله وأباحك مما عملت والله جل وعلا يتولى جزاء من عفا عن من ظلمه .
فهذه من صفات المؤمنين ، ومن مات من أموات أهل التوحيد ، أموات أهل الإيمان فتقول له ، تقول حلله الله ، اللهم حلله ، لعله ينجو بذلك أو يخف عليه الحساب ، والمؤمنون يحب بعضهم بعضاً وإن كان المؤمن قد يغلط وقد يعصي وقد يحصل منه لكن قلب المؤمن على إخوانه فلا يحب أن تكثر عليهم الذنوب .(13/362)
أحياناً يكون الظلم عظيماً ، ورد القول السيئ بمثله جائز لكن ليس هو الأفضل كما قال الله جل وعلا ?لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ? يعني من ظُلِمَ فإن الله جل وعلا أباح أن يُجْهَرَ له بالسيء من القول من جهة الجزاء .
لكن هل هو الأفضل ؟
لا ، الأفضل أن يعفو الرجل عن من ظلمه ، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (وما ازداد عبدٌ بعفوٍ إلا عزاً) فالذي يعفو لا يظن أنه ينقص بل هو يعتز يُظْهِرْ الله جل وعلا له مناراً لأنه تخلص من حظ نفسه وفعل ما ندبه الله جل وعلا إليه .
قال (وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ)
وبر الوالدين فرض وقطيعة الوالدين كبيرة من الكبائر قرنت بالشرك ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا? والآيات في ذلك معلومة
وَصِلَةِ الأَرْحَامِ
ذكرنا بعض ما فيها .
وَحُسْنِ الْجِوَارِ
حسن الجوار أن تحسن إلى جارك ، والإحسان إلى الجار يشمل مرتبتين :
المرتبة الأولى أن تؤدي له حقه .
والثانية أن تكف الأذى عنه .
والجوار - يعني الجيران - الذين لهم حق حسن الجوار على مراتب :
" أعظمهم حقاً الملاصق ، وهذا الجار الملاصق هذا أعظمهم حقاً ، وقد جاء في الندب إلى حسن الجوار معه أحاديث كثيرة حتى جاء فيها قوله عليه الصلاة والسلام (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، هذه المرتبة الأولى ، الملاصق القريب منك ، ملاصق هنا أو هنا أو هنا ، يعني من الجهات ، هذا له حق .
" والمرتبة الثانية الجار الجُنُبْ ، الجُنُبْ يعني البعيد .
ما حد الجُنُبْ ؟
اختلف فيه السلف وهو ما ذُكِرْ في آية النساء ?وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ? .
الجار الجُنُبْ البعيد .
ما حده ؟
قال بعضهم سبعة أبيات ، يعني بيت ، سبعة أبيات من كل جهة ، هذا يُعتبرُون جيران جنب أمر الله جل وعلا ووصى بهم .(13/363)
قال آخرون أربعون داراً ، وقد جاء فيها حديث ولكنه ضعيف ، أربعون داراً يعني من كل جهة ، كل الجهات ، أربعون داراً من هنا ومن هنا ومن هنا ، هؤلاء يدخلون في الجار الجُنُبْ ، جار بعيد
" والثالث من الجيران جيران البلد ، من يساكنك في البلد التي أنت فيها ، ولو كان في طرف البلد وأنت في طرف البلد فإنه يسمى جاراً كما قال جل وعلا ?ولا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً? فالذي يسكن معك في نفس البلد يعتبر جاراً ، فله حق الإحسان ، حسن الجوار ، لكن مراتب :
أولها أعظمها .
والثاني الجار الجنب متوسط وله حق عظيم أمر الله به .
والثالث من باب العموم وحسن الجوار للعامة .
القريب يعني المرتبة الأولى والثانية تنقسم أيضاً إلى مراتب بحسب الحق :
- إذا كان جاراً وصاحب رَحِمْ ومسلم صار له ثلاثة حقوق ، حق الجوار ، وحق الإسلام ، وحق الرَحِمْ .
- وإذا كان جاراً مسلماً ولي بذي رَحِمْ صار له حقان .
- وإذا كان جاراً وليس بمسلم ولا بذي رَحِمْ صار له حق الجوار .
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام يزور بعض جيرانه اليهود ويرسل لهم من بعض الطعام ونحو ذلك ، فهذا فيه حق الجوار .
قال (وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)
لعلنا نمر عن هذه وتفاصيلها معلومة لديكم تطلبونها ولا شك أنها من المهمات أن تتطلب ما به يكون عملك مع الخلق على بَيِّنَةْ .
ما الذي يفرق بين طالب العلم وبين غيره ؟
غير طالب العلم قد يعمل الشيء بمقتضى سماعه ، بمقتضى فعله ، بمقتضى طبيعته ، بمقتضى عادته ، لكن طالب العلم يعمل الشيء وهو يتعبد به ، يعرف أنه مأمور به ، وهو يتحرك يعمل يتذكر ما فيه من الدليل ، يتذكر ما فيه من الأمر، يتذكر ما فيه من كلام أهل العلم فيعمله .(13/364)
لا شك لا يستوي هذا وذاك ، فلهذا تَطْلُبُ مكارم الأخلاق وأنواع هذه الأخلاق مما في النفس - يعني في القلب - أو في الباطن ، ومما يكون في التعامل مع الخلق ، وأحكام ذلك وتفاصيل المقام فيها ، نمر على هذه .
قال (وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) اليتامى معروف أنهم هم من دون سن الإحتلام ممن مات من يعيلهم .
والمساكين ، يدخل فيه الفقراء ، من لم يجد حاجته .
وابن السيبل المنقطع .
وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ
المملوك هو الخادم يعني الرقيق ، العبد ، يُرْفَقْ به ولا يُكلف من العمل إلا ما يطيق ، يُعان عليه ويطعم مما يطعمه الإنسان ويكسى مما يكتسي منه ونحو ذلك .
وَيَنْهَوْنَ - هذا جانب المنهيات - وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ
الفخر والبغي متقاربان ، لكن الفخر يكون بذكر ما أنت عليه بحق ، يعني يكون فيك وتفخر بما أنت عليه بصدق .
والبغي فيه افتخار بالباطل ، شيء لست أنت عليه .
والفخر نوعان : منه ما هو مأذون به ومنه ما هو مذموم .
والمذموم هو الذي أراده شيخ الإسلام في هذا الموضع .
قال (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ) يعني الفخر المذموم ، وأما الفخر المحمود ، تَذْكُرُ ما أنت فيه على جهة بيان الأمر ، وذِكْرُ ذلك للناس كما قال عليه الصلاة والسلام (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وقال سعد (أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله) ونحو ذلك مما يُذْكَرُ فيه الأعمال الصالحة على جهة بيانها للخلق .
هذا إذا لم يكن على جهة الاستطالة على الخلق والترفع عليهم بفساد الباطن فإنه يكون محموداً ولا يصير من الفخر المذموم .
و الضابط في الفرق بين الفخر المذموم والفخر المحمود ، أن الفخر المحمود أن يذكر شيئاً تحدثاً بنعمة الله عليه ، هذه هي الصورة الأولى .(13/365)
الثاني لأجل أن يُقتدى به ، يذكر ذلك ليشجع على العمل ، أنا فعلت كذا وكذا ليشجع الناس عليه ، لكن باطنه منطو على كراهة الفخر والإستطالة على الخلق ، فإذا ذكر ذلك لأجل التحدث بنعمة الله أو لدلالة الخلق على الفعل فإن هذا لا بأس به ، كما ذكر ذلك العلامة شمس الدين ابن القيم وغيره .
أما الفخر المذموم فهو أن يذكر ذلك استطالة على الخلق وترفعاً عليهم .
وجاء تعريف الكِبِرْ بأنه (بطر الحق وغمط الناس) رفض الحق وغمط الناس والإستطالة والله جل وعلا ?لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا? .
قال بعض أهل العلم الفخر بالاستطالة والترفع والإختيال ليس محموداً إلا بحالين :
الحال الأولى الجهاد ، والثانية الصدقة .
فالاختيال في الجهاد ، يمشي بين الصفوف مختالاً يقابل العدو باختيال ، هذا مأذون به كما جاء في الحديث (إن هذه مشية يُبْغِضُهَا الله إلا في هذا الموطن) ، يعني مشية الخيلاء .
وكذلك الصدقة ، الفخر بالصدقة والفرح بها وإظهارها هذا ممدوح عند طائفة من أهل العلم .
قال (وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ)
الاستطالة على الخلق مذمومة بل الواجب على العبد أن يلين مع الخلق وأن يعتبر نفسه إن لم يرحمه الله جل وعلا هو أهون الخلق ، فلهذا لا يستطيل وينصف من نفسه .
قال (وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِِهَا)
... سفساف الرذيل منها .
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
هذا فيه تنبيه على ما ذكرت لك أنهم في طريقتهم في باب الأخلاق إنما يتابعون فيه ما بعث الله به نبيه عليه الصلاة والسلام ، وهذا يفارقوا به أهل الضلال من الجفاة والغلاة .(13/366)
قال بعد ذلك (لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي"، صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ).
هذا المقطع فيه بحث أو عدة مباحث :
الأول أن حديث الافتراق المراد به أمة الإجابة لا أمة الدعوة ، فهذه الفرق ، الثنتين والسبعين فرقة ، هذه من أمة الإجابة ، وهم الفرق التي خالفت الجماعة الأولى ولم يحدث منها كفرقة مُكَفِرْ مخرج من الملة .
أخرج أهل السنة منها بالإجماع الجهمية ، لأن الجهمية الغلاة أتباع جهم الأوائل هؤلاء ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة أصلاً .
وأخرج طائفة من أهل العلم من المتقدمين و المتأخرين الرافضة الغلاة أيضاً من الثنتين والسبعين فرقة .
هذه الفرق الثنتين والسبعين ليست بكافرة خارجة عن الملة وقوله عليه الصلاة والسلام (كلها في النار) يعني متوعدة بالنار وليس محكوماً لها بالخلود في النار .
قال شيخ الإسلام وغيره من أئمة الإسلام ، قال (من ظن أن هذه الفرق خالدة مخلدة في النار كافرة فقد خالف إجماع السلف الصالح) والسلف الصالح لم يحكموا على هذه الفرق بأنهم كفار خارجون عن الملة .
ولهذا يغلط بعضهم فيقول (هذه الفرق النارية) ، هذه تسمية محدثة ، صحيح كلها في النار ، لكن كلمة النارية تحتمل أن تكون مخلدة في النار أو غير مخلدة ، وقد يكون ظاهر اللفظ أنهم مخلدون في النار ، ولهذا لا يصلح أن تقال هذه الكلمة ، بل يقال هذه الفرق في النار ، متوعدة بالنار ، خارجة عن طريق أهل السنة ، ضالة ونحو ذلك ، مبتدعة وبدعهم مختلفة متفاوتة .(13/367)
(كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) الجماعة من هي ، جاء تفسيرها في الحديث الآخر .
قال (هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي) (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ) المثلية هنا في العلميات وفي العمليات ، يعني من جهة الإعتقاد ومن جهة السلوك والعبادة .
قال (صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) فأهل السنة والجماعة فئة واحدة ، فرقة واحدة ، طائفة واحدة ، وهم أهل الحديث وهم أهل الأثر ، وهم أتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم ، وهذا شبه إجماع من السلف على أن أهل السنة والجماعة هم أهل العلم ، أهل الحديث ، أهل الأثر ، وما شابه ذلك من الكلمات الدالة على المراد .
غلط طائفة من أهل العلم من الحنابلة وغيرهم فقالوا الفرقة الناجية عبارة عن ثلاث فئات :
" الأولى : أهل الحديث .
" والثانية : الأشاعرة .
" والثالثة : الماتريدية .
كما قاله السفَّاريني في لوامع الأنوار البهية وقاله غيره من المتأخرين ، قالوا (الذي يشمله هذا القول الفرقة الناجية أو أهل السنة والجماعة هم أهل الحديث ، الأشاعرة ، الماتريدية) .
وهذا قولٌ باطل ، وغلط كبير لأن الأشاعرة والماتريدية من الفئات التي عليها الوعيد لمخالفتهم أهل السنة في :
1- أبواب التلقي 2 - منهج التلقي
3 - وتقديم النصوص على العقل لأنهم يقدمون العقل على النصوص
4 - كذلك في الصفات 5 - كذلك في الإيمان
6 - كذلك في القدر 7 - في مسائل أخر خالفوا أهل السنة
فليسوا من أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ، بل هم من المبتدعة الضُلال .
وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ(13/368)
(الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ) ذكر هؤلاء الثلاثة لأجل آية النساء وهي قوله جل وعلا ?وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ? فالصديقون من أهل السنة والجماعة ، والشهداء الذين ماتوا على السنة ، على غير البدعة ، هؤلاء من أهل السنة والجماعة ، والصالحون القائمون بحقوق الله وحقوق الخلق هؤلاء من أهل السنة والجماعة .
وفي لفظ الصالحين ما يشمل القيام بحقوق الله ، ومن حقوق الله أن تكون في العلميات يعني في الأمور الإعتقادية على ما أمر الله جل وعلا به ، على ما جاء في النصوص ، فيخرج المبتدعة من وصف الصلاح ولو كانت جبهته فيها ... قد أثر فيها السجود ، أو كان يصوم النهار ويقوم الليل ، ما دام أنه على اعتقاد بدعي في الله جل وعلا فقلبه ليس بسليم .
فالعمل الصالح القليل مع اعتقاد سليم هذا أعظم ما يُتَقَرَبْ به إلى الله جل وعلا ، ولهذا جاء في أثر أبي الدرداء المعروف قال (يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم ، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم ، ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين أعظم من أمثال الجبال عبادةً من المغترين) .
فالقصد القصد مع صلاح القلب في العقيدة ومتابعة السلف الصالح ونفي الزَغَلْ والدَغَلْ عنه وأن يحب لإخوانه المؤمنين ما يحبه لنفسه ، وأن يَسْلَمَ لسانه وتَسْلَمْ يده ويكون في عقيدته وفي عمله موافقاً للسلف الصالح هذا يزكو معه عمله ولو كان قليلاً ، والله جل وعلا أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ، لكن مع بدعة ومع ضلال هذا لا شك أنه على خطر .
قال (وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى)
منهم يعني من أهل السنة أعلام الهدى ومصابيح الدجى .
يقصد بأعلام الهدى : الذين صاروا مُقْتَدىً بهم من الأئمة .(13/369)
ومصابيح الدجى : الذين يُؤْخذ قولهم ، فصارت أقوالهم محفوظة في الأمة ، فصاروا مصابيح في الظُلَمْ يُهتدى بأقوالهم ويُنظرُ في سيرهم فيقتفى أثرهم ، فلهم الأثر في الأمة بذلك .
قال (أُولو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ)
يعني مما هو مُسَطَرْ في كتب أهل العلم ، في ذكر مناقب الشافعي ، مالك ، سفيان ابن عيينة ، سفيان الثوري ، ابن أبي حاتم أو أبو حاتم ، أبو زرعة إلى آخر الأئمة والحفاظ البخاري ، مسلم ، أبو داوود ، النسائي وأمثال هؤلاء الأعلام ، فهؤلاء هم أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة ، وهكذا أئمة السنة والإسلام ، فمن نظر في سيرهم حَقَرَ نفسه معهم ، والنظر في سير وسير أئمة أهل السنة يعطيك رغبة في الإقتداء بهم ، ويعطيك رغبة في أن تنهج على نهجهم ، ويقويك ولو لم تكن في هذا إلا واحداً .
إذا نظرت في سيرهم ولو خالفك كثيرون أو الأكثرون فإنك تكون على بردٍ ويقين لأنه سبقك أئمة سنة وحق وهدى وقالوا ما قالوا ، فتمسك بأقوالهم وآثارهم فإن فيها النجاة لأنهم تابعوا من قبلهم.
ومن خصائص أهل السنة أنهم لا يتكلمون إلا بما أثروه عن من قبلهم ، فطريقتهم طريقة مأثورة يأخذها الخالف عن السالف ، يأخذها المتأخر عن المتقدم ،ليس فيها ابتداء ولا استئناف وإنما هي منقولة بالإسناد ، هذا ينقل عن هذا عمله ، وهكذا حتى وصل إلينا الدين اليوم كما ترون غضاً طرياً كما علمه الصحابة والتابعون ، فليس شيء من الدين ذهب ، بل هو محفوظ .
قال (وَفِيهِمُ - يعني في أهل السنة - الأَبْدَالُ)
والأبدال جمع بدل وهو لفظ جاء في بعض الأحاديث ، لكن لم يصح حديث في الأبدال على الصحيح وإن كان بعض أهل العلم صحح في الأبدال بعض الأحاديث .
والأبدال هم أهل الحديث وأهل الأثر وأهل السنة ، إذا ذهبت منهم طائفة أبدل الله جل وعلا بهم طائفة أخرى .(13/370)
فمفهوم كلمة الأبدال هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة) فـ (لا تزال طائفة) هذه الطائفة هم الأبدال .
وقيد بعض أهل العلم الأبدال بأنهم بعض الطائفة المنصورة ، بعض الفرقة الناجية ، وهم الصديقون والصالحون ، هم الأولياء المتقون .
فلفظ البدل إما أن يكون عاماً في الطائفة المنصورة ، الفرقة الناجية .
وإما أن يكون مخصوصاً به أهل التُقَى والزَكَى وهم الأولياء والصديقون والصالحون .
هناك ألفاظ مقارنة أيضاً ظهرت في الأمة : الأقطاب ، الأوتاد ، الغوث ونحو ذلك ، وهذه كلها ألفاظ محدثة وإحداثها كان في أول الأمر ليس مراداً به ما تشتمل عليه من المعاني الباطلة ، ثم استخدمت في المعاني الباطلة فعبد غير الله واستغيث بغير الله بهذه الألفاظ ، القطب الأكبر والغوث الأكبر ونحو ذلك مما فيه توجيه للعامة بالشرك بالله جل جلاله وتقدست أسماؤه .
قال (وَفِيهِمُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ)
في قوله (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ) إخراج من كان من أئمة الدين لم يجمع عليه المسلمون في هدايته في أبواب السنة والاعتقاد .
فأئمة الدين كُثُرْ ، من أئمة الحديث ، كأصحاب الكتب الستة ومالك والشافعي وأحمد والسفيانان ووكيع والأوزاعي وحماد بن سلمة ، وأشباه هؤلاء الأئمة وابن شهاب إلى آخره ، فهؤلاء هم أئمة الدين ، شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأئمة هذه الدعوة من لدن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى وأبنائه وتلامذته ومن أخذ بدعوته وأخذ بطريقته إلى زماننا هذا .
هؤلاء أئمة الدين أجمع المسلمون على هدايتهم .(13/371)
المقصود بالمسلمين هنا يعني أجمع أهل الحق على هدايتهم ، وإلا فإن لفظ الإسلام من حيث هو ، لفظ المسلم المتصف بالإسلام ليس مراداً هنا ، لأن المعتزلة ابتَلَوا الإمام أحمد ، فالإمام أحمد ليس مُجمعاً عليه بين الفرق الثلاثة وسبعين وإنما هو مجمع عليه بالنسبة للفرقة الناجية ، كذلك الشافعي ، كذلك مالك ، فأهل الاعتزال وأهل الضلال لهم خلاف في ذلك ، وهم منتسبون إلى الإسلام وباقون على اسم الإسلام .
فعُلِمَ بذلك أن قوله (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ) المقصود هنا الخصوص لأن اللفظ العام قد يطلق ويراد به الخصوص ، هذا هو الظاهر .
قال (وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)
يعني أن الفرقة الناجية وأهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة ، هذه ألفاظ اختلفت ولكن المعنى واحد ، المسمى واحد ليس مختلفاً ، فأهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية وهم الطائفة المنصورة .
ولفظ الفرقة الناجية ما جاء في النصوص وإنما فُهِمَ من قوله عليه الصلاة والسلام (كلها في النار إلا واحدة) قيل لهذه الواحدة فرقة ناجية باعتبار الفهم ، وإلا لفظ فرقة ناجية لم يرد في النصوص وأما الذي ورد الطائفة المنصورة (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة) ، والمنصورة والناجية طائفة واحدة بإجماع السلف الصالح فمن بعدهم من أهل السنة والجماعة بلا خلاف بينهم في ذلك ، وإنما هذه عبارات متنوعة .
قيل لهم فرقة ناجية باعتبار الآخرة ، نجوا من النار .(13/372)
وقيل لهم طائفة منصورة باعتبار الدنيا والآخرة في أنهم نُصِرُوا في الدنيا وسينصرون في الآخرة ، قال جل وعلا ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ? فهم منصورون في الحياة الدنيا ومنصورون يوم يقوم الأشهاد ، وهم يوم القيامة ناجون .
فهذه أسماء اختلفت لكن المسمى واحد ، مثل أسماء السيف ، ومثل أسماء المطر ونحو ذلك ، تختلف الأسماء ، وأسماء الأسد ، باعتبار اختلاف الصفات .
سيف ، صام ، أبيض ، مُسْلِطْ ، مهند ، هو شيء واحد من جهة المسمى لكن صفته التي عُنِيَتْ بتغير الاسم هذا مختلف من جهة الصفة ، لكن من جهة المسمى واحد .
كذلك الأسد أسماؤه المختلفة المسمى واحد ، وهو الحيوان المعروف ، وكذلك المطر إذا قلت مطر أو قلت غيث أو قلت طل أو نحو ذلك هو ما ينزل من السماء لكن باختلاف صفته .
كذلك اسم الفرقة الناجية ، الطائفة المنصورة ، أهل السنة والجماعة ، أهل الحديث ، أهل الأثر ، أهل العلم ، كلهم شيء واحد يراد به من كان متبعاً في الاعتقاد ما كان عليه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وخرج في صغير الأمر وفي كبيره عن قول المخالفين للجماعة الأولى .
قال في آخر هذه الرسالة العظيمة المختصرة الجامعة :
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ
وهذا فيه عدم التزكية للنفس فإن شيخ الإسلام مع ما قرَّرَ من هذه العقائد ، ومع ما هو معلوم من جهاده وعِظَمِ مقامه في هذا الدين ونشر اعتقاد السلف الصالح ، لكنه يرجو .
وهذا هو الواجب على المسلم ، الواجب على المؤمن الموحد يسعى في أسباب النجاة ، في أسباب الاعتقاد الصالح ويسأل الله جل وعلا أن يجعله من الطائفة المنصورة ومن الفرقة الناجية مع سعيه في أسباب ذلك ولا يزكي نفسه فإن الله جل وعلا أعلم بالمتقين ، قال ?فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى? .(13/373)
فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا منهم وأن يُلْزِمنا كلمتهم وأن يبصرنا بأقوالهم وأن يمن علينا بالاهتداء بهديهم .
اللهم نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العلى وباسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت ، أن تميتنا على اعتقاد الصحابة رضوان الله عليهم ، وأن لا تميتنا إلا وأنت راض عنا ، اللهم من كان منا مقصراً فاغفر له واهده سبيل الرشاد ومن كان منا عاصياً فاغفر له ذنبه ومُنَّ عليه بالتوبة النصوح ، ومن كان منا فيه قصور من جهة اعتقاده أو من جهة عمله اللهم فهيئ له أسباب كماله ، اللهم نسألك وأنت الكريم الجواد ألا تجعلنا من الخائبين ولا من الذين يكون آخر عملهم أقبح من أوله وأن تجعل آخر أعمالنا خيراً من أوائلها .
نسألك أن تمن علينا بتوبة نصوح من كل شيء لا يرضيك قبل الممات .
الله نسألك ثباتاً على الاعتقاد ومتابعةً لسلف هذه الأمة وأن تُخَلِصَ قلوبنا من الغش ، وأن تُخَلِصَ أعمالنا من الرياء وأن تجعلنا راغبين في الآخرة متجانبين عن دار الغرور .
قال رحمه الله تعالى (نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا)
الله لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، لا خير إلا خيرك ، لا حول لنا ولا قوة إلا بك ، نحمدك والحمد لك والفضل لك والنعمة لك على أن تفضلت علينا بسماع هذا العلم وبإفادته وبالبذل فيه فأنت ولي ذلك ، اللهم تقبل ذلك منا ، اللهم تقبله من القائل ، وتقبله من المستمع ، واغفر لشيخ الإسلام الذي أفادنا بذلك ، الله صل وسلم على معلم الناس الخير محمد بن عبدالله كِفَاءَ ما علم وكِفَاءَ ما أرشد , الله وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته .
اللهم وارض عن صحابة نبيك عليهم رضوانك اللهم ارض عنهم وأَرْضِي عنهم ، اللهم اغفر لإخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.(13/374)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
نترك إجابة الأسئلة للدرس القادم إن شاء الله .
وحبذا لو تكررون هذه الرسالة مع شرحها ، وأنفس الشروح لها فيما اطلعت ، كتاب التنبيهات السنية للشيخ عبدالعزيز بن رشيد رحمه الله تعالى .
كتاب نافع ، نافع للغاية ، جامع كل علم ، مسائله كلها فيها فائدة ، فيه من الضوابط والقواعد والإفادات الشيء الكثير .
وطالب العلم لا يترك الواسطية وشروحها بل دائماً يمر عليها مرة تلو أخرى .
وأسأل الله جل وعلا لي ولكم القبول ، وأستودعكم الله .
انتهى الشريط الثلاثون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الفهرس
الصفحة العنوان
1 الشريط الأول
5 عقيدة الفرقة الناجية
26 الشريط الثاني
49 الشريط الثلث
74 الشريط الرابع
78 الجمع بين النفي والإثبات في وصفه تعالى
97 الشريط الخامس
106 الجمع بين علوه وقربه وأزليته وأبديته
121 إحاطة علمه بجميع مخلوقاته
124 الشريط السادس
132 إثبات السمع والبصر لله سبحانه
137 إثبات المشيئة والإرادة لله سبحانه
151 الشريط السابع
161 إثبات محبة الله ومودته لأوليائه على ما يليق بجلاله
174 الشريط الثامن
178 ذكر رضى الله وغضبه وسخطه وكراهيته وأنه متصف بذلك
195 ذكر مجيء الله لفصل القضاء بين عباده على ما يليق بجلاله
202 الشريط التاسع
210 إثبات الوجه لله سبحانه
218 إثبات اليدين لله تعالى
224 إثبات العينين لله تعالى
228 الشريط العاشر
233 إثبات السمع والبصر لله سبحانه
247 إثبات المكر والكيد لله تعالى على ما يليق به
249 وصف الله بالعفو والمغفرة والرحمة والعزة والقدرة
251 الشريط الحادي عشر
257 إثبات الاسم لله ونفي المثيل عنه
265 نفي الشريك عن الله تعالى
275 إثبات استواء الله على عرشه
279 الشريط الثاني عشر
293 إثبات علو الله على مخلوقاته
298 إثبات معية الله لخلقه(13/375)
305 الشريط الثالث عشر
309 إثبات الكلام لله تعالى
320 إثبات تنزيل القرآن من الله تعالى
331 إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
333 الشريط الرابع عشر
345 فصل في أسماء الله وصفاته في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
357 الشريط الخامس عشر
359 ثبوت النزول الإلهي إلى السماء الدنيا على ما يليق بجلاله
363 إثبات أن الله يفرح ويضحك ويعجب
376 إثبات الرجل والقدم لله سبحانه
379 إثبات النداء والصوت والكلام له سبحانه
387 الشريط السادس عشر
394 إثبات معية الله لخلقه وأنها لا تنافي علوه فوق عرشه
402 إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
405 موقف أهل السنة من الأحاديث التي فيها إثبات الصفات الربانية
408 مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة
417 الشريط السابع عشر
421 وجوب الإيمان بالاستواء والمعية وأنه لا تنافي بينهما
430 الشريط الثامن عشر
431 وجوب الإيما بقرب الله من خلقه وأن ذلك لا ينافي علوه وفوقيته
444 وجوب الإيمان باليوم الآخر وما فيه
454 الشريط التاسع عشر
471 حوض النبي صلى الله عليه وسلم ومكانه وصفاته
479 الصراط : معناه ومكانه وصفة مرور الناس عليه
481 الشريط العشرون
484 القنطرة بين الجنة والنار
487 شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم
493 إخراج الله بعض العصاة من النار برحمته وبغير شفاعة
498 شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم - 2 -
529 إخراج الله بعض العصاة من النار برحمته وبغير شفاعة - 2 -
512 الشريط الحادي والعشرون
513 الإيمان بالقدر ومراتب القدر
536 الشريط الثاني والعشرون
548 حقيقة الإيمان وحكم مرتكب الكبيرة
563 الشريط الثالث والعشرون
570 الواجب نحو الصحابة وذكر فضائلهم
589 الشريط الرابع والعشرون
595 منزلة أهل البيت النبوي عند أهل السنة والجماعة
605 تبرؤ أهل السنة والجماعة مما يقوله أهل البدع والضلالة في حق الصحابة وآل البيت
614 الشريط الخامس والعشرون(13/376)
624 موقف أهل السنة والجماعة من كرامات الأولياء
638 الشريط السادس والعشرون
654 صفات أهل السنة والجماعة
660 الشريط السابع والعشرون
678 قضايا كلية
684 الشريط الثامن والعشرون
706 الشريط التاسع والعشرون
728 الشريط الثلاثون
---
1 لم أجدها في المصحف
[1] هنا يوجد مسحٌ في الشريط
1 هنا يوجد مسح في الشريط
1 مسح في الشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 هنا مسح بالشريط وقد أكمله من قام بتسجيل هذه المادة بجزء من الشريط الحادي عشر من الدقيقة 25 إلى 44.02 قمت بوضعها في الشريط 11 ، وهذه هي نسخة دار ابن رجب
1 لم أجدها في المصحف وإنما وجدت ? إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ?
1 يوجد خنا مسح بالشريط
([3])وردت هذه الآية في القرآن في ستّ مواضع:
الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4.
1 مسح بالشريط
([4])الأنعام:92، و155.
1 هنا مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 هنا أخطأ الشيخ وسيبين ذلك فيما بعد
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
[5]) هنا ينتصف الشريط .
1 يوجد مسح بالشريط
1 مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح بالشريط
1 يوجد مسح(13/377)
شرح القواعد الأربع
لشيخ الإسلام الإمام المجدد
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
- رحمه الله -
قال المؤلِّف رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم
أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يتولاّك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مبارَكًا أينما كنت، وأن يجعلك ممّن إذا أُعطيَ شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإنّ هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن هذه النبذة المختصرة -القواعد الأربع- من النّبذ المهمة, من مقال إمام هذه الدّعوة رحمه الله تعالى, وأهميتها تأتي بمعرفة مضادات تلك القواعد الأربع, وأن الإخلال بهذه القواعد الأربع, أو عدم ضبط تلك القواعد يقع معه لَبس عظيم في معرفة حال المشركين, وحال الموحّدين، والابتلاء وقع بحال أهل التوحيد، وبحال أهل الشرك، والله جل وعلا بالقرآن بَيَّن ما يجب من حقه في توحيده, وبين الشرك به, بيانا عظيما.
وهذه القواعد الأربع مأخوذة من نصوص الكتاب والسنة ومن معرفة حال العرب كما سيأتي، فهي قواعد عظيمة تَعظِم من حفظها وعلم معناها ممن يكون عنده تردد في مسألة الحكم على أهل الإشراك وعلى وجوب إخلاص الدين لله جل وعلا وكيف يكون ذلك.(14/1)
إمام الدعوة رحمه الله كعادته في كثير من رسائله؛ يبتدؤها بدعاء لمن يقرأ تلك الرسالة أو إلى من وُجِّهت إليه, وهذا كما هو معلوم فيه التنبيه على أنَّ مبنى العلم ومبنى الدعوة الرحمة، الرحمة والتراحم بين المعلم والمتعلم، والرحمة والتراحم بين الداعية والمدعو؛ لأن الرحمة في ذلك هي سبب التواصل، قال جل وعلا?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ?[آل عمران:159], يعني فبِرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم, و(ما) في هذه الآية قيل لتأكيد الجملة, وهي التي تسمى الزائدة؛ لزيادة التأكيد، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) يعني فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم، فالدعاء هذا ناتج عن الرحمة، وهكذا ينبغي على المعلم, وعلى الداعية, وعلى الآمر بالمعروف, وعلى الناهي عن المنكر أن يكون راحما بالخلق, أن يكون رحيما بهم, كما وصف الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?[الأنبياء:107]وقال?بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[التوبة:128], وقال ابن القيم رحمه الله في وصف حال الدَّاعي إلى الله مع أهل المعصية وأهل النفور عن الحق قال في ذلك:
واجعل في قلبك مقلتين كلاهما
من خشية الرحمان باكيتان
لو شاء ربُّك كنت أيضا مثلهم
فالقلب بين أصابع الرحمان
حتى حين توقع الحدود وتطبق؛ فهي تطبّق على وجه الرحمة لا على وجه الانتقام، رحمة بهذا الذي استحق تلك العقوبة أن تَسلَّط عليه إبليس والشيطان فجعله مستحقا لذلك, كالأسير من أحبابك إذا وقع أسيرا في يد العدو.(14/2)
فهذا التقديم بالدعاء من الإمام رحمه الله فيه التنبيه على ذلك, ودعا، وكان فيما دعا؛ أنّه سأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن إذا أُعطي شكر, وإذا أُبتلي صبر, وإذا أَذنب استغفر, وهؤلاء الثلاث عنوان السعادة. إذا أعطي شكر؛ لأن العطاء من الله جل وعلا نعمة, الله جل وعلا يحب الشاكرين من عباده, والشكر يكون بلسان المقال, ويكون بالعمل, ?أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ?[لقمان:114]، بالمقال وبالعمل, ?اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا?[سبإ:13], هذا من جهة العمل, ?وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِِِِِ?[البقرة:152] هذا من جهة القول والعمل، ولهذا اختلف الشكرُ عن الحمد؛ فالشكر يكون عن نعمة, وأما الحمدُ فقد يكون لنعمة أو في مقابل نعمة، أو لا يكون؛ يكون ثناء مبتدءا, والشكر يكون باللسان وبالعمل، وأما الحمدُ فيكون باللسان دون العمل؛ فيه فروق كثيرة معروفة عند أهل العلم، هذا مما ينبغي تدبّره، وهو أن العبد إذا أعطي عطاءً شكر عطاءَ الله جل وعلا، وشكرُ العطاء كما ذكرنا بالقول وبالعمل:
· أمّا بالقول بأن ينسب ذلك العطاء إلى من أعطاه، وأن يثنى عليه به, وأن لا يُلتفت فيه إلى غيره، ?وَمَا بكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ?[النحل:53]، ?يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83].
· ومن جهة أخرى؛ جهةُ العمل، يكون الشكر باستعمال النعم فيما يحب من أنعم بها وأداها.(14/3)
وهذا مما يحبه الله جل وعلا بل من عظيم ما يحب الله من العبادات أن يكون العبد شاكرا ولهذا قال?وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ?[سبإ:13], وقال سبحانه?ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا?[الإسراء:3]؛ يعني يا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا كان كثير الشكر لله جل وعلا، قال أهل التفسير: كان إذا أكل الأكلة شكر الله عليها، وإذا شرب الشربة شكر الله عليها, وإذا اكتسى شكر الله على ذلك. يعني أن نتبرأ من كل حول وقوة في ما جاءه من النعم أو ما يسره وأن يعترف بأنها من الله جل وعلا.(14/4)
وباب الشكر له صلة بالتوحيد, وكأن الإمام رحمه الله حين ذكر الشكر على العطاء, والصبر على البلاء, والاستغفار من الذنب, كأنه نظر إلى حال الموحِّد, خاطبه بما يجب عليه أن يكون معه دائما, فإن الموحِّد أنعم عليه بنعمة لا تعدلها نعمة؛ ألا وهي أن كان على الإسلام الصحيح، أن كان على التوحيد الخالص الذي وعد الله أهله بالسعادة في الدنيا والآخرة, ولابد للموحِّد من الابتلاء, فسأل اللهَ له أن إذا أبتلي صبر؛ والابتلاء قد يكون من جهة الأقوال التي توجَّه إليه، وقد يكون الابتلاء من جهة البدن، وقد يكون من جهة المال أو غيره, قال (وإذا أذنب استغفر)؛ لأن الموحّد لابد أن يكون معه شيء من الإعراض، و لابد أن يقع الذنب؛ إما من الصغائر، وإما من الكبائر، والله جل وعلا من أسمائه الغفور، ولا بد أن يظهر أثر ذلك الاسم في بريئته وملكوته، لهذا يحب اللهُ من عبده الموحد المخلص أن يكون دائم الاستغفار، ولا بد للموحّد من ذلك, والعبد إذا ترك عظيم الاستغفار جاءه بالكِبر، والكبر يحبط كثيرا من العمل، لهذا قال هنا (وإذا أذنب استغفر وهؤلاء الثلاث عنوان السعادة)، فإذن هذه متلازمة في حال كل موحّد؛ وهي الشكر على العطاء، والصبر على البلاء، والاستغفار من الذنب والعصيان، وكلّما عَظُم العبد معرفةٍ بربه كلما عظَّم هذه الثلاث، وكلما عظم التوحيد في القلب عظمت هذه الثلاث، حتى يسير العبدُ لا يرى سوى الله جل وعلا في استحقاق شيء من أعماله وتصرفاته، فإن غفل عن ذلك كان استغفاره استغفار الذي لا يستحق، لهذا كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة، وفي رواية في الصحيح «أنه كان يستغفر في المجلس الواحد سبعين مرة»، والموحد عليه خطر؛ خطر الغرور، الغرور لأنه من أهل التوحيد، أو من المحققين لاتباع السلف، أو ممن علم هذا العلم، ثم لا يكون في قلبه من الخضوع والذل الذي يحرمه الله منه، ما يكون ذلك سببا لقَبول هذه الوسيلة، وهي(14/5)
وسيلة التوحيد إلى الله جل جلاله، وشأن الله أعظم، وطلبَ من عباده شيئا قليلا، ولهذا عظم أمر التوحيد، وفَضُح جدا الشرك وما جر إليه.
?????
اعلم أرشدك الله لطاعته: أن الحنيفيّة ملّة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصًا له الدين كما قال تعالى ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِِ?[الذاريات:56]. فإذا عرفت أنّ الله خلقك لعبادته فاعلم: أنّ العبادة لا تسمّى عبادة إلا مع التوحيد، كما أنّ الصلاة لا تسمّى صلاة إلى مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدتْ كالحدَث إذا دخل في الطهارة. فإذا عرفتَ أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفتَ أنّ أهمّ ما عليك: معرفة ذلك، لعلّ الله أن يخلّصك من هذه الشَّبَكة، وهي الشرك بالله الذي قال الله فيه: ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:116], وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه.(14/6)
هذه المقدمة مدخل لهذه القواعد، وأول ذلك (أن الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام)، وجعل الله جل وعلا إبراهيم حنيفا؛ يعني مائلا عن طريق الشرك إلى التوحيد الخالص، والحنيفية هي الملة التي مالت عن كل باطل إلى الحق، وابتعدت عن كل باطل إلى الحق، وهي ملة أبينا إبراهيم عليه السلام كما قال جل وعلا?مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا?[آل عمران:67], وقال جل وعلا ?إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ?[النحل:120-121], حقيقة ملة إبراهيم هي تحقيق معنى لا إله إلا الله كما قال جل وعلا في سورة الزخرف ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28], وهذه الكلمة هي كلمة لا إله إلا الله قال?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي?[الزخرف:26-27], هذه هي كلمة التوحيد؛ (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) هذا هو النصف الذي هو النفي في كلمة التوحيد؛ يعني قول (لا إله) معناه (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ), إلا الله يعني (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) وجعلها كلمة في عقبه، وأعظم تفسير لكلمة التوحيد هو هذه الآية حيث قال (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)، ولهذا قال أهل العلم: إن كلمة التوحيد لا إله إلا الله فيها نفي، وفيها إثبات، والنفي للبراءة من كل معبود سوى الله جل وعلا، ومن عبادة كل ما سوى الله جل وعلا؛ لأن عبادة ما سوى الله جل وعلا باطلة, وإثبات العبادة(14/7)
لله جل وعلا وحده سبحانه, يعني إنزال العبودية الحقّة المستحقة في واحد وهو الله جل جلاله, هذه هي ملة إبراهيم، وهذه هي الحنيفية التي أمر الله جل وعلا نبيه بالاستمساك بها؛ ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا?[النحل:123], فملة إبراهيم هي التوحيد، وإذا عرفتَ هذا، فإنَّ العبادةَ لا تُقبل إلا بالتوحيد، وذلك من مثل الطهارة للصلاة، فإن التوحيد شرط قَبول العبادة؛ يعني الإخلاص، والطهارة شرط صحة الصلاة، فكما أنه لا تصح الصلاة إلا بالطهارة، فكذلك لا تصح عبادة أحد إلا إذا كان موحِّدا، ولو كان في جبهته أثر السجود، وكان صائما في النهار قائما في الليل فإن شرط قبول ذلك أن يكون موحدا مخلصا، قال جل وعلا ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ(65)بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ?[الزمر:65-66]، وقال جل وعلا في الكفار?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا?[الفرقان:23], فعظيم العبادة وكثرة العبادة إذا لم تكن مع الإخلاص فإنها غير مقبولة؛ كما أن الرّجل يصلي صلاة عظيمة يطيل فيها القيام، ويطيل فيها الركوع، ويطيل فيها السجود، ويحسِّنها جدًّا، وقد دخل فيها على غير طهارة هذه صلاة غير مقبولة بالإجماع؛ لأن الطهارة شرط صحة الصلاة؛ كما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: »لا يقبل اللهُ صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ«، »لا صلاة إلا بطُهور« وهذا شرط متفق عليه، وهذا تقريب لهذه المسألة العظيمة، وإلا فإن شرط الإخلاص والتوحيد لقَبول العبادة أعظم من شرط الطهارة لقَبول الصلاة؛ لأنه إذا صلى محدِثا متعمدا فإن في تكفيره خلاف بين أهل العلم، وأما إذا عبد اللهَ مشركا؛ فإنه بالإجماع ليس مقبول العبادة، وبالإجماع هو كافر لأنه أشرك(14/8)
بالله جل وعلا الشرك الأكبر الذي لا يقبل معه عمل.
إذا تقر ذلك فإن هذا الأصل يجعل المرء يخاف، ويفرح؛ يخاف من الشرك وأن يكون من أهله، ويفرح أن جعله الله جل وعلا من أهل التوحيد، فَرُحُه من أن جعله الله جل وعلا من أهل التوحيد يوجب شكر ذلك والمحافظة عليه، وخوفه وهربه من أن يكون من أهل الشرك أو أن يأتيه بعض الشرك يجعله دائما حذرا؛ أن يعْتَرِ عبادته, أو عقيدته, أو أقواله شيء من الشركيات؛ لأن الشركيات إذا كانت من الشرك الأكبر فإنها محبطة للعمل، وإذا كانت من الشرك الأصغر فإنها أعظم من البدع، والمعاصي المختلفة، يعني من حيث الجنس، وهذا لا شك يجعل المرء الخائف الرّاجي يعني الخائف الفرح -الفرِح بالتوحيد، الخائف من الشرك- يجعله يطلب هذه القواعد التي تجعله في يقين من أمره.(14/9)
والتوحيد والشرك في دعوة الإمام المصلح رحمه الله، ممن تأمله قد يكون معه شيء من التردد أو الشك في صحة ما جاء به الشيخ من جهة تقرير المسائل، ومن جهة الحكم على أهل الشرك والإشراك؛ لأن المسألة عظيمة أن يكون أحد ممن يقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويصلي، ويزكي، ويصوم، ويحج، ويتعبد، ويكون من أهل العبادات العظيمة، ومن أهل الصلاح كما يقول الناس، ثم يقال إن عمله الذي عمله من الشركيات، أو لما لم يكفر بالطاغوت، يجعل عمله هذا كَلاَ شيء, هذه عظيمة، وكيف تستقر في النفوس، -فربما حدث من جهة النظر- أنّ الذين يتعبدون بالعبادات العظيمة وهم واقعون في الشرك، ربما تعاظم بعض الناس أن يكونوا من المشركين، يعني أن يكون أولئك من المشركين، وهذه القواعد لتأصيل هذه المسألة العظيمة، وهي أن الأمر ينظر فيه إلى حق الله، وإنما أتى الخلل من جهة نظر الناس إلى حق المخلوق؛ إلى واقع المخلوق، لكن إذا نظروا إلى حق الله جل وعلا؛ الذي خلق الإنسان فسواه، وعدله، والذي خلق السماوات على هذا النحو العجيب، وهذه الأرض وأقام الدلائل على وحدانيته بربوبيته، وجعل ذلك في النفس، وفي الآفاق، وفيما حوله، يجعل أنه لا حجة لمشرك على الله جل وعلا، ولكن الله سبحانه وتعالى بعث الرسلَ رحمة؛ لإقامة الحجة ولإعلان.......([1])
?????
× القاعدة الأولى: أن تعلم أنّ الكفّار الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقِرُّون بأنّ الله تعالى هو الخالِق المدبِّر، وأنّ ذلك لم يُدْخِلْهم في الإسلام، والدليل: قوله تعالى?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31].(14/10)
القاعدة الأولى أن توحيد الربوبية لا يُدخل أحدا في الإسلام، توحيد الربوبية ليس هو المطلوب، فإن معرفة العرب بأن الله جل وعلا هو الخالق، وهو الرزاق وحده، وهو المحيي وحده، وهو المميت وحده، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي إليه الأمر، وهو الذي يُنزل المطر، وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، هذا كله يقرون بأن الذي سخّر ذلك وخلقه هو الله جل وعلا، ومع ذلك ما نفعهم، ولم يجعلهم الله جل وعلا بذلك من أهل الإسلام، قال جل وعلا ?وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ?[يوسف:106], (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ) يعني الإيمان بربوبيته، إلا وهم مشركون في عبادته فانظروا إلى حال كفار العرب مقرون بأفراد الربوبية؛ بأكثر أفراد الربوبية، كما قال جل وعلا ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31]، (فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) يعني الذي يفعل هذه الأشياء هو الله وحده، (فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) يعني أتقولون ذلك وتقرون بوحدانيته في الربوبية، فلا تتقونه في عبادته وحده، وترك الإشراك به، فأقام عليهم الحجة بما أقروا به على ما أنكروه، وهذه هي طريقة القرآن في إقامة الحجة على المشركين، فإن من براهين التوحيد، توحيد العبادة أن تقام الحجة بتوحيد الربوبية؛ لأن من كان هو الفاعل وحده؛ يعني هو الخالق وحده، والرزاق وحده، إلى آخر أفراد الربوبية؛ فإنه هو الذي يستحق العبادة دونما سواه، ولهذا قال سبحانه منكرا على المشركين ?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[الأعراف:91]، وقال سبحانه ?قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ(14/11)
اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ?[النمل:59]، ووصف الذين جعلهم المشركون آلهة، بأنهم عاجزون، وليس لهم قدرة، وليس لهم خلق، وليس لهم صفات تجعل أولئك يتوجهون إليه ?وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ?[الحج:73], هذا مثل الذين توجهوا إليهم بالعبادة، وإقرار المشركين بالربوبية لم يدخلهم في الإسلام، نستنتج من ذلك أن إقرار من بعدهم بالربوبية لا يعني أنهم مؤمنون، فإذا أتى آتٍ وقال: أنا مؤمن بأن الله هو الرب، هو الخالق، وهو ربي، وهو الذي يرزقني، وهو الذي أحياني، وهو الذي يميتني، هذا لا يعد مؤمنا الإيمان الشرعي؛ يعني لا يعد مسلما حتى يأتي بالتوحيد، ولهذا غلط المتكلمون حينما عرفوا الإله بأنه القادر على الاختراع؛ قالوا: الإله هو القادر على الاختراع. فعندهم معنى لا إله إلا الله راجع إلى الربوبية, وهذا أعظم غلط على دين الإسلام؛ الذي غلط به المتكلمون على الدين، وعلى الملة، حيث جعلوا الابتلاء واقع في الربوبية، فإذا أيقن أن الموجب للأشياء والخالق لها هو الله، فإنه يكون عندهم مؤمنا مسلما، وهذا غير معنى الألوهية؛ لأن لا إله إلا الله معناها لا معبود حق إلا الله جل وعلا، فمعناها راجع إلى العبودية لا إلى الربوبية، إذن مراد الشيخ من هذه القاعدة المهمة اليقينية -بأن هذه القاعدة يقينية من حال الكفار والمشركين- بأنهم مقرون بتوحيد الربوبية، ولم ينفعهم، ولم يدخلهم في الإسلام، ولم يجعل لهم حقا؛ لأنهم أشركوا مع الله جل وعلا آلهة أخرى، وعبدوا آلهتهم الباطلة، وقالوا?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5]، فإذا نظرنا في هذا الزمن، وفي زمن الشيخ، وما قبله، وما بعده، في أن هناك من يوقن بالربوبية، ولكنه يشرك بالعبادة، فإن ذلك لا ينفعه، كحال الأولين، أن القاعدة: أن مشركي العرب كانوا يوقنون بالربوبية.(14/12)
واليوم قد يأتي على بعض النفوس، بعض إذا سمع من يقول: إن شاء الله، أو سمع من يذكر الله جل وعلا, أو يقول عن الله هو ربه, وهو مولاه, أو نحو ذلك, ظنَّه مسلما, وقنع منه بذلك، وهذا لم يقع به الابتلاء أصلا، بل لابد أن يكون موحدا في عبادته, يعني نعبد الله بما جاء به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -, ويكون متبرِّئا خالصا من الشرك وأهله.
?????
× القاعدة الثانية: أنّهم يقولون: ما دعوناهم وتوجّهنا إليهم إلا لطلب القُرْبة والشفاعة، فدليل القُربة قوله تعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ?[الزمر:3].
ودليل الشفاعة قوله تعالى: ?وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ?[يونس:18]، والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفيّة وشفاعة مثبَتة:
فالشفاعة المنفيّة ما كانت تٌطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلاّ الله، والدليل: قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ?[البقرة:254].
والشفاعة المثبَتة هي: التي تُطلب من الله، والشّافع مُكْرَمٌ بالشفاعة، والمشفوع له: من رضيَ اللهُ قوله وعمله بعد الإذن كما قال تعالى: ?مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ?[البقرة:255].(14/13)
هذه القاعدة الثانية في بيان حال المشركين في عبادتهم؛ عبدوا آلهة مع الله جل وعلا ومن دونه، ماذا يقصدون بهذه العبادة؟ هل يقولون هي آلهة استقلالية؟ أم أنها وسائط؟ هذه القاعدة أفادت: بأنهم إنما كانوا يعبدون الله جل وعلا على جهة الوساطة، على جهة القربة، أو على جهة الشفاعة، يعني يقولون إن آلهتهم الباطلة تقربهم إلى الله، أو ترفع حوائجهم إلى الله، أو يقولون إنها تشفع لهم عند الله جل وعلا، يعني أن مشركي العرب لم يكونوا يطلبون من الآلهة استقلالا، وإنما كانوا يطلبون من الآلهة على وجه الوساطة، وهذه الوساطة من جهة القربة، ومن جهة الزلفى، والجهة الثانية جهة الشفاعة كما ذكر رحمه الله قال (فدليل القُربة قوله تعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]) قال (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) يعني آلهة, ما نعبدهم, يعني يقولون (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا)، وهذا حصر، ويسمى عند علماء البلاغة حصر القلب إضافي، (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) يعني ما نعبدهم لعلة من العلل إلا لأجل التقريب، فهم حصروا ما أرادوا في القربة من الله جل وعلا، فهم أرادوا ما عند الله جل وعلا، فإذن حين توجهوا إلى هذه الآلهة الباطلة، أرادوا ما عند الله، ولم يطلبوا منها استقلالا، وإنما أرادوها؛ زلفى وقربة إلى الله جل وعلا قال: ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3] فأرادوا بذلك القربة.(14/14)
ودليل الشفاعة قوله جل وعلا ?وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ?[يونس:18]الآية, والشفاعة أن يطلبوا من الله جل وعلا لهم الحوائج؛ لأن معنى الشفاعة أن يضم المطلوب منه طلبه إلى الطالب فيرفعه إلى من عنده الأمر، هذا معنى الشفاعة فيقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فيعني يكونون طالبين لنا ما نريد, والله جل وعلا لا يردُّ شفاعتهم؛ لأنهم مقربون عنده، وأصل شرك العالَم كان في جميع الفئات والطوائف كان على أحد جهتين:
? أما الجهة الأولى، الشرك بالاعتقاد بروحانيات الكواكب، كما كان شرك قوم إبراهيم عليه السلام؛ فإن إبراهيم أتى إلى قومه يعبدون الأصنام التي هي مصوّرة على صور روحانية الكواكب؛ الكواكب الخاصة التي يعتقدون أن لها تأثيرا في الملكوت، عبدوا الأصنام أو الأوثان؛ لأن أرواح تلك الكواكب تحِلّ فيها؛ الشياطين تحل في تلك الأصنام والأوثان وتخاطبهم، وربما حصلت لهم بعض ما يريدون، فوقع الأمر بأن أشركوا، وزادوا في الشرك على اعتقاد أن الكواكب هي التي تفعل، وروحانية الكوكب هي التي تخاطب؛ قال جل وعلا ?وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي?[الأنعام:75-76], والعلماء اختلفوا هل كان ناظرا أو مناظرا؟ والصحيح الذي يضعف غيرُه؛ أن إبراهيم عليه السلام كان في قوله (هَذَا رَبِّي) كان مناظرا لا ناظرا.(14/15)
? والنوع الثاني من أنواع الشرك؛ شرك قوم نوح عليه السلام، وهو الشرك من جهة الاعتقاد بروحانية وأرواح الصالحين؛ قال تعالى ?وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا?[نوح:23] فثبت في صحيح البخاري؛ في حديث عطاء عن ابن عباس أنَّه قال هذه أسماء رجال صالحين كانت في قوم نوح، ووقع الشرك بهؤلاء الرِّجال لأنهم صالحون، العرب ورثوا الشرك بالصالحين؛ فعبدوا أصناما متعددة، وأوثانا؛ عبدوا اللاّت؛ واللاّت كان مكان, كان قبرا تحل فيه روحانية ذاك كما يعتقدون، ومثّلوا عليه صنما فصاروا يعبدونه، وهي شياطين تتلاعب بهم، وكذلك العُزّى؛ والعزّى شجرة، ومَناة صخرة، وكان عند الشجرة رجل صالح يتعبد، وكان عند مَناة صالح يتعبد، وجعلوا الصالحين وأرواح الصالحين، والاعتقاد فيهم، وجَعل أولئك أولياء، جعلوا ذلك سببا لكي يرفع أولئك الحوائج لهم إلى الله جل وعلا.
إذا تأملت حال العرب، وجدت أن الشرك حصل من العرب، كما أراد الشيخ رحمه تقريره في هذه القاعدة الثانية؛ أن الشرك حصل من العرب في أناس -كما سيأتي- صالحين، أو أن الشرك وقع من آلهة لأجل طلب القربة والشفاعة، لا لأجل أن هذه مستقلة لها شيء من الربوبية، أو لها شيء من الألوهية الاستقلالية، لا، ولكن لها ألوهية على جهة السبب، تُعبد لكن على أنها واسطة وليست آلهة مستقلة، ولهذا قال جل وعلا ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5], فإنهم يعتقدون وسائل على جهة القربة والشفاعة.
الشفاعة في الكتاب والسنة (النصوص) نوعان شفاعة منفية وشفاعة مثبتة:(14/16)
· والشفاعة المنفية -كما ذكر الإمام رحمه الله- هي الشفاعة فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا؛ شفاعة في الآخرة ممن لا يملك ذلك, الشفاعة بمعنى طلب الدعاء؛ شفع يعني طلب، والشفاعة هي الطلب، والمطلوب منه إما أن يكون حيا حاضرا، وإما أن يكون ميتا؛ والحي الحاضر في الدنيا أو في عرصات القيامة جاءت الأدلة بجواز طلب الشفاعة منه، كما جاءت بذلك النصوص الكثيرة، أما الميّت فإنه ليس في دار أمل، وليس في دار طلب، وليس عند الله جل وعلا في المكان الذي يطلب فيعطى ما طَلَبَهُ، ولكن تطلب الشفاعة من الله جل وعلا، فالشفاعة المنفية هي التي نفاها الله جل وعلا في الكتاب كما في قوله جل وعلا ?مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ?[غافر:18], وكما قال ?وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ?[البقرة:254], وكما قال جل وعلا ?لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ?[الأنعام:51], ونحو ذلك من الآيات التي فيها نفي الشفاعة، هذه الشفاعة المنفية هي الشفاعة التي تكون من غير إذن الله، ولا رضاه، وتكون في طلبها ممن لم يُمكَّن من ذلك، طلب ذلك من ميت مهما كانت درجته، فإنه لم يُمكَّن من ذلك، لم يُمكَّن أن يطلب الشفاعة.
· ولهذا يكون طلب الشفاعة من الله جل وعلا، وهذه هي الشفاعة النافعة، الشفاعة المثبتة، وهذا استطراد من الشيخ رحمه الله، في بيان معنى الشفاعة الحقة، والرد على الذين تعلقوا بالشفاعة الباطلة، وتفصيلها معروف في موضعه من كتاب التوحيد، ومن كتب أهل السنة في الشفاعة.(14/17)
مُلخّص ذلك أن الشفاعة المثبتة هي التي توفرت فيها الشروط الشرعية، وأعظم هذه الشروط شرطا الإذن والرضا؛ الإذن للشافع أن يشفع، والرضا عن المشفوع له، قال جل وعلا ?وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى?[النجم:26], وقال سبحانه ?مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ?[البقرة:255], وقال جل وعلا ?وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى?[الأنبياء:28], وقال ?إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[الزخرف:76], فإذن الشفاعة المثبتة هي النافعة، لكن تنفع بشرطي الإذن والرضا، فالرضا عن الشافع، وأن يكون ممن شهد بالحق وهو يعلم، والرضا عن المشفوع له أن يكون من أهل التوحيد، ولهذا ثبت في الصحيح أن أبا هريرة - رضي الله عنه - سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله من أحق الناس بشفاعتك، أو قال من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة، قال: «لقد علمتُ أنه لن يسألني أحد قبلك، لما أعلم من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه» قال...... ([2]) معنى قوله (أسعد الناس) يعني سعيد الناس، فأفعل التفضيل هنا ليست على بابها في المفاضلة، وإنما هي بمعنى فعل كقوله جل وعلا ?أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً?[الفرقان:24]، والنار ليس فيها مقيل حسن.(14/18)
فإذن الشفاعة إنما هي لأهل الإخلاص، شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام، وشفاعة الملائكة، وشفاعة الصالحين، وشفاعة العلماء، يوم القيامة، إنما هي لأهل الإخلاص، وأهلُ الإخلاص يطلبونها من الله؛ فيقول المخلص: اللهم شفع فيّ رسولك - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، اللهم شفع فيّ ملائكتَك، اللهم شفع فيّ العلماءَ الصالحين، اللهم شفع فيّ عبادَك الذين تحبهم ويحبونك، ونحو ذلك من الألفاظ، فتطلب الشفاعة من الله جل وعلا، ولا تطلب الشفاعة من المخلوق، لما؟ لأن الشفاعة طلب؛ الشفاعة طلب الدعاء؛ إذا قال أستشفع، يعني أطلب منك الدعاء، أطلب منك رفع حاجتي، وإذا رجع أمر الشفاعة على الطلب صارت الشفاعة من أنواع الدعاء، فصارت دعوة غير الله شركا أكبر، لهذا نقول طلب الشفاعة من غير الله شرك أكبر، مما لا يقدر عليه إلا الله، يعني من الأموات ونحو ذلك فإن هذا شرك أكبر؛ لأنه دعاء والدعاء يجب أن يكون مخلصا فيه لله جل وعلا.
?????
× القاعدة الثالثة: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على أُناسٍ متفرّقين في عباداتهم منهم مَن يعبُد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأحجار والأشجار، ومنهم مَن يعبد الشمس والقمر، وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفرِّق بينهم، والدليل قوله تعالى: ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ?[البقرة:193].
ودليل الشمس والقمر قوله تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ?[فصلت:37].
ودليل الملائكة قوله تعالى: ?وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا?[آل عمران:80].(14/19)
ودليل الأنبياء قوله تعالى: ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ?[المائدة:116].
ودليل الصالحين قوله تعالى: ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ... ?الآية[الإسراء:57].
ودليل الأحجار والأشجار قوله تعالى: ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20].
وحديث أبي واقدٍ الليثي - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين ونحنُ حدثاء عهدٍ بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط... الحديث.(14/20)
هذه القاعدة فيها مقدمة ونتيجة؛ أما المقدمة فهي راجعة إلى معرفة حال العرب بما أخبر الله جل وعلا عنهم في عباداتهم، وآلهة العرب التي كانوا يعبدونها، كانت متنوعة، فمنهم من كان يعبد الشمس والقمر، وذكر دليل ذلك، وهو قوله تعالى: ?لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ?[فصلت:37], وهذا النوع من العرب؛ طائفة كانت تعبد الشمس والقمر، ومن غير العرب أيضا، ومنهم من كان يعبد الشجر والحجر، ومنهم من كان يعبد الملائكة، كما قال جل وعلا ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ ([3])لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ?[سبإ:40-41], وكان من الناس؛ من العرب وغيرهم يشرك بالملائكة ومنهم من كان يشرك بالأنبياء، عيسى عليه السلام، قال جل وعلا في حقِّه ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ?[المائدة:116], فأُشرِكَ بعيسى عليه السلام، وأشرك بالصالحين قال جل وعلا ?إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا?[الأنبياء:101-102], وقد جاء في سبب نزولها، أنه لما نزل قول الله جل وعلا ?إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا?[الأنبياء:98], فرح العرب بذلك، وقالوا سنكون مع عيسى، وسنكون مع العزير، وسنكون مع... مع،(14/21)
ثم نزل قول الله جل وعلا ?إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا?[الأنبياء:101-102]. فتوجهوا للصالحين بالعبادات المختلفة للرجال من الأنبياء والرسل والصالحين، وتوجهوا أيضا للأشجار والأحجار ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20], توجهوا إلى الشياطين والجن؛ ?بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41]، ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا?[الجن:6] هذه الأصناف عبادات العرب جاءت في القرآن، وحال العرب ظاهرة فيها، هل فرَّق الله جل وعلا بأمره لنبيه بين فئة وأخرى؛ فقال لهم: من عبد الأشجار والأحجار والأصنام والشمس والقمر قاتلوهم، وأما من جعل الصالحين والأنبياء شُفعاء، وجعل الصالحين والأنبياء قربة وزلفى إلى الله جل وعلا هؤلاء لا تقاتلونهم؟ لم يأتي هذا التفريق؛ بل جاء الأمر واحدا وحكم على الجميع بأنهم كفار ومشركون، وقوتلوا، وأمر الله جل وعلا بقتال جميع تلك الفئات، وجميع أولئك المشركين؛ جاء الأمر بقتالهم بدون تفريق ?وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً?[التوبة:36], وهذا عام في الجميع، وهذه هي النتيجة، وما قبلها مقدمة، وإذا كان كذلك, كان لا فرق أن يعبد نبيا، أو يعبد حجرا، أو شجرا، أو أن يعبد جنيا، أو أن يعبد ملَكا، فالحال واحدة.
فمن أتى في هذا الزمان، وفرّق، وقال الصالحون إنما هم أولياء، ولهم مقام عند الله، والأنبياء لهم مقام وجاه، فإذا استشفعنا بهم فإن لهم جاه عند الله جل وعلا.(14/22)
فنقول: وأي فرق بين عبادة هؤلاء الصالحين، والتوجه إليهم، وبين عبادة من عبد عيسى، أو عَبَدَ العُزير، أو عبد الصالحين الذين كانوا يُعبدون؟ أي فرق بين هذا وهذا؟ لاشك أن الحُكم على الجميع واحد، وهذه قاعدة يقينية من أنه لا فرق بين هذا وهذا؛ لأن المدار على عبودية القلب، إذا قام في القلب التنزيه والإفراد بالله جل وعلا، فسواء أكان المشرك به صالحا أو طالحا، كان نبيا أم لم يكن نبيا، كان شجرا أو كان ملكا، الأمر واحد؛ لأن القلب يجب أن تكون عبوديته لله وحده، وأن يكون دينه لله وحده ?أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ?[الزمر:3], ?قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي?[الزمر:14], وهذه العبودية من جهة العابد، لا ينظر فيها إلى من توجه إليه، فإن توجه لله الواحد الأحد فهو مخلص موحد، وإن توجه إلى غيره فإنه مشرك مهما كان ذلك الغير، ولهذا قال جل وعلا ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18] وقوله (أَحَدًا) يعمّ الجميع كما ذكرنا ذلك مرارا، وكقوله جل وعلا ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117], قال جل وعلا هنا ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ? لا برهان له به، هذه صفة من عبد غير الله جل وعلا؛ لأنه لا برهان له بما عبد، وليس لها مفهوم لأن هناك ما يُعبد وثَمَّ برهان عليه، بل كل من عبد غير الله، ودعا غير الله فإنه لا برهان له على أحقِّية ذلك الغير بالعبادة أو بالتوجه.(14/23)
فإذا نظرنا في هذا الزمن، الذين يعبدون الأولياء، ويعبدون القبور، والمشاهد، ويتوجهون إليها، والأنبياء، والرسل ويقولون مقامات ونحو ذلك للصحابة، أو في كل بلد ثَمَّ طريق ويتوجه الناس إليه، ويشركون به، يقولون هذه ليست عبادة المشركين الأولين، لما؟ قالوا: لأن هذه عبادة الصالحين، وأولئك إنما عبدوا الأصنام، عبدوا أحجار، كيف يكون ذلك، وقد قال جل وعلا في وصف أولئك المعبودين؛ ?أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ?[النحل:21], قال طائفة من المفسِّرين؛ كأبي الحيّان في تفسيره البحر المحيط، وقال غيره، إن هذه الآية فيمن يُبعث لأن الله قال ?أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ? والذي يوصف بأنه ميت من كان حيا قبل ذلك، والأصنام التي هي من الأحجار والأشجار ونحو ذلك، لا توصف بأنها أموات غير أحياء، وإنما الذي يوصف بذلك من كان تحله الحياة ثم صار ميتا، فإنه يقال أموات غير أحياء، وبين ذلك أكثر حين قال (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) فإنها بحق من يبعث يوم القيامة للقاء الله جل وعلا.
فإذن هذا الذي يحتج به مشركوا هذا الزمان، ومشركوا زمان الشيخ رحمه الله، وهذا في كلِّ مكان، يقولون إنما توجهنا إلى الصالحين، وأولئك الأولون إنما توجهوا أيضا إلى الصالحين، قالوا نطلب الوساطة ما طلبنا منهم استقلالا، نقول والأولون أيضا طلبوا الواسطة والقربة والشفاعة، ولم يطلبوا الاستقلال، فالحال هي الحال، وإن تغيرت الأسماء، وتغيرت الدعاوي، فالحال هي الحال، وما أشبه الليلة بالبارحة.
?????(14/24)
× القاعدة الرابعة: أنّ مشركي زماننا أغلظ شركًا من الأوّلين، لأنّ الأوّلين يُشركون في الرخاء ويُخلصون في الشدّة، ومشركوا زماننا شركهم دائم؛ في الرخاء والشدّة. والدليل قوله تعالى: ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65].
هذه نتيجة، قاعدة، هي نتيجة لما سبق، يعني مرتبة على ما سبق، إذا تقرَّر أن المشركين في هذا الزمان من جنس المشركين في كل زمان، من جنس مشركي الجاهلية، وإن كانوا ينتسبون إلى الملة، والإسلام، ولهم صلوات، ولهم تعبدات، إذا كانوا من جِنسهم، والشرك الذي فعلوه هو الذي فعله الأولون، فربما زالت الحاجة، وهو الذي بيّنه الشيخ في هذه القاعدة؛ بأن مشركي هذا الزمان أغلظ شركا من مشركي أهل الجاهلية، لما؟ لأن الله جل وعلا وصف أهل الجاهلية بأنهم يُشركون في الرخاء، وأما في الشدة فإنهم يوحدون، قال جل وعلا ?وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ?[النحل:53]، إليه، يعني دون ما سواه ?فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ(53)ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(54)لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ? قال جل وعلا -في بيان حالهم في البحر-?حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ(22)فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ?[يونس:22-23], وقال جل وعلا ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ(14/25)
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65], وفي الآية الأخرى ?[وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] ([4]) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ?[لقمان.32], إذا تأملت الحال والحال، فأولئك يشركون في حال الرخاء، وأما إذا مستهم البأساء ومستهم الضراء؛ فإنهم يخلصون ويوحدون؛ دعوا الله مخلصين له الدين، أما مشركوا هذه الأزمنة؛ فإنهم إذا مسهم الضر فزعوا إلى العيدروس أو الحسين، أو البدوي، أو إلى المرغناني، أو إلى...أو إلى.....إلى آخر أنواع الناس، أو الموتى الذين يتوجهون إليهم، إذا مستهم الضراء فزَعوا إلى الأشجار وإلى أحجار ونحو ذلك، وهذا لا شك أنه أعظم من شرك الأولين؛ لأنهم يشركون في الحالين، والمشركون الأولون يشركون في حالٍ واحدة، ويتذكرون في الحال الثانية، ولكن من يفقه هذا، ومن يفهم هذا ومن يشِفُّ عليه هذا الأمر حتى يكون يقينيا عنده, لا مراء فيه، ولا لف، لأن بعض الناس قد يقول هؤلاء يصلون، و يزكون، ويصومون، فكيف يكونون أغلظَ شركا من الأولين، نقول العمدة على أصل الدين؛ لأن هذه العبادات بلا توحيد لا تنفع، كما ذكرنا في أول الكلام، كما لا تنفع الصلاة بلا طهارة، فإذا كان هناك عبادات عظيمة ومع الشرك فإنها لا تنفع ولا تُقبل، فكيف إذا كان يشرك في حال الرّخاء وفي حال الشِّدة؟ وقد ذكر بعض العلماء، أنه لقِي رجلا من أهل الطائف، قبل انتشار الدعوة هناك ومعرفة الناس بالدعوة والتوحيد، فقال له هذا: هؤلاء أهل الطائف إذا جاءتهم شدة فزعوا إلى ابن عباس، ولا يعرفون الله، فقال الآخر له، معرفة ابن عباس تكفي، وهذا نوع من أنواع الشركيات التي تغلغلت في النفوس، نَسُوا معها الله جل وعلا في الرخاء، وفي الشدة، إلا ما نذر، وهذا كثير, كثير اليوم، فحرّك ترى،(14/26)
والناس في عجب في هذا الأمر، فالله جل وعلا أنعم علينا في هذه البلاد، أننا لا نرى ولا نسمع ما يقلقنا من هذه الأمور الشركية، والكفر الأكبر، والشرك الأكبر، بالله جل وعلا، ومن ذهب إلى البلاد التي تكثر فيها الشركيات؛ كبعض جهات مصر، وبعض جهات السُّودان، وأفريقيا، وبعض جهات الباكستان، والهند، ونحو ذلك، والعراق، وسوريا، ونحو ذلك، رأى عجبا، والناس يتوجهون إلى هذه الأضرحة، وإلى مدافن الأولياء، بل وغير الأولياء، ويعتقدون فيهم الاعتقادات، جعلوا لهم نصيبا من الإلهية، والله جل وعلا له الحق الأعظم في إخلاص الدين له، وأعظم ما يستحقه جل وعلا أن يُعبّد القلب له، وأن لا تكون ثَمّ عبادة إلا له سبحانه دونما سواه، كما قال جل وعلا ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]، وقال جل وعلا في الحديث القدسي «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه»، فإذا كان هذا في الرياء، يقصد المرء بالعمل غير الله جل وعلا؛ يقصد رؤية فلان، فكيف بالتوجه بالعبادة لغير الله جل وعلا، كأن يدعو غير الله، وأن يستغيث بغير الله، أو أن ينذر لغير الله، أو أن يذبح لغير الله، أو أن يستعيذ بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو أن يستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، التوجه إلى الموتى والاعتقاد فيهم، ويسمّون ذلك بالسر؛ يُقال روح هذا السيد فيها سر، لهذا يجعلون مكان الروح كلمة سر؛ فيقولون هذا له سر، وقدس الله سرّه؛ لأنهم يجعلون لأرواح أولئك أسرارا، وروحه ليس فيها سر، إلا سر صنعها وخلقها من الله جل وعلا، أما أنها تغيث من استغاث بها، أو تُعطي من طلب منها، فهذا كله ليس إلا لله جل وعلا، ?إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ?[البقرة:166],(14/27)
وقال جل وعلا -مخبرا على حال المشركين في النار- ?تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(97)إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:97-98], قال العلماء ما سوَّوهم برب العالمين في أنهم يخلقون، ويرزقون، ويُحيون، ويُميتون، وإنما سوَّوهم برب العالمين في العبادة، بأن توجهوا لهم ببعض العبادة، فصاروا مسوِّين لهذه الآلهة الباطلة بالله جل وعلا في استحقاق العبادة، لأنهم عبدوا الله، وعبدوا غيره، فساوُوا الخلق بالخالق جل وعلا، وهذا أبشع ما يكون من الظلم، وأقبح ما يكون من الاعتداء على حق الله جل وعلا، إذ حقه سبحانه وتعالى إجلاله، وتعظيمه، وتوحيده، والإخلاص له، والاعتراف له بكل كمال، ووصفه جل وعلا بنعوت الجمال، والجلال، والكمال، وسَل رؤية النفس, وأنه ليس ثَم خير إلا منه سبحانه، وليس ثَم اندفاع شر إلا منه سبحانه، فنحن إنما نتقلب بفضل الله وبنعمته.
فهذا الأمر إنما يعود إلى أصل تلك الدعوات الثلاث.
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا أبتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
قام بتفريغ هذا الشريط سالم الجزائري
---
([1]) كلمة غير واضحة.
([2]) كلمة غير واضحة.
([3]) الشيخ حفظه الله قال (نحشرهم, نقول).
([4]) الشيخ قال وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله... ولعلها التي في سورة لقمان التي فيها وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين... الآية.(14/28)
شرح كِتَاب فَضْلِ الإِسْلاَمِ
لشيخ الإسلام الإمام المجدد
الشيخ محمد بن عبد الوهاب
- رحمه الله تعالى-
[(06) أشرطة مفرّغة]
أعدّ هذه المادة:
سالم الجزائري وأبو إسحاق سمير
بسم الله الرحمن الرحيم
.. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل العلم ومحصليه؛ الذين صحت نياتهم فيه، وصح فيه قصدهم، وأخذوا فيه بالطريق التي سلكها أئمة أهل العلم، وهذا الطريق هو الذي يصل من سلكه إلى مبتغاه، ويحقق العلم فيه من اقتفى سنن أهل العلم في طلبهم وسمتهم وهديهم وسلوكهم.
ثم إننا في فاتحة هذه الدورة العلمية أو هذه الدروس العلمية التابعة لهذا المسجد الذي حمل اسم شيخ الإسلام ومجدد الملة في زمانه تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني المتوفَّى سنة 728 هجري.
إن هذه الدروس لها من الفوائد التي حصلها من التزم بها فيما مضى ومن سيحصلها إن شاء الله من التزم بها فيما بقي ما يعين على أخذ العلم وسماعه والعناية به ودرسه في أيام قليلة وليالي يسيرة إذا نظر إليها الناظر؛ ولكن بالنظر على كثرة ما يُلقى فيها من العلم وتُشرح فيها من الكتب والمتون فإنّ فيها خيرا كثيرا.
نرجو من الله جل وعلا أنْ يكتب أجر من ألقى من جميع المشايخ، ومن استمع، ومن أَسْهَم في ذلك وأعان على نشر هذه الدروس العلمية ونظّم لها إنه سبحانه جواد كريم.
ثم إنّنا بين يدي شرح كتاب فضل الإسلام نقدم بمقدمة مهمة يحتاج إليها كل طالب للعلم ألا وهي:
أهمية العلم في دين الإنسان(15/1)
فالإسلام عظيم أن يكون المرء التزم به، وعظيم أن يكون المرء قد أجهد نفسه وجاهد نفسه في أن يكون على حقيقة الإسلام، ولكن لن يكون ذاك إلا بالعلم، فالعلم النافع به يصلح القلب وبه يصلح العمل، ولهذا قال الله جل وعلا ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي?[يوسف:108]، ومعنى (عَلَى بَصِيرَةٍ) يعني على علم؛ لأن البصيرة للقلب هي العلم الذي به يُبصر حقائق المعلومات ويدرك الصواب فيها، وقال الله جل وعلا ?أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ?[الأنعام:122]، وقد قال أهل العلم: إن هذا النور هو الإسلام الذي هو العلم النافع والعمل الصالح.
ولهذا لم يأمر الله جل وعلا نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته من بعده أن يزدادوا من شيء شيئا إلا أن يزدادوا من العلم، فقال جل وعلا في سورة طه ?وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا?[طه:114].
رفع الله أهل العلم على سائر المؤمنين لما حصلوه من العلم فقال جل وعلا ?يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ?[المجادلة:11]، فكل مؤمن يرفع الله جل وعلا بإيمانه، وكل صاحب علم صحيح من أهل الإيمان فإنه مرفوع على غيره درجات، وهذا من فضل الله جل وعلا على أهل العلم.(15/2)
وطالب العلم إذا سلك العلم إذا سلك هذا الطريق فإن الله يسهل له به طريقا إلى الجنة، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً, سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ»، وذلك أن طريق الجنة يكون بصحة الاعتقاد ويكون بصحة العمل، وصحة الاعتقاد لا تكون إلا بعلم، وصحة العمل لا تكون إلا بعلم، فـ(مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً) من علم التوحيد أو علم الفقه والحلال والحرام, (سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إِلَىَ الْجَنّةِ)؛ لأن الجنة من أسباب دخولها صحة العمل وصحة الاعتقاد.
ومن فضل العلم أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء؛ لأنه سبَّح وهلل ومجد الله وعظم وأثنى عليه وسار في اتباعه لمحمد عليه الصلاة والسلام عن يقين وعلم ومعرفة، وهذا يكون به الكمال؛ كمال المخلوقات، فيكون أَوْلى المخلوقات بالفضل والرفعة والقربى من الله جل وعلا، لهذا تعرف الأشياء فضل طالب العلم وفضل العالم فيستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء.
ثم لأن كل هذه الأشياء التي جعلها الله جل وعلا غير مكلَّفة تعرف فضل العالم الذي يُعلِّم الناس الخير والذي يبث في الناس محبة الله جل وعلا، والعلم به وأسمائه وصفاته، وما يستحقه جل وعلا من التوحيد، وما يستحقه جل وعلا من التعظيم، وما يستحقه نبيه عليه الصلاة والسلام من المحبة والمتابعة والعلم بسنته والإقتداء به، فحينئذ يكون ممن ينشر في العالَم محبة الله جل جلاله والعلم به، وهذا شيء يبطل به العالم ما سواه من الكائنات، لهذا يستغفر له كل شيء رضا بما يصنع، حتى الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع؛ لعظيم عمله.(15/3)
لهذا إذا علمتَ بعض هذه الأشياء فإنك تُقبل إقبالا شديدا على العلم في حفظه وتدارسه وحضور حلق العلم ومعرفة ذلك؛ لأن هذا لا يرغب فيه إلا مؤمن صحيح الإيمان، ولا يرغب عنه إلا كل مفرق، وكل من جاهد نفسه في العلم فإنما يجاهد نفسه في صلاح قلبه وصلاح عمله، والعالم أو طالب العلم إذا أذنب فإنَّ استغفاره ليس كاستغفار سواه؛ لأنه إذا استغفر فيكون استغفاره عن علم وبينة، وعن معرفة بالله جل وعلا به وما يستحق، ومعرفة بقصور نفسه وما ارتكبه وما قصر فيه، لهذا كان سيد علماء هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فعلَّمه نبينا صلى الله عليه وسلم أن يدعو في صلاته بقوله «اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم» فجعل هذا الدعاء لأبي بكرٍ الصديق وهو الأكمل علما وعملا وسلوكا وسابقة ومحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وخُلة، فجعل له هذا الدعاء الذي فيه أعظم الاستغفار والإنابة من جهة عِظَم الاعتراف بالذنب، (ربي إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت)، وكل طالب علم وعالم بقدر معرفته بالله وعلمه بالله جل جلاله وعلمه بتفاصيل الشريعة وعلمه بتفاصيل حق الله في الاعتقاد فإنه يعظم عنده الذنب؛ بل تكون عنده بعض الأعمال مما يوجب الاستغفار ولو كانت عند غيره ليست مما يوجب الاستغفار.
ولهذا تعظم درجة طالب العلم والعالم بقدر ما اكتسبه من علم التوحيد وعلم العمل في عظم استغفاره وإنابته لله جل جلاله.
وفي هذا الزمن ربما ترون أن كثيرين أساؤوا ظنا بالعلم من جهة بل من جهات:
أساؤوا ظنا بالعلم في ظن بعضهم أن العلم لا فائدة مرجوَّة منه بقدر ما يبذل منه الباذل.
ومنهم من أساء ظنا بالعلم في أنه إذا تعلم فإنما سيكون في نهايته مثل غيره، ولن يكون من الأثر الشيء الكبير الذي يوازي تعبه في العلم.(15/4)
ومنهم من أساء الظن في العلم بأن الأهم هو الدعوة للناس والإرشاد والبذل ونحو ذلك، والعلم ليس في الأثر كأثر النشاط والدعوة ونحو ذلك.
ومنهم من أساء ظنا بالعلم في أن العلم لن يكون لأصحابه شأن، وأن الشأن يكون لغيرهم، إما من أهل الدنيا، وإما من أهل الاتجاهات المختلفة في هذه الحياة.
وهذا كله هذه الأشياء جميعا من سوء الظن بالشريعة؛ لأن العلم هو الشريعة.
والواجب على طالب العلم أن يحسن ظنه بالله جل وعلا، وأن يحسن ظنه في عمله للعلم، وأن يحسن ظنه بالعلم والعمل جميعا، وأن يقبل على ذلك.
ولقد أحسن ابن القيم رحمه الله :
والجهلُ داء قاتلٌ وشفاؤه
أمران في التركيب متفقانِ
نص من القرآن أو من سنة
وطبيب ذاك العالم الرباني
والعلم أقسام ثلاث ما لها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكلُّ في القرآن والسنن التي
جاءت عن المبعوث بالفرقان
والله ما قال امرؤ متحذلق
بسواهما إلا من الهذيان
وقد قال أحد العلماء أيضا في منظومة له بل في شعر له:
لا تسيء بالعلم ظنا يا فتى إن سوء الظن بالعلم عطب
وهذا حق فإن جربنا ورأينا في أن كل من أساء ظنا بالعلم وتخلف عن سبيل حملة العلم ودرس ثم ترك ولم يستمر في العلم إلا كان أمره إلى غير كمال، فالعلم به كمال الروح، به كمال الاعتقاد، به كمال العمل، به كمال انشراح الصدر، به كمال رؤية الأشياء، به كمال الأمل في أن لا يتصرف شيئا إلا على وصف الشريعة.
وقد ذكر أهل العلم أنَّ من أسباب ضلال الضالين من هذه الأمة أنهم ضلوا لأنهم لم يكونوا على علم صحيح، فالعلم الصحيح سبب من أسباب وقاية الفتن ووقاية أسباب الضلال والافتراق، إلى غير ذلك من آثار ترك العلم.(15/5)
لهذا أوصيكم ونفسي بالمحافظة على العلم وعلى حمله وحفظه وتدارسه، وأن يتعاهد المرء ما درسه، وأن يقبل على ما لم يعلمه بأخذه من مشايخه الذين يوثق بهم في فهمهم للعلم وفي آدائهم له؛ لأن هذا به -إن شاء الله تعالى- صلاح النفس وصلاح العمل.
أسأل الله جل وعلا أن يزيدنا وإياكم من الهدى والعلم، وأن يجعلنا من عباده الصادقين المخلصين، وأن يغفر لنا ذنوبنا إنه سبحانه جواد كريم.
?????
[المتن]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب فضل الإسلام
قال رحمه الله تعالى:
باب: فضل الإسلام
وقول الله تعالى ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:3].
وقوله تعالى?قُلْ يَا َيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ?[يونس:104]الآية.
وقوله تعالى? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[الحديد:28].(15/6)
وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ، فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا؟ قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».
وفيه أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وفيه تعليقاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».(15/7)
وعن أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبدٍ على سبيل وسنة َذَكَر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسُّه النار، وليس من عبد على سبيل وسنة ذَكَرَ الرحمن فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مَثَلُه كمثل شجرة يبس ورقُها، فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريحُ فتحاتَّ عنها ورقُها، إلا تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتّ عن هذه الشجرة ورقها، وإنَّ اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم؟ ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين.
[الشرح]
الحمد لله، وبعد:
هذه الرسالة رسالة فضل الإسلام للإمام المجدد شيخ الإسلام أبي عبد الله وأبي علي محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر والباعث للمسلمين فقههم ودينهم.
هذه الرسالة من الرسائل المهمة التي كتبها الإمام المجدد عليه رحمة الله، وسماها فضل الإسلام؛ لأنه أول باب لهذه الرسالة.
ووجه أهمية هذه الرسالة أن هذه الرسالة تُعتبر رسالة في المنهج الذي يتميز به حملة التوحيد و أتباع السلف الصالح بعامة، كما أنها تبين كثيرا من المباحث والمسائل المتصلة بالواقع العملي للدعوة ومخالطة المسلم المتبع لطريقة السلف للناس من جميع الاتجاهات ومن جميع الأفهام والأهواء.
ففيها بيان تفسير الإسلام.
وفيها بيان فضل الإسلام.
وفيها بيان البدع وأن البدع أشد من الكبائر.
وفيها بيان معالم الانتماء الحق، وإبطال أنواع الانتماء المحدَثة.
وفيها تفصيل المنهج من حيث الأولويات والاهتمام بالسنة ورد البدع.
وفيها ما يتصل ببحث الألقاب والشعارات التي قد نتسمى بها، أو قد يرفعها بعضهم، وبيان حكم ذلك.
وفيها بيان أن الإسلام واجب أن يُدخل فيه كلِّه، وأن لا يفرق بين أمر وأمر فيه من حيث وجوب الدخول فيه، والإيمان بذلك.(15/8)
فهي رسالة تعد رسالة منهج يميز المتبعين للسلف الصالح أهل التوحيد وحملة العقيدة، وقد ألفها الإمام المجدد رحمه الله لسد هذه الثغرة العملية التي أدركها من واقع معاشرته؛ بل من واقع قيادته للمؤمنين في الدعوة وفي العلم، حيث ظهر له ضرورة تبيين هذه المسائل؛ لكن على طريقته رحمه الله من أنه إنما يذكر الباب ويذكر تحته الآيات والأحاديث التي تدل على ذلك وبعض أقوال السلف، وهذه منهجية في التأليف اعتمدها في الأكثر من مؤلفاته رحمه الله تعالى.
ومن أوجه الاهتمام بهذه الرسالة فضل الإسلام أنها لم تُشرح من أبناء الشيخ رحمه الله ولا من تلامذته القريبين منه كما شرحت رسائل أخرى وبينت وفصلت؛ ككتاب التوحيد وغيره من الكتب والرسائل والنبذ التي كتبها عليه رحمة الله.
والحاجة في كل زمان قائمة في إلى هذه المعاني التي اشتملت عليها هذه الرسالة لهذا كانت العناية بها مهمة، ولقد سبق لي أنه من بضع سنين أن شرحت هذه الرسالة في مجالس كثيرة، واشتمل ذلك الشرح على إطناب في بعض الأبواب وعلى اختصار في بعضها.
ونرجوا إن شاء الله تعالى أن يكون هذا الشرح مشتملا على مقاصد الكتاب، وعلى إيضاحات مهمة تُفهِم مقصود المؤلف، وتُقرر المنهج السلفي ومنهج أهل التوحيد في هذه المسائل، وتُقرر ما يتميز به حملة السنة عن غيرهم في الاعتدال في القول، والاعتدال في العمل والنظرة الصحيحة للأمور وفق السنة لا وفق الأهواء المختلقة.
قال رحمه الله تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين باب فضل الإسلام)، (باب فضل الإسلام) فضل الإسلام يريد به أمورا:
الأول: فضل الإسلام في نفسه على غيره من الملل، والإسلام يشمل الدين كله بمراتبه المختلفة: الإسلام والإيمان والإحسان. ويشمل أيضا الدين كله من جهة العقيدة والشريعة والسلوك والجزاء ونحو ذلك، فالإسلام في نفسه فَضَلَ غيرَه وصار مفضَّلا على غيره بتفضيل الله جل وعلا.(15/9)
الأمر الثاني: أن فضل الإسلام على أهله الذين اعتنقوه ودخلوا فيه واستقاموا عليه ظاهر في الدنيا والآخرة في النصوص، فيبين المؤلف بعضا من النصوص التي تدل على فضل الإسلام على أهل الإسلام، وآثار الإسلام المباركة على عباد الله المؤمنين.
الأمر الثالث: أنَّ الإسلام تحمله أُمَّة، وهذه الأمة لأجل حملها للإسلام صارت مفضَّلة على غيرها، وصارت خيرا من غيرها، كما قال تعالى ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ?[آل عمران:110]، سبك الآية: كنتم للناس خير أمة أخرجت. وذلك لفضل هذه الأمة في نفسها بما حملت من الدين، ولفضلها على غيرها من الأمم، ثم فيه فضل هذه الأمة الوسط من هذه الأمة على سائر فرق هذه الأمة، فأمة الإسلام افترقت إلى فرق كثيرة وكلها في النار إلا واحدة، وهذه الواحدة هي الجماعة، وهي التي أخذت بالدين الوسط؛ يعني الدين المتيقن منه العدل والخيار، قال جل وعلا ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا?[البقرة:143] ، يعني عدلا خيارا، عدلا خيارا:
لوسطيتها في العقيدة بين الغالين وبين الجافين.
ولوسطيتها في الأحكام بين الغالين والجافين.
ولوسطيتها في السلوك بين الغالين والجافين.
ولوسطيتها في أنواع التعامل في مع الخلق بين الغالين والجافين.
لهذا صارت هذه الأمة الوسط من أهل الإسلام صار لها من الفضل المزيد، فإذا كان لأهل الإسلام عامة كأمة فضل خاص -بينته الآيات والأحاديث-، فكذلك أحرى الناس بأخص الفضل وأعلى الفضل هم أهل التوحيد والسنة الذين أخذوا بطريقة الجماعة الأولى، لهذا ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أنتم موفُّون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها عند الله»، وهذا من فضل الله العظيم.(15/10)
لهذا بين رحمه الله في هذا الباب وفي هذا الكتاب بعامة ما يتصل بتقرير هذه المسائل وبيَّن أنواع الفضل في الدنيا والآخرة في العقيدة والشريعة وأهل الإسلام، وما يتميز به القرآن والسنة من الفضل على أهله المتمسكين بأنواع الفضل مما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال رحمه الله (وقول الله تعالى: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:3]) وفي قوله (وقول الله تعالى) يصح فيها الوجهان:
بالجر عطفا على (فضلِ)؛ يعني (بابُ فضلِ الإسلام وباب قولِ الله تعالى).
والرفع ابتداء (وقولُ الله تعالى: ? الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ?) على نحو ما مر بنا في شرح كتاب التوحيد.(15/11)
قوله جل وعلا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا) هذه الآية نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم قائم في عرفة في يوم جمعة، بيَّن الله جل وعلا فيها أنه جل جلاله أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، وإكمال الدين يعني أن هذا الدين وهو دين الإسلام بعقيدته وبشريعته وبمصارده من الكتاب والسنة وما دل عليه الكتاب والسنة من الأدلة أن هذا قد أكمله الله جل وعلا، فأكمل لنا الدين فلم يعد فيه زيادة لمستزيد، وهذا فضل الإسلام؛ أن غيره من الملل لم تكن كاملة بل كان الناس بعدها يحتاجون إلى أشياء فلا يجدونها، فجعل الله جل وعلا هذا الدين كاملا حتى لا يكون فيه زيادة لمستزيد، وقد كان من قبلنا دخلوا في كثير من البدع وكثير من السلوكات عن جهل منهم تارة وعن علم تارة؛ لكن في الإسلام وفي دلائله من الكتاب والسنة فيه من بيان الأصول التي تدل على كمال الدين، وعلى أنَّ أصول الدين وعقائد الملة أنها ظاهرة بينة واضحة ما تجعل أهل الإسلام في أمنة أن يكونوا ضالين عن الحق كما ضل من قبلنا، أو يكونوا زائغين عنه لعدم علمهم به، فالعلم به ظاهر وإكمال الله لهذا الدين بيِّن، فلذلك منَّ الله على الناس بهذا الإكمال حيث قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ).
وقال (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) والنعمة نوعان:
¨ نعمة دينية.
¨ ونعمة دنيوية.
والإسلام له فضل في الجهتين.
فمن الجهة الدينية: الإسلام بمصادره من الكتاب والسنة فيه البيان لما يحتاجه الناس في أمر دينهم حيث لا يلتبس من أراد الحق، لا يلتبس الطريق على من أراد الحق.(15/12)
وفيه أيضا فضل على أهل الإسلام في النعمة الدنيوية؛ لأن الله جل وعلا وعد من تمسك بالإسلام أنه يكون في حياة طيبة، كما قال جل وعلا ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً?[النحل:97]، والحياة الطيبة تشمل الطمأنينة في هذه الدنيا وتشمل الأمن وتشمل ساعة الرضا وتشمل الرضا ونحو ذلك مما لا تكون الحياة الطيبة إلا به ولا يكون الاطمئنان والعيش الرغد إلا به، مهما كثر المال أو كثرت مخارج الدنيا فلا تستقيم إلا بالطمأنينة والرضا والأنس لله جل جلاله، وهذه كفلها الدين لأهله وأهل الإسلام.
قال (وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا) والإسلام إذا رضيه الله جل وعلا لعباده دينا؛ معنى ذلك أنه سبحانه وتعالى يرضى عمن أخذ بهذا الإسلام، ويرضى عمن استقام على الإسلام ودخل فيه، وإذا كان كذلك فأهله مرضي عنهم، وإذا كانوا مرضيا عنهم من الله جل وعلا فهم إذن مخصوصون بتوفيق الله جل وعلا ومعيته الخاصة، قال سبحانه ? إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128]، ومعية الله الخاصة هي لمن رضي عنه، فمن رضي عنه قولا عملا وذلك بتمسكه بالإسلام اعتقادا وعملا فإنه يحظى بالمحبة من الله جل جلاله والتوفيق والهدى، وهذه كلها فيها من الآثار في الدنيا والآخرة مما لا يدخل تحت حصره.
إذن دلت الآية كما هو مراد المؤلف رحمه الله أن الإسلام كمُل، وأن الله أتم دين النعمة الدنيوية والدينية، وأنه رضي الإسلام دينا، ورضي عن أهله الذين أخذوا به، وهذا من محبة الله جل وعلا للإسلام -لهذا الدين-، ومن فضل الدين على أهله أنه كان سببا في فضل الله جل وعلا ومحبته وإنعامه وإتمام الأمر لأهل الإسلام.(15/13)
وإذا تأملت في غيرنا فإنك ستجد أن الله جل وعلا لم يمنحهم من الفضل كمنا منح هذه الأمة، ولهذا وجب على المؤمن أن يتبين فضل الله جل وعلا عليه وأن لا يمنَّ على الله بعمله أو أن لا يمنَّ على الله جل وعلا بعبادته وبسلوكه، فإن الله جل وعلا هو صاحب المنة لو كانوا يعقلون.
وفي الآية من الفوائد:
¨ أنَّ قوله جل وعلا (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أن الإكمال شمل الدين كله، والدين ينقسم بأحد الاعتبارات إلى عقيدة وشريعة، وإكمال الدين يعني إكمال العقيدة وإكمال الشريعة، والعقيدة لها وسائل لإثباتها والعلم بها، وإثبات الغاية إثبات للوسيلة، فإثبات كمال الغاية هو إثبات كمال الوسائل، ففي الآية دليل على أنَّ وسائل تقرير العقيدة والشريعة قد أكملها الله جل وعلا بما دل عليه في الكتاب والسنة من الأدلة النصية أو الأدلة الأخرى التي دل عليها الكتاب والسنة، فعقيدة الإسلام أكملها الله؛ فلا يمكن أن يكون في غير الكتاب والسنة من الدين ما هو أكمل مما فيهما، ولهذا بطل قول الفلاسفة وأهل الكلام وأهل الفرق بأكملها في أنهم راموا الكمال في طرق عقلية أو فلسفات كلامية، راموا الكمال فيها فأخذهم النقص، حتى قال قائلهم: طريقة السلف أسلم لكن طريقة الخلف أعلم وأحكم. ويريدون أيضا أكمل، وهذا دلت الآية على بطلانه؛ لأن إكمال الدين لا يكون بإكمال وسائل الإثبات، وإذا كانت وسائل الإثبات كاملة فإن الطرق المختلفة التي أحدثت وسائل أخرى أنها ظاهرة البطلان.(15/14)
¨ الفائدة الثانية: قوله جل وعلا (رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) في قوله (لَكُمْ) ما يدل على أن الإسلام الذي رضيه هو الإسلام الخاص الذي صار سمة هذه الأمة وإلا فكلمة الإسلام تشمل رسالة كل رسول؛ لأن كل رسول بعث بالإسلام؛ لكن في قوله (لَكُمْ) ما يدل على أن الإسلام الذي رضيه الله جل وعلا هو الإسلام الخاص الذي من لم يدخل فيه فإنه ليس بمسلم بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قبل ذلك فمن أسلم الإسلام الذي أمر به الرسول الذي جاء فإنه يكون مسلما مرضيا؛ ولكن بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا إسلام إلا الإسلام الخاص، وهذا يشمل مراتب الدين الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان.
والدين هو كل ما يدين به الناس ويجعلونه إلفا لهم وديدنا لهم، وهو في أصله مأخوذ من الديدن، هذا ديدنه يعني هذا ما اعتاده والتزمه، دِنْتُه يعني التزمتُه، والدَّيْن سُمي بذلك لأنه ملتزم به، والدِّين كذلك هو الطريقة الملتزمة، فإذا اعتقد شيئا والتزمه صار له دينا، وإذا عمل بشيء وسلكه صار له دينا، حتى تصير الأنظمة التي تُلتزم في اللغة تسمى دينا كما قال الله جل وعلا في قصة يوسف عليه السلام ?مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ?[يوسف:76]، سمى طريقة الملك في الأحكام في مسألة السرقة وأنَّ الذي سرق يؤخذ أسيرا أو رقيقا عقابا له على سرقته، سماه الله جل وعلا دينا لأنه التزام لحكم في كل حال، لهذا صار الدين دين الملك في قصة يوسف هو ما التزمه الملك في رعيته حين ذاك من الشرائع.
إذا كانت الشريعة مخالفة لشريعة الإسلام يصح أن يُقال لغة: إن هذا دين كذا؛ لأنه يدان به ويلتزم.(15/15)
فإذن في قوله (رَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا) أن كل التزام يلتزمه الناس في أمور العقائد أو في أمور الشرائع والأحكام والأقضية أو في أمور السلوك أو أمور الدعوة والمنهج، إذا التزموه ويكون ليس مدلولا عليه بنص القرآن أو نص السنة أو بما حكم به السلف أو أئمة الإسلام فإنه بدلالة الآية يمكن أن يقال إن الله لم يرضَهُ دينا؛ لأنه ما رضي دينا إلا دين الإسلام على النحو الذي أوضحنا.
قال رحمه الله بعدها (وقوله تعالى ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ?[يونس:104]) مناسبة الآية ودلالتها أنّ الإمام المصلح رحمه الله تعالى يريد أنَّ الدين والإسلام له فضل على أهله الذين اتضحت لهم به معالمه([1])، حيث إنهم يَسْلَمون من براثن الشهوات وبراثن الشبهات وهي أعظم، وإذا وردت الشكوك فإن صاحب الدين يسلم من التردد فيها، فيكون حينئذ عنده البصر النافذ والبصيرة التامة عند حلول الشبهات وعند حلول الشكوك، لهذا قال جل وعلا (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إذا وقعت الشكوك من أهل الشرك أو أهل البدع أو أهل الضلالات وأوقعوها لدى المؤمن وعرضوها عليه، فإن من فضل الإسلام على المؤمن على المسلم إذا علمه وتمسك به وصار له به النور في قلبه أنه لا يتأثر بتلك الشبه ولا يتأثر بتلك الشكوك كما كان إمامنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قويا فيما واجه به المشركين حيث قال لهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي)؛ يعني من دين الإسلام والتوحيد الذي جئتُ به (فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ)، أعلن كلمة التوحيد لا إله إلا(15/16)
الله التي فيها النفي وفيها الإثبات.
وهذا من فضل الإسلام على أهله؛ أنَّ صاحب الإسلام الذي علم دين الإسلام بالأدلة، وعلم العقيدة، وتبين له التوحيد، واعتقد ذلك عن علم وبينة وبصيرة ويقين، أن الله جل وعلا يحميه عند حلول الشبهات وعند حلول الشكوك، فلا يتردد ولا يزيغ، ومن أعظم أسباب الزيغ أن تَرِد الشبهة فلا يجد ما يرد به تلك الشبهة؛ لكن كلما قوي الإيمان كلما قوي الإسلام والعلم بتفاصيل الإسلام بعقيدته وشريعته فإن المرء يكون قويا معتزا بالإسلام لا تؤثر فيه شبهة، وإذا عُرض له شك أو عَرض له عارض في شبهة أو شك أو ريب فإنه يرده بقوة.
وهذا من آثار وفضل الإسلام على أهل الإسلام؛ أن الله جل وعلا يثبتهم، وأن الله جل وعلا يثبت في قلوبهم النور، وأن الله جل وعلا لا يكلهم إلى أنفسهم بل يعينهم ويسددهم عند حلول الشبهات.
وهذا واقع فإنما صمد في كل زمن عند حلول الفتن أهل العلم بالإسلام وأهل العلم بالشريعة وأهل العلم بالعقيدة والسنة فإنهم صمدوا ونفعوا وكان لهم الأجر على أنفسهم وعلى الأمة في كل زمان ومكان.
ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قال: ولعلماء الحديث وحملته في كل زمان من العلم بالدين ومن القوة عند حلول الشبهات -يعني معنى كلامه- ومن القوة عند حلول الشبهات ما يَفْضُلون به غيرَهم، حتى إنك تجد عندهم من اليقين والعلم التام عند حلول الشبه على الإسلام والسنة ما يتعجَّب منه المرء؛ لكن هذا بفضل الله جل وعلا وبرحمته، وكذلك من كان معهم في حمل الحديث والسنة والعناية بذلك، فإن الله يقوي يقينهم ويُعْظِم معرفتهم وعلمهم حتى يكونوا ثابتين أقوياء عند حلول الشبهات وعند ورود الشكوك والريب. أو كما قال رحمه الله تعالى هذا معنى كلامه.(15/17)
فإذن دلت الآية على أن الإسلام له فضل على أهله؛ فضل عظيم، في أنَّ المسلم إذا استمسك بالتوحيد وأسلم الإسلام الكامل لله جل وعلا فإنه يقوى عزته ويقوى يقينه، فلا يلفته عن دينه لافت ولا يصرفه عن دينه صارف؛ بل يثبته الله جل وعلا على القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ثم قال (وقول الله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[الحديد:28]) في هذه الآية مناسبة عظيمة لفضل الإسلام، وهو أن الله جل وعلا خاطب المؤمنين بأنهم إن حققوا الإسلام بما يشمل المراتب الثلاث، إن حققوا الإسلام واتقوا الله وآمنوا برسوله فإن الله جل وعلا يتفضل عليهم لأجل هذا التمسك منهم ولأجل استعصامهم بالله جل وعلا واعتصامهم بحبله ودينه المتين، فإن الله جل وعلا يمن عليهم بثلاثة أنواع من الفضل:
الأول: أنه يؤتيهم كفلين من رحمته، وهذا كما قال هنا (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)، و(كِفْلَيْنِ) يريد بها الحظين، يعني يؤتكم حظين عظيمين من رحمته، وهذان الحظان العظيمان تشمل الأجر بأن الله جل وعلا يضاعف الأجر للمؤمن، فكل مسلم يؤتيه الله جل وعلا أجره مرتين؛ يعني يضاعف له الأجر والثواب منَّةً من الله جل وعلا وتكرما،
وأيضا (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) يشمل الرحمة التي تقوم بها الحياة رحمة الدنيا وأيضا رحمة الآخرة، فلا أحد يسلك في الدنيا طريقا إلا وهو محتاج إلى رحمة الله جل وعلا، قال (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)، وكذلك الآخرة لا أحد ينجو فيها إلا برحمة الله جل وعلا.
فإذن شملت الآية أن الله جل وعلا تفضل على أهل الإسلام أنه يؤتيهم كفلين من رحمته: رحمة الدنيا ورحمة الآخرة.(15/18)
الفضل الثاني: قال (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ)، والنور الذي يمشون به هو نور العلم واليقين والبصيرة، وقد دارت تفاسير السلف على أن النور الذي يمشي به هو نور العلم واليقين والبصيرة، فإذا استقام المرء حقيقة على الإسلام وجاهد نفسه بتقوى الله والإيمان برسوله فإن الله جل وعلا يمنحه العلمَ بتهيئة سبله له وبمحبة أهله وسماع كلامهم، فيجعل له نور يمشي به.
وهاهنا وقفة بأن الله جل وعلا من أسمائه النور، والنور في أسمائه جل وعلا له أثر في الشريعة بأن الله جل وعلا جعل رسوله صلى الله عليه وسلم نورا، وجعل الكتاب الذي هو القرآن نورا، وجعل في قلوب المؤمنين أيضا بالعلم نورا، قال جل وعلا ?قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ?[المائدة:15]، والنور هنا:
في أحد التفسيرين هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه عطف عليه الكتاب.
أو على القول الثاني على أنه الكتاب؛ ولكن موّه وصفه.
والنور هذا الذي يقذفه الله جل وعلا في القلب، هذا لا يكون إلا لأهل الإسلام، وكل مؤمن به حظ من هذا النور؛ لكن إنما يعظم هذا النور بعظمة تحصيل الإسلام والاستقامة عليه عقيدة وشريعة، لهذا كلما قوي أخذ الإسلام كلما قوي العلم بالشريعة كلما قوي العلم بالاعتقاد كلما قوي العلم بالله جل وعلا كلما زاد هذا النور في القلب، وإذا زاد النور في القلب فإنه يُبصر به في الظلمات -ظلمات الشبهات، وظلمات المسائل التي قد ترد على الإنسان في حياته-.
وتسمية الله جل وعلا له نورا في قوله (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) في قوله (بِهِ)؛ (تَمْشُونَ بِهِ) يعني تمشون بهذا النور في الظلمات، فإن هذه الحياة ما فيها من شبه وما فيها من شهوات وما فيها من صوارف أشبه ما تكون بالظلمة، لهذا يحتاج فيها إلى النور وكلما قوي النور قوي إبصار الطريق.(15/19)
ومن آثار ذلك أن أهل الإسلام المستمسكين به والمستمسكين بطريقة السلف والذين أخذوا بالإسلام والسنة على نحو ما سيوصف في هذا الكتاب بالأدلة، على أن كل من قرب منهم فإنه سيبصر من النور بقدر قربه منه، وكلما بعد منه كلما ضعف عنه النور، وله النور بقدر بعده عنه.
وقد نبه على ذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد في أن من آثار النور الذي يقذفه الله جل وعلا في قلب أهل التوحيد والسنة أنَّ من قرب منهم صار له من النور بقدر قربه منه بحيث يؤثر به صواب الطريق، لهذا تجد العاصي من أهل التوحيد الذي لم يتعلم من العلم عنده من النور والبصيرة في كثير من المسائل -في العقيدة وفي التوحيد وفي السلوك- ما يبصر به طريق الظلمات؛ لأنه وإن لم يكمل عنده العلم، أو يكون على علم؛ لكن بقربه من هذا النور فإنه يحصل له ذلك.
وهذه قاعدة مهمة سبيل في المنهج في أن الالتحاق بأهل العلم والقرب من أهل الاستقامة على الإسلام والسنة وطريقة السلف الصالح، كلما قرب العبد منهم ومن طريقتهم كلما منحه الله جل وعلا النور الذي يبصر به ولا يضل به السبيل.(15/20)
أما الفضل الثالث: في هذه الآية في قوله (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فمن فضل الإسلام على أهله أنَّ الإسلام بتحقيقه سبب عظيم من أسباب المغفرة، فالله جل وعلا وعد كل مسلم ومسلمة، وعد كل مؤمن ومؤمنة أن يغفر الله جل وعلا لهم، قال سبحانه ?إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ? إلى قوله في آخر الآية ?وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا?[الأحزاب:35]، وكل موحِّد قد وعده الله جل وعلا بالمغفرة، فالمغفرة يحظى بها –مغفرة الذنب- أهل الإسلام، لهذا منَّ الله جل وعلا على أهل الإيمان وعلى أهل الإسلام بأن جعل الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهما إذا اجتنب الكبائر، ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى عمرة، وكذلك الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، «من حج فلم رفث ولم يفسق خرج كيوم ولدته أمه» وهذا ونحوه من آثار مغفرة الله جل وعلا لعباده المؤمنين؛ لأنهم استقاموا على الإسلام فهذا من فضل الإسلام عليهم أن كان أصلهم للإسلام سببا من أسباب مغفرة ذنوبهم، فأعظم سبب وأعظم نتيجة للمغفرة أن يستقيم المرء على الإسلام، وكلما كان أقوى في الاستمساك بالإسلام والسنة والبعد على الشرك فإنه يكون أقوى في الإتيان بسبب المغفرة، لهذا جاء في الحديث أن الله جل وعلا بقول «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لم تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة»؛ يعني بملء الأرض خطايا فإن الله جل وعلا يأتي بقرابها مغفرة.
لهذا نقول: دلت الآية على أن المؤمن إذا اتقى الله وآمن برسوله وحقق ذلك الإسلام والتزم بالسنة بإيمانه برسوله حق الإيمان والاستقامة على سنته والإقتداء بهديه عليه الصلاة والسلام، والبعد عن كل ما يخالف سنته، فإنه موعود بهذه الفضائل الثلاث العظيمة:(15/21)
¨ أنه يؤتي أجره مرتين؛ بل يؤتي كفلين عظيمين وحظين كبيرين من رحمة الله جل وعلا لعبده.
¨ وأنه يجعل الله له نورا يمشي به ولا يلتبس عليه الطرق ولا يستدل عليه سبيل.
¨ وأن الله جل وعلا يجعل له في كل ذنب مغفرة ورحمة منه جل وعلا وفضلا وتكرما.
? هذه الآية قد ذكر فيها الكثير من المفسرين أنها نزلت بأهل الكتاب، وأن المراد بها أهل الكتاب؛ يعني من اليهود والنصارى، وأن هذه الأمة تدخل فيها؛ لأنها أحق بهذا الوصف وهو الإيمان والتقوى والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكن هذا فيه نظر هي جهتين:
الجهة الأولى: أن الله جل وعلا قال في آخر الآيات -في الآية التي بعدها- في سورة الحديد ? لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ?[الحديد:29]، وهذا يدل على أن المراد بقوله ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ?[الحديد:28] غير المراد بأهل الكتاب.
الثاني: أن أهل الكتاب وعدهم الله جل وعلا أنهم إذا آمنوا واتقوا وآمنوا برسوله وأحسنوا إسلامهم أن الله جل وعلا يؤتهم أجرهم مرتين، كما جاء في سورة القصص وكما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين..» وذكر منهم رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فهذا يؤتى أجره مرتين، فأهل الكتاب إذا استقاموا وآمنوا وأسلموا فإنه يؤتى أجره مرتين؛ لكنهم ليسوا هم المقصودين بهذه الآية.
? التنبيه الثاني: أن في قوله جل وعلا (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) النور -كما ذكرتُ لك- يُعبَّر عنه بالتفسير بعدة تعبيرات؛ يعني من مواضعه من القرآن:
¨ تارة يقال النور هو القرآن.
¨ وتارة يقال النور الإسلام.
¨ وتارة يقال النور السنة(15/22)
ونحو ذلك، وكلها تفاسير صحيحة؛ لأن الجميع نور، كما وصف الله جل وعلا الإسلام بأنه نور، وأن القرآن نور، وأن نبيه صلى الله عليه وسلم نور، إلى آخره.
إذا تبين هذا بعد هذه الآيات فيظهر مما سبق: أن الله جل وعلا إذْ جعل الإسلام مفضلا على غيره، وجعل أهله مفضلين على غيرهم، وجعل هذه الأمة مفضلة على غيرها، وهذا يعني أنَّ تبعة بهذا التفضيل عظيمة؛ لأنه كلما عظم الفضل كلما عظمت التبعة، لهذا قال الله جل وعلا في وصف هذه ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ?[آل عمران:110]، فالقرآن هو أفضل الكتب لأسباب، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء والمرسلين لأسباب جاءت في الكتاب والسنة يعني أسباب هذا التفضيل، وهذه الأنة أفضل بنص الكتاب والسنة كما مر معنا.
إذا كان كذلك فإنه كلما زاد الفضل كلما زادت التبعة؛ لأن الله جل وعلا يؤاخذ الفاضل بما لا يؤاخذ به غيرَه، ويؤاخذ العالم بما لا يؤاخذ به من ليس بعالم.
فالأمور إذن بمقابلها، هذا يُعظم التبعة على كل رافع لراية السنة والتوحيد:
أن لا يتخلف على التمسك بذلك أولا.
ثم أن لا يَنْسِبَ- أو يَنْسُبَ كلاهما صحيح- إلى الإسلام والسنة ما ليس منه؛ لأنه إنما يصف الطريق التي وصفها الله جل وعلا ووصفها رسوله صلى الله عليه وسلم وبين الله جل وعلا فضلها، فإذا كان الله جل وعلا بين هذا الفضل العظيم فإنما يعرف الطريق بدلائله من الكتاب والسنة لا بالأهواء ولا بادعاء الداعين، وإنما كل أحد يصف ذلك بغير ما صف الله جل وعلا به الإسلام والسنة أو وصفها به رسوله صلى الله عليه وسلم أو أجمع عليها السلف الصالح فإنه حينئذٍ يكون معارَضا بما يقول.(15/23)
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك (وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ») هذا المثل يضربه عليه الصلاة والسلام لبيان أنَّ هذه الأمة جاءت متأخرة وعملت قليلا ولكنها حظيت بأجر كثير، فأعطى الله هذه الأمة قراطين من الأجر، وأعطى من قبلها قيراطا، قيراطا، مع قصر مدتها وقلة عملها، وهذا فيه فضل الله جل وعلا على أهل الإسلام فيما شرعه من شرائع وفيما اختصهم به من حيث الزمان ومن حيث.
قوله عليه الصلاة والسلام (مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ) يعني المثل من جهة الزمن -مدة العمل والأجر-، وعبّر عليه الصلاة والسلام بقوله (كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ) والممثَّل به الله جل جلاله، حيث هو الذي تعبَّد عباده بالعبادات، وهو الذي يعطيهم الأجر، فعبّر بقوله (كَمَثَلِ رَجُلٍ) لأنه في القرآن تمثيل الحقوق بحق الله جل وعلا وحق عباده ونحو ذلك بالرجل ومن يعمل عنده، كقوله جل وعلا ?وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ?[النحل:76] ونحو ذلك من الآيات التي فيها هذا التمثيل؛ فالتمثيل تمثيل حال بحال، تمثيل عمل بعمل بما يقرب الأمر إلى سامعه.
الأمر الثاني عند قوله (اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ) الاستئجار هنا هل هو حقيقة بأن المثل مضروب على الاستئجار فعلا وأن ابن آدم استأجره الله جل وعلا، فجعل له أجرا على عمله؟ أو أن هذا للتقريب ليس على حقيقة الأجر؟(15/24)
المعتمد عند أهل السنة والجماعة في نظائره في الكتاب والسنة أنه على حقيقته، وأنه أجر على حقيقة الأجر، وهو ما يعطى من العِوَض لقاء عمل من الأعمال، والله جل وعلا يعطي عوضا لقاء عملٍ، والله سبحانه هو الذي سماه أجرا، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي سماه أجرا، فلذلك هو أجر على الحقيقة أجر بمقابلة عمل، وليس التعبير بالأجر أنه تعبير على المجاز أو أنه تعبير على التمثيل، ليس كذلك؛ بل هو أجر على الحقيقة.
وهذا المثال فيه تقرير لذلك حيث قال (كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ) ومثَّل بأنهم يعملون في زمن وأعطاهم أجرا قراطين قراطين في هذه الأمة وهذا هو حقيقة الأجر.
وهذا له فوائده الكثيرة في التفسير وفي فهم النصوص وفي مسائل عدَّة من مسائل الشريعة والعقيدة أيضا.
قال عليه الصلاة والسلام (كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ، فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا؟ قَالَ: هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) مناسبة الحديث للباب أن هذه الأمة اختصها الله جل وعلا من بين الأمم بفضل زيادة الأجر، وهذا أحد أوجه تفضيل هذه الأمة على غيرها، وأحد أوجه فضل الإسلام على هذه الأمة، فهذا في زيادة الأجر.(15/25)
ومن أنواع الفضل الأخرى ما ذكر في الآية من قبل أن الله جل وعلا يجعل للمؤمنين نورا وأنه يغفر لهم وأيضا مما جاء من الفضل في النصوص غير ما ذُكر أنّ هذه الأمة لا تجتمع أبدا على ضلالة، والمقصود بها أمة المؤمنين المستمسكين بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لا تجتمع على ضلالة كما قال جل وعلا ?وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115]، قال (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) وسبيل المؤمنين هو سبيل هذه الأمة التي لم تفترق ولن تتفرق في دينها، وأما الذين تفرقوا في دينهم شيعا فهؤلاء ليسوا معدودين في الإجماع وقد جاء في الحديث «لا تجتمع أمتي على ضلالة» وهو مروي من طرق يحسنها -يعني بمجموعها- عدد من أهل العلم في السنن وفي غيرها.
ودلَّ هذا على أنَّ المسلم يمكن أن يعصِم نفسه من الضلال بأن يلتزم على ما أجمعت عليه الأمة، فمن التزم بالعقيدة بما أجمعت عليه الأمة عند حلول الأقوال المختلفة والأهواء المتباينة فإنه على سبيل نجاة لأنه أخذ بالجماعة وأخذ بما أجمعت عليه الأمة، وهذا مصدر نجاة بالاتفاق.
وأيضا من آثارها على المسلم أنَّ عدم اجتماع الأمة على ضلالة، وأن الأمة إنما تجتمع على حق وهدى لا على ضلالة أنه ييسر له سلوك سبيل الاستقامة مع من مشوا خلف طريق الجماعة قبل أن تفسد الجماعة؛ لأنَّ الطرق تباينت والأمة اختلفت فإذا أراد المرء الطريق الحق فإنه يبحث عن من تمسَّك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد؛ يعني بما كانت عليه الجماعة إذ لم تجتمع على ضلالة، إذ كان اجتماعها على حق وهدى.
فهذا إقتداء عملي باجتماع على حق وهدى كان في ما سلف، والله جل وعلا عصم هذه الأمة على أن تجتمع على ضلالة كما ذُكر.(15/26)
وفي الحديث أيضا من المناسبة قوله في آخره قال (ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) وهذا الفضل هو من الله جل وعلا، وإذا كان من الله جل وعلا فإن فضل الإسلام على أهله إنما هو من الله جل وعلا، وهذا يجعل المسلم دائم التعلق بالله جل وعلا معرفةً منه بفضل ربه عليه في دينه هداية وفي أجره عليه، فمن الذي هدى عباده للإسلام؟ هو الله جل وعلا، من الذي هداك للاستقامة على السنة؟ هو الله جل وعلا، من الذي تفضل عليك بالنور بعد ذلك؟ هو الله جل وعلا، من الذي تفضل بالحظين من الرحمة والكفلين من الأجر؟ هو الله جل وعلا، فحينئذٍ يكون الأمر من الله جل وعلا وإليه ابتداء وانتهاء، وهذا يجعل قلب المؤمن موطَّنا على محبة الله جل وعلا والذل له والاعتراف له جل وعلا بالفضل والإحسان دائما وأبدا.
وفي هذا القدر اليوم كفاية، ونلتقي إن شاء الله غدا، وقد يجري تعديل في الموعد كما بلغني الأخ سعد حسب ما يرتبون، فإن رتبوا أن يكون غدا بعد العصر مباشرة صار كذلك، أو إذا أرادوا أن نأخذ الفترة الثانية صار كذلك أيضا إن شاء الله تعالى .
ونسأل الله لكم جميعا الانتفاع بهذه الدروس العامة وأن ينفعني وإياكم بما سمعنا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن]
وفيه أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا اللَّهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وفيه تعليقاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».(15/27)
وعن أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبدٍ على سبيل وسنة َذَكَر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسُّه النار، وليس من عبد على سبيل وسنة ذَكَرَ الرحمن فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مَثَلُه كمثل شجرة يبس ورقُها، فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريحُ فتحاتَّ عنها ورقُها، إلا تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتّ عن هذه الشجرة ورقها، وإنَّ اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم؟ ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا، واغفر لنا ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم.
أما بعد:
قد مرّ معنا الكلام على الآيات التي ذكرها الإمام المجدد رحمه الله تعالى في صدر هذا الباب؛ بل وفي صدر هذا الكتاب، مما يدل على فضل الإسلام في نفسه وفضله على أهله وفضل هذه الأمة وما حبى جل وعلا هذه الأمة بعامة، وما ميز به شريعة الإسلام من الفضائل.(15/28)
وبعد ذلك قال (وفيه أيضاً) يعني في الصحيح (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ») قوله هنا (وفيه أيضاً) يعني في الصحيح، وهذا عطف على الكلام الذي سبق حيث قال فيما سبق (وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) والعلماء يعبرون بقولهم (وفي الصحيح) خاصة المتأخرون منهم:
وتارة يعنون أنه يكون في الصحيحين معه.
وتارة يعنون أنه يكون في البخاري وهو الأكثر.
وتارة يعنون أنه في مسلم.
وربما عطفوا واحدا على واحد ويكون أحدهما البخاري والثاني مسلم.
ولذلك لا يشترط في العطف أن يكون مخرج الحديث واحدا؛ بل العطف على ظاهره أن المراد أن يكون الحديث مخرجا في الصحيح، إما أن يكون في البخاري أو في مسلم أو فيهما معا.
وقوله هنا عليه الصلاة والسلام (أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا) بيانه أن الله جل جلاله ابتلى الأمم من قبلنا في يوم يتخذونه عيدا، فأمرهم بيوم وأعماهم ذلك اليوم عليهم فاجتمعوا فيه؛ فاجتمعت اليهود وأجمعت على أن ذلك اليوم هو يوم السبت وأخطأوا في ذلك، ثم بعدهم النصارى أُمروا بيوم يتخذونه عيدا يكون عيد الأسبوع ويجتمعون فيه، فاجتمعوا على أن يكون يوم الأحد فأخطأوا في ذلك.
فأضل الله جل وعلا على الأمتين من قبلنا على اليوم الذي اختاره الله جل وعلا في علمه وهو يوم الجمعة.(15/29)
وفي هذا دليل على أن الأمم من قبلنا قد تجتمع على غلط وتجتمع على خطأ حتى قبل التحريف، وأنَّ الله جل وعلا يُضل أمما بمحض حكمته سبحانه وتعالى بما عملوه أو ليكون الفضل لغيرهم عليهم، وهذا من الابتلاء الذي ظهر به فضل هذه الأمة وسابقتها مع كونها أمة متأخرة في الزمان، وفيه إظهار فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث إنها لا تجتمع على ضلالة، فظهر بذلك فضل هذه الأمة لما فضَّلها الله جل وعلا بالإسلام من جهتين:
الجهة الأولى: أنه لم يترك اختيار اليوم بل أمرهم به معينا بخلاف من كان قبلنا.
الجهة الثانية: أن الله جل وعلا أنعم على هذه الأمة بأنها لا تجتمع على ضلالة، قد ذكرت لكم أمس أن هذا اللفظ (لا تجتمع أمتي على ضلالة) مروي من طرق يشد بعضها بعضا وهي ضعيفة الأسانيد وبعضها شديد الضعف؛ لكن يشهد بعضها لبعض مما جعل عددا من أهل العلم يعدونه في الأحاديث الحسنة، فهذه الأمة خُصت بعدم اجتماعها على ضلالة وبأن الله جل وعلا لم يَكِلْهَا إلى نفسها بل بيَّن لها الدين وأتم عليها النعمة كما قال جل وعلا?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:3] ([2])، وكما سبق فإن دينا رضيه الله جل وعلا جملة وتفصيلا واجب على العباد أن يرضوه هم إذْ رضيه الله جل وعلا للعباد أن يدينوا به ويستسلموا له جل وعلا بهذا الدين.(15/30)
قال (أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ وَلِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ) وهذا فيه أن قوله (فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ) أنَّ لفظ الهداية يعمُّ ما كان على اجتهاد وما كان عن غير اجتهاد، فالله جل وعلا هدى هذه الأمة فيما أمرها به وفيما نهاها عنه؛ لأن هذا من الهداية العظيمة أن لا تُوكَل في أشياء كثيرة إلى أنفسها واجتهادها؛ بل هداها الله جل وعلا بتفاصيل الأحكام، وهذا من جملة ما يدخل في قوله عليه الصلاة والسلام (َجَاءَ اللَّهُ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ) وفي قوله جل وعلا?اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ?[الفاتحة:6] يعني طلبا للهداية لتفاصيل الاستقامة على الصراط علما وعملا اعتقادا وتصديقا.
قال بعدها عليه الصلاة والسلام (وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وذلك أن هذه الأمة؛ أمة محمد صلى الله عليه وسلم تكون سابقة يوم القيامة، فهذه الأمة متأخرة ولكنها يوم القيامة سابقة:
سبق الهلالُ البدرَ لكن لم يصر بالسبق بدرا(15/31)
قال (نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، (نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا) يعني من جنس الأمم التي بُعثت إليها الرسول، فما من أمة إلا جاءها رسول كما قال جل وعلا ?وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ?[فاطر:24]، وقال جل وعلا ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ?[النحل:36]، فالأمم المتنوعة بُعثت إليها الرسل؛ لكن آخر أمة هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم توفي سبعين أمة من الأمم التي بعثت إليها الرسل في أجناسها، ولكن قد تبقى آثار الرسالة وآثار النبوة وقد لا تبقى بظلمٍ من العباد وبصنيع العباد في أنفسهم بأن لم يستجيبوا للرسول، فيوم القيامة يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي وليس معه أحد من قلة من استجاب له، وفي الحديث الصحيح «أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرُها وأكرمها على الله».
وقوله (نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا) يحتمل أمرين:
¨ الآخرون من الأمم التي بعثت إليها الرسل من أهل الدنيا.
¨ أو الآخرون يعني الأمة التي ستبقى إلى قيام الساعة، فهي آخرة يعني متأخرة على غيرها من الأمم؛ يعني من أهل الدنيا من جنس الأمم.
قال (وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني أنّ أول الأمم تحاسب هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول الأمم تستريح من حصول الموقف هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول أمة تعبر الصراط هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن نبيها عليه الصلاة والسلام هو السابق إلى هذا كله، وقد قال عليه الصلاة والسلام «أنا أول من تُفتح له أبواب الجنة»، وأمته عليه الصلاة والسلام على أثره.(15/32)
وهذا من فضل الله جل وعلا على هذه الأمة أنهم متميزون في الدنيا مهديون معالون، وهم في الآخرة أيضا سابقون إلى الجنة وسابقون قبل ذلك إلى الاستراحة من هول الموقف.
إذا تبين هذا، فهذا الحديث فيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن الضلال قد يقع في الأمور الاجتهادية لقوله عليه الصلاة والسلام (أَضَلَّ اللَّهُ عَنْ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا)، وقد لا يؤاخذ المجتهد؛ لكن يطلق عليه أنه أضلّ الصواب، وفي القرآن أيضا ما يدل على ذلك كقوله جل وعلا ?أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى?[البقرة:282]، وكقوله ?وَقَالُوا أءِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ?[السجدة:10] على أحد التفسيرين، وهذا يعني أنّ الضلال هو الذهاب عن وجه الصواب، وقد يكون مع الإثم إذا قصَّر في الاجتهاد، وقد لا يكون مع الإثم، فليس كل وصفٍ بالضلال يعد قدحا فيمن وُصف به، ولهذا طائفة من أهل العلم يعبِّرون -في المسائل التي يخطئ فيها من أخطأ- يعبرون بأنه ضل في ذلك أو هذا ضلال مبين و نحو ذلك، ولا يُعنى به أنه يأثم على ذلك، أو أنه سار في ذلك على وفق هواه أو ما أشبه ذلك، وإنما هي محتملة كما جاء في القرآن أنها ستكون في النسيان والترك الذي عن غير قصد، وتكون في الأمور الاجتهادية، وتكون أيضا فيما يتركه المرء عن تقصير في ابتغاء الحق والسعي إليه.
الفائدة الثانية: يوم الجمعة اختلف العلماء فيه: هل هو أول أيام الأسبوع أم هو آخرها؟
? وجمهور أهل العلم على أنَّ يوم الجمعة هو أول أيام الأسبوع، وأنّ السبت بعده، وأنّ الأحد بعده، واستدلوا لذلك بعدة أدلة:
منها هذا الحديث حيث قال (وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) في قوله (وَكَذَلِكَ).
وفي رواية أخرى لهذا الحديث «فنحن اليوم واليهود غدا والنصارى بعد غد».(15/33)
واستدلوا أيضا بذلك بأن يوم الجمعة هو يوم عيد، والعيد يكون أول الأيام ولا يكون آخرها، يكون افتتاح الأسبوع ولا يكون آخر الأسبوع.
? وطائفة من أهل العلم قالت: لا، يوم الجمعة هو آخر أيام الأسبوع في بحث يُطلب من مظانه، لكن الشاهد هنا أنه حتى على هذا القول الذي قال به طائفة من أنه آخر أيام الأسبوع فلا يُعارض أن يكون السبت بعده والأحد بعده باعتبار أنها ثلاثة أيام متوالية، فكان السبق لليوم الأول وهو يوم الجمعة، وبعده اليوم الثاني وهو يوم السبت، ثم يوم الأحد.
فعلى كلٍّ من القولين فإنّ يوم الجمعة يسبق يوم السبت والأحد.
الفائدة الثالثة: أنّ هذا الحديث -وهو موطن الشاهد للمصنف- فيه دليل على عناية الله جل وعلا في هذه الأمة، ورفقه بها، وعدم إضلاله لها؛ بل أعانها ومنَّ عليها حتى صارت سابقة للأمم في شعائرها في الدنيا وفي منزلتها وكذلك يوم القيامة، وهذا من جملة ما يؤكد فضل الإسلام على أهل الإسلام في أن المسلم إذا التزم وأطاع الله جل وعلا فإنه يهدى ويعان ولا يترك لنفسه، فكما أن هذه الأمة متميزة بأنواع التميز ومنها عدم إجماعها واجتماعها على ضلالة، فإنّ غيرها من الأمم قد ابتليت بأشياء كثيرة؛ ومما ابتليت به كما سيأتي الآصار والأغلال، ومما ابتليت به أنها حملت ما لا طاقة لها به، ومما ابتليت به كثير من الأحكام في الطهارة والصلاة وأشباه ذلك مما عجِزوا عنه حتى حرَّفوه وتنكبوا الطريق الذي رضيه الله جل وعلا لهم.
قال بعدها تعالى (وفيه تعليقاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ») يريد بقوله (وفيه) يعني في الصحيح الذي عناه بقوله في الحديث الذي قبله (وفيه أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).(15/34)
(وفيه تعليقاً) يعني في صحيح البخاري، (عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ») وقد ذكر البخاري رحمه الله هذا الحديث معلقا في باب الدين يسر في كتاب الإيمان من أول صحيح البخاري.
وقول المصنف (وفيه تعليقاً) يعني أن البخاري رحمه الله تعالى لم يصل إسناده وإنما علقه، ولفظ التعليق من ألفاظ الاصطلاح، اصطلاح أهل الحديث يريدون به أن المُخْرِج للحديث -ليس المُخَرِّج- أن الراوي للحديث من أصحاب الكتب يَحذف ويُسقط ما بينه وبين من علق عنه من الإسناد، فيسقط عددا من الرجال، قد يسقط واحدا، وقد يسقط اثنين، وقد يسقط ثلاثة، وقد يسقط جميع الإسناد ويكثر منتهاه فيقول: وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أو قال النبي صلى الله عليه وسلم. وأشباه ذلك.(15/35)
لكن البخاري رحمه الله تعالى له طريقة التعاليق أنه إذا جزم بالتعلي؛ يعني ذكره بصيغة الجزم كقوله (قال) أو كقوله (عن) أو (حدث) أو أشباه ذلك مما فيه صيغة الجزم من بداية ما ذكر فإن هذا يدل على صحة إسناده عنده أو جودته عنده، لكنه تقاصر عن رتبة شرطه، والبخاري له شرط في الصحيح شديد ولهذا تقاصرت كثير من الأحاديث عنده عن شرطه فربما علق بصيغة الجزم، كما فصل في هذا الحديث أنه علقه بصيغة الجزم، وهو عن محمد بن إسحاق عن داود ابن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ»، ومعلوم أن محمدا بن إسحاق وصفه جمع من أهل الحديث وخاصة المتأخرين بأنه يدلِّس وأنه قد يُسقط الواسطة بينه وبين شيخه، لكن داوود بن الحصين ثقة وهو شيخ ابن إسحاق هذا الإسناد وما دام أن البخاري علقه بصيغة الجزم فهذا يدل على صحة سماع محمد بن إسحاق لهذا الحديث عن داوود بن الحصين؛ لأنه من طريق أصحاب الصحيح أنه إذا صحّ عندهم التحديث في طريق من الطرق فإنهم لا يبالون أذكروا الإسناد وفيه التحديث أم ذكروه وليس فيه التحديث، وهذا مأخوذ من صحيح ابن حبان بالتنصيص -لأنه نص عليه في مقدمته- ومن صنيع البخاري ومسلم وأشباههما بالاستقراء حيث تستقيم هذه القاعدة فيما يذكرون، وهذا الحديث موصول عند البخاري في الأدب المفرد وفي كتبه وعند الإمام أحمد وجماعة وإسناده جيد والعلماء صحَّحوه وله شواهد مختلفة تدل عليه.
قال(أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ)، (أَحَبُّ الدِّينِ)، (الدِّين) هنا ما المقصود به؟(15/36)
?هل الألف واللام فيه للجنس فيعنى فيه جميع الأديان؛ يعني أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة التي هي دين الإسلام ودين محمد ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فيشمل حينئذ -إذا كانت الألف واللام للجنس- يشمل جميع الأديان السابقة، فيظهر بذلك فضل هذا الدين ومحبة الله جل وعلا له.
?الوجه الثاني: أن الألف واللام فيه هنا للعهد، والدين المعهود هو دين الإسلام، فمعنى هذا الحديث على هذا التوجيه: أحب الإسلام إلى الله الحنيفية السمحة؛ يعني أحب خصال الدين الذي هو الإسلام إلى الله جل وعلى الحنيفية السمحة، فخصال الدين متنوعة وأموره كثيرة وشرائعه متعددة، فأحبها إلى الله جل وعلا الحنيفية؛ يعني ما كان على وفق السنة وكان سمحا سهلا، فالله جل وعلا لم يجعل ما يحبه من شرائع الإسلام في الآصار الأغلال أو فيما هو شديد على العباد بل أحبه إليه جل وعلا هو ما كان سمحا وسهلا.
إذا تبين ذلك بحسب تفضيل أو توجيه كلمة (الدِّين) يختلف معنى (أَحَبُّ):
فعلى المعنى الأول هو أن الدين للجنس تكون (أَحَبُّ) أفعل بمعنى مفعول؛ يعني محبوب الدين إلى الله الحنيفية السمحة؛ لأن الأديان التي سبقت بعد مجيء الإسلام ليست محبوبة لله جل وعلا ولا يرتضي جل جلاله من أحد أن يدين بها؛ بل لابد أن يدين بالإسلام فإذا كان كذلك فلا تقدر أحب أنها أفعل على بابها؛ بل يكون معناها محبوب الدين عند الله أو إلى الله.(15/37)
وكون أفعل لا تكون على التفضيل هذا كثير في اللغة فإنها للتفضيل في أصلها؛ لكن قد تكون لغيره في مواضع كثيرة كقول الله جل وعلا ?أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا?[الفرقان:24] يعني خير مستقر من أهل النار لكن هل عند أهل النار خير؟ لا، (وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) يعني أحسن مقيلا من أهل النار، هل أهل النار يكون عندهم مقيل حسن؟ لا، فيكون إذن معنى قوله (وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) يعني حسن مقيلهم، وكذلك في قوله (أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ) هنا يعني محبوب الدين إلى الله الحنيفية السمحة التي هي الإسلام.
وعلى التوجيه الثاني: أن يكون الدين المقصود به الدين المعهود وهو الإسلام، فيكون (أَحَبُّ) على بابها يعني أحب خصال الإسلام وشرائع الإسلام إلى الله جل وعلا الحنيفية السمحة، وهذا هو الذي فهمه البخاري حيث أورد الحديث في كتاب الإيمان ليدل على يسر الدين أولا، وأن أيسر الدين أحبه إلى الله جل وعلا، وليدل على أن الأعمال من الإيمان كما هو معلوم في موضعه.
قوله (الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ) الحنيفية في الأصل هي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، وهي التي أوحي إلى محمد عليه الصلاة والسلام أن يتَّبع ملته كما قال جل وعلا ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:123].
و(الْحَنِيفِيَّةُ) مأخوذة من الحنف وهو الميل لأنها مالت عن جميع طرق الضلال إلى الطريق الذي رضيه الله جل وعلا، مالت عن الشرك إلى التوحيد، وقد يقال لها الملة العوجاء بمعنى الحنيفية التي فيها اعوجاج عن طريق الشرك يعني ميلا عن طريق الشرك إلى طريق التوحيد وعن أهل الشرك إلى أهل التوحيد.(15/38)
و(الْحَنِيفِيَّةُ) إذا كانت بمعنى الميل فإنها قد تكون في العقيدة والأصل والتوحيد وقد تكون في الشريعة؛ لأن العقيدة في باب العلم تحتاج إلى ميل من الغلط إلى الصواب، والشريعة في باب الأهواء والشهوات تحتاج إلى ميل عن طريق الشهوة إلى طريق الاتباع والاستقامة.
قال (السَّمْحَةُ)، و(السَّمْحَةُ) يعني الميسرة السهلة.
وفي هذا الحديث مما أراده المؤلف رحمه الله أن الله جل وعلا منّ على هذه الأمة وبأنه جعل دينها حنيفا سمحا سهلا بخلاف الأمم من قبلنا قد ابتلاها الله جل وعلا بالآصار والأغلال كما قال جل وعلا ?وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ?[الأعراف:157]، وقال جل وعلا ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا?[الحج:78]، والله جل جلاله لما ابتلى الأمم من قبلنا بأنواع أحكام شديدة وصعبة فإنه جل وعلا خفف على هذه الأمة حتى صارت سمة هذه الأمة وسمة هذا الدين أنه سمة يسر وسهولة، وأن العبادات في هذه الأمة عبادات سهلة ميسرة، وصارت قاعدة من قواعد الشريعة أن الحرج مرفوع، وأنه لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة، وأن المشقة تجلب التيسير، حتى اختص الله جل وعلا هذه الأمة بأنها لا تؤاخذ بما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم كما جاء في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال «إن الله تجاوز لأمتي» يعني خاصة هذه الأمة « تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» وهذا يدل على فضل الإسلام في نفسه؛ أن من دخله والتزم به فإنه يحصل على ذلك الفضل العظيم بالثواب والنور والجزاء وفي دخوله في هذه الأمة وأن يكون هو الخير، ومع ذلك أحكامه سهلة وأعماله سهلة ميسرة وسمحة؛ بل أحب خصال الإسلام إلى الله جل وعلا الحنيفية السمحة، فكلما كان العمل المشروع أسهل فيما أمر الله جل وعلا به فإنه يكون أحب(15/39)
إلى الله جل وعلا.
لكن هنا تنبيه: وهو أن مسألة السهولة واليسر هذه مما تختلف فيها الأفهام، فينبغي ضبطها -يعني السهولة واليُسر التي يحبها الله جل وعلا- بأنها على أحد وجهين:
الأول: أنها منصوصة في الشريعة -في القرآن أو في السنة-، فإن كان العمل سهلا ميسورا منصوصا في الشريعة فإن هذا محبوب إلى الله جل وعلا، مثاله الإفطار في السفر وقصر الصلاة في السفر لعلة السفر ولحكمة المشقة فإن الإفطار أفضل؛ لأنه أيسر وإن القصر أفضل لأنه أيسر ولن يشاد الدين أحد إلا وغلبه.
الوجه الثاني: أن يكون التيسير والسماحة التي حُكم بها قد قررها إمام أو عالم مجتهد؛ يصلح الاجتهاد من مثله، بتطبيق أصول وقواعد الشرع ومنها قاعدة المشقة تجلب التيسير أو الضرر يزال، أو نحو ذلك من القواعد، فإذا كان الحكم اليسير جاء عن اجتهاد صحيح في تطبيق قواعد رفع الحرج فإن هذا يكون من الدين الذي هو أحب إلى الله جل وعلا من غيره؛ يعني من التشديد، ولهذا كان سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول في معرض كلام له: التشديد يحسنه كل أحد وإنما العلم الرخصة تأتيك من فقيه. وهذا صحيح إذا كانت الرخصة أتتك من فقيه بالنص وفقيه بالقواعد الشرعية فإن هذا مما يحبه الله جل وعلا ومما تميزت به وميز الله به هذه الأمة.(15/40)
إذا تبين ذلك فإن الناظر في أحكام الشريعة الإسلامية يجد أن أحكام الشريعة مبنية على السماحة واليسر والسهولة في الطهارة وفي أحكام المياه والآنية، في أحكام الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام والحج وفي المعاملات وفي الاجتماعيات إلى آخره، كل هذه مبنية على اليسر والسهولة، فكلما كان الأمر أيسر كلما كان أحب إلى الله جل وعلا، ومعنى ذلك أن العبد ينبغي له بل يحسن منه أن يحب الأيسر من الأمرين إذا عرضت له، وهكذا كان عليه الصلاة والسلام فإنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما عليه الصلاة والسلام ما لم يكن إثما، وهذا لأنه يحب ما يحبه الله جل وعلا وأحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة.
إذا تبين هذا فإن مراد المؤلف رحمه الله في إيراد هذا الحديث ذكر ما خص الله جل وعلا به هذه الشريعة وهذه الأمة والمسلمين بعامة وكلّ مسلم بمفرده مِن أنه مع كونه منّ الله جل وعلا عليه بذلك الفضل العظيم الذي ذكر فإنما يحصل عليه بعمل يسير سهل وبأحكام ميسرة، وهذا مما يُرغِّب بالعقلاء جميعا بأن يدخلوا دين الإسلام، ويرغب أهل الإسلام في أن يلتزموا بأحكامه وشرائعه بأنه كلما زادوا التزاما وطاعة بالحنيفية السمحة كلما كان أجرهم أعظم وكلما كانت محبة الله جل وعلا لهم أبلغ.(15/41)
وهذا الذي ذكر يشمل يعني في السماحة واليسر يشمل الأحكام العملية ويشمل أيضا الأمور العلمية الاعتقادية، فإن اليسر والسهولة في الأمور العلمية الاعتقادية ظاهر؛ لأن الإسلام دين الفطرة، والإسلام ليس فيه تعقيدات كلامية ولا مباحث فلسفية لا يفهمه لها إلا خواص الناس، بل كل أحد يفهم الإسلام بعبارات سهلة إذا شرح له معنى التوحيد وبُينت له بعض الأحكام فإنه يفهم الإسلام، وأما ما أُحدث في هذه الأمة من الأقوال المتفرقة والتفصيلات مما يسمونه جليل الكلام ودقيق الكلام أو ما يسمونه بالفلسفة الإسلامية أو التعقيدات التي لا تصلح لجمهور الأمة، فإن هذا بلا شك مما يُجزم أنه ليس مما يحبه الله جل وعلا؛ لأن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة، وهذه المسائل المعقدة التي لا يفهمها إلا الخواص بمقدمات كثيرة متنوعة هذه ليست مما يدخل في السماحة ولا في اليسر، ولذلك صار لا يعتقد تلك الاعتقادات على تفاصيلها التي يقول بها المتكلمة وأرباب البدع, لا يعتقدها إلا خواص العلماء؛ ولكن إذا سألت عامة الناس هل تعتقد كذا؟ لم يدر ما يقول أو أجابك بما في النص.
لهذا يخطىء بعضهم أنه يزعم أن أكثر الأمة اليوم وما قبل اليوم أنهم أشاعرة مثلا في الاعتقاد أو ماتريدية، أو أكثر الأمة على نحو كذا, هذا غلط؛ لأن هذه المذاهب إنما هي عند العلماء على تفاصيلها، والعامة أكثر ما تجد عندهم الفطرة، وأكثر ما تجد عندهم ما دل عليه الدليل إذا علموه، وأما تفاصيل المسائل العقدية الأشعرية أو الماتريدية وتفاصيل المسائل الكلامية أو المذهبية على أي مذهب، هذه تحتاج إلى تعليم, فإذا عُلِّمها لقنها وحفظها، وإذا لم يعلَّمْها فإنه يصر إلى ما سيسمعه في الكتاب أو في السنة وإلى ما يتلوه في القرآن وهذا مجرب ظاهر.(15/42)
لهذا نقول إن الذي يناسب الناس هو الحنيفية السمحة، الذي يناسب الناس في الدعوة وفي البيان إنما هو فطرة الإسلام والتوحيد الذي لا يلتبس بالأقوال والتفريعات الكلامية والفلسفية والخرافية التي لا يفهمها الناس إلا بتعليم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه» إلى آخر الحديث.
وهذا مهم في المنهج؛ منهج الدعوة ومنهج العمل، في أنه يقرر في الدعوة ما بين العامة وما بين خصوص المنحرفين من علماء الفرق والذين درسوا على مذهب معين، فإن العامة قد لا تجد عندهم تلك الأقوال، وإن وجدت عندهم قولا لا تجد عندهم تفاصيل المذهب.
إذا سألت أحدا مثلا من عامة الناس في أي بلد مما إذا كان فيه مذهب أشعرية أو مذهب ماتريدية أو مذهب قدرية أو معتزلة أو إلى آخره, إذا سألته في مسائل القدر فإنه يجيبك بما تقتضيه الفطرة، بأن الإنسان مخير وأنه غير مجبور ولذلك يعمل؛ لأنه لم يعلم غير ذلك والفطرة تقتضي هذا، وإحساسه في داخله يقتضي ذلك.
كذلك إذا أتيت بمسائل الإيمان وسألت أحدا من عامة الناس ممن لم يعلم تفاصيل مذاهب المرجئة في الإيمان: هل العمل من الإيمان؟ يجيبك الجميع كما جُرِّب: نعم, العمل من الإيمان.
وكذلك إذا أتيت بمسائل الصفات: الله جل وعلا هل إستوى على الأرض؟ فإنه يقول: نعم, الله جل وعلا يقول ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]. إلا إذا عُلِّم التأويل، إلا إذا لُقِّن وحُرف، فإنه حين إذن ينتقل عن فطرته إلى شيء آخر.
ولهذا من المهم في منهج الدعوة أن يقرر للناس ما يستقيم مع فطرتهم، وما يسهل عليهم في الاعتقاد وفي العمل, فالحنيفية السمحة سمة الإسلام عقيدة وشريعة، وينبغي أن تكون سمة الدعاة إلى الإسلام عقيدة وشريعة.(15/43)
قال رحمه الله بعدها (وعن أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبدٍ على سبيل وسنة َذَكَر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسُّه النار، وليس من عبد على سبيل وسنة ذَكَرَ الرحمن فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مَثَلُه كمثل شجرة يبس ورقُها، فبينما هي كذلك إذ أصابتها الريحُ فتحاتَّ عنها ورقُها، إلا تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتّ عن هذه الشجرة ورقُها، وإنَّ اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة.)
هذا الأثر رواه عبد الله بن المبارك في كتابه الزهد والإمام أحمد أيضا وأبو نعيم في الحلية، ووقع غلط في إسناده في الزهد لعبد الله بن المبارك يصحح من الحلية.
والمقصود من هذا الأثر أن منهج الصحابة رضوان الله عليهم هو الحثّ على لزوم السبيل والسنة، وبيان فضل الاستقامة على السبيل والسنة؛ ويعني بقول (عليكم بالسبيل والسنة) الزموا السبيل والسنة، والسبيل المراد به سبيل محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل صحابتهم رضي الله عنهم، وهو المذكور في قوله جل وعلا ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ?[الأنعام:153]، وهنا وحّد الصراط فقال (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) فجعله صراطا واحدا وهو السبيل الواحد، وهو الذي يجمع أمور الإسلام على تفاصيلها وأمور السنة على تفاصيلها، وأما السبل الأخرى والأهواء فعلى كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إلى دخوله، وهاهنا سؤال معروف وهو: أن الله جل وعلا قال في آخر سورة العنكبوت ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ?[العنكبوت:69]، فهنا جمع السبل، وفي آية الأنعام وحّد الصراط، وهنا في أثر أبيّ وفي غيره من الأحاديث والآثار يفرد السبيل، فهل يبين هذا تعارض؟(15/44)
الجواب: لا، الباب باب واحد؛ ولكن السبيل المقصود به سبيل الإسلام والسنة، وهذا في داخله فيه تفاصيل، ففيه سبيل الصلاة، وفيه سبيل الزكاة، وفيه سبيل الصلة، وفيه سبيل أعمال القلوب التي تُصلح القلب، وفيه سبيل كذا وكذا مما يحتاجه الناس تفصيلا في أمور دينهم ومما يكون عليه أحوالهم في العبادة العلمية والعملية وفي عمل القلب وعمل الجوارح.
فيكون إذن جَمْع السبل في قوله (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) المقصود بها تفاصيل السبل وهي كلها سبيل واحد وصراط واحد دلّ عليه قوله ?اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ?[ الفاتحة:6]، ودل عليه قوله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) ودل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» ودلَّ عليه أيضا قول الله جل وعلا ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا?[الأحزاب:21]، ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله إذ قال في تقرير هذا:
فلواحد كن واحدا في واحد أعني سبيل الحق والإيمان
(فلواحد) يعني لله المقصود والمعبود له وحده جل وعلا قصدا وإرادة وتوجيها ورغبا ورهبا, (لواحد) جل جلاله وتقدست أسماؤه، (كن واحدا) أنت في قصده وإرادتك وتوجِّه قلبك لا تتشعب عليك الأوهام في قلبك ولا في سلوكك؛ بل (كن واحدا) أنت, (في واحد) يعني في سبيل واحد، قال بعدها (أعني سبيل الحق والإيمان) وهو سبيل السلف الصالح.
وهذا مما يعد على كثير من الناس أن يضبط قلبه عليه، أو أن يُلزم نفسه به فإنه في الأول فلواحد قد يقصد الله جل وعلا بعلمه، وقد يأتي مرة أخرى ويقصد غير الله جل و علا إما الجاه وإما الدنيا وإما رؤية الناس ونحو ذلك من الرياء والسمعة، وقلَّ من يسلم من أنواع الشرك الخفي.(15/45)
قال(كن واحدا) يعني أنت لا تتشعَّب في قصدك وإرادتك، فاجمع قلبك وإرادتك -هي التي يسميها أهل السلوك الجمعية على الله جل وعلا- فاجمع قلبك وإرادتك في الله جل وعلا، ولا تلتفت عنه جل وعلا في قصدك وإرادتك إلى غيره واجعل الأمور التي معك وسائل لجمع قبلك على الله جل وعلا.
(في واحد) وهذا الابتلاء الثالث أنه ليس ثَم إلا سبيل واحد، وهذه صعبة إلا من وفقه الله جل وعلا، فكم من الناس أكثر من سبيل، في سبيل هنا وفي سبيل هناك إما من جهة الإتباع، وإما من جهة المنهج أو من جعة الاستقامة أو من جهة الاعتقاد ونحو ذلك:
فإن تنجو منها تنجو من ذي عظيمة وإلا فإنني لا إخالك ناجيا(15/46)
قال رضي الله عنه هنا(عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبدٍ على سبيل وسنة ذَكَر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسَّه النار)، يريد بذلك أنَّ الفضائل التي جاءت في الأحاديث إنما يحظى بها من كان على السبيل والسنة، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «عينان لا تمسهما النار. عين بكت من خشية الله, وعين باتت تحرص في سبيل الله» فبين رضي الله عنه هنا([3]) أنه إنما يحظى بهذا الفضل من كان على السبيل والسنة قال (فإنه ليس من عبدٍ على سبيل وسنة ذَكَر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله فتمسَّه النار، وليس من عبد على سبيل وسنة ذَكَرَ الرحمن فاقشعر جلدُه من خشية الله إلا كان مَثَلُه كمثل شجرة يبس ورقُها) إلى آخره؛ يعني أن الذنوب تحاتت عنه، وهذا كما جاء في الحديث «لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها معفرة» فإن هذا فضل الذكر، وأنه من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. في يوم مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر, ومن قال: سبحان الله وبحمده... إلى آخر ما ورد في الأذكار, إذا ذكر الله جل وعلا بأنواع الأذكار من الأحق بالفضل العظيم الذي جاء فيها وهو الموعود به؟ هو من كان على سبيل وسنة، قال(ليس من عبدٍ على سبيل وسنة ذَكَر الرحمن...) إلى آخره؛ فإن هذا يدل على عظم شأن التزام المنهج الذي خص الله جل وعلا به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه جل وعلا جعل لكل نبي شِرعة ومنهاجا، والمنهج الذي خُص به عليه الصلاة السلام هو السبيل والسنة وهو الذي كان عليه صحابته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأتباع الصحابة وتابعوهم إلى يوم الدين.(15/47)
ولهذا لما اشتبهت الطرق واختلفت السبل وتنوَّعت الآراء والأفهام والأهواء من قديم، كان الناجي من رجع ببصره وبصيرته وقلبه إلى ما قبل حدوث تلك الفرق والأهواء، وهو الزمن الذي أجمع فيه المسلمون على العقيدة وعلى السبيل والسنة؛ وهو زمن الصحابة رضوان الله عليهم قبل حدوث الاختلاف، فإن الصحابة رضوان الله عليهم ليس فيهم من ابتدع بدعة، وليس فيهم من أحدث حدثا؛ بل إن من أحدث الحدث وابتدع البدع من أتى بعدهم، وإنما هم نجَّاهم الله جل وعلا فكانوا نجوما يهتدى بها.
لهذا نقول لك: إنَّ من الأمور المهمة التي تقرر فيها مثل هذا أن يحرص المؤمن على النجاة، فإنه ما استقام ولا جاهد نفسه، ولا ترك ما ترك من الشبهات والشهوات والرغبات واللذات فهي هذه الدنيا إلا وهو يريد وجه الله جل وعلا إلا وهو يريد النجاة إلا وهو يريد السلامة، فإذا كان يريد ذلك فليأخذ بالطريق المضمون وهو التزام السبيل والسنة؛ لأنها غير هذا الطريق من طرق الأهواء.
والسبيل والسنة هي الجماعة، ما هو السبيل والسنة؟ هو ما كانت عليه الجماعة، بهذا قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال:«هي الجماعة».
وقد سئل الإمام أحمد وجماعة أهل العلم سئلوا: من هي الجماعة قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ يعني أن أهل الحديث يعني زمنه هم أحق الناس بهذا الوصف؛ لأنهم لزموا ما كان عليه الصحابة قبل الاختلاف، ولزموا الأثر، ولم يأتوا بأصول ولا اجتهادات في الدين في العقيدة لا في أصول الشريعة ولا في التلقي والدليل؛ بل كانوا متبعين غير مبتدعين، لهذا قال: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم.
و الإمام الترمذي رحمه الله لما ذكر هذا الحديث, قال: الجماعة هم أهل العلم.
والعلم المحمود هو:
قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولوا العرفان(15/48)
العلم المحمود هو العلم النافع الذي يخالف الرأي؛ بل هو العلم الذي يكون مستندا على دليل وأثر.
وإذا كان كذلك فإنه يريد بهم من كان على هذا النهج، ولهذا أجمع العلماء على أن أئمة الإسلام يهتدى بهم؛ أعني أئمة أهل الحديث كمالك والشافعي وأحمد والبخاري رحمه الله وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة كالأوزاعي ونحوهم ونعيم والدارِمي ومن نحا ونحوهم ومن كتبوا عقيدة المسلمين ودونوها فأخذها العلماء من بعدهم.
والسبيل والسنة كما أنه يكون في المسائل العلمية فإنه يكون في المسائل العملية، فالبدع بأنواعها مبطلة؛ لأنها لم تكن على السبيل بالنسبة.
وكل صاحب بدعة أحدثها فيقال له: هل كان عليها الناس في زمن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ هل كان عليها الناس في زمن الصحابة؟ فإنه سيجيب جزما لا، لكن سيقول: ولكن كذا وكذا. إذا لم يكن عليها الناس في ذلك الزمن، فنعلم أنها ليست على السبيل والسنة.
وتذكرون أن مما ذُكر في قصة اندلاع المحنة في زمن؛ أعني بعد زمن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، في الفتنة بخلق القرآن لما أتى أحد العلماء يناظر عند الخليفة المتوكل لما أتى يناظره -المتوكل أو الواثق- يناظر الداعية إلى البدعة إلى القول بخلق القرآن قال له يريد المناظرة،
قال له: أبدأ أو تبدأ؟
فقال له المبتدع: ابدأ أنت.
فقال: هذا الذي تدعو الناس إليه هل دعا إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس وابتلى الناس به؟
فقال المبتدع: أقلني. فأقاله.
ثم قال له: ارجع على السؤال –اشتبهت علي القصة بعض الشيء؛ لكن هذا مختصر سياقها- قال: هذا الذي تدعو الناس إليه هل دعا إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه؟ ثم قال: هل دعا إليه عمر ؟ ثم قال: هل دعا إليه عثمان؟ ثم قال: هل دعا إليه علي؟ رضي الله عنهم، ثم قال: هل دعا إليه الصحابة ؟
فكان الجواب: أنهم لم يدعوا إلى هذا.(15/49)
فقال هذا العالم للخليفة في زمنه قال: شيء لم يدع إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا صحابته، تدعو أنت الناس إليه؟
فلم يزل يردد هذه الكلمات حتى أمر برفع الفتنة؛ إلزام الناس بالقول بخلق القرآن وابتلائهم بذلك.
المقصود من هذا: أن هذا الأصل عظيم، ويُحرج كل من سلك سبيلا من سبل البدع في المسائل العلمية أو في المسائل العملية، هل كان عليه الزمن الأول؟ فإذا قال: لا، فيقال لسنا بحاجة إليه دعْنا مع ما كان عليه الناس في الزمن الأول فإنه كافٍ.
قال رضي الله عنه بعدها (وإنَّ اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة) وذلك:
¨ أنَّ الله جل وعلا يبارك في قليل العمل إذا كان على سبيل وسنة، إذا كان على وفق السنة فإن الله يحب العمل ويحب صاحبه ويثيبه ويبارك له وينمِّي له عمله.
¨ وأما إذا كان على غير سبيل وسنة فإنها حينئذ تكون محدثات وبدع، فيؤاخذ عليها ويكون عاصيا لله جل وعلا بها ومتبعا غير سبيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومتبعا غير سبيل المؤمنين، فيكون مهما عمل من الأعمال الكبيرة فإنها على غير هدى، والله جل وعلا لا يأجره على ما أفسد فيه، وإنما يأجر من أصاب في عمله.
وهذا منه رضي الله عنه دليل عظيم على وجوب التحري؛ تحري السنة في الأعمال، وعلى وجوب معرفة العلم بأنواعه في مسائل التوحيد وفي مسائل العمل؛ لأنه ما ضل من ضل في هذه الأمة إلا باتباعه غير السبيل والسنة في مسائل العقيدة وفي مسائل العمل.(15/50)
ومراد الإمام المصلح رحمه الله بإيراد هذا الأثر واختياره له في هذا الباب: أنَّ الإسلام الصحيح وهو السبيل في السنة والالتزام بما كان عليه السلف الصالح، والإسلام الذي هو في القرآن والسنة وكان عليه الصحابة أن الالتزام بذلك يبارك الله جل وعلا في العمل وإن كان قليلا، ويضاعف له العمل وإن كان قليلا، بهذا يضاعف الله جل وعلا الحسنة للمسلم بعشر أضعافها إلى سبعمائة ضعف؛ يعني إلى عشرين ضعفا وثلاثين ضعفا إلى مائة ضعف إلى مائتين إلى سبعمائة ضعف، أيضا إلى أضعاف كثيرة، قال العلماء: اختلف التضعيف في العمل باختلاف صواب العمل ويقين صاحبه في عقيدته. فإنه كلما كان أتبع ظاهرا وباطنا كلما كان التضعيف أكثر، فلا يستوي من اقتصد في سنة مع من خالف وأتى بعبادات كثيرة وجهاد عظيم لكنه على غير سبيل وسنة؛ لأن السبيل والسنة بها يضاعف الله جل وعلا أجور الأعمال إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فربما ترى هذا وهذا، هذا يعمل عملا قليلا وذاك يعمل عملا كثيرا؛ ولكن من عمل العمل القليل أعظم عند الله جل وعلا ممن عمل العمل الكثير؛ لأن ذلك صاحبه إخلاص ويقين وسنة وحسن قصد ورغب ورهب إلى آخر ما يضاعف الله جل وعلا به الأجور.
وقد سئل أبو بكر بن عياش شعبة القارئ المعروف عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه.
الصحابة هل هم مثل من بعدهم؟ أتى من بعدهم من هو متعبد عبادات كثيرة وعظيمة؛ لكن تختلف المنزلة عند الله؛ لأن التضعيف مختلف بأن ما في القلب يختلف، ولأن صواب العمل في ظاهره مختلف.
وقد سئل الحسن البصري رضي الله عنه أيضا وهو الزاهد العالم المعروف لم كان الصحابة أفضل مع أنَّ من التابعين من هم أكثر منهم عبادة؟ فقال رحمه الله: أولئك تعبدوا والآخرة في قلوبهم, وهؤلاء تعبدوا والدنيا في قلوبهم.(15/51)
وهذا صحيح، فإن الله جل وعلا لم يبتل الناس بكثرة العمل ولكن ابتلاهم بحسنه ?لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا?([4]) صلاة الفجر ركعتان لكنها أفضل من صلاة الظهر، وهكذا فإن قلة العمل لا يدل على كونه مقبولا؛ بل قد يكون العمل القليل من صاحبه أعظم من العمل الكثير، وهذا هو الذي عليه قوله هنا (وإنَّ اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة).
قال بعدها (وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم؟ ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين، أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين). أبو الدرداء رضي الله عنه كان حكيم هذه الأمة، وكان كثير التفكر، كما قالت أم الدرداء عنه: كانت أكثر عبادة أبي الدرداء التفكر. والتفكر أمر عظيم لأنه يحدث في القلب والوجل والعلم واليقين، وهذه كلها عبادات مرضية عند الله جل وعلا، ومن تأمله وتفكره في ملكوت الله وفي الإسلام وثواب الأعمال والاستقامة على الكتاب والسنة أن قال (يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم؟) يعني أنه يقول: إن العبد قد يكون ينام في الليل ويُفطر في النهار؛ يعني ليس يكثر صيام نفل ولا يكثر صلاة ليل؛ بل يستمتع بالليل نوما ويستمتع بالنهار إفطارا, فيما كتب الله جل وعلا له من النوافل، ولا يشق على نفسه في أنه مثلا يصوم يوما ويفطر يوما, بل يكفي أن يصوم مثلا ثلاثة أيام من كل شهر أو كل الاثنين والخميس أو علا ما جاء، وفي الليل يأخذ القليل ولا يطيل لكنه مع ذلك معه تقوى -خوف من الله جل وعلا-، ومعه يقين؛ إيمان صادق قوي كامل والتزام وعقيدة صحيحة متيقَّنة لا شبهة فيها ولا شك، قال: إن هذا أفضل ممن يأتي بأمثال الجبال عبادة ولكنه من المغترين بكثرة عبادته بأنواع العبادة، أو المغترين بجهاده أو بأمره بالمعروف أو بنهيه عن المنكر، ومعتزين ببذله أو بدعوته أو بحركته أو إلى(15/52)
آخره؛ لكنه ليس على سبيل وسنة، فإنه فاق الأول هذا الآخر، ولهذا قال (ولمثقال ذرة) يعني أقل القليل (من بر) يعني من عمل صالح متيقن على سبيل وسنة (مع تقوى) مع خوف من الله جل وعلا بأن الله جل وعلا يقول في وصف عباده وخاصة عباده ?وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ?[المؤمنون:60]، أثنى عليهم بذلك، يُعطون، يصلون القليل أو الكثير بحسب ما كتب الله لهم, يتصدقون, يدعون، يأمرون بالمعروف, ينهون عن المنكر, ينصحون؛ لكن قلوبهم وجلة أنهم إليه جل وعلا راجعون.
(مع تقوى ويقين)، اليقين: هو الصدق في الاعتقاد والصواب فيه، والقوة في الإيمان وعدم التردد والشبهة فيه.
قال (مثقال ذرة من بر) مع هذين الشطرين الخوف واليقين (أعظم وأفضل) شُوف (أعظم) أولا (أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين) وهذه الكلمة من فقه العظيم رضي الله عنه وأرضاه، وهكذا كان طريق الصحابة رضوان الله عليهم على هذا.
لهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج بأنه يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فليست العبرة بكثرة العبادة أو بكثرة الجهاد أو بكثرة كذا وكذا، أو بكثرة الدعوى, العبرة: هل هذا موافق للسبيل والسنة أم ليس بموافق؟ فإن كان غير موافق فإنه ولو كان أمثال الجبال فإنه لا نفع فيه، أو أن غيره أنفع منه.
هذا الأثر رواه الإمام أحمد في الزهد وأبو نعيم في حلية الأولياء بإسناد لا بأس به.
ويظهر بهذا فضل الإسلام الصحيح، وفضل السبيل والسنة، وفضل متابعة الجماعة الأولى، وأن أصحاب ذلك إذا التزموا فإن الله جل وعلا يبارك لهم في قليل أعمالهم ويُنميها لهم، ويكون عملهم أعظم وأرجح وأفضل ممن يكثر، ولكنه على غير السبيل.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن]
باب وجوب الدخول في الإسلام(15/53)
وقول الله تعالى ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85].
وقوله تعالى ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ?[آل عمران:19].
وقوله الله تعالى:?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ?[الأنعام:153]الآية. قال مجاهد: السبل: البدع والشبهات.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجاه، وفي لفظ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
وللبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قيل: مَنْ أَبَى؟ قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».
وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ» رواه البخاري.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قوله (سنة الجاهلية): يندرج فيها كل جاهلية مطلقة أو مقيدة، أي: في شخص دون شخص، كتابية أو وثنية، أو غيرهما من كل مخالفة لما جاء به المرسلون.
وفي الصحيح عن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فإنْ استقمتم فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا(15/54)
وعن محمد بن وضَّاح: أنه كان يدخل المسجد فيقف على الحِلَق فيقول: فذكره، وقال: أنبأنا سفيان بن عيينة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله يعني ابن مسعود - رضي الله عنه -: ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير؛ لكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم).
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم علمنا بما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
اللهم هب لنا من لدنك سلطانا نصيرا، وهيئ لنا من أمرنا رشدا إنك راحم ودود.
وبعد:
فهذا هو الباب الثاني في كتاب فضل الإسلام للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى رحمة واسعة، قال فيه (باب وجوب الدخول في الإسلام) بعد أن بيّن رحمه الله في الباب الأول فضل الإسلام وما يحظى به أهله الذين التزموا به بمعناه العام والتزموا بأفراده واستقاموا على ذلك من الفضل العظيم في هذه الدنيا وفي الآخرة، بيّن أن هذا الإسلام الذي ذاك فضله ليس الدخول فيه اختياريا؛ بل يجب الدخول في الإسلام، وتارة إذا ذُكرت الفضائل فإنه قد يُظن أن المرء في خيرة من أمره؛ هل يدخل أو لا يدخل؟ هل يعمل أو لا يعمل؟ لأن ذكر الفضائل قد يُظن معه أن المسألة اختيارية.
والإسلام ليس الدخول فيه اختياريا، وإنما الفضل الذي سبق ذكره لا ينافي وجوب الدخول فيه، بل الإسلام واجب التزامه وواجب الدخول فيه، سواء أكان ذلك الدخول في الإسلام من ملل الكفر والوثنيات، أم الدخول في الإسلام كافة؛ أي في الدخول في جميع شرائع الإسلام وعقائد الإسلام على وجه التفصيل، فإن ذلك واجب، كما أن الدخول في أصله واجب فإن التزام فروعه واجب على العباد على التفصيل المذكور في كلام أهل العلم الوارد في النصوص.(15/55)
لهذا قال هنا (باب وجوب الدخول في الإسلام) والإسلام الذي يجب الدخول فيه هنا هو شريعة محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، والنصوص يطلق فيها الإسلام ويراد به تارة الإسلام العام الذي يشمل دين جميع المرسلين؛ لأن كل نبي وكل رسول إنما جاء بدين الإسلام، وهذا هو الإسلام العام الذي لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما بهذا الإسلام العام، فأتباع نوح عليه السلام كانوا مسلمين الإسلام العام وإن كانت شريعتهم هي شريعة نوح عليه السلام، وأتباع إبراهيم عليه السلام هم على الإسلام العام؛ التوحيد والحنيفية وإن كانت الشرائع مختلفة، وكذلك دين موسى عليه السلام, ودين عيسى عليه السلام، كل ذلك كان على الإسلام العام وإن كانت الشرائع مختلفة، لهذا قال الله جل وعلا?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]؛ يعني لكل نبي جعل الله شرعة ومنهاجا؛ ولكن الدين واحد, وقد ثبت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال «الأنبياء إخوة لعَلاَّت الدين واحد والشرائع شتى» فدين كل نبي الإسلام، لم يأت نبي بغير دين الإسلام، ولهذا لا يصح أن يقال: إنه جاء من عند الله جل وعلا أديان مختلفة وديانات متعددة. فقول من يقول الديانات السماوية، هذا باطل، وقول من يقول: الديانات الإلهية. هذا باطل في الشرع؛ لأن الدين واحد، والله جل وعلا لم يأت من عنده إلا دين واحد وهو الإسلام، ولا يرضى عنده إلا الإسلام، فليس ثَم ديانات سماوية، وإنما هو دين واحد يجب على كل البشر قبل محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وبعده أن يدخلوا في الإسلام؛ لأن الله جل وعلا لا يرضى دينا إلا الإسلام، فقوله مثلا ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإسْلامُ?[آل عمران:19]، هذا عام يشمل جميع الأزمنة وجميع الفترات من لدن خلق الخليقة إلى أن يرث المخلوقات جل وعلا، فلا يقبل من أحد دينا إلا دين الإسلام.
ولهذا نقول: إن الإسلام يُطلق في النصوص ويراد به:(15/56)
¨ تارة الإسلام العام: وهو الدين الذي اجتمعت عليه المرسلون ورضيه الله جل وعلا لكل رسول.
¨ والثاني الإسلام الخاص: وهو الإسلام الذي بعث به محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وهو الإسلام عقيدة وشريعة، أو الإسلام بمعناه وشرائعه وعقيدته التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام.
فالذي يشمل جميع ما جاءت به الرسل من الإسلام هو ما اجتمعت عليه في تفسير الإسلام والدعوة إليه، والعلماء جمعوا ذلك في عبارة عرَّفوا بها الإسلام كما ذكرها ابن جرير الطبري في التفسير، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان وفي غيره، وأيضا ذكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وجماعة:
وهو أن الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
وهذه الجملة تنطبق على ديانة كل رسول؛ لأنها مشتملة:
أولا على التوحيد, الاستسلام لله بالتوحيد، أي أن الشرك باطل في كل ملة.
ثم الانقياد لله جل وعلا بالطاعة وترك اتباع الهوى في الأوامر والنواهي، والطاعة هنا تندرج في طاعة كل رسول خُوطب العبد بأن يتبعه بحسب الزمان والمكان.
والبراءة من الشرك وأهله، هذه فيها الكفر بالطاغوت، وبُغض الشرك، وبُغض أهل الشرك لما هم عليه من عبادة غير الله جل وعلا، كما قال جل وعلا ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36].
هذا يعم جميع المرسلين في الإتيان بالتوحيد والاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد، فكل رسول أمر أن يعبد الله وحده لا شريك له.
والجملة الثانية وهي الانقياد له بالطاعة فيدل عليها الله جل وعلا ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ?[النساء:64].(15/57)
والجملة الثالثة وهي قوله والبراءة من الشرك وأهله هذه يدل عليها قوله تعالى ? قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[الممتحنة:4]الآية, قوله (فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني من المرسلين من كانوا على دينه الحنيفية دين الإسلام، (إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ) يعني لأقوامهم، وهذا دليل على الجملة الثالثة من تعريف الإسلام العام.
وأعظم من خُصَّ بكمال هذه الجمل الثلاث هو محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وما مَنَّ الله عليه من الرسالة، فالإسلام الخاص له من هذه الثلاث أكمل ما أمر به نبي.
فمن جهة الاستسلام لله بالتوحيد فهذا أكمل ما جاء في دين محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ والانقياد للرسول بالطاعة أكمل ما جاء في دين محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
والبراءة من الشرك وأهله أكمل ما جاء في دين محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فصار له عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ من الأمر بهذا الإسلام أعظم ما لغيره من الأنبياء عليهم سلام الله أجمعين.
لهذا يدخل في قوله هنا (باب وجوب الدخول في الإسلام) يعني هذا الإسلام وهو الاستسلام لله بالتوحيد فهذا واجب الدخول فيه، وأن يستسلم المرء لله جل وعلا بالتوحيد، وأن يترك البدع الشركية والمحدثات الوثنية وكل عقيدة فيها شرك وفيها كفر وفيها ضلال من جهة التشريك سواء أكان أكبر أم أصغر، هذا كله واجب للدخول في التوحيد وللاستسلام لله جل وعلا به؛ يعني بالتوحيد بجميع أنواعه -توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات-، والحذر من ضده والبعد عنه وهو الشرك بأنواعه.
كذلك الانقياد للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطاعة، كذلك البراءة من الشرك وأهله كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.(15/58)
إذن مراد المؤلف هنا في قوله (باب وجوب الدخول في الإسلام) أنه يجب على الناس أن يدخلوا في الإسلام.
والإسلام هذا الذي يجب الدخول فيه كما ذكرنا لك صنفان: عقيدة وشريعة، وإذا كان كذلك فمسائل الإسلام متنوعة متعددة، كما قال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً?[البقرة:208]، يعني أدخلوا في الإسلام كله، وهذا يدل على وجوب الدخول في كل الإسلام وعدم التفريق بين أمر وأمر فيه من جهة قبوله واعتقاده.
إذا تبين هذا، فهذا الوجوب في قوله (وجوب الدخول في الإسلام) نوعان:
وجوب تركه كفر: لأن الإسلام منه ما إذا تُرك فهو كفر، كترك التوحيد أو أهل الشرك الأكبر، أو نحو ذلك من المكفرات.
والثاني وجوب تركه محرم على العبد: وهذا المحرم يكون: تارة يكون كبيرة وتارة يكون صغيرة. لهذا فكل عقيدة أو شريعة وكل أمر سواء أكان أمرا علميا أو أمرا عمليا، ويقابله النهي، واجب على العباد الدخول فيه، فمن تركه ترك الواجب، وهذا الترك قد يكون كفرا، وقد يكون محرما، وليس بكفر، بحسب نوع ما ترك من العقائد والشرائع.
قال رحمه الله تعالى(وقول الله تعالى ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85]. وقوله تعالى: ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ?[آل عمران:19]).
(الدِّين) مرَّ معنا تفسير وهو أن الدِّين مأخوذ في اللغة من قولهم: دان بكذا؛ أي التزم به، ودَيْدَنُ المرء كذا إذا كان يتعاهد هذا الشيء ويلتزم به ويكون عادةً له، فبين العادة وبين الدين تلازم، وسبق أن ذكرته لكم في الباب الذي قبله.(15/59)
فإذن في قوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِيناً) يعني أن يجعل طاعته وعادته التي يتقرَّب بها في غير الإسلام فإن ذلك لن يقبل منه سواء أكان ذلك في أمور العقائد أم في أمور الشرائع, سواء أكان ذلك في الأمور العلمية أم في الأمور العملية, فإذا كان ثم التزام بشيء يتقرب به إلى الله فهذا صار دينا له، فيدخل حينئذ في عموم هذه مسائل العقيدة والتوحيد ويدخل فيه أيضا مسائل البدع العملية؛ لأن صاحب البدعة العملية قد اتخذ دينا التزمه؛ التزم دينا وجعل له عادة يتعبد بها، فإذا كانت ليست من الإسلام فإنها تدخل في عموم هذه الآية.
قال جل وعلا في سورة الشورى ? أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ?[الشورى:21] والدين في هذه الآية يدخل فيه المحدثات والبدع التي كما استدل بها أهل العلم يعني بالآية على رد المحدثات والبدع.
فإذن هذه الآية وهي قوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) يدخل في الإسلام أو يُعنى بالإسلام الإسلام المعروف وهو دين الإسلام أصلا كأن يدين بدين اليهودية([5]) أو النصرانية بعد رسالة محمد عليه الصلاة والسلام أو يدين بدين البوذية أو بأي دين يتقرب به إلى الله جل وعلا، فهذا كله باطل وهو في الآخرة من الخاسرين، وأيضا يشمل بعموم لفظها أنه من ابتغى دينا يتدين به ويتقرب به إلى الله جل وعلا وهو ليس بالإسلام الذي جاء به محمدٌ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فإنه أيضا لن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
وقوله (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الخسارة هنا بحسبها:
¨ قد تكون خسارة كبرى بأن يخسر الجنة ويدخل النار ويكون من المخلدين فيها.
¨ وقد تكون خسارة صغرى بأن يخسر الدخول في الجنة والسلامة من العذاب مطلقا؛ ولكن يعذب بقدر ما عنده من المخالفة إن لم يغفر الله جل وعلا له و يتجاوز.(15/60)
فإذن قوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) هذا فيها شرط وجزاء، إذا ابتغى أحد غير الإسلام فإنه لن يقبل منه مهما كان تعبده، وليس الشأن في ذلك أن يكون متعبدا, باكيا, خاشعا, فإن الشأن هو في اتباع الطريق, في اتباع السبيل دون نظر إلى تعبد الشخص؛ تعبد الإنسان، لهذا وصف الله جل وعلا طائفة بأنهم يعملون ويتعبون ولكنهم في النار قال جل وعلا ?عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ(3)تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً(4)تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ?[الغاشية:3-8]، فهم عاملون و ناصبون ويتعبون ويعملون, ويتعبدون وربما بَكَوا من خشية الله, وربما أكثروا تخليص النفس من الشوائب؛ لكنهم كما وصف الله جل وعلا أنهم يصلون نارا حامية، وذلك لأن الشأن ليس هو في عمل العبد؛ ولكن الشأن هو في أن يكون عمله على وفق ما أمر الله جل وعلا به، فإذا ابتغى غير الإسلام دينا, ابتغى النصرانية, ولو كان فيها راهبا متعبدا خاشعا لكنه لم يبتغِ الإسلام ولم يستسلم لله بالتوحيد وابتغى غير ذلك فهو في الآخرة من الخاسرين المخلدين في النار ولن يقبل منه ذلك.
وهكذا أيضا في المعنى الأخص وهو من ابتغى عملا ليس هو من الأعمال التي أمر الله جل وعلا بها وجاءت بها السنة مثل المحدثات المختلفة والعقائد المتنوعة التي أُحدثت في هذه الأمة؛ عقائد المرجئة, عقائد الخوارج, عقائد القدرية, عقائد المعتزلة, الجهمية, الأشاعرة... إلى آخره، فهم يظنون أنهم محسنون وأنهم أكثر تنزيها؛ ولكن هل هذا عليه الدليل؟ هل هذا عليه نص الشرع؟ هل هذا هو الإسلام الذي جاء في النصوص؟ إذا لم يكن كذلك فإن من ابتغاه ولو رام ما رام تنزيها فإنه لن يقبل منه وسيخسر بحسب ما فعل.(15/61)
وكذلك أهل التعبدات المختلفة من الصوفية ونحوهم فإنهم وإن لبسوا الصوف وتبتلوا, وخرجوا وتعبدوا وأخذوا أنفسهم بالرياضات المختلفة لتصفو النفس وكثر تعلقهم بالله جل وعلا وتجردهم من الدنيا؛ لكنهم لما لم يكونوا على الإسلام الذي جاء به محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ولم يكن لهم فيما يفعلون أدلة فإنه لن يقبل منهم ذلك.
وكذلك أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهل الغيرة، إذا لم يكونوا على السبيل فإنه لن يقبل منهم ذلك, فالخوارج ما خرجت إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبسبب غلوهم فيه قتلوا عثمان رضي الله عنه.
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحا وقرآنا
حتى إن الذي قتل عليا رضي الله عنه وهو عبد الرحمن بن ملجم كان قتله تقربا من الله جل وعلا، لما أرادوا قتله قصاصا يعني قتل عبد الرحمن بن الملجم قصاصا قال: لا تباغتوني القتل -يعني مرة واحدة-؛ لكن قطِّعوا أطرافي شيئا فشيئا حتى أنظر إلى تعذيبي في الله جل وعلا. وقال فيه عمران بن حطان يمدحه لما هو عليه من الصلابة -كما يزعمون- في الدين قال في وصفه في أبيات معروفة وهي أبيات ضلال والعياذ بالله قال في مدح عبد الرحمن بن الملجم:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحتسبه لأوفى البرية عند الله ميزانا
وهذا سلكه أيضا طائفة من المعتزلة فغلوا في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أدخلوا فيه الخروج عن الحكام وعلى الولاة.(15/62)
ولازالت الأمة منذ ظهور الخوارج إلى وقتنا الحاضر وهم يبتلون بمن يغلو في هذا الباب، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال في عقيدته الواسطية فيما تميز به أهل السنة من الوسطية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال في وصفهم: هُم مَعَ هذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ. لأن هناك من الطوائف من أمرت ونهت على غير ما أوجبته الشريعة وإنما على نحو ما أملته عليه أهواؤهم.
المقصود من ذلك أن ابتغاء غير الإسلام دينا هذا يدخل فيه كل من ابتغى غير ما جاءت به الشريعة ودل عليه الدليل، وإذا كان كذلك فواجب إذن على المكلف أن يدخل في الإسلام وأن لا يدخل في فعل من الأفعال بأمر إلا وقد تبينت له حجته وخاصة وسائل العقائد ومسائل العمل والمنهج؛ لأن هذه هي التي تميز وليس فيها اجتهاد فيها؛ ولكن الاجتهاد يحصل في الأمور الفرعية كما هو معلوم، أما ما قعَّده أئمة أهل السنة والجماعة في كتب العقائد وبينوا فيه من سمات وصفات أهل السنة فإن ذلك ليس مجالا للاجتهاد بل واجب الإلزام به.
قال (وقوله تعالى ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ?[آل عمران:19]) وهذا ظاهر وهو في معنى الآية التي قبلها, الدِّين الذي يقبله الله جل وعلا هو الإسلام فقط، وأما غير الإسلام الذي عليه الدليل فإنه لا يقبله الله جل وعلا وليس دينا عنده، وإن كان العبد عده دينا.(15/63)
قال (وقول الله تعالى ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام:153] الآية، قال مجاهد: السبل: البدع والشبهات) هذه الآية فيها الدليل على أنَّ صراط الله جل وعلا واحد, قال (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ)، ووجه الدلالة على الآية على الباب أن الله جل وعلا أمر بإتباع هذا الصراط بعد أن بيَّنه قال (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) والإشارة (وَأَنَّ هَذَا)، هذه إشارة إلى أمر واضح بيّن يُعرَّف به لأن التعريف؛ تعريف الشيء يحتاج إلى عبارة تدل عليه، كأن إذا قيل عرف مثلا ما هو الهوى؟ يحتاج إلى عبارة تدل عليه, ما هو مثلا اللحم؟ ما هو الإنسان؟ ما هي الطائرة؟ ...إلى آخره، فالعبارة تعرف به، وأقصر تعبير باتفاق العقلاء يعرِّف بالشيء ويوضحه بحيث لا يلتبس أن يكون بيِّنا أمامك فتشير إليه، فإذا قيل مثلا ما الرسالة؟ فرفعت هذه، ما الظرف؟ إذا قيل ظرف فيه ورقة, إذا قيل هذا تُصور فصار واضحا، هذا؛ لأنه بين, أما إذا وصف بالعبارة فيحتاج إلى بيان كثير.
وهنا الله جل وعلا أشار إلى هذا الطريق الواضح فقال (وَأَنَّ هَذَا)، وهي إشارة إلى شيء يشاهد؛ يشاهده الناس, يشاهده الصحابة, يشاهده من كان في ذاك الزمان وفي كل زمان، (وَأَنَّ هَذَا) الإشارة إلى السبيل والسنة وما في القرآن والسنة دون غيرها, (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) إذن الإشارة لما كان في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان عليه هديُه، وكل ما لم يدخل في هذه الإشارة فيمكن أن تقول إنه خارج على الصراط المستقيم.(15/64)
قال(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) والصراط المستقيم فُسِّرَ في سورة الفاتحة بعدة تفاسير وفي هذه الآية بأنه السنة وأنه الإسلام والقرآن أو أنه محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وهذه كلها متلازمة، فمن لزم الإسلام فقد لزم السنة، ومن لزم السنة فقد لزم القرآن، ومن لزم القرآن على حقيقته فقد لزم الإسلام والسنة وهكذا, بل يجب لزوم الإسلام الذي دلَّ عليه القرآن والسنة وبيَّنه نبيه الكريم محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
قال (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) فهو صراط واحد كما بيّنتُ لك في الباب الذي قبله، فأمر بإتباعه فقال (فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
ودلت الآية على أن إتباع الصراط الذي هو الإسلام والسنة واجب بأمر الله جل وعلا به وأن إتباع غيره من الأهواء والشبهات والبدع محرم لقوله (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)، وهذا نهي، والنهي هنا للتحريم فدل ذلك على مراد المصنف من الاستدلال بالآية على وجوب الدخول في الإسلام وتحريم الخروج عنه إلى غيره.
قال رحمه الله بعد ذلك (وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجاه، وفي لفظ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»).
هذا الحديث متفق عليه، متفق على صحته في لفظه الأول (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا...)، واللفظ الثاني (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا...) رواه مسلم في الصحيح وعلقه البخاري أيضا في صحيحه جازما به.
وهذا الحديث بهذين اللفظين حجة وأصل عظيم من الأصول في ردّ البدع والمحدثات بجميع أنواعها, وهذان اللفظان مهمان، وكل منهما له حجة في باب:(15/65)
¨ أما الأول فقوله(مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ) فهو يشمل الذي ابتدع البدعة وأحدث الحدث ولو لم يعمل بذلك، فمن أحدث الحدث فهو مردود عليه ولن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
¨ واللفظ الثاني (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا) هذا يشمل الذي يعمل ولو لم يحدث.
فإذن اللفظان دل أحدهما على المحدث ودل الآخر على الذي عمل بما أحدثه المحدث.
وهذا الحديث دالٌّ للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث عمر رضي الله عنه ««إِنّما الأعْمَالُ بالنّيات, وإِنّمَا لِامْرِىءٍ ما نَوَى» ميزان للأعمال في باطنها، فمن صحت نيته في باطنه واستقام عمله الظاهر على وفق السنة فإنه حينئذ مقبول الدين، وأما إذا فات أحدهما فليس بمقبول العمل لأنه إذا فات الإخلاص لم يقبل العمل، وإذا فاتت المتابعة والالتزام بالظاهر فإنه لا يقبل العمل.
إذا تبين ذلك فالمحدثات قسمان:
¨ محدثات في الدنيا.
¨ محدثات في الدين.
وهذا الحديث يراد به محدثات في الدين؛ لأنه قال (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا) وقوله(فِي أَمْرِنَا هَذَا) يُعنى به الدين.
أما المحدثات في الدنيا فليست مشمولة بالنهي، ولهذا الصحابة رضوان الله عليهم توسعوا في أمور الدنيا على وفق المصلحة، وتنظيم أمور الدنيا تارة يدخل تحت قاعدة المصالح المرسلة، وتارة يدخل تحت قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، وليس هذا بموطن بيان ذلك.
أما المحدثات في الدين فهي مردودة جملة واحدة، فليس لأحد أن يُحدث حدثا في الدين سواء أكان ذلك الحدث في الأمور العلمية في أمور العقائد أم في الأمور العلمية.(15/66)
فإذن هذا الحديث يستدل به على بطلان كل عقيدة محدثة، ويستدل به على بطلان كل عمل يتقرب به إلى الله محدث، فمن جاء بعقيدة محدثة كعقائد الخوارج أو المرجئة أو المؤولة في الصفات أو نفي الصفات أو في القدر في الجبر ونحو ذلك، فإنه يقال له هل كان على هذا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فلا بد أن يقول: لا؛ ولكن هذا هو الذي يجب التزامه لأجل أن لا يسبب للشرع كذا، أو أن ينزه الله جل وعلا عن كذا...إلى آخره.
ولهذا كان من الكلام الحسن مثلا في بعض الصفات ما قاله والد الإمام الجويني رحمه الله حيث قال: إني لما تأملت تأويل الصفات وجدت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتلو القرآن وفيه آيات الصفات، وكان يصف الله جل وعلا في أحاديثه وعنده الصحابة ومنهم الحاضر ومنهم الباد، ومنهم الذكي ومنهم غير الذكي، ومنهم العاقل ومنهم دون ذلك، ومنهم من قد يتصور شيئا غير الظاهر ومنهم من لا يتصور إلا الظاهر، فلم يتبع ذلك بأشياء تصرفها عن ظاهرها، فدل على أن نصوص الغيب واجب الإيمان بها على ظاهرها دون التأويلات المحدثة.
وهذا الذي قاله حق، ومن جهة أخرى في المسائل العملية الحديث حجة على رد كل محدثة في العمل يُتقرب بها إلى الله جل وعلا، والمحدثات في الدين هي البدع، لهذا قال «وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (كل محدثة) يعني محدثة في أمرنا هذا, محدثة في الدين بدعة, البدع أيضا هناك بدع في الدنيا وبدع في الدين، والمذموم هو الابتداع في الدين أما الإحداث في الدنيا فلا يدخل في البحث؛ لأنه لا يدخل في قوله (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا) وإنما المقصود التكلم على الديانة.(15/67)
إذا تبين ذلك فالبدع مذمومة كلها، وكل بدعة مردودة لأدلة من الكتاب والسنة، ومن السنة هذا الحديث الجامع الشامل الذي عدّه طائفة من أهل العلم ثلث الدين، وعدّه طائفة آخرون ربع الدين؛ لأنه يشمل مسائل كثيرة تعطي ربع مسائل الدين في العقائد وفي الشرع.
البدعة تنافي الدخول الكامل في الإسلام إذا كانت بدعة عملية، والبدع قسمان:
¨ بدع كفرية.
¨ بدع دون الكفر (عقدية أو عملية).
فتارة يكون الأمر بدعة ويكون كفرا أكبر أو شركا أكبر, وتارة يكون دون ذلك؛ دون الكفر, وهذا يشمل العقائد ويشمل العمليات.
فمثاله مثلا في البدع العقدية التي هي كفر: سلب الرب جل وعلا عن جميع صفاته، وأنه ليس له صفة البتة، هذه البدعة أحدثت لم يكن عليها حتى أهل الجاهلية, هم يعتقدون أن لله جل وعلا صفات، فأتى بهم ونفى جميع الصفات عن الرب جل وعلا، وأنه لا يتصف بصفة النية غير صفة الوجود المطلق بشرط الإطلاق كما يزعمون.
وأما البدع العملية التي هي كفر كالاستشفاع بالموتى، الاستشفاع بالموتى هو شرك أكبر فخرج من الملة وهو بدعة محدثة أيضا في هذه الأمة، ولها وسائل كثيرة أحدثت.
القسم الثاني البدع دون الكفر منها ما يكون في:
العقائد: كبدع الإرجاء، بدع الخوارج، وبدع القدرية، وبدع تأويل الصفات، والكلام في الأحوال و المقالات... إلى آخره؛ يعني من جهة الاعتقاد.
القسم الثاني بدع عملية: وهي التي يكثر فيها الكلام من جهة عمل الناس لها، صلوات مبتدعة, أذكار مبتدعة, أحوال مبتدعة, احتفالات مبتدعة...إلى آخر ذلك، هذه كلها لا تصل إلى الكفر والشرك، وإنما هي بدع بحسب حالها.
والبدع العملية قسمان:
1. بدع أصلية.
2. وبدع إضافية
البدع الأصلية: ما أحدث وليس له أصل يتبعه، مثل إحداث حفلات الموالد أو المآتم، أو نحو ذلك مما لم يكن له أصل أصلا في الشريعة، فهذه بدعة أصلية أُحدثت في هذه الأمة.(15/68)
والقسم الثاني بدع إضافية: أصل العمل مشروع؛ ولكن زيد عليه أشياء صارت بدعة, سماها أهل العلم بدعا إضافية، مثل الاجتماع على الذكر على نحو ما, ترديد أشياء بعد الصلاة المفروضة, وأشباه ذلك, الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صفة ما, مثل ما جاء أن ابن مسعود رضي الله عنه جاء إلى قوم وقد جعلوا لهم كبيرا وبينهم حصى ويقول لهم سبحوا مئة، هللوا مئة...إلى آخره، فقال لهم: لأنتم على طريق أهدى من طريق محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ؟ أو أنتم على شعبة ضلالة؟ هذه آنية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تكسر-يعني أن العهد قريب- وهؤلاء زوجاته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لم يمتن، وهؤلاء أصحابه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فقالوا: يا أبى عبد الرحمن الخير أردنا. قال: كم من مريد للخير لم يبلغه. هذه الصفة التي فعلوها تسبيح مشرع, ولكن أضافوا عليها صفة صارت محدثة.
لهذا بعض أهل العلم يقول: البدع المحدثة قسمان:
- بدعة أحدث أصلها وهو القسم الأول.
- بدعة أحدث وصفها وهو القسم الثاني.
إذا تبين ذلك فالبدعة لها عدة تعريفات, عرّف بها أهل العلم وسبق ذكرها؛ لكن على اختصار نمر عليها عليها.
وهي: أن البدعة عُرِّفت بما أحدث على خلاف الحق المتلقي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول أو عمل أو اعتقاد، وجُعل ذلك هديا ملتزما, وطريقا مسلوكا. هذا عرَّفها به بعض أهل العلم على نحو هذا التعريف.
الثاني ما عرَّفه به الشاطبي وغيره: بأن البدعة طريقة في الدين مخترعة يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريق الشرعية، والتزم بذلك.
إذن تحصل من ذلك:
? أن البدعة:
· قد تكون في الأقوال.
· قد تكون في الأعمال.
· قد تكون في الاعتقادات.
? أيضا الفائدة الثانية من التعاريف: أن البدعة لم تكن في عهده عليه الصلاة والسلام، ولا في عهد صحابته رضوان الله عليهم.(15/69)
?الثالث: أن البدعة يُقصد بسلوكها التقرب إلى الله جل وعلا؛ يعني عمل عبادي يقصد به الأجر والثواب والتقرب إلى الله جل وعلا.
? الأمر الرابع وهو مهم: أن البدعة ملتزمة؛ يعني أنه جعلها طريقة تضاهي الطريقة المشروعة في الالتزام بها، أما إذا لم يلتزم بالعمل أو بالقول فيكون خلاف السنة، ويكون غلطا، أو يكون مردودا، بحسب الحال؛ لكن لا يكون بدعة حتى يلتزم، إذا أحدثه والتزم, يعني الناس مشوا على ذلك أو هو التزمه، فإذا يفرق في هذا المقام ما بين البدع والمحدثات في الدين وما بين مخالفة السنة, فليست كل مخالفة للسنة بدعة, فالبدعة ما تخالَف به السنة ويلتزم به، فيكون طريقا مشروعا ملتزما به، مثلا لو أن أحد من الناس وبعد الصلاة المشروعة ورفع يديه ودعا، هل يكون فعله بدعة؟ أو هو غلط وخلاف للسنة؟ نقول هنا: ننظر هل يلتزم هذا أم أنه فعله تلك المرة أو يفعله في تارات بين حين وآخر بعيدة كل شهرين ولا يلتزمه كل مرة، فيكون إذا فعله مرة يكون هذا خلاف السنة ولا يجوز له مخالفة السنة، أما إذا التزمه فصار هديا ملازما للصلوات المفروضة صار بدعة محدثة يشملها حديث الوعيد عن البدع.
الكلام عن البدع يطول الوقت قد يقصر.(15/70)
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك (وللبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» قيل: ومَنْ أَبَى؟) هذا فيه رعاية اللفظ لأنه قال (إِلَّا مَنْ أَبَى) فراعوا لفظه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فقالوا له (ومَنْ أَبَى؟) يعني من هذا الذي أبى؟ (قَالَ«مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»)، هذا منه عليه الصلاة والسلام تقرير لأمر عظيم وهو أنه لا يمكن الدخول في الإسلام إلا بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه إذا لم يطع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويلتزم بسنته فإنه لم يدخل العبد في الإسلام كله، والله جل وعلا أمر بالدخول كله فقال ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً?[البقرة:208]؛ يعني أدخلوا في السلم جميعا وأمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث فيه أن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو موعود بدخول الجنة (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى) وهذا فيه تعظيم لطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ذكر العلماء أن طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرا بها جاءت في القرآن أكثر من ثلاثين موضعا، كلها فيها الأمر بطاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدم مخالفته، كقوله جل وعلا ?مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ?[النساء:80]، كقوله جل وعلا ?وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[النور:56]، وكقوله جل وعلا?فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?[النور:63]، ونحو ذلك من الآيات وهي أكثر من ثلاثين.(15/71)
وقد كتب الإمام أحمد رحمه الله كتابا عظيما سماه: كتاب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر فيه كل الآيات التي أمر الله جل وعلا بها بطاعة الرسول وهو كتاب مفقود، منه منتخبات أو قطع في عدد من الكتب كآخر مسائل الإمام أحمد، وكمواضع في بدائع الفوائد لابن القيم، ونقولا لابن تيمية، وفي إعلام الموقعين إلى غير ذلك.
فالمقصود أن العلماء اهتموا بذلك بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنها أساس الالتزام بالإسلام، فلا يحصل الدخول في الإسلام إلا بطاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله عليه الصلاة والسلام هنا (كُلُّ أُمَّتِي) ما المراد بالأمة هنا؟ الأمة هنا قد يكون المراد بها هنا أمة الدعوة، ويكون المراد باللفظ أنه لا يدخل الجنة إلا من كان على الإسلام؛ يعني كل أمتي التي بُعثت إليهم يدخلون الجنة إلا من أبى طاعتي، ومعنى ذلك أنه من لم يستجب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكن مسلما فلا يدخل الجنة، وعبّر بقوله (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) للتشويق في الالتزام بالطاعة، هذا قاله بعضهم ولكنه ليس بجيد.
والصحيح الذي عليه أهل العلم هو الثاني وهو أن قوله(كُلُّ أُمَّتِي) يعني أمة الإجابة وهم أهل الإسلام كلهم يدخلون الجنة إلا من أبى دخول الجنة، (قيل: ومَنْ أَبَى؟ قَالَ«مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»)؛ يعني أبى دخول الجنة.
إذا تقرر ذلك، فهل من عصى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدخل الجنة؟ ظاهر الحديث: نعم، لا يدخل الجنة من عصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه حينئذ يكون من أهل الوعيد.
لكن الدخول إلى الجنة على قسمين:
القسم الأول دخول أولي: يعني دخول -إن صح التعبير- مبكِّر, دخول في أول الأمر بعد أن ينقضي الناس من الحساب فإنه يدخل الجنة في آن, أولا، مبكرين في الدخول.(15/72)
والقسم الثاني: دخول متأخر: وهؤلاء هم من شاء الله جل وعلا أن يدخلوا النار فيعذبوا فيها بقدر أعمالهم.
فالدخول في النصوص دخول الجنة نوعان: دخول أولي أو مبكر، ودخول متأخر. فقد ينفي دخول الجنة ويراد به نفي الدخول الأولي أو الدخول المبكر كهذا الحديث، فقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (كُلُّ أُمَّتِي) يعني أمة الإجابة (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) أولا؛ مبكرا ولا يتأخرون عن دخولها إلا من عصاني فإنه لا يدخل الجنة أولا، وإنما يتأخر، وإذا تأخر فإنه من أهل الوعيد ممن يعذب في النار بقدر مخالفته وعصيانه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويقابل هذا في النصوص التحريم كقوله مثلا «الجنة محرمة على قاطع الرحم», «لا يدخل الجنة قاطع رحم», «لا يدخلون الجنة، ولا يجدون عَرْفَها, وإنَّ عرفها ليوجد من مسيرة كذا وكذا», «إنّ الله حرّم على النار من قال لا إله إلا الله» ونحو ذلك، فالتحريم في النصوص أيضا قسمان: تحريم مؤقت وتحريم أبدي.
التحريم الأبدي: هذا يعني أنه يَحْرُم عليه أن يخرج من النار البتة, أو يحرم عليه أن لا يدخل الجنة البتة.
التحريم المؤقت: أنه يحرم عليه الجنة إلى زمن، ثم يدخلها، من أهل المعاصي، ومنهم من تحرم عليه النار مؤبدا، ومنهم من تحرم عليه النار مؤقتا، وهكذا..
وبهذا التفصيل يستقيم النظر في النصوص ويَبين غلط الخوارج وأهل البدع والغلو الذين فهموا من نفي الدخول مطلق الدخول، وفهموا من التحريم مطلق التحريم، وفهموا من التحريم التحريم المطلق أو مطلق التحريم بحسب الحال، وهذا ليس بجيد؛ بل النصوص فيها هذا وهذا.(15/73)
المقصود من ذلك أن الحديث هذا الذي رواه البخاري رحمه الله يدلُّ على أن الواجب على العبد المسلم أن يطيع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن لا يأبى دخول الجنة، ومن عصى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أمر به أو نهى فإنه يأبى دخول الجنة، والعاقل لا يمكن أن يأبى دخول الجنة، فدل الحديث على وجوب الدخول في الإسلام ووجوب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن هذه الأمة منهم من هو متوعد -أمة الإجابة- منهم من هو متوعد لا يدخل الجنة؛ لأنه أبى طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال بعدها: (وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما)، قوله (وفي الصحيح) كما ذكرتُ لكم من قبل أنه يراد به البخاري في غالب كلام أهل العلم، وقد يراد به مسلم، وقد يراد به في الصحيحين جميعا بحسب تعابير أهل العلم، وهنا قوله (وفي الصحيح) يريد به صحيح البخاري رحمه الله تعالى حيث ذكر هذا الحديث في أكثر من موضع، منها في الديات لقوله في آخره« وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ».
قال (وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ») قوله (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ) هذا فيه أن هؤلاء هم أشد الناس بُغضا لله جل جلاله وتقدست أسماؤه، وهذا يعني أن فعلهم الذي فعلوه من أكبر الكبائر لأنهم وصفوا بأنهم أبغض الناس إلى الله جل وعلا، (أَبْغَضُ) لغة صحيحة خلافا لمن زعم أنها ليست بصحيحة، والأحاديث حجة في اللغة؛ لأن الأصل فيها أنها منقولة باللفظ وأن النقل بالمعنى إنما هو لعارض.
فقوله (أَبْغَضُ النَّاسِ) يعني أشد الناس بغضا إلى الله, فـ(أَبْغَضُ) أفعل في هذا الباب صحيحة على ما جاء في هذا اللفظ.(15/74)
قوله(ثَلَاثَةٌ) العدد لا مفهوم له، ولا يعني أن هؤلاء هم الأبغض فقط، وإنما يعني أن هؤلاء أشدهم بُغضا، وقد يكون هناك من يساويهم في المقدار؛ لأن العدد لا مفهوم له, وإنما يؤتى به للتمثيل، قد يكون يقتصر على هؤلاء وقد لا يكون.
(ثَلَاثَةٌ) خبر (أَبْغَضُ)، (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ).
قال (مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ)، (الْحَرَمِ) المراد به الحرم المكّي في أصله، وكذلك الحرم المدني؛ لأن كلا منهما حرم, فمكة حرَّمها إبراهيم عليه السلام، والمدينة حَرَمٌ ما بين عَيْر إلى ثور, من أحدث فيها حدثا أو آوى فيها محدِثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، كما قاله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
والإلحاد في الحرم, كلمة (مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ) الإلحاد: اختلف فيه أهل العلم, ما المراد به؟
· فمنهم من فسر الإلحاد بالشرك بالله جل وعلا والكفر؛ لأن هذا أعظم الإلحاد وهو الميل عن الطريق الصواب.
· وفُسِّر بأن الإلحاد القتل وسفك الدماء.
· وفسر بأن الإلحاد في الحرم فعل الكبائر والمعاصي وإحداث المحدثات والبدع.
· وفسر بأن الإلحاد هو كل ما نهى الله جل وعلا عنه، بأنّ كل ما نهى الله جل وعلا عنه نهي تحريم سواء أكان شركا أو ما دونه فإنه إلحاد وميل عن الصراط المستقيم.
وهذا التفسير الثالث([6]) كما اختاره ابن جرير وغيره هو التفسير الصحيح؛ لأن التخصيص لا وجه له, وقد قال الله جل وعلا?وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ?[الحج:25] في سورة الحج يعني المسجد الحرام بخصوصه، ?وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ?[الحج:25]، ذكر الإلحاد هنا وهو يشمل جميع ما نهى الله جل وعلا عنه؛ لأنه إلحاد وميل عن الصراط المستقيم.(15/75)
قال (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) وهذا هو الشاهد في هذا الحديث للباب. ([7])
الإلحاد في الحرم أيضا، يعني الحرم يجتمع فيه عدة صفات ما يطيل الكلام في هذا, لهذا تغلظ مثلا فيه الدِّية, من قتل في الحرم ليس كمن قتل في غيره، فعثمان رضي الله عنه والصحابة غلظوا الدية في من قتل في الحرم وجعلوا عليه تارة الدية وثلثا وتارة أكثر؛ لأنه جمع ما بين حرمة انتهاك المسلم وانتهاك حرمة المكان، وتارة تجتمع حرمة الزمان فيكون التغليظ أكثر بحسبه.
المقصود أن الإلحاد في الحرم جريمة، والحرم له خصوصية وواجب تنزيهه عن أنواع الإلحاد، وأن لا يكون فيه إلا طاعة الله جل وعلا، والعباد إذا عصوا الله جل وعلا فيه فقد ألحدوا بحسب الحال، وأعظمه الشرك والبدع والمحدثات، ثم المنكرات العملية والمحرمات المختلة وترك الفرائض وفعل الموبقات والعياذ بالله، حتى إن طائفة من أهل العلم ذكروا أن الهم الجازم بالمعصية في الحرم يأخذ به العبد على ظاهر قوله (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قالوا: فمن يريد به (هَمَّ) لأن (همّ) تتعدى بالباء, همّ بكذا، فيكون معنى الآية:من يرد فيه إلحاد هامًّا به قاصدا له بظلم؛ يعني عن بينة فعله بينة نذقه من عذاب أليم.
وهنا مسألة: وهي مسألة هل السيئات في الحرم تضاعف أو لا؟ وما حدود الحرم الذي فيه تضعيف الصلاة بمائة ألف وتضعيف الحسنات وشدة فعل السيئات؟
الصواب -ما يسع الوقت للتفصيل-, الصواب أنّ ما أدخلته الأميال فهو حرم، ولا يُخص ذلك بالمسجد نفسه يعني بمسجد الكعبة بل كل ما أدخلته الأميال المعروفة فهو حرمٌ فيه فضل الصلاة وفيه النهي عن الإلحاد والذنب إلى آخره وفيه التغليظ إلى آخر أحكام الحرم.(15/76)
ويدل لذلك قول الله جل وعلا ?يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ?[البقرة:217] (مِنْهُ) يعني من الحرم، فهل هم خرجوا من مسجد الحرم أو خرجوا من مكة, خرجوا من مكة, (إِخْرَاجُ أَهْلِهِ) يعني أهل المسجد الحرام (مِنْهُ) يعني من المسجد الحرام إنما خرجوا من مكة, كل واحد خرج من بيته لا من خصوص مسجد الكعبة المدار حول الكعبة.
وكذلك قوله تعالى? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ?[الإسراء:1] وأنه أسرى به من بيت أم هاني كما هو قول أكثر أهل التفسير، وحديث أنس الذي في الصحيح، إلى غير ذلك من الأدلة.
المسألة الثانية: هل الحسنات تضاعف جميعا أم أنه تضاعف الصلاة؟
العلماء في ذلك أقوال: أصحها أن التضعيف بمائة ألف إنما هو خاص بالصلاة لأنه هو الذي ورد فيه الدليل قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» كما في الصحيح, وفي غيره «صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد» فهذا خاص بالصلاة، أما عموم الحسنات فإن الطاعة فيه لشرف المكان أفضل من الطاعة في غيره، ويقابل ذلك السيئة فإن السيئة باتفاق أهل العلم في الحرم أشد من السيئة في غيره؛ لكن هل السيئة تضاعف؟ يعني يكتب على الإنسان إذا فعل سيئة في الحرم يكتب عليه سيئتان؟(15/77)
الجواب: أنها لا تضاعف، ومن قال من أهل العلم أن السيئات تضاعف على نحو ما روى على ابن عباس فإن هذا ليس بصحيح وخلاف النص، فإن الله جل وعلا يقول في آية مكية ?مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ?[الأنعام:160]، هذه في سورة الأنعام، وقد أنزلت في مكة.
لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية في التوفيق بين كلام أهل العلم في ذلك: إن السيئة في الحرم يضاعف عقابها كيفية لا مقدارا. والعقاب يكون من حيث العدد واحدا؛ لكن الكيفية مختلفة، قد يكون من حيث النوع واحدا لكن من حيث الكيفية مختلفا, فليست مثلا الضربة كالضربة، وليست اللسعة كاللسعة، وليس الألم كالألم وهكذا في أنحائه، هكذا قال ابن قيمة رحمه الله، وكلامه قريب لتعظيم حرمة الحرم.
قال بعدها (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، هذا هو الشاهد من هذا الحديث للباب, وهو أن كل المحدثات التي أحدث في الدين, وكل ما خالف به الناس منهج محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وطريقة صحابته رضوان الله عليهم فإنما راموا طريقة من طرق أهل الجاهلية، مصداقا لقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» وفي الرواية الأخرى قال:«حذو القذة بالقذة» فاتباع سنة الجاهلية (مُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) يعني أنه أتى شيء جاهلي سواء أكان من جاهلية أهل الكتاب أو كان من جاهلية العرب, وأتى به في الإسلام بعد أن أتى الله جل وعلا بالإسلام وأرسل محمدا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ للأمة.(15/78)
فإذا أبغض الناس إلى الله من سن في الإسلام سنة من سنن أهل الجاهلية، جاء بأمر من صنيع أهل الجاهلية كالتفاخر مثلا بالأحساب والطعن في الأنساب، أو كوأد البنات، أو أتى بالعقائد المختلفة عبادة الأوثان أو تقديس الصالحين، أو أتى بطرائق أهل الكتاب في عباداتهم أو في تعظيمهم للصور أو في نحو ذلك, فكل من ابتغى في الإسلام سنة الجاهلية فإنه من أبغض الناس عند الله وفعله من أكبر الكبائر.
وهذا يحتاج إلى مزيد بيان وتفصيل تتركه إلى درس الغد إن شاء الله تعالى.
وأسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
إن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا.
ربنا لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، ومُنّ علينا بالتوفيق والهداية, إنك على كل شيء قدير.
نكمل ما ور معنا في (باب وجوب الدخول في الإسلام) وقد وقفنا على قوله رحمه الله (وفي الصحيح عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ»).(15/79)
قوله (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) (مُبْتَغٍ) يعني أنه مريدٌ عن قصد وطلب، (فِي الْإِسْلَامِ) يعني في زمن الإسلام، وهو زمن مخاطبة الناس ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو ما بعد بعثته إلى قيام الساعة؛ لأنه لا دين بعد الإسلام ولا رسالة بعد رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا يمكن أن تفسر قوله (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ) يعني مبتغ بعد الإسلام؛ أي بعد ظهور الإسلام وبعثة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)، وهنا في قوله (سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) لا بد من الوقوف عند هاتين الكلمتين:
الأولى: كلمة (سُنَّةَ).
الثانية: كلمة (الْجَاهِلِيَّةِ).
أما قوله (سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) فكلمة(سُنَّةَ) هذه مستعملة في اللغة بمعنى الطريقة و العادة, فمن اعتاد شيئا وجعله طريقة له وهديا, قيل هذه سنة فلان؛ لأنه اعتادها ولزمها وكانت سمة عليه، ولكل أمة سُنة, يعني لكل أمة عادة وطريقة وهدى، قال جل وعلا ?قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ?[آل عمران:138]؛ يعني طرائق وعادات وهدي لكل أمة.
وهذه السنة قد تكون في العقائد، وقد تكون في المعاملات، وقد تكون في الأمور الاجتماعية، وقد تكون في القضاء... إلى غير ذلك.
فكل ما كان هديا وعادة وطريقة لأهل زمن أو أهل بلد قيل هذه طريقتهم وعادتهم وسنتهم.
أما في الإسلام فكلمة سنة فإنها تطلق على سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن كان على سنته مثل سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده, وسنة الصحابة فيما يعملون؛ يعني طريقته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وهديه في أمره الباطن وأمره الظاهر.(15/80)
لهذا صنف عدد من أهل العلم كتبا أسموها السنن, السنة لفلان أو السنن لفلان, مثلا: السنن لأبي داوود, السنن للنسائي, السنن لابن ماجه, أو السنة مثل السنة لأبي عبد الله بن الإمام أحمد, أو السنة لابن أبي عامر, السنة للطبراني, إلى آخره، وهذا يشمل عندهم السنن في أمور العقيدة والسنن في أمور العبادة والمعاملات و الاجتماعيات، إلى آخره.
فإذا قوله هنا (مُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) يشمل إرادة هذا الإنسان بعد ظهور الإسلام أيّ طريقة وهدي من هدي أهل الجاهلية الذي أبطله الإسلام، وجاء محله بسنة من السنن وهدي من الهدي.
الكلمة الثانية: (الْجَاهِلِيَّةِ) والجاهلية لفظ يعود إلى الجهل، وقد ذُكر في القرآن في غير موضع كقول الله جل وعلا ?أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ?[المائدة:50]، وكقوله جل وعلا? وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى?[الأحزاب:33]، واسم الجاهلية يعود إلى الجهل, الجهل بأثر الرسالة، وكل من خالف الرسول الذي كان في زمنه فهو في جاهلية، ولذلك قال في آية الأحزاب (الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)؛ لأنه كانت جاهلية سابقة أولى ثم تتابعت الجاهليات؛ لأنهم جهلوا ما أنزل الله جل وعلا على رسله.
هذه الجاهلية مردها إلى الجهل وهو عدم العلم، عدم العلم بالشرع, عدم العلم بالكتاب المنزل, عدم العلم بما يستحقه الله جل وعلا, وتارة يكون الجهل بسيطا، وتارة يكون الجهل مركبا.
فيكون بسيطا: إذا كان لا يعلم المسألة أو لا يعلم الحكم أو لا يعلم العلم.
ويكون هذا الجهل مركبا: إذا كان العلم قريبا منه ولكنه لا يلتفت إليه، ولا يرفع به الرأس, ولا يهتم له, لأنه حينئذ يكون لا يعلم ولا يدري أنه لا يعلم.(15/81)
هذه الجاهلية نقل إمام الدعوة رحمه الله تعالى كلام شيخ الإسلام بن تيمية على لفظ الجاهلية وهو كلام مهم ذكره في اقتضاء الصراط المستقيم، ويبين المراد بالجاهلية وهي كلمة من المهم خاصة في هذا الزمن أن نتعرف على ما يدخل فيها من أحكام.
قال رحمه الله: (قال قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قوله (سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ): يندرج فيها كل جاهلية مطلقة أو مقيدة) ثم فسَّر المقيدة بقوله (أي: في شخص دون شخص، كتابية أو وثنية أو غيرهما من كل مخالفة لما جاء به المرسلون.)
وهذا الكلام من ابن تيمية ظاهر الصواب في تفسير الجاهلية.
لأن الجاهلية:(15/82)
? تكون مطلقة: يعني مطلقة دون قيد يقيدها بزمن أو بمكان أو بشخص، إنما هي جاهلية مطلقة، وهذه الجاهلية المطلقة لا تُطلق؛ يعني لا تكون مطلقة، ولا يصح هذا الإطلاق إلا فيما قبل بعثة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أما بعد الإسلام فزالت الجاهلية المطلقة، لا يكون هناك جاهلية تطبق في زمن على كل الناس بعد محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وإنما تكون ثَم جاهلية مقيدة كما سيأتي بيانه؛ لأن الجهل رفع بعد محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وبعد إنزال القرآن، وعلِم الناس و لا يزال في هذه الأمة من هو قائم بأمر الله جل وعلا كما أخبر بذلك عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في قوله «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله أو حتى تقوم الساعة» وأجمع أهل العلم على أنه لابد أن يكون في هذه الأمة هذه الفئة هذه الطائفة التي تنفي وجود الجاهلية المطلقة، وحينئذ إذا كانت هذه الفئة لابد أن تكون موجودة بعد رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و لا تنقطع، قد تكبر في زمن وقد تقل بحسب الحال وبحسب قوة أهل الدين وضعفهم؛ لكن لابد من قيام هذه الفئة ووجود هذه الفئة يرفع الجهل المطلق، ولهذا لابد أن تكون هذه الفئة ظاهرة، ولابد أن تكون هذه الطائفة ظاهرة كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) يعني أنهم ظاهرون بالحق يقولون به ويجاهدون فيه.
قال أهل العلم ظهور هذه الطائفة نوعان:
· ظهور بالسيف والسنان إذا جاء الجهاد وظهرت مسوغاته الشرعية فإنهم يظهرون على غيرهم؛ لأن الله جل وعلا ناصر رسوله وأهل الإسلام.
· والظهور الثاني هو الظهور بالبيان والحجة.
فإذن لا بد أن يكون الظهور إما ظهور كامل بالسنان والبيان، أو على الأقل ظهور بالبيان.(15/83)
إذا كان كذلك فإن الجاهلية المطلقة قد ارتفعت فلا جاهلية مطلقة حتى في قرن من القرون، ولذلك أخطأ من وصف قرنا كاملا بأنه في جاهلية كقول بعضهم مثلا (جاهلية العصر)، أو(العصر عصر جاهلي) أو (القرن قرن جاهلي) ونحو ذلك، هذا فيه تعميم، وهذا ليس بموافق لما دلت عليه النصوص وفسَّره أهل العلم.
? النوع الثاني وهو المهم الجاهلية المقيدة: والجاهلية المقيدة يعني ليست بمطلقة بل يكون ثَم تقبيد فيها، والتقييد قد يكون في زمان دون زمان، وقد يكون في مكان دون مكان، وقد يكون في شخص دون شخص.
أما الجاهلية بالنسبة للزمان: فإنه يكون بالنسبة للعرب مثلا قبل رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقول: كانوا في جاهلية باعتبار زمانهم. وهناك بعض أتباع الرسل ممن اتبعوا الرسل بالحق ولم يحرِّفوا الدين وكانوا على بقايا دين رسولهم كانوا ليسوا على جهل، فهذه الجاهلية منسوبة إلى زمن من الأزمنة وهي ما كان قبل البعثة.
الثاني من التقييد جاهلية مكان: يعني أن تكون جاهلية في مكان دون مكان، وهذا كثير بحسب ظهور السنة وخفائها، وبحسب ظهور الإسلام وخفائه، وبحسب ظهور تلك الطائفة في ذلك المكان بعينه وعدم ظهورها، فمثلا عادت الجزيرة في وقت من الأوقات إلى جاهلية كما في قبل دعوة الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانوا في جهل كبير، وكان عندهم من أمور الجاهلية في العقائد وفي المعاملات الشيء الكثير، وهذا قد يتغير فيكون في مكان تكون هناك جاهلية وفي زمن في ذلك المكان تكون جاهلية وفي ذلك تظهر السنة ويظهر الإسلام ويكون هناك جاهلية في مكان آخر، فلا يلزم من رفع الجاهلية المقيدة بمكان أن ترتفع كل الجاهليات المقيدة, بل الجاهلية المقيدة هذه بحسب ما الناس فيه من الاهتمام والقيام بأمر الله جل وعلا أو عدم القيام بذلك.(15/84)
القسم الثالث الجاهلية المقيدة في شخص دون شخص: وهذا كثير قد يكون هناك جماعة من الناس الكل مسلم هذا فيه بعض خصال الجاهلية والآخر ليس فيه من الجاهلية شيء، وهذا كما روى البخاري مثلا في صحيحه أن رجلا من الصحابة رضي الله عنهم عيّر رجلا أسودا بأمه فقال له: يا ابن السوداء. فرفع ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «أعيرته بأمه إنك امرئ فيك جاهلية»، وفي خارج الصحيح وفي بعض طرق الحديث أن ذلك الرجل كان أبا ذر رضي الله عنه، قوله (إنك امرئ فيك جاهلية) يدل على أن المرء المسلم قد يكون فيه بعض خصال الإيمان وبعض شعب الجاهلية، وأن ذلك لا يجتمع أو يرتفع مطلقا؛ بل يجتمع في الشخص المعين هذا وهذا، كما يجتمع فيه شعب الإيمان وشعب المعصية, أو يجتمع فيه إيمان وبدعة، أو يجتمع فيه إسلام وجاهلية, وهكذا، مثل ما قد ترون من أن بعض الأشخاص يكون عنده بعض خصال الجاهلية مثل الفخر المذموم الذي لم يأذن به الشرع، ومثل التعدي، ومثل تعظيم ما كان عليه الآباء والأجداد بغير حق، ومثل الافتخار بالباطل، ونحو ذلك مثل التقليد المذموم، ونحو ذلك من أفعال أهل الجاهلية الذين كانت سمتهم التعصب المذموم والتقليد والنخوة بغير حق.
بهذا قد يكون الجهل في مسلم, قد يجتمع في مسلم إسلام ومعصية, إيمان وبدعة، قد يجتمع في المؤمن كذا وكذا؛ لكن بشرط أن لا تبلغ المعصية أو البدعة إلى شيء كفري، وهذه كلها من خصال الجاهلية.(15/85)
إذا تبين هذا فالجاهلية تحتها مباحث كثيرة وتفصيلات، ومراد المصنف رحمه الله تعالى بإيراد هذا الحديث هو هذه الجملة (مُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)، وهذا فيه أكبر التحذير من أن يدعو أحد إلى شيء من صنيع أهل الجاهلية وسننهم وطرائقهم، سواء أكان ذلك في العقائد و التعبدات، أو كان فيما دونها, وإذا نظرنا إلى حال هذه الأمة وجدنا أنها ما أصيبت إلا أنها فتحت أبواب سنن الجاهلية على الناس، فعبادة الأوثان ما جاءت إلا عن طريق ابتغاء سنن الجاهلية، وعبادة القبور تعظيم القبور والبناء عليها وتعظيم الأموات ونحو ذلك كل هذا كان مأخوذا من سنن الجاهلية، كذلك صور ورفع الصور تقديس الأشخاص وإعطائهم بعض ما لله جل وعلا من صفات والتعظيم المذموم شرعا، هذا كله كان في أهل الجاهلية، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلا لما قام عليه الصحابة في الصلاة وكان قاعدا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -يعني صلى قاعدا لمرض ألم به- قال «كدتم أن تفعلوا آنفا فعل فارس والروم بعظمائها»، وهذا الذي دخل في الإسلام في أمور العقائد أو وسائل العقائد مما يقدح في التوحيد أو يبث الشرك هذا متنوع كثير، ولذلك صنف الإمام المجدد رحمه الله تعالى مصنَّفا خاصا في بيان مسائل الجاهلية وأطال فيه النفس حتى بلغت فيه أكثر من مئة وثلاثين صورة من الصور التي كان عليها أهل الجاهلية وخالفهم فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو كتاب مطبوع معروف، وله أكثر من شرح كتاب مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الجاهلية من العرب الأميين وأهل الكتاب ونحو ذلك، فصل في جميع المسائل المتعلقة بذلك.(15/86)
فإذن من المنهج المهم الذي تميز به المتبعون للجماعة الأولى والمتبعون للسلف أنهم لم يكونوا يبتغون في الإسلام سنة الجاهلية؛ بل يعلمون سنن الجاهلية ويخالفونها ويعتزون ويستمسكون بما أمرهم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال في آخره شيخ الإسلام ابن تيمية (كتابيةٍ أو وثنية أو غيرها)؛ لأنّ الجاهلية منسوبة إلى الجهل، وهي المخالفة لما جاء به المرسلون، وهذه قد تكون موروثة عن العرب من الأميين، وقد تكون موروثة من النصارى، وقد تكون موروثة من اليهود، وقد تكون موروثة من عباد الأوثان أيا كانوا سواء أكانوا فرسا أو كانوا في الهند أو كانوا في أفريقيا أو بلاد الروم... إلى آخره، أي ملة فإن لها سنن، وهذه السنن هي سنة الجاهلية، سنة الجاهلية ليست مختصة بسنن العرب الذين يسمون أهل الجاهلية؛ بل أهل الجاهلية اسم يطلق على كل من جهل به المرسلون، وصنع هديا من عنده وسننا يلتزمها من أي ملة كانت، سواء كانت ملة رسالية أو كانت ملة غير رسالية وثنية أو غيرهما كما ذكره رحمه الله تعالى.
وهذه الجملة مهمة في هذا الحديث، وهي المقصد المهم في أن كل مسلم يجب عليه أن يبتعد أشد البعد عن كل سنن الجاهلية، وأن يكون متبعا لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنن الجاهلية كثيرة ومتنوعة، فواجب حينئذ أن يتعرف المؤمن على تلك السنن، وأن ينظر إلى ما كتبه العلماء في ذلك، وأن يلتزم بسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا كان هذا في أفراد المسلمين، فإنه في الجماعات الإسلامية أو في الدول هذا من باب أولى وأشد؛ لأنه يلزمهم ما يلزم غيره ولأنه يقوم بهم ما لا يقوم بالأفراد، فواجب حينئذ أن تنفى سنن الجاهلية في الأفراد والجماعات والمجتمعات جميعا؛ لأن من ابتغى في الإسلام سنة الجاهلية فهو من أبغض الناس إلى الله جل وعلا بنص كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(15/87)
وإذا كان الأمر بهذه البشاعة وبهذا الجرم في أنه يكون من أبغض الناس إلى الله جل وعلا فيعظم هذا الأثر بعظم ما ينتج عن هذا الابتغاء ابتغاء سنة الجاهلية، فأول ما أدخل مثلا طائفة من المنتسبين لهذه الأمة أدخلوا لهذه الأمة عبادة القبور والتوسل بأصحابها، فشا في الناس عقيدة الجاهلية وعبادة الأوثان باختلاف أنواعهم، أدخلت طائفة سنن الجاهلية في الكلام وفي الصفات وفي القدر وفي المنطق إلى آخره، حتى غدت تلك الأمور هذه الأمة فأفسدت عقائدها وأفسدت دينها، وفي أبواب السلوك لما أدخلت طائفة من العباد طريقة النصارى في التعبد وفي تخلية النفس من الشوائب، وسرى هذا في الأمة ظهرت فرق الصوفية المختلفة وحدث في الأمة من المصائب ما الله به عليم من مخالفة في العقائد العلمية وفي المسائل العملية وهكذا.
فأول ما يحدث شيئا فشيئا، حتى أتى إلى أنه حدث في الإسلام من أراد تحكيم ما يسمونه سوالف الآباء وعادات الأجداد في أمور القبائل لأنهم إذا اختصموا حكموا إلى عرف القبيلة وحكم بينهم من لا يعرف حكم ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إلى أن وصل الأمر لهذا العصر الذي بلغ فيه أخذ الناس بسنن الجاهلية ما لا يدخل تحت حصر، ولو جُمعت المسائل التي أخذها أهل الإسلام المعاصرون من الجاهليات المختلفة لبلغت أكثر وأكثر مما ذكره إمام الدعوة رحمه الله في مصنفه المعروف بمسائل الجاهلية، فدخل ذلك في مسائل العقائد، ومسائل المعاملات؛ بل مسائل العبادات، ومسائل السلوك حتى في أصغر المسائل ابتغيت سنة الجاهلية حتى في الأكل والشرب وحتى في طريقة اللباس وحتى في طريقة كذا وكذا مما قد لا يهتم به المرء؛ لكن ابتغوا في الإسلام سنة الجاهلية، وهذا من أعظم المصائب التي تبدل حب المؤمن لدينه ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا فشيئا، والله المستعان.(15/88)
قال بعدها رحمه الله (وفي الصحيح عن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فإنْ استقمتم فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) يريد حذيفة رضي الله عنه بهذه الكلمة أن يوصي ويأمر أهل العلم وطلبة العلم طلبة القرآن, حفظة القرآن, ومن كان على قراءة في كتابة الله جل وعلا وعناية إقراءه في السنة وعناية أو قراءة في العلم وعناية يوصيهم بالاستقامة، والاستقامة هي لزوم الطريق المستقيم الذي وصف قبلُ، وأنه ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته رضي الله عنهم؛ لأن الاستقامة إنما هي سلوك الطريق المستقيم والطريق المستقيم طريق واحد وليس بمتعدد، وهؤلاء القراء إذا استقاموا فإنهم القدوة, وإذا أخذوا يمينا وشمالا من الأهواء والبدع والآراء المختلفة والاجتهادات التي تفرق، إذا أخذوا فإنه ولا شك يَفسد الناس؛ لأنهم إنما هم بعلمائهم وطلبة العلم عندهم وقرائهم، ولهذا كان من الكلام الحسن للحسن البصري رحمه الله تعالى أنه خاطب القراء في الكوفة فقال لهم: يا مِلْحَ الأرض لا تفسدوا. لأنه إن فسد الملحُ لم يؤكل الطعام. وهذا صحيح وهو من بالغ فقهه وعنايته؛ لأن القراء طلبة العلم أهل الاستقامة الذين ينظر إليهم، إن أخذوا يمينا وشمالا فسدت الجماعة أي أنه لابد أن يكون تفرق ولا بد أن تكون أقوال مختلفة لم يعد الناس يهتمون بأي قول من الأقوال؛ لأنه إذا تعددت الاتجاهات وتعددت الاجتهادات بأمور المنهج وأمور السنة والأمور العامة، فإن الناس لن يأخذوا بشيء لأن عامة الناس والسواد في المسلمين لا يُلزمهم إلا شيئان معا:
الأول: قوة السلطان.
والثاني: قوة أهل العلم واجتماع أهل العلم.(15/89)
فإذا كان القراء تفرقوا واجتهدوا إلى أقوال كثيرة وفئات، إلى آخره، فإن أثر ذلك على الناس وعلى الدين وعلى الاستقامة سيكون أبشع الأثر, لهذا كانت وسيلة توحيد الناس هو أن يوحَّدوا على السنة السبيل والاستقامة، وهذه أقصر طريق؛ أن يوحّدوا على السبيل والاستقامة فإذا شفعنا على السنة والسبيل وكنا شيئا واحدا في ذلك لا نأخذ يمينا وشمالا كما ذكر حذيفة رضي الله عنه فإن الناس سيستقيمون وإن الولاية ستتأثر ويكون هناك قوة.
وكل من رأى تاريخ المسلمين المتأخر من ثلاثة قرون وجد أنه ما قوي أناس إلا بالاجتماع في دينهم ولا ضعفوا إلا بالتفرق, وإذا تفرقوا تسلط أهل الجاهلية وأغروا بعضهم ببعض وأخذوا بالخلاف والاجتهادات ما ييسر سبيل سنن الجاهلية المختلفة.
لذلك كانت وصية حذيفة وصية عظيمة في صميم المنهج الذي اختص به صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال (يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فإنْ استقمتم فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا) يعني سبقتم في الخير, سبقتم في الدعوة, سبقتم في التأثير, (فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا) من جهة الشبهات، أو من جهة الشهوات (فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)، وإذا ضل القراء وضل العلماء وضل طلبة العلم وضل الدعاة فإن الناس من باب أولى أن يضلوا؛ لأنه إنما الناس بمقدَّميهم وبمن يقتدون بهم.
هذا الأثر هو كالتفسير لقول الله جل وعلا ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام:153]، وفيه من الفوائد أن:
القراء هم الصفوة، وفي ذلك كان اسم القراء يطلق على حفظة القرآن وعلى طلبة العلم «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله»؛ يعني الأقرء الأعلم لكتاب الله جل وعلا، وإذا كان كذلك فإن القراء في كل زمن هم الأفقه وليسوا الأكثر قراءة.(15/90)
قراء: هم الأفقه لكتاب الله جل وعلا، يعلمون حدود ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد يكون في زمن يكثر القراء الذين لا يعلمون, قراء يقرؤون القرآن، ويقرؤون السنة، ويقرؤون الكتب؛ ولكن لا يعلمون وليس عندهم علم، كما جاء في الموطأ أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كيف بكم إذا كثر قراؤكم وقلَّ فقهاؤكم. هذه فتنة عظيمة أن يكثر القراء أن يكثر المطَّلعون, يستدلون بالقراء، يحفظون القرآن يستدلون بالسنة، عندهم علم بكلام الناس وبما في الكتب؛ لكنهم ليسوا بعلماء فقهاء, فهؤلاء لاشك يحدثون فتنة، لأنهم يضرون بالناس إذا قالوا ما لم يعلموا.
وإذا نظر الناظر اليوم في الأحوال وجد أن القراء كثروا والفقهاء قلُّوا؛ الفقهاء على الحقيقة, الفقهاء بالله جل وعلا بتوحيده, الفقهاء بالحلال والحرام, الفقهاء بالسنة قلُّوا ولذلك كثرت الأقوال الغريبة العجيبة التي نسمعها, فأصبح اليوم الصغير يسمع أكثر من قول، وكيف يوازن؟ وكيف يعرف أن هذا الأصح؟ هل كل أحد عنده من التقوى واليقين ما يتحرى فيه الصواب ولا يسأل إلا من يثق بعلمه ودينه؟ هذا قليل, لهذا إذا كثر القراء ولم يستقيموا على المنهج، لم يستقيموا على مقتضى العلم، واستعجلوا فإنه يحدث من المفاسد ما الله به عليم.
لهذا صار من مسائل المنهج المهمة في الدعوة أن يقام منهج العلم الصحيح؛ لأن من وسائل البناء المهمة في الدعوة سواء كان بناء الأفراد أو بناء الجماعات أن يقوي بناء العلم, كلما قوي بناء العلم على أصوله كلما قوي بناء الدعوة والتأثير على الناس([8]) سواء كان التأثير بالفتوى أو بالمحاضرة أو بالدرس إلى آخره.
أما إذا ضعف العلم وصار مهزوزا فإن التأثير سوف يكون مهزوزا، وسيكون الناس حينئذ في أمر مريج أقوال مختلفة كما هو ظاهر في أزمنة مختلفة بل وإلى يومنا هذا في عدد من بلاد المسلمين.(15/91)
لهذا ينبغي في الحقيقة على كل من طلب العلم أن يحرص على الاستقامة بمعناها الواسع, الاستقامة في سلوك المنهج؛ منهج السلف الصالح, الاستقامة في العمل، الاستقامة في حفظ اللسان وحفظ الجوارح؛ لأن العبد يُنكب بفلتات لسانه, يُنكب عما يُعرض فيه عن بينة, يقول ما لا علم له به فيعاقبه الله جل وعلا, لأنه لا يعلم مسألة أخرى, فيصبح في جهل بين فترة وأخرى, لهذا احرص يا طالب العلم ويا معاشر القراء احرصوا على هذه الوصية بالاستقامة في كل المسائل, الاستقامة في أمور العلم، في أمور العمل, في أمور الصِّلات لإخوانك المؤمنين، في أمور الدعوة, في أمور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الصلات، وجنب نفسك الهوى والزم نفسك بالاستقامة على ما دل عليه الدليل يكن الأمر في المستقبل خيرا إلى خير.
أما إذا عظم التفرق وضعفت الاستقامة من القراء بخصوصهم، وهم العلماء، طلبة العلم وأهل القراءة بعمومها، فإنه يحصل من المفاسد بقدر ما خالفوا.
وهنا لفتة في كلام حذيفة في قوله (فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا) لأن الصراط واحد والسالك فيه إذا أخذ يمينا وأخذ شمالا معناه خرج عن ذلك, خرج عن الصراط الواحد، خرج عن ذاك الطريق الواحد، فيأخذ يمينا فلا بد أن يكون في هوى، يأخذ شمالا فلا بد أن يكون في هوى، لهذا قال (فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) وهذا منه رحمه الله فيه التحذير الشديد من الالتفات عن الطريق والتزام المنهج الذي كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم وما دوَّنوه في عقائدهم المباركة من العلم والهدى.
قال بعدها رحمه الله (وعن محمد بن وضَّاح: أنه كان يدخل المسجد) يعني حذيفة (فيقف على الحِلَق فيقول: فذكره) يعني يقول: (يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ..)إلى آخره، و(الحِلَق) هي حلق طلبة العلم, حلق دروس العلم, حلق القراء الذين يقرؤون القرآن، إلى آخره.(15/92)
(وقال) يعني محمد بن وضَّاح في كتابه المعروف البدع والنهي عنها (أنبأنا سفيان بن عيينة عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود- - رضي الله عنه -: ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير؛ لكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيُهدم الإسلام ويثلم).
هذا الأثر من ابن مسعود رضي الله عنه فيه فقه عظيم, فقه الصحابة فيما يصلح الناس، ويقيم الأمة على قوتها وعلى استقامتها وعلى هيبتها وعلى اجتماعها, قال (ليس عام إلا والذي بعده شر منه) يعني أن كل عام يكون ما بعده شر منه, طيب هذا الشرط هل يكون يعني في معايش الناس؟ هل يكون في أرزاق الناس؟ هل يكون في مآكلهم؟ في مساكنهم؟ هل يكون في دولهم في أمرائهم؟ ما فقه ابن مسعود لهذا الشرط, قال (لا أقول -هذا من التشويق- لا أقول عام أمطر من عام) يعني أن المطر سيقل، (ولا عام أخصب من عام), المراعي ستقل والخصب سيقل, ولا أمير خير من أمير؛ يعني أن أمير هذه السنة يكون خيرا من أمير السنة المقبلة يعني في كلام ابن مسعود، ولا أن الدولة في وقت ما يكون ما بعدها دولة أقل منها, وهكذا، لم يذهب إلى هذا لأن هذه مسائل يداولها الله جل وعلا, وربما أظهر شيئا بعد ضعف؛ لكن (ليس عام إلا والذي بعده شر منه) هذا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسرها بن مسعود بقوله(لكن ذهاب علمائكم وخياركم) وهذا من عظيم فقهه وجليل إدراكه للقرآن, ولكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن حقيقة الشرط أن الشرّ في دين الناس, أن يكون الشرّ في الالتزام بالجماعة الأولى, الالتزام بالمنهج الأول الذي اختص به الله جل وعلا نبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، الكلام على لزوم الصراط، الكلام على نبذ التفرق في الدين, قال (لكن(15/93)
ذهاب علمائكم وخياركم ) إذا ذهب العلماء الذين يقتفون السنة، ولا ينطقون عن هوى، ويبرئون ذمتهم، ولا يتوسعون في أمورهم في الفتوى ولا في أمور التوجيه ولا في أمور الإرشاد، إلى آخره؛ بل يلتزمون ما كان عليه الناس فإن هؤلاء هم مصدر الخيرية, لكن ما سبب ضعف العلماء أنهم يزاحمون قال (ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم)يعني العلماء لا بد أن يكونوا موجودين؛ لكن يزاحمون بأقوام يقيسون الأمور بآرائهم, هذا أول ما حدث في زمن الصحابة رضوان الله عليهم لما حدثت بدعة الخوارج قاسوا الأمور, ثم حدثت بدعة المرجئة قاسوا الأمور, والقدرية قاسوا الأمور، ثم أتى من يقيس الأمور في المسائل الفقهية أيضا، فأخذ بالعقليات و الأقيسة وقدمها على ما دل عليه الدليل بعدم علمه تارة ولتأويله تارة أخرى.
وهذا المعنى وهو حدوث من يقيس الأمر برأيه, يضعف مهما كان، يُضعف قوة أهل العلم فيذهب العلماء والأخيار ذهابا, هل هو بالموت فقط؟ أم أنه ذهاب بذهاب القوة؛ ذهاب التوجيه, ذهاب سماع الكلمة؟ هذا وهذا, قد يكون وقد يكون بهذا وقد يكون بذاك.
فالتابعون العلماء منهم كثير حفظوا لنا الدين؛ ولكن زاحمهم من قاسوا الأمور بآرائهم فبقيت الفرق وبقيت الفتن ونشأت وازدادت، وهكذا في كل زمن يزاحم أهل العلم من يقيس الأمور بآرائهم.
لهذا من المسائل العظيمة مما ابتليت به هذه الأمة حدوث الرأي وقياس الأمور بآرائهم، وأعظم ذلك في مسائل التوحيد والعقيدة، فما عُبدت الأوثان عُبدت القبور إلا بالأقيسة، قالوا هذا رجل صالح، هذا النبي له المقام الأعظم عند الله جل وعلا وهو حي لم يمت لأنه أكمل من الشهداء، هذه الأقيسة تبدأ شيئا فشيئا فإذا سألنا إذا استشفعنا به فهو حي يبلغه الكلام إلى آخره مما في كتب الخرافيين بعامة.(15/94)
كذلك مسائل التوحيد, مسائل التوحيد في الصفات، أتى من قاس الأمر برأيه فنفى طائفة من الصفات وجعلوا معارضة الدليل بالعقل, يُقضى بالعقل على الدليل، حتى قال قائلهم: إن العقل هو القاضي المحكَّم والشرع في الشارع المعدل.كما ذكرها بعض من كتب في أصول الفقه من المشاهير، قال: لما كان العقل هو القاضي المحكم وكان الشرع هو الشارع المعدل؛ يعني جعل الشرع شاهدا عدلا لكن القاضي الذي يفصل ويحكم و ينفذ حكمه من هو؟ هو العقل، وهذا من قياس الأمور بالآراء وبالعقول، وهكذا في مسائل العبادات، وفي مسائل المعاملات، وفي مسائل كثيرة, ما ضرَّ الأمة مثلما ضرها أصحاب الإجتهادات الذين قاسوا الأمور بآرائهم ولم تحدث فتنة من الأمة من أول يوم حدثت فيه الفتن إلى زمننا هذا إلا بالإجتهادات والأقيسة الباطلة التي لم تلزم فيها السنة ولم يلتزم فيها المنهج الأول يظن الضان أن اجتهاده صحيح وأنه أنزه وأطوع لله جل وعلا وليس الأمر كذلك.
هل قتل عثمان إلا بالتأويل وبقياس الأمور، وهل قتل علي رضي الله عنه وما خيرة من تحت أديم السماء في ذلك الزمن، ما قتلا إلا بالأقيسة وإلا بالمصالح وبالادعاء أشياء.
لهذا وصية ابن مسعود رضي الله عنه هذه وصية عظيمة، وبيان شاف كاف و كانت الأمة تعقل, قال (ليس عام إلا والذي بعده شر منه) ما سبب كثرة هذا الشر وأن ما قبل يكون أسلم؟ قال (ذهاب علمائكم وخياركم), ذهابهم جميعا أو أنهم يقلون ويزاحمون (ثم يحدث أقواما يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم) وهذا الذي وقع هدم الإسلام في أزمنة كثيرة، وثُلم في أزمنة أخرى وصار من المفاسد من الذين قاسوا الأمور بآرائهم ما حصل من المفاسد والله المستعان.
هذه خاتمة هذا الباب وهو باب عظيم في باب بيان وجوب الدخول في الإسلام.(15/95)
إذا كان كذلك فهذه الآثار وهذه الأحاديث التي مرت معنا وقبلها الآيات، هذه كلها تفسير للإسلام الذي يجب الدخول فيه؛ يعني تفسير إجمالي من جهة المنهج لا من جهة التفضيل, تفصيل عقائد الإسلام وأركان الإسلام، ولهذا لما ذكر تلك الجمل العامة والقواعد الكلية في وجوب الدخول في الإسلام، ومعنى ذلك أتبعه بباب تفسير الإسلام الذي أوضح فيه تفاصيل الإسلام الذي أمر الله جل وعلا به. نعم.
الأخ فهد يذكِّرُني بالجملة الثالثة في حديث ابن عباس وهي قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ) هذه الجملة من أجلها أورد البخاري رحمه الله هذا الحديث في كتاب الدِّيات، وهو أن من الناس من يسعى في طلب دم امرئ بغير حق، يعلم أنه ليس له حق في دمه؛ لكن يسعى ويطالب حتى يقتل، وهو يعلم أنه ليس هو الجاني، وهذا فيه قتل لنفس زكية بغير نفس، وفيه سعي في الفساد في الأرض وقتل مسلم بغير حق، والمسلم دمه أعظم حرمة عند الله جل وعلا حتى من الكعبة؛ لأنَّ دمه يحرم إراقته إلا بحقه، وهو الثلاث المذكورة في حديث: حرمة دم المسلم إلا من ثلاث.
قوله (مُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ)، (مُطَّلِبُ) يعني أنه يسعى في الطلب ويشد فيه، قوله: (بِغَيْرِ حَقٍّ)؛ لأن دم المرء المسلم قد يكون يُسعى فيه بحق وذلك كقول الله جل وعلا ? وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا?[الإسراء:33]؛ يعني من قتل مظلوما فوليه له الحق بأن يقتص من هذا القاتل؛ ولكن كما قال جل وعلا ?فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا?[الإسراء:33]؛ لأن القتل قد يكون بحق وقد يكون بلا حق.
قال(لِيُهَرِيقَ دَمَهُ) يعني ليريق دمه يعني ليقتل وهو يعلم أنه ليس له حق في ذلك. نعم.
?????
باب: تفسير الإسلام(15/96)
وقول الله تعالى:?فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ?[آل عمران:20]الآية.
وفي الصحيح عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».
وفيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ».
وعن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، أنَّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام فقال: «أنْ تُسلِم قلبَكَ لله، وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله، وأن تصلي الصلاةَ المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة» رواه أحمد.
وعن أبي قِلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الإسلام؟ قال «أنْ تُسلِم قلبَكَ لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك» قال: أي الإسلام أفضل؟ قال «الإيمان». قال: وما الإيمان؟ قال «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعثِ بعد الموت».
[الشرح]
قال رحمه الله تعالى: (باب تفسير الإسلام) بعد أن بيّن فضل الإسلام، وبيّن وجوب الدخول في الإسلام، والأصول العامة لالتزام الإسلام، وما يجب الدخول فيه من حيث القواعد الكلية التي تشمل الاتباع والتلقي ومفارقة أهل الجاهلية، والاستقامة إلى غير ذلك، فسَّر الإسلام تفسيرا تفصيليا.
قال (تفسير الإسلام) والإسلام:(15/97)
في اللغة: فِعْل أسلم يُسلم, أسلم يعني دخل في السلم، أو دخل في الإسلام، كما قال مثلا -يعني في اللغة-: أَرْبَعَ إذا دخل في الربيع, أَنْجَدَ إذا دخل أو أتى نجدا, أَتْهَمَ إذا أتى تهامة, وهكذا, فأسلم يعني دخل في السلم، والمسلم هو من أسلم لأنه رغب السلامة، وكل مسلم إذ التزم أو طبق الإسلام أو فعل أو اعتقد أصول الإسلام؛ يعني أصول الإسلام الخمسة وأركان الإيمان فإنه حينئذ يكون قد أسلم وجهه لله جل وعلا؛ يعني أنه لم يتبع الهوى بل لزم الاستسلام لله جل وعلا, هذا التفسير يأتي في بيان الآية والأحاديث الواردة.
أما في الشرع: فالإسلام ليس هو دخول في السلم؛ ولكن هو دخول -يعني أسلم يعني دخل في الإسلام الخاص الذي به صفاته له أركان، إلى آخره-, فقد يدخل السلم لكن لا يقال له مسلم، وقد يدخل في السلم -يعني في طلب السلام - لكنه في اللغة قبل كان ذلك شائعا، وهذا من الألفاظ الكثيرة التي نقلت من معناها اللغوي إلى معنى شرعي اصطلاحي، مثل الصلاة ومثل الإيمان ومثل الزكاة إلى غير ذلك، أما الإسلام في الشرع فقد بينته الآيات وبينته الأحاديث التي سيأتي بيانها إن شاء الله.(15/98)
قال (وقول الله تعالى:?فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ?[آل عمران:20]) هذه الآية في سورة آل عمران، هي محاجة النصارى من أهل نجران الذين قدموا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمحاجته في مسائل، فلما حاجوه بيّن الله جل وعلا أن الدين عنده هو الإسلام، فقال ? إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ?[آل عمران:19]، ثم قال بعدها (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)؛ يعني إن حاجوك في هذا الدين هذا الإسلام الذي لا يرضى الله جل وعلا إلا إياه، وحاجوك في قبول ما هم عليه من الدين المحرَّف؛ عبادة عيسى واعتقاد أنه ابن لله جل وعلا، فقل معلنا لهم (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ)، وهذه الجملة (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) يعني: دخلتُ في الإسلام الذي وصفتُ لكم أنا ومن اتبعني, و(أَسْلَمْتُ) كما ذكرت لك يعني دخلت في الإسلام ورضيت الإسلام، وعبَّر هنا بالوجه في قوله (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) لأن الوجه هو أشرف الأعضاء, والعرب تطلق الوجه وتريد جميع الجوارح وجميع الأعضاء في الإنسان، إذا قال (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) فيكون المراد هنا (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ) يعني أسلمت الوجه والقلب والجوارح والإرادة والقصد لله جل وعلا وحده, ومن اتبعني كذلك فقد أسلم.(15/99)
فإذن يكون هنا مطلق الوجه لشرفه، والمراد إسلام جميع الأعضاء والإيرادات والقلب إلى آخره, ولهذا في غير ما آية في القرآن ذُكر إسلام الوجه لله وأثني على من يسلم وجهه لله و هو محسن، كقوله جل وعلا ?بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ?[البقرة:112]، وكقوله?وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ?[لقمان:22]، وغير ذلك من الآيات، كقوله الله جل وعلا ?وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا?[النساء:125]، وإسلام الوجه لله جل وعلا فيه فائدة -يعني التعبير بالوجه- فيه فائدة, أن من أسلم الوجه فإنه لا يلتفت عمن توجه إليه أي التفات؛ لأن الوجه هو محل التركيز ومحل الآلات ومحل الحواس، فإذا أسلم الوجه وتوجه به فإنه لا يلتفت ببدنه ولا بقلبه ولا بإرادته وقصده عن الله جل وعلا.
فإذن في قوله جل وعلا (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) فيه أعظم الاستسلام لله جل وعلا, استسلام الوجه توجها وانقيادا وطاعة, واستسلام الجوارح في استعمالها فيما أمر الله جل وعلا به، واستسلام القلب في القصد والإرادة وأن لا يَلتفت عن الإخلاص وعن طلب الله جل وعلا عن أي التفات.
قال (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أي من ابتغى سواء كانوا من الصحابة، أو من اتبع محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ممن جاء بعده إلى قيام الساعة فإنهم أيضا أسلموا وجههم وجميع جوارحهم, وأسلموا قلوبهم لله جل وعلا، فلا يلتفتون عن الله جل وعلا إلى غيره؛ بل اجتمعت قلوبهم وجوارحهم ووجوههم على الله جل وعلا.(15/100)
وهذا فيه ثبات من اتبعه على ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الآية هي كقوله جل وعلا ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[يوسف:108]؛ لأن من اتبعه سائر على طريقته وعلى سنته، وهذا فيه ثبات على السنة والثبات على المنهج، وعدم الالتفات عن طريقته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ولا عما كان عليه صحابته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في العقائد وفي العبادات.
وفي الآية أيضا من الفوائد ما يتصل بقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في الحديث الذي قبل (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) أنه أعلن للنصارى إعلانا ظاهرا بينا بعد محاجتهم له أنه أسلم وجهه لله وأنه لا يطيعهم في شيء من الأمر، فأعلن لهم ذلك، فعلموا أنه ثابت على ما قال، حتى وصل بهم الأمر إلى آخره إلى الدعوة إلى المباهلة كما هو معلوم في سورة آل عمران.
قال بعدها (وفي الصحيح عن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»).
وقوله (في الصحيح) يعني في صحيح مسلم، وهذا قطعة من حديث جبريل المعروف، وهو في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ آخر وهو «بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْس: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ إِلَا الله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ الله، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ َرمَضَانَ».
بيّن في هذا الحديث أركان الإسلام، والإسلام لا يصح إلا بشيئين:
¨ لا يصح إلا بعقيدة باطنة.
¨ وبعمل ظاهر.(15/101)
كذلك الإيمان لا يصح إلا:
¨ بعقيدة باطنة.
¨ وبعمل ظاهر.
ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن الإسلام والإيمان واحد؛ يعني إذا تفرقا أو مطلقا؛ لأن كلا منهما يحتاج إلى اعتقاد باطن وإلى عمل ظاهر, فلا يصح إسلام أحد إلا بإيمان, كما أنه لا يصح إيمان أحد إلا بإسلام، فلا يتصور انفكاك بين الإسلام والإيمان بأنه يوجد مسلم لا إيمان معه البتة, أو يوجد مؤمن لا إسلام معه البتة, هذا لا يتصور، وليس بموجود يعني في الحقيقة وإنما يطلق الإسلام ويراد به الظاهر والباطن، ويطلق الإيمان ويراد به الظاهر والباطن؛ لكن الإسلام في الظاهر أظهر وأشهر, والإيمان في الباطن أظهر وأشهر، وكل منهما يشمل على شيئين كركنين فيه:
¨ فالإسلام: العقيدة ركن فيه، والعمل ركن فيه.
¨ والإيمان: العقائد الباطنة ركن فيه، والعمل أيضا ركن فيه.
وهذا الحديث دلَّ على تفسير الإسلام بالعقيدة وبأركان الإسلام الأربعة كما هو معروف في تفصيله في موضعه، فقال (الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ), الشهادتان هما الركن الأعظم من أركان الإسلام لأنه بهما يدخل في الإسلام وهي الفارقة بين المسلم وبين غيره.
شهادة أن لا إله إلا الله؛ معناها لا معبود حقٌّ إلا الله, قال (الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ), (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) هذه معناها لا معبود حق إلا الله، يعني لا معبود بحق إلا الله, معنى ذلك: أن كل معبود عبد فإنما عُبد بغير الحق, عُبد بالباطل, عُبد بالبغي, عُبد بالظلم، وهذه الشهادة تشهدها.
ومعنى الشهادة:
¨ أن تعتقد أولا.
¨ ثم تتكلم به ثانيا.
¨ ثم تُعْلِم به غيرك ثالثا.(15/102)
ولا يعذر أحد إلا المكره أو المستخفي بدينه بأن لا يجمع هذه الثلاث, لا بد أن يعتقد التوحيد، وأن تتكلم به نطقا -يعني بالشهادتين-, وأن يُعلِم غيره بما دلت عليه هذه الشهادة أنه يعتقد ذلك، ويُبطل عبادة المعبودات المختلفة.
لهذا دارت تفاسير السلف في الشهادة على هذه الثلاث معاني -الاعتقاد والعلم ثم النطق بها والقول ثم الإعلام إعلام الغير والإخبار بذلك-، كما فسروها عند قوله تعالى ? شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ?[آل عمران:18]، وفي غيرها من الآيات كقوله ? إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[الزخرف:86].
(لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) تفسيرها هو تفسير الإسلام، وهو أنها راجعة إلى العبادة، إبطال عبادة المعبودات المختلفة؛ لأن الإله معناها المعبود, فهي فعال بمعنى مفعول, (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) يعني لا معبود إلا الله.
وطائفة من الناس يفسرون الإله بالخالق الرازق، وهذا التفسير للألوهية بالربوبية، وهو باطل، كما عليه طوائف هذه الأمة من أرباب الفرق جميعا كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية والرافضة، وجماعة كثيرة من الفرق يفسرون الألوهية بالربوبية، وهذا باطل لأن معنى الإله المعبود، كما قال جل علا في سورة الأعراف في قراءة ابن عباس مثلا ?وَيَذَرَكَ وَإلهَتَكَ? يعني وعبادتك، وذكرت لكم قول رؤبة في رجزه المعروف:
لله درّ الغانيات المُدّهِ
سبّحن واسترجعن من تألهي(15/103)
يعني من عبادتي, فالتأله أَلَهَ، يَأْلَهُ، إِلَهِةً, العرب لا تَعرف منها إلا أنه عبد، حتى إن بعضهم قال: الهمزة في (أله) أصلها واوا وهي(وَلَهَ)؛ لأنه عبد متولها متيما من الوله والمحبة الذي هو شدة المحبة، فلذلك دورانها لغة وشرعا يدل على بطلان قول أهل الفرق جميعا ومن نحا نحوهم من المفسرين ممن فسر الألوهية بالربوبية، ولذلك كان من أعظم ما أحدثه الإمام رحمه الله محمد ابن عبد الوهاب في العلم أنه صحح الفهم لمعنى الإله والفرق بين الألوهية والربوبية، وأثار كلام السلف في هذه المسألة وكلام العلماء في أن الإله غير الرب، وأن الرب يُطلق ويراد به السيد المتصرف.
وسئل مرة رحمه الله: هل الربوبية غير الألوهية مطلقا؟ وهل الرب لا يطلق ويراد به الإله؟ فأجاب الإمام رحمه الله وهي مدونة في أجوبته المعروفة, أجاب: بأن الألوهية والربوبية, والإله والرب بينهما، أو قال هي من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت.
فقد يُطلق الرب وحده ويعني به الإله كقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ مثلا «إن العبد إذا دفن يُسأل من ربك؟», يعني من معبودك؟ لأن الابتلاء لم يقع في الربوبية، وكذلك في قوله تعالى ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ?[التوبة:31]، وفي تفسيرها في حديث عَدي قال: ما عبدناهم. إلى أن قال: «فتلك عبادتهم». فصار تفسير الربوبية بالعبودية، وكذلك في قوله ?وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[آل عمران:80].(15/104)
يعني آلهة, يعني أنه يريد أن لفظ الرب والإله كلفظ الإسلام والإيمان إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت؛ لكن يكون دلالة أحدهما -يعني الرب على الإله- إما دلالة بالتضمن أو دلالة باللزوم؛ يعني أن الربوبية تشتمل الألوهية، أو أنه يلزم من كونه ربا أن يكون معبودا، ومن كونه إلها أن يكون ربا، يعني كِيفْ يعبد الناس من ليس برب؟ ومن ليس بخالق؟ ومن ليس برازق؟ ?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ?[الأعراف:191]، لا شك أن من لا يخلق لا يستحق العبادة.
ولذلك من تفاسير المتكلمين بالإله أنهم قالوا: الإله هو القادر على الاختراع. يعني الخالق، هذا باطل.
ومن كلام الأشاعرة في كلامهم المعروف أنهم قالوا: إن الإله هو المستغني عما سواه, المفتقر إليه كل ما عداه. حتى قال السنوسي في أم البراهين المشهورة من عقائدهم قال: فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله. وهذا يُقرّ به أبو جهل ويقر به أبو لهب أنه لا أحد يستغني عما سواه إلا الله هو المتوحد بالاستغناء وهو المتوحد في افتقار كل شيء إليه جل وعلا، هذا يقرّ بها مشركوا العرب، ويقر بها كل من ليس بملحد؛ لأن الله هو الغني الأعظم وهو القوي القوة العظمى.
وهذا من البلاء الذي مشى على كثير من المفسرين وفي كثير من شرَّاح الحديث، حتى أصبحوا يفسرون الألوهية بالربوبية حدث انحراف كبير.(15/105)
قال (الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) هذا تفسير للإسلام بركنه الأول، (وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ)؛ يعني أن تشهد اعتقادا وتنطق وتُعلم غيرك بأنّ محمدا الذي هو ابن عبد الله الهاشمي القرشي هو رسول الله حقًّا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وأن ما جاء به من الرسالة حق، وأن ما قاله صدق، وأنه ما جاء به واجب القبول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وهذا معنى الشهادة بأنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ رسول الله.
وفسرها بعض أهل العلم بقوله معنى الشهادة بأن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
فهذا تفسير صحيح المقتضي للشهادة بأنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ رسول الله حقا.
هذا هو الركن الأول، وهذا شيء اعتقادي يعتقده المرء وله أثر في العبادة الظاهرة.
ونكمل إن شاء الله تعالى في الدرس القادم بإذن الله جل وعلا.
وأسأل الله لي ولكم الانتفاع بما سمعنا، وأن يجعلنا من أهل سنته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وأنْ لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأن يهيأ لنا من أمرنا رشدا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[الحمد لله] والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا, ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين فإنه لا حول لنا ولا قوة إلا بك.
مضى الكلام في باب تفسير الإسلام على حديث عمر رضي الله عنه المعروف بحديث جبريل وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسر الإسلام فيه بأن الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومضى معنا تفسير هاتين الشهادتين.(15/106)
ومما يضاف على ما سبق أن تحقيق الإسلام متوقف على الإتيان بالشهادتين وتحقيقهما، والشهادتان هما رأس الإسلام، وهما الركن الذي يُفرق فيه وبه بين المسلم والكافر.
ومقتضى الشهادتين يتفاوت الناس في تطبيقه وفي امتثاله وفي الإتيان بكماله.
واختلف أهل العلم هل الإسلام من الإيمان يزيد وينقص، أم أن الإسلام لا يوصف بالزيادة والنقصان؟
وأكثر أهل السنة والجماعة على أن الإسلام مثل الإيمان يوصف بالزيادة والنقصان، وذلك لأمور:
الأول: أن حقيقة الاستسلام يتفاوت الناس فيها، والاستسلام:
¨ ثَم استسلام واجب لله جل وعلا بالتوحيد، وهذا الواجب من تركه يكفر فلا يدخل في الدين أصلا، أو يخرج من الدين.
¨ وثم استسلام من تركه فقد قصَّر و أذنب، وهذا يتفاوت الناس فيه، يتفاوت الناس في تحقيق الاستسلام في نفسه، فهذا استسلامه لله جل وعلا بالتوحيد وانقياده له بالطاعة عظيم، وذاك الآخر أقل، وهكذا؛ بل حتى في المعين تارة يزيد وتارة ينقص نوع استسلامه ونوع انقياده لله جل وعلا بالطاعة مع تحقيقه لما يصير به مسلما.(15/107)
الأمر الثاني الذي قالوا أن من أجله الإسلام وينقص: أن الإسلام فُسِّر بالشهادتين وبالأركان العملية، وشهادة أن محمدا رسول الله فسرت أيضا بأن مقتضاها طاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. وثلاثة من هذه وهي طاعة الأمر واجتناب النهي وأن لا يعبد الله إلا بما شرع يتفاوت الناس فيها، فهذا يكون أكمل تحقيقا لمقتضى الشهادة من ذلك بمقتضى تحقيقه لذلك؛ بل حتى نفس التصديق للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض الناس يكون أعظم تصديقا من بعض آخر، ولهذا فحقيقة الشهادة لله جل وعلا بوحدانيته في الألوهية يعني بأن لا إله إلا الله ولنبيه بالرسالة وأن محمدا رسول الله حقيقة الشهادة تقوى في القلب وتضعف، فقد تقوى حتى تحرق ما في القلب من الشبهات ومن الرغبة في الشهوات، وقد تضعف حتى لا تحرق إلا القليل، وهكذا في الناس، لهذا قالوا أن هذا يدل على أن الإسلام منه ما هو كامل ومنه ما هو أدنى من ذلك.
والأمر الثالث: أن الإسلام فسر بالأركان الخمسة جميعا التي فيها أركان عملية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وأيضا أشياء أخر كسلامة المسلم من اللسان واليد كما يأتي في الحديث الذي بعده «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»، وفي صفات أخر للمسلم، وما دام أنها أتت هذه الأشياء العملية والعبادات -عبادات القلب وعبادات الجوارح-، فالناس يتفاوتون في ذلك، وهذا يرجع في الحقيقة إلى نوع الأعمال التي يقوم بها المسلم.
إذا تقرر ذلك فهذه الأركان الخمسة التي ذكرت في هذا الحديث يتفاوت الناس فيها، فحقيقة الإسلام يتفاوت الناس فيه، فليس كل مسلم بدرجة مسلم الآخر.(15/108)
وهل من ترك الأركان العملية الأربعة؛ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا هل من تركها يكون خارجا من الملة، أو إذا أسلم ولم يأتِ بها واتسع وقته للتعليم والإتيان ولم يأتِ بها هل هو مسلم؟ أم أنه ليس بمسلم؟
جمهور أهل العلم وعامة أهل العلم على أن من ترك هذه الأركان الأربعة جميعا فإنه ليس بمسلم، وأنه خارج من الملة إذا لم يصلِّ ولم يزك ولم يحج البيت بتوافر الشروط المعروفة في كل مسألة.
حتى إن طائفة من أهل العلم وهم أهل الحديث وعُزي إلى اتفاق الصحابة عليه قالوا: إن الصلاة في نفسها من تركها متعمدا فإنه لا يصح إسلامه، ومن تركها من المسلمين فإنه يكفر بشروطها المعروفة في كتب أهل العلم.
إذا تفرر هذا، فتفسير الإسلام الذي مر معنا فضله، ومر معنا وجوب الدخول فيه، ومر معنا ما يحظى به المرء يعني المسلم أو المسلمة إذا لزم هذا الإسلام فإنه لا بد له حينئذ من تحقيق الإسلام الذي أمر الله جل وعلا به، وإذا تفاوت الناس في تحقيق هذا فلهُم من فضله من النصيب بقدر ما حققوا من ذلك، وسيأتي في الأحاديث التي بعده مزيد بيان لهذه المسائل.
قال رحمه الله تعالى بعدها (وفيه) يعني في الصحيح، (عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ») يعني بذلك رحمه الله تعالى أن هذا الحديث صحيح، وهو في الصحيح من غير حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ويحتاج إلى مزيد بحث؛ هل هو في أحد الصحيحين من طريق حديث أبي هريرة أم لا؟ و إنما هو معروف من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره في الصحيح.(15/109)
قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ) هذا تفسير للمسلم بأنه (مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ), وهاهنا وجهان لتفسير المسلم بهذا الوصف، ومعلوم أن المسلم هو من شهد الشهادتين وأتى بالأركان, المسلم من صَدَقَ وبَر, المسلم من لم يأتِ المحرمات، المسلم إلى آخره، فثم صفات كثيرة للمسلم, فلم حصر هنا وصف المسلم بأنه من سلم المسلمون من لسانه ويده؟
والجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول: أنه هنا وصف المسلم بهذا الوصف لأجل قلة من يسلم المسلمون من ألسنتهم وأيديهم، فهو وإن كان آتيا بالأركان الخمسة؛ لكنه قلَّ من يكون بصاحب غيبة أو وقوع في الأعراض, أو قذف، أو قد يعتدي بيده، أو أن يعتدي على أملاك الغير، أو أن يتصرف في أملاك الغير بغير إذنهم، إلى آخره، هذا قليل في المسلمين كما هو الواقع.
فإذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبَّه بهذه الخصلة على أنَّ من أتى بهذه الخصلة وهم القليل فهم أحرى أن يأتوا بالخصال الأخرى من خصال الإسلام.(15/110)
الوجه الثاني: أنه وصف المسلم بهذا الوصف لشدة الحاجة إليه، للتنبيه على أن هذا الوصف وهذا الواجب وهو سلامة المسلمين من اللسان واليد أن هذا واجب من واجبات الإسلام، ويجب أن يتعاهده المسلم؛ لأن المسلم الكامل هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، وهذا جاء مبينا في آيات كثيرة في الحض على أن المسلم يجب أن يسلم المسلمون من لسانه كما قال جل وعلا ?وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ?[الحجرات:12]، وقال أيضا جل وعلا?لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ?[النساء:148]، وقال أيضا جل جلاله?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ?[الإسراء:53]، وقال جل وعلا?فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ?[الحجر:85]، ونحو ذلك من الآيات التي فيها نقاء المسلم وأنه صاحب قول طيب وأنه لا يخوض في أعراض إخوانه المؤمنين، وكذلك ما صح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث أبي بكر وغيره أنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال في حجة الوداع «فَإِنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ, كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هََذَا, فِي شَهْرِكُمْ هََذَا»، وفي حديث آخر أيضا في الصحيح «كُلّ الْمُسْلِمِ عَلَىَ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ. دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ».
وإذا كان كذلك فوجب حينئذ أن يسلم كل مسلم من المسلم الآخر في اللسان واليد والاعتداء على العرض أو على المال أو على ما يختص به أخوه المسلم.(15/111)
فإذن على أحد هذين الوجهين أو على الوجهين معا يدل ذلك على أن مما يفسر به الإسلام التفسير الصحيح: أن المسلم الحق هو من يسلم المسلمون من لسانه ويده، أما إذا كان وقَّاعا في أعراض إخوانه المؤمنين لا يحفظ لسانه لا من غيبة ولا من نميمة ولا من كذب، وينتصر لنفسه بالباطل ويعتدي, هذا لم يأتِ بحقيقة الإسلام المطلوب من المؤمن؛ لأن الإسلام المطلوب من المؤمن منه ما يتعبد به ربه جل وعلا بأداء حق الله جل جلاله وأداء حق نبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ثم بأداء حقوق العباد وخاصة المسلمين في أن يسلموا من اللسان واليد وأنواع الاعتداء.
إذا تبين هذا فإن تفسير الأول ينبغي أن يُنظر فيه دائما وهو الارتباط القائم ما بين تحقيق الإسلام وسلامة المسلمين من لسان المسلم ويده, تحقيق الإسلام فيمن حققه وعبد الله جل وعلا حقا وحقق الشهادتين وأقام الصلاة آتى الزكاة وصام وتعبد لله جل وعلا ذلا وخضوعا وانقيادا، فإنه حينئذ سيتنكف بأن يؤذي مسلما سواء أكان ذلك المسلم قريبا له في النسب أم لم يكن قريبا له, سواء أكان جارا له أم لم يكن جارا له، فكيف إذن يكون المسلم إذ والديه؟ أو إذا آذى أهله؟ أو إذا آذى جيرانه؟ أو إذا آذى من يعاشرهم دائما؟ وهكذا.
ففيه تنبيه على أن تحقيق الإسلام باجتماع أداء حق الله جل وعلا وحق رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحقوق العباد, حقوق المسلمين أنه هو التفسير الكامل للإسلام، وهذا ما أراده الإمام المصنف رحمه الله تعالى.
قال بعدها (وعن بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده، أنَّه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام) يعني أنه قال ما الإسلام؟ (فقال: «أنْ تُسلِم قلبَكَ لله، وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله، وأن تصلي الصلاةَ المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة» رواه أحمد).(15/112)
هذه النسخة (بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده) هذا إسناد مشهور رويت به أحاديث كثيرة معروفة عند أهل الحديث، والصحيح فيها أنه إسناد حسن إذا صح الإسناد إلى بهز؛ لأن (بَهْز بن حكيم عن أبيه عن جده) طريق معروف وجادة معروفة ونسخة معروفة، فلذلك إذا صح الإسناد إليه فإنه يكون ما بعده حسنا كما هو معروف عند أهل العلم.
قال: ما الإسلام؟ المعروف أنه إذا وقع الجواب بعد السؤال عن الماهية أن يكون الجواب ركنا أو أركانا فيما وقع السؤال عنه، فسأله عن الإسلام؛ ما الإسلام؟ فيأتي ما بعده أركانا للإسلام، مثل ما مر معنا أن جبريل عليه السلام قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرني عن الإسلام، فقال «الإسلام...» إلى آخره، فهذه سميت أركان الإسلام لأنه وقع الجواب بعد السؤال عن الماهية، والسؤال عن الماهية يطلب فيه بيان الماهية، لهذا قلنا إن أركان الإسلام خمسة، وبعدها قال: أخبرني عن الإيمان؟، قال«أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُِلهِ وَاليَوْمِ الآخِر، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ»، هذه صارت أركان الإيمان الستة. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال «أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهْ فَإِِنَّهُ يَرَاكْ», هذا صار ركن الإحسان الوحيد.
إذا تبين هذا، فهذا الحديث فيه سؤال عن الإسلام, وجاء التفسير، وهذا التفسير الذي فيه يدل على أن هذه أركان للإسلام، وأنه من لم يحققها فإنه ليس بمسلم, أو فاته الإتيان بأركان الإسلام.
قال (أنْ تُسلِم قلبَكَ لله، وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله)، هاتان الكلمتان (أنْ تُسلِم قلبَكَ لله، وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله) هي معنى شهادة أن لا إله إلا الله, ولكنها بعبارة أخرى تبين حقيقة هذه الشهادة فيما دلت عليه ظاهرا وباطنا.(15/113)
أما ما دلت عليه ظاهرا هو أن لا يُعبد إلا الله وحده، وأنَّ عبادة غيره باطل وهذا هو معنى قوله (وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله) يعني في أي عبادة في أي أمر في أي مصيبة في أي حاجة أن يكون الرغب والرهب والملتجأ والاستغاثة هي بالله جل وعلا وحده، وذلك أن العرب كانوا إذا أتاهم شيء ولوا وجوههم إلى آلهة متعددة، فأتى الإسلام بإسلام الوجه لله جل وعلا، وأن لا يتوجه بقلبه ووجهه إلا إلى الله جل وعلا وحده دون ما سواه، لهذا قال (وأن تُوَلِّي وجهَك إلى الله) يعني وحده دونما سواه ففيها إبطال لعبادة الآلهة المختلفة.
قال قبلها (أنْ تُسلِم قلبَكَ لله) وإسلام القلب لله جل علا يعني أن لا يكون في القلب معظَّم غير الله جل وعلا وأن يستسلم القلب لله جل وعلا بالطاعة والانقياد، وهذا ركن من أركان الإسلام، وركن أيضا من أركان الإيمان بالله، وبيانه أن قلب المسلم لما أسلم ووحد الله جل وعلا فإنه منقاد له طائع، والانقياد والطاعة نوعان:
¨ انقياد وطاعة في القلب.
¨ وانقياد وطاعة في الظاهر.(15/114)
والذي هو ركن الإسلام هو الانقياد والطاعة في القلب، إلا في التوحيد وفيما يتعلق بالشرك، فهذا -يعني بنبذ الشرك وأن لا يعبد إلا الله- فهذا مطلوب الانقياد فيه باطنا وظاهرا، ومن لم ينقد ظاهرا فهو مشرك, أما سائر الأحكام العملية مثل أداء الصلاة والزكاة، ومثل تحليل ما أحل الله جل وعلا، وتحريم ما حرم الله جل وعلا إلى آخره، فهذا إذا انقاد بقلبه وأطاع أن هذا يجب أن يُعمل، وهذا يحب أن يُترك لكنه خالف في الظاهر فإن هذا ليس قادحا في أصل الإسلام، بخلاف ما لو أنه لم ينقد باطنا, لم ينقد بقلبه؛ لأنه لم يُسلم لله جل وعلا طاعة وانقيادا، بحيث يقول مثلا في الخمر في داخله أنها محرمة ومسلم قلبه طاعة لله جل وعلا وانقيادا في تحريمها؛ لكنه في الظاهر يشرب الخمر أو يتظاهر بها أو يجاهر بها، فهذا لا يقدح في أصل إسلامه؛ لأنه منقاد ويطيع باطنا، وكذلك في مسائل الزنا والسرقة وسائر المحرمات وقطيعة الرحم وبر الوالدين إلى آخره، وكذلك في مسائل أداء العبادات المفروضة العملية كالصلاة والزكاة إلى آخره, إلا -يعني فيما ورد الخلاف فيه - يعني مثل الصلاة والتفريق ما بين الالتزام وعدمه والجحد وعدمه فيمن لم يصلِّ ظاهرا.
إذا تبين هذا فمن أعظم ما يحقق الإسلام إسلام القلب لله جل وعلا بأن لا يكون القلب مستسلما إلا لله جل وعلا وحده, ومعلوم أن الاستسلام يتبعه الطاعة ويتبعه المتابعة ويتبعه الرغب ويتبعه الرهب، فإذا كان القلب مستسلما لله جل وعلا وحده فإنه ينشأ عن ذلك أنواع كثيرة من العبادات لا تحصى، ومن ذل القلب ومن خضوع القلب مما يجعل حقيقة الإسلام عظيمة، ومما يجعل تحقيق الإسلام عند العبد أعظم وأجل.(15/115)
لهذا ينبغي العناية دائما في تحقيق الإسلام وهو ما أراده المصنف رحمه الله تعالى فيما يظهر هنا أن يكون العبد مسلما هواه وقلبه وإرادته وقصده لله جل وعلا وحده، وهذا كما قال جل وعلا ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ?[الأحزاب:36]، وقال جل وعلا ?إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا?[النور:51] ونحو ذلك من الآيات التي تدل على وجوب الاستسلام لحكم الله جل وعلا في المسائل العلمية وفي المسائل العملية, وفي الحديث المعروف عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُم حتى يَكونَ هواهُ تَبَعًا لما جِئْتُ بِهِ»، وهو في معنى قوله جل وعلا?فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[النساء:65].
قال بعدها (وأن تصلي الصلاةَ المكتوبة) قيدها هنا بالمكتوبة يعني المفروضة، والكتاب بمعنى الواجب، ومن ألفاظ الوجوب عند الأصوليين لفظ (كتب) و(الكتاب) كقوله جل وعلا ?كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ?[البقرة:180]، وكقوله جل وعلا ?كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ?[البقرة:183]، وكقوله ?إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا?[النساء:103]، وكقوله جل وعلا?كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ?[النساء:24] في سورة النساء بعد ذكر المحرمات.
قال (وتؤتي الزكاة المفروضة) الزكاة المفروضة إذا اكتملت شروطها فإن أداءها ركن من أركان الإسلام.(15/116)
يريد الإمام المصنف بسياقه لهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند ورواه غيره أن يبين لك أن إسلام القلب لله جل وعلا انقيادا وطاعة, وأن تولية الوجه لله جل وعلا دون غيره من الأنداد أن هذا من تفسير الإسلام؛ بل هذا من أعظم أركان الإسلام كما فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وعن أبي قِلابة عن رجل من أهل الشام عن أبيه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الإسلام؟ قال «أنْ تُسلِم قلبَكَ لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك» قال: أي الإسلام أفضل؟ قال «الإيمان». قال: وما الإيمان؟ قال «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعثِ بعد الموت»).
أما الجملة الأولى فهي مرت معنا (أنْ تُسلِم قلبَكَ لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك) فجمع ما بين حق الله جل وعلا وحق المؤمنين في أن يسلم المرء قلبه لله وحده وأن يسلم المسلمون من لسانه ويده, فيكون أدَّى حق الله جل وعلا وحق عبادة المؤمنين، ثم سأله (أي الإسلام أفضل؟ قال «الإيمان». قال: وما الإيمان؟ قال «أن تؤمن بالله وملائكته...) إلى آخره, (أي الإسلام أفضل؟) لأن الإسلام يشمل الدين كلَّه, لأن الإسلام يطلق ويراد به عموم الدين، ويطلق الإسلام إذا كان مع الإيمان ويراد به الأعمال الظاهرة كما قال جل وعلا ?قَالَتْ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ?[الحجرات:14]، وكقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «الإيمان في القلب والإسلام علانية» رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد فيه ضعف؛ لكن معناه ظاهر وتشهد له الأحاديث الأخرى.(15/117)
إذا تبين ذلك فأفضل الإسلام هو الإيمان, هل يمكن أن يكون الإسلام بلا إيمان؟ وأن يكون الإيمان بلا إسلام؟ ليس كذلك, وقد ذكرت لكم فيما مضى مختصرا أن العلماء اختلفوا هل الإسلام والإيمان شيء واحد أم هما شيئان مختلفان؟ وهل المسلم والمؤمن شيء واحد أم هما شيئان مختلفان على أقوال أقربها قولان:
القول الأول: وهو قول المحققين من أهل العلم: أن الإسلام والإيمان إذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا؛ يعني أنه إذا صار في حديث أو آية ذكر الإسلام وحده فهو يعنى به الدين بما يشمل الإسلام والإيمان وغيره، وكذلك إذا ذكر الإيمان وحده فيعني به الإسلام والإيمان فيعني به الجميع، كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «الإيمان بضع وستون شعبة أو قال بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» ففسر أو مثّل لشعب الإيمان الكثيرة بأمرين هما من الأعمال الظاهرة التي هي أعمال الإسلام, قول لا إله إلا الله وإماطة الأذى عن الطريق وهذا بالاتفاق من الإسلام.
والقول الثاني: هو قول البخاري وجماعة من أهل العلم محمد بن نضر وجماعة: أن الإسلام والإيمان شيء واحد سواء اجتمعا أو تفرقا وكل منها يدل على صاحبه، واستدلوا على ذلك بالأدلة التي فيها ذكر الإسلام وعُني به الإيمان أو ذكر الإيمان وعُني به الإسلام وهي ليست دقيقة في محل النزاع، واستدلوا على ذلك أيضا بقوله جل وعلا ?فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(35)فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ?[الذاريات:35-36]، والصواب في ذلك أن الإسلام والإيمان يفترقان إذا اجتمعا لأدلة كثيرة وبسطٍ أظن بعض الدروس في هذه الدورة خصصت لبحث هذه المسألة المهمة.(15/118)
(قال: أي الإسلام أفضل؟ قال «الإيمان». قال: وما الإيمان؟ قال «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعثِ بعد الموت») هذه هي أركان الإيمان، وكما ذكرت السؤال عن الماهية؛ ما كذا؟ يكون جوابه من الأركان، لذلك هنا خُصَّت الأركان بالأركان الخمسة ولم يذكر القدر؛ لأجل أن الآيات التي في القرآن فيها ذكر هذه الأركان الخمسة دون ذكر القدر كقوله جل وعلا?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ?[البقرة: 285]، وكقوله?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ? إلى أن قال ?وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا?[النساء:36]، ونحو ذلك لأن القدر ذكر في القرآن منفصلا؛ لكن في حديث جبريل ذكر القدر فإذن أركان الإيمان إذن ستة هذه الخمسة ومعها الإيمان بالقدر.
وفي حديث وفد عبد القيس في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم بالإيمان فقال «آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتأدوا الخمس من المغنم» والتأدية؛ تأدية الخمس هذا عمل؛ فدل على أن العمل يدخل أيضا في حقيقة الإيمان، ووقع السؤال عنه بـ(ما) التي تدل على الركنية، وهذه المسائل لها بسط في مواضعه.(15/119)
والمقصود هنا من ذكر الأركان الخمسة أو الأركان الستة وعدم ذكر العمل معها لا يدل على أن جنس العمل ليس ركنا في الإيمان؛ لأنه جاء مبينا في أحاديث أخر، والذي عليه أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل, وأن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، وأيضا عمل بالقلب، فهو قول واعتقاد، وهو أيضا عمل بالقلب وعمل بالجوارح:
أما القول: فظاهر وهو الشهادتان والاستسلام.
وأما الاعتقاد: فهو اعتقاد وحدانية الله جل وعلا وتتميم الأركان الستة المعروفة.
وأما العمل: العمل قسمان:
¨ عمل والجوارح.
¨ وعمل القلب.
وكلاهما ركن في الإيمان، فلا بد في تحقيق مسمَّى الإيمان أن يأتي بجنس عمل القلب، وأن يأتي بجنس عمل الجوارح، هذا قول أهل السنة والجماعة, أهل الحديث أتباع السلف الصالح فيما قرروه في عقائدهم، وقع في بينهم خلاف في بعض المسائل التطبيقية مما هو معروف.
عمل القلب ما هو؟ عمل القلب هو من جنس إسلام القلب لله جل وعلا, من جنس المحبة محبة الرب جل وعلا ومحبة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومحبة دين الإسلام، من جنس الخوف والرجاء والرغب والرهب والتوكل, حسن الظن بالله، ونحو ذلك من العبادات القلبية المعروفة.
أما عمل الجوارح فهو كل عمل صالح يتقرب به العبد إلى ربه بجوارحه مما أمر الله جل وعلا به.(15/120)
إذا تبين هذا فمراد الإمام رحمه الله بإيراد هذا الحديث أن تفسير الإسلام يشمل هذا الذي ذكر جميعا، فالإسلام يفسر بالإيمان وهو أفضل الإسلام، ويفسر بالأركان الخمسة بأداء حقوق الله جل وعلا عقيدة وفي العبادة، ويفسر أيضا بأداء حقوق العباد المؤمنين، ويفسر أيضا الإسلام بأن يُسلم قلبه لله جل وعلا انقيادا وطاعة، وهذه الأمور هي التي يدور عليها فلك الإسلام، أو يدور عليها أواغل الإسلام وما أمر الله جل وعلا به في تحقيق الإسلام, الإيمان وأركان الإسلام الخمسة, أداء حقوق العباد, استسلام القلب لله جل وعلا وحده دونما سواه وإسلام الوجه إلى الله جل وعلا وحده دونما سواه.
?????
[المتن]
باب قول الله تعالى: ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل عمران:85]
وعن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَجِيءُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّلَاةُ فَيَقُولُ إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّدَقَةُ فَيَقُولُ إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ أَيْ يَا رَبِّ أَنَا الصِّيَامُ فَيَقُولُ إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ ثُمَّ يَجِيءُ الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ?» رواه أحمد .(15/121)
وفي الصحيح عَن عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» رواه أحمد.
[الشرح]
قال رحمه الله تعالى (باب قول الله تعالى: ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل عمران:85]) وهذه الآية مرّ معنا الاستدلال بها على وجوب الإسلام في باب وجوب الإسلام، وهنا عقد لها بابا مستقلا وذلك لأنه إذا وُجب الشيء لا يعني أن غيره باطل، أو أن ما عداه ليس بمقبول، فاستدل بالآية هناك على وجوب الإسلام من حيث هو بمعناه العام ومعناه الخاص، وهنا أراد أن يفرد لهذه المسألة بابا مستقلا يبين فيه أن الدخول في الإسلام كما أنه واجب، فكذلك الخروج من الإسلام بالتفسير الذي مر معنا فإنه لن يقبل من صاحبه، ومر فيما سبق في الشرح ما اقتصرنا على ذكر الدلالة من الآية على وجوب الإسلام بل استطردنا بعدها على بطلان كل دعوى لأخذ بالإسلام لم يأت فيما أمر الله جل وعلا به؛ لكن نكرر عنا بعض المسائل الزائدة التي تتعلق بهذا الموضوع.
قال (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) هذه الآية نص في أن الإسلام الذي أمر الله جل وعلا به عباده أنه من أراد أن يتدين بغيره فإنه لن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وهذا يشمل فئتين:(15/122)
الفئة الأولى: فئة غير المسلمين من أتباع الملل المختلفة والنحل المتنوعة، فإنهم بعد بعثة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كل من أراد البقاء على يهوديته أو على نصرانيته أو على مجوسيته أو على ملته أيًّا كانت، فإن هذا مردود عليه ولن يقبل منه، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «والله لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أكبه الله في النار» وهذا في معنى الآية؛ لأنه بعد بعثة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فإن كل ملة باطلة، ويجب على كل أحد أن يدخلوا في هذا الإسلام، فإذا سمعوا بالنبي عَلَيْهِ السَّلاَمُ وعلموا دعوته ورسالته ثم لم يؤمنوا به فإنَّ دينهم لن يقبل منهم.
الفئة الثانية: هم من المسلمين من هذه الأمة؛ لكنهم لم يأخذوا بالإسلام كما جاء في الكتاب والسنة وكما رضيه الله جل وعلا ورضيه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل أحدثوا في الإسلام محدثات وابتدعوا فيه بدعا وضلالات جعلوها دينا قويما وصراطا مستقيما، بحيث إنها عندهم هي الإسلام، وما عداها باطل وضلال، هؤلاء يشملهم أيضا قول الله جل وعلا (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) يعني عبادة هؤلاء ولو كانوا مجتهدين ولو كانوا يظنون أنهم على خير وصواب، فإنها لما كانت ليست على الإسلام الصحيح فإنها لن تقبل منهم، وهذا أمر عظيم يحتاجه كل طالب علم يحتاجه كل داعية بل يحتاجه كل مسلم فيما يقيم في نفسه من المحبة والبغض والولاء والبراء وتعامله مع الناس المنتسبين لهذه الأمة فإنه يجد منهم أصنافا متنوعة، قلَّ منهم من يكون على الإسلام الأول غير مغيِّر ولا مبدِّل.(15/123)
إذا كان كذلك فيُعلم أنه مهما كانت عبادات المتعبدين فإنها لما كانت على خلاف السنة وفي البدع فإنها لا تقبل من أصحابها بنصِّ كلام الله جل وعلا، فمن ابتغى غير الإسلام الذي أنزله الله جل وعلا على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لن يقبل منه، فمن ابتغى غير الإسلام في العبادات أن أتى بعبادات جديدة وأضافها على الدين فإنها لن تقبل منه، حتى ولو كان تعب في تعبده ونصب في عباداته فإن هذا لن يقبل منه؛ لأن الله جل وعلا لم يبتل العباد بكثرة العمل وإنما ابتلاهم بحسنه، وحسن العمل لابد فيه من الصواب فيه واقتفاء أثر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدم الزيادة في الدين على ما جاء به عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
بهذا هذه الآية تشمل هاتين الفئتين، وعليه ستكون الخسارة متنوعة فمن كان على غير ملة الإسلام ولم يدخل في الإسلام وقوله ?وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85] يعني أنه من أهل النار المخلدين فيها خسارته عظمى، ومن كان من أهل الإسلام لكنه لم يلتزم بكل الإسلام وإنما ابتغى في بعض الإسلام محدثات وبدع وضلالات فإن هذا متوعَّد وخاسر فيما تعبد به من الضلالات وعليه إثم، وما فعله من البدع والمحدثات كبيرة من الكبائر، ولهذا يخشى عليه في ذلك.
وهذا أيضا يشمل من ابتدع البدع الكفرية والشركية المخرجة من الملة، هذا لاشك عاد بالإسلام إلى سنة الجاهلية وهو أشبه بالذين لم يدخلوا في الإسلام أصلا؛ لأنهم خرجوا من دعوى الإسلام وخرجوا من دين الإسلام بالشرك الأكبر وبما فعلوه أو اعتقدوه من الكفريات ([9]).(15/124)
قال(وعن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَجِيءُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّلَاةُ فَيَقُولُ إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ») قوله (تَجِيءُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) العلماء فسّروها على أحد تفسيرين:
¨ منهم من قال: (تَجِيءُ الْأَعْمَالُ) يعني يجيء ثواب الأعمال يوم القيامة والأجر الذي وضعه الله جل وعلا للأعمال.
¨ ومنهم من قال: (تَجِيءُ الْأَعْمَالُ) أنّ الله جل وعلا قادر على جعل الأعمال تجيء حقيقة، كما أنه يوزَن العمل وتوزن السيئات والحسنات فكذلك هذا، وكما يأتي القرآن يوم القيامة يحاج عن أصحابه، وكما يأتي العمل جملة يحاج عن أصحابه، فهذه كلها من جنس واحد.
وهذا الأخير هو الذي عليه المحققون من أهل السنة والجماعة في أن الأصل في الأمور الغيبية أن تقر على ظاهرها، وأن لا تؤول بتأويلات تصرفها عن ظاهرها، وكون الأعمال مجيء الأعمال يوم القيامة هذا مجيء غيبي لا نعرف حقيقته، وإذا كان غيبيا فيجب أن لا يسلط عليه التأويل؛ لأن التأويل يخرج الحقائق الغيبية عن حقائقها إلى مدركات العباد، ومدركات العباد لا تتناول الغيبيات؛ بل إنما تتناول المعبود لهم مما رأوه أو أحسوه أو قاسوا عليه.
فإذن نقول الصحيح أن قوله (تَجِيءُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أن هذا مجيء حقيقي، وأن الأعمال تجيء كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(15/125)
قال (فَتَجِيءُ الصَّلَاةُ فَتَقُولُ يَا رَبِّ أَنَا الصَّلَاةُ) يعني أن الأعمال تتنافس في أن تكون شافعة لأصحابها أو أن تكون هي الميزان الذي يوزن به أهله، وهذا فيه تقرير لمسألة مهمة: وهي أن هذه الأعمال يكون بينها وبين أصحابها محبة ومودة وألفة، بحيث إن كل عمل صالح يريد لأصحابه الزلفى والنجاة، فهذه الصلاة تريد لأصحابها النجاة، ثم الصدقة -يعني المفروضة- تريد لأصحابها النجاة، ثم الصيام المفروض يريد لأصحابها النجاة إلى آخره أو صلاة التطوع أو صيام التطوع أو صدقة التطوع.
المقصود جنس هذه الأعمال أن يأتي ويريد لأهله النجاة، وأن يكون هو الميزان، فمن أتى به كان ميزانه راجحا وكان مُعْطا ومكرما ومن لم يأت به فإنه مُعَرَّض؛ لكن ربنا جل جلاله لما أتت الصلاة قال (إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ) لأنها عبادة عظيمة، ثم كذلك في الصدقة قال (إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ) لأنها عبادة عظيمة، ثم في الصيام قال (إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ) لأنه عبادة جليلة عظيمة.
(ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكَ) كل الأعمال الجهاد في سبيل الله جل وعلا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طلب العلم، العمرة، الحج، صلة الرحم، يشمل قوله (ثُمَّ تَجِيءُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكَ) يعني كل الأعمال الصالحة تجيء، وكلٌّ يريد أن يكون الوزن به، وأن يكون هو المعيار وهو الميزان، والله جل وعلا يقول إنك على خير إلى أن يأتي الإسلام.(15/126)
وهذا فيه تنبيه إلى حسن الأدب مع من رام شيئا ولم يستحقه؛ بأنه يُثنى عليه ولا يهجَّن في قوله، هذا فيه أدب مهم لطالب العلم فيما يحكم به على الأشياء، أو فيما يُقَيِّم به الأشياء أو فيما يخاطب به الناس فربما مثلا يأتي واحد ويقول: أنا فعلت كذا وكذا. فيسفَّه؛ كيف نجعلك مثل كذا وكذا، إلى آخره، وهذا لاشك من استعجال الناس والعباد وعدم وزنهم بالوزن العدل والإنصاف والحق في كل الحالات، والله جل وعلا يعلِّم عباده أنه من طلب شيئا ليس بمستحق له أنه يثنى عليه بما هو فيه، ولا يعطى أكثر من منزلته، فقال الله جل وعلا للصلاة (إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ) وللصدقة (إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ) وللصيام (إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ) ولجميع الأعمال (إِنَّكِ عَلَى خَيْرٍ)، ولكن لم يعطها سؤلها، ولم يلبي لها مطلبها؛ لأنها لا تستحق ذلك فهي أتت بشيء مقدر لكنه ليس هو الميزان.
قال بعد ذلك (ثُمَّ يَجِيءُ الْإِسْلَامُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ)، (السَّلَامُ) اسم من أسماء الله جل جلاله؛ من أسماء الجمال بالله جل جلاله، والسلام من آثاره كل سلامة سلم بها العباد، وكل أنواع السلامة لهم في دينهم وفي دنياهم فيما دقَّ من الأمر أو فيما جلّ فإنما هي من آثار فيوضات الله جل وعلا الذي هو السلام جل جلاله وتقدست أسماؤه، و(الْإِسْلَامُ) كما ذكرنا آنفا من أسلم إذا دخل في السلم يعني في اللغة وطلب السلامة فبينهما من جهة الاشتقاق مناسبة؛ لأن الإسلام فيمن أسلم يطلب السلامة، والسلام من أسماء الله جل وعلا الذي فيه فيوضات السلامة من جميع النواحي والجهات.(15/127)
لهذا في هذا الدعاء من الإسلام (يَا رَبِّ أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ) فيه تنبيه للعباد أن يكون مطلبهم ودعاؤهم بالتوسل بأسماء الله جل وعلا المناسبة لمطالبهم، فإذا كان يريد مطلبا في السلامة فإنه يدعو الله جل وعلا بأسمائه الحسنى بأسماء الجمال التي منها السلام مثلا فيما يطلبه، وهذا هو تحقيق لقول الله جل وعلا ?وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا?[الأعراف:180]، فيدعو العبد بما يناسب مطلوبه، إذا كان مطلوبه المغفرة فيتودد إلى الله جل وعلا بأسماء الجمال له جل وعلا كالغفور والرحيم والودود والتواب ونحو ذلك وبأسماء الجلال أيضا التي فيها عزته وجبروته وهيمنته وكبرياؤه جل وعلا لتعرضه لنفحات الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه، وكذلك في سائر المسائل، فالدعاء من أعظم ما يكون، فإذا وُفق العبد للدعاء بالتوسل والثناء على الله جل وعلا بما يناسب المطلوب فإنه لا يكاد الدعاء يُصرف بل يجاب كما أخبر الله جل وعلا بذلك.
هنا قال (فَيَقُولُ يَا رَبِّ أَنْتَ السَّلَامُ وَأَنَا الْإِسْلَامُ، فَيَقُولُ [اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ] إِنَّكَ عَلَى خَيْرٍ بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ?).
قوله: (بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ) يمكن أن يكون تفسيرها على أحد وجهين:
الأول: (بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ) من الأخذ وهو العقوبة والعذاب، والمؤاخذة أيضا.
والثاني: (بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ) يعني آخذ الوسيلة، آخذ الشفاعة فيكون الإسلام شافعا، يؤخذ شافعا، يؤخذ سببا، يؤخذ ميزانا.
والأول أظهر وهو أنه من الأخذ والمؤاخذة والعقوبة والنكال؛ يعني بك اليوم أؤاخذ وأعاقب وأنكِّل وأعذِّب.(15/128)
(وَبِكَ [الْيَوْمَ] أُعْطِي)، (أُعْطِي) يعني أتكرَّم وأتفضل كقوله جل وعلا ?عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ?[هود:108].
فدلّ ذلك على أن الله جل وعلا جعل الإسلام هو الميزان؛ لأنه يعاقب بتركه ويؤاخذ بتركه كما أنه يكرم وينعم ويتفضل ويعطي بالإسلام.
فإذا كان الأمر كذلك فإن تحقيق الإسلام هو أعظم أسباب النجاة، أعظم ما يكون به الإعطاء والكرم والفضل من الله جل وعلا أن يحقق العبد إسلامه، وأن يكون مسلما على الحقيقة، وأن من تخلف عن ذلك فهو مؤاخذ وسيرد عليه ما تعبَّد به مما ليس من الإسلام.
وهذا كما ذكرنا يشمل الفئتين؛ فئة من ليسوا بمسلمين، وفئة أهل الإسلام الذين لم يحققوا الإسلام، فهؤلاء مخاطبون بالمؤاخذة ومتوعدون بقوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ).
إذا تبين هذا فإن هذا الحديث من الأحاديث العظيمة التي تهز النفس والفؤاد والجوارح في لزوم الإسلام الصحيح وعدم مخالفته إلى غيره، فكما ترى ليست المسألة مسألة العبادات من حيث هي فقط، وإنما المسألة مسألة تحقيق الإسلام، وهذا مما ينبغي بل يجب على طلبة العلم وعلى الدعاة إلى الله جل وعلا أفرادا وجماعات ومجموعات أن يعتنوا به كثيرا؛ لأن الغاية من الدعوة والغاية من التعليم هو نجاة العباد وتعبيد العباد لربهم جل وعلا، فإذا كانوا يُدعون إلى شيء لا تؤمن معه نجاتهم يوم القيامة فإنهم على خطر حينئذ، وتكون الدعوة ليست على بابها، وليست على ما يحقق للمرء النجاة إذا سلكه.(15/129)
لهذا ينبغي كمنهج أن يؤخذ بالإسلام في شموله في الدعوة؛ لأن دعوة الناس إلى الإسلام يعني من المسلمين ومن غير المسلمين بحسب الحكمة والتدرج والبُداءة بالأهم فالمهم إلى آخره؛ لكن يدعى إلى الإسلام بشموله، فالذي لا يهتم مثلا بدعوة الناس إلى توحيد الله جل وعلا وتحقيق الشهادتين تحقيق الإسلام فإنه لم يهتم بالإسلام الصحيح بل اهتم بإسلام يظنه نافعا وربما كان غير نافع.
من الناس أيضا من يقتصر في دعوته على العقيدة فقط، دون أن يدعو الناس فيما يصلحهم في العبادات، وما يصلحهم في الأعمال، وما يؤدون به حقوق العباد وهذا أيضا فيه نقص.
فحقيقة الإسلام -وهو ما فسره الإمام في الباب الذي قبله- هو الذي يجب أن يتخذ منهاجا للدعوة، وهو الإسلام الذي يشمل جميع ما أمر الله جل وعلا به أمر إيجاب، أو نهى عنه جل وعلا أو نهى عنه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهي تحريم، ثم يأتي بعد ذلك المستحبات وغيرها من باب التبع.
وهذا يؤكد لكَ أنه يجب أن يُفهم كيف تُحقق الدعوة في حياة الناس؟ وكيف يدعو المرء إلى الله جل وعلا وأن تكون دعوته على وفق الإسلام الصحيح؟ إذا كان هو سيدعو إلى الإسلام الكامل الشامل فإنه هو في نفسه يجب أن يكون ملتزِما بالإسلام وتحقيق ما يجب عليه من الدخول في الإسلام، فإذا كان يدعو والمسلمون لا يسلمون من لسانه ويده فإن هذا لم يأت بما يحبه الله جل وعلا ويرضاه في أمر الدعوى، أو إذا كان يدعو إلى شيء من الإسلام ويقول الشيء الآخر غير مهم:
كالذين يقولون إن الدعوة إلى العقيدة والتوحيد وتفهيم ذلك الناس هذا غير مهم، وبيان التوحيد والشرك وما يُضاد حقيقة الإسلام أن هذا ليس بمهم، المهم كذا وكذا، هؤلاء أيضا لم يرعوا الأمانة ولم يأتوا بالإسلام الذي أمر الله جل وعلا به.
كذلك من أتى للناس بالدعوة للزهديات وترك حقيقة الإسلام وأوامر الإسلام العظيمة والأمر والنهي والعلم والدعوة إلى التوحيد والعقيدة كذلك هذا مفرط.(15/130)
فالواجب إذن على الجميع أن يتخذوا الإسلام الكامل كما أمر الله جل وعلا به وكما جاء في الكتاب والسنة أن يتخذوه منهجا لهم.
وفيما أرى ويرى الكثير في الواقع أن من أسباب وقوع الخلاف اليوم بين الناس في الدعوة وبين الذين يدعون -سواء من الأفراد أو غيرهم- أن السبب هو في فهم الإسلام وفي طريقة الدعوة؛ لكن لو أخذ الجميع بالإسلام كله فإنهم حينئذ سيلتقون على كلمة سواء، لكن هذا يرعى جوانب لا يرعاها ذاك، وهذا يفرط في أشياء، وهذا يغلو في أشياء، وهكذا حتى صارت الأمة بل حتى صار المخلصون على قلتهم في عموم الأمة صاروا متفرقين إلى فرق وإلى أقوال وإلى جماعات.
نسأل الله جل وعلا السلامة والعافية من كل ما يخالف طريق الجماعة الأول.
إذا تقرر هذا كما ذكرت لكم في أول شرح كتاب فضل الإسلام: هذا الكتاب كتاب منهج، كتاب دعوة، إذا نظرت في تطبيق إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، تطبيق منهج الدعوة والإسلام في دعوته، وجدته أخذ بما جاء في هذه النصوص بحذافيرها، فدعا إلى الإسلام كله: بآداء حقوق الله جل وعلا، وحقوق العباد، الأمر بالفرائض، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، القيام بالنصح للراعي وللرعية، القيام بالحقوق جميعا. وهذا هو حقيقة الإسلام التي وعد الله جل وعلا من أخذ بها بالنصر والتأييد مثل قوله ? وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:171-172]، وفي نحو قوله ? إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?[غافر:51]، وهذا مما نرجو عاجل بركته وآجل بركته عند الله جل جلاله في أن يكون جل جلاله وتقدست أسماؤه رضي منا بما أخذنا به من عموم الإسلام وحلَّت علينا بذلك بركته جل وعلا وسلامته التي وعد بها من حقق دينه سبحانه وتعالى.(15/131)
الحديث الأخير (وفي الصحيح عَن عَائِشَةُ )هذا مر معنا (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)، هذا يريد به الإمام رحمه الله بيان أن في قوله (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) أنه يشمل أهل المحدثات والذين عملوا أعمالا ليس عليه أمرنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء أكانت هذه المحدثات محدثات في العقائد كالذين نفوا صفات الله جل وعلا، أو اعتقدوا أن الله جل وعلا يجبر العباد، أو الذين نسبوا إلى الله جل وعلا أشياء ليست له سبحانه وتعالى، أو كان في العقائد والعمل كالذين عبدوا غير الله فأتوا بالشرك الأكبر، أو الذين أتوا بالشرك الأصغر بأنواعه، كل هؤلاء عملوا أعمالا ليس عليه أمره عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، أعمال قلبية أو أعمال جوارح، كذلك البدع المختلفة وهي درجات مرّ معنا الكلام عليها، أيضا كلها من تعبد بها فهي مردودة عليه لن تُقبل منه بنص الآية والحديث وصاحبها في الآخرة من الخاسرين، وسيأتي فيما يأتي من أبواب إن شاء الله تعالى بيان أن البدع من حيث الجنس أرفع درجة من الكبائر، فجنس البدعة أشنع وأغلظ من الكبائر -من جنس الكبائر-؛ لا يعني أن كل بدعة أعظم من كل كبيرة، لا، ولكن جنس البدع لأنها:
¨ معارَضَة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
¨ واستدراك عليه.
¨ وشرع دين لم يأذن به.
¨ وتعبد بأشياء لم تكن عليها سنته من جهة الاعتقاد والشبهة.
وهذه أعظم من حيث الجنس من ذنوب الشهوات المختلفة، وهذا فيه تقرير لما يجب على الدعاة إلى الله جل وعلا أن يسلكوه في دعوتهم وأن ينبهوا الجميع إلى خطر المحدثات والبدع والضلالات لأنها مخالفة لدين الإسلام، ونبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلن أنّ أصحابها مردودة عليهم عباداتهم، وهذا معناه أنها لا تقبل منهم وأنهم خاسرون بما اقترفوا من آثام وبما اجترحوا من بدع وضلالات.(15/132)
ونكتفي بهذا القدر، ونرجو إن شاء الله لنا ولكم السلامة والعافية، وأن يسلك الله بنا صراطه المستقيم ودينه القويم، وأن يتوفانا غير مغيرين ولا مبدلين.
اللهم إنا نعوذ بك أن نَزِلَّ أو نُزَل أو نَضِلَّ أو نُضَل أو نجهل أو يجهل علينا أو نَظلم أو أن نُظلم، إنك سبحانك جواد كريم، فأجب اللهم واغفر جما.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن]
باب وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب عن كل ما سواه
وقول الله تعالى: ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ?[النحل:89] الآية.
وروى النسائي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ورقة من التوراة فقال «أَمُتَهَوّكُونَ يَا ابْنَ الخَطّابِ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيّةً، ولَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا واتبعتموه وتركتموني ضللتم». وفي رواية: «وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا مَا وَسِعَهُ إِلا اتّباعي». فقال عمر: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا، ربنا هيئ بنا الخير حيث كنا عليك توكلنا لا حول لنا ولا قوة إلا بك.
اللهم فكن لنا نصيرا وظهيرا.
أما بعد:
فهذا (باب وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب عن كل ما سواه) ويعني بـ(الكتاب) القرآن، وفي عدد من النسخ أيضا (وبمتابعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) والمذكور هنا كما هو في نسخ معتمدة من هذا الكتاب هو الصحيح؛ لأن عنوان الباب (وجوب الاستغناء بمتابعة الكتاب عن كل ما سواه) وسيأتي بيان أن متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدخل في متابعة الكتاب، والاستغناء بالكتاب يشمل أيضا الاستغناء بسنته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.(15/133)
قال رحمه الله تعالى (وجوب الاستغناء) ولفظ الوجوب هذا مأخوذ أو مستدَل عليه بما أورده من الأدلة التي فيها بيان: شمول الكتاب، وطاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولزوم الجماعة، والنهي عن النظر في كتب الأمم قبلنا، وغضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما رأى في يد عمر أوراقا من التوراة.
و(الاستغناء) يعني الاكتفاء يعني أن الاكتفاء بمتابعة الكتاب وبمطالعة الكتاب الذي هو القرآن وبالأخذ منه أنَّ هذا واجب، ففي الكتاب الذي هو القرآن كفاية، وفي سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفاية.
وقوله (عن كل ما سواه) هذا يشمل كلَّ ما يريد العبد أن يأخذ منه الهداية والعلم النافع مما هو سوى القرآن وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذن دلَّ التبويب على أن الاكتفاء بالكتاب والسنة وما جاء في الكتاب والسنة من أوجه الأدلة أنَّ هذا واجب ليس للمرء الخيرة فيه، وأن هذا يُستغنى به عن كل كتاب يطلب الهدى منه، أو يطلب العلم النافع منه كما سيأتي بيان تفصيله في شرح الآية والحديث.
وتبويب الإمام رحمه الله لهذا الباب وعقدُه له من الأهمية بما كان؛ بل كل متبصر في حال الأمة في حال أهل الإسلام الذين فارقوا الجماعة وأنشأوا الفِرق وتبعوا الضلالات يتبين له أن سبب ذلك هو أنهم لم يستغنوا ولم يكتفوا بما جاء في القرآن والسنن ومن هدي الصحابة عن الكتب المختلفة والآراء العقلية والأقيسة؛ بل زهدوا في الكتاب وزهدوا في السنن وزهدوا في الهدي الأول، وأخذوا يتلقفون العلم من مصادر أخرى يظنون أن فيها الهداية، وسواء أكان ذلك العلم في أمور التوحيد والعقيدة، أم كان في أمور الأمر والنهي والحلال والحرام، أم كان في أمور القوانين العلمية التي تنبني عليها العلوم.
وأصل انحراف الناس في هذه الأمة جاء من أحد ثلاثة أنحاء أو منها جميعا:(15/134)
الأول منها: أنهم ذهبوا إلى العقل في تقدير أو في إثبات الحق من عدمه، وهذا هو الذي يسمونه الفلسفة التي أساسها تقديس العقل وأن ما يمليه العقل الصحيح -حسب ما يزعمون- أنه لا معقب له، وهذا كان عند أهل اليونان وعند الفلاسفة بعامة ودخل في هذه الأمة شيئا فشيئا حتى صار تحكيم العقل مقدما على تحكيم النص، وتُوسع في ذلك حتى صارت الإجتهادات العقلية مقدمة على ما جاء النص به، والفلاسفة زعموا أنَّ لهم قانونا يزنون به الأمور سموه المنطق، بحيث يعصم الفكر -يعني ذلك العلم الذي يسمى المنطق أو يسمى معيار العلم أو نحو ذلك مما سمي- يجعلونه هو القانون الذي يعرف به صحة الشيء من عدمه؛ لأنه قانون التفكير السليم، وقانون الوصول إلى النتائج الصحيحة، ولهذا أبطلوا كثيرا مما جاء في الكتاب والسنة من المسائل؛ لأجل إبطال العقل لها بدلالة المنطق على ذلك البطلان.
هذا من جهة التقنين يعني من جهة استعمال علم وقانون؛ لكن تُوُسِّع في الأمة حتى صار الناس يخالفون العلم الصحيح باجتهاد ليس له معيار وليس له قانون أيضا، فتوسَّع الناس في أقوال كثيرة وفي نحل مختلفة ليس لها قانون وليس لها معيار يُرجع إليه، وأساسها كله الأخذ بفلسفة اليونان وما جاء في هذه الأمة من علوم القوم علوم الأوائل ممن يسمونهم بالحكماء. هذا هو السبب الأول.(15/135)
السبب الثاني: أن ضعف العلم بالكتاب والسنة ظُن معه أن الكتاب والسنة وما فيهما من الأدلة ليس بكاف لحاجات الناس، وأن حاجات الناس يحتاج معها إلى أنواع الإجتهادات في المسائل العلمية وفي المسائل العملية، وهذا باطل من جهات كما سيأتي، ولو قالوا: إننا نقتصر على ما جاء في النصوص وما لم يرد فيها نجتهد فيه. لكان هذا أمرا سائغا كما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم؛ لكنهم ضَعُفَ علمهم بالشريعة فصاروا يجتهدون فيما دلت الشريعة عليه، فإذا كانت المسألة في الدليل؛ إذا كانت المسألة في الكتاب أو في السنة وفي كلام السلف الصالح رضوان الله عليهم، فما العلم إذن أن يترك ذاك إلى علوم أخرى أو إلى إجتهادات لا أساس لها إلا تفكير أصحابها؟ وهذا كثر جدا في الأمة في المسائل العقدية وفي مسائل الفقه أيضا والحلال والحرام وفي مسائل السلوك والزهد والعبادة، حتى حدثت هذه الفرق والجماعات المختلفة في كل بلد وفي كل مصر، فتجد آراء مختلفة في العقيدة والفرق متباينة في التوحيد، وتجد في الصوفيات والزهديات والسلوكيات أيضا فرقا مختلفة وكل فرقة تظن أنها هي المفضلة، وكذلك في مسائل الفقه تجد أن كل مفتٍ يفتي بما عنده مما وصل إليه إجتهاده، وهو قد قصر في النظر في نصوص الكتاب والسنة وتحقيق المسائل في ذلك ولو كان الناس استغنوا بالكتاب السنة وبما فيهما من الدلائل على لزوم هدي السلف الصالح واتباع الصحابة لضعف الافتراق جدا وللزم الناس منهجا واحدا مستقيما.
ونحن نرى أيضا اليوم أن الناس إنما اختلفوا لأجل واحد من هذين السببن أو هما معا.
والسبب الثالث: مما حدث في الأمة أيضا في هذا السياسات الجائرة أو السياسات الظالمة التي حرفت الشريعة في مسائل كثيرة، وجُعل أهل العلم وأهل القضاء وأهل الفتيا يفتون بها لأجل مصلحة دولة أو مصلحة فئة، ثم تتابع ذلك ما بين فعل ورد فعل حتى حدث له من الآثار والعواقب ما وسع دائرة الافتراق والانحراف عن أساس الدين.(15/136)
وسيأتينا في شرح الحديث في الباب الذي بعده أهمية لزوم الجماعة ومعنى ذلك، وصلة ذلك اللزوم بمتابعة الكتاب والسنة والاستغناء بهما عن كل ما سواهما.
وإذا نظر الناظر في زماننا الحاضر حيث كثر بعد ضعف الإسلام وضعف أهل الإسلام ورغبة كثير من المخلصين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الدعوة إلى الله جل وعلا وفي نصرة الإسلام في بقاع المسلمين جميعا، نجد أن هذه الأسباب الثلاثة تأتي ماثلة أمامك في أنهم خرجوا عن الاستغناء بمتابعة الكتاب والسنة عن كل ما سواه، وأثّرت فيهم إما العقليات وإما أثّر فيهم ضعف العلم وترك التعلم، أو أثرت فيهم السياسات المختلفة حتى غدوا ما بين خير وشر تعرف منهم وتنكر إلا من تابع العلم الصحيح.
وتأمل ذلك تجده في الناس، وكما قال القائل حرك ترى، فإن الأكثرين ممن خالفوا الصراط الأول:
¨ إما أن يكونوا خالفوه عن ضعف علم بما جاء في النصوص فيجتهدون مع وجود الدلائل.
¨ وإما أنهم ركنوا إلى عقليات ومصالح يجعلونها حجة قويمة.
¨ وإما أن تكون أثرت فيهم السياسات فجعلتهم يتصرفون بمحض آراء سياسية، وسواء كانت تلك السياسات منهم، أو من دول تجاههم فإنها أثرت فيهم حتى صاروا بعيدين عن متابعة الكتاب والسنة حق المتابعة، وأخذوا يتلقفون العلم والحق من هنا وهناك فلم يدركوا ذلك.(15/137)
قال رحمه الله بعد هذا (وقول الله تعالى ?وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ?[النحل:89].) هذه الآية فيها الدليل على أن الله جل وعلا جعل القرآن تبيانا لكل شيء، وأنه نزله سبحانه مفرقا ليكون تبيانا لكل شيء يحتاجه العباد في أمر دينهم وفيما ينفعهم في صلاح العلم والعمل، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الأنعام ?مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ?[الأنعام:38]؛ ولكن آية الأنعام جرى فيها خلاف بين السلف في التفسير: هل المراد بالكتاب في قوله (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) هل هو اللوح المحفوظ أو هو القرآن؟ على قولين. أما هذه الآية فالكتاب فيها هو القرآن في تفاسير السلف لا غير، لهذا استدل بها رحمه الله تعالى لأجل أن لا يقال إن في الآية اختلافا في التفسير، وقوله (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) يعني أن الله جل وعلا نزل هذا القرآن من أجل أن يكون تبيانا لكل شيء أو أنه جل وعلا أبان فيه كل شيء تبيانا ومظهرا وجعله ماثلا حتى لا يحتاج الناس إلى غير هذا القرآن.
قال جل وعلا (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً)، (تِبْيَاناً) هنا هذا تِفْعال من البيان، وهل هي مفعول لأجله أو هي مصدر؟ على قولين لأهل العلم:
¨ ويكون التقدير إذا كان مفعولا لأجله أن تنزيل الكتاب من أجل أن يكون تبيانا؛ يعني العلة في تبيين الكتاب للتبيان، للبيان.
¨ واما إذا كانت مصدرا فتكون للتأكيد؛ يعني أن الله جل وعلا نزَّل الكتاب وأبان فيه كل شيء تبيانا، فيكون مصدرا مؤكِّدا لما في الفعل المقدر الذي دل عليه المصدر؛ يعني جعل كل شيء في هذا القرآن بيِّنا ظاهرا لا لبس فيه، وإنما هو بيان يعني القرآن لكل شيء يحتاجه الناس كما سيأتي.(15/138)
قوله هنا (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)، (كُلِّ شَيْءٍ)، (كُلِّ) هذه من ألفاظ العموم كما هو معلوم في الأصول لكنها من ألفاظ الظهور في العموم لأن ألفاظ العموم على قسمين:
الألفاظ تدل على التنصيص في العموم.
وألفاظ تدل على الظهور في العموم.
والألفاظ التي تدل على الظهور في العموم معناه أن يكون العموم فيها بحسبها وقد يخرج من ذلك العموم ما لا يصلح لما جاء العموم من أجله، لهذا فسَّر السلف وأهل العلم فسروا (كُل شَيْءٍ) بأنه كل شيء يحتاجه العباد في أمر دينهم كما فسرها ابن جرير الطبري رحمه الله وجماعة ومن أهل العلم من المتقدمين كمجاهد وغيره فسروا كل شيء هنا يعني الحلال والحرام يعني تبيانا لما أحل الله جل وعلا وما حرم، فما أحلا الله في كتابه فهو الحلال وما حرمه فهو الحرام، وعموم التفسير أوْلى لأن الحلال والحرام هو أحد أفراد هذا العموم؛ لكن لا يشمل قوله (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) لا يشمل ما لا ينفع الناس في دينهم؛ لأن القرآن لم ينزل تبيانا لأمور الناس في دنياهم، لم ينزل تبيانا لأمور الرياضيات والجبر والهندسة والفيزياء والكيمياء والزراعة والفلك وأشباه ذلك، وإنما نزل للهداية كما قال جل وعلا ?هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ?[الإسراء:9]، والله جل جلاله بحكمته جعل الأشياء على قسمين، جعل الأشياء فيما حولنا على قسمين وفيما نتعامل به:
منها أشياء يدخلها الهوى -هوى الإنسان-: مثل محبته وبغضه، ومثل ما يأتي وما يذر، من بيعه وشرائه، وتعاملاته وتعبداته لربه ونحو ذلك، فهذه يدخلها الهوى، قد يرغب أن يظلم، يرغب أن لا يتعبد، يرغب أن يأتي بالفواحش، يرغب أن يكون كذا وكذا، فهذه الأشياء تدخلها الأهواء في أمور الشبهات وفي أمور الشهوات.
والقسم الثاني ما لا يدخله الهوى.(15/139)
والقرآن جعله الله جل وعلا هاديا للناس الصراطَ المستقيم والطريق القويم الذي لا يلتبس فيما يدخلُه هوى الناس، وهو الأمور العلمية والعملية التي يحتاجونها.
أما الأمور التي تسري فيها سنن الله جل وعلا هذه لا يدخلها الهوى فالقرآن لم ينزل لأجل بيانها، لهذا مثلا أمور الحساب وأمور الهندسة ونحو ذلك، هذه لا يدخلها الهوى، لو قال القائل مثلا: زوايا المثلث يمكن أن تكون مائتي درجة، هذا لا يدخله رغبة الراغب، أو يُصدر قرارا أن زوايا المثلث مائتي درجة، أو أنه يأتي من يدعو الناس إلى أن تكون زوايا المثلث مثلا مائتي درجة، أو أن عشرة زائد عشرة تساوي خمسة عشرة ونحو ذلك، هذه لا تدخلها الأهواء، لهذا الناس إذا أتى من يخبرهم فيها بغير الحق فإنهم سيردون عليه؛ لأنها لا توافق الحق الذي يعلمونه، وهو ليس له هوى في أن تكون الأمور الطبيعية على خلاف ما خلق الله جل وعلا.
ولهذا يخطئ من يجعل القرآن كتابا في العلوم كلها؛ كما زعمت طائفة أن القرآن كتاب في الطبيعة، وكتاب في الزراعة، وكتاب في الهندسة، وكتاب في الجبر وكتاب في كذا، يظنون أن هذا فيه رفع لشأن القرآن، وليس كذلك بل فيه إنزال من شأن القرآن؛ لأن الله جل وعلا لم ينزل القرآن لذلك ولم يجعله كتابا في الأمور الرياضية أو الطبية أو الهندسية أو إلى آخره، وإنما جعله كتاب هداية فيما تدخل فيه أهواء الناس بتحريف مراد الله جل وعلا فيه.(15/140)
أما ما حكمته سنن وقوانين من الله جل جلاله وتقدست أسماؤه بأمور الطبيعة فهذه الحق فيها سيبين بما أجرى([10]) الله من سنته وما أجرى من تقنينه، لهذا تجد أن بعض الناس في تفسيره لهذه الآية في كتب التفسير يجعل القرآن شاملا لكل العلوم، حتى آل الأمر في بعضهم أن جعلوا العلوم المحدثة الباطلة التي يردها القرآن، جعلوا القرآن مشتملا عليها؛ كعلوم التصوف والفلسفة والطرق المختلفة، جعلوا القرآن يدل على ذلك كله، وهذا وأمور النظر وأمور الحكمة والقواعد والقوانين والمناظرة وأشباه ذلك والجدل، جعلوا كل هذه العلوم في القرآن، وهذا ولاشك من الغلو الباطل.
فالقرآن إذن تبيان كما أخبر الله جل وعلا تبيان لكل شيء، القرآن تبيان لكل شيء، أبان الله فيه كل شيء ينفع العباد ويحتاجون إليه فيما قد يحرفونه بأهوائهم، أو قد لا يدركون الحق فيه مما ينفعهم في آخرتهم أبانه الله جل وعلا بيانا، فكل المطالب الدينية في القرآن، كل ما يكون من قبيل الهداية في الدنيا أو في الآخرة هو في القرآن، أما العلوم الأخرى فإن هذه لا تدخل في العموم في قوله (لِكُلِّ شَيْءٍ) لعدم اشتمالها على الهداية في الطريق الذي يلتبس على الناس.
إذا تبين لكَ ذلك فقوله (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) والاستغناء بالكتاب، هل معنى هذا أن السنة وأقوال الصحابة ليست مما يُؤخذ به ويُستغنى به؟(15/141)
الجواب أن هذا هو من الكتاب، فالسنة من القرآن يعني الاستدلال بها، وأقوال الخلفاء الراشدين من القرآن؛ يعني الاستدلال بها في القرآن، وكذلك الصحابة في القرآن، ولهذا لما روى البخاري وغيره أن ابن مسعود قال: لعن الله الواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة، والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله. فأتته امرأة فقالت: يا ابن مسعود لقد قرأت القرآن ما بين دفتيه فلم أجد لعن الله لما ذكرت. قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، لقد قال جل وعلا ?وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا?[الحشر:7]، وقد لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا وكذا، استدل ابن مسعود بما جاء في القرآن من السنة على أنه في القرآن، وهذا استدلال أصولي عميق؛ لأن دليل السنة والأخذ بها طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومتابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا في القرآن، وفي القرآن تبيانه وفي القرآن إظهاره، فإذن الاستغناء بالقرآن يشتمل على الاستغناء بما دل عليه القرآن من متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا فيه إدخال السنة في الاستغناء بمتابعة الكتاب عما سواه.
كذلك أقوال الصحابة رضوان الله عليهم فهي داخلة في قول الله جل وعلا ?وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115]، وفي قوله ?وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[الحشر:10].
وكذلك الذين اتبعوهم بإحسان جاء النص عليهم في القرآن.(15/142)
فإذن يكون اتباع هدي الصحابة رضوان الله عليهم وهدي من اتبعهم بإحسان مما جاء في القرآن، فيكون إذن القرآن دل على أن السنة حجة، وأن أقوال الصحابة ومنهج الصحابة وهدي الصحابة حجة، وأن لزوم طريقة الصحابة والتابعين كذلك حجة.
فيكون إذن الاستغناء بالكتاب هو استغناء بالسنة، واستغناء بهدي الصحابة، وبما جاء عنهم وعن التابعين في مسائل العلم.
إذا كان الأمر كذلك فإذن نقول إن الآية دلت على الاستغناء بمتابعة القرآن والسنة وهدي السلف الصالح عن كل ما سواها.
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك (وروى النَّسَائي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى في يد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ورقة من التوراة فقال: « أَمُتَهَوّكُونَ يَا ابْنَ الخَطّابِ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيّةً، ولَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا واتبعتموه وتركتموني ضللتم». وفي رواية: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا مَا وَسِعَهُ إِلا اتّباعي». فقال عمر: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا.)
هذا الحديث حديث حسن، وقد صححه جماعة من أهل العلم، وله روايات مختلفة يعضد بعضها بعضا.
عمر رضي الله عنه رأى في يده ورقة من التوراة، وقد قيل إنه أخذها من أخ له -يعني في بعض الروايات- من أخٍ له يهودي، قالوا إن هذه الأخوة قد تكون أخوة رضاعة، أو لها وجهها.(15/143)
المقصود من ذلك أنه أخذ هذه الورقة من التوراة يطالع فيها، فلما رآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضب، وقال (أَمُتَهَوّكُونَ يَا ابْنَ الخَطّابِ)، (أَمُتَهَوّكُونَ) يعني أمتحيرون؛ يعني أفي حيرة أنت؟ أفي شك أنت؟ أفي ريب أنت مما جئت به؟ قال(لَقَدْ جِئْتُكُمْ)؛ يعني والله (لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا) يعني بالشريعة (بَيْضَاءَ نَقِيّةً) لا يدخلها لَبْس ولا يدخلها تحريف (ولَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا واتبعتموه وتركتموني ضللتم)؛ لأن رسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي خاتمة الرسالات؛ ولأن نبوته هي خاتمة النبوات، وكتابه الذي هو القرآن هو خاتم الكتب، وهو المهيمن على كل كتاب.
فإذن لا يجوز النظر فيما سبقه من الكتب بعد ما أنزل الله جل وعلا الكتاب.
قال(وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيّا مَا وَسِعَهُ إِلا اتّباعي) لأنه بعد بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجب على الجميع أن يؤمنوا به، وكانت رسالة كل رسول خاصة وكانت رسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عامة ?يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا?[الأعراف:158]، ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?[الأنبياء:107]، رسالته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ تعم الثقلين الجن والإنس، وكل رسول فإنه كان يرسل إلى قومه خاصة ومحمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أرسل للناس عامة.(15/144)
فهذا يدل على أنه لا يجوز النظر فيما سبق من الكتب ولا أن يتبع غير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو كان أحد من الأنبياء موجودا حال بعثته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لاتبعه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، ولهذا عيسى عليه السلام رفع حيا ? وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ?[النساء:157]، وينزل في آخر الزمان في دمشق في المسجد الذي بناه بنو أمية عند المنارة البيضاء -كما جاء في الأحاديث الصحيحة-، فينزل حكما عدلا مقسطا، ويكون مأموما في تلك الصلاة، فيأتي فيعرفه الناس فيأتي الإمام يتأخر ليتقدم رسول الله عيسى عليه السلام، فيدفع عيسى عليه السلام بالإمام ويقول: إمامكم منكم تكرمة الله لهذه الأمة. فينزل يحكم بالقرآن ويدع الإنجيل ويأمر باتباع محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فهو عليه السلام بعد نزوله يكون من أتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما لقيه في السماء لقيه جسدا وروحا وآمن بنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا من الألغاز التي يلغز بها بعض أهل العلم أن يقال مثلا: من رجلٌ من أمَّة محمد هو أفضل من أبي بكر الصديق بالإجماع؟ ويجيب أهل العلم على ذلك بأنه عيسى عليه السلام؛ لأنه حي وينزل -وهذا عقيدة يعتقدها كل مسلم- ويحكم بالقرآن ويكسر الصليب ويدع الإنجيل، ولهذا هو من الأمة ولقد لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج وآمن به.
المقصود من ذلك أنه يجب متابعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والاستغناء بالقرآن وعدم النظر في التوراة، وهاهنا دل الحديث على تحريم النظر في التوراة، وعلى غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك، وأن المرء إذا نظر فهو يكون في شك من أمره كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لعمر رضي الله عنه (أَمُتَهَوّكُونَ يَا ابْنَ الخَطّابِ) أمتحيرون أمتشككون ونحو ذلك.(15/145)
إذا تبين هذا فالعلماء لهم قولان في النظر في التوراة:
منهم من يقول: يحرم النظر في التوراة أو الإنجيل أو في الزبور مطلقا؛ يعني لأي أحد سواء أكان عالما أم غير عالم، وسواء في وقت التنزيل أم بعد وقت التنزيل، وهذا قول جمهرة كبيرة من أهل العلم.
والقول الثاني: أن ذلك يحرم لكن ليس على إطلاقه، فيجوز لأهل العلم الموثوق بهم أن ينظروا في التوراة لغرض إبطال دعوى اليهود أو دعوى النصارى أو لنُصرة الدين أو ما شابه ذلك في مسائل الدعوة إلى الله جل وعلا والجهاد العلمي.
وهذا القول الثاني هو الذي اعتمده كثير من أهل العلم وألفوا كتبا كثيرة في بيان بعض التحريفات التي اشتمل عليها الإنجيل والتوراة؛ بل كتب ابن تيمية سماه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح فيه نقول كثيرة عن التوراة والإنجيل، وكتاب لابن القيم هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى أيضا فيه نقل كثير عن تلك الكتب، وكذلك القرطبي وجماعات من أهل العلم نظروا في ذلك لغرض نصرة الشريعة، وهذا هو المعتمد في أنه لا يجوز لأفراد الناس وآحاد طلاب العلم أن ينظروا فيها؛ بل يحرم ويأثم من نظر فيها، ولكن إذا كان نظره نظر عالم راسخ في العلم لقصد الجهاد، فإن هذا جائز بحسبه؛ لأنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لما أمر برجم اليهودي الذي زنى باليهودية قالوا: إن الرجم ليس في كتابنا. قال: فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فأتوا بالتوراة فنظر فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووضع اليهودي يده أو إصبعه على آية الرجم، فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: مُرْهُ يا رسول الله أن يرفع يده فالآية تحت يده. أو كما جاء .
المقصود من ذلك أن الحديث دل على التحريم وهو على بابه، ويُستثنى من ذلك من ذكرنا من الراسخين في العلم الذين لهم قصد صحيح في الجهاد في سبيل الله.(15/146)
إذا تبين هذا فهل النهي عن النظر في التوراة والإنجيل لأجل أنها منسوخة أو لأجل أنها محرفة أو هما معا؟
الصحيح أن النهي لهذه الأسباب جميعا:
أولا: لأنها منسوخة، وإذا كانت نسخت بالقرآن ورسالة موسى عليه السلام ورسالة عيسى نسخت برسالة محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فالله جل وعلا لا يرضى إلا باتباع القرآن واتباع محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ .
والسبب الثاني: أيضا أنها محرفة وتحريف التوراة وتحريف الإنجيل كبير جدا، وإذا كانت محرفة فإنه لا يوثق بأخذ الحق منها، إذا كان الناظر فيها يريد حقا في مسألة؛ لأنها محرفة ومبدلة كما نص الله جل وعلا على ذلك.
لكن اختلف أهل العلم هل التحريم الذي في التوراة والإنجيل، هل هو تحريف تبديل وتغيير للألفاظ أو هو تحريف وتبديل لمعنى تأويل الكلم على غير تأويله وتحريف المعاني وتبديل المعاني بالتأويل؟ على ثلاثة أقوال لأهل العلم([11]):
القول الأول: هو أن التحريف تحريف ألفاظ، وهذا ذهب إليه كثيرون جدا من أهل العلم في أن التوراة حُرِّفت ألفاظها والإنجيل حرفت ألفاظه، فحذف منه أشياء وزيد فيه أشياء في اللفظ، ولهذا قال الله جل وعلا مثلا ? وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ?[الصف:6]، وهذه البشارة لا تجدها في الإنجيل، وهي في بعض الأناجيل؛ لكن الأناجيل الأربعة المعتمدة عندهم ليست فيها، مع أن ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجود في التوراة، هذا يعني أنهم حذفوا منه أشياء، كذلك بعض المسائل الفقهية أيضا أزالوها، ما اشتمل عليه من توحيد الله جل وعلا نجد أنه فيه نسبة النقص لله جل وعلا، وفيه نسبة -يعني في التوراة والإنجيل معا والتوراة أكثر- فيها نسبة النقائص للأنبياء ووقوع الأنبياء في الفواحش، ونحو ذلك مما نجزم أن هذا مما غيروه وزادوه ونقصوا منه.
وهذا يدل لهذا القول وهو أن التوراة والإنجيل والزبور وقع فيها التحريف في الألفاظ.(15/147)
وأصحاب هذا القول يقولون أن التحريف تحريف اللفظ، ويستدلون بظاهر قوله جل وعلا ?يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ?[المائدة:41]، ونحو ذلك مما جاء، وأن الله جل وعلا اختص الحفظ بالقرآن، ومعنى ذلك أن تلك الكتب وقع فيها التحريف والتبديل في الألفاظ.
القول الثاني: وهو الذي اختاره البخاري رحمه الله في الصحيح واختاره جماعة من أهل العلم أيضا هو أن التحريف والتغيير والتبديل إنما وقع في تأويل المعاني ولم يقع في النصوص -الألفاظ-، واستدلوا عليه بحديث آية الرجم وأنهم قالوا الرجم ليس في كتابنا ليس في التوراة الرجم فقال الله جل وعلا ? قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ?[آل عمران:93]، فوضع القارئ إصبعه على آية الرجم حتى لا تظهر، قالوا: فلو كان عندهم التحريف بحذف الألفاظ لأزالوا هذه الآية بعدما تركوا حكم الرجم بما نص الله جل وعلا في التوراة.
وهذا ذهب إليه البخاري جماعة من أهل العلم أيضا لهذا الحديث.
ويفسرون الآيات التي فيها التحريف والتبديل بأنه تحريف معاني لا تحريف ألفاظ.
القول الثالث: وهو القول الراجح والصحيح واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم وجماعة من أهل العلم من أئمة الدعوة ومن غيرهم أيضا، بأن التحريف والتبديل وقع على الجهتين معا؛ وقع فيها تحريف ألفاظ وتحريف كلمات بإزالتها وإدخال ما ليس من التوراة فيها، أزالوا ألفاظا وآيات أو جمل وأدخلوا أشياء أخر، وأيضا فسروه بغير تفسيره وتأولوه على غير تأويله، فوقع الأمران معا.(15/148)
وهذا هو الصحيح، وهو الذي يطابق الواقع فيمن نظر إلى هذين الكتابين، لذلك التوراة الموجودة الآن والإنجيل الموجود الآن ليس هو باللغة التي نزل بها، الآن يترجمونه إلى لغات متعددة؛ يعني بحسب لغات البلاد، فتُرجم للغة العربية وترجم للغات المختلفة الإنكليزية والفرنسية والألمانية إلى آخره، منذ قرون من الزمان، وليس في أيدي الناس النصوص القديمة، ولذلك إذا عمل أحد مقارنة ما بين النصوص الموجودة الآن والنصوص التي ينقل عنها أهل العلم من سبعمائة ثمانمائة سنة فيما نقلوا من الردود يجد بينها اختلافا؛ بل يوجد اختلاف بين ترجمات التوراة والإنجيل قبل أربعمائة خمسمائة سنة إلى يومنا هذا في اللغة العربية، يكون هناك اختلاف التراجم وزيادة ونقص بحسب الطبعات، وهذا يدل على أن تلك الكتب غير محفوظة وغير موثوق بها، والله جل وعلا لم يجعل لهم من خاصية المحافظة عليها بالنقل وبالإسناد ما جعل الله لهذه الأمة المحمدية من خاصية المحافظة على القرآن بالنقل والأسانيد بحيث لو زاد واحد في شرك الأرض أو في غربها حرفا في القرآن لدهمه صبيان المسلمين في أنه زاد ونقص لحفظ الله جل وعلا لهذا الكتاب العظيم.
إذن تقرر من ذلك أن عدم النظر في التوراة والإنجيل إنما لأجل هذه الكتب محرفة ولأجل أنها منسوخة، وحينئذ لا يمكن أن يُؤخذ منها حرفا ولهذا في أحاديث بني إسرائيل وقد يكون بعضها من التوراة أو بعضها من الإنجيل قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «إذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم؛ لأنهم قد تصدقهم في شيء قد كذبوا فيه وقد تكذبهم في شيء هو مطابق لما هو موجود». وهذا أمر لا علم لنا به لأنها حرفت وبدلت، فإذن لا نصدق ولا نكذب ونؤمن بأن التوراة انزلها الله جل وعلا على موسى، وأن الإنجيل أنوله الله جل وعلا على عيسى، نؤمن بكتب الله جل وعلا.(15/149)
أما خصوص هذين الكتابين التوراة والإنجيل أو كما يسمونه في العصر الحاضر العهد القديم والعهد الجديد بخصوصها فهذه لا نؤمن بها، وإنما نؤمن بالتوراة التي أنزلها الله جل وعلا، نؤمن بالإنجيل الذي أنزله الله جل وعلا، أما هذا المحرف المبدل في ألفاظه وفي تأويلاته وزيادة أشياء وحذف أشياء وإدخال تفاسير العلماء -علمائهم ورهبانهم فيه- فهذا لا نؤمن به، فيكون الإيمان حينئذ بكتب الله إيمان بما أنزل الله جل وعلا، وأما هذا الذي دخله التحريف والتبديل فلا نؤمن به.
مُراد إمام الدعوة رحمه الله تعالى من استدلاله بها الحديث: أن هذه التوراة أصلها كلام الله جل وعلا؛ لكن لما وقع فيها التحريف والتبديل والتغيير وكنَّا مستغنين بالكتاب وبالسنة فإن النظر فيها لا يحل بل يحرم، إذا كان هذا في كتاب أصله من عند الله جل وعلا، فكيف إذن الأمر بالنسبة إلى كتب نَتَجَتْها عقول البشر؟ وكتب خصتها أنامل من لم يهتدي بهدي الكتاب والسنة من كتب الفلسفة وكتب التصوف وكتب الزندقة وكتب الأقوال المختلفة التي فرقت هذه الأمة، من الكتب التي قد يسمونها كتب الفلسفة وكتب المنطق وكتب علم الكلام وكتب التصوف وكتب الأحوال والرسائل والكتب، حتى إن آثار هذه الكتب لما نظر فيها الناس أثَّرت في تفسير الكتاب وفي تفسير أحاديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتجد أن من العلماء من فسَّر القرآن ببعض الأقوال الفلسفية والعقلية وترك تفاسير السلف، ومنهم من فسر السنة بنحو ما جاء في أقوال الفلاسفة وأهل المنطق إلى آخره، مما جعل الكتب الموروثة في هذه الأمة مشتملة على حق وباطل، وقلَّ من يميز ذلك.(15/150)
ولهذا كان من المنهج الذي ورثه أئمة الإسلام من السلف الصالح الأول أن يستغنوا بالكتب النافعة عن الكتب التي اشتملت على حق وباطل، الحمد لله القصد سلامة المؤمن في دينه، القصد سلامة المؤمن في إيمانه، فإذا كان كذلك فهو يستغني بما صح من الكتب أو قلّ فيه الغلط مما كثر فيه الغلط ونحى مناحٍ لا يؤمن فيها.
فلهذا ينبغي أن لا ينظر؛ بل يجب أن لا ينظر في الكتب التي فيها ضلالات حتى إن أهل العلم قالوا إن كتب أهل البدع يجب إحراقها ولا ضمان على من أحرقها كما ذكروه في آخر كتاب الغصب من كتب الفقه؛ يعني باب الغصب من كتب الفقه.
وهذا يدل على أن كتب الضلالات هي من باب أولى أن تمنع إذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منع عمر من أن ينظر في التوراة.
فإذن المنهج الصحيح أن يُربى الناس في الدعوة، وأن يرشد غلى ما ينفعهم في العلم الذي يقابلون به الله جل وعلا به في الآخرة.
والعلم النافع هو ثلاثة أقسام كلها في القرآن كما وصفها ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله:
والعلم أقسام ثلاث مالها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكلُّ ........................
..............................
يعني كل أنواع هذه العلوم.
...... في القرآن والسنن التي
جاءت عن المبعوث بالفرقان
وهذا يدل على أن العلوم النافع للمرء في دينه وفيما ينفعه في الآخرة ما يحصل به الاهتداء في أمر دينه، ويرشد به إلى الصواب ويتكون بها العلم في الصحيح، هذه كلها في الكتاب وفي السنن وفي هدي السلف الصالح وفيما سطرته أيدي العلماء المأمونون على الشريعة في كتب العقيدة أو كتب السنة أو ما اجتهدوا فيه مما نظروا في النصوص.(15/151)
هذا هو الذي ينفع، ولذلك كلما كان المرء أكثر نصحا للعباد فإنه يرشدهم إلى هذه الكتب النافعة ويضعف نظر أولئك في الكتب المختلفة، وهذا ظاهر في أن كثيرين إنما انحرفت أفكارهم ومفاهيمهم ونظراتهم وأصبحوا يتصوَّرون أشياء على غير الحق لأنهم نظروا في كتب مختلفة، النظر في الكتب المختلفة قد يؤثر على طالب العلم في أنه يجعله متحيِّرا ولذلك ما أعظم قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر (أَمُتَهَوّكُونَ) يعني أمتحيرون؛ لأن النظر يوجب الحيرة، كثرة النظر في الكتب المخالفة توجب الحيرة، سماع أهل البدع يجعل في القلب شيء، والنظر إليهم أيضا أهل الشرك والضلالات وأهل العلم الضالة يجعل في قلبه شيء من عدم يقينه بالحق، فكيف إذن إذا كان يقرأ ويستسقي من تلك العلوم التي هي علوم مخالفة لما جاء في الكتاب والسنة فيحدث الخلل الكبير، وهذا كما ذكرت لك من أسباب الخلل الواقع في هذه الأمة أنها نشأت كتب كثيرة عقلية ولا تعتمد على العلم الصحيح أصحابها عَزُبَ عنهم علم الكتاب والسنة وذهبوا إلى غيره -والعياذ بالله- فحصل فيهم الخلط الكبير، وصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخبر به في أن ذلك سببه الحيرة أو أنه يوجب الحيرة والشك والريب.
قال رحمه الله بعدها (باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام).
?????
[المتن]
باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام
وقوله تعالى: ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا?[الحج:78].(15/152)
وعن الْحَارِثَ الْأَشْعَرِيَّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْجِهَادِ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَراجِعَ، وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ ؟ قَالَ «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ والْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّه» رواه أحمد والترمذي، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وفي الصحيح: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَمَاتَ فَمِيتَتُه جَاهِلِيَّةٌ».
وفيه: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟».
قال أبو العباس: كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار! قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»، وغضب لذلك غضباً شديداً. انتهى كلامه رحمه الله تعالى
[الشرح](15/153)
(باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام ) ينظر إمام الدعوة رحمه الله تعالى في هذا الكتاب إلى أسباب حدوث الافتراق والتبيان في هذه الأمة وعدم اجتماع الكلمة بين المسلمين، وإلى ما حصل من فرح كل طائفة بمذهبها أو بطريقتها، وأن سبب اجتماع الناس هو أن لا يكون بينهم تميز وتفريق؛ بل يرجعوا إلى الأوصاف التي وصفهم الله جل وعلا بها والأسماء التي أسماهم الله جل وعلا بها، والناظر في تاريخ هذه الأمة يجد أنَّ الأسماء والشعارات والألقاب التي حدثت في هذه الأمة وفرَّقت بين المسلمين أنها كثيرة جدا، وهذه الألقاب والأسماء المختلفة قد تكون بالتعصب إلى بلد، وقد تكون بالتعصب إلى قبيلة، وقد تكون بالتعصب إلى رجل، أو بالتعصب إلى فئة وحزب وجماعة وفرقة، أو تكون بالتعصب إلى مذهب معين، فحدثت أسماء كثيرة في هذه الأمة مخالفة للأسماء الشرعية التي ذكرها الله جل وعلا في كتابه أو ذكرها رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنته، ولاشك أن سمة التجمع إذا كانت على اسم واحد فإنَّ الفُرقة تقل وإذا كانت على أسماء كثيرة متعددة فإن التوحد والتفرد بالاسم يوجب ولاشك الفرقة في الأبدان ويوجب الفرقة في الأقوال مما يعني أنه يُحدث افتراقا في الدين وافتراقا في الجماعة، وهذا هو الذي خشيه إمام الدعوة على المستقبل، وأيضا يصف به الماضي الذي مضى في حياة المسلمين، أن الله جل وعلا سمانا بأسماء لم يقبلها المسلمون بل أحدثوا أسماء من عند أنفسهم، وجعلوا لكل فرقة منهم اسما ولقبا أحدثوه، ثم بعد ذلك تعصبوا له وجعلوا الولاء والبراء له، ومن كان في هذا الاسم فهو المقبول ومن كان خارجا عنه فهو غير مقبول لأجل التعصب للأسماء وليس التعصب لأصل الديانة، وهذا من النظر العظيم والتأمل البليغ في حال المسلمين قبل وفيما يُخشى عليهم بعد.(15/154)
والمتأمل في الكتاب والسنة وسيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجد أن الله جل وعلا سمى عباده بأسماء؛ سماهم المسلمين والمؤمنين وهذا كما في قوله ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا?[الحج:78] وسيأتي أن أرجح الأقوال: أن الله جل وعلا هو الذي سمى وليس إبراهيم الخليل عليه السلام. سمى المؤمنين وسمى المهاجرين من هاجر من مكة إلى المدينة أولا ثم كل صاحب هجرة إلى المدينة سمي مهاجرا، وسمى الأنصار أيضا، وجعل العلاقة والعصبية إنما هي لاسم الإسلام واسم الإيمان دون غيرها من الأسماء التي سمى الله جل وعلا بها طائفة من المسلمين، فالله جل وعلا سمى من هاجر مهاجرا، وسمى من نصر أنصاريا قال جل وعلا ?وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ?[التوبة:100]، والمهاجرون اسم شرعي والأنصار اسم شرعي لكنه تخصيص لبعض المسلمين باسم معين لأجل وصف اتصفوا به وهو الهجرة أو النصرة، ومع ذلك لما أتى رجل وجعل العصبية للهجرة أو جعل العصبية للنصرة فإنه جعل ذلك من دعوى أهل الجاهلية، فلما اختصم غلامان فقال أحدهما: يا للمهاجرين اختصم. مهاجري وأنصاري وقال الآخر: يا للأنصار. يعني هذا يدعو المهاجرين لنصرته وذاك يدعو الأنصار لنصرته، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟». مع أن التعصب جاء على اسم شرعي سمى الله جل وعلا به أهله، فلما كان الاسم وهو اسم المهاجر أو الأنصاري تحول اسم للتعريف والوصف إلى اسم للتعصب عليه والنداء والنخوة به ذمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعله من دعوى الجاهلية.(15/155)
وهذا فيه الدليل على وجوب لزوم الاسم الأول الذي هو اسم المسلم واسم المؤمن الذي سمانا الله جل وعلا به وسمانا به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونادى الله الناس في القرآن به?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا?([12]) ونحو ذلك، فإنما ناداهم باسم الإيمان دون غيره من الأسماء أو الصفات.
وهذا به يتبيَّن أن من خرج عن دعوى الإسلام يعني عن اسم الإسلام إلى غيره، فإن هذا قد تناولته النصوص وتناولها أهل العلم في كلامهم:
فمنه ما هو مذموم.
ومنه ما هو مأذون به بشروطه.
وهذا كما سيأتي بينه عند شرح كلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
قال (وقوله تعالى: ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا?[الحج:78].)، قوله (هُوَ):
¨ جمهور أهل التفسير على أن الضمير يرجع إلى رب العالمين إلى الله جل جلاله؛ يعني أن الله جل جلاله -كما يدل عليه سياق الآية ولِحاقُها- بأن الله جل وعلا هو الذي لم يجعل لنا في الدين من حرج، هو الذي خفف عنا، وهذا هو ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، قال جل وعلا ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? يعني وما جعل الله عليكم في الدين من حرج، ?مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ? يعني نفي الحرج عن ملة أبيكم إبراهيم، ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ? يعني الله جل جلاله ?هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ? يعني في الكتب السابقة ?وَفِي هَذَا?[الحج:78] يعني في هذا القرآن الذي أنزله الله جل وعلا على محمد عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَم.ُ
¨ وذهب قليل من أهل العلم منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ومن نحى نحوه إلى أن الضمير في قوله (هُوَ) يرجع إلى إبراهيم الخليل عليه السلام هذا ليس بجيد؛ بل هو أقرب غلى الغلط لأن سياق الآية يدل على أنَّ المراد بالضمير هو الله جل جلاله وتقدَّست أسماؤه.(15/156)
(هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) الشاهد من الاستدلال بالآية قوله (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ)، والله جل وعلا لم يسمِّ أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسم إلا باسم الإسلام (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ، ولذلك كان اسم المسلمين يختص بهذه الأمة، وأما اسم المؤمنين فقد يشمل كل مؤمن ولا يختص بهذه الأمة؛ يعني من حيث الإطلاق، فتجد مثلا أن النصارى يستعملون لفظ المؤمن ولا يستعلمون لفظ المسلم فيقولون مثلا: أيها المؤمنون بالله، هذه رسالة إلى المؤمنين بالله، هذه صفة المؤمنين بالله، وهذه خصال المؤمنين بالله. يستعمل هذا اللفظ النصارى واليهود، أما اسم المسلم فهو خاص بمن اتبع محمدا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وآمن به ودان بدين الإسلام.
ولهذا ينبغي بل يجب المحافظة على هذا الاسم في كل مكان، وأنَّ هذا هو خاصية هذه الأمة من ما عداها من الأمم، هذه تسمية الله جل وعلا فيجب على العباد أن يرضوا بتسمية الله جل وعلا لهم؛ لأنها أكرم تسمية وأعظم تسمية، فالمسمي هو رب العالمين والملقب هو رب العالمين، فمن خرج عن تسمية رب العالمين لعباده فقد خرج عن ما رضيه الله جل وعلا لعباده المسلمين.
هذا الباب مهم؛ لأن فيه الكلام على الأسماء والشعارات والألقاب والتعصب للجماعات سواء كانت جماعات إسلامية -كما يقال- أم كانت جماعات اجتمعت على شيء آخر في تفصيل هذا الكلام هذه المسائل جميعا إن شاء الله تعالى فيما نرجو فائدته لي ولكم بإذنه تعالى.
وفي هذا القدر كفاية.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
بسم الله الرحمن الرحيم.
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى اله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا واغفر لنا ذنوبنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين.
أما بعد:(15/157)
فنصل الكلام على ما جاء في باب ما جاء في الخروج عن دعوى الإسلام، وقد ذكر الإمام المصنف رحمه الله تعالى قول الله جل وجلاله (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) ثم قال (عن الْحَارِثَ الْأَشْعَرِيَّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْجِهَادِ وَالْهِجْرَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَراجِعَ، وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ؟ قَالَ «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّذِي سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمِينَ والْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّه» رواه أحمد والترمذي، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).
هذا الحديث من الأحاديث العظيمة وجوامع الكلم التي اشتملت على كل المطالب الدينية التي تنفع العباد في دينهم وفي دنياهم وفيما يصلح شأنهم في اجتماعهم في الدين وفي اجتماعهم في أمر الدنيا، وبيَّن عليه الصلاة والسلام أن هذه الأوامر الله جل وعلا أمره بها.
فقال (آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ):
قوله (آمُرُكُمْ) يفيد وجوب هذه المطالب وتخصيصها يدل على أنها من مطالب الإسلام العظام ومن خصاله الجليلة التي فاقت غيرها من الأوامر.
وقوله (بِخَمْسٍ) يدل على أنها مختارة وعلى أن هذه الخمس أهم من غيرها مما يدخل في معناها.(15/158)
قال (اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ) هذا يدل على أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أمر بأمر فإنما يبلغ رسالة الله جل وعلا فيأمر بما أمر الله جل جلاله، وينهى عما نهى الله جل جلاله، والسنة أختُ القرآن في أنها وحي من عند الله جل وعلا، وأن السنة بيان للقرآن وتفصيل لأحكامه، فهي من عند الله جل وعلا، وقد كان حسان بن عطية رحمه الله تعالى يقول: كان جبريل يأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن. وأيضا صح عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه قال «ألا إني أوتيتُ القرآنَ ومثله معه»، وقال جل وعلا ?وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا?[النساء:113]، والحكمة هي السنة، فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أمر من الله جل جلاله، وتأكيده عليه الصلاة والسلام بهذه الجملة بقوله (اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ) ليلفت النظر عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على عظم هذه الأوامر وعلى جلالتها، وفيه التشويق لسماعها وبيان ما فيها.
قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بعدها (السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ) والسمع هنا:
يجوز أن تكون بدلا من خمس (بِخَمْسٍ) بخمس السمعٍِ والطاعةِ إلى آخره، بدل بعض من كل.
أو أن ترفع على الاستئناف يعني تقول (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ) تكون خبرا لمبتدَإ محذوف تقديره وهي أو وهنّ السمعُ والطاعةُ والجهادُ والهجرةُ والجماعةُ.
وبكلا الأمرين جاء في القرآن وفي السنة في مواضع، فيجوز هذا وهذا.
قوله (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ) جعلها هاهنا اثنتين فجعل السمع واحدا والطاعة واحدة، وذلك لأن الحاجة إليهما معا في الأمر متعينة وعظيمة، مع أن السمع والطاعة مقترنان من حيث الوجود، فمن سمع فقد أطاع، ومن أطاع فقد سمع.
ويريد بالسمع والطاعة:(15/159)
?الاستجابة لمن له حق أن يُجاب، وأعظم ذلك الاستجابة لله جل وعلا ولرسوله وطاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد قال جل وعلا في حق نبيه ?وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ?[النور:54]، وهذا معلوم أنَّ الرسول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أمر بالاستجابة، وفي القرآن في غير ما آية الأمر بالاستجابة لله وللرسول، وكذلك أمر الله جل وعلا بطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
? أما الأمر الثاني -وهو المقصود هنا- وهو الذي يكثر تَرْداده مخالفة لما كان عليه أهل الجاهلية السمع والطاعة لولي الأمر؛ لإمام المسلمين أو لمن أنابه أو كان أميرا من أمرائه، فإن السمع والطاعة شريعة ماضية، وأمْرٌ أَمَرَ الله جل وعلا به، والسمع معناه أن يسمع لأمر ولي الأمر وأن يستجيب له فيما أمر، والطاعة معناها أن يطيع من ولاه الله جل وعلا أمر الناس وأن يعتقد أن هذه الطاعة طاعة لله جل وعلا أو لرسوله.
فالسمع والطاعة واجبان وهما من حق الله جل وعلا أولا ثم من حق ولي الأمر المسلم ومن النصح له، ثم من حق المسلمين أيضا، فاجتمعت في السمع والطاعة ثلاثة حقوق:
¨ حق الله جل وعلا؛ لأنه هو الذي أمر بذلك.
¨ والثاني حق ولي الأمر والنصح له؛ لأن هذا حق أحقه الله جل وعلا له، وأمر الله جل وعلا بأداء الحقوق إلى أهلها.
¨ والثالث حق للمسلمين جميعا؛ لأنه من خرج عن السمع والطاعة فإنه لا يؤذي ولي الأمر فقط، وإنما يؤذي المسلمين جميعا لما يترب على عدم سمعه وطاعته من المفاسد.(15/160)
إذا تبين هذا فإن السمع والطاعة لولي الأمر مشروطة في النصوص بأنها سمع وطاعة في غير معصية، أما إذا أمر العبد بمعصية فإنه لا سمع ولا طاعة؛ لأنه حينئذ يكون قد عارض ما أمَر أمْر الله جل وعلا، يكون الذي أمر به معارضا لأمر الله جل وعلا، وأمر الله جل وعلا هو المقدَّم، وطاعة ولاة الأمور إنما تجب تبعا لطاعة الله ولطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تجب استقلالا، ولهذا قال الله جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ?[النساء:59]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون: كرر الفعل أطيعوا في قوله (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)؛ لأن الله جل وعلا يطاع استقلالا لحقه، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا يطاع استقلالا لحقه؛ يعني لا نعرض كلامه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على القرآن، وأما ولي الأمر فلم يكرر له الفعل (أَطِيعُوا)، قال (وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)؛ لأن طاعته تجب تبعا لطاعة الله وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تجب استقلالا، فإذا كان أمره فيه معصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فحينئذ يُطاع ولي الأمر في غير المعصية، وغير المعصية هي الحالات التي يجتهد فيها أو يكون أمره أو نهيه فيها ليس بظاهر أنه معصية لله جل وعلا وللرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيطاع في المسائل الاجتهادية.
قال طائفة من العلماء من الشافعية ومن غيرهم: حتى وإن كان ما أمر به مخرَّجا على أحد أقوال الأئمة فإنه يطاع؛ لأنه يَقْصُد حينئذ بوجه شرعي المصلحة في التزامه وعدم مخالفته. وهذا أمر بيِّن والعلماء فيما كتبوا في السياسة الشرعية قرروا ذلك وهي مسألة عظيمة.(15/161)
وهنا ننبه إلى أن بعض أهل العلم قد يعبر في هذا المقام بقوله: يطاع وليّ الأمر المقسط العادل في غير المعصية، ويطاع وليّ الأمر الجائر فيما يعلم أنه طاعة. وهذا التعبير عبر به بعض أهل العلم وفيه نظر من جهتين:
الجهة الأولى: أن النصوص ليس فيها تفريق في الطاعة بين ولي الأمر المقسط العادل وبين ولي الأمر الجائر؛ بل قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ولي الأمر الجائر «اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك»، وهذا يدل على إطلاق السمع والطاعة في هذا المقام.
والتنبيه الثاني على هذا الكلام: أن هذا الكلام يمكن أن يحمل على محمل صحيح يوافق النصوص وهو أنَّ الأوامر الشرعية فيها أن يأتي الإنسان العدل وأنْ لا يعين على الظلم قال جل وعلا ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ?[المائدة:2]، وولي الأمر إذا كان:
? عادلا -يعني غالب أوامره على العدل وعلى الطاعة- فإنه حينئذ لا يُستفصل فما أمر به هل هذا موافق لأمر الله أم ليس بموافق؛ لأن الأصل أنه لا يأمر إلا بموافق، فهذا يطاع دون بحث في المسائل المتعدية؛ يعني فيخص الكلام فيما يتعدى الكلام إلى غيره، كأن يقول مثلا: خُذْ أرض فلان، أو يقول خذ من فلان مال كذا، أو صادر سلاح فلان أو افعل كذا، فهذا إذا كان ولي الأمر مقسطا عادلا فإنه لا يستفسر؛ لأن الأصل في أوامره أنها على وجه شرعي.
? وأما إذا كان غير ذلك بأن كان معلوما عنه الظلم التعدي على الحقوق، فإنَّ هذا الكلام ممن قاله من أهل العلم يمكن أن يحمل على الأوامر المتعدية؛ لأن ولي الأمر إذا كان ظالما يتعدى على الناس فإن المسلم لا يطيعه حتى يعلم أن ما أمر به طاعة فيحمل قوله ويطاع ولي الأمر فيما يعلم أنه طاعة إذا كان متعديا على الغير يقول فيما فيه فعل بالغير فهذا يحتاج إلى استفصال وإلى بيان.(15/162)
وهذا ما يمكن أن يحمل عليه هذا الكلام ممن قاله من أهل العلم، مع أن النصوص -كما ذكرت لكم- وقول عامة أهل السنة والمدون في العقائد أنه لا تفصيل في هذه المسألة؛ بل يسمع ويطاع في غير المعصية، في أي مسألة لا تكون معصية لا يظهر فيها أنها معصية فإنه يطاع في ذلك، فإذا أمر بمعصية سواء أكانت للعبد في نفسه؛ كأن يأمره بالرشوة مثلا، أو أن يأمره بمقارفة حرام، أو أن يأمره بما لا يحل شرعا فإنه لا يجوز له أن يطيعه في ذلك، فإن أطاعه فإنه آثم ولا يعذر بذلك، وكذلك في الأوامر المتعدية، إذا أمره أن يفعل فعلا بالآخرين ويعلم هذا المأمور أن هذا الفعل معصية، فإنه لا يجوز له أن يطيعه في ذلك، فكونه يتحمل ما يأتيه من مخالفة الأمر أسهل من أنه يخالف أمر الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.
قال بعدها (وَالْجِهَادِ) الجهاد المراد به هنا جهاد الأعداء، وجهاد العدو على قسمين:
¨ منه جهاد بالحجة والبيان.
¨ ومنه جهاد بالسنان والسلاح.
أما الأول: وهو الجهاد بالحجة والبيان فهذا واجب مأمور به لكل من قدر عليه، في كل زمان وفي كل مكان وفي كل حال بحسبه، وقد أمر الله جل وعلا نبيه بذلك في مكة قبل أن يشرع الجهاد بالسنان فقال جل وعلا ?فَلَا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا?[الفرقان:52]؛ يعني جاهدهم بالقرآن، فهذا جهاد بالحجة والبيان وهذا يعم الأزمنة والأمكنة، ولا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، وهذه الطائفة دائمة قائمة بالجهاد بالحجة والبيان.
أما الثاني: وهو الجهاد بالسنان والجهاد بالسنان على قسمين:
· جهاد عيني.
· وجهاد كفائي.(15/163)
يعني إما أن يكون فرض عين وإما أن يكون فرض كفاية، والله جل وعلا أمر بالجهاد كما في هذا الحديث، وهذا الأمر يعني يكون مأمورا به إما أمر عين على من تعين عليه، أو أمر كفاية على عموم الأمة إذا نابها شيء احتاجت إلى الجهاد في سبيل الله، أو كانت الشروط مجتمعة في جهاد نشر الإسلام وإقامة توحيد الله جل وعلا وعبادته وحده دونما سواه.
ثم قال (وَالْهِجْرَةُ) والهجرة في النصوص قسمان:
¨ هجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
¨ والثاني هجرة مما سوى الله جل وعلا إلى الله جل وعلا وحده
والأول: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام كهجرة الصحابة من مكة إلى الحبشة، وكهجرة الصحابة أيضا من مكة إلى المدينة، وقد يعرض هذا في أنه يكون هناك هجرة من دار كفر قد تظهر بعد زمن النبوة أو قد ظهرت بعد زمن النبوة إلى دار يعلو فيها الإسلام، وأما قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية»، فالمقصود منه لا هجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح؛ لأنه بعد الفتح فمن كان في مكة بعد الفتح فقد أصبحت مكة دار إسلام، فمن كان فيها بعد الفتح فإنه يمكث فيها ولا يلزمه الهجرة إلى المدينة؛ بل يبقى فيها، ولا تزال مكة دار إسلام إلى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها حرسها الله وبلاد المسلمين.
وهذه الهجرة لها أحكام ولها شروط، وتفصيلها في مواضعه من كتب العلماء في العقيدة أو في التوحيد والفقه ولا نطيل في بيانها في هذا الموطن؛ لكن ننبه إلى أن الهجرة هذه من دار الكفر إلى دار الإسلام هي بشروطها، هي واجبة بشروطها.
وقد يكون ثم هجرة واجبة أخرى أيضا وهي من دار بدعة إلى دار سنة، أو من دار لا يستطيع فيها إظهار الدين إلى دار يستطيع فيها إظهار الدين؛ إلى دار يستطيع فيها أن يظهر دينه، وهذه تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة، ولها تفاصيل.(15/164)
كذلك إذا كان لا يستطيع البقاء في دار بدعة أو تظهر فيها البدع لأجل ما ينوب نفسه من الحزن أو من الضيق على ظهور البدع ولكنه يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلي أمر السنة؛ لكن يريد بلادا يأمن فيها أكثر ولا يعرض فيها دينه للفتن، فهذا يكون حكم الهجرة في هذا الحال مستحبة؛ لأنه يستطيع أن يظهر دينه والبلد أو الدار ليست دار كفر، وإنما هي دار فيها السنة وفيها البدع.
وثَم تفاصيل أخر تطلب من مظانه.
القسم الثاني: الهجرة مما سوى الله جل وعلا إلى الله جل جلاله ? فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ?[الذاريات:50]، بأن يهجر كل ما يُشغِل عن الله جل وعلا ويتجه ويهاجر إلى الله جل وعلا، ولهذا جاء في الحديث «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» وهذا يعمّ أشياء كثيرة تدل على أنَّ حقيقة الهجرة هجرة ما لا يحب الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، وهذه يختلف فيها الناس وتختلف مقاماتهم في ذلك بحسب عِظم محبتهم لله جل وعلا ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذه الهجرة مما سوى الله جل وعلا إلى الله جل وعلا وحده تكون في الاعتقادات، وفي عمل القلب، وفي كلام اللسان، وفي استعمال الحواس والجوارح، والأمر فيها عصيب، والفتن بعمومها إنما يبتلى الناس فيها في هذا المقام العظيم؛ هل هاجروا مما نهى الله جل وعلا عنه إلى ما أمر الله جل وعلا به، أم أنهم قصروا في ذلك؟ والتقصير يكون سببه ضعف المحبة وضعف الإيمان، ويكون أصحابه ممن خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.(15/165)
الخصلة الخامسة والأخيرة قال (وَالْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَراجِعَ)، قوله (وَالْجَمَاعَةُ) هنا أمر بالجماعة، والمراد هنا بالجماعة في هذا الحديث جماعة المسلمين في أبدانهم وأن لا يخرج عنهم ويفارق جماعة المسلمين في أبدانهم لأجل ما يترتب على ذلك من المفاسد التي نهى الله جل وعلا عنها.
وأصل الجماعة التي أمر الله جل وعلا بها -وضدها وهو الافتراق الذي نهى الله جل وعلا عنه- يشمل الاجتماع في الدين ويشمل الجماعة في الأبدان، إذِ الجماعة نوعان:
¨ جماعة الدين.
¨ وجماعة الأبدان.(15/166)
وكل منهما متعلقة بالأخرى فإذا تمت جماعة الدين أو الاجتماع على الدين الواحد دون تفرق في الإسلام دون تفرق في الدين فإنه يجتمع الناس في أبدانهم، وإذا اجتمعوا في أبدانهم فإنه أحرى أن يجتمعوا في دينهم؛ لأن الفرقة في هذا تنتج الفرقة في هذا ولابد، فمن فرق في دين الله فإنه يحصل بينهم الفرقة في الأبدان والبغضاء والشحناء والتقاذف وكراهة بعضهم لبعض، والاجتماع في الدين أمره عظيم بأن لا يُسلك غير طريق الجماعة الأولى وهي جماعة الصحابة والتابعين وتبع التابعين الذين لم تظهر فيهم البدع ولم تفشو فيهم الأهواء، وإنما وجدت وأنكرت، هؤلاء هم الذين كانوا على الجماعة الأولى، وإذا كان الأمر كذلك فإن لزم المر الأول هو طريق النجاة بيقين، وأما غيره من الإجتهادات فقصارى ما يصل إليه أصحابه أنهم يظنون أنه طريق نجاة، وقد يكون ظنهم غلطا وقد يكون ظنُّهم باطلا، وقد يعتري الظن بعض الصواب لكنه مظنون، ولهذا من سلك غير طريق الجماعة الأولى فإنه قد عرَّض نفسه لمخالفة الجماعة وإحداث الفُرْقة، وبالتالي يكون قد عرَّض نفسه للوعيد الذي جاء في قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في الافتراق «كلها في النار إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «هي الجماعة»، وهذا الأمر مهم وجلل، وكل من أراد نجاة نفسه فعليه أن يلزم الطريقة الأولى؛ لأن الطرق المحدثة ربما فيها خير وربما فيها شر، ولهذا لما سأل حذيفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن ذكر له الشر فقال له: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال «نعم وفيه دخن» قال: وما دخنه؟ قال «قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي تعرف منهم وتنكر»، قال: فما تأمرني؟ قال «أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»، قال: فإن لم يكون لهم جماعة ولا إمام؟ قال «فاعتزل تلك الفرقَ كلها» مع أنه قال فيها (تعرف منهم ونكر) قال «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على اصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك»، وفي(15/167)
رواية أخرى قال فيه: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال «نعم وفيه دخن» ثم فسر ذلك بأنهم قوم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويهدون بغير هدي المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو كما جاء في الحديث.
فإذن أمر الاجتماع على الدين والاجتماع في الأبدان هذا أمر عظيم جدا واحده ملازم للآخر، فالذي يريد النجاة فعليه بطريق الجماعة الأولى فإنها هي على الحق بإجماع المسلمين، حتى أهل البدع يقولون طريقة الصحابة والتابعين وطريقة السلف أسلم، فحتى في السلوك يقولون أسلم، حتى في الزهد يقولون أسلم، فهي باتفاق المسلمين هي أسلم؛ لأنها هي الطريقة التي أجمع عليها الناس؛ لكن دخلت اجتهادات أفسدت الأمر وفرَّقت المسلمين ومن اجتهدت فإنه يظن أنه على شعبة نجاة وقد لا يكون الأمر كذلك.
قال (فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ)، قوله (فَارَقَ الْجَمَاعَةَ) يعني فارق جماعة المسلمين في الدين أو في الأبدان، والأبدان هو المقصود هنا لارتباط الأوامر الخمسة هذه بعضها مع بعض، قال (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ) بمعنى أنه لم يدن بلزوم الجماعة، ولزوم طاعة الإمام وعدم الخروج عليه والنصيحة له فإنه من فارق الجماعة بهذا المعنى (قِيدَ شِبْرٍ)، (قِيدَ) بمعنى مسافة، وهو خلاف القَيْد، القَيْد هو القيْد المعروف وهو التكبيل أو التوثيق إما القِيد فهو المسافة ارتفعت الشمس قِيد رمح يعني مسافة رمح (قِيدَ شِبْرٍ) يعني مسافة شبر، وهذا كناية عن قلة المفارقة يعني فارق الجماعة ولو شبرا وجلس منفردا ولو شبرا واحدا بعيدا عن الجماعة قال (فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ)، وهذا من أحاديث الوعيد التي تُمَرُّ كما جاءت وفيها تهديد وتخويف للمسلم أن يفارق الجماعة بقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَراجِعَ).(15/168)
(خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ) هل يفهم من ذلك تكفيره؟ المعتمد عند أهل السنة أنه لا يفهم من ذلك تكفيره؛ ولكنه قد فعل أمرا عظيما وجللا أوجب أن يخلع الإسلام الذي يدعو إلى الاجتماع وعدم الافتراق من عنقه.
قال (إِلَّا أَنْ يَراجِعَ) يعني إلا أن يتوب لأنه من تابَ تاب الله عليه.
قال بعدها (وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم) قوله (وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) يعني دعا إلى أمر أبطله الإسلام، وكان مما تميز به أهل الجاهلية فإنه حينئذ من أهل الكبائر ومن أهل الوعيد، وتوعده بقوله (فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم).
وهنا قوله (دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) لها تفسيران:
التفسير الأول: أنها بما ذكرت لك من كل خصلة من خصال الجاهلية أبطلها الإسلام فيأتي أحد يدعو إليها، فهذه كما جاء في الحديث الذي مر معنا (أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ) وذكر منهم (وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ).
والتفسير الثاني: قوله (وَمَنْ دَعَا دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) أي تسمَّى بأسماء الجاهلية التي كانت تدعو إلى العصبية، وأرجع الناس إلى عصبيات الجاهلية وإلى فخرها إلى الآباء والقبائل، وهذا يُفرِّق ولا يجمع الناس على كلمة الإسلام واسم المسلمين واسم المؤمنين.
وهذان الصنفان معا توعدهم عليه الصلاة والسلام بقوله (فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم) ، و(جُثَا) لها ضبطان (جُثَى) هكذا بالقصر والثانية (فَإِنَّهُ من جُثِيِّ جَهَنَّم)، وهي القراءة المعروفة في آية سورة مريم ?وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جُثِيًّا?[مريم:72] بضم الجيم، وهذه مأخوذة من الجُثُو على الركب والعذاب على هذا النحو؛ يعني أنه ممن يكب في النار على وجهه وعلى ركبه ونحو ذلك.(15/169)
(فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ ؟ قَالَ: «وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ») وهذا يدل على عِظم هذه الكبيرة، وأنَّ أصحابها متوعدون بأشد الوعيد والعياذ بالله، ثم قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ آمرا (فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ) يعني تسموا بتسمية الله التي سماكم أو قال (الَّذِي سَمَّاكُمْ) وهذه التسمية هي (الْمُسْلِمِينَ والْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّه) يعني يا عباد الله، فالله جل وعلا سمى عباده المسلمين كما في قوله (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا)، وأيضا سماهم المؤمنين فيما نادهم به في القرآن ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا? وفي قوله ?واتقوا الله أيها المؤمنون لعلكم تفلحون? فسماهم بهذين الاسمين الشريفين الذي يجمع أعظم خصلتين وهما الإسلام والإيمان، وسيأتي نزيد بيان في كلام ابن تيمية رحمه الله.*******
ثم قال الإمام بعد ذلك (وفي الصحيح: « مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَمَاتَ فَمِيتَتُه جَاهِلِيَّةٌ») يعني أنه من فارق جماعة المسلمين جماعة الأبدان أقل افتراق وخالفهم وانحاز إلى غيرهم (فَمَاتَ فَمِيتَتُه جَاهِلِيَّةٌ) لأن أهل الجاهلية لم يكونوا يذعنون لولي أمر بل كانوا متفرقون في ذلك قد ذكر الإمام في خصال الجاهلية وهي ثالث خصلة فيما أورد أو من أوائل الخصال التي ذكر: السمع والطاعة. وقال فيها بعدها: وأبدى فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعاد. يعني كرر هذا الأمر لأجل أن لا يشابه أهل الجاهلية، حتى إن أهل الجاهلية لا تقر قبيلة بأن تكون سامعة مطيعة للقبيلة أخرى.(15/170)
ومن آثار ذلك لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجتمع المهاجرون والأنصار اجتمعت قريش يعني الصحابة ([13]) من قريش والصحابة من الأوس والخزرج على الإمارة، بدت فيهم إذْ ذاك نزعة من نزعات الجاهلية، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. وهذا يدلك على أن النفوس مُشْرَبَة بحب الفرقة وحب الاعتزاز بالنفس وبالميل إلى القبيلة وبالميل إلى القريب، وأن هذا الأمر مفرق للمسلمين ومفرق للجماعة، ولهذا كان من أعظم مواقف أبي بكر الصديق رضي اله عنه أنه ألزم الناس إذْ ذاك بحجته القوية أن تكون الوِلاية في قريش؛ لأنه ساق قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الأئمة من قريش» وقال: نحن الأمراء يعني وأنتم الوزراء، أو المستشارون. ونحو ذلك مما يكون فيه الأنصار مقربين لكن ليست لهم الولاية.
إذا تبين هذا فمن أعظم ما حدث في هذه الأمة من أول الأمر الافتراق، بداية الافتراق في الوِلاية بداية عدم الرضوخ للجماعة، بداية الاعتزاز بأشياء جاهلية، بدأت هذه في أول الأمر، ثم حصلت فُرقة الدين بعد نوازع فرقة الأبدان، فبدأت فرقة الأبدان في النفوس، ثم كان من نتائج ثم كان من نتائجها أن انحاز بعض الناس إلى من وجدوا فيهم من يسمع للأهواء، وألقوا فيهم الأهواء حتى حدثت بدعة الخوارج في عهد عثمان، وتجمعوا حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه باسم الدين وباسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعياذ بالله.(15/171)
ثم قال رحمه الله (وفيه «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»)، (وفيه) يعني وفي الصحيح، (أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ) يريد رحمه الله تعالى القصة التي حصلت بين غلام من المهاجرين وبين غلام من الأنصار؛ حيث اختلف الغلامان على شيء حتى اختصما وتشابكا فأراد المهاجري أن ينتصر بالمهاجرين وأراد الأنصاري أن ينتصر بالأنصار، فقال الغلام المهاجري: يا للمهاجرين. ينتخي بهم ويندبهم ويدعوهم لنصرته، وقال الآخر: يا للأنصار. يدعوهم لنصرته ويندبهم لنصرته، فلما سمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟) يعني أبتسمية الجاهلية وبسنة الجاهلية وأنا لا أزال حيا بين أظهركم، وهذا فيه التغليظ والإنكار الشديد على ذلك، وهذا يدل على أن الاسم إذا تُعُصِّب له فإنه مذموم، حتى ولو كان الاسم اسما شرعيا فكيف بالأسماء المحدثة كما سيأتي بيانه.
(قال أبو العباس) يعني به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني رحمه الله تعالى من الأئمة الصالحين السابقين الذين نصروا الإسلام بالرد على أهل البدع وبنشر السنة ولفت النظر إلى لزوم متابعة الدليل عليه رحمة الله ورضوانه، قال(كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم مهاجريٌّ وأنصاري فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار! قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟»، وغضِب غضباً شديداً. انتهى كلامه رحمه الله تعالى)(15/172)
وهذا الكلام من نفيس كلام أهل العلم الذين تفقهوا في النصوص وعلموا مدارك السلف في فهم الأدلة وعلموا حدود ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن العلم النافع كلما زاد في حق العبد كلما زاد في العبد المؤمن زاده بصيرة في دينه وبصيرة فيما حوله حتى لا يلتبس عليه الحق بالباطل، والله جل وعلا قال في وصف نبيه؛ بل قال آمرا نبيه عليه الصلاة والسلام ? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي?[يوسف:108]، وهو عليه السلام (عَلَى بَصِيرَةٍ) يعني على إدراك تام وعلم كامل بأمر الدين وأمر الدعوى التي يدعو إليها، وكذلك من اتبعه في الدين وكان على هديه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فهو على بصيرة، وأهل البصيرة ناجون، وشيخ الإسلام ابن تيمية كغيره من الأئمة الأعلام الذين رفعوا راية السنة، ونصروا مذهب السلف الصالح نصيحة للأمة وطاعة لله جل وعلا ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هؤلاء لا يكتمون نصيحة للعباد؛ بل يؤدونها لهم، وقد لاقوا ما لاقوا في زمنهم من أنواع الابتلاء لكن بقي كلامهم ينفع؛ لأنه من مشكاة الكتاب والسنة وليس فيه هوى وليس فيه خروج عن طريقة الجماعة الأولى وصراط السلف الصالح رضي الله عنهم.
وهذا الكلام من الكلام الجزيل المفيد غاية الفائدة، قال (كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن) يعني كل تسمية خرجت عما سمَّى الله جل وعلا بها عباده في القرآن أو عن تسمية الإسلام، قال (من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية) فكل تسمية حينئذ تكون من عزاء الجاهلية، ومن دعا بدعوى الجاهلية فإنه متوعد.(15/173)
قال(من نسب) كأن يُخرج عن اسم المسلمين واسم المؤمنين إلى اسم يُنتسب إليه إلى قبيلة فلانية من القبائل كقريش مثلا أو الأوس أو الخزرج أو تميم أو [سُبيع] أو أي قبيلة من القبائل الموجودة فهذه كلها خارجة عن دعوى الإسلام، سيأتي تفصيل الكلام عما يجوز وما لا يجوز من ذلك.
فإذا خُرج عن دعوى الإسلام إلى نسب يوالى ويعادى فيه وينصر صاحبه ولا ينصر الآخر؛ بل يظلم لأجل النسب ولا يقام لاسم الإسلام ما يستحقه مما أمر الله جل وعلا به فإنه حينئذ من عزاء الجاهلية.
قال (أو بلد) يعني أن تكون النسبة إلى بلد من البلاد تعز ويوالى عليها ويعادى كما ينسب مثلا يقال مصري شامي سُعودي يماني كويتي مغربي إلى آخره، ويكون يوالي ويعادي على هذه الأسماء فإن هذا من عزاء الجاهلية.
قال (أو جنس) جنس يوالي على جنس العرب فقط، أو جنس البربر فقط، أو جنس من الأجناس الموجودة في الأرض فقط، ولا يقيم لاسم الإسلام ولا لدعوى الإسلام مقامها، فيوالي من والى هذا، ويعادي من عادى هذا، وهي القوميات التي انتشرت في الزمان الأخير، هذه كلها من عزاء الجاهلية.
قال (أو مذهب) هذا المذهب سواء أكان مذهبا عقديا أو مذهبا فقهيا أو مذهبا سلوكيا.
المذهب العقدي: مثل المعتزلة الخوارج الإرجاء، ونحو ذلك من المذاهب العقدية التي جاءت تسميتها بعد مُضِي الجماعة الأولى.
أو كان مذهبا فقهيا: حنبلي شافعي حنفي مالكي ظاهري إلى آخره.
أو كان مذهبا سلوكيا: أو صوفيا كما يسمى ونحو ذلك مثل الطرق المختلفة في الصوفية التي تعزى كل فرقة إلى صاحبها؛ قادرية نقشبندية شاذلية إلى آخره.
فهذه كلها من النِّسب التي هي من عزاء الجاهلية إذا تجاوزت التعريف إلى اعتقاد صحة ما عليه أهلها في كل شيء، كما سيأتي تفصيلها.(15/174)
قال (أو طريقة من الطرق) مهما كانت، (مذهب أو طريقة من الطرق) مهما كانت سواء كانت طريقة كما ذكرنا في الأول طريقة صوفية أو كانت طريقة دعوية أو كانت حزبية أو سياسية إلى آخره، فإن هذا كله كان عند أهل الجاهلية فجاء الله جل وعلا بالإسلام وأبطل كل عزاء جاهلية إلا ما كان فيه اسم المسلمين والمؤمنين.
إذا تبين ذلك فإننا نقول إن هذه التسميات الحادثة في هذه الأمة بأنواعها سواء أكانت بنسب أو قبيلة أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فإن الأحوال فيها ثلاثة:
الحال الأولى: أن تكون ممدوحة.
والحال الثانية: أن تكون مذمومة.
والحال الثالثة: أن تكون مباحة.
أما الحال الأولى: وهي أن تكون ممدوحة فهي إذا كانت التسميات من التسميات التي تميز المسلمين بما نُصَّ في الكتاب والسنة على حسنه على اعتباره، فالله جل وعلا سمى المسلمين باسم الإسلام والإيمان.
وكذلك وصْف مثلا المتقين مع أن فيها تزكية.
كذلك وصف بالأبرار مع أن فيها تزكية، ونحو ذلك، فهذه تسميات هي من قبيل الأوصاف لاسم المسلم واسم المؤمن، وكل مسلم لديه تقوى بحسبه، وكل مؤمن لديه تقوى وبر بحسبه.(15/175)
وكذلك ما جاء بالوصف كلزوم السنة والجماعة، فاسم السنة واسم الجماعة هذه من الأسماء التي جاءت في الأحاديث وأصلها في القرآن، ولهذا يسمى خاصة أهل الإسلام أهل السنة والجماعة؛ لأنهم لزموا سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولزموا الجماعة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أذن بهذه التسمية بقوله في حديث الافتراق قالوا: من هم؟ قال «هي الجماعة»، من هي؟ يعني الفرقة الناجية، فقال (هي الجماعة)، وفي ورواية أخرى قال «هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، وقال «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، ولذلك أئمة السلف وأهل الحديث أقاموا هذا الاسم مقام الأسماء المحدثة، فلما تفرقت الأسماء وتعددت رجعوا إلى الاسم الذي يميز أهل الإسلام المتمسكين بالأمر الأول عما عداهم؛ لأنهم بين أمرين:
¨ إما أن يسلبوا اسم الإسلام عن أصحاب الأهواء المحدثة، وهذا ليس بصحيح لأنهم مسلمون.
¨ وإما أن يصفوا من كان على الإسلام الأول باسم يُخَصُّون به ويكون منصوصا عليه في الأدلة، فهذا يكون سائغا.
وهذا إجماع منهم على أن من كان على الأمر الأول فإنه يسمى مثلا أهل السنة والجماعة، أو قد يقال أهل الحديث؛ لأن السنة هي الحديث، أو يقال مثلا أهل الأثر أو أتباع السلف ونحو ذلك، هذه كلها في معنى واحد؛ لأنها ترجع بالأمر إلى ما كانت عليه الجماعة الأولى التي نص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أنها ناجية، فهذه تسمية مأذون بها كما ذكرت لك. هذه تسمية ممدوحة.(15/176)
القسم الثاني: الأسماء والدعاوى المذمومة، وهذه مما حدث في الأمة من ألهواء المختلفة التي اتخذت لنفسها اسما يخالف اسم الذي كان عليه الصحابة كالخوارج والمرجئة المعتزلة وأشباه ذلك؛ لأنهم يدعون إلى ذلك ويرون أنهم على صواب فيه، وربما سموا أنفسهم أهل السنة والجماعة بأحد الاعتبارات، وكل تسمية فيها إشارة لمذهب يشتمل على باطل في العقيدة أو باطل في السلوك فإن التسمية في نفسها مذمومة ولو لم يقترن بها شيء آخر، فكيف إذا اقترن بها التعصب أو اقترنت بها بدع أخرى أو أهواء أخر؟ لهذا فإن الأصل أن لا يخرج عن دعوى الإسلام كما قال شيخ الإسلام هنا، وكل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن فهو من عزاء الجاهلية إلا ما أذن به مما ذكرت أو سنذكر.
فإذن هذه التسميات كلها باطلة وهي تقول إنها من عزاء الجاهلية؛ لأنها تفرِّق مثل الطرق الصوفية المختلفة الأسماء.
ويدخل فيها أيضا الأسماء المحدثة للجماعات الإسلامية بأنواعها التي جعلت لها اسما يصدق عليه أنه اسم لحزب يميز هذا الحزب عن غيره، كحزب التحرير مثلا، وكحزب الإخوان المسلمين، وكجماعات أخر تظهر في بلد دون بلد، فهذه تسميات محدثة وهي مذمومة؛ لأن الاسم في نفسه مشتمل على دعوى تفرِّق المسلمين وتنصر من كان في هذا الحزب دون غيره.
ولهذا نقول إن هذه الأسماء المحدثة، الجماعات مثلا الإسلامية للأحزاب على نوعين:
¨ منها ما هو للتعريف.
¨ ومنها ما هو للتنظيم.
فما كان منه للتعريف فالأصل في باب التعريف في الأسماء أنه واسع، مثل ما سيأتي في الأسماء المباحة تفصيله عن شاء الله تعالى.(15/177)
وأما ما كان من قبيل التنظيم وأن يوالى فيه ويعادى ويُتعصب له دون غيره ويُنصر صاحبه دون غيره، فهذا لاشك أنه من عزاء الجاهلية، وأعظم منه انتصار المهاجري؛ يعني أعظم مما رغبوا فيه انتصار المهاجري باسم شرعي وهو (المهاجرون) وانتصار الأنصاري لاسم شرعي وهو (الأنصار) ومع ذلك لما انتصر لاسم ولأهله دون غيرهم فصار من دعوى الجاهلية بنص كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذا كان الأمر في الأسماء المحدثة وانتصر لها ودُوفع عنها دون غيرها؛ بل ربما حُورب غير من كان معهم من المسلمين مع أنهم على طاعة وعلى خير فإن هذا يدخل في دعوى الجاهلية وعزاء الجاهلية من باب أولى.
والمتأمل اليوم ينظر إلى أن واقع الجماعات الإسلامية بعامة في الأسماء أنَّ هذه التسميات لو كانت للتعريف فقط لكان الأمر أسهل؛ لكنها ليست للتعريف بل هي للدلالة على الحزب أو على التنظيم، ولكي يتعارف أصحابها فيما بينهم، فتجد أن المسلم مثلا يذهب اليوم إلى بلد من البلاد فتجد أن أصحاب الحزب المعين يسألون هذا من أي فئة أي جهة إلى آخره، فإذا كان أثني عليه أنه كان من داخل هذه الجماعة أو من أهل الحزب أو أنه متعاطف معهم تبنوه وإن لم يكن بذاك، وإذا كان عالما جليلا وليس من تلك الفئة فإنهم يرفضونه ويتواصون برفضه مع أنه عنده علم كثير أو قد يكون عنده علم كبير بكلام الله جل وعلا وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا جاءت مشكلة أو جاءت منافَسة على شيء فإنهم يجتمعون على ذلك الاسم ويتعصبون له دون غيره.
والذي نظر فيما أحدثته الحزبيات والأسماء في أقرب شيء إلينا وهو ما حصل في أفغانستان في العشرين سنة الماضية بجد ذلك ماثلا في أن وجود الأحزاب والأسماء فيه لم تكن للتعريف، وإنما كانت للاجتماع عليها التعصب لها دون غيرها، فلما خرج العدو ونصر الله عباده ظهرت المفاسد الأخرى للتعصب المذموم للحزبيات هذه في أن الله أوقع المسلمين فيما بينهم.(15/178)
وهذا كله يدل على أن كل مخلص لله جل وعلا ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل مخلص لدين الإسلام وكل راغب في رفع راية الإسلام يوجب أن لا يُتعصب لاسم دون اسم الإسلام؛ بل يكون التعامل مع المسلمين على اسم الإسلام ما داموا على التوحيد، ولم يكونوا من أهل الشرك الأكبر، فإذا كان كذلك قَرُبت.
ومن المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن كل مسلم يوالى بحسب ما عنده من الإسلام وبحسب ما عنده من الإيمان، فوَلاية المسلم للمسلم تتبعض بقدر ما عنده تحقيق الإسلام وتحقيق الإيمان، وهذا هو نظر السلف في الشرع، فيما تعاملوا به مع الناس.
أما الولاء والبراء والحب والبغض والمكايد ونحو ذلك مما يحصل فهذا كله من فهل الجاهلية وأثر من آثار التسميات التي لا يقرها أهل الحق البتة.
فإذن نصل من ذلك إلى أن الأسماء المذمومة هذه في الجماعات أو في غيرها يجب على كل مخلص أن يسعى إلى أن لا تبقى في الناس؛ بل أن يبقى المؤمنون إخوة يبحثون على الحق في كتاب الله جل وعلا وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي هدي السلف الصالح، فلو زالت هذه الشعارات وهذه الأسماء لزالت الشحناء من النفوس و لاجتمع هذا الكم من المؤمنين على كلمة سواء وجاهدوا في الله حق جهاده ولحصل .... جل وعلا بها إذا اجتمع العباد على كلمته.
أما إذا رضينا بعزاء الجاهلية وبهذا الموجود فالله المستعان، وأنتم تنظرون هذا -وقلَّ من يتخلص منه- وواجب على العبد أن يكون الأمر بينه وبين ربه جل وعلا وأن يخلص نفسه من الهوى وأن ينظر لكل مؤمن بميزان اسم الإسلام والإيمان، وأن يكون ميزانه هو ميزان أهل السنة والجماعة في ذلك، وألا يكون الميزان ميزان أحزاب أو ميزان تنظيمات، أو أن هذا من هؤلاء أو ليس منهم، ونحو ذلك من الأسماء.(15/179)
كذلك مما يجب على عباد الله المؤمنين، ألا يحدثوا أسماء تزيد من الافتراق، وهذا حصل ويحصل في كل زمن من أنه إذا تباغضت فئتان لمز هؤلاء باسم، والآخرون سموا أولئك باسم، فنشأت فرق جديدة أو نشأت جماعات أو نشأت مذاهب أو أفكار جديدة زادت من فرقة المسلمين، ومن قواعد أهل السنة والجماعة أنَّ البدعة لا ترد ببدعة، والغلط لا يرد بغلط؛ بل يصبر، حتى الإنسان إذا أعتدي عليه ونيل منه يصبر ويحتسب عند الله جل وعلا، ولا يقابل الباطل بباطل أو يقابل التسمية بتسمية، أو يقابل البدعة ببدعة؛ لأن هذا يفرق أكثر وأكثر ولا تجمع النفوس، وقد جُرِّب ذلك وجد أن انتصار الناي للأسماء أعظم من انتصارهم للحق، وقلَّ من ينتصر للحق المجرد؛ ولكنه إذا جاء الاسم فإنه يتحرك أكثر وأكثر، وجرِّب هذا في أنه يذكر اسم أهد من المعظمين عند أي فئة من الفئات، يُذكر بشيء مما قد لا يليق أن يذكر به لكن -يعني من باب المثال- فستجد أنه يتعصب له وينتصر له أعظم مما لو خولفت مسألة شرعية أو وقع الناس في منكر أو في باطل، وهذا من استيلاء عزاء الجاهلية على النفوس، وهذا كثير في كل بلاد المسلمين بلا استثناء والله المستعان.
لهذا الواجب على كل مخلص أن يسعى إلى أن يجمع الناس على كلمة سواء فيها تحكيم الكتاب والسنة واتباع طريقة السلف وإلغاء الأسماء، وعدم إحداث التعصبات التي قد تثير الناس وتفرق عن الاجتماع، وكل ناصح لابد أن يسعى في ذلك.
وأما إذا أقررنا في أي بلد كان هذه التسميات وسعينا فيها، أو أن أهلها رضوا بها، فإن الواقع لن يكون سارا لنا وأمامنا تجارِب كثيرة دلت على أن الفرقة لا تأتي بخير كما قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «الفرقة عذاب»، وهي الآن الناس في سعة والتراجُم بالكلام؛ لكن لا ندري ما المستقبل وربما تحول التراجُم بالكلام إلى تراجم بغيره كما حدث في بعض البلاد.(15/180)
لهذا أوصي طلاب العلم ممن يسمعني الآن أو فيمتا نستقبل أوصيهم على أن يجمعوا الناس على تقوى الله جل وعلا، وعلى لزوم الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح، وأنَّ إلزام الناس أو دعوتهم إلى الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح يجب أن تكون متخلِّصة من التنابز بالألقاب ومن القدح ومما يجعل النفوس تثور فيها ثوائر الجاهلية، ويثور فيها الغضب الباطل والحمية حمية الجاهلية بعد أن أذهب الله جل وعلا عنا ذلك، وإذا رضينا بما نحن عليه فإننا نرضى بغير الحق، وواجب أن يبرئ الإنسان ذمته تجاه ذلك وألا يخوض فيما يحب الله ويرضى.
النوع الثالث: التسميات المباحة، التسميات المباحة هذه كل اسم أحدث وكان للتعريف، وليس للموالاة والمعاداة فيه أو للتعصب عليه، وأصل الإباحة في ذلك من الله جل وعلا سمى المهاجرين مهاجرين وصار هذا الاسم باقيا عليهم، وسمَّى الأنصار كذلك والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نادى قريشا باسمها، ونادى القبائل باسمها؛ بل جعل في الحروب كل قبيلة لها جناح من الجيش ليكون ذلك أدعى باجتهادهم وجهادهم لأعداء الله جل جلاله.
وهذا كله للتعريف فإذا كانت الأسماء للتعريف فلا حرج في التعريف، سواء كانت النسبة هذه أو الأسماء لنسب لأسماء القبائل للتعريف هذا قال الله جل وعلا ?وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا?[الحجرات:13]، التعريف لا بأس به بأي صفة كانت.
وكذلك إذا كانت النسبة لمذهب من المذاهب مما لا يشتمل في نفسه على باطل؛ يعني أن يكون مؤسَّسا على باطل، كالنسبة مثلا للمذهب الحنبلي، النسبة للمذهب الشافعي، مذهب المالكية، مذهب الحنفية، مذهب الظاهرية ونحو ذلك، فهذه مذاهب للتعريف.
كذلك ما نسب إلى مذهب معين، قال هذا فلان كذا بالنسبة إلى بلد أو إقليم أو نحو ذلك أو جنس، هذا للتعريف الأمر فيه واسع.
كذلك الطرق المختلفة والجمعيات أو الجماعات إذا كانت للتعريف فلا بأس بذلك.(15/181)
وخذ مثلا على ذلك جماعات تحفيظ القرآن الكريم في هذه البلاد المباركة، موجودة باسم الجماعة ولا تشتمل على موالاة ومعاداة على من فيها وعلى من ليس فيها، وذلك أن الاسم للتعريف ليس إلا ولتنظيم العمل، وهذا أمر سائغ؛ لأن الله جل وعلا أذن بالأسماء خلاف اسم المسلمين والمؤمنين.
وهذه الأسماء في نفسها إذا تحولت إلى تعصب وموالاة ومعاداة، فإنه يجب إبطال هذا التعصب وهذه الموالاة والرجوع إلى الأصل في ذلك.
فإذا مثلا أتى أتباع المذهب الشافعي وأتباع المذهب المالكي وتعصبوا لأنفسهم ضد مذهب آخر لينتصروا لمذهبهم، كان هذا من عزاء الجاهلية.
وكذلك إذا أراد أهل قبيلة ما أن ينتصروا لقبيلتهم ضد قبيلة أخرى كان هذا بمجرد الاسم كان هذا من عزاء الجاهلية.
كذلك كل ما يتصل بهذه الأسماء المباحة لو أرادوا أن ينتصروا للاسم وأن يوالوا ويعادوا عليه وأن يُضعفوا اسم الإسلام أو أثر الإسلام والإيمان هذا كله من آثار الجاهلية في ذلك.
لعل في ما ذكرنا إشارات إلى أصول هذه المسائل، وقد بيَّن هذه الأصول شيخ الإسلام ابن تيمية، وبينها غيره أيضا، ويمكن أن يراجع مثلا كتاب اقتضاء الصراط المستقيم أو نحوه من الكتب التي فيها مخالفة أهل الجاهلية ومخالفة أهل الجحيم.
سلك الله بي وبكم صراطه المستقيم، والزمنا طريق السلف الصالحين، وجعلنا ممن تخلَّص من هواه ولزم الحق في قوله وعمله، إنه سبحانه جواد كريم.
صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. ([14])
?????
[المتن]
باب وجوب الدخول في الإسلام كله وترك ما سواه
وقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً?[البقرة:208].
وقوله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِك?[النساء:60].
وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ?[الأنعام:159].(15/182)
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ?يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ?[آل عمران:106]: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل البدع والاختلاف.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً» قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» وليتأمل المؤمن الذي يرجو لقاء الله، كلام الصادق المصدوق في هذا المقام خصوصاً قوله: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» يالها من موعظة لو وافقت من القلوب حياة! رواه الترمذي، ورواه أيضاً من حديث أبي هريرة وصححه، ولكن ليس فيه ذكر النار، وهو في حديث معاوية عند أحمد وأبي داود وفيه: «أَنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلَبُ بِصَاحِبِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ»، وتقدم قوله: «وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ».
?????
باب ما جاء أن البدعة أشد من الكبائر
وقوله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48].
وقوله: ?فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ?[الأنعام:144].(15/183)
وقوله تعالى: ?لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ?[النحل:25].
وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في الخوارج: «أينما لقيتموهم فاقتلوهم، لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد».
وفيه أنه: «نهى عن قتل أمراء الجور».
وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رجلاً تصدق بصدقة ثم تتابع الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ». رواه مسلم.
وله مثله من حديث أبي هريرة ولفظه: «من دعا إلى هدى، ثم قال: ومن دعا إلى ضلالة».
?????
باب ما جاء في أن الله احتجز التوبة على صاحب البدعة
هذا مروي من حديث أنس ومن مراسيل الحسن، وذكر ابن وضاح عن أيوب قال: "كان عندنا رجل يرى رأياً فتركه فأتيت محمد بن سيرين فقلت: أشعرت أن فلاناً ترك رأيه؟ قال: انظر إلى ماذا يتحول؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله. «يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه». وسئل أحمد بن حنبل عن معنى ذلك فقال: لا يوفقون للتوبة.
?????
باب قول الله تعالى:?يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ? إلى قوله: ?وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?[البقرة:135]
وقوله: ?وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ?[البقرة:130].(15/184)
وفيه حديث الخوارج وقد تقدم. وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنّ آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما أوليائي المتقون»، وفيه أيضاً عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر له أن بعض الصحابة قال: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أُقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللًّحْمَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». فتأمل! إذا كان بعض الصحابة أراد التبتل للعبادة قيل فيه هذا الكلام الغليظ وسمي فعله رغوباً عن السنة فما ظنك بغير هذا من البدع؟ وما ظنك بغير الصحابة؟.
?????
باب قول الله تعالى: ?فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ?[الروم:30]
وقوله تعالى: ?وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[البقرة:132].
وقوله تعالى:?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:123].
وعن ابن مسعود- رضي الله عنه - أن رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلَاةً مِنْ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمُ أَبِي إِبْرَاهِيم وَخَلِيلُ رَبِّي» ثُمَّ قَرَأَ:? إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ? رواه الترمذي.(15/185)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُم وَلاَ إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ».
ولهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، ولَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي حَتَّى إِذَا أَهْوَيْتُ لِأُنَاوِلَهُمْ اخْتُلِجُوا دُونِي فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَصْحَابِي! فيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ».
ولهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا» قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ» فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا».(15/186)
وللبخاري: «بَيْنَا أَنَا قَائِمٌ إِذَا زُمْرَةٌ حَتَّى إِذَا عَرَفْتُهُمْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْنِي وَبَيْنِهِمْ فَقَالَ هَلُمَّ فَقُلْتُ أَيْنَ قَالَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهِ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهُمْ قَالَ إِنَّهُمْ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ الْقَهْقَرَى ثُمَّ إِذَا زُمْرَةٌ -فذكر مثله- قال: فَلَا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ».
ولهم في حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- فأقول كما قال العبد الصالح: { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المائدة:117].
ولهما عنه مرفوعاً: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ حَتَّى تَكُونُوا أَنتُمْ تَجْدَعُونَهَا» ثم قرأ أبو هريرة - رضي الله عنه - { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم:30] متفق عليه.(15/187)
وعن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ»، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ! فِتْنَةٌ عَمْيَاْء، وَدُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، فَقَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ». أخرجاه. وزاد مسلم: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مَعَهُ نَهْرٌ وَنَارٌ فَمَنْ وَقَعَ فِي نَارِهِ وَجَبَ أَجْرُهُ وَحُطَّ وِزْرُهُ وَمَنْ وَقَعَ فِي نَهْرِهِ وَجَبَ وِزْرُهُ وَحُطَّ أَجْرُهُ»، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ هِيَ قِيَامُ السَّاعَةِ». قال أبو العالية: "تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تنحرفوا عن الصراط يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم وإياكم وهذه الأهواء ". انتهى.(15/188)
تأمل كلام أبي العالية –رحمه الله تعالى – هذا ما أجله وأعرف زمانه الذي يحذر فيه من الأهواء التي من اتبعها فقد رغب عن الإسلام، وتفسير الإسلام بالسنة، والإسلام وخوفه على أعلام التابعين وعلمائهم من الخروج عن السنة والكتاب، يتبين لك معنى قوله تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ } [البقرة:131]. وقوله: { وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [البقرة:132] وقوله تعالى: { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة:130]، وأشباه هذه الأصول الكبار التي هي أصل الأصول والناس عنها في غفلة وبمعرفتها يتبين معنى الأحاديث في هذا الباب وأمثالها، وأما الإنسان الذي يقرأها وأشباهها وهو آمن مطمئن أنها لا تناله ويظن أنها في قوم كانوا فبادوا. { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [لأعراف:99].
و عَنْ ابن مَسْعُودٍ قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا خَطًّا ثُمَّ قَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ»، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ»، ثُمَّ تَلَا: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام:153]». رواه أحمد والنسائي.
?????
باب ما جاء في غربة الإسلام وفضل الغرباء
وقول الله تعالى: ?فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ?[هود:116].(15/189)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -مرفوعاً: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». رواه مسلم وأحمد من حديث ابن مسعود وفيه: "من الغرباء؟" قال: «النُّزَّاعُ مِنَ القَبَائِل». وفي رواية: «الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاس»، وللترمذي من حديث كَثِير بن عبد الله عن أبيه عن جده: «طُوبَى لِلْغُرَبَاء الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي».
وَعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ فَقُلْتُ لَهُ: "يَا أَبَا ثَعْلَبَة!كَيْفَ تَقُولُ فِي ِهَذِهِ الْآيَةِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة:105] ؟"، فَقَالَ: "أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّابِرُ فِيهِنَّ كَالْقَابِْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» قلنا: "مِنَّا أَمْ مِنْهُمْ؟"، قَالَ: «بَلْ مِنْكُمْ». رواه أبو داود والترمذي.(15/190)
وروى ابن وضاح معناه من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - ولفظه: «إن بعدكم أياماً الصابر فيها المتمسك بمثل ما أنتم عليه اليوم؛ له أجر خمسين منكم»، قيل: يا رسول الله منهم؟ قال: «بل منكم». ثم قال: أنبأنا محمد بن سعيد أنبأنا أسد قال سفيان بن عيينة عن أسلم البصري عن سعيد أخي الحسن يرفعه، قلت لسفيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قال: «إنكم اليوم على بينة من ربكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في سبيل الله، ولم تظهر فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة حب العيش، وستحولون عن ذلك فلا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر، ولا تجاهدون في الله، وتظهر فيكم السكرتان، فالمتمسك يومئذٍ بالكتاب والسنة له أجر خمسين» قيل: منهم؟ قال: «لا بل منكم».
وله بإسناد عن المعافري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك ويعملون بالسنة حين تطفأ».
?????
باب التحذير من البدع
عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّه كَأَنَّهَا موعظة مودع فأوصنا، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». قَالَ الترمذي: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وعن حذيفة قال: "كل عبادة لا يتعبدها أصحاب محمد فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم". رواه أبو داود.(15/191)
وقال الدارمي: أخبرنا الحكم بن المبارك أنبأنا عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - فقال: "أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إني رأيت في المسجد آنفاً أمراً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة، فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟ ثم مضى، ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ فقالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعد بها التكبير والتهليل والتسبيح، فقال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة محمد - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تُبل، وآنيته لم تكسر والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم؛ وأيم الله لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج. والله المستعان وعليه التكلان.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
?????
تم بحمد الله
---(15/192)
([1])انتهى الوجه الأول من الشريط الأول.
([2])انتهى الشريط الأول.
([3]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.
([4])هود:7، الملك:2.
([5]) انتهى الشريط الثاني.
([6]) الشيخ يقصد آخر تفسير.
([7]) انتهى الوجه الأول من الشريط الثالث.
([8]) انتهى الشريط الثالث.
([9]) انتهى الشريط الرابع.
([10]) انتهى الوجه الأول من الشريط الخامس.
([11]) قارن هذا الكلام بما جاء في شرح مسائل الجاهلية للشيخ صالح آل الشيخ تحت: المسألة السادسة والعشرون.
([12]) انتهى الشريط الخامس.
([13]) انتهى الوجه الأول من الشريط السادس.
([14]) انتهى الشريط السادس وهذا أخر هذا الشرح المبارك نفع الله وبه.(15/193)
كتاب أصول الإيمان
لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب
- رحمه الله تعالى-
بشرح الشيخ : صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
إعداد : أبو عبد الله اليماني
أصول الإيمان لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
شرح الشيخ : صالح آل الشيخ
بدأ الشرح : 10/7/1417هـ وانتهى : 29/12/1419هـ
قال الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
( باب معرفة الله عز وجلَّ والإيمان به )
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : (( أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ )) رواه مسلم
الشرح : هذا الكتاب كتاب أصول الإيمان جمع فيه الإمام المجدد رحمه الله الأحاديث التي في الإيمان: ( الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وما يتصل بذلك من الأمور ) فهو جمع أحاديث متنوعة أصول في هذا المبحث العظيم مبحث الإيمان .
والإيمان أركانه ستة ( كما هو معلوم ) الركن الأول : هو الإيمان بالله .
والإيمان بالله ثلاثة أقسام :
1- إيمان بربوبية الله بأنه واحد جل وعلا في ربوبيته لا شريك معه .
2- إيمان بألوهية الله وأنه واحد في إلاهيته . يعني : في استحقاقه للعبادة لا ندَّ له .
3- إيمان بالأسماء والصفات وأنه سبحانه واحد في أسمائه وصفاته لا مثيل له .
والشيخ رحمه الله هنا يذكر من الأحاديث الآن ما يرجع إلى كل واحدة من هذه لينبه على أصول الإيمان .
فذكر حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء .......) وهذا يفيد فوائد في الإيمان :(16/1)
1- توحيد الربوبية . إذ قوله :( أنا أغنى الشركاء عن الشرك ) وذلك لكمال ربوبيته سبحانه وانفراده بها ، فلكونه الرب وحده هو أغنى الشركاء عن الشرك ، إذ الإشراك به جل وعلا باطل لأنه هو الرب وحده دونما سواه .
2- وقوله : ( من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري ) : هذا فيه توحيد الإلهية . ( وهذا مبسوط في شرح كتاب التوحيد وغيره ) والمقصود التنبيه على أن الحديث يدل على نوعين من التوحيد ، توحيد الربوبية وتوحيد الألهية . وبه يصلح الاستشهاد على تفسير الإيمان بأنه الإيمان بالله يعني : بربوبيته وبألوهيته .
عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ النَّارُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ وَلَمْ يَقُلْ حَدَّثَنَا حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ خَلْقِهِ وَقَالَ حِجَابُهُ النُّورُ )) . رواه مسلم .(16/2)
الشرح : هذا الحديث شروع من الشيخ رحمه الله في بيان الصفات وذكر أحاديث الصفات داخل في الإيمان بالله لأن الإيمان بالله : إيمان بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات . فكل حديث فيه ذكر للأسماء والصفات للحق جلَّ وعلا فهو مسوق يساق في باب الإيمان بالله . وهذا يدل على أن أحاديث الصفات هي أحاديث الإيمان بالله جل علا إذ بمعرفة الحق جل وعلا والعلم بأسمائه وصفاته والإيمان به . فإيماننا بالحق جل وعلا إيمان عن علم بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله وكريم أفعاله سبحانه وتعالى .
وقوله هنا : ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ) : لا ينام لكمال قيوميته وكمال حياته سبحانه وتعالى . فهذا النفي مقصود به كمال ضده . ( على قاعدة : أن النفي المحض ليس كمالاً ) ، فإذا جاء نفي في الكتاب والسنة فيقصد به إثبات كمال الضد ، فضد النوم : الحياة والقيومية . لهذا نقول في قوله : ( إن الله لا ينام ) فيها : إثبات كمال حياة الله جل وعلا وكمال قيوميته . ولهذا في آية الكرسي قال سبحانه وتعالى : (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255)
،ولكمال حياته جل وعلا ولكمال قيوميته جل وعلا ( لا تأخذه سنة ) غفلة ولا فتور ولا إعراض (ولا نوم ) لا يشغله سبحانه وتعالى عن قيوميته شأن عن شأن .(16/3)
وقوله : ( يخفض القسط ويرفعه ) المقصود بالقسط هنا : الميزان . لقوله جل وعلا : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ )(الانبياء: من الآية47) ، وظاهره : أن الله جل وعلا يخفض الميزان ويرفعه كما يليق بجلال الله جل وعلا .
قوله : ( لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) هذا تعليق بكل شيء لأن القسمة قسمان : الله جل وعلا شيء ومخلوقاته شيء آخر وليس ثم قسم ثالث . الله جل وعلا ومخلوقاته ، فما هو ليس من الله جل وعلا فهو مخلوق من العرش وحملته إلى آخر ملكوت الله سبحانه وتعالى . فلو كشف الحجاب سبحانه وتعالى لأحرقت سبحات وجهه – النور القوي – لأحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه يعني : كل الخلق لأن بصر الحق سبحانه وتعالى ليس له حد ولا نهاية متعلق بجميع المخلوقات .
فقوله : ( ما انتهى إليه بصره من خلقه ) يعني : كل شيء . وبصره وسع المخلوقات جميعاً ، بمعنى : أحرق كل شيء تبارك ربنا وتعالى وتقدس .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : (( إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْفَيْضُ أَوْ الْقَبْضُ يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ)) . أخرجاه .(16/4)
الشرح : هذا فيه إثبات صفة اليد لله جل وعلا بل إثبات صفة اليدين للحق تبارك وتعالى . والحق جل وعلا ثبت له هاتين الصفتين كما قال : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ )(المائدة: من الآية64)، وقال سبحانه وتعالى : (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ)(صّ: من الآية75)، وقال جل وعلا : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يّس:71) ، وأشباه هذه الآيات والأحاديث التي فيها إثبات صفة اليدين للحق جل وعلا .
وهذا من الإيمان فهو سبحانه متصف بذلك على ما يليق بجلاله وعظمته : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11).
( وكلتا يدي الرحمن يمين ) فهل يقال : إن للرحمن جل وعلا يميناً وشمالاً ؟
هذا فيه بحث : والذي في الحديث أن الله سبحانه وتعالى سمى يديه يعني : وصف يديه واحدة باليمين ، وقال في الثانية : ( وبيده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه ) ، و ( كلتا يدي الرحمن يمين ) كما جاء في الحديث : ( إن المقسطين على منابر من نور وعلى يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ) .
وقوله : ( وكلتا يديه يمين ) قال العلماء معناه : أن يدي الرحمن سبحانه وتعالى كلها يمين ، يعني : في الخير وفي الإنفاق ، ولأن العرب تجعل الشرف لليمنى على اليد الأخرى ، وأن اليد الأخرى في الإنسان يعنى اليسرى : أقل وأوضع من اليد اليمنى ، فاليد اليمنى هي الشريفة والثانية ليست كذلك . فقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وكلتا يديه يمين ) يعني : أن يدي الرحمن جل وعلا في الشرف والصفة سواء ليس ثم فضل ليد على أخرى .(16/5)
هذه الأخرى هل يقال : إنها الشمال ؟ جاءت في صحيح مسلم في حديث ، والحديث في إسناده ضعف وساقه مسلم رحمه الله في الشواهد ولذلك أعله طائفة من أهل العلم في التنصيص على ذكر الشمال ، وقالوا : إن ذكر الشمال فيه ليس محفوظاً وأن الصواب في الحديث : ( الأخرى ) وليس ( بشماله ) . وهذا ظاهر من حيث الإسناد : فإن مسلماً رحمه الله تعالى ساقه في الشواهد ، ومعلوم أن سياق الحديث في الشواهد لا يعني تصحيح كل كلمة فيه . ولهذا ذهب كثير من أهل العلم إلى عدم إثبات كلمة (الشمال) في صفة اليد لله جل وعلا .
وقال طائفة من المحققين من أهل العلم : تثبت اليمين والشمال ، والشمال شريفة يمين هي كاليمين ، والشمال ليس نقصاً لها ولكن هي يمين وشمال مثل ما جاء في الحديث الذي في مسلم ما دام أم مسلماً رواه قد صححه . ومال إلى هذا : إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في آخر كتابه التوحيد ، فإنه ذكر في المسائل في آخر الكتاب فقال : التنصيص على الأخرى بأنها الشمال وهذا يقول به طائفة من أهل العلم المحققين في هذا والمسألة تحتاج إلى مزيد نظر والحديث كما ذكرت لكم في إسناده ضعف ويكون ذكر الشمال فيه شاذاً وقد نص على ذلك بعض أئمة الحديث كالبيهقي وغيره .
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ ؟ قَالَ: لَا قَالَ لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا وسيحكم بينهما ) رواه أحمد .
الشرح : هذا في تتمة الكلام على الإيمان بالله جل وعلا وقد ذكرنا لك أن الإيمان بالله سبحانه وتعالى إيمان بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات وهذا ذكر لبعض الصفات .(16/6)
قال : ( ولكن الله يدري ) ودراية الله جل وعلا بـ ( فيم ينتطح الكبشان أو العنزان ) يعني : علمه سبحانه وتعالى بذلك . ومعلوم أن باب الإخبار أوسع من باب الوصف ، فإن لفظ أو صفة ( الدراية ) لا يوصف الله جل وعلا بها لكن يطلق على الله جل وعلا من جهة الإخبار أنه سبحانه وتعالى يدري بهذا الشيء لأنها من فروع العلم .
فهناك صفات لها جنس ، فالعلم جنس تحته صفات ، فجنس ما هو ثابت يجوز إطلاقه على الله جل وعلا من جهة الخبر .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء:58) ، ويضع إبهاميه على أذنيه والتي تليها على عينيه . رواه أبو داود وابن حبان وابن أبي حاتم .
الشرح : هذا الحديث مشهور من جهة دلالته على الصفة بالإشارة . وإثبات الصفة بالإشارة كان يفعله بعض السلف في أنه يشير إليها بيده فيشير إلى الأصابع بأصابعه ويشير إلى اليد بيده يشير إلى السمع والبصر بهما كما فعل هنا أبو هريرة رضي الله عنه ، قال : ( إن الله كان سميعاً بصيراً ) ووضع يده هكذا . وهذا عند أهل العلم معناه : إثبات الصفة بمعناها المتعارف عليه عند الإنسان المخاطب ، ومعلوم أن المسلم يثبت الصفة مع قطع المماثلة على قاعدة : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ، فإذا أشار إلى عينه أو أشار إلى سمعه فإنه لا يعني بذلك المماثلة وإنما يعني بها أن العين هي ما تعلم أنها عين والله جل وعلا له عين سبحانه لا تشبه الأعين ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ، وكذلك له سمع ليس كمثل سمع المخلوق .
فإذا الإشارة معناها : إثبات معنى الصفة بما يعهده المخاطب من معناها ، فيشير لأجل تحقيق ذلك .(16/7)
وبعض أهل العلم قال : الإشارة لأجل إثبات الحقيقة ، وهذا ليس بجيد لأنه يقتضي أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز موجود عند الصحابة وهذا ليس بصحيح ، فإن
الكلام عند الصحابة حقيقة كله لآن الكلام العربي حقيقة وظاهر ، والمجاز المدعى نوع من الحقيقة التركيبية والظاهر التركيبي .
فالمقصود هنا أنه إذا قيل لبيان الحقيقة ، فإنه لبيان حقيقة المعنى لا بأس ، وإذا ظُنَّ أن الحقيقة هنا يعني : الحقيقة المقابلة للمجاز فهذا غلط ولا يصح أن ينسب إلى الصحابة لأنه لا تقسيم للكلام عندهم إلى حقيقة ومجاز .
إذا تبين هذا فلا يناسب عند الناس وعند العوام أن يشار بالأصابع أو يشار باليد أو يشار بالعين أو نحو ذلك لأن العامة قد تفهم من هذا التمثيل والتشبيه ، ولهذا أنكروا على كثيرين ممن قال : إن الله يقبض السماوات بيده ولو أشار لا إرادياً ينكر عليه العامة لعدم قبولهم مثل هذا . وهذا أوجه من الإشارة لأن الزمن مختلف .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله . لا يعلم ما في غدِ إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله . ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله تبارك وتعالى) الحديث رواه البخاري ومسلم .
الشرح : ما يختص الله جل وعلا به هو الغيب الذي سيأتي ، الذي لم يقع بعد فهذا لله جل وعلا .(16/8)
الغيب الماضي علمه بعض الناس أن رأته الجن ، لهذا يحصل من العرافين أنهم يستدلون على مكان المسروق مع أنه غيب بالنسبة للناس لكن لا يدخل هذا في ادعاء الغيب لأنهم تخبرهم الجن بمكانهم فهو ليس من الغيب الذي اختص الله جل وعلا به ، والله جل وعلا قال : (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)(الأنعام: من الآية59)) ، وهذا هو الغيب الذي يكون في المستقبل والقدر القادم لا يعلمه على ما سيقع عليه من هيئته وصفاته وزمانه ومكانه وقدره إلى أخر ذلك إلا الرب سبحانه وتعالى .
فالحديث في إثبات علم الرب جل وعلا بما سيكون . وعلم الله جل وعلا المختص به في أشياء حادثة لا يعلمها إلا هو كعلم مافي الأرحام ، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله جل وعلا .
وعلم ما في الأرحام المختص به الله جل وعلا يشمل كل ما في الأرحام من جنين ومن حالته وحال الرحم وغيب الرحم وازدياده وإتيان الغذاء والدم وقلة ذلك وترقي الجنين في خلقه ، يعني على هذه التفاصيل هذه لا يعلمها إلا الله جل وعلا فإن الإنسان مهما وصل علمه فإنه لا يستطيع أن يعلم ذلك على وجه التفصيل في كل ما يحصل .(16/9)
ولهذا كلمة ( ما ) في آية (لقمان) في قوله : ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)(لقمان: من الآية34)) هذه عامة ، بمعنى الذي ، والأسماء الموصولة كما هو معلوم تعم ما كان في حيز صلتها ، فقوله : ( ويعلم ما في الأرحام ) يعني : الذي هو كائن في الأرحام ، فكل ما يكون في الرحم يعلمه سبحانه . وأما معرفة هل الذي في الرحم جنين هل هو ذكر أو أنثى فهذا يختص بالله جل وعلا في ما قبل نفخ الروح وأما ما بعد نفخ الروح فإنه يخرج عن العلم المختص بالله جل وعلا لأنه قد ثبت في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن النطفة إذا صارت في الرحم أتى الملك بعد أربعين ، قال له الله جل وعلا : أكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد وذكر أم أنثى ) ، وفي رواية : ( يقول الملك : أي رب شقي أو سعيد ؟ فيأمر الله ويكتب الملك . ثم يقول : أي رب ذكر أو أنثى ؟ فيأمر الله ويكتب الملك ) فيعلم الملك بعد مضي هذه المدة هل هو ذكر أو أنثى ؟
قال طائفة من العلماء : كان بعض الناس يعلم إذا رأى بطن المرأة يعلم ما فيها هل هو ذكر أم أنثى ؟إما بدلائل وإما بكشف يعني : يكشف من باب الكرامات ، أو بدلائل يستدل بها إما بشكل البطن أو الحركة أو غير ذلك .
المقصود : أن ما في الأرحام عامة في التفاصيل ومسألة هل ما فيه ذكر أم أنثى هذه خاصة ليست هي كل ما يدل عليه اختصاص الله بعلمه بما في الأرحام ، ومعناها وضابطها ما ذكرنا . والباقي واضح إن شاء الله .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :قال :رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها فقال ن شدة الفرح : اللهم إنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ) أخرجاه .
الشرح : هذا الحديث فيه فوائد كثيرة نذكر منا فائدتين :(16/10)
1- إثبات صفة الفرح لله جل وعلا والله سبحانه وتعالى يفرح ويرضى ويسخط ويغضب ويأبى لا كأحد من الورى سبحانه وتعالى ، فرحه بحق كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى .
2- في آخر الحديث قال : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) أخطأ من شدة الفرح : دل على أن الأخطاء المكفرة إذا أتت على اللسان من غير قصدٍ إلى هذا اللفظ ، من غير قصد إلى إنشائه وإنما تقدم لفظ عند المتكلم أو تأخر فصار اللفظ كفرياً أن هذا من الخطأ المعفو عنه لأن الله سبحانه وتعالى لا يؤاخذ إلا بما تعمد المرء إليه قلبه فقال سبحانه : ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ )(البقرة: من الآية225) ) ، وقال في الآية الأخرى :(وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)(الأحزاب: من الآية5)) . فالخطأ يما لم يقصد إليه ، ليس الجهل ، هذا معفو عنه .
وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) رواه مسلم .
الشرح : هذا الحديث من النوع الثالث وهو الإيمان بالأسماء والصفات وذلك أن فيه إثبات عدد من الصفات وأظهرها في الحديث صفة اليد لله جل وعلا .
قال في الحديث : ( إن الله يبسط يده بالليل .....) دال علىإثبات صفة اليد للرحمن جل وعلا ، ووجه الدلالة : أنه أضاف اليد إلى ذاته العلية حيث قال : ( يبسط يده ) ومن المتقرر عند أهل العلم أن الإضافة إلى الله جل وعلا نوعان : إضافة مخلوق إلى خالقه ، وإضافة صفة إلى متصف بها .(16/11)
فإضافة المخلوق إلى خالقه : كإضافة الروح إلى الله جل وعلا في قوله : (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي )(الحجر: من الآية29)) ، وكقوله جل وعلا : ( نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)(الشمس: من الآية13)) ، ونحو ذلك كقوله : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)(الاسراء: من الآية1) ، فإضافة الروح والناقة والعبد إلى الله جل وعلا إضافة مخلوق إلى خالقه وهذه الإضافة تقتضي التشريف لأن تخصيص بعض المخلوقات إلى الرب جل وعلا معناه : أن هذه المخلوقات لها شأن خاص وذلك تشريف لها .
والنوع الثاني : إضافة الصفة إلى متصف بها وهو الله جل وعلا وهذا ينضبط بكل ما لا يقوم بنفسه من الأشياء سواء كانت من الأعيان ، أو من المعاني ، فمن الأعيان اليد فإنها لا تقوم بنفسها ، والوجه فإنه لا يقوم بنفسه يعني لا يوجد وجه بلا ذات ولا توجد يد بلا ذات إلى آخر أنواع ذلك ، ومن المعاني : مثل الغضب والرضى وأشباه ذلك والرحمة إلى غير ذلك . إذاً فهذا الحديث جارٍ مع القاعدة .(16/12)
إذاً قوله في الحديث : ( إن الله يبسط يده بالليل ....) هذه إضافة صفة إلى متصف بها فهذا يمنع أن تكون اليد مؤولة بمعنى النعمة أو بمعنى القدرة وأشباه ذلك ، فإن اليد في اللغة قد تأتي بمعنى النعمة لكن لا تضاف كقول العرب : لفلان علي يد يعني : نعمة ، لكن لا تقول العرب إذا أرادت النعمة : يد فلان علي ، إنما تقول : ( لفلان علي يد ) بقطع الإضافة ، وحتى هذا الإطلاق من العرب لأجل أن وسيلة إيصال النعمة إلى المنعم عليه بواسطة اليد . فربما دخل من إطلاق الشيء وإرادة لازمه . ومن المعلوم أنه في اللغة العربية لا يمتنع إطلاق المفرد على المثنى ، ولا يمتنع إطلاق الجمع على المفرد ولا يمتنع إطلاق المثنى على الجمع كلها سواء ، فإذا أطلق المفرد فقد يراد به المفرد المعين وقد يراد به الجنس ، ولكن لما سمعنا قول الله جل وعلا : بل يداه مبسوطتان علمنا أن قوله : (يبسط يده بالليل) يعنى : يديه .
ولهما عن عمر – رضي الله عنه – قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم – بسبي هوازن فإذا إمرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبياً في السبي فأخذته فألزقته ببطنها فأرضعته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ " قلنا : لا والله ! فقال : " الله أرحم بعباده من هذه بولدها" ) الحديث .(16/13)
الشرح : هذا الحديث فيه إثبات صفة الرحمة لله جل وعلا ، وفيه امتناع تأويل صفة الرحمة بإرادة الإنعام أو الإحسان ، لأنه عليه الصلاة والسلام مثَّل والله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى ، فلما مثَّل عِظَم رحمة الله جل وعلا برحمة هذه المرأة بولدها علمنا أن المراد هنا الرحمة المعروفة المعهودة عند الناس التي يجدها كل إنسان في نفسه يعرف معنى الرحمة ، والكلمات إنما هي للتعبير عن الأشياء والرحمة معلومة يعلمها المرء من نفسه لأنها فيه غريزة ، فلهذا قوله : ( الله أرحم بعبده من هذه بولدها ) يدل على إثبات صفة الرحمة وعلى أنها صفة لله جل وعلا على ما يليق به سبحانه وتعالى ، وعلى أنه يمتنع تفسير هذه على بإرادة الإنعام لأن السياق والتمثيل يمنع ذلك .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما خلق الله الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي ) رواه البخاري
الشرح : كذلك هذا فيه صفة الرحمة لله جل وعلا ، وهذا الحديث فيه بحث من جهة هذا الكتاب الذي هو فوق العرش ، وفي رواية : ( فهو عنده في العرش ) . فيه بحث من جهة هذة الكلمة : ( إن رحمتي غلبت غضبي ) هل هو كتاب من اللوح المحفوظ فيكون في اللوح المحفوظ ذكر صفات الرب جل وعلا ؟ ، أو هو كتاب مستقل جعله الله فوق عرشه ليبين عظم سبق رحمته لغضبه ؟ وهذا يدل على أن الرحمة : صفة ذاتية ، وعلى أن الغضب : صفة اختيارية ، فالرحمة ملازمة للرحمن جل وعلا فهو سبحانه وتعالى لم يزل رحيماً فهو رحيم لا تنفك عنه الرحمة ، أما الغضب فهو صفة اختيارية تكون بالرحمن جل وعلا إذا شاء بمشيئته وقدرته فيغضب في حين ولا يغضب في حين آخر ، أما الرحمة فهو دائماً سبحانه وتعالى رحيم ولأجل رحمته قامت هذه المخلوقات ، فقيام هذه المخلوقات وظهور النعم فيها كلها من آثار رحمة الرب جل وعلا وهذا يدل على أن آثار الرحمة دائمة وعلى أن آثار الغضب غير دائمة .(16/14)
ففي قوله تعالى : ( وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)(طه: من الآية81) فجعله حالاَّ ،(ومن يحلل ) يعني : ليس دائماً وإنما يحل في حينٍ دون آخر ، كما جاء في حديث الشفاعة المعروف قال : ( إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله ) فدل على قيام الغضب به جل وعلا بمشيئته واختياره وقدرته سبحانه وتعالى .
فإذاً هناك فرق كبير بين صفة الرحمة وصفة الغضب لله جل وعلا ، فالرحمة ذاتية والغضب اختياري ، والرحمة آثارها دائمة والغضب آثاره ليست دائمة ، والرحمة من آثارها ما يتقلب فيه الخلق من النعم الدينية والدنيوية مصالح أمور دنياهم وآخرتهم كلها من آثار الرحمة . وأما الغضب فآثاره عقوبة لمن يستحق ذلك وهذا مغلوب بالرحمة ( إن رحمتي غلبت غضبي ) أو ( سبقت غضبي ) .
ولهما عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ) الحديث .
الشرح : هذا الحديث كسابقيه في إثبات صفة الرحمة لله جل وعلا ولكن فيه مزيد فائدة وهي : بيان أن الصفة لله جل وعلا لها آثارها في الخلق ، فرحمته سبحانه وتعالى جعل جزءاً منها له أثر في الأرض فبها يتراحم العباد ، فجزء من أجزاء رحمة الرحمن جل وعلا جعلها في عباده فكل ما تراه من التراحم هذا من آثار اتصاف الرحمن بالرحمة .
ويدل هذا أيضاً على أن الرحمة كما ذكرنا هي الرحمة المعهودة لأنه جعل رحمة الرحمن منها جزء يتراحم بها الخلق فدل على أن رحمة الرحمن من جنس رحمة المخلوق للمخلوق يعني أنها الرحمة المعهودة وإن اختلفت في قدرها وصفتها لأن الصفات تبع للذات ، فالمخلوق يناسبه من هذا الوصف ما يلائم ذاته والرحمن جل وعلا له من هذه الصفة ومن غيرها كمال ذلك وشموله وإطلاقه .(16/15)
الأحاديث من حديث أنس : ( إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طُعمة في الدنيا ، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويُعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته ) رواه مسلم .
وله عنه مرفوعا : ( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها )
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أطّت السماء وحُقَّ لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملَكٌ ساجد لله تعالى ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبيكتم كثيراً وما تلذّذتم النساء على الفرش ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله تعالى ) الحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن .
قوله : (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ) في الصحيحين من حديث أنس .
ولمسلم عن جندب مرفوعا : ( قال رجل والله لا يغفر الله لفلان ! فقال الله عز وجل : من ذا الذي بتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك ) .
وله عن أبي هريرة مرفوعاً: ( لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد ) .
وعن أبي هريرة : مرفوعاً : ( إن امرأة بغياً رأت كلباًفي يوم حار يُطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له موقها فسقته فغُفِر لها به " ، وقال : " دخلت النار امرأةٌ في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خَشاش الأرض " قال الزهري : لئلا يتَّكل أحد ولا ييأس أحد . أخرجاه .
وعنه مرفوعاً : ( عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل ) رواه أحمد والبخاري
حديث أبي موسى : ( وما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله ، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم ) رواه البخاري .(16/16)
الشرح: هذه الأحاديث من كتاب أصول الإيمان للشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى كما ذكرنا لك فيها ذكر صفات الله تعالى وذكر الجنة والنار ، وسبق أن ذكرت بعض الصفات في الأحاديث كالرحمة واليد وغير ذلك ، وهذه الأحاديث التي ذكرها فيها ذكر القدر وذكر صفة المغفرة وذكر الجنة والنار.
فالحديث الأول حديث أنس : ( إن الكافر إذا عمل حسنة ..... ) فيها إثبات كمال عدل الله جل وعلا وأنه لا يضيع إحسان محسن وعمل عامل حتى الكافر ولكن ثوابه يكون عليه في الدنيا وذلك لكمال صفاته سبحانه وكمال عدله . إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا فأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته ، يعني أن الله سبحانه وتعالى يثيبه على حسنات في الآخرة ويمن عليه ويبتدؤه برزق في الدنيا وإحسان إلى المؤمن . فالمؤمن والكافر وجميع الخلق قائمون مع رحمة الله جل وعلا إذ رحمته وسعت كل شيء ، لهذا ذكر هذا الحديث بعد حديث الرحمة لأن العدل مع الكافر لفي أنه يثاب على حسنته في الدنيا هذا من الرحمة به ، كذلك يثاب المؤمن على حسناته في الآخرة ويعطى على أنواع الطاعات في الدنيا رزقاً وسعة وصحة إلى آخره إبتداء من الله جل وعلا ومنة فإن هذا أيضاً من آثار سعة رحمة الله جل وعلا .
ثم قال : وله مرفوعاً ( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة .... )(16/17)
الشرح : هذا الحديث فيه ذكر لأصل من أصول الإيمان والصفات ألا وهو الإيمان بالصفات الاختيارية لأن الرضى والغضب وأشباه هاتين الصفتين من الصفات الاختيارية من الصفات الفعلية التي يتصف الله جل وعلا بها بمشيئته وقدرته إذا شاء كيف شاء ، والأولى صفة الرحمة هذه صفة ذاتية فالله جل وعلا لا ينفك عنه اتصافه بالرحمة بل هو سبحانه رحيم في كل حال ولو لم يكن رحيماً في آنٍ من الأوان لهلك خلقه أجمعون ولهذا عقب الشيخ رحمه الله بذكر الصفات الاختيارية على الصفات الذاتية لأن الصفات الذاتية أعظم ، والصفات الاختيارية يتصف الله بها سبحانه في حال دون حال بمشيئته وقدرته .
( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ) وهذا دليل على أن الرضى يكون حين الأكل وحين الشرب إذا حمد العبد رضي الله عنه ذلك ، بخلاف قول الأشاعرة والمبتدعة : ( إن الرضى قديم فيقولون : رضى الله عن عبده المؤمن قديم رضي وانتهى رضاه . فإذا كان كافراً في أول عمره ثم كان مكتوباً له أن يؤمن فإنه مرضي عنه حتى في حال كفره ، فالصحابة في حال كفرهم مرضي عنهم ولو في حال عبادتهم أ, عبادة بعضهم للأوثان ، والمؤمن الذي يختم حياته – نسأل الله العافية والسلامة – بردة فإنه مغضوب عليه حتى حين كان يصلي ) وهذا باطل من القول لأنه في أساسه ناشئ عن نفي الصفات الاختيارية والله سبحانه وتعالى بين في كتابه أن صفته الاختيارية تحل بعد أن لم تكن حالة كما قال سبحانه : (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)(طه: من الآية81) ، فيحل بعد أن لم يكن حالاً ، وكما جاء في حديث الشفاعة المعروف قال : ( إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ) فدل على أن الغضب يتفاوت من جهة الصفة يعني بعض الغضب أهون من بعض ، وأيضاً يتفاوت كمن جهة الزمن يغضب في حال دون حال فيتصف بذلك سبحانه كيف شاء .(16/18)
ثم ساق حديث أبي ذر : ( أطت السماء وحق لها أن تئط .... ) الحديث .
الشرح : فيه عظمة الحق جل وعلا وعبودية الملائكة له سبحانه وأن ، السماء مملوءة بعباد الله جل جلاله بالملائكة الذين هم ما بين ركع وسجود وقيام لله سبحانه وتعالى .
ولمسلم عن جندب مرفوعا : ( قال رجل والله لا يغفر الله لفلان ...) الحديث .
الشرح : هذا الحديث معلوم شرحه وبيانه في كتاب التوحيد ، وننبه فيه إلى أن قول القائل : ( لا يغفر الله لفلان ) يعني أنه تحكم في صفة الله جل وعلا يعني أنه قال : هذه الصفة لا تكون لفلان ، وهذا له نظائر ويكون عند الناس في حديثهم في صفات أخر . ومن أصول الإيمان عند أهل السنة توقير الله جل وعلا وتعظيمه والإنابة إليه والاستكانة له وعدم التألي عليه والقول عليه بلا علم .
فمثلا يقول الناس في ألفاظهم : هذا ما يستاهل ، أو حرام أن يصيبه كذا ، أو مثل هذا لا يعاقب ، أو هذا تنزل عليه العقوبة .. وأشباه هذه الألفاظ التي فيها تحكم في صفات الله جل وعلا .
فأي صفة أردت الكلام عليها فاستحضر الاضطراب والخوف من الله جل وعلا لا تتحكم في صفات الله جل وعلا تخبر عنها بشيء ليس لك ، كأن يقول : مثل هذا يعاقبه الله ، أو هذا ستحل عليه عقوبة من الله جل وعلا ، أكيد ستأتيه العقوبة ، وأشباه ذلك مما يستعمله الخاصة والعامة في ألفاظهم ، وهذا مما لا يجوز أن يستعمله الناس بل يذكرون ما دلت عليه الأدلة من الرجاء للمحسن والخوف على المسيء : نخشى أن تكون عقوبة ، نخشى أن يحل علينا كذا ، وأشباه هذه العبارات التي فيها تعظيم أمر الله وتعظيم صفاته سبحانه .
وله عن أبي هريرة مرفوعا : ( لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ....) الحديث(16/19)
الشرح : هذا فيه ذكر صفتي العذاب والرحمة وهما صفتان متقابلتان ، وعذابه سبحانه وتعالى لمن عصاه أو من كفر أو من نافق هذا لو اطلع عليه لوجد أن الجنة لا يطمع فيها طامع كمل قال سبحانه تعالى : (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ( 2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ) ولكن رحمة الله سبقت غضبه ، ولهذا في هذه الآية ذكر ثلاث صفات من صفات الرحمة وذكر صفة عقاب واحدة فقال : ( غافر الذنب وقابل التوب ) وهذه من فروع الرحمة ، ثم قال : ( شديد العقاب ) وهذه عقوبته سبحانه ، ثم ذكر فرعاً ثالثا من فروع الرحمة وهو قوله : (ذي الطول ) يعني : ذي الإنعام والفضل والإحسان على خلقه أجمعين .
وللبخاري عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله .....) الحديث
الشرح : إيراده لهذا الحديث في أصل الإيمان باليوم الآخر ، والإيمان باليوم الآخر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة إيمان بالجنة والنار .
وحديث المرأة البغي وحديث المرأة التي دخلت النار بسبب هرة هو في هذا المعنى . فالمؤمن ما بين خوف ورجاء يعمل الأعمال الكثيرة من الخير ويعمل أعمالاً من السوء فإذا هو غلَّب جانب الرجاء رأى الخير فيه طاغٍ فقال : سيُغفر لي ، فنبه عليه الصلاة والسلام أن امرأة دخلت النار في هرة بسبب أنها حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض لماذا تحبس الهرة والهرة مثلها لا يحبس فماتت وهذا تعدي عليها ، وهذا يجعل المؤمن خائفاً لئلا يتكل أحد على عمله الصالح ولئلا ييأس أحد من المغفرة إذا أناب وأتاب ، وتفسير الزهري واضح في هذا .(16/20)
وله عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال :قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : ( إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى يا جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبَّه فيحبُّه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء إن الله يحبُّ فلاناً فأحبُّوه فيحبُّه أهل السماء ويُضع له القبول في الأرض ) .
وعن جرير رضي الله عنه قال : كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم – إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال : ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامُون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لاتُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، ثم قرأ : ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا)(طه: من الآية130) ) . رواه الجماعة .
الشرح : الحديث الأول فيه إثبات صفة المحبة لله جل وعلا ، لأن هذا الكتاب ذكر في أوله الإيمان بالله فذكر صفات الربوبية والألوهية والآن في الأسماء والصفات فهنا ذكر صفة المحبة لله جل وعلا : ( إن الله إذا أحب عبداً .. ) الحديث . ومحبة الله جل وعلا لعبده صفة اختيارية متعلقة بالحال عند أهل السنة ليست متعلقة بالمآل ، وأهل السنة في صفة المحبة وصفة الرضى وأشباه ذلك يعلقونها بالحال يعني : أن الله يحب من كان على الإيمان ولو كان سيؤول أمره إلى غيره لأنه وهو موحد مؤمن قام بقلبه إخلاص العبادة لله وتوجه إلى الله فاستحق على ذلك المحبة ، ومحبة الله في حالها مقتضية آثارها على العبد .(16/21)
والمبتدعة يجعلون المحبة واحدة أزلية غير متغيرة فيقولون : إن الله يحب من علم موته على الإيمان ولو في حال كفره ، فعمر رضي الله عنه في حال الجاهلية في حال كفره كان محبوباً لله جل وعلا وفي حال إيمانه محبوباً لله جل وعلا لأنه سبحانه علم أنه سيموت على الإيمان فأحبه من حين خرج من بطن أمه ، وقولهم لأنه ليس عندهم صفات اختيارية ولا صفات تقوم بالرب جل وعلا بمشيئته واختياره سبحانه لانتفاء تنزيه عندهم للقول بتجدد الصفات أو ما يسمونه بحلول الحوادث لله جل وعلا .
فإثبات صفة المحبة لله جل وعلا على ما يليق به سبحانه حق كما نطقت بذلك النصوص والمحبة معلومة المعنى كما يليق بجلاله وعظمته ويرضى ويغضب سبحانه وتعالى وأن ذلك متعلق بالحال ليس متعلقاً بالمآل عند أهل السنة فيرضى عن العبد في حال إيمانه ويحب العبد في حال إيمانه ويغضب عليه في حال كفره قبل إيمانه ويبغضه ولا يحبه في حال كفره قبل إيمانه أو لو ارتد فيجتمع في حقه أنه أُحبَّ في حال وأُبغض في حال ، حتى المؤمن لواحد يحبه الله سبحانه وتعالى إذا أحسن العمل ويبغضه إذا أساء العمل ، فإذا اجتمع في المؤمن إيمان وفسق يكون مؤمناً بإيمانه فاسقاً بكبيرته فيُحبُّ على الإيمان ويبغض على الفسق ، يعني : أن المحبة والبغض تتبعض ويكون في حال دون حال وهذا عند أهل السنة والجماعة خلافاً لأهل الكلام والبدع الذين يقولون : إن المحبة واحدة حتى المؤمن في حال كفره قبل الإيمان محبوب ، وإذا آمن وعاشر كبيرة فهو في حال معاشرته الكبيرة محبوب إلى آخر ذلك مما لا يليق أن ينسب أو يضاف إلى الرب جل وجلاله .
وفي قوله : ( إن الله إذا أحب ) فيه : أن المحبة صفة اختيارية وأن المحبة متفاضلة ليس كل مؤمن فيه ذلك .(16/22)
وقوله : ( يوضع له القبول في الأرض ) يعني : يقبله أهل الإيمان ويحبونه ويميزونه على غيره فيتولونه مثل ما حصل للصحابة رضوان الله عليهم فأهل الإيمان يحبونهم ومثل سادات التابعين ، ومثل الإمام أحمد والشافعي ومالك وهذه مرتبة عظيمة لمن تحصل له .
حديث : ( إنكم سترون ربكم ....) الحديث
الشرح : فيه إثبات الررؤية لله جل وعلا ، أي رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا .
والرؤية تكون في العرصات وتكون في الجنة ، فتكون في العرصات عامة أولاً للجميع ،ثم يحجب عنها أهل النفاق يعني : من هذه الأمة ، وأما الكفار فهم لا يرون ربهم أصلاً لأنهم محجوبون عن الله كما قال سبحانه : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (المطففين:15) ، وأما هذه الأمة المؤمنون منهم والمنافقون الرجال والنساء فإنهم يرون الله سبحانه وتعالى ثم يحجب عنها أهل النفاق وتبقى رؤية أهل الإيمان ثم تكون الرؤية التي هي محل اللذة والنعيم في جنة الخلد .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تبارك وتعالى قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرّب عبدي إليَّ بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرّبُ إلي َّ بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءتَه ولا بد له منه ) . رواه البخاري .(16/23)
الشرح : هذا الحديث أيضاً فيه إثبات صفة المحبة لله جل وعلا ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ) يعني : يُسَدّد في سمعه ( بصره الذي يبصر به ) يعني : يسدد في بصره ( ويده التي يبطش بها ) يعني : يسدد في يده فلا يحصل منه بهذه الجوارح إلا ما يحب الله جل وعلا فيوفق ويعان فيها على فعل الخير وعلى ترك الشر من جهة سمعه وبصره ويده ورجله .
وقوله عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث القدسي قال الله جل جلاله : ( وما ترددت في شيء أنا فاعله ) فيها ذكر التردد مضافاً إلى الله جل وعلا وهل هو صفة لله أم لا ؟!
بعض أهل السنة لا يضيف التردد إلى الله جل وعلا صفة لأنه منقسم إلى محمود ومذموم ، وإطلاق الإضافة يعني إطلاق الوصف فيما ينقسم إلى محمود ومذموم الأصل خلافه ولأن الأصل ألا يضاف إلى الله جل وعلا إلا ما هو محمود والتردد قد يكون عن نقص علم والله جل وعلا منزه عن ذلك . ولهذا ذهب من ذهب من أهل العلم إلى عدم إثبات صفة التردد إلى الله جل وعلا لأنهم جعلوا منشأ التردد عن عدم علم أو عن جهل أ, عن عدم قدرة أو عن عدم قوة على إنفاذ الشيء وأشباه ذلك فمنعوا وصف الله جل وعلا بالتردد .
والقول الثاني عند أهل السنة أن التردد صفة من صفات الله جل وعلا وأن تردده سبحانه وتعالى بحق ، وأن حقيقة التردد ليس معناها أنها تنشأ عن جهل أو عن عدم قوة أو قدرة كما قاله الأولون ، بل حقيقىة التردد أنه : تردد الإرادة في أي الأمرين أصلح للعبد أو في أي الأمرين أوفق للحكمة أو نحو ذلك أو تردد الإرادة في المصلحة المقتضية لذلك .(16/24)
وتردد الإرادة ليس ناشئاً عن الجهل وعدم العلم أو نحو ذلك فهذا منزه عنه الرب جل وعلا وإنما هو ناشئ عن محبة الله لاختيار الأصلح لعبده لهذا وقع التردد بين الصالح والأصلح يعني : في الاختيار ، وإذا كان كذلك فإن التردد على هذا يكون كمالاً لأنه لم ينشأ عن جهل ولا عن عدم قدرة أو قوة وإنما هو راجع إلى الحكمة ومقتضى قدر الله وحكمة الله سبحانه . وهذا الثاني هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وعزاه إلى السلف وإلى مذهب سلف هذه الأمة .
الصفة الثالثة في الحديث قال : ( يكره الموت وأكره مسائته ) ووصف الله بأنه يكره جاء في القرآن والسنة في أحاديث كثيرة مثل قوله تعالى : ( وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)(التوبة: من الآية46) ، فكُره الله جل وعلا هذا يتعلق بالأعيان أي الذوات وبالصفات وهو صفة اختيارية ، وهو هنا في الحديث يتعلق بالمساءة (وأكره مساءته ولا بد له من ذلك ) .
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنياحين يبقى ثلُث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفرَ له ) متفق عليه .
الشرح : هذا الحديث فيه إثبات عدد من صفات الرب جل وعلا أظهرها صفة النزول له جل وعلا ، والنزول لله جل وعلا نقول فيه ما نقول في الاستواء والنزول معلوم أو غير مجهول والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب .(16/25)
ونزول الرب جل وعلا إلى سماء الدنيا جاء في بعض الروايات أنه : ( في نصف الليل الآخر ) ، وجاء في بعضها : ( في ثلث الليل الآخر ) - كما في الرواية التي ساقها الإمام رحمه الله – وجاء في بعض الروايات : ( آخر كل ليلة ) بلا ثلث ولا نصف ، وأهل العلم منهم من حمل هذا على الفضل والأفضل أو أن الثلث الأخير آكد وأن النزول يبدأ في نصف الليل الآخر ، ومنهم من حملها على أن حساب نصف الليل غير حساب ثلث الليل الآخر فإذا قيل نصف الليل فهو حساب ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني مقسوماً على اثنين تضيفه على ساعة الغروب يعطيك ابتداء نصف الليل .
وأما ثلث الليل الآخر فيكون ما بين الغروب إلى الإشراق والوقت مأخوذ الثلث الآخر منه ، والوقت على هذين متقارب ، ولما قال شيخ الإسلام هذا ، قال وهذا القول وجيه . يعني أن حساب نصف الليل يكون غير حساب ثلث الليل .
وعلى العموم نقول : إن الروايات متفقة في أن النزول يكون في ثلث الليل الآخر وهو الأكثر رواية والأثبت – كما ساق الإمام رحمه الله هنا – أو في نصف الليل الآخر على اعتبار .
النزول في صفة الله جل وعلا لا نخوض فيه بأكثر مما جاء فيه النص ، فمن خاض فيه بذكر مسائل مثل قولهم : هل يخلو منه العرش أو لا يخلو منه العرش ، وهل إذا نزل إلى سماء الدنيا يخلو منه ما فوق السماء السابعة ، وأشباه ذلك كل هذه مباحث طائلة لأنها مبنية على تشبيه النزول بنزول المخلوق والله جل وعلا لا نعلم كيفية اتصافه بصفاته فهو سبحانه أجلُّ وأعظم م أن نعلم بكيفية اتصافه بصفاته .
فإذاً إثبات صفة النزول إثبات صفة لا إثبات كيفية ولا نخوض بأكثر من ذلك ، والأحاديث في النزول قريبة من التواتر م كثرتها .(16/26)
وقوله عليه الصلاة والسلام هنا : ( ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل فيقول هل من داعٍ فأستجيب له هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له ) مرتبة الدعوة أولاً لأنها أعم والسؤال بعدها لأنه أخص والاستغفار الأخير لأنه خاص الأخص ، لأن الداعي قد يكون عابداً وقد يكون سائلاً ، وإجابة الداعي قد تكون إثابة الداعي بالثواب أو قد تكون أو قد تكون إعطاء السائل ، لذلك لما بدأ بالعام قال : ( هل من داعٍ فأستجيب له) يدخل في ذلك أهل الصلاة وأهل تلاوة القرآن وأهل الذكر في آخر الليل فيعطيهم رب العالمين أجرهم بغير حساب . ثم السؤال ( هل من سائل فأعطيه ) يعني من يسأل مسألة خاصة وهي بعض الدعاء . ثم قال : ( هل من مستغفر ) السؤال قد يكون سؤال دنيا أو سؤال استغفار يعني عام ثم خصه بالاستغفار في آخرها .
وهذا الحديث أيضاً فيه : إثبات صفة الكلام لله جل وعلا وإثبات صفة المغفرة له سبحانه والإجابة والإعطاء وهذا فيه الرد على من أبطل فائدة الدعاء وفائدة السؤال وفائدة الاستغفار وفائدة العبادة في التأثير على القدر كما هو قول طائفة من الصوفيه في زعمهم أن الأمور مقدرة ولا حاجة للدعاء لتحصيلها ، وهذا باطل بل الأمور مقرونة في القدر وفي الكتاب السابق بأسبابها والدعاء والسؤال من جملة تلك الأسباب .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ن وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنَّة عدن ) . رواه البخاري .
الشرح : قوله : ( جنتان ....وجنتان ...) هذا كالتفسير لقوله الله جل وعلا : (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (الرحمن:46) . ثم قال بعدها : (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) (الرحمن:62) فهذا تفسير للجنتين والجنتين . وفيه إثبات صفة الكبرياء لله جل وعلا .(16/27)
والرداء والإزار الذي جاء في الحديث الذي رواه مسلم : ( الكبرياء ردائي والعزة إزاري من نازعني واحداً منهما عذبته ) – الرداء والإزار : ما يكون ملابساً للموصوف لا ينفك عنه ويحجب صفته عن الرائي ، فالإزار بالنسبة للإنسان يحجب الصفة يعني بعض الصفات ، والرداء أيضاً يحجب بعض الصفات فلا يتصور من مجي الرداء والإزار لوازم ذلك من أن الإزار لا يكون إلا على حقوين وعلى جنب وأن الرداء كذلك لا يكون إلا على منكبين كما التزمه طائفة من غلاة الحنابلة فأثبتوا عدداً من الصفات بهذه اللوازم هذا باطل حتى من جهة اللغة . فالإزار والرداء هذان اسمان لما يحجب رؤية الرائي إلى صفات المرئي ولهذا هنا قال : ( وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى وجه ربهم إلا رداء الكبرياء ) فدل على أن الكبرياء هو الرداء ، فالذي حجب رؤية الرائين إلى صفة الرب جل وعلا إلى وجهه الكريم هو الرداء ، وكذلك العزة حجبت أن يُرى صفة الرب جل وعلا .
المقصود من ذلك أن هذا هو معنى قوله الرداء هنا وكذلك قوله ( الرداء والإزار ) في غيرها ، وهذا موطن تحتاجه لأن كثيراً من الشراح لم يحسن هذا المقام .
(باب) قول الله تعالى : (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(سبأ: من الآية23)(16/28)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رمي بنجم فاستنار فقال : ( ما كنتم تقولون إذا رُمِي بمثل هذا ؟ ) قالوا : كنا نقول وُلِد الليلة عظيم أو مات عظيم ، فقال : ( إنها لم تُرمَ لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا عز وجل إذا قضى أمراً سبَّحت حملة العرش حتى يسبِّح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل السماء الدنيا ، فيقول الذين يلون حملة العرش : ماذا قال ربكم ؟ فيُخبرونهم ماذا قال ، فيستخبِر أهل السماوات بعضهم بعضاً حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيلقونه إلى أوليائهم فما جاءوا به على وجهه فهو الحق ولكنهم يقذفون ويزيدون ) رواه مسلم والترمذي والنسائي
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله عز وجل .... ) الحديث رواه ابن جرير وبن خزيمة والطبراني وابن أبي حاتم واللفظ له .(16/29)
الشرح : هذان الحديثان في باب واحد هما دالان على إثبات عدد من صفات الرب جل وعلا ومن نعته الحسن سبحانه وتعالى ، فمنها : صفة العلو لله جل وعلا ومنها صفة الكلام له جل وعلا ، ومر معكم تفصيل الكلام على الحديث الأول في شرح كتاب التوحيد والمقصود من إيراده من الشيخ رحمه الله : أن ذلك من الإيمان إيمان بالله بعلوه بصفاته بملائكته بكلامه جل وعلا كذلك فيه الإيمان بالملائكة وهذا كله من أصول الإيمان بقي الكلام عل مسألة فيه وهي من المسائل المهمة : وهي أن صفة كلام الرب جل وعلا – إضافة للحديث الذي سمعتم – قال فيها : ( إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفاً من الله عز وجل فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا ) هذا مر معكم أن سماع الملائكة للصوت وصف بأنه كجر السلسة على الصفوان يعني على الصخر ، وهذا جعله بعض الناس صفة للكلام وظاهر الحديث كما هو دال عليه هذا الحديث أيضاً أنه وصف للسماع لا وصف للكلام فكلام الله جل وعلا ثابت في الصفة – كما هو معلوم – ولكن صفة كلامه جل وعلا لم يثبت فيها شيء من جهة التفصيل إلا ما جاء في الصحيح : أنه جل وعلا يوم القيامة يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب فينفذهم كلامه سبحانه وتعالى ) ، وهذا الحديث حديث النواس قال فيه : ( إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي .... ) يعني : أن السماوات تأخذها الرعدة أو الخوف من كلام الله جل وعلا ، والقصد من ذلك أن صفة الكلام غلا فيها طائفة من المنتسبين للإمام أحمد ولغيره من أهل السنة فجعلوا صفة كلام الله جل وعلا بما في هذه الأحاديث التي فيها تكلم الله جل وعلا بالوحي وأن صفة كلامه كجر السلسة ... كما ذكرها أبو يعلى في ( إبطال التأويلات ) وغيره فهذا ينبغي أن لا يقال به وإنما يؤخذ بما دل عليه النص الذي لا يحتمل التأويل لأن صفة الكلام الواردة في الأحاديث محتملة لأن تكون صفة للسماع يعني لما(16/30)
سُمِع لهذا جاء هنا : ( أخذت السماوات منه رجفة ..) يعني : أن هذا محتمل أن يكون بعد إرادة الكلام ، أو أنه وصف لما سُمِع من حال السماوات أ, ما سمع من ذلك أما وصف كلام الله جل وعلا فهذا لا يقال فيه بشيء إلا ما ثبت في الحديث : ( أنه يسمعه من قَرُب كما يسمعه من بَعُد ) .
(باب) قول الله تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67)
عن أبي هريرة رضي الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ ) رواه البخاري .
وعن ابن عمر ...إن الله بقبض يوم القيامة .. ) الحديث
الشرح : هذا الباب ذكره الإمام في آخر كتاب التوحيد . ومناسبة هذا الباب لكتاب أصول الإيمان أن الإيمان بالله الذي هو أعظم أركان الإيمان كما هو معلوم أركان الإيمان ستة ... والإيمان بالله يشمل ثلاثة أنواع : الإيمان بالله رباً والإيمان بالله إلها والإيمان بأسماء الله وصفاته يعني : أن الإيمان بالله يشمل أنواع التوحيد الثلاثة فلا يكون المرء مؤمناً بالله حق الإيمان حتى يوحد الله في الإلهية وفي الربوبية وفي الأسماء والصفات . هذا الباب في توحيد الربوبية وفيه ذكر بعض صفات الله جل وعلا وبعض أسماء الله جل وعلا .(16/31)
قوله جل وعلا : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) هذه من الآيات العظيمة التي تكررت في غير موضع من القرآن مثل قوله تعالى : (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )(الأنعام: من الآية91) وهذه الآية في الزمر .قوله : ( وما قدروا الله حق قدره ) يعني : أنه ما من أحد سيبلغ قدر الله حق قدره لا بد أن يكون ثم نقص عما هو حق لله جل وعلا في تقدير عظمته لأن ذلك يعني بلوغ الحق في القدر مبني على العلم التام بالله جل وعلا وبما هو عليه سبحانه في أسماءه وصفاته وأفعاله وربوبيته إلى آخره ، وهذا العلم إنما كمل بكمال البشر في الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه فهم أعظم الخلق تعظيماً لله جل وعلا وأعظم الخلق قدراً لله جل وعلا حق قدره والله سبحانه وتعالى قدره أعظم ولا يعلم ذلك إلا هو سبحانه وتعالى . ( وما قدروا الله حق قدره ) معناها : وما عظموا الله حق تعظيمه ، فمن عبد غير الله ما عظم الله حق تعظيمه ، من ألحد في أسمائه وصفاته ما عظم الله حق تعظيمه ، من أنكر الرسالة وأنكر إنزال الكتاب ما عظم الله حق تعظيمه وما علم صفة الله جل وعلا ولم يعظمه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه فالمسألة عظيمة جداً وإذا تأملت في صفة من الصفات وهو أن الله سبحانه وتعالى هو العظيم جل وعلا وهو الواسع سبحانه وتعالى تأمل كيف أن الأرض قبضة الله سبحانه وتعالى على كبرها عندك وأن السماوات على اتساعها وكبرها وعظمها وتباعد ما بينها أن مطويات بيمين الرحمن جل وعلا وأن السماوات السبع فوق بعض إلى أن تكون السماوات على عظمها وكبرها أن تكون تحت الكرسي وأنها بالنسبة للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس وأن الكرسي هو موضع قدم الرب جل وعلا وأن فوقه العرش وفوق العرش رب العالمين سبحانه ، وأن الكرسي الذي السماوات كسبعة دراهم فيه بالنسبة إلى الأرض كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض والله(16/32)
جل وعلا مستو على عرشه وعرشه لا يحيط به سبحانه وتعالى علمت عظم الله جل وعلا وعظم صفاته وأن الإنسان جُبل على أن يكون ظلوماً جهولاً ، لا بد أن يكون ظلوماً فهو يغفل عن تعظيم الله وقدره حق قدره سبحانه وأن يكون جهولاً بصفات الله جل وعلا وبأسمائه ولو نال من ذلك ما نال فهو مقصر لأن عظم الله جل وعلا وعظم قدره لا يحيط به محيط ، وهذا معنى كون الله جل وعلا محيط وكونه سبحانه واسع وكونه سبحانه العظيم وكونه سبحانه الجليل ونحو ذلك من أسماء العظمة والجلال .
فإذاً من تأمل صفات الله جل وعلا ومن تأمل الربوبية وتأمل عظم الله وأسماءه كالجليل والعظيم والواسع والمحيط وأشباه ذلك علم أن العباد ما قدروا الله حق قدره وأن العبد إنما يعظم بتوحيد الله بأنواعه الثلاثة الربوبية والألوهية والأسماء والصفات ، وأن توحيد الربوبية مهم لمن كمله ، وتوحيد الأسماء والصفات مهم لمن كمله ، وتوحيد العبادة هو المهم لمن عبد الله جل وعلا وذلك لأنه هو رسالة الأنبياء والمرسلين .
إذاً الإيمان بالله حق قدره والتأمل في ذلك ووعظ القلب بذلك هذا يوجب الإيمان ولهذا جعلها شيخ الإسلام في هذا الكتاب من أصول الإيمان ، من أصول الإيمان الإيمان بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ومن أصول الإيمان التفكر أيضاً في عظمة الله جل وعلا وعظمة ربوبيته وجلاله وما يجريه في خلقه سبحانه وتعالى وقد أمر الله بذلك في مواضع من القرآن وأمر به النبي عليه الصلاة والسلام في مواضع أيضاً.(16/33)
إذاً لا بد للعبد من التفكر في عظمة الله جل وعلا وعظمة صفاته وكيف أنك إذا تأملت تركيب السماوات بعضها على بعض وعظم السماوات وعظم الأرض بالنسبة لك أنت ثم عظم السماوات بالنسبة للأرض ثم عظم الكرسي بالنسبة للسماوات تتصاغر وتتصاغر حتى توجب على نفسك تعظيم الله جل وعلا حق تعضمه وتوجب على نفسك الذل لأن العبد لا ينفك إذا آمن بهذا حقيقة أن يكون أذل وأن لا يترفع ولا يتكبر لأنه يعلم حقيقة نفسه وحقيقة خلقه ومقداره ثم هو يعظم الله حق تعظيمه ، وأصل الإيمان التذلل لله بعد الإيمان بربوبيته سبحانه وأسماءه وصفاته وألوهيته التذلل ، فكلما كان العبد أكثر ذلاً وتعظيماً لله جل وعلا وخشوعاً في القلب كلما كان أكثر إيماناً وأعظم مقاماً عند الله جل وعلا : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات: من الآية13)
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اقبلوا البشرى يا بني تميم قلوا قد بشرتنا فأعطنا قال : " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن " قالوا : قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر ؟قال : " كان الله قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكَتَبَ في اللوح المحفوظ ذِكْرَ كل شيء " قال : فأتاني آتٍ فقال : يا عمران انحلَّت ناقتك من عقالها قال : فخرجت في إثرها فلا أدري ما كان بعدي ) .
الشرح : هذا الحديث فيه من الفوائد ما فيه من الدلالة على الإيمان والتوحيد لكن في قوله : (انحلت ناقتي ..) فيه دليل أو شاهد على أن صاحب المقام العالي والفضل هذا أحد الصحابة قد يكون عنده في بعض الأحوال إيثار للمفضول عن الفاضل ولذلك لا ينتقد المرء إذا ترك الفاضل للمفضول بعض الأحيان وهذا من طبيعة البشر فقد يحصل للمرء نوع تقصير في هذه الأشياء أو إيثار لما هوأدنى وترك ما هو أفضل .(16/34)
وعن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال ، ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق لنا ربّك فإنا نستشفع بك على الله وبالله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويحك أتدري ما تقول ؟ وسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبِّح حتى عُرِف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال : " ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحدٍ من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله ؟ إن عرشه على سماواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب ) . رواه أحمد وأبو داود .
الشرح : هذا الحديث إسناده فيه ضعف قد تكلم عليه عدد من أهل العلم لكن ما زال علماء السنة يتتابعون على إيراده فما خلا مصنف في السنة من إيراد هذا الحديث وذلك لدلالته على أمرين معروفين في كلام أهل السنة :
الأول : علو الله جل وعلا . وهذا أمر متواتر وأدلته كثيرة في الكتاب والسنة .
الثاني : أن العرش فوق السماوات . وهذا أيضاً ثابت عندهم وأن العرش ليس في داخل السماوات ، وهذا فيه رد على من زعم من الفلاسفة أو المعتزلة أو غيرهم أن العرش له صفة أخرى وهذا فيه أيضاً تنبيه على أن العرش له أركان لأنه قال : ( وعلى سماواته لهكذا وقال بأصابعه ...) فيه رد على بعض الطوائف الضالة في هذا الباب .
المقصود أن الحديث أهل السنة متفقون بلا خلاف بينهم على إيراده في الأدلة وضعف إسناده لا يعني عدم إيراده في ذلك لأنه اشتمل على أمرين وقد تقدما .(16/35)
والأمر الثالث الذي اشتمل عليه هذا الحديث : أن العرش يئط وهذا لم يأتي إلا في هذا الحديث وقد أيد من حيث المعنى من قوله جل وعلا : (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ )(الشورى: من الآية5) ، ويدل عليه أيضا قوله جل وعلا : (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً)(المزمل:18) ، لهذا يورد أهل السنة بالاتفاق هذا الحديث ولا ينظرون إلى ما في إسناده من الضعف .
جاء كلام للمتأخرين أن الحديث الضعيف لا يعمل به في باب العقائد ولا يعمل به في الفقه ، أما السلف والأئمة فمنهجهم :
أن الحديث الضعيف لا يستدل به في أصل من الأصول ، بل إما في تأييده أو فرع من الفروع ، ونص عبارة شيخ الإسلام قال : ( أهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول بل إما في تأييده أو في فرع من الفروع ) يعني : أن أهل الحديث يستدلون بالحديث الضعيف في الفقهيات وهذا منهج معروف ، فالأئمة مالك والشافعي وأحمد ومن صنف في السنن يحتجون بأحاديث ضعيفة على السنة لأن الحديث الضعيف عندهم خير من الرأي وأما في العقيدة فإذا كان الحديث الضعيف أصلاً لم ترد العقيدة إلا في هذا الحديث فإنه لا يعتمد عليه ، لأنه لا يستدل بحديث في أصل من الأصول وتبنى عليه عقيدة بل لا بد أن يكون الحديث صحيحاً وفي الحسن خلاف والصواب أن الحسن مثل الحديث الصحيح في الاحتجاج به .(16/36)
والقسم الثاني : أن يورد الحديث الضعيف في تأييد ما دلت عليه النصوص وفي الشواهد ، فهذا كل عمل أئمة السنة على ذلك . فلو نظرت في كتاب العرش لبن أبي شيبة لوجدت أن ثلثه أسانيده صحيحة والباقي وهو أكثر من ستين إسناد ضعيفة لكن لأنها في أصل ثابت استدل به وهذا عندهم له أيضاً أصل وهو : أن الحديث إذا كان ضعيفاً واشتمل على أشياء منها ما يؤيد الأصل ومنها ما هو جديد فإنهم يستدلون به في التأييد لما ثبت في الأصل وأما ما انفرد به الحديث الضعيف من الاعتقاد أو من الأمر الغيبي فإنهم لا يثبتونه . مثل هذا الحديث فإنه اشتمل على أشياء ثابتة مؤيدة للنصوص فلا بأس بإيراده وما دل عليه ، واشتمل على ذكر الأطيط وهو لم يرد إلا في هذا لذلك نقول : نحن لا نثبت الأطيط لأجل أنه ما ورد إلا في هذا الحديث ونجعل الأطيط في معنى قول الله جل وعلا : (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ)(المزمل: من الآية18) ومعنى قول الله جل وعلا : (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الشورى:5) .(16/37)
المتأخرون وخاصة لما نشأت مدرسة أهل الحديث في الهند في القرن الثالث عشر بالغوا في نفي الاستدلال بالحديث الضعيف ثم ورد هذا إلى البلاد الإسلامية الأخرى وكثر حتى ظُنَّ أن هذا هو المنهج الصحيح هذا ليس بمنهج وهو مخالف لطريقة أهل العلم المتقدمة وطريقتهم هي ما ذكرت لك من التفصيل فينتبه لهذا ويعتبر منهج حتى ما يضلل المتأخرون أئمتهم وسابقيهم هذا بلاء ، لأجل هذا الأصل الذي ليس بأصل وهو أنهم قالوا : لا يحتج بالحديث الضعيف ، ظن الظان أن معناه : أن الحديث الضعيف كالموضوع لا قيمة له ألبتة ، والاستشهاد به أو الاستدلال به دليل ضعف المتكلم علمياً إلى آخره ، هذا ليس بجيد ، نعم ينبغي على من استشهد بحديث ضعيف أن يبين ضعفه إذا كان ضعفه غير محتمل يعني : لا يقرب من التحسين وأشباه ذلك فيبين ضعفه ثم يذكر ما فيه من الفوائد حسب القواعد التي ذكرت لك .
أنت لو رأيت كتب أهل العلم لوجدت أنهم يستشهدون بأحاديث كما ذكرنا لك ، اعتبر هذا أو استقرأ هذا بما في كتب أهل الحديث المتقدمة والمتوسطة إلى قرابة هذه الأزمان لوجدت هذا هو المنهج الذي عندهم كتب التفسير كتب الحديث كتب الرقائق كلها على هذا المنوال .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك – أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : إتّخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " ، وفي رواية : عن ابن عباس رضي الله عنهما – وأما شتمه إياي فقوله : لي ولد وسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً " رواه البخاري .(16/38)
الشرح : قوله عليه الصلاة والسلام : ( كذَّبني ابن آدم .... وشتمني ابن آدم.. ) إلى آخره هذان الحديثان فيهما : عِظم صبر الله جل وعلا على خطايا عباده وعلى ما ينسبونه إليه جل وعلا ، ومن أسماء الله جل وعلا : الصبور وهو أنه عظيم الصبر على ما يكون من فعل عباده ومن مجاهرتهم في حق الله جل وعلا بالشرك وغيره ، وتكذيب الله جل وعلا فيما أخبر أو فيما جاء به رسله عليهم الصلاة والسلام لا شك أن هذا م أعظم عدم قدر الله جل وعلا حق قدره وذكر مثال ذلك بقوله : ( أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته ) وهذا مثال لما فيه تكذيب الرب جل وعلا وإلا فأنواع التكذيب كثيرة ، ( وأما شتمه إياي فقوله : اتخذا لله ولداً ) وادعاء الصاحبة مع الله جل وعلا أو لله جل وعلا وادعاء الولد لله جل وعلا هذا شتم لله لأن حقيقة الشتم والسب أنه التنقص وعزو الصاحبة لله وإضافة الولد إلى الله جل وعلا هذا فيه إثبات النقص له سبحانه لأن الله سبحانه غني عن العالمين وغني عن أن يتخذ صاحبة ولا ولداً كما قال سبحانه : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم:95) .(16/39)
فمن أعظم السب أن يجعل لله الصاحبة أو يجعل له الولد أو أن يجعل له شريك سبحانه وتعالى في الربوبية أو في الألوهية ، لأن اتخاذ الشريك مع الله جل وعلا سب له سبحانه ، فكل من أشرك بالله جل وعلا إلهاً آخر عبد الأصنام أو عبد الأوثان أو عبد الأولياء أو عبد الصالحين ، أو ادعى مع الله جل وعلا إلهاً آخر على أصناف الآلهة فهذا قد سب الله جل وعلا أعظم مسبة ولهذا يجد المؤمن في قلبه البغض للمشرك لأنه المشرك سب الله سبحانه وتعالى ولأن المشرك شتم الله جل وعلا ولو شتم أحد من الناس فلاناً لأبغضه ولو سبه لأبغضه فكيف بمن يسب الرب جل وعلا ولو أخذ فلاناً يسب أبا الرجل ويسب آباءه وأجداده أو يسب نفسه ونحو ذلك ويشتمها ويتنقصها بأنواع النقائص لصار مبغضاً إليه ولربما قامت أشياء عظيمة بين الساب والمسبوب والشاتم والمشتوم وذلك لما جرت عليه النفوس من الاعتداد بحقها فكيف بسب الله جل وعلا ، ولهذا المشرك يبغض ولو كانت حاله في الدنيا ما هي أو كانت حسناته الدنيوية في أي شأن يبغض لما اشتمل عليه صدره واشتملت عليه روحه من مسبة الله جل وعلا ومن بغضائه . والله جل وعلا صبور يسمع أذى العباد ويرى شتمهم ويسمع شتمهم ويرى سبهم والله جل وعلا صابر عليهم كما قال : ( وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(البقرة: من الآية126) . لهذا بغض المشرك قائم على بغض من سب الله جل وعلا وشتمه ، وبغض المبتدع قائم على بغض من ادعى أن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يكمل لنا البلاغ كما قال الإمام مالك : ( ما أحدث أحد بدعة إلا وقد زعم أن محمداً خان الرسالة ) ، هذا ولا شك مبناه عظيم ، التوحيد والسنة .(16/40)
فإذاً مسألة بغض المشرك وبغض أهل البدع وكراهة أولئك ليست مسألة أهواء إنما هي مسألة أنهم عادوا الله جل وعلا وعادوا رسوله صلى الله عليه وسلم وإن ادعوا أنهم يحبونه ففي الحقيقة من ابتدع ودعا إلى البدعة فهو عدو رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله سبحانه قال لنبيه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: من الآية3) ومن أتى بشيء جديد فقد ادعى أنه لم يتم لنا الدين .
قوله : ( سبحاني ) يعني : تنزيهاً لنفسي عن كل أنواع النقص كما قال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً) (الاسراء:43) .
ولهما عنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر بيدي الأمر أقلِّب الليل والنهار " .
الشرح : سب الدهر راجع إلى سب الله جل وعلا بالوسيلة لأنه إن سب الدهر فسب الدهر راجع إلى سب مقلب الدهر ، فقوله سبحانه : ( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر ) يعني : سب من لا يملك شيئاً من هو مدبَّر فيرجع السب إلى من دبَّره فإذا سب الدهر فقد سب الله جل وعلا ، يعني : شتم الدهر وصف الدهر بالنقائص أو قال : هذه الأيام إنما هي خبط عشواء مثلاً ، أو قال : هذه السنون تأتي وتذهب دون حكمة ، أو يقول : الأيام تأخذ وتعطي عمياء وتميت بعمى ونحو ذلك مما فيه سب وانتقاص ، وهذا سب لله جل وعلا في المآل لأن الدهر مخلوق يقلبه الله جل وعلا كيف يشاء .
وقوله : ( وأنا الدهر ) ليس فيه أن الدهر من أسماء الله جل وعلا ولكن بوسيلة قوله : ( يسب الدهر وأنا الدهر ) يعني : إذا سب الدهر وهو لا يستحق هذا السب لكونه مدبَّراً ( فأنا الدهر ) لأن المسبة إذاً وقعت على الله جل وعلا والإيذاء وقع على الله جل وعلا .(16/41)
وينبغي أن يُعلم أن وصف الأيام بالسوء أو بالنحس أو بالسواد أو بالظلمة ونحو ذلك مما فيه إضافة للعبد أن هذا ليس من سب العبد كما يقال مثلاً : هذا يوم نحس ، أو هذا يوم أسود وهذه أيام مظلمة أو سنة مظلمة وأشباه ذلك ، هذا وصف وليس من السب فهو وصف لتلك الأيام بالإضافة إلى من حصل له فيها أشياء سيئة وهذا كما قال جل وعلا : ( فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ)(القمر: من الآية19) ، وكما قال جل وعلا : ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ )(فصلت: من الآية16) . ووصف الأيام بالنحس والسوء أو الإظلام أو يوم أسود أو نحو ذلك بقصد أنه بالنسبة للقائل هو كذلك ، أي حصل له فيه سوء فهذا لا بأس به لأن الشر ليس إلى الله جل وعلا وإنما هو قد يضاف إلى العبد فيكون يوم نحس بالنسبة للعبد ، يوم سوء بالنسبة للعبد وهكذا .
(باب الإيمان بالقدر )
وقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) (الانبياء:101) وقول الله تعالى : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً)(الأحزاب: من الآية38) ، وقوله تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96) ، وقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قدَّر مقادير الخلائق ) الحديث .
الشرح : هذا الباب من كتاب أصول الإيمان فيه ذكر الإيمان بالقدر ، والإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان التي دل عليها حديث جبريل المعروف حين سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإيمان فقال : أن تؤمن بالله وملائكته ... وتؤمن بالقدر خيره وشره ..) الحديث . فالإيمان بالقدر واجب وفرض وركن من أركان الإيمان لا يصح أحد حتى يؤمن بالقدر .(16/42)
وأدلة ذلك كثيرة في القرآن ، قال جل وعلا : ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً)(الأحزاب: من الآية38) ، وقال سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) وقال جل وعلا : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان: من الآية2) وقال أيضاً : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96) ، وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) (الانبياء:101) وقال أيضاً : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) وقال أيضاً : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29) .
هذه الأدلة تدل على أن الأشياء بقدر ، والإيمان بالقدر معناه : اعتقاد أن الله جل وعلا قدَّر الأشياء بمقاديرها ( بهيئاتها وصفاتها ووقت وقوعها وتفاصيل ذلك ) قبل أن يخلق السماوات والأرض وأنه سبحانه يخلقها إذا شاء وأنه هو الخالق وحده وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وهذه الجملة يمكن أن تفصَّل بتعريف القدر وذكر مراتب القدر وهذه قد بيناها لكم بالتفصيل في شرح الواسطية وفي مواضع متنوعة .
ولا شك أن الاهتمام بركن الإيمان بالقدر لطالب العلم لا بد منه وأنه من المهمات لأنه لا تتضح له كثير من المسائل ولا معنى كثير من الآيات إلا بمعرفة تفصيل كلام أهل السنة والجماعة في مسائل القدر .(16/43)
قوله هنا : ( إن الذين سبقت لهم من الحسنى ) يعني في القدر السابق أي في الكتاب السابق ، وقلوه تعالى : ( وكان أمر الله قدراً مقدوراً ) يعني : أمر الله الذي يقع ويأمر به ليحدث في ملكوته ويخلق ما يشاء بقوله ( كن ) فيكون ، كان قدراً مقدوراً ليس أُنُفاً ولا مبتدأً من غير تقدير سابق بل الله سبحانه علِم ما سيكون وما اختار أن يكون وما أراد أن يكون وكتب ذلك في اللوح المحفوظ .
وقوله تعالى : ( والله خلقكم وما تعملون ) ، ( ما ) في هذه الآية لها تفسيران : الأول : أن تكون ( ما ) اسم موصول بعنى ( الذي ) ومعنى الآية حينئذٍ : والله خلقكم والذي تعملونه ، الوجه الثاني : أن تكون ( ما ) مصدرية ، تقدير الكلام : والله خلقكم وعملكم ، هذا وجه الاستشهاد : أن عمل العامل المكلف خَلْقُ الله جل وعلا ، فكما أن الله خلق المكلف فقد خلق عمله ( والله خلقكم وما تعملون ) يعني : وعملكم .
وقوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) يعني : كل شيء من المخلوقات جعل له قدَرَاً .(16/44)
الحديث : ( إن الله قدر مقادير الخلائق ....) هذا الحديث دلَّ على أن التقدير سبق خلق السماوات والأرض ، وأن هذا التقدير بمعنى : الكتابة ، ( قدَّر مقادير الخلائق ) يعني : كتب مقادير الخلائق ، لأن المرتبة السابقة للقدر هي : ( مرتبة العلم والكتابة ) هذه المرتبة السابقة ، والعلم – علم الله جل وعلا بالأشياء أول أزلي لا يقدر بخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وإنما الذي كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة هو الكتابة والعلم سابق ، لذلك نقول : إن مراتب الإيمان بالقدر أربعة مرتبتان سابقة قديمة ومرتبتان واقعة أو حالية ، فكلامي هذا من جهة التقدير القديم السابق فإن الله عَلِم وعلمه أزلي أول بمقامي هذا وقراءتي وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فلما جاء الإيقاع ، إيقاع المقدر وقضاء المقدر في ذلك جاءت مرتبتان متعلقة بالواقع وهي مرتبة : أن الله خالق كل شيء ومنه عملي هذا وكلامي وقراءتي ومكثي وجلوسي هذا كله مخلوق نفذ فيه القدر وصار الإيمان به من الإيمان بالقدر لأنه لم ينفذ القدر إلا بذلك ،فخلق الله جل وعلا لهذا الشرح حالي حين وقع ، ثم إن الله سبحانه لم يقع ذلك الشيء إلا بمشيئته سبحانه لا بمشيئة العبد فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فمشيئتي ومشيئة كل مكلف داخلة في مشيئة الله جل وعلا ، فإذا شاء العبد فإنه لا يكون ما شاءه العبد إلا إذا أذن الله جل وعلا به .
ولهذا فرَّق طائفة من أهل العلم بين القضاء والقدر فقالوا : القدر والقضاء يختلفان في المرتبتين الحاليتين ، وبعضهم قال : القدر هو القضاء لأن المرتبتين : مرتبة عموم الخلق والمشيئة هذه من القدر وهي القضاء .
فطائفة من أهل العلم قالوا : القدر والقضاء بمعنى واحد ، لأن القضاء من القدر والإيمان بالقدر بأربع مراتب ، ومرتبتان هما القدر .(16/45)
وقال آخرون : يُفَرَّق إذا ذكر القضاء والقدر بين القضاء والقدر بأن القضاء هو : ما وقع وقُضِي من القدر ، والقدر أعم يشمل ما قُضي وما لم يُقض .
فالقضاء هو : ما قُضِي وانتهى من القدر ، وهذا أولى وهو المتجه بدلالة اللفظ وبدلالة الكتاب والسنة ، قال سبحانه : ( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)(طه: من الآية72) وقال جل وعلا : (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْض)(سبأ: من الآية14) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( لا يقضي الله لعبده قضاءً إلا كان خيراً له ) .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم إلا وقد كُتِب مقعده من النار ومقعده من الجنة ...) الحديث متفق عليه .
الشرح : هذا الحديث فيه دليل على مرتبة الكتابة من مراتب الإيمان بالقدر وأن الله جل وعلا كتب ما الخلق عاملون وأن كل شيء عنده مكتوب سبحانه وتعالى وفيه دليل على أن ذاك الكتاب كاشف وليس مُجبِر وأن الله سبحانه هو الذي ييسر للعباد أعمالهم بما فعلوا وبما عملوا فمن سعى في الخير يُسِّر أن يكون من أهل الجنة ، ومن عمل الشر خُذِل ويُسِّر للعسرى – والعياذ بالله – فعند أهل السنة والجماعة : أن ذكر الكتاب السابق وذكر قبْض الله جل وعلا قبضة إلى النار وقبضة إلى الجنة ونحو ذلك هذا كاشف لعلم الله جل وعلا الذي لا تغيب عنه غائبة لا في الحال ولا في الاستقبال ، فالله جل وعلا يعلم ما كان وما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة وما بعد ذلك ، ويعلم شأن ما لم يكن لو كان كيف يكون سبحانه وتعالى .(16/46)
وهذا له نظائر كثيرة في القرآن مما يذكره الله جل جلاله عن نفسه في التفريق بين علمه الكاشف وكتابه الكاشف وما بين ما يجريه الله جل وعلا في خلقه خلقاً وأمراً كونياً كما في قوله مثلاً : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ )(البقرة: من الآية143) ،(إلا لنعلم ) يعني : إلا ليظهر علمُنَا ، كذلك الكتاب كُتِب وفيه ما سيظهر فيه علم الله جل جلاله ، فالملائكة تأخذ من الكتاب بوحي الله جل وعلا ويكون في أيديها صُحُف تفصيل لما في اللوح المحفوظ من الكتاب السابق .
فإذاً هذا الحديث ليس فيه جبْر ولا منحى لأهل الجبر سواء من الجبرية الغلاة أو من الجبرية المتوسطة الذين هم الأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء ، فأهل السنة والجماعة ليسوا بأهل جبر في القدر بل يقولون باختيار العبد بما أعطاه الله جل وعلا من قدرة وإرادة والله سبحانه خالق كل شيء وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .(16/47)
المكتوب في اللوح المحفوظ هذا لا يتغير وأما المكتوب في صحف الملائكة هذا يتغير ، يعني : أن الله يوحي للملائكة بما في اللوح المحفوظ من كذا وكذا ، والملائكة تفعل ذلك في ملكوت الله جل جلاله بما قدَّر ، وقد يكون في اللوح المحفوظ معلق بأشياء ، يعني مثل أن يكون معلقاً بالدعاء عندها يحصل له كذا وكذا في اللوح المحفوظ لكن في صحف الملائكة مثلاً يكون إنه سيموت وفي اللوح المحفوظ أنه سيدعو وسيصرف عنه ، أو يكون معلقاً : إن دعا فسيكشف عنه أو يؤخر أجله وإن لم يدعو فإنه سيقع فيه أجله ، فكل شيء مكتوب فما في صحف الملائكة قابل للتغيير يعني : ما في صحف الملائكة من التقدير السنوي والتقدير اليومي هذا قابل للتغيير ، أما ما في اللوح المحفوظ فهو ليس بقابل للتغيير وهذا هو أحد معاني قول الله جل وعلا في آخر سورة الرعد : (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما :
( يمحوا الله ما يشاء ويثبت ) يعني : مما في صحف الملائكة ، ( وعنده أم الكتاب ) : اللوح المحفوظ الذي فيه لا يتغير ولا يتبدل .
وهذا هو معنى ما جاء في الأحاديث التي فيها تعليق التغيير ، كقوله في الحديث : ( من سره أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه ) الأجل والعمر محدود مكتوب ، يعني التقدير الذي لا يتغير الذي هو الأجل ، وأما العُمُر ( وينسأ له في أثره ) فيطال عمر ه كما قال تعالى : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَاب)(فاطر: من الآية11) فتكون هذه أسباب ، ما في صحف الملائكة يتغير فالله جل وعلا يوحي إليهم أن انسأوا أجل عبدي أو عمر عبدي .(16/48)
الإيمان بالقدر كما ذكرنا لك على أربع مراتب : مرتبتان سابقتان قبل وقوع المقدر سابقة قبل خلق المخلوقات يعني قبل وقوع المقدر من حيث جنس المقدرات ليس من حيث واقع فلان أو ما سيحصل للأفراد سابقة لوقوع المقدرات وهي علم الله الأول والأزلي ، والكتابة العامة التي هي في اللوح المحفوظ – الكتابة التفصيلية العامة لكل شيء – هذه سابقة ، أما ما في صحف الملائكة فهذه الإيمان بها واجب وهي من فروع مرتبة الكتابة في اللوح المحفوظ لأنها تفصيل لما في اللوح المحفوظ ، يعني : تقدير المتعلق بفلان من الناس مع الملك هذه خاصة ، كما في الحديث : ( قال : اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ) هذه كتابة خاصة بالفرد المعين وهي جزء أو تفصيل لما في اللوح المحفوظ ، ما معنى تفصيل ؟ ليس معناه أن في اللوح المحفوظ مجمل وهذا أكثر تفصيل لا ، وإنما المقصود : أنها تخصيص لما في اللوح المحفوظ يعني أنها متعلقة بواحد معين وذاك للجميع فيكون متعلق بهذا الملك بهذا الشخص المعين ( هذا التقدير العمري ) ، أخص منه بالنسبة للفرد ك التقدير السنوي ، وأخص من هذا : التقدير اليومي ، والتقدير السنوي أيضاً يكون عاماً بالنسبة للمخلوقات أو المكلفين وبالنسبة لما في اللوح المحفوظ هو المرتبة الثانية باعتبار التعلق العام .
هنا نأتي إلى مسألة ثانية : هل الاختيار مطلق أم مقيد ؟ وهنا يأتي الفرق ما بين مذهب أهل السنة وما بين الجبرية .
الجواب : الاختيار ليس مطلقاً وذلك أن الله جل وعلا من شاء هدايته أعانه على الاختيار ويسر له سبيل اليسرى ومن شاء إضلاله لم يُعنه وخذله ووكله إلى نفسه .(16/49)
فإذاً هنا نزيد شيئاً وهو يشتبه بالجبر وهو مسألة التوفيق والخذلان فالله جل وعلا يخص بعض عباده بالتوفيق يعينهم على الخير ويصرف قلوبهم عن الشر – وهذا يلحظه كل واحد منا في نفسه أنه مُعان – فتحس أن ثمَّ إعانة وفتح لأبواب الخير وغلق لأبواب الشر وهذا يسمى التوفيق ، وأما الخذلان فأن يَكِل الله العبد لنفسه فيسلبه الإعانة وهذا عدل منه جل وعلا فكل واحد مختار افعل ما تشاء ، فخص الله بعض خلقه بالإعانة وحرم آخرين من ذلك وهذا عدل منه جل وعلا لأنه لا يظلمه سبحانه واختصاص واختيار .
الله سبحانه هو الذي خلق القدرة وخلق الإرادة إذاً هو خالق لعملك الذي تعمله لأنه ، والقدرة لها صوارف كثيرة والإرادة لها صوارف أيضاً ، تأتي الخطوة الثانية : وهي إرادتك التي تحددت في شيء دون غيره هذه لا بد لها إعانة لأن الشواغل كثيرة كذلك القدرة فصرف الأشياء ليست إليك ، فلذلك توجهك إلى هذا الشيء هذا من الله جل وعلا توفيقاً هذا في الطاعات ، يلحظ الطائع من نفسه أنه أُعين بشيء على ترك المعصية فهو بدأ بإرادته واختياره لكنه صُرف إلى غيره .
فإذاً حصيلة الكلام أن الجبرية يقولون : أن الكتاب السابق يدل على الجبر وعلم الله السابق ( يعني القدر ) يدل على الجبر ، وعندنا : القدر ( العلم والكتابة ) كاشفة بمعنى أنها غير مجبِرة أي أن الله جل وعلا انكشفت له الأمور وهي ليست بخفية عنه وهو على كل شيء شهيد لهذا لا يُجبر أحداً فالعبد يختار لكن يُعين من يشاء ويصرف الإعانة عمن يشاء يهدي من يشاء ويُضل من يشاء سبحانه وتعالى .(16/50)
الأشاعرة عندهم التوفيق : خلْق القدرة على الطاعة ، والخذلان عندهم خلق القدرة على المعصية ، وعندهم أن العبد مثل السكين أي كالآلة في قدرة الله جل وعلا ، فالسكين لها القدرة على القطع لكن ليس لها إرادة ، فهنا حينما خُلِقَت القدرة ( يعني لما حرَّك الماسك السكين ) هنا بدأ القطع لكن في الواقع السكين لا إرادة لها . لذلك دائماً يُعبِّر الجبرية من المفسرين وغيرهم بقولهم : ( يخلق عنده ) دائماً يستخدمون لفظ : العندية لا يستعملون لفظ ( به ) السببية ، فلهذا تتنبه لمسألة القدر والمذاهب فيه وخاصة تدقيقاته والحمد لله النصوص في ذلك واضحة بيِّنة لا إشكال فيها ومذهب أهل السنة والجماعة واضح صافي وفهمهم للأدلة في القدر لا إشكال فيه تجدها متناسقة مع النصوص ومتناسقة أيضاً مع العقل فيما يدل عليه لأن مسألة القدر ضل فيها الأكثرون –نسأل الله العافية والسلامة .
وعن مسلم بن يسار الجهني قال : سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن هذه الآية : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ )(لأعراف: من الآية172) فقال عمر : رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عنها فقال : ( إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرِّيَّة فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ) فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ فقال : ( إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيُدخله النار ) رواه مالك والحاكم وقال على شرط مسلم .
ورواه أبو داود من وجه آخر عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة عن عمر .(16/51)
الشرح : هذا الحديث من الأحاديث المشكلة التي غلَّط فيها المحققون من أهل العلم الرواة في إدخالهم الاستخراج في الآية ، والصحيح : أن استخراج ذرية آدم هذا حق وميثاق كما جاء في هذا الحديث وأنه استخرج من ظهر آدم ذريته وأنه أشهدهم جل وعلا وجعلهم فريقين إلى الجنة وإلى النار وكانوا كأمثال الذر إلى آخر ما جاء في الأحاديث الصحيحة فالميثاق حق والإيمان به واجب ، لكن جعل الميثاق تفسير لقول الله جل وعلا : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِم) (لأعراف: من الآية172) ، هذا فيه نظر عند المحققين من أهل العلم ويجعلون الأحاديث مثل هذا الحديث أنه دخل على الرواة وجعلوا حديثاً في حديث وأن مسألة أخذ الميثاق في آية الأعراف غير أخذ الميثاق من ذرية آدم من ظهره والفرق في هذا يمكن نفصله في شرح الطحاوية .
قوله : ( من ظهورهم ) : الأخذ كان من الظهور من بني آدم جميعاً ، ( ذريتهم ) يعني : ذراري كل بني آدم من ظهورهم .
المسألة الثانية في هذا الحديث : أن الله قسم خلقه لما استخرج الذرية من ظهر آدم إلى طائفة في الجنة وطائفة في النار وهذا بما علمه جل وعلا من حالهم وأن منهم من هو في الجنة باختياره وعمله ومنهم من هو في النار باختياره وعمله والله سبحانه يُضِل من يشاء ويهدي من يشاء سبحانه وتعالى .
وقال اسحاق بن راهوية حدثنا بقية بن الوليد أخبرني الزبيدي محمد بن الوليد ع راشد بن سعد عن عبد الرحمن بن أبي قتادة عن أبيه هشام بن حكيم بن حزام أن رجلاً قال : يا رسول الله أتبتدأ الأعمال أم قد قُضِي القضاء ؟ فقال : ( إن الله لما أخرج ذرية آدم من ظهره أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه فقال : هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار .(16/52)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهو الصادق المصدوق - : ( إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يُبعث الله إليه ملَكَاً بأربع كلمات فيَكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم يُنفخ فيه الروح ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليَعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلَها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبِق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ) ., متفق عليه .
الشرح : هذا الحديث حديث جليل عظيم مهيب يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام والمراد منه في هذا الموطن ذكر القدر وهو قوله هنا : (ثم يبعث الله إليه ملَكاً بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ) وهل هو شقي أو سعيد ، هذه الكتابة مرتبة مراتب القدر ، والكتابة - كما ذكرنا لكم فيما سبق – أنواع : منها الكتابة العامة المفصَّلة لكل شيء في اللوح المحفوظ ، وهذه هي التي جاءت في قول الله جل وعلا : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج:70) ، وفي قوله جل جلاله : ( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (القمر:53) ، ونحو ذلك من الآيات ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه : ( إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسن ألف سنة وكان عرشه على الماء ) يعني : كتبها . هذه كتابة عامة مفصَّلة لكل شيء .(16/53)
تلي هذه الكتابة كتابات عامة في أنحاء منها : الكتابة العمرية يعني : لكل شخص أو لكل إنسان كتابة خاصة به عامة بما سيؤول إليه أمره ، وهذه هي الكتابة في الرحم أي حين يكون المخلوق جنيناً قبل أن تُنفخ فيه الروح يكتب هذه الكلمات رزقه وأجله وعمله هل هو شقي أو سعيد وهذا بما تؤول إليه الحال ، يعني : يكتب رزقه على وجه الإجمال ويكتب عمله هل هو عمله صالح أم لا ؟ ويكتب أجله إلى أين سينتهي ؟ وهل هو شقي أم سعيد ، لذلك هذه الكتابة ليست تفصيلية ، وهناك كتابات أخر تفصيلية : الكتابة السنوية التي تكون في ليلة القدر وتكون تفصيلا لما يكون في هذه السنة بخصوصها لهذا المعين ، وقد يكون في هذه السنة ما يخالف ما هو مكتوب في حين كان في الرحم ، يعني : يكون في هذه السنة - نسأل الله العافية – مسلماً ويُكتب في الرحم شقياً لأنه سيؤول أمره إلى رِدَّةٍ وكفر ، وهذا هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : ( فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ...) إلى آخر ، وهذا معنى أنه كُتِب شقي أم سعيد يعني : فيما سيؤول إليه أمره ، أما فيما هو تفصيل لما في اللوح المحفوظ فهذا يكون الأمر مختلف ( يعني فيما هو في التقدير السنوي ) لذلك لا نفهم من كتابة : هل هو شقي أم سعيد أو أنه يعمل بعمل أهل الجنة ثم يعمل بعمل أهل النار فيدخلها : أن هذا مخالف للكتاب ، أو أن الكتاب جبر عليه لا ، فالكتاب – كما ذكرنا لكم – كاشف ، وما يُجري الله جل وعلا على عبده هو بقدر – لا شك – والقدر أنواع وهذا الكتاب لا بد أنه سيكون فقد يكون يعمل بعمل أهل الجنة العمر كله ثم يسبق عله الكتاب يعني : ما كتب الله جل وعلا في الكتاب أنه سيكون شقياً فيختار هذا الشقاوة فيُبطل عمله السابق وهو باختياره اختار عمل أهل الجنة ثم باختياره أبطل عمله السابق .(16/54)
فإذاً كتابة الكتاب في اللوح المحفوظ يكون على الوجه العام ( الإجمالي النهائي ) وعلى الوجه التفصيلي ، ثم هناك كتب تفصيلية لما في اللوح المحفوظ ومنها الكتابة في الرحم . فإذاً الكتابة في الرحم رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد أي باعتبار العاقبة لا باعتبار ما يكون في تفاصيل حياته ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ...) لأنه كُتب أنه سعيد فسيؤول أمره إلى أنه يُسلم أو إلى أنه يتوب إلى أن يموت فيكون من أهل الجنة .
فإذاً هذا الحديث حديث عظيم فيه تقرير كثير من مسائل القدر وأهمها مسألة الكتابة العمرية وأن الله جل وعلا يبعث إليه ملكاً فيكتب هذه الأمور على وجه الإجمال .
وعن حذيفة بن أسيد رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يدخل المَلَك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أو سعيد فيكتبان فيقول : يا رب أذكر أو أنثى فيكتبان ويُكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا يُنقص ) رواه مسلم .
الشرح : وهذا الحديث أيضاً تتمة في المعنى لما في الحديث السابق لأن الملك يأتي بعد زمن فيكتب هذه الأشياء . قال : ( ثم تطوي الصحف ....) هذا فيه دليل على ما ذكرت لك م أن الكتابة هذه لا تتغير وليست مثل الكتابة التي في أيدي الملائكة ، الكتابة السنوية أو اليومية التي يزاد فيها ويُنقص فيما هو موجود في اللوح المحفوظ ، كما قال سبحانه : (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( يمحوا الله ما يشاء وثبت ) مما في أيدي الملائكة من الصحف ، ( وعنده أم الكتاب ) يعني : ما في اللوح المحفوظ لا يتغير ولا يتبدل ، وكذلك ما في صحف الملائكة من التقدير العمري للإنسان ، هذا أيضاً لا يتغير ولا يتبدل كما دل عليه هذا الحديث : ( فلا يزاد فيها ولا يُنقص ) .(16/55)
هذا الحديث فيه مسألة أخرى ليست متصلة بالقدر في قوله : ( يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة ) ، وحديث عبد الله بن مسعود : أن البعث يكون بعد مائة وعشرين ليلة ، كيف يوفق بين هذا وهذا ؟
أجاب أهل العلم عن هذا بأجوبة من أحسنها : أن هذا مختلف باختلاف الأحوال ، وأن الغالب أن يتأخر وقد يتقدم ، ولهذا قد توجد الحركة في الجنين قبل الأربعة أشهر قد توجد بعد شهرين ونصف أو ثلاثة توجد الحركة وأحياناً قبل ذلك ، لهذا هنا لم يُذكر في هذا الحديث أنه تنفخ فيه الروح بعد الأربعين وإنما ذكرت الكتابة ، وهناك في حديث ابن مسعود ذكرت الكتابة ، وذكر أن نفخ الروح يكون بعد الكتابة لأنه قال : ( ثم يبعث الله إليه ملَكَاً بأربع كلمات ثم ينفخ فيه الروح ) وهذا يدل على أن نفخ الروح متأخر بعد الكتابة التي هي بعد عشرين ومائة من الليالي ، ونفخ الروح دليله الحركة ، وحركة الجنين قد تكون قبل ذلك لهذا قالوا : هذا الحديث يدل على أن الروح قد تنفخ بعد زمن وجيز لأنه بعد ما كتب يكون النفخ والله أعلم متى يكون نفخه .
المقصود : أن من أحسن أوجه الجمع بين هذين الحديثين أنه يُحمل على الاختلاف ، اختلاف ما يقدره الله جل وعلا تارة تكون الكتابة مبكرة وتارة تكون الكتابة متأخرة وهو الغالب لما دل عليه حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه .
المسألة الثانية هنا : ( فيقول : يا رب أذكر أو أنثى فيكتبان ) : علم ما في الأجنة الذي اختص الله جل وعلا به في خمس لا يعلمها إلا الله أعم وأشمل من كون ما في البطن ذكر أو أنثى لأن الله جل وعلا يقول :(16/56)
( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ)(لقمان: من الآية34) ، (ما في الأرحام ) : عام ، يعني : الذي في الأرحام أو كل ما في الأرحام ، لأن الاسم الموصول يعم ، فكل ما في الأرحام : من الجنين ومن تغذيته ومن تقلبه في أنواع الخلق وما تغيض الأرحام وما تزداد ، كل هذا مختص الله جل وعلا به على وجه التفصيل ، فلا أحد يعلم ما في الأرحام على وجه التفصيل إلا الله جل وعلا ، من ذلك هل الجنين ذكر أو أنثى ؟ فيختص الله جل وعلا بهذا العلم في الخمس التي لا يعلمها إلا الله من ضمن علمه جل جلاله بما في الأرحام يختص بما قبل الأربعين أو بما قبل الخمس والأربعين ، لأنه قال هنا إن الملك يعلم ، فإذا كان الملك يعلم خرج عن الاختصاص : ( في خمس لا يعلمها إلا الله ) ، فيعلم الملك بعد الوحي والأمر بالكتابة هل هو ذكر أم أنثى ، ما هو بعد ذلك لا يدخل في الاختصاص لأنه خرج بالخمس والأربعين ليلة عن اختصاص الله جل وعلا بعلمه هل هو ذكرأو أنثى فعلم الملك لذلك لم يكن أمراً غيبياً مختصاً بالله جل وعلا .
ولهذا ما في الجنين ثبت عن أبي بكر رضي الله عنه صح عنه بأنه نظر إلى بطن امرأته فقال : فيها أنثى ، وذُكر عن جماعة من الصالحين وأهل العلم أنهم عندهم كشف علمي بما يُلهمهم الله جل وعلا فيعلمون ما في الرحم يعني بعد مدة فيقولون : هذا فيه ذكر أو أنثى ، ومعلوم أن هذا بعد استبانة المخلوق في البطن ، مثل ما هو حاصل الآن من بعض الأجهزة الطبية أنهم يُصورون فيعلمون هل هو ذكر أو أنثى بالصورة بدلائل وجود علامة الذكورة في فرج الجنين وعلامة الأنوثة كذلك .(16/57)
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : دُعِي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت : طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل سوءاً ولم يُدركه فقال : ( أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل شيء بقدر حتى العجْزُ والكيْس ) رواه مسلم .
وعن قتادة رضي الله عنه في قوله تعالى:(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4) قال : يُقضى فيها ما يكون في السنة إلى مثلها . رواه عبد الرزاق وابن جرير وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما – والحسن وأبي عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير ومقاتل .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درّةٍ بيضاء دفَّتاه من ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور عرضه ما بين السماء والأرض ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ففي كل نظرة منها يخلق ويرزق ويُحيي ويُميت ويُعز ويُذِل ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ)(الرحمن: من الآية29) . رواه عبد الرزاق وابن المنذر والطبراني والحاكم .(16/58)
قال ابن القيم رحمه اله تعالى لما ذكر هذه الأحاديث وما في معناها وقال : فهذا تقدير يومي والذي قبله تقدير حولي والذي قبله تقدير عمري عند تعلق النفس به والذي قبله كذلك عند أول تخليقه وكونه مضغة والذي قبله تقدير سابق على وجوده لكن بعد خلق السماوات والأرض والذي قبله تقدير سابق على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكل واحد من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق وفي ذلك دليل على كمال علم الرب وقدرته وحكمته وزيادة تعريفه الملائكة وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه . ثم قال فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القدر السابق لا يمنع العمل ولا يُجب الاتكال عليه بل يُجب الجدَّ والاجتهاد ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال : ما كنت بأشد اجتهاداً مني الآن ، وقال أبو عثمان النهدي لسلمان : لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحاً مني بآخره ، وذلك لأنه إذا سبق له من الله سابقة وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها .(16/59)
الشرح : هذه الأحاديث دلت على ما ذكره ابن القيم رحمه الله من تنوع التقدير : تقدير سابق عام وتقدير عمري وتقدير سنوي وتقدير يومي إلى آخره ، وهذه سبق الكلام عليها مفصَّلاً فيما ما مضى والمقصود منها : أن قدر الله جل وعلا عام وأن كل شيء يحصل فهو بقدر الله حتى العجز والكيْس . يعني : حتى ما تعجز عنه وهو بقَدَر ، وحتى ما تدركه وعقله هو أيضاً بقَدَر لعموم قوله سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) ، ولعموم قوله سبحانه : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان: من الآية2) ، وهذا التقدير العام والتقدير التفصيلي يدل على عموم مشيئته جل جلاله وعلى شمول قدرته وأنه سبحانه على كل شيء قدير وهذا يجمع مراتب القدر الأربع التي ذكرناها لكم : مرتبة العلم الشامل لكل شيء السابق الأزلي الأول ، ومرتبة الكتابة في اللوح المحفوظ كتب مقادير كل شيء سبحانه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه على كل شيء قدير وأنه خلق كل شيء جل جلاله .
ولهذا عرَّف بعض أهل العلم القدر – كما ذكرنا لكم – بما يجمع تلك المراتب بقوله : إن القدر هو : علم الله الأول أو الأزلي المحيط بالأشياء وكتابته لها في اللوح المحفوظ وعموم قدرته جل وعلا وخلقه للأشياء وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، أو نحو ذلك مما يجمع المراتب الأربعة .(16/60)
التفاصيل التي ذكرها ابن القيم أن بعضها تفصيل لبعض يعني : أن ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ هذا فيه كل شيء ثم يُخصَّص إما بتخصيص الأفراد أو بتخصيص الزمان أو بتخصيص المكان ، فما قدره الله جل وعلا في السماء غير ما قدَّره في الأرض ذاك في كتاب خاص بملائكة وهذا في كتاب خاص بملائكة وما قدره الله جل وعلا لعموم خلقه المكلفين هذا شيء ، ثم تنزل درجة إلى خصوص فئة معينة ثم إلى أن تصل إلى فلا المعين ، ثم إلى أن تصل إلى الجنين في بطن أمه ، هذا من جهة الناس ، ثم من جهة الزمان الكلي يعني : كل ما سيكون بعد خلق السماوات والأرض إلى أن تتبدل السماء والأرض ، ثم هناك تقدير أقل : تقدير سنوي ثم تقدير يومي ، هذا بالنسبة لما يحدث في الملكوت وهكذا .
المقصود : أن ما في اللوح المحفوظ هذا لا يغادر شيئاً فيه كل شيء : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (القمر:53) ، كل شيء فيه سواء من جهة الأمكنة أو الأزمنة أو المخلوقات المكلفين من الجن والإنس ،ثم تأتي تفاصيل .(16/61)
ذكرنا لكم أن ثَمَّ تقدير لا يتغير ولا يتبدل ، وثَمَّ تقدير قد يتغير ويتبدل فأما الذي لا يتغير ولا يتبدل فهو العام الذي في اللوح المحفوظ أو التقدير العمري ونحو ذلك ، هذا العام لا يتغير ولا يتبدل : من الشقاوة والسعادة ومعرفة الأحوال الرزق ما يؤول إليه أمر هذا المخلوق ..، أما ما في صحف الملائكة فهو يقبل التغيير والتبديل وذلك لقوله تعالى : (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39) ولقوله عليه الصلاة والسلام : ( من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره ) ، وقوله : ( صلة الرحم منسأة في الأثر مجلبة للرزق ) ، وأيضاً صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يُصيبه ) ، هذا كله من التغيير فيما كُتِب في صحف الملائكة ، وهذا التغيير والعمل كله بقدر وهو موجود في الصحف لكن له من الرزق كذا إن عمل كذا يُحرم الرزق ، فيكون إذاً السبب والمسبب والنتيجة كلها موجودة في ذلك فيمحو الله جل وعلا من صحف الملائكة ما يشاء ويُثبت فيها ما يشاء لأن فيها كل شيء .(16/62)
كذلك من المسائل التي دلت عليها هذه الأحاديث أن التقدير في ليلة القدر التي قال الله جل وعلا فيها : (ِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)(الدخان: من الآية3) ، وقال : (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان:4) ، وقال : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) يعني : ليلة التقدير السنوي ، وليلة القدر هذه في رمضان وليست هي ليلة النصف من شعبان ، والأحاديث التي فيها أن التقدير يكون ليلة النصف من شعبان هذه في فيها نكارة في متنها وضعف في أكثر أسانيدها ، فالتقدير يكون في ليلة القدر في رمضان المعروفة ، وسميت ليلة القدر لأنه يكون فيها التقدير ، وهذا التقدير تقدير سنوي يعني : ما يحصل في السنة يُكتب في صحف الملائكة من السنة إلى السنة ، صحف الملائكة يعني : التي بأيدي المكلفين : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) منهم الحفظة ومنهم الملائكة الذين يكتبون الحسنات والسيئات ومنهم الملائكة الموكلون بابن آدم .
وعن الوليد بن عبادة قال : دخلت على أبي وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال : أجلسوني فلما أجلسوه قال : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره قلت : يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خيرُ القدر وشرُّه ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليُخطئك ، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول ما خلق الله القلم قال : اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ) يا بني إن متَّ ولست على ذلك دخلت النار . رواه أحمد .(16/63)
الشرح : الحديث دلَّ على أن الإيمان بالقدر خيره وشره أنه مما يُصى به ويُحث عليه ويؤمر به ويُفصل للناس من جهة الإجمال ، يعني يُبين لهم الإيمان بالقدر والإيمان بخيره وشره ، وأن ما أخطأ العبد لم يكن ليُصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه وأن هذا لا يُخالف ما جاء من الإمساك عن القدر وعن ذكره – كما مرَّ معنا سابقاً – لأن الإمساك عن القدر : ( إذا ذُكر القدر فأمسكوا ) يعني : عن الخوض فيه بلا علم ، أما ما دلَّ عليه الدليل وعلمه العبد من الشريعة فإنه يذكره ولهذا يوصي بالإيمان بالقدر خيره وشره ، قال : ( كيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك وما أصابك لم يكن ليُخطِئك ) هذه هي الحقيقة يعني : ما أخطأك لا يمكن أنه كان يصيبك لأن الله جل وعلا لم يقدِّره ، وكذلك ما أصابك لم يكن ليُخطئك ، فالجميع بقدر الله جل وعلا .
قوله هنا : ( بالقدر خيره وشره ) الخيرية والشر – كما هو معلوم – بالإضافة إلى العبد ، أما القدر في نفسه ن يعني : المضاف إلى الله جل وعلا الذي هو تقدير الله هذا هو صفة الله وفعل الله جل وعلا ، وأفعال الله تعالى لا يضاف إليها الشر لأن الشر ليس إلى الله جل وعلا لا وصفاً ولا فعلاً سبحانه وتعالى ، فالقدر شره بالنسبة للعبد وخيره بالنسبة للعبد ، أما حقيقة القدر فهو خير وموافق للحكمة والمقاصد الحكيمة للرب جل جلاله .
قوله : ( أول ما خلق الله القلم قال : اكتب ...) (أول) هنا بمعني : حين ، ( أول ما خلق الله القلم ) يعني : حين خلق الله القلم قال له :اكتب ، يعني أنه لما خُلق كان أول ما قيل له : اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة .
وعن أبي خزامة عن أبيه رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله أرأيت رُقى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتُقاةً نتقيها هل تردُّ من قدر الله شيئاً ؟ قال : ( هي من قدر الله ) . رواه أحمد والترمذي وحسنه .(16/64)
الشرح : القدر يشمل كل شيء ، يشمل تقدير السبب وتقدير المسبب ، يشمل تقدير الفعل وتقدير النتيجة ، فما من شيء إلا هو بقدر الأسباب والمسببات ، مسك القلم باليد ، والنتيجة : الكتابة ، كلها بقدر ، وتناول الدواء بقدر والانتفاع بالدواء بقدر ، تعاطي الأسباب بقدر والانتفاع بهذه الأسباب بقدر .
فإذاً لا يعني عدم تعاطي الأسباب الإيمان بالقدر ، كما يقول بعض الناس : أنا راض ومؤمن بما قدَّر الله ولا يتعاطى الأسباب ، كما هو عند غلاة نفاة الأسباب والمتصوفة الذين لا يفهمون التوكل على حقيقته ، فهم يرون أن تفويض الأمر لقدر الله جل وعلا يعني عدم تعاطي شيء من الأسباب وهذا باطل ومتناقض في نفسه . فإذاً الأسباب النافعة الموصلة للمسببات هذه من قدر الله ، الرقى ، التداوي ، الأكل ، الشرب هذه كلها من قدر الله جعلها أسباباً ، وما ينتج عنها هو من القدر ، فإذاً العبد حين يفعل الأسباب يفعل ما أمر الله به أو ما أذن الله به فيحصل بذلك النتيجة وهو المسبَّب .
إذاً الرقية والدواء لا يرد من قدر الله شيئاً بل هو من قدر الله سبحانه وتعالى .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن (لو) تفتح عمل الشيطان ) رواه مسلم .
الشرح : هذا الحديث فيه دلالة على مسألة القدر من جهة قوله : ( ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل ) فإن تفويض الأمر لمشيئة الله جل وعلا هذا من الإيمان بالقدر ، وقول العبد : (قدَّر الله ) يعني : قضى الله بهذا الشيء وما شاء فعل ، وهذا يدل على عموم قدر الله وعموم مشيئته سبحانه .(16/65)
قوله : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ) القوة هنا : تشمل القوة الإرادية والقوة الإيمانية والقوة البدنية ، يعني : إذا كان مؤمناً قوياً في بدنه فهو خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وذلك لأن قوته فيها إعانة له على الإيمان والجهاد والعلم والأمر بلمعروف والنهي عن المنكر ، وكذلك القوة في العلم ، المؤمن القوي في علمه القوي في دينه خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف في علمه وفي دينه .
فإذاً أنواع القوة متعددة فإذا آتى الله جل وعلا العبد القوة العلمية والقوة الإرادية والحكمة والبصيرة والقوة البدنية فيكون ذلك من النعم الخاصة كما قال سبحانه في نعمته على أحد عباده : ( وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ )(البقرة: من الآية247) .
قال : (احرص على ما ينفعك ) يعني : في أمر دينك ودنياك تعاطى ما ينفعك ، لا تستنكف اتكالاً على القدر أو تقول كل شيء مقدر لن أفعل ، ما ينفعك في أمر دنياك اعمل به بع واشتر ، احرص على التعلم والعلم والحفظ ولا تقل ما يحصل لي هذا بل ما ينفعك احرص عليه فإنه بعد ذلك تكون النتيجة بتوفيق الله جل وعلا .
( واستعن بالله ) يعني : إذا فعلت ما أمرت به أو حرصت على ما ينفعك وفعلت الأسباب فاستعن بالله يعني : اطلب العون من اله جل وعلا ، وطلب العون من اله جل وعلا على مرتبتين :
المرتبة الأولي : طلب العون في تهيئة الأسباب ، أن العبد تهيأ له الأسباب وينشرح صدره لها ويفعلها .
المرتبة الثانية : أن يعينه الله جل وعلا في نفع تلك الأسباب ، لأنه قد يفعل المرء شيء ولا ينتفع به ن ولهذا عظم المطلوب في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) .(16/66)
قال : ( فإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن (لو) تفتح عمل الشيطان ) هذا معروف في شرح كتاب التوحيد عند قول الشيخ : باب ما جاء في اللو ، وتلخيص المسألة : أن (لو) إذا جاءت تحسراً على شيء وقع في الماضي مما يسوء العبد فإنها تفتح عمل الشيطان ، وأما إذا كانت في المستقبل أو في تقدير الخير في الماضي لا تحسراً فلا بأس بها .
أما المنهي عنه إذا كان على أمر قضاه الله وانتهى ، فيقول : لو أني فعلت كان أحسن ، لو أني فعلت ما صار لي كذا فهذه إذا كان فيها التحسر على الماضي ففيها اعتراض على القدر وكل شيء بقدر الله جل وعلا ولذلك صارت (لو) في الماضي تحسراً تفتح عمل الشيطان على القلب وهو سوء الظن بالله : ( لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)(آل عمران: من الآية168) ، سوء الظن بالله ، وتفتح عمل الشيطان في روعات النفس وحزنها ويأسها ، وتفتح عمل الشيطان في التحسر على ما فات وأن العبد لو فعل أشياء يمكن أن تصده عن أشياء ، والعبد قبل وقوع الشيء عليه أن يفعل ما ينفعه وما أمر به وألا يعجز وعليه أن يستعين بالله وأن يكون قوياً في أمره ، فإذا وقع المقدر فإن العبد يرضى ويسلم كما جاء في تفسير قوله : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه)(التغابن: من الآية11) ، قال علقمة : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .
فإذاً قبل وقوع الشيء ابذل الأسباب واجتهد ولكن إذا وقع وانتهى فيقول العبد : قدّر الل وما شاء فعل ، وهذا فيه التسليم وفيه حسن الظن بالله جل وعلا وفيه فتح أبواب كثيرة من أبواب إيمان القلب ، وأما استعمال (لو) فيفضي إلى التحسر وضعف القلب وانكساره والندم وظن العبد أن بسببه حصل كذا وكذا وأنه ليس بقدر الله وأشياء من تسويلات الشيطان .(16/67)
كلمة (لولا) فيها الترتيب على شيء مثل قول القائل : لولا الطبيب صار لي كذا وكذا ، لولا السائق لحصل كذا لولا فلان لم أحصل على وظيفة ونحو ذلك ، هذه فيها تعلق القلب بهذا الشخص ممن حدثت له النعمة ، وقوله في الحديث : ( لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ) هذا ليس من هذا الباب بل هي من باب التفضل ، والأمر الثاني : أن قوله : (لولا) هذا راجع إلى الشفاعة والدعاء ، والمنهي عنه في (لولا) ليس هو باب الدعاء إنما هو باب إضافة النعم لغير الله جل وعلا .
(باب ذكر الملائكة عليهم السلام والإيمان بهم)
وقول الله تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)(البقرة: من الآية177)، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) ،وقوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)(النساء: من الآية172) ، وقوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (الانبياء:19) (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20) ، وقوله تعالى : ( جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ)(فاطر: من الآية1) وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا )(غافر: من الآية7) .(16/68)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خلقت الملائكة من نور وخلقت الجن ...) الحديث رواه مسلم . وثبت في بعض أحاديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم رُفِع له البيت المعمور الذي هو في السماء السابعة وقيل في السادسة بمنزلة الكعبة في الأرض وهو بحِيال الكعبة حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملَك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : ( ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملَك ساجد أو ملك قائم فذلك قول الملائكة : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (الصافات : 165-166) . رواه محمد بن نصر وابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ ، وروى الطبراني عن جابر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : ( ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعاً سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلا أنَّا لم نشرك بك شيئاً ) .
الشرح : هذا الباب معقود لبيان ركن من أركان الإيمان وأصل من أصوله العظام ألا وهو الإيمان بملائكة الله جل وعلا فإن الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى .
والإيمان بالملائكة ركن لا يصح إيمان أحد إلا أن يؤمن بالملائكة يعني : بأن الملائكة موجودون كما أخبر الله جل وعلا وأنهم عابدون لا يُعبدون ، وهذا القدر واجب وركن وهذا هو القدر المُجزيء من الإيمان ، فمن لم يؤمن بذلك وهو :
1- الإيمان بوجود الملائكة والإقرار أنه ثَمَّ من خلق الله ملائكة اصطافهم جل وعلا .
2- وأنهم عابدون لا يُعبدون وأنهم بأمر الله يعملون .
هذا القدر لا بد منه في الإيمان لأن هذا معنى وجود الملائكة .(16/69)
لفظ الملائكة جمع ( ملأك ) وأصل هذه الكلمة مقلوبة عن ( مألك ) والمألك : مصدر من الألوكة ، والألوكة : هي الرسالة ، وفعلها أَلَكَ يَأْلَكُ أَلُوكَةً ، يعني : أرسل برسالة خاصة وبمهمة خاصة .
فإذاً الكلمة راجعة إلى معنى الإرسال ، (فالملائكة) من لفظها اللغوي معناها : المرسلون برسالة خاصة والقائمون بمهمة خاصة . فالإيمان بالاسم فيه ذكر المرتبتين اللتين ذكرتهما : الإيمان بالوجود والإيمان بالعمل ، هذا موجود في الاسم لمن يعقل اللفظ العربي .
والملائكة : خلق من خلق الله جل وعلا خلقهم من نور كما جاء في حديث عائشة الذي رواه مسلم : ( خُلقت الملائكة من نور ) فهم أرواح مطهرة مكرمة جعلهم الله جل وعلا عنده يعني : جعلهم في السماء فأصل مقامهم في السماء وقد يوكلون بأعمال في الأرض فينزلون بأمر الله جل وعلا : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4) ، و (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء:193) ، فأصل مكانهم في السماء كما أن أصل مكان الجن والإنس في الأرض .(16/70)
الكلام في الملائكة مبسوط في كتب الحديث والتفسير وساق الإمام المصلح هنا شيئاً من ذلك فيمكن أن نقول فيهم : أنهم خلق عظيم يعني في الصفة وأنهم أنوار يعني : خلقوا من نور لا يراهم الإنسان بعينه المجردة ، لكن إن كشف له الغطاء رأى كما قال سبحانه : ( فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(قّ: من الآية22) ، فالإنسان على بصره غطاء يعني : حدود يرى بها ، لكن بالموت إذا كشف الله عنه الغطاء البشري في الدنيا لأنبيائه ورسله فإنهم يرون ما لا يرى غيرهم فيرى الملائكة على صورتهم التي خلقهم الله جل وعلا عليها كما ثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله علي وسلم قال : رأيت جبريل على صورته مرتين له ستمائة جناح قد سدَّ الأفق ) ، ومنهم ذووا الأجنحة ، ومنهم من ليس بذي أجنحة ، فخلقهم متنوع لكن يجمعهم أن خلقهم من نور .
الملائكة منهم ثلاثة كرمهم الله جل وعلا وجعلهم سادة الملائكة وهم جبرائيل وميكائيل وملك النفخ في الصور إسرافيل وهؤلاء الثلاثة في مهمتهم تشابه : فجبرائيل جعله الله جل وعلا سيداً على الملائكة وموكلاً بالوحي فهو الذي ينزل بالوحي من الله جل وعلا إلى رسله وإلى ملائكته ، وميكائيل موكل بالقطر من السماء يُصرِّفه كما يأمر الله جل وعلا : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا)(الفرقان: من الآية50) ، وإسرافيل هو : الموكل بقبض الأرواح ، وبالنفخ في الصور ونحو ذلك .
والتناسب بينهم كما ذكر العلماء : أن هؤلاء متصلة بهم الحياة فجبرائيل متصلة به حياة الدين حياة الأرواح الحقيقية لأنه ينزل بالوحي ، وميكائيل بحياة الأرض بالقطر من السماء ، وإسرافيل بحياة الأبدان بعد موتها .(16/71)
أيضاً مما يتصل بذلك أن الله جل وعلا جعل الملائكة موكلين بالأعمال ولفظ ( التوكيل ) جاء في القرآن كما قال سبحانه : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)(السجدة: من الآية11) ، فالله جل وعلا وكَّل الملائكة بأعمال ، فهذا مختص بالسحاب وهذا مختص بالهواء وهذا بالبحار وهذا بالإنسان إلى آخره .. في أعمال كثيرة جداً ، فما من شيء يحصل إلا والله جل وعلا قد أمر به وحدث بأمره وإذنه وقدرته ، والملائكة موكلون بذلك وقد يكون المَلَك الموكل بشيء معه ملائكة كثير يفعلون ما يأمرهم به كما قال سبحانه في ذكر ملك الموت : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الأنعام: من الآية61) ، فهم رسل وسيدهم أو رئيسهم ملك الموت .
من الملائكة : الملائكة المقربون الذين ذكرهم الإمام فيما سمعت ، والملائكة المقربون أقسام منهم : حملة العرش وهؤلاء يقال لهم : (الكروبيون) في بعض ما جاء في آثار السلف ، وسموا بذلك : لأجل ما يعلوهم من الكرب من حمل العرش وقربهم من الله جل جلاله زخزفهم منه سبحانه شدَّة فزعهم وكثرته من الله جل وعلا.
ومن الملائكة المقربين : الملائكة الذين حول العرش كما قال جل وعلا : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْد رَبِّهِمْ)(غافر: من الآية7) ، وبعض العلماء يجعل حملة العرش ومن حوله جميعاً يدخلون في اسم الكروبيين .
وحملة العرش ومن حوله لهم مزيد اختصاص لقربهم من الله جل وعلا ومزيد فضل واختلف العلماء في حملة العرش كم عددهم على قولين :
1- منهم من قال : إنهم ثمانية لقواه سبحانه : ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)(الحاقة: من الآية17)(16/72)
2- ومن أهل العلم وهم الأكثر قالوا : إنهم أربعة في الدنيا وثمانية يوم القيامة ، يعني أن عرش الرحمن جل وعلا إذا جيء به يوم القيامة لفصل القضاء فإنه يأتي به ثمانية من ملائكة الله جل وعلا ، أما في الدنيا فهم أربعة ويستدلون لذلك بحديث رواه الإمام أحمد بإسناد جيد : أن ملائكة العرش أربعة .
ومن الملائكة : خازن الجنة وخازن النار ، ومنهم : ملائكة موكلون بابن آدم منهم ما يكتب ما يصدر منه ، ومنهم من يحفظه من بين يديه ومن خلفه وهؤلاء هم المعقبات يتعاقبون على ابن آدم أربعة ، والملائكة متنوعون في مهامهم والمؤمن يؤمن بهؤلاء إجمالاً على وجودهم لا ينكر شيئاً منذلك وتفصيلاً فيما علمه بالتفصيل .
فالإيمان بالملائكة على درجتين :
1- إيمان إجمالي فيما علمت وفيما لم تعلم . 2- والإيمان التفصيلي فيما فُصِّل لك في النصوص ، فما جاء في النص م وصف ملك أو ذكر اسمه في دليل في القرآن أو في حديث صحيح ثابت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فوجب اعتقاده لأن هذا أمر غيبي يجب اعتقاده على ما جاء في الدليل .
من آثار الإيمان بالملائكة على إيمانه ويقينه منها :(16/73)
1- شدة تعظيمه لربه جل وعلا : لأن إيمانه بالملائكة به يعلم عظمة الرب جل وعلا وأن هؤلاء الملائكة الذين عظُم وصفهم وعظمت إحاطتهم وقدَرهم بما أقدرهم الله جل وعلا وكثرة عددهم وتنوع خلقهم وصفاتهم فيه الإيمان بعظمة الله جل وعلا وشدة الخوف من الله جل وعلا والعلم بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى ، فإذا كانت الملائكة : (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم)(النحل: من الآية50) ، فالعبد المؤمن يعلم أنه أحق بالخوف لأنه مكلف متعرض للطاعة وللذنب وأولئك مطهرون وإذا علم أن الملائكة إذا سمعوا كلام الله جل وعلا أصابتهم صعقة أو رعدة شديدة وصعقوا ثم يُفزع عن قلوبهم فإنه يعلم حينئذٍ أن الملائكة – مع شدَّة خلقهم وعِظَم وصفهم –أنهم ينالهم ذلك مع تقواهم له جل وعلا ومع طاعتهم وأنهم ركع سجود يعملون بأمر الله لا يخالفونه فكيف بحال العبد المكلَّف الذي يخالف كثيرا ويعصي كثيرا ويغفل كثيرا .
فإذاً الأثر الأول العام هو : الإيمان بعظمة الله جل وعلا وما يورثه الإيمان بالملائكة من خوف الله جل وعلا ومن الإنابة إليه .
2- محبة الملائكة : فإن الملائكة مطهرون عباد مكرمون مطيعون لله موحدون لله فبين الموحد وبين هؤلاء الموحدين بينه وبينهم سبب وصلة ومحبة ولذلك الملائكة يستغفرون لمن في الأرض ويستغفرون لمن دعا لأخيه ، فبينهم وبينه محبة وكذلك المؤمن يحبهم ولذلك لا يرضى بالتعدي عليهم أو بادعاء أنهم وسطاء عند الله جل وعلا ، أو بأنهم بنات الله جل وعلا – كما يدعيه المشركون – تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً .(16/74)
من آثار الملائكة بالله جل وعلا : أن الإيمان بالملائكة يعرِّف المؤمن الموحد ويجعل المؤمن على يقظة ومحاسبة لما يصدر منه ، لأن الملائكة منهم الموكل بالكتابة ومنهم الموكل بالحفظ وهؤلاء بأمر الله جل وعلا يعملون ولهذا يكرم الملَك عند المؤمن الموحد وعند العالم الراسخ ، يكرم الملَك عن كثير من الأعمال والهيئات والأقوال التي تصدر عن الجهلة فكلما عَظُم الإيمان بالملائكة عظُم إكرامهم عن ما يكرهون مثل : الكلام السئ والأفعال الخبيثة والأقوال الخبيثة ونحو ذلك مما تنفر منه الملائكة . إلى غير ذلك من الآثار التي ربما يأتي – إن شاء الله – بعضها .
قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء:193)(عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء:194)
وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر:1) إلى أن قال : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4) ، يعني : بكل أمر ، فالعلماء يقولون : إن جبريل عليه السلام مختص بوحي الله جل وعلا يعني : بالنزول بالوحي ، وهذا كثير في الأحاديث منها : ( إن روح القدس نفث في روعي ) ، ( إن جبريل أتاني آنفاً فقال ...) وهكذا .
وعن جابر رضي الله عنهما قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أُذِن لي أن أُحدِّث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) الحديث رواه أبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات والضياء في المختارة .(16/75)
فمن سادتهم جبرائيل عليه السلام وقد وصفه الله تعالى بالأمانة وحسن الخلق والقوة فقال تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى) (النجم:6) ، ومن شدَّة قوته أنه رفع مدائن قوم لوط عليه السلام وكنَّ سبعاً بمن فيهنَّ من الأمم وكانوا قريباً من أربعمائة ألف وما معهم من الدواب والحيوانات وما لتلك المدائن من الأراضي والعمارات على طرف جناحه حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فهذا هو ( شديد القوى ) ، وقوله : (ذو مرة ) أي : ذو خلق حسن وبهاء وسناء وقوة شديدة قال معناه ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال غيره : ( مرة ) أي : ذو قوة ، وقال تعالى في صفته : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير:19)(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) (التكوير:20) ، (مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (التكوير:21) أي : له قوة وبأس شديد وله مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند ذي العرش (مطاع ثم ) أي : مطاع في الملأ الأعلى (أمين ) ذي أمانة عظيمة ولهذا كان هو السفير بين الله وبين رسله وقد كان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة وقد رآه على صفته التي خلقه الله عليها مرتين وله ستمائة جناح روى ذلك البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه وروى الإمام أحمد عن عبد الله قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها سدَّ الأفق يسقط من جناحه من التهاويل والدرّ والياقوت ما الله به عليم . إسناده قوي .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : رأى ر سول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في حلة خضراء قد ملأ ما بين السماء والأرض رواه مسلم .(16/76)
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أيت جبريل منهبطاً قد ملأ ما بين الخافقين عليه ثياب سندس معلق بها اللؤلؤ والياقوت ) . رواه أبو الشيخ ولابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جبرائيل عبد الله وميكائيل عبيد الله وكل اسم فيه إيل فهو عبد الله .
وله عن علي بن الحسين مثله وزاد وإسرافيل عبد الرحمن .
من أجل أن آخرها ( فيل ) ( إسرائيل ) وليس ( إيل ) كما في ( جبرائيل ) ( ميكائيل ) فجعل ( إيل ) بمعنى الله في اللغة السريانية ، و( فيل ) بمعنى الرحمن .
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بأفضل الملائكة ؟ جبرائيل ) .
وعن أبي عمران الجوني أنه بلغه أن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك ؟ قال : ومالي لا أبكي فوالله ما جفت لي عين منذ أن خلق الله النار مخافة أن أعصيه فيقذفني فيها ) رواه الإمام أحمد في الزهد .
وللبخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل : ( ألا تزورنا ) فنزلت : (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلك )(مريم: من الآية64) .
ومن ساداتهم ميكائيل عليه السلام وهو موكل بالقطر والنبات .(16/77)
معنى السيادة هنا : أنه معه من الملائكة من يأتمرون بأمره ، فمعنى أنه سيد : أي يأمر وينهى ، فجبرائيل سيد الملائكة يعني : يأمر الملائكة ، فمعنى ( سادات الملائكة ) يعني : الذين معهم جنود ومعهم أعوان ينفذون أمر الله جل وعلا بما وكل إليه فملك الموت قال تعالى عنه : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (السجدة: من الآية11) ، وإسرافيل مثل ما جاء في الحديث : ( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ) من سادة الملائكة وهو الموكل بالنفخ في الصور وبأخذ الأرواح وإزهاقها حين النفخ في الصور ، لآنه ينفخ نفخة الصعق فيموت الجميع ثم ينفخ نفخة البعث فتعود الأرواح ، فملك الموت يقبض الأرواح ومستودع هذه الأرواح في الجنة وفي الصور عند إسرافيل والمقصود هذا معنى من ساداتهم .
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبرائيل ما لي لم أر ميكائيل ضاحكاً قط ؟ قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار .
ومن ساداتهم إسرافيل عله السلام وهو أحد حملة العرش وهو الذي ينفخ في الصور .
روى الترمذي وحسنه والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر متى يؤمر فينفخ ) . قالوا : فما نقول يارسول الله ؟ قال : قولوا ( حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا ) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن ملكاً من حملة العرش يقال له : إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله قد مرقت قدماه في الأرض السابعة السفلى ومرق رأسه من السماء السابعة العليا ) . رواه أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية ، وروى أبو الشيخ عن الأوزاعي قال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل فإذا أخذ في التسبيح قطع على أهل سبع سماوات صلاتهم وتسبيحهم .(16/78)
ومن ساداتهم ملك الموت عليه السلام – ولم يجيء مصرحاً باسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة وقد جاء في بعض الآثار تسميته بعزرائيل فالله أعلم قاله الحافظ ابن كثير . وقال : إنهم بالنسبة إلى ما هيأهم له من أقسام فمنهم حملة العرش ، ومنهم الكروبيون الذين هم حول العرش وهم مع حملة العرش أشرف الملائكة وهم الملائكة المقربون كما قال تعالى : ( لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ )(النساء: من الآية172) ، ومنهم سكان السماوات السبع يعمرونها عبادة دائمة ليلاً ونهاراً صباحاً ومساءً كما قال تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20) .
ومنهم الذين يتعاقبون إلى البيت المعمور .
قلت : الظاهر أن الذين يتعاقبون إلى البيت المعمور سكان السماوات ومنهم موكلون بالجنان وإعداد الكرامات لأهلها وتهيئة الضيافة لساكنيها ، من ملابس ومآكل ومشارب ومصاغ ومساكن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .(16/79)
ومنهم الموكلون بالنار أعاذنا الله منها وهم الزبانية ومقدَّموهم تسعة عشر وخازنها مالك وهو مقدَّم على الخزنة وهم المذكورون في قوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ) (غافر:49) ، وقال تعالى : (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) (المدثر:30)( وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )(المدثر: من الآية31) .
ومنهم الموكلون بحفظ بني آدم كما قال تعالى : ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)(الرعد: من الآية11) ، قال ابن عباس : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء أمر الله خلَّوْا عنه ، وقال مجاهد : ما من عبد إلا وملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له وراءك إلا شيء يأذن الله تعالى فيصيبه .
ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد كما قال تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) (قّ:17)(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ:18) ، وقال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) (الانفطار:10)(كِرَاماً كَاتِبِينَ) (الانفطار:11)(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار:12) .(16/80)
روى البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله ينهاكم عن التعرِّي فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات : الغائط والجنابة والغسل فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجذم حائطٍ أو بغيره ) ، قال الحافظ ابن كثير : ومعنى إكرامهم : أن يستحِي منهم فلا يُملي عليهم الأعمال القبيحة التي يكتبونها فإن الله خلقهم كراماً في خلقهم وأخلاقهم ثم قال ما معناه : إن من كرمهم أنهم لا يدخلون بيتاً فيه كلب ولا صورة ولا جُنُب ولا تمثال ولا يصحبون رفقة معهم كلب أو جرس .
وروى مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرُج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ) ، وفي رواية : أن أبا هريرة قال : اقرءوا إن شئتم : ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)(الاسراء: من الآية78) .
وروى الإمام أحمد ومسلم حديث : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله في من عنده ، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) .
وفي المسند والسنن حديث : ( إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع ) .
والأحاديث في ذكرهم عليهم السلام كثيرة جداّ .(16/81)
الشرح : هذه الأحاديث المتنوعة منها ما هو صحيح الإسناد ومنها ما لا يصح ، وأهل العلم إذا أتوا إلى أصل من الأصول في تقريره فإنهم يسوقون ما في الباب من الأحاديث – كما هي طريقة أهل العلم الراسخين فيه من المتقدمين والمتأخرين . قال شيخ الإسلام في أحد أجوبته على منهج أهل الحديث قال : وأهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول بل إما في تأييده أو في فرع من الفروع – أو كما قال – يعني : أنه لا يخترع أصل بحديث ضعيف لا يثبت وإنما إذا كان الأصل ثابتاً فإن منهج أهل الحديث أنها تساق الأحاديث سواء منها ما صح أو ما لم يصح إسناده تأييداً لذلك الأصل وبياناً لكثرة ما ورد في ذلك لأن الحديث الضعيف قد يكون صحيحاً وإنما حكمنا بضعفه لسوء حفظ راويه أو لانقطاعٍ فيه أو نحو ذلك رعاية وحماية لكلام المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلا فقد يكون صحيحاً ولذلك إذا كان في أصل من الأصول فإنه يؤيد به ، وهذا التأييد على قسمين في طريقة أهل الحديث المتقدمين منهم والمتأخرين يعني من حفاظ الحديث ورواته هذا التأييد على قسمين :
1- إما تأييد كامل يعني : تأييداً لجميع الأصل .
2- وإما تأييد ناقص يعني : تأييداً لبعض ما جاء في الأصل .
وفي بعض الأحاديث التي ذكرها الشيخ روايات ضعيفة ولكنها دالة على وجود الملائكة وعلى أسمائهم وعلى تقاسيمهم ونحو ذلك .(16/82)
فالأصل هو وجود الملائكة وأنهم أقسام وأن منهم كذا ومنهم كذا وأنهم متنوعون إلى آخر ذلك ، هذا هو الأصل الذي تحشد له الأدلة لأن المقصود الإيمان بالملائكة والإيمان بالملائكة يحصل بمجموع هذه الأحاديث فنعلم منها أن الملائكة خلق عظيم من خلق الله جل وعلا مكرمون مقربون وأنهم عباد إلى آخره فيحصل من جملة هذه الأحاديث صفات عامة هي ثابتة لكثرة ما جاءت الروايات في تدعيم هذا الأصل العظيم ، يأتي بعض الفقرات يكون هل هذا ثابت أو غير ثابت في بعض الصفات أو غيرها هذا يتبع صحة الحديث من عدمه ، وهذا حتى في العقائد في مباحث العقيدة في صفات الله جل وعلا أو في العرش وما جاء فيه أو في العلو أو نحو ذلك تجد أن طريقة أهل الحديث – رحمهم الله تعالى – أن طريقتهم أن يحشدوا ما في الباب فيكون إيرادهم مدعماً لما في الأصل فيكون هذا التأييد كما ذكرت لك هناك تأييد إجمالي وثَمَّ تأييد تفصيلي ، فالتأييد الإجمالي بكثرة الروايات يحصل التأييد ، أما التأييد التفصيلي فمن أراد أن يحتج بكلمة على عقيدة أو على أمر غيبي فلا شك أنها لا بد أن تثبت لكن لا يمنع هذا من رويتها والاستدلال بها والاستشهاد كما هو طريقة أهل العلم – كما ذكرنا لكم .
من حيث الأحاديث التي ذكرها واضحة بينة لا تحتاج إلى مزيد بيان . الكروبيون أوضحنا لكم معناه في الدرس الماضي ، وتقاسيم الملائكة ومهمتهم كلها موضحة هنا لا يوجد إن شاء الله ما يشكل .
( باب الوصية بكتاب الله عز وجل )(16/83)
وقول الله تعالى : (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (الأعراف:3) . وعن زيد بن أرقم – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – ( خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به فحثَّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال : ( وأهل بيتي ) وفي لفظ : ( كتاب الله هو حبل الله المتين من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة ) رواه مسلم .
وله في حديث جابر الطويل : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة يوم عرفة : " وقد تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به – كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟" قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وأديت ونصحت قال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : (اللهم اشهد) ثلاث مرات .
الشرح : هذا الباب ذكره الإمام رحمه الله تعالى في أصول الإيمان لأن الإيمان بكتب الله جل وعلا ركن الإيمان فأركان الإيمان ستة والإيمان بالكتب أحد هذه الأركان الستة وأعظم درجات الإيمان بكتب الله جل وعلا الإيمان بأعظم كتب الله وأفضلها وحجتها على المكلفين بعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام وهو القرآن هو الذي أمر الله جل وعلا باتباعه وتوعد من خالفه ولم يأخذ به فقال سبحانه : (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (لأعراف:3) ، فالله جل وعلا عظَّم الأخذ بكتابه من جهة الإيمان به وتصديق ما فيه والعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه .
وحقيقة الإيمان بالقرآن أنها تشمل مراتب وهذه كلها واجبة ومن معني الركنية أو داخلة كلها في الإيمان بهذا الركن :(16/84)
المرتب الأولى : أن هذا القرآن كلام الله جل وعلا المنزّّل على عبده محمد عليه الصلاة والسلام .
المرتبة الثانية : أن القرآن حق لا باطل فيه .
المرتبة الثالثة : أن القرآن هو آخر كتب الله جل وعلا وأنه لا كتاب بعده ولا هدى يأتي من الله جل وعلا بعده لعباده ، فكما أن محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين فكذلك القرآن هو خاتم كتب الله جل وعلا وحجة الله على هذه الأمة وهو الصراط المستقيم وهو حبل الله المتين من أخذ به هدي ومن تركه ضل .
الإيمان بالقرآن على درجتين : درجة واجبة والتي هي الركن من لم يأت بها فلا يصح منه الإيمان وهي التي ذكرت لك في المراتب الثلاث .
والدرجة الثانية : مستحبة وهي الإيمان بكل التفاصيل التي جاءت في القرآن أو في السنة وما جاء من تفسيرها ، فهذه مستحبة إجمالاً يعني : قبل علم الإنسان بها ، فإنه يقال : إنه يؤمن ولو لم يعلم بمل للقرآن من فضل ، ويجب الإيمان بها لمن علمها على وجه التفصيل ، وقال كثير من أهل العلم : إنها واجبة وليست مستحبة من جهة الإجمال ، فإنه يجب عليه أن يؤمن بما للقرآن من فضل علمه أو لم يعلمه – من جهة الإجمال – وإذا علم التفصيل فإنه يجب التفصيل .
وعند التحقيق القولان متقاربان لأنه في الحقيقة من جهة عملية لا فرق بينهما كبير .(16/85)
ذكر لك حديث زيد بن أرقم وفيه وصية النبي عليه الصلاة والسلام للناس ، وقوله عليه الصلاة والسلام : ( وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به ) قال : فحث على كتاب الله جل وعلا ، ثم قال : ( وأهل بيتي ) وهذه العبارة استدل بها على أن الثقلين : كتاب الله جل وعلا وأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام ، والمحققون من أهل العلم يقولون : إن حديث زيد بن أرقم هذا فيه اختصار ودخل كلام زيد بعضه في بعض ، وزيد في أوله كما رواه مسلم ذكر أنه نسي أشياء ، فهذا الحديث يحمل فيه قوله : ( وأهل بيتي ) أنها جملة مستقلة لا علاقة لها بالثقلين فذكر عليه الصلاة والسلام أحد الثقلين وهو كتاب الله ، ( إني تارك فيكم ثقلين كتاب الله ) وسكت عن الثاني أو لم يذكره ، يعني سكت ( زيد) في سياقه عن الثاني – ثم انتقل إلى قوله : ( وأهل بيتي ) ، وهي منصوبة ومعناها : وأذكركم الله في أهل بيتي أو أوصيكم بأهل بيتي ، أو لا تنسوا أهل بيتي ، لأن التمسك في الواقع ليس هو بأهل البيت وإنما هو بما أنزل الله جل وعلا من الحجة ، وهذا ما جاء في حديث آخر رواه الحاكم وغيره : أن الثقلين كتاب لله جل وعلا وسنتي ، كما قال : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي ) .
فإذاً لفظ ( أهل بيتي ) هذا يستدل به الرافضة والرواية في صحيح مسلم لكن على التحقيق لمن قرأ الحديث كله حتى في الصحيح فإنك تجد أن زيداً – رضي الله عنه – ذكر أنه نسي أشياء وذكر ما ذكر ولم يترتب الكلام ، واتفاق الأحاديث أولى من تعارضها ، وأهل البيت – لا شك – أن تقديمهم واعتقاد فضلهم ومحبتهم وأشباه ذلك أن هذ فرض على كل مسلم ، أن يحب أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام ولكن أن يكون أهل البيت أحد الثقلين ويقرنون بكتاب الله جل وعلا فهذا ليس على ظاهره – كما جاءت في الرواية – وإنما دخل فيها حذف .(16/86)
والحديث الثاني المعروف حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه في سياق حجة لنبي عليه الصلاة والسلام ذكر فيه خطبة النبي عليه الصلاة والسلام وفيها : ( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به : كتاب الله ) – ولم يذكر السنة لأن السنة في كتاب الله جل وعلا فإذا ذكر الكتاب فإن السنة مذكورة في ضمن الكتاب لأن الله جل وعلا هو الذي أوجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وبيَّن أنه أنل عليه الحكمة وأعطاه البيان عما في القرآن .
وعن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ألا إنها ستكون فتنة ) قلت : ما المخرج يا رسول الله ؟ قال : ( كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بنك ، هو الفصل ، ليس بالهزل ، من تركه من جبَّار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضلَّه الله وهو حبل الله المتين . وهو الذكر الحكيم وهو الصراط لمستقيم هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا يخلق عن كثرة الردّ ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : ( إنا سمعنا قرآناً عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ) ، من قال به صدق ، ومن عمل به أُجِر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ) رواه الترمذي وقال : غريب .
الشرح : أما حديث علي ففيه وصف القرآن وهو حديث مشهور معروف عند أهل العلم ، وهذه الأوصاف التي وُصِف بها القرآن كلُّها حقٌ وكلها صواب فالقرآن موصوف بهذه الأوصاف الجليلة العظيمة ن بل كتاب الله جل وعلا كما وُصِف وأعظم من ذلك .
والحديث الصواب أنه موقوف على علي رضي الله عنه ولا يصح مرفوعاً لأنه من رواية الحارث الأعور عن علي ، والحارث ضعيف أو اتهم بأعظم من الكذِب ونحو ذلك .
المقصود : أن هذا يصح موقوفاً على علي وقد قال جمع من أهل العلم بأنه موقوف على علي أشبه بكونه مرفوعاً .(16/87)
ولا شك أن القرآن هو المخرج من الفتنة ( ألا إنها ستكون فتنة ) يعني : جنس الفتن ، ما المخرج من الفتن إذا أقبلت ؟ كتاب الله جل وعلا ، فالذي يستمسك بما في القرآن ويؤمن بالمحكم ويدع المتشابه فقد خرج من الفتنة لأن كل فتنة تأتي لا بد لها مستمسك من بعض الحق ، ولا تأتي فتنة في المسلمين وهي واضح أنها على باطل واضح أنها من بدايتها باطل في باطل لأنها لو كانت كذلك لما اشتبهت ولما أُقرَّت ولما افتُتِن بها الناس ، فلا تكون فتنة إلا إذا كان فيها نوع لبوس حق يشتبه معه الباطل الذي فيها ولذلك الفتن من جنس البدع في ذلك فإذا أقبلت فإن الذي يأخذ بالمحكم فيها وينظر الأمر في بصيرة بما جاء في القرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يخرُج من الفتنة .(16/88)
أما الذي يأخذ بالشبهة فإنه يقع في الفتنة لهذا فإن الفتن التي وقعت في تاريخ الإسلام من فتن الصحابة إلى يومنا هذا كل فتنة تحصل تجد أن عند الطرف المذموم عنده نوع حق لكنه ليس بصاحب حق فإن الذي معه من الباطل أكثر مما معه من الحق ولهذا فإن النظر والبصر النافذ وقت حلول الشبهات ووقت حلول الفتن إنما يكون بمعرفة كتاب الله جل وعلا وما فيه من الأوامر والنواهي ، ولهذا ذكر الله جل وعلا أهل الزيغ فقال جل وعلا في أول سورة آل عمرا ن : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ )(آل عمران: من الآية7) ، يعني : هم يقصدون الفتنة أو أن حقيقة فعلهم أنهم لما تركوا المحكم واتبعوا المتشابه لأجل الزيغ الذي في قلوبهم سلكوا الفتنة وإن لم يعترفوا بأنهم سلكوا الفتنة ، ولهذا جرى ما جرى في عهد الصحابة من فتنة الخوارج . عثمان ما قُتِل إلا بالتأويل بتأويل القرآن ولا قام معاوية رضي الله عنه على علي إلا بتأويل القرآن بتأويل قوله : ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً)(الإسراء: من الآية33) ، ولا قاتل من قاتل في يوم الجمل وصفين إلا بالتأويل ، ولا سُفِك دم علي رضي الله عنه إلا بالتأويل إلى آخره فكل هذه الفتن التي حصلت وأعظمها قتل عثمان رضي الله عنه إلى آخر الفتن من التقرُّب – والعياذ بالله – إلى الله جل وعلا بالفتنة فإن هذا إنما حصل بأنواع التأويل ذلك من استمسك بالقرآن فإنه يخرج من الفتنة وهذا من نعم الله جل وعلا على الراسخين في العلم ، ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(آل عمران: من الآية7) ، فما يدخل في الفتنة إلا ناقص العلم وأما من كان علمه راسخاً أو أخذ عن الراسخين في العلم فإنه لا تنطلي عليه الفتة لأن حقيقة الافتتان اشتباه الحق(16/89)
بالباطل ، والباطل – في الواقع – لا يشبه الحق ولهذا فإن الواجب على كل مسلم وعلى طلبة العلم بالخصوص أن يعتوا بكتاب الله جل وعلا أعظم عناية وأن يعلموا المحكمات فيه والمتشابهات وأن يعلموا ما أجمع عليه السلف من عقائدهم وما ذكروه في كتبهم وما ذكروه في مجمل السنَّة التي بينوا بها القرآن فإن الاستمساك بذلك هو تفسير الاستمساك بالقرآن فم معه القرآن فقد خرج من الفتنة .
ومن الفتنة أن يقول المفتتن للآخر أنت الذي وقعت في الفتنة لأنك لم تأخذ بالقرآن فيستدل بالمتشابه ثم يتهم غيره بأنه هو الذي افتتن عن القرآن لأنه ما أخذ بما أخذ به .
فالخوارج ذمُّوا الصحابة ن عبد الرحمن بن ملجَم رأس من رؤوس الخوارج الذي قتل علي كان من خاصَّة أصحاب عمر ولما رآه عمر في المدينة – وكان كثير التلاوة عابداً كثير القرآن يرغب في إقراء القرآن – قال لعمر : أريد أن أنفع الناس ، فكتب عمر إلى واليه في مصر – أظنه عمرو بن العاص – فقال له : إني مرسل إليك رجلاً آثرتك به على نفسي هو عبد الرحمن بن ملجَم فإذا أتاك بكتابي هذا فاتخذ له داراً يقريء الناس فيها القرآن ، فلما ذهب إلى عمرو أكرمه بإكرام أمير المؤمنين له واتخذ له داراً لكنه لم يكن فقيهاً ولم يكن عالماً يعرف المحكم والمتشابه ولم يكن عالماً بالسنة لم يأخذ عن الصحابة أخذاً كثيراً وإنما كان عنده عبادة وعناية بالقرآن بخصوصه فدخله أصحاب ابن السوداء وضللوه بأشياء وقعت من عثمان من التصرفات المالية والولايات ونحو ذلك مما عثمان فيها معذور رضي الله عنه وأرضاه – آل به الأمر إلى أن يشترك في قتل عثمان ثم يخرج ثم يصل به الأمر إلى قتل علي رضي الله عنه ولما قتله قتله احتساباً ولهذا قال شاعرهم شاعر الخوارج عمران بن حطّان عليه من الله ما يستحق قال مادحاً لعبدالرحمن بن ملجَم في قتله لعلي رضي الله عنه وأرضاه :
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً(16/90)
إني لأذكره حيناً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً
فهذا مدح متأخر لقاتل علي ديانة يرون أن هذا ديانة ، قتل علي ديانة ويرون أنه أوفى البرية عند الله ميزاناً حينما خلّص الناس من أفضل من على الأرض في وقته وهو علي رضي الله عنه ، ولما أرادوا قتل عبد الرحمن بن ملجم قال لهم – وكان بعد قتل علي يسبِّح ويذكر كثيراً – فلما أرادوا قتله قال : لا تقتلوني دَفعة واحدة بل قطِّعوا أطرافي وأنا أنظر حتَّى أسبِّح الله جل وعلا وأذكره أطول ، وهذا كما قال لنبي عليه لصلاة والسلام في صفة الخوارج : ( يحقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميِّة ) .
فإذاً المسألة في الفتنة ليست هي في الواقع الرجل صالح أو ليس بصالح مطيع أو غير مطيع عابد أو ليس بعابد هذه أشياء ليست هي الميزان إنما الميزان : هل هو متبِّع لكتاب الله جل وعلا بما قرَّره السلف بما قرَّره الصحابة بما قرّره أئمة الإسلام أم لم يتَّبِع ذلك فإن كان أخذ بهذا فهو الناجي وإلا فإن الفتن كثيرة والاحتجاج بالشبهات كثيرة ، لهذا قال تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتَّبعون ) فالحظ وجود الزيغ قبل المتشابه ، ولو لم يكن في القلب زيغ لكان آمن بالمتشابه كما آمن بالمحكم ولم يشتبه عليه الأمر .
فالحقيقة أن المخرج من الفتنة هو كتاب الله جل وعلا وما فيه من الأحكام – الأمر والنهي وما فيه من الأخبار والعقائد وهذه المسألة عظيمة عظيمة جداً لكن الله جل وعلا ابتلى عباده بالفتن والأقوال المضلَّة لينظر من يتبع القرآن ومن يتبع هواه والله المستعان .
أنجانا الله وإياكم من الفتن المضِلَّة ما ظهر منها وما بطن اللهم ألزمنا السنة قولاً وعملاً واعتقاداً ونعوذ بك من الحور بعد الكور ومن الضلالة بعد الهدى اللهم ثبتنا يا كريم .(16/91)
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعاً : ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال ن وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية , فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً ثم تلا : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)(مريم: من الآية64) ) رواه البزَّار وابن أبي حاتم والطبراني .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتَّحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعند رأس الصراط داعٍ يقول : استقيموا على الصراط ولا تعوجوا وفوق ذلك داعٍ يدعوا كلما همَّ عبدٌ أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلِجْهُ ) ثمَّ فسَّره فأخبر أن الصراط المستقيم هو الإسلام ، وأن الأبواب المفتَّحة محارم الله وأن السُّتور المرخاة حدود الله ، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كلِّ مؤمن ) رواه رزين ، ورواه أحمد والترمذيُّ عن النواس بن سمعان بنحوه .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ )(آل عمران: من الآية7) ) ، إلى قوله : (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(آل عمران: من الآية7) ، قالت : قال : ( فإذا رأيتم الذين يتَّبعون ما تشابه منه لإأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) . متفق عليه .(16/92)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطَّاً بيده ثم قال : ( هذا سبيل الله ) ثمَّ خطَّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال : ( هذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه وقرأ : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153) رواه أحمد والدارمي والنسائي .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتبون من التوراة فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( إن أحمق الحُمْق وأضلَّ الضلالة قوم رغِبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى نبي غيِر نبيِّهم وإلى أمةٍ غير أمتهم ثم أنزل الله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت:51) . رواه الإسماعيلي في معجمه وابن مردُويَهْ .
وعن عبد الله بن ثابت ببن الحارث الأنصاري رضي الله عنه قال : دخل عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم : بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك فتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيُّراً شديداً لم أر مثله قطٌّ . فقال عبد الله بن الحارث لعمر رضي الله عنهما : أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر: رضينا بالله ربَّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً فسرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم أنا حظُّكم من النبيين وأنتم حظِّي من الأمم ) رواه عبد الرَّزاق وابن سعد والحاكم في الكنى .(16/93)
الشرح : هذه الأحاديث فيها ذكر أوصاف للقرآن والوصية بكتاب الله جل وعلا وهذه الوصايا من النبي عليه الصلاة والسلام والأوصاف تجمع للقرآن أوصاف الهداية والتشريع وما هو في باب الأخبار وما هو في باب الأحكام .
الحديث الأول في باب الأحكام قال : : ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال ن وما حرَّم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ) فهذا في باب الأحكام ،لا شك أن المرجع في الحكم إلى القرآن فما وجدناه في القرآن حلالاً أحللناه وما وجدناه في القرآن حراماً حرمناه وما حرمه النبي عليه الصلاة والسلام هو في القرآن كما قال ابن مسعود رضي الله عنه لما ذكر لعن الله جل وعلا للنامصة والمتنمصة ، قال : وإن ذلك لفي كتاب الله . قالت امرأة : إني عرضت ما بين دفتي المصحف فلم أجد فيه ما تقول ، قال : لئن كنت عرضتيه قد وجدتيه ألم تقرئي قول الله جل وعلا : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7) ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لعن .... ) إلى آخره ، فاللعن الذي في هذا الحديث ما جاء في القرآن وابن مسعود قال إنه في القرآن ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي لعن وهو الذي أخبرهم ، فهذا الحديث وأمثاله ما فيه ذكر القرآن ( ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام ) السنة داخلة مما أحل الله في كتابه أو ما حرم في كتابه ولا يصدق هذا على ما جاء في الحديث الآخر : ( أنه يوشك رجل شبعان على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول ك ما وجدنا في كتاب الله من حلال أحللناه وما وجدا من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ) فهذا باب آخر .(16/94)
فهذا وصف للقرآن في باب الحكم والتشريع والتحليل والتحريم ، فلوصية إذاً لمعرفة الحلال والحرام والحكم به ألا يخوض الناس بآرائهم بل عليهم بهذا القرآن والشيء إذا ما ذكر في القرآن فالأصل فيه أنه عفو ، إذا لم يذكر في القرآن لا نص ولا مضمون ولا في السنة فالأصل أنه عفو كما قال هنا : ( وما سكت عنه فهو عافيه فاقبلوا من الله عافيته ) هذا أصل شرعي عظيم لأن الأصل في الأشياء العفو ، الأصل في الأشياء عدم التحريم ، الأصل في الأشياء الإباحة إلا إذا ورد دليل في ذلك بالتحريم والواحد ما يتكلم في الأدلة لأن تحريم الحلال كتحليل الحرام ، بعض الناس يتورع ويخاف ويحصل عنده رعدة شديدة إذا أراد أن يقول إن الزنا حلال – لا شك لأن ذلك كفر – أو يقول إن مقدمات الزنا حلال أو يقول إن الربا أو صور الربا إنها حلال هذا يرتعد منه ويخاف لأنه يعلم أن هذا تحليل محرّم ، كذلك تحريم الحلال أيضاً محرم ومن القول على الله لا علم ، والقول على الله جل وعلا بلا علم أعظم من الشرك – يعني : من حيث الجنس – لذلك جعله الله جل وعلا آخر المراتب فقال : ( وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(لأعراف: من الآية33) ، فالقول على الله بلا علم كتحليل الحرام أو تحريم الحرام كذلك ، ولهذا ما يجوز لأحد أن يقول : هذا الشيء حرام إلا وعنده برهان واضح ، ولهذا تجد أهل الورع من أهل العلم والفتوى والذين يخافون على أنفسهم لا تجدهم يستعملون ( هذا حرام ) إنما يقولون : هذا ما يصلح ن اتركه ، نكرهه أو مثل ما يقول الإمام أحمد : ( أكرهه ) الكراهة التي استعملت في كلام العلماء وجاء الفقهاء في تفسيرها وقالوا : إنها كراهة تحريم ، لأنه أحياناً ما يكون عنده نص واضح فيها ولا يجوز له أن يصف شيئاً بالحرمة وهو ليس عنده من الله برهان واضح في ذلك ثَمَّ حساب تقول على الله بلا علم ، حرم الله جل(16/95)
وعلا هذا ما هو برهانك على أن هذا حرام ؟ لهذا ينبغي على المرء جداً في الكلام ، إذا كان من باب الإرشاد : هذا ما يصلح اتركها .. كذا ، لكن لا يحرم شيء ما عنده فيه بيِّنة واضحة من الله جل وعلا لأن هذا قول على الله جل وعلا بلا علم .
الحديث الثاني : فيه مثل عظيم من الأمثال التي ضربها النبي عليه الصلاة والسلام للقرآن فقال في وصفه : (( ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتَّحة ) ، هذا الصراط المستقيم هو : القرآن ،(وعلى جنبتي الصراط سوران ) ، السوران : يعني أنه يوجد حاجز على اليمين والشمال فالمرء ماش على الصراط بمقتضى الفطرة مقتضى إيمانه ، لكن ثم أبواب مفتحة والنفس يغريها الباب المفتوح أنها تلتفت إليه وتلج وتنظر ما ذا فيه ، قال : (وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتَّحة ) الأبواب المفتَّحة أيضاً ما تركها الله جل وعلا مفتحة لكن جعل عليها ستور مرخاة فتحتاج إلى جرأة إنك تفتح الستر وتزيله وتدخل لتنظر قال : ( على الأبواب ستور مرخاة ) ، فالأبواب عليها ستور والستور تحجز من أنك ترى فأنت منشغل بالقرآن باتباعه والأنس به منشغل بهذا الأمر العظيم الذي تنادى عليه وهذه أبواب مفتحة لكن عليها ستور يعني : مثل المساكن التي تستر أهلها على ما فيها من النظر إليها ، فالله جل وعلا بعظم القرآن في نفوس أهله وعظم الإيمان في نفوس أهله جعل ثمة حاجز يجده كل مؤمن في نفسه أن يلتفت إلى أبواب الذنوب المختلفة التي جعل الله عليها ستوراً لا بد من كشفها لا يمكن أن تلج إلا أن تكشف واحد بمحض اختيارك وإلا بينك وبينها شيء في نفسك لا تقبل عليه لكن يأتي الشيطان وتأتي حظوظ النفس فتدخلها فالقرآن مُثِّل بهذا التمثيل العظيم ، قال : ( وعلى الأبواب ستور مرخاة وعند رأس الصراط داعٍ يقول : استقيموا على الصراط ولا تعوجوا وفوق ذلك داعٍ يدعوا كلما همَّ عبدٌ أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك لا(16/96)
تفتحه فإنك إن تفتحه تلِجْهُ ) ثمَّ فسَّره فأخبر أن الصراط المستقيم هو الإسلام ، وأن الأبواب المفتَّحة محارم الله وأن السُّتور المرخاة حدود الله ، وأن الداعي على رأس الصراط هو القرآن وأن الداعي من فوقه هو واعظ الله في قلب كلِّ مؤمن ) ، الصراط هو : الإسلام والقرآن مثل في تفسير الصراط المستقيم كل هذه ألفاظ متقاربة فالنبي عليه الصلاة والسلام جعل الداعي هو القرآن والصراط هو الإسلام ، يعني : من حيث الإستقامة عليه ، والقرآن لا شك أنه يأمر وينهى فهو داعي : ( يا أيها الذين آمنوا أقيموا الصلاة ) ، (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم ) إلى آخره ، دعوة أمر نهي والإسلام في النفس وواعظ الله في قلب كل مؤمن
قوله : ( رواه رَزِين ) والمراد برزين – كما هو معروف لديكم أنه : رزين بن معاوية العبدري ، جمع الأصول الخمسة وكان له فيها زيادات على الصحيحين وعلى السنن لذلك تارة يزيد الرواية ويزيد اللفظ وتكون في أحد السنن مثل ما قال هنا : ( رواه رزين ورواه أحمد والترمذي ) وإذا كان موجود في مصنف رزين فإنه يكون في أحد الأصول الخمسة إلا ما زاده رزين عليها ولذلك تجد في جامع الأصول في عدد من الأحاديث يقول رواه رزين ولا يذكر غيره من أصحاب الكتب .(16/97)
حديث عائشة في اتباع المحكم وترك المتشابه بأنه يجب أخذ القرآن المحكم وترك المتشابه واضح والأحاديث بعدها واضحة ، أما ما جاء في ذكر قراءة التوراة وذكر الحديثين فيه : حديث عبد الله بن ثابت الأنصاري وحديث أبي هريرة فإن فيها النهي عن قراءة التوراة والإنجيل لأننا أُعطينا القرآن والوصية بالقرآن ولا يجوز لأحد ولا يحل له أن ينظر في التوراة والإنجيل نظراً للقراءة ، لكن أباح العلماء للعلماء أن ينظروا فيها للرد على اليهود والنصارى ولإقامة الحجة عليهم أخذاً من إقرار النبي عليه الصلاة والسلام طلب عبد الله بن سلاّم في أن يؤتى بالتوراة لمعرفة حد الزاني فوضعوا يدهم على آية الرجم ، والله جل وعلا يقول : ( قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(آل عمران: من الآية93) ، فهذا في مواضع الرد عليهم لا لمجرد القراءة إعمالاً للدليل فيما جاء فيه .(16/98)
أيضاً مما له حكم التوراة والإنجيل كل ما فيه إضلال عن هدي النبي عليه الصلاة والسلام وسنته من الكتب المضلة ككتب السحر والكهانة وضرب الرمل وكتب الضلال المختلفة في ذكر النجوم والأفلاك وتأثيراتها أو كتب الصابئة أو كتب الوثنيين في الاطلاع عليها ، هذه لا شك أنها كلها من الدين الباطل أصلاً ، والتوراة والإنجيل فيها تحريف ، تحريف ألفاظ وزيادات وفيها حذف إلى آخره ، ففيها حق كثير ولذلك نؤمن بأصل التوراة والإنجيل الموجودة هذه التي أنزلها الله جل وعلا نؤمن بها ولا نكذب بشيء مما أنزل ربنا لكن هذه لما جاء فيها التحريف وصارت الرسالة من النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة لم يجز النظر فيها كيف يجوز النظر في كتب الوثنيين وكتب أهل السحر والشعوذة ونحو ذلك ، ولهذا ضل قوم زعموا أن تعلُّم الأوقاط جائز وأن النظر في هذه وتعلمها للردع أنه لا بأس ونحو ذلك ، لا شك أن هذا من أبطل الباطل فلا يجوز لأحد أن يقرَّ ذلك ولا أن ينظر فيه هو إلا لعالم يريد الردِّ أو عالم يريد إيضاح الشريعة عالم مأمون على ذلك يريد الرد فإن هذا يجوز بشرطه دون غيره .
هل يقاس على التوراة استماع للإذاعات التي تتحدَّث عن دين النصارى وعقائدهم ؟ طبعاً ، لا شك بل تلك أخطر لأن فيها دعاية وفيها أسلوب قد يكون مؤثراً فالاستماع لهم في بعض الإذاعات التي تنشر دينهم لا شك أن هذا أعظم في التأثير في قراءة التوراة مجردة لأن هذه يصبغونها بدعاية وبألفاظ جميلة وربما بأصوات حسنة تغري السامع ، فالمسلم يجب عليه أن يحافظ على دينه .(16/99)
وسألت مرّة بعض الصالحين من أهل العلم – وأهل العلم إن شاء الله جميعاً فيهم صلاح – قلت له وهو موجود حي – الله يثبتنا وإياه وينفعنا وإياه – قلت له : كيف الحال عسى الأمور مطمئنة وزينة ، قال : الواحد ما يرتاح إلى أن يموت . وهذه كلمة ليست سهلة ، وفعلاً والمؤمن لا يرتاح حتى يموت لأنه يطمئن ، ولأن الحياة تقلُّب فالرجل يصبح مؤمناً قد يمسي غير ذلك فالواحد لا يرتاح ولا يطمئن إلا إذا جاءه الأجل وهو ثابت ، هذا الاطمئنان هذا القلب الحي والقلب عرضة للتقلب والتنقل واليوم المغريات كثيرة والشهوات والشبهات أكثر الآن ن والشهوات تأثيرها وقتي يروح ويجيء لكن الآن الشبهات كثيرة شبهات في أصل دين الإسلام وشبهات من المسلمين فيما بينهم على التمسك بالهدى الصحيح وطريقة الفرقة الناجية وأمور كثيرة ، فالواحد فعلاً لا يطمئن حتى يلقى الله جل وعلا وهو ثابت وعسى الرب جل جلاله أن يكرمنا وإياكم بعفوه ومنته ورحمته فنحن ضعفاء لفضله ولو وُكلنا أو إلى علمنا أو إلى ما قدمنا سنهلِك ، لكن ما ثّمَّ إلا عفو الله جل وعلا ، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة إنك سميع قريب .
باب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم
وقول الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء: من الآية59) الآية ، وقول الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (النور:56) وقول الله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7) الآية .(16/100)
عن أبي هريرة رضي الله عه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل ) رواه مسلم .
ولهما عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ) ، ولهما عنه مرفوعاً : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) .
وعن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدِّث بحديث فيقول بيننا وبينكم كتابُ الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرَّمْناه ، ألا وإن ما حرَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرَّم الله ) رواه الترمذي وابن ماجه .
الشرح : هذا الكتاب هو كتاب أصول الإيمان للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رفع الله درجته مع الصديقين والشهداء والصالحين وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء بما بيّن وجاهد وعلّم وترك الناس بعده على سنة محمد عليه الصلاة والسلام .
في هذا الكتاب يبيِّن أصول الإيمان وهي المراد بها أركان الإيمان ويريد بها أيضاً شعب الإيمان العظام التي هي أصول بالنسبة إلى غيرها ، لأن الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان .
شعب الإيمان لها أصول هذه الأصول هي التي تجمع شعباً كثيرة كل أصل يجمع شعباً كثيرة لهذا ذكر إمام الدعوة رحمه الله هذا الباب : باب حقوق النبي عليه الصلاة والسلام وهذا بالنظر إلى جهتين :(16/101)
الجهة الأولى : أن أركان الإيمان منها : الإيمان بالرسل ، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وقد ذكر قبل ذلك الإيمان بالله وذكر الصفات وما يتصل بذلك ثم ذكر الإيمان بالملائكة والإيمان بالقرآن ، ثم ذكر هنا الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام ، والإيمان به عليه الصلاة والسلام هو أحد أركان الإيمان وأحد ركني الشهادة التي هي الواجب الأول والفرض الآكد في الشريعة .
الجهة الثانية : أن حق النبي عليه الصلاة والسلام تدخل فيه شعب كثيرة أو تتفرع منه شعب كثيرة من جهة الإيمان به ومن جهة متابعته عليه الصلاة والسلام وتقديم قوله وسنته والاستدلال بها وطاعته عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك من شعب الإيمان .
لهذا ذكر الإمام – رحم الله – هذا الباب : باب حقوق النبي عليه الصلاة والسلام لتعلقه بأصول الإيمان من الجهتين .(16/102)
حقوق النبي عليه الصلاة والسلام متنوعة كثيرة دلت الآية والأحاديث على أنواع من الحقوق له عليه الصلاة والسلام فأعظم حق له عليه الصلاة والسلام وأوجب حق له : الإيمان بأنه رسول من عند الله جل وعلا صادق مصدوق وأن ما جاء به حق من عند الله جل وعلا ، فالشهادة له بأنه رسول الله وأنه عبد الله ورسوله هذا من أعظم حقوقه عليه الصلاة والسلام ، لهذا أعظم الحسنات : حسنة التوحيد ، وحسنة التوحيد التحقق بشهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كما أن أبشع السيئات سيئة الشرك لهذا أعظم حق له عليه الصلاة والسلام هو الإيمان به والشهادة بأنه رسول الله وأنه خاتم الأنبياء وخاتم المرسلين وأنه بلّغ ما أمره الله جل وعلا ببلاغه ، وأنه جاهد في اله حق جهاده فحقه عليه الصلاة والسلام أن يؤمن به وأن يشهد له بالشهادة الحق ، ثم من ثمرات ذلك أن يطاع عليه الصلاة والسلام كما قال جل وعلا : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء: من الآية59) ، فجعل جل وعلا طاعة الله وطاعة رسوله تجب استقلالاً لما لله جل وعلا من حق عظيم في طاعته ولما لرسوله عليه الصلاة والسلام من حق – أيضاً – عظيم في طاعته إذ هو المبلِّغ عن الله جل وعلا ، لهذا قال العلماء : كرّر الله جل وعلا الفعل (أطيعوا ) في حق الله وحق رسوله ولم يأت به في حق ولاة الأمر فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59) فأمر بطاعة الله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) كذلك كرّر الفعل ولما جاء إلى ولاة الأمر قال : ( وأولي الأمر منكم ) ولم يقل : وأطيعوا أولي الأمر منكم ، لأن طاعة الله تجب(16/103)
استقلالاً فيما قاله الله جل وعلا في القرآن وأمرنا به أو نهانا عنه ، كذلك طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم تجب استقلالاً لأنه عليه الصلاة والسلام المبلّغ عن الله وفي الأحاديث أحكام وأخبار وأوامر وأشياء ليس في القرآن وأما ولاة الأمر فإن طاعتهم واجبة في غير المعصية ولكنها طاعة تبع لطاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم إذ لا تجب طاعتهم استقلالاً فهم لا يستقلون بما يأمرون به أو ينهون عنه بل لا بد أن يكون ما أمروا به أو نهوا عنه أنه معروف في الشريعة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام – لما ذكر الطاعة - : ( إنما الطاعة في المعروف ) يعني : فيما يعرف في الشريعة أما إذا أمروا بشيء مخالف لما أمر الله جل وعلا به وما أمر به رسوله عليه الصلاة والسلام – يعني : في معصية – فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
والمقصود : أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم حقوقه عليه الصلاة والسلام ولهذا ألّف الإمام أحمد كتاباً في طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام وهو كتب نفيس نقل عنه الإمام ابن القيِّم نقولاً كثيرة في كتابه : معالم الموقِّعين عن رب العالمين أو إعلام الموقعين عن رب العالمين ، ونقل أيضاً عنه في بدائع الفوائد وفي غيره ، قال الأمام أحمد : ذكر الله في طاعة رسوله عليه الصلاة والسلام في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن وهذا لا شك مما يؤكد الأمر جداً .(16/104)
ما معنى طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ معناها : أن تقدِّم سنته على الأهواء وعلى العقول وعلى الآراء المختلفة ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7) ، وأن يُحكم في الكتاب والسنة في الإنسان نفسه ، يعني : يحكم بهما في نفسه ، وكذلك في أقضية الناس وما يُفصل فيه بينهم وسواء في ذلك المسائل العلمية أو المسائل العملية ، ولهذا جاء الفلاسفة والمتكلمون من المعتزلة وأصناف المتكلمين جاءوا ولم يحكموا في الواقع السنة وإنما عارضوها بعقولهم فقد فرّطوا في حق عظيم للنبي عليه الصلاة والسلام .
فإذاً حق النبي عليه الصلاة والسلام أن يُطاع وطاعته ومحبته عليه الصلاة والسلام تبعاً لطاعة ومحبة الله جل وعلا لأنه رسول الله جل جلاله وتقدست أسماؤه .
ومن حقه عليه الصلاة والسلام الذي ذكره إمام الدعوة هنا ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام : ( ثلاث من كنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما) ،( أحب إليه مما سواهما ) مثل ما جاء في الحديث الآخر الذي ذُكر وهو قوله : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) . حتى من نفسه ، يعني : من جهة الطاعة ومن جهة المحبة له عليه الصلاة والسلام .(16/105)
كذلك من حقوقه التي دلَّ عليها الحديث الآخر حديث المقدام بن معدي كرب أن سنته من جهة الاتباع قرينة القرآن ، فالاتباع للكتاب والسنة ، نعم كلام الله أعظم لأنه كلامه جل وعلا وسنة النبي عليه الصلاة والسلام هي أيضاًَ وحي من عند الله جل وعلا كما قال حسان بن عطية : كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن . وهذا هو معنى قوله في حديث المقدام بن معدي كرب : ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله ومعه ) ، مثل القرآن : يعني ما يشتمل عليه من الخبر والأمر والنهي ، فالقرآن مشتمل على الأخبار والأوامر والنواهي التي يجب اتباعها ويجب تصديق الأخبار كذلك السنة مثل تصديق الأخبار أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم مشتملة على الأخبار التي يجب تصديقها والإيمان بها والأمر والنهي الذي يجب اتباعه .
فمن ردَّ السنة أصلاً كحال طوائف من الخوارج والمتكلمين أو الفلاسفة والقرآنيين فهؤلاء قد فرَّطوا في حق النبي عليه الصلاة والسلام ومن ترك بعض السنة فقد فرّط أيضاً فيما يجب أن يقوم به من حق النبي عليه الصلاة والسلام .
فلهذا الوصية لنفسي وللجميع بأن توطَّن النفس على قبول ما جاء في السنة وعلى اعتقاد ما صح في السنة عنه عليه الصلاة والسلام وعلى طاعة نبينا عليه الصلاة والسلام وألا نقدِّم الآراء والأهواء على ما جاء في سنته عليه الصلاة والسلام ، قد يغفل الإنسان وقد يذنب وقد يخالف لكن لا بد من هذه العقيدة : أن يعتقد وجوب الاتباع وأنه لا يخالف ولا يذهب إلى الهوى مخالفة إلى آخره ، وأن حقه عليه الصلاة والسلام في طاعته وطاعة سنته وأنه أوتي مثل القرآن التي هي السنة والحكمة إلى آخر ذلك .
ولقد أحسن ابن القيم – رحمه الله – إذ قال :
فوالله ما خوفي الذنوب فإنها لعلى سبيل العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب من تحكيم هذا الوحي والقرآن
يعني : الكتاب والسنة .(16/106)
هذه هي المصيبة العظيمة ، الذنب قد يكون أخف ، وقد يكون من الكبائر ، لكنه يكون أخف بكثير من رد السنة وعدم المبالاة بها .
نسأل الله جل وعلا لنا ولكم الثبات ولإخواننا المسلمين التوفيق للهدى والرشاد .
(باب تحريضه – صلى الله عليه وسلم – على لزوم السنة والترغيب في ذلك وترك البدع والتفرُّق والاختلاف والتحذير من ذلك)
وقول الله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (الأنعام: من الآية159) الآية ، وقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(الشورى: من الآية13) الآية .
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : وَعظََنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجِلَت منها القلوب فقال قائل : يا رسول الله كأن هذه موعظة مودِّع فما تعهد إلينا ؟ فقال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور فإن كلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة ) رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه ، وفي رواية له : ( لقد تركتم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنهابعدي إلا هالك ، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ) ثم ذكر بمعناه .
الشرح : هذا الأصل من أعظم أصول الدين ومن أعظم ما يؤمر به ويُحَضُّ عليه وهو أن يُحَرَّض ويؤُمر بلزوم السنة وترك البدع والتفرُّق .(16/107)
والسنة : تشمل الاعتقاد بعامة وتشمل متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة وفي الأمر والنهي ولهذا السنة يُعبَّر بها تارة عن التوحيد فيقال : التوحيد والسنة بمعنى واحد والعقيدة ، وتارة يُعبَّر بالسنة عن أوامر النبي صلى الله عليه وسلَّم ونواهيه التفصيلية .
والمراد بقوله : ( باب تحريضه صلى الله عليه وسلَّم على لزوم السنة ) يعني : على لزوم ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الهدي في الاعتقاد والتوحيد وكذلك في الأمور العملية ، فكل المسائل العلمية والعملية يجب فيها لزوم السنة لأن الأصل لأننا لم نعلم شيئاً عن ذلك لا الأمور العلمية ولا الأمور العملية إلا بواسطة النبي عليه الصلاة والسلام ، ولهذا كل مخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة والتوحيد فهي مخالفة في السنة فكل أمرٍ أَمَرَ به النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور العملية مخالفته مخالفة للسنة ، وكل ارتكاب نهي أيضاً مخالفة للسنة ، فإذاً قول الشيخ رحمه الله : ( باب تحريضه صلى الله عليه وسلم على لزوم السنة ) يريد به المعنيين :
السنة بالمعنى العام الذي هو التوحيد والعقيدة ، ويريد به أيضاً المعنى الخاص – كما سيأتي – في الأحاديث .
ويقابل السنة : البدعة ، والبدع تارة تكون في الاعتقاد – يعني في الأمور العلمية ، وتارة تكون في الأمور العملية . فكما أن السنة منقسمة فضدها - يعني : البدعة – منقسم .
ولهذا عُرِّفَتْ السنة بأنها : ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر به في العلم أو العمل .
والبدع : هي ما خالف طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في العلم أو العمل .
والبدعة عُرِّفَت بتعريفات كثيرة معلومة لديكم ، وأصح التعاريف فيها هو ما يُدْخِل المسائل العلمية والعملية جميعاً ، فنقول : هذا قول أهل البدع مع أنها ليست من المسائل العملية مما هي من المسائل الاعتقادية لأن البدعة في الاعتقاد .(16/108)
فتعريف الشاطبي المشهور : بأن البدعة طريقة في الدين مخترعة ... إلى آخره ، هذا يشمل ما يُلتزم م الأمور الاعتقادية ومن الأمور العملية لأن الدين يشمل هذا وهذا .
والمقصود من ذلك : أن الأمر بلزوم السنة هذا نهي عن البدعة ، والنهي عن البدع أمر بلزوم السنة في المسائل العلمية والعملية فكل هذا من أصول الدين بل هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله ، ولهذا كل عالم أو طالب وكل من ورِث علم محمد عليه الصلاة والسلام فإنه يقوم مقامه هذا في الدعوة إلى لزوم السنة وترك البدع والتفرُّق والاختلاف .(16/109)
التفرُّق والفُرقة قد تكون فُرقة في الدين وقد تكون – أيضاً – فرقة في الجماعة يعني : جماعة الأبدان ، ولهذا ذكر الله جل وعلا التفرُّق كما سيأتي معك في الآيات ويراد به الفرقة في العقيدة والتفرق في العلم قال جل وعلا : (مَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)(الشورى: من الآية14) ، وقال جل وعلا : (ِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(الأنعام: من الآية159) ، وقال : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ )(النساء: من الآية150) ، فالتفرق إذا –وهو ما يقابل الجماعة – هذا من لوازم الابتداع سواؤ كانت البدعة كفرية أو البدعة فيما دون ذلك ، فكل بدعة فُرقة وكل فرقة لا بد أنها خلاف واختلاف ، فلهذا ترى أن في نصوص الشريعة أن ثَمَّ تلازم ما بين لزوم لسنة ولزوم الجماعة ، فمن لَزِم السنة لَزِم الجماعة ، والجماعة بالمعنيين : جماعة الدين – يعني اجتماع الدين وعدم التفرق فيه كما ساق لك الإمام آية الشورى وهي قوله جل وعلا : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(الشورى: من الآية13) ، لأن دين الأنبياء واحد ( الأنبياء إخوة لعَلاَّت الدين واحد والشرائع شتى ) ، فدينهم الذي هو العقيدة والتوحيد الذي هو مبني على أصول الإيمان الستة هذا مجتمع عليه بين الرسل ، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرِّه ، الإيمان بهذه الأركان الستة وما دلَّت عليه هذا هو الدين الذي اجتمعت عليه الرسل جميعاً هو الدين الواحد ، أما الشرائع فمختلفة كصفة الصلاة وصفة الصيام صفة الحج ، والوضوء والطهارة وأحكام النجاسة والبيع والشراء إلى آخره هذه الشرائع مختلفة كما قال :(16/110)
( الدين واحد والشرائع شتى ) .
فالمقصود من هذا : أن يتأصل أصل عند كل مسلم وهو أن السنة ملازمة للجماعة وأن البدعة ملازمة للفرقة ، والجماعة رحمة والفرقة عذاب ، ولهذا لم تتفرق الأمة في أبدانها إلا لما تفرقت في العلم ، لم يحصل التفرق في الأبدان أولاً ثم حصل التفرق في العلميات ثانياً لا ، لما حصل في أول الزمان لما ظهرت الخوارج كان الأصل تفرق في الدين- يعني : في المسائل العلمية – فتبعه تفرق في الجماعة - يعني : في المسائل العملية – وعدم لزوم جماعة المسلمين وإمامهم .
ولهذا كل دعوة إلى العلم النافع كل دعوة إلى معرفة الحق في المسائل العلمية كل دعوة إلى لزوم العلم والكتاب والسنة وتعلم العلم النافع هذه تؤول بصاحبها بل بالناس إلى لزوم السنة ونبذ الفرقة ولزوم الجماعة فلا يحدث تفرق في الأبدان وفتن وهرج ومرج في الناس إلا إذا تركوا المأمور به من لزوم السنة .
لهذا من ترك فإما أن يكون جاهلاً وإما أن يكون مقصراً ، والمقصر لا يعذر ، مقصر في العلم ومعرفة ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور العلمية يعني في العقيدة وفي الاعتقاد وهو يمكنه ذلك وبين يديه فإنه قد لا يعذر وهو على هذا النحو فلهذا صار أهل البدع هم شر الناس يعني شر أهل القبلة هم أهل البدع وجاء فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ) ، فأعظم ما يدعى إليه ويحرض عليه دائماً وأبداً ونبذ البدع لأن لزوم السنة معناه : لزوم العلم النافع ولزوم طريقة الصحابة رضوان الله عليهم لأئمة وهذا فيه الاجتماع والائتلاف وعدم الاختلاف .(16/111)
ترى مثلاً في هذا الوقت لما كثرت الأقوال والآراء وإعجاب كل ذي رأي برأيه حتى – مع الأسف ونسأل الله العفو والغفران وأن يجنبنا ضلال الضالين – حتى في المسائل العقدية أصبح هناك اجتهادات وأصبحت أقوال تأتي جديدة إما في المسائل العظام وإما في المسائل التي كان عليها الأئمة من قبل وانتهى الأمر فظهرت فرقة ، لماذا جاءت الفرقة ؟! لأنه ما لزمت السنة تماماً وأقوال الأئمة في المسائل العلمية .
إذاً فالدعوة إلى العلم والسنة ومعرفة ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صلى الله عليه وسلم هو دعوة إلى الاجتماع وعدم التفرق لهذا من أعظم الذنوب الفُرقة ومن أعظم الأصول التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم الاجتماع في الدين والاجتماع في الأبدان وعد الاختلاف في ذلك .
قال جل وعلا : : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21) ، والأُسوة الحسنة : يعني الائتساء الحسن والاقتداء الأفضل ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو من يُقتدى به في العلم والعمل عليه الصلاة والسلام .
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) (الأنعام: من الآية159) وجه الدلالة منه : أن الله تعالى ذمَّ التفرق بقوله : ( لست منهم في شيء ) يعني : هؤلاء الذين فرقوا دينهم أنت لست منهم في أي شيء في أي خصلة ( لست منهم ) يعني أنهم ليسوا معك في أي خصلة لأن أصل الدين : هو الأمر بالاجتماع فيه وعدم التفريق في المسائل العلمية هذا نتبع فيه الدليل وهذا لا نتبع فيه يعني المسائل العلمية الكبار التي هي مسائل العقيدة والسنة .(16/112)
كذلك قوله : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) فإذاً الفرقة فيما دلت عليه الآيات يراد بها تارة : الفرقة في الدين يعني : الفرقة في العلم في العقيدة والتوحيد في مسائل الإيمان ن ويراد بها : الفرقة في الأبدان .
حديث العرباض بن سارية حديث عظيم يحفظه الجميع لعظم شأنه وعظم الاستدلال به في كل موقع . قال رضي الله عنه : : وَعظََنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجِلَت منها القلوب فقال قائل : يا رسول الله كأن هذه موعظة مودِّع فما تعهد إلينا ؟ فقال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ... ) الحديث . قوله : ( وعظنا موعظة بليغة ) الوعظ والموعظة في الشرع يشمل العلم كله فكل علم موعظة والقرآن كله موعظة ، فالوعظ في النصوص لا يختص بالترغيب والترهيب أو بذكر أمر الجنة والنار أو بالزهديات ونحو ذلك ، ودليل ذلك قول الله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (يونس:57) ، والموعظة التي جاءت من الله والشفاء هو : القرآن ويشمل المسائل العلمية ويشمل الأمر والنهي ، وكذلك في غير ذلك من الآيات التي فيها ذكر الموعظة.
فالرسل وعظوا أقوامهم كما قال سبحانه في الأمر والنهي : (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً )(لأعراف: من الآية164) ، ( لِمَ تَعِظُونَ ) : الموعظة التي حصلت بالنهي ، نهوهم عن فعلهم بالاعتداء بالسفك فصار النهي موعظة . إذاَ الأمر بالمعروف موعظة والنهي عن المنكر موعظة في النصوص الشرعية ، العلم والعقيدة موعظة لأن هذه كلها إذا استقبلها المرء استقبالاً حسناً فإنها تعظه ويكون في قلبه خوف وإجلال لربه جل وعلا .(16/113)
فإذاً قوله : ( موعظة بليغة ذرفت منها العيون ) هذه تشمل المسائل العلمية والمسائل العملية والتخويف من النار والترغيب في الجنة إلى آخر ذلك .
قال : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً ) هذا تخصيص بعد التعميم لأن الوصية بتقوى الله تشمل الخوف من مخالفة السنة والتي منها التباين والبعد عن السمع والطاعة .
قوله : ( والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشياً ) لأن الأصل أن السمع والطاعة يكون لولاية الاختيار ، وولاية الاختيار هذه تكون في قريش كما قال عليه الصلاة والسلام : ( الأئمة من قريش ما بقي في الناس اثنان ) يعني : إذا كان الأمر أمر اختيار أما إن كان الأمر أمر تغلب فالولاية أيضاً شرعية يعني : قام قائم فغلب الناس بسيفهم أو يوجد من هو الأصلح من قريش فإن الأمير يطاع والإمام يطاع سواء كان من قريش أو ليس من قريش .
فإذاً الولاية ولايتان – في عقيدة أهل السنة والجاعة - :
1- ولاية اختيار : وهي التي يجتمع لها أهل الحل والعقد فيختارون من فيه صفات الإمام الكاملة من كونه قرشياً عالماً قادراً على أعباء الولاية من الجهاد ونصرة الدين ونحو ذلك سليماً من الآفات أو النقائص مثل عدم السمع والرؤية في البصر ونحو ذلك هذه تسمى ولاية اختيار ، كما فعلوا لما ولى أبو بكر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه الولاية بعده وكما فعل النفر الستة من الصحابة لما ولوا عثمان رضي الله عنه بعد عمر رضي الله عنه .(16/114)
2- فأما ولاية التغلب فهي التي لا تجتمع فيها الشروط لكنه تغلب فتجب طاعته والسمع له وله حقوق الإمام من قريش تامة لكن الولاية تامة لهذا قال هنا : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ) يعني : وأوصيكم بالسمع والطاعة ، ( وإن كان عبداً حبشياً ) يعني : حتى ولو وصل الأمر إلى أن يكون الذي تولى ليس من العرب وليس من قبائلها وليس من أشراف الناس بل كان عبداً حبشياً فاسمع وأطع لآن المقصود من السمع والطاعة هو تحصيل الاجتماع في الدين فثم تلازم عظيم بين الاجتماع في الدين والاجتماع على الولاية ، فلا يحصل الاجتماع في الدين إلا بالاجتماع على الولاية وإذا تفرق في الدين تفرق الناس في الولاية وإذا تفرق الناس على الولاية لم يحصل ما أمر الله جل وعلا به من الاجتماع في الدين فهذا يؤول إلى هذا وهذا يؤول إلى ذاك .
وعلل ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله : ( وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ) يعني : اختلاف كثير في أمر الدين وفي أمر الولاية وفي أمر الحقوق سيرى اختلافاً كثيراً عما يعلمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( فعليكم بسنتي ) إذا رأيتم الاختلاف عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء تأمر بالاجتماع وتنهى عن الفرقة وتأمر بالسنة وتنهى عن البدع وتأمر بالعلم النافع والعمل الصالح .(16/115)
قوله : ( وإياكم ومحدثات الأمور ) المقصود بالمحدثات : في أمر الدين أما المحدثات في أمر الدنيا وهي التي تدخل في أحوال الناس أو تكون من باب المصالح المرسلة فليس من البدع المذمومة لأن المحدثات قسمان : محدثات في الدين وهذه هي المرادة بهذا الحديث ( وإياكم ومحدثات الأمور ) يعني في الدين ( فإن كل محدثة بدعة ) يعني : في الدين ، وهناك محدثات في أمور الدنيا مثل الأبنية ومثل طريقة الأكل ، وتنوع المآكل ونوعيته ومثل تأليف الكتب والدوواين وتنظيم أمور الدولة ونحو ذلك مما حصل بداياته في عهد عمر رضي الله عنه ثم تطور إلى ما بعد ذلك فهذا ليس من المحدثات في الدين .
فإذاً لا يدخل في المحدثة ما كان في الدنيا والثاني ما كان من قبيل المصالح المرسلة لا تدخل في البدع فالمحدثات قسمان – كما قال الشافعي – منها ما هو في الدين وهذا هو المذموم ، ومنها ما هو في الدنيا وهذا ليس بمذموم .
قوله : ( وكل بدعة ضلالة ) هذا على عمومه بأن البدع مذمومة كلها وكلها ضلالة .
الرواية الثانية : ( لقد تركتكم على البيضاء ) عدد من الوعاظ أو مما هو شائع يأتون بزيادة ( تركتكم على المحجة البيضاء ) وأنا ما وقفت عليها في حديث بذكر ( المحجة ) وإنما الذي جاء في هذه الرواية وأيضاً في حديث آخر جاء في المسند : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ) فلفظ المحجة يحتاج إلى مزيد بحث .
ولمسلم عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهَدْي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلالة) . للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلُّ أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل : ومن يأبى ؟ قال : ( من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) .(16/116)
ولهما عن أنس رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبِروا بها كأنهم تقالُّوها فقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر فقال أحدهم : أمَّا أنا فأصلي الليل أبداً ، وقال الآخر : أنا أصوم النهار ولا أُفطِر ، وقال الآخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبداً ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأُفطِر وأُصلي وأُرقد وأتزوج النساء فمن رَغِب عن سنتي فليس مني ) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) رواه مسلم .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبَعاً لما جئت به ) رواه البغوي في شرح السنة وصححه النووي .
وعنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليأتينَّ على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان فيهم من أتى أمَّه علانية لكان في أمَّتي من يصنع ذلك ، وإن بني إسرائيل افترقت على ثنتين وسبعين ملَّة وستفترق أمَّتي على ثلاث وسبعين ملَّة كلُّهم في النار إلا ملَّة واحدة قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ( ما أنا عليه وأصحابي ) رواه الترمذي .
الشرح : من أصول الإيمان الإيمان بممحد عليه الصلاة والسلام وهذا من أصول الإيمان من جهتين :
الجهة الأولى : أن الإيمان بنبينا عليه الصلاة والسلام في أول أركان الإسلام الشهادة بأن محمداً رسول الله .(16/117)
الجهة الثانية : دخوله عليه الصلاة والسلام في الإيمان بالرسل كما قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ )(البقرة: من الآية285) فمن الإيمان بالرسل : الإيمان بخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام وذكرنا لكم معنى الإيمان به عليه الصلاة والسلام لكن من الإيمان به : اتباع سنته ومن كمال الإيمان به ألا يقدم عقل على سنته ولا رأي على ما قضى به عليه الصلاة والسلام ، فإذا كان ما قضى به عليه الصلاة والسلام قطعي الدلالة في الأمر فإنه لا يحل لأحد مخالفته : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر: من الآية7) لهذا كان عليه الصلاة والسلام يكثر – كما في حديث جابر وغيره – من قوله : ( أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام ) - كما في الحديث الأول .
فأكمل هدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام وأكرم هدي وأفضل هدي وأعظم سنة وطريقة وهدي وسلوك هو سبيل محمد عليه الصلاة والسلام لهذا من آمن حقيقة بأنه رسول الله وكمل عنده هذا الإيمان فإنه لا يخالف السنة وإذا خالف السنة فإنه يضعف إيمانه لكونه مرسلاً من عند الله جل وعلا حقاً ، لأن إيمان العبد بالرسل يزيد وينقص وإيمانه بأن محمداً رسول الله يزيد وينقص فيزيد بكثرة المتابعة وينقص بكثرة المخالفة وليس أهله في أصله سواء .
فالمقصود من هذه الأحاديث التي ذكرها الإمام رحمه الله تعالى : هو بيان هذا الأصل والتحريض على اتباع السنة وعدم مخالفتها .(16/118)
ذكر الحديث الذي رواه مسلم : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) – رواية مسلم انتهت إلى هذا الحد . فما معنى قوله : ( بدأ الإسلام غريباً ) اختلف العلماء في تفسيرها : فمنهم من قال : ( بدأ الإسلام غريباً ) يعني : كان أهله قلة ثم كثروا ، وأيدوا ذلك بقوله في آخره : ( فطوبى للغرباء ) يعني : كأنهم قليل . وفي رواية في المسند وغيره : ( هم أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير من يعصهم أكثر ممن يطيعهم ) .
والقول الثاني : أن معنى قوله : ( بدأ الإسلام غريباً ) يعني : أن الإسلام الحق لما صدع به نبينا عليه الصلاة والسلام كان في غرابة فالناس استغربوه واستنكروه ، وستأخذ هذه الأمة مأخذ الأمم قبلها فتعود إلى أن تستغرب حقيقة الإسلام والدين ، وهذا معنى قوله : ( وسيعود غريباً كما بدأ ) يعني : سينتشر في الناس الجهل والجهالة ويقل العلم ويُرفع حتى تكون حقيقة الإسلام غريبة وهذا أيضاً تفسير مشهور وهو موافق لأحاديث كثيرة في هذا المعنى .
والقول الثالث : أن قوله : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً ) أن هذا منه عليه الصلا والسلام لشحذ الهمة في الاتباع وعدم الاغترار بالكثرة وأن الحق ليس معروفاً بكثرة من يتبعه وإنما باتباع محمد عليه الصلاة والسلام والالتزام بكتاب الله جل جلاله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، وهذا في الحقيقة يؤول إلى الأول لأن معنى الأول هو هذا ، يعني : أن من ثمرات الأول هو أنه لا تغتر فالإسلام بأناس قليل ومع ذلك أعزهم الله فلم يغتروا بالكثرة ولا بالسواد وإذا تكرر الأمر فلا يغتر بالكثرة .
جاء في تفسير الغرباء قالوا : يا رسول الله من الغرباء ؟ قال : ( النزاع من القبائل ) وفي رواية قال : ( الذين يعملون بسنتي عند فساد أمتي ) وفي ثالثة قال : ( أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) وهذه ثالثة ، والأولى : جيدة من جهة الإسناد .(16/119)
إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – له كلام طويل على هذا الحديث في رسائله تكلم على فقهه وعلى زمن الغربة والله المستعان .
حديث : (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبَعاً لما جئت به ) معروف الكلام عليه في شرح كتاب التوحيد .
غربة الدين نسبية قد تكون في زمان دون زمان أو قد تكون في مكان دون مكان إذ بعض الأمكنة في الأرض الدين غريب القابض على دينه كالقابض على الجمر الصلاة مشكلة والوضوء مشكلة التزامه وتحليله للحلال وتحريمه للحرام مصيبة كل شيء فيه ابتلاء شديد لذلك القابض على دينه كالقابض على الجمر ، فالغربة العامة تكون في آخر الزمان لكن الغربة الخاصة بمكان دون مكان أو سنين دون سنين يعني في بعض الأمكنة وهذا حاصل لكن الغربة العامة ليست حاصلة الآن لأنه ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظهرين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة ) ، فبقاء الأمة الظاهرة وبقاء الطائفة المنصورة والفرقة الناجية إلى قيام الساعة فقد يقلون فتحصل الغربة وقد يزيدون فترتفع الغربة فقوله عليه الصلاة والسلام : ( وسيعود غريباً كما بدأ ) المراد به : الغربة النهائية التي يكون فيها أهل الأرض كلهم على غير الهدى .(16/120)
الإنسان الذي لم يسافر لا يعرف نعمة الدين ونعمة عدم الغربة والذي يسافر يحس بالغربة عمله غير أعمالهم وتفكيره غير تفكيرهم فيحس كل شي مختلف حتى من بعض المنتسبين إلى الإسلام أو ممن يدعون إليه يحس أنه مختلف تماماً فلذلك المسألة تريد مجاهدة ودعوة والشكوى إلى الله . أما في البلاد – بلاد السنة والتوحيد – بلادنا هذه لا يحس الإنسان فيها إلا أن الدين عزيز وظاهر وقوي والسنة والتوحيد وتحليل الحلال هو الأصل وتحرم الحرام هو الأصل ولا كلفة ولا شقة في أن يحل الحلال ولأن يحرم الحرام ولا عليه في التزام الشعائر والعبادات وهذا من أعظم النعم ومن سافر يعرف الفرق هذا بالنسبة للرجل فكيف بالنسبة لعائلته وأسرته وكذلك الأولاد ماذا يتعلمون وماذا يتلقون ؟ يعني مصيبة ، فالذين يعيشون في البلاد الغربية خاصة أو الشرقية البلاء عظيم . لذلك الذي يعرف نعمة الله عليه في هذا البلد يحمد الله عليها كثيراً ويسعى لتثبيتها بالدعوة والخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى والبعد عن لفتن والاختلاف هذا أصل عظيم ولا بد من التغير وحكمة الله ماضية .
ولمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجور من تَبِعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تَبِعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ) .
الشرح : هذا الحديث في هذا الباب – الذي فيه اتباع النبي عليه الصلاة والسلام – يدل على فضل محمد عليه الصلاة والسلام وأن أحداً لن يبلغ منزلته لا من الأنبياء والمرسلين ولا من غيرهم ن الأولياء – ما يقوله طائفة من الضُلاَّل ، وتعليل ذلك من جهتين :(16/121)
الوجه الأول : أن هذا الحديث دلَّ أن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من اتبعهلا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً والنبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الهدى من جهة العقيدة والشريعة وإلى تفاصيله وتبعه عليه الناس – يعني : تيعته عليه أمته فهو عليه الصلا والسلام له مثل أجور أمته لا ينقص ذلك من أجورهم شئ .
فلا يبلغ أحد منزلته عليه الصلاة والسلام لأن الفضل بعظم الأجر : ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(الحجرات: من الآية13) فالناس يتفاضلون عند اله بالحسنات ، فأعظمهم حسنات نبينا صلى الله عليه وسلم فهذا فيه إبطال قول غلاة الصوفية : إن الولي قد يكون أفضل من النبي – يعني : من محمد عليه الصلاة السلام – والعياذ بالله من قولهم هذا ، وكذلك قول الرافضة : إن أئمتهم أفضل من الأنبياء بما فيهم محمد عليه الصلاة والسلام .
الوجه الثاني : أن أمة النبي صلى الله عليه وسلم هي أكثر الأمم كما قال عليه الصلاة والسلام : ( وإني لأرجو أن أكثرهم تابعاً يوم القيامة ) ، فأمته عليه الصلاة والسلام أكثر أمم الأنبياء والهدى الذي بثه عليه الصلاة والسلام في أمته هو أكمل هدي جاء به الأنبياء والمرسلون ، فحصل من هذا أن أجره عليه الصلاة والسلام وما كتب الله له هو أعظم مما كُتِب لغيره . وهذا وجه في كون النبي عليه الصلاة والسلام أعظم أجراً ممن سبقه من الأنبياء والمرسلين .
وهذا الحديث أيضاً دال على مسارعة العبد المؤمن في الدعوة إلى الله جل وعلا في تعليم العلم وفي بث الخير والتقليل من الشر ، فالعلماء ورثة الأنبياء ( ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه )فلا يحقرنَّ أحد من المعروف شيئاً بكلمة أو برسالة أو بموعظة ما دام على ذلك قادر ، فالدعوة إلى الله جل وعلا فضلها عظيم ، تدعو إلى أي شئ مما تعلمه يقيناً في الشريعة فإن لك من الأجر مثل أجور من عمل بذلك الشئ.(16/122)
وكذلك في الحديث : التخويف الشديد من أن يدعو المرء إلى ضلالة فإن المرء إذا دعا إلى ضلالة وسن سنة سيئة وتبعه عليها أناس فأيضاً عليه إثم من اتبعه في ذلك ، وهذا فيه التخويف نم أن يحدث المرء لنفسه أو لأهل بيته أو لمجتمعه أن يحدِث باباً من أبواب الضلال ، هذا تتراكم عليه الذنوب لأنه هو الذي سنَّ ذلك أو هو الذي دعا إليه ووجه أنظار الناس إليه وجعل بابه مفتوحاً ، كما جاء في الحديث الآخر : ( ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ، وكما جاء أيضاً في الحديث الصحيح : ( لا يُقتل أحد إلا كان على ابن آدم الأول كفل منه ) ثم علل ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله : ( لأنه سنَّ القتل ) . فهذا الأصل مما يجب أن يُخاف منه وهو : أن يفتح الإنسان على الناس باب شر إما بكلام أو بتصرفات أو يتساهل في أمر ويدعو إلى شر أو إلى معصية أو إلى ضلالة فيتبعه من يتبعه على ذلك خاصة في الأمور المستأنفة يعني : ليست معروفة ، أما في أمور الذنوب والمعاصي التي جرت عادة الناس عليها وفيما جعل الله جل وعلا في بعض النفوس من الميل إلى ذلك فهذا قد لا يدخل في هذا الباب ، لكن الشيء الجديد الذي يدعو الناس إلى ضلالة – والعياذ بالله – في المهج أو في السلوك أو في أمور جديدة تحدث في الناس تضلهم ، مثل ما هو حاصل الآن من هذه الأمور التي تدعو إلى الفساد من القنوات والفضائيات أو من بعض الأشرطة وأشباه ذلك يكون هو أول من يأتي بها ثم يتساهل الناس فيها هو عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه في ذلك أو تأثر به في ذلك لأنه هو الذي سنَّها ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة – والعياذ بالله - .(16/123)
فهذا الحديث كما أن فيه الفضل العظيم والترغيب كذلك فيه التخويف والترهيب الشديد ، فالمؤمن وخاصة طالب العلم دائماً يسعى إلى حث الناس إلى الخير حتى يحظى بهذا الأجر ، وأيضاً يُخَوِّف من مثل ما جاء في هذا الحديث ، إنسان يدعو إلى ضلالة مثل مدرس يدرس فيقول كلاماً ما يعقل معناه أو يتساهل فيه وينقله عنه الطلاب ويقولون : قد قال لنا المدرس في يوم كذا كذا وكذا وينقلونه إلى من بعدهم ، وما حصلت التأويلات وما حصلت البدع ولا انتشرت في الأمة إلا بالنقل ، وهذا ينقل عمن قبله ، وإلا لو أنه وُقف عند الأول لما انتشرت لكن الأول سنَّها ثم تبعه من لا يفهم ، لهذا الداعية والخطيب والمدرس هؤلاء يخافون أشد الخوف من الكلام لأنه كيف تُنقل الشريعة إلا بالكلام فإذا قال كلمة لا يعرف معناها أو لا يعرف ثبوتها أو بمجرد رأيه أو عقله أو استحسانه سواء في مسائل الدين الأصلية من العقيدة والتوحيد أو معرفة ما عليه الشريعة أو القواعد ، أو في مسائل العمل أو السلوك أو الدعوة أو المواقف ونحو ذلك ، والإنسان لا يكون رأساً في شئ ليس له عليه بينة في الشريعة ، احرص – إذا أردت أن تكون مبلِّغاً أو قائداً أو نحو ذلك في الخير - أن تكون متثبتاً من هذا الذي تقوله بيقين ما تلحقك عليه فيه غلالة أو إثم أو يلحقك فيه شك بل كن على يقين ( ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ) أما إذا صار الأمر مشتبه عليك في المسائل فاتركه فلست ملزماً أن تقول ولست ملزماً بأن تعمل ، والإنسان ألزم ما عليه براءة ذمته أمام الله جل وعلا .
فهذا الحديث فيه الحث على اتباع النبي عليه الصلاة والسلام واتباع صحابته واتباع السنة ولزوم الجماعة والتحريض على لزوم السنة والدعوة إليها والحذر مما يخالف ذلك أعان الله الجميع على الحق والهدى .(16/124)
وله عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنه أُبدِع بي فاحملني ، فقال : ( ما عندي ) . فقال رجل : يا رسول الله أنا أدلُّه على من يحمله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : ( من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله ) .
وعن عمرو بن عوف رضي الله عنه مرفوعاً : ( من أحيا سنَّة من سنتي قد أُميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمِل بها من الناس لا ينقص من أجور الناس شيئاً ، ومن ابتدع بدعة لا يرضاها الله ورسوله فإن عليه مثل إثم من عمل بها من الناس لا ينقص من آثام الناس شيئاً ) رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه وهذا لفظه .
الشرح : قوله في الحديث الأول : ( إنه أُبدع بي فاحملني قال : ما عندي ) يعني : أنه احتاج إلى راحلة وانقطع به السير ، أو لم يستطع أن يمشي .(16/125)
ففيه : أن هذا الرجل أعان أخاه على وسيلة من وسائل الخير فصار له مثل أجر الفاعل ، وهذا يدخل تحت قاعدة أن الوسائل لها أحكام المقاصد – مثل ما ذكرنا لكم – فمن سعى في وسيلة إلى مقصد محمود وكانت الوسيلة مشروعة فإنه يؤجر على الوسيلة ، كما قال جل وعلا في ذكر السير إلى الجهاد قال في آخر سورة براءة : (وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُم)(التوبة: من الآية121) ، لأن المسير في الوادي وسيلة إلى بلوغ الغاية وهي : مواجهة العدو ، فصار قطع الوادي مكتوب الخطوات مكتوبة لهم ، فهذا أيضاً لما كان العمل عملاً صالحاً وهذا الرجل انقطع به المسير وكان المقصد والغاية محمودة فقال : ( يا رسول الله إنه أُبدِع بي فاحملني قال : ما عندي ..) لأن هذا إذا سار لو انقطع ممكن يرجع ويقول : لا أستطيع ، فينقطع الخير الذي أراده وهو : بلوغ الغاية وبلوغ المقصد ، فهذا أعانه على بلوغ الغاية فله مثل أجر الفاعل لتلك الغاية ، يعني : فأجره في المقصد الذي كان سواء جهاد أو حج أو نحو ذلك فهذا من حمل فله مثل أجر فاعله فهذا يدل على أن قوله : ( من دعا إلى خير فله مثل أجر فاعله ) أنه يدخل في الإعانة على الخير ويدخل فيه الدعوة إليه ، وهذا مراد الإمام – رحمه الله – في إيراده بعد حديث : ( من دعا إلى هدى ... ) ليدل على أن الإعانة في وسائل الخير – أيضاً – داخلة في هذا الأصل العظيم فالوسائل لها أحكام المقاصد ، وللإنسان مثل أجر من أعانه على الخير .
حديث عمرو بن عوف قال : ( رواه الترمذي وحسنه ) ونسخة عمرو بن عوف هذه معروفة : كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده ، يحسنها الترمذي كثيراً ، وهي إسنادها : ضعيفة أو ضعيفة جداً ، لأن كثير بن عبد الله فيها صاحب النسخة ضعفوه أو بعض الأئمة تركه ، لكن ما دلَّ عليه الحديث دلت عليه الأحاديث الأخر .(16/126)
ونقف عند قوله فيه : ( ومن ابتدع بدعة فيه لا يرضاها الله ورسوله ) فإن هذه اللفظة استدل بها بعض من يقسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة لأنه قال : (لا يرضاها الله ورسوله ) قالوا : فمفهومها : أن ثمَّ بدعة يرضاها الله ورسوله ، لكن هذا ليس بفهم صحيح لأن هذه ليس لها مفهوم بل هذا تأكيد للمعنى ، ( بدعة لا يرضاها الله ورسوله ) يعي : كل بدعة لا يرضاها الله ورسوله ، فهي في هذا كفوله جل وعلا : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) (المؤمنون:117) ، فقوله : (إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ) ليس مفهومه : دعاء إله آخر للمرء له فيه برهان ، وكذلك هنا : ( ومن ابتدع بدعة فيه لا يرضاها الله ورسوله ) لأن كل بدعة لا يرضاها الله ورسوله ، وكذلك دعاء إله آخر لا برهان للمرء به فليس ثمَّ بدعة يرضاها الله ورسوله ، وذلك لأن المراد بالبدعة هنا : البدعة في الدين ، أما البدع في الدنيا فهذه لا تدخل في مسمى البدع الشرعية ، فما نهي عنه من اسم البدع والمحدثات فإنما هي محدثات في الدين أو بدع في الدين .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ( كيف أنتم إذا لبِستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرَم فيها الكبير وتُتَّخذُ سنَّة يجري الناس عليها فإذا غُيَّر منها شيء قيل تُرِكتْ سنة ) ، قيل : متى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : ( إذا كَثُر قُرَّاؤكم وقلَّ فقهاؤكم وكثُرت أموالكم وقلَّ أمناؤكم والتمستْ الدنيا بعمل الآخرة وتُفُقِّهَ لغير الدين ) رواه الدارمي .
وعن زياد ين حُدَيْر رضي الله عنه قال : قال لي عمر رضي الله عنه : هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قلت : لا . قال : يهدمه زلَّة العالم ، وجدال المنافق بالكتاب ، وحكم الأئمة المضلِّين . رواه الدارمي أيضاً .(16/127)
وعن حُذيفة رضي الله عنه قال : كلُّ عبادة لا يتعبَّدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبَّدوها فإن الأول لم يدَع للآخِرِ مقالاً ، فاتقوا الله يا معشر القُرَّاء وخذوا طريق من كان قبلكم . رواه أبو داود .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : من كان مستنَّاً فليستنَّ بمن قد مات فإن الحيَّ لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة : أبَرَّها قلوباً ، وأعمقها علماً ، وأقلَّها تكلُّفاً ، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ولإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتَّبِعوهم على أثَرِهم وتمسَّكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسِيَرهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم . رواه رزين .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال : سمِع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤن بالقرآن فقال : ( إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، وإنما نزل كتاب الله يُصدّق بعضه يعضاً فلا تكذِّبوا بعضه ببعض ، فما علِمتم منه فقولوا وما جهِلتم فكِلوه إلى عالمه ) رواه أحمد وابن ماجه .
الشرح : هذه الأحاديث والآثار عظيمة في هذا الباب وهو باب الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أصول الإيمان به عليه الصلاة والسلام : أن تلازَم وتُلتَزم سنته عليه الصلاة والسلام ، وملازمة السنة يكون في الأمور العلمية وفي الأمور العملية .
فالأمور العلمية : في مسائل الغيبيات في الله جل وعلا وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وكذلك فيما في اليوم الآخر من الحوض والميزان والجنة والنار إلأى آخر ذلك ، وكذلك من الأمور الغيبية من الجن والملائكة وما أخبر يه عليه الصلاة والسلام ، فكلام الله جل وعلا صدق وعدل ، وكذلك كلام رسوله عليه الصلاة والسلام قال سبحانه : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ )(الأنعام: من الآية115) .(16/128)
(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ) يعني : الشرعية ،(صِدْقاً ) : في الأخبار لا كذب فيها تعالى الله جل وعلا عن ذلك ( وَعَدْلاً ) يعني : في الأمر والنهي لا ظلم فيها .
فملازمة السنة في الأمور العلمية يكون في مسائل الغيب وهذه من أعظم ما حصل فيه الافتراء والبدع في المسائل الغيبية في الجنة والنار والملائكة والجن والصفات وأشباه ذلك .
وأيضاً في المسائل العلمية وهي الصورة الثانية تلازم السنة في المسائل العلمية بعدم تقديم العقل على السنة ، والعقل والقياس والرأي إنما هو خادم للسنة لا مقدماً عليها ، وقد ضل وابتدع وتنكب الصراط من قال : إن العقل هو القاضي والكتاب والسنة شاهدا عدل ، وهذا يقوله طوائف من المتكلمين وأهل البدع من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم .
فالمسائل العلمية كالعبادات – يعني من جهة كونها علمية – تُقدَّم فيها السنة على العقل ، فالعقل خادم فقد نصل إلى المعنى وقد لا نصل وقد نفهم وقد لا نفهم ، وأيضاً العقل مختلف قد يصل فلان العالم ولا يصل فلاناً الآخر ، والجميع واجب عليهم التسليم وهذا من حقوق النبي عليه الصلاة والسلام .
أيضاً ملازمة السنة في الأمور العملية – وهي القسم الثاني - بترك البدع والمحدثات ولزوم طريقة الصحابة رضوان الله عليهم والذين اهتدوا بهديه عليه الصلاة والسلام ، فكل بدعة : خروج عن السنة ، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( كيف أنتم إذا لبِستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرَم فيها الكبير وتُتَّخذُ سنَّة يجري الناس عليها فإذا غُيَّر منها شيء قيل تُرِكتْ سنة ) فالبدع العملية مناقضة للسنة العملية ، بل كلما زادت السنن ضعفت البدع وكلما ضعفت السنن ظهرت البدع .
مخالفة السنة والأخذ بالبدع والمحدثات – يعني منشؤه في هذه الأمة م الزمن الأول إلى زمننا هذا له عدة أسباب أنشأت الأخذ بالبدع :(16/129)
1 – الجهل : فالبدعة يُنشئها الجهل بالسنة ، وإلا فالسنة كافية ، فيُنشئ عبادة يتعبدها أو يتأول شيئاً من المسائل العلمية فيصير إلى البدعة لأجل جهله .
2 – الهوى : والهوى لا شك أنه من أعظم أسباب حدوث البدع في هذه الأمة فالخوارج والمرجئة والقدرية عندهم أهواء مع الجهل والتأويل الذي عندهم .
3 – إرادة الخير : فيكون عنده جهل ويكون عنده هوى ويقول : أنا أريد الخير ، وهذا مثل ما ذكر لابن مسعود أن جماعة يجتمعون يقول أحدهم : سبحوا مائة هللوا مائة احمدوا مائة وبين أيديهم حصى يعدون ، فذهب إليهم ابن مسعود رضي الله عنه فلما رآهم على هذه الحال قال : أنتم على أهدى من طريقة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنتم على شعبة ضلالة – يعني : أن هذا الأمر جديد وهم يعرفون ذلك – هذه آنية رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تُكسر وهؤلاء أزواجه عليه الصلاة والسلام لم يمتن – يعني : أن العهد به قريب – قالوا : يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير !! ( يعني : الذي بعثنا على هذه الصفة وهذا التسبيح وهذا تسبيح وتهليل إنما هو الخير ) قال : كم مريد للخير لم يبلغه .
وهذا يدلك على أن : منشأ كثير من البدع في المسائل العلمية أو في المسائل العملية قول القائل : أردنا الخير ، وابن مسعود رضي الله عنه رد على هذه الفرية أو على هذه الشبهة بأبلغ رد .
4 – الغلو : وهو مجاوزة الحد المأذون به إما في المسائل العلمية أو في المسائل العملية فمن جاوز الحد المأذون به في ذلك فإنه لا يؤمن عليه بل يصير في المخالفة والبدعة .(16/130)
فالذين جاوزوا الحد في الجهاد صاروا إلى بدعة الخوارج ، والذين جاوزوا الحد في مسألة التحكيم صاروا إلى الخارجية ، والذين جاوزوا الحد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صار بهم الأمر إلى الخروج على الولاة – كما هو دين المعتزلة – والذين جاوزوا الحد في الأذكار صار بهم الأمر إلى بدع الأذكار والاجتماعات ، والذين جاوزوا الحد في السلوك والزهد صار بهم الحال إلى أن سلكوا مسلك التصوف المبتدع ، والذين جاوزوا الحد في تنزيه الله جل وعلا صار بهم إلى التعطيل وهكذا في أشياء كثيرة .
فإذاً الغلو م أعظم أسباب ترك السنن والأخذ بالبدع ، وهذه كلمات لها زيادة تفصيل ، والمقصود مما يتعلق بهذه الآثار العظيمة : أن من حق النبي عليه الصلاة والسلام بل أعظم حقوقه على أمته والإيمان به : أن يُقتفى سبيل المصطفى عليه الصلاة والسلام وأن تُترك الأهواء والبدع وبنيَّات الطريق .
مما ذكر الإمام رحمه الله أثر بن مسعود الأول وذكر فيه التحذير من زمان يكثر فيه القراء ويقل فيه الفقهاء وهذا الزمان الذي نعيشه منه – من هذا الزمان – بل وما قبله كثر فيه القراء والمنتسبين للعلم في الجامعات والجوامع في شتى البلاد الإسلامية ولكن الفقهاء بالدين والفقهاء بالكتاب والفقهاء بالسنة يقلُّون ، والقراء إذا كثروا يعني تكثر مصادرهم في القراءة فتكثر الكتب لكن الفقه بالكتاب والسنة يقل . وهذا يدل على أن طالب العلم يحذر من عدم الفقه في الدين – والفقه في الدين مرتبتان :
1 – الفقه الأكبر : وهو الفقه في الله جل وعلا – يعني : الفهم في الله جل وعلا – وبأسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى ، وهذه أمور العقيدة .
2 – والفقه الأصغر : وهو بمعرفة الحلال والحرام . وأدلة هذين من الكتاب والسنة وملازمة طريقة الصحابة رضي الله عنهم هذا هو الفقه ، أما غير ذلك فإن المرء يبعد عن طريقة السلف والهدي النبوي بمقدار ما تكون عنده المخالفة .(16/131)
فإذاً الواجب عليك يا طالب العلم وتنتبه لهذه كثيراً في حياتك أن يكون اهتمامك أعظم ما يكون بالفقه في الدين فهو الذي سينجيك في الآخرة عند لقائك لربك جلا وعلا .
والفقه بالدين هو : العلم بالتوحيد والفقه يعني الحلال والحرام ، فإذا عرفت التوحيد والحلال والحرام وبقدر ما يعطيك الله جل وعلا من الفهم والصبر والتؤدة وما تُوفَّق إليه تعرف الأدلة أدلة العقيدة من الكتاب والسنة وأدلة الفقه من الكتاب والسنة فإنك على خير هذه طريقة السلف في العلم والعمل وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن اللهم آمين .
( باب التحريض على طلب العلم وكيفية الطلب )
فيه حديث الصحيحين في فتنة القبر أن المنعَّم يقول جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به وأجبنا واتبعنا وأن المعذَّب يقول : سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته .
الشرح : هذا الباب مناسبته لأركان الإيمان هو : أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام والإيمان بالقرآن يعظم بالعلم ، والنجاة – أيضاً – في الإيمان محمد عليه الصلاة والسلام عند السؤال في القبر لا ينجو إلا من يعلم ، ولهذا قدَّم لك ذكر السؤال في القبر وأن المنعَّم يقول : ( محمد جاءنا بالبينات والهدى فآمنا وبه وأجبنا ) وهذا يدل على علمه بما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وعلى اتباعه والآخر – الفاجر أو المنافق – يقول : ها ها سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته ، فيدل على أنه ردد ما يقوله الناس وليس عنده همة لمعرفة ما أنزل الله جل وعلا على نبيه .(16/132)
فإذاً أركان الإيمان التي بها يتفاضل الناس وتعظم درجاتهم ومراتبهم عند ربهم جل وعلا إنما يتفاضلون بالعلم فكلما زاد العلم زاد الإيمان ، وكلما زاد الفقه في الدين زاد اليقين – إذا وفق الله جل وعلا عبده إلى العمل الصالح – وهذا فيه النجاة في الآخرة عند السؤال في القبر وما بعده ، وهذا من أعظم ما يحض طالب العلم على أن يتعلم لأن النجاة بالعلم ، وليس سواء عالم وجهول .
وفيهما عن معاوية - رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) .
الشرح : الدين في هذا الحديث : هو ما يشمل العقيدة والشريعة ، لأن الدين له ثلاث مراتب : الإسلام والإيمان والإحسان – كما في حديث جبريل ، قال : ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) ، فدين الإسلام له ثلاث مراتب ، ومن ثلاثة الأصول التي يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمها : معرفة المسلم دينه بالأدلة يعني : الإسلام والإيمان والإحسان .
فإذاً : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) يعني : يفقهه في العقيدة ، يفقهه في التوحيد ، يفقهه أيضاً في الشريعة في الحلال والحرام .
ودل هذا الحديث على أن من لم يتفقه فإن الله جل وعلا لم يرد به خيراً – ومعنى ( لم يرد به خيراً ) يعني : أن الله جل وعلا ما هيأ له أسباب الخير لأن أعظم أسباب الخير في العلم والفقه في دين الله جل وعلا .(16/133)
الفقه في الدين هذا جاء في القرآن في قول الله جل وعلا : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(التوبة: من الآية122) فالفقه في الدين في هذه الآية وفي الحديث المراد به : الفقه بما أنزل الله جل وعلا على رسوله في القرآن وما جاء في السنة ، وما جاء في القرآن والسنة يشتمل على العقيدة ويشتمل على الحلال والحرام ، فتخصيص العلماء علم الحلال والحرام بالفقه هذا اصطلاح خاص ، أما دلالة النصوص والذي كان عليه هدي السلف – يعني في زمن الصحابه فمن بعدهم – أن الفقه : يشمل الفقه في الدين بأجمعه وليس مخصوصاً بالفقه في الحلال والحرام بل أعظم الفقه : الفقه بالتوحيد ، الفقه في حق الله جل وعلا ، ( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) .
وفيهما عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشي الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الماس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً ، فذلك مثل من فقِه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلت به ) .
الشرح : هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي تدل على فضل العلم وفضل طلب العلم ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الذين استقبلوا ما بعثه الله جل وعلا به إلى ثلاثة أقسام فجعلهم ثلاث طوائف :(16/134)
الأولى : طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير الذي ينفع الناس وينفع بهائمهم ، وهذا إذا نفع بهائمهم معه شرب اللبن ومعه زيادة اللحم ومعه زيادة الصوف ومعه أشياء كثيرة من المأكول والملبوس وحتى ما يُسكن ، وهذا يدل على أن من قبِل العلم وأقبل عليه فعلِم وعلَّم أنه : مثل الأرض التي أقبل عليها الناس بأنفسهم يشربون من مائها ويرعون فيها أغنامهم فهي خير لهم دائماً .
والفئة الثانية : فئة تحفظ الماء لكنها ما تنبت . وهذا مثال لمن قبل العلم لكنه حفظه ، لم يعمل به – يعني : عملاً كاملاً – ولم يفقه حتى علَّم وإنما حفظ فنقل ، وهذا داخل في قوله عليه الصلاة والسلام : ( نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى له من سامع ) ، فمن حفظ العلم ونقله أيضاً داخل في الفضل ، لكن فضله دون الفئة الأولى بكثير .
وأما الفئة الثالثة : الذين لم يرفعوا بالعلم رأساً فهم كالأرض القيعان التي لا تنبت كلأً ولا تمسك ماء ، لا تنبت فتنفع الناس وأيضاً لا تمسك ماء فتنفع الناس فهي لا تحفظ ولا تقبل على العلم بالحفظ والمدارسة وكذلك لا تعلم ولا تدعو إلى الخير ، فهذه قيعان وهي مذمومة ، وذلك مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى ومثل من فقه في دين الله فعلم وعلّم .(16/135)
هذا الحديث يسمى حديث طالب العلم أو طلب العلم عند طائفة من العلماء وشرح عدة شروح جدير بك أن تطالعها لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً في حقيقتك أنت ، من أي فئة المسلم يمكن أن يحدد فئته من هذا الحديث ، هل هو من الفئة التي قبلت فأنبتت الكلأ والعشب الكثير واستقى الناس وصاروا مصدر خير ، أم من الفئة الثانية التي تحفظ وتنقل لكن لا تعمل ولا تعلم ولا تدعو ، وإما أن يكون ممن لا يعلم ولا يعلم قيعان لا ينفع لا يمسك ماءً ولا ينبت كلأً ، فهذا مثل عظيم تحتاج فيه إلى تأمل وتدبر ، ولا شك أن الإيمان تعظم ، وأركان الإيمان وأصول الإيمان تعظم في النفس بالعلم والتعليم فإذا حصل لك أن تعلم بيقين العلوم الشرعية ، وخاصة التوحيد والعقيدة تعلمها بيقين ، ثم تعلم ذلك للناس بيقين أيضاً دون أن تدخل فيما لا تحسن ، فهذا من أعظم المراتب , والعبد يبارك الله في علمه وعمله إذا أخلص النية والقصد وأتى ما يحسن وترك ما لا يحسن فإذا زاد على ذلك العلم بالفقه والسنة – يعني من جهة الأحاديث – وعلَّم أيضاً الحلال والحرام ونفع الناس فيما يأتون وما يذرون فهذا يكون من الربانيين : ( وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)(آل عمران: من الآية79) جمعوا بين الدراسة والعلم والتعليم .(16/136)
طالب العلم نفعه متعدي حنى للجبال والشجر والبهائم – وهذه قصة – أنه في سنة من السنين جاء اقتراح من البلدية عندما كثرت الكلاب في البلاد قبل أربعين سنة تقريباً وصارت تضايق الناس فأرادت البلدية أنها تقتل جميع الكلاب وجاء أمر بذلك وكان المفتي العلامة الشيخ الجد محمد بن إبراهيم – غفر الله له – في ذلك الوقت وقف فيها فكلَّم الملك سعود – رحمه الله – وكتب إليه أيضاً : أن الكلاب – مثل ما جاء في الحديث – أمة من الأمم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لو لا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم ) فنهاه عن قتل الكلاب . فالعالم وطالب العلم خيره وفضله على البهائم حتى البهيمة التي تذبح يعلم كيف تُذبح ( إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) ، حتى في الشجر وما يحسن منه وما لا يحسن سواء كان شجر الحرم أو غيره ، والجبال والبيئة كل ذلك يرجع فيه إلى أهل العلم ، فصاحب العلم وطالب العلم فضله على الجميع .
ننهى أيضاً عن التلهي في الصيد يصيد الطيور أو يصيد الحيوانات للهو وهذا أيضاً لأهل العلم فيه كلمة فينهى عنه أصحابها كأن يصيد ثم يرمي لا يريد أن يأكله فهذا منهي عنه . العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء لما له من أثر على الجميع وأما الكافر أو الفاجر فكما قال الله جل وعلا : ( أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)(البقرة: من الآية159) يعني الكافر والمنافق لعنه اللاعنون حتى يلعنه الجُعَل في جحره ، مثل ما جاء في تفسير الآية يقول : بسببك مُنِعتُ القطر من السماء .
وللحافظ ابن رجب شرح لهذا الحديث تكلم على مسائله فليراجع .
ولهما عن عائشة – رضي الله عنها – مرفوعاً : ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) .(16/137)
وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) رواه مسلم .
وعن جابر رضي الله عنه : أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا أفترى أن تكتب بعضها ؟! فقال : ( أمتهوكون أنتم كما تهوَّكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي ) رواه أحمد .
الشرح : من هنا إلى آخر الكتاب كله في ذكر العلم وفي ذكر فضله وطريقة حمله وآداب حملته ومن العلماء وفضل أهل الحديث والتحذير من الأخذ بالمتشابه إلى غير ذلك مما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وهذه الأحاديث والآثار التي ستأتي من أول ما قرأنا إلى آخر الكتاب ثم كتب خاصة ببيانها وتفصيل الكلام عليها وخاصة كتاب الحافظ ابن عبد البر : جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله ، وهو جدير أن يعتني به طالب العلم وأن يقرأه لأنه مشتمل على كثير من هدي السلف في العلم والعمل .(16/138)
قال الشيخ رحمه الله : ولهما عن عائشة – رضي الله عنها – مرفوعاً : ( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ) . اتباع المتشابه مذموم في العلم ، فطالب العلم إذا تعلم وأراد أن يقبل وأن ينفعه الله بالعلم يقبل على المحكمات ويترك الإشكالات والشبه وما يرد على المسائل لا يتتبع ذلك لأن تتبعه لذلك قد يفضي به إلى الزيغ – والعياذ بالله – لأنه لم يتصور العلم حتى يجيب عن تلك الإشكالات والشبه ومن قوة الإدراك والعقل ما يجيب عنها أيضاً ، فالواجب عليه أن يؤمن بالجميع ويقول : ( كل من عند ربنا ) ثم يقبل على المحكم فيتعلم المحكم بدليله يعني الذي دلالته واضحة غير محتملة أو ما لا يشتبه عليه بفهم عالم مأمون يأمنه على دينه وعلمه ، والله جل وعلا ذكر أن القرآن منه متشابه ومنه محكم فقال سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ )(آل عمران: من الآية7) ، وهذه الآية من أعظم ما يحذر به الله جل وعلا من اتباع المتشابه لأنه جعل اتباع المتشابه صفة للذين في قلوبهم زيغ بل جعل الزيغ سابقاً للاستدلال واتباع المتشابه فقال سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) فجعل وجود الزيغ أولاً واتباع المتشابه ثانياً ، فاتباع المشابهات والعناية بها والجدال فيها هذا ليس من صفة أهل التسليم وليس من صفة المتبعين للمحكم الذين يقولون كل من عند ربنا الذين هم الراسخون في العلم ومن اقتدى بهم .(16/139)
فإذاً الواجب على طالب العلم في أول طلبه للعلم بل في مسيره في طلب العلم في عمره كله أن يعتني بالمحكمات ولا بد أن ترد عليه متشابهات عليه ومشتبهات عليه فيرد ذلك إلى المحكم فإن علِم وإلا قال آمنا به كل من عند ربنا ، وأما الذين يتبعون المتشابه ويتركون المحكمات فأولئك الذين في قلوبهم زيغ يترك الواضح ويبدأ يورد أدلة ، والله جل وعلا جعل من القرآن ما هو متشابه ، فالقرآن لا يخلو من دليل حتى في مسائل العقيدة لا يخلو من دليل استدل به المخالفون للحق فالنصارى استدلوا على بقاءهم على نصرانيتهم وعلى دينهم بل ملتهم استدلوا بالقرآن فقالوا : إن الله جل وعلا أثنى علينا بقوله جل وعلا : ) وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)(المائدة: من الآية82) )وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ )(المائدة: من الآية83) ، فيقولون : أثنى عليهم بأنهم يعرفون الحق وأن أعينهم تدمع وذكر الله أنه الله غفر لهم وأنهم مؤمنون ، ويقولون : بأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بالعرب بقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ )(الزخرف: من الآية44) وبقوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) ، واستدل الخوارج بمتشابهات من القرآن على أن مرتكب الكبيرة يخلد في النار بقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا)(النساء: من الآية93) ، فذكر أن القتل يخلد في النار ، واستدل المعتزلة على قولهم : إن الله جل وعلا لا يرى في الآخرة بقوله: ( قَالَ لَنْ تَرَانِي)(لأعراف: من الآية143) وبقوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)(الأنعام: من(16/140)
الآية103) ، وكذلك استدل أهل الفجور الذي يشربون الخمر بأن الله جل وعلا ما حرم الخمر وإنما رغب في الانتهاء عنها فقال جل وعلا : )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) ما قطع فيها بتحريم إلى آخره في مسائل كثيرة جداً يستدل بها أهل الزيغ ببعض القرآن .
كذلك السنة منها متشابه أيضاً استدل بها من استدل على نحلته وعلى طريقته وكذلك أقوال الصحابة وأفعال الصحابة وكذلك أفعال التابعين وأقوال التابعين منها متشابه وكذلك أقوال العلماء سواء في كتبهم أو فيما نقل عنهم بل وجود المتشابه في القرآن أقل من وجوده في السنة ووجوده في كلام السلف وفي أعمال السلف أكثر ووجوده في كلام أهل العلم في الكتب أكثر وأكثر .
فإذاً إذا صار المرء له شيء ونظر ثم بحث ذهب يجمع يتبع المتشابه ليدلل على نحلته وطريقته هذه سمة أهل الزيغ أما سمة أهل الحق فإنهم يقبلون على الكتاب والسنة متخلين عن آراءهم واعتقادهم فيقبلون ما جاء في الكتاب والسنة وما أجمع عليه السلف وما قرره الأئمة من المعتقدات ، أما يأتي بشيء جديد بتقرير مسائل لا بد تجد من كلام العلماء من يقول كلاماً إما مجملاً أو مطلقاً وإما رأي أخطأ فيه فليست العبرة جمع النقول وليست لعبرة بجمع أدلة ، وإنما العبرة أن تكون الأدلة راجحة محكمة في دلالتها وأن تكون أيضاً ثابتة إذا كانت من السنة .(16/141)
فإذاً العبرة ليست من الاستدلال ، وكل صاحب زيغ استدل من وقت الخوارج إلى يومنا هذا واتبع دليلاً وظاهر الآية يدل على ذلك (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) يتبعون ولا يأتون بشيء من عندهم يتبعون ما تشابه منه لكنهم تركوا المحكم فاستحقوا الذنب ولماذا تركوا المحكم ؟ لأن في قلوبهم زيغاً فتركوا المحكم واتبعوا ما تشابه منه يستدلون بالمتشابه على زيغهم وهذا أمر عظيم ، واليوم نرى فيما ألف من كتب معاصرة في مسائل تخالف ما قرره أئمة أهل السنة وما عليه الجماعة – قبل أن تفسد الجماعة – وما عليه أئمة الحديث وأهل الحق الذين أخذوا بالمحكم وردوا المتشابه إلى المحكم اليوم يوجد كتب كثيرة ورسائل ونبذ ومطبوعات كلها فيها أدلة وكلها فيها نقول فليست العبرة بالنقول وليست العبرة بوجود نوع استدلال ولكن العبرة بموافقة المرء طالب العلم طالب النجاة في أصول إيمانه وفي العقيدة والتوحيد موافقته للجماعة والأئمة الذين عُرف علمهم وسلامة طريقتهم وعرف اتباعهم لكتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وطريقة السلف الصالح .(16/142)
هذه مسألة مهمة جداً ولا تغب عن بالك ولو لم تكن في حياتك إلا هذه الوصية فهي وصية عظيمة لنفسي ولكم ، فليست العبرة بالمؤلفات والكتب وإنما العبرة بملازمة الطريق الأولى قبل أن تفسد الطرق ، ةكثرة الطرق وكثرة المؤلفات ما تصد الواحد هذه تعتبرها من المتشابهات – إذا صارت ما عليه أهل الحق والجماعة – الآن كل يقرأ وكل يبحث فيذهب ويقول : قال فلان كذا وقال فلان كذا ، ليست هذه بالوجهة الصحيحة ، أحياناً يأتي متشابه من كلام أهل العلم فيتوقف المرء فيه ، أما الذي يقول قال فلان كذا ويستدل به ونترك المحكمات ونترك الأصول من أجل قول لابن تيمية – مثلاً – في المسألة الذي أصاب رحمه الله في جل أقواله ، أو قول للإمام أحمد ونترك به المحكمات ليس صحيحاً ، أو قول للإمام مالك ونترك به المحكمات ليس صحيحاً ، فكيف بمن دونهم من فلان وفلان من الناس .
فإذاً تنتبه لهذا التأصيل وهو أن الله جل وعلا لما جعل كتابه فيه محكم ومتشابه وجب على طالب العلم والراسخ في العلم أن يردَّ المتشابه إلى المحكم ، اشتبه عليك شيء تأخذ بالأصول العامة بالقواعد التي عليها الأدلة الكبيرة وهذا خاصة في المسائل التوحيد والعقيدة والأصول ، أما مسائل الفقه فهي قابلة للأخذ والخلاف إذا كان الخلاف سائغاً أو له مأخذ من الدليل ، أما الأخبار والعقائد فهذه الحق فيها واحد لكن ليس ثم إلا سنة وبدعة ، وليس ثم إلا هدى وضلال.
قال: "فإذا رأيتم الذين يتبعون" –لاحظ كلمة (يتبعون)- هم اتبعوا دليلاً ، (يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله) –يعني: أنهم أهل زيغ. (فاحذروهم)" هم لا يأتون بشيء بدون اتباع، يتبعون عقلاً أو دليلاً لكن هذا الدليل متشابه وليس محكماً .
س/ كيف تعرف المتشابه والمحكم؟(16/143)
ج/ المتشابه هو: الذي خالفته الأدلة الكثيرة، خالفته القواعد، لم تأخذ به الجماعة، لم يأخذ به الأئمة وإنما وجهوه وبينوا معناه، مثل: (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة: من الآية90)، بينته السنة، ومثل: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)(الزخرف: من الآية44)، هذا بينته آية أخرى في ذلك، ومثل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا)(النساء: من الآية93)، خلود: مكث طويل ليس أبدياً ليس مساوياً لخلود الكفار لأن الأدلة الكثيرة المتوافرة (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، (من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، فكل أهل التوحيد يدخلون الجنة برحمة الله جل وعلا، هذه أدلة كثيرة لا نستطيع أن نترك الأدلة الكثيرة لأجل دليل واحد يوجه، ولكن نصرف المتشابه، يعني: الذي اشتبهت دلالته فيها إشكال إلى الواضحات الكثيرة من الأدلة.
كذلك كلام العلماء نصرف بعضه إلى بعض ويتضح بعضه من بعض.
ذكرنا لكم في عدة مواضع في شرح الواسطية والطحاوية، أن المتشابه المطلق لا وجود له يعني: لا يوجد في القرآن والسنة آية أو حديث لا يعلم أحد من الأمة توجيهها أو معناها - متشابه مطلق – هذا لا يوجد وإنما يوجد متشابه نسبي إضافي اشتبه مثلاً على ابن عباس رضي الله عنهما أو اشتبه على عمر معناه ، لكن يوجد من الصحابة من يعلم المعنى.(16/144)
كلمة (الأب) اشتبهت على أبي بكر رضي الله عنهما وهو الصديق لكن علمها غيره. وكذلك ( التخوف) اشتبه على عمر رضي الله عنه لكن علمها غيره، وهكذا في غيرها آية اشتبهت عليه لكن يوجد من أهل الزمان من يعلم معناها وتوجيهها فقد يكون العالم لا يعرف فتأتي إلى عالم فتحاجه بمتشابه فتسأله عن جوابه فلا يعلم جوابه ، هل معنى ذلك أن الذي عليه ليس حقاً ؟ ليس كذلك لأن المتشابه نسبي ، يوجد من أهل العلم من يجيب لكن كونه اشتبه المعنى على عالم فردك إلى المحكم وقال : هذه لا أدري وجهتها لا يعني أنه يتمسك بالمتشابه لكن الراسخ في العلم يقول: (آمنا به كل من عند ربنا) ، فكل راسخ في العلم إذا اشتبه عليه شيء يقول هذه الآية ، والله جل وعلا ابتلى الناس بهذا .
فإذاً : المتشابه المطلق – على الصحيح – لا وجود له ، إنما يوجد متشابه نسبي إضافي يشتبه على فلان دون فلان ولا يخلو عصر من قائم لله بحجة ، ولا بد أن يوجد في زمان من يعلم وهذا ما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ) ، يعني : أنهم يعلمون الحق .
(طائفة) : يصدق على شيء واحد ، لا بد من وجود من يظهر على الحق وهو الذي يسميه الأصوليون : (القائم لله بالحج) وهذا تعبير أصولي ، ولا يخلو عصر من قائم لله بحجة، ليس في بلد دون بلد ولكن في الأرض في عصر من الأعصار قد تعلمه وقد لا تعلمه وقد تصل إليه وقد لا تصل إليه.
وعن أبي ثعلبة الخُشَني – رضي الله عنه – مرفوعاً : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها ، وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) حديث حسن رواه الدارقطني وغيره .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة 0 رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )(16/145)
وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فحفِظها ووعاها وأداها فرُبَّ حامل فقه غير فقيه وربُّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه : ثلاث لا يَغِلُّ عليهم قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة للمسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم ) رواه الشافعي والبيهقي قي المدخل ورواه أحمد وابن ماجه والدارمي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( العلم ثلاثة آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة وما كان سوى ذلك فهو فضل ) رواه الدارمي وأبو داود .
الشرح:حديث ( العلم ثلاثة : آية محكمة ...) .
هذا الحديث في إسناده ضعف ، لكن معناه صحيح ،ويستشهد به الأئمة كثيراً وذلك لأن العلم النافع أقسام ثلاثة – كما جاء في هذا الحديث - :
آية محكمة : والآيات نأخذ منها التوحيد والعقيدة والأخبار التي يجب التصديق بها والإيمان بها ، ونأخذ منها الأوامر والنواهي .
قال : ( أو سنة قائمة ) : وهذه استفاد منها أهل العلم : أن السنن التي تنسب إلى العلم أو تكون معرفتها علماً والمحافظة عليها علماً هي السنن القائمة ، يعني : التي بردت عليها الأمة .
أما في الزمن الأول ،تكون سنة يزعمها بعض الناس تكون مهجورة عند الصحابة هذه لا شك أنها ليست بسنة وإن كان جاء فيها بعض الأحاديث التي يستدل بعمومها .
وأهل البدع دخلوا من هذا المدخل واستدلوا بأحاديث بعمومها على أن بعض الصور سنة وهي ليست سنة قائمة بمعنى أنها ليست معمولاً بها في زمن الصحابة – رضوان الله عليهم - .(16/146)
ولذلك نقول : إن مهمات العلم بالسنة والحديث أن تعرف ما كان عليه العمل في زمن السلف مما لم يكن عليه العمل ، لهذا الترمذي في كتابه ( الجامع ) ألفه لهذا الغرض ، رأى كتاب البخاري – وهو شيخه – ورأى كتاب مسلم ، فرأى أن الناس بحاجة إلى معرفة السنن التي عليها العمل ، لهذا تجد أنه يورد الأحاديث الصحيحة والحسنة وربما الضعيفة ويقول : هذا عليه العمل ، وهذا ليس عليه العمل عند أهل العلم ، وذكر في آخر كتابه – يعني : في العلل – قال : كل ما في كتابي هذا من الحديث فمعمول به خلا حديثين :
حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ، وحديث أبي هريرة في شارب الخمر إذا عاد في الرابعة فاقتلوه . قال : وما سوى هذين فمعمول به – يعني : عملت به طائفة .
وابن رجب – رحمه الله – عند شرحه لكتاب العلل ، توسع عند هذه الكلمة – مما ينبغي لك أن تطالعه – في أحاديث كثيرة قال طائفة من أهل الحديث : إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا هذا الحديث لم يعمل به .
وهذا غير المسألة المشهورة : أنه إذا صح الحديث فهو مذهب الإمام لكن بشرط أن لا يخالف العمل ، فإذا كان العمل على شيء فهو السنة القائمة إذا كان دليلها واضحاً ، والصحابة – رضوان الله عليهم – لن يعملوا إلا بالسنة ولن يرضوا ولا يتفقوا إلا بشيء دلَّ الدليل عليه ، ولهذا جاء في هذا الحديث قال : (آية محكمة) يعني : ليست متشابهة ، ولكن الآيات ذات المعنى الواضح التي يصار عليها ونرجع المتشابه عليها .(16/147)
والثاني : السنة القائمة المعمول بها لا السنة المهجورة أو التي لم يعمل بها ، ونعني بكلمة ( المهجورة ) يعني : التي ما عمل بها أحد ، توهم المتوهم أنها سنة فيقول : دل عليها حديث كذا ، مثل : الأذكار يستدل بفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل حال و ( رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل علي ) بإضافة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان إما قبله أو بعده على المنارة أو في ( الميكرفون ) ، مثل ما يفعل في بعض الدول، ويقولون : دل الحديث عليه، ولكن نحن نقول : دل الحديث على الصلاة لكن هذه المقصود بها السنة القائمة هل العمل بهذا الحديث في هذه الصورة هل هو سنة قائمة أو ليست كذلك ؟
أما ورود الحديث نعم فهو سنة لكن هل هذه الصورة تدخل في هذا العموم أم لا ؟ .
وهذا ضابط مهم سواء كان في باب البدع أو في مسائل الأحكام الفرعية ، وهذه يحتاج إليها العلماء في مسائل متعددة.
ومما يدخله بعض أهل العلم في هذه الصورة في قوله: ( أو سنة قائمة) ، الحديث امشهور حديث أم سلمة في رجوع الحاج الذي رمى جمرة العقبة ولم يطف يوم النحر رجوعه محرماً إذا غابت عليه الشمس ذلك اليوم ، حديث أم سلمة المشهور الذي رواه أبو داود بإسناد جيد، أن من لم يطف يوم النحر وكان رمى جمرة العقبة ؛ فإنه يرجع محرماً ، هذا الحديث قال به طائفة من العلماء المعاصرين ، وقال به قلة من العلماء السابقين ، لكنه من الأحاديث التي قال فيها بعض أئمة الدعوة وهو الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله - : إن الحديث صحيح ، لكن هبنا العمل به لأجل أن الأئمة تركوا العمل به ، لأنه كيف نعمل بشئ بعد هذه القرون وهو لم يكن من السنن القائمة في عهد السلف ، ومثل هذا حكم عظيم يتعلق بعامة الأمة.
المهم : تنتبه إلى مسألة ما عليه العمل ، والترمذي ركز عليه ، ومن ما يتميز به جامع الترمذي للفقيه وطالب الدليل أنه يركز على ما عليه العمل وما ليس عليه العمل .(16/148)
كذلك انتبه لهذا ابن المنذر في (إجماعاته) ، ابن المنذر نقدوه في (إجماعاته) ، وكذلك ابن عبد البر وكذلك محمد بن نصر ، وجماعة ممن كتبوا في الإجماع لأنهم يذكرون مسائل في الإجماع لكن لم يُجمَع عليها فيه مخالف ، وهم نظروا في الإجماع أيضاً إلى ما عليه العمل وهذا دليل لهم .
يعني : إذا خالف القول وجاء بعد (150) سنة قول فيه نظر في الحديث ونظر في الدليل وقال : هذا يدل عليه كذا وكذا ، فيدل على أن الأمر هذا مستحب لكن هذا الأمر يدل على أنه ليس مفضلاً في القرون الأولى لا نعلم أحداً عمل به أو قال به فكيف يأتي من يستنتجه في القرن الثالث أو الثاني أو نحو ذلك لهذا ابن المنذر ونحوه ممن ألف في الإجماع لا ينظرون إلى مخالفة من خالف العمل على أنه فادح في الإجماع بل الإجماع ما انعقد عليه العمل ، يرون المسائل التي انعقد عليها العمل في عهد الصحابة وفي عهد التابعين يعدون هذا إجماعاً ولو وجد من خالف فيها من الأئمة ، لهذا لا يقول ابن المنذر مثلاً : ( أجمعوا وخالف سفيان ) ، لأن هذا ليس من شرطه ، ولكن ما أجمع عليه العلماء من قبل وكان عليه العمل ، فإذا كان العالم ليس له حجة ، أو كان له حجة لكن خالف العمل السابق فإنه لا يعده ابن المنذر وطائفة ممن ألفوا في الإجماع ، مخالفاً للإجماع ، هذا معنى قوله : ( أو سنة قائمة ) .
الثالث : ( أو فريضة عادلة ) وهي علم الفرائض ، وهي أول علم يفقد في الأمة وهذا يعني : أن الاهتمام به من فروض الكفايات ، أن يبقى في الأمة من يعرف القسمة ويعرف الفرائض المقدَّرة في كتاب الله جل وعلا ، ويعرف ترتيب أصحاب الفروض وما يستحقه، كذلك يعرف أهل التعصيب وطبقات العصبة ، كذلك يعرف أحكام بقية أصحاب الفرائض .
فالفريضة العادلة هذا من العلم في الفقه فطالب العلم الشرعي ينبغي له أن يهتم بالفرائض لأن الفرائض نصف الدين – كما يقال – لأنها متعلقة بما بعد الحياة .(16/149)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ) رواه الترمذي .
الشرح :هذه كلها من الإمام – رحمه الله – يذكر آداب طالب العلم ، وما ينبغي له والأشياء التي يحتاجها طالب العلم .
أعظم ما يكون به الاستدلال وكلام طالب العلم واستشهاده وعظة الناس به هو القرآن ولهذا جاء التحذير في أن يقول قائل في القرآن برأيه أو بغير علم : ( من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ) .
يعني : من قال في القرآن برأيه الذي حمله عليه الهوى ، لأنه توعده بالنار ، وأما الاجتهاد المبني على دليل فإنه لا بأس به ، فإن أصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد ، إذا كان اجتهاده في التفسير مبنياً على دليل ، كذلك : من قال في القرآن بغير علم ، فقد أخطأ ولو أصاب ، يعني : رجل لا علم له باللغة ولا علم عنده بالشريعة وبقواعد الشريعة وبالسنة ، فيقول بالقرآن برأيه لكن ليس عنده علم ، نظر فقال : إن تفسير الآية أظنه كذا وهو ليس عنده علم بذلك فهذا ولو أصاب في الحقيقة فقد أخطأ لأن القرآن لا يجوز أن يتكلم الإنسان فيه ويفسره بغير علم بالقرآن بحفظ القرآن ومعرفة الآيات التي في الموضوع ، كذلك بغير علم بالسنة التي جاءت في تفسير القرآن ، بغير علم بمنهج السلف في التفسير ، كيف كانوا يفسرون ، وأقوال العلماء في ذلك ، ونحو هذه الضوابط .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ) رواه أبو داود .
وعن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأُغلوطات . رواه أبو داود أيضاً.(16/150)
وعن كثير بن قيس قال : كنت جالساً مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال : يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئتك لحاجة قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) رواه أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي وابن ماجه .
الشرح :أما الحديث الأول – وهو نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات – فهذا من آداب العالم والمتعلم .
والأغلوطات فسرت بعدة تفاسير منها :
1- أن الأغلوطة : هي المسائل التي يراد منها غلط من سئل عنها ، إما غلط المفتي أو المعلم ، أو غلط المتعلم ، يعني : المسائل المشكلة المعقدة التي لا يفهم وجهها كل أحد إنما يراد منها إظهار غلط المعلم أو المتعلم ، يعني لما فيها من التباهي وتعقيد العلم ، والمأمور به تيسير أخذ العلم .
2- والتفسير الثاني : هي المسائل التي لم تقع ، لأنه يؤول الكلام فيها إلى الغلط فإذا وقعت اتضحت .(16/151)
3- التفسير الثالث : المسائل المشكلة عموماً التي يستشكلها المتلقي ، وهذا النهي أدب عام للمعلم والمتعلم ، فالواجب على المعلم أن يبذل نصيحته للطلاب والمتعلمين وييسر عليهم مسائل العلم ويربيهم بصغار العلم قبل كباره وليس كل ما عند المعلم يعطيه المتعلم ليس كل ما عند الأستاذ أو الشيخ يعطيه ويلقيه لأن المجال ليس مجال استعراض معلومات ولا إعطاء كل ما عندك ، الطالب يريد ما ينفعه ، أما إذا أعطيته شيئاً لا ينفعه فلم تربِّه في الحقيقة .
والله جل وعلا أثنى على طائفة من عباده بقوله: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79)، وجاء في تفسيرها – في أحد أوجه التفسير – أن الرباني في العلم : هو الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره ن ولا يعطيهم أغلوطات المسائل التي تجعلهم يصدون عن العلم ويبعدون عنه .
وهذا الذي نهجه أئمة الإسلام وأهل الصلاح في العلم أنهم لا يعطون شيئاً صعباً وإنما يدرجون العلم شيئاً فشيئاً وفوائد ميسورة بأحسن عبارة حتى يتلقفها المتعلم ويستفيد منها .
أما الحديث الثاني : فهو حديث عظيم ، وأبو الدرداء جاء في وصفه في حديث مروي ، روي مرسلاً وروي متصلاً قال : ( أبو الدرداء حكيم هذه الملة ) ، وذلك لما جعل الله معه من الفطنة والحكمة في التربية وفي العلم، وكان يقرئ الناس القرآن في الشام ، وله في التربية وفي أحواله حكم كثيرة .(16/152)
هذا الرجل الذي جاء من الشام لطلب حديث واحد (إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني عنك أنك تحدثه)، وهذه همة عظيمة بأن المرء يرحل من المدينة في ذاك الوقت مع ضعف الرواحل فيمشي لمدة شهرين على الراحلة لأجل حديث سمع أن أبا الدرداء يحدث به ، لا شك أن هذه الهمة همة دين وليس همة التزيد أو همة رغبة في لفت وجوه الناس إليه أو رغبة في الثناء ؛ إنما همة دين وخوف من الله جل وعلا ورغبة فيما قاله عليه الصلاة والسلام فهذا يدلك على أن العلم إنما يكون بعلو الهمة ، فكيف إذا كان العلم ميسوراً عندك وقريب منك ، ومع ذلك لا تسعى إليه ، ولذلك أكثر الناس رعاع أتباع كل ناعق لا يهتمون بالعلم ولا يرفعون له وبه رأساً ، وهؤلاء مذمومون ، بخلاف الذين يسعون إلى العلم وتعبون فيه فإنهم حقيقون بما روى أبو الدرداء - رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن : (( من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم .. ) الحديث .
وهذا من سعى فيه فقد سعى إلى العلم ، فكيف بمن يسعى كل يوم ، فكيف بمن يرحل فيه .... الخ ، فهذا يعطيك مناسبة ذكر الإمام – رحمه الله – لهذا الحديث في آخر هذا الكتاب وأحاديث العلم .
إن أصول الإيمان والعقيدة التي عقدها الكتاب لها تحتاج منك إلى ممارسة ، وتحتاج منك إلى همة عالية ، ولا تحقر نفس ، تقول : هذا صعب ، والعلماء كثير ، وقد يأتي يوم والحاجة تكون لك ، والناس ينظرون إليك الحاجة في تبليغ دين الله .(16/153)
وكان ابن عباس يحرص على أن يجلس في مجالس الصحابة يأخذ العلم ، فيقول له الأنصاري : أتظن الناس بحاجة إليك ؛ وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون ، فترك ذاك صحبة ابن عباس في العلم ، وابن عباس استمر ، فما هي إلا سنوات قليلة ، عشرين ، ثلاثين سنة حتى احتاج الناس إلى ابن عباس أعظم من حاجتهم حتى إلى بعض كبار الصحابة ، لكثرة ما تلقف من العلم ، فالعلم لا تسيء به ظناً ، العلم من يحتاج إليه ، تذهب إلى بلد كلها جهل ، بلد لا تعرف العلم ، والله جل وعلا يقدر ما يشاء ، وقدَر الله يجري في عباده ، فإذا لم يكن مع المرء علم راسخ أخذه في وقت السعة ، وأكَّد على نفسه ؛ فإنه لن ينفع الناس ، قد يأثم في بعض الحالات ؛ إذا كانت كل الأسباب ميسرة له ، عنده فهم ورغبة واستعداد ، ولكن يؤثر الدنيا على العلم وتبليغ دين الله جل وعلا ؛ فلا شك أنه قد يأثم في بعض الحالات إذا تعيَّن عليه ، لهذا هذه الأمة ليس ثَمَّ نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، أما بنو إسرائيل فكان النبي يأتي بعده نبي ، وكان فيهم علماء ، أما هذه الأمة ورَّاث النبي صلى الله عليه وسلم فيها هم العلماء ، فإن العلماء ورثة الأنبياء .(16/154)
لهذا استحضر الفضل ، واستغفار الملائكة ، ورضا الملائكة ، ووضعها لأجنحتها ، واستحضر ( من سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ) ، واستحضر ( العلماء ورثة الأنبياء ) ، واستحضر وقت الحاجة ، الأمة الآن ، كم فيها – الآن ملايين – كم طلاب العلم ؟ طلاب العلم بحق قلة نوادر ، هل هؤلاء يكفون الأمة ؟ لا يكفون ، لو ندرِّس ملايين ، وتخرج ملايين أيضاً لا يكفون ، لأن الأمة – الآن – ملايين ، كيف يكفيهم هؤلاء في بلد ، وهؤلاء في بلد ، والبلدان والقرى تُعدُّ بمئات الآلاف في الأرض ، فمع توسُّع الناس ؛ طلاب العلم يقلُّون ، لا تنظر إلى الرياض مثلاً ، وتنظر إلى حلق بعض المشايخ ، وتقول : كثيرين ، أو تنظر إلى طلاب الجامعة ، وفي الواقع العلم – الآن – أندر من النادر ، صحيح أن القراء كثير ؛ لكن طالب العلم الراسخ الذي أخذ العلم بأصوله وبلَّغ دين الله جل وعلا ، أو يصلُح أن يبلغ دين الله جل وعلا ، ويعلم الناس بمعاني الكتاب والسنة هؤلاء قلة ، لهذا التعب وعلو الهمة هي الطريق مع سؤال الله جل وعلا التوفيق والإعانة ، ولا تحقرن نفسك .
ولهذا الذي ينبغي ويتأكد عليك أن يكون العلم أهم شيء ، والعلم واسع ، فخذ منه ما ينفع ن خاصة التوحيد والعقيدة لأن فيها صلاح الباطن وصلاح العمل ثم معرفة السنة في العبادات ، وما يحتاج الناس إليه يعلمهم السنة فيما يحتاجون إليه في أمر عباداتهم ومعاملاتهم ، هذا - في البداية - يكفي ، ومع الزمن يتوسع شيئاً فشيئاً حتى تأخذ من العلم ما كتب الله جل وعلا لك ، أسأل الله لي ولك التوفيق ، وأن لا يحرمنا ثواب العلم ولا فضل أهله .
كيف يأخذ طالب العلم تصوير المسائل ؟(16/155)
يأخذها بالتلقي ، تصوير المسائل ؛ أهم العلم ، أهم من الحكم والدليل ووجه الاستدلال والتفصيل والخلاف ، أهم منه ما بني عليه ذلك كله وهو ( صورة المسألة ) ، صورة المسألة في العقيدة والفقه ، معنى الحديث ، معنى الآية ، وبعضهم يستدل بشيء ليس في الآية ، إذا عرفتَ صورة المسألة أولاً ؛ فما بعده يتنزل علي الصورة ، يأتيك التعريف فينزل على الصورة ، والدليل على الصورة ، وهكذا .
مهمة المعلم : أن يصيغ ذهن الطالب في العلم ، كيف يكون ذلك ؟
يكون : 1- بالأناة في العلم والرفق وحسن التصور وحسن الاستدلال وحسن الأداء .
2- الاهتمام بالتحري في اللفظ والمعنى .
كيف يؤدى العلم ؟ كيف يبلغ العلم ؟ بلغة أهله ، وهذا يجعل الطالب كيف يفهم كتب العلماء .
3- أن يعلم الطالب كيف يتعامل مع شيخه ومع المجتمع ومع الكتاب ، وهذا ينقل بالتلقي والسمت .
4- أن يعطي المعلم للطالب أنه ليس كل يجاب عنه ، من الغلط أن يتجرأ الطالب على العلم ، فكل ما كان المعلم أهيب ؛ كان انتفاع الطالب به أكثر .
و مرفوعاً : (( الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا )) . رواه الترمذي وقال غريب ، وابن ماجه .
الشرح : الحديث حسن ، وقوله : ( رواه الترمذي وقال : غريب ) ، من فهم العلماء : أن غالب ما قال الترمذي ( غريب ) ؛ يعني به : أنه ضعيف ، لأن الغرابة عنده تعني الضعف ، وليست الغرابة عند المتأخرين – يعني عند أهل الاصطلاح – التي هي وصف للسند ، وقد يكون الرجال ثقات ، كحديث عمر بن الخطاب المعروف : ( إنما الأعمال بالنيات ) ، فإن غريب ، يعني : أنه لم يأت إلا عن راوٍ واحد في الطبقة الأولى والثانية والثالثة إلى آخره ن فقد يكون الحديث في الصحيحين وهو غريب .
لكن مصطلح الترمذي أنه إذا قال : ( غريب ) ، فإنه يعني به : أنه ضعيف في الغالب ، أو الجُلّ الأكثر مما أورده ن لكن هذا الحديث له طرق ، فهو بها حسن .(16/156)
( الحكمة ضالة المؤمن ) معنى ذلك : أن ( الحكمة ) التي هي الكلمة الصواب ، أو الرأي الصواب فهي ضالة المؤمن ، لأن المؤمن يسعى للحق ويتحرى الصواب ، والصواب والحق في الحكمة من الأقوال والأفعال ، ولهذا أثنى الله جل وعلا على من أوتي الحكمة ، فقال جل وعلا : ( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )(النساء: من الآية113) ، والحكمة : السُّنَّة من الأقوال والأفعال ، وهي الأقوال الصائبة في الحق ، والأفعال الصائبة في الحق .
فإذاً المؤمن من صفاته – وطالب العلم بالخصوص ، لأن هذه جاءت في ذكر صفات طالب العلم – أنه يتحرَّى الحكمة في الأقوال والأعمال ، لا يتصرَّف بمحض رأيه ، بل ينظر في الحكمة ، والحكمة أعلاها : ما وُجِد في سنى النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هدي الصحابة – رضوان الله عليهم – في أفعالهم وكلامهم ، وكذلك في هدي وأفعال وكلام أئمة الإسلام ، هذه هي الحكمة ، لأن الحكمة مكتسبة ، تكتسبها مما عقلت من الكلام والأفعال .
لهذا الحكمة عُرِّفَتْ بتعريفات منها : أنها وَضْعُ الشيء في موضعه اللائق به .
ومنها : وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها الموافقة للغايات المحمودة منها ، وهذا التعريف الثاني هو الأولى والأظهر ، للتفريق ما بين الحكمة والعدل ، لأن العدل هو : وضع الشيء في موضعه ، يقابله الظلم الذي هو : وضع الشيء في غير موضعه ، والحكمة : عدل وزيادة ، لأن كل حكيم عادل ، وكل حكمة عدل في التصرُّف ، وضع الشيء في موضعه ، لكن تختلف الحكمة عن العدل بأن الحكمة ينظر فيها في الأقوال والأفعال إلى الغاية المحمودة منها ، فقد يضع المرءُ الشيءَ في موضعه ويكون عادلاً ، لكن لا يكون حكيماً في موافقة الأمر للغاية المحمودة ، بأن يكون فعله وقوله في المصلحة في ازدياد المصالح وتقليل المفاسد .(16/157)
الحكمة لها أوجه ، ولها أسباب ، ربما ما يكون مناسباً بيان ذلك الآن ، وقد ذكر ذلك ابن القيِّم في موضع في ( مدارج السالكين ) .
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : (( إِنَّ الْفَقِيهَ حَقَّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطْ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَدَعْ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا وَلَا عِلْمٍ لَا فَهْمَ فِيهِ وَلَا قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا )) .
الشرح :
الفقيه في الكتاب والسنة يعنى به : من أدرك معاني القرآن والسنة ، فأعلم الناس هو الأفقه فيهم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) ، يعني : بالأقرأ هنا : الأفقه ، لأنه كان عُرف السلف.
ومنه قول الله جل وعلا : ( فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)(التوبة: من الآية122)، فإذاً الفقه في الدين : هو العلم بحدود ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو الفهم ، ولا خير في عبادة لا فقه فيها ، ولا خير في قراءة لا فقه فيها ن يعني : لا يفهم معنى الآية ولا الحديث ، ولا يفهم معاني الأحكام ، من لا يُدرِك هذا ؛ لا خير فيما يعمله ، ويعني : أن خيره قليل .
الحديث قال : ( إن الفقيه حق الفقيه ) ، يعني : الفقيه المتحقق بالفقه ، الموصوف بالعلم بما أنزل الله جل وعلا في كتابه وعلى سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ؛ هو من اتصف بهذه الصفات أنه : لا يقنِّط الناس من رحمة الله ، ولم يرخص لهم في معصية الله ، ولم يؤمنهم من عذاب الله ، وهذه لا شك أنها صفة لأهل العلم .(16/158)
أما من قصُر علمه ؛ فتجده في الوعظ والإرشاد ، أو تجده في دروسه إلى آخره ، تجد أنه يغلب عليه جانب من هذه الجوانب ، إما أنه يغلب عليه جانب الرجاء في الناس حتى يُجرِّئهم على المعاصي ، يفتح لهم باب الرجاء حتى يجرئهم على المعاصي ، أو أنه يشدد عليهم ، أو أنه يصف لهم العقوبة والعذاب وصفة النار ؛ حتى يقنِّطهم من رحمة الله جل وعلا ، ويظنون أنهم قد هلكوا . والفقيه حق الفقيه هو من يعامل الناس بطريقة الكتاب والسنة ، وهو أنه يعطيهم الرجاء ، ولكن أيضاً يخوفهم من العذاب ، فلا يومِّن ولا يقنِّط ، لأنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ، وكذلك الأمن من مكر الله محرم .
وهذا هو الذي ينبغي عليك أن تعتني به ، سواء في العلم ، أو إذا كتب الله جل وعلا لك إرشاد طائفة ، أو درس أو محاضرة ، أو إرشاد جهال في أي مكان في أن يكون عندك غرس في قلوب الناس الفرح بالطاعة ، والخوف من المعصية ، فتْح باب الرجاء وعدم التقنيط من الذنوب ، فتفتح لهم باب التوبة وباب الرجاء في قبول الطاعات ، وأيضاً تخزفهم من أثر المعصية والذنب ، وهذا يوافق طريقة أهل السنة والجماعة ، ووسطية ما قالوا به في باب الخوف والرجاء .
وعن الحسن رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لِيُحْيِيَ بِهِ الْإِسْلَامَ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ )) . رواهما الدارمي .
الشرح :
تخريجه : ضعيف ، وإسناده مرسل ، نصر بن القاسم مجهول ، وعمرو بن كثير لم أجد ترجمته ، ورواه الطبراني ، وفي إسناده – كما قال الهيثمي – فيه محمد بن الجعد وهو متروك ، والعباس بن دكار وهو كذَّاب .
(باب قبض العلم)(16/159)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: (( هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ )) . رواه الترمذي .
وعَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ ((ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ)) قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَالَ : (( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ أَوَلَيْسَ هَذِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا )) . رواه أحمد وابن ماجه .
الشرح :
الأحاديث في قبض العلم وذهابه في آخر الزمان كثيرة ، منها في الصحيحين أحاديث عدة كقوله عليه الصلاة والسلام : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ) ، ذهاب العلم من أشراط الساعة الصغرى ، أن يقل العلم ويُرفع ، وأن يكثر الجهل وفشو ، وكثرة القراءة الموجودة في هذا الزمان ؛ لا تدل على ازدياد العلم لأن الناس يقرأون ولكنهم لا يعلمون إلا القليل .(16/160)
لهذا إذا نظرت – الآن – في عدد الأمة وعدد الناس ، كم منهم من يطلب العلم ؟ كم منهم من يعلم ، نادر ، يعني : إذا ذكرتَ ألفاً أو ألفين أو ثلاثة آلاف ، إذا كانوا يوجدون في ألف مليون ، لا شك أن هذا نادر جداً، وأيضاً هم متفاوتون في العلم ، وفي إدراكه وتحصيله ، فهذا يخوِّف ، وهذا الحديث مما ينبغي لك أن تستحضره دائماً في التخويف ، أن تدرك الزمن الذي ينزع فيه العلم ، وينتشر فيه الجهل ، لماذا ؟ لأن هذا يدل على فساد الزمان ، حتى ربما الواحد تدركه هذه البلية أن يكون جاهلاً فيتخذ رئيساً فيُسأل فيُفتي يغير علم وهو يظن عن نفسه أنه عالم لكنه سئل بغير علم فأفتى فضلَّ وأضل ، وهذه ظهرت بوادرها الآن فيما ينشر ويقرأ ويراه البعض في القنوات أو يسمعونه في الإذاعات أو في الصحف ، أسئلة كثيرة وأجوبة بغير علم ، يعني أجوبة من جهة الاستحسان والرأي أو الضعف أمام ما يجري في العصر ونحو ذلك مما هو سبيل ضعف العلم وعدم رعاية الدليل من القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
فإذاً هذه الأحاديث التي فيها رفع العلم في آخر الزمان وقلة العلم وكثرة الجهل ؛ تخوِّفك ، وإذا خفت أدلجت ، ( من خاف أدلج ) ، إذا خفت أدركت أن المسألة صعبة ، وأن مسؤولية الأمة ومسؤولية بقاء وراثة النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي عليَّ وعليك ، وعلى الثاني والثالث ممن أدركوا .(16/161)
إذاً لا بد أن نبذل أنفسنا في العلم ، وطلب العلم جهاد ونشره جهاد ، النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً يجاهد بالعلم وبالقرآن ، (فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52) ، لذلك جهاد العلم هو أعظم من جهاد السنان ، ولهذا قول المحققين من أهل العلم : أن طلب العلم والتفرغ له والعناية به حفظاً ودرساً أنه أفضل من النوافل ، حتى أفضل من جهاد التطوع ، لماذا ؟ لأن النفع عام ، وجهاد التطوع قد يكون خاصاً ، لكن العلم فيمن أخذه بحزم وجد ؛ فإن نفعه عام له ولمن حوله وللناس ، ويبقى على مدى سنين طويلة ما أحياه الله جل وعلا .(16/162)
فالمجاهدة بالعلم ؛ هذه من أعظم الجهاد ، بل هي سبب لكل خير ، لكن هذا لا يعني أن المرء يتصدَّر قبل أوانه ، أو يذكر ما لا يعلم ، أو يقول أشياء بالظن ، أو يتجرأ على ما ليس له ، وبالتجربة ، والذي وجدناه أن الله جل وعلا يبارك للعبد إذا علَّم ونشر ما علِم بيقين ، والذي لا تعلمه ، أو أنت شاك فيه ، أو لم تُحسن فهمه فاتركه ، ولا يلزمك أنك تعلم ، أو تنشر في كلمة أو محاضرة أو في خطبة شيء لا تعلمه ، فشيء مشتبه عليك ؛ اتركه أصلاً حتى تتحقق منه مائة بالمائة ، والناس الآن يحتاجون إلى اليقينيات ، يحتاجون إلى ما يعلمه طلاب العلم بوضوح ، يحتاجونه الآن ، نسوا أكثر العلم والدين من أمور الدين العظام في التوحيد وتعظيم القرآن وتعظيم السنة ، والإتيان بالعبادات ونحو ذلك ، طاعة النبي عليه الصلاة والسلام ، ونحو ذلك من الأمور التي هي أصول الدين ، فإذاً الواجب عليكم جميعاً الجد في طلب العلم ، لا يسبقنكم الزمان وفترة الشباب ، وهي فترة العلم والتعلم ، فإذا راحت ، وبدأت في الثلاثينيات ؛ صارت المسألة وسط ، يعني تبدأ تبني على ما مضى ، ويصير تحصيلك بحسب ما مضى ، فإذا صار ما مضى مركَّزاً وقوياً وبناؤه جيداً ؛ يكون تحصيلك تعطفه على ما سبق ، تبني بنياناً جيداً – بإذن الله وتوفيقه - ، إما إذا كان الأول مهزوزاً ؛ فستظل بعدها في الثلاثينيات وما بعدها ؛ ستظل مهزوزاً ، لأن ما بني على ضعيف ؛ سيكون ضعيفاً ، ولا وسيلة لتثبيت العلم مثل التقوى والإنابة إلى الله جل وعلا ، قال جل وعلا : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )(العنكبوت: من الآية69) ، وقال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً)(النساء: من الآية66) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( من فعل ما يوعظ به ؛ ثبَّت الله العلم في صدره ) وكان ربما استغلقت عليه المسألة من مسائل العلم – يعني ابن(16/163)
تيمية – يقول : ( فأسجد لله جل وعلا وأتضرع وأبكي وأعفر وجهي بالتراب حتى يُفتح لي ، وهذا لأجل الذل ، لأنه ما يستغلق القلب إلا لشيء عليه ، لأن هذا نور الله جل وعلا ، فكيف ما يدخل القلب ، كيف ما يفهم ؟ لا بد أن فيه شيء ، قد يكون من عدم استعدادات فطرية من عدم الذكاء وعدم الفهم ، هذا أمر آخر ، لكنه إذا كان لدى المرء استعدادات فكيف ، وهذا تجده أنت في نفسك ، فتجد أحياناً تلحظ أنك يأتيك انشراح فتفهم المسألة بسرعة ، وأحياناً تكون المسألة واضحة فتقول : كيف جاءت هذه ، حتى تقرأ الكلام الواضح ، تجد أن على القلب حاجزاً يمنع من فهمه ، لكن بتقوى الله جل وعلا ؛ يعظم الله جلا وعلا للعبد الأر وييسر له سبل الفهم .
وبالمناسبة هناك من يكثر الاستدلال على هذه المسألة بقول الله جل وعلا : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)(البقرة: من الآية282) ، والاستدلال بالآية على : أن من اتقى الله جل وعلا يعلمه الله ؛ ليس صحيحاً ، بل هو غلط من جهة اللغة العربية ، وكذلك من جهة حسن القراءة .
أما من جهة حسن القراءة : فإن الوقف الحسن على لفظ الجلالة : ( واتقوا الله ) ، وبعد ذلك تقرأ: ( ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) ، أما من جهة العربية ( واتقوا ) : أمر ، وإذا كان الأمر له جواب ؛ فإن يكون مجزوماً ، لو كانت ( ويعلمكم ) إنها خبر وأثر للتقوى نتيجة للتقوى ؛ لكانت مجزومة ، وبلا ( الواو ) ، فتكون – واتقوا الله يعلمْكم الله – هذا مقتضى النحو والعربية ، هذا كثير في القرآن ، مثل الشاهد عليها قوله في سورة نوح :( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ* يَغْفِرْ لَكُمْ) ، فالمغفرة جُزمت لأنها مرتبة على الأمر ، وهذا يسمى جواب الأمر في النحو ، ويكون مجزوماً لأنه في مقام جواب الشرط .
هنا : ( واتقوا الله ) ، ثم استأنف ، لأن ( الواو ) استئنافية ، ( ويعلمكم الله ) ، الفعل مرفوع بعدها .(16/164)
بعض أهل العلم حاول أن يخرِّج هذا على أن تكون ( الواو ) حالية ، وحنى لو كانت حالية ؛ فإنها لا تكون مرتبة ، فالمعنى : واتقوا الله حالة كون الله يعلمكم ، وهذا أيضاً لا يستقيم مع الاستدلال .
لكن التقوى سبب للعم ليس بهذه الآية ، ولكن بقوله جل وعلا في سورة الفرقان : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً )(لأنفال: من الآية29) ، وأعظم الفرقان : الفرقان في المسائل العلمية بين الصواب وغيره ، تفهم وتفرق بين هذا وهذا ، فرقان ، مما يعطيه الله جل وعلا للمتقين .
فإذاً الاستدلال على مسألة أن المتقي يعلمه الله جل وعلا هذا من الاستدلال بآية الفرقان هو الصواب ، أما الاستدلال بآية البقرة ؛ فلا يستقيم من جهة العربية والنحو ، مع أن عدداً من المفسرين راج عليهم صنيع الوعاظ ، وقالوا : الآية يستدل بها على كذا ، ولكن رد عليهم طائفة من المحققين ، منهم أبو حيان في البحر المحيط وغيره .
وعن ابْنُ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه – قال : ( عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ وَقَبْضُهُ أَنْ يُذْهَبَ بِأَصْحَابِهِ عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ أَوْ يُفْتَقَرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّبَدُّعَ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعَمُّقَ وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ ) . رواه الدارمي بنحوه .
الشرح :(16/165)
هذا الأثر أثر عظيم فيه : الوصية والحض والحث على أخذ العلم عن أهله قبل أن لا تعرف كيف تأخذ العلم ، وهذا في الواقع مشاهد فإن الإنسان تأتيه أحوال يكون مهيئاً له أن يطلب العلم ، مهيأ له أن يحفظ وأن يبحث ويقرأ ، فينبغي له أن يلزم العلم والعمل ومجالسة العلماء لأنه لا يدري متى يحتاج إلى العلم ، ولا يقول : العلم معروف وسهل ، والذي أحتاجه في حياتي مسألة أو مسألتين ، والعبادات عرفتها ، وأصول التوحيد عرفتها ، ويكفي ، لا تدري متى تحتاج إلى العلم ، لا تدري متى تحتاج إليه ، ومتى تفتقر إليه ، ومتى يُفتقَر إليك ، ولهذا كان من المصائب العظيمة في آخر الزمان أن يتخذ الناس رؤوساً جهالاً فيُسئلون فيُفتون بغير علم فيضلون ويُضلون ، فالواجب على طالب العلم بالخصوص وعلى كل من يأنس من نفسه رشداً في العلم أن يحرص على العلم ، وأن يلزم أهله لأن هذا أعظم القُرَب ، لهذا قال بعض السلف : ( كانت العبادة أفضل ما يُعمل في أول الإسلام ، والآن : العلم هو أفضل ما يُعمل ) ، يعني : أفضل من نوافل العبادة ، لماذا ؟ لأن الحاجة إليه عظيمة ، وكان سابقاً في أول الإسلام الكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع الصحابة ، وحال المجتمع وحال الناس يدل على الخير ويحث عليه ، والشُّبَه منفية ، والشهوات قليلة ، وما يحتاجه الإنسان في دينه - في الغالب – أنه قريب منه ، لكن بعد ذلك جاءت الشُّبه ، وجاءت الشهوات ، فاحتاج الناس – لكثرة جهلهم – إلى العلم وإلى الإرشاد وإلى البيان وإلى بقاء فهم حكم الله وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما وَرَّثوا العلم ، لهذا أعظم ما تتقرب به إلى الله جل وعلا بطلب العلم ، لأنك لا تدري متى تفتقر إليه – كما قال ابن مسعود رضي الله عنه – ولا متى يُفتقَر إليك فيه ، متى يُحتاج إليك في بلد قد يكون تحصل فتنة للناس ففيتفرق الناس ، متى يحتاج إليك ، وهل الناس(16/166)
دائماً تتسر لهم اتصالات .
والآن لو كل طالب علم جلس في مسجده ونفع من حوله لكان خيراً عظيماً ، يعني بحسب ما عنده ، مع التثبت والسؤال وتقوى الله عز وجل ، ينفع نفسه وينفع الآخرين ، فلا شك أن الحاجة – كما قال ابن مسعود رضي الله عنه – إلى مزيد ومزيد في الاجتهاد في طلب العلم .
ثم ذكر الوصية بالقرآن ولزوم القرآن يكون مع الحذر من مخالفته ، فإن قوماً يزعمون أنهم يأخذون بالقرآن وهم قد تركوه وراءهم ظهرياً ، وهؤلاء هم أهل الشبهات والمشتبهات الذين أخذوا بالبدع وتركوا المحكمات من القرآن ، ولهذا الله جل وعلا وصف – في آية آل عمران – وصف المنحرفين الزائغين بأنهم يتبعون المتشابهات جزماً وقوة فيها ، ووصف الراسخين في العلم بالتواضع والذل ، وأنهم يجهلون أشياء كثيرة ، فقال جل وعلا : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)(آل عمران: من الآية7) ، وفي قوله : (ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) ؛ ما يُشعِر بأنهم جازمون ، وأنهم أقوياء في اتباعهم للمتشابه ، ثم وصف الراسخين في العلم قال: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ، على الوقف هنا ، ثم قال : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) ، يعني : مع كونهم أهل ثبات وأهل رسوخ في العلم ؛ لكن عندهم تواضع وأناة لأن هناك أشياء يجهلونها ، لا نعلمها ( كل من عند ربنا ) سلمنا وآمنا ، وهذا هو الذي حصل في الأمة ، لأنه كلما زاد المرء زيغاً – والعياذ بالله – كلما ازداد شدة في تفسير القرآن ، أو في اتباع ما يريد من المتشابه ومجادلة عليه وقوة عليه ، والراسخون في العلم عندهم المحكمات والمجمع عليها(16/167)
مسائل قليلة ليست بالكثيرة ، وما اشتبه عليهم يقول العالم الراسخ في العلم : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) ، الله أعلم ، ما ندري ، هذه تحتاج إلى مراجعة ، وأما الآخرون فتجد عندهم جزم وخوض في كل شيء ، وقلَّ أن تجد عند زائغ أن يقول ( لا أعلم ) أو ( لا أدري) ، بينما تجد عند الراسخين في العلم الذين تحققوا في العلم بوصية ابن مسعود هذه ، وتحققوا بالقرآن ؛ أنه يقول: لا أعلم ، أجهل ، حتى بينه وبين نفسه يهرب من المشتبهات ، ويأخذ المحكمات طلباً للسلامة ، فما حدث في الأمة من الانحراف ، ومن الزيغ ؛ كله بسبب ترك العلم النافع ، وترك الأخذ بالسنة ، وترك معرفة القرآن والعلم بحدود ما فيه من العقائد والغيبيات والأحكام والشرعيات .(16/168)
الواجب عليكم جميعاً الجد في العلم ، لأن الزمن هذا ليس زمن علم ، إنما هو زمن جهل ، فالناس – الآن – كلما زاد بهم الزمان ؛ كلما زاد بهم الجهل ، وكما قال من قال : ( كفى بالاغترار بالله جهلاً ، وكفى بخشية الله علماً ) ، ليس المقصود الثقافة والكلام ، هذا أكثر الآن ، الصغير الآن يجادلك ، يقول : لا ، هذا يدلك على كذا ، وهذا يدل على كذا ، فالمقصود : العلم النافع الذي قرره أهل العلم ، وأهل السنة ، وأئمة السلف، في المسائل الخلافية يعرف المرء ما ينجيه فيها ، ويأخذ بما دلت عليه الأدلة ، إذا اتضحت له ، أو يحتاط لدينه ، هذا يحتاج إلى مصابرة وصبر وبذل ، فالعلم ليس سهلاً ، فمن أراد لزوم الطاعة ، هذا معه إلى الموت ، وليس سنة أو سنتين ، كذلك العلم يبقى معه إلى الموت ، ليس قليلاً ويذهب ، ولكن معه إلى الموت ، فلا بد أن توطِّن نفسك أنك إذا صرت طالب علم ، فهو معك إلى الموت ، وهذا أعظم ما تتقرب به إلى الله جل وعلا ، وأعظم من نوافل العبادات ، لأنك أنت – الآن – في مقام جهاد ومقام حماية للشرع ، كيف يعلم من في بيتك ، ومن حولك ، كيف يعلمون ؟ خاصة في أصول الدين العظيمة ، كالتوحيد والعقائد ونحو ذلك ، يدخلهم الشيطان فيوقعهم في أعظم مصيبة ، وهي البدع وقبلها الشرك – والعياذ بالله - ، رحم الله ابن مسعود ورضي عنه .(16/169)
( العتيق ) : هو الأمر الذي كان عليه السلف ، كان عليه من قبل ، وهذا يفسره قول ابن مسعود لما أُخبِر عن جماعة في الكوفة ، أنهم يسبحون مائة ، ويهللون مائة ، ومعهم حصى ، فقيل له ، فذهب إليهم ، فوجد قائلاً منهم يقول : سبحوا مائة فيسبحون على انفراد ، ثم يبدأون يعدون بالحصى أمامه ، فقال لهم : لأنتم أهدى من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أنتم على شعبة ضلالة – وهذه ثنائية صحيحة إما هذا أو هذا- هذه آنية رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تُكسَر ، وهؤلاء زوجاته لم يمتن ، وهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا عبد الرحمن ! الخير أردنا ، - يعني : يا ابن مسعود ما أردنا إلا الخير ، هذا تهليل ، ونعد بالحصى ونحن مجتمعين – فقال : ( كم من مريد للخير لم يبلغه ، أو لم يحصله ) ، هذا لأنهم لم يأخذوا بالعتق .
فالعتيق هو : الأمر الأول قبل ما تحصل الخلافات والافتراق والبدع ، هل كان عليه الزمن الأول أم لا ؟ هل كان عليه الأمر من قبل أم لا ؟ هذه حجة السلف دائماً ، هل فعله السلف أم لم يفعلوه ؟ أحياناً بعض المسائل تدل عليها عمومات ، مثل الآن فِعْل هؤلاء لما اجتمعوا على الذكر على هذا النحو قد يستدل له بعموم : ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ) ، أو : ( ما اجتمع قوم يذكرون الله .. ) ، أو ( ما جلس قوم مجلساً ثم قاموا ولم يذكروا الله إلا قاموا على مثل جيفة حمار ) ، يعني : ثَمَّ عمومات تدل على فضل الذكر ، وفضل الاجتماع ، لكن إدخال صورة ما في عموم ، وهو من جهة العمل الجماعي الذي تضاهي به الشريعة ، إدخاله في عموم يقولون : هذا دلَّ عليه الدليل ؛ هذا ليس بحجة ، لأن المسألة إذا دل العموم ( عموم الدليل ) من الكتاب والسنة على هيئة مضاهية للهيئات الشرعية ، فالحال قسمان :(16/170)
إما أن تكون هذه الهيئة المضاهية عملها السلف ، أو لا يكونوا عملوها ، فإن كانوا عملوا بها فدخولها في العموم الاستدلال بها واضح ، لأن السلف فهموا دخول هذه الصورة في العموم وعملوا بها .
وإما أن يكونوا لم يعملوا بها ؛ فهذا يدل على أن هذه الصورة التي هي الهيئة المضاهية للشرع أنه لا يجوز أن تدخل ن لأن السلف تركوها ، الصحابة تركوها ، وهذا معنى قول ابن مسعود : ( عليكم بالعتيق ) ، يعني : من جهة السلوك والسبيل ، كذلك عليكم بالعتيق فيما يختلف فيه من الاستدلالات ، لأن أصحاب الاحتفالات والموالد وأشباهها استدلوا بعمومات ن جاء في الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم الاثنين والخميس ن وسئل عنه فقال : ( ذاك يوم ولدت فيه وبعثت فيه ) ، الحديث رواه مسل، فالنبي صلى الله عليه وسلم صام يومي الاثنين والخميس ، وعلَّل صيامه بأنه ولد فيه ، وبعث فيه ، فصيامه – عليه الصلاة والسلام – له شكراً على نعمة ولادته ، وعلى نعمة بعثه ، والإيحاء إليه عليه الصلاة والسلام .
وكذلك ما ورد من أن الأعمال ترفع فيه : ( وأحب أن يرفع العمل وأنا صائم ) ، فجاءوا وقالوا : هذا احتفاء ، فإذاً نقيم الموالد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم احتفل ، فنقول لهم : هذا الدليل الذي أوردتموه إذا قلنا يحتمل هذا المعنى أو يدل عليه ؛ فلماذا تركه الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم الذي صام فيه لم يفعل هذا النوع الذي هو الاحتفاء وإطعام الطعام والاجتماع ، إذا كان مشروعاً ،لماذا لم يُفعَل ؟ إذاً هنا يأتي : ( فعليكم بالعتيق ) .
وكلما حصلت فتنة واختلاف ؛ انظر ما عليه الناس قبل الفتنة – يعني في المسألة في الدين عظيمة – انظر ماذا عليه الناس قبل الفتنة ، تجد أن الأمر يتضح لك ، وهذه قاعدة صحيحة ومجربة وواضحة من عمل السلف .(16/171)
فالتزام طريقة الصحابة – رضوان الله عليهم – والسلف الصالح ، والأمر الأول أنجى ، كلما كان الناس أقرب إلى زمن النبوة كلما كانوا أسلم من البدع والجهل والضلالات .
مثل : ( التكبير الجماعي في العيدين ) يستدلون له بفعل ابن عمر وأبي هريرة – رضي الله عنهما – لما كانا يدخلان السوق فكبرا وكبر الناس بتكبيرهما ، قالوا : هذا يدل على التكبير الجماعي .
هذا لا يدل ، لأنهما ذكَّرا الناس فتذكر الناس لما سمعوا تكبير ابن عمر وأبي هريرة كبَّروا من باب التذكر ، (كبّر الناس بتكبيرهما) ، يعني : يكبرون بسبب تكبيرهما ، فإذا جاء واحد يكبر في المسجد ، والناس يكبرون ؛ فهذه هيئة اجتماعية ، ولو كان ثَمَّ مستمسك ، لنفرض أن فيه استدلالاً لكن هل فُعل في المساجد ، هل فعله ابن عمر وأبي هريرة في المسجد ، لنفرض – تنزلاً – أنه فُعل في السوق لكن هل فعل في المسجد بهذه الهيئة الجماعية ؟ فقد يكون هناك مستمسك في الدليل لكن يُنظر في عمل السلف .
وفي الصحيحين عن ابن عمرو مرفوعاً : (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )) .
الشرح :
هذا الحديث فيه التخويف من هذا الزمان الذي يقبض فيه العلم ، ونقف عنده وقفات :(16/172)
1- أن حقيقة قبض العلم إنما هو قبض من يحمله ، قال : ( ولكن بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً .. ) وهذا مما يجعل العبد يفرح كثيراً بوجود العلماء الذين يحملون هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحملون العلم بالكتاب والسنة ، لأن ببقائهم بقاء العلم ، ويموتهم وعدم وجود من يخلفهم ، ويحمل العلم ؛ هذا من علامات نزع العلم ، والضلال والإضلال ، وإذا تبيَّن هذا ؛ فالواجب على إذاً على طالب العلم ، بل على كلم مسلم أن يكون من المعزِّرين والمناصرين والحافين بالعلماء ، لأن في تأييدهم تأييد الدين ، ولأن في الأخذ عنهم بقاء العلم وعد اندراسه وقبضه ، قال : ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء ، كيف إذاً يُقبض العلم ؟ ( ولكن يقبضه بموت العلماء ) ، يموت العلماء شيئاً فشيئاً ، وهذا جاء في تفسير قول الله جل وعلا : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا )(الرعد: من الآية41)، جاء في تفسيرها : أن نقص الأرض من أطرافها يموت العلماء ، لأنها تبدأ تنقص تنقص حتى تصير أرض ضلال ، والعياذ بالله .
2- عند قوله : ( حتى إذا لم يبق عالم ) ، هذه ضُبِطَت بوجهين :
- ( حتى إذا لم يَبقَ عالمٌ ) ، فتصير ( عالمٌ ) : فاعل ، وهذه هي المشهورة .
- ( حتى إذا لم يُبقِ عالماً ) ، يعني : الله جل وعلا ، والأولى هي المشهورة في الرواية .
3- ( اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ) ، هذا يدل على أن الناس يحتاجون إلى من يؤمهم في دينهم ، ويُعلِمْهم بالأحكام ، فإذا لم يجدوا أحداً فإنهم لا بد أن يتخذوا رؤوساً ، وهؤلاء الرؤوس أيضاً لا بد أن عندهم علماً ميزهم عن غيرهم ، لماذا اتخذ فلاناً وفلاناً رؤوساً ؟ لأنهم وجدوهم أمثل منهم ، وجدوا عندهم خبراً ، وجدوا عندهم علماً ، لكنهم في الحقيقة جهال ، وجهلهم من جهتين :
الأولى : عدم العلم . الثانية : عدم العمل .(16/173)
لأن الذي لا يعلم جاهل ، والذي يعلم ولا يعمل ولا يحل الحلال ولا يحرم الحرام ولا يخشى الله جل وعلا فهو مغتر بالله جل وعلا ، وكما جاء في الأثر : ( كفى بالاغترار بالله جهلاً ) ، وعدم العمل ممن عنده علم ؛ يعني عدم تحليل المحلل ، وعدم تحريم الحرام وعدم القول بالحق ؛ هذا يورث أن هذا المنتسب للعلم يجتريء على الأحكام ، فيحكم في شرع الله برأيه ، أو بحسب ما يراه من المصالح الدنيوية لمن سأله ، أو للوضع ، أو نحو ذلك مما لا يكون فيه مراقبة لله جل وعلا ، فهذان نوعان من الجهل يوجدان .
إذا مات العلماء العاملون ، قال : ( اتخذوا الناس رؤوساً جهالاً ) في الحقيقة هم جهال إما بعد العلم ، أو بترك العمل ، لا يحللون الحلال ، ولا يحرمون الحرام ، وليسوا بذوي خشية من الله جل وعلا ، وهذا يجعلهم ذوي جراءة وإقدام على تحريف الشرع ، كما حصل لأناس كثير في زماننا هذا ممن أحلوا بعض المحرمات المشهورة ، فهناك من قال مثلا: إن الرجل له أن يستمتع بمن يريد أن يتزوجها ، يعني قبل الخطبة ، هناك من هو منتسب للعلم سئل فأفتى ، وهناك من سئل أيضاً في مسألة معاشرة الرجل لزميلته في الجامعة ، فقال : من الأشياء الضرورية التي لا يمكن التخلص منها فكون الشاب يجلس مع زميلته في خلوة وفي الجامعة ، ويذهب معها ، وربما يحصل بينهم أشياء من وسائل المحرم ، يعني من مقدِّمات الجماع ، يقول : هذا من الأشياء التي تعم بها البلوى ، وسهَّل فيها ، ومنهم ومنهم ممن سُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا .(16/174)
3- أنه في آخر الحديث : ( سئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) ، مما يجعل طالب العلم دائماً في حذر أن يفتي بغير علم ، فإذا أفتى بغير علم ؛ فالنتيجة : أنه يَضِل ويُضِل ، والذي يَضل ويُضِل هذا إثمه عظيم أعظم من إثم من أخذ بالفتوى وعمل جهلاً ، وارتكب المحرمات بشهوته ، ( فأفتى بغير علم ) ، يعني : تجرأ ، قال على الله بلا علم ، فضل وأضل ، لهذا الله جل وعلا جعل القول عليه بلا علم قريناً للمحرمات الكبيرة ، قريناً للشرك بالله جل وعلا ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33) ، وقال سبحانه : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36) وقال : (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (الأعراف:6)(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (لأعراف:7) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ) (الأعراف:9) ، والآيات في هذا التخويف شديد .(16/175)
فالواجب عليك أن لا تتخذ رأساً جاهلاً ، لأن الناس قد يتخذك أهل بيتك رأساً جاهلاً ، وقد يكون أهل قريتك يتخذونك رأساً ، يسألونك وأنت تفتيهم بغير علم فتضل وتُضل ، لأنه ليس عندهم علماء راسخين فيسألون من عندهم فيتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، وهذه تخوف كل طالب علم من أن يفتي بغير علم ، لا تُفْتِ إلا بحجة ، ولو ما أفتيت إلا في السنة مرة واحدة على الدليل ولا تأثم ، لأنه يجب على من احتاج إلى الفتوى أن يسعى هو ، يسأل أهل العلم ، وأنت لا يلزمك أن تفتي بغير علم وبغير تثبُّت ، لا تعلم الحكم في المسألة تجتهد فيه وأنت لا تعلم ، تعلم أن نفسك مترددة وليس عندك علم واضح .
فالواجب عدم التجرؤ على الفتوى ، وإجابة السؤال بغير علم سواء كان الإنسان إمام مسجد أو كان خطيباً ، مثل ما يحصل لإمام المسجد يأتي من يسأله ، أو بعد الخطبة ، أو يكون في قرية معروف أنه ديِّن وطالب علم ، وعنده كتب ، فيسألونه ، وقد لا يسأله من لا يعرفه أصلاً ، وهذا أعظم لأنه لو سألك من تعرفه وأخطأت ؛ تتصل به وتبين له ، لكن الذي لا تعرفه ربما بقيت معه الفتوى طول عمره ويعلِّم بها عياله ن وكثير من العبادات الباطلة إنما فشت في الناس بقول مرجوح ، وأحياناً بقول باطل ، وبعض البلاد كيف انتشرت البدع؟ بالأقوال الباطلة من العلماء الذين أفتوا بغير علم .
فالواجب الحذر الحذر الشديد من القول على الله بلا علم ، فطالب العلم يتعلم ، ويعلم ويدعو إلى كا تعلمه ، إذا سئل يجيب عما يعلمه بدليله ، أو يعلَم أحداً من أهل العلم قاله في هذه المسألة ، ينجو بإذن الله ، لكن إذا هو فكَّر واجتهد بحسب ما عنده من المعلومات وهو ما عرف الفقه ، ولم يصرْ راسخاً في فهم الدليل ؛ هذا ربما نشأ عنه ما جاء في هذا الحديث ( ..فضَلُّوا وأضلُّوا ) ، وقاني الله وإياكم من عثار اللسان والكلام .(16/176)
وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه ، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى ، علماؤهم شرٌّ من تحت أديم السماء ، من عندهم تخرُج الفتنة ، وفيهم تعود ) رواه البيهقي في شعب الإيمان
الشرح :
هذا الحديث الثاني الذي رواه البيهقي في ( شعب الإيمان ) ، دال على هذا الأصل ، وهو أن الناس سيأتيهم زمن يُقبَض فيهم العلم الذي هو العلم بالكتاب والسنة ، أو العلم بمعنى العمل الصالح ، فيأتون إلى المساجد وليس فيهم هدى ، وليس فيهم خشية ويفعلون أمورهم .
( هنا ...... سقط يسير في آخر الوجه الأول من الشريط السابع )
ثم قال الشيخ صالح : ( من الوجه الثاني / 7)
والثاني : أهل الأهواء ، كما قال سبحانه وتعالى : (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمد:14) ، أي : لا يستوي هذا وهذا ، من عنده بيِّنة من ربه ، ومن زُيِّن له سوء عمله واتبع هواه في أمره ، أو فيما يأمر به .
(باب التشديد في طلب العلم للمراء والجدال )
عن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ ) رواه الترمذي .
الشرح :(16/177)
هذا الحديث فيه التحذير الشديد من النية الفاسدة في طلب العلم ، والواجب على طالب العلم أن يُصلح النية ، لأن طلب العلم عبادة بل من أجلِّ العبادات الواجبة أو النفل ، وقبولها ونفع الله جل وعلا به شرطه الأول ، أن تكون النية صالحة يطلبه لله جل وعلا ، وهذا الحديث فيه ذكر أشياء مما يفسد النية في طلب العلم ، يطلب العلم للمراءاة أو للمجاراة ، يجاري به السفهاء ، أو يباهي به طلبة العلم والعلماء ، يعني : يكون عند خبر ، وعنده تأليف أو نحو ذلك ، هذه نية فاسدة .
والنية الفاسدة كثيرة الأشكال والصور ، أما النية الصالحة التي يتقبل الله جل وعلا بها هذا التعبُّد لطلب العلم ، أن ينوي بطلبه للعلم ؛ رفع الجهل عن نفسه ، الجهل بمراد الله جل وعلا ، فالنية الصالحة أن ينوي رفع الجهل عن نفسه .
سئل الإمام أحمد – رحمه الله – ما النية في طلب العلم ؟ قال : ( أن تنوي رفع الجهل عن نفسك ) ، ثم إذا كان هو سيظن أنه سيُعلِّم غيره ، ويأمل أنه يتعلَّم ليكون مرشداً ، ليُعلِّم الناس أصول الدين ، ويعلم الناس مبانيه العظام ، أو يُرشد أو يُعلِّم أو نحو ذلك ؛ فإنه تكون نية أخرى مع ذلك : أن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره أيضاً ، هذه نية صالحة ، لأن بعض الناس ينوي رفع الجهل عن نفسه ، ويأتي يتصدَّر ، لكن ما ينوي رفع الجهل عن الناس ، لكن ينوي – والعياذ بالله – أن يتوجَّه الناس إليه ، وأن يحضروا درسه ، وأن يكون مشهوراً ، أو أنه إذا اشتهر ؛ صار الناس يُعطونه ، أو يُقبلُون عليه ، أو نحو ذلك من النيات الفاسدة ، هذا مبطل لأجره – والعياذ بالله – يتعرض به لسخط الله جل وعلا .
إذا كانت النية للدنيا ؛ فعمله مردود يكسب بها دنيا ، وقد تكون وبالاً عليه ، وقد تكون مما يباح .(16/178)
مثل : الآن الطلب في الكليات الشرعية ، يطلب فيها العلم الشرعي ، يطلب به الشهادة والوظيفة ، ليس له همٌ في أن يعرِف مراد الله جل وعلا منه ، ليس له همٌ أن يعلم معاني الكتاب والسنة ، وأن يرفع الجهل عن نفسه بما بَعث الله نبيه – عليه الصلاة والسلام - ، ليس له همٌ في معرفة العقيدة الصحيحة ؛ فهذ نيته فاسدة ، وعمله مردود وغير متقبل منه بل يأثم عليه إذا كان طلبه للعم في الأشياء التي تجب عليه ثم هو ينوي بها الدنيا ، هذا - والعياذ بالله – مأزور غير مأجور ، وهذه من الأمور التي يحتاج فيها المرء أن يصحح قصده بين الحين والآخر ، أن تكون نيته صالحة ، ما ينوي أنه يتوجه الناس إليه ، ويظهر هذا في أشياء ، وهي أنه أحياناً تجد المرء تغلبه نفسه على التأليف ، وفي أن يكون باحثاً ، والأشياء الضرورية من الدين ما تعلَّمها ، وإذا تعلَّمها ما يستحضرها دائماً لينفع بها نفسه ، وينفع بها غيره ، إذاً يكون استكثاراً في كل شيء ، ليس مرغوباً فيه .
فالواجب الحرص على تصحيح النية ، والقلب هو مدار العمل على ما يكون من صحة النية ، وصحة المتابعة والإخلاص لله جل وعلا وعدم الرغبة في توجيه أنظار الناس إليه ، رضوا الناس أم لم يرضوا ، أثنوا عليه أم لم يُثنوا ، المقصود صلاح القلب فيما بينه وبين ربه ، وأن يكون طلبه للعلم لله ، يبارك الله جل وعلا له .(16/179)
الناس درجات منهم من يأخذ العلم كثيراً ، ومنهم من يأخذ العلم قليلاً ، والأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – أيضاً درجات ، (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض)(البقرة: من الآية253) ، فليس أيضاً ضرورياً أن يكون طلاب العلم كلهم في مرتبة واحدة ، لأن الله جل وعلا هو الذي قسَّم هذا الشيء ، فلان عالم حافظ في كل فن ، وفلان متوسط ، لكن لا يعني هذا أن تكون نيته فاسدة ، أما أنه ينقطع عن العلم يعطي ما عنده ، يعلِّم من يستفيد منه ، وسيجد من يفيد ، وعلماء السلف كانوا على ذلك ، فالصحابة ليسوا على مرتبة واحدة في العلم ، لكن كلٌ علَّم بما عنده ، وأئمة الإسلام وعلماء الدين – أيضاً – لم يكونوا على مرتبة واحدة ، لكن النية الصالحة في أنهم يطلبون العلم لله جل وعلا ، وينوون رفع الجهل عن أنفسهم وعن من يلونهم ، ويستعينون بالله ، ويجاهدون بحسب الإمكان ، ولا يقولون على الله بغير علم ، هذا الأصل ، أن تكون النية صالحة ، لا يطلبها للدنيا ، لا للمماراة ، ولا للمجاراة ، ولا للرياء ، ثم في نيته وعمله يعلِّم بحسب ما يَعْلَم ، لا يقْفُ ما ليس له به علم ، لا يتجرأ ، لأنه ليس بلازم أن تتكلم في كل شيء ، علِّمْ بما تعلم ، إذا احتيج إليك ، مدرس في الكلية أو الثانوية أو الابتدائي ، تأتيك أسئلة لا تعلمها ؛ قل : لا أعلم ، أو تبحث وتأتي بما يفيد ، أما الكلام بعلم وبغير علم ليس من سيما من أصلح الله نيته .
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه .
الشرح :(16/180)
هذا حديث عظيم – أيضاً – يحتاجه طلاب العلم كثيراً ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : (مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ) ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) ، والعلم النافع يورث صاحبه السكينة والطمأنينة ، والجدل مذموم ، بخلاف المجادلة ، فالمجادلة غير الجدل .
فالجدل في الشريعة مذموم ، وهو : المناقشة والمحاورة والكلام فيما لا ينفع في الشريعة ، أو المقصود به : التعالي.
وأصله مأخوذ من لف الحبل ، جدل الحبل والشَّعر ونحو ذلك ، إذا أُدخل بعضه في بعض ،يقال : هذه جديلة ، يعني : مجدولة ، يعني : إدخال بعضها في بعض ويسمى الحبل – أيضا: جديل ، لأنه مدخل بعضه في بعض ومحكم ،كذلك : الكلام إذا تداخل ؛ هذا يورد كذا وهذا يورد كذا ، يسمى مجادلة ، ويسمى جدل ، فإن كان المقصود منه الحق وليس الترفُّع والمقصود منه إدراك الصواب ؛ سُمِّيت المناقشات : مجادلة ، ولهذا أوصى الله جل وعلا في القرآن بالمجادلة بالتي هي أحسن ، أي المحمودة ، قال الله جل وعلا : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: من الآية125) ، وقال جل وعلا أيضاً : (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(العنكبوت: من الآية46) ، فأصل المجادلة مأذون بها بآدابها وشروطها .(16/181)
أما الجدل ، فهو يشتبه مع المجادلة في المعنى ، لكن في الشريعة جاء ذمُّه في قوله تعالى : ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً)(الزخرف: من الآية58) ن يعني : ما يطلبون الحق ، ولا يريدون زوال الشبهة ؛ وإنما الغرض – فقط – الكلام دون رغبة في الحق ، ولا صيرورة إليه إذا اتضح ، ولهذا قال جل وعلا – بعدها - : ( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)(الزخرف: من الآية58) .
فقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) ، يعني : أن الجدل صفة الضالين ، لأنهم يتحاوروا ويتجادلوا في أمر لا ينفع ، أو في أمر مضرته عليهم ظاهرة ، أو في أمر لم يؤذن لهم فيه ، مثل مسائل القدَر ، ومسائل الصفات فيما لم يؤذن لهم فيه ، ومثل مسائل الأفلاك ، ونحو ذلك ، وأشباهها .
فإذاً المباحث العلمية تكون لغرض معرفة الصواب والحق ، أما الكلام الذي ليس لمعرفة الحق إنما هو لمناظرات باطلة ، أو الترفع ، أو لإظهار ما عند المر من قُدُرات ؛ هذه كلُّها مذمومة ، وهذا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه هذا صار في هذه الأمة ، وإنما نشأت الفرق الضالة من الجدل ن تجادلوا في مسائل الدليل فيها واضح ، ولو وقفوا على الدليل ؛ لكان خيراً لهم وأحسن تأويلاً .
وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة يوماً – وهم يتنازعون في القَدَر – فكأنما فقيء في وجهه حبُّ الرُّمَّان .
ومرَّةً خرج عليهم وهم يتنازعون في القرآن ، كلٌ يورد آية على مراده – وهذا ضَرْبٌ للقرآن بعضه ببعض ، لأن القرآن مؤتلف غير مختلف ، فالمحكم فيه واضح ، والمتشابه يُرَدُّ إلى المحكم ن والمسائل التي يكون فيها سبب للخلاف والاختلاف هذه قليلة – فغضب عليه الصلاة والسلام .(16/182)
فالمقصود : أن الجدل مذموم ، والمرء يتباحث مع إخوانه فيما ينفع ، أما إذا رأى أن المسألة توجهت للانتصار للنفس ، وهذه تراها معك في جلساتك اليومية ، تتباحث مع واحد ، تلحظ أنه اتجه النقاش لا إلى المسألة ، لكن إلى بيان أن قوله صواب ، وهذا يدافع عن قوله ، وأنا أرى كذا ، وهكذا .
فالمرء لا يعين الشيطان على نفسه ولا على أخيه ، لأنه ربما يقول على الله بلا علم فيأثم ، فيسكت ، ولو علِم أنه هو المصيب ، لأن السكوت فيه إعانة له ولأخيه على الخير .
إذا كانت مجادلة في بحث علمي المراد منه الإيراد والفهم بدون انتصار للنفس ، أو تأويل للقول ، فأحياناً الإنسان وهو يتكلم يخطئ فيحضر أشياء شرعية من أجل تبرير خطئه ، وهو يعرف في داخل نفسه أنه مخطئ ، نسب شيئاً خطئاً ، أو قال شيئاً خطئاً ، وهذا عرضة لكل واحد أنه يقع فيها ، وهو نوع من الجدل المذموم ن ولهذا يحذر من أن المرء يتكبَّر عن الحق ، فإن هذا من مواريث الجدل ، ويسبب الضلال – والعياذ بالله – وأعاننا على أنفسنا .
ولهذا ما أحسن كلمة الإمام مالك حينما قيل له : الرجل تكون عنده السنة أيجادل عليها ؟ قال : ( لا ، يُخبر بالسنة ، فإن قُبلت منه ، وإلا سكت ) ، لأن السنة لها نور ، وتقع في قلب المخاطب ، فلا تظن أنك تضعف بل تقع في قلب خصمك ، لأن حجتك قوية ، فإذا كانت الحجة قوية ولو لم يستسلم لك ، لكن هي تقع في قلبه أنك كانت حجتك قوية ، وتنفع ولو بعد حين .
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ ) . متفق عليه .
الشرح :(16/183)
هذا أيضاً من الآداب العظيمة التي أدبنا بها النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم تحذير وهو أن الرجل ( الألد الخصم ) يعني : التي خصومته شديدة ، سواء في العلم أم في غيره ، وإذا أراد أحداً فإنه يلادُّه بالكلام حتى يسقطه ، وشديد الخصومة في ألفاظه وأقواله ونحو ذلك ، فهذا مبغض عند الله جل وعلا ، الذي لا يتكلم إلا بهذه الأمور ، ألد خصِم الناس ، له خصوم ، كل من خالفه صار خصماً له ، هذا – والعياذ بالله – من صفات المذمومين ، ولا تكون عند أحد ممن له نية صحيحة في العلم وطلبه ، فهذا الحديث يحذِّر كل طالب علم من أن يكون كثير الخصومة ، عنده لدد في أقواله وخصومته ومعاداته للناس إذا اختلفوا معه ، بل المرء فيما يختلف فيه الناس يكون على سعة في الصدر وسعة في البال ، ولا يجعل من كل اختلاف سبباً للخصومة ، ولا من كل خلاف سبباً للعداوة ، واللدد : التطاول .
فيجب تبيين الحق ، والرد على أهل الباطل ، لكن ما يكون فيه الخصومة التي فيها انتصار للنفس ، يعني : الجدل المذموم ، لكن المجادلة بالتي هي أحسن ، هذه مطلوبة ، بيان الحق بدليله ، والرد على الأقوال المخالفة والشبه بالأدلة الشرعية الواضحة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة ، هذا متعيِّن ، من الجهاد ، أما صياغة الردود ليظهر قوة المرء لإنقاص الآخرين ؛ هذه مقاصد فاسدة .
وعَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ – رضي الله عنه - قَالَ : ( مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِأَرْبَعٍ دَخَلَ النَّارَ - أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ - لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَوْ لِيَأْخُذَ بِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ ) . رواه الدارمي .(16/184)
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال لقوم سمعهم يتمارون في الدين : (( أما علمتم أن لله عباداً أسكتتهم خشية الله من غير صمم ولا بكم ، وإنهم لهم العلماء والفصحاء والطلقاء والنبلاء . العلماء بأيام الله ، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله طاشت عقولهم وانكسرت قلوبهم ، وانقطعت ألسنتهم ، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعُدُّون أنفسهم من المفَرِّطين ، وإنهم لأكياس أقوياء ومع الضالين والخطَّائين وإنهم لأبرار برءاء ، ألا إنهم لا يستكثرون له الكثير ، ولا يرضون له بالقليل ، ولا يُدِلُّون عليه بأعمالهم حيث ما لقيتَهم مهتمون مشفقون ، وَجِلون خائفون )) رواه أبو نعيم ، قال الحسن – وسمع قوماً يتجادلون : (( هؤلاء قوم مَلُّوا العبادة ، وخفَّ عليهم القول ، وقلَّ ورعُهم فتكلموا )) .
الشرح :(16/185)
الحمد لله وبعد : هذه الأحاديث في آخر كتاب أصول الإيمان يبين فيها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى – ما ينبغي لطالب العلم أن يتحلى به من الأخلاق والآداب الواجبة والمستحبة ، فذكر من الآثار شيئاً كثيراً ، ومنها قول عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - : (مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِأَرْبَعٍ دَخَلَ النَّارَ - أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ - لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَوْ لِيَأْخُذَ بِهِ مِنْ الْأُمَرَاءِ ) وهذه المقاصد كلها خلاف النية الصحيحة والقصد الصحيح في طلب العلم ، فمن طلب العلم للدنيا كان داخلاً في قول الله جل وعلا : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (هود:15) (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:16) ، فالذي يعمل العمل الصالح لغير الله ، أو يريد به الدنيا - وهو مما يراد به وجه الله جل وعلا – فهذا متوعد بالنار ، لهذا قال هنا – من فهمه للآية وعلمه بالقرآن – قال : ( من طلب لأربع دخل النار ) ، لا يقال هذا من قبيل المرفوع لأنه مما لا يقال بالاجتهاد ، لأن هذا يقال بالاجتهاد ، وهو أنه أخذه من فهمه للآية ، لأن طلب العلم لمباهاة العلماء ، أي ليكون بهياً بين العلماء ، وليذكر بين العلماء ، لأن هذا طلب لغير الله ، وكذلك نشر العلم لأجل لأن يُنظر إليه ، أو لأجل أن تنصرف وجوه إليه ؛ هذه نية فاسدة ، إنما النية الصالحة في طلب العلم : أن يكون لله رغبة فيما عنده ، وأن يرفع الجهل بذلك عن نفسه بطلبه للعلم .(16/186)
فهذه المقاصد من مقاصد الدنيا ؛ إذا كان قصده مباهاة العلماء ، وأن يُذكر بينهم ، وأنه إذا جلس بينهم إذا عنده مسائل ، وإذا هو يفهم في العلم ؛ هذا قصد سيء ، وليس قصد الخائفين من الله المتقربين إليه بطلبهم للعلم .
كذلك : ( أو ليماري به السفهاء ) يعني : ليرد به على كل سفيه تكلم ، أو يكون ذا جدال في المسائل مع كل سفيه ممن يُحسن ولا يحسن ، ممن يتكلمون بغير علم ، ويتجرأون على الحق ، هؤلاء هم السفهاء ، فمماراة السفهاء خلاف السنة ، إذا كان يقصد أنه إذا جاءه أحد فإنه يظهر نفسه فيماري هذا وهذا ؛ هذا خلاف النية الصحيحة والقصد الصحيح ، لأنه يطلب العلم لله جل وعلا ، إذا احتاج بعد ذلك إلى رد منكر ، أو إلى رد قول من الأقوال الباطلة ؛ فهذا واجب عليه أو مستحب بحسب الحال ، لكن يطلبه ليحصل له ذلك ، يطلبه ليتحدَّث في الجرايد ، أو ليكون ذا كتابات ، أو ليظهر في الشاشات ، أو نحو ذلك ، أو يكون عنده خبر ، أو قد يكون طلبه للعلم لمنشئه ، وقد يطلبه لتنصرف وجوه الناس إليه والزيادة وهو غير مريد لوجه الله ، أو ليصير ذا ثقافة ، وهو في داخله غير متعبد لله بذلك ، نسأل الله العافية والسلامة .
أو ليترزق به ، يعني يدخل على الأمراء ، ويقال هذا عنده علم ، وكذا ، فيعطى لأجل ذلك ، وهذا نيته فاسدة وهذه كلها مقاصد فاسدة .(16/187)
ومن أحسن ما يذكر في هذا من مقاصد العلماء المحمودة ، ما ذكره أحد تلامذة الحافظ ابن رجب حيث قال: كنا مرة في مجلس شيخنا بعد صلاة الصبح ، وذكر مسألة من المسائل الفقهية من غرائب المسائل وفصَّل فيها القول ، وذكر أقوال العلماء والفقهاء والتخريج ..الخ ، مما تعجَّبْنا منه ومن حافظته وحسن استخراجه ، ثم دُعينا ذلك اليوم مع شيخنا في مجلس فيه عدد من القضاة ومن أكابر العلماء ، قال : فذُكرت المسألة ، فلم يُحسنوا الكلام عليها ، وكان شيخنا ساكتاً وودنا لو أنه تكلم حتى يظهر فضله ، ثم لما انصرفنا ذكرنا له سكوته ، فقال : ( هذا مجلس يراد للدنيا ، ومجلسي معكم يراد للآخرة ) ، وهذا ظاهر في كثير من المباحث التي تجري وليس المقصود منها الفائدة في المجالس العامة ، وفي مخالطة الناس لا يكون القصد الفائدة ، المقصد المراء ، هذا يُظهِر علمه وهذا يُظهر علمه ، وليس المقصود تحقيق المسألة وإفادة الحاضرين وأشباه ذلك مما يوجب السكوت .
**** حديث ابن عباس أنه قال : لقوم سمعهم يتمارون في الدين : (( أما علمتم أن لله عباداً أسكتتهم خشية الله من غير صمم ولا بكم ، وإنهم لهم العلماء والفصحاء والطلقاء والنبلاء . العلماء بأيام الله ، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله طاشت عقولهم وانكسرت قلوبهم ، وانقطعت ألسنتهم ، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعُدُّون أنفسهم من المفَرِّطين ، وإنهم لأكياس أقوياء ومع الضالين والخطَّائين وإنهم لأبرار برءاء ، ألا إنهم لا يستكثرون له الكثير ، ولا يرضون له بالقليل ، ولا يُدِلُّون عليه بأعمالهم حيث ما لقيتَهم مهتمون مشفقون ، وَجِلون خائفون )) .(16/188)
وظاهر السياق وطول الرواية يدل على ضعفه ، يعني : وعدم صحته عن ابن عباس – رضي الله عنهما – لكنه متضمن لمعانٍ صحيحة ، وهي : أن طالب العلم والعالم أعظم ما يزينه خشية الله جل وعلا ، والخوف منه فيما بينه وبين ربه ، لأن هذا سبب من أسباب حب الله جل وعلا وأيضاً سبب من أسباب ثبات العلم في صدره وانتفاعه بالعلم ، لأن هؤلاء إذا تذكروا عظمة الله جل وعلا صار لهم في قلوبهم انكسار وإسراع لمرضاة الله جل جلاله ، وهذا يظهر في مسائل منها : النطق بالحق في وقت يحتاج فيه إلى النطق بالحق في المسائل العظام التي تُحتاج في الدين ، ويقوم فيها العلماء مقام الأنبياء في التذكير بحق الله جل وعلا ، وبتوحيده وردِّ الإشراك به وأشباه ذلك من الدعوة إلى السنة وترك البدعة وتحليل الحلال وتحريم الحرام ، فإنه من تذكَّر عظمة الله جل وعلا وقرَّت في صدره من العلماء وهان عليه الخلق ولم يأبه بهم ، هذا صنيع الأئمة في الدين وذوي المقامات العالية الذين شغلت قلوبُهم عظمة الله جل وعلا فلم ينظروا إلى رضى الراضي وإلى سخط الساخط ، بخلاف من ينظرون إلى أهل الدنيا فيتزلفون لهم بالأقوال التي يعلمون أنها مخالفة للشرع أو يعلمون أنها مخالفة لما يجب أن يقولوه لهم ، لكن تزلَّفوا إليهم بهذه الأقوال ، وهذا كثر جداً وحصل من الوقائع المعروفة في الماضي وفي الحاضر ، نسأل الله العافية والسلامة .
فإذاً الواجب على طالب العلم أن يكون همه إصلاح قلبه وإصلاح ما بينه وبين ربه وخوق الرب جل جلاله لأن هذا مدعاة لانتفاعه بعلمه وثباته عليه ، والله جل وعلا يقول : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً)(النساء: من الآية66) .
أما الأثر الثالث : قال : قال الحسن - وسمع قوماً يتجادلون - : (( هؤلاء قوم مَلُّوا العبادة ، وخفَّ عليهم القول ، وقلَّ ورعُهم فتكلموا )) .(16/189)
المجادلة لا تُحمد إلا إذا كانت لبيان الحق ، أما المجادلة للمغالبة ولإظهار العلم فهذا قصد سيئ ، وبعدها يكون قسوة في القلب ولا بد ، وتحدث المراء والشحناء في النفوس ولهذا ينبغي على طالب العلم أن لا يشتغل بالمجادلة التي ليس المقصود منها الوصول إلى الحق ، فإذا تناقشت مع أحد – حتى لو كان من طلبة العلم ، أو من إخوانك أو من زملائك – فلا تفتح سبيلاً للشيطان ، النقاش لبيان حكم المسألة وبيان الحق فيها ، فإذا تحول النقاش إلى مجادلة ؛ فخيرهما الذي يصمت ، لأنها ما صارت لبيان الحق ، أما إذا كانت لبيان الحق والوصول إليه ، ويتباحثون في وجه الاستدلال بالدليل وإيراد الأدلة ونحو ذلك ، أما هذا ينتصر لرأيه وهذا ينتصر لرأيه بقصد المغالبة فخيرهما الذي يسكت ، ولهذا قال الحسن هنا في القوم الذين يتجادلون : ( هؤلاء قوم ملُّوا العبادة وخفَّ عليهم القول وقلَّ ورعهم فتكلموا ) .
( ملُّوا العبادة ) أي : العبادة بنشر العلم والعبادات المعروفة ، ( فأكثروا الكلام ) ، لأنهم ملُّوا الخير ، الكلام الذي نشأ في عهد الحسن ، إما من النقاشات في العقيدة ، أو مما هو ليس مقصوداً به الحق ، وإنما المغالبة .
هذه آداب مهمة لطالب العلم ، إذا تركها أصيبت مقاتله ولا بد .
( باب التَجَوُّز في القول وترك التكلف والتنطع )
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ )) . رواه الترمذي .
الشرح :
هذا الباب هو آخر أبواب هذا الكتاب ، في بيان الصفات المحمودة في القول أو في تبليغ أصول الدين ، وفي تبليغ العلم ، وما ينفع الناس ، فذكر فيها أحاديث وآثاراً منها :(16/190)
حديث أبي أمامة ، والشاهد منه : أن العي شعبة من الإيمان ، والعي هو الضعف أو عدم التمكن من الإفصاح عن كل ما يريد ، وهذا محمود من الإيمان باعتبار أن خوفه من الغلط وخوفه أن يقول على الله بلا علم ؛ جعله يكون كأنه ذو عي ، ينقطع في كلامه ولا يتواصل كلامه لأجل تحرزه وتحرسه من أن ينطق بشيء يغلط فيه على الشريعة ، أو أن يقول على الله بلا علم .
فالعي مذموم عند بلغاء العرب وعند خطباء العرب وقد قال شاعرهم :
أعذني ربي من حصر وعي ومن نفس أعالجها علاجا
الحصر والعي متقاربة ، لكن هنا – في هذا الحديث – مدحها لأنه في الظاهر عي ولا يسترسل في الكلام كأن معلوماته ليست جيدة ، أو كأنه ليس وقَّاد الذهن ولا سيَّال اللسان ، لكن في الواقع إنما حجزه عن ذلك الخوف أن يقول على الله بلا علم ، لهذا صار العي إيماناً بهذا الاعتبار .
وعن أبي ثعلبة – رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مساوئكم أخلاقاً الثَّرْثَارُونَ َالْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ )) . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
وللترمذي نحوه عن جابر – رضي الله عنه - .
الشرح :
الشاهد منه : أن ممن يبغضه رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الكلام الثرثار ، المتشدِّق : الذي يخرج كلامه من شدقه تفاصحاً وتعالماً باللغة ومخارج الحروف .(16/191)
والمتفيهق : الذي إذا تكلم فكأنه متمكن من كل شيء ، يفتح فاه ويبالغ في إخراج الصوت ، وهؤلاء مذمومون ، لأن هذه صفات ليست بصفات محمودة لمن تواضع لله جل وعلا ، فأنبياء الله جل جلاله كانوا محمودين ، وكان منهم الخطيب ، ومنهم من يعثر في كلامه كموسى عليه السلام ، ومع ذلك لم يمنع ذلك من التبليغ ، لأن المقصود ما اشتمل عليه الكلام من الحق ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان كلامه كلام المتواضع ، يقول الكلام - مثل ما جاء في الحديث الذي سيأتي – حتى لو أن العادّ أراد أن يعدَّه عدَّه ، يكرر الكلام حتى يفهم ويختصر الكلام ، وجُمع له الكلام واختصر له اختصاراً ، لأجل أن كثرة الكلام والثرثرة وتفصيل ذلك ليس بالمحمود ، وهذا كما يدخل في العلم ؛ يدخل في المواعظ ، فالعلم الذي لا ينفع الناس ، كثرة الكلام الذي لا ينفع الناس بل تُظهر فضل المتكلم فقط ؛ هذه مذمومة ، لأنها ما دام أنها لا تنفع الناس ؛ فالأفضل ألا تقال .
قال : ( رواه البيهقي في شعب الإيمان ) ، ومعروف أن هذا الحديث له أصل في الصحيح بدون هذه الزيادة .
وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ – رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ قَوْمٌ يَأْكُلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَمَا يَأْكُلُ الْبَقَرُ بِأَلْسِنَتِهَا )) . رواه أحمد وأبو داود والترمذي .
الشرح :(16/192)
هذا فيه ذم هؤلاء ، وصفتهم في أنهم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها ، يعني : أنهم إذا تكلموا طلبوا الأجر على كلامهم فيما يقولون ، لا يحركون اللسان إلا بثمن ، والأصل في الدين والعلم وفي تبليغ الدعوة أنها تكون لله بلا أجر ، كما قال جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام : (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (صّ:86) ، فالذين يأكلون بألسنتهم ، كل ما تكلموا لا بد من أجر ، لا يبلغون دعوة إلا بأجر ، ولا يبلغون علماً إلا بثمن ، ولا يقولون آية إلا بثمن ، إن أُعطوا رضوا ، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون ، هؤلاء مذمومون لأجل نيتهم وعدم رعايتهم للحق في وجوب التعبد بذلك إذا كان عندهم علم ، وذُمُّوا في هذا الحديث وشُبِّهوا بالبقر التي تلوك يألسنتها وتأكل بألسنتها .
أما قوله : ( لا تقوم الساعة ) ، هذا يفيد الذم ، لكن لفظ ( لا تقوم الساعة ) نبهناكم عليه فيما مضى ، أنه في الأحاديث لا تقتضي مدحاً ولا ذماً ، فقد يكون ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يحصل كذا ، قد يكون مباحاً ، وقد يكون مكروهاً ن وقد يكون محرماً ، فلفظ ( لا تقوم الساعة ) ليس من الألفاظ التي يستفاد منها الحكم التكليفي بل قد يكون هذا ، وقد يكون هذا ، بحسب الفعل في نفسه .
مثلاً : ( لا تقوم الساعة حتى تلد الأمة ربتها ) ، هذا ليس فيه ذم لهذا الفعل ولا مدح له ، ولا يستفاد منه الكراهة ... الخ ، بل بحسب الحال .
( لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد ) ، ما نستفيد من قوله ( لا تقوم الساعة ) إباحة التباهي أو كراهة التباهي ، أو حرمة التباهي ، وإنما نستفيده بدليل خارج ، نستفيد حكم المباهاة والتباهي بدليل خارج ، التباهي بالمساجد مكروه أو محرم بحسب الحال ، وهكذا في أمثلة كثيرة ، قد يكون كفراً ، ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة )، هذا كفر وشرك .(16/193)
فإذاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث ( لا تقوم الساعة ) ، لا يستفاد منه المدح ولا الذم ، ولا يستفاد منه الإباحة أو الكراهة أو التحريم أو نحو ذلك ، أو الوجوب ، يعني : أي حكم تكليفي ، وإنما هذا وص كاشف لشرط من أشراط الساعة الصغرى .
وفي المعنى الأحاديث التالية وهي قوله :
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما – مرفوعاً : (( إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ بلسانها )) . رواه الترمذي وأبو داود .
وكذلك قوله : وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - أنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : (( مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلَامِ لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوْ النَّاسِ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا)) . رواه أبو داود .
يعني : الذي يتعلم حسن الكلام والمنطق والخطابة ، وكيف يحاضر ، وكيف يلقي العلم ، ولا يقصد نشر الحق ولا تعبيد الناس لرب العالمين ، وإنما مقصوده أن يلتفت الناس إليه ويُعجبوا به ، ويكون له شأن ، ويكسب المال ، هذا – أعوذ بالله – مقصد من أسوأ المقاصد ، ولهذا قال – هنا – في عقوبته : ( لم يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفاً ولا عَدلاً ) ، لأجل بشاعة جرمه في أنه ما نشر الحق إلا لأجل أن يسبي به قلوب الرجال ، يُثنى عليه ، ما هذا الخطيب ! المحاضر ، والشيخ ، والمدرس ، وهذا راعي المنطق ، ويتعلم الأمثلة والأدلة ويتحفظها ، ويتحفظ أيضاً القصص والحكايات ، وليس قصده من ذلك التأثير على قلوب الناس ، ونفع الناس وتعبيدهم لله ؛ إنما القصد أن يلتفت الناس إليه ، هذا من المذمومين – والعياذ بالله - .(16/194)
وعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها قَالَتْ : ( كَانَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامًا فَصْلًا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ سَمِعَهُ ، وقالت : كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لَأَحْصَاهُ . وقالت : إنه لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ ) . روى أبو داود بعضه .
الشرح :
سرد الحديث مدعاة للإكثار ، والتأني سبب للإقلال ، ولهذا كان التأني محموداً ، وكان السرد مكروهاً ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يتأنى ، ونتيجة تأنيه – عليه الصلاة والسلام – أن كلامه كان معدوداً يُفهم يحصيه العاد ويستوعبه ويحفظه .
والثاني : أن كثرة الكلام تجعل بعض الكلام يُنسي بعضه بعضاً ، ويذهب هذا بذاك ، لهذا كانت عائشة – رضي الله عنها – تقول لعبيد بن عمير : ( يا عبيد بن عمير ! إذا وعظت فأوجز ، فإن كثير الكلام يُنسي بعضه بعضاً ) ، يعني : فإن الكلام الكثير يُنسي بعضه بعضاً ، وهذا نشاهده في الخطب ، خطب الجمعة إذا طالت ؛ تجد أنك مسكت الموضوع ، لكن بعد ذلك ، إذا طالت الخطبة دخل بعضها في بعض ، حتى لو أردت أن تنقلها لم تحسن نقلها ، إيش تكلم عنه الخطيب ، تريد أن تنقل شيئاً بأدلته ، بوضوحه ، ما تستطيع أن تنقل خطبة الجمعة ، وهي من مقاصد خطبة الجمعة عظة الناس ، المرء ينقلها إلى أهل بيته ، ينقلها إلى من يستفيد .(16/195)
فإذا كثُر الكلام أنسى بعضه بعضاً ، لهذا عليه الصلاة والسلام كان كلامه قليلاً ليُحفظ ، ولأنه أوتي جوامع الكلم ، ويحصل هذا بالتعود ، الذي يتعود على قلة الكلام ؛ يحصل له ذلك ، ويكون أنفع له ، لأنه يتعلم الكلمات المؤثرة ، حتى يؤثر في عقله وفهمه ، يعني بعد ذلك ، إذ قرأ العلم يذهب على المفيد ، ما يهتم بالتفاصيل التي لا تنفعه ، ومن العلماء الذين أدركنا وكانت فيهم هذه الصفة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله - ، كان كلامه قليلاً يُحفظ ويسير ، وكذلك الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله - ، كان أيضاً كلامه قليلاً يُحفظ ، هذه من الصفات الطبيعية التي تكون في الإنسان ، وربما كانت بالدُّربة ، لهذا دلَّ قول عائشة : ( لم يكن يسرد الحديث كسردكم ) ، أن سرد الحديث من الطبائع التي يتجاوز الله جل وعلا عنها ، لأنها من طبيعة الإنسان ، طبيعته أنه يسرع في الكلام ، طبيعته أن كلامه فيه سرعة ، فيه سرد ، وآخر طبيعته التأني ، لكن من طبيعته التأني محمدو وممدوح ، لشبهه برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لاقتدائه برسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا رأيتم العبد يعطى زهداً في الدنيا وقلة منطق فاقتربوا منه فإنه يلقَّى الحكمة )) . رواه البيهقي في شعب الإيمان .
وعن بُرَيْدَةَ – رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حُكْمًا وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا )) .
الشرح :
الشاهد منه قوله : ( إن من البيان سحراً ...... وإن من القول عيالاً ) .(16/196)
( إن من البيان سحراً ) يعني : أن تقليل الكلام بجوامعه وبيانه المفيد يسحر القلوب ، ويفعل فيها فعل السحر ، وهذا فيه – على الصحيح – فيه مدح للبيان الذي معه تقليل الكلام .
ومن أهل العلم من حمل قوله – عليه الصلاة والسلام - : ( وإن من البيان لسحراً ) على الذم ، وهذا متجه إذا كان البيان يقلب الحق ، ولحسن بيانه يظن الظان أنه مصيب ، وهو في الواقع مخالف للحق ، فهذا يكون مذموماً ، أما قوله : ( إن من البيان لسحراً ) ، فيما يكون البيان مؤثراً في النفوس مع قلة في الكلام وبلاغة وإيجاز ، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الكلام يسبي القلوب .
السحر يُفعل ، والإنسان بالسحر يسبى قلبه ، فيحب من لم يكن يحبه ، ويتعلق بمن لم يكن يتعلق به لأجل تأثير السحر على قلبه بغير إرادته ، وكذلك البيان والكلام فإنه يؤثر في النفوس بحيث يتعلق قلب الناس بهذا لأجل كلامه وبيانه ، ففعله في النفوس فِعْل السحر في القلوب ، وهذا إذا كان لنصرة الحق وبيانه والتحبيب فيه والتعبد لله جل وعلا ؛ فهو محمود ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان بيانه معلقاً للقلوب به – عليه الصلاة والسلام .
ثم ذمَّ القول الذي ليس فيه فائدة فقال : ( وإن من القول عيالاً ) ، يعني : أن من القول ما لا يستفاد منه ، وما لا فائدة فيه .
والحديث الأخير :
وعن عَمْرَو ابْنَ الْعَاصِ – رضي الله عنه – أنه قَالَ يَوْمًا وَقَامَ رَجُلٌ فَأَكْثَرَ الْقَوْلَ فَقَالَ عَمْرٌو : ( لَوْ قَصَدَ فِي قَوْلِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( لَقَدْ رَأَيْتُ أَوْ أُمِرْتُ أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي الْقَوْلِ فَإِنَّ الْجَوَازَ هُوَ خَيْرٌ)) . رواهما أبو داود .
آخره والحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً .
الشرح :(16/197)
( لو قصد في قوله ) ، القصد في القول يعني : أن يصل إلى المقصود بأقصر عبارة ، يكون مقتصداً في القول ، يعني مقللاً للكلام واصلاً إلى مقصوده بأقصر عبارة .
( لكان خيراً له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لقد رأيت أو أمرت أن أتجوز في القول ) يعني: أن يقلل الكلام لأن تقليل الكلام – كما ذكرت – لك مدعاة لحفظه ومدعاة للتواضع ومدعاة لخير كثير ، لهذا قال : ( فإن الجواز هو خير ) .
وهذا ختام كتاب أصول الإيمان ، أسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم به وأن يجزي عنا وعن المسلمين خير الجزاء الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالى - ، فإن كتبه ومؤلفاته كانت امتثالاً لهذه الوصايا الأخيرة ، كانت قليلة الكلام فيها فوائد قليلة ، لم يكن يحب أن يكثر التآليف التي لاينتفع منها إلا القلة ، والتآليف موجودة ، والكتب الكبيرة موجودة ، فاشتغل – رحمه الله –بالتصنيف الذي ينفع الناس وينشر الدعوة ، ويثبت الخير ، مقتدياً بهذه الخلال الكريمة ، والخصال الجميلة التي أمر بها المؤمنون ، رحمه الله رحمة واسعة ، ثم نصلي ونسلم على خيرة خلق الله الرحمة المهداة ، محمد بن عبد الله – عليه الصلاة والسلام ، فهو الذي هدى الله جل وعلا به العباد إلى الخير العظيم ، فأنقذهم الله به من الغُمَّة والضلالة والكفر والردى إلى النور والإيمان وسعة الصدور وانشراح القلب ، فله – عليه الصلاة والسلام – أعظم الفضل وأعظم المنة على من اتبعه ، اللهم صل وسلم عليه وآته الوسيلة والفضيلة ، وابعثه اللهم مقاماً محموداً الذي وعدته ، اللهم صل وسلم على محمد كلما صلى عليه المصلون ، وكلما غفل عن الصلاة عليه الغافلون ، وآخر دعوان أن الحمد لله رب العالمين .
تم بحمد الله(16/198)
شرح كشف الشبهات
في التوحيد
سؤال: ما رأيك يا شيخ في من ينكر أهمية هذا المتن [كشف الشبهات] ويقول إن كان له أهمية تذكر فهي للدعاة في الخارج ونحن تكفينا قراءته؟
الجواب: هذا كلام الشيخ فيه (ومعرفة أن قول الجاهل: التوحيدَ فهمناه. أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان) فليحذر على نفسه .[صالح آل الشيخ]
[16 شريطا مفرغا]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فبين يدي شرح هذا الكتاب العظيم وهو كتاب كشف الشبهات نقدم مقدمة مهمة بين يدي هذا الموضوع ألا وهو الدعوة إلى التوحيد وكشف الشبه فيه.(17/1)
من المعلوم والمتقرر في كتاب الله وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنّ الله جل وعلا بعث المرسلين جميعا وأرسل الأنبياء لعبادة الله وحده لا شريك له، وخلق السموات والأرض وخلق الأفلاك وخلق كل شيء ولم يأذن بعبادة أحد سواه، ?إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا?[مريم:93]، وقال جل وعلا ?وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ?[الإسراء:44]، فمن نظر إلى دلائل توحيد الله جل وعلا في الآفاق وفي الأنفس تيقّن أن هذا الملكوت له مدبر واحد، وله خالق واحد، وله متصرف واحد، وهو الله جل جلاله ولا بد من ذلك، وهذه الضرورية التي لا يحتاج معها المرء إلى برهان مفصل؛ لأنه يُحِسُّها في نفسه ويحسها في ما حوله لا بد أن تقوده إلى أن هذا الذي خلق وحده، وأن هذا الذي تصرف في الملكوت وحده أنه هو الذي يجب أن يذل له وأن يخضع له وأن يعبد وحده دون ما سواه، ولهذا كان من براهين توحيد الإلهية توحيد الربوبية، فدلائل توحيد الله جل وعلا في ربوبيته في الآفاق كلُّ دليل منها يصلح أن يكون دليلا على استحقاق الله جل وعلا العبادة وحده لا شريك له؛ لأنه جل وعلا هو الواحد في خلقه في رَزقه وفي ربوبيته، فكذلك يجب أن يوحد في إلهيته سبحانه وأن يعبد ويفرد بالعبادة، لهذا قال جل وعلا ?وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ?[الأعراف:172-173]، وقول المحققين من علمائنا في هذا الميثاق أنّه هو الفطرة هو دليل وحدانية الله جل وعلا في(17/2)
الأنفس وفي الآفاق، فكل مولود يولد على الفطرة، وهذه الفطرة هي توحيد الله جل وعلا، وهذا هو الميثاق الذي أُخذ عليهم، وهذا الميثاق ليس هو استخراج ذرية آدم من ظهره كما قاله طائفة؛ لأن هذا غلط في فهم الآية، وفيما نقل من تفاسير السلف أيضا بأن الله جل وعلا قال (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) فليست مسالة الميثاق الذي في هذه الآية والإشهاد عليهم هي الأخذ من هذا بل هي الأخذ من بني آدم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) والظهور ليست هي ظهر آدم بل ظهور ذرية آدم، (ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) وهذا الإشهاد هو بلسان الحال لا بلسان المقال كما هو قول المحققين من أهل العلم، وهذا الذي بهذه الآية غير ما ورد باستخراج ذرية آدم من ظهره كهيئة الذَّر كما جاء في بعض الأحاديث.
دلائل وحدانية الله جل وعلا قائمة في الآفاق وفي الأنفس، ودليل الربوبية قائم ظاهر بيّن، من نظر أدنى نظر وصل إليه، ولهذا لم يجعل الله جل وعلا النظر في توحيده في ربوبيته مطلوبا من أتباع الرسل، ولا أَمرت به الرسل بجعل دعوتهم في ذلك، وإنما أمر الله جل وعلا بتوحيده في عبادته، وبعث المرسلين جميعا لهذا الأمر العظيم.(17/3)
لهذا نقول إنّ دليل وحدانية الله جل وعلا في الربوبية هذا ليس من منهج أهل السنة والجماعة الذي تبعوا فيه طريقة الأنبياء والمرسلين أنهم يفيضون فيه ولا جعلوه غاية، كما جعله طائفة من المعاصرين غاية في ذلك، والمتكلمون طريقتهم في هذا الباب أنّ التوحيد المطلوب هو توحيد الربوبية، ولهذا يجعلون أو واجب على العباد النظر أو القصد إلى النظر أو الشك كما هي أقوال عندهم، فإثبات توحيد الربوبية وأنّ الله جل وعلا هو الواحد في ربوبيته هذا هو التوحيد عندهم، وهذا ليس بالأمر عندنا، وبهذا أتباع الأنبياء والمرسلين الذين قَفَوا أثر السلف الصالح تجد عندهم من براهين توحيد الإلهية ما فيه التفصيل والتفصيل والكلام والمكرر فيه الذي يعيدون فيه ويبدؤون ويكررون لأجل تثبيته وإقامة الحِجاج والحجة عليهم، أما غيرهم فإنهم يتوسعون في أبواب توحيد الربوبية، ومَن عبد الله جل وعلا وحده لا شريك له فتضمن ذلك أنه مقر بربوبيته وحده دون ما سواه، بخلاف من وحد الله في ربوبيته فإنه قد يعبد معه آلهة أخرى، كما فعل أهل الجاهلية فإنهم موحدون في أكثر أفراد الربوبية ولكنهم مع ذلك مشركون ما قادهم توحيد الربوبية إلى توحيد الإلهية، قال جل وعلا ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[لقمان:25]، وقال سبحانه ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ? إلى أن قال في آخر آية سورة يونس ?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31]، والآيات في ذلك كثيرة.(17/4)
المقصود من هذا أن الغاية بعد الأنبياء والمرسلين هو تحقيق توحيد العبادة وإقامة الحجة فيه وكشف الشبه عنه وإيضاح الدلائل فيه بتفصيل وإيضاح أفراده، ولا يخفى عليكم قول الربّ جل وعلا ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَن اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ?[النحل:36].
الدعوة إلى التوحيد هي ميراث الأنبياء والمرسلين؛ لكن هذه الدعوة من لم يعشها ولم يتوسع فيها لا يعرف كيف يدعو إلى التوحيد، بل قد يأتي من يظن أنه لا حاجة إلى ذلك، وعبودية الخلق لله جل وعلا التي هي غاية وجود الخلق إنما تكون بأن يُدْعَوا إلى الله جل وعلا بتوحيده وفهم ذلك والعلم به وتطبيقه، فإذا هديتَ الناس إلى أن يوحدوا الله في أقوالهم وأعمالهم وبما تعتقده قلوبهم انبعث ذلك الاعتقاد وذلك التوحيد عن عمل صالح وعن نفس مخبِتة منيبة لله جل وعلا، وهذه النفس هي التي تحوز فضل تكفير الذنوب «يا ابن آدم لو بلغتْ ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة»، «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة، يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي» هذا لأهل التوحيد، والنفس المشركة أو المترددة أو التي في ريب في أمر التوحيد لا تحصل على فضائل الإسلام ولا على فضل الإسلام على أهله ولا على فضل التوحيد على أهله، ولهذا نعجب أنه مع اشتداد الحاجة إلى دعوة الناس إلى توحيد الله فإنّ من الناس من يقول لا حاجة إلى ذلك، وهذا من جرّاء عدم معرفتهم لعظم حق الله جل وعلا وكيف يعظم ربنا جل وعلا، وإنما تعظيمه بتحقيق التوحيد من حقق التوحيد فقد عظّم، ومن أضاع التوحيد فقد أضاع حق الله، ولو كان السجود في جبهته مؤثرا، ولو كان جلده على عظمه من الصيام مؤثرا، فلا قيمة لذلك؛ بل قد قال جل(17/5)
وعلا لنبيه ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[الزمر:65]، بهذا تعجب أشد العجب أن هناك أناسا كثيرين بلغوا في أمر العلم ما بلغوا، وبلغوا في أمر الدعوة ما بلغوا، وعندهم من الكلمات الشركية ومن عدم معرفة حق الله ومن الغلو المذموم ومن تعلق القلوب أو تعليق القلوب بغير الله ما رأيتموه وسمعتموه في كتب وفي غيرها، وهذا من اشتداد الفتنة التي ستبقى إلى أن تقوم الساعة.
الدعوة إلى التوحيد تكون على جهتين:
الأولى: مجملة.
والثانية: مفصلة.
أما المجملة: فهي ببيان معنى التوحيد وحق الله جل وعلا، وبيان أنه سبحانه هو المستحق للعبادة وإقامة الدلائل على توحيد الله جل وعلا، وعلى أن التوحيد أهم المهمات، وعلى أنه دعوة الأنبياء والمرسلين، وعلى أن ذلك فيه من الفضل من تكرير الذنوب ومحو السيئات ما فيه، إلى آخر ما في بيان التوحيد وفضله مجملا بلا تفصيل.
وهذا القدر وهو الدعوة إلى التوحيد مجملة دون تفصيل يشترك فيها كثيرون من الدعاة في هذا الزمن؛ لأن الدعوة إلى التوحيد مجملة يتفق عليها الجميع؛ لأن تفسير التوحيد يكون عند المتلقي وليس من جهة الملقي، وإذا أحيل الكلام على فهم المتلقي كان حمّال أوجه يمكن أن يفسر بحسب ما يتلقاه المتلقي، فطوائف المشركين إذا أمرتهم بتوحيد الله مجملا لم ينتقدوا عليك؛ يعني في هذا الزمن، لأن التوحيد عندهم هو توحيد الربوبية، وطوائف الغلاة في عبادة الأولياء والصالحين إذا أمرتهم بالتوحيد ولم تشخص المسألة التي هم فيها ما أنكروا عليك، فكثيرون دعوا إلى التوحيد في أماكن فيها قبور للصالحين وتعبد من دون الله ولم ينكر عليهم أحد ممن هم في حضرة تلك المشاهد التي شُيدت لعبادتها من دون الله أو مع الله جل وعلا لأنها مجملة.(17/6)
وهذا القدر لا يميّز القائل بأنه من أهل التوحيد أو أنه من الدعاة إلى توحيد الله؛ لأن هذا فيه عموم وإجمال، والإجمال لا يصلح بقدر إصلاح التفصيل، لكن إن كان الإجمال خطوة في الطريق فإنّ هذا يكون مناسبا، لهذا قلنا الدعوة إلى التوحيد تكون بإجمال وتكون بتفصيل، فمن أجمل ثم فصل فكان إجماله خطوة لينقل بها الناس أو ليمهد بها لبيان حق الله جل وعلا، ولو كان التمهيد في أسبوع أو أسبوعين أو شهر، بحسب الحال التي في بلده، فإن هذا مناسب، لكن أن يقال دعا إلى التوحيد، وإنما دعوته بإجمال دون تفصيل هذه ليس من منهجنا ولا من منهج أئمة هذه الدعوة، ولا أئمة الإسلام المتقدمين في الدعوة إلى توحيد الله.
النوع الثاني الدعوة إلى التوحيد مفصّلا: والتوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والتوحيد يكون بإفراد الله بأعمال القلوب وأعمال الجوارح.
وأعمال القلوب متنوعة منها المحبة والرغب والرهب والرجاء والخوف والتوكل والإنابة والخشوع إلى غير ذلك من أفراد أعمال القلوب وعبادات القلوب، فمن دعا إلى كل مسألة من هذه مفصلا فإنه دعا إلى مسألة من مسائل التوحيد بتفصيلها، فيتكلم عن الرّغب والرّهب، يتكلم عن التوكل، ويتكلم عن المحبة بعلم، فإذا تكلم على هذه بعلم وفصّل على كلام أهل العلم فيها فإنه دعا إلى نوع من أنواع التوحيد مفصلا، هذا من جهة أعمال القلوب، وأعظم أعمال القلوب الإخلاص، وأن يتوجه القلب إلى الله وحده وأن لا يكون في القلب من جهة القصد والتوجه إلا واحد وهو الله جل جلاله وتقدست أسماءه، فالدعوة إلى الإخلاص؛ إخلاص الدين وتوحيد القصد والتوجه وألاّ يكون في القلب إلا الله جل وعلا، إذا كانت من طالب علم يضبط الكلام فهذه دعوة مفصلة في توحيد الله جل وعلا، وهذا له تفاصيل.(17/7)
أعمال الجوارح من جهة الصلاة والدعاء بأنواعه الاستغاثة والاستعاذة والنداء إلى آخره، وكذلك الذبح وما شابه ذلك، أخذ كل مسألة منها وبيان إفراد الله جل وعلا بهذه العبادة هذا من الدعوة إلى التوحيد مفصلا، تَأخذ الدعاء فتبين الدعاء ما هو ومعنى الدعاء والآيات التي فيه وإفراد الله جل وعلا بالدعاء إلى آخره، كذلك تأخذ الاستغاثة والآيات التي فيها وإفراد الله جل وعلا بها ووجوب ذلك وما جاء في هذا، وكذلك تأخذ بقية المسائل بالذبح والنذر إلى آخره.
كذلك ما يتعلق بإفراد النبي عليه الصلاة والسلام وإفراد شريعته بالحكم والتحاكم بين العالَمين هذا نوع من أنواع توحيد الله جل وعلا أو فرد من أفراد التوحيد، فالدعوة إليه مع غيره هي طريقة أئمتنا وعلمائنا، وبعض الناس يطرق من التوحيد هذه المسألة دون غيرها وهو ما يسمونه بتوحيد الحاكمية، أو الدعوة إلى تحكيم شريعة الإسلام وإبطال تحكيم القوانين، وما جاء في ذلك من النصوص وبيان كلام أهل العلم في ذلك، هذا لا شك أنه من التوحيد، ولكن ليس هو التوحيد فقط، بل توحيد الله جل وعلا -كما هو واضح مما سبق من الكلام- هو إفراد الله بالعبادة، إفراد الله بالعبادة، هذا هو التوحيد، وهذه من التوحيد لأنها تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، فأهل التوحيد يدعون إلى هذه جميعا، وأما غيرهم أو من كانت في قلبه شبهة، أو من كان عنده طريقة أخرى، فإنهم يدعون إلى التوحيد مجملا، وإذا أتى التفصيل فإنما يفصلون في مسألة الحاكمية، وهذا خلاف طريقة أهل التوحيد وأئمة هذه الدعوة، لهذا تجد في كتاب التوحيد كانت مسائل الحكم والتحاكم متأخرة في الكتاب، وكان قبلها ما يتعلق بالدعوة إلى التوحيد مجملا وفضل التوحيد، ثم بيان ضد ذلك ومسائله إلى آخره، فهي جزء من الكلام على التوحيد، فشمولية الدعوة إلى التوحيد تؤخذ من كتاب التوحيد؛ لأن فيه بيان التوحيد مجملا ومفصلا، ولأن فيه بيان ضده مجملا ومفصلا.(17/8)
يُضاد التوحيد الشرك، والشرك كما هو معلوم أكبر وأصغر، والدعوة إلى التوحيد لا بد وأن يكون معها نهي عن الشرك؛ لأن الدعوة إلى التوحيد هي دعوة إلى لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله كُفِرٌ بالطاغوت وإيمان بالله، فلا بد من النهي من الشرك، فأهل التوحيد عندهم دعوة إلى التوحيد مجملا ومفصلا، وعندهم أيضا نهي عن الشرك مجملا ومفصلا.
والإجمال ببيان شناعة الشرك وأنه أعظم ما عصي الله به وحكم المشرك وصورة الشرك ونحو ذلك مما فيه بيان الشرك بإجمال دون ذكر الصور؛ صور الشركيات الموجودة، هذا قد تجده -كما ذكرنا في التوحيد مجملا- قد تجده عند كثيرين إذا تكلم ونهى عن الشرك كان نهيه مجملا ولا تجد أنه يفصل قبل الكلام ولا بعده، وإنما يحب الدعوة إلى التوحيد أو يدعو إلى التوحيد بإجمال وينهى عن الشرك بإجمال، وهذا لا يفيد الفائدة المرجوة؛ لأن النهي عن الشرك بالإجمال يفسره المتلقي بحسب فهمه، ولكن إذا فصّلتَ وحددتَ فإنه يكون مستوعبا للمراد من الكلام، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله:
عليك بالتفصيل والتبيين فَالْـ إطلاقُ والإجمالُ دون بيانِ
قد أفسدا هذا الوجود........ ......................... ([1])
أو كما قال.
الإجمال موجود في الكتاب والسنة ولكنه إجمال وثَمّ تفصيل له، فمن اقتصر على الإجمال دون التفصيل فهو على غير السبيل، فالنهي عن الشرك مجملا عرفته.(17/9)
ومفصلا بأن يذكر الشرك الأكبر الأصغر والأصغر منه الخفي ومنه ما هو ظاهر شرك الرياء أو الأعمال الظاهرة مثل التمائم ولبس الحلقة والخيط الحلف بغير الله ونحو ذلك، الشرك الأكبر أنواعه معروفة مشهورة عندكم فيفصل الداعية كل واحدة، فيأتي إلى دعاء غير الله ويبين أنه من الشرك ويفصل ويقيم الدلائل في ذلك بتفصيلها، ثم يذكر صور دعاء غير الله، كذلك الخوف من غير الله يذكر صور هذا الخوف من غير الله والصورة التي شرك أكبر بالله جل وعلا، يأتي إلى الشرك الأصغر ويعرضه بتفصيل، التمائم يكون الكلام عليها يحتاج إلى جلسة أوجلستين أو خطبة جمعة أو خطبتين أو ثلاثة؛ لأن صور التمائم كثيرة قد تقول للناس إن التمائم شرك، وتأتي في الحديث في ذلك ولكن لا تبين للناس صورة التمائم، فهذا يقع فيه كثيرون ممن ينهون مجملا عن الصورة ولا يفصلون الكلام عليها، الناس لا يتصورن المراد بالتمائم إما بالصور التي كانت في الجاهلية القديمة، لكن الصور الحاضرة اليوم التي تجدها في الشوارع وفي كثير من البيوت لا يتصور أنها من الشرك الأصغر، وهم ربما عملوها ونظروا إليها واستأنسوا لها، فلا بد أن يكون ثَم تشخيص للصورة الشركية، وإعطاء الصور الكثيرة بإعطاء تأصيل لهذه المسألة الشركية، هذه هي الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك مفصلة.
تأخذ الشرك شرك الرياء أيضا تفصل الكلام فيه تأخذ الذبح لغير الله وتفصيل الكلام فيه، النذر لغير الله وتفصيل الكلام فيه تأخذ شرك الألفاظ بنسبة النعم لغير الله جل وعلا وتفصل الكلام فيه، تأخذ الحكم بغير ما أنزل الله وتفصل الكلام فيه وأنّه ليس به حالة واحدة بل له أحوال وأحكام مختلفة ونحو ذلك، بحسب ما قرره أهل العلم.(17/10)
إذن الدعوة سارت هكذا، وهكذا كانت دعوة الأنبياء ودعوة المرسلين، والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من نظر في دعوته وجد أنه سار هذا المسير، وهكذا الأئمة من بعده رحمهم الله تعالى وجزاهم عنّا وعن المسلمين خيرا.
لاشك أن الداعية بتفصيل في التوحيد ستَرِدُ عليه شبه، وأما الداعية بإجمال فلن تطرح عليه الشبه، ولهذا تكثر الشبه إذا ازداد التفصيل، فشبه المشبعين في توحيد الله تزداد بازدياد التفصيل في مسائل التوحيد، فإذا شخصت له أن دعاء غير الله شرك ابتدأك بالاستشكالات، إذا شخصتَ له أن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - شرك أتى بالشبه إذا قلت له أن دعاء الصالحين شرك أتى بالشبه، إذا قلت إن الذبح لغير الله جل وعلا شرك أكبر أتى بشبه، من الدعاة المنتسبين إلى الإسلاميين وإلى الدعوات الموجودة من يقول في بعض هذه الصور أنها شرك ولكن يجعلها شرك أصغر، وهذه أيضا شبهة عظيمة راجت على كثيرين من أتباع الجماعات الإسلامية في غير هذه البلاد؛ يجعلون الذبح لغير الله شرك لكن يقولون شرك أصغر لا يُخرج من الملة، النذر لغير الله شرك ولكن شرك أصغر، وهكذا في مسائل كثيرة، متى يكون عندهم شرك أكبر؟ يأتي لك بالشبه التي تطعن فيما قررت من توحيد الله جل وعلا النهي عن الشرك مجملا ومفصلا في النوعين، فبقدر فهمك للتوحيد ونهيك عن الشرك مجملا ومفصلا تَرِدُ الشبهات، والشيخ رحمه الله الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لما دعا بدعوته مجملة ومفصلة جاءته الرسائل والكتب وكُتبت الأوراق ونُشرت المناشير في زمنه في تضليله وإيراد الشبه على أقواله، ولأجل تلك الشبه التي كانت رائجة في عصره في وقتٍ ما صنّف رسالة كشف الشبهات التي نحن بين يدي شرحها.(17/11)
والشبهات ليست مقتصرة على ما أورده الشيخ، بل تجد أن الشبهات في التوحيد، كلما ذهبت إلى بلد وجدت عند علماء الشرك والضلال من الشبهات ما ليس عند غيرهم، والشبهة ترد على القلوب وقد تؤثر فيها ولو بالتردد، ولو أن تجعل من سمعها مترددا في داخله، وهذه مصيبة أنْ تأتي الشبهة ولن يقتنع بها ولكن في داخله يكون مترددا، وهذا تجده عند كثيرين وحتى في المنتسبين للعلم في الجامعات أو ممن درسوا دراسات عصرية في هذا العصر حتى في هذه البلاد من أهل الفطرة، تجد عندهم عدم قناعة بالشرك ولا بالدعوة إليه وعندهم قناعة بضده وبالتوحيد، ولكن في القلب تردد بعض التردد من أن ما يصنع عند قبور الأولياء والصالحين أنه شرك وكفر بالله جل وعلا، ويعظم التردد إذا قلت لهم ما قاله الإمام رحمه الله في رسالة كشف الشبهات هذه: إنّ شرك المعاصرين -في زمن الشيخ وفي هذا الزمن من جهة المتعلقين بالأولياء والأموات ونحو ذلك- أعظم من شرك أهل الجاهلية. يعظم التردد ويعظم لأجل ورود الشبهات، ومن الشبهات كيف يقال ذلك وهؤلاء مسلمون يصلون ويزكون يحجون، وقد ترى على بعضهم أثر السجود وأثر الطاعة والزّهادة والبكاء من خشية الله جل وعلا، فتعظم الشبهة، ويبقى من لم يكن متحصنا بالتوحيد دائم التَّكرار له في تردد في هذه الأصل العظيم.(17/12)
أنتم ولله الحمد في هذه البلاد قد ما تلاحظون أو قد ما تحتاجون إلى كثرة ردّ الشبهات، لكن من كان في غير هذه البلاد يجد الصدام عنيفا، يجد أنّ المواجهة إنما هي مع هؤلاء، فالمواجهة مع أهل الشرك والضلال، من سافر منكم إما أن يكون سافر للدعوة فسينظر وسيحاجّ وسيدعو بإجمال وتفصيل فسترِدُه الأقوال والأعمال والغرائب، إذا لم يتحصن فربما زل الزلة التي بعدها سيكون في أعظم خسارة، ولهذا الشيخ رحمه الله كتب كشف الشبهات هل كتبها للمشركين؟ لا، كشف الشبهات عن المسلمين، صنّفها للمسلم للموحد، لهذا كانت مختصرة كما سترى، الموحد يحتاج إلى أن يكون مكشوف الشبهة؛ يعني أن لا تبقى الشبهة معه، لا شك أن منهج الصحيح ألا تورد الشبهات لأن بعض الناس قد لا يكون عنده في قلبه شبهة أصلا، فإذا وردت الشبهة وبعدها الرد قد تعلق الشبهة ولا يفهم الرد خاصة أن الشبهات هذه التي يوردها خصوم التوحيد تجد أنها عاطفية، ورد الشبهة علمي ومن القواعد المقررة في الدعوة في معرفة نفسيات الناس أن إثارة الناس والتأثير عليهم بالعاطفة يقوى، وبالعلم لا يكون إلا لمن يكون متأهلا للفهم والإدراك، مخاطبة العقل، مخاطبة القلب بالبراهين هذه ما يفهمها إلا الخاصة، أما العاطفة الهياجة والأخذ بالعواطف وبالمد وبالجزر وبتحريك النفوس دون البرهان، هذا يقلب النفوس ويؤثر على النفس أعظم، ولهذا ليس من المنهج الصحيح أن يستفاض في ذكر الشبهات ويرد عليها؛ لأن الشبهات قد تعلق في القلوب، لأن كثيرا من الشبهات مبناها على العاطفة، كقول من يقول هؤلاء الذين تحكمون عليهم بالشرك مصلون مزكون يعبدون الله وحده وما دعوا استقلالا هذه الأموات، وعندهم خشية وتلاوة للقرآن، هذا يحتم كل ثلاث، وهذا يصوم يوم ويفطر يوم، وهذا كثير الصدقة، وهذا كثير العمل، وهذا مجاهد وهذا فعل للإسلام ما فعل إلى آخر الكلمات التي تحرك بها العواطف، البرهان لا يفهمه إلا من كن عقله مستعدا لقبول البرهان، وكما(17/13)
هو القانون العام أن البراهين لا تصلح إلا لذوي العقول، أما العواطف فتصلح للجمهور.
هذا واضح، لكن من الأمثلة التي قد يمثل بها أن خطبة خطيب ما يخطب في موضوع وعظي مثلا يتكلم فيه بكلام ليس بذي أدلة في الشرع، بكلام فيه مشاهدات أو بكلام عام وخوّف وروّع والكلام نصفه أو أكثر من نصفه غلط في الشرع، كم الذين سيتأثرون بهذا الوعظ الذي حرك العواطف وهذا الخطيب واعظ جيد يحرك النفوس؟ كم الذين سيتأثرون؟ الأكثرون سيتأثرون، والقلة سيقولون هذا خلاف العلم هذا غلط فلان غلط والشرع والوعظ، لا بد أن يرتبط بالشرع، وهكذا، ولكن هؤلاء سيتأثرون لم؟ لأن أكثر الناس جهال، حتى الشباب ليس كل الشباب في مستوى واحد من العلم وإدراكات العلوم، فقد يقنعون بمسائل العلم خلافها، وخاصة في مسائل التوحيد، وهذا الكلام ليس مخاطبا به أهل هذه البلاد وإنما نرجوا أن ينتشر الكلام فيها وفي غيرها، ولهذا أعظم ما يعتني به طالب العلم والشاب الذي رغب فيما عند الله جل وعلا وتوجّه إلى الله وحده وتجافى عن دار الغرور وضحى بما يشتهيه ويلتذ له بما عند الله جل وعلا يتوجه إليه بأن يكون همه في دراسة هذا الأمر العظيم همًّا عظيما، ولن يدرك إلا إذا أكمل، في البدايات لن يدرك، لكن إذا أكمل عرف أنه على خطأ، إلا لما يتابع ويتابع ويتابع.(17/14)
أحد مشايخنا الذين قرأت عليهم في التوحيد مرة قال له أحد طلاب العلم وهو بجنبه وكان يريد أن نقرأ كما هي العادة رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأئمة الدعوة قُرئت مرة وكررت فقال: هذه سمعناها وكررناها. فمن غضبه وكزه وكزة، يعني فيها مباشرة الحرارة ظهرت في وجهه، وكز هذا وهذا طالب علم أيضا وكان بجنبه وأنا كنت أمامهم، وهذا ما يستقيم مع كل نفس؛ لكن مع النفس التي عرفت عِظم حق الله جل وعلا في هذا الأمر العظيم؛ لأنه إذا ما كُرر نسي لهذا في هذا الكتاب كشف الشبهات في أواخره قول الشيخ رحمه الله بعد أن قرر مسائل، قال: وبمعرفة هذا -يعني ما تقدم ذلك الكلام- تعلم أن قولهم التوحيد فهمناه من أكبر مكايد الشيطان. وهذا لاشك أنه حاصِل حاصل، وتأمل قول الله جل وعلا مخبرا عن دعاء إبراهيم ?وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ?[إبراهيم:35]، قال العلماء خاف على نفسه وهو إبراهيم خليل الله خاف على نفسه عبادة الأصنام وخالف على بنيه، قال إبراهيم التيمي في تفسيرها: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم. إذا كنت لا تأمن البلاء فلا بد أن تضع حماية قوية وسور منيع أن يتطرّق إليك ذلك، بعضهم يقول يعني يمكن -أعوذ بالله- أن نعبد الأوثان أو الأصنام؟ نقول ربما لم يكن ممكنا بفضل الله وبنعمته في جيلك، ولكن تساهلك عشرين في مائة (20%) بعد زمن يتساهلون عشرين، ثم تصل إلى مرحلة لا تتواصى فيها الأجيال على الحفاظ على التوحيد.(17/15)
وخُذ مثلا من الأمثلة فيما شاهدت بنفسي وذكرته لبعض الإخوان مرة أنه في مكان قريب من الدار التي أسكنها، مرة بعد صلاة الظهر إذا بأحد البيوت التي بنيت حديثا واحد بل اثنين من الباكستانيين يذبحون عند عتبة الباب خروف والدم يسيل بشدة على العتبة، أنا أسمع بهذه الصورة هذه في كلام أهل العلم، لكن رؤيتها واقعا ما رأيتها إلا في الرياض في حي المحمدية، والذي حصلت له من حيث السلسلة هو من أهل نجد، من أين جاءت هذه؟ هو من التساهل؛ التوحيد فهمناه، فينشأ أجيال ما يعرفونه ولا تغرس في قلوبهم حرارة التوحيد، فيدخل الداخل بهذه الأمور.
من جهة أخرى، من جهة ما يوجب الخوف أنه لا يكون من الحاضرين من يتوجه إلى غير الله والعياذ بالله يعني من هذا الزمن في هذا البلاد، ولكن بعد زمن يمكن أن يكون ذلك لأن الله جل وعلا ما أعطى أهل هذه البلاد ولا غيرهم عصمة، أهل الجزيرة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أسلموا ثم حصل من بعضهم ردة، لكن قد يكون شيء وهو المصيبة -وفتّش نفسكَ- وهو التردد في قَبول ما قاله العلماء في مسائل التوحيد، وهذا يعرض على كثير من القلوب يتردد، والله مشددين، بدأ النقص، والله المسألة فيها نص العلماء هذا فيه شدة، هنا بدأ النقص الفعلي، وإذا تردد القلب ولم يكن على علم ويقين بحق الله جل وعلا بالتوحيد وبالحكم على المشرك بأنه مشرك وهذه الصورة الشركية أنها شرك، فبداية التردد هذه يكون معه القلب في ريب، يكون يتعبد ويتعبد لكن القلب ليس بسليم، فيه تردد في هذا الأمر العظيم، وهذا دخل على قلوب كثيرين وحرك ترى.(17/16)
نخلص من هذا إلى أن هذه الرسالة كشف الشبهات فيها أصول؛ أصول الشبهات التي كانت رائجة في ذالك العصر في زمن من دعوة الشيخ رحمه الله([2])... التوسع في فهم حال أهل الجاهلية الذين بُعث النبي عليه الصلاة والسلام فيهم، كيف كان شركهم؟ وما كانت أحوالهم في العبادة وفي الديانة؟ ما أصنامهم؟ ما هي أوثانهم؟ عبدوا الملائكة، كيف عبدوها؟ عبدوا الجن كيف عبدوها؟ ?بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41] في آية سبأ، كيف كانت عبادة الجن؟
لابد لمن أراد أن يكون قويا في رد الشبهات أن يتوسع أولا في معرفة حال العرب في الجاهلية بعبداتهم المختلفة، ما هي آلهتهم ؟ ما هي اعتقاداتهم؟ إلى آخره، وهذه يخدمك فيها طائفة من الكتب:
منها كتاب بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للأديب الموحد محمود شكري الألوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب.
منها أي من المراجع في هذا الباب الكتب التي كتبت عن تاريخ العرب قبل الإسلام، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، كتاب تاريخ العرب قبل الإسلام، كتب أديان العرب فيمن بحثوا أديان العرب، إلى آخره.
فالتوسع فيما كان قبل مجيء محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام بهذا النور وهذا الهدى يُفهمك الحالة الدينية التي كانوا فيها، ما هو الشرك الذي كانوا يمارسونه؟ لأنك إذا عرفت الحال عرفت معنى الآيات، عرفت معنى أقوال النبي عليه الصلاة والسلام، عرفت معنى دعوته، وتهتم بأشعار العرب فيما ورد في ذلك؛ لأن كثيرا من الصور جاءت في الشعر، الشعر العربي.(17/17)
النوع الثاني من المراجع: كتب التفسير عند الآيات التي فيها ذكر الشرك أو الأمر بالتوحيد أو ذكر أهل الجاهلية من الأميين أو الكتابيين، الآية تنظر ما قاله السلف فيها؛ لأن المتأخرين من المفسرين صرفوا الآيات عن تفاسير السلف؛ لأن المتأخرين عندهم أن التوحيد وعبادة غير الله هو باعتقاد أنّ الخالق هو غير الله، وأما تفاسير السلف تجد أنها بخلاف ذلك.
الأصنام والأوثان ما هي؟ المتأخرون يفسرونها بتفسير، والمتقدمون –السلف- يفسرونها بتفسير آخر، ولهذا ترى الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله توسع في فهم تفاسير السلف، فهو في التفسير في آيات التوحيد حجة، فقد توسع توسعا يعلمه من طالع كتاباته في التفسير -هي موجودة ضمن المجموع- ويجعلها الشيخ رحمه الله على شكل مسائل وفوائد.
النوع الثالث من الكتب: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وشيخ الإسلام في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم في أواخره، وفي أواخر التدمرية وفي التوسل والوسيلة، وفي الاستغاثة الكبرى المعروفة بالرد على البكري، وفي الرد على الإخنائي، هذه الكتب أصّل فيها شيخ الإسلام مسائل توحيد العبادة، وحال المشركين الذين بُعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
النوع الرابع: مصنفات الإمام الجليل محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ومصنفات أبنائه وتلامذته ومن سلك سبيلهم.
النوع الخامس: فتاوى علمائنا المعاصرين؛ سماحة الشيخ عبد العزيز وبقية العلماء حفظهم الله.
بهذا التسلسل يكون عندك وضوح في رد الشبهات، أما إذا عكست، وكنت تعرف التوحيد ولكن لا يكون عندك ملكة في رد الشبهات.(17/18)
فهذه الكتب التي ذكرنا منها كتب مخصصة في رد الشبهات، وهي كتب الردود منها عند شيخ الإسلام الرد على البكري وهو كتاب عظيم في هذا الباب، ومنها في كتب أئمة الدعوة الرد على عثمان بن منصور للشيخ عبد الرحمن والشيخ عبد اللطيف، وكذلك كشف الشبهات، وكفر تارك التوحيد مفيد والمستفيد للشيخ وغير هذه من الكتب التي فيها ردود ولغير علماء هذه البلاد أيضا.
فكتب الردود تلخص عندك الشبهات وتلخص الرد، وقد كلفت بعض الإخوة أو اقترحت عليه بالأصح أن يكون عنده جمع لنفسه للشبهات التي يحتج بها الخصوم، حتى يكون هناك مؤلف في الشبهة وفي ردها بنشرها عند إخواننا الذين يدعون إلى توحيد الله في الأمصار جميعا، ولكن كثرت، وبعضها فيه طول في ردها، فصار من جراء الجمع شُبه كبيرة قد ما تكون خطرت في بعض البلاد فأرجئ الموضوع بعض الشيء، لأن بعض الشبهات في بلد قد ما تكون في بلد أخرى، قد يِجِي واحد يأخذ الشبهة ويرد عليها في بلد الثاني فتكون شبهة جديدة لا يعرفها أهل تلك البلاد.
فإذن يهمنا في هذا الأمر وكشف الشبهات أن تتوسع -إذا أردت يعني هذا باعطيك إياه إن شاء الله تعالى في الشرح- لكن تتوسع في فهم حال العرب قبل الإسلام فإنها من أنفع الأشياء ولهذا من الأغلاط العظيمة التي يندد بها أئمة الدعوة قول من يقول إن هذه الآيات التي تذكرون وهذه الأحكام إنما هي في المشركين وليست في هؤلاء، ويُردّ عليهم بما قاله العلماء بأن الحال هي الحال «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، «قلتم والذي نفسي بيده كما قال أصحاب موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة»، فما أشبه الليلة بالبارحة، هذا يتوارد لأن الأفكار محدودة، شبهات الشيطان ليست لا حد لها محدودة، فيتوارثها الناس جيل بعد جيل.(17/19)
نختم هذه المقدمة ببيان أن هذه الرسالة ثَمّ تردد في شرحها عندي، وذلك لأجل أن مستوى الحضور متفاوت وتفاوت هذا يُحرج الملقي؛ المتكلم، من جهة أن مستوى الكلام قد يفهمه البعض وقد لا يفهمه بعضٌ آخر، وإذا لم يفهم رد الشبهة، قد تبقى الشبهة عنده بلا رد وهذا فيه حرج، لكن نوصي الجميع بأن يدرسوا كتاب التوحيد دراسة مفصلة حتى يستفيدوا من هذه الرسالة، ومن لم يدرس كتاب التوحيد دراسة مفصلة بدقة فقد يكون ورود بعض الشبهات وورود الرد عليها يكون عنده غير واضح، وهذا لا نريده؛ لأننا نسير في منهجية في طلب العلم.
والأصل أن كشف الشبهات يكون بعد كتاب التوحيد، ولما كان حضور كثيرين منكم الأكثر معنا في كتاب التوحيد سواء الشرح الكامل الذي تم في الدورة وربما حضروه أو سمعوه، وكذلك الشرح الذي في فتح المجيد ونحن الآن في أواخره، هؤلاء يمكن أن ينتقلوا إلى هذه الرسالة، وغيرهم من رغب في الحضور فلا بأس؛ لكن إن أحس أن الشبهة تبقى، والرد غير مستوعب، فيؤمر بأن لا يحضر ولو كان درس توحيد؛ لأنه يحصل عنده إشكالات والردود سترون أنها ستكون مفصلة، إلا إذا أخذنا بشيء -هذا نستشيركم فيه- وهو أن يُكتفى بتوضيح مراد الشيخ؛ لأن الشيخ رحمه الله ردّ بردود تناسب المتوسطين فإذا اقتصرنا على إيضاح ما ذكره الشيخ رحمه الله فهذا يقصر مدة شرح الكتاب ويسهل الفهم، ولكن لا يكون الانتفاع به عامًّا في غير هذه البلاد؛ لأن من الشبهات ما يحتاج إلى تفصيل وإلى تقعيد وإلى إحياء روح ردّ الشبه في نفوس إخواننا.
نجيب على بعض الأسئلة إذا عندكم اقتراحات فيما ذكرت في أي الطريقتين ممكن نسمعها.
1/ يقول أرجو ألا يطول هذا الدرس في هذا الكتاب المختصر عن عام يعني سنة.
طيب.
2/ لم أستطع أن أخرج من كلامك بتعريف الدعوة إلى التوحيد المفصلة أي التعريف الجامع المانع.(17/20)
تسمعون كلمة التعريف لابد أن يكون جامعا مانعا تُريدونها في كل شيء، ما يصلح هذا، الدعوة إلى التوحيد المفصل تأخذ كل مسألة من مسائل التوحيد، التوحيد المتعلق بالقلب بالاعتقاد، يتعلق باللسان، يتعلق بالجوارح، يتعلق بالمجتمع، تأخذ كل مسألة منه وتفصل الكلام عليها، هذا المقصود مثل ما مثلت لك، تتكلم على التوكل، الخوف من الله جل وعلا، المحبة، الرجاء، الرغب، الرهب، ونحو ذلك من عبادات القلوب، الإخلاص، هذا من جهة أعمال القلوب، وأعمال الجوارح كذلك.
3/ هذا سؤال جيد يقول: هل تقسيم الدعوة إلى التوحيد تقسيم لكَ أم هناك من سبقكَ؟
وهو التقسيم ليس حكما، التقسيم للإفهام، فالتقسيم الذي هو حُكم هذا يحتاج أن يكون هناك من يسبق المرء؛ لأنّ الأحكام لا تكون مستأنفة، لا تقلْ في مسألة ليس لك فيها إمام، أما التقسيم الذي هو للإيضاح فإنّ هذا وظيفة المعلم، والقرآن فيه هذا وهذا ?فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ?[البقرة:256]، هذا إجمال فيه تفصيله في آيات أخر، النبي عليه الصلاة والسلام أجمل وفصل، دعوة العلماء، دعوة الشيخ محمد إجمال وتفصيل، كتاب التوحيد إجمال وتفصيل في النوعين جميعا، فالتقسيم هذا من جهة الاستقراء وهو تقسيم للإفهام لا للحكم.
4/ هل بيان الشبهات للعامة والرد عليها أسلوب من أساليب حفظ التوحيد وصيانته؟(17/21)
لا، -مثل ما ذكرت لكم- الشبهة لا تورد، الشبهة بلاء، وردها بلاء، فأنت ما تأتي بالبلاء وترده، واحد يجيب المرض ويقول بعالجه، ما يصلح، فالشبه لا توردها، وليست هي من المجالات التي يتعالم فيها بعض الناس، الشبهة هذه إيش ترد عليها كيف؟ بعض الناس يورد شبهة هو ما فيه حاجة للكلام أصلا، إلا إذا احتيج إليها عند أهل العلم وعند طلاب العلم، وأصل كتاب كشف الشبهات كان يمكن أن يمر إمرارا سريعا؛ يسمع سماعا مع تعليقات وجيزة، لكن كثير في الناس اليوم وطائفة من الشباب من عنده شبهات في التوحيد، عنده شبهات في الشرك، عنده شبهات في تكفير المشركين، فلا بد من إيضاح المقام.
5/ نقترح أن يكون ثَم شرحان شرح موجز وشرح مفصل.
6/ نعم من أراد أن يحفظ ويسمع يبلغني هو يكون في الأمام ونخليه إن شاء الله يسمع الكتاب.
7/ هل هناك مفهوم قاصر للتوحيد لأني سمعت أحد الإخوة في كلمة له يقول لا نفهم التوحيد بالمفهوم القاصر؟
لا أدري أُوش مراده بالكلمة، لكن أنا مثلا سمعت مرة في مسجد الرياض صليت العشاء في مكان، كان أحد الإخوة يتكلم يشرح نواقض الإسلام، بدأ في أولها وعرض للتوحيد في كلمتين؛ يعني الشرك بالله يعني عبادة غير الله، ثم ربع ساعة وهو يتكلم عن تحكيم القوانين وغيرها، ما أدري يعني إيش مناسبة هذا. هل هذا المنهج صحيح؟(17/22)
أولا الجواب أنه غير صحيح لأن تحكيم القوانين مثلا في هذه البلاد الناس ما عندهم محاكم وضعية قانونية يتوجهون إليها في خصوماتهم حتى تقول لهم انتبه لا تذهب إلى هذه المحاكم، إنما يجب أن تُقِرَّ في قلوبهم الاعتقاد بوجوب تحكيم شرع الله وأن تحكيم غير شرع الله جل وعلا كفر بالله جل وعلا بشروطه، لكن هم بحاجة إلى أنواع من التوحيد مفصلة أخر؛ التوكل الآن أصابه ما أصابه، المحبة؛ محبة الله جل وعلا، والرغب فيما عنده، الإخلاص، المتابعة، هذه مسائل التوحيد التي الآن بحاجة إليها، أنواع الشرك تروح حتى طلبة العلم تجد عندهم من شرك الألفاظ ما يستغرب تجد نسبة النعم لغير الله، فلان ما شاء الله فلان هذا لو لا فلان كان رُحنا، إيش هذا؟ هذا كلام أهل التوحيد لولا فلان رحنا؟ وأين الله جل وعلا؟ أين فضل الله؟ ?يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]، فلان فعل وفعل وفعل، هذا فلان لو راح لكذا لحصل كذا وكذا، مثل هذه الكلمات، صار فيه الآن خلل الناس بحاجة إلى تبيين التوحيد المفصل وإيضاحه والاستدلال عليه، الشمولية مطلوبة، وكل يُعطى ما يناسبه، فكونه يتكلم على بعض مسائل التوحيد في دقيقة، ويجعل ربع ساعة في الكلام على مسائل أخرى، هذا يُفهم منه أن المقصود ليس هو إفهام الناس التوحيد بشموله وإنما التركيز على نقطة منه وهذا قصور.
8/ التدرج في كتب العقيدة إلى آخره.
يطلب من المقدمة لأحد الدروس سجلت بعنوان المنهجية في طلب العلم.
9/ كم مقدار الحفظ؟
هذا بحسب المقطع، تأخذ مقطع متكامل، ما أدري بحسب الوقت، مقطع متكامل وتشوف مناسبته تكون درس، قد نزيد عنه وقد ننقص.
10/ نودّ فرق بين الإشكال والشبهة.(17/23)
الإشكال شيء يرد على فهم الكلام، لكن الشبهة شيء يرد يصرف الحكم إلى غيره، الشبهة ترد تقول الحكم ليس كذا بل كذا، أما الإشكال مع بقاء الأصل تقول أنا مقتنع بكذا وكذا لكن إشكال يراد أن يجاب عنه، فالإشكال من الموافق والشبهة من غير الموافق.
11/ هل الكتيبات التي أمامكم للتوزيع؟
نعم الذي يأتي يأخذ كشف الشبهات بعد أن ننتهي من الدرس يأخذه.
12/ هل سيعاد شرح كتاب التوحيد؟
الله أعلم.
13/ هل يكفي كقاعدة لهذا الدرس حفظ الأصول الثلاثة وشرحها؟
لا، الأصول الثلاثة سهلة، أذكر الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله ذكرتُ له مرة كان يتكلم في كشف الشبهات وأسأله عن بعض الأشياء قال: كشف الشبهات هي رسالة صغيرة لكن هي أصعب كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب. هذا صحيح ولذلك هي النهاية.
14/ -ما شاء الله- يقترح أن يكون الدرس بعد أذان العشاء بساعة شتاء وصيفا، لكي يستفيد الذي يأتي من بُعد.
ودّي الفائدة للجميع لكن يكون فيه مشقة على آخرين، الصيف مثلا ننتهي من الصلاة التسع نبدأ العشر نخلص الحادي عشر وربع.
14/ يقترحون أن يكون مقتصر على ما أورد الشيخ.
هذا ممكن إذا كنا اقتصرنا على ما أورد الشيخ ممكن أن يكون ثلاثة أشهر، فنحتاج تقريبا إلى اثنتا عشر ساعة؛ اثنتا عشرة درس.
15/ هذا بالعكس يطلب الإسهاب.
16/ وهذا يقول لا المختصر المخل ولا الطويل الممل.
17/ أيضا هذا يقول نريد فترة من الزمن حتى يتمكن من يحضر من بُعد.
18/ شرح مبسط ثم بعد المظان اشرح شرح مطول.
طيب
19/ يقترح أن يغير الكتاب إلى كتاب التوحيد.
20/ بعض المناهج الدراسية الجامعية تذكر الشبهات في علوم القرآن أو غيرها.
هذا صحيح نعم لأنكم طلاب علم تحتاجون إلى...
21/ نقترح أن يكون درس الخميس بعد الساعة التاسعة حتى نتمكن من حضور درس سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بعد الفجر.
نشوف إن شاء الله.(17/24)
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا أن يلهمنا الرشد والسداد وأن يجزيكم خيرا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
[كشف الشبهات عن التوحيد]
[المتن]
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم رحمك الله أنّ التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة، وهو دين الرسل، الذين أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين: ودّ، وسواع ويغوث ويعوق ونَسرٍ، وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله الله إلى أناس يتعبدون ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله يقولون نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين.
[ الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فهذا شروع منا في هذه الرسالة؛ في شرح هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات للإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة، ونستعين الله جل جلاله وتقدست أسماؤه ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أنْ يعلمنا منها علما نافعا وأن يقينا في فهمها الزلل والخطل وأن يجعل أفهامنا صائبة وقلوبنا ذات بصيرة.
هذه الرسالة سُميت كشف الشبهات، وقد ذكر طائفة من العلماء منهم ابن غنام في تاريخ نجد أنه أرسلها للناس في القرى لأجل أن يكشف بعض الشبه التي شبّه بها على التوحيد أعداء دعوة الإمام رحمه الله، فهي مصنّفة لأهل التوحيد الذين نُشرت فيهم بعض الشبه، نَشر تلك الشبه بعض العلماء الذين ورثوا علوم المشركين وحبذوا الشرك بالله وأيدوه ودعوا الناس إليه ودافعوا عنه نعوذ بالله من الضلال.
اسم هذه الرسالة كشف الشبهات(17/25)
والكشف هو حسر الشيء عن الشيء، كشف الرأس يعني حسره؛ حسر ما عليه حتى ظهر، وكشف البأس إذا أزاله وهذه المادة في القرآن كثيرة (فلما كشفنا عنهم السوء)([3]) كما قال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ?[النمل:62]، ?لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ?[النجم:58] ونحو ذلك، فالكشف بمعنى الإزالة.
والشبهات جمع شبهة، وهي المسألة التي جُعلت شبها بالحق؛ لأن الحق عليه دليل بيّن واضح، والشبهة سميت شبهة لأنها مسألة من مسائل العلم أورد عليها أصحابها بعض الأدلة التي يظنونها علما، فالشبهة عبارة عن تشبيه الباطل بالحق، فإذا شبّه الباطل بالحق من جهة أن الباطل له دليل وله برهان صارت هذه المسألة -إذا عُورض بها الحق- صارت شبهة، والشبهة والمُشَبَّهة هي المسائل المعضلة أو المشكلة التي تلتبس على الناس كما جاء في بعض ألفاظ حديث النعمان بن بشير المشهور قال «الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشَبَّهات» أو «مُشْتَبِهَاتٌ» سميت مشبَّهة ومشتبهة لأنّ الأمر فيها يشتبه على الناظر فيه، وهكذا الشبهة تُلقى؛ يلقيها الشيطان أو يلقيها أعوانه أو تأتي في الذهن فيشتبه معها الحق ويشتبه الباطل معها بالحق، فيصبح الأمر غير واضح بها، ولا شك أنّ إزالة الشبهات وكشف الشبهات من أصول هذا الدين؛ لأن الله جل وعلا رد على المشركين في القرآن ودحض شبهاتِهم وأقوالَهم، قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ?[الشورى:16]، وكل من يجادل بالباطل له حجة وله علم لكن حجته داحضة، وكون الحجة تُدحض هذا أصل في إزالة الشبهة في الدين، فإزالة الشبه التي شبه بها أعداء الملة وأعداء الدين فرض من الفروض في هذه الشريعة وواجب من الواجبات، لا بد أن يوجد من يقوم به وإلا للتبس الباطل(17/26)
بالحق، وصار هذا يُشبه هذا وضل الناس .
وقد ذكر إمام هذه الدعوة في مسائل كتاب التوحيد حينما عرض لحديث إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن قاتل له «إِنّكَ تَأْتِي قَوْما مِنْ أَهْلِ كِتَابِ فليكن أول ما تدعوهم إليه شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وأنّ محمداً رسولُ اللّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ» الحديث، قال في المسائل ما حاصله: في هذا ردّ الشبه عن الدين؛ لأنه مهد له عليه الصلاة والسلام بقوله (إِنّكَ تَأْتِي قَوْما مِنْ أَهْلِ كِتَابِ)، وكونهم من أهل الكتاب هذا يعني أن يستعد لمناظرتهم وللحجاج معهم، ثم قال (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ)، فنَفْهَم من قوله (أَطَاعُوا لِذَلِكَ) أنه سيكون بينه وبينهم حجاج ونقاش وأخذ ورد ولإزالة الشبه التي قد تكون عندهم في رد التوحيد ورد رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، فقوله (فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ) فيه رد الشبه وأنها من وظائف العلماء الدعاة، ثم قال (فَأَعْلِمْهُمْ أَنّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ, فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ) وهذا كله دليل على ما ذكر.
المقصود أن إزالة الشبه عن الدين فرض من الفرائض قام به أهل العلم، وصُنِّفت فيه المصنفات في القرون التي شاع فيها التصنيف في القرن الثاني والثالث وما بعده إلى زماننا هذا.
وكشف الشبه يكون عن طريقين:
@ الطريق الأول: طريق عقلي.
@ والطريق الثاني: الطريق الشرعي السمعي.
أما الأول وهو الطريق العقلي: فهذا قد يكون بإيجاد البراهين العقلية البحتة التي تبطل شبه المشبهين، وقد يكون بإيجاد الأمثلة العُرفية التي تضعف حجة الخصم، وهذا وهذا موجود في القرآن.(17/27)
والقسم الثاني الأدلة أو الطريق الشرعي السمعي: بأن يكشف ما شبه به الخصوم بأن تُزال الشبه وتقام الحجة بالأدلة الشرعية، وفي الكتاب والسنة من إقامة الأدلة في مسائل العلم خاصة التوحيد ما يُغني عن غيرها؛ لكن طالب العلم قد يحتاج إلى بعض البراهين العقلية، لذلك جاءت في القرآن آيات كثيرة فيها إقامة البرهان العقلي في التوحيد كقوله جل وعلا ?لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا?[الأنبياء:22]، وكقوله جل وعلا ?قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا(42)سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا?[الإسراء:41-42]، فهذا من جعْل الحجة العقلية، وقوله جل وعلا (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) فيه دِلالة بينة أنّ وجود إله يعبد مع الله جل وعلا لو كان موجودا لفسدت السموات والأرض؛ لأنه لا بد أن يأتي هذا بما يريد وأن يأتي الآخر بما يريد، ومعنى ذلك أنه لن يكون هذا الملكوت على هذا الانتظام لا بد من المغالبة، ولهذا قال في آية الإسراء (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) لابد أن يكون ثم مغالبة حتى يستقيم الأمر فلو كان ثم معبود مع الله جل وعلا بحق لكان لا بد من المغالبة، وإذا انتفت المغالبة وكان هذا الكون والمكلوت يمشي على منوال واحد وبإرادة واحدة دلّ ذلك البرهان العقلي؛ البرهان المحسوس المضبوط على أن المعبود بحق واحد وهو الله جل جلاله.
قال الإمام رحمه الله تعالى في أول رسالته (بسم الله الرحمن الرحيم ) وتفسير البسملة وما فيها من العلم معروف يؤخذ من الشروح الكثيرة لكتب أهل العلم.(17/28)
قال بعدها (اعلم رحمك الله) هذه البداية تكثر في كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وفي كتب كثير من أهل العلم، فقد قال العلماء فيها من الفائدة أنّ هذا العلم أي علم الشريعة مبني على التراحم، فأعظم رحمة تسديها للناس أن تنشر بينهم العلم، فإذا علمتهم العلم فهي أعظم رحمة ترحمهم بها، ولهذا كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام مبعوثا رحمة للعالمين كما قال جل وعلا ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ?[الأنبياء:107]، والشريعة كلها عقيدة وأحكاما، خبرا وأمرا ونهيا رحمة، وبعثة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام رحمة، وكل تشريع رحمة، وكل إخبار اعتقاده رحمة بالعبد؛ لأنه إن لم يعتقد الخبر فإنه سيضل وذاك هلاك، وإنقاض الناس من الهلكة رحمة بهم، وإن لم يتبع الأمر والنهي ولم يفعل ما أمر به وينتهي ما نُهي عنه فإنه قد سعى في فساد نفسه وما لا يُحمد له وفي ظلم نفسه فتخليصه منه رحمة، فمبنى العلم على التراحم، المعلم ينشر العلم رحمة مع أمور أُخر، والمتعلم يتلقى العلم وهو مرحوم به أو وهو مرحوم بنشر هذا العلم، ولهذا قال العلماء إنّ الحديث الذي اختاره طائفة من أهل العلم ليكون الحديث المسلسل بالأولية هو حديث «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وهذا هو الحديث المعروف في رواية الحديث وعند المهتمين بالإسناد بالحديث المسلسل بالأولية؛ لأنّ الرواة فيه يقول كل واحد منهم: وهذا أول حديث سمعته. يعني من شيخه فالشيخ أول ما يقرئ الأحاديث هذا الحديث (الراحمون يرحمهم الرحمن) ذكر طائفة من أهل العلم منهم الذهبي وغيره أن سبب تسلسل هذا الحديث بالأولية أنّ هذا العلم علم الحديث وعلم السنة بل علم الشريعة جميعا مبناه على التراحم، فيعلم المعلم هذا الحديث أولا (الراحمون يرحمهم الرحمن) ويكون أول ما يسديه إلى التلميذ أن يعلمه الرحمة والتراحم؛ لأنه لا يكون العم إلا عند رحيم، أما(17/29)
من لم يكن رحيما بالخلق فلا يكون العلم مستقرا في قلبه، يكون أكثر استقرارا إذا كان أرحم بعباد الله جل وعلا، وكلما ازدادت الرحمة في قلبه كلما زاد العلم ثباتا في صدره لأن الرحمة مأمور بها (ارحموا من في الأرض)، والله جل وعلا ?وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا?[النساء:66]، ومن التّثبيت التثبيت في العلم، فهذا من رحمة الشيخ رحمه الله بالمسلمين حيث يدعو لهم بهذه الدعوة.
قال (اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله سبحانه بالعبادة) التوحيد مصدر وحّد يوحد توحيدا، وقد جاء في السنة لفظ التوحيد وقد جاء أيضا لفظ وحّد يوحد، فمادة هذه الكلمة جاءت في السنة، خلافا لمن زعم أن هذا اللفظ إنما اهتم به شيخ الإسلام ابن تيمية ومن تابعه، هذا غلط كبير؛ لأن هذا اللفظ قد جاء في السنة في أحاديث كثيرة، وقد جاء في مثل ما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب الحج أن النبي عليه الصلاة والسلام ”أهل بالتوحيد“ وثبت أيضا في مسلم وفي غيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسَةٍ. عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللهُ» وفي حديث جبريل أيضا المعروف قال عليه الصلاة والسلام «الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ»، في رواية «الإِسْلاَمُ أَنْ تُوَحّدَ اللهُ»، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يُهِلُّ بالتوحيد؛ يعني يقول لا إله إلا الله وكان يهل في الحج بالتوحيد؛ بمعنى يقول لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك. لأن نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله جل وعلا هو التوحيد.
المقصود أن هذه الكلمة (التوحيد) جاءت في السنة في أحاديث كثيرة وكذلك لفظ (وحَّد) فهي كلمة مستعملة ومشهورة ومن ألفاظ حديث معاذ المعروف «فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحِّدوا الله» والبخاري بوّب أو جعل من كتبه في صحيحه كتاب التوحيد.(17/30)
فالمقصود من هذا بيان أن هذه اللفظة كثيرة في السنة وهي وإنْ لم ترد في القرآن لكن جاءت في السنة وأهل العلم من أهل السنة اعتمدوها وذكروها وصنفوا فيها كتبا.([4]) فاهتمام الشيخ رحمه الله بهذه الكلمة هو اهتمام بأصل الدين وليست كلمة محدثة خلافا لمن زعم ذلك بجهله.
قال (التوحيد هو إفراده سبحانه بالعبادة)، (التوحيد) يعرف بعدة تعريفات أما من جهة اللغة فهو جعل الشيء واحدا، وحد توحيدا يعني جعله واحدا، فوحّد المتوجه إليه في العبادة توحيدا؛ يعني جعل المعبود بحق واحدا، و(التوحيد) عرّفه الشيخ رحمه الله هنا وهو (هو إفراده سبحانه بالعبادة) إفراد الله يعني أن يكون التوجه بالعبادة لله وحده هو فرض في ذلك فلا يجعل من دون الله إلها ولا يجعل مع الله جل وعلا إله.
قال (إفراده سبحانه بالعبادة) و(سبحان) تنزيه كما هو معلوم، (بالعبادة) هذه العبادة ما هي؟
العبادة في اللغة خضوع وتذلل معه حب عن طواعية ورغب ورهب وحسن ظن وما أشبه ذلك من أعمال القلوب، وأصلها الذل؛ ذلل الشيء يعني جعله متطامنا، جعله ذليلا، جعله غير وعر غير مستكبر، فيكون هذا في الناس، ويكون في الطريق ومنه سمي العبد الرقيق عبدا؛ لأنه جعل ذليلا غير متكبر متطامن لسيده، وقيل أيضا للطريق معبد لأنه ذُلل للسير كما قال طرفة
تُبارِي عِتاقاً ناجِياتٍ وأَتْبَعَتْ وَضيفًا وَضيفًا فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
وقوله أيضا في البعير
إلى أنْ تحامَتْني العَشيرةُ كُلُّها وأُفرِدْتُ إِفْرادَ البَعيرِ المُعَبَّدِ
إلى آخر شواهد هذه المادة.
أما العبادة في الشرع فالعلماء عرّفوها بعدة تعريفات نختار منها في هذا المقام ثلاثة:
¨ الأول: أن العبادة هي ما طُلب فعله في الشرع ورُتب الثواب على ذلك وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية لما تكلم عن الوضوء، فإذا كان الشيء طلب فعله في الشرع ولم يكن مطلوبا قبل ذلك ورتب على ذلك الفعل الثواب فهذا الفعل عبادة.(17/31)
¨ التعريف الثاني: أيضا كلي أيضا ذكره شيخ الإسلام في أول رسالة العبودية هي أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
¨ وعرفه أيضا طائفة من العلماء ومنهم الأصوليون بأن العبادة هي ما أمر به من غير اضطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي.
فنخلص من هذا إلى أن العبادة شيء جاء بالشرع لم يكن قبل ذلك، لم يكن قبل ذلك ليس من جهة الفعل والحصول، ولكن من جهة كونه مأمورا به لهؤلاء الناس المعينين، فجاء الشرع بالأمر بأشياء كانت موجودة عند العرب، ولكن كانوا يفعلونها من غير أمر خاص شرعي بذلك، وإنما ورثوها هكذا فلما أمر بها الشرع ورتب عليها الثواب كانت مما يحبه الله ويرضاه، وكانت مأمور بها من غير اقتضاء عقلي لها ولا اطّراد عرفي بها([5])، وإنما كانت باطّراد أمر الشارع بها، فخرجت عن كون مقتضى بها جاءت عرفا فقط.
لهذا الأقوال هذه الثلاثة لتعريف العبادة تلتقي ولا تختلف.
فإفراد الله سبحانه بالعبادة معناه أن يفرد الله سبحانه بكل ما أمر به الشرع؛ بكل ما أمر به الشرع من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فيدخل في ذلك أعمال القلوب مثل الإخلاص والرغب والرهب والخوف والتوكل والإنابة والمحبة والرجاء والاستعاذة؛ استعاذة القلب إلى آخره، ويدخل فيه أيضا الأفعال الظاهرة مثل الدعاء وأنواعه الاستعانة والاستغاثة والاستسقاء والاستعانة الظاهرة إلى غير ذلك، ويدخل فيها الذبح والنذر والصلاة والزكاة والدعاء والحج والعمرة والصلة؛ صلة الرحم وغير ذلك، فالعبادة اسم يعم هذا جميعا، فكما أنه لا يصلي المصلي إلا لله كذلك لا يستغيث إلا بالله فيما لا يقدر عليه المخلوق، وهكذا في مظاهرها كما أُوضح ذلك مفصلا في كتاب التوحيد وفي ثلاثة الأصول.
قال (وهو -يعني التوحيد- دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده)(17/32)
(هو دين الرسل) يعني جميعا فالرسل جميعا أرسلوا بالتوحيد وهو إفراد الله بالعبادة، فلم ترسل الرسل أصلا بالشرائع، لم ترسل الرسل أصلا ببيان ما يجب من الأعمال من الذي هو دون التوحيد، أو ما يحرم إنما أرسلت لتوحيد الله جل وعلا؛ لأن توحيد الله جل وعلا هو العلة المطلوبة من خلق الجن والإنس، كما قال جل وعلا ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذاريات:56]؛ يعني إلا ليوحدونِ، فالعلة المطلوبة من خلقهم أنهم يوحدون الله جل وعلا لهذا أرسلت الرسل بذلك.
هذا التوحيد مفطور عليه العباد للميثاق قال جل وعلا ?وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا?[الأعراف:172] وهذا الذي أخذ عليهم هو التوحيد وهو الفطرة، فؤخذ على الناس جميعا هذا الميثاق وهو توحيد الله جل وعلا، ولكن هذا الميثاق خرجوا عليه وهم في ظهور آبائهم أُخذ وعرفوا ذلك وشهدوا به، ثم خرجوا على هذا التوحيد خرجوا على الفطرة، خرجوا وهم يوحدون الله جل وعلا؛ لكن تجتالهم الشياطين عن دينهم كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته «كلّ مولودٍ يولَدُ على الفِطرةِ, فأبَواهُ يُهوّدانهِ أو يُنصّرانِه أو يُمجّسانِه, كما تجرجُ البهيمةُ جمعاء هل تحسون فيها من جَدْعاءَ»؟ يعني أن البهيمة تخرج سليمة، ثم بعد ذلك أهلها يقطعون شيئا من أذنها أو شيئا من بدنها إلى آخره، الكمال يخرج المولود عليه، من جهة التوحيد يعني على الفطرة، ثم تتغير هذه الفطرة، معلوم أن ذلك الميثاق الأول لا يُذكر، وأن دلائل إقامة الحجة بذلك الميثاق موجودة في الآفاق وفي الأنفس، والرسل جاءت لإقرار ذلك وجعل الناس يرجعون إلى هذا الأصل الذي ولدوا عليه وهو توحيد الله جل وعلا ثم إضافة بعض الشرائع التي تختلف من رسول إلى رسول.(17/33)
المقصود من ذلك أن دين الرسل جميعا هو التوحيد، والرسل جمع رسول وهو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه إلى قوم مخالفين له. أما إذا كانوا موافقين فيكون ذلك نبي من الأنبياء كأنبياء بني إسرائيل ونحو ذلك، فالرسل الذين بُعثوا إلى قوم مخالفين هم على التوحيد أمروا بالتوحيد ودعوا إليه قال جل وعلا ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، وفي سورة الأعراف في ذِكر نوح عليه السلام وذِكر هود وذِكر صالح وذِكر شعيب وذِكر موسى عليه السلام، كلهم يدعون إلى توحيد الله جل وعلا ?اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?([6]) إذا كان كذلك فإن الدعوة تكون إلى هذا الأصل،الدعوة تكون إلى توحيد الله لأن به صلاح القلوب وصلاح الأعمال.
قال (وهو دين الرسل الذين أرسلهم الله به إلى عباده)، (به) يعني بالتوحيد إلى عباده، فما هو دين الرسل الذي أجمعوا عليه، اتفقوا عليه كل واحد بعث به؟هو توحيد الله جل وعلا وهو إفراد الله سبحانه بالعبادة، لهذا نعلم أن كل من عبد غير الله جل وعلا فهو مخالف لكل رسول ومن عبد غير الله بأي نوع من أنواع العبادة فإنه لم يوحد إنه مشرك وإنه مكذب بجميع المرسلين، قال جل وعلا ?كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ?[الشعراء:105]، فمن لم يوحد الله جل وعلا فقد كذب بالمرسلين جميعا؛ لأن الرسل جميعا أمروا بالتوحيد، فإذا أشرك المشرك فلا يحتج يقول أنا على دين موسى أو على دين عيسى، نقول هو مكذب بجميع الرسل وخارج عن دين جميع الرسل.
قال (فأولهم نوح عليه السلام) نوح هو أول الرسل، وهو من أولي العزم من الرسل، وهو عليه السلام الذي جَعل الله جل وعلا ذريته هم الباقين في الأرض، أما آدم فإنه نبي مكلم وليس برسول، كما جاء في بعض الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام قال «آدم نبي مكلم».(17/34)
نوح عليه السلام بعث إلى قوم أشركوا بالله جل وعلا وشركهم كان في الصالحين.
قال (أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين) الغلو هو مجاوزة الحد، غلا في الشيء جاوز الحد فيه، وتأليه البشر مجاوزة للحد، وهؤلاء الصالحون أولهم ودّ، وودّ هذا من عباد الله الصالحين، وهو أول من أُشرك به على الأرض لما مات صوَّروا صورته كما يأتي في حديث ابن عباس، فقوم نوح هم تتابعوا من ذرية آدم وذرية آدم على التوحيد حتى أتى هؤلاء الصالحون ودّ وسواع ويغوث ونسرا كانوا قوما صالحين، فهنا شاع في الناس الرغبة في الدنيا والبعد عن تذكر الآخرة، فكانوا إذا أرادوا أن يتشجعوا في العبادة ذهبوا إلى هؤلاء؛ إلى قبورهم إلى ود وإلى سواع وإلى يغوث وإلى يعوق وإلى نسر، فنظروا في قبورهم وبكوا عندها، فتشجعوا في العبادة ورجعوا، فجاء الشيطان فتكلم عند قبرهم قال: ألا تصنعون أو ألا أصنع لكم صورة تتذكرون بها ودّا وتتذكرون بها سواعا. فصنع لهم صورة على هيئته، فجعلوها على قبورهم وثنا وصنما، ثم بعد ذلك يعني هم حينما جعل ذلك أولا ليس معبودا ولكن للتذكر ينظرونه فيتذكرونه وأعمارهم كانت طويلة، ثم بعد ذلك قال ألا تجعلون من كل واحد صورة في بيت كل واحد منكم حتى يتذكر، ثم نقلهم بعد ذلك إلى أن يصحبوه في السفر إلى آخره، شاع في ذلك لأجل التذكر لأجل الحث على العبادة، ولم يكن أول ذلك الجيل لم يكن مشركا، فيما بعدهم ذهب ذلك العلم، وقالوا ما اتخذ آباؤنا هذه الصور إلا لأنها آلهة إلا لأنها معظمة، فتوجهوا إليها بطلب التوسط، قالوا هؤلاء لهم مكانة عند الله؛ لأنهم صالحون، فنتوسط بهم فيما نريد فصار شرك قوم نوح من جهة التوسط بالأرواح؛ أرواح صالحي بني آدم.(17/35)
ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ذكرهم الله جل وعلا في القرآن في سورة نوح حيث قال جل وعلا ?وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا(23)وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا?[نوح:23-24]، قال العلماء (وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ) فيها أن ودّ هو الأول، وسواع هو الثاني، ويغوث هو الثالث، وفيها أيضا تنبيه على أن هذه الآلهة متفاضلة عندهم؛ بأنه أتى في الثالث الأول بحرف (لَا) وفي الآخرة بلا حرف (لَا) فقال (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) فلم يأتِ بحرف (لَا) لأجل أن يفاضلوا بين أولئك وبين هذه، فهذه الآلهة كانت متفاضلة عندهم، وهذا التفاضل عندهم الذي يُشعر به اللفظ كما ذكره طائفة من المفسرين، هذا التفاضل إنما بتفاضل مصلحتهم من هذه الآلهة، والتوجه بها، وهذا هو الموجود بهذا الزمن وفي زمن الشيخ وفي زمن انتشار الشركيات، فإنّ عباد القبور عباد الأولياء أولئك ليسوا متساوين فبعضهم أقطاب وبعضهم أوتاد وبعضهم غوث وهكذا، فإذن التفاضل من جهة الروحانيات من جهة التوسط كان موجودا في زمن نوح عليه السلام، فصرنا على أنّ ما كان فير زمن نوح عليه السلام أنّ هؤلاء صالحون، وأنهم لم يعبدوا باتخاذ قبورهم أوثانا من أول الأمر، وإنما عبدوا بعد زمن، لما نُسي أول الأمر من اتخاذ صورهم للتنشيط في العبادة وعُبد بعد ذلك، ففيه أن الشيطان أتاهم بأن لا تسد الذرائع في هذا الباب، فجاء الأمر شيئا فشيئا حتى عبدوا تلك الآلهة، وفيه أن هؤلاء متفاضلون في الصلاح عندهم، وفيما ذكرنا أيضا أن تفاضلهم إنما هو من جهة أثر توسطهم بهذه الآلهة على ما يريدون من إنجاح حوائجهم، ولهذا ذكر البخاري في كتاب التفسير في تفسير صورة نوح قال باب ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وذكر الحديث المعروف حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن(17/36)
عباس أنه قال في هذه الآية: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح. وهذا القدر -وهو أنهم أسماء رجال صالحين- هو الذي يعرض فيه كثير من المعارضين اليوم، ويقولون إن هذه الأسماء أن تعدّ أسماء رجال صالحين لم تأتِ إلا في هذا الحديث عن ابن عباس.
وهذا الحديث رواه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، وابن جريج له تفسير معروف، وفي تفسيره ذكر التصريح بأن عطاء هذا هو عطاء الخُرساني، كذلك ذكره عبد الرزاق في تفسيره وهو مطبوع؛ طبع مؤخرا، قال: عن ابن جريج عن عطاء الخرساني عن ابن عباس. والعلماء يقولون -علماء الجرح والتعديل-: إن عطاء الخُرساني لم يسمع عن ابن عباس. لهذا قال أولئك هذه الرواية ضعيفة وليست بصحيحة وإن رواها البخاري؟(17/37)
والجواب عن ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما حينما ذكر أنها أسماء رجال صالحين جعلها البخاري رحمه الله تعالى -يعني جعل تلك الرواية- جعل البخاري رحمه الله تعالى تلك الرواية أصل في تفسير الآية، ورواها بإسناده المتصل لابن عباس، وكون عطاء أتى عند البخاري بلا نسبة، لا يعني أنه عند البخاري عطاء الخُرساني، ودلّلوا على ذلك بأن التفريق في روايات ابن جريج عن عطاء بأن منها عن عطاء الخرساني خاصة بالتفسير إنما هو عن علي بن المديني، وعلي بن المديني معروف بأنه إمام في العلل وله كتاب في العلل وكتبه مشهورة في ذلك والبخاري رحمه الله تلميذه، فلا يخفى عليه تعليل علي ابن المديني لهذه الرواية -أنا أُفَصِّل هذا لأن الدعاة إلى عبادة القبور أو إلى أن التوسط بالصالحين ليس هو شرك المشركين؛ الدعاة قالوا عمدتكم في ذلك هو رواية ابن عباس، ورواية ابن عباس ضعيفة، ولو رواها البخاري في صحيحه، فهذا رد لهذه الشبهة- نقول: البخاري قال عن ابن جريج قال: قال عطاء عن ابن عباس. ومن المتقرر في علم الرجال أن ابن جريج إذا قال: قال عطاء. وهو يعني ابن جريج ممن عرف بالتدليس، فإن قوله قال عطاء محمول على السماع وسماعه إنما هو من عطاء بن أبي رباح وليس من عطاء الخرساني، فنستدل بذلك على أن هذه الرواية عند البخاري إنما هي عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، وإسنادها متصل في غاية الصحة، وابن حجر رحمه الله حينما عرض لهذه المسألة قال وهي عندي -يعني هذه المسألة- عن عطاء الخرساني وعن عطاء ابن أبي رباح جميعا؛ لأن البخاري رحمه الله مشترط في صحيحه أن لا يروي الحديث إلا إذا كان متصلا، وهو لا يخفى عليه أن ابن جريج يروي عن عطاء الخرساني بانقطاع، وأن عطاء الخرساني راويته عن ابن عباس [منقطعة] لا يخفى عنه ذلك؛ لأنه من مشاهير العلم، ولأنه لم يروِ بهذه الترجمة مما يظن أنه عن عطاء الخرساني لم يروِ إلا حديثين، فهو رواها مسندة متصلة، فمن(17/38)
نازع في صحتها ينازع البخاري رحمه الله في تصحيحه له هذا واحد.
الثاني أن عطاء في الرواية هو عطاء ابن أبي رباح ولو كان روي في تفسير عبد الرزاق وتفسير ابن جريج التصريح بأنه عطاء الخرساني فإنّ ابن جريج قد يسمع من هذا وهذا، يعني قد يأخذ من هذا وهذا؛ قد يأخذ من عطاء بن أبي رباح، وقد يأخذ بواسطة عن عطاء الخرساني فهذا محتمل, وتغليط البخاري رحمه الله في تصحيحه للحديث هذا غير وارد.
الثالث أن الذين ذكروا هذه العلة ليسوا من المتقدمين من حفاظ الأحاديث، وإنما هم من المتأخرين، والمتقدمون من أهل الحديث أدرى بالبيت؛ لأن فهمهم بالعلل أعظم من فهم من بعدهم.
فنخلص من ذلك إلى أن رواية ابن عباس هذه هي الأصل في هذا الباب، وأنّ ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أنها أسماء رجال صالحين صارت في العرب، وأن أولئك لم يعبدوها أول الأمر وإنما آتاهم الشيطان فمثّل لهم -كما ذكرتُ لكم- مثّل لهم صورا فلما تمسخ العلم وفي رواية فلما نسي العلم عبدت يعني لما نسي التوحيد وتمسخ العلم ورثها أناس لم يعرفوا حقيقة الأمر فعبدت، يدل على ذلك أن ودّا وسواع ويغوث ويعوق ونسرا هذه صارت في العرب معروفة وأبيات الشعر التي حفظت في ذلك عن العرب في ذكر هذه الأصنام مشهورة، الله جل وعلا ذكرها عن قوم نوح وهي موجودة العرب بهذه الأسماء والأشعار بها محفوظة، ويؤيد ذلك أيضا أنها في العرب أن العرب فيهم التعبيد لهذه الآلهة، فيهم من اسمه عبد ودّ، وفيهم من اسمه عبد يغوث، وفيهم من اسمه عبد نسر وهكذا، فالتعبيد لها يدل على أنها موجودة في العرب، وهي موجودة في قوم نوح بنص القرآن، فلما كان كذلك صارت هذه الرواية متفقة مع ظاهر القرآن، ومتفقة مع واقع العرب المعروف الذي حفظ، فمن طعن فيها فإنما هو من جهة عدم استيعابه للمسألة.(17/39)
قال (وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - ) ذكرتُ لكم أن عبادة أولئك كانت من جهة الأرواح، وكل شرك في العالم كان راجعا إلى أحد نوعين لا ثالث لهما: الشرك بالله:
الأول: راجع أرواح الناس؛ أرواح الصالحين.
والثاني: راجع إلى أرواح الكواكب.
فالشرك بأرواح الصالحين كان في قوم نوح.
والشرك بأرواح الكواكب كان في قوم إبراهيم، وهل الكوكب له روح؟ الجواب: لا، ولكن جعلوا لكل كوكب صورة وصنما صوروا فيه الكوكب فلما كان كذلك، زعموا أن روحانية الكوكب وروح الكوكب تحل فيه فتتقبل مما يأتي لها ويطلب فترفع الحوائج إلى الكوكب، وعند هؤلاء الصابئة أن الكواكب تُسَيَّر العالم، وأن كل كوكب له أثر في العالم والصابئة الذين هم قوم إبراهيم كان شركهم من جهة الكواكب كما هو معروف، قال جل وعلا ?وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا?[الأنعام:65-66] الآيات، فشركهم كان من جهة الكواكب، لم أشركوا بالكواكب؟ لأنهم لما وضعوا الأوثان لهذه الكواكب جاءت الشياطين فتكلمت عند صورة الوثن عند الوثن عند الصنم، فلما تكلمت طلبوا منها أشياء فتحقق لهم ذلك، فظنوا أن الكواكب مسيرة لأحداث هذا العالم.
فإذن نخلص من ذلك إلى أن الشرك وقع من جهة الشياطين في الجهتين:
¨ شياطين تكلّمت بلسان الصالحين، تكلمت على أنها روح الصالح، فطُلب منها وأجابت وعملت أشياء.
¨ وشياطين تكلمت على لسان كما يزعم أصحابه لسان الكوكب.
وكل شرك متفرع على أحد هذين النوعين؛ إما شرك بالعلويات أو شرك بالسفليات.
حقيقة الأمر أن الشياطين حينما تقول ذلك هي عبادة الجن، حينما يُطلب منها فإن المعبود هو الجني وليس هو الإنسي.(17/40)
قال (وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين)، (وهو الذي كسر) بنفسه أو بمن أَرسل، محمد عليه الصلاة والسلام لما دخل مكة عام الفتح دخل وكان حول الفتح أصنام كثيرة فجعل يمكُتُهم بعصاه عليه الصلاة والسلام ويقول ?جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا?[الإسراء:81] وكان من الأصنام إساف ونائلة، صنم إساف ونائلة وكانت موجودة بجنب الكعبة، ومنها هبل وكان هبل من الأصنام التي في داخل الكعبة؛ لأن الكعبة كانت بداخلها صور وأصنام، وكان أيضا بقربها يعني على حافة الكعبة كانت ثَم أصنام وهناك أيضا أصنام بعيدة حول المطاف، فالنبي عليه الصلاة والسلام كسر هذه جميعا.
من العجائب في ذلك أن المؤرخين اتفقوا على أن إساف ونائلة؛ إساف رجل ونائلة امرأة، وأن إساف كان يتعشق نائلة وأنهما قدما حاجين وأنه لم يتمكن منها إلا في غفلة من الناس أتاها في الكعبة -والعياذ بالله-، قال المؤرخون فمسخا حجرين في داخل الكعبة فلما نظر الناس إليهما عرفوا أن هذه صورة إساف وصوره نائلة في الكعبة، فعلم أنهما أحدثا حدثا فأخرج الناس الحجرين إلى خارج الكعبة ليعتبر الناس بحال من عصى في الحرم، يكون ذلك أبلغ في إبعاده، أتى الزمان حتى عبد إساف وعبدت نائلة، هبل كان في داخل الكعبة وكان هو أعظم الأصنام والصور التي في داخلها وهكذا.
أما ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر فهذه لم تكن من الأصنام التي حول الكعبة وكانت متفرقة في العرب فقوله (وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين) يعني بمن أرسل، فإنه لما انتشر الإسلام فكل قوم فيهم هذا الوثن أو هذا الصنم كسره أصحابه بأمر النبي عليه الصلاة والسلام، وقولنا بأمر النبي ليس أمرا خاصا بهذا الصنم ولكن أمرا عاما بكسر الأصنام والأوثان.
ومن أصنامهم اللات والعزى ومناة كما هو معروف.(17/41)
تعبير الشيخ بقوله (صور هؤلاء الصالحين) هذا مقصود؛ لأن أولئك جعلوا الصورة، وهل جعلهم الصورة لقصدها أم لأجل أنها توصل إلى صاحبها؟ معلوم أنّ المشركين ليسوا قاصدين للصور من حيث هي، بل يقصد الصنم من حيث هو، وإنما عندهم الصنم وسيلة إلى روح صاحبه، الوثن وسيلة إلى ما يحل بالبقعة أو يحل بالشيء من أرواح.
فإذن هم قصدهم الأرواح التي تصعد إلى الملأ الأعلى فتوصل طلباتهم وتوصل حوائجهم وما يريدون إلى الله جل وعلا، فيستجيب الله جل وعلا بهذه الوساطة، هذه خلاصة شرك المشركين.
وأولئك الذين أشركوا هذا الشرك لم يكونوا بعيدين عن التعبد، بل كما ذكر الشيخ رحمه الله هنا قال (أرسله الله إلى أناس يتعبدون) نعم كان أهل الجاهلية كانوا يتعبدون، كان منهم أهل الصيام، كان منهم أهل الصلاة، ومنهم أهل الدعاء، ومنهم أهل الحج، منهم أهل الزكاة، منهم أهل الصدقة، منهم أهل الصلة، منهم أهل الذبح، ومنهم أهل التقرب إلى الله بالطواف والتحنث والاعتكاف إلى آخره والطهارة الكبرى وما أشبه ذلك، فأولئك لم يكونوا يقرّون بأن الله جل وعلا هو الخالق وحده وأفراد الربوبية فحسب، بل كانوا مع ذلك يتعبدون لهم صلاة ولهم زكاة ولهم حج ولهم صيام، وهذا ذكره الشيخ بعد ذلك بقوله ويحجون ويتصدقون.(17/42)
أما الطهارة فقد ذكر من صنف في أديان العرب أنّ العرب كانت عندهم طهارة من الحدث، فكانوا يتطهرون من الجنابة، وإذا أجنب المرء بمعنى أنزل الماء، فإنه يبعد عن مواقع العبادة ولهذا سموه جنبا، سموه جنبا أي بعيدا ?وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ?[النساء:36] يعني البعيد، فسموا من أخرج الماء يعني من أنزل، سموه جنبا لأنهم كانوا يأمرون بالابتعاد عن الكعبة، بالابتعاد عن مواطن العبادة حتى يتطهر، وتطهره من الجنابة شائع معروف، أما التطهر من الحدث الأصغر فهذا إنما عند طائفة قليلة منهم، حتى النساء كن يغتسلن من الحيض، وهذا معروف عنهم في عدة أحوال وعدة أبيات، ومنها قصة امرأة كانت مع زوجها في سفر وكان معهما ماء قليل، فلما كانت في السفر انقطع عنها الحيض فأرادت أن تغتسل، فأخذت الماء فاغتسلت به وكان قليلا فلم يبلغ أن يعممها وبقيا عطاشا ليس معهما ماء، قيل إنهما هلك في ذلك، فضرب بهما مثل في هذا، وقد قال في ذلك الفرزدق في بعض أبيان نسبت إليه، قال وكنت –يذم رجلا:
وكنت كذات الحيض لم تُبقِ ماءها ولا هي من ماء العذابة طائل
فكان العرب يعتنون بمسألة الطهارة؛ طهارة الجنب وطهارة الحائض، فهذا النوع تعبد منهم بذلك، كذلك الصيام، كان منهم من يصوم وصيامهم مختلف منهم من يصوم يوما، كما كان أهل الجاهلية يصومون عاشوراء، كما جاء في الصحيح «إن عاشوراء يوم كانت تصومه العرب في الجاهلية» وكان لهم صيام من الفجر إلى غروب الشمس، أو من طلوع الشمس إلى غروبها، ومنهم من كان يصوم أكثر من ذلك.
هذه كلها ميراث مما ورثوه من الأديان الصحيحة قبلهم.
وكان منهم أيضا من يصلي وصلاته تكون بركوع وذكر ودعاء ويسمونها صلاة، معروفة عندهم في ذلك، لكن هذه الهيئة والسجود لم يكن عندهم في ذلك.(17/43)
كذلك كانوا يعتكفون تعبدا، ومنهم حديث عمر المعروف: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام «أوفِ بنذرك».
وكان طائفة منهم يتحنثون ويتخلَّون في الخلاء يتأملون ويذكرون الله جل وعلا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد والتحنث يعني العزلة عن الناس والتعبد بذلك والخلوة كانت معروفة عندهم.
وكذلك الصدقة مثل ما ذكر الشيخ هنا (ويتصدقون) كان فيهم الصدقة كثيرا كما قالت خديجة لما جاءها النبي عليه الصلاة والسلام وقد فاجأه الوحي بحراء فقالت له بعدما قصّ عليها ما حصل قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتُقري الضيف وتعين الملهوف وتعين على نوائب الحق. أو كما جاء في كلامها، فكانت الصلة والصدقة وتسمى عندهم أيضا زكاة كانت موجودة كثيرا.
وكذلك ذكر الله جل وعلا أيضا كانوا أهل ذكر لله جل وعلا، يذكرون بأنواع من الذكر هذه محفوظة في أشعارهم، ومحفوظة في كتبهم؛ يعني في الكتب التي ذكرت ذلك.
واستقصاء ذلك يصعب في مثل هذا الشرح؛ لكن نذكر لك بعض الكتب التي ذكرت منها كتاب بلوغ الأرب للألوسي، ومنها كتاب أديان العرب لعلي الجارم، ومنها تاريخ العرب المفصل قبل الإسلام وغير هذا من الكتب التي شرحت ديانات العرب تطهرها وصلاتها وزكاتها وحجها.
أما الحج والعمرة فهذا معروف مشهور حجهم للبيت تعظيمهم إياه وعمرتهم إليه.(17/44)
المقصود من هذا أن العرب لم تكن بعيدة عن العبادة، يتعبدون بأشياء ورثوها من دين إبراهيم عليه السلام، ومن بعض الأشياء من دين موسى عليه السلام، إذن هم مقرون بالربوبية لله جل وعلا وأن الله هو الخالق وهو الرازق وهو الرّزّاق وحده، وهو الذي يحيي وهو الذي يميت ويقولون ”ما شاء الله“ ويؤمنون بالله ولكن مع ذلك لم يكونوا مسلمين، بل بعث الله إليهم محمد بن عبد الله يدعوهم إلى أن يوحدوا الله، كيف يكون الحال إذن؟ الحال أننا لا بد أن ننظر فيما كان أولئك على الشرك؟ بما كان أولئك مشركين؟ موحدون في الربوبية؛ الله الخالق وهو الرزاق وهو الذي يحيي ويميت ونحو ذلك، فهل هذا جعلهم مسلمين؟ كذلك عندهم صدقات ودعاء وذكر لله، فهل هذا جعلهم مسلمين؟ إنما الذي جعلهم مشركون أنهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، لم يفردوا الله بالعبادة، يتقربون إلى تلك الأوثان وتلك الأوثان منها صور الصالحين فحصل من هذا برهان عظيم ومقدمة([7]) مهمة لهذا الكتاب، وهي أن المشرك الذي كان في زمن النبوة لم يكن بعيدا من التعبد تماما؛ بل كان يتعبد، كان عنده نوع تعبد، نوع صلاح، من جهة أنه في الناس صاحب خير وصاحب صدقة، صاحب ذكر إلى آخره؛ لكنه صار مشركا لأنه عبد مع الله جل وعلا غيره، فإذا كان الأمر كذلك كان قتال النبي عليه الصلاة والسلام لأولئك وكان تكفيرهم لأجل أنهم أشركوا تلك الآلهة الباطلة مع الله جل جلاله فعبدوا الله وعبدوها.(17/45)
إذا وصلنا إلى هذه، جاء السؤال المهم وهو كيف عبدوا تلك الآلهة؟ هل ادعوا في اللاّت وفي العُّزى ومناة وهبل وودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسرا وإساف ونائلة، هل ادعوا أنها تخلق ؟ فالجواب لا، هل ادعى أنه ترزق استقلالا؟ الجواب:لا، قال جل وعلا?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31] بلا جدال، يقولون الذي يرزق ويحيي ويميت هو الله، فإذن حين يسألون تلك الآلهة الباطلة الرّزق، حين يسألونها أن ترزقهم هل يعتقدون فيهم أنها تملك الرِّزق استقلالا؟ الجواب: لا؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا بأنهم لو سئلوا من يرزقكم من السماء والأرض لقالوا الله يرزقنا، فإذن لم صاروا مشركين؟ لأنهم جعلوا تلك الآلهة وسائط في طلب الرزق، شفعاء في طلب الرزق ولهذا قال الشيخ رحمه الله بعدها (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله) هذه الوساطة لها جهات:
الجهة الأولى جهة التوجه يعني نوع التقرب لها بالعبادة.
والجهة الثانية مكانتها عند الله حتى ترفع الحاجات.
سيأتي تفصيلها في الكتاب بعد ذلك.
قال (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات) ما هذا البعض؟ سيأتي تفصيله إن شاء الله.(17/46)
(وسائط بينهم وبين الله) لفظ الوساطة هذا دقيق من الشيخ رحمه الله، وهو الموافق لما جاء في القرآن في أول سورة الزمر حيث قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، قال العلماء قوله (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا) هذا حصر قلب إضافي -معلوم في علم المعاني في علم البلاغة- يعني ما نعبدهم لعلة من العلل أبدا فيهم وأنهم متصفون بأشياء من صفات الإله أبدا، لكن نعبدهم ليقربونا إلى زلفى فقط، وهذا يستفاد من قوله (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) فهو حصر قلب إضافي؛ يعني ما نعبدهم لعلة من العلل إلا لأجل التقريب، فليس لهم شيء وليس من صفاتهم أنهم يرزقون وأنهم يحيون أو أنهم يميتون أو أنهم يفيضون الخير، وإنما لأجل التقرب، وهذا هو معنى اتخاذ أولئك شفعاء عند الله جل وعلا.(17/47)
فإذن حصرت المسألة في أن اعتقاد المشركين في أوثانهم وفي أصنافهم وفي أصنامهم من جهة الأرواح الشيطانية، ومن جهة التوجه لها لأجل أن ترفع الحاجات إلى الله جل وعلا، فما كانوا يطلبون منها استقلالا، فالتشفع كان هو ديدنهم، فطلب الشفاعة كان هو ديدنهم كان هو بغيتهم، كان كل واحد عنده في بيته وثن أو صنم يزعم أنه إذا توجه له بالعبادة حلّ روح صاحب هذه الصورة فيها فقَبل الطلب ورفعه إلى مكانه في الملأ الأعلى، يعني أن فائدة الصورة، وجود الصورة في البيت أنها تحل فيها الروح روح صاحب هذه الصورة فتقبل الطلب، وليست هي عندهم أصنام محضة؛ لأنهم أعقل من أن يعبدوا حجرا محضا؛ لكن هم عبدوا حجرا معه الروح فصار أيضا ذلك قدح، صار ذلك أيضا قدح في عقلهم من جهة أنهم توجهوا إلى خشب أو إلى تمر أو إلى حجر، إلى آخره زعما بأنّ الروح تحل فيهم فهو قدح في عقلهم لكن أخص من أن يعتقدوا في صنم مجرد يعني في حجر مجرد ليس فيه حلول الروح لتُناجَى ويطلب منها التوسط، فإذن قول الإمام رحمه الله هنا (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله) هذا هو حقيقة الوصف.(17/48)
قال (يقولون نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده) ماذا يريدون؟ التقرب إلى الله، ليسوا ملاحدة، إنما في ألسنتهم ذكر الله جل وعلا، وعندهم صدقة وتعبد، لكن يريدون بذلك التقرب إلى الله، من هذا تعلم جهل طائفة ممن ظنّ أن تعبد المتعبد وصلاته وصيامه وزكاته يمنع من الحكم عليه بالشرك؛ لأنّ أولئك كانوا على دين إبراهيم، يعني لأن المشركين في زمن النبي عليه الصلاة والسلام كانوا على دين إبراهيم، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «إنما بعثت لأتمم محاسن الأخلاق» هم كانوا على خلق، كانوا على حسن في التعامل وكانوا وكانوا، ولكن لم يكونوا موحدين، فإذن العبرة كل العبرة في التوحيد، وليست في أنهم يحجون أو لا يحجون، يعتمرون أو لا يعتمرون، يتصدقون أو لا يتصدقون، في ألسنتهم ذكر الله أو ليس في ألسنتهم ذكر الله، ليس هذا هو البرهان، لهذا في بعض هذا الزمن تجد أنه لما فشى الجهل بالتوحيد، تجد أن كثيرين إذا وجدوا ومن يتكلم وفي لسانه ذكر الله جل وعلا، أو أنه يقول الحمد لله أو يقول الله أكبر أو يقول ما شاء الله، أو يذكر الله بلسانه أو يتصدق أو يحضر المسجد أو يقرأ القرآن يزعمون أنه مسلم ولو عبد غير الله جل وعلا، وهذا ليس هو المقصود، وإنما هذه الشرائع جاءت بعد التوحيد، فإذا كان التوحيد لم يقم في قلب صاحبه، فلا تقبل هذه الشرائع.
قال (يقولون نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده) وهذه سيأتي بسط الكلام عليها في أثناء الرسالة في مسألة الشفاعة.
قال (مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين) هذا نرجئه إلى الدرس القادم.(17/49)
أنا أريد من هذه الجملة التي مرّت معنا التأصيلية المهمة أن يتوسّع طالب العلم في معرفة أديان العرب في الجاهلية،كيف كانت؟ لأن هذا من العلم المهم الذي به يتضح قيمة التوحيد، تنظر في تفاسير المفسرين حين يتكلمون عن أحوال العرب وشرك المشركين ونحو ذلك، يتعرضون لأحوال العرب، كذلك في الكتب التي ذكرنا، في كتب الحديث إذا مرت مثل الأحوال التي ذكرنا، منهم من يصلي، ومنهم من يتصدق، أظن في حديث أيضا الذي رواه مسلم أظنه عن أبي ذر أنه كان في الجاهلية قبل أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام هكذا لفظه ”كنتُ أصلي ثلاث سنين قبل بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -“ فهذه المسائل تقعيدية حتى إذا جاءت شبه المشبهة فيما سيأتي يكون عند طالب العلم فرقان، يكون عنده فرقان بيّن بما تميزت به بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ودينُه عن دين المشركين الذين بعث إليهم وقاتلهم وكفَّرهم ولم يقبل منهم صرفا ولا عدلا، فتوسَّع في ذلك وانظر فيه فإنه تقعيد تنتفع به في رد كثير من الشبه التي يشبه بها أعداء التوحيد.
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????
[المتن]
يقولون نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة، وعيسى ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين فبعث الله محمد - صلى الله عليه وسلم - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لغير الله لا لملَك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات ومن فيهن والأراضين ومن فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره .
[الشرح](17/50)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا، وقلبا خاشعا، ودعاء مسموعا، اللهم لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين، اللهم وفقنا إلى ما وفقت به عبادك الصالحين، أما بعد:
فهذه صلة لما تقدم من الكلام على أول هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات، وقد ذكرنا فيما مضى في بيان كلام المصنف رحمه الله أن مشركي العرب كانوا يتعبدون بأنواع من العبادات، كانوا يتصدقون في أنواع من الصدقات العظيمة في الحج وفي غيره، وكانوا أيضا يغتسلون من الجنابة، وكانت المرأة أيضا تتطهر من الحيض، وكانوا يصلون بعض الصلوات على طريقة ما، وكانوا يدعون الله جل وعلا في الضراء وأحيانا في السراء، وكان لهم أنواع من العبادات، ولم يكونوا غير متعبدين أصلا بل كان لهم عبادة وتقرب على الله جل وعلا، ولكنهم أشركوا بالله جل وعلا وعبدوا مع الله جل وعلا غيره؛ اتخذوا آلهة من دون الله جل وعلا أو معه، فتوجهوا إليهم ببعض أنواع العبادة، فاتخذوا اللاتّ وهو رجل صالح كان يلتّ السويق فمات وهو يوزعه على الحاج، فرأوا من صلاحه، فمات فعكفوا على قبره، أو أنها صخرة كان يتعبد عندها ذلك الرجل، فرأوا أن ذلك المكان مبارك فتعبدوا عندها وعظموها وتبركوا بها، وكذلك العزى ومناة وكذلك الأصنام الأخر والأوثان ودّ وسواع ويغوث وبعوق ونسر إلى آخر ما يتصل بعبادات المشركين وتوجهاتهم إلى الآلهة المختلفة.(17/51)
قرر الشيخ رحمه الله فيما سبق أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وأنّ أول الرسل هو نوح عليه الصلاة والسلام وأن آخر الرسل هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء مع بقية الرسل جاءوا بالتوحيد يأمرون الناس بعبادة الله وحده ويبطلون التعلق بالعبادة بغير الله جل وعلا.
بعدما ذكر ذلك ذكر حقيقة شرك المشركين، فقال (ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون نريد منهم التقرب إلى الله ونريد شفاعتهم عنده) وهذا سبق بيان صفاته وأن شرك المشركين كان على نوعين:
¨ إما شرك بأرواح الكواكب على حد زعمهم.
¨ وإما شرك بالأصنام التي تحل فيها أرواح الصالحين بحسب زعمهم، أو الأوثان كالقبور ونحوها بحسب زعمهم أنها تتصل أرواحهم بأرواح الموتى فينفعون أو يضرون.
مثل للمعبودين بقوله (مثل الملائكة، وعيسى، ومريم):(17/52)
أما الملائكة: فإن طائفة من العرب وغير العرب كانت تعتقد في الملائكة أنها بنات الله جل جلاله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، ويقولون إن أرواح الملائكة منتشرة فإذا طلب من الملائكة أجابت، والملائكة عندهم لم يكن لها أوثان وأصنام كما جعلوا للكواكب، أو كما جعلوا للموتى أو للصالحين، وإنما أرواح الملائكة عندهم منتشرة، والاتصال بهذه الأرواح يكون بندائها وبعبادتها إذا احتاجت، فتجيبهم الجن إذا نادوا الملائكة، وتغيثهم الجن فيما أقدرهم الله عليه وظنوا أن ذلك من جهة الملائكة، قال جل جلاله ?وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41]، فكانت حقيقة عبادة الملائكة هي عبادة الجن؛ لأنهم ظنوا ذلك ظنا، قال جل وعلا ?وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ?[الصافات:158]، وفي قوله هنا (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) وجهان من التأويل:
¨ إما أن يكون الجنة هنا الملائكة، والنسب كون الملائكة بنات الله جل جلاله، وسميت الملائكة جِنَّة لما في صفتهم من الإجتنان وهو الاستتار.
¨ والوجه الثاني أن يكون الجنة هنا هم الجن كما قال ?مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ?([8]) يعني الجن، والجن يقال لهم جِنّة لأنهم مستترون، فيكون حقيقة قول المشركين أنهم جعلوا بين الله جل جلاله وبين الجن نسبا لأنهم جعلوا بين الله وبين الملائكة نسبا.(17/53)
وفي الحقيقة إنما أوقعهم في ذلك الجن، كما قال جل وعلا ?بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41]، فدل ذلك على أن عبادة الملائكة كانت موجودة وأن اعتقادهم في الملائكة لأجل أن الملائكة أرواح ظاهرة فاستغاثوا بها وطلبوا منها فأغاثتهم الجن فعظم تعلقهم بالملائكة وعظم تصحيح اعتقادهم في الملائكة أنها بنات الله جل جلاله.
المقصود من ذلك أن تعلمَ أن سبب الشرك؛ شرك المشركين بالملائكة هو التعلق بالأرواح الطاهرة، الملائكة أرواح طاهرة بالاتفاق، وذلك عند الأمم جميعا، فجعلوا تلك الأرواح الطاهرة وسيلتهم إلى الله جل جلاله والله جل وعلا بين أن حقيقة عبادة الملائكة إنما هي عبادة للجن لأنهم لما تعلقوا بالملائكة واستغاثوا بها ليست للملائكة في الحقيقة وإنما هي للجن؛ لأن الجن هي التي أضلتهم بذلك كما ذكر في سورة سبإ في الآية التي ذكرتها لكم قوله جل وعلا ?وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ?[سبإ:40-41], يعني ننزهك عن جميع ما لا يليق بجلالك وعظمتك، ننزهك عن أن نعبد معك ونعظمك جل وعلا بما أنت أهله ?أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ?[سبإ:41] تبرؤوا من أولئك ثم قالت الملائكة ?بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ?[سبإ:41] (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ) هذه هي الحقيقة، وإذا نظرت في حال الذين تعلقوا بالصالحين أو تعلقوا بالموتى، فإنهم لهم شبه من جنس شبه المشركين في عبادتهم للملائكة وعبادتهم للاتّ أو لودّ وسواع إلى آخر أوثانهم، وذلك أنهم يخاطبون ذلك الميت فإذا خاطبوه ظهر لهم إما في سورة أو سمعوا صوته الذي يعلمونه، فإذا سمعوا صوته ظنوا أن هذا هو غوث ذلك الآدمي، أو ظنوا أن المخاطِب لهم الملائكة، أو المجيب لهم الملائكة، فعظم تعلقهم بتلك الأرواح، وفي الحقيقة إنما كان ذلك من جهة الجن؛ لأنّ(17/54)
شياطين الجن تعهد أبوهم إبليس بأن يُضِلَّ ذرية آدم إلا القليل، قال جل وعلا مخبرا عن قول إبليس ?لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ?[الإسراء:62]، وقال جل وعلا ?إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ?([9]) فاستثنى أهل الإخلاص الذين خَلَصوا من الشرك، فأخلصوا عملهم لله جل وعلا.
فإذن حقيقة الشرك متماثلة، ليس ثَم فرق بين الشرك في الملائكة والشرك بالأموات والشرك بروحانية الكواكب، الحقيقة واحدة وهي أنه تعلقٌ من بني آدم بأرواح غائبة، وهذه الأرواح الغائبة عظُمت الشبهة بها لمَّا كلمتهم، والشياطين؛ الجن لهم القدرة على التكليم، وعلى أن يتشبهوا بصورة ابن آدم، كما جاء إبليس للمشركين في سورة رجل نجدي، ويسمع الآدمي صوتا يظنه صوت آدمي وهو صوت جني؛ يقلد صوت الآدمي، ومعلوم أنّ مثل هذه الغائبات إذا تعلق بها المرء وقع في إضلال نفسه؛ لأنه تعلّق بشيء ما يدري ما حقيقته، والمعلوم المتقرر عند أهل الشرائع جميعا وعند أهل العقول الصالحة؛ العقول السليمة أنّ الميت لا تخاطب روحه روح الآدمي، حتى في هذا العصر فيما يسمونه تحضير الأرواح في أرواح الموتى ونحو ذلك هذا إنما من جهة شياطين الجن يخدمون ذلك الساحر المحضر للأرواح، فإذا خدموه بعد خدمته لهم وتعبده لهم، فإنهم يتشكلون له بالصورة التي يريد ويسمعونه الصوت الذي يريد، ومعلوم أن أعمار الجن أطول من أعمار الإنس كثيرا بل الموت فيهم بالنسبة لابن آدم قليل، لهذا قال جماعة من الجن لأحد العرب وسمع صوتهم قالوا له:
لقد فُضِّلْتُم بالأكل فينا ولكن ذاك يعقبكم سقاما(17/55)
يعني أن حقيقة الآدمي غير حقيقة الجني، الجني خُلق من نار وابن آدم خلق مما وصف لكم، فالجني له مقدرة، فالتعلق بالملائكة، التعلق بالصالحين، التعلق بالموتى، كان بعد أشياء سمعوها، كان بعد أشياء أجيبت لهم، فاستغاثوا بالميت فأغاثهم، استغاثوا بالملائكة فأغاثتهم فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وكان في الحقيقة أن الذي أعطاهم الجن، وأن الذي يسّر لهم ذلك أو أغاثهم إنما هم الجن، وذلك ليوقعوا الشرك والبلاء العظيم فيهم بعد إذن الله جل جلاله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضع في كتبه: إن الشياطين شياطين الجن تتشكل بصورة الآدمي، يقول حتى إنها تتشكل بصور الأحياء والأموات، ومرة وقع بعض أصحابي في شدة؛ طائفة من تلامذة ابن تيمية يقول وقعوا في شدة فكانوا بعيدين عني، قال فظهرت لهم فيما قالوا فاستغاثوا بي، فلما أتوني وأخبروني الخبر قالوا استغثنا بك فأغثتنا فقال إني لم أبرح مكاني، ذاك شيطان تمثل في صورتي.
وهذا يحصل أيضا عند كثيرين حيث يزعمون أن فلانا رئي في دمشق، أو رئي في مصر، أو رئي في بغداد، أو رئي في المدينة وفي الوقت نفسه رئي حاجا في مكة ورئي معتمرا، ومن المعلوم القطعي عند أهل العقول الصحيحة أنّ الجسم الواحد لا يكون في مكانين متباعدين في الزمن نفسه، ومن قال إنه رآهم هنا ورآهم هنا فهو صادق؛ رآهم في المدينة ورآهم في مكة في الوقت نفسه، يقول رأيناه حاجا، وهل البلد الفلاني يقولون يوم عرفة رأيناه عندنا، فيكون هؤلاء صادقون وهؤلاء صادقون ولكن جاء الاشتباه من جهة تمثل الجني بالإنسي، فمن أخبر بالرؤية فهو صادق، ولكن لا يمكن أن يكون ابن آدم في مكانين متباعدين في وقت واحد، ولكن الجني تمثل بصورته ليضل الناس.(17/56)
إذن فهذا الباب باب الشرك يدخل منه شياطين الجن الذين قال إمامهم ومقدَّمهم لله جل وعلا ?لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا?[الإسراء:62]، فالجن أعني شياطين الجن مهمتهم أن يقع بهم الابتلاء في هذا الأمر، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال«قال الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم».
قال بعدها (وعيسى ومريم) يعني مثل عيسى ومريم، عيسى عليه السلام ومريم أمه وقع بهما الشرك واتخذ إلهين مع الله جل وعلا قال سبحانه وتعالى في سورة المائدة ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[المائدة:116-118]، وهذا تبرُّؤ من عيسى عليه السلام وإثبات من الله جل وعلا أنه عبد واتخذ إلها مع الله جل وعلا، فطائفة من الأنبياء والمرسلين ضل أتباعهم فاتخذوهم آلهة من جهة الغلو والإطراء، قال عليه الصلاة والسلام «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» قال عيسى عليه السلام لاتباعه ?يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ(17/57)
الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72]، فالأنبياء والرسل تحذر من هذا الشرك وتنهى عنه بل رسالاتهم في هذا الأمر العظيم، وإخلاص القلب لله وتوجهه لله وحده هو زبدة الرسالات الإلهية وهو مدار بعثة الأنبياء والمرسلين، فعيسى ومريم أتخذا إلهين من دون الله جل وعلا، فكيف أُتخذ عيسى إلها؟ الألوهية غير الربوبية أتخذ معبودا بأن يستغاث به بأن يطلب منه بأن يسأل بأن يدعا، والله جل وعلا كفر النصارى باتخاذهم عيسى إلها وجعلهم عيسى ابنا لله أو ثالث ثلاثة، ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ?[المائدة:73]، ?لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ?[المائدة:72]، وهذا كله لأجل أنهم اتخذوا المسيح وأمه إلهين، ?مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ?[المائدة:75] فالآيات في القرآن في هذا الأمر كثيرة، الذي حصل في هذه الأمة أنهم ما نظروا في كيف صار عيسى عند أتباعه المنحرفين عن سبيله كيف صار إلها؟ اتخاذ عيسى إلها من جنس اتخاذ الأوثان آلهة، ومن جنس اتخاذ الصالحين هذه الأمة آلهة، فالذين اتخذوا عبد القادر الجيلاني إلها أو معبودا من جنس تلك الشبهة، الذين اتخذوا العيدروس إلها ومعبودا هو من جنس تلك العبادات، الذين اتخذوا البدوي أو الحسين أو زينب أو سكينة أو غير هؤلاء من جنس شرك أولئك؛ لأنه تعلقٌ بالأرواح واعتقاد أن هؤلاء لهم مقامات عظيمة عند الله جل وعلا، وحصل لهم ما يريدون في بعض استغاثاتهم من جهة الجن، فصارت الشبهة في الشرك في هذه الأمة من جنس الشبهة التي أحدثت حصول الشرك من جنس الشبهة عند المشركين فضل المتأخرون بما ضل به الأولون، والقرآن من أولهم إلى آخره في رد هذا وبيان ضلال المشركين وبعدهم عن ما يرضي الله جل(17/58)
جلاله وما يحبه سبحانه وتعالى.
قال (وأناس غيرهم من الصالحين) عُبد صالحون كثير، وعبادة الصالحين من جهة أنّ أرواح الصالحين طاهرة لها المقام العظيم الله جل جلاله، وأنّ الله جل وعلا لا يرد لهم طلبا، يظنون أن مقام الصالح عند الله من جنس مقام المقرب عند الملوك، والملوك؛ ملوك الأرض إذا صار عندهم من هو مقرب ويحترمونه ولهم فيه مصلحة يكون إجابة لطلبه، إذا توسط وطلب أجابوا طلبه لأنهم يرهبونهم لأنهم يريدون أن يبقى على صلته بهم ولأن لهم فيه مصلحة، فاعتقاد المشركين في الصالحين من جنس هذا الاعتقاد، ظنّوا أن العباد مع الله جل وعلا من جنس الوزراء عند الملوك أو المقربين عند الملوك، فجعلوا هذا هو هذا، والله جل وعلا في سورة سبإ أبطل ذلك بقوله ?قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22)وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[سبإ:22-23]، وقال جل وعلا في سورة الإسراء ?قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا(56)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ?[الإسراء:56-57]، فالصالحون عند الله جل وعلا يرجون الرحمة ويخافون العذاب، والله جل وعلا هو مالك الملك.(17/59)
فإذن الشبهة التي من أجلها أشرك من أشرك بالصالحين من جهة التعلق بالأرواح، والظن بأن هذه الأرواح مقربة فإذا كانت مقربة عند الله فإنها إذا سئلت فتسأل الله جل وعلا فيجيب الله طلبها ولا يرد طلبها ولهذا من الأدعية البدعية أن يقول القائل أسألك بحرمة نبيك أو بحرمة الولي الفلاني أو بجاه أهل بدر عندك أن تعطيني كذا وكذا، والله جل جلاله ليس لأحد عنده حق بحيث لا يرد ما سأل، حتى الأنبياء عليهم السلام ربما رُدّت أسئلتهم وردت دعواتهم في حياتهم، فالله جل وعلا رد دعاءً إبراهيم ردّ دعاء لإبراهيم وردّ دعاء لنوح إن ابني من أهلي وردّ أيضا دعاء للنبي عليه الصلاة والسلام «سألت ربي ثلاثا فأعطاني واحدة ومنعني اثنتين»ونحو ذلك، فدعواتهم في الحياة على رجاء الإجابة هم أعظم من تجاب لهم الدعوة لكن ليس لأحد المقام عند الله جل وعلا بحيث أنه إذا طلب فإنه لا يُرد سؤاله خلاف ما عليه كل [....] بالقبور والصالحين والأرواح المختلفة.(17/60)
قال (يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم) وهذا فيه أن مشركي العرب كانوا على أثر من الرسالة، وأنهم لم يكونوا بلا رسول قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - بل كانت رسالة إبراهيم عليه السلام فيهم، لهذا كان فيهم بقايا من دين إبراهيم كما ذكرنا من أمور الفطرة من الغسل من الجنابة وغسل المرأة من الحيض والصدقات وبعض الأدعية والصلوات ونحو ذلك، (فبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم) قول الشيخ رحمه الله (يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم ) أخذه من قوله جل وعلا ?إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(121)وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(122)ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:120-123]، فالنبي عليه الصلاة والسلام يجدد للعرب دين أبيهم إبراهيم، والله جل وعلا قال ?لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ?[يس:6]، وقوله جل وعلا (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ)، (مَا أُنذِرَ) فيها وجهان من التفسير في هذه الآية:
¨ إما أن تكون موصولة يعني لتنذر قوما الذي أنذر آباؤهم فهم غافلون عما أنذر آباؤهم.
¨ والثانية (مَا) نافية (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ) يعني لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم، والمقصود يكون هنا بآبائهم الآباء القريبون المقصود الآباء القريبون؛ لأن أولئك غفلوا عن دين إبراهيم وملة إبراهيم إلا بقايا من العرب أفراد كانوا يسمون الحنفاء اتبعوا ملة إبراهيم في كثير منها.(17/61)
فإذن لفظ التنديد هنا لأجل ما ذكرت، وهذا يدل على أن مشركي العرب كانت لهم رسالة قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك ظاهر بين والحجة عليهم قائمة به، ووجود الكعبة عندهم وبإقرارهم أنهم من نسل إبراهيم عليه السلام، ورسالة إسماعيل ورسالة إبراهيم عليهما السلام فيهم، والنبي عليه الصلاة والسلام جدد لهم دينهم.
قال (فبعث الله محمد - صلى الله عليه وسلم - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم) دين إبراهيم هو التوحيد والقنوت لله جل جلاله قال سبحانه وتعالى في سورة الزخرف ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28] (عَقِبِهِ) من نسل إسحاق، و(عَقِبِهِ) أيضا من نسل إسماعيل وهم العرب، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يعني إلى هذه الكلمة فدين إبراهيم عليه السلام هو التوحيد والبراءة من الشرك والإخلاص العمل والدين لله جل جلاله، وهو الذي بعث الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم -، كما قال ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ?[النحل:128]، وكما قال جل وعلا ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ?[الأنعام:90] في سورة الأنعام.
المقصود من ذلك أن العرب قامت عليهم الحجة، وبُيِّن لهم الأمر ببعثة إبراهيم عليه السلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بعث مجددا لهم دين أبيهم إبراهيم، ولكن الشريعة مختلفة فإبراهيم عليه السلام جاء بدين الإسلام العام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ([10]) جاء بدين الإسلام الخاص.(17/62)
قال (ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله، لا يصلح منه شيء[لغير الله] لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما) يخبرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أن هذا التقرب وهو التقرب إلى الأرواح، التقرب إلى الصالحين، التقرب إلى الأنبياء، التقرب إلى الملائكة، سؤال أولئك الشفاعة، هذا التقرب والاعتقاد فيها، قال (والاعتقاد) يعني والاعتقاد في تلك الأرواح أنها تنفع أو أنها تضر أو أنها تملك شيئا من الأمر، قال ذلك( محض حق الله)، محض حق الله يرجع إلى المسألتين:
الأولى: التقرب.
والثانية: الاعتقاد.
لأن هناك من يعتقد ولا يتقرب، وهناك من يتقرب ويعتقد، فكل المسألتين محض حق الله جل جلاله، فنفهم من هذا أن من اعتقد الشرك ولم يفعله فإنه مشرك كالذي فعله؛ لأن الاعتقاد لا بد أن يكون -الاعتقاد بأن هذه الروح تنفع أو تضر أو أن أحدا يغيث فيما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا- هذا يجب أن يكون في الله جل وعلا لا يعتقد في أحد أنه يملك من الأمر شيئا، ولا أنه يملك الشفاعة كما قال جل وعلا ?قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا?[الزمر:44]، الذي يشفع الشفاعة مِلك لله جل وعلا هو الذي يتكرم بها وهو الذي ينيلها من يرضى عنه جل وعلا.
(لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما) هذه رسالة محمد عليه الصلاة والسلام أنّ العبادة لله وحده، وأن التقرب إنما هو لله وحده لا استغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله إلا بالله، لا استغاثة بالأموات لا استغاثة بالأرواح لا استغاثة بالغائبين كذلك لا عبادة بأي نوع من أنواع العبادة إلا لله جل جلاله، فتتعلق القلوب بالله وحده، ويبطل أمر الجاهلية بالتعلق بغير الله جل جلاله.(17/63)
قال (وإلاّ فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات ومن فيهن والأراضين ومن فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره) كما ذكرنا مرارا وتعلمون أنّ المشركين يقرون بالله جل وعلا بالربوبية؛ يعني أكثر أفراد الربوبية يثبتها المشركون لله جل جلاله، فإذا سألت المشرك من العرب من أهل الجاهلية أو من غيرهم من الذي يحيي؟ فسيقول الله، من الذي يميت؟ فسيقول الله، من الذي يدبر الأمر؟ فسيقول الله، من الذي يرسل الغيث؟ فسيقول الله، من الذي يجير ولا يجار عليه؟ فسيقول الله، من الذي يعافي من المرض؟ فسيقول الله، فإذن هذه الأفعال على جهة الحقيقة إنما هي لله جل وعلا، المشركون يعتقدون ذلك، ومع هذا الاعتقاد وكونهم يتصدقون ويدعون ويتقربون إلى بأنواع من القربات ويغتسلون من الجنابة تغتسل المرأة من الحيض ويصلون الأرحام ويتفاخرون بذلك، مع ذلك لم يكونوا مؤمنين ولا مسلمين لم؟ لأن هذا لم يبتلوا به إنما اُبتلوا بأن يكون الله جل جلاله هو المعبود وحده، وهم عبدوا مع الله غيره فمن عبد الله غيره لم تنفعه صلاته ولم ينفعه صيامه، وإن كان زائدا متعبدا ولم ينفعه إقراره لله بالربوبية، وقد قال جل وعلا عن أكرم الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ? يا محمد ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[الزمر:65] الله جل وعلا ليس بينه وبين عباده نسب، وليس بينه وبين عباده مجاملة، وليس بينه وبين عباده رعاية، وإنما هو جل جلاله القهار الجبار سبحانه الذي يستحق العبادة وحده، فلو أشرك أكرم الخلق عليه لحبط عمله ولكان من الخاسرين، فكيف بمن هو دونه ؟ كيف بمن هو دون محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ لاشك أنهم لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا(17/64)
يعملون ولبطل ما كانوا يعملون، قال جل وعلا عن المشركين في سورة [الفرقان] ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا?[الفرقان:23]، لهم أعمال ولهم طاعة ولهم أنواع خير، ولكن لما لم يوحدوا الله جل وعلا؛ لم يعبدوا الله وحده دونما سواه، لما توجهوا إلى تلك الأرواح، لما لم يجعلوا الأمر كله لله جل جلاله، فإنهم صاروا مشركين لم ينفعهم ذلك لم يعصم دماءهم ولا أموالهم، وإنما كانوا مشركين مكذّبين للرسل جميعا.
وهذه في الحقيقة مسألة عظيمة وهذا الأمر، والله المستعان بالناس إلى أن كثيرين إذا سمعوا من يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، أو سمعوا من يقول ما شاء الله، أو سمعوا من يقول الحمد لله سموه مؤمنا ولو كان على غير عمل أصلا، بل لو رأوه مجاهدا في سبيل الله كما يقولون، رأوه يقارع المشركين في الميدان، رأوه يقرع الكفار، رأوا عنده من الأعمال والصالحات أمرا عظيما، ونظروا في أمره بهذا الاعتبار عظموه تعظيما وجعلوه من الأئمة ومن المقتدى بهم، وقد يكون في حقيقة الأمر مشركا بالله جل وعلا، إما من جهة الاعتقاد يعتقد في أولئك الصالحين أو لا يكفر بالطاغوت، أو أنه يشرك في الحقيقة؛ يتوجه للموتى بأنواع القربات.(17/65)
المسألة هذه فيها غربة في هذا الزمن وفي كل زمن، وأصبحت مسألة التوحيد وأصبح هذا الأمر في هذا الزمن محل نظر عند الأكثرين، وصار الشرك إنما هو نفي وجود الخالق جل جلاله، من هو الكافر؟ عند طائفة هو الملحد الذي لا يؤمن بوجود الله/ وجعلت طائفة النصارى من المؤمنين، والصابئين من المؤمنين؛ لأنهم يعبدون الله على طريقتهم، وآخرون قالوا بتوحد الأديان السماوية، وآخرون يردون على من قال بتوحيد الأديان السماوية، ولكنهم إذا نظروا إلى شرك المشرك وتعلقه بالصالحين وما يحصل عند المشاهد والقبور من أنواع عبادة غير الله، أو ما يفعله الضالون من تحكيم القوانين واعتقاد أنها جائزة أن يحكم بها ولم يجعلوا ذلك من المخرج عن دين الإسلام وهذا من الغربة المتحققة في هذا الزمن والله المستعان.
ولهذا يجب على طلاب العلم أن يكونوا متبصرين بهذا الأمر أعظم تبصر، وتبصرك فيه لا يعني الحكم على الأفراد، الحكم على المعيّنين، الحكم ذاك بحث فقهي يرجع فيه إلى أهله يحتاج إلى فتوى لكن اعتقادك بالتوحيد واعتقادك أن الشرك مردود مهما كان من جاء به، وإبطال منزلة المشرك مهما كان فهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - يقول الله جل وعلا عنه ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ?[الزمر:65]، واليوم تجد من يقول بحال بعض ما يضر شركهم، هؤلاء لا تتكلم في هذه الأمور، هؤلاء عندهم من المقامات العظيمة كذا وكذا وكذا، والله جل وعلا يقول عن نبيه ?لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[الزمر:65]، وهؤلاء يقولون إن أولئك الذين لهم أعمال صالحة لما أشركوا لا يضرهم ذلك الشرك ولا عبادة غير الله جل جلاله ولا ما يعتقدون في غير الله جل جلاله، وهذا لا شك يحتاج منك إلى الاهتمام بهذا الأمر اهتماما عظيما.(17/66)
بعد ذلك ذكر الشيخ رحمه الله أدلة على ذلك؛ يعني على أن الله جل جلاله متوحد في الربوبية عند المشركين؛ يعني اعتقادهم في توحيد الربوبية، قال (فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهدون بهذا فاقرأ قوله جل وعلا ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31]، وقوله ? قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ?[المؤمنون:84-89]، وغير ذلك من الآيات) هذه من الأدلة الظاهرة على أن الموحد لله في الربوبية لا ينفعه توحيده إلا إذا وحد الله في الإلهية توحيد الله بأفعاله لا ينفع، إلا لمن وحد الله جل وعلا بأفعال العبد، إذا وحدتَ الله بأفعالك نفعك توحيدك لله جل وعلا بأفعاله؛ يعني الموحد لله في الألوهية ينفعه توحيد الربوبية ويعظم؛ لأنّ توحيد الربوبية له آثار عظيمة وواجب من الواجبات لأنه أحد أنواع التوحيد، لكن من وحّد الله في الربوبية ولم يوحّده في العبادة فلا ينفعه ذلك، وإنْ كان يتكلم في ذلك بعلوم عجيبة وتفاصيل غريبة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وحتى يعتقد أنّ عبادة ما سواه باطلة، وحتى يؤمن بالله ويكفر بالجن والطاغوت بأنواع ذلك.
نقف عند هذا، هذه مقدمة لما يأتي إنْ شاء اللهُ تعالى.
[الأسئلة](17/67)
1/ يقول عبادة الهوى من الشرك بالله، فكيف نجمع بين هذه العبارة وقولك أن الشرك راجع إلى أرواح الصالحين وأرواح الكواكب فقط؟
الحقيقة بعض الأسئلة ما تكون دقيقة.
عبادة الهوى من التأليه؛ من تأليه، يعني تؤله، ولكن ليس كل طاعة للهوى شرك أكبر أو شرك أصغر قد تكون طاعة الهوى معصية فقط، فإذا صارت طاعة الهوى في عبادة غير الله مع ظهور الحجة حجة التوحيد صارت هنا شركا أكبر، وذلك برجوعها إلى عبادة غير الله جل جلاله ?أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا?[الفرقان:43]، تأليه الهوى، أنواع المعصية من طاعة الهوى ولكن لا تسمى شركا.
2/ متى يكون إيقاف الدرس لأنه قرب وقت الاختبارات، ويقترح أن يكون هذا الدري آخر درس؟
لا الدرس القادم لأني أظن أن الاختبارات تنتهي يوم (15) يعني بدايتها، الأسبوع القادم يكون عندنا إن شاء الله دروس.
3/ ما هو الإسلام العام الذي ذكرت أن إبراهيم أتى به، وما الإسلام الخاص الذي أتى به محمد - صلى الله عليه وسلم -؟
الدين عند الله جل جلاله الإسلام كما قال سبحانه ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، والله جل وعلا لا يرضى إلا الإسلام ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85]، فآدم عليه السلام كان مسلما وجميع أرسل كانوا مسلمين وجاءوا بالإسلام العام، والإسلام العام معناه التوحيد والاستسلام لله جل وعلا بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله. وهذا هو الذي تشترك فيه جميع الرسل، والإسلام الخاص المقصود به ما شمل الاستسلام ذلك، ما شمل الإسلام الذي هم للتوحيد والعقيدة والشريعة أيضا التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -.(17/68)
وهذا الكلام الإسلام العام والخاص تجده في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع كثيرة، وفي أوائل الفتاوى تجد ذلك ماثلا، يعني الإسلام الخاص هو العقيدة والشريعة التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام، والإسلام العام هو الذي لا يرضى الله جل وعلا من أي أحد من الخلق حتى قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يكون مسلما ذلك الإسلام العام ?وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا?[آل عمران:83].
3/ من تقرّب إلى الله بدون اعتقاد، فما حكمه في الإسلام؟
هو مجنون كيف يتقرب بدون ما يعتقد يعني يتحرك حركات وهو لا يعتقدها، ما الذي حركه؟ ما يمكن حركة تصدر من عاقل إلى بحركة قلب، إرادة القلب هي المحركة محبة القلب للشيء وإرادته هي المحركة، معلوم أنه لا يحصل أي عمل من الأعمال إلا بشيئين:
¨ بإرادة متميزة خاصة بهذا العمل.
¨ وقدرة تامة.
إذا صار عنك لأي عمل تريده إرادة واضحة متميزة وعندك قدرة حصل العمل، وأما إذا تخلفت الإرادة وثَم قدرة لم يحصل العمل، حصل عندك قدرة وليس ثَم إرادة ما حصل العمل أصلا، فإذا حصل عمل ما من المكلف علم أنه أراده وكلن قادرا عليه فأحدثه.
إذا عمل عملا وصار غير مؤاخذ به:
¨ إما أن يكون من جهة أن إرادته لم تكن متمحضة؛ يعني إما أن يكون مجنون أو ساهي أو غافل أو نائم إلى آخره من عوارض الأهلية التي تكون، يعني لا يرفع معها الحكم التكليفي.
¨ وإما أن يكون من جهة عدم إرادته للفعل، وأما القدرة فكانت من جهة الإكراه، والمكره أيضا معروف عنه الحكم التكليفي في أكثر المسائل.
5/ الذين يحضّرون الأرواح هل هم كفار؟ وهل يختلفون عن السحرة؟(17/69)
تحضير الأرواح هذا باب واسع، يُزعم أنه يحضرون الأرواح في الشرق والغرب، وتحضير الأرواح يأتي واحد مثلا ويقول لك أريد أن أرى أبي وأسمعه وأسأله، فيُحضر له روح أبيه فينظر تارة إلى شكل أبيه شكل روح لا شكل جسم، وتارة يسمع صوت أبيه دون رؤية، يسمع صوت أبيه المعروف، وهذا يكون من جهة الشياطين، هو تحضير للأرواح، لكن لأرواح الشياطين التي تعلم ذلك من قديم.
6/ هل الذي يخاف من الجن ومن أذيتهم يعتبر مشركا؟
هذا فيه تفصيل، الخوف الطبيعي لا حرج للمرء فيه، لكن إذا خافهم خوف السر أنْ يصيبوه بشيء سرا بقدرتهم عليه وبقدرتهم على ذلك؛ أن يميتوه بدون أسباب بشيء سري كما يقدره عليه الله جل وعلا هذا هو الشرك، أما الخوف الطبيعي من أن يضروه فهو ليس بشرك؛ الخوف الطبيعي، لكن الخوف الطبيعي يكون له أسبابه الظاهرة، لكن هو يخاف هكذا من دون شيء، إنما خوف من أراح الجن بدون أسباب ظاهرة تدل على ذلك، هذا لا شك أنه قد يكون شركا أصغر، وقد يكون شركا أكبر بحسب الحال، والشرك الأكبر في الخوف هو خوف السر؛ يعني أن يخاف أن يصيبه ذاك سرا بما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا.
7/ هل قصة صنفي إساف ونائلة صحيحة أم لا؟
مذكورة في السير في كتب السير معروفة.
7/ هذه مقولة لشيخ الإسلام نريد توجيهها؟
لا بد أن يأتي بالكتاب الذي قرأ فيه هذه المقولة.
8/ هناك من الصالحين من يكون في دياره في يوم عرفة ويُرى في عرفة في نفس الوقت، وإذا سئل عن ذلك يقول نعم ذهبت إلى مكة فكيف يكون أحدهم جِنِّي علما بأنه يثبت الذهاب إلى مكة؟(17/70)
هو إذا أثبت هل يُصدَّق، يحكى أن ثلاثة من هؤلاء الذين يزعمون أنهم يذهبون في وقت قصير مع خادم لهم غلام، فأحضر لهم طعاما فأكلوه كلَّه ولم يبقوا له شيئا، وبقيت الفاكهة، فقالوا بعدما شبعوا نترك الفاكهة إلى الصباح، وهذا الغلام ما دَعَوه ليأكل ولا أبقوا له شيئا، فلما كان بالليل جاء ذاك تناول الفاكهة كلها لأنه جائع، فلما أتى الصباح أتى الغلام لهؤلاء المشايخ من جنس هذا الذي يقول أنا ذهبت إلى مكة وهو في دياره، اجتمعوا فصار كل واحد يُظهر فضيلته.
قال أحدهم أنا اليوم -هم كانوا أظن في الشام بحسب القصة موجودة في بعض الكتب- قال أحدهم: أنا صليت الفجر اليوم وصليت الفجر الليلة في مكة في مقابلة الكعبة.
وقال آخر: أنا صليت اليوم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والآخر أراد أن يفضلهم فأبعد قال: أما أنا فصليت الفجر اليوم في مسجد كذا في المغرب.
وهذا الغلام ينظر إليهم وهم يريدون أن يقنعوه بذاك أو بعضهم يقنع بعضا، فلما انتهوا من هذا، قالوا: يا غلام هات الفاكهة. فقال: الفاكهة سرقت البارحة. فقالوا: لِمَ لم تطلبنا؟ فقال: أحدكم في مكة، والثاني في المدينة، والثالث في كذا، ناديت، ناديت فما جاءني أحد.
المقصود أن هؤلاء يُختبرون فإذا اختبروا بان صدقهم اختبارهم بالدنيا، تختبرهم بالدنيا، أما وجود جسم في مكانين في وقت واحد فهذا محال.
9/ لماذا كانت عقوبة قوم نوح بسبب فعل الفاحشة؟
لا قوم نوح عوقبوا بسبب الشرك بالله، أظنه يقصد قوم لوط لكن المكتوب قوم نوح.
10/ هل إذا طلب إنسان الدعاء من إنسان آخر وذلك بنية أن الذي طلب منه الدعاء دعوته مجابة بخلاف الأول، هل ذلك من الشرك؟(17/71)
طلب الدعاء من المخلوق جائز في أصله إذا كان ذلك المخلوق حيا يقدر على الدعاء، وجاء في السُّنن في حديث يحتج به أهل العلم وإنْ كان في إسناده ضعيف أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعمر «لا تنسنا يا أخي من دعائك»، وثبت أيضا في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عن أويس القرني «من استطاع منكم أن يدعو له فليفعل»، وهذا يدل على أنّ جنس الطلب طلب الدعاء من الحي جائز، والنبي عليه الصلاة والسلام طلب منه الصحابة الدعاء فدعا لهم.
لكن هناك قول لشيخ الإسلام بن تيمية وهو أن طلب الدعاء؛ طلب الحي الدعاء من الحي تركه أولى، إلا في حال أن يكون من طلب من الآخر يأمل نفعه ونفع الداعي معه، يقول إذا كان الطالب يأمل نفع الداعي ونفع المدعو له جميعا جاز، لكن إذا كان يطلب نفعه وحده في اعتقاد في ذاك المسؤول، فإنّ هذا تركه أولى.
وقول السائل هنا من دعوتهم مجابة هذه الكلمة دعوة فلان مجابة، أو فلان من مجابي الدعوة، المقصود منها الغالب ليس المقصود منها أنه لا يدعو بدعوة إلا أن يجاب، المقصود منها أكثر أموره؛ يعني إذا دعا أجيب في أكثر ما يدعو به، وإلاّ كما ذكرت لك فإن الأنبياء وهم من مجابي الدعوة؛ بل هم أفضل من مجابي الدعوة من أقوامهم رُدت بعض دعواتهم كما ذكرت، فإجابة الدعاء منوطة بأسباب شرعية وقدرية ولله جل وعلا الحكمة البالغة.
قد روى ابن جرير رحمه الله في تهذيب الآثار وفي غيره أيضا أنّ حذيفة لما سئل من قبل بعضهم أن يدعو حذيفة لذاك فدعا له، ثم سئل مرة فنفض يديه وقال أنبياء نحن؟ إنكار بتكرر السؤال من هو دون الأنبياء، طلب الدعاء ممن هو دون الأنبياء هذا ظاهر.
فالاعتقاد في فلان أنه مجاب الدعوة يسأل، أدعو لنا يا فلان، هذا قد يكون من أسباب الاعتقاد فيه بعد مماته فإذا سئل مرة مرتين ونحو ذلك، أما أن يجعل فلان يقال له دائما أدعو لنا يا فلان هذا غير طريقة السلف.(17/72)
11/ أليس الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بالألوهية، فلماذا لم يؤمن المشركون بتوحيد الألوهية؟
نعم، توحيد الربوبية يلزم منه أن يوحد المرء في الإلهية، هذا لازم قطعي، لكن أولئك ما التزموه، ولذلك في القرآن جعل جل وعلا من البراهين الدالة على توحيد الألوهية إقرار المشركين بتوحيد الربوبية:
كما جاء في الآية -آية يونس التي ذكرنا- قال جل وعلا ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ?إلى قوله ?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ? يعني مرتِّبا على قولهم على تلك الإجابة ?فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31]، يعني الشرك.
وقال جل وعلا في سورة الزمر ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[الزمر:38].
وفي سورة النمل قال جل وعلا ?بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ(60) أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ?[النمل:60-61] إلى أن قال ?أَإِلََهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ?[النمل:64].
فدليل وجوب توحيد الله جل وعلا في العبادة أنه جل وعلا هو الواحد في الربوبية وأنه لا رب معه ولا رب سواه سبحانه وتعالى، فمن أيقن بذلك على الحقيقة فإنه يقوده إلى توحيد العبادة، لكن ما قاد أكثر العرب وإنما قاد ذاك من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والأكثرون أعرضوا عن تلك الحجة.
توحيد الإلهية متضمن بتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية لمن نظر فيه وعقل مستلزم لتوحيد الإلهية، تنظر إلى السموات من خلقها، تنظر إلى الأرض من خلقها، إلى نفسك من خلقك، إلى من حولك كذا، فليس ثم جواب إلا الله جل وعلا، دليل حتمي ضروري، لا يستطيع عاقل أن يخرج منه فهو متجرد من الهوى لا يستطيع أن يخرج منه دليل حتمي على أن الله جل وعلا هو الرب سبحانه وتعالى.(17/73)
إذا كان كذلك، وأن الخلق لم يخلقوا شيئا وإنما هو جل وعلا الخالق وحده وهو الذي يملك الأمر وحده فيجب أن تتعلق القلوب به جل وعلا وحده دونما سواه، وأنْ يكون الحكم إليه جل وعلا دون ما سواه في العقيدة وفي الشريعة.
نكتفي بهذا القدر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
[المتن]
فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشهدون بهذا فاقرأ قوله جل وعلا ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ?[يونس:31]، وقوله ?قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ?[المؤمنون:84-89]، وغير ذلك من الآيات.
فإذا تحققت أنهم مقرُّون بهذا وأنه لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة هو الذي يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد) كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلا ونهارا.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق الحمد وأوفاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين، أما بعد:(17/74)
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى، وأن يقينا فتنة الدنيا وفتنة الممات، اللهم ثبتنا على دينك حتى نلقاك.
هذا الكلام صلة لما سبق، وقول الإمام رحمه الله تعالى في أوائل هذه الرسالة العظيمة كشف الشبهات، قوله (فإذا تحققت أنهم مقرُّون بهذا) إشارة إلى إقرارهم بما جاء في الآيات السابقة وهو الإقرار بتوحيد الربوبية، وقد ذكرتُ لك أنّ إقرار المشركين بالربوبية يختلفون فيه:
¨ فمنهم من يقر بأفراد منه كثيرة.
¨ ومنهم من يقر بأكثره.
¨ ومنهم من يقر بأنواع الربوبية لله جل وعلا، وأنه واحد في ذلك.(17/75)
فإقرار المشركين بتوحيد الربوبية مختلف ليسوا جميعا فيه على مرتبة واحدة، لكن يجمعهم أن جميع من أرسل إليهم الله جل وعلا إليهم الرسل، لم يكونوا منكرين لوجود الصانعذ، لم يكونوا منكرين لوجود الرب الخالق الرزاق الذي يدبر هذا الملكوت ويجري الأفلاك ويجري ما به صلاح العباد، لم يكن أحد ينكر هذا، إلا طائفة كما قال الشهرستاني في بعض كتبه قال: إلا طائفة لا يصح أن تنسب إليهم مقالة. لأنهم كانوا أفرادا متفرقين، كلّ من بعثت غليهم الرسل كانوا يقرون بأن الله جل وعلا هو الذي خلق هذا الخلق، وهو الذي خلق الأفلاك والسماء، وهو الذي خلق الأرض، وهو الذي أجرى المياه، وهو الذي خلق الإنسان والحيوان، وهو الذي قسم الأرزاق، وهو الذي من توكل عليه لم يَخِبْ، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي إذا فتح رحمة فلا ممسك لها، وهو الذي جل وعلا بيده ملكوت كل شيء يدبر الأمر، يحيي ويميت، ويمرض ويصح، ويفقر ويُغني، كما شاء جل وعلا، هذا الإقرار لا يُدخل المرء في دين الله لا يدخل المرء في التوحيد، ولهذا عظمت الشبهة بهذه المسألة في كل زمان، وتحقيق هذه الشبهة التي أراد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أراد كشفها هي شبهة من يقول: كيف يُحكم بالشرك على من يقر بوجود الله وأنه هو الذي يتصرف في الملكوت، ويقول ما شاء الله، ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله وربما دعا وصلى وتصدق إلى غير ذلك مما ذكرنا سابقا من أنواع العبادات؟ فما الذي جعل أولئك كفارا؟ ما الذي جعلهم مشركين؟ ما الذي جعلهم يشركون؟ ما الذي جعلهم ليسوا بأتباعا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؟ لا بد من تحقيق ذلك، إذا تحققت أنهم مقرون بأفراد الربوبية وأنهم يعظمون الله جل وعلا في بعض ما يستحق سبحانه وتعالى تقرَّر ذلك في قلبه وعرفته معرفة يقين، فلا بد أن تعلم أن ذلك الإقرار لم يدخلهم في توحيد الله جل وعلا، ولهذا قال هنا (فإذا تحققت أنهم مقرون بهذا -يعني بما سبق إيضاحه وأنه(17/76)
يعني ذلك الإقرار- لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) لا بد أن تبحث وأن تعلم ما الذي جحدوه؟ ما الذي به صاروا مشركين؟ وإذا تأملت حالهم وجدت أنهم صاروا مشركين بعبادة غير الله جل وعلا.
فإذن صارت الأفعال قسمين:
¨ القسم الأول: أفعال الرب جل وعلا.
¨ والقسم الثاني: أفعال العباد.
أفعال الرب: توحيده بها لا يكفي؛ لأنّ المشركين كانوا موحّدين لله جل وعلا بأفعاله؛ يعني كل فعل لله يعلمون أنه ليس له شريك فيه على الكمال والحقيقة.
والقسم الثاني من الأفعال أفعال العباد: هي التي من جهتها صاروا مشركين فالواجب في التوحيد الذي دعت إليه الرسل أن يوحَّد الله جل جلاله بالنوعين من الأفعال أفعاله سبحانه وأفعال العباد أيضا، وإنما صار ابتلاء الناس بالرسل من جهة توحيد العباد ربهم جل وعلا بأفعالهم وليس بأفعاله سبحانه وتعالى.(17/77)
لابد أن نعلم ما التوحيد الذي جحدوه علمنا التوحيد الذي أقروا به وهو توحيد الربوبية، لكن ما التوحيد الذي جحدوه؟ قال الإمام رحمه الله هنا (وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة) توحيد العبادة هو الذي جحده المشركون لم؟ لأنه قال لهم عليه الصلاة والسلام قولوا لا إله إلا الله فقالوا ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5]، ومن المتقرر المعروف أن معنى الإله في لغة العرب المعبود؛ لأن كلمة إله مشتقة من أله يأله إلهة وألوهة، وهذا بمعنى العبادة، فالإله هو المعبود، وقول لا إله إلا الله يعني لا معبود حق إلا الله، ويدل على تفسير العبادة بذلك قول الله جل وعلا ?كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?[هود:1-2]، هذه وصية الله جل وعلا لجميع المرسلين ولجميع الناس، (لا تعبدوا إلا الله) مساوية لـ(لا إله إلا الله)، فصار بالمطابقة الإله هو المعبود، والإلهة هي العبادة، لا إله إلا الله يعني لا معبود إلا الله، يعني لا تعبدوا إلا الله المشركون يفهمون اللغة ويفهمون معاني الكلام في زمن النبوة، فلما قال لهم قولوا لا إله إلا الله؛ دعاهم إلى لا إله إلا الله علموا أن المعنى أن يدعوا جميع الآلهة وأن لا يتوجهوا بنوع من أفعالهم إلى شيء من تلك الآلهة، فقال الله جل وعلا عنهم في سورة الصافات ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ?[الصافات:35-36]، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال جل وعلا عنهم أيضا في سورة ص ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5].(17/78)
أما الأرباب بمعنى الربوبية الخلق والرزق والإحياء والإماتة فهم لم يجعلوا لهم أربابا مختلفين، لكن الرب بمعنى المربوب بالتلازم هذا يكون بالمعنى الأول يعني المعبود كما ذكرنا في نحو قوله ?ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ?[يوسف:39]، وفي نحو قوله?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا?[التوبة:31].
إذن المشركون صاروا مشركين بعبادتهم غير الله جل وعلا، وذكرنا لك فيما مضى أن تلك العبادة لغير الله كانت من جهة الاعتقاد في الأرواح الطيبة؛ الأرواح الخيّرة، اعتقدوا في الملائكة لأن الملائكة أرواح خيّرة، اعتقدوا في الأنبياء لأن الأنبياء أرواح طاهرة، اعتقدوا في الصالحين لهم أرواح طيبة، فمن جهة خيرية الأرواح وزكاء الأرواح وطهرتها وقربها من الله جل وعلا اعتقدوا في تلك الآلهة، فصار سبب شرك المشركين؛ صار سبب شرك المشركين الاعتقاد في الأرواح، –خلُّوكم معي- صار شرك المشركين الاعتقاد في الأرواح، هذه الحقيقة هي حقيقة الشرك بالله جل وعلا في جميع رسالات الرسل جاءت لدحض هذه المسألة؛ وهي بيان أنّ من جعل للأرواح تأثيرا، من جعل أن للأرواح خواص ليست بشرية([11]) وإنما خواص من جهة خواص الآلهة فهذا هو الشرك بعينه فنوح عليه السلام [أُرسل] إلى قوم يعتقدون في أرواح الصالحين وقالوا ?وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا?[نوح:23] قال ابن عباس: أسماء رجال صالحين. الملائكة اعتقدوا فيها لطهرة أرواحها، اعتقد المشركون في الصالحين وفي بعض الرسل والأنبياء لأجل طهرة أرواحها.(17/79)
إذا تقرر هذا وصار عندك حقيقة واضحة؛ لأنّ أعظم مسألة أنْ تعلم لما صار المشركون مشركين في دعوة كل نبي وكل رسول، علمت حقيقة الشرك ما هو، فإذا علمت حقيقة الشرك، فأي شيء سمي به ذلك الشرك فلا يغير الحقيقة؛ لأن الأشياء تعرف بحقائقها وبمعانيها لا بألفاظها، المشركون في الزمن المتأخر في القرون الماضية غيّروا الأسماء فسموا الشرك في العبادة الاعتقاد، كما ذكر الشيخ هنا قال ( الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) يعني توحيد العبادة (يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) يعتقد في الولي، هذه كلمة تسمعها إلى الآن بكثير من الأمصار يقول هذا له روح فيها سر، والروح يسمونها السر أيضا، فيعدلون مثلا عن قدس الله روحه إلى قدس الله سره، ما الفرق بين الروح والسر؟ السر عندهم هو الروح التي يُعتقد فيها فتغيث، فصار لها سر من الأسرار.
تسمية الشرك بالاعتقاد، تسمية الشرك بالتوسل، تسمية الاستغاثة بالتوسل، وتغيير حقائق الأسماء وحقائق الألفاظ، هذا لا يعني تغير حقائق الأشياء وحقائق المعاني؛ لأن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، فالخمر لو سميت بغير اسمها لو سميت شرابا روحيا بقيت خمرا محرمة، ولو سميت بأحسن الأسماء وبأقرب الأسماء للنفوس، لو سمي الربا بتسمية جائزة يعني بتسمية لائقة سمي فائدة أو سمي مكسبا أو سمي مضاربة وحقيقته هي حقيقة الربا يبقى الربا، فالعبرة في الشرع بالمعنى وليست العبرة بالألفاظ، قد جاء في الحديث أن قوما يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها.(17/80)
الألفاظ لا تغير الحقائق فلما كان المشركون في زمن الإمام المصلح الشيخ محمد رحمه الله غيروا الأسماء إلتبس هذا على كثير من أهل العلم كيف يكون هذا هو الشرك الذي به صار أهل الجاهلية مشركين، لأجل تغير الأسماء، إذا قلت إنهم يستغيثون بغير الله قالوا هذا توسل والتوسل بالصالحين جائز، كما هو مذكور في كتب الفقه، ذاك التوسل شيء وهذه الاستغاثة التي أسميتوها توسلا اشتباها هذه حقيقتها شيء آخر، إذا قلت إن الذبح لغير الله شرك الأكبر من جنس تقرب المشركين لأولئك بالقرابين لتلك الأصنام والأوثان بالقرابين قالوا ليس هذا ذبحا للميت وإنما هو تقرب لله لكن باسم الميت حتى يشفع الميت عند الله وإلا فإن المقصود هو الله جل جلاله، فغيروا الأسماء وبقيت حقيقة الاعتقاد.
ولهذا الشيخ سماه هنا (الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد) والاعتقاد هو تعلّق القلب بمن تقرب إليه ذلك المتقرب، فإذا تعلق قلب المسلم بالميت –تعلق به من جهة كشف ضرٍّ أو من جهة جلب نفع أو بالتوجه إليه بأي نوع من أنواع العبادة- صار ذلك شركا منه مخرجا له من الملة ولو كان مصليا صائما.
فإذن حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك لا بد أن تتضح كمقدمة لكشف الشبهات، بما صار المشركون مشركين؟ من جهة الاعتقاد في الأرواح، بما صار الموحدون وأتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام صاروا موحدين ومسلمين؟ من جهة تعلقهم واعتقادهم بالله وحده دونما سواه ونبذ التعلق بالمخلوقين وبالأموات والأوثان والأصنام الذي حقيقته التعلق بالأرواح.(17/81)
ذكرتُ لك أن المشرك ليس عادما العقل حيث إنه يتعلق بحجر لا معنى له، أو يتعلق بشجر لا معنى له، أو يتعلق بخشب لا معنى له، وإنما يتعلق بهذه الأشياء لما لها من الخاصية، من جهة حلول الأرواح فيها إما أرواح الصالحين أو أرواح الكواكب أو أرواح الملائكة باعتقادات مختلفة، صاروا مشركين لأجل اعتقادهم، سواءً أكان ذلك الاعتقاد في نفسه موافقا لحقيقة الأمر أم لم يكن موافقا.
مثال ذلك ما يحصل الآن عند قبر الحسين في مصر، من المعلوم عند المؤرخين أن رأس الحسين لم يحمل إلى مصر، وإنما حمل رأسه إلى الشام، ومصر لم يصلها رأس الحسين فجعل هناك قبر ومدفن فمن تعلق بذلك القبر تعلق بالحسين، وإن كان المدفون ليس بالحسين أصلا، فصار مشركا ولو لم يوافق اعتقاده الحقيقة؛ لأنه تعلق قلبه بغير الله جل وعلا في هذه البقعة.
فإذن مدار الشرك والاعتقاد في المخلوق أن له بعض خصائص الإله؛ له أن يشفع عند الله جل وعلا بدون إذنه ورضاه، يجعلون له خاصية أنّ الله جل وعلا لا يردّ له طلبا، ويجعلون له خاصية أنه يسمع ما يُتكلم به وأنه يغيث من استغاث به وأن أكثر الناس تقربا إليه هو يكون أقرب الناس من غيره، فيشفع له ويعطيه طلبته وحاجته.
إذن من المهمات في هذا الباب قبل الدخول في الكتاب ما قدم به الشيخ هذه الرسالة هذه المقدمات المهمة أن تعلم أولا حقيقة شرك المشركين، تعلم حقيقة عبادة أولئك، وأنهم كانوا يتعبدون، لم يكونوا خالين من التعبد كما ذكر بأول الكتاب؛ أنهم كانوا يصلون ويتصدقون ويحجون و[يتفاخرون] بالمعروف، ولكن صاروا لم يكونوا موحدين وصاروا مشركين من جهة أنهم اعتقدوا بغير الله جل جلاله وأنهم تقربوا إلى تلك الآلهة بأنواع القرابين والعبادات، واعتقادهم في الآلهة كان من جهة الاعتقاد في الأرواح، الاعتقاد في أسماء تلك الآلهة وتمثيل تلك الأسماء بأرواح طاهرة لها عند الله جل وعلا المقام الأعظم.(17/82)
فإذا كان كذلك فمن أشرك بالله جل وعلا بأي نوع من أواع الشرك الأكبر فإنه حابطٌ عمله ولو كان مصليا صائما؛ لأنه كما قال جل وعلا ?وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ?[الزمر:65] وهو النبي عليه الصلاة والسلام فكيف بمن دونه.
قال الشيخ رحمه الله بعد ذلك (عرفت أن التوحيد الذي جحدوه) يعني جحده المشركون (هو توحيد العبادة) يعني أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يتوجه إلا إلى الله، أن لا يدعا إلا الله وأن لا يستغاث إلا بالله جل وعلا بما لا يقدر عليه إلا الله وسائر أنواع العبادة، قال (هو الذي يسمه المشركون في زماننا الاعتقاد كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلا ونهارا) فهل المشركون لم يكونوا يدعون الله؟ كانوا يدعون الله وكانوا يتقربون لله، ومع ذلك هم مشركون، لم؟ لأنه أشركوا؛ دعوا الله ودعوا معه غيره، ذبحوا لله وذبحوا مع ذلك لغيره، نذروا لله ونذروا مع ذلك لغيره، استغاثوا بالله ومع ذلك استغاثوا بالأرواح الملائكة بالجن بالصالحين الأنبياء إلى غير ذلك، فصارت هنالك شركة؛ جعلوا لله عبادات وجعلوا أيضا تلك الأرواح شيئا من أنواع العبادة.(17/83)
قال رحمه الله بعد ذلك (ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الملائكة ليشفعوا له) من المشركين من يدعو الملائكة كما قال جل وعلا في سورة سبأ ?وَيَوْمَ نحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ?[سبإ:40]، لأنهم عبدوهم، فهل كانوا يعبدون الملائكة في الحقيقة؟ أجابت الملائكة بما أخبر الله جل وعلا به في قوله قالوا يعني الملائكة ?قَالُوا سُبْحَانَكَ?[سبإ:41] يعني تنزيها لك عن أن يكون معك معبود بحق، تنزيها لك أن نستحق العبادة تنزيها لك عن ذلك الظلم الذي وقع من الناس بإشراكهم من الملائكة مع الله في الدعاء وفي العبادة، ?قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41]، فحقيقة أولئك في اعتقادهم أنهم سألوا الملائكة، في اعتقادهم أنهم توسلوا بالملائكة، في اعتقادهم أنهم استغاثوا بالملائكة، لكن حقيقة الأمر أنهم استغاثوا بالجن؛ أنهم عبدوا الجن؛ لأن الجن تأتي وتتكلم عند ذلك الوثن، تتكلم عند القبر، تتكلم عند الصنم، فيظنون أن الذي كلّمهم الملك، يظنون أن الذي خاطبهم وخاطبوه وأجابهم وسألوه إنما هم الملائكة، وفي الحقيقة إنما هم شياطين الجن؛ لأن الجن مهمتهم أن يغووا الإنس لأنّ إبليس قال لربنا جل وعلا ?لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا?[الإسراء:62]، وقال جل وعلا عنه في آية أخرى ?إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ?([12]) فدلّ على أن الذين استثنى الله جل وعلا من أن يقعوا في حبائل إبليس إنما هم عباد الله المخلَصون، وهم الذين أخلصوا لله جل وعلا دينهم فخلصوا لله سبحانه وتعالى وأخلصهم الله جل وعلا من الشركة في العبادة والتوجه.(17/84)
قال (منهم من يدعوا الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله) هذه مقدمات مهمة يعني لم عبدوا الملائكة؟ هل رأى الناس الملائكة؟ ما رأوا الملائكة، هل اعتقدوا في الملائكة اعتقاد وهم لا يعرفون الملائكة؟ لا، وإنما اعتقدوا في الملائكة لأنهم يعلمون أنّ الملائكة:
¨ أولا: الأرواح طاهرة صالحة لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم لم يعصوا الله جل وعلا ما أمرهم ولم يرتكبوا خطيئة.
¨ والثاني: أنهم مقربون عند الله جل وعلا.
فإذن شرك المشركين بالملائكة كان من جهة شبهتين:
الشبهة الأولى: أنهم أرواح طاهرة صالحة لم تعصِ، ولذلك كانت أرفع من البشر، أرفع من المخطئين من العصاة، فإذا أراد العاصي أن يتقرب إلى الله ضعفت نفسه فذهب يتقرب بأرواح طاهرة إلى الله، بظنه أنه لأجل معصيته لا يستطيع أن يصل إلى الله جل جلاله، هذا واحد.
الثاني: لأجل قرب الملائكة من الله جل وعلا.
فتعلق المشركون بالملائكة لأجل هاتين العلتين؛ صلاح الملائكة وطهرة أرواحهم ثم لأجل قربهم من الله جل وعلا إذا تأملت وجدت أن هذه الحقيقة هي الموجودة في المشركين في كل زمان ومع تغير الأحوال وتغير المتعلقات إذا سألت النصارى لم دعوا مريم؟ لم يستغيثون بمريم عليها السلام؟ لم يستغيثون بالرسل رسل المسيح؟ لم يتغيثون ببطارقتهم الأموات والأحياء؟ لم يصورون التصاوير ويجعلونها في كنائسهم؛ تصاوير الرجال الصالحين أو مريم وعيسى؟ لم يعبد اليهود بعض البشر ويتعلقون بأرواحهم؟ لم عبد قوم نوح تلك الأرواح؟ لم عبد قوم إبراهيم تلك الأصنام والأوثان؟ وهكذا إلى زمن المشركين في الجاهلية؛ جاهلية العرب إلى زمننا هذا، وجدت أن الشبهة هي الشبهة الشبهة هي الشبهة في الملائكة:
أولا أرواح طاهرة.
ثانيا قربها من الله جل وعلا.(17/85)
فمن أراد أنْ يجعل لله جل وعلا شريكا في العبادة يُتوجه إليه بأي نوع من أنواع العبادة، فنقول له الملائكة أحق، الملائكة أحق بأن تكون آلهة؛ لأن الملائكة أرواح طاهرة بالاتفاق وهي مقربة عند الله جل وعلا بالاتفاق، ?الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [وَيُؤْمِنُونَ بِهِ]([13]) وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ?[غافر:7] الله جل وعلا يخبرنا عن الملائكة بأنهم صالحون لا يعصون الله ما أمرهم، وأنهم مقربون عنده، وأنهم يستغفرون للذين آمنوا، فسؤال الملائكة أولى من سؤال غيرهم؛ لأن طهرة أرواحهم متفق عليها ولأن صلاحهم متفق عليه ولأن قربهم من الله جل وعلا متفق عليه ولأنهم يستغفرون عند الله للذين آمنوا باتفاق، وهذا معناه إذا كان ذلك الشيئان صحيحين فمعنى ذلك أن الشرك بالملائكة جائز، إذا كان التعلق بأرواح الصالحين واعتقاد أنه لقربهم من الله يكون لهم بعض العبادة فمعنى ذلك أن سؤال الملائكة والشرك بالملائكة جائز، والله جل وعلا أخبرنا في القرآن بأنه يقول للملائكة يوم القيامة ?أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ?[سبإ:40]، فتقول الملائكة ?قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:41]، فمن أجاز الاستغاثة بالأولياء أو بالصالحين فقل له الملائكة أليست الملائكة أرواح طاهرة صالحة وأليست الملائكة مقربة عند الله جل وعلا، فإذا قال: بلى هي كذلك. فقل فلم لا تقول بجواز الاستغاثة بالملائكة؟ لم لا تقول بأن الملائكة لها الأحقية بأن يطلب منها؛ لأن السبب الذي من أجله توجه للموتى للصالحين والرسل والأنبياء متحقق في الملائكة. والعرب ومن قبلهم من أجل قوة(17/86)
أذهانهم في مسائل العبادة وحرصهم عليها جعلوا المسألة واحدة بدون تفريق؛ عبدوا الملائكة وعبدوا الصالحين وعبدوا الأنبياء؛ لأن القدر المشترك بين هؤلاء موجود وهو أنهم صالحون وأرواح طاهرة ومقربون عند الله جل جلاله، لكن المشركون من هذه الأمة لم يعبدوا الملائكة وإنما عبدوا من زعموهم صالحين أو من هم صالحون في نفس الأمر.
وبهذا نعلم أنّ حقيقة شرك المشركين في كل زمان إنما هو راجع إلى هاتين الشبهتين:
¨ شبهة صلاح المستغاث به صلاح المعبود.
¨ والشبهة الثانية قربه من الله جل جلاله.
قال هنا (لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له) هذه الغاية، ذاك سبب لم تؤله الملائكة؟ للسببين اللذين ذكرنا، ما الغاية من سؤال الملائكة؟ ما الغاية من عبادة الملائكة؟ غايتها أن يشفع الملك عند الله للسائل، نفهم من ذلك أن سؤال أولئك للملائكة لم يكن عن اعتقاد بأنّ الملك يعطيه مباشرة وأنه يستقل في الإعطاء ويستقل بالإمضاء وإنما هو اعتقاد في الملك بأنه لأجل صلاحه وقربه يملك أن يشفع عند الله، ولأجل قربه وجاهه لا يرد الله جل وعلا طلبه.(17/87)
إذا تقرر ذلك، فبه تعلم أنَّ: ليس من شرط الشرك أن يكون السائل لتلك الأرواح وللأموات وللملائكة أنْ يعتقد أنها تنفع السائل استقلالا، كما زعم أكثر مشركي هذا العصر أنهم -يعني عباد القبور وعباد الأوثان- لا يسألون الموتى باعتقاد أنهم ينفعون استقلالا وإنما يقولون: نسألكم لما لهم من المقام عند الله حتى يشفعوا لنا. إذا كان هذا الأمر واقعا من أهل العصر ومن عصر الشيخ ومن قرون، فالملائكة أشركت العرب بها وأشرك المشركون بالملائكة لأجل الشفاعة فقط، ومع ذلك قال الله جل وعلا ?أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ?[سبإ:40]، فالغاية وإن كانت ربما تكون يُعذر بها المرء لكن الوسيلة كانت بالشرك، فالطمع في رضا الله جل وعلا هذه غاية طيبة، وكل العباد يطمعون في رضا الله جل وعلا، لكن لا بد أن يكون طلب رضا الله جل وعلا بوسيلة مشروعة، وعبادة الملائكة وعبادة الصالحين لا يحصل بها رضا الله جل وعلا ولو كان الذي عبد قال ما عبدتهم إلا لأجل أن يعفو الله عني، وإلا فالله جل وعلا هو الذي يعفو هؤلاء وسائط، يقول هذا هو الذي من أجله حُكِم على أهل الإشراك بالشرك، كما قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا? في أول سورة الزمر ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، فإذن غاية أن يقرب المسؤولُ السائلَ إلى الله زلفى، ليست غاية المشرك في الزمن الأول أنْ يعبد المسؤول لقصد أن يعبده، هذا غير موجود؛ يعبد الصنم لغاية أن يعبد الصنم لذاته أو يعبد الملك لغاية أن يعبد الملك في ذاته؟ لا، وإنما يتقرب بالقرابين حتى يعطف عليه الملك ويرفع حاجته إلى الله، يتقرب بالقرابين للميت حتى يعطف عليه الميت بروحه، وكلما تقرب أكثر ازدلف منه وقرب منه فيرفع حاجته إلى الله جل وعلا.(17/88)
فإذن غاية المشركين في عبادتهم غير الله جل وعلا أن يصِلُوا إلى الله جل جلاله، وهذه هي الغاية الموجودة في أهل هذا الزمان يقولون: ما نعبد هذه ما نتوجه هذه التوجهات بأننا نعتقد في هذه الأموات أوفي الأرواح أنها تملك الأشياء استقلالا حاشا وكلا، وإنما لأجل أن تتوسط عند الله جل وعلا فهي أرواح طاهرة وهم مقربون عند الله. يقول هذا هو عين شرك الأولين، هو عين الإشراك الذي وقع في كل أمة بعث إليه رسول ينهاهم عن الشرك ويأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.
مهمٌّ أن تفهم الحقائق لأن تغير الصور وتلبيس الأمور وتسمية الأشياء بغير اسمها هذا لا يغير الحقائق في الشرع وما جاء التلبيس إلا من جهة الألفاظ أنْ تسمى الأشياء بغير اسمها.
قال بعد ذلك في صورة ثانية مثل آخر، قال (أو يدعو رجلا صالحا مثل اللاتّ) قال جل وعلا ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20]. وفي قراءة ? أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَّ وَالْعُزَّى? واللاتَّ رجل –كما قال ابن عباس- كان يلتُّ السويقَ، رجل صالح كان يلت السويق ويُطعمه الحاج وكان يجلس ويفرق ذلك عند صخرة، فلما مات جعلوا قبره عند ذلك المكان، وصروا يتناوبون عليه لصلاحه، ويستغيثون به ويسألونه لأجل أنه أمضى حياته في صلاح وفي نفع للناس، فاعتقدوا فيه، فهذا اللاتّ أشرك به العرب لأجل أن روحه طاهرة وأن أعماله في الدنيا صالحة فقالوا هو إذن مقرّب عند الله جل وعلا، فإذا كان كذلك فلنتقرب إليه بالقرابين بالذبح والنذر، فلنستغث به، فلندعه ليرفع الحاجات إلى الله جل وعلا، وهذا هو عين الشرك المشركين الآلهة المختلفة، بالموتى، بالأنبياء، بالحسين، وبزينب، وبالبدوي وبالعيدروس وبعبد القادر وأنواع الموتى من الأنبياء والصالحين لأجل هذه الشبهة؛ الصلاح والقرب من الله جل وعلا.
قال (أو نبيا مثل عيسى) مثل الشيخ رحمه الله بثلاثة أمثلة:
الأول: الملائكة.(17/89)
الثاني: رجل صالح اللاتّ.
الثالث: بالأنبياء عيسى.
وعيسى اتخذ إلها يسأل ويطلب منه ويستغاث به وتنزل الحاجات به.
النصارى مختلفون في عيسى:
¨ إما أنه يرفع الحاجات إلى الله جل وعلا ولا يرد الله جل وعلا طلبه، كما هو اعتقاد طائفة من النصارى.
¨ أو لأنه تَشَخُّص للإله، أو كما يقولون أحد الأقانيم الثلاثة يعني صفة وصورة من صور الإله في بعض أحواله حيث إتحد كما يقولون اللاهوت في الناسوت في هذه الصورة، فصورة حلول الإله في البشر متمثلة في عيسى عند طائفة من النصارى.
فالنصارى يستغيثون ويسألون عيسى إما على أنه بعض الإله أو على أنه مقرب عند الله الواحد ويسأل لأجل قرب مقامه عند الله.
هذه ثلاثة أمثلة:
استغاثة أو تأليه الملائكة بسؤالهم ودعائهم والاستغاثة بهم وإنزال الحاجات بهم والتعلق بهم ورفع ما يريده العباد عن طريقهم يعني أن يكونوا وسطاء.
الثاني في الصالحين الرجال الصالحين مثل اللاتّ.
وبعيسى.
فهذه الأمثلة الثلاثة، إذا تأملتها وتدبرت وفهمت لما أشرك من توجه إلى الملائكة؟ وبما وكيف أشرك من توجه إلى الرجل الصالح اللات؟ وبما أشرك من توجه إلى عيسى؟ علمت حقيقة الشرك، ولم يلبّس عليك أو يقول قائل هذا الذي يمارَس اليوم ليس بشرك وإنما من سماه شركا أكبر مخرجا من الملة تشديد من المتشددين أو من الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته ومن اتبعه على ذلك؛ لأن حقائق الأشياء هي التي تفصح لك عن [الغرور].(17/90)
قال رحمه الله بعد ذلك (وعرفت)، طبعا قوله (أو نبيا مثل عيسى) دليله قول الله جل وعلا في سورة المائدة في آخرها ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ?[المائدة:116]...([14]), مع قول عيسى عليه السلام ?يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ]([15]) إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72].(17/91)
قال بعد ذلك (وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم على هذا الشرك) لِمَ قاتل النبي عليه الصلاة والسلام قريش والعرب؟ لأنهم كانوا مشركين، بما كانوا مشركين؟ بما ذكرنا سالفا بعبادة غير الله، هل كانوا يعبدون غير الله لقصد ذلك الغير أم لأجل الوساطة والتوسل؟ لأجل الوساطة والتوسل بنص القرآن؛ ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، لم يكونوا يتوجوه إلى الله أو الرجل الصالح أو الأنبياء بقصد أن يتوجهوا إليهم استقلالا إنما كان من أجل التقرب لله جل وعلا فكل يريد التقرب إلى الله وهذا التقرب يكون عن طريق واسطة ولأجل هذه الواسطة صاروا مشركين لما توجهوا إلى الموتى وإلى الغائبين وإلى الملائكة بأنواع العبادات، قال (وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم على هذا الشرك) قاتلهم استحل دماءهم وأموالهم وجعل من يقاتل أولئك شهيدا إن مات في قتالهم وجعله موحدا وأولئك جعلهم مشركين ومن قُتل من أولئك شهد عليه بالنار ومن قتل من المسلمين شهد له بالجنة إن كان قتاله لله وهكذا، لم قوتلوا ولم استحلت أموالهم ودماؤهم؟ لأجل أنهم مشركون ذلك الشرك، ولهذا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال في رسالة له ”وعرضت ما عندي من التوحيد على علماء الأمصار فوافقني طائفة والأكثرون وافقوني على التوحيد لكن عَظُم عليهم التكفير والقتال“ وهاتان المسألتان ترتيب حتمي لما قدمناه، يعني إذا ثبت أنهم مشركون فلا بد أن تترتب أحكام المشركين، لا بد أن يقاتلوا مع القدرة على ذلك، لا بد أن يقاتلوا إذا قوتلوا لابد أن يكون هناك تميز، هؤلاء موحدون وهؤلاء مشركون، ولا بد أن يكون هناك نشر للتوحيد ودحض للشرك وإقرار لما يحب الله جل وعلا ويرضى من الإخلاص وعبادته وحده لا شريك له في القتال، قال ”خالفوني في القتال والتكفير“ لأن التخلص من تأثير الناس في حقائق الأشياء يحتاج إلى علم راسخ وإلى تجرد(17/92)
من [.....] الناس وشبهاتهم.
الشيخ رحمه الله في هذه الرسالة يريد منها أن يكشف الشبهات ويبين أن التوحيد هو حق الله جل وعلا، وأن ما يمارس الناس في هذه الأزمنة بما يسمونه الاعتقاد والتعلق بالأرواح ونحو ذلك والاعتقاد في الميت، ويسمونه السيد أن هذا عين الشرك، يترتب على ذلك الأحكام بقية الأحكام من التكفير أولا، ثم قتالهم على أنهم كفار ومشركون.
وشرح الله جل وعلا صدر الشيخ وصدر أئمة الدعوة في أول هذا الزمان حتى انتشرت دعوة التوحيد ولله الحمد بهذه الدعوة المباركة وبتأليف من نصرها وأيدها بالسيف والسنان وهو الإمام المجاهد محمد بن سعود رحمه الله تعالى وكذلك أبناؤه من بعده، وبقيت هذه الدعوة في الناس إلى اليوم لتساند السنان مع القرآن في ذلك، وهذا لابد منه لا يمكن أن تنتشر إلا بقوة تحميه، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دعوته وعلمه كان واسعا ونشر التوحيد ودعا إلى ذلك وصنف المصنفات، لكن لم يكن له سيف يحميه فسجن ولم يتمكن من نشر التوحيد في الناس، لكن الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أيده الله جل وعلا بالأئمة بآل سعود المبارك، ونشروا هذه الدعوة في الناس وبقيت إلى هذا الزمان.
الناس الذين اعترضوا على هذه الدعوة قالوا هذه الدعوة قاتلت الناس، تجد في كتب تواريخ نجد يقولون قاتل المسلمون المشركين، ويستعظم الناس كيف يسمى أتباع الدعوة مسلمين وكيف يسمى الآخرون مشركين، نقول هذه حتمية؛ لأن توحيد الله ليس فيه مجاملة إنما هو حق وباطل ?فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ?[يونس:32]، فلا بد من ترتب الأحكام ترتب أحكام التوحيد والشرك في الأرض، فإذا وجد الشرك لا بد أن توجد المناطة بذلك، وهو أن يوصف أولئك بأنهم مشركون وأنهم كفار، ولابد من قتالهم مع القدرة حتى يكون الدين كله لله جل وعلا.(17/93)
قال الشيخ رحمه الله هنا (وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18])، (قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده) يعني إلى التوحيد إلى أن لا يعبد إلا الله ألا يتوجهوا في شيء من أنواع العبادة إلا لله جل وعلا وحده.
وهذه الرسالة موضوعة لبيان حقيقة التوحيد وكشف كل شبهة أدلى بها خصوم الدعوة في مسائل التوحيد وبيان أنّ هذا الأمر حق لا لبس فيه، ومن درس التوحيد حق الدراسة انشرح صدره لهذا الأمر أعظم انشراح، وصار في قلبه من تعظيم الله جل وعلا وتعظيم دعوة التوحيد ما به يستطيع أن يرد على المبطل في هذا الأمر.(17/94)
ولهذا يذكر أن أحد العامّة من أتباع الدعوة، قال له بعض المشككين أنتم متعصبون للشيخ محمد بن عبد الوهاب تعصب لأنه من نجد وأعلم وكذا فتتعصبون له، فقال هذا العامي لذلك المدلي بهذا الكلام، قال لو خرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب من قبره، وقال ما دعوتكم إليه وما ذكرته لكم غير صحيح، ما قبلنا كلامه واستمررنا على التوحيد، لأنهم ما أخذوا به تقليدا وإنما أخذوا به عن حجة بينة واضحة، فلو أتى آتٍ وقال هذا غير صحيح، مثلا ضل ضال كان من الموحدين كان من أتباع السلف كان من السلفيين ثم بعد ذلك انقلب إلى شيء آخر، انقلب إلى طائفة المشركين أو المبتدعة فهل يشك الموحد فيما عنده من الحق؟ لا، لم؟ لأنه عرف الحق بدليله، عرف الحق بنص من الكتاب والسنة وفعل سلف الأمة، والعلماء في هذه الأمة ليسوا كعلماء النصارى، يُقبل ما يقولون هكذا مطلقا، بل هم أدوات لفهم نصوص الكتاب والسنة، ليسوا مستقلين، ما يقال يطاع فيه دون نظر إن قال الشيء وبيّن الحق قبلت منه الأمة، والأمة لا تقر أحدا على ضلالة فإذا ضل ضال بينت الأمة ضلاله ولله الحمد؛ لأنه لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
هذه المقدمات من المهم أن تراجعها مرة تلوى الأخرى؛ لأن فيها بيان ما في هذه الرسالة.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الانتفاع بما سمعنا والانتفاع بما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
هذا الدرس بمناسبة الاختبارات يكون آخر درس، ونعود إن شاء الله بعد رمضان؛ يعني مع أول أسبوع من الدراسة حتى يتمكن الإخوة الطلاب من الحضور للدرس.
[الأسئلة]: نأخذ ثلاثة أسئلة فقط.
1/ ما رأيك في كتاب الأصنام للكلبي؟(17/95)
الكلبي متهم في حديثه، ولكن من جهة الأخبار والتاريخ والأشعار يقبل العلماء ما يذكره من ذلك لأنه أخباري أو إخباري نسّابة معروف من العلماء المعروفين في التاريخ من حيث الأخبار والنسب، وما ذكره في كتاب الأصنام مما كان عند العرب أكثره صحيح؛ يعني العلماء تتابعوا على النقل عنه.
2/ يقول أليس شرك هذا العصر أعظم من شرك المشركين الأولين؛ لأنهم يعتقدون فيها أنها تنفع وتضر بذاتها؟
لاشك طائفة من أهل هذا العصر زادوا على المشركين مشركي الجاهلية بأشياء، كما ذكر ذلك الشيخ محمد رحمه الله في القواعد الأربع في آخرها القاعدة الرابعة أن مشركي زماننا أعظم شركا من المشركين الأولين لأن الأولين يشركون بالله جل وعلا في الرخاء أما في الضراء إذا أصابتهم الشدة توجهوا إلى وحده كما قال تعالى ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65], وقال جل وعلا ?[وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]([16]) فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ?[لقمان.32], وقال جل وعلا ?حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ([17]) فِي الْفُلْكِ?[يونس:22]، قال جل وعلا في سورة يونس ?وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ? إلى أن قال ?دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ(22)فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ?[يونس:22-23] وشرك المشركين الأولين يشركون في الرخاء أما في الضراء فيتجه إلى الله وحده، وأما أهل هذا الزمان فإنهم يشركون بغير الله في السراء والضراء.
3/ ما حكم الصلاة في مكان فيه صورة أو تمثال.(17/96)
إذا كانت الصورة أو التمثال في غير جهة المصلي؛ يعني في غير القبلة فالصلاة صحيحة، لكن بالجملة الصلاة في مكان فيه صورة لا تجوز، صورة أو تمثال؛ يعني صورة معلقة أو تمثال منصوب أو نحو ذلك في نفس المكان لا تجوز، لكن إذا لم يكن في جهة المصلي أو في بقعته يعني في مكان سجوده وصلاته فإن الصلاة صحيحة؛ لأن النهي ما توجه إلى البقع، قد علمت أن النهي يقتضي الفساد إذا كان راجعا إلى شرط من شروط الصلاة، والبقع من الشروط ولكن المقصود البقعة التي يصلي فيها لا ما حولها، والصحابة رضوان الله عليهم صلوا في الكنائس فيها صور؛ لأنهم توجهوا إلى القبلة في مكان ليس فيه صورة يعني في قبلتهم لما صلوا.
نكتفي بهذا القدر.
نعم آية سورة المائدة ?يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72].
بارك الله فيكم أستودعكم الله، يوم الثلاثاء ما فيه درس إن شاء الله يوم الخميس في الصباح إن شاء الله، وفقكم الله([18])
?????
[المتن]
وتحققت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلهم ليكون الدعاء كله لله والنذر كله لله والذبح كله لله والاستغاثة كلها بالله وجميع أنواع العبادات كلها لله، عرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليما مزيدا، أما بعد:(17/97)
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح الخاتمة الحسنة.
هذا الكتاب -وهو كتاب كشف الشبهات لإمام هذه الدعوة الإمام المصلح المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- معقود لبيان الشبهات التي احتج بها أعداء الدعوة على الإمام فيما أوردوه، وقد بينت لكم فيما سلف أن تلك الاحتجاجات وذلك العلم الذي عند المشركين احتجاجات باطلة وعلم غير نافع؛ لأن الله جل وعلا بيّن أن مجادلة أولئك إنما هي عليهم كما قال حل وعلا ?وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ?[الشورى:16]، فلو سموها حججا ولو سموا ها عندهم أدلة وبراهين، فإنها حجج داحضة وأدلة راجعة بالإبصار على مقالهم، وبراهين لا تستقيم لهم إلا بما عندهم من الفساد في التصور أو الفساد في التعلق بغير الله جل وعلا، كذلك ذكرنا أن من أعظم السبل التي يدين لك بها دين المرسلين عليهم صلوات الله وسلامه أنْ تعلم حال أهل الجاهلية قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن حال أهل الجاهلية معروف بيّن، وطريق معرفته ما جاء في القرآن من وصف مقالهم ووصف فعالهم ووصف اعتقاداتهم ووصف أحوالهم، فهذا فيه تقرير للحال التي كانوا عليها، كذلك من سبل معرفة ما كانوا عليه من الأحوال والاعتقادات الباطلة معرفة أشعار العرب؛ لأن فيها ما كانوا عليه، ومن سبل ذلك معرفة قصص العرب والتاريخ الذي نقله المؤرخون عنهم.(17/98)
ومن الأمر المقرر الواضح في الكتاب والسنة عن حال المشركين من أهل الجاهلية ومما بينه المؤرخون بما هو واضح أنّ أولئك الذين بعث إليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعبدون الله جل جلاله وكانوا يصلون وكانوا يتصدقون وكانوا يحجون البيت ويعتمرون وكانوا يتنزهون من بعض النجاسات وكانوا يغتسلون من الجنابة كما سبق أن ذكرت لكم أدلة هذه الجملة مفصلة في أول الشرح عند قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أول الرسالة (وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين أرسله الله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرا ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون نريد منهم التقرب إلى الله).(17/99)
إذن فمدار الصواب في العبادة أنْ لا يعبد إلا الله الملك الحق المبين، وأنّ دعوة غيره باطلة ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[الحج:62]، وإقرار المشركين بأن لهم ربا خالقا رازقا ويقولون ما شاء الله ويقولون لا حول ولا قوة إلا بالله وما شاكل ذلك الكلام، ويدعون ويتصدقون ويحجون ويعتمرون، لم يجعلهم ذلك مسلمين بل كانوا مشركين؛ لأنهم لم يوحدوا الله جل وعلا في العبادة، وهو الذي نقول إن معناه لم يفردوا الله بأفعالهم التي يتقربون بها يرجون الثواب ويخافون بها العقاب، وإنما توجهوا بها إلى آلهتهم المختلفة، ولما جاءهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وبيّن لهم الدين، وبيّن لهم توحيد الإلهية لم ينكروا أحقية الله جل وعلا بالعبادة، ولكن أنكروا إبطال استحقاق تلك الآلهة بشيء من العبادة، كما قال جل وعلا عنهم في سورة الصافات ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ(36)بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ?[الصافات:37]، وقال جل وعلا في سورة ص ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?[ص:5].(17/100)
إذن هذه القاعدة هي أعظم ما يكون به تكون المقدمة لردّ أي شبهة يحتج بها المشركون ويحتج بها علماء المشركين في التعلق بغير الله جل وعلا بأي نوع من التعلقات، فإنهم استعظموا أن الذين يعبدون الموتى ويعمرون المشاهد بالذبح والنذر للأموات وما أشبه ذلك، يستبعدون بل يتعاظمون أن يكون أولئك مشركين، وإذا قلت لهم: لم؟ قالوا لأنهم يذكرون الله ويصلون وهم إنما أرادوا بذلك الله جل وعلا، اتخذوا هؤلاء واسطة فقط، ولم يريدوا الاستقلالية، وإلا فإنهم يعلمون أن الرازق على الحقيقة هو الله، ولكن هؤلاء الأموات واسطة.
فهذه المقدمة من الشيخ رحمه الله وما ذكرتُ لك من بيانها تُبين لك أن هذه الحجة من المشركين هي الحجة التي سلفت، فهي احتجاج قوم نوح على نوح، وهي احتجاج أقوام المرسلين على المرسلين، وهي احتجاج قريش العرب على محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قال سبحانه وتعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3]، إذا عرفتَ أنهم أرادوا الواسطة، عرفتَ أنهم كانوا مُقرين بتوحيد الربوبية، مُقرين بأنه لا خالق إلا الله، لا رازق إلا الله ولا يحيي ولا يميت إلا الله جل جلاله، وأنهم كانوا يذكرون الله ويتعبدون ويصلون الصلاة على حسبها ويحجون ويعظمون البيت، وربما كان من بعضهم إخبات وإنابة، لكن لما لم يكونوا مفردين الله جل وعلا بالعبادة قاتلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -.(17/101)