قسم العقيدة(/)
شرح
كتاب ثلاثة الأصول
لشيخ الإسلام الإمام المجدد
محمد بن عبد الوهاب المشرفي التميمي
1115هـ - 1206هـ
-رحمه الله تعالى-
[(6.) أشرطة مفرّغة]
ينبغي لنا أن نحرص على هذه الرسالة؛ تعليما لها للعوام، وللنساء في البيوت، وللأولاد ونحو ذلك، على حسب مستوى من يخاطب في ذلك، وقد كان علماؤنا رحمهم الله تعالى يعتنون بثلاثة الأصول هذه تعليما وتعلما، بل كانوا يلزمون عددا من الناس بعد كل صلاة فجر أن يتعلموها، أن يحفظوا هذه الأصول ويتعلموها، وذلك هو الغاية في رغبة الخير، ومحبة الخير لعباد الله المؤمنين، إذْ أعظم ما تُسدي للمؤمنين من الخير، أن تسدي لهم الخير الذي ينجيهم حين سؤال الملكين للعبد في قبره، لأنه إذا أجاب جوابا حسنا -جوابا صحيحا- عاش بعد ذلك سعيدا، وإن لم يكن جوابه مستقيما ولا صحيحا عاش بعد ذلك، والعياذ بالله على التوعد بالشقاء والعذاب.[صالح آل الشيخ]
?????????????????
نسأل الله جل وعلا أن يبصرنا بالحق وأن يمن علينا بالالتزام به، وبالثبات عليه، حتى يتوفانا وهو راضٍ عنّا.
هذه الدروس متنوعة، منها درس في ثلاثة الأصول وهي رسالة لإمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وبعدها درس في الورقات للجويني في أصول الفقه, وهذا بعد العصر, وبعد المغرب إن شاء الله تعالى, يكون ثَم درسان؛ الأول في التفسير؛ وسنفسر إن شاء الله تعالى سورة تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير؛ المسماة سورة الملك، وبعدها درس في الحديث؛ نشرح فيه إن شاء الله تعالى، ما نتمكن من شرحه من الأربعين النووية، على وجه الاختصار والإيضاح إن شاء الله تعالى.(1/1)
سبب الاختيار، أن هذه الدروس مدتها وجيزة أولا من حيث الزمن؛ لأنها مُقْتَطَعة من هذه العطلة، وبالتالي هي غير متصلة، فلهذا يناسب أن يشرح فيها أشياء تُنبه طلاب العلم إلى ما يجب أن يسلكوه في طلب العلم؛ لأن الكثير من الشباب يحب العلم، ويروم طلبه, لكنه لا يوفق إلى الطريق الصحيح لطلب العلم، فمنهم من مضى عليه سِنُون عددا يقرأ وربما يبحث، لكن لو فتّش في نفسه لوجد أنه لم يحصل من العلم، ما به يكون على أرض يمكنه المشي عليها في طريق العلم اللاّحد الطويل، وسبب ذلك أنه فقد التأصيل العلمي الذي كان يعتني به العلماء منذ قرون كثيرة.
رسالة ثلاثة الأصول, رسالة مهمّة لكل مسلم، وكان العلماءُ -أعني علمائنا- يعتنون بها شرحا، في أول ما يشرحون من كتب أهل العلم، ذلك؛ لأن فيها الجواب عن أسئلة القبر الثلاث؛ ألا وهي سؤال الملكين العبد عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه، وهي ثلاثة الأصول يعني معرفة العبد ربه؛ وهو معبوده، ومعرفة العبدِ دينه؛ دين الإسلام بالأدلة، ومعرفة العبد نبيه عليه الصلاة والسلام، فمن هاهنا جاءت أهمية هذه الرسالة؛ لأن فيها من أصول التوحيد والدين الشيء الكثير.
وأصول الفقه مهمة أيضا والعناية بها ضعيفة فيما أحسب وأسمع، وتأتي أهميتها لأنه كثر المجتهدون دون معرفةٍ لأصول الاستنباط، والاستنباط له أصوله؛ أصول الاستنباط هي أصول الفقه, فكم سمعنا من متكلم في مسائل شرعية, لم يحسن الكلام عليها تأصيلا و لا استنباطا, ويظن أنه محسن مصيب في استدلاله, لما؟ من أين أتاه الغلط؟ أتاه من ضعفه بأصول الفقه, نعم, إن هذه الورقات مقدمة في أصول الفقه, لم تشتمل من أصول الفقه إلا على أشياء يسيرة, فلا تهيئ تلك الرسالة طالب العلم إلى أن يفهم الأصول كما ينبغي, ولكنها تعطيه مفاتيح يدخل بها بيت أصول الفقه.(1/2)
وأما التفسير, تأملتُ فترة فيما أختاره في التفسير, هل أختار تفسير سورة الفاتحة؟ أم أختار تفسير جزء عم؟ باعتبار أنه كثيرا ما يقرأ في المساجد في الصلوات الجهرية, وربما قرأه كثيرا من المسلمين, بله طلاب العلم, في صلاتهم، وربما لم يدركوا، أو لم يعلموا كثيرا من معاني التي يتلونها كثيرا ويسمعونها كثيرا, لكن لقصر الوقت نظرت في أن سورة تبارك اشتملت على أصول عظيمة, ويمكن ببيان وتفسير آياتها ما يُنبه طلاب العلم على ضرورة الاعتناء بالتفسير, خاصة تفسير الآيات التي تحفظُها, والتي تقرأُها في صلاتك والتي تسمعها، فكم يُعاب المرء أن يَسمع كلاما يردد عليه وهو يجهل معناه، تُردد عليه قصار السور وربما جهل بعض تلك المعاني ليس الجهل عيبا, لكن الإصرار على الجهل هو العيب, وما أحسن قول أبي الطيب المتنبي حيث قال:
ولم أر في عيوب الناس عيبا
كنقص القادرين على التمام
وأنتم أيها الشّبَبَة قادرون بلا شك على التعلم، قادرون على الفهم, قادرون على الفقه, لكن العيب يأتي من إضاعة الوقت في غير ما ينفع, التفسير مهم ومعرفة معاني الآيات وسيلة, لاشك من وسائل الثبات على الإيمان, وتحصيل العلم النافع.
بعد التفسير الأربعون النووية, وهذه الأربعون النووية جمعت أحاديث، شهد العلماء بعد محي الدين يحيى بن زكريا النووي -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- على حسن اختياره لها, وعلى أنها جمعت الأحاديث التي عليها مدار الإسلام, لهذا اعتنى العلماءُ بشرحها هذه الأربعون, ينبغي لنا أن نحفَظَها, وينبغي أن نفهم معانِيَها, وأن نقرأَ ما قاله العلماء في شرحها.(1/3)
هذه مقدمات لهذه الدروس, هذه المقدمات التي قدمتُ بها, أردتُّ منها أن أرشدك إلى أن العلم لا يُنال مرة واحدة, وإنما يُنال العلم على مر الأيام والليالي, كما قال ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى، فيما رواه ابن عبد البر في كتاب الجامع قال: "من رام العلمَ جملة ذهب عنه جملة، إنما يُطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي" وهذا حق, العلم يبدأ بتحصيل صغاره قبل كباره، إذا حصلت صغار المسائل قبل الكبار فأنت على طريق العلم، وأما إذا ابتدأت بالكبار دون معرفة الصغار؛ صغار المسائل؛ واضحات المسائل, وابتدأت بالكبار التي فيها خلاف، تحتاج إلى بحث، تحتاج إلى ترتيب, تنازع العلماء فيها, كما هو ديدن بعض طلبة العلم، أو بعض المبتدئين في العلم، فإنه يذهب عنك العلم، لهذا أأكد على ضرورة تأصيل العلم والسير فيه خطوة فخطوة, وإنما يطلب العلم على مر الأيام والليالي:
اليوم علم وغدا مثلُه
من نُخب العلم التي تُلتقط
يُحصِّل المرء بها حكمة
وإنما السيل اجتماع النقط
وهذا واقع وقد ذكر الخطيب البغدادي بإسناده في كتاب الجامع ببيان أدب السامع، ذكر حكاية عن أحد رواة الأحاديث، بأنه طلب العلم، وحرص على لقاء الشيوخ، وأخذ عنهم، لكنه لم يحفظ، مرت عليه الأيام ولم يحفظ، لم يفهم، ومضى الوقت وهو على هذا فظن أنه لا يصلح للعلم فترك العلم، فبينما هو يسير مرة إذا بماء يتقاطر على صخرة، وهذا الماء قد أثَّر في الصخرة، فحفر فيها حفرة، فنظر متأملا فقال: هذا الماء على لطافته أثر في هذا الصخر على كثافته، فليس العلم بألطفَ من الماء، يعني بأخف من الماء، وليس قلبي وعقلي بأكثف من الصخر، ورجع يطلب العلم من جديد، وحصَّل وأصبح من رواة الحديث الذين لهم شهرة، إذن فالعلم يحتاج إلى مواصلة ما نيأس نواصل, نواصل, نحفظ، ندارس, لكن ينبغي بل يجب أن يكون على أصوله خطوة فخطوة، ومن بدأ من الأهم ثم أعقبه بالمهم، فإنه يحصل إن شاء الله تعالى.(1/4)
نبدأ بثلاثة الأصول نفعني الله جل وعلا وإياكم بها:
[هذا سؤال لطيف يقول ما إعراب ثلاثة الأصول وأدلتها ولماذا لم يقل المصنف: الأصول الثلاثة وأدلتها وما هي العبارة الأصح؟
الشيخ رحمه الله تعالى له رسالة أخرى بعنوان الأصول الثلاثة رسالة صغيرة أقل من هذه علمًا؛ ليعلمها الصبيان والصغار تلك يقال لها الأصول الثلاثة, وأما ثلاثة الأصول فهي هذه التي نقرأها، ويكثر الخلط بين التسميتين، ربما قيل لهذه ثلاثة الأصول، أو الأصول الثلاثة، لكن تسميتها المعروفة أنها ثلاثة الأصول وأدلتها.
إعراب ثلاثة الأصول وأدلتها:
ثلاثة: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه (هذه ثلاثة) خبر مرفوع بالابتداء وعلامة رفعه الضمّة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
الأصول: مضاف إليه مجرور بالتبعية وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره.
الواو: عاطفة.
أدلةُ: معطوف على ثلاثة مرفوع بالتبعية؛ تبعية العطف، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
ها: ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالاضافة.]([1])
?????
بسم الله الرحمن الرحيم.
اعلمْ -رحمكَ اللهُ- أَنَّهُ يجبُ علينَا تَعَلُّمُ أربعِ مسائلَ؛ الأُولى: العِلْمُ؛ وهوَ معرفةُ اللهِ، ومعرفةُ نبيِّهِ، ومعرفةُ دينِ الإسلامِ بالأدلةِ. الثانيةُ: العملُ بهِ. الثالثةُ: الدعوةُ إليهِ. الرابعةُ: الصبرُ علَى الأَذى فيهِ.
والدليلُ قولُه تعالَى: بسم الله الرحمن الرحيم ?وَالْعَصْرِ*(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)?[العصر]، قالَ الشافعيُّ رحمَهُ اللهُ تعالَى: لوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هذِه السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ.(1/5)
وقال البخاريُّ رحمَهُ اللهُ تعالى: بابٌ العلمُ قبلَ القولِ والعملِ والدليلُ قولُه تعالَى ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ?[محمد:19]، فبدأَ بالعلمِ قبلَ القولِ والعملِ.
الحمد لله رب العالمين، قال الشيخ رحمه الله تعالى في أول هذه الرسالة (اعلمْ -رحمكَ اللهُ-), أو (اعلم رحمني الله وإياك) وهذا فيه التلطف، وفيه تنبيه إلى أن مبنى هذا العلم على التلطف، وعلى الرحمة بالمتعلمين, لأنه دعا له بالرحمة, وكان العلماء يَروُون ويُروُّون لمن بعدهم فيمن طلب الإجازة في الحديث, رواية حديث «الراحمون يرحمهم الرحمان»، وهذا الحديث هو المعروف عند أهل العلم بالحديث بالمسلسل بالأولية لما؟ لأن كل راو يقول لمن بعده "وهو أول حديث سمعته منه"(فعلماء الحديث يروون هذا الحديث لتلامذتهم ويكون أول حديث فيما يروون ألا وهو حديث «الراحمون يرحمهم الرحمان» ففي الإجازات ترى أن كل شيخ يقول عن شيخه حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال حدثني شيخي فلان وهو أول حديث سمعته منه، إلى أن يصل إلى منتهاه قال الرسول صلى الله عليه وسلم «الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، قال العلماء سبب ذلك أن مبنى هذا العلم الرحمة، ونتيجته الرحمة في الدنيا، وغايته الرحمة في الآخرة، لهذا الشيخ رحمه الله نبه على ذلك تنبيها لطيفا دقيقا حيث قال (اعلمْ -رحمكَ اللهُ-)؛ دعاء للمتعلم بالرحمة, ذلك لأن مبنى التعلم بين المعلم والمتعلم هو التراحم كلٌّ بما يناسبه.(1/6)
(يجبُ علينَا تَعَلُّمُ أربعِ مسائلَ) الوجوب ها هنا المقصود به ما يشمل الوجوب العيني والوجوب الكفائي؛ أما بالنسبة للأول ألا وهو العلم، فما ذكره واجب علينا أن نتعلمه وجوبا عينيا، ألا وهو معرفة ثلاثة الأصول؛ معرفة العبد ربه، ومعرفة العبد دينه، ومعرفة العبد نبيه، هذا واجب فمثل هذا العلم لا ينفع فيه التقليد، واجب فيه أن يحصله العبدُ بدليله، والعبارة المشهورة عند أهل العلم: أن التقليد لا ينفع في العقائد, بل لابد من معرفة المسائل التي يجب اعتقادها بدليلها, هذا الدليل أعم من أن يكون نصا من القرآن, أو من سنة, أو من قول صاحب, أو من إجماع, أو قياس, وسيأتي تفصيل الدليل إن شاء الله تعالى في موضعه.
التقليد هذا لا يجوز في العقائد عند أهل السنة والجماعة, وكذلك لا يجوز عند المبتدعة من الأشاعرة والماتريدية والمتكلمة، لكن ننتبه إلى أن الوجوب عند أهل السنة يختلف عن الوجوب عند أولئك في هذه المسألة، والتقليد عند أهل السنة يختلف عن التقليد عند أولئك, فأولئك يرون أن أول واجب هو النظر, فلا يصح الإيمان إلا إذا نظر، ويقصدون بالنظر؛ النظر في الآيات المرئية؛ في الآيات الكونية، ينظر إلى السماء، يستدل على وجود الله جل وعلا بنظره، أما أهل السنة فيقولون يجب أن يأخذ الحق بالدليل, وهذا الدليل يكون بالآيات المتلوّة, أولئك يحيلون على الآيات الكونية المرئية بنظرهم, بنظر البالغ، وأما أهل السنة فيقولون لابد من النظر في الدليل، لا لأجل الاستنباط، ولكن لأجل معرفة أن هذا قد جاء عليه دليل، في أي المسائل؟ في المسائل التي لا يصح إسلام المرء إلا به؛ مثل معرفة المسلم أن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة دون ما سواه، هذا لابد أن يكون عنده برهان عليه، يعلمه في حياته, ولو مرة، يكون قد دخل في هذا الدين بعد معرفةٍ الدليل, ولهذا كان علماؤنا يعلمون العامة في المساجد، ويحفظونهم هذه الرسالة ثلاثة الأصول لأجل عظم شأن الأمر.(1/7)
أول المسائل الأربع التي يجب علينا تعلُّمها العلم: والعلم أجمله هاهنا بما سيأتي تفصيله في الرسالة، رسالة ثلاثة الأصول شرح لهذا الواجب الأول.
الثاني العمل: العمل بالعلم, والعمل بالعلم منه ما تركه كفر، ومنه ما تركه معصية، ومنه ما تركه مكروه، ومنه ما تركه مباح، كيف يكون ذلك؟ العلم ينقسم، فالعلم بالتوحيد؛ بأن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده، إذا علمه العبد ولم يعمل بهذا العلم بأن أشرك بالله جل وعلا لم ينفعه علمه، فكان ترك العمل في حقه كفرا، وقد يكون معصية بأن علم مثلا أن الخمر حرام شُرْبها، حرام بيعها، حرام شراؤها، حرام سقيها، حرام استسقاؤها, ونحو ذلك, وخالف العلم الذي عنده، عَلِمَ أنه حرام فخالف، فتكون مخالفته معصية، يعني ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب في هذه المسألة، منه ما هو مكروه؛ إذا علم أن النبي عليه الصلاة والسلام، كان يصلي على هيئة, وصِفة معينة، فخالفه في سنة من السنن بعد عِلمه بها، ترك العمل بالعلم الذي عنده هذا مكروه؛ لأنه ترك العمل بسنة ليس بواجب، فيكون تركه مكروه، ويكون العمل بذلك مستحبا، وقد يكون العمل بالعلم مباحا، وتركه مباح أيضا، بمثل المباحات، والعادات ونحو ذلك، كأن بلغنا من العلم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان من هيئته في لباسه كذا وكذا، كانت مشيته على نحو ما، هذه الأمور الجبلية الطبيعية، فيما نتعلمه، مما لم نخاطب فيها بالإقتداء، إذا ترك العمل بها, كان تركه مباحا له لأنه لم يخاطب المسلم أن يقتدي بمثل هذه الأمور بنحو سير النبي عليه الصلاة والسلام, بصوته, بالأمور الجبلية التي كان عليها عليه الصلاة والسلام, فيكون العمل بذلك مباح، وقد يُؤجر عليه إذا نوى الإقتداء, بنية الإقتداء, فيكون ترك العمل أيضا مباحا. العمل هذا أخذه من قوله جل وعلا?إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ?([2]) [العصر:3]كما سيأتي.(1/8)
الثالث الدعوة إليه: إذا علم وعمل فإنه يدعو إلى ذلك والدعوة قد تكون بالمقال، وقد تكون بالفعال؛ لأن الامتثال بالفعل دعوة, فإذا امتثل المسلم لما أُمر به, فإن هذا يجعله يرشد غيره إرشادا صامتا, بالفعل إلى أن هذا مطلوب, والثاني الدعوة بالقول؛ باللسان، والدعوة باللسان قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، فيتفرع عن الدعوة باللسان أنواع من الدعوة منها الدعوة بالكتابة بالقلم؛ في تأليف، أو في رسائل أو نحو ذلك، منها النصائح المختلفة، والمواعظ، ونحو ذلك.
بعد الدعوة الواجب الرابع أن يتعلم الداعية، الذي علم، ثم عمل ثم دعا، أنه يجب عليه أن يصبر: لأن سنة الله جل وعلا في خلقه لم يجعل القبول حاصلا للنبيين والمرسلين الذين هم أفضل الخلق وأعلاهم درجة، لم يجعل القبول لهم، وإنما عورضوا، و أوذوا، وحصل لهم ما حصل، فالداعية يحتاج إلى أن يصبر كما صبر المرسلون, بل إن النبي عليه الصلاة والسلام, أُمر بأن يحتذي حذو الصابرين بقول الله جل وعلا ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ?[الأحقاف:35]، فالصبر, الصبر في غاية المهمات لمن علِم، فعمل، فدعا، يحتاج إلى أن يصبر، فإن لم يصبر، كان من الذين يستخفهم الذين لا يوقنون، قال جل وعلا?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60]؛ قد حذر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه من العجلة قال: «ولكنكم قوم تستعجلون».(1/9)
هذه المسائل الأربع واجب تعلمها، والعمل بها؛ العلم، والعمل، والدعوة، والصبر، ودليل ذلك قول الله جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم ?وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ?[العصر]، قال جل وعلا (وَالْعَصْرِ), العصر هو الزمان, أقسم الله جل وعلا به لشرفه؛ الزمان المطلق، والعصر يعني والزمن, والعمر, والوقت؛ لأنه أشرف شيء أُعطيه الإنسان, أنْ أعطي عمرا فيه يعبد الله جل وعلا, ويطيعه, فبسبب العمر عبَدَ الله، وبسبب العمر شرُف، إن كتب الله جل وعلا له الجنة أن يكون من أهل الجنة، فهو شريف القدر، عظيم القدر، (وَالْعَصْرِ) جواب القسم، يعني ما معنى جواب القسم؟ يعني لأي شيء جاء القسم؟ لما أقسم الله جل وعلا بالعصر؟ قال جل وعلا ?إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ?[العصر:2], فجواب القسم هو (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، وأكد ذلك، بـ(إنَّ) وباللام في قوله (لَفِي خُسْرٍ)، ومن المتقرر في علم المعاني من علوم البلاغة, أن(إنّ واللام من أنواع المؤكدات), اجتمع هاهنا أنواع من المؤكدات, أولا القسم، الثاني مجيء إنّ، الثالث مجيء اللام التي تسمى المزحلقة, أو المزحلفة, مجيء اللام في خبر إنّ، قال جل وعلا ?إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ?[العصر:2]، وأهل العلم يقولون يعني أهل العلم بالمعاني يقولون "إن مجيء المؤكدات يصلح إذا كان المخاطَبُ منكِرا لما اشتمل عليه الكلام". فمثلا تقول لمن لم يكن عنده الخبر، فلان قادم، لا يصلح أن تقول "إنّ فلانا لقادم" وذاك لم ينكر الكلام، ويريد أن يستقبل الخبر، تقول "فلان قادم"، فأخبرته بقدوم فلان، لكن إن كان منكرا له، أو منزل منزلة المنكر له، فإنه تؤكد الكلام له، لكي يزيد انتباهه، ويعظم إقراره لما اشتمل عليه.(1/10)
المشركون لأجل ما هم فيه من شرك، وما عاندوا فيه الرسالة، حالهم بل ومقالهم أنهم هم أصحاب النجاة ?وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى?[فصلت:50]، فهم ينكرون أنهم سيكونون في خسارة، و ينكرون -طائفة أخرى منهم- أن يكون الإنسان سيرجع إلى خسارة، وأنه لن ينجوا إلا أهل الإيمان، فأكد الله جل وعلا ذلك لأجل إنكارهم بالمقال والفعل وبالحال، بقوله ?إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ?[العصر:2]، يعني إن جنس الإنسان، الألف واللام هذه للجنس (الـ) الجنسية، (الْإِنسَانَ) يعني جنس الإنسان (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ), جنس الإنسان في خسر، يعني في خسارة عظيمة، إلا ما اُستثني، وهذا نوع آخر من شد الذهن لقبول الكلام، (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)؛ كل الناس، كل الإنسان في هلاك وخسارة، ثم استثنى فقال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، هؤلاء الذين استثناهم الله جل وعلا هم أصحاب هذه المسائل الأربعة التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)،؛ والإيمان علم وعمل، أليس كذلك؟ الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ هذا الاعتقاد هو العلم، لأن العلم مورده القلب والعقل، هذا العلم، فأهل العلم ناجون من الخسارة ?إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? [العصر:3]، ألم نقل: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وهنا قال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فعطف بالواو العمل على الإيمان، وأهل اللغة -النحاة- يقولون إن الواو تأتي كثيرا للمغايرة، فهل معنى ذلك أن العمل غير الإيمان؟ وأن مسمى الإيمان لا يدخل فيه العمل؟ الجواب لا, ذلك لأن المغايرة تكون بين حقائق الأشياء, وحقيقة الإيمان أكبر من حقيقة العمل؛ لأن العمل جزء من الإيمان؛ العمل بعض الإيمان، وعطف الخاصّ بعد العام يأتي كثيرا، وكذلك عطف العام بعد الخاص يأتي كثيرا بالواو, من مثل قول الله جل وعلا ?مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ(1/11)
وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ?[البقرة:98]، هنا (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) أليسا من الملائكة؟ لما عطفهم على الملائكة؟ عطفٌ للخاص بعد العام، إذن لماذا يعطف الخاص على العام مع دخول الخاص في العام؟ لابد يكون له قصد، لابد يكون ثَم فائدة، الفائدة التنبيه على أنه في الحكم مثل الأول، ولهذا قال جل وعلا هنا (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، والشيخ رحمه الله تعالى فهم ذلك؛ فقال (يجب علينا تعلم أربع هذه المسائل)، فذكر العلم ثم العمل؛ لأنه قال وعملوا الصالحات، فلما عطف الخاص على العام دل على شرفه، وعلى أنه يهتم به، وعلى مزيد مكانته، ثم لأنه في الحكم مثل الأول، قال جل وعلا بعد ذلك، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) يعني دعا بعضهم بعضا إلى الحق، ودعا بعضهم بعضا إلى الصبر، وهذه هي المسائل الأربعة.
الصبر (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)؛ الصبر أقسام ثلاثة: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على قدر الله المؤلم بل صبر على أقدار الله التي تسرّ والتي تؤلم، هذه أنواع الصبر الثلاثة؛ صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على قدر الله، وكلها يحتاج إليها العالمون، العاملون، الدعاة.(1/12)
قال الشافعي رحمه الله بما ذكر الشيخ هاهنا (لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم) يعني لو ما أنزل الله جل وعلا من القرآن، لو ما أنزل الله حجة على الخلق، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذه السورة، لكفى بها حجة، لما ؟ لأنها اشتملت على أن كل الناس آيلون إلى خسارة ووبال وهلاك، إلا أهل هذه الأوصاف؛ وهم المؤمنون. معنى ذلك إذا خوطبنا بهذه السورة، لو خوطبنا بها وحدها، مؤمنون بمن؟ لابد هناك شيء يؤمن به، ثم يعملون, يعملون على أي شيء؟ وبأي شيء؟ لابد أن هناك سبيلا؛ وهو سنة النبي عليه الصلاة والسلام، هناك تواصي بالحق، دعوة إلى ذلك، وتواصي بالصبر؛ صبر على هذا، فترى أن هذه السورة اشتملت على كل ما يدل الخلق على ربهم جل وعلا، ويقودهم إلى إتباع رسالة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم ذكر قول البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، كما نقل الشيخ رحمه الله، (باب العلم قبل القول والعمل) وساق قول الله جل وعلا ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ?[محمد:19]، فبدأ بالعلم قبل العمل والقول؛ الذي هو الاستغفار، لما ذكر الشيخ هذا؟ لأي شيء؟ لأجل أن هذه الرسالة؛ رسالة علم، كلها شرح وبيان للمسألة الأولى، للواجب الأول، ألا وهو العلم، فينبه طالب العلم أن العلم مهم, مهم للغاية، حتى إنه قبل القول والعمل، فقبل أن يستغفر العبد، لابد أن يعلم العلم الواجب عليه، وهذا العلم هو الذي ينجيه بنفسه، هو الذي ينجي به نفسَه -بفضل الله جل وعلا- إذا سئل عن هذه المسائل الثلاثة. الشيخ رحمه الله تعالى يريد أن يبين لك، ثلاثة الأصول هذه، والمسائل المتعلقة بها، فأكد لك أهمية العلم بقوله، فيما ساق عن البخاري (باب العلم قبل القول والعمل)، العلم قبل ولاشك؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى، وما أحسن ما قال، يقول:والجهلُ داءٌ قاتل. صدق؛ الجهل داء قاتل، قال:
والجهلُ داء قاتلٌ وشفاؤه(1/13)
أمران في التركيب متفقانِ
[نص من القرآن أو من سنة
وطبيب ذاك العالم الرباني
والعلم أقسام ثلاث]([3]) مالها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والكلُّ في القرآن والسنن التي
جاءت عن المبعوث بالفرقان
والله ما قال امرؤ متحذلق
بسواهما إلا من الهذيان
بين أن الجهل داء قاتل، بما يُزال الجهل؟ قال (بنص من القرآن أو من السنة), من طبيب ذاك الذي يرشدك ويبين لك؟ قال(وطبيب ذاك العالم الرباني), ليس كل منتسب للعلم ولكن هو العالم الرباني، الذين وصفهم الله جل وعلا في سورة آل عمران، بقوله ?وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ?[آل عمران:79], ثم بين العلم هذا ما هو -الذي تسعى إليه-؟، فقال (علم بأوصاف الإله وفعله وكذلك الأسماء للديان)، هذه شملت التوحيد؛ توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ثم قال العلم الثاني ما هو؟ قال(والأمر والنهي الذي هو دينه) يعني الفقه؛ الأمر والنهي، الأحكام؛ الحلال والحرام، هذا مأمور به، وهذا منهي عنه، هذا افعله، وذاك لا تفعله، هذا النوع الثاني من العلم النافع. والثالث (وجزاءه يوم المعاد الثاني)(الذي هو العلم بما يكون يوم القيامة، ووسائل ذلك.(1/14)
الشيخ رحمه الله تعالى يقول (العلم قبل القول والعمل)، نعم، وصدق رحمه الله، فالعلم إذا كان قبل القول والعمل بورك لصاحبه في القليل، وإن كان العملُ و القول قبل العلم ربما كانت الأعمال و الأقوال جبالا، ولكنها ليست على سبيل نجاة، ولهذا روى الإمام أحمد في الزهد وأبو نعيم وجماعة عن أبي الدّرداء أنه قال: «يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبِطُنا سهر الحمقى وصومهم، ولمثقال ذرة مع بِرٍّ ويقين أعظم عند الله من أمثال الجبال عبادةً من المغترين» يقول يا حبذا، يعني يتمنى نوم الأكياس, الأكياس من؟ (إن لله عبادا فطنا) هؤلاء هم الأكياس الذين حيوا؛ قلوبهم صحيحة، عقولهم صحيحة، يقول يا حبذا نوم الأكياس؛ أهل العلم، وإفطارهم، ناموا، والحمقى على كلام أبي الدرداء سهروا ليلهم في صلاة، لكن هؤلاء لا يستوون عند أبي الدرداء مع أولئك؛ لأن أولئك عبدوا الله جل وعلا على جهل، وهؤلاء عبدوا الله بعبادات قليلة، ولكنها مع علم وبصيرة فكانوا أعظم أجرا، بحيث قال أبو الدرداء رضي الله عنه: «ولمثقال ذرة مع بر ويقين أعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين»، لهذا نقول العلم في غاية الأهمية, العلم في غاية الأهمية، ويُبدأ به قبل أي شيء, خاصة العلم الذي يصحح العبادة، يصحح العقيدة، يصحح القلب، ويجعل المرء في حياته يسير على بيِّنة وفق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ليس على جهالة.
?????
اعلمْ رحِِمكَ اللهُ: أنَّهُ يجبُ على كلِّ مسلم ومسلمة تَعَلُّمُ هذه الثلاث مسائل والعملُ بهنَّ:
الأولى: أنَّ اللهَ خَلَقنا ورَزَقَنا ولم يتركْنا هملاً(بل أرسلَ إلينا رسولاً فمنْ أطاعَهُ دخلَ الجنَّةَ ومنْ عصاهُ دخلَ النّارَ. والدليلُ قولُهُ تعالى ?إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا(15)فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا?[المزمل:15-16].(1/15)
الثانية: أنَّ اللهَ لا يرضى أن يُشْرك معهُ أحدٌ في عبادتِه لا مَلَكٌ مُقَرَّب ولا نبيٌّ مُرْسَل والدليلُ قولُهُ تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18].
الثالثة: أنَّ مَنْ أطاعَ الرسولَ ووحَّدَ اللهَ لا يجوزُ لهُ مُوالاةُ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ ولو كان أقْرَبَ قريبٍ. والدليلُ قوله تعالى?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[المجادلة:22].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فهذه المسائل الثلاث التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى صلة لما قبلها، وتمهيد لما بعدها، فأعاد وكرر بقوله (اعلم رحمك الله)، وفي هذا ما فيه من التلطف بالمتعلمين، اعلم أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل مع المسائل الأربع التي سبقت، وهذه المسائل يجب أن يتعلمها كل مسلم وكل مسلمة؛ لأن فيها بيان أصل الدين وقاعدة الدين:(1/16)
· الأولى من تلكم المسائل: أن الله جل جلاله خلق الخلق لغاية، لم يخلقهم لغير غاية، لم يخلقهم سدا ولا عبثا سبحانه وتعالى عما يصفون، بل إنما خلق الخلق لغاية، قال جل وعلا ?الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً?[الملك:2]، وقال جل وعلا?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا?[المؤمنون:115]، يعني لغير غاية ولغير حكمة ?وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ?[المؤمنون:115]، وأنه لن يكون بعث بعد خلقكم، وأنه لن يكون إرجاع لكم إلى من خلقكم، هذا فيه قدح، هذا الظن فيه قدح في حكمة الله جل وعلا، لذلك قال جل وعلا بعدها ?فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ?([4]) تعالى عما يصفه به المبطلون، تعالى عما يظنه عليه الجاهلون القادحون في حكمته، فإذن الخلق مخلوقون لغاية، ما هذه الغاية؟ هي ما بينها في قوله جل وعلا ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ?[الذاريات:56-58]، الله جل وعلا ما خلق الجن والإنس إلا لغاية واحدة وهي الابتلاء؛ ?لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا?([5]) الاختبار اختبار في أي شيء ؟ في عبادته هل يعبد وحده لا شريك له أم يتخذ المخلوق هذا آلهةً أخرى مع الله جل وعلا؟ وهذه مسألة ولا شك عظيمة.(1/17)
الإنسان خُلق لهذه الغاية، لكن يحتاج إلى من يُبَصِّره بهذه الغاية، ويعلّمه القصد من خلقه، ويعلمه كيف يصل إلى عبادة ربه على الوجه الذي يرضى به اللهُ جل وعلا عنه، فبعث الله جل وعلا رسلا مبشرين ومنذرين يدلون الخلق إلى وعلى خالقهم، يعرفونهم بمن يستحق العبادة وحده، ويعرفونهم بالطريق التي أذن من خلقهم أن يعبدوه بها؛ قال جل وعلا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا?[سبإ:28]، وقال جل وعلا ?إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا?[المزمل:15]، وكل أمة قد خلا فيها نذير، كما قال جل وعلا ?وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ?[فاطر:24]، نذير ينذرهم ويبشرهم؛ يبَشِّر من أطاع وينذر من النار، ويخوف من النار ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، فثبت بهذه النصوص أن الله جل وعلا لم يترك الخلق وشأنهم بعد أن خلقهم، بل بعث لهم رسلا يعلمونهم ويهدونهم ويبصّرونهم الطريق التي يرضى الله جل وعلا بها أن يعبدوه بها دون ما سواها من الطرق الموصلة، وتلكم الطريق طريق واحدة، ليست بطرق متعددة كما قال جل وعلا ?اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ?[الفاتحة:6] فهو صراط واحد، وهناك صُرط أخرى، هي صُرط أهل الضلال والجهل والغِواية، والهوى أما الطريق الموصلة إلى الله جل وعلا فهو طريق المرسلين الذي جاءوا به من عند الله جل وعلا؛ وهو دين الإسلام العام، كما قال جل وعلا ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، الاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله, الرسل بينوا للناس هذه الغاية، ودلُّوهم على عبادة الله جل وعلا وحده دون ما سواه، فقامت العداوةُ بين الرسل وبين أقوامهم(1/18)
في هذا الأصل؛ حيث إن الخلق يريدون أن يعبدوا الله جل وعلا بالطريقة التي يحبون لا بالطريقة التي يحبها الله جل وعلا، ولهذا قال بعض أئمة السلف «ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب»؛ ليس الشأن أن تحب الله، فإن محبة الله جل وعلا يدعيها المشركون، يدعيها الضالون، كل قوم بُعث فيهم الرسل يدعون أنهم يريدون وجه الله، يريدون ما عند الله يحبونه, ربما يتصدقون ويُصَلُّون ويدعون ويَصِلُون ويتقربون، وما فِعل أهل الجاهلية؛ جاهلية العرب مِنَّا ببعيد، لكن ليس الشأن أن يُحب المحبُّ ربَّه، ولكن الشأن أن يُحب العبدَ ربُّه؛ الشأن أن يحب الله جل وعلا العبد متى يكون ذلك؟ لابد أن يبحث العبد عن سبيل محبة الله جل وعلا له، هذا السبيلُ بيَّنه الله جل وعلا في قوله ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ? زعمًا ? فَاتَّبِعُونِي? طاعةً ?يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ?[آل عمران:31]. فإذن سبيل محبة الله للعبد هي طاعة الرسل، واتباع الرسل وخاتم المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ببعثته وبرسالته نُسخت جميع الرِّسالات ونسخت جميع الكتب من قبله عليه الصلاة والسلام، فبقي للناس طريق واحد يصلون به إلى ربهم جل وعلا؛ ألا وهو طريق محمد عليه الصلاة والسلام، إذ هو الواسطة العملية للاتباع؛ لاتباعه للوصول إلى الله جل وعلا، فمن اتبع واهتدى بغير هدي النبي عليه الصلاة والسلام، هذا النبي الخاتم، فهو من الضالين الذين تنكبوا سبيل الحق.
هذا الأصل الأول، وهذه المسألة الأولى عظيمة جدا؛ لأنها إذا استقرت في قلب العبد قادته إلى كل خير، يعلم أنه ما خلق إلا لغاية. ما هذه الغاية؟ هي عبادة الله وحده دون ما سواه. كيف أعرف طرق هذه العبادة؟ باتباع النبي عليه الصلاة والسلام. فتلخص الدين في هذه المسألة العظيمة، وما أحسن قول شمس الدين بن القيم في نونيته بعد أبيات قال:
فلواحد كن واحدا في واحد
أعني سبيل الحق والإيمان(1/19)
(لواحد) لله جل وعلا وحده دون ما سواه, (كن واحدا) في قصدك وإرادتك وتوجهك وطلبك, (في واحد) في طريق واحد، قال بعدها (أعني سبيل الحق والإيمان) الذي هو سبيل النبي عليه الصلاة والسلام.
· المسألة الثانية: أن الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، بل كلٌّ عبيد لله جل وعلا. الله جل وعلا إنما يرضى التوحيد، يرضى أن يعبد وحده دون ما سواه، فمن أشرك مع الله جل وعلا إلها آخر فقد نقض الغاية العملية التي كُلِّف بها من خلقه ومن إيجاده؛ قال جل وعلا ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، (فَلَا تَدْعُوا) دعاء مسألة، ودعاء عبادة مع الله أحدا.
المساجد يفعل فيها شيئان:
? سؤال الله جل وعلا، دعاء الله جل وعلا دعاء المسألة، هذا نوع.
? والثاني عبادة الله جل وعلا بأنواع العبادات من الصلاة؛ الفرض و النفل، ومن التلاوة، ومن الذكر، ومن التعلم والتعليم، ونحو ذلك.
قال جل وعلا ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ? (الْمَسَاجِدَ) أقيمت لله جل وعلا؛ لعبادته وحده دون ما سواه، فلا تدعو دعاء مسألة أحدا غير الله، ولا تدعو دعاء عبادة أحدا غير الله، وكما أن المصلي لا يصلي إلا لله، فكذلك في المسجد وفي غيره فلا يسأل ولا يدعو إلا الله جل وعلا.
دعاء المسألة: هو الذي يسميه العامّة أو يسمِّيه الناس الدعاء، وهو المقصود به، إذا قيل دعا فلان يعني سأل به الله جل وعلا قال: اللهم اعطني، اللهم قني، اللهم اغفر لي. ونحو ذلك، هذا يسمى دعاء المسألة.(1/20)
أمَّا دعاء العبادة: فهو العبادة نفسُها؛ لأن المتعبد لله جل وعلا بصلاة أو بذكر هو سائل لله جل وعلا، لأنه إنما عبد أو صلى، أو صام، أو زكى، أو ذكر، أو تلا، رغبةً في الأجر، كأنه سأل الله جل وعلا الثواب، لهذا يُقال الدعاء قسمان: دعاء مسألة ودعاء عبادة، قال جل وعلا ?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر:60]، قال في أول الآية (ادْعُونِي)، وقال في آخرها (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) فدل على أن الدعاء عبادة، أو هو العبادة، ولهذا فسر السلف قوله (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الاستجابة هنا فُسِّرت بتفسيرين: (أَسْتَجِبْ) بمعنى أُعطكم ما سألتم، أو أُثِبْكُم؛ أدعوني أثبكم، إذا كانت في هذا التقسيم (أدعوني أثبكم) بهذا المعنى فيكون الدعاء هنا الدعاء بمعنى العبادة، لأنها هي التي يتعلق بها الثواب. وإذا كانت الإجابة هنا بمعنى إعطاء السُّول يكون الدعاء هنا دعاء مسألة.
وهذه المسألة مقررة تقريرا واضحا في كتب أهل العلم؛ ألا وهي أن قوله تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، أنه يشمل نوعي الدعاء؛ دعاء المسألة ودعاء العبادة. وقد جاء في الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء هو العبادة»، وفي معناه ما جاء عن أنس مرفوعا «الدعاء مخ العبادة».(1/21)
الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد، قد يُتَوهَّم أن المخلوق إذا بلغ إلى غاية عظيمة أنه يمكن أن يوصل إلى الله جل وعلا باتخاذه واسطة، باتخاذه وسيلة، وأعلى المخلوقات مقاما عند الخلق الملائكة والرسل والأنبياء، لهذا نفى الشيخ رحمه الله تعالى هذين فقال: (الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل)، (لا ملك مقرب) حتى ولو كان جبريل الذي هو سيد الملائكة وأشرفهم وأعظمهم. (ولا نبي مرسل) حتى النبي عليه الصلاة والسلام. دليل ذلك ?فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، وجه الاستدلال أن (أَحَدًا) نكرة جاءت في سياق النفي، وقد تقرر أن النكرات إذا أتت في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام، فإنها تعُم. قال (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) يدخل في (أَحَدًا) الملائكة، ويدخل فيه الأنبياء.
هذا الأصل يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعلمه علما يقينيا لاشك فيه ولا شبهة، بدليله وهو قوله ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، فلا يخطر على قلب المسلم أو المسلمة أنه يمكن أن يدعو غير الله، أو أن يستغيث بغير الله، أو أن يتوجه إلى غير الله، بأي نوع من أنواع العبادات، حتى ولو كان المتوجه إليه ملك مقرب، أو نبي مرسل.
ومن المتقرر أن ثمَّ فرقا بين النبي والرسول؛ فليس كل نبي رسولا، بينما كل رسول نبي، وقول الشيخ هنا (ولا نبي مرسل)؛ لأن الرسالة أرفع درجة من النبوة. والفرق بينهما أن:
النبي: هو من أوحي إليه بشرع، وأُمر بتبليغه إلى قوم موافقين له، أو لم يؤمر بالتبليغ.
والرسول: هو من أوحي إليه بشرع، أو كتاب، وأُمر بتبليغه إلى قوم مخالفين.
فإذن النبي مرسل، وقد يكون مرسلا إلى نفسه، لكنه ليس بالرسول بالمعنى الأخص.(1/22)
وبهذا يتضح المقام بقوله، وذلك لقول الله تعالى ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ?[الحج:52]، فأثبت أن الرسول مُرسل، وأن النبي أيضا يقع عليه الإرسال قال (وما أرسلنا من قبلك من رسول)، (الرسول) يقع عليه الإرسال (ولا نبي) أيضا النبي يقع عليه الإرسال، يعني يؤمر أن يبلغ ذلك لمن؟ لمن يوافقه هذا النبي، مثل أنبياء بني إسرائيل إذا مات فيهم نبي؛ خلفه نبي يبلغ من يوافقه في عقيدته، من يوافقه في إتباعه لشريعة النبي؛ الرسول الذي قبله، إذا بلَّغ موافقا، وكان هذا التبليغ مأمورا به من الله جل وعلا، ومعه شرع، أو بعض شرع، فإن هذا نبي. وقد لا يكون مأمورا بتبليغه إلى قوما موافقين، فقد يُبَلِّغ نفسَه، وعلى هذا يحمل بأحد تفاسير أو شروح العلماء، ما جاء في الحديث «أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد» قد يكون لأنه لم يُستجب له، وقد يكون بأنه إنما أُمر أو أوحي إليه لنفسه لا لغيره.(1/23)
· المسألة الثالثة: أن من وحد الله وأطاع الرسول واتبع دين الإسلام لا يجوز له أن يوالي من حاد اللهَ ورسولَه, ولو كان أقرب قريب، لا يجوز له أن يوالي من حاد الله ورسوله, ولو كان ذلك أباه أو أمه أو أخاه أو أخته أو قريبه, وذلك لقول الله تعالى ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ?[المجادلة:22]، إلى آخر الآية, وقال جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ?[التوبة:23]، وقال جل وعلا ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] لمّا ذكر اليهود والنصارى، فأصل الدين الذي هو من معنى كلمة التوحيد الولاء والبراء؛ الولاء للمؤمنين وللإيمان، والبراءة من المشركين والشرك، ولهذا يُعِّرف علمائنا الإسلام: بأنه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
وها هنا تنبيه أنها في بعض نسخ كتاب الشيخ أنه عرّف الإسلام بهذا وقال في آخره (والخلوص من الشرك وأهله)، والمعروف عنه في النسخ الصحيحة التي قُرِأت على العلماء (البراءة من الشرك وأهله)؛ لأن البراءة تشمَل الخلوص وزيادة، وهي الموافقة لقول الله جل وعلا ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي?[الزخرف:26-27].(1/24)
هنا قال (لا يجوز لمن وحد الله، وأطاع الرسول، واتبع دين الإسلام، أن يوالي أحدا من المشركين). (الموالاة) معناها أن تتخذه وليا، وأصلها من الوَلاية، والوَلاية هي المحبة، قال جل وعلا ?هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ?[الكهف:44]، يعني هنالك المحبة والمودة والنُّصرة لله الحق، فأصل الموالاة المحبة والمودة، ولهذا استدل بقوله ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ?[المجادلة:22]، ففسَّر الموالاة بأنها المُوادّة، وهذا معناه أن أصل الموالاة في القلب، وهو محبة الشرك أو محبة أهل الشرك والكفر. فأصل الدين أن من دخل في (لا إله إلا الله) فإنه يحب هذه الكلمة وما دلت عليه من التوحيد، ويحب أهلها، ويُبغض الشرك المناقض لهذه الكلمة، ويبغض أهله. فكلمة الولاء والبراء هي معنى الموالاة والمعاداة، وهي بمعنى الحب والبغض، فإذا قيل الولاء والبراء في الله هو بمعنى الحب والبُغض في الله، وهو بمعنى الموالاة والمعاداة في الله؛ ثلاثة بمعنىً واحد، فأصله القلب؛ محبة القلب، إذا أحبَّ القلبُ الشرك صار مواليا للشرك، إذا أحب القلبُ أهل الشرك صار مواليا لأهل الشرك، كذلك إذا أحب القلبُ الإيمان صار مواليا للإيمان، إذا أحب القلبُ اللهَ صار مواليا لله، إذا أحب القلبُ الرسول صار وليا ومواليا للرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أحب القلبُ المؤمنين صار مواليا ووليا للمؤمنين؛ قال جل وعلا ? إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:55-56]، يعني من يحب وينصر اللهَ ورسولَه والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.(1/25)
الموالاة؛ موالاة المشركين والكفار محرمة وكبيرة من الكبائر، وقد تصل بصاحبها إلى الكفر والشرك، ولهذا ضبطها العلماء بأن قالوا تنقسم المولاة إلى قسمين: الأول التولِّي. والثاني المولاة. الموالاة باسمها العام تنقسم: إلى التولي وإلى موالاة.
?أما التولِّي فهو الذي جاء في قوله تعالى ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، تولاه توليا؛ التولي معناه محبة الشرك وأهل الشرك، محبة الكفر وأهل الكفر، أو نصرة الكفار على أهل الإيمان، قاصدا ظهور الكفر على الإسلام، بهذا الضابط يتضح معنى التولي. والتولي -كما ذكرتُ لكم- تولِّي الكفار والمشركين كفر أكبر، وإذا كان من مسلم فهي ردة. ما معنى التولِّي؟ معناه محبة الشرك وأهل الشرك (لاحظ الواو)؛ يعني يحب الشرك وأهل الشرك جميعا مجتمعة، أو أن لا يحب الشرك ولكن ينصرُ المشركَ على المسلم، قاصدا ظهور الشرك على الإسلام، هذا الكفر الأكبر الذي إذا فعله مسلم صار رِدَّة في حقه والعياذ بالله.(1/26)
?القسم الثاني الموالاة: والموالاة المحرّمة من جنس محبة المشركين والكفار، لأجل دنياهم، أو لأجل قراباتهم، أو لنحو ذلك، وضابطه أن تكون محبة أهل الشرك لأجل الدنيا، ولا يكون معها نصرة؛ لأنه إذا كان معها نصرة على مسلم بقصد ظهور الشرك على الإسلام صار توليا، وهو في القسم المُكَفِّر، فإن أحب المشرك والكافر لدنيا، وصار معه نوع موالاة، معه لأجل الدنيا، فهذا محرم ومعصية، وليس كفرا؛ دليل ذلك قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1]، قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: أثبت الله جل وعلا في هذه الآية أنه حصل ممن ناداهم باسم الإيمان اتخاذ المشركين والكفار أولياء بإلقاء المودة لهم. وذلك كما جاء في الصحيحين، وفي التفسير في قصة حاطب المعروفة حيث إنه أرسل بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذه عظيمة من العظائم- للمشركين لكي يأخذوا حِذْرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كُشِفَ الأمر، قال عمر رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله دعني أضرب عنقَ هذا المنافق. قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمر: أتركه يا عمر، يا حاطب ما حملك على هذا؟ فدل على اعتبار القصد؛ لأنه إن كان قصد ظهور الشرك على الإسلام، وظهور المشركين على المسلمين، فهذا يكون نفاقا وكفرا، وإن كان له مقصد آخر فله حكمه. قال عليه الصلاة والسلام -مستبينا الأمر- ما حملك يا حاطب على هذا ؟ قال: يا رسول الله والله ما حملني على هذا محبة الشرك وكراهة الإسلام، ولكن ما من أحد من أصحابك إلا وله يد يحمي بها ماله في مكة، وليس لي يدٌ أحمي بها مالي في مكة، فأردتُ أن يكون لي بذلك يد أحمي بها مالي في مكة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقكم. الله جل وعلا قال في بيان ما فعل حاطب ?وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ(1/27)
السَّبِيلِ?[الممتحنة:1]، يعني حاطبا، ففِعْلُه ضلال. وما منع النبي عليه الصلاة والسلام من إرسال عمر أو ترك عمر إلا أن حاطبا لم يخرج من الإسلام بما فعل، ولهذا جاء في رواية أخرى قال: إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: افعلوا ما شئتم لقد غَفَرْتُ لكم. قال العلماء: لعلمه جل وعلا بأنهم يموتون ويبقون على الإسلام. دلت هذه الآية وهي قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1]، مع بيان سبب نزولها من قصة حاطب، أن إلقاء المودة للكافر لا يسلب اسم الإيمان؛ لأن الله ناداهم باسم الإيمان، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مع إثباته جل وعلا أنهم ألقَوا المودة.
ولهذا استفاد العلماء من هذه الآية، ومن آية سورة المائدة ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، ومن آية المجادلة التي ساقها الشيخ ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ?[المجادلة:22]، إلى أنَّ الموالاة تنقسم إلى تولٍّ وموالاة؛ الموالاة بالاسم العام منه تولٍ وهو المُكَفِّر بالضابط الذي ذكرتُه لك، ومنه موالاة وهو نوع مودة لأجل الدنيا ونحو ذلك.
والواجب أن يكون المؤمن محبا لله جل وعلا ولرسوله وللمؤمنين، وأن لا يكون في قلبه مودة للكفار ولو كان لأمور الدنيا، إذا عَامَلَ المشركين أو عَامَلَ الكفار في أمور الدنيا، إنما تكون معاملة ظاهرة بدون ميل القلب، ولا محبة القلب لما؟ لأن المشرك حمل قلبا في مسبَّة الله جل وعلا, لأن المشرك سابٌّ لله جل وعلا بفعله، إذ اتخذ مع الله جل وعلا إلها آخر، والمؤمن متولٍّ لله جل وعلا ولرسوله وللذين آمنوا، فلا يمكن أن يكون في قلبه مُوادَّة لمشرك حمل الشرك والعياذ بالله.
هذه الثلاث مسائل من المهمَّات العظيمات:(1/28)
· الأولى: أن يعلم المرء الغاية من خلقه، وإذا علم الغاية، أن يعلم الطريق الموصلة لانفاذ هذه الغاية.
· الثانية: ليعلم أن الطريق واحدة، وأن الله جل وعلا لا يرضى الشرك به، حتى بالمقربين عنده، والذين لهم المقامات العالية عنده جل وعلا، لا يرضى أن يشرك معه أحد.
· الثالثة: أن لا يكون في قلب الموحِّد؛ الذي وحَّد الله، وأطاع الرسول، وخلص من الشرك، أن لا يكون في قلبه محبة للمشركين.
هذه الثلاث هي أصول الإسلام بأَحد الاعتبارات، أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن تحققوا بها قولا وعملا واعتقادا وانقيادا.
?????
اعلَمْ -أرشدَكَ اللهُ لطاعتِه- أنَّ الحنيفيةَ: مِلَّةَ إبراهيمَ، أنْ تعبدَ اللهَ وحدَهُ مخلصًا له الدِّين، وبذلك(أَمَرَ اللهُ جميعَ الناس وخلَقهم لها، كما قال تعالى ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?[الذرايات:56]، ومعنى (يَعْبُدُونِ) يوحِّدون وأعظمُ ما أَمرَ اللهُ به التوحيدَ وهو: إفرادُ اللهِ بالعبادة وأعظمُ ما نهى عنه الشركُ؛ وهو دعوةُ غيرهِ معهُ والدليل قوله تعالى ?وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[النساء:36].
هذا فيه تلطّف ثالث منه رحمه الله تعالى؛ حيث دعا للمتعلم بقوله (اعلم أرشدك الله)، وهذا الذي ينبغي على المعلمين أن يكونوا متلطفين بالمتعلمين؛ لأن التلطف والتعامل معهم بأحسن ما يجد المعلم هذا يجعل قلبَ المتعلم قابلا للعلم، مُنفتحا له، مُقبلا عليه.(1/29)
ويقول (إن الحنيفية ملة عليه السلام) هي التي أمر الله جل وعلا نبيه، وأمر الناس أن يكونوا عليها، قال جل وعلا ?ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا?[النحل:123]، وملة إبراهيم هي التوحيد؛ لأنه هو الذي تركه فيمن بعده؛ حيث قال جل وعلا ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ?[الزخرف:26-27]، هذه الكلمة (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) اشتملت على نفي في الشق الأول، وعلى إثبات في الشق الثاني، (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) البراءة نفيٌ، ثم أثبت فقال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فتبرأ من المعبودات المختلفة، وأثبت أنه عابد للذي فطره وحده، وهذا هو معنى كلمة التوحيد، ولهذا قال جل وعلا بعدها ?وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:28]، يعني لعلهم يرجعون إليها، وعقب إبراهيم عليه السلام منهم العرب، أليس كذلك؟ ومنهم أتباع الأنبياء، فهو أبو الأنبياء، ومعنى ذلك، أنه أبٌ لأقوام الأنبياء، (جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إليها، وهذه الكلمة هي كلمة التوحيد لا إله إلا الله؛ لأن التوحيد هو ملة إبراهيم، لا إله إلا الله معناها ما قال إبراهيم عليه السلام ? إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي?[الزخرف:26-27]، فـ (لا إله) مشتملة على البراءة من كل إله عُبد، و(إلا الله) إثبات للعبادة؛ إثبات لعبادة الله وحده دونما سواه، ولهذا يقول العلماء (لا إله إلا الله) معناها لا معبود حقٌّ أو بحق إلا الله. معنى ذلك أن كل المعبودات إنما عُبدت بغير الحق، قال جل وعلا ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ(1/30)
اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[الحج:62]، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)، ولكونه جل وعلا هو الحق كانت عبادته وحده دون ما سواه هي الحق, قال (لا إله)، لا إله بحق, لا معبود بحق، لكن ثَم معبودات بغير الحق، ثَمَّ معبودات بالباطل، ثمَّ معبودات بالبغي، بالظلم والعدوان، لكن المعبود بحق يُنفى عن جميع الآلهة إلا الله جل وعلا، فإنه هو وحده المعبود بحق. هذه الكلمة هي التي ألقاها إبراهيم عليه السلام في عقبه، وهذا مراد الشيخ رحمه الله تعالى بما ذَكر، وبَيَّن أن أعظم الواجبات، أعظم ما أمر به إبراهيم الخليل عليه السلام، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، وأعظم ما نهى عنه الشرك، ومعنى ذلك أن أعظم دعوة الأنبياء والمرسلين من إبراهيم عليه السلام، بل من نوح عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أعظم ما يُدعا إليه بالأمر هو الأمر بتوحيد الله جل وعلا، وأعظم ما ينهى عنه ويؤمر الناس بتركه هو الشرك، فأعظم ما أمر به التوحيد، وأعظم ما نهي عنه الشرك، لما ؟ لأن التوحيد هو حق الله جل وعلا، ومن أجله بُعثت الرسل، ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، فالغاية من بعث الرسل أن تُبيِّن للناس، وأن تقول للناس أعبدوا الله وحده دون ما سواه، هذا الأمر، (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) يعني أتركوا الشرك ومظاهر الشرك.(1/31)
إذن أعظم مأمور به هو التوحيد، أعظم ما دعا إليه الرسل والأنبياء من نوح عليه السلام إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، أعظم ما دُعي إليه من المأمورات التوحيد، وأعظم ما نُهي عنه من المنهيات هو الشرك، لما؟ لأن الغاية من خلق الإنسان هي عبادة الله وحده، فصار الأمر بالتوحيد هو الأمر لهذا المخلوق بأن يَعلم وأن يُنْفِذَ غاية الله جل وعلا من خلق هذا المخلوق. والنهي عن الشرك معناه النهي عن أن يأخذ هذا المخلوق بطريق أو بفعل يخالف الغاية بفعله، وهذا ولا شك كما ترى يقود إلى فهم التوحيد، وإلى فهم حق الله جل وعلا، وفهم دعوة الحق بأعظم ما يكون الفهم؛ لأنك تنظر إلى أن إنفاذ المرء ما خُلق من أجله هو أعظم ما يُدعا إليه، ونَهيُ المرء عن ما يصده عما خُلق من أجله هذا أعظم ما يُنهى عنه، ولهذا كانت دعوة المصلحين، ودعوات المجددين على مر العصور بهذه الأمة هي في الدعوة إلى التوحيد ولوازمه و النهي عن الشرك وذرائعه.
أسأل الله جل وعلا أن يزيدني وإياكم العلم النافع وأن يمن علينا بالعمل الصالح وبالفهم والسداد وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
فَإِذَا قِيلَ لَكَ مَا الأُصُولُ الثلاثةُ التي يجبُ على الإنسانِ معرفتُها؟ فقُلْ معرِفةُ العبدِ رَبَّهُ، ودينَهُ، ونبيَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم.
فإذا قيلَ لكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فقلْ ربيَّ اللهُ الذي ربّاني ورَبَّى جميعَ العالمينَ بنعمِهِ، وهو معبودي ليس لي معبودٌ سواهُ، والدليلُ قوله تعالى ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?([6]) وكلُّ ما سِوَى اللهِ عالََمٌ وأنا واحدٌ من ذلكَ العالَمِ.(1/32)
فإذَا قيلَ لكَ بما عرفْتَ ربَّك؟ فقُل بآياتِه ومخلوقاتِه؛ ومِنْ آياتِه الليلُ والنهارُ والشمسُ والقمرُ، ومِنْ مخلوقاتِه السمواتُ السَّبْعُ والأَرْضُونَ السَّبع ومَنْ فيهنَّ وما بينهما، والدليلُ قولُه تعالى ?وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ?[فصلت:37]، وقولُهُ تعالى ?إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[الأعراف:54].
والرَّبُّ هو المعبودُ، والدليلُ قولُه تعالى ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:21-22]، قالَ ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ تعالى: الخالقُ لهذهِ الأشياءِ هو المستحقُّ للعبادةِ.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فهذا ابتداء من المصنف رحمه الله تعالى، لبيان المقصود من تأليف هذه الرسالة، وما قبله من المهمات التي هي موطئات لهذا المقصود؛ من بيان الواجبات الأربع، ثم الواجبات الثلاث، ثم ما يتصل بذلك.(1/33)
هذه الرسالة صنفت لبيان الأصول الثلاثة؛ ألا وهي مسائل القبر؛ من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ والجواب عليها في هذه الرسالة، بل إن هذه الرسالة من هذا الموضع إلى آخرها جواب على هذه الأسئلة الثلاث، فمن كان عالما بما في هذه الرسالة من بيان تلك الأصول العظام، كان حَرِيًّا أن يُثبت عند السؤال، ذلك لأنها قُرنت بأدلتها، وقد جاء في الحديث الذي في الصحيح أن من المسؤولين في القبر من يقول: ها, ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. استدل العلماء بقول هذا المفتون في قبره (سمعت الناس يقولون شيئا فقلته) على أن التقليد لا يصلح في جواب هذه المسائل الثلاث؛ جواب (من ربك؟) يعني من معبودك؟ جواب (ما دينك؟), جواب (من نبيك؟) ولهذا يذكر الشيخ الإمام رحمه الله تعالى بعد كل مسألة مما سيأتي، يذكر الدليل من القرآن، وقد بينا في أول هذا الشرح؛ أن المؤمن يخرج من التقليد، ويكون مستدلا بما يعلمه، ويعتقده من هذه المسائل بالحق، إذا علم الدليل عليها مرة في عمره، ثم اعتقد ما دل عليه الدليل، فإن استقام على ذلك حتى موته، فإنه يكون مؤمنا؛ يعني مات على الإيمان؛ لأن استمرار استحضار الدليل والاستدلال لا يُشترط، لكن الذي هو واجب أن يكون العبد في معرفته للحق في جواب هذه المسائل الثلاث، أن يكون عن دليل واستدلال ولو لِمرّة في عمره، ولهذا يعلم الصغار والأطفال عندنا رسالة الأصول الثلاثة الأخرى التي فيها جواب أيضا مع بعض الاستدلال بأقصر مما هنا، يُعلَّمون جواب هذه المسائل الثلاث، حتى إذا بلغ الغلام أو الجارية، إذا هو قد عرف عن دليل واستدلال.(1/34)
قال رحمه الله تعالى (فإذا قيل لك ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم)، (معرفة العبد ربه) يعني معرفة العبد معبوده؛ لأن الربوبية في هذا المقام يُراد بها العبودية، لما؟ لأن الابتلاء للأنبياء والمرسلين لم يقع في معاني الربوبية، ألم ترَ أن الله جل وعلا قال؟ ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ? هذه مقتضيات الربوبية ?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31]. المشركون في كل زمان لم يكونوا ينازعون في تَوَحُّدِ الله جل وعلا في ربوبيته، ولهذا فسر العلماء سؤال القبر من ربك؟ بمن معبودك؟ لما؟ لأن الابتلاء لم يقع في الربوبية، وقد سئل الشيخ الإمام رحمه الله تعالى عن الفرق بين الربوبية والألوهية في بعض النصوص -في أحد الأسئلة التي وجهت إليه- فكان من جوابه أن قال: هذه مسألة عظيمة، وذلك أن الربوبية إذا أطلقت، أو إذا أفردت فإنه يدخل فيها الألوهية؛ لأن الربوبية تستلزم الألوهية، وتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، والألوهية تتضمن الربوبية. لأن الموحد لله جل وعلا في ألوهيته هو ضمنا مقر بأن الله جل وعلا هو واحد في ربوبيته، ومن أيقن أن الله جل وعلا واحد في ربوبيته استلزم ذلك أن يكون مقرا بأن الله جل وعلا واحد في استحقاق العبادة، ولهذا تجد في القرآن أكثر الآيات فيها إلزام المشركين بما أقروا به ألا وهو توحيد الربوبية على ما أنكروه ألا وهو توحيد الإلهية، من مثل قول الله جل وعلا في سورة الزمر?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?([7]) هذا توحيد الربوبية قال بعدها ?قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي(1/35)
اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ?[الزمر:38]، قال (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ) والفاء هنا رتبت ما بعدها على ما قبلها؛ وما قبلها هو توحيد الربوبية وما بعدها هو توحيد الإلهية، ولهذا في القرآن يكثر أن يحتج على المشركين بإقرارهم بتوحيد الربوبية على ما أنكروه ألا وهو توحيد الإلهية، لهذا قال جل وعلا ?وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[آل عمران:80], المعنى بـ(أَرْبَابًا) أي معبودين وكذلك قوله تعالى?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ?[التوبة:31]، يعني معبودين لأن عدي ابن حاتم لما قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إنا لم نعبدهم. ففهم معنى الربوبية في الآية معنى العبادة، وهذا هو الذي يفهمه من يعرف اللسان العربي، قال النبي عليه الصلاة والسلام -كما هو معروف-: «ألم يحلوا لكم الحرام فأحللتموه، ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه» قال: بلى. فقال: «فتلك عبادتهم».
إذن الربوبية تطلق ويراد منها العبودية في بعض المواضع، تارة بالاستلزام، وتارة بالقصد. وبعض علمائنا قال إن لفظ الألوهية والربوبية يمكن أن يُدخل في الألفاظ التي يقال إنها إذا اجتمعت تفرقت وإذا تفرقت اجتمعت، وهذا وجيه.(1/36)
قال الشيخ رحمه الله تعالى هنا (فقل معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم) والمعرفة ترادف العلم في حق المخلوق في أكثر المواضع، أما في حق الله جل وعلا فإن الله جل وعلا يُوصف بالعلم، ولا يوصف بالمعرفة، وذلك لأن العلم قد لا يسبقه جهل، بينما المعرفة يسبقها جهل؛ عرف الشيء بعد أن كان جاهلا به، لكن العلم قد لا يسبقه جهل به، ولهذا يوصف الله جل وعلا بالعلم، ولا يوصف بالمعرفة. أيضا يقال إن التعبير بالعلم أوجه في المواضع التي يُحتاج فيها إلى التعبير بالمعرفة وذلك لأن المعرفة أكثر ما جاءت في القرآن مذمومة لأنه يتبع المعرفة الإنكار، أما العلم فأوتي به في القرآن ممدوحا، قال جل وعلا ?الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ?[الأنعام:20]، فهنا وصفهم بالمعرفة ثم بين أن معرفتهم تلك لم تنفعهم، وقال جل وعلا ?يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا?[النحل:83]، لكن العلم أُثني عليه في القرآن، وأما المعرفة فربما بل أكثر المواضع فيها نوع ذم لها، لكن هذا ليس على إطلاقه، لأنه قد جاء في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى في بعض طرق حديث ابن عباس الذي فيه إرسال معاذ إلى اليمن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يعرفوا الله فإن هم عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات»إلى آخره، فصارت المعرفة هنا بمعنى العلم بالتوحيد كما في الروايات الأخر، لكن التعبير بالمعرفة كما استعمله الشيخ رحمه الله تعالى هنا صحيح، وذلك لأنه قد ورد الاستعمال به، وإن كان أكثر ما جاء استعمال لفظ المعرفة في كونه مذموما.
قال هنا (معرفة العبد ربه) يعني معبوده، (معرفة العبد دينه، معرفة العبد نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم) هذه الأصول الثلاثة هي التي سيأتي تفصيلها والجواب عليها.(1/37)
ثم بدأ يشرح رحمه الله تعالى، ويفصل (معرفة العبد ربه)عن طريق السؤال والجواب، لأن هذا أوقع في النفس، وأقرب إلى التعليم.
(إن قيل لك من ربك ؟ فقل ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته) لفظ الربوبية فيه معنى التربية, رباه تربية ومعنى التربية تدريج المربى في مصاعد الكمال، كل كمال بحسبه، وأعظم أنواع التربية التي ربى بها الله جل وعلا الناس أن بعث لهم الرسل يعلمونهم، ويرشدونهم ما يقربهم إلى الله جل وعلا، وهذه هي أعظم نعمة، قال جل وعلا ?قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:58]، فأعظم النعم المسداة إرسال الرسل، ولهذا كان من أنواع التربية التي ربى بها الله جل وعلا العالمين، ربى بها الله جل وعلا الناس، أن بعث لهم رسلا يبشرون و ينذرون، وهناك أنواع كثيرة من التربية؛ تربية الأجسام، تربية الغرائز، تربية الفكر، تربية العقل، كل هذا قد مَنَّ الله جل وعلا على ابن آدم به، وكذلك إذا نظرت إلى أوسع من ذلك من خلق الله جل وعلا الواسع، والعالمون الذين هم كل ما سوى الله جل وعلا، فتجد أن معاني الربوبية والتربية بالنعم والتربية في تدريجها في مدارج الكمال بما يناسبها، والله جل وعلا أعلم بما يَصلح ?وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ?[القصص:68]، وجدت أن معاني الربوبية في هذا المعنى الذي هو التربية ظاهر جدا، أيضا الربوبية لها معنى آخر، وهو الذي سلف من معنى توحيد الربوبية؛ يعني اعتقاد أن الله جل وعلا هو الخالق لهذا الخلق وحده، وهو الرزّاق وحده، وهو الذي يدبر الأمر، وهو القاهر، وهو ذو الملك، إلى آخر معاني الربوبية.(1/38)
قال جل وعلا ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? استدل الشيخ بهذه الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) معنى (الْحَمْدُ) كل حمدٍ، لأن الألف واللام هنا للاستغراق؛ استغراق أنواع الحمد، وكل حمدٍ موجود، أو وجد، أو يوجد، والحمد معناه الثناء بصفات الكمال، فهذا الحمد وهو الثناء بصفات الكمال لله، واللام هنا للاستحقاق يعني مستحَقًّا لله جل وعلا، الحمد لله كل أنواع الحمد وجميع أنواع المحامد مستحقة لله، لأن اللام هنا لام الاستحقاق.
اللام تارة تكون:
· للملك وهذا إذا كان ما قبلها من الأعيان.
· وتارة تكون للاستحقاق، وهي إذا كان ما قبلها من المعاني.
إذا قلت الدار لفلان، الدار عين، فتكون اللام لفلان يعني ملك. إذا كان ما قبل اللام معنى صارت اللام للاستحقاق، تقول الفخر لفلان يعني الفخر يستحقه فلان. (الْحَمْدُ لِلَّهِ), الحمد معنى لهذا صارت اللام بعده للاستحقاق، فكل حمد مستحق لله، الإله الذي لا يُعبد بحق إلا هو هذا الإله نعته أنه رب العالمين.
(رَبِّ الْعَالَمِينَ) و(الْعَالَمِينَ) جمع عالم، والعالم اسم لأجناس ما يُعلم، وهو كل ما سوى الله جل وعلا، كما قال الشيخ رحمه الله تعالى: (وكل من سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم) عالم الإنسان، عالم الطير، عالم النبات، عالم الملائكة، عالم الجن، عالم السموات، عالم الأراضين، عالم الماء، إلى آخره، (كل ما سوى الله جل وعلا عالم وأنا واحد من ذلك العالم) والعالمون جمع عالم، والعالم كل ما سوى الله جل وعلا من الأجناس المختلفة، إذن ما دام أنك واحد من ذلك العالم فأول من يخاطب بهذه الآية المؤمن، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فيستيقن المؤمن بتلاوته لهذه الآية ربوبية الله جل وعلا له واستحقاقه للحمد واستحقاقه جل وعلا لكل ثناء ولكل وصف بالكمالات.(1/39)
ثم قال رحمه الله (فإذا قيل لك بما عرفت ربك؟ ) الربوبية تحتاج إلى معرفة، تحتاج إلى علم، وهذا العلم جاء في القرآن الدِّلالة عليه، قال جل وعلا ?قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?[يونس:101]، وقال جل وعلا ?أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ?[الأعراف:185]، فالدعوة إلى النظر في الملكوت في القرآن، بما أستدل على الله جل وعلا على ربوبيته؟ قال الشيخ هنا (فإذا قيل لك بما عرفت ربك؟ فقل بآياته ومخلوقاته، ومن آياته الشمس والقمر والليل والنهار، ومن مخلوقاته السماوات والأرض)، لا شك أن الليل والنهار والشمس والقمر من آيات الله، كما قال جل وعلا?وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ?[فصلت:37]، وكذلك السماوات والأرض هي آيات لله جل وعلا، كما قال أبو العتاهية في شعره السائر:
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد(1/40)
والشيخ رحمه الله ها هنا فرق بين الآيات والمخلوقات، مع أنه في القرآن ما يثبت أن السماوات والأرض من الآيات. فلما فرَّق؟ الجواب أن تفريق الشيخ رحمه الله تعالى بينهما دقيق جدا، وذلك أن الآيات جمع آية، والآية هي البينة الواضحة الدالة على المراد، ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ?[الشعراء:190] يعني دلالة بينة واضحة على المراد منها، ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ?[الحجر:75] يعني لدلالات واضحات بينات على المراد منها، وهنا ننظر إلى أنه بالنسبة لمن سئل هذا السؤال، كون الليل والنهار والشمس والقمر آية أظهر منه عند هذا المسؤول أو المجيب من السموات والأرض، لما؟ لأن تلكمُ الأشياء التي وصفت بأنها آيات متغيرة متقلبة، تذهب وتجيء، أما السماء فهو يصبح ويرى السماء، ويصبح ويرى الأرض، فإِلفُه للسماء وللأرض يحجب عنه كون هذه آيات، لكن الأشياء المتغيرة التي تذهب وتجيء، هذه أظهر في كونها آية، ولهذا إبراهيم الخليل عليه السلام طلب الاستدلال بالمتغيرات، قال جل وعلا ?وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ?[الأنعام:75-76]، لما؟ لأنه استدل بهذه الحركة على الحدوث، استدل بهذا التنقل على أنه آية لغيره، فلما رأى القمر بازغا -استدل بالقمر-، فلما رأى الشمس بازغة -استدل بالشمس- لأنها متغيرات، أما السماوات والأرض فهي آيات، لكنها في الواقع عند الناظر ليست مما يدل دلالة ظاهرة واضحة على المراد عند مثل المسؤول هذا السؤال، مع كونها عند ذوي الفهم وذوي الألباب العالية أنها آيات، كما وصفها الله جل وعلا في كتابه، الشمس والقمر والليل والنهار متغيرات تقبل وتذهب، فهي آيات ودلالات على الربوبية، وأن هذه الأشياء(1/41)
لا يمكن أن تأتي بنفسها، لكن السماء ثابتة، الأرض ثابتة ينظر إلى هذه وهذه، وتلك متغيرات والتغير يثير السؤال، لما ذهب؟ ولما جاء؟ لما أتى الليل؟ ولما أتى النهار؟ لما زاد الليل؟ ولما نقص النهار؟ وهكذا فهي في الدلالة أكثر من دلالة المخلوقات مع أن في الجميع دليلا ودلالة، لهذا قال (فإذا قيل لك بما عرفت ربك ؟ قل بآياته ومخلوقاته) فالآيات تدل على معرفة الله والعلم بالله، وكذلك المخلوقات تدل على العلم بالله والمعرفة بالله، لكن ما سمّاه آيات أخص مما سمّاه مخلوقات، وهذا جواب اعتراض قد اعترض به بعضهم على الشيخ رحمه الله تعالى، في تفريقه بين الآيات والمخلوقات. وتفريقه رعاية لحال من يُعَلَّم هذه الأصول، تفريق دقيق مناسب رحمه الله تعالى.(1/42)
(الدليل قوله تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) يعني مما يدل عليه دلالة واضحة ظاهرة بينة جلية الليل والنهار والشمس والقمر، فإن المتأمل إذا تأمل الليل والنهار، وجد هذا يدخل في هذا، وذاك يدخل في ذاك، وهذا يطول وذاك يقصر، علم أن الليل من حيث كونه ليلا، والنهار من حيث كونه نهارا، أنها أشياء لا يمكن أن تأتي بنفسها، بل هي مفعول بها، ظاهر الليل ما هو؟ ذهاب الضوء. والنهار ما هو؟ مجيء الضوء. الشمس أتت بضيائها فصار نهارا، لما ذهبت الشمس أتى القمر فصار ليل، هذا لا شك يدلّ على أن هذه الأشياء مفعول بها، وإذا كانت مفعولا بها، فمن الذي فعلها؟ هذا السؤال، الجواب عليه سهل ميسور لأكثر الناظرين، بل لكل ناظر، ألا أن هذه تدل على أنها محدثة، ولابد لها من محدث، وأن محدثها هو الذي خلقها وسيرها على هذا النحو الدقيق العجيب، وهو رب العالمين، لهذا قال في الآية الأخرى آية الأعراف ?إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا?[الأعراف:54]، يغشي الليل يجعل الليل غشاء للنهار، يطلبه؛ هذا يذهب وهذا يطلب الآخر، يجيء مرة يأخذ الليل من النهار، ويجذبه جذبا ويطلبه طلبا حاثا، ومرة النهار يأخذ ويطلب من الليل طلبا حاثا، قال يُغشي من المُغشِي والمُغشِّي؟ هو الله جل وعلا؛ ?يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[الأعراف:54]، فذكر الربوبية في العالمين بعد ذكر هذه الأصناف من الآيات والمخلوقات.(1/43)
ثم ذكر أن معنى الربوبية هو العبادة والدليل قوله جل وعلا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) وهذه الآية بها أمر وهو أول أمر في القرآن, أول أمر في القرآن الأمر بعبادة الله؛ قال (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) الرب وقعت عليه العبادة لأنه مفعول به؛ أعبدوا ربكم، فالعابد هم الناس، والمعبود هو الرب، أليس كذلك؟ فتلخص أن الرب هو المعبود؛ لأنه قال (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ)؛ فالرب مفعول به ما الذي فعل؟ العبادة فصار معبودا، ولهذا ساق عن ابن كثير رحمه الله تعالى أن من فعل هذه الأشياء هو المستحق للعبادة، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً...) إلى آخر الآية، قال ابن كثير: الذي فعل هذه الأشياء هو المستحق للعبادة. لهذا جاء ما بعدها ما بعد الأمر بالعبادة كقوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) وهو قوله (الَّذِي خَلَقَكُمْ) جاء تعليلا لما سبق، لما كان مستحقا للعبادة؟ قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ), كأن سائلا سأل: لما كان مستحقا للعبادة؟ لما أمرنا أن نعبده؟ قال (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً) إلى آخره فهذه أشياء من معاني ربوبيته، وقد ذكرنا من قبل أن الربوبية تستلزم الألوهية، وبهذا صارت الربوبية هنا في قوله (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) هي العبودية، والرب هو المعبود، والفاعل لتلك الأشياء هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، لأنه هو وحده الذي خلق، وهو وحده الذي رزق، وهو وحده الذي جعل الأرض فراشا، وهو وحده الذي جعل السماء بناء، وهو وحده الذي أنزل من السماء ماء، والخلق جميعا لم يعملوا شيئا من ذلك، فالمستحق(1/44)
للعبادة هو الذي فعل وخلق وصنع وبرأ وصور وأبدع تلك الأشياء.
الأسئلة
? الأخ يسأل سؤال وجيه وهو أنه جاء في حديث ابن عباس: «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة». وهنا يقول الأخ وُصف الله بأنه ذو معرفة، وأنه يَعرف.
وهذا فيه نظر لأنه المتقرر في القواعد في الأسماء والصفات؛ أن باب الأفعال أوسع من باب الصفات، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، وباب الأخبار أوسع من باب الأفعال وباب الصفات وباب الأسماء، فقد يطلق ويضاف إلى جل وعلا فعل ولا يضاف إليه الصفة، كما أنه قد يوصف الله جل وعلا بشيء ولا يشتق له من الصفة اسما، ولهذا يدخل في هذا كثير مما جاء، مثل ما وَصف الله جل وعلا به نفسه في قوله ?وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ?[الأنفال:30], يستهزئون والله يستهزئ بهم، إن الله لا يمل حتى تملوا، ونحو ذلك مما جاء مقيدا بالفعل، ولم يذكر صفة للاسم، فهذا يقال فيه أنه يطلق مقيدا، ويمكن أن يحمل عليه حديث ابن عباس هذا (تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، نقول إن الله جل وعلا يعرف في الشدة من تعرف إليه في الرخاء، على نحو تلك القاعدة، كما يقال إن الله جل وعلا يمكر بمن مكر به, يستهزئ بمن استهزأ به، يخادع من خدعه, ولا يقال إن الله جل وعلا ذو مكر، وذو استهزاء، وذو مخادعة هكذا مطلقا بالصفة، وإنما كما هي القاعدة أن باب الأفعال أوسع من باب الصفات.
? أخ يسأل ما الفرق بين الحمد والشكر؟
هناك فروق كثيرة بين الحمد والشكر، لكن الذي يضبطها هو:
· أن الحمد هو الثناء باللسان، والثناء على كل جميل.
· وأما الشكر فمورده اللسان والعمل.
فلا يُقال مثلا فلان حمد الله جل وعلا بفعله، بل لابد أن يكون الحمد باللسان، لكن الشكر يمكن أن يكون باللسان ويمكن أن يكون بالعمل، قال جل وعلا?أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ?[لقمان:114]، وقال جل وعلا?اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا?[سبإ:13].(1/45)
فمن حيث المورد الشكر أعم من الحمد، لأنه يشمل حمد الثناء، والمدح باللسان وبالعمل.
والحمد أخص لأنه لا يكون إلا باللسان.
ومن حيث ما يحمد عليه أو ما يثنى عليه، وما يمدح، فإن الحمد أعم فهذا من الأشياء التي يقول فيها العلماء إن بينهما عموم وخصوص؛ يجتمعان في شيء ويفترقان في شيء آخر.
?????
وأنواعُ العبادةِ التي أَمَرَ اللهُ بها: مثلُ الإسلامِ، والإيمانِ، والإحسانِ؛ ومنهُ الدعاءُ، والخوفُ، والرجاءُ، والتوكلُ، والرغبةُ، والرهبةُ، والخشوعُ، والخَشيةُ، والإنابةُ، والاستعانةُ، والاستعاذةُ، والاستغاثةُ، والذَّبْحُ، والنذرُ، وغيرُ ذلك من العبادةِ التي أَمرَ اللهُ بها كلُّها لله تعالى. والدليلُ قوله تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، فمَنْ صَرَفَ منها شيئًا لغير الله فهو مشرِكٌ كافرٌ، والدليلُ قوله تعالى ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، وفي الحديثِ «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة» والدليلُ قوله تعالى ?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر:60].
لما تقرر أن الرب هو المعبود، كان من المناسب أن تذكر أنواع العبادة التي يعبد الله جل وعلا بها، والتي يجب إفراد الله جل وعلا بها. والعبادة عُرِّفت بعدة تعريفات:
فمنها أنها عرِّفت بأن العبادة: هي كلُّ ما أُمِرَ به مِنْ غير اقتضاءٍ عقليٍّ ولا اطِّرادٍ عرفيٍّ. وهذا هو تعريف الأصوليين في كتبهم، ومعنى ذلك أن الشيء الذي أُمر به من غير أن يقتضي العقل المجرد الأمر به، ومن غير أن يَطَّرِدَ به عرف، هذا يسمى عبادة.(1/46)
يفسر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى للعبادة في أول رسالته العبودية حيث قال: إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهذا التعريف مناسب؛ لأنه أيسر في الفهم أولا, والثاني أنه قريب المأخذ من النصوص، فقال: إن العبادة اسم جامع؛ يجمع أشياء كثيرة, جامع لأي شيء ؟ لكل ما يحبه الله ويرضاه، كيف نصل إلى أن هذا العمل أو القول يحبه الله ويرضاه؟ لابد أن يكون مأمورا به، أو مخبَرا عنه بأن الله جل وعلا يحبه ويرضاه. أنواعها، قال: من الأقوال والأعمال؛ فهناك قول وعمل. فإذن العبادات تنقسم إلى:
· عبادات قولية.
· وعبادات عملية.
ليس ثمَّ قسم ثالث، إما أن تكون قولية، وإما أن تكون عملية. قال: الظاهرة والباطنة؛ قد يكون القول ظاهرا، وقد يكون باطنا، وقد يكون العمل ظاهرا، وقد يكون باطنا.
فتحصل أن أنواع العبادات هي الأقوال والأعمال التي يحبها الله ويرضاها:
والقول: قد يكون باللسان، وقد يكون بالجنان.
قول اللسان أعمال كثيرة مما أمر الله جل وعلا به مثل الذكر والتلاوة، كلمة المعروف ونحو ذلك، هذه كلها من أنواع العبادات اللسانية.
قول القلب هو نيته, قصده، التبست النية على قوم فكانوا يتلفظون بها، نعم النية قول، لكنها قول القلب، إذا قصد القلب وتوجه إلى شيء كان قائلا به، ليس متكلما، لأن الكلام من صفات اللسان؛ كلام ظاهر، أما القول قد يكون ظاهرا وقد يكون باطنا.
العمل: عمل القلب وعمل الجوارح.
وهذه الأنواع التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى ممثلا بعضها من الأقوال والأعمال، بعضها ظاهر، وبعضها باطن، بعضها لساني، وبعضها قلبي، وبعضها عملي قلبي، وبعضها من عمل الجوارح.(1/47)
فمثلا الإخلاص هذا عمل القلب، التوكل عمل القلب، لا يصلح الإخلاص إلا لله جل وعلا؛ إخلاص العبادة، إخلاص الدين إلا لله جل وعلا كما قال تعالى ?تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ?[الزمر:1-3], ?قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي?[الزمر:14]، التوكل كذلك من أعمال القلب التي ليست إلا لله، الخوف من أعمال القلب التي ليست إلا لله، يعني خوف العبادة، خوف السر سيأتي إيضاحه إن شاء الله في موضعه، الرغبة، الرهبة، الإنابة، الخضوع, الذل؛ ذل العبادة, خضوع العبادة، إلى آخره وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
هذه كلها من أعمال القلب هي داخلة في أنواع العبادة.
الأعمال الظاهرة مثل الاستغاثة؛ الاستغاثة طلب الغوث, طلب الغوث طلب ظاهر, مثل الاستعانة؛ طلب العون، هذه من الأعمال الظاهرة، الذبح واضح أنها عمل الجوارح, النذر واضح أنه قول اللسان وعمل الجوارح، ونحو ذلك، فإذن هذه العبادات التي مَثَّل بها، أراد أن يشمل تمثيله أقسام العبادات القولية، والعملية؛ الظاهرة والباطنة، يجمعها جميعا أنها عبادات.
والعبادة لا تصلح إلا لله جل وعلا، العبادة الظاهرة أو الباطنة، القلبية أو اللسانية، أو التي موردها الجوارح، فهي لا تصلح إلا لله؛ فمن صرف شيئا منها لغير الله فقد توجّه بالعبادة لغير الله منافيا لما قال الله جل وعلا ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ?[البقرة:21]، ومنافيا لإقراره بأن معبوده هو الله جل وعلا، إذا أقر العبد بأن قوله من ربك؟ يعني من معبودك؟ وأن الله جل وعلا قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) يعني وحده دون ما سواه، فإنه إذا توجه بشيء من هذه الأنواع لغير الله جل وعلا كان متوجها بالعبادة لغير الله، وذلك هو الشرك.(1/48)
(الدليل قوله تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18])، (فَلَا تَدْعُوا) الدعاء هو العبادة، كما جاء في الحديث الذي استدل به الشيخ وهو قوله عليه الصلاة والسلام «الدعاء مخ العبادة» وهو حديث أنس بن مالك، وإسناده فيه ضعف، لكن معناه هو معنى الحديث الصحيح؛ حديث النعمان بن بشير الذي رواه أبو داوود والترمذي وجماعة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام «الدعاء هو العبادة» (هو العبادة) يعني مخ العبادة، لأن الدعاء هو العبادة بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة»، قال تعالى?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، (فَلَا تَدْعُوا) يعني كما ذكرت لكم من قبل: لا دعاء مسألة، ولا دعاء عبادة. (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) يعني لا تعبدوا مع الله أحدا، (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا), هذا نهي أن يدعوَا الناسُ أحدا مع الله جل وعلا، يعني أن يعبدوا أحدا مع الله جل وعلا، وإذا كان الدعاء هنا بمعنى دعاء المسألة فيكون معنى الآية وأن المساجد لله فلا تسألوا سؤال عبادة مع الله أحدا، لا تطلبوا طلب عبادة مع الله أحدا. ولفظ (تَدْعُوا) يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهذه الآية دليل على وجوب إفراد الله جل وعلا بالعبادة.
فإن قال قائل لك حين الاستدلال بها: إن الدعاء هنا هو دعاء المسألة، وغيره من أنواع العبادة التي تزعمون من الذبح والنذر ومن الاستغاثة والاستعاذة ونحو ذلك أنها لا تدخل في النهي في هذه الآية.(1/49)
فيكون جوابُك: أن الدعاء في القرآن جاء بمعنيين، جاء ويراد به العبادة، وجاء ويراد به المسألة. فمثلا في قوله تعالى?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي?[غافر:60]، ظاهر أن الدعاء المراد به العبادة؛ لأنه قال ?إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر:60]، وكذلك في قوله تعالى مخبرا عن قول إبراهيم عليه السلام ?وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا?[مريم:48]، قال جل وعلا بعد ذلك ?فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[مريم:49]، وفي الآية الأولى أخبر عن إبراهيم أنه قال (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ) ثم قال جل وعلا (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ) فدل على أن إبراهيم عليه السلام حين قال (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ) أي وما تعبدون؛ لأن الله جل في وعلا قال بعدها (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ)، وهذا من الأدلة الظاهرة من أن الآية هذه تشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
وقد أُورد على أئمتنا رحمهم الله تعالى -حين قرروا التوحيد في مقالهم وفي كتبهم- أن هذه الآية إنما هي دليل للمسألة، وأما غيرها مما تَدَّعون أنه عبادة وأن هذه الآية فيها نهي عنه؛ كالذبح والنذر ونحو ذلك أنه لا يدخل في الآية.
فكان الجواب: أن الدعاء نوعان؛ دعاء عبادة ودعاء مسألة، هذا يأتي في القرآن وذاك يأتي في القرآن، والآية تشمل النوعين؛ لأن الدعاء إذا كان في القرآن يأتي تارات لهذا وتارات لهذا، فتحديده في هذه الآية بأحد النوعين ونفي النوع الآخر، هذا نوع تحكم وهو ممتنع.
نقف عند هذا القدر، ونكمل إن شاء الله غدا، أسأل الله جل وعلا أن ينفعني إيّاكم.
الأسئلة(1/50)
? هذا سؤال بالمناسبة قال: هل يصح أن يُقال توكلت على الله ثم عليك؟
والجواب: أن هذا لا يصلح؛ لأن الإمام أحمد وغيره من الأئمة صرحوا بأن التوكل عمل القلب.
ما معنى التوكل؟ هو تفويض الأمر إلى الله جل وعلا بعد بذل السبب؛ إذا بُذل السبب فوض العبد أمره إلى الله، فصار مجموع بذله للسبب وتفويضه أمره لله مجموعها التوكل، ومعلوم أن هذا عمل القلب كما قال الإمام أحمد.
ولهذا سئل الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية السابق رحمه الله تعالى عن هذه العبارة فقال: لا تصح لأن التوكل عمل القلب، لا يَقبل أن يقال فيه (ثُمَّ)؛ توكلت على الله ثم عليك. إنما الذي يقال فيه (ثُمَّ) ما يسوغ أن يُنسب للبشر.
بعض أهل العلم في وقتنا قالوا: إن هذه العبارة لا بأس بها؛ توكلت على الله ثم عليك، ولا يُنظر فيها إلى أصل معناها وما يكون من التوكل في القلب، إنما ينظر فيها إلى أن العامة حينما تستعملها ما تريد التوكل الذي يعلمه العلماء، وإنما تريد ممثل معنى اعتمدت عليك، ومثل وكَّلْتُك ونحو ذلك، فسهلوا فيها باعتبار ما يجول في خاطر العامة من معناها وأنهم لا يعنون التوكل الذي هو لله؛ لا يصلح إلا لله، لكن مع ذلك فالأولى المنع لأن هذا الباب ينبغي أن يُسد، ولو فتح باب أنه يستسهل في الألفاظ لأجل مراد العامة، فإنه يأتي من يقول مثلا ألفاظ شركية ويقول أنا لا أقصد بها كذا، مثل الذين يظهر ويكثر على لسانهم الحلف بغير الله بالنبي أو ببعض الأولياء أو نحو ذلك يقولون لا نقصد حقيقة الحلف، ينبغي وصف ما يتعلق بالتوحيد، وربما ما يكون قد يخدشه أو يضعفه، ينبغي وَصْدُ الباب أمامه حتى تخلص القلوب والألسنة لله وحده لا شريك له.
نكتفي بهذا القدر و ننتقل إلى الأصول.
?????(1/51)
فمَنْ صَرَفَ منها شيئًا لغيرِ الله فهو مُشرِكٌ كافرٌ، والدليلُ قوله تعالى ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، وفي الحديثِ «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة» والدليلُ قوله تعالى ?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر:60].
ودليلُ الخوفِ قوله تعالى ?فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:185].
ودليلُ الرَّجاءِ قوله تعالى ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110].
ودليلُ التَّوكُّلِ قوله تعالى?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[المائدة:23]، وقوله?وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ?[الطلاق:3].
ودليلُ الرَّغْبَةِ والرَّهبَةِ والخُشوعِ قولُه تعالى ?إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ?[الأنبياء:90].
ودليلُ الخَشيةِ قوله تعالى ?فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي?[البقرة:150].
ودليل الإنابةِ قوله تعالى ?وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ?[الزمر:54].
ودليل الاستعانةِ قوله تعالى ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5]، وفي الحديثِ «إذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ».
ودليل الاستعاذةِ قوله تعالى ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ?[الفلق:1]، ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ?[الناس:1].
ودليل الاستغاثةِ قوله تعالى ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ?[الأنفال:9].(1/52)
ودليل الذَّبْحِ قوله تعالى ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ?[الأنعام:162-163]، ومِنَ السُّنَّةِ «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ».
ودليلُ النَّذْرِ قوله تعالى ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا?[الإنسان:7].
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, اللهم هب لنا من لدنك رحمة, وهيَّأ لنا من أمرنا رشدا, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علما وعملا, يا أكرم الأكرمين.
أما بعد: فهذه صلة لما سبق الكلام عليه؛ من أن العبادة حق لله جل وعلا, وأن كل معبود سوى الله جل وعلا فإن عبادته بغير الحق وأنها بالباطل والظلم والطغيان والجور والتعدي من الخلق, فالله جل وعلا هو الذي يستحق العبادة وحده دونما سواه من خلقه.(1/53)
وبعد أن ذكر أنواع العبادات التي موردها اللسان والقلب والجوارح قال رحمه الله (فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك كافر والدليل قوله تعالى ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117])، (من صرف) يعني من توجه بشيء من أنواع تلك العبادات لغير الله فهو مشرك كافر، يريد الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة، والشرك حقيقته اتخاذ الند مع الله جل وعلا، وهو المذكور في قوله ?فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[البقرة:22]، والتنديد يعني أن يُجعل لله مِثْل للاستحقاق؛ استحقاق التوجه, استحقاق العبادة، إذا جُعل لله ند إما بالقول أو بالعمل فذلكم هو الشرك، وكل نوع من هذه الأنواع، وغيرُها من الأنواع التي تدخل في مسمى العبادة، صرْفها لغير الله جل وعلا شرك أكبر يخرج من الملة، وصاحبه مشرك كافر؛ إما الكفر الظاهر، وإما الكفر الظاهر والباطن معا. وهذا الذي ذكره برهن له بقوله تعالى (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) وقوله هنا (لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) هذا بيان لحقيقة من دعي مع الله جل وعلا، قال (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) هذا الإله الآخر، وهذا الداعي منعوت بأنه لا برهان له بما فعل، ولا دليل، وإنما فعل ما فعل من دعوة غير الله لخواص وبتعديه. وقوله (لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) ليس مفهومه أن ثم دعوة لغير الله تعالى ليس لها برهان وإنما كل دعوة لغير الله، (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) أيَّ إله كان، فإن ذلك الداعي لا برهان له بما فعل، والدليل على أن دعوة غير الله جل وعلا كفر؛ قوله جل وعلا في الآية نفسها (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) فدل على أن دعاء غير الله -كما أنه شرك- إذ دُعي إله آخر مع الله جل وعلا فهو كفر؛ لأنه قال(1/54)
(إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
والشرك أقسام والعلماء يَقْسِمون الشرك باعتبارات مختلفة.
· فتارة يُقسم الشرك إلى شرك ظاهر وشرك خفي.
· وتارة يُقسم الشرك إلى شرك أكبر وشرك أصغر.
· وتارة يُقسم إلى شرك أكبر وأصغر وخفي.
وهذه تقسيمات معروفة عند العلماء, وكل تقسيم باعتبار، وهي تلتقي في نتيجة كل قسم والتعريف؛ لكنه اختلاف في التقسيم باعتبارات مختلفة.
فمثلا من يقسمون الشرك إلى ظاهر وخفي؛ إلى جلي وخفي:
· فيكون الجلي منه ما هو أصغر ومنه ما هو أكبر، الجلي الظاهر الذي يُحَس مثل الذبح لغير الله, النذر لغير الله هذا جلي، هذا من نوع الشرك الأكبر, هو جلي أكبر، كذلك مثل الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كذلك هذه من نوع الشرك الجلي الأكبر, الحلف بغير الله تعالى شرك جلي ولكنه أصغر، هذا قسم شرك جلي.
· قَسِيمُه الشرك الخفي منه ما هو أكبر كشرك المنافقين، فإن شركهم خفي لم يظهروه وإنما أظهروا الإسلام، فما قام في قلوبهم من التنديد والشرك صار خفيا لأنهم لم يُظهروه، فهو شرك خفي ولكنه أكبر، وهناك شرك خفي أصغر مثل يسير الرياء، فإن كان الرياء كاملا كان ذلك شركا أكبر كشرك المنافقين، وإن كان يسيرا كتصنُّع المرء للعبادة لمخلوق مثله لغير الله فهذا إذا كان يسيرا فإنه شرك أصغر خفي.
هذا نوع من أنواع التقاسيم.
بعض العلماء يقول الشرك قسمان أكبر وأصغر:
· فإذا كان أكبر: قَسم الأكبر إلى جلي وخفي.
· وقسم الأصغر إلى جلي وخفي.
والأوضح أن يقسم إلى ثلاثة إلى أكبر وأصغر وخفي:
· ويكون الخفي مثل يسير الرياء.
· والأصغر مثل الحلف بغير الله، تعليق التمائم ونحو ذلك.
· والأكبر مثل الذبح والنذر والاستغاثة و دعاء ودعوة غير الله جل وعلا.
هذه تقسيمات للشرك قد تجد هذا أو ذاك في كلام طائفة من أهل العلم، لكن كلّها محصلها واحد، وإنما التقسيم باعتبارات، وهي ملتقية في التعريف وفي النتيجة.(1/55)
مُراد الشيخ رحمه الله تعالى هاهنا بقوله (فمَنْ صَرَفَ منها شيئًا لغيرِ الله فهو مُشرِكٌ كافرٌ) يريد الشرك الأكبر الذي يُخرج من الملة، فكل شيء صح عليه قيد العبادة فإن صرفه لغير الله -يعني التوجه به، التعبد به لغير الله- هذا كفر؛ مثل نداء الموتى، أو نداء الغائبين، أو خوف السر، أو الذبح لغير الله، أو النذر لغير الله، أو الاستغاثة بالأموات، أو أنواع الطلب المختلفة من الاستعانة ونحوها، أو بعض أعمال القلوب مثل الاستعاذة ونحو ذلك. هذه كلها أنواع للعبادات بعضها في القلب وبعضها للجوارح، جميعا من توجه بشيء منها لغير الله فهو مشرك الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة. البرهان قوله (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) وقد قدمت لك أن (يَدْعُ) والدعاء في القرآن قد يكون دعاء مسألة وقد يكون دعاء عبادة، فإذا لم يكن في الدليل، في النص قرينة تحدد أحد المعنيين، حُمل على المعنيين جميعا؛ لأن حمل النص على أحد المعنيين دون دليل وبرهان تحكُّم في النص وذلك لا يجوز.
قال رحمه الله (وفي الحديثِ «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة»)، (الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة) يعني لبُّها وجوهرها، وهو كما جاء في الحديث الآخر الصحيح؛ حديث النعمان «الدُّعَاءُ هُوَ العبادة» وكما قال جل وعلا (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وسبق أن أوضحت لكم هذه المسألة بتفصيل فيما مضى.
بعد ذلك شرع المؤلف -رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- في بيان أدلة كون تلك التي ذكر من العبادات, وذكر الخوف, وذكر الرجاء, وذكر الرغبة, وذكر الرهبة, وذكر الخشوع, وذكر التوكل, وذكر أشياء, والذبح والنذر, إلى آخره.
فكأنَّ قائلا قال: ما الدليل على أن هذه من العبادات التي من صرَفها لغير الله جل وعلا كَفر؟ هو يسوق الأدلة, والأدلة على هذه المسألة على نوعين:(1/56)
الأول: أن يُستدل بدليل يُثبت كون تلك المسألة من العبادة, يثبت كون الخوف من العبادة، يثبت كون الرجاء من العبادة، فإذا ثبت كونه من العبادة، أُستدل بالأدلة السابقة كقوله ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، وقوله «الدعاء هو العبادة», « الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة », ? إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي?[غافر:60]، ونحوها من الأدلة العامة؛ بأن من توجه بالعبادة لغير الله فهو مشرك.
إذن النوع الأول متركب من شيئين، الأول أن يقام الدليل على أن هذه المسألة من العبادة؛ على أن الخوف من العبادة، على أن الرجاء من العبادة، فإذا استقام الدليل والاستدلال على أن هذه المسألة من العبادة، استدللتَ بالأدلة العامة على أن من صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك، هذا نوع.
النوع الثاني: خاص؛ وهو أن كل نوع من تلك الأنواع له دليل خاص، يُثبت أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك، وأنه يجب إفراد المولى جل وعلا بذلك النوع من أنواع العبادة.
وهذا مما ينبغي أن يتنبه له طالب العلم في مقامات الاستدلال، لأن تنويع الاستدلال عند الاحتجاج على الخرافيين والقبوريين وأشباههم مما يقوي الحجة. تُنوِّع الاستدلال مرة بأدلة مجملة، مرة بأدلة مفصلة، مرة بأدلة عامة، مرة بأدلة خاصة حتى لا يُتوهَّم أنه ليس ثم إلا دليل واحد يمكن أن ينازع المستدل به الفهم، فإذا نوعتها صارت الحجة أقوى والبرهان أجلى.
بدأ في ذكر هذه الأدلة، بعضها من النوع الأول وبعضها من النوع الثاني:(1/57)
قال رحمه الله (دليلُ الخوفِ) يعني دليل كون الخوف عبادة (قوله تعالى ?فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:185]) هذا الدليل فيه أن الخوف من غير الله منهي عنه، وأن الخوف من الله جل وعلا مأمور به، قال جل وعلا (فَلَا تَخَافُوهُمْ) نهي عن الخوف من غير الله، ثم قال (وَخَافُونِي) وهذا أمر بالخوف من الله جل وعلا، وما دام أن الله جل وعلا أمر بالخوف منه فإنه يصدق على الخوف إذن تعريف العبادة؛ لأنه إذ أمر بالخوف منه فمعنى ذلك أن الخوف منه محبوب له مرضي عنده، فيصدق عليه تعريف شيخ الإسلام للعبادة أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وهذا ما دام أنه أمر به فمعناه أن الله جل وعلا يحبه، لأنه إنما يأمر شرعا بما يحبه ويرضاه، وفي هذه الآية دليل من النوع الثاني؛ وهو أن الخوف يجب أن يفرد به الله جل وعلا، قال ها هنا (وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فجعل حصول الإيمان مشروطا بالخوف منه جل وعلا، قال (وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)؛ إن كنتم مؤمنين فخافوني ولا تخافوهم، وهذا فيه دليل على إفراد الله جل وعلا بهذا النوع من الخوف، والخوف الذي يجب إفراد الله جل وعلا به، ومن لم يفرد الله جل وعلا به فهو مشرك كافر هو نوع من أنواع الخوف وليس كل أنواع الخوف وهو خوف السر؛ وهو أن يخاف غير الله جل وعلا بما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وهو المسمى عند العلماء خوف السر؛ وهو أن يخاف أن يصيبه هذا المخوف منه، أن يصيبه ذلك الشيء بشيء في نفسه-يعني في نفس ذلك الخائف- كما يصيبه الله جل وعلا بأنواع المصائب من غير أسباب ظاهرة ولا شيء يمكن الاحتراز منه، فإن الله جل وعلا له الملكوت كله، وله الملك وهو على كل شيء قدير، بيده تصريف الأمر، يرسل ما يشاء من الخير، و يمسك ما يشاء من الخير، يرسل المصائب، وكل ذلك دون أسباب يعلمها العبد، وقد يكون لبعضها أسباب، لكن هو في الجملة من دون أسباب(1/58)
يمكن للعبد أن يعلمها, يموت هذا، ينقضي عمر ذاك، هذا يموت صغيرا، ذاك يموت كبيرا, هذا يأتيه مرض، وذاك يصيبه بلاء في ماله ونحو ذلك، الذي يفعل هذه الأشياء هو الله جل وعلا، فيُخاف من الله جل وعلا خوف السر أن يصيب العبد بشيء من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، المشركون يخافون آلهتهم خوف السر؛ أن يصيبهم ذلك الإله، ذلك السيد، ذلك الولي، أن يصيبهم بشيء كما يصيبهم الله جل وعلا بالأشياء، فيقع في قلوبهم الخوف من تلك الآلهة من جنس الخوف الذي يكون من الله جل وعلا، يوضح ذلك أن عُبَّاد القبور وعباد الأضرحة وعباد الأولياء يخافون أشد الخوف من الولي أن يصيبهم بشيء إذا تُنُقِّص الولي، أو إذا لم يُقَم بحقه.
وقد حُكِيَ لي في ذلك حكاية من أحد طلبة العلم، أنه كان مجتازا مرة مع سائق سيارة أجرة ببلدة (قنطة) المعروفة في مصر التي فيها قبر البدوي؛ والبدوي عندهم معظم، وله من الأوصاف ما لله جل وعلا؛ يعني يعطونه من الأوصاف بعض ما لله جل وعلا، هم اجتازوا بالبلدة فأتى صغير -متوسط في السن- يسأل هذا؛ يسأله صَدقة، فأعطاه شيئا، فحلف له بالبدوي أن يعطيه أكثر، وكان من العادة عندهم أنه من حلف له مثل ذلك فلا يمكن أن يرد، فلا بد أن يعطي؛ لأنه يخاف أن لا يقيم لذلك الولي حقه، فقال هذا -وهو من طلبة العلم والمتحققين بالتوحيد- فقال: هات ما أعطيتك. فظن ذلك أنه يريد أن يعطيه زيادة, فأخذ ما أعطاه وقال: لأنك أقسمت بالبدوي فلن أعطيك شيئا، لأن القسم بغير الله شرك.
هذا مثال للتوضيح ليس من باب القصص لكنه يُوضِح المراد من خوف السر وضوحا تاما.(1/59)
سائق الأجرة علاهُ الخوف في وجهه، ومضى سائقا وهو يقول: أُسْتُر أُسْتُر، أُسْتُر أُسْتُر. فسأله ذاك قال: تخاطب من؟ قال: أنت أهنت البدوي، وأنا أخاطبه -أي أدعوه- بأن يستر، فإن لم...، فإننا نستحق مصيبة، وسيرسل علينا البدوي مصيبة؛ لأننا أهناه. وكان في قلبه خوف بحيث أنه مشوا أكثر من مئة كيلو ولم يتكلم إلا بأُستر، أستر. يقول فلما وصلنا سالمين معافين توجهت له فقلت: يا فلان أين ما زعمت؟ وأين ما ذكرت من أن هذا الإله الذي تألهونه أنه سيفعل ويفعل؟ فتنفس الصعداء وقال: أصل السيد البدوي حليم !!!
هذه الحالة هي حالة تعلق القلب بغير الله، الذي يكون عند الخرافيين، خوف من غير الله خوف السر، البدوي ميت في قبره، يخشى أن يرسل إليه أحد يقسمه، أو مصيبة في سيارته أو في نفسه، هذا هو خوف السر، وهذا هو الذي جاء في مثل قول الله جل وعلا ?وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ?[الأنعام:81], قال (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) لأنهم يخافون آلهتهم هذا النوع من الخوف، لهذا تجد قلوبهم معلقة بآلهتهم لأنهم يخافونهم خوف السر، وقال جل وعلا مخبرا عن قول قوم هود حيث قالوا لهود ?إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ?[هود:54]، فهم خافوا الآلهة، عندهم أن الآلهة تصيب بسوء، وكان الواجب على حد زعمهم أن يخاف هذا من الآلهة أن تصيبه بسوء، فقالوا له (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) يعني بمصيبة في نفسك اختل عقلك، أو اختلت جوارحك أو نحو ذلك، هذا النوع من الخوف هو الذي إذا صرف لغير الله جل وعلا فهو شرك أكبر.(1/60)
هناك أنواع من الخوف خوف جائز وهو الخوف الطبيعي: أن يخاف من الأسباب العادية التي جعل الله فيها ما يخاف ابن آدم منه، أن يخاف من النار أن تحرقه, يخاف من السبع أن يعدو عليه, من العقرب أن تلدغه, يخاف من ذي سلطان غشوم أن يعتدي عليه ونحو ذلك, هذا النوع خوف طبيعي من الأشياء, لا يُنقص الإيمان؛ لأنه مما جبل الله جل وعلا الخلق عليه.
هناك نوع، خوف محرم, هذا القسم الثالث لأن الخوف أربعة أقسام([8]), قسم منه شركي؛ شرك أكبر, وقسم منه جائز, وقسم محرم وهو أن يخاف من الخلق في أداء واجب من واجبات الله, يخاف من الخلق في أداء الصلاة, يخاف إن قام للصلاة من مجلس يقطنه كثيرون أن يعاب, فإذا خاف هذا الخوف, فإن هذا الخوف يكون محرما, وفي مثله نزل قوله تعالى ?الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ?[آل عمران:173]، وفي قوله?فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:185]، لأن الواجب أن يُجَاهَدوا, فإذا خافوهم عن أداء ذلك الواجب, خوف ليس بمأذون به في الشرع وإنما هو من تَسْوِيل الشيطان كما قال ?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ?[آل عمران:175]، هذا النوع من الخوف محرم, لا يجوز؛ لأن فيه تفويت فريضة من فرائض الله لأجل الخوف, خاف من غير الله لكنه ليس خوف السر, وإنما هو خوف ظاهر, وهذا محرم من المحرمات.
هذه أقسام ثلاثة مشهورة, وبها تجمع مسائل أقسام الخوف، والشرك منه وما ليس بشركي منه, وهذه المسألة مما يكثر فيها اضطراب طلاب العلم؛ لأنه ليس عندهم ضبط, للخوف الذي يحصل به إن صُرف لغير الله جل وعلا الشرك، الذي يوصف به من قام به أنه مشرك، أيُّ خوف هذا؟ هو خوف السِّر, ووصفه وضبط حاله هو ما ذكرته لك من قبل, فكن منه على ذكر وبينة في فهمك لهذه المسألة العظيمة.(1/61)
الخوف عبادة قلبية موردها القلب، قد يظهر أثره على الجوارح.
قال بعد ذلك (ودليلُ الرَّجاءِ قوله تعالى ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]) الرجاء أيضا عبادة قلبية، حقيقتها الطمع بالحصول على شيء مرجو, الرغبة بالحصول على شيء، يرجو أن يحصل على هذا الشيء.
فإن كان الرجاء لشيء ممن يملك ذلك الشيء فإن هذا رجاءٌ طبيعي؛ أرجو أن تحضر لأنه يمكنك أن تحضر، أرجوك أن تفعل، يمكنك أن تفعل، هذا الرجاء ليس هو رجاء العبادة.
النوع الثاني هو رجاء العبادة، وهو أن يطمع في شيء لا يملكه إلا الله جل وعلا، أن يطمع في شفائه من مرض، يرجو أن يشفى، يرجو أن يدخل الجنة وينجو من النار، يرجو أن لا يصاب بمصيبة ونحو ذلك، هذه أنواع من الرجاء، لا يمكن أن تُرجى وتُطلب وتُؤمل إلا من الله جل وعلا، وهذا هو معنى رجاء العبادة.
فالرجاء منه ما هو رجاء عبادة ومنه ما هو رجاء ليس من العبادة، والمقصود ها هنا هو رجاء العبادة.(1/62)
قال جل وعلا (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) هذا النوع من الرجاء امتدح الله جل وعلا من قام به، قال (مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) فدل على أن هذا الرجاء ممدوحٌ مَنْ رجاهُ، وإذا كان ممدوحا قد مدحه الله جل وعلا فهو مرضي عند الله جل وعلا، فيصدق عليه حد العبادة من أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وهذا -من نص هذه الآية- داخل فيما يرضاه الله جل وعلا، لأنه أثنى على من قام به ذلك الرجاء، وقوله هنا (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ)، (اللقاء) فُسر بالملاقاة، وفُسر بالمعاينة، وفُسر بالرؤية؛ رؤية الله جل وعلا, (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ) لملاقاة الله جل وعلا والرجوع إليه، أو فمن كان يرجو رؤية ربه، لأن اللقاء يحتمل هذا وذاك وهما تفسيران مشهوران عن السلف.
قال بعدها (ودليلُ التَّوكُّلِ قوله تعالى ?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[المائدة:23]) التوكل أيضا من العبادات القلبية، حقيقته أنه يجمع شيئين:
الأول: تفويض الأمر إلى الله جل وعلا.
الثاني: عدم رؤية السبب بعد عمله.
والتفويض وعدم رؤية السبب شيئان قلبيان، فالعبد المؤمن إذا فعل السبب، وهو جزء بما تحصل به حقيقة التوكل، فإنه لا يلتفت لهذا السبب، لأنه يعلم أن هذا السبب لا يُحَصِّل المقصود، ولا يحصل المراد به وحده، وإنما قد يحصل المراد به وقد لا يحصل؛ لأن حصول المرادات يكون بأشياء:
?منها السبب.
?ومنها صلاحية المحل.
?ومنها خلو الأمر من المضاد.
فثَم ثلاثة أشياء تحصل بها المرادات:
أول سبب: نعلم ِبمَا خلق الله جل وعلا خلقه عليه أن هذا السبب يُنتج المسبَّب؛ النتيجة.
الثاني: صلاحية المحل لقيام الأمر به؛ الأمر المراد.
الثالث: خلو الأمر أو المحل من المضاد له.(1/63)
مثاله الدواء، النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدواء فقال «تداووا عباد الله» فالمسلم الموحد يتناول الدواء باعتباره سببا للشفاء، لكنه ليس سببا أو ليس علة وحيدة، بل لا يحصل الشفاء بهذا وحده، وإنما لابد من أشياء أخر، منها أن يكون المحل الذي هو داخل الإنسان-باطن متناول الدواء- يكون صالحا لقبول ذلك الدواء، وهذا معنى قولي: أن يكون المحل صالحا. أيضا من العلل التي يكمل بها المراد أن يكون السبب هذا الذي عمل خاليا من المعارض له، قد يكون يتناول شيء وفي البدن ما يفسد ذلك الشيء، فلا يصل إلى المقصود.
? ومنها وهو الأعظم أن يأذن الله جل وعلا بأن يكون السبب مؤثرا منتجا للمسبّب، وهذا يعطيك أن فعل السبب ليس كافيا في حصول المراد.
من الأمثلة التي نُمَثِّلُ بها كثيرا في هذا الباب غير مثال الدواء, رجل رام سفرا على سيارة، فأعد العدة، وفعل أسباب السلامة جميعا؛ من رعاية مثلا للكابحات (الفرامل)، ومن رعاية للإطارات ونحو ذلك، فعل أسباب السلامة جميعا، وسار على مهل، هذا كل ما يمكنه أن يفعله، لكن هل هذا وحده يحصل السلامة؟ لا يحصل السلامة هذا وحده، فهناك من قد يكون معتديا عليه، تأتيه سيارة كبيرة، هو قد بذل أسباب السلامة، وتأتيه في طريقه، ويصاب بالمصيبة من جرّاء ذلك، فهو فعل ما يمكنه أن يفعله، لكن هناك أشياء بيد الله جل وعلا تتم السلامة باجتماعها، وليس بهذا السبب الوحيد الذي عمله العبد، لا يجوز للعبد أن يتخلى عن بذل السبب لأن بذل السبب من تمام التوكل ولكن لا يُلتفت إلى السبب ولهذا قال علماؤنا -علماء التوحيد من أئمة السلف فمن بعدهم-: الالتفات إلى الأسباب قدح في التوكل. الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد, ومحو الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل, إذا التفت القلب إلى السبب وأنه ينتج المسبب هذا قدح في التوحيد.(1/64)
لهذا نقول التوكل هو ما يجمع شيئين أولا تفويض الأمر إلى الله جل وعلا, لأن الله هو الذي بيده الملك. الثاني عدم رؤية السبب الذي فُعل.
إذن لا بد من فعل السبب, ويقوم بالقلب عدم رؤية لهذا السبب أنه ينتج المقصود وحده, وإنما يعلم أنه جزء مما ينتج المقصود, والباقي على الله جل وعلا ثم يفوض الأمر لله جل وعلا, هذا ينتج لك أن التوكل عبادة قلبية محضة, ولهذا صار صرفه لغير الله جل وعلا شرك, بمعنى أن يفوض الأمر لغير الله جل وعلا, كما يقول بعض مشايخ الصوفية لبعض مريديهم: إذا أُصبت بمصيبة فاذكرني فإني أخلِّصك منها. أذكرني يقم بالقلب ذلك المتذكَّر, ذلك المذكور, وإذا قام به أنه يخلصه من ذلك الشيء, فمعناه أنه فوض الأمر إليه, وصار متوكلا على غير الله جل وعلا, وهذا هو حقيقة ما يفعله المشركون في الجاهلية ومن شابههم ممن بعدهم, (ودليل التوكل قوله تعالى ?وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ?[المائدة:23])، ففي هذه الآية الأمر بالتوكل, وما دام أنه أمر به فهو عبادة؛ لأن العبادة ما أُمر به من غير اقتضاء عقلي ولا اطراد عرفي, وما دام أنه أمر به فهو راض له أن يُتوكل عليه, وهذا معناه كونه عبادة, ثم أيضا في هذا الدليل أنه جعل التوكل شرطَ الإيمان, فقال (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) فمعنى ذلك أنه لا يحصل الإيمان إلا بالتوكل على الله وحده. أيضا هنا قدم الجارّ والمجرور فقال (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) وتقديم ما حقه التأخير في علم المعاني يفيد الحصر والقصر, أو يفيد الاختصاص، وهنا يفيدهما؛ يفيد الاختصاص, ويفيد القصر والحصر, فمعنى هذه الآية بقوله (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) يعني أحصروا توكلكم في الله, اقصروا توكلكم على الله إن كنتم مؤمنين, خُصُّوا الله بتوكلكم إن كنتم مؤمنين, وهذه الآية، هذا الدليل مركب من نوعي الدليل الذَين ذكرتهما لك من قبل, النوع الأول: إثبات(1/65)
أن هذا الأمر عبادة, الثاني: إثبات أن هذه العبادة يجب صرفها لغير الله جل وعلا بدليل خاص, فهو المستفاد من قوله (فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) وكذلك في قوله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) هذا فيها الثناء على من يتوكل على الله, ففيها الدليل على أن التوكل على الله عمل يحبه الله ويرضاه، ومعنى ذلك أنه من أنواع العبادات, هذا هو توكل العبادة.
وهناك شيء آخر ليس من توكل العبادة, وهو التوكيل وهو المعروف في باب الوكالة عند الفقهاء, وكلت فلانا في أمري, (ووكل علي) كما جاء في الحديث «ووكل علي عقيلا في خصومة» هذا من باب الوكالة, وهو شيء آخر غير التوكل، التوكيل والوكالة باب آخر, أما التوكل فهو عبادة قلبية, يضبط ذلك أن الوكالة فيها المعنى الظاهر, فيها شيء ظاهر, أما التوكل فهو عمل قلبي.
على كل حال، لهذه الجمل مزيد تفصيل لكن المقام يضيق عن تفصيلات ما يتعلق بهذه الأنواع من العبادات, وتفصيلها في كتاب التوحيد؛ لأن كل واحدة منها عُقد لها باب في كتاب التوحيد.(1/66)
قال رحمه الله تعالى (ودليلُ الرَّغبةِ والرَّهبةِ والخشوع قوله تعالى ?إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ?[الأنبياء:90]) هذه الآية فيها المسارعة للخيرات, الدعاء رغبا ورهبا ووصفُهم بأن حالهم أنهم كانوا خاشعين لله, ففيها أنواع من العبادات, خصّ الشيخ منها بالاستدلال الرغبة والرهبة والخشوع, ووجه الاستدلال من الآية أن الله جل وعلا أثنى على الأنبياء والمرسلين الذين ذكرهم في سورة الأنبياء, التي هذه الآية في أواخرها بقوله (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا), يعني ويدعوننا راغبين, ويدعوننا ذوي رغبة وذوي رهبة وذوي خشوع, وهذا في مقام الثناء عليه؛ الثناء على الأنبياء والمرسلين, وما دام أنه أثنى عليهم فإن هذه العبادات من العبادات المرضية له فتدخل في حد العبادة.
الرغبة رجاء خاص, والرهبة خوف خاص وَجَلٌ خاص، والخشوع هو التطامن والذل, قال تعالى ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً?[فصلت:39]، يعني ليس فيها حركة للنبات, ليس فيها حياة؛ متطامنة ذليلة ?فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ?([9])[فصلت:39] ، فالخشوع سكون فيه ذل وخضوع, هذا الخشوع الذي هو نوع من أنواع العبادة, وتلك الرغبة وتلك الرهبة هذه من العبادات القلبية, التي يظهر أثرها على الجوارح.(1/67)
لو تأملت أو رأيت حال المشركين عند آلهتهم, حال عباد القبور -مثلا- عند أوثانهم, عند المشاهد, لوجدت أنهم في خشوع, ليسوا عليه في مساجد لله ليس فيها قبر ولا قبة, وهذا مشاهد, فإنه يكون عنده وَجَلٌ خاص, رهبة, ومزيد رجاء هو الرغبة، وخشوع وتطامن وعدم حركة وسكون في الجوارح والأنفاس وحتى في الألحاظ في الرؤية، وهذا كله مما لا يسوغ أن يكون إلا لله، لأن المسلم في صلاته إذا صلى فإنه يكون يقوم به الرغبة، يقوم به الرهبة المستفادة من قوله تعالى ?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3)مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ?[الفاتحة:3-4], (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تفتح له باب الرغبات وباب الرجاء، و(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يفتح عليه باب الرغبة, باب الخوف من الله جل وعلا، فتأتي عبادته حال كونه راغبا راهبا، والخشوع سكونه وخضوعه وعدم حراكه في صوته وفي عمله، هذا لله جل وعلا في عبادة الصلاة، والخشوع يكون بالصوت، ويكون بالأعمال كما قال جل وعلا ?وَخَشَعَتْ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا?[طه:108]، فالهمس لا ينافي الخشوع في الصوت، وهذه حال المصلي حين يناجي ربه جل وعلا، فهو في حال رغبة ورجاء، وفي حال رغبة ورهبة، وفي حال خشوع لربه جل وعلا، يزيد هذا في القلب، وربما غلب عليه حتى نال المقامات العالية في تلك العبادة، وربما قلَّ وَضَعُف حتى لم يُكتب من صلاته إلا عشرها أو إلا تسعها، هذا لأنه من أنواع العبادات التي يحبها الله جل وعلا ويرضاها.(1/68)
فإذن وجه الاستدلال: أن الله جل وعلا أثنى على أولئك الأنبياء، وعلى أولئك المرسلين؛ لأنهم ذووا رغب، وذووا رهب، وذووا خشوع لله جل وعلا، وبالأخص هذا الدليل العام، وبالدليل الخاص في الخشوع وحده، قال هنا (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) وكما قدمت أن الجارّ والمجرور هنا قدم على ما يتعلق به وهو اسم الفاعل (خاشع)؛ لأن الجارّ والمجرور -كما أسلفت لك- يتعلق بالفعل أو ما فيه معنى الفعل فهو اسم الفاعل أو اسم المفعول أو ما أشبهه من مصدر ونحو ذلك، وهنا قال (كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) أصل سَبْقِ الكلام: كانوا خاشعين لنا. فلما قدم ما حقه التأخير كان ذلك مفيدا للاختصاص وللحصر وللقصر كما هو معلوم في علم المعاني.
نقف عند هذا، ونأخذ شيء من الأصول، أو نجيب عن بعض الأسئلة.
الأسئلة
? متى يكون التوكل شركا أكبر ومتى يكون شركا أصغر؟
التوكل عبادة مطلوبة؛ التوكل على الله عبادة مطلوبة واجبة، يسأل هو عن التوكل على غير الله, يكون شركا أكبر إذا فوض أمره لغير الله؛ فوض هذا الأمر؛ المصيبة التي وقع فيها، أو ما يريد إنجاحه تجارة، أو عبادة أو درس أو نحو ذلك، فوّض إنجاح هذا الأمر لغير الله، وقام بقلبه هذا التعلق، يكون شركا أكبر، ولا يكون التوكل على غير الله شركا أصغر، إنما هو شرك أكبر.
(?يوجد كتاب باسم حكم تمني الموت صحة أحكام تمني الموت للشيخ محمد عبد الوهاب، وقد قرأت هذا الكتاب فوجدت فيه من القصص الغريبة والأحاديث الضعيفة.
فهل هذا الكتاب فعلا للشيخ محمد بن عبد الوهاب علما بأن دار النشر المكتبة الإعدادية بمكة المكرمة؟(1/69)
هذا سؤال جيّد، وإن كان الجواب عليه قد يطول، لأن المسألة تحتاج إلى إيضاح وبسط، لكن ألخص الجواب: بأن هذا الكتاب ليس للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وإنما الواقع أن الجامعة؛ جامعة الإمام، رأت أن النسخة هذه التي طبعوا عنها، أنها بخط الشيخ رحمه الله تعالى، وعندي صورة منها وهي بخط الشيخ رحمه الله، وقد جلبها العلماء منذ عقود مضت من لندن من المتحف البريطاني؛ جلبوها لا لأنها من تأليف الشيخ، ولكن لأجل أنها بخط الشيخ، مجموع كبير بخط الشيخ رحمه الله، جلبوها من هناك وصوروها وأودعوها في المكتبة السعودية في الرياض، لأنها بخط الشيخ والعلماء منذ ذلك الوقت يعلمون أنها ليست للشيخ، وإنما هي بخطه وسيأتي لما كتبها الشيخ، ولهذا لم يسعوا إلى نشرها ولا إلى طبعها.(1/70)
الشيخ رحمه الله تعالى في هذه من جنس المجاميع التي كتبها بخطه، ولأنه كان يتجول في رحلاته، فإذا رأى كتابا -كما تعلمون في ذلك الوقت يصعب شراء الكتب، تكون نسخة عند واحد من الناس فيصعب شرائها- فالعالم ماذا يصنع، يأخذ هذا الكتاب ويختصره؛ ينتخب منه، فهو الذي صنع في هذا المجموع أنه انتخب منه أشياء تتعلق بأوله، بأحكام تمني الموت، ثم بعد ذلك انتخب أشياء من هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي يحتج بها الخرافيون في بعض المسائل حياة الموتى وتعلق أرواح الأحياء بالموتى ونحو ذلك، أخذها من كتاب للسيوطي مطبوع الآن بأحوال أهل القبور، أخذ هذه الأحاديث لما؟ ليكون على بينة في تخريجها فيما إذا أوردها عليه الخصوم؛ خصوم الدعوة فهو لم ينتخبها تأليفا وإنما انتخبها انتقاء، حتى يكون على بينة منها، كعادته في أشياء كثيرة مما انتقاه وانتخبه، والذي غرَّ الذين طبعوه أنه موجود بخط الشيخ رحمه الله تعالى، وكونه بخط الشيخ لا يعني أنه تأليف له، وسموه بهذا الاسم (أحكام تمني الموت) لأن أول صفحة منه في حكم تمني الموت، فتمني الموت في ذلك الكتاب استغرق صفحة أو صفحتين أو قريبا منها، والباقي كلها من الأحاديث التي ذكرها هذا السائل جزاه الله خيرا، والشيخ رحمه الله كما ذكرت لك انتخب هذه ليعلمها، من كتاب للسيوطي موجود، لو طابقت بين هذه الرسالة المزعومة وكتاب السيوطي لوجدت أنها نقل عنه حرفا بحرف، الأحاديث المتوالية نقلها عنه ليكون على بينة مما فيها فيما لو احتج بها الخرافيون، ولهذا قال من قال من علماء الحديث: أهل الحديث يكتبون كل شيء؛ يكتبون حتى الموضوعات، حتى إذا احتج بها أحد بينوا له حكمها، وبينوا له وجه معناها.
? هل يُقدَّم السبب على التوكل على الله، وما معنى قوله عليه السلام «اعقلها وتوكّل»؟(1/71)
السبب يكون قبل، تريد أمرا من الأمور تفعل السبب الذي يحصل المسبب عادة به؛ شفاء من مرض، السبب أن تذهب إلى الطبيب فهذا السبب, إذا فعلت السبب يقوم بالقلب شيئان:
أولا: تفويض أمر الشفاء لله جل وعلا.
الثاني: أن لا يرى القلب هذا السبب محصلا للمقصود وحده، لا يرى القلب هذا السبب الذي هو الذهاب للطبيب محصلا للشفاء وحده، ولكن يعلم أنه ثم أسباب أخرى كلها جميعا بيد الله جل وعلا.
فهذا السبب يتلوه شيئان هما التوكل، وفعل السبب من تمام التوكل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره فيما ساقه السائل «اعقلها وتوكّل» توكَّلَ على الله جل وعلا في حفظ ناقته بدون أن يعقلها، فسرحت وذهبت وبعُدت عنه، فقال: اعقلها وتوكل. يعني ابذل السبب ثم بعد ذلك فوض الأمر إلى الله جل وعلا أن ينفع بهذا السبب، إذ بيده ملكوت كل شيء، وليكن بقبك عدم رؤية أن هذا السبب وهو العقل كافيا في حصول المراد وهو حفظ تلك الناقة.
(?يقول هل البيت المعروف عند الناس وامعتصماه، شرك في الاستغاثة ولماذا؟
هذا الذي يقول: ((رُبَّ وامعتصماه انطلقت))، القصة هذه لا نُثبتها، أي أن المرأة نادت المعتصم وقالت: وامعتصماه، أو أين المعتصم مني، أو يا معتصماه، هذه ليست بثابتة تاريخيا، لكن أخبار التاريخ كما هو معلوم كثيرة لا يمكن أخذ التثبت منها.(1/72)
وامعتصماه هذه لها احتمالات، احتمال أن تكون نُدْبَة، واحتمال أن تكون نداء واستغاثة. وعلى كل إذا كان هذا الغائب لا يسمع الكلام، أو لا يعتقد أن الكلام سيصل إليه، فإنه يكون شركا؛ لأنه استغاث بغير الله جل وعلا، فإن كان من باب النُّدبة فإن باب الندبة فيه شيء من السعة، والأصل أن الندبة تكون لسامع، كذلك الاستغاثة لما يُقْدَرُ على الاستغاثة فيه تكون لحي حاضر سامع يقدر أن يغيث، وهذا كان على القصة هذه لو كانت المرأة قالتها المعتصم لا يسمعها وليس قريبا منها، فيحتمل إن كان مرادها أنه يمكن أن يسمعها؛ يقوم بقلبها أنه يمكن أن يسمعها دون واسطة طبيعية، ودون كرامة خاصة لها من الله جل وعلا، هذا شرك من جنس أفعال المشركين، وإن كان مقصودها أن يوصل ويصل إلى المعتصم طلبها واستغاثتها بواسطة من سمعها كما حصل فعلا فهذا ليس بشرك أكبر مخرج من الملّة.
فتلخص أن هذه الكلمة محتملة، والأصل؛ القاعدة في مثل هذه الكلمات المحتملة لا يجوز استعمالها-المحتملة لشرك- لا يجوز استعمالها؛ لأن استعمالها يخشى أن يوقع في الشرك أو يفتح باب الشرك.
? بعض الناس يخاف أن يُنْكِر المنكر، إذا كان في مجلس -مثلا- فيقوم من المجلس ويكتفي بإنكار القلب، فهل يدخل هذا في الخوف المحرم؟(1/73)
لو جلس كان هذا داخلا في الخوف المحرم، وذلك بشرط أن لا يكون مستطيعا أن ينكر بيده، أو مستطيعا أن ينكر بلسانه، فإن كان بوسعه أن ينكر بيده إذ له مقدرة على الإنكار بيده؛ بأن يكون الأمر في بيته أو عند من له عليهم سلطة من قرابته ونحو ذلك، هذا ينكر بيده، إن لم يستطع ذلك ينكر بلسانه، وبعد ذلك يفارق المكان إن لم يُغَيَّر, الثالث إن لم يستطع الإنكار باللسان ينكر بقلبه لبغضه لهذا المنكر، وإن تمكن من الخروج من مكان المنكر فإنه يجب عليه الخروج، إن خاف الناس في إنكاره بيده مع استطاعته أن ينكر بيده، فهذا من الخوف المحرم الذي هو المرتبة الثالثة، إن خاف أن ينكر بلسانه؛ خاف الناس، مع إمكانه أن ينكر بلسانه، فهذا من الخوف المحرم، إن خاف أن يفارق مع إمكانه أن يفارق دون مفسدة راجحة تحصل ولم يفارق كان هذا من الخوف المحرم، والله المستعان غفر الله لنا جميعا.
قد وقفنا على الإنابة:(1/74)
قال (ودليلُ الإنابة قوله تعالى ?وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ?[الزمر:54]) وحقيقة الإنابة الرجوع؛ رجوع القلب عما سوى الله جل وعلا إلى الله جل وعلا وحده، والإنابة إذ كان معناها الرجوع، فإن القلب إذا توجه إلى غير الله جل وعلا قد يتعلق به تعلقا، بحيث يكون ذلك القلب في تعلقه تاركا غير ذلك الشيء، وراجعا ومنيبا إلى ذلك الشيء، كما يحصل عند الذين يتعلقون بغير الله؛ تتعلق قلوبهم بالأموات والأولياء أو بالأنبياء والرسل أو بالجن ونحو ذلك، فتجد أن قلوبهم قد فُرِّغَت إما على وجه التمام، أو على وجه كبير، أن فُرِّغَت من التعلق إلا من ذلك الشيء، هذا الذي يسمى الإنابة, أَنَابَ رجع، ترك غيره ورجع إليه، وهذا الرجوع ليس رجوعا مجردا، ولكنه رجوع للقلب مع تعلقه ورجائه، فحقيقة الإنابة أنها لا تقوم وحدها، القلب المنيب إلى الله جل وعلا إذا أناب إليه فإنه يرجع، وقد قام به أنواع من العبودية منها الرجاء والخوف والمحبة ونحو ذلك، فالمنيب إلى الله جل وعلا هو الذي رجع إلى الله جل وعلا عما سوى الله جل وعلا، ولا يكون رجوعه هذا إلا بعد أن يقوم بقلبه أنواع من العبوديات أعظمها المحبة والخوف والرجاء؛ محبة الله, الخوف من الله, الرجاء في الله, فإذن الإنابة صارت عبادة بهذا الدليل وسيأتي بيان وجه الاستدلال، وأيضا لأنها شيء متعلق بالقلب، ولأنها لا تقوم بالقلب إلا مع أنواع أخر من العبوديات، ولهذا استدل له بقوله تعالى (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) ووجه الاستدلال أن الله جل وعلا قال (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ) فأمر بالإنابة، وإذ أمر بها فمعنى ذلك أنه يحبها ويرضاها ممن أتى بها، فهي إذن داخلة في تعريف العبادة سواء عند الأصوليين أو عند شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهذا الدليل العام على كونها من العبادة, ما الدليل على كون هذه العبادة يجب إفراد الله جل وعلا بها؟ فإن في هذا: الأمر بالإنابة(1/75)
إلى الله جل وعلا. ما دليل كون هذه العبادة وهي الإنابة لا يجوز ولا يسوغ أن يتوجه بها إلى غير الله جل وعلا؟ هناك دليل عام ألا وهو أنه إذ ثبت أنه عبادة، فالأدلة العامة كقوله تعالى ?وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا?[الجن:18]، وقوله ?وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ?[المؤمنون:117]، وغير ذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام «الدعاء هو العبادة», «الدعاء مخ العبادة» ونحو هذه الأدلة، تدل على أن أي نوع من العبادة لا يجوز أن يتوجه به إلى غير الله، ومن توجه به إلى غير الله جل وعلا فقد كفر, فهذا الاستدلال العام، وهناك دليل خاص في الإنابة أنه يجب إفراد الله جل وعلا بالإنابة، وذلك في قوله تعالى ? عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ?[هود:88]([10]) في سورة هود (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) قالها شعيب عليه السلام، وأخبر الله جل وعلا بها عن شعيب، في معرض الثناء عليه، قال (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)؛ عليه وحده لا غير توكلت, فوَّضت أمري وأخليت قلبي من الاعتماد على غيره، ومجيء الجارّ والمجرور متقدم على ما يتعلق به وهو الفعل، دل على وجوب حصرها وقصرها واختصاصها بالله جل وعلا، ثم قال وإليه أنيب، فقال إليه وحده لا إلى سواه أنيبُ؛ أرجعُ محبًّا راجيًا خائفًا عن كل ما سوى الله جل وعلا إلى الله وحده، فلما قدم الجارّ والمجرور على ما يتعلق به وهو الفعل، دل على أن هذه العبادة وهي الإنابة مختصة بالله جل وعلا، وهذا أتى في معرض الثناء على شعيب، وهناك أدلة أخرى.(1/76)
فإذن هذه المسألة مع غيرها، أحيانا يورد الشيخ دليلا عاما على كونها من العبادة، وأحيانا يورد دليلا عاما على كونها عبادة وخاصا في أنه يجب إفراد الله جل وعلا بها، والحمد لله ما من مسألة من مسائل العبادة القلبية أو العملية، عمل الجوارح أو عمل القلب أو عمل اللسان، ما من مسألة إلا وثَم دليل عام على أنها من العبادة، وثم دليل خاص على أن من صرفها لغير الله جل وعلا فقد أشرك، وهذا والحمد لله بيِّن ظاهر، وهذا التوحيد في بيانه ووضوحه وظهور براهينه وأدلته وآياته مما هو بمكان واضح ظاهر، لا يكون معه بعد ذلك حجة للمخالفين، الذين تنكبوا هذا الطريق، ولم يسلموا وجوههم لله جل وعلا، ويخلصوا دينهم لله جل وعلا وحده.(1/77)
بعد الإنابة ذكر الاستعانة حيث قال (ودليل الاستعانة قوله تعالى ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5]) هذا دليل عام في العبادات جميعا حيث قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) و(إِيَّاكَ)، كما هو معلوم ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم، أصل الكلام (نَعْبُدُ إِيَّاكَ) ومن المعلوم أن المفعول به يتأخر عن فعله، فإذا قُدّم كان ثم فائدة في علم المعاني من علوم البلاغة ألا وهي أنه يُفيد الاختصاص، وطائفة من البلاغيين يقولون يفيد الحصر والقصر، وعلى العموم الخطب يسير يفيد الاختصاص أو يفيد الحصر والقصر، هنا أفاد أن العبادة من خصوصيات الله جل وعلا؛ خاصة بالله جل وعلا. (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يعني لا نعبد إلا أنت، ثم قال بعدها وهو مراد الشيخ بالاستدلال (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهذه الآية من سورة الفاتحة؛ السورة العظيمة التي هي أم القرآن، التي يرددها المسلمون في صلواتهم، فيها إفراد الله جل وعلا بالعبادة، وعقد العهد والإقرار على النفس بأن القائل لتلك الكلمات لا يعبد إلا الله جل وعلا. قال (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) كذلك لا يستعين إلا بالله جل وعلا، وجه الاستدلال أنه قدم الضمير المنفصل الذي هو في محل نصب مفعول به على الفعل الذي هو العامل فيه، وتقديم المعمول على العامل يفيد الاختصاص أو يفيد الحصر والقصر، فإذن هنا أثبت أنها عبادة، وأثبت أنه لا يجوز صرفها لغير الله إذ هي مختصة بالله جل وعلا.(1/78)
وها هنا قال العلماء؛ شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم: إن عبادة غير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله. مع أن جنس الاستعانة قد يكون من الربوبية يعني طلب الإعانة هو طلب لمقتضيات الربوبية, لأن الله جل وعلا هو مدبر الأمر, إياك نعبد هذا فيه معنى الألوهية, وإياك نستعين طلب الإعانة من الله؛ استعانة المسلم بالله، هذا فيها طلب لمقتضى الربوبية، ومن حيث كون الاستعانة طلبا صارت عبادة، ولهذا قال إن عبادة غير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، وهذا لأجل أن العبادة إذا صرفت لغير الله جل وعلا فإنها يكون معها تحول في القلب الذي هو المضغة إذا صلحت -صلح العمل كله- صلح الجسد كله، إذا توجه بقلبه لغير الله في عبادته هذا صار قلبه فاسدا، ومقتضيات الربوبية أحيانا تطرأ، ولهذا الإشراك في الإلهية في بعض أوجهه أعظم من إنكار بعض أفراد الربوبية ألم تر ذلك الرجل من بني إسرائيل الذي قال في وصيته إن مت فأحرقوني ثم ذروني في البحر فوالله إن قدر الله علي ليعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين. وغفر الله جل وعلا له لأنه شك في بعض أفراد القدرة والتي هي راجعة إلى شيء من معنى الربوبية كذلك قال جل وعلا عن حواريي عيسى?هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ?[المائدة:112]، وأُجيبوا ولم يؤاخذوا بكلمتهم تلك؛ لأنها شك في بعض أفراد القدرة, وهذا راجع إلى شك في بعض مقتضيات الربوبية, أما العبادة لغير الله جل وعلا فهي التي لا يُقبل من أحد أن يصرف شيئا منها لغير الله, قال جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:116]، وعيسى عليه السلام قال لقومه?إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:72] وقال جل وعلا لعيسى في(1/79)
آخر السورة؛ سورة المائدة: ?يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ?[المائدة:116-117] إلى آخر الآيات, المقصود من هذا أن ما قاله شيخ الإسلام وجماعة, أن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله, هذا صحيح ومتّجه، ولهذا قدمت في سورة الفاتحة العبادة على الاستعانة؛ لأنها أعظم شأنا وأجل خطرا لأنها هي التي وقع فيها الابتلاء, ولهذا كان حريا بأهل الإيمان أن يعتنوا بأمر إخلاص القلب لله جل وعلا, وتوجُّه المرء في عباداته وعبودياته لله وحده دون ما سواه.
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (وفي الحديث «إذا استعنت فاستعن بالله») وجه الاستدلال: أن الأمر بالاستعانة بالله رُتِّبَ على إرادة الاستعانة، قال (إذا استعنت فاستعن بالله) يعني إذا كنت متوجها للاستعانة فلا تستعن بأحد إلا بالله؛ لأن الأمر جاء في جواب الشرط, قال (إذا استعنت), (إذا) هذه شرطية غير جازمة, و(استعنت) هذا فعل الشرط, (إذا استعنت) إذا حصل منك حاجة للاستعانة فاستعن -هذا الأمر- فاستعن بالله, لما أمر به علمنا أنه من العبادة ثم لما جاء في جواب الشرط صار مُتَرَتِّبًا مع ما قبله لما يفسد الحصر والقصر.
ما معنى وإياك نستعين؟ ما حقيقة الاستعانة؟ الاستعانة طلب العون.(1/80)
· لأن كثيرا فيما أوله السين والتاء يدل على الطلب, استعان، استغاث، استسقى ونحو ذلك, استعان: يعني طلب الإعانة. استغاث: طلب الغوث. استعاذ: طلب العوذ. استقام: ما فيها طلب، هذه من النوع الثاني. استسقى: طلب السقيا. ?وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ?[البقرة:60] يعني وإذ طلب موسى السقيا لقومه, هذا نوع.
· النوع الثاني؛ تأتي استفعل ويراد بها الفعل بدون طلب, كقوله واستغنى الله, وغني الله, والله غني حميد في أمثال ذلك
المقصود أن كثيرا ما يأتي استفعل بطلب الفعل, هنا استعان طلب العون, استعاذ طلب العوذ, استغاث طلب الغوث, وهكذا.
فإذن إذ كان جميعا في معنى الطلب, أو فيها معنى الطلب, يصلح دليلا لها كل ما فيه وجوب إفراد الله جل وعلا بما يحتاجه المرء في طلباته, الدعاء؛ جميع أدلة الدعاء تصلح لما كان فيه نوع طلب؛ أي دليل فيه وجوب إفراد الله جل وعلا بالدعاء يصلح دليلا بإفراد الله جل وعلا بأنواع الطلب ?وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ?[غافر:60]، يصلح دليلا للاستغاثة, والاستعاذة والاستعانة ونحو ذلك.
بعد ذلك قال (ودليل الاستعاذة قوله تعالى ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ?[الناس:1-2]) الاستعاذة كما ذكرت لك هي طلب العوذ, وأعوذ: معناها ألتجئُ وأعتصمُ وأتحرز, تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, معناها ألتجئ وأعتصم وأتحرز بالله من شر الشيطان الرجيم, فإذن الاستعاذة طلب العوذ طلب المعتصَم, طلب الحِرز, طلب ما يعصم, طلب ما يحمي, هذه الاستعاذة. وإذن هي من حيث كونها طلب، هذه ظاهرة, ومن حيث كونها فيها الاعتصام والالتجاء والتّحرُّز صارت عبادة قلبية, ولهذا قال كثير من أهل العلم: إن الاستعاذة عبادة قلبية.(1/81)
وطلب العوذ -نعم- يكون باللسان, بقول أحد لآخر: أعوذ بك, أعذني ونحو ذلك. ولكنها هي تقوم بالقلب؛ يعني يقوم بالقلب الاعتصام بهذا المطلوب منه العوذ, يقوم بالقلب الالتجاء لهذا المطلوب منه العوذ, يقوم بالقلب التحرز بهذا المطلوب منه العوذ, فإذا قام بالقلب هذه الأشياء وهذه الأمور صار مستعيذا، ولو لم يُفصح لسانه بطلب العوذ, يعني أنها عبادة قلبية, الاستعاذة عبادة قلبية؛ لأن حقيقتها طلب العوذ, فإذا قام بالقلب اعتصامه بالله احترازه وتحرُّزُه بالله, التجاءه إلى الله من شر من فيه شر, صار ذلك استعاذة، قد يُفصح اللسان عنها, يطلب اللهم أعذني من مُضِلاَّت الفتن, بقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, أعوذ برب الفلق. ونحو ذلك, أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، يعني ألتجئ وأعتصم وأتحرز بكلمات الله الكونية التامة التي لا يلحقها نقص من شر كل من فيه شر, مما خلقه الله جل وعلا ونحو ذلك.
لأجل هذا المعنى قال جمع من أهل العلم: إنه لا يجوز أن يقول قائل أعوذ بالله ثُم بك. وذلك لأن العوذ عبادة قلبية, وهذا هو الصحيح, فإن العوذ إذا قيل أعوذ بالله ثم بك, الاستعاذة عمل قلبي بحت, لهذا لا يصلح أن يتعلق بغير الله جل وعلا.
وقال آخرون من أهل العلم: الاستعاذة طلب للَّجَئ والاحتراز والاعتصام, وقد يكون المطلوب منه يمكن ويملك أن يعطي هذا معتصما, وأن يقيه شرا, مثلا: يأتي واحد من الناس إلى قوي من الناس إلى كبير, ملك, أو أمير أو رئيس قبيلة أو نحو ذلك, فيقول له أعوذ بك، أو أعوذ بالله ثم بك من شر هذا الذي أتاني؛ رجل مثلا يأتي يطلبه بشيء, يقولون هذا يمكن أن يكون؛ يعني أن يقيه شرا أن يمنعه ممن يريد به سوءا, يمكن أن يكون ممن يقدر عليه البشر, فإذا كان بهذا المعنى يجوز أن يقول أعوذ بك بمخلوق, أعوذ بالله ثم بك بمخلوق.(1/82)
ولكن قَول أعوذ بك, هذا أبعد في الإجازة, وأما قول أعوذ بالله ثم بك, فهذا من راع المعنى الظاهر, وإمكانَ المخلوق أن يعيذ صححه وقال لا بأس أن يقول: أعوذ بالله ثم بك، ولكن الأظهر أن العوذ عبادة قلبية, وأنها إنما تكون بالله جل وعلا, وهذا على نحو ما مرنا بقوله: توكلت على الله ثم عليك ونحو ذلك, فمن أهل العلم من يجيز مثل هذه الألفاظ مع أن أصلها عمل قلبي؛ عبادة قلبية, مراعيا الظاهر ما يراعي تعلق القلب, مُراعيا الحماية الظاهرة، مُراعيا التحرز الظاهر, مُراعيا الاعتصام الظاهر, ومنهم من لم يجزْها مراعيا أنها عبادة قلبية, وأنك إذا أجزتها في الظاهر فإنه قد يكون تبعا لذلك الإجازة تعلق القلب عند من لا يفهم المراد.
وعلى العموم هما قولان مشهوران حتى عند مشايخنا المفتين في هذا الوقت ومن قبل.
يقابل الاستعاذة التي هي طلب العوذ, لأن طلب العوذ من شيء فيه شر, لهذا قال تعالى ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ(3)مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ?[الناس:1-4], فالاستعاذة مما فيه شر. وأما اللّياذ, واللَّوذ فإنه مما فيه خير, قال: ألوذ بك. يعني إذا كنت مؤملا خيرا, وإذا كنت خائفا من شر تقول لربك جل وعلا: أعوذ بك, وإذا كنت مؤملا خيرا تقول ألوذ بك وهكذا, ثم ذكر الاستغاثة، أولا الدليل, قال (دليل الاستعاذة قوله تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) وجه الاستدلال أنه أمر نبيه الكريم أن يستعيذ برب الناس, ما دام أنه أمر به فهو عبادة قلبية, لأنه لا يأمر إلا بشيء يحبه ويرضاه, فذلك قوله تعالى ? فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ?[النحل:98] أمر بالاستعاذة به فدل على أنها عبادة.(1/83)
قال الشيخ رحمه الله (ودليل الاستغاثة قوله تعالى ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ?[الأنفال:9]) الاستغاثة: طلب الغوث, والغوث يُفسر بأنه الإغاثة, المدد، النصرة ونحو ذلك, فإذا وقع مثلا أحد في غرق ينادي أَغثني أغثني, يطلب الإغاثة, يطلب إزالة هذا الشيء, يطلب النصرة.
الاستغاثة عبادة؛ وجه كونها عبادة أن الله جل وعلا قال هنا (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) وجه الاستدلال أنه أتى بها في معرض الثناء عليهم, وأنه رتّب عليها الإجابة, وما دام الله جل وعلا رتّب على استغاثتهم به إجابته جل وعلا دل على أنه يحبها, وقد رضيها منهم, فنتج أنها من العبادة، و(إِذْ) هنا بمعنى حين (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) يعني حين (تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)، وتلاحظ أنّ الآية هنا (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) وقبلها (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) الاستغاثة -كما ذكرت لك- والاستعاذة والاستعانة ونحو ذلك, تتعلق بالربوبية كثيرا, هنا (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) قال قبلها (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) لأن حقيقتها من مقتضيات الربوبية, من الذي يُغيث؟ هو المالك، هو المدبر، هو الذي يُصرِّف الأمر, وهو ربّ كل شيء جل وعلا. الاستغاثة عمل ظاهر, ولهذا يجوز أن يستغيث المرء بمخلوق, لكن بشروطه, وهي أن يكون هذا المطلوب منه الغوث, أن يكون حيا، حاضرا، قادرا، يسمع, فإذا لم يكن حيا كان ميتا صارت الاستغاثة بهذا الميت كفرا, ولو كان يسمع ولو كان قادرا, مثل الملائكة أو الجن, قلنا أن يكون حيا حاضرا قادرا يسمع, صحيح؟ طيّب، إذا لم يكن حيا كان ميتا، ولو اعتقد المستغيث أنه يسمع وأنه قادر، فإنه إذ كان ميتا فإن الاستغاثة به شرك. الأموات جميعا لا يقدرون على الإغاثة لكن قد يقوم بقلوب المشركين بهم أنهم يسمعون، وأنهم أحياء مثل حال الشهداء، وأنهم يقدرون مثل ما يزعم في حال النبي عليه(1/84)
الصلاة والسلام ونحو ذلك، فنقول إذ كان ميتا فإنه لا يجوز الطلب منه، قالوا فما يحصل يوم القيامة من استغاثة الناس بآدم ثم استغاثتهم بنوح إلى آخر أنهم استغاثوا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، نقول هذا ليس استغاثة بأموات، يوم القيامة هؤلاء أحياء، يُبعث الناس ويُحيَوْن من جديد، كانوا في حياة ثم ماتوا ثم أعيدوا إلى حياة أخرى. فهي استغاثة بمن؟ بحي، حاضر، قادر، يسمع. بهذا ليس فيما احتجوا به من حال أولئك الأنبياء يوم القيامة حُجة على جواز الاستغاثة بغير الله جل وعلا، والاستغاثة بغير الله جل وعلا أعظم كفرا من كثير من المسائل التي صَرْفها لغير الله جل وعلا شرك, إذن فالشروط:
? أن يكون حيا: إذا كان ميّتا لا يجوز الاستغاثة به.
? أن يكون حاضرا: إذا كان غائبا لا يجوز الاستغاثة به؛ حي قادر لكنه غائب. مثل لو استغاث بجبريل عليه السلام فليس بحاضر, حي نعم، وقادر قد يطلب منه ما يقدر عليه، ولكنه ليس بحاضر. مثل أن يطلب من حي قادر من الناس؛ يَطلب من ملك يملك أو أمير يستغيث به أغثني يا فلان، وهو ليس عنده، مع أنه لو كان عنده لأمكن بقوَّته, لكنه لما لم يكن حاضرا صارت الاستغاثة-تعلُّق القلب- بغير حاضر هذا شرك بالله جل وعلا.
? أن يكون قادرًا: إذا لم يكن قادرا فالاستغاثة به شرك، ولو كان حيا حاضرا يسمع، مثل لو استغاث بمخلوق بما لا يقدر عليه، وهو حي حاضر يسمعه، وتعلق القلبُ -قلب المستغيث- على هذا النحو، تعلق قلبُه بأن هذا يستطيع ويقدر أن يغيثه، بمعنى ذلك أنه استغاث بمن لا يقدر على الإغاثة، فتعلق القلب بهذا المستغاث به، فصارت الاستغاثة وهي طلب الغوث شركا على هذا النحو.
? وكذلك يسمعُ: لو كان حيا قادرا، ولكنه لا يسمع، حاضر لا يسمع كالنائم ونحوه، كذلك لا تجوز الاستغاثة به.(1/85)
وقد تلتبس بعض المسائل بهذه الشروط في أنها في بعض الحالات تكون شركا أكبرا، وفي بعض الحالات يكون منهي عنها من ذرائع الشرك، ونحو ذلك. مثل الذي يسأل ميت، يسأل أعمى بجنبه، أو يسأل مشلول بجنبه أن يغيثه ونحو ذلك.
المقصود أن العلماء اشترطوا لجواز الاستغاثة بغير الله جل وعلا: أن يكون المستغاث به حيا حاضرا قادرا يسمع.
قال رحمه الله تعالى (ودليل الذبح قوله تعالى ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?[الأنعام:162-163]) الذبح الذي هو النحر، والذبح يشمل النحر الخاص ويشمل الذبح الذي هو قسيم النحر لأن:
النحر: هو الطعن بسكين أو بالحَرْبَة في الوَحدة، مثل ما يُفعل بالإبل كما تعلمون هي لا تذبح ذبحا، لكن هي تطعن في وَحدتها وإذا طُعنت وحُرِّكت السكين واندثر الدم وماتت، ليس ثَم ذبح. كذلك البقر قد تُنحر.
وأما الذبح: فيكون في الغنم من الظأن والماعز وكذلك في البقر.
الذبح والنحر عبادة، المقصود منها إراقة الدم، وإراقة الدم -من حيث هو- لا يكون إلا بتعلقٍ للقلب، فإذا أراق الدم لله جل وعلا تعلق القلب بالله جل وعلا. فالذبح عبادة ظاهرة يتبعها أو يكون معها عبادة باطنة قلبية، فمن ذبح لغير الله وقع في شرك ظاهر؛ لأن هذه عبادة صرفها لغير الله، وكذلك قلبه تعلق بغير الله فصار شركه من جهتين.
وجه الاستدلال من قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أنه قال (وَنُسُكِي) والنسك فُسِّرت بعدة تفسيرات عن السلف منها الذبح والنحر وهذا كما قال جل وعلا في الآية الأخرى ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1)فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ?[الكوثر:1-2]، (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أمره بأن يوحد الله جل وعلا بالصلاة، وكذلك أمره بالنحر لربه جل وعلا وحده، إذن النسك هنا الذبح.(1/86)
قال (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ) الصلاة لمن؟ لله. وجه اللام هنا أنها لام الاستحقاق، قل إن صلاتي لله، يعني صلاتي مستحقة لله، هذا وجه الاستدلال. ونسكي لله، يعني نسكي الذي هو ذبحي مستحق لله وحده لا شريك له. ومحياي لله ومماتي لله، هذه لام أخرى وهي لام المِلك، الصلاة والنسك لله استحقاقا، والمحيى والممات لله مُلكا؛ لأننا اللام قلنا أنها تأتي للاستحقاق وتأتي للملك تذكرون؟ في هذه الآية جعل هذه الأفعال الأربعة الصلاة والنسك والمحيى والممات جعلها جميعا باللام مؤخرة، بقوله (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لكن تختلف، الصلاة والنُّسُك لله استحقاقا، والمحيى والممات لله جل وعلا مُلكا، فجمعت هذه الآية بين توحيدي الله جل وعلا: في إلهيته وهو الأول، وفي ربوبيته وهو الثاني. قل إن صلاتي ونسكي لله، هذا توحيد لله جل وعلا في إلهيته، ومحياي ومماتي لله هذا توحيد لله جل وعلا في ربوبيته، فكما أنه جل وعلا هو مالك محياي ومماتي، فكذلك هو المستحق لصلاتي ونسكي، قال جل وعلا لنبيه قل إن صلاني ونسكي مستحقة لله، ومحياي ومماتي ملك لله جل وعلا (رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ) فذكر الربوبية ثم ذكر الألوهية، ثم بيَّن أن هذا من علامات الإسلام العظيمة فقال (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) وهذا وجه استدلال آخر إذ أن هذه مأمور بها، قال (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
الذبح كما أنه عمل ظاهر وهو إراقة الدم، والدم الذي بَثَّهُ في أعضاء المذبوح هو الله جل وعلا، وهو علامة الحياة، فلا يُزهق إلا لمن خلَقه، ولمن بثه في أعضاء من به الحياة.
ولهذا قال العلماء إن العبد حال الذبح يجتمع في قلبه أنواع من العبوديات:
? منها الذل لربه جل وعلا.
? ومنها التعظيم له جل وعلا.
? ومنها الرجاء؛ رجاء ما عنده حال ذبحه.
? ومنها طلب البركة؛ لأنه ما ذبح إلا لله.(1/87)
وهذه كلها عبادات قلبية، فكما أن الذبح عمل ظاهر؛ به تحريك اليد، تحريك اللسان ببعض القول، كذلك يقوم بالقلب حال الذبح أنواع من العبوديات، قد ما يقوم بالقلب شيء البتة، مثل ما يُذبح لضيافة أو نحو ذلك، فهذا يجب أن يكون ظاهرا لله جل وعلا وحده، وإذا اجتمع أن يكون في الذبيحة، أن تكون اجتمعت فيها العبادة الظاهرة والعبادة الباطنة؛ العبادة القلبية، كانت أكمل في رجاء ثواب الذبح، ولو كان في الأمور العادية من ضيافة ونحوها، فيكون الذبح لله جل وعلا ظاهرا لم يُرد بهذا إلا الله جل وعلا، وباسمه لم يذكر إلا اسم الله جل وعلا، ثم يكون بالقلب ذل لله جل وعلا وخضوع وتعظيم ورجاء المثوبة منه وحده، فتجتمع العبادات القلبية وعبادات الجوارح حال الذبح.
لهذا، الذبح من العبادات العظيمة، لكن قد يغفل الناس عن تعلق القلب وفعل الجوارح حين الذبح، وكيف تكون لله جل وعلا، ولهذا على طالب العلم أن يتعلم هذا إن لم يحسنه، يتعلم كيف يكون حال الذبح؛ حال ذبحه لذبيحته للأضحية وهي آكد وآكد وآكد، أو لغيرها، أن يكون موحدا تماما، يرجو في ذبحه أن يكون على غاية من العبودية في لسانه وقلبه وجوارحه؛ لأنه فيه حركة لسان للتسمية والتكبير، وفيه عمل القلب بأنواع من العبوديات ذكرت بعضها، وفيه أيضا حركة اليد، وهذا كله مما يجب أن يكون لله جل وعلا وحده.
قال (ومن السنة «لعن الله من ذبح لغير الله») وجه الاستدلال: أن من ذبح لغير الله لم يذبح لله، وإنما ذبح لغيره، أنه ملعون لعنه الله, وهذا الدعاء من النبي عليه الصلاة والسلام بقوله (لعن الله من ذبح لغير الله) يدل على أن الذبح لغير الله كبيرة من الكبائر، وإذا كانت كذلك فهي إذن يُبغضها الله جل وعلا، وإذا كان يُبغض الله جل وعلا الذبح لغيره، معنى ذلك أن الذبح له وحده محبوب له، في مقابلة، فيستقيم بذلك الاستدلال.(1/88)
قال بعدها (ودليل النذر قوله تعالى ?يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا?[الإنسان:7]) النذر: هو إيجاب المرء على نفسه شيئا لم يجب عليه، وتارة يكون النذر مطلقا، وتارة يكون بالمقابلة مُقيّد، والنذر المطلق غير مكروه، والنذر المقيد مكروه.
لهذا استشكل جمع من أهل العلم؛ استشكلوا كون النذر عبادة مع أن النذر مكروه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في النذر «إنه لا يأتي بخير وإنما يُستخرج به من البخيل» يقولون: إذا كان مكروها كيف يكون عبادة؟ ومعلوم أن العبادة يحبها الله جل وعلا، والنذر يكون مكروها كما دل عليه هذا الحديث، فكيف إذا كان مكروها يكون عبادة؟ وهذا الاستشكال منهم غير وارد أصلا؛ لأن النذر ينقسم إلى قسمين: نذر مطلق، ونذر مقيد.
النذر المطلق: لا يكون عن مقابلة، وهذا غير مكروه، أن يوجب على نفسه عبادة لله جل وعلا بدون مقابلة، فيقول لله عليَّ نذر، مثلا يقول قائل: لله عليَّ نذر أن أصلّي الليلة عشرة ركعات طويلات. بدون مقابلة، هذا إيجاب المرء على نفسه عبادة لم تجب عليه دون أن يقابلها شيء، هذا النوع مطلق، وهذا محمود.(1/89)
النوع الثاني المكروه: وهو ما كان عن مقابلة، وهو أن يقول قائل مثلا: إن شفى الله جل وعلا مريضي صُمْتُ يوما، إن نجحت في الاختبار صليت ركعتين، إن تزوجت هذه المرأة تصدقت بخمسين ريالا -مثلا- أو بمائة ريالا. هذا مشروط يوجب عبادة على نفسه، مشروطة بشيء يحصل له قدرا، من الذي يحصل الشيء ويجعله كائنا؟ هو الله جل وعلا. فكأنه قال إن أعطيتني هذه الزوجة، وإن يسرت لي الزواج بها، صليت لك ركعتين أو تصدقت بكذا. إن أنجحتني في الاختبار صمت يوما ونحو ذلك، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «إنما يُستخرج به من البخيل» لأن المؤمن المقبل على ربه ما يعبد الله جل وعلا بالمقايضة، يعبد الله جل وعلا ويتقرب إليه لأن الله يستحق ذلك منه، فهذا النوع مكروه. النوع الأول محمود، وهذا النوع مكروه.
والوفاء بالنذر في كلا الأمرين واجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» فتحصل عندنا أن النذر في أربعة أشياء: نذر محمود -نحن ما نقول نذر مشروع فيفهم أحد أنه واجب أو مستحب, لا, نقول محمود، غير مكروه في الشرع، محمود وهو المطلق الذي ما فيه مقايضة ولا مقابلة-. النوع الثاني مكروه وهو الذي يكون عن مقابلة, الوفاء بالأول بنذر التبرّر والطاعة واجب, الوفاء بالثاني حتى ولو كان مكروها واجب، وهو الذي أثنى الله جل وعلا على أهله في الحالين بقوله (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) لأنه أوجب على نفسه، فلما كان واجبا صار الوفاء به واجبا، فامتثل للوجوب الذي أوجبه على نفسه لأنه يخشى عقابه، فتحصّل من هذه الأربع منها اثنتان واجبتان وهما الوفاء، وواحد محمود، وواحد مكروه، ولهذا صار غالب الحال-إذ كان عبادة- صار غالب الحال هو الحال التي أنه محمود فيها أو واجب.
وبهذا صار النذر عبادة من العبادات التي يرضاها الله جل وعلا ويحبها، إلا في حال واحدة وهي حال نذر المقابلة.(1/90)
اتضح لكم هذا المقام؟ لأن بهذا التحرير تخلصون من إشكالات عِدَّة، ربما أوردها عليكم خصوم الدعوة والخرافيون في مسألة النذر. ظاهر؟ تأملوها لأنه قد لا تجد هذا التحرير في كثير من الكتب.
قال (ودليل النذر قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) وجه الاستدلال: أن الله جل وعلا امتدحهم بذلك بأنهم يوفون بالنذر، وإذ امتدحهم بذلك دل على أن هذا العمل منهم وهو الوفاء بالنذر أنه محبوب له جل وعلا، فثبت أنه عبادة لله جل وعلا.
والنذر له شقان: الشق الأول النذر والثاني الوفاء به، وكلا الأمرين إذا صُرفت لغير الله جل وعلا فهي شرك.
· من نذر لغير الله، أن ينذر لأصحاب المشاهد والأولياء أو القبور، ينذر للمشهد الفلاني، ينذر مثلا للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أن ينذرَ لأحد من الموتى، ينذر لفاطمة رضي الله عنها، أو ينذر لأحد آل البيت، أو لخديجة، أو ينذر لأحد من الأولياء أو نحو ذلك، يقول: عليَّ نذر للولي الفلاني، ولو كان غير مقابلة هذا إيجاب على نفسه عبادة لمن؟ لغير الله فصار شركا أكبر.
· القسم الثاني أن يقول: إن شفى الله-لاحظ- إن شفى الله مريضي فللولي الفلاني عليَّ نذر بكذا وكذا، فهذا على المقابلة، ولو كان على هذا النحو, فصرفه لغير الله جل وعلا شرك؛ لأن القول الأول منه وهو قوله (إن شفى الله مريضي) هذا ربوبية، وقوله (فللولي الفلاني علي نذر) هذا شرك في العبودية, هو أقر بالربوبية ولكنه أشرك بالعبودية, هذا جهة النذر, الوفاء لأصحاب القبور أو نحوهم, أو الجن, أو الملائكة, هذا كله شرك, فلو حصل منها النذر لغير الله فلا يجوز أن يوفِي به, فإن وفَّى به لغير الله سيكون ذلك شرك بعد شرك, لهذا قال عليه الصلاة والسلام «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه», يدخل في ذلك إذا كان النذر لغير الله جل وعلا, قال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) مدحهم بذلك, فدل أن وفائهم بالنذر عبادة يحبها الله جل وعلا.(1/91)
ونكتفي بهذا القدر اليوم, ونقف على الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الانتفاع والسداد.
?????(
الأصلُ الثَّاني: معرفةُ دينُ الإسلامِ بالأدلةِ، وهو الاستسلامُ للهِ بالتوحيدِ، والانقيادِ له بالطاعةِ، والخُلوصُ مِنَ الشِّركِ وأهلِهِ؛ وهو ثلاثُ مراتبَ: الإسلامُ، والإيمانُ، والإحسانُ، وكلُّ مرتبةٍ لها أركانٌ.
فأركانُ الإسلامِ خمسةٌ: شهادةُ أنْ لا إله إلاّ اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وصومُ رمضانَ، وحجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ.
فدليلُ الشّهادةِ قولُهُ تعالى ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[آل عمرا:18]، ومعناها لا معبودَ بحقٍّ إلا اللهُ وحده؛ (لا إله) نافيًا جميعَ مَا يُعْبدُ مِنْ دونِ اللهِ (إلا الله) مُثْبِتًا العبادةَ للهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ في عبادتِهِ، كما أنَّه ليس له شريك في مُلْكِهِ، وتفسيرُها الذي يوضِّحُها قولُه تعالى ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28]، وقولُه تعالى ?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?[آل عمران:26].(1/92)
ودليلُ شهادةِ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ قولهُ تعالى ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[التوبة:128]، ومعنى شهادةِ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ: طاعتُهُ فيما أَمَرَ، وتصديقُهُ فيما أَخْبَرَ، واجتنابُ ما عنْهُ نهى وزَجَرَ، وأنْ لا يعبدَ اللهَ إلاَّ بما شَرَعَ.
ودليلُ الصلاةِ، والزكاةِ، وتفسيرُ التَّوحيدِ قولُه تعالى ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ?[البينة:5].
ودليلُ الصيامِ قولُه تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[البقرة:183].
ودليلُ الحجِّ قولُه تعالى?وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ?[آل عمران:97].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:(1/93)
فهذه الرسالة تسمى ثلاثة الأصول وأدلتها، وقد ذكر -رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- الأصل الأول، فيما مرّ معنا وهو معرفة العبد ربه، ومعرفة العبد ربه، يعني به معرفة العبد معبوده؛ لأن الرب هنا بمعنى المعبود، والربوبية بهذا الموقع بمعنى العبادة، لأن الابتلاء وقع فيها، هذا أصل من الأصول، والمقبور أو الميِّت يُسأل أول سؤال عن ربه، يعني عن معبوده الذي كان يعبده، من هو؟ فإن كان يعبد الله وحده لا شريك له، أجاب بأن معبودي ربي الله يعني وحده لا شريك له، وإن كان يعبد مع الله آلهة أخرى والعياذ بالله، قال: ربي الله، وربي فلان، وربي فلان، وربي فلان. من المعبودات المختلفة، يعني معبودي فلان، ومعبودي فلان، ومعبودي فلان، مع الله جل وعلا فيسأله منكر ونكير عن دينه: ما دينك؟ فلهذا كان لزاما أن يتعلم العبد دينه بأدلة ذلك، حتى يخرج عن التقليد، ويكون اعتقاده بهذا عن علم ومعرفة وبصيرة، لا على وجه المتابعة للناس، ولهذا جاء في بعض طرق السؤال وأما المنافق أو قال الفاجر فيقول ها, ها، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. وهذا يدل على أنه يرى معهم، على التقليد، وأن التقليد لا يسوغ في أصول الدين، هذه الأصول الثلاثة، التقليد في دين الإسلام، التقليد في العبادة, التقليد في الشهادة بأن محمد رسول الله، لا يكفي؛ فإذا قال قائل: أنا مسلم بحكم أني في بلد إسلام. وهو لم يعتقد هذه الأمور اعتقادا عن علم، ولو لمرة في حياته، ولو كانت قبل البلوغ فإنه لا يخلص من التبعة، فلا بد أن يعتقد ما يجب اعتقاده عن معرفة، وهي هذه الأصول الثلاثة، وعن معرفة وعلم ودليل، ولهذا الشيخ رحمه الله كما ترى توسّع في الأدلة، كل مسألة يذكرها يذكر دليلا عليها، لأن المتعلم لهذا يخرج به عن رِقَّة التقليد لمن علّمه، فيكون اعتقاده كان عن دليل، ولهذا ينبغي تعليم الصغار المميزين هذه الرسالة أو الكبار، يُعلَّمونها بأدلتها لا على وجه التفصيل كما نذكر في(1/94)
هذا الشرح، لكن نتعلم أن العبادة معناها كذا ودليلها كذا، فيعتقدها بدليلها، يعلم أن الله جل وعلا هو الذي فرض هذا الشيء، وهذا دليل المسألة، فيخرج عن رِبقَة التقليد بهذه المسائل العظام.
قال هنا رحمه الله تعالى (الأصل الثاني: معرفة دين الاسلام بالأدلة) ما هو الإسلام؟ قال (وهو الاستسلامُ للهِ بالتوحيدِ، والانقيادِ له بالطاعةِ، والخُلوص من الشرك) وهذه العبارة، وهي الأخيرة (والخلوص من الشرك) الصواب أنها (والبراءة من الشرك وأهله) هذا هو الموجود في النسخ المعتمدة، أما (والخلوص من الشرك) فهذه ليست في النسخ المعتمدة، وهي في هذه الطبعة التي بين يدي، والصحيح في النسخ المعتمدة أن (الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله) ومن المعلوم أن (البراءة من الشرك وأهله) أدل على المراد من لفظ (الخلوص من الشرك), لأن الخلوص من الشرك إنما هو خروج عن الشرك، وليس فيه معنى البراءة من الشرك وأهله، ولهذا كان الأصح أن يُجعل بدل (الخلوص من الشرك) في هذه النسخة، ما هو في النسخ المعتمدة الأخرى وهي أن (الإسلام الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله) وهذا هو الذي يناسب الاستدلال الذي استدل به الشيخ وهو قوله تعالى في سورة الزخرف (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فذكر البراءة وهو الذي يناسب هذا التعريف.
والإسلام يُراد به تارة الإسلام العام، ويراد به تارة الإسلام الخاص؛ يأتي هذا في القرآن وهذا.(1/95)
فالإسلام العام: يراد به الإسلام الذي خوطب به جميع الناس من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها، بل خوطب به جميع المخلوقات كما قال جل وعلا ?أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ?[آل عمران:98] أسلم له كل شيء كما قال ورقة بن نفيل في ما أحسب قال:
وأسلمتُ وجهي لمن أسلمني
له المزن تحملُ عذبًا زلالاً
فالإسلام هذا العام، (الاستسلام لله) استسلام لله عن طواعية واختيار, هذا الإسلام العام الذي خوطب به جميع الخلق، حصل التكليف على آدم وبنيه قال جل وعلا?وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ?[الأحزاب:72]، يعني حمل الإنسان الأمانة، وهي أمانة التكليف بالإسلام، قال جل وعلا?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، وهذا هو الإسلام العام الذي دعا إليه كل رسول وكل نبي من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، الجميع يدعو إلى الإسلام، وهذا الإسلام يسميه العلماء الإسلام العام؛ الذي يشترك فيه جميع الرسل.
أما الإسلام الخاص: فهو القسم الثاني، وهو المراد ها هنا، فمعرفة دين الإسلام لا يريد دين الإسلام العام، وإنما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم صار المقصود بالإسلام الذي طُلب من الناس أن يدينوا به، وأن يعتقدوه، هو الإسلام الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو دين الإسلام الخاص، حتى صار الإطلاق؛ إذا أطلق الإسلام لا يراد به إلا دين الإسلام الذي بعث به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي يشمل عقيدة الإسلام وشريعة الإسلام.(1/96)
ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أكبّه الله في النار»، (لا يسمع بي) يعني ببعثتي برسالتي، وبما أرسلت به، ثم لا يؤمن بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، وفي الرواية الأخرى «أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني»، المراد أمة الدعوة، «ثم لا يؤمن بي إلا أكبه الله في النار», فمن كان على دين الإسلام العام، وقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقبل منه, لا يقبل بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أحد إلا أن يتبع دين الإسلام الخاص، يعني الذي بُعث به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو المراد ها هنا، وهو الذي يحصل به الابتلاء في القبر والفتنة في القبر, يحصل الابتلاء والفتنة بدين الإسلام الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم.
قال(هو الاستسلام لله بالتوحيد) الاستسلام أن يكون فاعله؛ فاعل الاستسلام كهيئة المستسلم، والمستسلم لغيره تابع له لا يفعل إلا ما يريد، خلُص قلبه إلا من رغبة من استسلم له، ولو قال وهو الإسلام لله بالتوحيد لصح تعريفه، فالاستسلام هنا بمعنى الإسلام، وله أسلم، ?وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ?[الزمر:54]، كلها بمعنى الاستسلام والإسلام؛ الإسلام لله والاستسلام لله بمعنى واحد قيَّدَها في هذا الموضع بقوله (بالتوحيد) والتوحيد يشمل توحيد الله جل وعلا في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته، والمقصود الأخص من هذه الثلاثة توحيد العبادة لأن الخصومة وقعت فيه، ومعلوم أن توحيد العبادة متضمن لتوحيد الربوبية ولتوحيد الأسماء والصفات.(1/97)
ثم قال (والانقياد له بالطاعة) الانقياد لله جل وعلا بالطاعة، يعني أن يكون منقادا غير ممانع ولا متولٍّ عن طاعة الله جل وعلا، إنما ينقاد ويذعن، كما قال جل وعلا ?قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ?[النور:54], أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، يعني الانقياد لله وللرسول،فيما أمر الله جل وعلا به وفيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، قال فإن تولوا وأعرضوا ولم يذعنوا ولم ينقادوا (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ) يعني على الرسول (مَا حُمِّلَ) ما حمل إياه وهو الرسالة، (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) وهو الاستجابة لله وللرسول، فإذن هنا الانقياد له، بالطاعة لله جل وعلا، بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بعث بهذا الإسلام الأخير.(1/98)
قال (والبراءة من الشرك وأهله)، فُسّرت البراءة بعدة تفسيرات أصلٌ وفروعه؛ أصل البراءة البُغض في القلب، يعني بغض الشرك وأهله، ويتبع ذلك؛ يتبع بُغضَهم معاداتُهم وتكفير من كفره الله جل وعلا ورسوله؛ تكفير المشركين ومقاتلتهم عند مشروعية ذلك، وهذا هو معنى الكفر بالطاغوت أيضا, فإن الكفر بالطاغوت هو بُغضه ومعاداة أهله، وتكفير أهل الطاغوت؛ وهم أهل عبادة غير الله جل وعلا, وقتالهم عند مشروعية ذلك، البراءة من الشرك أصلها البغض، يتبع البغض أشياء, أولا المعاداة, ثانيا التكفير ومعلوم أن التكفير تَبَعٌ للعلم، ثم قتالهم عند مشروعية ذلك وذلك أيضا مستلزم للعلم، فتلخص أن على العامة وهم من ليسوا علماء عليهم من البراءة، أصلها وهو البُغض، وأما فروعها فإنما هي بحسب درجات العلم، البغض لا بد أن يُبْغِض فإن لم يبغض الشرك فإنه ليس بمسلم، إذا كان يحب الإسلام وأهله، ويحب التوحيد وأهله، ولكن لا يبغض الشرك وأهله فإنه ليس بمسلم. لكن قد يبغض الشرك وأهل الشرك باعتبار الأصل، لكنه يحب بعض المشركين لغرض من أغراض الدنيا، فهذا ليس بمشرك، وإنما ناقص إسلامه، كما أوضحت لكم فيما سبق في تقسيم الموالاة إلى موالاة وتولي، المقصود من هذا أن مسألة البراءة هذه؛ من الشرك وأهله، أصل البراءة البغض يتبعها أشياء المعاداة التكفير المقاتلة وكلها تبع للعلم، ويتنوع ذلك بحسب الناس، وأسهل ما يكون في الموحدين، عند الموحدين، عند عامتهم، معاداة المشركين، ولو لم يكن عندهم من الحجة أو من بيان تكفيرهم، ومن إقامة الدلائل على مشروعية مقاتلة أهل الشرك، فإنه قائم في قلبه بغضهم ومعاداتهم، وهذا به يحصل الإسلام.
إذن تعريف الإسلام شمل ثلاثة أشياء:
أولا: الاستسلام لله بالتوحيد.
ثانيا: الانقياد لله بالطاعة.
الثالث: البراءة من الشرك وأهله.
نلاحظ أنه بهذا شمل هذا التعريف معنى الشهادتين كما سيأتي.(1/99)
هذا الدين؛ دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مراتب, قال الشيخ رحمه الله (وهو ثلاث مراتب الإسلام) هذه مرتبة في دين الإسلام نتيجة هذه المرتبة أن يحكم لأهلها بأنهم مسلمون، (والإيمان)، ونتيجة هذه المرتبة أن يحكم لأهلها بأنهم مؤمنون، (والإحسان)، ونتيجتها أن يحكم لأهلها أنهم محسنون، فالمحسن والمؤمن والمسلم، الجميع من أهل دين الإسلام، لكن لكل مرتبتُه الخاصة به، هم درجات عند الله.
فالإسلام: هو إقامة الأعمال الظاهرة؛ الشهادتين مع الأركان الأربعة المعروفة؛ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، مع بعض الإيمان الذي يُصحح هذا الإيمان الظاهر.
والإيمان: الإيمان بأركانه الستة؛ لله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره مع بعض الإسلام الظاهر مع بعض العمل الظاهر الذي معه يصح هذا الإيمان الباطن.
والإحسان: هو مقام المراقبة لله جل وعلا.
قال(وكل مرتبة لها أركان فأركان الإسلام خمسة) ذكرها ثم ذكر الأدلة على ذلك فقال (فدليل الشهادة قوله تعالى ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[آل عمرا:18]) وجه الاستدلال: أن الله جل وعلا شهد بذلك لنفسه، وشهد له بذلك الملائكة، وهم عُمَّار السماء، وشهد له بذلك أيضا أولوا العلم من الثقلين، قال جل وعلا (قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فبعد أن شهد بذلك لنفسه، وأخبر بشهادة ملائكته له بذلك، بشهادة أولي العلم له بذلك، أخبر مرة أخرى بمضمون ذلك فقال (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) واضح ظاهر وجه الاستدلال من هذه الآية.(1/100)
ما معنى لا إله إلا الله؟ قال (معناها لا معبود بحق إلا الله وحده)، لا إله إلا الله، أربع كلمات: (لا) ثم (إله) ثم (إلا) ثم (الله)، معنى (لا) هذه حرف لنفي الجنس، وهي من أخوات إنَّ، أو تعمل عمل إنَّ كما قال ابن مالك
عَمَلَ إنَّ اجْعَلْ لِلا فِي نَكِرَة
ويكون اسمها نكرة، كما قال هنا لا إله، إله؛ الإله فعال بمعنى مفعول يعني معبود، إله بمعنى مألوه يعني معبود؛ لأن الإلهة بمعنى العبادة، والألوهة بمعنى العبودية، وأصلها من أَلَهَ يَأْلَهُ، إِلَهَةً، وألوهة؛ إذا عبد مع الحب والخوف والرجاء؛ إذا عبد عابد ما يعبده خائفا راجيا محبا فإنه يكون قد ألهه، قال الراجز برجزه المشهور:
لله درّ الغانيات المُدّهِ
سبّحن واسترجعن من تألهي(1/101)
يعني من عبادتي التأله هو العبادة يعني (لا إله) كما قال هنا، معناها لا معبود، فسر الإله بمعنى المعبود، لأن ذلك الذي يقتضيه لسان العرب، وكذلك هو الذي جاء في القرآن، قال جل وعلا ?الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?[هود:1-2]، والذي جاء من عند الله جل وعلا هو لا إله إلا الله قال هنا (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) فتفسير الإله بالمعبود، هذا موافق للقرآن وموافق للغة العرب، وبه تعلم أن من فسر الإله بالرب يعني بأنه القادر على الاختراع، كما هو تفسير أهل الكلام المذموم والأشاعرة والماترودية ونحوهم، فإن هذا من أبطل ما يكون؛ لأنه مناقض للغة العرب وتردُّه لغة العرب، ومناقض للقرآن ويردُّه القرآن والسنة، فإن مادة الإله غير مادة الرب، والإله هو المعبود كما أوضحت لكم في الاشتقاق، يقولون معنى (لا إله) أي لا قادر على الاختراع إلا الله، ولهذا لا يكفرون من أشرك مع الله جل وعلا إله آخر في العبادة، يقولون ما دام أنه مقر بتوحيد الربوبية، وبأن الله جل وعلا هو المتوحّد في أفعاله؛ برَزقه وإحيائه وإماتته، وفي تدبيره الأمر، وفي ملكه، وفيما يفعل، فإن هذا مؤمن. وهذا باطل، وبعضهم يفسر الإله بتفسير آخر يرجع إلى معنى الربوبية، يقول أحد كبار وأئمة الأشاعرة، وهو السَّنوسي في كتابه المعروف بأم البراهين في العقائد الأشعرية يقول: فالإله هو المستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه. يقول فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرا إليه كلّ ما عداه إلا الله. فصار معنى كلمة التوحيد عندهم؛ توحيد الله جل وعلا، توحيد الله جل وعلا في ربوبيته. وهذا من أبطل الباطل؛ لأن المشركين قد أخبر الله جل وعلا في كتابه بأنهم مقرون بهذا الذي جعله معنى كلمة التوحيد، يقول معنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا(1/102)
الله. أرأيتم أبا جهل وصحبه ألم يكونوا موقنين بأنه لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله؟ هم يؤمنون بذلك كما بينه الله جل وعلا في القرآن في آيات كثيرة جدا كقوله?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[العنكبوت:61], ?وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ?[الزخرف:87]، ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ?إلى آخر الآية قال ?فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31]، ?قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ?[المؤمنون:86]، ?قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ?[المؤمنون:88-89] إلى آخر ما جاء في هذه الآيات.(1/103)
إذن فتفسير لا إله إلا الله بأنها لا معبود إلا الله هذا التفسير ليس تفسيرا اجتهاديا، وإنما هو تفسير قرآني لهذه الكلمة قال جل وعلا ?مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?[هود:1-2]، فمن زعم أن هذا التفسير من اجتهادات إمام هذه الدعوة، فهذا مناقض أو راد أو جاهل بالقرآن العظيم، فإن الذي فسر الإلهية بهذا المعنى هو الله جل وعلا في كتابه في غير ما آية، قال جل وعلا ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ?[المؤمنون:23] وهذا واضح (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أتى بعد أمرهم بعبادة الله جل وعلا وحده دون ما سواه، وهذا مبين كثير في الكتاب والسنة والنبي صلى الله عليه وسلم قال لحصين بن عبد الرحمن: «كم إله تعبد؟» قال: أعبد سبعة, ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: «فمن ذا الذي تعد لرغبك ولرهبك؟» قال: الذي في السماء. فهذا معنى الإله، وهذا معنى لا إله، أي لا معبود، فهذا التفسير تفسير من القرآن، تفسير جاء من الله جل وعلا ومن نبيه صلى الله عليه وسلم، ليس تفسيرا اجتهاديا من أئمة هذه الدعوة كما زعمه الخرافيون وأعداء التوحيد.(1/104)
إذن هنا قال (معناها لا معبود بحق إلا الله) الكلمة الثانية (إله) الكلمة الثالثة (إلا) و(إلا) هذه عند بعض العلماء أداة استثناء، وعند بعضهم أداة حصر، فصار معنى (لا إله إلا الله) لا معبود إلا الله، خبر (لا) أين هو؟ لا معبود إلا الله، يعني لا معبود موجود إلا الله؟ لا معبود بحق إلا الله؟ لا معبود يُعبد إلا الله؟ خبر (لا) أين هو؟ قال العلماء: خبر لا محذوف، ذلك لأن العرب ترى في لغتها أن لا النافية للجنس يحذف خبرها إذا كان واضحا. ومن الواضح أن المشركين لم ينازعوا في وجود آلهة أخرى يعلمون أن هناك آلهة كثيرة موجودة، لهذا لا يصح أن يقال: أن خبر (لا إله) موجود؛ لأنهم قالوا ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5] لو كان خبر (لا إله) موجود، قالوا له هذه الآلهة موجودة، فكلمتك هذه ليست بصحيحة، لكن الخبر معلوم لأنه زبدة الرسالة، وهو ما قدره الشيخ هنا (بحق) أو يقدر (حق) بدون الباء، وذلك لأن خبر (لا) إذا حذف قُدر بالمناسب الذي يعلم، وإذا حذف الخبر كان لأجل العلم به ولوضوحه، كما قال ابن مالك في الألفية في آخر باب لا النافية للجنس يقول: وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ يعني باب لا النافية للجنس؛
وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ إِسْقَاطُ الخَبَر
إِذَا الْمُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَر(1/105)
إذا ظهر المراد مع الحذف فإنه يُحذف، ولهذا لا يحذف خبر لا النافية للجنس إلا إذا كان واضحا، إذا كان الخبر واضحا، وهنا الخبر واضح لأنه هو زبدة الرسالة؛ زبدة ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو عين ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكون تقدير الكلام: لا معبود حق إلا الله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام بُعث لتوحيد الله جل وعلا بالعبادة ولإبطال عبادة غيره، وأنه لا معبود حق إلا الله وأن كل معبود سوى الله جل وعلا فعبادته بالباطل والظلم والطغيان والتعدي من الخلق. إذن هنا حُذِف لأنه معلوم، فصار تقديره لا إله حق -أو لا إله بحق- إلا الله، وذلك لأن الله جل وعلا قال ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[لقمان:30]، وفي الآية الأخرى ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?[الحج:92] قال (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ)، فلما كانت هذه الآية وقد جاءت في القرآن في سورتين مشتملة على أن عبادة الله حق، وأن عبادة غيره باطلة، ناسب أن يكون المحذوف هنا كلمة (حق) أو كلمة (بحق)؛ لا إله بحق أو لا إله حق، لأنها هي التي دلت عليها الآيات.
إذن فصار معنى لا إله إلا الله لا أحد يستحق العبادة إلا الله جل وعلا، لا معبود بحق إلا الله، هناك معبودات غير الله عز وجل، ولكنها معبودات بحق أو بالباطل؟ معبودات بالباطل، وصار التقدير هذا من أنسب ما يكون.(1/106)
قال (معناها لا معبود بحق إلا الله وحده) فسر ذلك بقوله (لا إله نافيا جميع ما يعبد من دون الله) يعني الذي يقول لا إله إلا الله، ماذا يقول حين يقول لا إله؟ يقول أنفي جميع ما يعبد من دون الله، إلا الله تقول وأُثبت العبادة لله وحده، لأن لا إله إلا الله نفي وإثبات؛ نفي لاستحقاق العبادة عما سوى الله وإثبات للعبادة المستحقة لله جل وعلا.
قال رحمه الله هنا (لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه) عدم الشَّرِكَة في الملك تتنوع أحيانا؛ تكون -الشركة في الملك يعني مطلقا دون إضافتها إلى الله طبعا- الشركة في الملك تكون:
? بأن يكون لكل شريك قسم خاص ليس مشاعا، له قسم خاص مما اشتركا فيه؛ اشتركت أنا وأنت في ملك إبل مثلا لك خمسون و لي خمسون معروفة، هذه خمسيني معروفة بأعيانها، وهذه خمسون لك معروفة بأعيانها، أو اشتركت أنا وأنت في كتب معروفة، هذه الكتب لك وهذه الكتب لي، هذه شركة، كل من الشريكين له قسمه استقلالا.
? الثاني أن تكون شركة مشاعة؛ للشريكان شركة مشاعة، هذا وهذا مشتركان في ملك لا يتميز منه أحدهما عن الآخر، بل هو لهما جميعا.(1/107)
الله جل وعلا بَيَّن في القرآن أنه لو كان له شريك في الملك -في ملكه- لابتغى إليه سبيلا، قال جل وعلا ?لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا?[الإسراء:52], ولو كان معه آلهة؛ معبودات تستحق العبادة فعلا، ما الذي يلزم من ذلك؟ يلزم أنه لهم نصيبا في ملك الله، بأنه لا يستحق العبادة إلا من يملك النفع والضر (لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا)، قال ?سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا?[الإسراء:43], ليس مع الله أحد في ملكه، بل هو المتوحد في ملكه، ينتج من ذلك ويلزم أنه هو المستحق للعبادة وحده، لهذا قال له هنا (لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه)، لهذا يقول العلماء: إن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، الإقرار أن الله عز وجل ليس له شريك في ملكه لا على وجه الاستقلال ولا على وجه الإشاعة؛ شيوع، هذا يلزم منه لزوما أكيدا أن الله جل وعلا وهو واحد في استحقاقه العبادة، لا يستحق العبادة إلا هو، هو وحده المستحق للعبادة لا شريك له, كما أنه هو وحده له الملك لا شريك له، كما جاء في آية الأنعام ?قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ?[الأنعام:162-163] قد بينت لكم معناها، وأن معناها (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) لله استحقاقا (وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ) ملكا (لَا شَرِيكَ لَهُ) في عبادته و(لَا شَرِيكَ لَهُ) في ملكه (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) هذا معنى الآية، وهذا التفسير للشيخ لكلمة التوحيد تفسير ضابط ظاهر.(1/108)
أيضا قال (وتفسيرُها الذي يُوضِّحُها قوله تعالى ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28])، قال (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) ماذا قال إبراهيم؟ المقول سيأتي، قال (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) اشتملت كلمته هذه على نفي وإثبات؛ على بُغض ومحبة، فشقها الأول؛ جزؤها الأول نفي وبغض قال(إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) هذا فيه نفي ما دام أنه تبرأ منها في نفي لاستحقاقها العبادة، ومن معنى البراءة البغض، أو معنى البراءة البغض، فاشتمل قوله (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) على النفي والبغض، ثم أتى بالإثبات والمحبة فقال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)؛ أُثبت له العبادة، ثم أتى بما يدل على المحبة فقال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)، محبة فيها الرجاء. هذه كلمة وهي معنى لا إله إلا الله لأنه اشتملت على براءة وعلى ولاء، اشتملت على بغض و على محبة، اشتملت على نفي وعلى إثبات. قال (وَجَعَلَهَا) يعني تلك الكلمة (كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) يعني في ولد إبراهيم، ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء، والأنبياء من بعده جاؤوا لتقرير هذه الكلمة، قال (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يرجو أن يرجع إليها عقبه من بعده، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يعني إليها، أيضا يفسرها قوله تعالى ?قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ?[آل عمران:64], قل -يا محمد- يا أهل الكتاب؛ يا أهل التوراة ويا أهل الإنجيل ويا أهل الزبور، (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) إلى كلمة وسط، كلمة عدل بيننا وبينكم، نعلم أنه قد جاء بها رسولكم،(1/109)
وقد جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ما هذه الكلمة؟ ?أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا?[آل عمران:64], وجه الاستدلال: أن هذه الكلمة بيننا وبينهم وهي كلمة التوحيد، تفسيرها أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، هذا واضح؛ التفسير لكلمة التوحيد، قال مؤكدا معناها ?وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ?[آل عمران:64], يعني آلهة من دون الله، لأنهم ما ادعوا في الخلق أنه رب، بمعنى أنه يخلق استقلالا، ويرزق استقلالا، ويحيي ويميت استقلالا، هذا ما اُدعي، وكان تفسير الربوبية هنا بالإلهية، قال ?فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?[آل عمران:64], آخر الآية يبين أن من ترك ما دل عليه أولها فإنه ليس بمسلم، لأنه قال (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) إذْ خالفناكم، وإذْ لم تذعنوا لهذه الكلمة سواء التي بيننا وبينكم (ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا)، فأنتم لستم من أهل الإسلام.(1/110)
قال بعد ذلك (ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[التوبة:128])، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ) هذا قسم، اللام هذه هي التي تسمى الموطئة للقسم، دائما تصحب قد؛ (لَقَدْ)، نعلم أن ثم قسما محذوفا: والله لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ، هنا المقسِم هو الله جل وعلا، أقسم بأنه قد جاءكم رسول، وهذا لتأكيد الكلام وتعظيمه بأنفس السامع؛ لأنه أُكد بالقسم، والمقسِم هو الله، والمقسَم به هو الله جل وعلا، على مجيء الرسول لنا من أنفسنا، (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يعني من جنسكم، من بني جلدتكم، يتكلم بلسانكم وتعقلون عنه، هذا واضح الدلالة على الشهادة بأن محمدا رسول الله، لأن معنى شهادة أن محمدا رسول الله أن تعتقد أن محمدا أرسله الله جل وعلا بدين الإسلام، تعتقد ذلك اعتقادا يصحبه قول وإخبار عنه، وهذه الآية واضحة الدلالة على المراد.(1/111)
بيّن معنى شهادة أن محمدا رسول الله، قال (ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما أمر) هذا التفكير والمعنى بالمقتضى، يعني معناها التي تقتضيه؛ تقتضي طاعته فيما أمر، إذن فمعنى شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما الأمر، كونك شهدتَّ أنه مرسل من عند الله، معنى ذلك أنه إذا أمرك فإن الآمر هو الله جل وعلا، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره، الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام «ألا إن ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله» إذا اعتقدت أن هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لم يأتِ به من عنده وإنما هو رسول, فمعنى ذلك أن تطيعه فيما أمر، هذا مقتضى لكونك شهدت بأنه رسول الله، فإن لم تطعه فيما أمر اعتقادا أنه لا يطاع، كان ذلك تكذيبا لشهادته، فمن قال أشهد أن محمدا رسول الله، وهو يعتقد أنه لا تلزمه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فحاله حال المنافقين؛ شهادته مردودة، كاذب في شهادته، وأما إذا اعتقد أنه تجب عليه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر وخالف لغلبة هوى، فهذا يكون عاصيا قد نقص من تحقيقه لشهادة أن محمد رسول الله بقدر مخالفته.(1/112)
قال (وتصديقه فيما أخبر) ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الغيب وحي من عند الله، ولا يتخرّف عليه الصلاة والسلام، لهذا ما أتى من أخبار الغيبيات، يعني الكلام على الله جل وعلا، أسمائه وصفاته وأفعاله، عن الجنة والنار، عن أخبار الغيب، عن قصص الماضين، هو كله بوحي من الله جل وعلا، فمقتضى أنك شهدت أنه رسول الله أن تصدقه فيما أخبر، وألا يكون في قلبك شك، في أن ما أخبر به حق، وأن كل خبر أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم نقول: عليه الصلاة والسلام فيه صادق. ولو كنا لا نرى ذلك الشيء، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: حدثني الصادق الصدوق. يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن يصدق رسول الله بما أخبر به، سواء عقل ذلك أو لم يعقله، وسواء أدرك ذلك بنظره أو لم يدركه، فقد كان الصحابة يتناقلون فيما بينهم الأخبار الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عيسى بن مريم عليه السلام سينزل، وكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث يقول لأصحابه، ولمن ينقل عنه الحديث من تلامذته، يقول: فإذا لقيه أحدكم فليقرئه مني السلام. تصديق لا يصاحبه شك، إذا كان المؤمن يعتقد أنه رسول الله، فمعنى ذلك أن كل خبر أخبر به فهو حق، بلا شك وبلا ريب عليه الصلاة والسلام.(1/113)
قال (ومن معناها اجتناب ما عنه نهى وزجر) والأصل في النهي والزجر التحريم؛ لأنها نهي زاجر كما هو مقرر في الأصول، فما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أو زجر عنه أو حرمه فإنه يجب اجتنابه طاعة له عليه الصلاة والسلام، كما قال جل وعلا ?وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا?[الحشر:7], وما أتاكم الرسول من الأوامر أو من الأخبار فخذوه امتثالا للأمر وتصديقا بالخبر، وما نهاكم عنه فانتهوا، ما نهاكم عنه يجب عليكم أن تتركوه طاعة لله جل وعلا ولرسوله، وهنا نقول مثل ما قلنا أولا أن من لم يجتنب ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وزجر، اعتقادا أنه لا يجب عليه الانتهاء، يعني لم يلتزم ذلك، لم يلتزم أنه مخاطب بهذه المنهيات، فهذا قدح في الشهادة، فلا يكون شاهدا بأن محمدا رسول الله، وإن كان يقولها بلسانه، وإن التزم ذلك، قال: نعم، نلتزم بالذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ويجب تركه. لكن غلبته نفسه وخالف ذلك قليلا كانت المخالفة أو كثيرا في نفسه أو في غيره، فإن ذلك يكون نقصا في شهادته ومعصية لله ولرسوله.
قال (وألا يعبد الله إلا بما شرع ) يعني لا يُعبد بالبدع والأهواء والمحدثات، وإنما يُعبد الله جل وعلا بالطريق وعلى الطريق التي بينها نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يُعبد الله جل وعلا بالأهواء والآراء والاستحسانات المختلفة، إنما يُعبد الله جل وعلا عن طريق واحدة وهي طريق الرسول صلى الله عليه وسلم بما شرعه هذا الرسول، فإذا اعتقد المسلم ذلك كمُلت له شهادته بأن محمدا رسول الله وصار مسلما حقا.(1/114)
بعد ذلك قال(ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله تعالى ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ?[البينة:5]) بين أن هذه الأشياء مأمور بها، وهي دليل على أنها من دين الإسلام، ثم ذكر دليل الصيام، ثم ذكر دليل الحج وهذه واضحة ظاهرة.
بهذا يتبين المرتبة الأولى من الأصل الثاني؛ ألا وهي مرتبة الإسلام، وأعظم أركان الإسلام الشهادتان، فعلى طالب العلم أن يكون معنى الشهادتين واضحا في قلبه، واضحا في ذهنه، فاهما له، بحيث يستطيع أن يعبر عن ذلك بأيسر عبارة وبتنوع العبارة، لأن أعظم ما يدعا إليه ما دلت عليه الشهادتان، فعلى طالب العلم أن يعوّد لسانه على تفسير الشهادتين بتنويع العبارة، وعلى حفظ الأدلة التي فيها معنى الشهادتين، وعلى تفسير ذلك، وإذا دَرَبَ على ذلك، فسوف يرى أنه ستفتح له أبواب بفضل الله جل وعلا وبرحمته بمعرفة التوحيد وحسن التعبير عنه، وأما أن يترك طالب العلم نفسه لفهم ما دلّت عليه، دون أن يمرن نفسه على تأدية المعنى وتعليمه لأهله وللصغار، ولمن حوله ولمن يلقاه ممن لا يعلم حقيقة معنى هذه الكلمة، فإن هذا تضيعه النفس ولا يصدق على فاعله أنه طالب العلم؛ لأن العامي هو الذي يفهم ذلك؛ يفهم ذلك فهما، لكن لا يستطيع أن يعبر عن فهمه بالتعبير العلمي الصحيح، وأما طالب العلم فعليه أن يهتم بأصل الأصول هو تفسير الشهادتين، ومر معنا بعض ما يتصل بتفسيرها.
أسأل الله جل وعلا أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يجعل ألسنتنا لاهجة بالثناء عليه وبذكره، وجوارحنا مقيمة على طاعته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
?????(1/115)
مرتبةُ الإيمانِ: الإيمانُ، وهو بضعٌ وسبعونَ شعبَة، فأعلاها قولُ لا إله إلاّ الله، وأدْناها إماطةُ الأذَى عنِ الطريقِ، والحياءُ شعبةٌ مِنَ الإيمانِ، وأركانُهُ سِتَّة: أنْ تؤمنَ بالله، وملائكَتِهِ، وكتبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخرِ، وبالقَدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ، والدليلُ على هذه الأركانِ الستَّةِ قولُه تعالى ?لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ?[البقرة:177], ودليلُ القَدَرِ قوله تعالى ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ?[القمر:49].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قد ذكر المؤلف -رحمه الله وأجزل له المثوبة- أن الأصل الثاني من ثلاثة الأصول العظيمة: هو معرفة دين الإسلام بالأدلة، وذكر أن دين الإسلام مبني على ثلاث مراتب، فالأولى هي مرتبة الإسلام، وبيّن ذلك وفسره, وذكر الأدلة على ذلك, ثم قال رحمه الله (المرتبة الثانية الإيمان وهو بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان وأركانه ستة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى ?لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ?[البقرة:177], ودليل القدر قوله تعالى ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ?[القمر:49]) انتهى كلامه رحمه الله.
هذه المرتبة الثانية، وهي مرتبة الإيمان، والإيمان أصله:
في اللغة: كما سبق أن ذكرت لكم هو التصديق الجازم، فهو تصديق وجزم.(1/116)
وفي الشرع: الإيمان قول وعمل واعتقاد, أو نقول الإيمان في الشرع قول وعمل؛ لأن القول هو قول اللسان وقول القلب, والعمل عمل القلب وعمل الجوارح.
فإذا قال من قال من أهل السنة: إن الإيمان قول وعمل. فهو بمعنى من يقول: قول وعمل واعتقاد.
لأن القول ينقسم إلى قول اللسان وقول القلب:
· قول اللسان: هو النطق والإقرار ظاهرا بنطقه.
· وقول القلب: النية.
عمل القلب وعمل الجوارح:
· عمل القلب: أقسامه كثيرة، منها أنواع الاعتقادات، ومنها أنواع العبادات القلبية؛ الخشية والخوف والرجاء، فالعلم أنواع العلميات هذه من أعمال القلب، وكذلك عبادات القلب المتنوعة هذه أعمال قلبية.
· وكذلك عمل الجوارح.
وهذا بمعنى قول من قال: إن الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بطاعة الرحمان، وينقص بطاعة الشيطان.
قال أهل العلم إن هذا الإيمان الشرعي هو الذي حصل الابتلاء به، فهو من الأسماء التي نقلت من اللغة إلى الشرع، وصارت حقيقتها الشرعية هو ما وصفت لك من أن الإيمان يشتمل على قول اللسان والعمل بالأركان والاعتقاد وأنه يزيد وينقص.
الإيمان كثيرا ما يأتي في القرآن ويراد به اللغوي، وكثيرا ما يأتي في القرآن ويراد به الشرعي، بمثل الألفاظ الأخرى كالصلاة فإنها تأتي ويراد بها اللغوي؛ الصلاة اللغوية وهي الدعاء والثناء، ويأتي ويراد بها الصلاة المعروفة ومما ذكره بعض أهل العلم المحققين، ومما ذكره بعض أهل العلم من ذوي التحقيق:
? أن الإيمان اللغوي في القرآن كثيرا ما يُعدّى باللام كقوله تعالى ?وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ?[يوسف:17], كقوله ?فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ?[العنكبوت:26], ونحو ذلك من الأمثلة وما سبق أن ذكرت لك.(1/117)
?والإيمان الشرعي المنقول عن أصله اللغوي الذي يراد به العمل والقول والاعتقاد هذا يُعدى كثيرا بالباء ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ?[البقرة:285]، إلى آخر الآية قال?فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا?[البقرة:137], ونحو ذلك من الآيات وكقوله ?وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا?[النساء:136].
هذا الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويراد به تارة الاعتقادات الباطنة، وهو الذي يناسب المرتبة الثانية، لأن المرتبة الأولى هي الإسلام، وهي ما يشمل العمل الظاهر كما جاء في حديث جبريل, فقد جاء في بعض طرقه أنه ذكر عليه الصلاة والسلام لجبريل أن من الإسلام بعد الحج الغُسل من الجنابة، ومنه الذكر، ونحو ذلك مما هو من جنس الأعمال الظاهرة. وأما الإيمان: فهو العقائد الباطنة؛ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر.(1/118)
الشيخ رحمه الله تعالى هنا قال (الإيمان بضع وسبعون شعبة) وهذا يعني به اسم الإيمان العام الذي يدخل فيه الإسلام؛ لأن الإيمان أوسع من الإسلام، والإسلام بعض الإيمان، وأهل الإيمان أخص مرتبة من أهل الإسلام، لهذا الإيمان يشمل الإسلام وزيادة، بهذا المعنى ولهذا المعنى قال الشيخ رحمه الله (وهو بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله) ومن المعلوم أن قول لا إله إلا الله أنه أول أركان الإسلام؛ شهادة لله بالتوحيد بقول لا إله إلا الله مع توابع ذلك هذا الركن الأول، فهنا عدَّ قول لا إله إلا الله أعلى شعب الإيمان، وهذا لأن الإيمان يشمل الإسلام وزيادة، وهذا قد جاء مبينا في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «الإيمان بضع وستون أو قال بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» فذكر أن أعلى شُعب الإيمان لا إله إلا الله، وقوله شُعب هذا تمثيل للأيمان بالشجرة التي لها شعب ولها فروع، وقد مثل عليه الصلاة والسلام بأعلى الشعب وبأدنى الشعب، ومثّل بشعبة من الشعب، وهذه الثلاث التي ذكرها عليه الصلاة والسلام متنوعة:
· فالأول وهو أعلاها قول: قول لا إله إلا الله.
· وأدناها إماطة الأذى عن الطريق هذا عمل.
· والحياء شعبة من الإيمان، الحياء عمل القلب.
فذكر في هذا قول لا إله إلا الله، وهذا قول باللسان، ولا شك أنه يتبعه اعتقاد بالجنان، وذكر الحياء أيضا وهو عمل بالقلب، وذكر إماطة الأذى عن الطريق وهو عمل الجوارح، فتمثيله عليه الصلاة والسلام لذلك لأجل أن يُستدل لكل واحد من هذه الثلاثة؛ لكل شعبة من هذه الشعب على نظائرها:
فيُستدل بكلمة التوحيد بقول لا إله إلا الله على الشعب القولية.
ويُستدل بإماطة الأذى عن الطريق بالشعب العملية؛ عمل الجوارح.
ويُستدل بذكره الحياء على الشعب القلبية.(1/119)
وهذا من أبلغ ما يكون من التشبيه والتمثيل، وذلك لأن التنويع -كما نوع عليه الصلاة والسلام- يجعل الناظر يُعدِّي هذا الذي ذكر إلى أمثال تماثلها كثيرة، ولهذا العلماء اختلفوا في شعب الإيمان بِعَدِّها، عَدَّها جماعة وصنفوا فيها مصنفات كما صنف الحليمي كتابه، الشيخ البيهقي كتابه، كتاب الإيمان؛ المنهاج في شعب الإيمان وهو مطبوع، وتلاه على ترتيبه وعلى نصقه البيهقي موسعا داعما بالأدلة في كتابه شعب الإيمان، ونحو ذلك، عدُّوها على اجتهاد منهم، وهذا الاجتهاد يختلف فيه العلماء، فمنهم من يعد خصالا من شعب الإيمان، ومنهم من يعد أخرى، وسبب ذلك اجتهادهم في قياس ما لم يذكر على ما ذكر، فيجعل بعضا منها قولية، ويجعلون بعضا منها عملية، ويجعلون بعضا منها لعبادات القلب، وهم يقسمونها في الغالب أثلاثا: فيجعلون للقوليات نحوًا من خمس وعشرين شعبة، ويجعلون للعمليات نحوًا من خمس وعشرين شعبة، ويجعلون لأعمال القلوب نحوًا من سبع وعشرين أو خمس وعشرين شعبة، يزيدون و ينقصون.
المقصود أن هذا اجتهاد، اجتهاد من العلماء، لكن هذا التمثيل يدل على ما ذكرت لك من استيعابه للأقوال وأعمال الجوارح وأعمال القلوب، إذن فيدخل في هذه الشعب، شعب الإسلام: إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، صوم رمضان، الحج، الجهاد، الغسل، الطهارة، ونحو ذلك، يدخل فيها الأعمال الاجتماعية التي أُمر بها؛ صلة الأرحام، بر الوالدين إلى آخره، يدخل فيها أعمال القلوب من الخشية والإنابة والحياء والمحبة والرجاء والخوف والرهب والرغب إلى آخر هذه الأمثلة، فكل هذه من الإيمان ودليل ذلك الحديث الصحيح الذي جاء في الصحيحين.
بعد أن ذكر ذلك قال رحمه الله تعالى (وأركانه ستة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) أوضحت لكم في شرح الأربعين النووية تفصيل شرح هذه الأركان، لكن أذكر ذلك باقتضاب, ليكمل الشرح لهذا الكتاب.(1/120)
الإيمان بالله يشمل: الإيمان بوجود الله؛ بأن الله واحد في ربوبيته, وأنه واحد في إلهيته لاستحقاقه العبادة، أنه واحد في أسمائه وصفاته، يعني ليس كمثله شيء في أسمائه, وليس كمثله شيء في صفاته كما قال تعالى ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فبيان قوله أن تؤمن بالله هو شرح التوحيد كله.
قال (وملائكته) الملائكة جمع ملك، وهو المرسل لأن أصلها (مَأْلَكَ) من (أَلَكَ) يعني أرسل رسالة خاصة، أَلَكَ يألك أَلُوكَةً، والمرسل مألك أو مَلْأَك، وأصلها مألك؛ لأنها من أَلَكَ، خُففت الهمزة كما تخفف كثيرا فصارت ملَك، وجمعها ملائكة، لهذا ظهر في الجمع الهمز؛ لأن أصله في المفرد موجود، الملك جمعه ملائكة ظهر الهمز، ومفرد الملائكة ملأك إلى آخره. يعني المرسلون الموكلون بما وكلهم الله جل وعلا به.
هذا الركن من أركان الإيمان تحقيقه يكون بأن يؤمن المسلم بأن لله جل وعلا ملائكة، خلق من خلقه جل وعلا، جعلهم موكلين بتصريف هذا العالم، يأمرهم فينفذون ?بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ?[الأنبياء:26], ?لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ?[التحريم:6], فمن أيقن أن هذا الجنس من خلق الله موجود، وآمن بذلك، وأن منهم من ينزل بالوحي إلى الرسل، يبلِّغهم رسالات الله فقد حقق هذا الركن من أركان الإيمان، ثم بعد ذلك يكون الإيمان التفصيلي على نحو ما فصلت لكم في شرح الأربعين، يكون الإيمان التفصيلي، وهذا يختلف فيه الناس بحسب العلم، لكن المقصود هنا أن تحقيق هذا الركن من أركان الإيمان يكون بتحقيق ما ذكرت، وبعد ذلك الإيمان بكل ما جاء بالكتاب والسنة من أوصاف الملائكة ومن أحوالهم؛ صفة خلقهم ومقامهم عند ربهم، وأنواع أعمالهم وأعمال ما وكلوا به، فكله من الإيمان التفصيلي، من علم شيئا من النصوص في ذلك وجب عليه الإيمان، لكن تحقيق الركن يكون بالمعنى الأول.(1/121)
كذلك الإيمان بالرسل، إذا آمن المسلم بأن الله جل وعلا أرسل رسلا؛ بعثهم بالتوحيد، يدعون أقوامهم إلى التوحيد، وأنهم بلغوا ما أمروا به، وأيدهم الله بالمعجزات، بالبراهين والآيات الدالة على صدقهم، وأنهم كانوا أتقياء بررة، بلّغوا الأمانة وأدوا الرسالة. بهذا يكون آمن بالرسل جميعا، ثم يؤمن إيمانا خاصا بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم الرسل، وأنه جل وعلا بعثه بالحنيفية السمحة، بعثه بدين الإسلام الذي جعله خاتم الأديان وآخر الرسالات، القسم الثاني الإيمان التفصيلي بالرسل على نحو ما أوضحت لكم، فيه مقامات كثيرة في ذلك, يتبع العلم التفصيلي بأحوال الرسل وأسمائهم وأحوالهم مع أقوامهم وما دعوا إليه وكتبهم ونحو ذلك.(1/122)
قال بعدها (وكتبه) الكتب قبل الرسل (وكتبه ورسله) الإيمان بالكتب أيضا إيمان إجمالي، يتحقق الإيمان بهذا الركن بأن يؤمن العبد أن الله جل وعلا أنزل كتبا مع رسله إلى خلقه، جعل في هذه الكتب الهدى والنور والبينات وما به يصلح العباد، وأن هذه الكتب التي أُنزلت مع الرسل كلها حق؛ لأنها من عند الله جل وعلا، والله جل وعلا هو الحق المبين، وما كان من جهة الحق فهو حق، ويوقن بذلك يقينا تاما، ثم يوقن ويؤمن إيمانا خاصا بآخر هذه الكتب ألا وهو القرآن، فكما أنه يؤمن بالكتب السابقة التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى ونحو ذلك, يؤمن بها إيمانا عاما على ما أنزله الله جل وعلا على أنبيائه ورسله، فإنه يؤمن به إيمانا خاصا بهذا القرآن، وأنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود، وأنه حجة الله على الناس إلى قيام الساعة، وأنه به نُسخت جميع الرسالات وجميع الكتب من قبل، وأنه حجة الله الباقية على الناس، وأن هذا الكتاب مهيمن على جميع الكتب وما فيه مهيمن على جميع ما سبق, كما قال جل وعلا في وصف كتابه ?وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ?[المائدة:48], وأن ما فيه من الأخبار يجب تصديقها، وما فيه من الأحكام يجب امتثالها, وأن من حكم بغيره فقد حكم بهواه, ولم يحكم بما أنزل الله. هذا كله من الإيمان الخاص بالقرآن.(1/123)
قال بعد ذلك (واليوم الآخر) هذا هو الركن الخامس؛ الإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بيوم القيامة، وتحقيق هذا الركن يكون بأن يوقن هذا العبد يؤمن بغير شك بأن ثَم يوم يعود الناس إليه، يُبعثون فيه وإليه، يحاسبون فيه، وأن كل إنسان مَجْزِيٌّ بما فعل، لأن الأمر ليس منتهيا بالموت، بل ثَم يوم يجتمع فيه الناس فيقتص من الظالم إلى المظلوم ويحاسب الناس على أعمالهم، كما قال تعالى ?وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ?[الزمر:70], إذا آمن بهذا القدر، وأن هناك يومٌ سيكون، وأنه سيبعث من جديد، فإنه قد حقق هذا الركن. بعد ذلك الإيمان التفصيلي باليوم الآخر هذا يتبع العلم بما جاء في الكتاب والسنة من أحوال يوم القيامة، من أحوال القبور، أحوال ما يكون يوم القيامة، الإيمان بالحوض، بالميزان، الإيمان بالصحف، الإيمان بالصراط، الإيمان بأحوال الناس في العرصات، أحوال الناس بعد أن يجوزوا الصراط يعني المؤمنين الذين يدخلون الجنة، وما يكون بعد أن يجوزوا الصراط، ومن يدخل الجنة أولا، وأحوال الناس في النار ونحو ذلك، أحوال الظُّلمة، أحوال الجسر، هذه كلها أمور تفصيلية لا يجب الإيمان بها على كل أحد، إلا من سمعها في النصوص فإنه يجب عليه الإيمان بما سمع، لكن لو قال قائل: أنا لا أعلم هل ثَمَّ حوض أم لا؟ لا أدري هل ثم ميزان أم لا؟ ونحو ذلك، يُعرف بالنصوص فإن عرف فأنكر وكذَّب فيكون مُكذِّبا بالقرآن وبالسنة، أما تحقيق هذا المقام الذي هو اليوم الآخر، يؤمن بأن ثم يوم يعود فيه الناس، فيجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. فلو سألت أحدا قلت له: هل ثم يوم آخر يعود فيه الناس؟ قال: بلا شك هناك يوم القيامة يُبعث فيه ويحاسب الناس، فيه أهوال. وسكت، بهذا حقق الركن وهو الإيمان باليوم الآخر، إذا سألته هل تؤمن بالحوض؟ قال: أُوشْ الحوض؟ أنا ما أعرف هذا الحوض. هل تؤمن بالميزان؟ أنا ما أعرف. يُعرَّف(1/124)
النصوص الدالة على ذلك, لأن هذا من العلم التفصيلي الذي إنما يجب العلم به بعد إخباره بما جاء في النصوص عليه.
السادس قال (وبالقدر خيره وشره) الإيمان بالقدر، تحقيق هذا الركن أن يعلم ويعتقد؛ يؤمن بأن كل شيء يحدث في هذا الملكوت بخلق الله، قد سبق به قدر، وأن الله جل وعلا عالم بهذه الأحوال وتفصيلاتها بخلقه قبل أن يخلقهم، وكتب ذلك، وإذا آمن أن كل شيء قد سبق به قدر الله فيكون حقق هذا الركن، والإيمان بالقدر؛ الإيمان الواجب يكون على مرتبتين:
? المرتبة الأولى الإيمان بالقدر السابق لوقوع المقدر: وهذا يشمل درجتين:
الأولى العلم السابق: فإن الله جل وعلا يعلم ما كان وما سيكون وما يكون وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، علم الله السابق بكل شيء بالكليات و بالجزئيات، بجلائل الأمور وبتفصيلات الأمور، هذا العلم السابق كما قال جل وعلا في آخر سورة الحج ?أَلَمْ تَعْلَمْ([11]) أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ?[الحج:70], وقال جل وعلا ?وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ?[الأنعام:59], فبيَّن الله جل وعلا أن علمه بالأشياء سابق، وأنه يعلم كل شيء؛ الكليات والجزئيات، الأمور الجلية وتفاصيل الأمور، هذا العلم الأول، وهذا العلم لم يزل الله جل وعلا عالما به، علمه جل وعلا بهذه الأشياء بجميع تفاصيل خلقه، عِلْمُه بها أَوَّل يعني ليس له بداية.(1/125)
الدرجة الثانية الكتابة: أن يؤمن العبد أن الله جل وعلا كتب ما الخلق عاملون، كتب أحوال الخلق وتفصيلات ذلك قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وذلك عنده في كتاب جعله في اللوح المحفوظ، كما قال جل وعلا (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) فأثبت أنه في كتاب وقال جل وعلا ?وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ?[القمر:53], يعني قد سُطِّر وكُتِب في اللوح المحفوظ، وقال جل وعلا ?أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?[الحج:70]، بيّن أن كل شيء إنما هو في كتاب، وهذا قد جاء أيضا في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قدر الله مقادير الخلائق يعني بالكتابة قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة».
هاتان الدرجتان في المرتبة الأولى؛ المرتبة الأولى تسبق وقوع المقدر، هذه المرتبة الأولى تحوي درجتين.
? المرتبة الثانية أيضا تحوي درجتين وهي تواكب أو تقارن وقوع المقدر:(1/126)
أولى الدرجتين الإيمان بأن مشيئة الله جل وعلا نافذة: وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون، فليس ثم شيء يحدث ويحصل في ملكوت الله جل وعلا إلا وقد شاءه الله جل وعلا، وقد أراده الله جل وعلا كونا، سواء في ذلك طاعات المطيعين أو عصيان العاصين، سواء في ذلك إيمان المؤمنين أو كفر الكافرين، فكل شيء يحصل في ملكوت الله إنما هو بإذنه ومشيئته وإرادته الكونية؛ لأن المشيئة ما تنقسم، التي تنقسم الإرادة, بإذنه ومشيئته وإرادته الكونية، ومشيئة الله إذا أطلقت يُعنى بها الإرادة الكونية، الإرادة تنقسم إلى إرادة كونية وإرادة شرعية، فأما المشيئة فهي مشيئة الله جل وعلا في كونه، هذه الدرجة الأولى هذه تواكب وقوع المقدر، فلا يمكن أن يعمل العبد شيء يكون مقدرا من الله جل وعلا إلا وهذا الشيء قد شاءه الله جل وعلا.
الدرجة الثانية أن يؤمن بأن الله جل وعلا خالق كل شيء: كل شيء مخلوق الله جل وعلا خالقه؛ أعمال العباد، أحوال العباد, السماوات، الأرض، من في السماوات ومن في الأرض, ما في السماوات وما في الأرض, الجميع الذي خلقه هو الله جل وعلا، فإذا أراد العبد أن يعمل شيئا فإنه لا يكون إلا إذا شاءه الله جل وعلا, وخلق الله جل وعلا ذلك الشيء، طاعات المطيعين خلقها الله جل وعلا، عصيان العاصين خلقه الله جل وعلا، إذا توجه العبد بإرادته إلى أن يفعل شيء إذا شاءه الله كونا وقع بعد خلقه له، إذا لم يشأه ولو أراده العبد لم يقع، كما قال جل وعلا ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[التكوير:29]، قال ?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا?[الإنسان:30]، مرتبة الخلق عامة.(1/127)
إذن هذا الإيمان الواجب يصح أن نقول أنه إيمان تفصيلي، مرتبة قبل وقوع المقدر، العلم الأزلي؛ العلم الأول، والكتابة التي هي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم ما يواكب وقوع المقدر وهو أنّ العبد عنده إرادة وعنده قدرة؛ إذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقدرة التامة حصل منك الفعل، توجهت إلى الفعل حصل منك الفعل لكن لا يحصل منك إلا بعد أن يشاء الله جل وعلا ذلك منك، وإلا بعد أن يخلق الله جل وعلا ذلك الفعل منك، الفعل فعل العبد حقيقة، لكن الخالق لهذا الفعل هو الله جل وعلا، لما؟ لأن من العبد لا يكون إلا بإرادة جازمة وبقدرة تامة، والإرادة والقدرة قد خلقها الله جل وعلا، الله جل وعلا خلق ما به يكون الفعل ويخلق الفعل نفسه إذا توجه إليه العبد.
فحصل بهذا الإيمان التفصيلي الواجب بالقدر.
وبهذا البيان تتضح لك أركان الإيمان الستة؛ الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.(1/128)
قال الشيخ بعد ذلك رحمه الله (والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ)-يعني الذي يُمدح أصحابُه- (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) النبيين يعني الرسل، وهنا ذكر الخمسة هذه، آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين فهذه الآية دليل على خمسة من أركان الإيمان، وكثيرا ما تأتي هذه الخمسة مقترنة كقوله جل وعلا في آخر سورة البقرة ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ?[البقرة:285]، ذكر الأربعة ?لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ?[البقرة:285]، وكقوله ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا?[النساء:136]، وكقوله جل وعلا ?الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا(150)أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا?[النساء:150-151]، ونحو ذلك من الآيات، وقد جاءت أيضا في حديث جبريل المشهور.(1/129)
بقي القدر، القدر أدلته في القرآن أدلة عامة بذكر القدر، وأدلة مفصلة لكل مرتبة من مراتب القدر، فمن الأدلة العامة ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى وهو قوله تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) وجه الاستدلال: مجيء (كُلَّ شَيْءٍ) يعني ليس ثم مخلوق من مخلوقات الله إلا وقد خلق بقدر سابق من الله جل وعلا، لا يخرج شيء عن هذه الكلية (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) و(كُلَّ) من ألفاظ الظهور في العموم، ومنه قوله تعالى ?وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا?[الفرقان:2]، وكل دليل فيه ذكر مرتبة من المراتب التي ذكرت يصلح دليلا على القدر لأنه دليل لبعضه.
هذا ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى في بيان المرتبة الثانية من مراتب الدين ألا وهي مرتبة الإيمان.
?????
المرتبةُ الثالثةُ: الإحسانُ، ركنٌ واحدٌ، وهو أنْ تعبدَ اللهَ كأنَّك تَراهُ فإنْ لم تكنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ، والدليلُ قولُهُ تعالى ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128], وقولُهُ تعالى ?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[الشعراء:217-220], وقولُهُ تعالى ?وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ?[يونس:61] الآية.(1/130)
المرتبة الثالثة الإحسان قال(المرتبةُ الثالثةُ: الإحسانُ، ركنٌ واحدٌ، وهو أنْ تعبدَ اللهَ كأنَّك تَراهُ فإنْ لم تكنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ، والدليلُ قولُهُ تعالى ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128], وقوله تعالى ?وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[الشعراء:217-220], وقوله تعالى ?وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيه وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍِ?[يونس:61])
الإحسان الذي هو مرتبة من المراتب؛ إحسان العابد أثناء عبادته؛ وهو مقام المراقبة؛ مراقبة العابد لله جل وعلا؛ لربه جل وعلا أثناء عباداته، بل في أحواله كلها، لأنه إذا راقب ربه، بأنه قد علم أن الله جل وعلا مطلع عليه، كأنه يرى الله جل وعلا، فإن هذا يدعوه إلى إحسان العمل، وأن يجعل عمله أحسن ما يكون، وأن يجعل حاله في إقبال قلبه، وإنابته، وخضوعه، وخشوعه، ومراقبته لأحوال قلبه، وتصرفات نفسه، يجعل ذلك أكمل ما يكون لحسنه وبهائه، لأنه يعلم أن الله جل وعلا مطلع عليه.(1/131)
هذا المقام -مقام المراقبة- ركن واحد، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. أن تكون عابدا لله على النحو الذي أمر اللهُ جل وعلا به وأمر به رسولُه، وحالتك أثناء تلك العبادة التي تكون فيها مخلصا موافقا للسنة، حالتك أن تكون كأنك ترى الله جل وعلا، فإن لم تكن تراه، فلتعلم أن الله جل وعلا مطلع عليك، عالم بحالك، يرى ويبصر ما تعمل، يعلم ظاهر عملك وخفيه، يعلم خلجات صدرك، ويعلم تحركات أركانك وجوارحك. وبضعفه تضعف المراقبة لله جل وعلا، إذن فمقام الإحسان -مرتبة الإحسان- تعظم بعظم مراقبة الله جل وعلا، وتضعف بضعف مراقبة الله جل وعلا، فالعبد المؤمن أثناء عبادته إذا كان يعبد الله جل وعلا مخلصا على وَفق السنة، وحاله كأنه يرى الله عالم بأنه مطلع عليه يراه، هذه تجعله يحسن عمله، بل يجعل عمله وحاله أثناء العمل أحسن ما يكون.
(والدليل قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128]) وجه الاستدلال أن الله جل وعلا ذكر ها هنا معيته للذين اتقوا ولمن هم محسنون قال (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وهذه المعية تقتضي في هذا الموضع شيئين:
الأول: أنه جل وعلا مطلع عليهم، عالم بهم، محيط بأحوالهم، لا يفوته شيء من كلامهم، ولا من أحوالهم، ولا من تقلباتهم.
والثاني: أنه جل وعلا معهم ناصر لهم بتأييده، ونصره وتوفيقه, المعية ها هنا معية خاصة بالمؤمنين، ومعلوم أن المعية الخاصة للمؤمنين تُفسر بما تقتضيه، وهو أنها معية نصر وتأييد وتوفيق وإلهام ونحو ذلك، وهذا متضمن للمعية العامة، وهي معية الإحاطة والعلم ونحو ذلك.
إذن وجه الاستدلال:
أولا: أنه ذكر المعية.(1/132)
الثاني: أنه ذكر معيته للمحسنين فقال (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) والمحسنون ها هنا جمع المحسن، والمحسن اسم لفاعل الإحسان، ففاعل الإحسان اسمه محسن، والإحسان هو الذي نتكلم عليه؛ المرتبة الثالثة.
فإذن وجه الاستدلال من جهتين: أولا ذكر المعية، الثانية ذكر المحسنين.
(وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وجه الاستدلال من هذه الآية أنه ذكر رؤية الله جل وعلا لنبيه حال عبادة نبيه، وأنه يراه في جميع أحواله حين يقوم وتقلَّبَه في الساجدين من صحابته أثناء صلاته بهم عليه الصلاة والسلام؛ قال واصفا نفسه جل وعلا (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وهذا دليل الشق الثاني من ركن الإحسان وهو قوله (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، دليل الرؤية ها هنا قوله (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يعني في المصلين.
قال أيضا (وقوله تعالى ?وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ?[يونس:61]) وجه الاستدلال قوله تعالى هنا (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) وشهود الله جل وعلا بما يعمله العباد من معانيه رؤيته جل وعلا لهم وإبصاره جل وعلا بهم، رؤيته جل وعلا من معانيه كونه جل وعلا شهيدا، قال جل وعلا هنا (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) هذا الاستدلال ظاهر؛ لأن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تراه فإنه يراك.(1/133)
قال جل وعلا هنا (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي شأن تكون فيه (وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أنواع تلاوتك للقرآن، وأحوال ذلك في الصلاة، خارج الصلاة، وأنت على جنبك، وأنت قائم، أحوال ذلك (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) أحوال عملكم، كل ذلك منكم الله جل وعلا شهيد عليه، يرى أحوالكم فيه على تفصيلاتها، شاهد وشهيد عليكم، يرى أعمالكم، يسمع كلامكم، ويبصر أعمالكم جل وعلا، وهذا دليل أيضا ظاهر الاستدلال.
?????(1/134)
والدليلُ مِنَ السُّنَّة حديثُ جبريل المشهور عن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن جُلوسٌ عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذا طلع علينا رجلٌ شديدٌ بياضِ الثياب، شديد سوادِ الشَّعر، لا يُرى عليه أثَرُ السَّفر، ولا يعرفه مِنَّا أحد، حتّى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاسند رُكبَتَيْه إلى رُكبَتَيْه، ووضع كَفَّيْه على فخذيه، وقال: «يا مُحَمَّدُ؛ اَخْبِرْنِي عَنِ الإسلام» فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « الإِسْلاَمُ أن تَشْهَدَ أَن لا إلَهَ إلاَّ ا لله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ ا لله، وَتُقِيمَ الصَلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اِسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا»، قال: «صَدَقْتَ». فعجبنا له: يسأله ويُصَدِّقُه ! قال: «فأخبرني عن الإيمان ؟»، قال:«أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُِلهِ وَاليَوْمِ الآخِرْ،وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ»، قال: «صدقت». قال: «فأخبرني عن الإحسان؟» ، قال: «أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهْ فَإِِنَّهُ يَرَاكْ». قال: «فََأَخْبِرِْني عَنْ السَّاعة؟» قال: «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قال: «فََأَخْبِرِْني عَنْ أَمَارَاتِهَا ؟» قال: «أَنْ تَلِِدَِِ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاَةََ الْعُرَاةَ الْعَالَةََ رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ». ثُمّ انْطَلَق. فَلَبِثتُ مَلََََََََِيا، ثم ّ قال:« يَا عُمَرُ, أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قلت: الله ورسوله أعلَم، قال: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ, أَتَاكُمُ يُعَلِمُكُمْ ِدينَكُمْ ».(1/135)
ثم ذكر رحمه الله الدليل من السنة، وهو حديث جبريل المشهور عن عمر رضي الله عنه، وهو الذي شرحناه في الأربعين النووية، وهو ثاني الأحاديث النووية الأربعين، وبهذا يتم ذكر الأصل الثاني من أصول دين الإسلام، ألا وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة.
ملخص ذلك: ذكر الشيخ أن الأصل؛ الأصل الثاني معرفة دين الإسلام بالأدلة، عرّف الإسلام، وذكر أركانه، وذكر معنى الشهادتين، معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فسّر التوحيد وأدلة ذلك شهادة أن محمدا رسول الله، وبين معنى الشهادة بأن محمدا رسول الله، ثم بين أدلة أركان الإسلام الباقية، ثم ذكر المرتبة الثانية وهي الإيمان كما ذكرنا لكم هذا اليوم، ثم ذكر المرتبة الثالثة وهي الإحسان، ودلائل ذلك كله على نسق ووضوح يسهل معه الفهم ويسهل معه الإفهام.
ولهذا ينبغي لنا أن نحرص على هذه الرسالة؛ تعليما لها للعوام، وللنساء في البيوت، وللأولاد ونحو ذلك، على حسب مستوى من يخاطب في ذلك، وقد كان علماؤنا رحمهم الله تعالى يعتنون بثلاثة الأصول هذه تعليما وتعلما، بل كانوا يلزمون عددا من الناس بعد كل صلاة فجر أن يتعلموها، أن يحفظوا هذه الأصول ويتعلموها، وذلك هو الغاية في رغبة الخير، ومحبة الخير لعباد الله المؤمنين، إذْ أعظم ما تُسدي للمؤمنين من الخير، أن تُسدي لهم الخير الذي ينجيهم حين سؤال الملكين للعبد في قبره، لأنه إذا أجاب جوابا حسنا -جوابا صحيحا- عاش بعد ذلك سعيدا، وإن لم يكن جوابه مستقيما ولا صحيحا عاش بعد ذلك، والعياذ بالله على التوعد بالشقاء والعذاب.
أسأل الله جل وعلا أن يُنَوِّر بصائرنا، وأن يقينا الزلل والخطل، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????(1/136)
الأصلُ الثالثُ: معرفةُ نبيكُمْ محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وهو محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطلبِ بنِ هاشمٍ، وهاشمُ مِنْ قريشٍ، وقريشٍ مِنَ العربِ، والعربُ مِنْ ذرّيّةِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ، عليْهِ وعلى نبيّنا أفضلُ الصَّلاةِ والسّلامِ، وله مِنَ العُمْرِ: ثلاثٌ وسِتُّونَ سنةً، منها أربعون قبل النُّبُوَّةِ، وثلاثُ وعشرون نبيّا رسولا، نُبِّئَ بِـ (اقرأ) وأُرْسِلَ بـ(المدّثر)، وبلدُهُ مكّةَ، وبعثَهُ اللهُ بالنَّذَارَةِ عنِ الشِّركِ، ويدعُو إلى التَّوحيدِ، والدليلُ قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ(2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6)وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ?[المدثر:1-7] ومعنى (قُمْ فَأَنذِرْ) يُنْذِرُ عنِ الشِّركِ ويدعُو إلى التَّوحيدِ، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي: عَظِّمْهُ بالتَّوحيدِ، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي: طَهِّرْ أعمالَكَ عنِ الشِّركِ، (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرُّجْزُ: الأصنامُ، وهجرُها تَرْكُها وأهلَها، والبراءَة منها وأهلِها.
أخذَ على هذا عشْرَ سِنينَ يدعُو إلى التوحيدِ، وبعدَ العشْرِ عُرِجَ به إلى السماءِ وفُرِضَتْ عليه الصلواتُ الخمسُ، وصلَّى في مكّةَ ثلاثَ سنينَ، وبعدَها أُمِرَ بالهجرةِ إلى المدينةِ.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق الحمد وأعلاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أما بعد:(1/137)
فبقي من هذه الرسالة ما يحتاج شرحه إلى أكثر من مجلس، ولهذا رغبة في إتمامها قبل انقضاء هذه الدروس، فإننا غدا إن شاء الله تعالى سيكون هناك درس فيها فقط لمدة ساعة إلا ربع تقريبا، وكذلك إن لم نُتِمَّها غدا سيكون أيضا يوم الخميس بعد العصر مباشرة في قريب من تلك المدة، لأن إلمام مثل هذه الرسالة، وعدم إرجاء الإنهاء إلى وقت آخر من المهمات، ولهذا قد يكون الكلام فيه بعض الاختصار، ليس على نسق أوله للرغبة في إنهاء ما تبقى إن شاء الله تعالى ويَسَّرَ وأَعانَ.
قال رحمه الله تعالى (الأصل الثالث معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم) الأصل الأول: معرفة العبد ربه يعني معبوده، والأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، والأصل الثالث: معرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد ها هنا بالمعرفة العلم به على نحو ما أوضحت لكم في الكلام على الأصل الأول، فمعرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم معناه العلم به وبحاله؛ العلم بنسبه، وأنه من العرب، بل من أشرف العرب قبيلةً، وأنه كان في عمره له كذا وكذا، نبئ وأرسل، قام داعيا يدعو إلى التوحيد، وينذر عن الشرك، وما يتصل بذلك من المباحث.
فحقيقة هذا الأصل العلم ببعض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا العلم متعلق لتكون الشهادة بأن محمدا رسول الله على علم ومعرفة، فإنه إذا قال أشهد أن محمدا رسول الله، فإذا قيل له من محمد هذا؟ فلم يعرفه، كانت شهادته مدخولة، ولهذا فإن معرفة هذا الأصل يكون به الجواب بتوفيق الله على سؤال القبر الثالث؛ ألا وهو من نبيك؟ يشهد المسلم أن محمدا رسول الله، لكن هذه الشهادة يتبعها أن يكون عالما وعارفا بمحمد هذا من هو عليه الصلاة والسلام.
فقال رحمه الله تعالى موضحا هذا الأمر (وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم) تسميته عليه الصلاة والسلام بمحمد:(1/138)
· قال طائفة من أهل العلم: لم يُسمّ قبله عليه الصلاة والسلام في العرب أحد بهذا الاسم، وإنما كانت العرب تسمي أحمد، وتسمي حَمْد، وكل ذلك مشتق من الحمد، يعني رغبة في أن يكون هذا الولد من ذوي الحمد، يعني ممن يحمده الناس على خصاله.
· وقال آخرون: بل العرب تَسَمَّت بمحمد، لكن قليل، إمّا اثنان أو ثلاثة، وهذا الثاني صحيح، إن صح النقل عن أهل التاريخ بتسمية أولئك النفر بمحمد، ممن هم في عصره عليه الصلاة والسلام، أو قبل ذلك بقليل.
محمد معناه كثير الخصال التي يستحق عليها الحمد، فذو العرش محمود وهذا محمد؛ ذو العرش الله جل وعلا صفاته وأفعاله وأسمائه كلها يُحمد عليها؛ يُثنى عليه بها، وتسمية المولود بمحمد تسمية جد النبي عليه الصلاة والسلام له بمحمد، على رجاء أن يكون من أهل خصال الخير، التي يكثر من أجلها حمد الناس له عليها، وهذا كان وصار ظاهرا، فإنه عليه الصلاة والسلام خصاله كلها, وصفاته كلها يُحمد عليها, لأن خصاله عليه الصلاة والسلام خير, حتى ما كان منه قبل البعثة قبل النبوءة وقبل الرسالة. وقد كان كثير صفات الخير, فإذن التسمية بمحمد تسمية من قبيل التفاؤل, كانت العرب تعرف ذلك, كانوا يسمون خالدا تفاؤلا بأن يكون من أهل المكث الطويل في الدنيا؛ يعني من أهل الأعمار الطويلة, كانوا يسمون عاصيا تفاؤلا بأن يكون على أعدائهم من ذوي العصيان, كانوا يسمون صخرا ليكون شديدا كالصخر على أعدائهم... وهكذا, فكثير من العرب إذا سموا رأوا المعنى, وتسمية النبي عليه الصلاة والسلام لوحظ فيها ذلك, على رجاء أن يكون عليه الصلاة والسلام أن يكون كثير الصفات التي يحمد عليها, وكان ما أمّله جده في تسميته بمحمد, أمّل ما أمّله، فأعظم ذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام رسولا منزلا من عند الله جل وعلا.(1/139)
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي, وقريش أفضل العرب وصفوتهم, فأفضل قبائل العرب قريش, وهذا كما جاء في الحديث «إن الله اصطفى قريشا من كنانة», وأفضل قريش بنو هاشم, وأفضل بني هاشم محمد عليه الصلاة والسلام, فكما جاء في الحديث الصحيح قال بعد ذلك «فأنا خيار من خيار من خيار». قريش من العرب, والمراد بالعرب العرب المستعربة, لأن العرب قسمان عند أهل النسب:
عرب عاربة: وهؤلاء انقرضوا إلاّ قحطان في اليمن.
وعرب مستعرِبة: وهم الذين لم يكونوا أصلا من العرب, لكنهم دخلوا وصاروا عربا بانفتاق لسانهم عن العربية, وبتكلمهم بالعربية, وأكثر قبائل العرب من هذا الجنس؛ العرب المستعربة وهم العرب، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:«أول من فُتِق لسانُه بالعربية الفصحى إسماعيل عليه السلام» وذلك كما هو معلوم أن إسماعيل لما أتى به أبوه إبراهيم, وأتى بأمه وجعله في مكة, ناسب العرب فصار مُلْهَما من عند الله جل وعلا بالانفتاق؛ بانفتاق اللسان عن العربية الفصحى, وهذا كما جاء في الحديث على أن كثير من أهل النسب ينازعون في هذا الأخير.
قال (والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل) يعني أن قبائل العرب, القبائل المعروفة؛ قريش, وهذيل, بنو تميم, بنو دوس إلى آخره، أن هؤلاء جميعا من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام, النسَّابون يصلون بالنسب تارات بأنساب القبائل إلى إسماعيل, ولكن المعروف عند العرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقبله, أنهم يمكنهم وصل أنسابهم إلى عدنان, وأما بعد ذلك إلى إسماعيل فإنه لا يثبت ولا يمكن التصديق به.(1/140)
العرب كثيرون، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث من العرب كما قال جل وعلا ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ?[التوبة:128] (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يعني من جنسكم, من قبائلكم من جنسكم العربي، ?عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ?[التوبة:128] وقال جل وعلا ?لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ?[آل عمران:164]، ونحو ذلك من الآيات, فإذن النبي عليه الصلاة والسلام ابنٌ لعبد الله, وهو والده الأدنى, وابن لإسماعيل بن إبراهيم, وهو والده الأعلى، وهذان وهما عبد الله وإسماعيل هما الذبيحان, فقد جاء في حديثٍ ضعيف السند لكنه صحيح المعنى, أنه قال «أنا ابن الذبيحين» المراد بالذبيحين عبد الله لأنه كما تعلمون قصة أبيه لما استقصم فنذر أن يذبح إن خرج....([12]) فنذر أن يذبح ولده, ثم حصل قصة ما هو معروف فصار ذبيحا, يعني قد كاد أن يذبح، إسماعيل كذلك, فهو الذي جاء فيه قول الله جل وعلا ?يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى?[الصافات:102] وهذا هو الصحيح, فإن الابن الذي استسلم لأبيه, صابرا, محتسبا, مطيعا, لأبيه ومطيعا لربه جل وعلا, هو إسماعيل أبو العرب.(1/141)
واليهود تزعم أن الذبيح هو إسحاق, وهذا باطل, ذلك لأن الله جل وعلا قال في سورة الصافات هذه ?فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ(101)فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى?[الصافات:101-102]، فوصف هذا الابن بأنه حليم, وهذا الوصف بالحلم في القرآن لإسماعيل عليه السلام, وأما إسحاق فإنه يوصف بأنه عليم؛ قال (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) هذا من صفة إسماعيل, ولهذا في هذه الآيات بعدها قال ?وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ?[الصافات:113] فبشّر إسحاق بعد ذلك, فالصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم هو ابن الذبيح عبد الله والده الأدنى، وهو ابن الذبيح إسماعيل والده الأعلى, وأما القول بأن الذبيح إسحاق, فإن هذا باطل, وإنما دسه اليهود في المسلمين, حتى كثُر في كتب التفسير, حتى يأخذوا هذا الفخر وهو أن إسحاق عليه السلام هو الذي صبر, واحتسب واستسلم وابتلي بهذا البلاء العظيم.
قال (والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام) الخليل هو إبراهيم كما قال جل وعلا ?وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا?[النساء:125]، ووُصف بالخُلَّة إبراهيم ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فإبراهيم هو خليل الله, وموسى كليم الله, وأمّا محمد عليه الصلاة والسلام نبيُّنا فإنه اجتمع فيه الوصفان اللذان خُصَّ بهما إبراهيم وموسى, فهو خليل الله, كما أن إبراهيم خليل الله, وهو كليم الله, كما أن موسى كليم الله, كلّمه الله جل وعلا ليلة المعراج.(1/142)
قال هنا (وله من العمر ثلاث وستون سنة) يعني من مبدأ ميلاده إلى وفاته عليه الصلاة والسلام عمره ثلاث وستون سنة, ولد عليه الصلاة والسلام عام الفيل, العام المعروف, وعاش أربعين سنة, ثم بعد ذلك نُبئ وبعدها أُرسل, ولما مضى عليه بعد ذلك عشر سنين عرج به كما ذكر, وبعد ذلك بثلاث سنين ترك مكة إلى المدينة مهاجرا, فصار عمره إذن حين الهجرة ثلاثا وخمسين سنة, ومكث في المدينة عشرة أعوام وأشهر, وصار عمره ثلاثا وستين سنة عليه الصلاة والسلام، فصَّل ذلك فقال (منها أربعون قبل النبوة) النبوّة تسبق الرسالة, (أربعون قبل النبوة, وثلاث وعشرون نبيا رسولا) قال بعض أهل العلم: أنه عليه الصلاة والسلام مكث ثلاث سنين نبيا, ثم عشرون سنة نبيا رسولا, لأنه كما قال الشيخ هنا (نبئ بـ(قرأ) وأرسل بـ (مدثر)) قال (أربعون قبل النبوة) ثم قال(نبئ) وهذان لفظان مختلفان الأول النبوة, والثاني قال نُبئ، نبئ من النبوءة بالهمز، ونُبِّيَ من النبوة, وفرق بين النبوة والنبوءة, وفرق بين النبي والنبيء لغة, أما من حيث الشرع فالنبي والنبيء واحد, وهما قراءتان مشهورتان سبعيتان متواترتان بالقرآن كله ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ?[التحريم:01]، القراءة الأخرى ?يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ?[التحريم:01]، والنبيين, والقراءة الأخرى والنبيئين ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ?[الأحزاب:01]، ?يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ اتَّقِ اللَّهَ?[الأحزاب:01]، قراءتان مشهورتان, أشهر من يقرأ بالنبي عاصم وأشهر من يقرأ بالنبيء نافع، النبوة من الارتفاع, كأنه صار في نَبْوَة من المكان, يعني في مرتفع منه, وسبب هذا الارتفاع الإنباء, والنبوءة من الإنباء أنبأه فصار نبيئا, يعني منبئا قال (نبئ بإقرأ) هذا من الإنباء، (نُبِّيَ بإقرأ ) لا يصلح؛ لأن نبي من الارتفاع, ليس من الإنباء والإخبار والإيحاء, نبي من(1/143)
الارتفاع فيقال: نبوة فإذا أردت الفعل تقول نبئ، أنبئ لأنه من الإنباء فإذن نقول يأيها النبي، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, لأنه صار مرتفعا عن غيره من أهل الأرض بما أوحى الله جل وعلا إليه, أو النبوءة وهي التي هنا قال (نبئ ) بمعنى أوحي إليه منبئا به، نبئ بإقرأ، قبل ذلك قال (ثلاث وعشرون نبيا رسولا)يعني يريد بعضا منها نبيا, وبعضا منها نبيا رسولا.
مرّ معنا الفرق بين النبي والرسول, وأن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه, أو أمر بتبليغه لقوم موافقين, معلوم أنه إذا قلنا لم يؤمر بتبليغه, أن هذا على سبيل الوجوب, لكن قد يبلغ ولا يكون التبليغ واجبا عليه, فالنبي هو من أوحي إليه بشرع, يعني بدين, وأمر بتبليغه أو لم يؤمر بتبليغه. إذا قلنا لم يؤمر بتبليغه يعني وجوبا, وقد يبلغ ذلك استحبابا, فالنبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يرسل بالمدثر بلغ ما أوحى الله جل وعلا إليه, بلغه خاصته كأبي بكر, وكخديجة, ونحو ذلك. وهذا التبليغ على التعريف ليس على سبيل الوجوب, بل هذا من جهة الاستحباب, لأن هذه فترة النبوة, فإذا كان تعريف النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه, يعني وجوبا, أو أمر بتبليغه لقوم موافقين فإنه يكون تبليغه فيما لو بلغ يكون على وجه الاستحباب, ليس على وجه المطالبة من الله جل وعلا له بذلك, وقد يطالَب؛ يؤمر بتبليغه، فإذا أمر بتبليغه لقوم يخالفونه, لقوم مشركين, فإنه يكون ذلك الأمر إرسالا, ولهذا قال (نُبِّئَ بِـ(اقرأ)) قال جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم ?اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ?[العلق:01] كما هو معروف في حديث عائشة المشهور أنها قالت -وهذا في أول الصحيح-: أول ما بُعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حُبِّبَ إليه الخلاء فكان يتحنث؛ أي يتعبد الليالي ذوات(1/144)
العدد. وساقت خبر إتيانه بالوحي, ورجوعه إلى خديجة, وما حصل في ذلك. فنبئ باقرأ جاءه الوحي, فقال«ما أنا بقارئ»، قال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» ظنّ عليه الصلاة والسلام أن جبريل يريد أن يقرأ شيئا مكتوبا, فقال: «ما أنا بقارئ»، يعني لست من أهل القراءة, خلافا لما قد يظن, أو ما حمل عليه بعضهم أن قوله «ما أنا بقارئ»، لست بقارئ يعني لن أقرأ, ولم يرفض هذا الطلب عليه الصلاة والسلام, لكن قال «ما أنا بقارئ»، يعني لست بقارئ, لست من أهل القراءة, لأنه لا يقرأ ولا يكتب عليه الصلاة والسلام, فقال له مرة أخرى: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ»، ثم جاءه في الأخيرة ككل مرة غطّه, ثم قال ?اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ?[العلق:1-4]، فنزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من غار حراء الذي كان يتحنث فيه يرجف بها فؤادُه, حتى أتى خديجة, فقصّ عليها الخبر، فقالت له: كلا والله لا يخزيك الله أبدا, إنك لتحمل الكلّ, وتعين على نوائب الدهر, وتصل الرحم. أو كما قالت، ثم قالت لورقة بن نوفل ما قاله لها عليه الصلاة والسلام، وقص عليه -عليه الصلاة والسلام- الخبر, فقال: هذا والله هو الناموس الذي كان يأتي موسى. الناموس يعني ملك الوحي الذي كان يأتي موسى ليتني كنت فيها -يعني في مكة- حيا, إذ يخرجك قومُك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: لم يأتِ أحد بمثل ما جئت به إلا عُودي. فما لبث ورقة أن توفي وفتر الوحي. أو كما جاء في الحديث, حديث عائشة المعروف المخرج في الصحيحين, وهو في أوائل صحيح البخاري.(1/145)
(نبئ بـ(اقرأ)) فمكث فيها مدة, وهذه المدة فتر فيها الوحي, ثم بعد ذلك أرسل بالمدثر, أنزل الله جل وعلا عليه ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ?[المدثر:1-2]، فصار الواجب هنا الإنذار, والإنذار يكون كما سيأتي, يكون لقوم وقعوا في شيء ينذرون عنه، فصار هذا علامة على الرسالة، (قُمْ فَأَنذِرْ) أنذر من؟ جاء مبينا في الآية الأخرى حيث قال ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ?[الشعراء:214]، هذه كانت بداية الإرسال وبداية الإنذار عليه الصلاة والسلام.
(وأُرسِل بـ(المدثر))؛ أرسل يعني صار رسولا بنزول أول سورة المدثر عليه.
(وبلده مكة) هو من أهل مكة عليه الصلاة والسلام؛ فقد كان يقول في مكة «إنك لأحب بلاد الله إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت منك» بلده مكة، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها، وذكر لما هاجر إلى المدينة أو قبل ذلك -وَهْمٌ مني الآن- قال: «إني لأعرف حجرا بمكة ما لقيته إلا سلَّم علي» كانت أحجار مكة تحبه عليه الصلاة والسلام، وهذا الحجر بخصوصه أنطقه الله للسلام عليه، عليه الصلاة والسلام قال: «إني لأعرف حجرا بمكة ما مررت عليه إلا سلم علي» يعني بصريح السلام: السلام عليك يا رسول الله.
(وبلده مكة) وهذه البلد هي التي نبئ فيها، وهي التي أرسل فيها، وهي التي بها عشيرته وقومه وأهله وقرابته، وبعثه الله جل وعلا ينذر ويبشر ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ?[المدثر:1-2]، أوضح الشيخ هنا قال (بعثه الله بالنذارة عن الشرك يدعو إلى التوحيد)، (قُمْ فَأَنذِرْ) ينذر عن أي شيء؟ ينذر عن الشرك ، يخوّف، الإنذار إعلامٌ فيه تخويف عن شيء يمكن تداركه، لكن وقت تداركه يطول بخلاف الإشعار، هناك عندنا ثلاثة ألفاظ: إعلام، إنذار، إشعار:
الإعلام: مجرد إيصال العلم؛ خبر.
الإنذار: إعلام فيه تخويف، وهناك فترة يمكن تصحيحها.
الإشعار: إعلام فيه تخويف، لكن مدة استدراكه قليلة كما قال الشاعر:(1/146)
أنذرتَ عمرا وهو في مَهَل
قبل الصباح فقد عصى عمرُو
فدل على أن الإنذار يكون بعده مدة يمكن الاستدراك بها، (ينذر عن الشرك) أيضا يخوف من النار، يخوف من عذاب الله، يخوف من سخط الله كما قال جل وعلا ?فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ?[فصلت:13] فإذا الإنذار يكون عن الشرك، وعما يكون عقابا لأهل الشرك من أنواع العقوبات، في الدنيا بالهلاك والاستئصال، وفي الآخرة بالعذاب والنكال، (بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد) الإنذار والنهي عن الشرك مقدم هنا، قدمه على الدعوة إلى التوحيد، وهذا التقديم هو المفهوم من كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وهو المفهوم من قوله تعالى (قُمْ فَأَنذِرْ(2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)، (قُمْ فَأَنذِرْ) يعني أنذر عن الشرك، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)كما سيأتي معناه، أن معناه عظمه بالتوحيد، فإذن قال (بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد) هو معنى لا إله إلا الله، ذكر العلماء أن ثمَّ مناسبة ها هنا وهي أن الإنذار عن الشرك هذا فيه تخلية، والدعوة إلى التوحيد تحلية، ومن القواعد المقررة أن التَّخْلِيَة تسبق التَّحْلِيَة، لهذا النهي عن الشرك والإنذار عن الشرك إخراج لكل ما يتعلق به القلب؛ لأنه قال لا يتعلق القلب بأي أحد من هذه الآلهة، ثم إذا خلا القلب من التعلق بأحد، أمره بأن يتعلق بالله جل وعلا وحده دون ما سواه.(1/147)
قال هنا (والدليل قوله تعالى يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) الْمُدَّثِّرُ هو المتغطي؛ المتدثر بأغطيته وأكسيته وملابسه أو نحو ذلك. قال(قُمْ فَأَنذِرْ) هذا للوجوب، قال الشيخ رحمه الله (ومعنى (قُمْ فَأَنذِرْ) ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) عظمه بالتوحيد) يعني أن قوله تعالى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) معناه خُصَّ ربك بالتكبير, لأنه قدم المفعول؛ أصل الكلام: كبِّر ربك. فقدَّم المفعول على العامل فيه وهو الفعل, فدل على الاختصاص, فقال (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) قال الشيخ معنى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّمه بالتوحيد, وهذه لاشك من الشيخ رحمه الله تعالى من العلم الغزير العظيم الذي يحتاج إلى إيضاح وبسط, ذلك أن التكبير جاء في القرآن وله خمسة موارد:
1- فتكبير الله جل وعلا يكون في ربوبيته, يعني اعتقاد أنه أكبر من كل شيء يُرى أو يُتوهم أو يُتصور أنه موجود, هو أكبر من كل شيء في ربوبيته, في ملكه, في تصريفه لأمره, في خلقه، في رزقه, في إحيائه, في إماتته, إلى آخر معاني الربوبية هذا الأول، قال جل وعلا ?وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا?[الإسراء:111]، الله أكبر يشمل هذا المعنى, ويشمل غيره من معاني التكبير التي ستأتي، إذن قوله هنا (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) يدخل فيه أولا اعتقاد أن الله جل وعلا أكبر من كل شيء في مقتضيات ربوبيته.
2- الثاني أن الله جل وعلا أكبر من كل شيء في استحقاقه الإلهية والعبادة وحده دونما سواه, فإن العبادة صُرفت لغير الله، وهو جل وعلا أكبر وأعظم وأجل من كلِّ هذه الآلهة التي صرفت لها أنواع من العبادة، فالتكبير يرجع إلى الربوبية وهو الأول, وهذا التكبير يرجع إلى استحقاقه إلى الإلهية.(1/148)
3- وتكبير وهو الثالث اعتقاد -كما قال (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)- أنَّ ربك أكبر من كل شيء في أسمائه وصفاته، فإنه في أسمائه أكبر من كل ذوي الأسماء، الأشياء لها أسماء، لكن أسماء الله جل وعلا أكبر من ذلك، أكبر يرجع الكبر هنا لأي شيء؟ لما فيها من الحسن، والبهاء، والعظمة، والجلال، والجمال ونحو ذلك، وكذلك في الصفات، فصفاته عُلا، كما قال جل وعلا ?وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ?[الروم:27]، وقال جل وعلا ?وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى?[النحل:60] يعني له الاسم الأعلى، وله النعت الأعلى، وقال جل وعلا ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ?[الإخلاص:4]، وقال جل وعلا ?هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا?[مريم:65]، ونحو ذلك، فهو جل وعلا أكبر من كل شيء في أسمائه وصفاته.
4- كذلك قوله (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) يعني في قضائه وقدره الكوني، فالله جل وعلا في قضائه وقدره الكوني أكبر؛ يعني أن قضاءه وقدره له فيه الحكمة البالغة، وأما ما يقضيه ويقدّره العباد لأنفسهم، يقدر الأمر بنفسه، ويفعل الأمر لنفسه، فإن هذا يناسب نقص العبد، والله جل وعلا في قضائه وقدره بما يحدثه في كونه فهو أكبر.
5- الأخير تكبير الله جل وعلا في شرعه وأمره.
قال (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) تدخل فيها هذه الخمسة، الأخير يعني اعتقاد الله جل وعلا أكبر فيما أمر به ونهى، وفيما أنزله من هذا القرآن العظيم، أكبر وأعظم من كل ما يشرعه العباد، أو يحكم به العباد، أو يأمر العباد به و ينهون عنه، ولهذا صارت هذه الكلمة (الله أكبر) من شعارات المسلمين العظيمة، يدخلون في الصلاة بها، ويرددونها في الصلاة، وهي من الأوامر الأولى التي جاءت للنبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى له (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ).(1/149)
إذا لحظت هذه المعاني الخمسة، وكل واحدة منها لها أدلة كثيرة من القرآن، تدبّر وأنتَ تقرأ القرآنَ، الآيات التي فيها ذكر تكبير الله تجد أن بعضها فيه ذكر الربوبية، وبعض الآيات فيه ذكر الألوهية، وبعضها فيه ذكر الأسماء والصفات، وبعضها فيه ذكر قضاء الله الكوني؛ أفعال الله جل وعلا، وبعضها فيه شرع الله جل وعلا، إذا اجتمعت هذه الخمس رأيت أن هذا التفسير من أحسن وأعظم ما يكون.
قال ((وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) عظِّمْه بالتوحيد) إذا اجتمعت هذه الخمس في الفهم، قال ((وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) عظِّمْه بالتوحيد) لأن معاني التكبير هي معاني التعظيم، وتلك المتعلقات هي التوحيد بأنواعه، فصار تفسير الشيخ هنا بقوله ((وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي: عظِّمه بالتوحيد) وهو من التفاسير المنقولة عن السلف، أنه صار ها هنا اختيارا مناسبا ملائما واضح الدلالة.(1/150)
قال بعدها ((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهر أعمالك عن الشرك)، فسّر الثياب بالعمل، الثوب أصله في اللغة ما يثوب إلى صاحبه، يعني ما يرجع إلى صاحبه، سمي اللباس -سواء كان قميصا أو إزارا أو كان سراويل، أو نحو ذلك، أو كانت عمامة-، يسمى ثوبا، لأنه يرجع إلى صاحبه في التباسه به حال لبسه، هذا أصل الثوب، ولهذا يقال للعمل أيضا ثوب، وتجمع على ثياب، باعتبار أنه يرجع إلى صاحبه، لهذا فسر قوله تعالى هنا ((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهر أعمالك) فسر الثياب بالأعمال، لأنها راجعة إلى صاحبها باعتبار أصلها اللغوي، أو يقال إن العمل مشبه بالثوب لملازمته لصاحبه، فالثوب يلازم لابسه، والعمل كذلك يلازم عامله، كما قال جل وعلا ?وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ?[الإسراء:13]، الطائر هو ما يطير منه من العمل من خير أو شر، أُلزم به، صار ملازما له كملازمة ثوبه له، هنا اختار الشيخ أحد التفسيرين المنقولين عن السلف، وهو أن معنى ((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهر أعمالك عن الشرك)، وفُسِّرت بِـ:طهّر ثيابك من النجاسات، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) هذا التفسير الأعم أنسب ها هنا، لأنه يناسب ما قبله وما بعده، فإن ما قبله فيه الإنذار وتعظيم الله بالتوحيد، وما بعده فيه تركٌ للرُّجْزِ وهجر للأصنام والبراءة منها، بقي قوله (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) فاتساق الكلام وكونه جميعا جاء بمعنى مترابط يقضي بأن يختار تفسير الثياب بالأعمال، لأن ما قبله (قُمْ فَأَنذِرْ) لينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) يعني وعظمه بالتوحيد، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)، ثم قال (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) التي هي الأصنام والأوثان، أتركها وتبرأ منها، الجميعُ في البراءة من الشرك، والبعد عن الشرك، والنهي عنه، والدعوة والالتزام بالتوحيد، بقي قوله (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) لها تفسيران؛ تفسير للثياب بالثياب المعروفة؛ ثياب تطهرها من النجاسة،(1/151)
وثيابك التي هي الأعمال، طهرها من الشرك، فصار الأنسب للثياب أن يفسر (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) بطهر أعمالك من الشرك، وهذا مما يعتني به المحققون من المفسرين، أنهم يختارون في التفسيرِ التفسيرَ الذي يناسب السياق، يناسب ما بعده وما قبله، واللغة لها محامل كثيرة، ولهذا اختلف السلف في تفسيراتهم.
قال ((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرجز الأصنام وهجرها تركها وأهلها والبراءة منها وأهلِها) يعني ترك الأصنام، وترك أهلها، والبراءة من الأصنام، والبراءة من أهلها، قال (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرّجز: اسم عام لما يعبد من دون الله، قد يكون صنما، وقد يكون وثنا، قال ها هنا (الرجز الأصنام) يعني قوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي الأصنام أُتْرك، ويلزم من ذلك أن يترك أهلها ويتبرأ منها ومن أهلها، (الرجز الأصنام) الأصنام: جمع صنم، والصنم اسم لما عُبِد من دون الله، مما كان على هيئة صورة، عند كثير من العلماء، يعني الصنم يكون مصور على هيئة صورة؛ صورة كوكب، أو صورة جني، أو صورة شجرة، أو صورة آدمي، أو صورة نبي، أو صورة صالح، أو طالح، أو صورة حيوان، أن يكون على هيئة صورة، فإذا كان هناك شيء مصنوع على هيئة صورة -إما صورة كوكب, أو صورة مما هو على الأرض مما يعبد من دون الله- صار صنما، فإن كان ما يعبد من دون الله ليس على هيئة صورة صار اسمه الوثن لهذا قال عليه الصلاة والسلام «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» لا يصلح صنما يعبد, لأن القبر لا يكون على هيئة مصورة، قال (وثنا يعبد) لأن الوثن اسم لما يعبد من دون الله على هيئة صورة، أو على غير هيئة صورة، الوثن: اسم لما يعبد من دون الله إذا لم يكن مصورا على هيئة صورة. قال بعض أهل العلم الوثن قد يكون أيضا على هيئة صورة، فيكون الصنم ما له صورة، والوثن: يشمل ما كان له صورة وما لم يكن له صورة. وهذا هو القول الثاني، فيكون كل صنم وثنا، وليس كل وثن صنما، وأخذوا هذا من قوله تعالى في سورة(1/152)
العنكبوت، قال جل وعلا مخبرا عن قول إبراهيم لقومه ?إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا?[العنكبوت:17]، فحصر فقال (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا) قد بين الله جل وعلا في آيات أخر أن إبراهيم سألهم عن عبادتهم قال ?مَا تَعْبُدُونَ?[الشعراء:70]، قالوا ?قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ?[الشعراء:71]، صار الوثن يشمل الصنم وغير الصنم، فهذا القول أدق وهو الذي أختاره أن الوثن يشمل الصنم وغير الصنم، يعني ما له صورة مما عبد من دون الله وما ليس له صورة، وأما الصنم فهو في الغالب ما كان على هيئة صورة، قال (والرجز الأصنام) ومعلوم أنه إذا نهاهم عن عبادة الأصنام، فإنه بذلك ينهاهم عن عبادة الأوثان، لأن العلة فيهما واحدة، وهي عبادة غير الله جل وعلا، وهجرها تركها وأهلها، والبراءة منها وأهلها.(1/153)
قال (أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد ) يعني بذلك أنه مكث عليه الصلاة والسلام عشر سنين يدعو قومه، ويدعو عشيرته الأقربين وجوبا لقوله تعالى ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ?[الشعراء:214]، يدعو إلى التوحيد قبل أن تنزل الفرائض، لم تنزل فريضة الصلاة على هذا النحو، ولا فريضة الزكاة على هذا النحو، ولا سائر التشريعات على هذا النحو، لم تحرم الخمر، ولم يحرم الزنا، ولم يحرم الربا في تلك المدة، وهذا معنى قوله (أخذ على هذا) يعني على الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، (أخذ على هذا) على الإنذار عن الشرك، والدعوة إلى التوحيد، أخذ عشر سنين يدعو إلى التوحيد، ما كان يدعو فيها إلى الأعمال، لا إلى صلاة ولا إلى زكاة مع أنه كان له صلاة في ذلك، قال كثير من أهل العلم كانت الصلاة المفروضة في العشر سنين تلك صلاتين في اليوم والليلة، أحدها في إقبال النهار، والأخرى في إقبال الليل، يعني أحدها الفجر، والثاني المغرب، وحملوا عليه قوله تعالى في سورة طه ?وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا?[طه:130]، كذلك قوله في سورة ق ?وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ?[ق:39]، ونحو ذلك من الآيات، أما الصلوات الخمس فلم تُفرض إلا بعد ذلك.(1/154)
قال (وبعد العشر عُرج به إلى السماء)كانت الصلاة ركعتين، أول النهار وآخره، على قول كثير من العلماء، قال (وبعد العشر عرج به إلى السماء) المعراج معناه الصعود، (عُرج به إلى السماء) يعني صُعد به إلى السماء، ومن أسماء السّلم والمِرقاة التي يُرتقى عليها المعراج، فمعنى المعراج السلم الذي يُصعد عليه، (عُرج به) أي صُعد به، ليلة المعراج يعني الليلة التي صُعد بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها على المعراج يعني على السلم، تسمية الليلة بوسيلة الصعود وهو المعراج، عليه الصلاة والسلام أسري به تلك الليلة من مكة إلى بيت المقدس، وبعد ذلك (عُرج به)، الدابة رُبطت عند بيت المقدس، ثم أخذه جبريل وعرج به بالمعراج -يعني بالسلم الخاص الذي يصعد عليه- إلى السماء، (إلى السماء) المقصود به جنس السماء، يعني السماوات- حتى ارتفع في مستوى يسمع فيه [صريف الأقلام]([13]) عليه الصلاة والسلام، حتى إنه قرُب من ربه جل وعلا، وكلمه ربه جل وعلا بدون واسطة، رأى عليه الصلاة والسلام تلك الليلة نور الله جل وعلا، ورأى الحجاب الذي احتجب الله جل وعلا به عن خلقه فلا يرونه، كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل هل رأيت ربك؟ -يعني ليلة المعراج- فقال: «رأيت نورا». وفي رواية أخرى قال: «نور أنّا أراه». يعني ثَم نور فكيف أراه؟ وهذا من الفضل العظيم له عليه الصلاة والسلام؛ أنه ارتفع من الأرض إلى ما بعد السماء السابعة، ورأى الجنة، ورأى النار، في ليلة، ورجع، والسماء الواحدة لا يقطعها القاطع إلا بمسيرة خمسمائة سنة، وما بين السماء والسماء لا يقطعها القاطع إلا بمسيرة خمسمائة سنة، وهكذا حتى تصل إلى السماء السابعة، ثم بعد ذلك الماء، وبعد ذلك الكرسي إلى آخره([14])، وهو عليه الصلاة والسلام لا شك أن المعراج له عليه الصلاة والسلام مما يدل على عظم قدره عند ربه جل وعلا، لهذا قال تعالى في الإسراء وهو من العجب بما كان(1/155)
?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا?[الإسراء:1]، يعني في بعض الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم رجع، هذا من مكة إلى بيت المقدس محل عجب عند العرب ولا شك أنه محل عجب، حيث ما كان عندهم من المركوبات، فكيف من بيت المقدس إلى ما بعد السماء السابعة، ثم يرجع إلى بيت المقدس، ثم يرجع من بيت المقدس إلى مكة، وفراشه لم يبرد بعد، هذا لاشك أنه مما أكرم الله جل وعلا به نبيه عليه الصلاة والسلام.
قال (فرضت عليه الصلوات الخمس) يعني على هذا النحو، بعد أن فرضت عليه خمس صلوات وأصبح صباحه في مكة، نزل عليه جبريل يعلمه أوقات الصلوات وأنواعها.
قال (فصلى في مكة ثلاث سنين وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة)يعني صلى السنة العاشرة، الحادية عشر، الثانية عشر، من البعثة، ثم بعد ذلك أمر بالهجرة إلى المدينة.
وعلى هذا نقف أسأل الله أن ينفعني وإياكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????(1/156)
والهجرةُ: الانتقالُ مِنْ بلدِ الشِّركِ إلى بلدِ الإسلامِ، والهجرةُ فَرِيضةٌ على هذه الأمّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّركِ إلى بلدِ الإسلامِ، وهي باقيةٌ إلى أنْ تقومَ الساعةُ، والدليلُ قوله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98)فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا?[النساء:97-99]، وقوله تعالى ?يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ?[العنكبوت:56]، قالَ البَغَوِيُّ رحمهُ اللهُ: سببُ نزولِ هذه الآيةِ في المسلمين الذين بمكَّةَ لم يهاجِرُوا؛ ناداهُم اللهُ باسمِ الإيمانِ.
والدليلُ على الهجرةِ من السُّنَّةِ قولُهُ صلى الله عليه وسلم «لا تَنْقَطِعُ الهجرَةُ حتَّى تَنْقَطعَ التَّوبةُ ولا تنقطعُ التّوبةُ حتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا، ودعاء مسموعا، وقلبا خاشعا، أما بعد:(1/157)
قال الإمام رحمه الله تعالى (فصلى في مكة ثلاث سنين وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة) صلى في مكة عليه الصلاة والسلام ثلاث سنين، يعني بعد أن فرضت عليه الصلاة، صلى الصلوات الخمس على هذا النحو الذي نصليه، قد حُدّت صفاتها، أركانها، واجباتها، وحُدَّت أوقات الصلوات كليا، جاء إلى النبي جبريل وبين له أوقات الصلوات، بعد ثلاث سنين من فرض الصلاة هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، بعد أن أُمر بذلك وبعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ابتدأ التاريخ الهجري كما هو معروف, لما أتى إلى هذا الموضع، فسّر الهجرة فقال (والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) هذا تعريفها الاصطلاحي, والهجرة في اللغة الترك, وفي الشرع ترك ما لا يحبه الله ويرضاه إلى ما يحبه ويرضاه, ويدخل في هذا المعنى الشرعي هجر الشرك, يدخل فيه ترك محبة غير الله ورسوله, يدخل فيه ترك بلد الكفر, لأنّ المُقام فيها لا يرضاه الله جل وعلا ولا يحبه, أما في الاصطلاح قال (الهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام)؛ الانتقال يعني ترك بلد الشرك والذهاب إلى بلد الإسلام, وسبب الهجرة يعني سبب إيجاب الهجرة, أو سبب مشروعية الهجرة أن المؤمن يجب عليه أن يُظهر دينَه، معتزا بذلك, مبينا للناس، مخبرا أنه يشهد شهادة الحق؛ لأن الشهادة لله بالتوحيد ولنبيه بالرسالة فيها إخبار الغير, وهذا الإخبار يكون بالقول والعمل, وإظهار الدين به يكون إخبار الغير عن مضمون الشهادة ومعنى الشهادة, فلهذا كانت الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام واجبة إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه, لأن إظهار الدين واجب في الأرض, وواجب على المسلم أن يظهر دينه, وأن لا يستخفي بدينه, فإذا كان إظهاره لدينه غير ممكن في دار وجب عليه أن يتركها, يعني وجب عليه أن يهاجر, قال (الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) بلد الشرك هي كل بلد يظهر فيها الشرك ويكون غالبا؛ إذا ظهر الشرك في بلد(1/158)
وصار غالبا كثيرا أكثر من غيره, صارت تسمى بلد شرك, سواء كان هذا الشرك في الربوبية, أو كان في الإلهية, أو كان في مقتضيات الإلهية من الطاعة والتحكيم ونحوها. بلد الشرك هي البلد التي يظهر فيه الشرك ويكون غالبا.
هذا معنى ما قرره الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله حينما سئل عن دار الكفر ما هي؟ قال: دار الكفر هي الدار التي يظهر فيها الكفر ويكون غالبا.
إذن إذا ظهر الشرك في بلدة وصار ظهوره غالبا, معنى ذلك أن يكون منتشرا ظاهرا بينا غالبا الخير, فإن هذه الدار تسمى بلد شرك, هذا باعتبار ما وقع وهو الشرك, أما باعتبار أهل الدار فهذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم أن يُنظر في تسمية الدار بدار إسلام ودار شرك إلى أهلها.
وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن بلد تظهر فيها أحكام الكفر, وتظهر فيها أحكام الإسلام, فقال هذه الدار لا يحكم عليها دار كفر, ولا أنها دار إسلام, بل يعامل المسلم فيها بحسبه، ويعامل فيها الكافر بحسبه.(1/159)
وقال بعض العلماء الدار إذا ظهر فيها الأذان وسُمع وقت من أوقات الصلوات فإنها دار إسلام, لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يغزو قوما أن يصبحهم, قال لمن معه: «انتظروا» فإن سمع أذانا كفّ، وإن لم يسمع أذانا قاتل، وهذا فيه نظر, لأن الحديث على أصله، وهو أن العرب حينما يُعلون الأذان، معنى ذلك أنهم يقرون ويشهدون شهادة الحق لأنهم يعلمون معنى ذلك، وهم يؤدون حقوق التوحيد الذي اشتمل عليه الأذان، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ورفعوا الأذان بالصلاة، معنى ذلك أنهم انسلخوا من الشرك وتبرؤوا منه، وأقاموا الصلاة، وقد قال جل وعلا ?فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ?[التوبة:11]، (فَإِنْ تَابُوا) من الشرك، (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)، ذلك لأن العرب كانوا يعلمون معنى التوحيد، فإذا دخلوا في الإسلام وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، دل ذلك أنهم يعملون بمقتضى ذلك، أما في هذه الأزمنة المتأخرة فإن كثيرين من المسلمين، يقولون لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا يعلمون معناها، ولا يعملون بمقتضاها، بل تجد الشرك فاشيا فيهم، ولهذا نقول إن هذا القيد أو هذا التعريف وهو أن دار الإسلام هي الدار التي يظهر فيها الأذان بالصلوات، أنه في هذه الأزمنة المتأخرة أنه لا يصح أن يكون قيدا، والدليل على أصله وهو أن العرب كانوا ينسلخون من الشرك، ويتبرؤون منه ومن أهله، ويقبلون على التوحيد، ويعملون بمقتضى الشهادتين، بخلاف أهل هذه الأزمان المتأخرة.(1/160)
والأظهر هو الأول في تسمية الدار، ولا يلزم من كون دارٍ ما دار شرك أو دار إسلام، أن يكون هذا حكم على الأفراد الذين في داخل الدار، بل قلنا إن الحكم عليها بأنها دار كفر، أو دار شرك هذا في الأغلب بظهور الشرك والكفر، ومن فيها يعامل كل بحسبه، خاصة في هذا الزمن، لأن ظهور الكفر، وظهور الشرك بكثير من الديار، ليس من واقع اختيار أهل تلك الديار، بل هو ربما كان عن طريق تسلط، إما الطرق الصوفية مثلا، أو عن تسلط الحكومات، أو نحو ذلك، كما هو مشاهد معروف، لهذا نقول إن اسم الدار على نحو ما بينت وأما أهلها يختلف الحال. قال (والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) الهجرة من حيثُ مكانُها تنقسم إلى هجرة عامة وإلى هجرة خاصة.
الهجرة العامة: هي التي عرّفها الشيخ هنا ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، بلد الشرك أيَّ بلد إلى أن تطلع الشمس من مغربها، أيَّ بلد ظهر فيها الشرك، وظهر فيها أحكام الشرك، وكان ذلك غالبا، فإن الهجرة منها تسمى هجرة، وهذه الهجرة عامة، من حيث المكان يمكن أن تكون متعلقة بأي بلد.
أما الهجرة الخاصة: فهي الهجرة من مكة إلى المدينة، ومكة لما تركها النبي عليه الصلاة والسلام تركها وهي دار شرك، وذهب إلى المدينة، لأنه فشى فيها الإسلام فصار كل بيت من بيوت المدينة دخل فيه الإسلام، فصارت دار إسلام، فانتقل من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، هاجر هجرة خاصة، وهذه الهجرة الخاصة هي التي جاء فيها قوله عليه الصلاة والسلام «لا هجرة بعد الفتح بل جهاد ونية» كما ثبت في الصحيح, فقوله (لا هجرة بعد الفتح) يعني لا هجرة من مكة، الهجرة الخاصة هذه من مكة إلى المدينة.
أما الهجرة العامة -الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام- فهي باقية إلى طلوع الشمس من مغربها؛ إلى قيام الساعة، إذا وجد بلد شرك، ووجد بلد إسلام، توجب الهجرة، هذا من حيث المكان.(1/161)
ومن حيث الحكم، فإن الهجرة تارة تكون واجبة، وتارة تكون مستحبة؛ تكون الهجرة واجبة، يعني من بلد الشرك إلى بلد الإسلام: تكون واجبة: إذا لم يمكن للمسلم المقيم بدار الشرك أن يظهر دينه، إذا ما استطاع أن يظهر التوحيد، ويظهر مقتضيات دينه، والصلاة وإتباع السنة، كل بلد بحسبه؛ بحسب ما فيه من الشرك، يظهر ما يخالف فيه هذا البلد، ويكون متميزا فيهم، إذا لم يستطع ذلك، فإن الهجرة تكون واجبة عليه، وعليه حمل قوله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ?[النساء:97]، يعني لم نستطع إظهار الدين، الاستضعاف هنا بمعنى عدم استطاعة إظهار الدين ?قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:97]، فدل هذا على أنها واجبة، لأنه توعدها عليهم بجهنم، فمعنى هذا أن ترك الهجرة إذ لم يستطع إظهار الدين أنه محرم، وأن الهجرة واجبة.(1/162)
القسم الثاني المستحب: وتكون الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام مستحبة، إذا كان المؤمن في دار الشرك يستطيع أن يظهر دينه، تكون مستحبة، وذلك لأن الأصل الأول من الهجرة أن يتمثل المؤمن من إظهار دينه، وأن يعبد الله جل وعلا على عزة، قد قال جل وعلا ?يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ?[العنكبوت:56]، نزلت في من ترك الهجرة، وناداهم باسم الإيمان. هذه الأحكام متعلقة بالهجرة من دار الكفر والشرك إلى دار الإسلام، وهناك هجرة أخرى من دار يكثر فيها المعاصي والبدع إلى دار ليس فيها معاصي وبدع أو تقل فيها المعاصي والبدع، وهذه ذكر الفقهاء -فقهاء الحنابلة رحمهم الله- ذكروا أنها مستحبة، وأن البلد إذا كثر فيها الكبائر والمعاصي، فإنه يستحب له أن يتركها إلى دار يقل فيها ذلك أوليس فيها شيء من ذلك، لأن بقاءه على تلك الحال مع أولئك، يكون مع المتوعدين بنوع من العذاب الذي يحيط بأهل القرى الذين ظلموا.
وقد هاجر جمع من أهل العلم من بغداد لما علا فيها صوت المعتزلة وصوت أهل البدع، وكثرت فيها المعاصي والزنا وشرب الخمر، تركوها إلى بلد أخرى، وبعض أهل العلم بقي لكي يكون قائما بحق الله؛ بالدعوة وببيان العلم وبالإنكار وبنحو ذلك، أيضا كثير من العلماء تركوا مصر لما تولت عليها الدولة العبيدية، وخرجوا إلى غيرها، وهذا قد يحمل على أنها من الهجرة المستحبة، أو من الهجرة الواجبة، بحسب الحال في ذلك الزمن.
قال هنا رحمه الله (والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) فرض بقيد أن لا يستطيع إظهار دينه، فإن كان يستطيع كما ذكرت لك فإن الهجرة في حقه مستحبة. قال (وهي باقية إلى أن تقوم الساعة)يريد إلى قرب قيام الساعة وهو طلوع الشمس من مغربها، كما جاء في الحديث «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».(1/163)
قال رحمه الله مستدلا (والدليل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) ظلم النفس بترك الهجرة، لأنهم عصوا الله جل وعلا في ترك الهجرة، ومكة لم يعد في إمكان المؤمنين أن يظهروا دينهم فيها، فقد تسلط الكفار على أهلها، فلم يستطيعوا أعني المؤمنين أن يظهروا دينهم، وهذا هو قائم من أول الدعوة، تسلطوا فترة وكان إظهار الدين في أول الدعوة ليس واجبا، ثم أمروا بذلك بقوله تعالى ?فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ(94)إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ?[الحجر:94-95]، فابتلي من ابتلي من المؤمنين فلم يستطيعوا إظهار دينهم، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، فأذن بالهجرة إلى الحبشة؛ الهجرة الأولى ثم الثانية وقيل ثَم هجرة ثالثة، ثم لما لم يعد في الإمكان أن يظهر الدين في مكة، وقد قامت بلد الإسلام في المدينة صارت الهجرة متعينة وفرضا من مكة إلى المدينة، لهذا قال جل وعلا هنا (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا) يعني الملائكة مخاطبين هؤلاء الذين توفتهم الملائكة وقد تركوا الهجرة (فِيمَ كُنتُمْ) يعني على أي حال كنتم (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) فأجابت الملائكة (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) وهذا إنكار عليهم - أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا - لأن الاستفهام هنا في (أَلَمْ) استفهام للإنكار وضابطه أن يكون ما بعده باطلا، إذا أزلت الهمزة وقرأت ما بعده فإذا كان ما بعده غير صحيح صارت الهمزة إذن للإنكار، إذا تركت الهمزة صار الكلام لم تكن أرض الله واسعة هل هذا صحيح؟ ليس بصحيح، فأرض الله جل وعلا واسعة، ولما أتى الاستفهام في الهمزة بعدها كلام يكون بدون الهمزة باطلا، يصير الهمزة للإنكار، كما هو مقرر في موضعه في كتب شروح المعاني في اللغة قال (فَتُهَاجِرُوا(1/164)
فِيهَا) فدل على أنهم تركوا الهجرة، فهذه الآية على أن من ترك الهجرة مع القدرة على ذلك أنه مشرك وكافر من دين من أقام معهم، وهذا ليس بصحيح، بل إن هذه الآية في المؤمنين لأنه قال في أولها (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) فهؤلاء ظلموا أنفسهم, ليس الظلم الأكبر, ولكن الظلم الأصغر بترك الهجرة, قال جل وعلا بعدها (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) رجال مستضعفون, لا يمكنهم أن يعرفوا الطريق، لا يهتدون سبيلا إلى البلد الآخر ولا يستطيعون حيلة, ليس عندهم ما يركبون, وليس عندهم مال ينقلهم, فهم مستضعفين يريدون الهجرة, ولكنهم مستضعفون من جهة عدم القدرة على الهجرة من المال, والمركب, والدليل ونحو ذلك, فقال جل وعلا في هؤلاء (فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) ويلحق بهؤلاء من لم يستطع الهجرة في هذا الزمن بالمعوّقات القائمة من أنواع التأشيرات وأشباهها, لأن هذا لا يستطيع حيلة, هو يرغب أن يترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام, لكن لا يمكنه ذلك لوجود المعوّقات لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا, أو طريقا إلى بلد الإسلام فهؤلاء قال جل وعلا في حقهم (فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) ثم ساق دليلا آخر وهو قوله تعالى (?يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ?[العنكبوت:56]، قال البغوي رحمه الله سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان) تركوا الهجرة فناداهم الله باسم الإيمان, فدل على أن ترك الهجرة لا يسلب الإيمان, فمعنى ذلك أن ترك الهجرة ليس شركا أكبرا, وليس كفرا أكبرا, وإنما هو معصية من المعاصي, لأنه نادى من ترك الهجرة(1/165)
باسم الإيمان, (يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)، قال البغوي نزلت هذه الآية في الذين لم يهاجروا من مكة ناداهم الله باسم الإيمان، دل أن من ترك الهجرة من مكة ليس كفرا ولا شركا, وأن قوله في الآية التي قبلها (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أن هذا لأجل أنهم تركوا واجبا من الوجبات, وارتكبوا كبيرة من الكبائر, لكن لا يسلب منهم الإيمان بترك الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. قال (والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها») من الواضح أن التوبة لا تنقطع إلا إذا طلعت الشمس من مغربها, وطلوع الشمس من مغربها هو المراد بقوله تعالى في آخر سورة الأنعام ?أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا?[الأنعام:158]، قال المفسرون إن معنى (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) أنه طلوع الشمس من مغربها, فإذا طلعت (لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا), فلا تنفع التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها, كما قال هنا (ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، فالهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة, والتوبة لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها, وذلك لأن تارك الهجرة حتى طلعت الشمس من مغربها قد ترك فرضا عليه, إذا طلعت الشمس من مغربها ليس ثم عمل ينفع العبد قال ?لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا?[الأنعام:158]، والعمل بعض الإيمان.
?????(1/166)
فلمَّا استقرَّ بالمدينةِ أُمِرَ ببقيَّةِ شرائعِ الإسلامِ مثلُ الزكاةِ، والصّومِ، والحجِّ، والأذانِ، والجهادِ، والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ وغيرِ ذلكَ مِنْ شرائعِ الإسلامِ. أخذَ على هذا عَشَرَ سنينَ وبعدَها تُوُفِّيَ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ ودينُهُ باقٍ. وهذا دينُه، لا خيرَ إلاَّ دَلَّ الأمَّةَ عليهِ، ولا شَرَّ إلاَّ حَذَّرَهَا منْه، والخيُر الذي دلَّهَا عليْه: التَّوحيدُ، وجميعُ ما يُحِبُّهُ اللهُ ويرضاهُ. والشَّرُّ الذي حَذَّرَهَا منه: الشِّركُ وجميعُ ما يكرَهُهُ اللهُ ويأباهُ. بعثَهُ اللهُ إلى الناسِ كافَّة، وافترضَ طاعَتَه على جميعِ الثّقلينِ: الجنِّ والإنسِ، والدليلُ قولُهُ تعالى ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا?[الأعراف:158]، وكمَّلَ اللهُ به الدينَ والدليلُ قوله تعالى ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:03]. والدليلُ على موتِهِ صلى الله عليه وسلم قولُهُ تعالى ?إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ?[الزمر:30-31]. والناسُ إذَا ماتُوا يُبْعَثُونَ، والدليلُ قولُهُ تعالى?مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى?[طه:55]، وقولُهُ تعالى ?وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتًا(17)ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا?[نوح:17-18]، وبعدَ البَعْثِ محاسبُونَ ومَجزيُّونَ بأعْمالِهمْ والدليلُ قولُهُ تعالى?وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى?[النجم:31]، ومَنْ كَذَّبَ بالبعثِ كَفَرَ، والدليلُ قولُهُ تعالى?زَعَمَ(1/167)
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?[التغابن:07].
قال (فلما استقر بالمدينة أُمر ببقية شرائع الإسلام مثل الزكاة) الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة، أريد بالزكاة التي فرضت في السنة الثانية من الهجرة هذه الزكاة على هذا النحو المقدر؛ زكاة بشروطها، وبأنصبائها، وقدر المخرَج، وأوعية الزكاة ونحو ذلك, هذا فُرض في السنة الثانية من الهجرة, أما جنس الزكاة فقد فرض في مكة، جنس الزكاة غير مقدر مثل الصلاة التي كانت في مكة, وهذا جاء في آخر سورة المزمل, قال جل وعلا في آخرها وهي مكية ?وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[المزمل:20]، فأمر بإيتاء الزكاة قال (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) والصواب من أقوال أهل العلم أن الزكاة أوجبت في مكة, ومنها بذل الماعون الذي جاء النهي عنه, في قوله ?وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ?[الماعون:7]، ومنها الصدقة, منها إعطاء الفقير, ونحو ذلك، وهذه الزكاة غير محدودة, لا بقدر, ولا بصفة, وإنما يصدق عليها اسم الزكاة, أما الزكاة على هذا النحو المقدر الذي استقر فهذا فرض في السنة الثانية من الهجرة. قال (والصوم) الصوم كذلك، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم «لما تصومون هذا اليوم؟» قالوا: يوم نجى الله فيه موسى، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه كما صام موسى. فقال عليه الصلاة والسلام: «نحن أحق بموسى منكم» فصامه عليه الصلاة والسلام، وأَمَر بصيامه، يعني كان صوم يوم عاشوراء فرضا، ثم لما فرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وهي(1/168)
السنة التي كان فيها وقعة بدر، صار صوم عاشوراء على الصحيح مستحبا، والفرض هو صيام شهر رمضان، كما قال جل وعلا في سورة البقرة ?فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ?[البقرة:185] وبها كان صيام رمضان واجبا. قال(والحج) من أهل العلم من يقول أنه فرض في السنة السادسة، وهي السنة التي نزل فيها قول الله تعالى ?وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ?[البقرة:196]، ومنهم من قال أنه لم يفرض إلا في السنة التاسعة، وهذا هو الصحيح، فإن الحج فرض متأخرا، وذلك بعد فتح مكة، فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحج في سورة آل عمران، وهي إنما نزلت في سنة الوفود أو في عام الوفود، وهي السنة التاسعة، والنبي عليه الصلاة والسلام ترك الحج تلك السنة، وأمر أبا بكر أن يحج بالناس، وبعث معه عليا رضي الله عنهم أجمعين، ثم حج عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في السنة العاشرة حجة يتيمة لم يحج بعدها.
قال(والأذان) كذلك فُرض الأذان في أول العهد المدني.
(والجهاد) كان هناك تدرج في فرضه.(1/169)
(والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام)، يعني أن شرائع الإسلام الظاهرة إنما فرضت في المدينة، وأما في مكة فمكث عليه الصلاة والسلام، يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الشرك عشر سنين، ثم فرضت الصلاة في السنة العاشرة، وأما بقية الشعائر؛ شعائر الإسلام الظاهرة، فإنما كانت في المدينة، حتى تحريم المحرمات من الزنا والخمر والربا ونحو ذلك، فإنما كان في المدينة، وهذا يدلك على عظم شأن التوحيد في هذا الدين، وأن هذه الرسالة رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، حيث بلغها للناس، مكث يدعو إلى التوحيد في عشر سنين، والتوحيد من حيث هو، أمر واحد، دعوة إلى التوحيد ونهي عن الشرك، أمر واحد، وتلك الأوامر التي فرضت فيما بعد، والمناهي التي نهي عنها فيما بعد، كثيرة جدا، عددها كثير مئات الأشياء من أمور الإسلام الظاهرة، وأمور المعاملات، والصلاة الاجتماعية، والنكاح، وتلك الأحوال، تلك بالمئات، فكان العهد المدني وهو عشر سنين متسعا لتلك الأمور جميعا، وأما التوحيد فمع أنه أمر واحد، وهو الدعوة إلى توحيد الله والنهي والنذارة عن الشرك، فقد مكث فيه عليه الصلاة والسلام عشر سنين، وهذا من أعظم الأدلة على أن شأن التوحيد في هذا الدين هو أعظم شيء، وأن غيره من أمور الإسلام الظاهرة، أنه يليه بكثير في الاهتمام به في هذا الشرع، فالدعوة إنما تكون في توحيد الله؛ لأن القلب إذا وحد الله جل وعلا أحب الله وأحب رسوله، أطاع الله بعد ذلك وأطاع رسوله فرضا، ترك الشرك، أبغض الشرك، ويُبغض كل ما لا يحبه الله جل وعلا ولا يرضاه، وهذا من مقتضيات التوحيد.
قال (أخذ على هذا عشر سنين) يعني مكث في المدينة عليه الصلاة والسلام عشر سنين يدعو إلى التوحيد وإلى أمور الإسلام الظاهرة.(1/170)
(وتوفي صلاة الله وسلامه عليه ودينه باق وهذا دينه)، (صلاة الله) الصلاة من الله جل وعلا على نبيه، أو على المؤمنين هي ثناؤه عليهم في الملأ الأعلى، هذا هو الصحيح أن الصلاة من الله جل وعلا هي الثناء؛ لأن حقيقة الصلاة في اللغة الدعاء والثناء، وأما من قال أن الصلاة بمعنى الرحمة هذا ليس بصحيح، قال جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ?[الأحزاب:56]، الملائكة لا يمكنهم أن يرحموه، لكن يمكن أن يثنوا عليه، أو أن يدعوا له، والله جل وعلا في حقه الثناء، فمعنى صلاة الله جل وعلا على نبيه هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، لهذا جاء في الحديث الصحيح «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا» يعني من أثنى عليّ، من قال: اللهم صلي على محمد. سأل الله جل وعلا أن يثني على نبيه في الملأ الأعلى، فإن الله جل وعلا يجزيه من جنس دعائه، وهو أنه يثني عليه بذلك عشر مرات في ملئه الأعلى، أسأل الله الكريم من فضله، وصلى الله على نبينا محمد، اللهم صلي وسلم على نبينا محمد. قال (ودينه باق)، عليه الصلاة والسلام توفي ودفن في حجرة عائشة، ودينه باق إلى قيام الساعة، لا يقبل الله جل وعلا من أحد دينا إلا هذا الدين، (وهذا دينه) الضمير يرجع إلى أي شيء؟ إلى ما سبق إيضاحه في هذه الرسالة، هذا الذي وصف لك فيما قبل هو دينه؛ معرفة العبد ربه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، ومعرفة العبد نبيه صلى الله عليه وسلم. (وهذا دينه) عليه الصلاة والسلام، (لا خير) -هذا من صفاته عليه الصلاة والسلام- أنه (لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه والخير الذي دلها عليه التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه والشر الذي حذرها منه الشرك وجميع ما يكره الله ويأباه) وعليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رؤوف رحيم، ومن رأفته بالمؤمنين ورحمته بهم أنه اجتهد أن يؤدي الأمانة كاملة، لا خير يقرب إلى الله، ويكون محبوبا إلى الله إلا بينه عليه(1/171)
الصلاة والسلام لهذه الأمة، وأعلى ذلك التوحيد، ويتبع ذلك جميع الأمور من الفرائض والواجبات والمستحبات، ومن المناهي التي اجتنابها فرض ونحو ذلك، المسنونات، حتى قال رجل لسلمان: لقد علَّمكم رسولُكم كل شيء حتى الخراءة، قال: نعم. يعني حتى هيئة الجلوس أثناء قضاء الحاجة، فإنه علمنا عليه الصلاة والسلام كيف يكون ذلك؛ إقبال واستدبار، وما ينبغي أن يكون إذا ذهب المرء أين يذهب، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره، كان عليه الصلاة والسلام إذا ذهب المذهب أبعد، يعني لقضاء حاجته ونحو ذلك، علمنا عليه الصلاة والسلام كل شيء، من أعلى أمر وهو التوحيد؛ بيّنه بيانا شافيا مفصلا، إلى أقل الأمور، كلها بينها عليه الصلاة والسلام، فالحجة قائمة على أمته، وأنه عليه الصلاة والسلام سيكون شهيدا على هذه الأمة، وأنه بلَّغهم الرسالة، ودلهم على كل خير، يحبه الله ويرضاه، كذلك لا شر إلا حذرها منه، لا شر كان أو لا شر سيكون في هذه الأمة إلا حذرها منه، فحذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من الشرور التي كانت في وقته؛ من الشرك بالله بأنواعه، ومن أنواع المعاصي وأنواع الآثام، وأنواع المعاملات الباطلة، وكذلك ما سيحدث في المستقبل، فإن الله جل وعلا أطلع نبيه على ما سيكون، فحذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من ذلك، مثلا كما جاء في الحديث «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال: «فمن الناس إلا أولئك» أو كما جاء في غير هذه الرواية، لها ألفاظ كثيرة، فحذرها من تقليد فارس والروم، حذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من الفتن التي ستظهر بأنواعها، ومنها فتنة الخوارج الذين خرجوا على الصحابة وخرجوا على ولاة أمر المسلمين، حذّر من البدع بأنواعها، كما جاء في تفسير قول الله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي(1/172)
شَيْءٍ?[الأنعام:159]، وكما قال عليه الصلاة والسلام «وإن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» ونحو ذلك من أنواع ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام أمته محذرا، فهو عليه الصلاة والسلام لهذه الأمة رحيم رؤوف، لا خير إلا دلها عليه وأرشد، ولا شر إلا حذر منه ونهى، سواء في ذلك ما حدث في وقته، أو ما سيحدث بعد موته عليه الصلاة والسلام بقليل، أو ما سيكون إلى قيام الساعة، حتى إنه حذر أمته وشدد، حذرها وشدد التحذير في أمر المسيح الدجال، حتى إنه قال عليه الصلاة والسلام «إن خرج فيكم وأنا حي فأنا حجيجه دونكم وإن خرج عليكم بعدي» -يعني بعد وفاته عليه الصلاة والسلام- «فامرؤ حجيج نفسه» وهذا يدل على عظم ما دل النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأمة عليه.
قال رحمه الله بعد ذلك (وافترض طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس والدليل قوله تعالى ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا?[الأعراف:158]) طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فرض على الجن والإنس، لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس جميعا، قال جل وعلا (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) وقال جل وعلا ?وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ?[الأحقاف:29]، لأنهم اتبعوا هذا الرسول، بعد أن سمعوا هذا القرآن، (وكمّل الله به الدين)، الدين كمل، والدين هو ما يدين به المرء، يعني ما يكون عادة له في عبادته، عادة له في عبادته يألفه ويعتاده، لأن أصل الدين هو العادة، كما قال الشاعر:
تقول وقد برأتُ لها وظيني هذا دينه أبدا وديني([15])(1/173)
هذه عادته، وسمي الدين دينا لأنه يلتزمه الإنسان، وما كان من الاعتقادات، وما كان من العبادات يفعله بتكرر، حتى يصبح له عادة، نعم الدين ليس عادة، لكن أصل تسمية الدين سمي به لأنه له شبه بالعادة، حيث لزومها وكثرة فعلها وترداد صاحبها لها.
(كمل الله به الدين) إذن فليس في الدين نقصان، ليس فيه مجال للزيادة، فمن أراد التقرب إلى الله جل وعلا، فإنما يكون ذلك بالتقرب عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني أن يكون متبعا لسنته عليه الصلاة والسلام، لأن الدين كمل فلا سبيل إلا هذا السبيل، كما قال ابن القيم:
فلواحد كن واحدا في واحد أعني سبيل الحق والإيمان(1/174)
والهجرة من الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته، واتباع سنته، وامتثال أمره، والانتهاء عن نهيه، والاهتداء بهديه، وألا يعبد الله إلا بما شرع، ينسلخ القلب ويترك كل ما سوى الله جل وعلا، وسوى رسوله من الذين يطاعون، ويتجه بطاعته إلى الله جل وعلا ورسوله، قال (والدليل قوله تعالى ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:03]، والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ?إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ?[الزمر:30-31]) مات عليه الصلاة والسلام، الذين يدّعون أنه عليه الصلاة والسلام حي لم يمت، وأنه يحضر، روحه تحضر، وهو يحضر، وينتقل، ونحو ذلك، هؤلاء مكذبون للقرآن، كفرة بالله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا قال لنبيه (إِنَّكَ مَيِّتٌ) يعني ستموت (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) إنهم سيموتون، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) إنكم جميعا أنت وهم (عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) وقال جل وعلا في الآية الأخرى ?وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ?[آل عمران:144]، ومن المعلوم ما حصل من قيام أبي بكر في الناس، بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم خطيبا، قائلا فيما يروى: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ). قال عمر: كأني لم أسمع الآية إلا حين تلاها أبو بكر رضي الله عنه. لكن هو بعد موته؛ في حياة برزخية، هي أكمل أنواع الحياة البرزخية، فهو حي، حياته أكمل من حياة الشهداء، وهو قد مات،(1/175)
توفاه الله جل وعلا، انقطع عن هذه الدنيا، حياته أكمل من حياة الشهداء، فهو عليه الصلاة والسلام قد توفي وانقضى أجله، وهو بالرفيق الأعلى بالجنة، وعند الله جل وعلا بأعلى المقامات عليه الصلاة والسلام.
قال لما ذكر موته عليه الصلاة والسلام (والناس إذا ماتوا يبعثون) خص هنا البعث بذكر، مع أن مناسبته هي في ذكر اليوم الآخر؛ المرتبة الثانية من الأصل الثاني، اليوم الآخر معناه أنه يبعث الناس بعد الموت، هنا قال (والناس إذا ماتوا يبعثون) وذلك لسبب وهو أنه في وقت الشيخ رحمه الله تعالى كان يكثر في البادية إنكار البعث بعد الموت، قد جاء في رسائل للشيخ من العلماء, رسائل كثيرة فيها بيان أن البعث بعد الموت حق, وأن من كفر بالبعث وأنكر البعث فهو كافر بالله العظيم, ليس بمؤمن ولا مسلم, وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم, نص هنا على هذا لأجل الاهتمام بالمسألة ووضعها في هذا الموضع المناسب, لأنه ذكر وفاة النبي عليه الصلاة والسلام, وذكر قوله (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) فناسب أن يقرر البعث بعد الموت لجميع الناس, قال (والناس إذا ماتوا يبعثون والدليل قوله تعالى?مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى?[طه:55]، وقوله تعالى(1/176)
?وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتًا(17)ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا?[نوح:17-18]، وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم والدليل قوله تعالى?وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى?[النجم:31]) قال (ومن كذب بالبعث كفر) مثل أولئك الأعراب في البادية, الذين كانوا في وقت الشيخ رحمه الله, ويكثر إلى الآن في بوادي بعض البلاد العربية أنهم يكذبون بالبعث, يعتقدون أن التزام الدين, أنه إنما يحصل له الإنسان السعادة في دنياه, وأن روحه تكون في نعيم أو في جحيم, لكن بعث بعد الموت, يكذبون بذلك قال هنا (ومن كذب بالبعث كفر والدليل قوله تعالى?زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ?[التغابن:07]) وجه الاستدلال أنه قال (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فوصف الذين يزعمون أنهم لن يبعثوا بأنهم من الذين كفروا.
?????(1/177)
وأرسلَ اللهُ جميعَ الرُّسلِ مبشِّرينَ ومُنذرينَ، والدليلُ قولُهُ تعالى ?رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، وأولُهُمْ نوحٌ عليهِ السلامُ، وآخِرُهُم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهو خاتِمُ النَّبيينَ والدليلُ على أنَّ أوَّلُهُم نوح قوله تعالى ?إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ?[النساء:163]، وكلُّ أمَّةٍ بعثَ اللهُ إليها رسولاً مِنْ نوحٍ إلى محمدٍ، يأمُرُهُمْ بعبادةِ اللهِ وحدَهُ، ويَنْهَاهُمْ عنْ عبادَةِ الطاغوتِ، والدّليلُ قولُهُ تعالى ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، وافترضَ اللهُ على جميعِ العبادِ الكفرَ بالطاغوتِ والإيمانَ باللهِ، قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: معنى الطاغوت ما تجاوزَ بِهِ العبدُ حدَّهُ مِنْ معبودٍ، أو متبوعٍ، أو مطاع.
والطواغيتُ كثيرونَ ورؤوسُهُمْ خمَسةٌ: إبليسُ لعنَهُ اللهُ، ومَنْ عُبِدَ وهو راضٍ، ومَنْ دعا الناسَ إلى عبادَةِ نفسِهِ، ومَنِ ادَّعى شيئًا مِنْ عِلمِ الغيْبِ، ومَنْ حكمَ بغيِر مَا أنزلَ اللهُ، والدليلُ قولُهُ تعالى ? لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ?[البقرة:256]، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، وفي الحديثِ «رأسُ الأمْرِ الإسلامُ وعمودُهُ الصَّلاةُ وذروةُ سنَامِهِ الجهادُ في سبيلِ اللهِ» واللهُ أعلمُ. تمت هذه الرسالة.(1/178)
قال(وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين والدليل قوله تعالى ?رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:165]، وأولهم نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم) من كذب برسول من الرسل فقد كذب بالرسل أجمعين, ومحمد عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين وخاتم المرسلين, كل دعوة لنبوة أو دعوة للرسالة بعده فهي ضلال, وهي كفر بالله جل وعلا, فمن ادعى في وقت الصحابة وبعدهم إلى يومنا هذا لم يزل يظهر من يدعي النبوة, والنبي عليه الصلاة والسلام خاتم المرسلين وخاتم النبيين وخاتمهم؛ خاتَمهم و خاتِمهم (والدليل على أن أولهم نوح قوله تعالى ?إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ?[النساء:163]) هذا وحي خاص وحي رسالة, والمراد بالنبيين هنا المرسلين.(1/179)
قال(وكل أمة بعث الله إليها رسولا من نوح إلى محمد يأمرهم بعبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة الطاغوت والدليل قوله تعالى ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36])، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ) ما يأتي بعدها هو مضمون البعث، بعثهم لأي شيء؟ لما يأتي بعد (أَنْ) وهو (اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) عبادة الله سبق تفسيرها مفصلا في الأصل الأول وهو معرفة العبد ربه, هنا لمّا ذكر الطاغوت كان مناسبا لأهميته, أن يذكر معنى الطاغوت قال هنا (وافترض الله على جميع العباد -بهذا الدليل- الكفر بالطاغوت والإيمان بالله) ما معنى الطاغوت إذن؟ (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: معنى الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع) الطاغوت صيغة مبنية للكثرة والسَّعة, لأنها من طغى يطغى طغيانا, ومعنى ذلك التجاوز تجاوز الحد، يقال طغى الماء إذا تجاوز الحد, طغى الرجل إذا تجاوز حدّه, والطاغوت مبني من الطغيان, لكنه للكثرة مثل ملكوت, رحموت ونحو ذلك. ما هو الطاغوت؟ الطاغوت اسم لكل ما تجاوز به العبد حدّه, كل ما تجاوز به العبد حدّه؛ أي الحد الشرعي له, معلوم أن الشرع حدّ للأشياء حدودا, وبين علاقة المسلم بها, فإذا تجاوز العبد بشيء ما حده, فذلك الشيء طاغوت, قال (ما تجاوز به العبد حده من معبود) إذا عبد أحد غير الله جل وعلا فذلك الغير طاغوت هذا العابد, متى يكون طاغوتا؟ إذا كان راضيا بهذه العبادة, أما إذا كان يكرهها فإنه لا يسمى طاغوتا, لأنه يتبرأ منه والمتبرأ من الشيء ليس من أهله, كما قال جل وعلا ?إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا?[الأنبياء:98-99], فلما نزلت هذه الآية فرح المشركون, قالوا سنكون وعيسى وعزير-(1/180)
وعدّوا آلهة- سنكون جميعا في جهنم فنعم الصحبة, أنزل الله جل وعلا بعده ?إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ(102)لَا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ?[الأنبياء:101-103], فدل على أن الذي لا يرضى بعبادته فإنه ليس بمذموم, لهذا عُبدت الأنبياء والرسل, وعُبد الصالحون, وكلهم يتبرؤون, عيسى عليه السلام أُله بعد رفعه, وقال له ربه جل وعلا ? وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي?[المائدة:116-117]، (تَوَفَّيْتَنِي) يعني قبضتني؛ قبضت بدني ورفعتني عنهم, واستوفيت مدتي على الأرض؛ المدة الأولى, كنت أنت الرقيب عليهم, ?فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)إِنْ تُعَذِّبْهُمْ... ?[المائدة:117-118] إلى آخر الآيات، (معنى الطاغوت ما تجاوز العبد حده من معبود أو متبوع) من يُتبع، يُقلَّد، يهتدى بهديه (أو مطاع) إذا كان اتبع أحد فجاوز العبد بهذا المتبع حده الذي أذن به شرعا, فقد صار ذلك طاغوتا له إذا كان راضيا بذلك, وإن كان لا يرضى فهذا هو الذي إتخذه طاغوتا, وذاك ليس بطاغوت أو مطاع.(1/181)
بين ذلك بقوله (والطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمسة إبليس لعنه الله ومن عبد وهو راض ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه) إبليس لعنه الله هو رأس الطواغيت لما؟ لأنه عُبد, ولأنه متبوع، ولأنه مطاع وهو راض بذلك, أطيع أو لم يطع؟ أطيع في معصية الله وهذه مأذون بها, أو غير مأذون بها؟ ويعتبر عند من أطاعه أنه مقدم, وأن طاعته هَنِيَّة, ولهذا قال جل وعلا في سورة إبراهيم ?وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي?[إبراهيم:22]، الاستجابة هنا في المتابعة والطاعة, وقال جل وعلا في آية سورة يس ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ?[يس:60]، (أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) يعني بالطاعة كما هو تفسيرها (ومن عُبد وهو راض) هذا القيد مهم, من عبد من دون الله, ورضي بهذه العبادة فهو من الطواغيت, من رؤوس الطواغيت. (من دعا الناس إلى عبادة نفسه) هذا أعظم، الأول يُعبد وهو ساكت لم يدعُ إلى عبادة نفسه, يُطاع وتكون طاعته دينا، في غير طاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله, ويرضى بذلك, هذا طاغوت, الأعظم منه أن يدعو، ذاك ساكت-الأول-يكون فُعل به ذاك وهو راض, الأعظم أن يدعو إلى نفسه, مثل ما يفعل مشايخ الطرق الصوفية, يعني بعض من مشايخ الطرق الصوفية, ورؤوس الضلال.ورؤوس الرافضة, ورؤوس الإسماعيلية, ونحو ذلك. كل هؤلاء يعظمهم أتباعهم فوق الحد الشرعي, فيتخذونهم مطاعين, فيتخذونهم متابَعين من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال (ومن ادعى شيئا من علم الغيب ومن حكم بغير ما أنزل الله) من ادعى شيئا من علم الغيب فهو من جنس الشياطين, فهو كاهن من الكهنة, أو ساحر من السحرة, أو مدعي لعلم الغيب, هذا من الطواغيت.(1/182)
قال(ومن حكم بغير ما أنزل الله) الحاكم بغير ما أنزل الله فيه تفصيل:
· إذا حكم بغير ما أنزل الله معتقدا أن حكمه جائز, وأن له أن يحكم, وحكمه قرين لحكم الله أو مساوٍ لحكم الله, أو أفضل من حكم الله أو نحو ذلك. فإن هذا يعد طاغوتا.
· أما إن حكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم أنه عاص في حكمه, وأن حكم الله جل وعلا أفضل, وأن حكم الله جل وعلا هو المتعين, ولكن غلبته نفسه وشهوته بأن حكم بغير ما أنزل الله ببعض المسائل، كما يحصل لبعض المفتونين من القضاة, أنهم يحكمون في مسائل بشهوتهم, كما كان يحدث في نجد من قرون قبل الدعوة, أنه كان يُرشى القاضي -يرشى بمال- فيحكم لأحد الخصمين بغير حكم الله جل وعلا, ويحكم بغير حكم الله, وهذا هو الذي جاء فيه الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره بإسناد قوي, أنه عليه الصلاة والسلام قال«القضاة ثلاثة قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة، رجل قضى بغير الحق وهو يعلم الحق فذاك في النار» والعياذ بالله، هذا النوع يحكم لأجل مال, يحكم لأجل رِشوة بغير ما أنزل الله, هذه معصية من المعاصي, ولا شك أن معصية سمّاها الله جل وعلا كفرا, أعظم من معصية لم يسمها الله جل وعلا كفرا, كما يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في رسالته تحكيم القوانين فإذن هذا الصنف من الناس فعلهم معصية.(1/183)
· هناك نوع آخر حدث في هذا الزمن، وهو تحكيم القوانين؛ أن يستبدل الشرع بقوانين وضعية، يستبدل الشرع استبدالا بقوانين، يأتي بها الحكام من عند غير الله ورسوله، يترك الدين، ويؤتى بتلك القوانين، فهذه كما يقول الشيخ رحمه الله تعالى محمد ابن إبراهيم في أول رسالته تحكيم القوانين يقول ما نصه: إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الوحي الأمين، على قلب سيد المرسلين، للحكم به بين العالمين، وللرد إليه عند تنازع المتخاصمين، معاندة ومكابرة، لقول الله جل وعلا?فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا?[النساء:59]. ورسالته هذه بسَط فيها القول، وهي رسالة دقيقة مهمّة في هذا الباب، إذن فصار تحكيم القوانين كفرا أكبر بالله، لأنه استبدال شريعة مكان شريعة، بدل شريعة الإسلام يأتون بشريعة فرنسا، أو شريعة أوروبا، أو شريعة إنجلترا، شريعة أمريكا، هذا استبدال، فإذا كان الحكم به غالبا صار تحكيما، يعني صار الحكم في أكثر أمور الشريعة بهذه الأحكام القانونية صار استبدالا، فمتى يكون كفرا؟ إذا كان استبدالا، ومتى يكون استبدالا؟ إذا كان تحكيم القوانين غالبا، كما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى في فتاويه -الشيخ محمد بن إبراهيم- أيضا مقيِّدا: متى يكون الحكم بالقانون كفرا؟ قال إذا كان غالبا فاشيا. لما؟ لأنه استبدل شريعة مكان شريعة، فإذا غلب ذلك صار استبدال، وهذا قيد مهم، وهذه المسألة يكثر فيها الكلام في هذا العصر، بين كلام متعلمين وعلى سبيل تعلم، وبين كلام جهال، وقلّ من يحرر الكلام فيها على نحو ما بينه العلماء بدقة وتفصيل.(1/184)
قال هنا (والدليل قوله تعالى ?لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ?[البقرة:256]) قال بعد ذلك (وهذا هو معنى لا إله إلا الله) ما معنى لا إله إلا الله؟ هو قوله (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) لأن الكفر بالطاغوت هو معنى النفي بـ(لا إله) والإثبات وهو قوله (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) هو المستفاد من قوله (إلا الله).
قال بعد ذلك (وفي الحديث«رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله»والله أعلم تمت هذه الرسالة) وأسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم لما سمعنا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يجعلنا من المتعلمين حق التعلم، العاملين بما نعلم.
نسأله اللهم أن يجعلنا من أهل التوحيد؛ الذين يُعلون رايته، وينافحون عنه، ويُدافعون عنه وعن أهله، وأسأله لي ولكم العفو والغفران من جميع الزلل والسيئات، وأستغفر الله لذنبي ولذنوب جميع المسلمين، وأسأله أن يعفو عني ما حصل مني، في هذا الشرح الموجز من غلط لسان، أو سهو جنان، أو انتقال للذهن، وقد اختصرنا في الآخر, وكان حقها أن تبسط أكثر من ذلك بكثير، لكن لأجل انتهاء هذه الدروس.
وهذا هو يوم الأربعاء الثامن من ربيع الأول لعام أربعة عشر وأربعمائة وألف [08/03/1414هـ].
اللهم اجعل بقية أعمالنا خيرًا مما سلف منها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
قام بتفريغ الأشرطة: سالم الجزائري
---
(1) مابين المعكوفتين مأخوذ من الوجه الأول من الشريط الأول لشرح متن الورقات للشيخ صالح آل الشيخ.
(1) هذه العبارة موجودة أيضا في السور التالية: الشعراء:227، ص:24، الانشقاق:25, التين:6.
(1) غير موجودة فربما الشريط هو المقطوع.
(1) طه:114، المؤمنون:116.
(2) الملك:2، هود:7.(1/185)
(1) الفاتحة:2، يونس:10، الزمر:75، غافر:65
(1) وهي أيضا موجودة في سورة: لقمان:25.
(1) لعله يقصد ثلاثة. قال في شرحه لكتاب التوحيد تحت باب(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه): والخوف من غير الله جل وعلا ينقسم إلى ما هو شرك وإلى ما هو محرم وإلى ما هو مباح فهذه ثلاثة أقسام.
(1) هذه العبارة موجودة في الآية:5 من سورة الحج.
(1) وهي أيضا في سورة الشورى الآية:10.
(1) الشيخ قال ألم تر.
(1) كلمة غير واضحة.
(1) لعله قال كما أُثبت والله أعلم.
(2) لعله سبق لسان لأنه قال في شرح الباب الأخير من كتاب التوحيد: فالأرض التي أنت فيها, وأنت فيها في نقطة صغيرة صغيرة, هي بالنسبة إلى السماء هذا وصفها, والأرض والسماوات بالنسبة للكرسي هذا وصفه, والكرسي أيضا فوقه ماء، وفوق ذلك العرش؛ عرش الرحمان جل وعلا.
([15]) كلمات البيت غير مسموعة جيدا.(1/186)
الأجوبة الجلية على أسئلة
العقيدة الواسطية
[شريط مفرغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الأسئلة
1/ذكرتم أن الفرقة الطائفة هم أهل الحديث وأهل الأثر، فهل يخرج بذلك أهل الرأي من الحنفية؟
2/ هلاَّ دللتنا على بعض كتب الآداب والسلوك التي ينتفع بها طالب العلم؟
3/ هل تعلمون أحدات من الأئمة نص على أن لله تعالى خمسة أصابع صفة له جل جلاله، أم أن طريقتهم رحمهم الله الإثبات؛ إثبات الأصابع دون تحديد العدد؟
4/ عدة أسئلة تسأل عن الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
5/ هل الطائفة المنصورة هي أخص من الفرقة الناجية؟
6/هل العفو يُتصور من غير القادر على الانتقام؟
7/ كيف يَفتخر المتصدق بصدقته؟
8/قول المؤلف ويأمرون ببر الوالدين، هل يعني هذا طاعة الوالدين حتى وإن ظلموا أبناءهم, حتى في أبسط حقوقهم وهل يحق للابن أن يمنع والده من أخذ ماله علما أن الأب لم يصرف على ابنه هذا لأنه عاش في كنف والدته بحكم أنها مطلقة؟
9/ من كان في عقيدته انحراف عن هدي السلف الصالح، وكذا في أخلاقه مع الناس، ما حكم مساعدته في الخروج من المصائب التي تحلّ به وزيارته والوقوف بجانبه؟ وهل من رفض مساعدته بحجة ما عنده من الانحراف في العقيدة على صواب؟
10/ من يأمر بالمعروف ولا يأتيه هل يؤجر؟ ومن ينهى عن المنكر ويأتيه هل يؤجر؟
11/ هل يصح يا شيخ الإسلام أنه قال: إن الأشاعرة لم يوافقوا أهل السنة إلا في السيف, حيث نُقل عنكم ذلك؟
12/ما هو الرابط بين ما يجوز تأويله وما لا يجوز؟ وهل يجوز تأويل قول الله تعالى ?فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا?[الحشر:2] وتأويل قوله?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26]؟
13/ هناك كلام لشيخ الإسلام وهو أن أهل السنة يرون أنه لا مانع في وجود حوادث لا أول لها كما يوجد حوادث لا آخر لها؟(2/1)
14/... بل هو أسلوب من أساليب العرب والقائلين به يقولون هم مجاز، وعليه الخلاف لفظي ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأن الخلاف لا أثر له، فما هو جوابكم؟
15/هنا قال هل يوصف الله جلا وعلا أو يخبر عنه بأنه ساكت؟
16/ ما رأيك في من استحب التغيير بلفظ السلف الصالح بدلا من مذهب أهل السنة والجماعة؟
17/ ذكرت أنّ الجهمية يخرجون من اثنين وسبعين فرقة ولم تذكر الأشاعرة؟
18/ قد علم من طريقة السلف أنهم لا يردفون نزول الله بأنه ينزل بذاته، إلا ما قاله ابن منده: ينزل بذاته من العرش. لكن هل في قولنا إنه ينزل بذاته محذور أو فساد للمعنى، وذلك أننا نعلم أن هذه الصفة صفة اختيارية قائمة بالنفس؟ وأيضا لماذا لا ينسحب هذا على صفة الاستواء؟
19/ نرجو فتح مجال لحفظ كشف الشبهات.
20/ هل الخوارج كفار؟
21/ هل ورد أثر في أن مسح رأس اليتيم من أسباب ترقيق القلوب؟
22/ كيف أجمع بين حديث الرسول عليه الصلاة والسلام «صنفان من أهل النار لم أرهما...» الحديث، وغيرها من الأحاديث وبين قول أهل السنة بعدم خلود أهل الكبائر في النار؟
23/ كيف يعرف الرجل البلاء إذا نزل به من المصيبة؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
موضوع هذا الدرس إجابة للأسئلة الواردة منكم حول ما سمعتم من شرح العقيدة الواسطية، والتي منّ الله جل وعلا بتمام شرحها في الأسبوع الماضي، وحبذا لو راعت الأسئلة أن تكون في الموضوعات التي سبق الكلام عليها في هذه العقيدة المباركة، حتى تكون جِلاء لبعض ما قد يغمض أو بيانا لبعض ما قد يكون مُبهما أو مجملا. نبتدئ.
اليوم فيما يتعلق بالإجابة عن الأسئلة العلمية أما الاقتراحات فقررنا أن يكون الدرس –إن شاء الله تعالى- في شرح كتاب كشف الشبهات.(2/2)
الأسئلة في العقيدة أي الأسئلة في العقيدة؛ لأن مما تطرقنا له إما نصا أو إشارة.
1/ قال: ذكرتم أن الفرقة الطائفة هم أهل الحديث وأهل الأثر، فهل يخرج بذلك أهل الرأي من الحنفية؟
الجواب: أنّ أهل الرأي من الحنفية ومن بعض أهل المدينة كأتباع ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك وغير هؤلاء من علماء الأمصار، إذا قيل أهل الرأي فإنما يُعنى به من أعملوا الرأي في الفقهيات من حيث تقديم القياس أو النظر في المسائل الفقهية والإفتاء بالقواعد والأقيسة دون النظر في الأدلة الشرعية.(2/3)
فقول السائل: فهل يخرج بذلك أهل الرأي؟ هذا على اعتبار أن أهل الرأي من الفرق أو من الطوائف العقدية، وهذا ليس كذلك، أما الحنفية فهم فئات ومنهم الأولون من المرجئة، والمتأخرون منهم الماتريدية، وقد ذكرتُ لكم أن أهل السنة والجماعة لا يدخل فيهم على التحقيق من لم يسلك سبيلهم في مسائل الاعتقاد من الأشاعرة والماتريدية فضلا عن المرجئة والخوارج ونحو ذلك، وإنما نبهنا على خروج الأشاعرة والماتريدية ردا على السَّفَّاريني ومن نحى نحوه ممن اعتبر أهل السنة والجماعة ثلاث طوائف؛ قال: هم أهل الأثر والأشاعرة والماتريدية. وهذا لاشك أنه غلط لأنّ الأشاعرة والماتريدية خالفوا أهل السنة والجماعة، خالفوا النصوص في التأصيل؛ تأصيل أخذ المسائل، وأيضا في التفريق فمن حيث التأصيلات هم يقولون بقول جهم في تقديم العقل على النص في إثبات وجود الله جل وعلا وفي الصفات وفي غير ذلك، وأيضا هم في باب الصفات مُقَوِّلة وإن كانوا صِفَاتِية لأنهم يثبتون بعض الصفات لكنهم يؤولون ما لم يتفق مع القاطع العقلي، وعندهم أنّ العقل قاضٍ والنص والشرع شاهد، ولهذا قال بعضهم في مقدمة كتاب له في الأصول: لما كان العقل هو القاضي المحتم والشاهد هو الشرع والشرع هو الشاهد المعدَّل كان كذا وكذا. فمن أصولهم أن العقل حاكم قاض وأن الشرع شاهد معدل بتعديل العقل له، وهذا هو الذي أصله الرازي في قانونه الذي ردّ عليه فيه طول وتفصيل شيخ الإسلام في كتاب العقل والنقل؛ حيث أصل الرازي في ذلك أن أصل الشرع هو النقل وإنما عرفت صحة الشرع بالعقل، وإذا كان كذلك كان تقديم الشرع على العقل تقديما للمدلول على الدليل، وهذا باطل فلزم أن يقدم العقل على النقل، فردّ عليه شيخ الإسلام بوجوه كثيرة في ذلك الكتاب العظيم الذي قال فيه تلميذه ابن القيم في النونية:
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له مثيلٌ ثانٍ
يعني مما أُلِّف في زمنه من الكتب.(2/4)
أيضا في أبواب الإيمان الأشاعرة مرجئة، والماتريدية كذلك مرجئة، وفي أبواب القدر الأشاعرة جبرية متوسطة يقولون بالجبر الباطن دون الجبر الظاهر، والجبرية الغلاة هم الجهمية وغلاة الصوفية الذين يقولون بالجبر الظاهر والباطن، وأما الأشاعرة فعندهم كما ابتدع أبو الحسن الأشعري في ذلك ما سماه بالكسب، ومحصلَّه عند محققيهم أنه جبر في الباطن مع بقاء الاختيار ظاهرا، وجعل حركات المكلف وتصرفات المكلف كما تتصرف الآلة في يد من يحركها، وهكذا في مسائل أخر معروفة.
المقصود أنّ الأشاعرة والماتريدية خلاف أهل السنة ولا يدخلون في السنة والجماعة وإنْ زعموا، ولا يدخلون في اتباع الأثر والحديث لكن بالنظر إلى المعتزلة هم من أهل الأثر والحديث بالنظر على المعتزلة، وهم من أهل السنة بالنظر إلى الرافضة، ولهذا قد يجد بعض القرّاء في كلام الأئمة من يقول: إنّ الأشاعرة من أهل الحديث. وهذا باعتبار المعتزلة، فإذا صنّف المتكلمون في الصفات أو في العقائد إلى من يحترم الحديث ومن لا يحترمه، فإنّ الأشاعرة من الذين يعتنون بالحديث والسنة، فإذا نظرت إلى الخطّابي والبيهقي وأشباه هؤلاء وجدت أنهم يعتنون بالحديث والسنة، ولهذا قد يُقال إنهم من أهل الحديث؛ يعني من رواة الحديث ممن يعتنون بالحديث مقابلة بالمعتزلة، أما أنهم من طائفة أهل الحديث الذين هم الفرقة الناجية الطائفة المنصورة فليسوا كذلك لمخالفتهم لهم في مسائل الاعتقاد.
طبعا من جهة العلماء علماء الأشاعرة طبقات، منهم من يكون قريبا جدا من أهل الحديث كالبيهقي ونحوه، ومنهم من يكون بعيد جدا، وهم درجات عند الله.
2/ هلاَّ دللتنا على بعض كتب الآداب والسلوك التي ينتفع بها طالب العلم؟(2/5)
لاشك أنّ العناية بكتب الأدب والسلوك والأخلاق من المهمات، ومن أعظم ما يدلك على ذلك فتنتفع به كتاب رياض الصالحين، فإنه من أنفع الكتب في الأدب والسلوك النبوي والإرشاد إلى الأخلاق والآداب والواجبات في التعامل والخلق والأدب، ومن جهة الزهديات كتب السلف في الزهد كالزهد لابن المبارك، والزهد للإمام أحمد، وككتاب الرِّقاق في صحيح البخاري، والبر والصلة في كتب أهل الحديث، هذه فيها -مع شروح أهل العلم عليها- ما ينتفع به طالب العلم كثيرا.
ومن الكتب المتأخرة في ذلك ابن القيم ”مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين“ شرح به كتاب منازل السارين للشيخ الهروي رحمهما الله تعالى، وكذلك كتاب شيخ الإسلام التحفة العراقية، وكذلك كتاب شرح كلمات من فتوح الغيب له أيضا -لشيخ الإسلام-، ونحو ذلك من الكتب المفيدة العظيمة.
ومن جهة تطبيق السلوك تنظر في سير أهل العلم، تنظر في التراجم في سير أعلام النبلاء أو في تذكرة الحفاظ أو في حلية الأولياء مع الانتباه لمواقع الغلو أو الجفاء في بعض التراجم هذه، تنتفع بها من الجهة العملية جدا، والمسألة فيها طول من حيث المراجع والاستفادة منها.
3/ هل تعلمون أحدات من الأئمة نص على أن لله تعالى خمسة أصابع صفة له جل جلاله، أم أن طريقتهم رحمهم الله الإثبات؛ إثبات الأصابع دون تحديد العدد؟(2/6)
الذي أعلمه من طريقة أهل السنة أنهم يثبتون الأصابع لله جل وعلا صفة دون تحديد عدد معين، وذلك لأنّ الحديث الذي جاء فيه لما رواه البخاري ومسلم وغيرهما أنّ الحبر ممن أخبار اليهود جاء فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: إننا نجد عندنا أن الله جل وعلا يجعل السماوات على ذه والأرض على ذه والجبال على ذه. وفي رواية: يجعل السماوات على إصبع والأرض على إصبع والشجر على إصبع وإلى آخره. وهذه الروايات بينها اختلاف في العدد، بعضها فيها ستة، بعضها خمسة، بعضها ثلاثة، فيعلم من ذلك أن المراد منه ذكر الجنس دون العدد، وقال الراوي بعد ذلك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا أو قال تعجبا من قول الحق.
4/ عدة أسئلة تسأل عن الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
وهذا سبق الكلام عليه في شرح الواسطية ولا ينبغي أن يكرر السؤال عن مثل ذلك نمثل هذا الاهتمام لأن المسألة واضحة ولله الحمد.
5/ هل الطائفة المنصورة هي أخص من الفرقة الناجية؟
نفس الشيء.
6/هل العفو يُتصور من غير القادر على الانتقام؟
نعم من حيث التصور: العفو يكون من قادر على الانتقام من قادر على العقوبة ومن غير قادر. ولذلك يكون العفو كمالا إذا كان من قادر على إيقاع العقوبة لمن خالفه أو من مكر به، والله جل وعلا قادر وقدير وعفو سبحانه وتعالى وعفوه عن كمال؛ كمال قدرته وكمال عزته وكمال جبروته سبحانه وتعالى، ولذلك كان صفة كمال لذلك.
ومن القواعد المقررة أنّ قياس الأَولى يجري في حق الله جل وعلا بخلاف قياس الشمول وقياس التمثيل؛ لأنّ الأقيسة ثلاثة:
قياس الأَولى.
قياس التمثيل.
قياس الشمول.
وقياس الأَولى: يجري في حق الله جل وعلا بمعنى أن كل كمال في حق العبد, الله جل وعلا أولى أن يتصف به سبحانه وتعالى، هذا قد جاء في القرآن.
أما قياس الشمول: وهو قياس المناطقة فباطل في حق الله جل وعلا.(2/7)
وكذلك قياس التمثيل: الذي هو قياس الأصوليين فهو باطل أيضا في حق الله جل وعلا.
وكل كمال في حق المخلوق، إذا قلت كل كمال لا نقص فيه، الكمال لا يكون كمالا حتى لا يكون فيه نقص، لكن بعضهم يزيد هذه العبارة توهما من..., أو إخراجا للولد؛ لأنّ بعضهم يرى أن الولد كمال بالنسبة للآدمي؛ يقول: الولد، بمعنى ممن طعنوا في القياس الأولى قالوا: الولد كمال بالنسبة للآدمي ومن لا ولد له من بني أدم فهو ناقص. لذلك كيف يُنفى عن الله جل وعلا باعتبار هذه القاعدة؟ وهذا البحث ناقص؛ لأن الحقيقة ليست كذلك لأنّ الولد نقص بالنسبة للآدمي لم يريد الولد؟ يريده لأشياء إما لنفعه, لكي ينتفع منه إذا كبر، أو ليحمل اسمه خشية من طي اسمه ونسيان اسمه وعدم بقاء اسمه, أو لأجل أنه يحتاج للتفاخر به, وكل هذه صفات نقص, والله جل وعلا له صفة كمال, فلا نحتاج إلى هذا القيد الذي ذكره الأخ من أنّ الكمال يقيد بكمال لا نقص فيه، بل الكلام معلوم أنه لا نقص فيه.
7/ كيف يَفتخر المتصدق بصدقته؟(2/8)
يفتخر المتصدق بصدقته بأنْ يكون أدلى بها في الظاهر في العلن وأعجبه ذلك هذا لابتأس به, لكن الافتخار غير الاختيال، فالفخر هنا إذا افتخر بذلك فخرا شرعيا كما ذكرنا فإنّ هذا يكون من باب الدلالة، ولهذا إبداء الصدقات وإظهارها محمود في الشرع ?إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ?[البقرة:271]، ومن السنن أنّ المتصدق في المسجد إذا كان تصدقه بحثّ الإمام الحاضرين على الصدقة أن يُعلن ذلك كما كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام بدليل حديث مجتابي النمار؛ حيث جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة وملابسهم مقطعة وقد اجتابوا نمارهم فعرف ذلك في وجه النبي عليه الصلاة والسلام، فأمر وحث بالصدقة بعد الصلاة فقام رجل وتصدق بصدقة، فقالوا: تصدق فلان بكذا. فتابع الناس في الصدقة، فقال عليه الصلاة والسلام «مَنْ سَنّ فِي الإِسْلاَمِ سُنّةً حَسَنَةً, كانَ لَهُ أَجْرُهَا, وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلى يوم القيامة» فهذا المجال لا بأس به، لكن الفخر يكون من جهة دلالة الخلق على ذلك والفرح بفضل الله جل وعلا بذلك, لا فخرا مذموما، كما ذكرنا لكم من كلام ابن القيم في التفريق بين صورتي الفخر أن هناك فخرا مذموما وهناك فخرا ممدوحا.
8/قول المؤلف ويأمرون ببر الوالدين، هل يعني هذا طاعة الوالدين حتى وإن ظلموا أبناءهم, حتى في أبسط حقوقهم وهل يحق للابن أن يمنع والده من أخذ ماله علما أن الأب لم يصرف على ابنه هذا لأنه عاش في كنف والدته بحكم أنها مطلقة؟(2/9)
برّ الوالدين أصل من الأصول وقربة من القرب العظيمة قرن الله جل وعلا حقهما بحقه جل وعلا دون تفصيل في الحال?وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا?[النساء:31]، ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23)وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ?[الإسراء:23-24] وهذا فيه إطلاق في جميع الحالات, فعقوق الوالدين كبيرة من الكبائر مقارنة لكبيرة الشرك والعياذ بالله, قرن الله جل وعلا بينهما تعظيما لهذا, فكما أنّ عقوق الوالدين مقترن بالشرك, إذا حصل من الوالدين ما لم يحمد لم يطيعا الله جل وعلا في العبد -في الابن- فإنّ الابن يطيع الله جل وعلا فيهما لا يفرط في الأمر الشرعي لأجل أنهما فرّطا, بل لو جاهداه على أن يشرك, لو جاهداه على أن يزيغ, لو جاهداه على أن ينحرف, لو جاهداه على أن يكفر, فإنه لا يطيعهما فيما أرادا ويصاحبهما في الدنيا معروفا، كما قال جل وعلا?وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا?[لقمان:15]، وهذا من القواعد العامة في بر الوالدين, أما أخذ الوالد الأب أو الأم في قول كثير من أهل العلم, أَخْذَ الأب بعض مال ولده هل له ذلك؟(2/10)
الصواب: أن له ذلك، لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال «أنت ومالك لأبيك» لأنك جئت بسبب الأب، فأنت ومالك لأبيك، لكن الفقهاء قيّدوا ذلك بفهم ما جاء في السنة والقواعد وعمل الصحابة رضوان الله عليهم بقولهم في باب الهبة –عبارة الزاد- وللأب أن يتملّك من مال ولده ما لا يضره ولا يحتاجه. فللأب أن يتملك من مال الولد ما لا يضره ولا يحتاجه، فإذا كان الأخذ يضر الولد أو يحتاجه الولد في معيشته فإن الأب ليس له ذلك، لكن إذا كان شيئا زائدا فإن له أن يتملك ذلك، وكذلك الأم على الصحيح من قولي أهل العلم هنا.
9/ من كان في عقيدته انحراف عن هدي السلف الصالح، وكذا في أخلاقه مع الناس، ما حكم مساعدته في الخروج من المصائب التي تحلّ به وزيارته والوقوف بجانبه؟ وهل من رفض مساعدته بحجة ما عنده من الانحراف في العقيدة على صواب؟
هناك تنبيه عام في الأسئلة، وهذا لعلِّي أعرض له إن شاء الله تعالى في درس عام يلقى قريبا إن شاء الله بعنوان أدب السؤال.(2/11)
كثير من الأسئلة يكون عند ملقيه أو عند السائل حالة معينة، فيأتي بصيغة عامة وهذا غير مناسب أن نسأل أحد أهل العلم أو أحد طلبة العلم، وأنت في ذهنك حالة خاصة تصوغ السؤال بصيغة عامة وأنت تعني هذه الحالة الخاصة، هذا يجعل المجيب في غير علم بما في ذهنك، فيجيب إجابة بقدر السؤال وأنت تنزلها على ما في ذهنك من الواقع، وهذا يَحصل منه بلبلة كثيرة، وكثير من الأسئلة التي وجهت لأهل العلم في هذا لزمن من جهة العموم فيجيب العالم أو طالب العلم فيها بجواب فيستدل منها السائل على أشياء في صالحه فيما يزعم، وهذا ليس من أدب السؤال، بل السائل مستفتٍ السائل مسترشد، لا يسوغ له أن يسأل أن يحظى من المسؤول بالجواب الذي يلائمه، لأن السؤال في أصله أن تريد منه أخذ الحق، ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?([1]) أما إذا كنت تعلم أو عند شيئا مقررا وتريد أن تسأل لتجعل الجواب في صالحك أو مقويا لك فإن هذا ليس من أدب السؤال.
فلهذا نقول حبذا أن تكون الأسئلة في مثل هذا السؤال أن تكون مخصوصة بالحالة، من كان في عقيدته انحراف عن هدي السلف الصالح، وكذا في أخلاقه ما حكم مساعدته في الخروج من المصائب؟ هو يعني حالة معينة، لكن المسألة هذه تحتاج إلى تفصيل، كل حالة لها ما يناسبها من الجواب، لأنها قد تكتنفها أشياء يعلمها السائل ويعلمها المسؤول، بإيضاح هذه الأشياء يكون الجواب، فالجواب ليس في المسائل هذه بأمر عام بل بمعرفة الحالة الخاصة، وهذا حبذا لو يعتني به الإخوان، جزاهم الله خيرا.
10/ من يأمر بالمعروف ولا يأتيه هل يؤجر؟ ومن ينهى عن المنكر ويأتيه هل يؤجر؟
نعم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير مرتبط بعمل المعروف أو الانتهاء عن المنكر؛ لأن الواجب على العبد واجبان:
1- واجب في أنْ يأتي المعروف وأن ينتهي عن المنكر.
2- والواجب الثاني أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر.(2/12)
فإذا ترك أحد الواجبين فإنه لا يسوغ له شرعا أنْ يترك الواجب الآخر، إذا كان واقعا في المنكر, وتاركا للمعروف الذي يأمر به, فإنه لا يترك الأمر والنهي ويفرّط في هذا الواجب لأجل أنه فرط في الامتثال، هذا واجب, وهذا واجب, ولهذا ذكرتُ لك قول الإمام مالك رحمه الله تعالى: لو لم يأمر بالمعروف إلا من أتاه ولم ينهى عن المنكر إلا من انتهى عنه لن تجد آمرا ناهيا. لأنّ الدين عظيم ومسائل الشرع والواجبات والمستحبات كثيرة, كذلك المحرمات والمكروهات كثيرة, فالعبد يجب عليه أن يأمر وينهى فإنه إذا فرط فإنه يستغفر الله جل وعلا ويكون قد فرط في واجب أو مستحب أو ارتكب محرما, ونحو ذلك.
فلهذا لا صلة بين هذا وهذا, هذا واجب, وهذا واجب, فمن وفقه الله جل وعلا لامتثال الواجبين فإنه هو الذي حظي بالفضل, وأما من خالف فهذا فيه تفصيل:
إن كانت هذه المخالفة دائمة معه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, وهو يواقع المنكر ولا يأتي ولا يأتي بالمعروف طول حياته, يعني ملازم لذلك فهذا هو الذي جاء في مثله قول النبي عليه الصلاة والسلام الحديث الذي رواه مسلم وغيره «إنه يؤتى بالرجل يوم القيامة, فيلقى في النار فتندلق أقتابه-يعني أمعاؤه- فيقال له: يا فلان ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر, قال: بلا, ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه, وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه» هذا في حال من لازمه وغلب عليه.
أما من أمر ثم استغفر ويجاهد نفسه, هذا له حكم أمثاله ممن خلط عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يعفو عنه.
11/ هل يصح يا شيخ الإسلام أنه قال: إن الأشاعرة لم يوافقوا أهل السنة إلا في السيف, حيث نُقل عنكم ذلك؟(2/13)
ما ادري، أنا ما أذكر أني قلت هذه الكلمة, ولا أحفظها من كلام شيخ الإسلام –رحمه الله-، لكنهم وافقوا أهل السنة في السيف يعني جمهور الأشاعرة أنه لا يجوز الخروج، وافقوا أهل السنة في السيف؛ لكن لم يوافقوهم إلا في هذه غير صحيح؛ لأنهم وافقوا أهل السنة في مسائل كثيرة.
12/ما هو الرابط بين ما يجوز تأويله وما لا يجوز؟ وهل يجوز تأويل قول الله تعالى ?فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا?[الحشر:2] وتأويل قوله?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26]؟
الجواب: أن هذه المسألة مسألة عظيمة ودقيقة وبعدم معرفتها يكون الخلط بين التأويل والقول بظاهر الكلام أو ما يتضمنه الكلام أو لازم الكلام.
وأذكر أني في أثناء الشرح لما تكلمنا على الصفات, عرضتُ لهذه المسألة لكن أعيدها حتى تتكرر الفائدة:
فالتأويل: هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره, صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره، لدليل دل عليه أو لقرينة.
فإذن في التأويل عندنا ظاهر, وهناك صرف اللفظ عن ظاهره, فعِماد فهم التأويل على فهم كلمة (الظاهر).
كما أن المجاز عندهم هو نقل اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثانٍ لعلاقة بينهما, ففهم المجاز الذي يقابله الحقيقة مبني على فهم: الوضع الأول, الوضع الثاني، العلاقة.
والتأويل مبني على فهم الظاهر والقرينة.
فإذن في التأويل شيئان؛ ظاهر وقرينة, مهم أن تعتني بهذين حتى تفهم المسألة.و
في الحقيقة والمجاز هناك ثلاثة ألفاظ؛ وضع أول, وضع ثان, وعلاقة.
الظاهر في التأويل نوعان؛ الظاهر في الكلام نوعان: هناك ظاهر اللفظ, وظاهر تركيبي.
ظاهر يظهر من لفظ واحد.
وظاهر يظهر من الكلام؛ من الجملة.(2/14)
ولهذا تعريف التأويل قالوا نقل الكلام أو صرف اللفظ, نقل الكلام من ظاهره المتبادر منه إلى غيره بقرينة، أو صرف اللفظ، فنقل الكلام أو صرف الكلام عن ظاهره هذا راجع إلى الظاهر التركيبي, وصرف اللفظ عن ظاهره هذا راجع إلى اللفظ الإفرادي فمثلا في قول الله جل وعلا ?الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى?[طه:5]، قالوا استوى بمعنى: استولى أو هيمن, هذا تفسير لكلمة استوى, هنا نقل اللفظ من ظاهره إلى معنى آخر بقرينة, ظاهر اللفظ هنا أن استوى بمعنى: علا. هذا معناها في اللغة, فأولوها بمعنى استولى فصار هذا تأويلا, هل هذا تأويل سائغ أم غير سائغ؟ نقول هذا تأويل باطل غير سائغ؛ لأنه نقل اللفظ عن ظاهره المتبادر منه بغير قرينة, القرينة التي يدّعونها, القرينة العقلية, والقرينة العقلية مبنية على أنْ يكون العقل تصوَّر امتناع إثبات ظاهر اللفظ, فلذلك نقله, ومن المتقرر أنّ علوّ الله جل وعلا على عرشه لا يمتنع عقلا –اليس كذلك؟- ما نقول ثابت عقلا، العلو ثابت عقلا الاستواء على العرش لا يمتنع عقلا، فعلى تقدير مجاراتهم في كلامهم نقول هو جائز عقلا, وإذا كان كذلك فيكون نقل اللفظ من ظاهره إلى غيره يكون تأويلا باطلا.(2/15)
هناك تأويل صحيح ممثل ما ذكر من الآيات مثل قول الله جل وعلا ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26]، ظاهره؛ ظاهر اللفظ أن الإتيان هنا لله جل وعلا (أَتَى اللَّهُ) يعني أنّ الله يأتي لكن أجمع أهل السنة على أنّ هذه الآية ليست من آيات صفة الإتيان، لم؟ لأن الظاهر هنا ظاهر تركيبي ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ?[النحل:26] معلوم أنّه لما قال(مِنَ الْقَوَاعِدِ) بأن الله جل وعلا لم يأتِ من القواعد بذاته ?فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ?[النحل:26]، وإنما أتى الله جل وعلا بصفاته يعني بقدرته, بعذابه, بنكاله, كذلك قول الله جل وعلا?أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ?[الفرقان:45], (أَلَمْ تَرَى إِلَى رَبِّكَ) ليس معناه رؤية الله جل وعلا حيث يمد الظل, وإنما تُرى قدرته جل وعلا حيث يمد الظل، فهذا الظاهر تركيبي، هذا لا يُسمى تأويلا أصلا؛ لأنه القول بظاهر الكلام فما نقلنا الكلام وما صرفنا الكلام عن ظاهره.
فإذن القاعدة المقررة عند أهل السنة أنه في نصوص الغيبيات؛ في الصفات أو في ما يكون يوم القيامة, أو في الملائكة, إلى غير ذلك، لا تأويل فيها، فنأخذ بالظاهر, هذا الظاهر تارة يكون ظاهرا من جهة اللفظ, و تارة يكون ظاهرا من جهة التركيب.
في قول الله جل وعلا? تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[الملك:1]، قد تجد من يفسرها بقوله (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) يعني في قبضته وتحت تصرفه, وهذا التفسير إذا كان مع إثبات صفة اليد لله جل وعلا فهو تفسير سائغ؛ لأن الملك بيده, بمعنى أنه تحت تصرفه، لكن في الآية إثبات صفة اليد.(2/16)
في قول الله جل وعلا ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ?[الفتح:10]، قال ابن كثير وغيره: هذا تشديد في أمر البيعة. هذا فيه إثبات صفة اليد لله جل وعلا ومعنى الكلام في ظاهره التركيبي مع إثبات صفة اليد أنّ فيه تشديد أمر البيعة.
فإذا كان أحد من المفسرين فسر بالظاهر التركيبي أو فسر بالمتضمن للكلام، أو فسر باللازم فتنظر فيه هل يؤول الصفات أو لا يؤولها؟ فمثلا لو نظرت إلى هذه الآية (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ووجدت أن في هذه الآية لم يثبت صفة اليد وإنما قال هذا تشديد في أمر البيعة لأجل أن لا ينكث بها أحد.
تنظر في الموضع الآخر لقوله جل وعلا ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وفي قوله ?يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ?[المائدة:64]، هل في ذلك إثبات صفة اليد عند هذا المفسر أو لا؟ فإن أوّل في ذلك الموضع علمنا أنه في هذا الموضع أوّل، وإن أثبت في ذلك الموضع علمنا أنه في هذا الموضع فسّر باللازم والمتضمن.(2/17)
وهذا من دقيق المسائل إذا لم تفهمه وجاوزه، ولا تأخذ فيه بعدم فهم له؛ لأنّ هذه من دقيق المسائل ولهذا بعضهم يقول البغوي أوّل، أو مثل واحد ألّف ابن كثير بين التفويض أو قال ابن كثير بين التأويل والتفويض أو بين التفويض والتأويل، ويظن أنّ بعض الناس أن ابن كثير فوّض بعض الآيات؛ فوض بعض الصفات أو أوّل، هذا غير صحيح، كذلك البغوي فوّض أو أوّل هذا غير صحيح، لم؟ لأنه قد يفسر باللازم، قد يفسر بالمتضمن، قد يفسر بالظاهر التركيبي، كيف تعلم الفرق بين المؤلف وغيره؟ كما فعل السائل هنا بدقة جيدة قال: ما هو الضابط بين ما يجوز تأويله وما لا يجوز تأويله؟ يلتبس في حق بعض المفسرين فلا تأخذ في الموضع المشكل الذي يحتمل أن يُفسَّر باللازم ولكن أنظر إلى الموضع الذي فيه التنصيص على الصفة فإذا أثبت الموضع الذي فيه التنصيص على الصفة، فإنه هنا ما أول الصفة ولكنه فسر بالمتضمن أو اللازم أو فسر بالظاهر التركيبي، وهذا بحث يحتاج إلى مزيد بسط لكن هذه أصوله.
13/ هناك كلام لشيخ الإسلام وهو أن أهل السنة يرون أنه لا مانع في وجود حوادث لا أول لها كما يوجد حوادث لا آخر لها؟
الزمان مخلوق والله جل وعر هو الأول والآخر وهو سبحانه وتعالى حي قيوم فعال لما يريد، فلابد لظهور أثر صفاته وأثر أسمائه الحسنى في بريته، فلابد إذن أن توجد برية فيتناهى الزمان، ينتهي الزمان، ويكون هو جل وعلا أوّل بصفاته وهو آخر أيضا ?هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ?[الحديد:3]، وهذه هي المسألة التي يسميها بعضهم قِدم الحوادث، أو تسلسل الحوادث أو نحو ذلك من الأسماء.(2/18)
ومن مذهب أهل الحديث والسنة فيها: أن الله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلا وأنّ أسماؤه وصفاته لابد أن يظهر أثرها في خليقته، فلا يكون متصفا بصفات وله أسماء متضمنة لصفات ثم يكون معطَّلا جل وعلا عن الفعل حتى يخلق الزمان ويخلق المكان، وهذا فيه دخولٌ في قول الجهمية والمعتزلة.
فأهل الحديث يقولون هو جل وعلا لم يزل حيا سبحانه وتعالى، وهو فعال لما يريد، ولابد أن يكون له إرادة سبحانه وتعالى، فإرادته أن يفعل؛ معنى ذلك أن يحدث فعل، وصفاته جل وعلا لابد أن يكون له أثر في الخليقة فصارت حوادث.
أول هذه الحوادث متى؟ نقول الزمان وجد بعد ذلك، والله جل وعلا أعلم بهذا الأمر، تقاصر العقل والفهم عن هذه الأشياء؛ لكن من الظلم ما قالوه من أن شيخ الإسلام وأهل الحديث قالوا بقول الفلاسفة؛ حيث يقول الفلاسفة بقدم هذا العالم، وأن هذا القول الذي ذكرناه من مذهب أهل الحديث هو قول الفلاسفة، هذا باطل وإنما أوتوا من جهة عدم الفهم، الفلاسفة والضلال في هذا الباب قالوا بقدم هذا العالم -فيها الإشارة- هذا العالم المنظور، هذا العالم الذي تراه؛ السموات والأفلاك والأرض قالوا هي قديمة.
وأما أهل السنة فقالوا خلق الله جل وعلا قديم، ليس هذا العالم، هناك جنس مخلوقات، أما هذا العالم فهو محدث مبتدئ ابتداءً نعلمه مما جاءت النصوص. ([2])
وأما فعل الله جل وعلا وجنس مخلوقاته فهذا علمه إلى الله جل وعلا، ولا يجوز لأحد أن يدخل في ذلك بتعطيل الله جل وعلا عن فعله لما يريد فهو سبحانه وتعالى الحي القيوم قائم على ما خلق سبحانه وتعالى، ولا بد أم يظهر أثر الصفات وأثر الأسماء في الخلق، وهذه مسألة عظيمة خاض فيها من لم يحسن، وهدى الله جل وعلا أهل السنة فيها بتعظيمه وعدم حدّ صفاته وأفعاله.
14/... بل هو أسلوب من أساليب العرب والقائلين به يقولون هم مجاز، وعليه الخلاف لفظي ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأن الخلاف لا أثر له فما هو جوابكم؟(2/19)
نقول هذا القول باطل وغلط كبير, المجاز كما عرفته لك بنقل تعريف الأصوليين هو: نقل لفضي من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة بينهما.
إذا كان النص في أمور غيبية ممثل صفات الله جل وعلا، أو صفات الملائكة, أو صفة الجنة والنار, أو صفة ما يحدث يوم القيامة, أو ما في البرزخ, في القبور ونحو ذلك, إذا كان اللفظ في أمور غيبية، فإنه لا يجوز دعوى المجاز فيه فهو من جملة أهل البدع, لم؟ لأنّ المجاز في تعريفه نقلُ اللفظ من وضعه الأول إلى وضع ثان لعلاقة, لم نقلوه؟ لعدم المناسبة, الوضع الأول لابد أن يكون معلوما, ثم يُنقل من الوضع الأول إلى الوضع الثاني لعلاقة بينهما, لعدم مناسبة الوضع الأول, نقول هذا لو طبّقوه لرجح عليهم الإبطال كل ما ادعوا فيه المجاز من المسائل الغيبية؛ لأن كل من قال بالمجاز في آية, أو في حديث في أمر غيبي قل له, لم؟ فيقول لأن هذا اللفظ ليس لائقا, وننقله عن ذلك, فتقول له وما أدراك عن الوضع الأول؟ الوضع الأول يعني اللفظ الذي وضعته العرب أول ما وضعت الكلام لهذا المعنى، فمثلا لفظ الأسد هو للحيوان المفترس, نُقل من الحيوان المفترس إلى الرجل الشجاع, فإذا قلت رأيتُ أسدا إحتمل الكلام أن تكون رأيت الحيوان المفترس المعروف أو رأيت الرجل الشجاع, لكن إذا قلت رأيتُ أسدا فكلمني هذا انتهى الأول, هذا ظاهر لم؟ لأن دلالة السياق حددت لك المراد, لكن في مثل قوله جل وعلا?الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ?([3]), قالوا الرحمة مجاز عن الإنعام, يعني أن الرحمة لها معنى في أوله وهو الذي يحس به المخلوق حين يَرحم, ثم نُقل إلى وضع ثان وهو الإنعام لعدم مناسبة الوضع الأول لله جل وعلا، فتسأل هذا الذي ادعى المجاز تقول له: ومن قال لك إن الرحمة وضعت أولا في كلام العرب للرحمة التي يحس بها الإنسان؟ هذه دعوى لا يمكن لأحد أن يقول: الوضع الأول في المعان هو كذا. هذا من العسير أن يقول الوضع الأول هو كذا, تقول له ما الدليل على أن الوضع(2/20)
الأول هو كذا؟ ?وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ?[الإسراء:24]، قال: هذا مجاز. لم؟ قال: لأن الجناح للطائر. فنقول بأنه مجاز لأن الجناح للطائر, فننقله من وضعه الأول إلى الوضع الثاني للاستعارة كما يقولون, الآية فيها استعارة, نقول ومن قال إنّ العرب وضعت لفظ الجناح للطائر، ما الدليل؟ يقف معك، لا دليل، وهكذا في مثل يعني مسائل كثيرة في الصفات والغيبيات إلى آخره.
فالمقصود من ذلك أن دعوى المجاز في الصفات باطلة, ولا دليل واضح علمي بتطبيق ما قرروه في تعريف المجاز على ما ادعوه.
فمن قال: إن في آيات الصفات الآيات الغيبية مجاز. فنقول: هذا باطل مخالف للعقيدة عقيدة السلف الصالح.
إذا قال في غير آيات الصفات إنه مجاز, نقول: الخلاف هنا أدبي. من قال: في لفظ من الألفاظ في غير القرآن إن هذا فيه مجاز. نقول: المسألة سهلة. أنه لا تعرض فيها للصفات ولا للغيبيات فمن قال هذه الكلمة فيها مجاز, بيت الشاعر هذا فيه مجاز ونحو ذلك. نقول: الأمر سهل. لأنه ما ينبني عليه خلل في العقيدة.
فإذن إذا ادّعى المجاز في المسائل الغيبية؛ في الصفات أو في الغيبيات فهذا مخالف للعقيدة.
إذا قيل بالمجاز في غير آيات الصفات والمسائل الغيبية فتقول هذا خلاف أدبي، منهم من يرجح أنه لا مجاز، ومنهم من يرجح أن فيه يعني في اللغة مجازا.
وهل القرآن فيه مجاز أم لا؟ أيضا ثَم خلاف, من القواعد المقررة عند القائلين بالمجاز أن كل مجاز يصحّ نفيه، فإذا قلت رأيت أسدا فكلمني جاز أن تقول بعدها مباشرة ولكنه ليس بأسد؛ تعني الوضع الأول, جدارا أو( جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ), يصح أن تقول بعدها عندهم ولكنه ليس بجناح، تريد جناح الطائر, ومن المجمع عليه أنه لا يجوز أن يُنفى شيء في القرآن, وهذا من المرجحات لعدم جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز.
هذه قاعدة عند البلاغين, كل مجاز يصح نفيه.(2/21)
مجاز لفظي، لا, إذا كان في غير آيات الصفات والغيبيات يعني يصير سهل؛ لكن في القرآن كله لا ليس لفظيا، النزاع حقيقي, هل تأول آيات الصفات أم لا؟ تأوّل, إذا كان أخرج آيات الصفات قلنا الخلاف يكون أدبيا, يعني الخلاف بين أهل العلم، التحقيق أنه لا مجاز في اللغة أصلا، كما أنه لا ترادف في اللغة، وإنما كل مسألة ادعوا فيها المجاز فنقول هي حقيقة, ولكن الحقيقة منها ما تفهم باللفظ ومنها ما تفهم بالتركيب.
15/هنا قال هل يوصف الله جلا وعلا أو يخبر عنه بأنه ساكت؟
الجواب: أنّ السكوت له معنيان:
المعنى الأول: سكوت مقابل للكلام؛ تكلم وسكت.
والمعنى الثاني: سكوت عن إظهار الحكم, عن إظهار الكلام, عن إظهار الشيء.
أما الأول فلا أعلم أن أهل السنة يصفون الله جل وعلا بالسكوت الذي هو مخالف للكلام؛ يعني يتكلم ويسكت بمعنى يترك الكلام أصلا، فلا أعلم أن أحدا من أهل السنة قال به.
وأما المعنى الثاني وهو السكوت بمعنى عدم إظهار الخبر أو ترك إظهار الحكم، أو إظهار الكلام، هذا جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ، غَيْرَ نِسْيَانٍ، فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا» سكت عن أشياء هنا السكوت بمعنى عدم إظهار الحكم لأنه قال « إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ» فالسكوت هنا عدم إظهار حكم تلك الأشياء، ليس هو السكوت الذي هو ضد الكلام، فهذا النوع ثابت سكت الله جل وعلا عن هذا الحكم يعني لم يظهر حكمه لا في الكتاب والسنة، تركها جل وعلا، فيرجع الأمر إلى القواعد إما أن أصلها الإباحة أو إلى آخر ما هو معلوم.
وهذا هو المراد بقول من قال من السلف يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء دعاية لهذا الحديث، هذا تحقيق القول في هذه المسألة والله أعلم.
16/ ما رأيك في من استحب التغيير بلفظ السلف الصالح بدلا من مذهب أهل السنة والجماعة؟(2/22)
أهل السنة والجماعة لفظ ادعاه الكثيرون، فالأشاعرة يقولون عن أنفسهم إنهم هم أهل السنة والجماعة، والماتريدية كذلك؛ لأن لفظ السنة والجماعة لفظان محببان جميلان، فأهل السنة والجماعة كل يدعيها، ولذلك إذا قلت عند الأشاعرة، فلا بد أن نذهب إلى ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة يسلم لك لا خلاف في هذا؛ لأن اللفظ كل يدعيه أهل لفظ السلف الصالح فإنه يتميز به المراد بأهل السنة والجماعة، السلف الصالح لا ينتسب إليه الأشاعرة والماتريدية والمبتدعة؛ لأنهم يؤصلون أن طريقة السلف أسلم ولكن طريقة الخلف أعلم وأحكم، فلا ينتسبون إلى السلف الصالح لأجل أنهم أرادوا السلامة والسلامة عندهم خلاف العلم والحكمة، نسأل الله العافية والسلامة.
والواقع أن السلف طريقتهم أسلم وأعلم وأحكم رحمهم الله تعالى وجزاهم عنا وعن الإسلام خير الجزاء.
ولهذا ينبغي التنبه عند إطلاق أهل السنة والجماعة بتقييده، وإذا أطلق ولم يقيد في بعض الأحيان فلا بأس، لكن تقييده في بعض الحيان هذا هو طريق المحققين من أهل العلم، فيطلقونه من غير تقييد وتارة يقيدونه حتى يحمل المطلق على المقيَّد.
17/ ذكرت أنّ الجهمية يخرجون من اثنين وسبعين فرقة ولم تذكر الأشاعرة؟
الأشاعرة هم من هذه الأمة، الأشاعرة ليسوا بخارجين عن الإسلام، الأشاعرة إنما هم مخالفون مبتدعة.
18/ قد علم من طريقة السلف أنهم لا يردفون نزول الله بأنه ينزل بذاته، إلا ما قاله ابن منده: ينزل بذاته من العرش. لكن هل في قولنا إنه ينزل بذاته محذور أو فساد للمعنى، وذلك أننا نعلم أن هذه الصفة صفة اختيارية قائمة بالنفس؟ وأيضا لماذا لا ينسحب هذا على صفة الاستواء؟
لو ترك (ينسحب هذا) لكان أحسن، لو قال: ولكن لماذا لا يصلح هذا في صفة الاستواء؟ أو لماذا لا يقال هذا في صفة الاستواء؟ ونحو ذلك.(2/23)
معلوم أن طريقة السلف متابعة النصوص، والتصريح ببعض الألفاظ الزائدة عما جاء في النصوص مما يفهم منها في الصفات، لا يكون إلا عند الحاجة، لا يكون هكذا من غير حاجة، لهذا ترى أن الإمام أحمد قال في أول أمره: من قال إن القرآن غير مخلوق فهو مبتدع ومن قال إنه مخلوق إنه مبتدع. ثم لما استحكم القول بخلق القرآن قال إذا سئل هل القرآن مخلوق قال: لا، ليس بمخلوق.
الفترة الأولى حين قال من قال إن القرآن ليس بمخلوق فهو مبتدع، لأنه لا حاجة إلى ذكر هذه اللفظة؛ لأن ذكر هذا اللفظ يستدعي البحث في خلق القرآن، هل هو مخلوقأو غير مخلوق؟ ليس بمخلوق ، لماذا نفى؟ فلا تدخل في العقائد بألفاظ مبتدعة، بل تتابع النصوص، وهذا هو الواجب وخاصة في الحديث مع العامة والناس ومع طلبة العلم، إلا فيما يحتج إليه، ولهذا قد يتحاشى طالب العلم أن يفصل بعض المسائل لبعض المتعلمين وطلبة العلم لأنه لا حاجة إلى تفصيلها.(2/24)
وهذا الباب باب العقائد الأصل فيه أن يتابع الكتاب والسنة، وأن لا يزاد عليه تذكر المسالة ويذكر دليلها فقط؛ لكن توسع أهل العلم ردا على المخالفين، ولهذا من زاد بعض الكلمات استوى على عرشه بذاته، أو قال هل استوى بحد؟ قال نعم بحد، أو ينزل بذاته، أو يأتي بذاته، أو نحو ذلك، فهذا لحاجة كانت في ذلك الزمان، فما لم تكن الحاجة قائمة في مقابلة أهل البدع فإنه لا يتجاوز القرآن والحديث، ولهذا مما ينبغي أن يفهم وأن يستحضره طالب العلم جيدا أن كتب الردود لا تأخذ منها تقعيد عقائدي وإنما تأخذ منها فهم مرادات السلف بتقرير العقائد، وفرق بين المسألتين، فكتب الردود قد يحتاج فيها العالم الذي رد من أئمة السلف إلى ألفاظ لا يقولها عن الابتداء والاختيار، وإذا قرر العقيدة من دون ردّ فإنه لا يأتي بتلك الألفاظ، ولهذا نقم بعض أهل البدع على بعض أئمتنا كعثمان بن سعيد الدارمي وابن منده ونحو هؤلاء الأئمة بألفاظ أوردوها، وإنما أحوجهم إيراد تلك الألفاظ الرد على المخالفين، فتنتبه أن كتب الردود يكون فيها زيادة، فيها استطراد، فيها أنه يلتزم بشيء لا داعي له، لكن في مقام الرد يلتزمه ليبين أنه على ثبت ويقين من الأصل الذي أصله.(2/25)
فإذن أعيد لكم هذا الأصل وهذه القاعدة هي: أن كتب الردود لا يؤخذ منها تقرير عقائد أهل السنة، وإنما يؤخذ منها فهم تقرير العقائد، التقرير نفسه ما تأخذ منها؛ يعني التقعيد لا تأخذه من كتب الردود، وإنما كيف تفهم النصوص كيف تفهم القواعد؟ تفهمها من الردود، فإذا احتجت ذكرت ما ذكروا إذا لم تحتج فلا تتوسع في ذلك فباب الصفات باب إنما يتابع في النصوص لا تزيد على النصوص، إلا إذا كان ثم حاجة، ولهذا بعض طلبة العلم يستأنس بهذا الباب إلى ذكر خلافيات دقيقة في نصوص الصفات، وكلام أهل العلم، ويتجادلون في ذلك، ويتركون بعض الواجب عليهم في مسائل الدين الأخرى لا يتعلمونه وبالتالي لا يعملون به، فهذا غير سائغ؛ لأنّ طلب العلم في الحقيقة له لذة ومن سار في طلبه للعلم على لذته حُرِم -بعض الشباب وهذه سبق أن ذكرتها لكم وهي أن بعضهم يطلب العلم للذة يعني من الزمن القديم- له لذة في البحث في الصفات فيبحث ويدقق؛ لكن باب الإيمان لا يعرفه، لكن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعرف كلام أهل السنة فيه، لكن باب الأخلاق ما يعرف كلام أهل السنة فيه، وهكذا فالإيغال في بحث شيء وقد فرط في واجب وذاك الذي أوغلت فيه ليس بواجب عليك فهو من باب تقديم المستحب على الواجب، فتقديمك المستحب على الواجب لم؟ لأنّ لك لذة فيه، ولشيخ الإسلام رسالة في هذا الأصل عنوانها ”قاعدة فيما للعبد فيه محبة“ يعني من الأعمال، وهذا من دقائق البحث في أصول العمل والنيات وما يصلح به القلب، وهذه الرسالة غير موجودة في الفتاوى ولا رسائل شيخ الإسلام، وإنما موجودة في مجموع اسم رسائل عرابية أو بحوث عرابية وإسلامية مهداة إلى أديب العربية محمود محمد شاكر، مجموعة من تلامذة الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر، كتبوا تحقيقات ومن ضمن تلامذته محمد رشاد سالم حقق هذه الرسالة وأودعها هذا المجموع وهي رسالة وجيزة.(2/26)
بعض الناس يطلب العلم للذته تجده يبحث في المصطلح ويحقق في المصطلح، لماذا؟ لأن له لذة في ذلك يجد استمتاع يخرج الأحاديث، ويجلس للأحاديث شهر أسبوعين وثلاثة وأسبوع، لم؟ لأن له لذة في ذلك، يحفظ حفظا مطولا كذا هل لأنه الواجب عليه؟ لا، لأن له لذة في ذلك، تجد يحفظ في كتب الحديث، هل حفظت القرآن؟ لا، لم؟ صار لذاك؛ لأن له لذة فيه ، تجده يوغل في البحث في مسائل الأسماء والصفات ويأتي فيها ببحوث غريبة يعني من جهة أنها غير مشهورة وذلك لأن له لذة في ذلك فإن كان هذا الاستقصاء بعد تمكن فيما يجب عليه فهذا فضل الله يؤتيه ما يشاء، أما أن يفرط بالواجب ويذهب إلى مستحب أو يذهب إلى مباح في بعض من الإطلاع على بعض التفاصيل فهذا ليس بحسن.
نعود إلى أصل الموضوع وهو أن مثل هذه الألفاظ بذاته أو نحو ذلك هذه يذكرها بعض أهل العلم للحاجة إليها، فإذا إذا لم يكن ثم حاجة فلا مجاوزة للقرآن والحديث فنحن نقول الله جل وعلا مستوي على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته، وينزل إلى السماء الدنيا كما أخبر عن ذلك كما يليق بجلاله وعظمته، ولا حاجة إلى القول بذاته لأن النص ظاهر واضح.
19/ نرجو فتح مجال لحفظ كشف الشبهات.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الإعانة هذا من أعظم ما يُعمل في طلب العلم أن تحفظ لمتون هذه، خاصة كشف الشبهات وكتاب التوحيد وثلاثة الأصول؛ لأن فيها من أصول التوحيد ما تحتاج إليه دائما، ومن حفظ فأراد أن يتقدم ونسمع له ما عندنا مانع.
20/ هل الخوارج كفار؟
ليسوا بكفار على الصحيح، بل كما قال علي رضي الله عنه من الكفر فرّوا وقول النبي عليه الصلاة والسلام « يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ» لا يُعنى به أصل في الدين وإنما يعني به أكثر الدين.
21/ هل ورد أثر في أن مسح رأس اليتيم من أسباب ترقيق القلوب؟
هذا ليس على شرط الليلة.(2/27)
22/ كيف أجمع بين حديث الرسول عليه الصلاة والسلام «صنفان من أهل النار لم أرهما...»الحديث، وغيرها من الأحاديث وبين قول أهل السنة بعدم خلود أهل الكبائر في النار؟
دخول النار لمن لم يغفر الله جل وعلا له أو لم ترجح حسناته على شيئاته أو لم يُشفع له، هذا يكون دخولا مؤقتا لمن كان من أهل السنة، أهل التوحيد ربما عذبوا في النار لكن تعذيبا مؤقتا، فتعذيبهم ليس بخلود فيها، الذي يخلد هو الكافر الخارج من الإسلام.
23/ كيف يعرف الرجل البلاء إذا نزل به من المصيبة؟
يعني إذا نزل بالعبد شيء هل يعتبره بلاء أم يعتبره مصيبة؟ هو في الواقع أراد أن يقول هل هو بلاء أم عقوبة؟ فيما يظهر. أم هو: بلاء أو مصيبة؟ هو يكون بلاء وهو مصيبة في نفس الوقت؛ لأنّ المصيبة يبتلى بها، لكن الذي يقارن يقال هل هو بلاء أم عقوبة، هذا الذي أفهم أليس كذلك؟ ليشتبه هل هذا بلاء أم عقوبة هل هو ابتلاء أم عقوبة، أما المصيبة فاله جل وعلا يبتلي بالمصائب كما هو معلوم.(2/28)
الأصل أنّ المسلم ما يصيبه ابتلاء لقول النبي عليه الصلاة والسلام «عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ. إِنّ أَمْرَهُ كُلَّهُ له خَيْرٌ. إِنْ أَصَابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْراً لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرّاءُ صَبَرَ, فَكَانَ خَيْراً لَهُ» السراء والضراء صارت خيرا للمؤمن، فتكون إذن من الابتلاء أبتلي بالسراء فشكر فكانت خيرا له، وابتلي بالضراء فشكر فكانت خيرا له، هذا الأصل بالمؤمن أنه يبتلى بذلك، ويقال يُخشى أن تكون عقوبة، فإن كان المسلم في نفسه يعلم أنه من أهل العصيان فقد يترجّح له أنه من أهل العقوبة، كما قال بعض السلف حينما أُصيب بمرض شديد في آخر عمره، قال مما أصبتُ بهذا؟ فجعل يتذكر هل له ذنب يعاقب عليه، هل له ذنب يعاقب عليه، فتذكر فقال: ربما كانت من نظرة نظرتُها وأنا شاب، هذا مما يخشاه العبد، يخشى أن يكون ما أصابه عقوبة وهو ابتلاء يصبر عليه فإذا كان ذلك يتذكر معصيته وذنبه فليبادر بالتوبة والإنابة؛ لأن هذه المصائب كفارات وتذكر العبد وتمحو الخطايا، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يدعه وليس عليه خطيئة، فقد جاء في البخاري وغيره «من يُردِ الله به خَيراً يُصبْ منه».
فإذن نقول الأصل أنه ابتلاء لكن ما يجوز أن نقول هذه عقوبة، عاقب الله فلانا؛ لأنّ هذا ما تدري أنت، عاقب الله أهل البلد الفلاني، ما تدري هل هي عقوبة أم لا، لأن هذا علمه عند الله جل وعلا، تحديد هل هي ابتلاء أو عقوبة، قد تكون ابتلاء وقد تكون عقوبة، وقد تكون هذه وهذه جميعا في حق البعض كذا وفي حق البعض كذا.
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والهدى والاهتداء، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
e-mail: Abdelmalek.salem@caramail.com
---
([1])النحل:43، الأنبياء:7.
([2])انتهى الوجه الأول من الشريط.
([3])الحشر:22, فصلت:2, النمل30, البقرة:163, الفاتحة: 1-3.(2/29)
أشراط الساعة
خطبتي جمعة
[وجه شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
[الخطبة الأولى]
الحمد لله الذي بين في كتابه مصالح العباد في أعمالهم وفي عقيدتهم وفيما يصلح دينهم ودنياهم.
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله.
نشهد أنه بلع الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف علينا من الدين الغُمة، وجاهد في الله حق الجهاد، لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه, صلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق تقاته.
عباد الله: إنَّ مما يجب الإيمان به لإخبار الله جل وعلا به ولإخبار النبي صَلَّى الله عليه وسلم به الإيمان بأشراط الساعة.
فإن للساعة إن ليوم القيامة أشراطا، والله جل وعلا بيت في كتابه بعض تلك الأشراط؛ يعني بعض علامات الساعة، التي تؤذن بأن الساعة قريبة، وأن ميعادها قد قرُب، وأن لقاء الله آتٍ، وإن كان أكثر الناس في غفلاتهم [سادرون] إن الإيمان بأشراط الساعة فرض؛ لأن الله جل وعلا قال في كتابه ?فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ?[محمد:18]، فقوله (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) يعني قد جاءت علاماتها.
ومن علاماتها التي قد كانت جاءت في عهد المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم انشقاق القمر، وكذلك من علاماتها بعثة النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقد قال عليه الصلاة والسلام «بعثت أنا والساعة كهاتين» يعني من شدة القرب بينه عليه الصلاة والسلام وبين قيام الساعة.
والله جل جلاله إذْ أخبر بذلك فإنّ للساعة علامات:
منها علامات تكون قرب حصولها، تكون قريبة جدا منها وهي التي يسميها العلماء أشراط الساعة الكبرى.(3/1)
ومنها علامات تتباعد من بعثته صلى الله عليه وسلم إلى أن يكون أول أشراط الساعة الكبرى، وهذه يسمى العلماء أشراط الساعة الصغرى.
فأشراط الساعة وهي علاماتها منها كبرى ومنها صغرى، وقد ثبت في الصحيح أن عوف بن مالك قال له النبي صَلَّى الله عليه وسلم «اعْدُدْ سِتّاً بَيْنَ يَدَي السّاعَةِ مَوْتي ثم فَتْحُ بَيْتِ المقدِسِ ثم مَوْتانٌ يأخُذُهُمْ فيكم مِثُلُ كقُعاصِ الغَنم ثم استفاضة المال حتى يعطي الرّجُلَ مائةَ دينارٍ فيظلّ ساخطا» إلى آخر ما ذكر، وهذا من أشراط الساعة الصغرى، فإن بعثته عليه الصلاة والسلام مؤذنة بقرب الساعة، وإن تطاول الزمان ?وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ?[الحج:47]، ثم بعد ذلك فتح بيت المقدس ،ثم بعد ذلك أتى المرض العام الطاعون فأصاب الناس كما أخبر بذلك النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ثم كذلك استفاض المال في لصحابة فمن بعدهم حتى حصل ما قاله الرسول صَلَّى الله عليه وسلم.
ومن أشراط الساعة الصغرى ما أخبر به النبي صَلَّى الله عليه وسلم جبريل في حديث عمر المشهور حيث سأل جبريل النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم فقال له «فََأَخْبِرِْني عَنْ السَّاعة؟» فقال «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قال «فََأَخْبِرِْني عَنْ علامَاتِهَا؟» قال «أَنْ تَلِِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاَةََ الْعُرَاةَ رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ».(3/2)
وهكذا في أنواع كثيرة من أشراط الساعة الصغرى التي تتوالى في الزمان تحدث شيئا فشيئا، تحدث كما أخبر النبي صلى اله عليه وسلم، وقد أخبر من ذلك عليه الصلاة والسلام أنها «لن تقوم الساعة حتى تخرج نار في المدينة تضيء لها أعناق الإبل ببُصرى» وهي قرية بالقرب من دمشق من الشام فحصل ذلك في القرن السابع من الهجرة بعد سنة خمسين وستمائة (650هـ)، وعلم العلماء ذلك وعلمه الناس فكان ذلك من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام.
وكان من أشراط الساعة أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن منها «أن تترك القلاص فلا يُسعى عليها» يعني أن تترك الجمال والرواحل التي اعتادها الناس فلا يسعون عليها ولا يتخذونها رواحل، وقد استعجب كثير من العلماء هل يترك الناس أن يترحّلوا على الإبل، فقال قائلون منهم: لعل ذلك أن تكون الإبل تكثر تكثر جدا حتى تكون نسبة المركوب فيها إلى ما لا يركب كلا شيء، فتكون القلوص قد تركت فلا يسعى عليها، وقد رأينا في هذا الزمان صدق خبر الرسول صَلَّى الله عليه وسلم.
إلى أخبار كثيرة فيها أشراط الساعة الصغرى التي تحدث شيئا فشيئا، وإن الإيمان بذلك فرض لازم إذْ تصديق النبي صَلَّى الله عليه وسلم فرض لازم واجب على كل أحد، ومن كذّب في خبره الصادق فإنه كذب برسالته صَلَّى الله عليه وسلم.
ثم أشراط الساعة الكبرى وهي الأشراط والعلامات التي تكون تباعا كعِقد كان فيه خرز فانقطع فتسلسل ذلك الواحدة تلوى الأخرى، فيها عشرٌ هي عشر بينات، هي عشر أشراط الساعة الكبرى، إذا حصلت الأولى فانتظر الأخرى ثم الثانية ثم الثالثة إلى العاشرة حتى تقوم الساعة.(3/3)
وأول ذلك خروج الدجال والدجال خارج في هذه الأمة، وما من نبي إلا وأنذر أمته المسيح الدجال، وإن فتنة المسيح الدجال في الناس هي أعظم فتنة، إنّ فتنته هي أعظم فتنة أدركتهم، يدّعي أنه الرب والإله، معه جنة ونار، يُحيي ويميت، ويرزق ويفقر، يعطي ويمنع، معه فتنة عظيمة، معه فتنة يكون الناس فيها منهم المؤمنون ومنهم الكفار، ولا يخرج حتى لا يذكر وحتى يحذر منه، وقد كان كل الأنبياء يحذرون فنته ويحذرون أقوامهم بأن يحذروا فتنته، ونبينا صَلَّى الله عليه وسلم حذرنا فتنته فقال «إن يخرج فيكم وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج فيكم وأنا لست فيكم فامرؤ حجيج نفسه» يعني كل أحد حجيج عن نفسه، فلا تغفلوا عن ذلك بأن المسيح الدجال فتنته عظيمة فتنته جد عظيمة، ومن أدركته الفتنة وليس بذي علم فيها فإنه سيكون من الذين يؤمنون بهذا الدجال انه الرب الإله الذي يعبد ويطاع الذي يعبد ويطاع.(3/4)
أيها المؤمنون: وبعد ذلك وفي أثناء وجود المسيح الدجال على الأرض ينزل عيسى بن مريم عليه السلام؛ لأن عيسى بن مريم توفاه الله ولم يمت، توفاه الله بتوفي مدته على الأرض ?إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ?[آل عمران:55]، وبقي حيا في السماء، ثم ينزله الله جل وعلا إلى الأرض في آخر الزمان بعد خروج المسيح الدجال، قال الله جل وعلا عليه الصلاة والسلام?وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا?[الزخرف:61]، فلما ذكر عيسى ابن مريم عليه السلام قال الله فيه في سورة الزخرف ?وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَة?[الزخرف:61]، وفي القراءة الأخرى ?وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَة?[الزخرف:61]، يعين لدليل وشرط من أشراطها، وقد أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام وقال «إنه ينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق» قبل أن تفتح دمشق، وقبل أن تكون ثَم منارة بيضاء فيها، فينزل عيسى فيؤمن به أهل الكتاب، ويأمر بالإسلام، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويأمر بالإسلام، ويأتمّ بالإمام من هذه الأمة من المسلمين، ويقول لهم: إمامكم منكم. حين ينزل والناس يصلون، وقد قال جل وعلا في عيسى عليه السلام ?وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا?[النساء:159]، (إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ) يعني ليؤمنن بعيسى عليه السلام قبل موته قبل موت عيسى عليه السلام؛ لأنه لم يمت، فكل أحد من أهل الكتاب يرى نزول عيسى عليه السلام سيؤمن به؛ لأنه سيعلم أنه هو عيسى رسول الله، وسيبطل التثليث وسيبطل الإشراك به ويأمر عيسى بالإسلام وينتشر الإسلام في الأرض.
يقتل عيسى عليه السلام الدجال عند باب لُد من أرض فلسطين، ويتبع الدجال قوم كثير من اليهود.(3/5)
ثم يعيش عيسى في الناس زمن تفيض الخيرات، ويكون فيه المال، ويكون فيه السعة في الأرزاق، حتى يكون من ذلك شيء عجيب عجيب، كما أخبر بذلك تفصيلا النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم.
ثم يكون خروج يأجوج ومأجوج، وهم من الناس بشر من البشر، كما قال جل وعلا في يأجوج مأجوج مأجوج ?[حَتَّى إِذَا]([1]) فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ(96)وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا?[الأنبياء:96-97]، إلى آخر الآيات، فيخرج يأجوج ومأجوج ومعهم بلاء عظيم عظيم في الناس لا يمرُّون على ماء إلا شربوه ولا على مأكل إلا أكلوه، فيدعو عليهم عيسى عليه السلام فيقتلهم الله جل وعلا حتى تُنتِن الأرض بريحهم، فيبعث الله ريحا فتحمل أجسادهم فتلقيها في البحر.
ثم بعد ذلك وهو الرابع يحدث خسف بالمشرق خسف عظيم لم يسبق له مثال.
ثم يحدث وهو الأمر الخامس خسف بالمغرب لم يحدث فيما سبق مثال.
ثم يحدث خسف بجزيرة العرب لم يسبق أن حدث مثلُه. وهذا من أمر الله العجيب.
فهذه من أشراط الساعة الكبرى هذه تَلِي هذه.
ثم يكون ما يكون من خروج الدخان.
ومن طلوع الشمس من مغربها.
ومن خروج الدابة على الناس ضحى تسِم الناس.
فإذا خرجت الشمس من مغربها لم يقبل من الناس توبة، كما قال جل وعلا ?يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا?[الأنعام:158]، لا ينفع الذي لم يكن مؤمنا، لا ينفعه إيمانه بعد أن رأى طلوع الشمس من مغربها، تنقطع التوبة ويبقى المؤمن ينتظر الريح التي تميت المؤمنين، ويبقى الناس كفارا لا يقال فيهم الله الله، كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام؛ يعني لا يقول أحد لأحد اتق الله اتق الله، ليبقى الناس في ذلك يتهارجون كما تتهارج الحُمُر.(3/6)
ثم يبعث الله النار تبدأ في جنوب الجزيرة من قعر عدن ثم تنتشر في الأرض تحشر الناس إلى أرض محشرهم يجتمعون، تبيت معهم يخافون منها، وهم يُقْبلون على أرض المحشر، يخافون ويهابون منها وهي تبيت معهم إذا باتوا وتسير معه إذا ساروا، تكتنفهم من جوانبهم، والناس يتقدمون إلى محشرهم.
ثم يأذن الله ويأمر إسرافيل بأن يَنْفَخ في الصور نفخة الفزع أونفخة الصعق فيصعق الناس، ويعود من كان على الأرض حيا يعود ميتا وإنما يعود ميتا، كما يقول الله جل وعلا ?وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ?[الزمر:68]، بعد هذه النفخة يبقى الناس موتىـ فيغير الأرض فإذا الأرض ليست هي الأرض ويغير السموات فإذا السموات ليست هي السموات ?إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ?[التكوير:1]، وتغير السماء ?إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ?[الانفطار:1]، وتتغير الأرض ?وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ?[الانشقاق:3]، فيستوي من دفن بين الجبال كمن دفن في السهل تبقى الأرض متغيرة، فالله جل وعلا يغير معالم الأرض ويغير معالم السماء، وإنه لأمر عجيب، ويبقى الناس موتى تحت الأرض كل شيء بلي منهم إلا عجب الذنب منهم وهو آخر فقرة من فقار الظهر يكون كالبذرة لهم، فيأمر الله السماء فتنشئ سحابا -سحابا ثِقَالاً- فيحمل ماء كمني الرجال فإذا حملت الماء أمر الله السماء فتمطر على الأرض بذلك الماء، فتنبت منه الأجسام بعد أن أمطرت على الأرض أربعين، أربعين لا ندري هل هي أربعون شهرا؟ أم أربعون سنة؟ أم أربعون أسبوعا؟ تُمطر أربعين فتنبت الأجسام
...........................
مثل النبات كأجمل الريحان
حتى إذا ما الأم حان ولادها
وتمخّضت فنفاسها متداني
أوحى لها رب السماء فتشققت
فإذا الجنين كأكمل الشبان(3/7)
ثم يأمر الله جل وعلا إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث فتعود الأرواح إلى الأجسام، فتهتز الأجسام فيقول الكفار والمؤمنون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ ثم يجيب المؤمنون وغيرهم: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون.
فيُساق الناس المؤمنون إلى الجنة والكافرون إلى النار، وقبل ذلك أمور عظام من أمور المحشر.
أسأل الله جل وعلا أن يؤمِّننا يوم الفزع، وأن يجعلنا من المتفقهين في كتابه وفي سنة رسوله، وأن يجعل قلوبنا مطمئنة بالإيمان، وأن يربط على قلوبنا، نعوذ به من الرّيب والشك، نعوذ به من الرّيب والشك.
ونسأله أن نكون مطمئنين بالإيمان مصدقين بما أخبر مصدقين بما أخبر به رسوله صَلَّى الله عليه وسلم.
وأسأل الله لي ولكم ولكل المسلمين نسأله النجاة يوم الفزع نسأله النجاة يوم الخوف، نسأله أن يخفف علينا الحساب وأن يعفو عنا، وأن يجعلنا من الذين يتوفاهم وهو راض عنهم إنه ولي الغفران، ونحن أصحاب المعصية والله ولي الغفران، اللهم فاغفر جما، اللهم فاغفر جما، اللهم فاغفر جما.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ?إِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا(1)وَأَخْرَجَتْ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا(2)وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا(3)يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا(4)بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا(5)يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ(6)فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)?[الزلزلة].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه حقا، وتوبوا إليه صدقا، إنه هو الغفور الرحيم.
[الخطبة الثانية](3/8)
الحمد لله حمدا كثيرا طيِّبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أنّ أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإنّ يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم التقوى فإن بالتقوى فخارَكم، إن في التقوى جاهكم عند ربكم، إنّ في التقوى رفعتكم عند الله.
فاتقوا الله حق تقاته، وعظموا الله في السّر والعلن، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ذلك اليوم العصيب اتقوه، واتقوا الله الذي خلقكم، واتقوا الله الذي تساءلون به، واتقوا الله الذي عنده الجنة والنار.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أنّ الله جل جلاله أمركم بالصلاة على نبيه فقال جل وعلا قولا كريما ?إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر.
وارض اللهم على الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعن الصحابة أجمعين وعن الآل وعن التابعين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك فأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين ونصر عبادك الموحدين.
اللهم نسألك وأنت القوي العزيز وأنت ناصر عبادك المتقين نسألك أن تنصر المؤمنين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين وسائر أصناف المرتدين يا رب العالمين.(3/9)
اللهم نسألك أنْ تثبتهم وأن تربط على قلوبهم وأن تكون وليا لهم، اللهم أقم بهم دينك وتوحيدك، اللهم أهدهم إلى الرشاد وأعزهم، اللهم أعزهم، اللهم أعز المجاهدين، وأنصرهم واجعلهم في إعدادهم وفي نصرهم عزا للإسلام والتوحيد وأهله يا أرحم الراحمين.
اللهم نسألك أن تؤمننا في أوطاننا وأن تصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح أئمتنا وأصلح ولاة أمورنا، ودلهم على الرشاد وباعد بينهم وبين سبل أهل الكفر والبغي والفساد، يا أرحم الراحمين.
اللهم نسألك أن تمن عليهم بالمستشار الصالح الذي يدلهم على الخير ويهديهم إليه ويبغِّض إليهم الشر والمنكر، وأنت أرحم الراحمين وأجود الأجودين.
اللهم يسر لهم من يقول لهم كلمة الحق، اللهم يسر لهم من يشير لهم الحق والهدى، اللهم باعد بينهم وبين المنافقين والمضلين وأنت أرحم الراحمين.
اللهم نسألك أن تؤمِّننا يوم تفزع الخلائق، الهم أمنا يوم تفزع الخلائق، اللهم أمنا يوم البعث والنشور.
نسألك صلاحا في قلوبنا قبل الممات.
اللهم أنت ولي السائلين أنت المجيب للدعوات، نسألك أن تربط على قلوبنا، اللهم اربط على قلوبنا، ومُنَّ علينا بتوبة نصوح قبل الممات.
ربنا لا تدخلنا القبور إلا وقد رضيت عنا، وقد وفقتنا لتوبة نصوح، وأنت أرحم الراحمين.
عباد الرحمن إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على النعم يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
?????
أعد هذه المادة سالم الجزائري
---
([1]) الشيخ حفظه الله: وَ.(3/10)
الأصول الشرعية عند حلول الشبهات
المقدمة
الحمد لله رب العالمين . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لا شريك له وأشهد أن محمدَ بنَ عبدِ الله نبيُّه ورسولُه وصفيُّه وخليلُه ، أرسلَه اللهُ بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا ، مبشرًا بالجنة لمَنِ اتقى اللهَ – جل وعلا – وأطاعَ الرسولَ ، ومنذرًا ومخوفًا من عذابِ الله والنار لمن خالفَ أمرَ اللهِ – جل وعلا – وعصى الرسولَ – عليه الصلاة والسلام - .
واللهَ أسألُ أن يجعلَ الجميعَ ممّن مَنَّ اللهُ عليهم بالبصرِ النافذِ عند حلولِ الشبهاتِ ، وبالعلمِ النافعِ ، الذي هو للقلوبِ حياةٌ ومددٌ .
واللهُ - جل وعلا – جعلَ الوحيَ في القرآن مُمَثَّلاً بالماء ؛ لأنَّ به حياةَ القلوب ، ولأنَّ به صحةَ النظرِ والإدراكِ عند حلولِ المشتبهاتِ وظهورِها . ([1])
- - - - -
تمهيد
الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ
يؤمن المسلم :
( 1 ) بأنّ ما أصابه لم يكنْ ليخطئه ، وأنّ ما أخطأه لم يكنْ ليصيبَه .
( 2 ) وبأن القضاءَ والقدرَ ماضيان .
ولكنَّ قضاءَ اللهِ – جل وعلا - وقدرَه مرتبطانِ بالعللِ الكونيةِ ، والعللِ الشرعيةِ .
أسبابُ الابتلاءِ ، وأنواعُه :
( 1 ) يُصيبُ اللهُ – جل وعلا – أمةَ الإسلام بما يصيبُها بسببِ ذنوبها تارةً ، وابتلاءً واختبارًا تارةً أخرى .
( 2 ) يُصيب اللهُ – جل وعلا – الأُممَ غيرَ المسلمةِ بما يصيبُها إما عقوبةً لما هي عليه من مخالفةٍ لأمرِ الله – جل وعلا – وإما لتكون عبرةً لمن اعْتَبَرَ ، وإما لتكونَ ابتلاءً للناس ، هل يَنْجَوْنَ أو لا يَنْجَوْنَ ؟
قال اللهُ – تعالى - : ( فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) ([2]) .(4/1)
وهذا في العقوباتِ التي أُصِيبَتْ بها الأُممُ ، العقوباتِ الاستئصاليةِ العامةِ ، والعقوباتِ التي يكونُ فيها نكايةٌ ، أو يكونُ فيها إصابةٌ لهم .
( 3 ) تُصاب الأمةُ بأن يبتليَها اللهُ - عز وجل - بالتفرُّقِ فِرَقًا ، بأن تكونَ أحزابًا وشِيَعًا ؛ لأنها تركتْ أمرَ الله – جل وعلا - .
( 4 ) تُصاب الأمةُ بالابتلاء بسببِ بَغْيِ بعضِهم على بعضٍ ، وعدمِ رجوعِهم إلى العلمِ العظيمِ الذي أنزله اللهُ – جل وعلا – .
قال الله – تعالى – فيما قصَّه علينا من خبر الأُمَمِ الذين مَضَوْا قبلَنا : ( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) ([3]) .
وقال - سبحانه - : ( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) ([4]) .
عندَ أهلِ الكتابِ العلمُ النافعُ ، ولكن تَفَرَّقُوا بسببِ بَغْيِ بعضِهم على بعضٍ ، وعدمِ رجوعِهم إلى هذا العلمِ العظيمِ الذي أنزلَه اللهُ – جل وعلا - ، تَفَرَّقُوا في العملِ ، وتركُوا بعضَه .
( 5 ) يُصاب قومٌ بالابتلاءِ بسببِ وجودِ زيغٍ في قلوبهم ، فَيَتَّبِعُونَ المتشابِه .
قال اللهُ – جل وعلا – في شأنهم : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ) ([5]) .
فليس وجودُ المتشابه سببًا في الزيغ ، ولكنَّ الزيغَ موجودٌ أولاً في النفوسِ .
فاللهُ – سبحانَهُ – أثبتَ وجودَ الزيغِ في القلوبِ أوَّلاً ، ثم اتباعِ المتشابه ثانيًا ، وقد جاءت ( الفاءُ ) في قوله – جل وعلا – : (فَيَتَّبِعُونَ ) لإفادةِ الترتيبِ والتعقيبِ .(4/2)
ففي النصوصِ ما يَشْتَبِهُ ، لكن مَنْ في قلبه زيغٌ يذهبُ إلى النصِّ فيستدلُ به على زَيْغِهِ ، وليس له فيه مُسْتَمْسَكٌ في الحقيقةِ ، لكن وَجَدَ الزيغَ فذهبَ يتلمَّسُ له .
وهذا هو الذي ابْتُلِيَ به الناسُ - أي : الخوارجُ - في زمنِ الصحابةِ ، وحصلتْ في زمن التابعينَ فتنٌ كثيرةٌ تَسَبَّبَ عنها القتالُ والملاحِمُ مما هو معلومٌ .
فوائد الابتلاء
الأمةُ الإسلاميةُ والمسلمون يُبْتَلَوْنَ .
وفائدةُ هذا الابتلاءِ معرفةُ مَنْ يَرْجِعُ فيه من الأمةِ إلى أمرِ اللهِ – جل وعلا – معتصِمًا بالله ، متجرِّدًا ، متابعًا لهدي السلفِ ممّن لا يرجعُ ، وقد أصابته الفتنةُ ، قلّتْ أو كَثُرَتْ .
( 1 )
تحقيقُ الشَّهادتينِ
من معتقدِ أهلِ السنةِ والجماعةِ تحقيقُ الشهادتينِ
( شهادة أن لا إلهَ إلا اللهُ ، وأن محمدًا رسولُ اللهِ )
- بل هذه الشهادةُ هي أساسُ العقيدةِ ، وفيها موالاةُ اللهِ – جل وعلا – ورسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - والدينِ .
وفيها البَراءُ من الكُفْرِ والشِّركِ .
وهذا يستلزمُ عقدَ الموالاةِ بين أهلِ الإيمانِ .
- - - - -
عقيدةُ الولاءِ والبراءِ
عقيدةُ الولاءِ والبراءِ أصلٌ يجب على كلِّ مسلمٍ أن يتمسكَ بها ؛ لأنها أساسُ دينه وأساسُ الملَّةِ ، لكنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان محقِّقًا لها وهو في مكةَ ، وكان محقِّقًا لها وهو في المدينةِ ، وكان محقِّقًا لها – عليه الصلاة والسلام – في كلِّ أحوالِهِ .
وهو – عليه الصلاة والسلام – الأسوةُ والقدوةُ الحسنةُ .
لهذا في قصةِ الحديبيةِ - كما هو معروفٌ - لما أتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مريدًا مكةَ وجاءه المشركونَ – وهم في ذلك الوقتِ ضعفاءُ – وطلبوا منه أن يرجِعَ .
وحَصَلَ بينه وبينهم عَهْدٌ غليظٌ أقرَّهُ – عليه الصلاة والسلام – حتى إنه كان فيه :
« أنه مَنْ يأتِنا مسلمًا يُرجَعُ إليهم ، ومن يأتِهم منا فلا يُرْجَعُ إلى المسلمينَ »(4/3)
وهذا استنكره عمرُ - رضي الله عنه - وقال : يا رسولَ اللهِ : أَلَسْنَا على الحقِّ وهم على باطلٍ ؟
قال : بلى . قال : فعلامَ نقبلُ الدَّنِيَّةَ في ديننا ؟ ([6])
فكان الحقُّ ما أمرَ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعَمِلَ به الصحابةُ .
وقد قال – جل وعلا – في شأنِ بعضِ المسلمينَ : ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) ([7]) .
قال ابنُ كثير – رحمه الله – في تفسيره : يقول – تعالى - : ( وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ ) هؤلاءِ الأعرابُ الذين لم يهاجروا ، في قتالٍ ديني ، على عدوٍّ لهم فانصروهم فإنه واجبٌ عليكم نصرُهم ، لأنهم إخوانُكم في الدينِ ، إلا أن يستنصروكم على قومٍ من الكفار ( بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ) أي : مهادنةٌ إلى مُدَّةٍ ، فلا تَخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ ، ولا تَنْقُضُوا أيمانَكم مع الذينَ عاهدْتم . وهذا مرويٌّ عن ابنِ عباسٍ - رضي الله عنه - .
والواجبُ الاستمساكُ بهذا الأصلِ . والكمالُ في الرجوعِ إلى هَدْيِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في أحوالِه كلِّها ، فهو – عليه الصلاة والسلام – وصحابتُه هم الأساسُ والقُدوةُ في الولاءِ والبراءِ .
وعلى الدعاةِ أن يترسَّموا هذا الهَدْيَ ، ويتمسَّكُوا بهذا الأصلِ ، وليستِ الشِّدَّةُ والغِلْظَةُ على الدوامِ في كل زمانٍ ومكانٍ هي المحققةَ لمعتقدِ الولاءِ والبراءِ .
وهناك مسائلُ لا تُطرحُ على العامَّةِ في الخُطَبِ ، أو من خلالِ الوسائلِ المختلفةِ . وإنما يبحثُها العلماءُ فيما بينهم .(4/4)
قال الشيخُ العلامةُ عبدُ اللطيفِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ حسنِ ابنِ محمدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ : « وخُضْتُمْ في مسائلَ من هذا البابِ – كالكلامِ في الموالاةِ والمعاداةِ والمصالحةِ والمكاتباتِ وبذلِ الأموالِ والهدايا والحُكْمِ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ عند البَوادي ونحوِهم من الجُفاةِ – لا يَتَكّلَّمُ فيها إلاَّ العلماءُ من ذوي الألبابِ ، ومَنْ رُزِقَ الفهمَ عن اللهِ ، وأُوتِيَ الحكمةَ وفصلَ الخطابِ » اهـ ([8]) .
حكمُ إزهاقِ الأرواحِ
أجمعَ العلماءُ ذوو النظرِ الصحيحِ في الفِقْهِ من جميعِ الأمصارِ على أن إزهاقَ الأنفُسِ بغير حقٍّ مخالفٌ للشريعةِ .
وأنَّ الاعتداءَ على الأنفسِ المعصومةِ - سواءٌ أكانتْ عِصْمَتُهَا بالإسلامِ أم كانتْ عصمتُها بالعهدِ والأمانِ - مخالفٌ للشريعة الإسلامية ، بل هو مخالفٌ لكلِّ الشرائعِ التي جاءتْ من عند الله – جل وعلا - .
والعقلاءُ أيضًا متفقونَ على هذا ؛ لهذا حَصَلَ ما تعلمونَ من نَفْيِ أن يكونَ ما حصلَ في أمريكا من الاعتداء موافقًا للشريعة الإسلامية ، أو تُقِرُّه ، أو يرضاه أهلُ الإسلام .
قال الله – تعالى - : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ([9]) .
والمطلوبُ من الجميعِ وجوبُ النظرِ في هذا الأصلِ نظرًا بالغًا ، وقد قال الله - تعالى - : وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ([10]) .
الثقةُ بوعدِ اللهِ – جل وعلا –
إننا واثقونَ بوعدِ اللهِ – جل وعلا – ؛ لأنَّ وَعْدَ اللهِ – جل وعلا – لا يُرَدُّ . وقد قال – تعالى - : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ) ([11]) .(4/5)
فدينُ الإسلامِ انتشرَ في السنواتِ الأخيرةِ انتشارًا بَيِّنًا ، فَوُجِدَتِ الأعمالُ الإسلاميةُ ، من إنشاءِ المساجِدِ والدعوةِ ، وتبيينِ معالِمِ الدينِ في العالمِ كلِّهِ ، وصارَ له صوتٌ كبيرٌ وقويٌّ .
وهذه البلادُ بخاصةٍ كان لها النصيبُ الأكبرُ مِنْ حَمْلِ الدعوةِ الإسلاميةِ إلى الغربِ وأوربا وأمريكا ، وإلى مشارقِ الأرضِ ومغاربها .
وهذا بفضلِ الله - عز وجل - ، ثم بفضلِ توجيهاتِ ولاةِ أمورِنا – وفَّقهم اللهُ جل وعلا - .
ونَشْرُ هذا الدينِ أصلٌ من الأصولِ العظيمةِ ، لأنه جهادٌ دائمٌ ماضٍ ، وهو جهادُ الحُجَّةِ والبيانِ .
- - - - -
( 2 )
العلماءُ والدعاةُ قدوةُ هذه الأمة
وَصَفَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ – رحمه الله تعالى – الصحابةَ وساداتِ التابعين بما وَصَفَهم به ، ومنها قوله :
« إنهم على عِلْمٍ وَقَفُوا ، وببصرٍ نافِذٍ كَفُّوا » .
وإنَّ ما جَرَى لهذه الأمةِ ابتلاءٌ عظيمٌ وكبيرٌ .
فهل ترجعُ فيه إلى الأصلِ الأصيلِ وهو :
كتابُ اللهِ – جل وعلا – وسنةُ رسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وهَدْيُ السلفِ الصالحِ ، وكلامُ أهلِ العلمِ الراسخينَ فيه .
أمْ أنهَّا لا تَرْجِعُ إلى الأصلِ الأصيلِ ؟ فيحصُلُ في قلبِها زيغٌ فَتَتَّبِعُ المتشابِهَ .
- - - - -
الواجبُ معرفةُ منهجِ السلفِ
وهو الفِقْهُ في الكتابِ والسنةِ
الواجبُ على طلابِ العلمِ أن يتعرَّفُوا على منهجِ السلفِ عند حلولِ تَقَلُّباتِ الدهرِ .
واللهُ – جل وعلا – يبتلي عبادَه ، ولا بُدَّ أن نَرْجِعَ إلى منهجِ السلفِ بعدَ التعرُّفِ عليه ، والتفقُّهِ في الكتابِ والسنةِ .
وهذا أصلٌ أصيلٌ .
اليقظةَ اليقظةَ عندَ الأراجيفِ والشائعاتِ :
إنَّ هذه التقلباتِ التي حصلتْ ، والكلامَ الذي تسمعونَه ممن ينتسبُ إلى الإسلامِ ، من علماءَ ، ودعاةٍ ، ومتحمسينَ ، ومتعجلينَ ، ومن أصحابِ الإرجافِ في القنواتِ الفضائيةِ المختلفةِ بحاجةٍ إلى يَقَظَةٍ .(4/6)
وإنه ليُخْشَى على من أَدْمَنَ النظرَ إلى القنواتِ الفضائيةِ المختلفةِ وتَابَعَها أن يَنْحَرِفَ عن المنهجِ إلاَّ إذا كان قوِّيَ الصِّلَةِ بالقرآنِ والسنةِ وبمنهجِ السلفِ الصالحِ .
إلقاءُ الكلامِ من دونِ نظرٍ فيه
ولْيَحْذَرْ طلابُ العلمِ والدعاةُ والوُعَّاظُ والمرشدونَ من إلقاء حَجَرٍ يسببُ فُرْقَةَ هذه الأمةِ ، وإيغارَ الصدورِ في بلادِ الإسلامِ .
ولْيَحْذَرُوا من الانسياقِ وراءَ القنواتِ ، والإعلامِ المسموعِ والمقروءِ والمرئيِّ .
وعلى دعاةِ الإسلامِ أن يوجِّهوا الناسَ إلى ما يَنْفَعُهُمْ .
- - - - -
الحذرُ من جرِّ المعركةِ إلى داخلِ الأُمَّةِ
إنّ جَرَّ المعركةِ إلى داخلِ البلادِ الإسلاميةِ أمرٌ جَلَلٌ عظيمٌ .
سوف تحصلُ في كلِّ بلدٍ مصيبةٌ ، وسيتطاحنُ الناسُ .
وذلك مثلُ ما حَصَلَ في أفغانستانَ بعدَ ما انتهتِ الحربُ مع الاتحاد السوفيتي ، وطَعَنَ بعضُهم في بعضٍ ، وبقيتِ الخلافاتُ ، ولم يجتمعِ الأفغانُ على وِلايةٍ ، فهذا لا يُقِرُّ لهذا ، وهذا لا يُقِرُّ لهذا . وهكذا ..
وإن وجدتْ عندَهم وِلايةٌ فليس هناك اتفاقٌ من الجميع ، ففيها تنازعاتٌ وقتلٌ ، كما أنه قُتِلَ الكثيرُ من زعماءِ الفِرَقِ والفصائلِ .
- - - - -
تفْويتُ الفُرصةِ على الأعْداءِ نَبَاهَةٌ
الواجبُ على كلِّ داعيةٍ من دعاةِ الإسلامِ ، وكلِّ مرشدٍ ، وكلِّ واعظٍ ، وكلِّ طالبِ علمٍ أن يحافظَ على حمايةِ بَيْضَةِ المسلمينَ ، وأن يكونَ مع الجماعةِ ، ويَحْرِصَ على الاجتماع على وُلاةِ الأمورِ .
لأن بهذا تحقيقَ المصالحِ ، ودرءَ المفاسدِ ، ويُفَوِّتُ الفرصةَ أو الغرضَ على أعداءِ الإسلامِ ممن يتربصونَ الدوائرَ بهذه الأمةِ .
- - - - -
عدمُ شَحْنِ النفوسِ
مهمةُ دعاةِ الإسلامِ توجيهُ الناسِ إلى ما ينفعُهم .(4/7)
ولكنَّ بعضَ الدعاةِ نَسِيَ المهمةَ الملقاةَ على عاتقه ، فَتَرَاهُ في أوقاتٍ يزيدُ على ما قالتْهُ القنواتُ والإعلامُ ، ويسيرُ على نفسِ الوتيرة لجعلِ النفوسِ تغلي .
تارةً باسم الولاءِ والبراءِ غيرِ المنضبطِ شرعًا .
وتارةً باسم الدعوةِ للجهادِ في سبيلِ اللهِ – تعالى - .
وتارةً كذا ، وتارةً كذا .
وكلُّ هذا يشحَنُ النفوسَ دونَ توجيهٍ صحيحٍ فيما ينفَعُ الأمةَ ثم ينتِجُ عن ذلك التشاحُنُ والتفرُّقُ .
وعلى الدعاةِ الانتباهُ في كلماتهم إلى ما ينفعُ الناسَ ، والحذرُ من شَحْنِ النفوسِ ، وهم لا يعرفونَ ما ستكون الأبعادُ لهذا الشحنِ الذي قد لا يكونُ منضبِطًا بالضابطِ الشرعيِّ .
وإرشادُ الناسِ ، أو بيانُ الواقعِ يحصلُ إذا كانتِ النفوسُ خاليةً .
لكن إذا كانتِ النفوسُ مليئةً ، وهم يُتَابِعُونَ هذه القنواتِ ليلَ نهارَ ، ثم يأتي الداعيةُ أو الخطيبُ يزيدُ في اشتعالِها .
فنتساءلُ : إلى أينَ تريدُ – يا خطيبُ – أن يتّجِهَ الناسُ ؟
والجوابُ : ليس ثَمَّةَ اتجاهٌ إلاّ إلى زيادةِ ما في النفوس من اختلافاتٍ ، وإلاَّ إلى سوءِ الظن ، وإلاَّ إلى تركِ الجماعةِ .
فالحذرَ فالحذرَ من أن يدعو الداعيةُ إلى مثل ما يضرُّ الناسَ ولا ينفعُهم .
وعلى الدعاةِ أن يعلمُوا أنَّ ما دارَ بينَ الصحابةِ من حروبٍ كعليٍّ - رضي الله عنه - ومعاويةَ - رضي الله عنه - في وقعة ( صفين ) ، وعائشةَ – رضي الله عنها – في وقعة ( الجَمَلِ ) وغير ذلك فمعتقدُ أهلِ السنة والجماعة أن هذه الحروبَ ليس الصحابةُ طرفًا فيها ، فالصحابةُ وَجَدُوا أنفسَهم يتقاتلونَ وهم لا يَشْعُرونَ .
والذي أشعلَ هذه الحروبَ هم الخوارجُ .
ذكر ذلك شيخُ الإسلامِ ، وشارحُ الطحاوية وكتبُ العقيدةِ .(4/8)
فسعى الخوارجُ بين الطرفَيْنِ ، سَعَوْا هنا بشيء ، وسَعَوْا هنا بشيء آخر ؛ لإعلاءِ ما يزعمونَه حقًّا من رَفْعِ رايةٍ ظاهرُها حقٌّ وباطنُها باطِلٌ ، وهي ( لا حكمَ إلا لله ) ، وهم لا يريدون القتالَ بين الصحابةِ ، ولكنَّ السعيَ الذي لم ينتبهوا إلى نتائجه أوقعَ الصحابةَ في القتالِ .
وقتالُ الصحابةِ أعظمُ مصيبةٍ في التاريخِ الإسلاميِّ .
وصار من عقائدِنا سلامةُ ألسنتِنا وقلوبِنا من الغِلِّ ، وعدمُ النيلِ ممن حَصَلَ بينهم القتالُ .
سؤال : إذن مَنْ أشْعَلَ هذه الفتنةَ ؟
الجواب : هم الخوارجُ .
سؤال : كيف يكون ذلك ؟
الجواب : ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة ، النفوسُ إذا زادَ شحنُها ، ثم زادَ حَصَلَتِ الفتنُ ..
فإنه يحصُلُ من فئة إمّا بإدراكٍ أو بغيرِ إدراكٍ ، وإما بقَصْدٍ أو بغير قصدٍ أن توقعَ الناسَ في صراعاتٍ ومقاتِلَ ومعارِكَ وهم لا يشعرونَ ، ولن ينتبهوا إلا إذا وقعتْ ، وإذا وقع السيفُ فمتى يُرْفَعُ ؟
فالحذَرَ الحذَرَ من هذا الأمرِ ، والتنبهَ واليقظةَ إلى اتِّباعِ هَدْيِ السلفِ ، وإلى العبرةِ من الفتنِ التي حصلتْ ، والمقاتِل في ذلك .
القدوةُ الحسنةُ
الواجبُ على أهلِ الإيمانِ بعامةٍ ، وعلى طلبةِ العلمِ من دعاةٍ ومرشدينَ ووعاظٍ ، ومسؤولينَ عن الأمور الدينية بخاصةٍ أن يكونوا هم القدوةَ الحسنةَ للناسِ حين تَحْدُثُ الحوادثُ ، وتختلِطُ الأمورُ .
- - - - -
( 3 )
الوَسَطِيَّةُ أصلٌ من أُصولِ أهلِ السنةِ والجماعةِ(4/9)
لنا في سلفنا الصالحِ الأسوةُ الحسنةُ فإنهم - رحمهم الله – من صحابةٍ ومن تابعينَ ومِمَّنْ بعدَهم كلَّما أتتِ الفِتَنُ أو تقلبتِ الأمورُ أَوْصَوْا فيها بما هو الحقُّ ، وهو البعدُ عن طرفَيِ الغُلُوِّ والجفاءِ ، فهم أهلُ وَسطيةٍ في الأمورِ ، ليسُوا مع أهلِ الغُلُوِّ في غُلُوِّهِم ، وليسوا مع أهلِ الجفاءِ في جفائهم ، وليسوا مع أهلِ الخوفِ حين يخافُ الناسُ إلا من اللهِ – جل وعلا – وليسوا مع أهل الأمنِ من مكرِ اللهِ – جل وعلا – حين يأمنُ الناسُ ويكونون في دَعَةٍ .
إننا ننطلقُ من شريعَتِنَا .
فلا نزيدُ في الأمرِ ولا نُحَمِّلُهُ ما لا يَحْتَمِلُ . ولا نذهبُ إلى أمورٍ غيرِ مقبولةٍ من التكفيرِ ، ومن تحميلِ الأمورِ فوقَ ما تحتملُ .
ومن إساءةِ الظنِّ بعلماءِ المسلمين ، ووُلاةِ أمورِهم .
والحذرَ الحذرَ من اللوبي العالمي الإعلامي الذي يعتبر مصدرَ المعلوماتِ التي تنشرها القنواتُ الفضائيةُ .
وعلى المسلمينَ أن يقفوا وقفةَ تأمُّل متسائلينَ :
ما الذي يُرَادُ شحنُهُ في نفوسِ أهلِ الإسلامِ حتى يُوصَلَ إليه ؟ .
والحذرَ الحذرَ من وقوعِ بأسِ الأمةِ بينهم ، فَتَنْشَبُ الأمةُ في نفسها ، وتَتَحَوَّلُ الأمةُ في البلاد إلى فِرَقٍ وأحزابٍ ، ويبغي بعضُهم على بعضٍ ، ويقتلُ بعضُهم بعضًا .
ولابدَّ من التوسُّط في الأمور الذي هو معتقد أهل السنة والجماعة .
وفي التأني والرفقِ تُدْرَكُ الأمورُ ، وتُنالُ المقاصدُ .
علينا أن نمضي في دعوتنا بعيدين عن أهلِ الغُلُوِّ في غُلُوِّهم ، وعن أهلِ الجفاءِ في جفائهم .
نحن أمةٌ وسطٌ ، نُرْشِدُ ونُعَلِّمُ ما ينفعُ الأمةَ ولا يضرُّها .
- - - - -
( 4 )
الجِهادُ صِفةُ هذه الأُمّةِ
الجهادُ في سبيل الله – جل وعلا – من صفة هذه الأمةِ كما ذَكَرَ اللهُ – جل وعلا – في كتابه وبَيَّنهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ، لكن له أحكامٌ في كُتُبِ العلماءِ والتفاسيرِ ، وشروحِ الأحاديث .(4/10)
أما الأمرُ الأولُ في مسألة الجهاد فاللهُ – جل وعلا – قال : ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَ قَلِيلاً . فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) ([12]) .
جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - كما في الحديث الصحيح المعروف - يستأذِنُهُ في الجهادِ ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : « أحيٌّ والداكَ ؟ » .
قال : نعم . قال : « ففيهما فجَاهِدْ » . ([13])
- وأجمعَ أهلُ السنةِ والجماعةِ على أن الجهادَ ماضٍ مع كلِّ إمامٍ إلى قيامِ الساعةِ .
ليس للأفراد مهما كانوا أن يَدْعُوا إلى الجهادِ .
والذي يَدْعُو إلى الجهادِ هو وليُّ الأمرِ لقولِ اللهِ – جل وعلا – لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - : ( وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) .
وليس لأحدٍ من الرعيَّةِ أن يفتئِتَ على وليِّ الأمرِ فيما أعطاهُ اللهُ – جل وعلا – من خصوصيَّاته .
وقد فَهِمَ الصحابةُ ذلك ؛ لذا جاء رجلٌ يستأذنُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في الجهادِ ... ولم يذهب من دون إذن .
- وليس الجهادُ مع فئاتٍ أو جماعاتٍ ، وإنما الجهادُ مع وليِّ الأمرِ ، مع الإمامِ إذا دعا إليه .
- والجهادُ من أعظمِ وأكبرِ ما يختصُّ به وليُّ الأمرِ .
أما لو دَعَى إلى الجهادِ آحادُ الناسِ لحلَّتِ الفوضى .
- والعلماءُ والدعاةُ يدعونَ إلى الجهاد إذا دعا إليه وليُّ الأمرِ ؛ لهذا قال الله - عز وجل - : .
فالمؤمنونَ تبعٌ لوليّ أمرهم في ذلك .
قال « موفقُ الدينِ بنُ قُدامةَ » في « المغني » ([14]) :(4/11)
« فصلٌ : وأَمْرُ الجِهادِ مَوْكُولٌ إلى الإمامِ واجتهادهِ ويلزمُ الرعيّةَ طاعتُهُ فيما يراهُ من ذلك .. » .
وهنا مسألةٌ أصوليةٌ مهمةٌ في تصرفاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - :
أقوالُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعمالُه تُحْمَلُ على أمور :
أ – تارةً يقولُ ويعملُ ويتصرفُ - صلى الله عليه وسلم - لكونه رسولاً نبيًّا ، وهذا فيما يتعلقُ بالوحي وتبليغه ، والتشريعِ ، والأمرِ والنهي ، والحلالِ والحرامِ … .
ب – وتارةً يتصرفُ ويفعلُ ويقولُ - صلى الله عليه وسلم - لاعتباراتٍ متنوعة :
( 1 ) باعتباره وليًا للأمر ، إمامًا للمسلمين .
( 2 ) باعتباره قاضيًا .
( 3 ) باعتباره مفْتيًا .
( 4 ) باعتباره مرشِدًا .
( 5 ) باعتباره ناصِحًا . وهكذا …
لهذا قال الله – جل وعلا – لعمومِ الأمةِ : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) ([15]) .
فالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أسوةٌ حسنةٌ لأئمةِ المسلمينَ ، أسوةٌ حسنةٌ للقضاةِ ، أسوةٌ حسنةٌ للمفتينَ ، أسوةٌ حسنةٌ للمرشدينَ ، أسوةٌ حسنةٌ للدعاةِ ، أسوةٌ حسنةٌ للرجلِ في بيته ، أسوةٌ حسنةٌ لعامةِ الناسِ في تصرفاتهم .
وهكذا فهو – عليه الصلاة والسلام – أسوةٌ حسنةٌ لكلِّ الطبقاتِ والفئاتِ .
إذًا فلا يَحِقُّ لأحدٍ منا أن يدعوَ الناسَ إلى الجهادِ إلا إذا دَعَا إليه وليُّ الأمرِ .
فرعايةُ النصوصِ وقواعدِ أهلِ السنةِ والجماعةِ في هذا الأمرِ واجبٌ علينا شرعًا .
فليحذرِ الواحدُ منا مِنْ أن تَزِلَّ قدمُه ، ويعطيَ الناسَ ما لا ينبغي .
ولقد حَثَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الناسَ على الجهادِ بقوله : « جاهِدُوا المشركينَ بأموالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ وأَلْسِنَتِكُمْ » ([16]) وهذا أمرٌ مربوطٌ بالنصوصِ ، وبمعتقدِ أهلِ السنةِ والجماعةِ .
- - - - -
( 5 )(4/12)
الاجتماعُ على هَدْيِ السلفِ عندَ ظهورِ الفتنِ
لابدَّ من رعاية هَدْيِ السلفِ كما جاء في النصوصِ في أحوالِ تقلباتِ الزمانِ والأحوالِ وظهورِ الفتنِ .
فإذا ظهرتِ المشتبِهاتُ فالتجاسرُ مذمومٌ ، والتأني والرفقُ هو المحمودُ ، كما وَصَفَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ – رحمه الله – الصحابةَ بقوله : إنَّهم على عِلْمٍ وَقَفُوا – يعني : فيما أقدموا عليه – وببصرٍ نافذٍ كَفُّوا – يعني : فيما كَفُّوا عنه في أمرِ الدينِ والعملِ - .
ومن المهم والضروريِّ أن يتفقهَ الداعيةُ في الدينِ ، وبذلك يحصُلُ له كلُّ خيرٍ ، ومن ذلك :
أ – أن يكونَ في زمنِ الاختلاف مُنْجِيًا لنفسه ، متقيًا لله – جل وعلا – .
ب – أن لا يوقعَ غيرَه في شبهةٍ أو فتنةٍ .
وإذا حَصَل اشتباهٌ فعليهِ أن يلتزمَ بالحديثِ الذي يدورُ عليه رَحَى الإسلامِ ، وهو أصلٌ عظيمٌ من أصولِ
الإسلامِ ، وهو قولُه - صلى الله عليه وسلم - : « دعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ » ([17]) .
أي : إذا لم تظهرْ لك الأمورُ بَيِّنَةً واضحةً بأدلتِها ومعتقدِها ونصوصِها في زمنِ البلاءِ والاختلافِ والفتنةِ فدعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَرِيبُكَ .
جـ – تركُ تقليدِ مَنْ لا يُرْكَنُ إلى قولِهِ .
فمثلاً : كان الناسُ في زمنِ الإمامِ أحمدَ في فتنةٍ عظيمةٍ ، فما كان من الإمامِ أحمدَ إلا أن ثَبَتَ على الأمرِ العتيقِ .
وقد قال جَمْعٌ من السلف :
« إذا التبستِ الأمورُ فعليكُمْ بالأمرِ العتيقِ » .
فالأمرُ العتيقُ هو الهديُ العتيقُ .
أما أنْ يدخُلَ الناسُ في أمرٍ من أجل صنيعِ بعضِهم فهذا مرفوضٌ ولا يصِحُّ أن تَستجِرَّ فئةٌ قليلةٌ الدعاةَ ، والجماعاتِ الإسلاميةَ والدولَ إلى حربٍ وجهادٍ عامٍّ منقادِينَ دونَ علمٍ وحكمةٍ .
وهنا سؤال : هل يسوغُ أن يَتَصَرَّفَ أحدٌ ثم ينجرَّ الجميعُ إلى تصرُّفِهِ ؟
الجوابُ : معلومٌ أن الشريعةَ جاءتْ لتحصيل المصالحِ ، ودرءِ المفاسِدِ .(4/13)
وهذا أصلٌ عظيمٌ لا نُسْتَجَرُّ إلى شيء لا نُريده ، ولابُدَّ أنْ يُوَضَّحَ للناسِ أن لا ينجرَّ الناسُ في زمنِ الفتنةِ .
الجميعُ يحمِّس ، التقيُّ ، والفاجرُ ، والقنواتُ ، حتى القنواتُ غيرُ الإسلاميةِ والمشبوهةُ تزيدُ مما في النفوسِ .
لماذا هذا ؟! هل هو حُبٌّ في أنْ يَتَّجِهَ الناسُ للجهادِ ؟! .
لا ، بل لهم أغراضٌ لا تَخْدُمُ الأُمَّةَ .
قال اللهُ - تعالى - : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ([18]) .
- - - - -
الخاتمة
أيُّها الإخوةُ :
الحديثُ متشعبٌ كثيرٌ ، ولكنَّ التوسطَ التوسطَ والتوازنَ التوازنَ ، ونحن مع المؤمنينَ ، وضِدُّ الكافرينَ ، لكنْ على منهجِنا ، ولسنا على منهجِ غيرِنا لا نُسْتَجَرُّ ، والناسُ تَبَعٌ في ذلك لولاةِ أمورهم ، لأن من مهماتِ الإمامِ ووليِّ الأمرِ الحفاظُ على الدينِ ، والحفاظُ على بَيْضَةِ الأمةِ ؛ كيلا يعتدي عليهم معتدٍ .
فإذا تجاسرَ بعضُ الناسِ وتجاهلَ وُلاةَ الأمرِ والعلماءَ حدثتْ فتنةٌ عظيمةٌ وانحرافٌ عن منهجِ السلف . فاللهَ اللهَ بهذا الأمر ، وأن لا يُجَرَّ أحدُنا بحسنِ قَصْدٍ .
أسألُ اللهَ – جل وعلا – أن يوفِّقَ الجميعَ إلى ما فيه رضاه ، وأن يجعلنا ممن يرى الحقَّ حقًا ، وأن يمُنَّ علينا باتِّباعه ، ويرى الباطلَ باطلاً ، ويمُنَّ علينا باجتنابِه .
كما نسألُ اللهَ – جل وعلا – أن يوفِّقَ الجميعَ لما فيه الرشدُ والسدادُ ، وأن يؤيدَ - سبحانه وتعالى - ولاةَ أمورِنا بالحقِّ ، وأن يجزيَهم عن الإسلامِ والمسلمينَ خيرَ الجزاءِ .
---
([1]) أصل هذا المؤلَّف كلمة لمعالي الشيخ موجهة إلى طلاب العلم والدعاة والوعاظ والخطباء والمرشدين بالوزارة في الرياض في شعبان 1422هـ .
([2]) العنكبوت : 40 .
([3]) آل عمران : 19 .
([4]) البينة : 4 .
([5]) آل عمران : 7 .(4/14)
([6]) قطعة بالمعنى من حديث طويل أورده « البخاريُّ » في « صحيحه » في ( كتاب الشروط – باب الشروط في الجهاد ، والمصالحة مع أهل الحرب ، وكتابة الشروط ) . انظر « فتح الباري » ( 5 : 403 – 408 ) ط : دار السلام .
([7]) الأنفال : 72 .
([8]) مجموع الرسائل ص11 .
([9]) النحل : 90 .
([10]) المائدة : 8 .
([11]) الفتح : 28 .
([12]) النساء : 83 ، 84 .
([13]) أخرج البخاري في « صحيحه » في ( كتاب الجهاد ) من حديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال : « جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد ، فقال : أحيٌّ وَاِلَداكَ ؟ . قال : نعم . قال : ففيهما فجاهدْ » . انظر « فتح الباري » ( 6 : 169 ) .
([14]) في ( 13 : 16 ) .
([15]) الأحزاب : 21 .
([16]) أخرجه « أبو داود في « سننه » في ( كتاب الجهاد – باب كراهية ترك الغزو ) رقم ( 2504 ) ط : دار السلام .
و« النسائي » في « سننه » في ( كتاب الجهاد – باب وجوب الجهاد ) ( 6 : 7 ) من حديث أنس - رضي الله عنه - .
([17]) أخرجه « الترمذيُّ » في « جامعه » في ( كتاب صفة القيامة ) وقال : حسن صحيح ، برقم ( 2518 ) ، و« النسائي » في « سننه » في ( كتاب الأشربة – باب الحث على ترك الشبهات ) ( 8 :328 ) من حديث الحسن بن عليّ – رضي الله عنهما - .
([18]) يوسف : 108 .(4/15)
التحذير من البدع وعواقبها الوخيمة
أو (موضوع البدع، وبيان حقيقتها، وأثر البدع في حياة المسلم)
علق عليها فضيلة الشيخ:
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد.
ونشهد أنه لا خير إلا دلّ الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه، فصلوات الله وسلامه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. قاله المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم.
إنّ هذا الموضوع وهو:
موضوع البدع، وبيان حقيقتها، وأثر البدع في حياة المسلمين
إنه لموضوع غاية في الأهمية؛ ذلك لأن كل انحراف في الدين إنما كان سببه إحداث بدعة لم يكن عليها الأمر الأول في حياة النبي عليه الصلاة والسلام:
· في أمور الاعتقاد.
· وفي الأمور العملية الشركية.
· وفي وسائل الشرك.
· وفي أنواع البدع العملية التي ظن أصحابها أنها تقربهم إلى الله جل جلاله.
ولا شك أن كل مسلم شهد أنْ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله رغِب بإسلامه أن يسلم في الدنيا وأن يسلم في الآخرة؛ لأن لقاء الله والحساب وما يكون هنالك في الدار الأخرى أمر عظيم عظيم، فالمسلم يهرب من كل ما يشينه في ذلك ليوم أو يخِّف موازينه.
ولهذا كان من الواجب على كل مسلم أن يسعى في تعلم تحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا الله والشهادة بأنّ محمدا رسول الله؛ لأن كل سعادة ستحوزها إذا حققت هاتين الشهادتين.(5/1)
وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله بالتوحيد بأنواعه توحيد الإلهية بالمطابقة وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات بما تضمنته تلك الكلمة العظيمة.
وأما تحقيق شهادة أن محمدا رسول فهو في أنحاء وفي جهات:
ومنه أن لا تكون عبادة ولا تقربا إلى الله جل وعلا إلا عن طريق المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم، فالعبادة إنما هي التي شرعها المصطفى عليه الصلاة والسلام والتي سلكها وأمر بها أو دل عليها أصحابه وأمته عليه الصلاة والسلام، وهو عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رؤوف رحيم.
وقد أمره الله جل وعلا بإبلاغ الدين وبألاَّ يكتم شيئا من الدين فبلّغ الدين وبلّغ الرسالة وجاهد في ذلك، فكان مما بلَّغ أشياء مفصّلة في أمور العبادات، ومما بلّغ النهي عن أشياء مجملة نهى عنها مما لا يجوز إحداثه أو التقرب إلى الله جل وعلا به، وتلكم هي البدع.
فكان عليه الصلاة والسلام آمرا بأشياء مفصلة من أمور الخير كثيرة تكفي من أراد أن يتقرب إلى الله جل جلاله بها.
ونهى بإجمال عن كل غير تلك العبادات، فنهى عن البدع ونهى عن أن يُتقرب إلى الله جل جلاله بغير ما سنّه المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم.
ولهذا قال العلماء: معنى شهادة أن محمدا رسول الله أن يُطاع فيما أمر، وأن يُصدق فيما أخبر، وأن يُجتنب ما عنه نهى وزجر، وأنْ لا يُعبد الله إلا بما شرعه رسوله صَلَّى الله عليه وسلم.
فكل عبادة يُتعبد بها الله جل جلاله لم يكن عليها أمر المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم فهي باطلة وسالكها قد انقدح في سلوكه قد انقدح في أمره وعبادته تحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، قد قُدِح في ذلك ونقص بمقدار تلك البدعة وربما كانت بدعة كفرية فخرج من أصل الدين والعبادة والعياذ بالله.(5/2)
لهذا الأصل قال العلماء: إن أعظم آية في هذا الأمر وهي آية سورة المائدة هذه الآية لو تأملها أهل الإسلام لكفتهم عن أن يكونوا على غير السنة، قال جل وعلا ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:3]، قال يهودي لعمر رضي الله عنه: آية أو أنزل علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم الذي أنزلت فيه عيدا. قال: وما هي؟ قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). قال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والساعة التي نزلت فيها، والمكان الذي نزلت فيه. لأنها نزلت يوم الجمعة، نزلت يوم عرفة وهذا اليوم هو يوم عيد للمسلمين.
فهذه الآية فيها بيان أنّ الله جل وعلا أكمل لنا الدين قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يعني أن الدين وهو ما يتدين به المرء ليقربه إلى الله جل وعلا قد كَمُل، فإذا كان كاملا فهل ثَم وسيلة لإدخال شيء فيه حتى يتقرب به إلى الله جل جلاله؟ إن هذا مناقض لمعنى هذه الآية، ولهذا قال الشاطبي وغيره من أهل العلم قالوا: إنَّ أهل البدع ليس عندهم لهذه الآية معنى وهي قوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)؛ لأن معنى الإكمال أنه ليس فيه مجال لآن يدخل فيه شيء يقرب إلى الله جل جلاله.
وإذا كان كذلك فكل شيء أُحدث بعد الرسول عليه الصلاة والسلام بعد زمنه فإنه بدعة ضلالة يدَّعي صاحبها أن الدين ناقص وأنه يريد إكماله؛ لأنه لم يأتِه ما جاءت به الشريعة.
لهذا قال الإمام مالك فيما رواه عنه ابن الماجشون قال: قال مالك رحمه الله تعالى: من زعم أن في الدين بدعة حسنة فقد زعم أن محمدا عليه الصلاة والسلام خان الرسالة، والله جل جلاله يقول ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا?[المائدة:3].(5/3)
لهذا كان كل محدِث لبدعة مدَّع بأن الدين لم يكمل إن بلسان حاله أو بلسان مقاله وهو أعظم والعياذ بالله.
لهذا وجب عليك أن تتعرف إلى البدع:
· من جهة معناها.
· ومن جهة أسبابها.
· ومن جهة القواعد التي بها تعرف البدعة وتعرف السنة.
· ومن جهة الضوابط في هذه المسألة .
· وتتعلم الشبهات التي أثارها أهل البدع، وما أكثرهم لا كثرهم الله جل جلاله، تتعلم تلك الشبهات والرد عليها؛ لأنه قد يأتي من يحسن البدع عندك بأنواع من التحسينات أو يلقي شبهة، فإذا كشفت الشبهة بتعلم وتعليم كنت في حيازة وحراسة من أهل البدع؛ أتباع الهوى.
· وكذلك تعرف أنواعا مما أحدثه الناس من أنواع البدع حتى إذا مرّ عليك شيء منها أو سمعت بأحد يعمل بشيء منها كنت منها على بغض وحذر وكذلك أنكرتها لعلم لك بها.
لهذا تقول إن البدعة مأخوذة من ابتدع الشيء يعني اخترعه، تقول هذا أمر مبتدع يعني جديد مخترع ليس له مثال سابق، ولهذا قال الله جل وعلا ?بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ?([1]) يعني قد اخترعهما وأنشأهما من غير مثال سابق، وقال جل وعلا آمرا نبيه صَلَّى الله عليه وسلم ?قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ?[الأحقاف:9]، يعني ما كنت مخترعا من الرسل ليس قبلي رسول؛ بل ثَم رسل من قبلي فلم تنكرون رسالتي وتقرون بأن ثمة رسلا أرسلهم الله جل وعلا؟ (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) يعني ليست رسالتي بمخترعة ولا جديدة لم يُسبق أن أرسل الله جل وعلا؛ بل أرسل الله جل وعلا رسلا وأنا لست ببدع فيهم لست بجديد في الرسل.
لهذا أصل البدعة أنها شيء مخترع جديد هذا في اللغة.(5/4)
قد يكون في أصل اللغة معنى يكون هذا الاختراع في أمور محمودة وقد يكون في أمور مذمومة؛ لكن إذا اخترع شيئا وابتدعه فإنه يقال هذه بدعة، ولهذا استعمل عمر رضي الله عنه الخليفة الراشد الثاني استعمل لفظ البدعة في المعنى اللغوي فقال رضي الله عنه لما اجتمع الناس على إمام واحد يصلون خلفه في أيام رمضان قال لما رآهم يجتمعون يصلون التراويح: نِعْمَ البدعة هذه بدعة. بدعة من جهة اللغة؛ لأنهم لم يكونوا يفعلونها فاجتمعوا على إمام واحد، وليست ببدعة في الشرع لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قد جمّع بهم في رمضان وصلوا خلفه بضع ليال عليه الصلاة والسلام، فعنى عمر بهذه الكلمة المعنى اللغوي لها لأنهم اجتمعوا بعد أن كانوا متفرقين على عدد من الأئمة في مسجده صَلَّى الله عليه وسلم.
أما في الاصطلاح يعني في عُرف أهل الشرع فإن البدعة عُرِّفت بأنواع من التعاريف:
منها أن البدعة طريقة في الدين مخترعة يُضَاهى بها الطريقة الشرعية، ويُقصد بها المبالغة في التعبُّد لله جل وعلا. وهذا تعريف الشاطبي رحمه الله في كتابه الاعتصام وهو كتاب نفيس في هذا الباب في معرفة البدع والرد على أهل الشبهات فيها.
وعرّفها آخرون بقولهم بأن البدعة هي ما أُحدث على خلاف الحق المتلقَّى عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بقول أو اعتقاد أو حال بنوع شبهة أو استحسان.
ولا بأس أن ننظر إلى التعريف الأول لأن كثيرين من أهل العلم يعتمدون ذلك التعريف.
فما هي البدعة في الشرع؟ قال الشاطبي لنا: البدعة هي طريقة في الدين مخترعة.
(طريقة) الطريق هو المسلوك، طريق يعني قد طرقته الأقدام فسُلك، فمعنى ذلك أن البدعة لم تفعل مرة بل طُرقت وطرقت كثيرا، فصار أمرها مطروقا؛ يعني فُعلت كثيرا حتى صارت طريقة.(5/5)
(طريقة في الدين) يعني أنها ليست في الدنيا، فإذا أحدث الناس في أمور دنياهم ما يعينهم على تحسين أمور دنياهم فليست تلك من البدع المنهي عنها؛ بل البدعة المنهي عنها في الدين، (طريقة في الدين) لأن أمر الدنيا على الإباحة لكن أمر الشريعة والعبادات على الحظر حتى يكون عن المصطفىصَلَّى الله عليه وسلم.
(مخترعة) يعني جديدة لم يكن لها مثال سابق في عهده عليه الصلاة والسلام.
قال (تضاهى بها الطريقة الشرعية) يعني تجعل مماثلة للطريقة الشرعية، فماذا يقصد الناس بالطريقة الشرعية؟ يعني بالالتزام بأمر شرعي بعبادة من العبادات، يقصدون بذلك أن يتقربوا إلى الله جل وعلا بتلك العبادة وأن يكون فعلهم الذي فعلوه مقتدًى به؛ يعني يقتدي الناس به ويكونون هم قد اقتدوا برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فيه إما من جهة الإذن بالقول أو الإذن بالحال، فإذن يقصد أصحاب البدع بها مضاهات الطريقة الشرعية، قد تأتي إلى مبتدع وتقول: أنت تريد مضاهات الطريقة الشرعية؛ منافسة الطريقة الشرعية، يقول:لا، ولكن المقصود الحال فإنه حين تعبد بعبادة جديدة فإنه ضاهى الطريقة الشرعية؛ يعني جعل شيئا يتعبد به فيه وبه هو على شكل وهيئة الطريقة الشرعية.
قال (تضاهى بها الطريقة الشرعية، ويقصد بها المبالغة في التعبد) وهذا أمر مهم، لأن الذين تعبدوا بالبدع لماذا تعبدوا بالبدع؟ يريدون المبالغة في التعبد.(5/6)
مرَّ ابن مسعود رضي الله عنه على قوم بعد أن أخبر عنهم في مسجد الكوفة، فإذا هم يسبحون بحصى، يأتون بحصى ويجمعون كل عشرة حصيات أو مائة حصاة، ثم يعدون سبحان الله مائة؛ واحد اثنان ثلاثة إلى آخره، فلما رآهم غضب وقال: إما أن تكونوا أهدى من صحابة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، أو أن تكونوا محدثي ضلالة، هذه آنية رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لم تكسر وهذه ثيابه لم تبلَ، فكيف -يعني معنى كلامه- فكيف تحدثون ذلك مع القرب بعهد النبوة؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير.
فهذا قصد الشاطبي حين قال (يقصد بإحداث البدعة المبالغة في التعبد لله جل وعلا) فإنه حين أحدث البدعة لم يحدِثها وهو يعلم أنه مخالف للدين؛ بل هو يقول أنا أريد الزيادة في الخير. لكن هل أُذِن له بأن يزيد ما شاء دون إذن من الشرع؟ لم يؤذن له بذلك.(5/7)
لهذا نقول أن أدلة الشرع دلت على وجوب الالتزام بالسنة، وعلى حرمة مخالفة السنة، والإتيان بالبدع يعني مخالفة الطريقة التي يُتعبد بها والتعبد لله جل وعلا بالبدع، قال الله جل وعلا ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ?[آل عمران:31]، قال بعض السلف ليس الشأن أن تُحِبَّ ولكن الشأن أن تحب ليس الشأن أن تحب أنت الله جل وعلا. ليس الشأن أن تحب الرسول صَلَّى الله عليه وسلم ليس الشأن أن تحب الدين، ولكن الشأن أن يحبك الله جل وعلا، والله جل وعلا لا يحب العبد إلا إذا كان عمله حسنا، قال جل وعلا ?لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا?([2]) قال الفضل في كلمته المشهورة العمل الحسن هو الذي كان خالصا صوابا. خالصا لله جل وعلا لا لغيره، صوابا على سنة المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم، وقد قال جل وعلا ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام:153]، قال (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) فصراط الله واحد، سبل الضلال قال (فَاتَّبِعُوهُ) يعني اتبعوا هذا الصراط (وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فسبيل الله واحد، وأما السُّبل سبل البدع والشبهات فهي كثيرة، ولهذا فسرها مجاهد بن جبر أبو الحجاج التابعي المعروف تلميذ ابن عباس فسَّر هذه الآية بقوله: هي البدع والشبهات. قال (فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).(5/8)
وقال جل وعلا في سورة آل عمران ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ?[آل عمران:7]، من هم الذين يتركون لأمر الواضح البين ويأخذون بالمشتبهات والمتشابهات؟ هم أهل الزيغ، وأهل الزيغ قال فيهم عليه الصلاة والسلام «إذا رأيتهم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم».
فإذن الذين يتركون الأمر الواضح ويأخذون بالمشتبهات فهؤلاء أصحاب الزيغ؛ لأنهم تركوا الأمر البين الذي بينه عليه الصلاة والسلام وأخذوا بالأمور المشتبهات أو لم يأتِ بها شرع المصطفى عليه الصلاة والسلام.
لهذا كان في خطبة الحاجة التي يذكِّر بها النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه دائما كان فيها قوله عليه الصلاة والسلام «أما بعد فإن أحسن الحديث كلام الله -أو كتاب الله- وخير الهدي هدي محمد صَلَّى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) هذه خطة الحاجة كان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يعلمها أصحابه، يعلمهم أن كل محدثة بدعة ول بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، هذا تأكيد على هذا الأمر حتى لا يُحدث في الدين شيء.(5/9)
ولهذا جاء في حديث العرباض بن سارية الحديث المشهور قال فيه العرباض بن سارية رضي الله عنه: وعَظَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بليغة، ذَرفَت منها العيونُ، وَجِلَت منها القلوبُ فقلنا: يا رسول الله؛ كَأنّها مَوعظةُ مُوَدَّعٍ، فَأوصِنا. فأوصاهم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وكان مما أوصاهم به أن قال «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا» إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اختِلافًا كَثِيرًا «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلفَاء الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ من بعدي تمسكوا بها وعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» يعني لا تفكونها عظوا عليه بالنواجذ يعني بأقوى ما عندكم «وعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ محدثة بدعة».
وهذه وصيته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بعد موعظته التي ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فما كان أنصحه لأمته وما كان أرأفه بأمته لا خير إلا دلهم عليه ولا شر إلا حذرهم منه، كما جاء في مسلم أنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وأن يحذر أمته عن شر ما يخافه عليهم» وهكذا كان المصطفى عليه الصلاة والسلام.
إذن فأمر البدع أمر عظيم وجامعتها والدليل الذي يجب عليك أن يكون معك دائما في هذا الأمر هو قول المصطفى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بميزان تزن به الأمور وتزن به الأفعال قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فيما روته عائشة وأخرجه صاحبا الصحيح «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وفي رواية لمسلم وعلقه البخاري في صحيحه «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».(5/10)
قال العلماء: ثَم حديثان هما ميزانان لأعمال أما الأول فهو ميزان للأعمال في باطنها.
تزن عملك في الباطن الذي لا يظهر للناس وهو قول المصطفى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» هذا ميزان باطن أنت تقوم نفسك به (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ) فإن كانت نيتك صالحة خالصة لله جل وعلا فهذا معناه أن الجهة الباطنة صحيحة.
والميزان الظاهر الذي تزن به العمل في الظاهر الذي يُرى قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في هذا الحديث «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ -وفي رواية (مَا لَيْسَ فيه)- فَهُوَ رَدٌّ) هذا هو ميزان للظاهر.
إذن تزن الأعمال في الباطن من جهة صلاحيتها وكونها حسنة مقبولة وهل أنت مخلص فيها أم لا.
وتزن العمل الظاهر فيما يرى الناس بـ: هل هو على أمر النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أم ليس على أمره.
فهما ميزانان لا يشذ عنها شيء من الأعمال واحد للباطن وواحد للظاهر.
[أسباب البدع]
إذن إذا كان الأمر كذلك والبدع بهذا الشأن وهذه الأدلة التي جاءت فيها، فلم أحدثت البدع؟ المسلمون يحبون الخير ويحبون نبيهم عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، فما أسباب حدوث البدع؟ ولم حدثت البدع في هذه الأمة؟
أول أسباب حدوث البدع الجهل بالسُّنن: إذا جهل المرء الذي يزن الخير بالسنة فإنه جهله هذا يأتي الشيطان من جهته ويحبب له الخير بشيء مبتدَع، مثل ما قال أولئك لابن مسعود: يا ابن مسعود ما أردنا إلا الخير. ما أرادوا إلا الخير، وإذا كانوا ما أرادوا إلا الخير فالأمر جائز، وهذا ليس بصواب.
إذن فأهم أسباب البدع أن المحُدث لها يقول ما أردنا إلا الخير وهو جاهل بالسنة.(5/11)
ما سمعنا مبتدعا يقول: أنا أردت مخالفة السنة. هل سمعتم؟ ما أحد يقول أنا أردت مخالفة السنة. كلهم يقولون ما أردنا إلا الخير. نحن نبغي التقرب إلى الله، كيف تقول إن هذا الفعل كذا وكذا وتنهى عنه هو صالح، اجعل الناس يتذكرون، اجعل الناس يعبدون، اذهب إلى الفسقة إلى الفجرة وانههم، أما الذين يريدون الخير فاجعلهم يتعبدون لأنهم ما أرادوا إلا الخير.
هل كل مريد للخير يحصله؟ لا، لابد أن يكون على هذا الطريق وهو طريق المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام:153].
السبب الثاني من وجود البدع واستمرار البدع الهوى والتقليد؛ لأنك تجد أن الذي استمر على البدع وعمل بها إذا سألته: النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ألم يقل كذا؟ هل فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الشيء؟ فيقول العالم الفلاني قال كذا، وشيخنا قال كذا، وهذا كان في القرية كان فيها كذا وكذا والبلد، هؤلاء ضلال، فيأتيه الهوى الذي من أجله نصر من قبله نصر أسلافه، يأتيه التقليد يأتيه التعصب فيجعله ينتصر لهذا الأمر الباطل، ولم ينتصر إلى السنة فسأل نفسه هل كان النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على هذا الأمر أم لا؟ فيكون عنده هوى وتقليد وتعصّب، جعله هذا الهوى والتقليد والتعصب ينتصر للرجال ولا ينتصر لسنة النبي العدنان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ هذا سبب مهم.(5/12)
ومن أسباب حدوث البدع أمور سياسية: وهذا الأمر السياسي كان من أعظم فشوِّ البدع في المسلمين لم؟ لأن الشيء إذا أيدته دولة فإنه ينتشر، البدع وذلك على أصنافها المختلفة أيدتها دولة فنشرتها في المسلمين وهي الدولة الفاطمية، التي حقيقة اسمها الدولة العبيدية، هم ينتسبون إلى العبيديين ولا ينتسبون إلى علي رضي الله عنه على الصحيح، هذه الدولة جاءت وتكلم العلماء فيها وقالوا إنها كذا ودولة باطنية وهي على غير الإسلام ولها معتقدات مكفِّرة، إلى آخره، فكيف يقنعون الناس أنهم محبون للدين ومحبون للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وأنهم من آل البيت أول ما بدأ أحدثوا الاحتفالات البدعية، فهم أول من أحدث الاحتفال بالمولد النبوي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، جاءوا قالوا هذا يوم المولد لابد أن نحتفل به، فلما رأى العوام أن هؤلاء هذه الدولة تحتفل بمولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتتلوا سورته، ويفعلون في المولد صرخات وأكل وطعام ونحو ذلك قالوا هؤلاء محبون للشريعة محبون للسنة، والعوام ليس عندهم من تقييم الأمور ما عند أهل العلم، وابتدأ ذلك فبدل أن يكون يوم واحد من الاحتفالات في السنة صار كما قال المؤرخون عندهم في كل يوم مولد في كل يوم احتفال في الدولة العبيدية، فأيدتها الدولة وانتشرت في الناس ذلك شيئا فشيئا حتى عمّ في الناس.
إذن من الأسباب التي دعت إلى انتشار البدع ما أيدت به البدع الدولة العبيدية، وأعظم البدع التي أيدتها الدولة العبيدية من جهة العمل الاحتفالات بأنواعها مع ما هم عليه من البدع في الاعتقاد.(5/13)
من الأسباب أيضا لإحداث البدع ولبقائها ولانتشارها الاستحسان العقلي في مقابلة النص الشرعي: الدين كامل فلا يجوز أن تستحسن فيه بالعقل في عبادة؛ لأن العبادات في الأصل لا تعلم عللها، لم جُعلت صلاة الظهر أربعا والمغرب ثلاثا، لم المغرب ثلاثا وبعد ساعة ونصف العشاء أربع؟ لم صار التقييد في التسبيح بكذا وكذا؟ هذه العبادات لا نعلم عللها.
فلهذا وجب أن يقتصر فيها على نص الشارع؛ لأنه لا علة معلومة فيها، ولهذا يقول العلماء العبادات هي غير معلومة العلة يعني في الغالب، الحكمة غير العلة، الحكمة وصف قاصر، أما العلة هي الأمر الذي أو الوصف المناسب الذي تستخرج منه حكما لغير المسألة بجامع بينها وبين المسألة المنصوص عليها، الحكم شيء والعلل شيء آخر.
إذن من أسباب البدع الاستحسان العقلي، والشريعة كاملة والعبادات لا مجال فيها للعقل أصلا.
إذا قال قائل: أنا أريد أن أدعوا الله بالطريقة الفلانية. فقل: لماذا لا تصلي الظهر خمسا؟ فهو يقول: الظهر خمسا!! ما صلى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ خمسا.
فإذن هل فعل النبي هذا الدعاء أو هذه الهيئة أو هذا الذكر؟ أو هل اجتمع الصحابة على هذا النحو؟ ما الفرق بين هذه وهذه؟
أدخل تحسينه العقلي في أشياء ولم يدخله في أشياء لأنه هابه؛ هاب المخالفة فيه لعظم المخالفة.
ولهذا من أسباب البدع الدخول فيه بالتحسين العقلي، يدخل في العقل يقول هذا الشيء نفعل كذا حتى نجيب الناس نجمعهم بهذه الطريقة.
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
إذن هذه خمسة أسباب لحدوث البدع ولاستمرار البدع في هذه الأمة.
[القواعد التي تعرف بها السنة والبدعة]
هناك قواعد مهمة إذا علمتها سهُل عليك القوة في أمر السنة والرد على أهل البدع.(5/14)
أما القاعدة الأول منها: فهي أن الأصل في العبادات الحظر حتى يأتي الدليل، الأصل في العبادات المنع حتى يأتي الدليل بها، لم؟ لأن العبادة شُرعت على غير تعليل عقلي، فالأصل أن لا يتعبد أحد بشيء حتى يأتي الدليل به لقول الله جل وعلا ?وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا?[الحشر:7] ما آتاكم من الأقوال والأعمال والاعتقادات فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.
هذه قاعدة مهمة أن الأصل في العبادات الحظر حتى يأتي الدليل، فإذا أتى آتٍ وقال لك أن هذه البدعة طيبة، فقل: الأصل في العبادة المنع حتى يأتي الدليل، فهل أتى بهذه دليل هل أجمع عليها العلماء؟ هل ذكرها الصحابة؟ هل فعلها الصحابة؟ كما سيأتي في القواعد الأخرى هذه قاعدة مهمة.
القاعدة الثانية في أصول معرفة البدع والرد على أهلها:
أنّ البدعة التي أُحدثت لو كانت خيرا لفعلها خير هذه الأمة، وخير هذه الأمة هم صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتابعوهم وتابعوهم، هم خير هذه الأمة.
فإذن إذا أتى واحد وفعل بدعة فتسأله: هل فعلها الصحابة؟ هل فعلها التابعون؟ فإذا قال: لا. فتقول: إذن لو كانت خيرا تُقَرِّبُ إلى الله لفعلها خير هذه الأمة؛ بل لفعلها النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ولفعلها أصحابه في وقته، فلو كانت خيرا لفعلوها، فما دام أنهم ما يفعلوها، فدلنا ذلك على أنها ليست بطريقة مرضية؛ لأنهم خير هذه الأمة، ومقتضى أنهم خير هذه الأمة أن الأمور الخيرة قد عملوها في أمور العبادات والاعتقادات والجهاد وغير ذلك.
من القواعد أيضا المهمة في ذلك:
أنْ تعلم أن فعل النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أو سنة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ نقول سنة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على قسمين:
· سنة فعلية.
· وسنة تركية.(5/15)
كما حققها العلامة ابن القيم في كتابه معالم الموقعين عن رب العالمين سنة فعلية وسنة تركية، الناس يهتمون بسنن الفعل النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، روي عنه أنه فعل كذا فنصلي، صلى الراتبة نصليها، أمر بالذكر فنذكر على هذا النحو، هذه سنة فعلية واضحة، فأمر أو أتى أو رغب فهذه سنن الأفعال، أو فعل ذلك بنفسه أو أقر غيره فهذه السنن الفعلية.
لكن المهم في قواعد البدع أن تعلم من سنته سنة الترك، وتركه سنة كما أن فعله سنة لأن الترك في الحقيقة فعل، هو ترك للفعل، فهو فعل ترك.
فلهذا نقول سنة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ منها الترك.
وإذن الذي يرد اتباع السنة فإنه يفعل ما فعل عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ويترك ما ترك؛ لأن سنته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ منها سنة تركية.
هذه قاعدة مهمة، فتأتي إلى أهل البدع وتقول لهم: النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فعل وهذه سنة فعلية تقتدي بها أولا تقتدي؟ يقول: نعم أقتدي بها. فتقول: أيضا النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ترك وهذه سنة تركية، فإذا كانت سنة تركية فنترك لأنه ترك، كما أننا نفعل لأنه فعل.
فالسنة ترجع إلى الشيئين، وإقتداء المكلف بالنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ الذي يؤجر عليه من جهة النية ومن جهة الفعل أن يفعل لأجل أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فعل،وأن يترك لأجل أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ترك .
هذه بعض القواعد والمقام يقصر عن تفسير هذا المقال.
[الضوابط التي تفرق بين البدعة وغيرها]
نذكر بعد القواعد شيئا من الضوابط التي تفرق بين البدعة وغيرها.
البدعة من تعريفها الذي ذكر يظهر أنه يعني يغني من فعلها يلتزم بها.(5/16)
ولهذا قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في موضع ضابط البدعة أنها ملتزم بها، قال الفرق بين ترك السنة وفعل البدعة أو بين مخالفة السنة والبدعة أن مخالفة السنة تقع أحيانا ونادرا، وأما البدعة فهي ملتزم بها.
وهذا ضابط مهم.
مثلا نوضح لك هذا الضابط مثلا لو رأيت رجلا يدعو بعد الصلاة رفع يديه فدعا، مرة رفع يديه فدعا هذا بدعة أو مخالف للسنة، تنظر:
إذا التزم بهذا الفعل فكان دائما عليه فنعماه أنه جعله من الدين وأراد بذلك التقرب إلى الله جل وعلا فكان بدعة.
وأما إذا فعله مرة فيكون خطأ مخالف للسنة لكن لا يكون بدعة.
فضابط الالتزام مهم في الفرق بين البدعة ومخالفة السنة، فمن خالف السنة وفعل فعلا مخالفا للسنة في أمر التعبد مرة أو مرتين بحسب ما ظهر له فإنه يقال أخطأ وخالف السنة؛ لكنه لا يسمى مبتدعا حتى يكون ملتزما بهذا الفعل فإذا التزمه صار فعله طريقة في الدين مخترعة تضاهي بها الطريقة الشرعية يقصد بها المبالغة في التعبد بها لله جل وعلا، وهكذا أفعال أخر من أمور التسبيح والأذكار، فينكر عليه تارة لمخالفته للسنة، وينكر عليه بأشد إذا كان على بدعة، فمن فعل شيء مخالفا للسنة ينكر عليه وينصح ويبين له لكن لا يسمى مبتدعا حتى يلتزم بذلك، فيكون التزامه طريقة في الدين مخترعة.
وهذا ضابط مهم في هذا البحث.
شبهات تتعلق بالنهي على البدع
قد علمنا النصوص التي دلت على التحذير من البدع والنهي عنها، وأنّ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وأنّ ما عمل أحد عملا ليس عليه أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وهو رد يعني مردود عليه، «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ -وفي رواية (مَا لَيْسَ فيه)- فَهُوَ رَدٌّ» يعني مردودا عليه.
فهناك شبهات حسّنها أهل البدع وعلماء البدعة والضلالة.(5/17)
من هذه الشبهات: أنهم قالوا الصحابة رضوان الله عليهم فعلوا أشياء لم تكن في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ما هي؟ قالوا: جمع القرآن، هل النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أذن بجمع القرآن؟ هل جمع القرآن في عهده؟الصحابة أحدثوا الجمع جمع القرآن في كتاب واحد، وهو في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان مفرقا في الصحف والعظام والألواح ونحو ذلك، فجمعهم لهم تقربوا به إلى الله جل وعلا ولم يجعله أحد بدعة مذمومة، فدل على أنه وإن كان بدعة لكنه بدعة حسنة.
هذه شبهة، وهي ناتجة عن الجهل أو عدم فقه الشرع كما ذكرنا لكم في أسباب البدع.
الله جل وعلا دلنا في كتابه على أن القرآن سيكون كتابا، فقال جل وعلا ?الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ?[البقرة:1-2]، الكتاب إشارة إلى أي شيء؟ الكتاب اسم للمجموع، وقال?تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ?[الحجر:1]، (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في عهده لم يكن ثمة مصحف مجموع في شيء واحد، قال فيما رواه مسلم في الصحيح يعني نهى عن أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو أين المصحف؟ أين الكتاب؟ الذي قال الله فيه (ذَلِكَ الْكِتَابُ)؟ هل هو إشارة إلى اللوح المحفوظ أو الكتاب الذي سيجمع؟
فهذا فيه دليل على أنه يجب أن يجمع حتى يكون كتابا؛ ولكن في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ما قام المقتضي بجمعه فيما بين دفتين لم؟ لأن الوقت يتنزل ما انتهى الوقت بعد، هل تم تنزل القرآن؟ ما تم في حياته عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
ولهذا نقول في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ القرآن ينزل والآيات تنزل، فإذا كان سيجمع في مصحف واحد معنى ذلك أنه ستدخل آية في هذا الموضع وتدخل آية في ذلك الموضع، وسيكون تلاوته ليست متواترة بل ستحتاج إلى أن ينسخ مرة ثانية وثالثة بعد نزول مجموعة من الآيات أو بعض السور.(5/18)
فأُخِّر جمعه لتلك الدلالة إلى ما بعد عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حتى يتم تنزل القرآن وإيحاء الله جل وعلا لنبيه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
فلهذا نقول إنه ليس لهذه الشبهة معنى؛ لأن الصحابة فعلوه من جهة الفقه في النص، ففعلوا ما دل النص بالإشارة وباللفظ على أنه يجب أن يُفعل، فهم امتثلوا الأمر الذي دُل عليه بالإشارة.
شبهة ثانية: قالوا النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يقول «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»، (من سن في الإسلام سنة حسنة) فهذا يدل على أن من جاء بشيء جديد ولكنه حسن فإن له أجرا. والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ثبت عنه ذلك كما رواه مسلم في صحيحه وغيره فقال (من سن في الإسلام سنة حسنة).
الجواب فيما لو طرح أحد عليك سمعت هذه الشبهة. الجواب على ذلك: أن هذا الحديث له سبب وسببه يوضح معناه، والعلماء يقولون: العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. إذا علمت السبب فهمت الكلام.
وسببه أن قوما مجتابي النمار يعني كانت عليهم ملابس مجتابة أي محرقة أتوا إلى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فلما رآهم رق لحالهم وعُرف ذلك في وجهه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فحث على الصدقة وأمر بها، فقام رجل فقال: عليَّ يا رسول الله كذا. فلما فعل ذلك تبادر الناس وفعلو مثل فعله فقال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حين ذلك «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عل بها إلى يوم القيامة» معنى (من سن في الإسلام سنة حسنة) يعني ترك العمل بها هي من الدين لكن ترك العمل بها مثل التصدق؛ لأنه قالها حتى تصدق ذاك فتبعه الناس على ذلك.
فالذي يبتدئ بالأمر الذي شُرع في الدين ويتبعه الناس على إحياء هذا الأمر الذي شرع في الدين يكون ذلك الفاعل الأول سن في الإسلام سنة حسنة، ما ابتدع ولكنه أحيى تلك السنة.(5/19)
ومن معلوم في قواعد اللغة أنه يطلق الشيء على مُلاَبسه فيقال من سن ويراد من أحيي السنة كما قال عز وجل ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا?[المائة:6]، يعني إذا أردتم القيام للصلاة كقوله ?وَقَبِضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا?[طه:96]؛ يعني قبضت قبضة من أثر [حافر] الرسول فنبذتها، ونحو ذلك مما هو معلوم في اللغة.
إذن هذه الشبهة لا وجه لها.
ومن الشبه التي يقولونها: إن هؤلاء ما أرادوا إلا الخير.
هذا سبق ن ذكرته لكم؛ يعني ذكرت لكم جوابه وأنه ليس بشيء لأنه ليس الأمر على أن تريد الخير الأمر على أن يكون عملك خالصا صوابا .
من الشبهات أيضا: هذه مهمة أنهم قالوا: الصحابة أحدثوا أشياء والمسلمون أحدثون أشياء في أمورهم، فأحدث عمر وضع الدواوين، وأحدثوا في المساجد؛ يعني في تنظيم بعض الأشياء المتعلقة بالإمام وبالأئمة، وأحدثوا بعض أنواع الإدارة، وأحدثوا ديوان الجند، وأحدثوا المدارس، وأحدثوا كذا وكذا... إلى آخره.
يعني أنهم فعلوا أشياء ونظَّموا أشياء جديدة، وهذه لاشك أنهم يريدون بها أنها من الدين لأنها تقرب إلى الله جل وعلا، فلم يجعلوها من البدع.
والجواب عن ذلك: أن هناك فرقا مهما بين البدع، وبين ما سماه الإمام مالك وأتباعه وطائفة من أهل العلم المصالح المرسلة.
هناك شيء اسمه البدع كما ذكرنا، وهناك مصالح مرسلة.
المصالح المرسلة مثل فعل الصحابة، نظموا الإدراة، نظموا أمور دنياهم، نظموا الدواوين، عملوا أشياء أحدثوا التاريخ وكتابة التاريخ ونحو ذلك، هذه من المصالح المرسلة.
والمصالح المرسلة مرعية في الدين ويُحثُّ عليها لأن فيها رفع الحرج.
الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة أن المصلحة المرسلة راجعة إلى أمر به حفظ أمرٍ ضروري من الدين، والضروريات خمس، وإلى رفع حرج عن المسلمين في شيء.(5/20)
إذن فهي راجعة إلى جهة المعاملة إلى جهة العمل إلى جهة التنظيم، لا إلى جهة العبادة، وأما البدعة فليست راجعة إلى هذه الأشياء، وإنما هي راجعة لإحداث أمر في الدين، يعني في العبادات.
ففرق بين شؤون وبين أمور المعاملات وما يفعله الناس، فالصحابة ما أثبتوا أمرا في العبادات وإنما أحدثوا أمر في دنياهم، وقد قدمت لك القاعدة أما الأصل في العبادات الحظر حتى يرد دليل الجواز، والأصل في المعاملات الجواز حتى يرد دليل الحظر.
أيضا من الفرق المهم بين المصلحة المرسلة وبين البدعة:
أن المصلحة المرسلة راجعة إلى الوسائل وسيلة.
وأما البدعة فهي غاية.
وهذا فرق مهم البدعة غاية؛ يعني هي في نفسها مرادة يتعبد الله بها، وأما المصلحة المرسلة فهي وسيلة لتحصيل أمر مشروع.
ففرق ما بين الإذن بالوسائل التي تدخل تحت قاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان المقصد وهو حفظ أمر ضروري مطلوبا في الشرع فإن وسيلته وهي المصلحة المرسلة مطلوبة، وإذا كان المقصد وهو إزالة الحرج مطلوبا في الشرع فكذلك وسيلته التي هي المصلحة المرسلة مطلوبة، فهذا فرق مهم.
فإذن الذي يحتجون به في مسألة المصالح المرسلة والبدع لا وجه له لأن الفرق بينهما قائم، وقد حقق العلماء ذلك بتفصيل وإيضاح.
نختم كلامنا بذكر:
طائفة من البدع
هذا الذي سبق تأصيل، والتأصيل مهم لأنك به تعرف ما لا نذكره، قد نذكر أشياء من البدع ليست على وجه الحصر ولكن على وجه التمثيل، فإذا عرفت القواعد والتأصيلات في هذا الأمر المهم فإنك تعرف البدعة من السنة إن شاء الله تعالى.
من البدع المحدثة بدع متعلقة بالأزمنة:
فهناك في شهر محرم أحدثوا بدع مثل بدع الرافضة في ضرب الصدر ونحو ذلك في أيام عاشوراء يعني اليوم العاشر في محرم وفي غيره.(5/21)
هناك بدع متعلقة بشهر ربيع الأول ومن أظهرها بدعة الاحتفال بالمولد، الاحتفال بيوم مولد النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فيجتمعون ليلته ويقرَؤون سيرته وبعض القصائد التي في مدح النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وربما كان منها ما فيه شرك أكبر بالله جل وعلا، وقد ذكرت لك فيما سبق أن أول من أحدث بدعة الاحتفال بمولد النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وبالموالد جميعا من؟ الدولة العبيدية.
ومنها بدع في شهر رجب مثل بعض الصلوات فيه، وبعض العبادات التي يتقربون إلى الله جل وعلا فيها، فشهر رجب ليس له مزية عن غيره من الشهور.
ومنها بدع متعلقة بغيرها من الأشهر كشهر شوال ونحو ذلك.
هناك بدع راجعة إلى هيئات العبادة:
مثل الاجتماع على الذكر على نحو معين، تقول نجتمع على الذكر ويذكرون الله على شكل جماعي واحد، يقول: سبحان الله، والجميع: سبحان الله، سبحان الله.
هذا الفعل هيئة التسبيح في أصله مشروع لكن هذه الهيئة غير مشروعة لم؟ لأن سنة النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ جاءت بشيئين:
· جاءت بالفعل في نفسه؛ يعني بالحكم في نفسه من حيث الفعل أو الترك.
· وجاءت بهيئة الفعل.
فجاءت بالتسبيح من حيث هو، وكذلك هيئة التسبيح أنه يكون مثلا باليد.
فثم شيئان الكيفية والهيئة، والأمر في نفسه العبادة في نفسها.
فإذا كانت الهيئة في أصلها مشروعة لابد أن تكون الهيئة مشروعة، فإذا كانت الهيئة غير مشروعة فإن ذلك من البدع التي تسمى البدع الإضافية، ولو كان أصلها مشروعا؛ لكن لما كانت الهيئة مبتدعة كان ذلك دليل عدم الجواز.
من ذلك أيضا: بعض الأذكار مثل أن يذكر الله عز وجل في أعلى المنارة؛ يعني على المناير يصلون على النبي بعد الآذان، أو يذكرون الله على المآذن على نحو ما.
أو يجتمعون في الصلاة على النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ على صفة ما.
هذا كله من هيئة البدع؛ لأن أصل هذه الأعمال مشروع ولكنها مبتدعة.(5/22)
أعظم البدع البدع الشركية ووسائل الشرك:
ومن وسائل الشرك التي هي داخلة في البدع الاعتناء بالقبور، من البدع ومن أخطر أنواعها وسائل الشرك الأكبر، ومن ذلك العناية بالقبور، وذلك تشييدها أو تجصيصها أو التسريج عليها أو بناء الأبنية عليها أو وضع القباب عليها أو بناء المساجد عليها وهو أشدها وقد قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «لَعْنَة اللّهُ على الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ. اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ أَلاَ فَلاَ تَتّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ. إِنّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ».
هذه بدعة وخيمة ووسيلة من وسائل الشرك، لما حدثت في هذه الأمة آل الأمر بالناس إلى أن يعظموا ذلك المقبور، فيخترعوا له من الصفات ما تضاهى به صفات الله جل وعلا، ثم عبدوهم وتوجهوا إليهم.
من البدع المتعلقة بوسائل الشرك أن يدعو المرء الله جل وعلا متوسلا إليه بذات أحد من الخلق أو بجاهه أو بحرمته، مثلا يقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك، أسألك بحرمة أهل بدر، أسألك بأبي بكر، بالعالم الفلاني، فيجعل التوسل بذات أو بجاه أو بحرمة . لظنه أن ذاك عند الله عز وجل له جاه وله حرمة، وإذا كان كذلك جاز أن يكون وسيلة وهذا من الاعتداء في الدعاء وبدعة ووسيلة من وسائل الشرك.
فلهذا لم يأتِ بأن أحدا من الصحابة ولا من السلف توسل بهذا التوسل البدعي؛ لأنه توسل بأمر خارجي فلان أو عمل فلان أو جاه فلان له وأنت ليس لك إلا ما سألت ?وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى?[النجم:39] فتوسلت بأمر خارج عنك، فكان ذلك اعتداء في الدعاء وبدعة، يؤول الأمر بهذه البدعة حتى يعظم ذلك الذي يُتوسل به دائما فيسأل أو يجعل له صفات من التعظيم لا يجوز أن تجعل لبشر.(5/23)
كذلك كم الابتداع العظيم الابتداع في أنواع الاعتقاد، الابتداع في مسائل الصفات، بأن يجعل العقل محكما في صفات الله جل وعلا، وهذه بدعة أحدثها الجهمية والمعتزلة، فإنهم جعلوا العقل محكما على الغيبيات، وجعْل العقل محكما على الغيبيات فيه تقديم العقل على ما جاء به النقل، وهذا فيه قدح صريح فيما جاء عن الله جل وعلا أو عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذن الواجب ألا يتعرض للصفات بتأويل يخرجها عن ظاهرها، ولا أن يتعرض لها بمجاز يخرجه عن حقيقتها فالإيمان بها على ما دله عليه ظاهرها وعلى ما دل عليه حقيقة اللفظ الافرادية أو التركيبية مع نفي المثيل عن الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].
من البدع ما حدث في أبواب القدر من أن يُجعل الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه، أو أن يجعل الإنسان مجبورا على فعله كقول غلاتهم من الجهمية، أو قول متوسط الجبرية من الأشاعرة ونحوهم.
كذلك في أبواب الإيمان ابتدعت أشياء كثيرة من أقوال الخوارج ونحو ذلك .
وزمن البدع المحدثة أيضا التي أُحدثت في الدين أن يفرق في أبواب الإمامة في الاعتقاد ما بين الإمامة العظمى والإمامة الخاصة، قال بعضهم: الإمامة العظمى لها حقوق هي التي جاءت في الحديث، وأما الإمام أو ولي الأمر إذا كان في بلد معين فهذا له السمع والطاعة، وليس له حقوق الإمامة العظمى من البيعة ونحو ذلك.
وهذه بدعة وخيمة خطيرة خالف فيها أصحابها ما أجمع عليه سلف هذه الأمة وأجمعت عليه كتب الاعتقاد مِن أن الإمام هو الذي له البيعة وله والسمع والطاعة بلا تفريق، وأن الإمامة سواء كانت خاصة أو عامة الحقوق واحدة فيها البيعة وفيها السمع والطاعة ونحو ذلك.(5/24)
لهذا أجمع المسلمون على أن بيعة وإمامة أهل الأندلس للأمويين فيها صحيحة ماضية، وعلى أن بيعة من في الشرق من أهل بغداد أي العراق والحرمين ودمشق ومصر...إلى آخره، أن بيعته للعباسيين ماضية فقام إمامان هنا وهنا، وكل منهما إمامته إسلامية والبيعة منعقدة لهذا وهذا، كل بحسب محله ولم يفرقوا في هذا الأمر فيما بين الإمامة العظمى والإمامة الخاصة.
هذا والحديث في هذا الباب يطول، فالحذر الحذر ما كل سبيل فيه مخالفة السنة.
فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف(5/25)
وأهل البدع قال الله عز وجل فيهم ?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءَ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ? فكل ما اخترع شيئا في الدين أو جعل شيئا في العقيدة؛ لأن العقيدة تسمى شريعة، من جعل شيئا في ذلك على غير ما عليه الأمر الأول فقد جعل نفسه شريكا لصاحب الرسالة في التشريع، وهذا والعياذ بالله من أشد ما يكون خطرًا من جهة المبتدع كذلك البدع تفرق بين الناس، ويعاقب الله الناس بالبدع يعني إذا سلكوا البدع بالتفريق بين قلوبهم وقد قال جل وعلا ?الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ?[الأنعام:159]، فهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا يدخل فيهم كل من سعى في التفرقة باتخاذ طريقة في الدين مبتدعة كالطرق الصوفية المختلفة هذه الطريقة شاذلية هذه قادرية هذه نقشبندية وهذه بشتية وهذه وهذه، وكل هذا من التفريق في الدين، وسبيل المصطفى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ واحد ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام:153]، فهل نقبل وصية الله جل وعلا؟ وهل نقبل وصية المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ الله الله في السنة، الله الله في الالتزام بها، الله الله في الحذر من البدع وفي الإنكار على أهلها، وفي المجاهدة في ذلك فإن ذلك من أعظم أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المقدِّم: شكر الله فضيلة الشيخ صالح على هذا التوجيه الطيب والمحاضرة القيمة، سوف نستمع الآن إلى تعليق فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ على المحاضرة، ونعرض عليه بعد ذلك ما تيسر من الأسئلة إن شاء الله.
فليتفضل فضيلته جزاه الله خيرا.
تعليق فضيلة الشيخ(5/26)
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
وبعد: فلقد استمعنا إلى هذه المحاضرة القيمة التي عنوانها البدع تعريفها والتحذير منها وإيراد الشبه التي حسنها أهل المبتدع، ووضع القواعد والضوابط التي تحث المرء منها وتميز بين البدعة في الدين وبين المصالح المانعة وبين المعاملة والعبادات التي قدمها لنا فضيلة الشيخ صالح بن الشيخ عبد العزيز ووفق الله الجميع إلى ما يحب ويرضى....، لا شك أن المسلم الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبيا رسولا، هذا المسلم يعلم....... محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن العمل لا يكون محمودا إلا إذا ..... ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، فالعمل لابد أن يكون خالصا لله ومع إخلاصه لابد أن يوافق شرع الله فلا يكن مبنيا على الهوى والآراء ?أفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ?[الجاثية:23]، قال الله تعالى ?اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قِلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ?[الأعراف:3]، فنحن مأمورون باتباع شرع الله واعتقاد أن هذا الدين كامل أكمله الله فلا ينقص ولا يحتاج إلى إضافة ورضيه الله فلا يسخطه وأتمه الله علينا.
فإذا كان هذا الدين كاملا تاما، إذن فمن حاول أن يزيد فيه باستحسان فإن هذا خطأ منه وبدعة في دين الله، والبدعة -وإن صغرت في الأنظار- فإن الشيطان يفرح بها أعظم من فرحه بكبائر الذنوب؛ لأن:
كبائر الذنوب قد يقترفها الإنسان وهو يشعر في نفسه بالتقصير ويرى نفسَه مقصرة وعاصية ومذنبة، ويتمنى من الله التوبة وأن يعامله بالعفو فهو يعد نفسه من المخطئين والمقصرين.(5/27)
أما صاحب البدعة فيرى نفسه من المتعبدين ويرى نفسه من المجتهدين ويرى نفسه من المصلحين ويرى نفسه من المحسنين. وهذا أشد البلاء لأنها تنبعث أحيانا من إرادة خير لمن لا فقه عنده ولمن لا علم عنده، وكما قال ابن مسعود: كم من مريد للخير لم يصبه. هو يريد خيرا لكن لما أتى بخلاف الشرع كان خطأ في نفسه، وقد يعذر بقصور فهمه وقلة إدراكه وعدم إرادته الشر، قد يعذر في نفسه؛ لكن غيرُه إذا علم أن تلك بدعة وجب عليه أن يفارقها وأن لا يقتدي بمبتدع ابتدع في دين الله خلاف ما شرع الله، وأهل البدع قسمان:
هناك جهلة وقاصرو نظر وعلم أخطؤوا في تصوراتهم.
وهناك مبتدعة ابتدعوا على علم وعلى قصد لأجل إضلال الأمة وإبعادها عن دينها.
فنفاة الصفات الذين أنكروا أسماء الله وصفاته وسلبوا الله كل أوصافه وأسمائه هؤلاء لم يأتوا لم يكونوا على جهل ولا على قصور علم ولكنهم في زيغ وضلال نسأل اله العافية.
والمبتدعون سواء من العباد أو غيرهم بدعهم لا شك أنها ضارة و سيئة، وأنه قد يأتي الشيطان لهم بالبدعة ويحسنها لهم في أنظارهم حتى يتوصل بالبدعة إلى الشرك، فقوم نوح لم يعبدوا الأصنام لأول وهلة، إنما الشيطان زين لهم أن يصوروا صور صالحيهم وعن التقى والعبادة منهم قائلا لهم إن صورهم تذكركم أفعالهم ومحاسنهم وفضائلهم فتقتدوا بهم، ففعلوا، ثم جاء لمن بعدهم وقال إن تلك الصور لم تصور إلا ليستنزل بها المطر ويستجلب بها النفع ويستدفع بها الضرر فمازال بهم حتى عبدوهم من دون الله، فالبدع أصل الشرك وبريد للكفر والضلال وكل بدعة فهي خطر عظيم وإن صغرت وإن كبرت فلا يستهان بشيء منها و لا يغتر بشيء منها.(5/28)
وما أشار الشيخ إليه من بدع زمانية أو بدع أو من صور تلك العبادة فمثلا ما ابتدع في محرم أو في ربيع أو في شعبان أو في رجب أو في غيرها كلها بدع؛ يعني ابتدعوا في شعبان صلاة الرغائب وفي رجب كذلك، وابتدعوا ذكرى الإسراء والاحتفال بالموالد والاحتفال بكذا وبكذا حتى أدخلوا في دين الله ما ليس منه.
مثلا ليلة السابع والعشرين من رمضان ليلة مباركة عظمها الله في كتابه وحثنا رسول الله على قيامها حقا «من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» هذا حق لاشك فيه لكن لو أتخذ لها منظرا خاصا وأتخذ لها مجتمعا خاصا واتخذ لها خطبا خاصة واتخذ لها يعني أنواع من المظاهر التي تخالف ما جاء بالسنة لقلنا هذه بدعة؛ لأنا أخبرنا أن (من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه) هكذا أمرنا وما زاد على هذا وما عدى هذا مما قد يستحسنه الناس يقال إن هذا بدعة؛ لأن هذا أمر زائد فنحن مأمورون بالاقتصار على السنة والاكتفاء بها والثبات عليها وأن لا نفتح لأنفسنا باب بدعة.
يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم الأمر. كفيتم المهمة».
إذا كان ابن مسعود أنكر على من عدوا التسبيح والتكبير والتحميد وعابهم وذر التراب في وجوههم واشتد نكيره عليهم، فإنه لما أتاه أبوا موسى وقال: يا أبا عبد الرحمن وجدت أناسا في المسجد يجتمعون حلقا سبحوا الله عشرا كبروا الله عشرا احمدوا الله عشرا. قال: ما قلتَ لهم؟ قال ما قلت لهم شيئا. فأتاهم ابن مسعود فنثر التراب في وجوههم وقال: يا قوم بئس ما فعلتم، هذه آنيته لم تكسر وثيابه لم تبل وأصحابه لا يزالوا موجودون. قالوا: يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا خيرا. قال: عدوا سيآتكم فإني ضامن لكم أن لا يضيع شيء من حسناتكم.(5/29)
قال بعض السلف: ولقد رأيت معظم أولئك يطاعنوننا في النهروان مع الخوارج فما زالت تلك البدع بهم حتى استحلوا دماء الصحابة وأموالهم وقاتلوا عليا رضي الله عنه وخرجوا عليه وهم فرقة الخوارج الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وقراءتكم عند قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» لأن البدع وإن قلت فإنها لا تزال بأصحابها حتى تخرج بهم عن منهج الله وعن دينه لأنهم يعتقدون نقصان هذا الدين حتى أتوا ببدعتهم، والله أكمل الدين وأتم النعمة ورضي الإسلام دينا، فلسنا بحاجة إلى هذه البدع.
نسأل الله أن يعيذنا وإياكم منها.
المقدم: شكر الله للشيخ نسأل أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا.
[الأسئلة]
س1/ يقول هذا السائل: أن هناك جماعة يعتقدون أن الدعاء بعد الصلاة في جماعة فإذا لم يدع الإمام لهم ينكرون عليه ويقولون إن الصلاة ناقصة، لذلك وينكرون على أهل السنة لذلك، فما الرد الصحيح على هؤلاء؟ ونرجو التوضيح إذا لم يدعو المسلم بعد الصلاة على قولهم فمتى يدعو وقد أمر الله تعالى بالدعاء؟
ج/ الشيخ أجاب في المحاضرة عن هذا، وقال إن رفع اليدين عقب الصلاة قسمان:
· إن استمر في هذا الأمر دائما وواصلها صار بدعة.
· وإن أتى به وقتا دون وقت كان مخطئ .(5/30)
فمثلا السنة نعلم بعد الصلاة أن نستغفر الله ثلاثا، وأن نقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، ربي قني عذاب يوم يجمع عبادك. ثلاث مرات، ثم تسبح الله وتحمده وتكبره ثلاث وثلاثين، وتقول تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وتقرأ آية الكرسي والمعوذتين وسورة الإخلاص هذه السنة، فإذا أتيت بهذه الأذكار ثم دعوت ما فيه شيء، أما أن تترك السنن الثابتة وتأتي بأدعية بعد الصلاة والدعاء على هيئة شكل جماع هذا مخالف للسنة، ومن أصر عليه فهو مبتدع وينكر عليه. نعم
حتى إن ابن القيم ذكر أن رفع اليدين عقب الفريضة بدعة؛ لأنه ما فعله رسول الله؛ لكن من أتى بالأذكار عقب الصلاة ثم دعا ورفع يديه ما ينكر عليه؛ لكن ينكر أن ترفع الأيدي بعد السلام من الفريضة مباشرة، أو كما يقول: تقبل الله منك تقبل الله منك. كل هذه لم يرد بها شيء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
س2/ هذا السائل يقول هل تجوز صلاة تحية المسجد في وقت النهي؟ وما هي ذوات الأسباب، ما هو الجمع بين حديث صلاة تحية المسجد وبين النهي أفيدونا بارك الله فيكم؟
ج/ المسألة هذه للعلماء فيها أراء، فحديث «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين»، وأمر النبي سبيك الغطفاني وهو فوق المنبر لما دخل قال «أصليت؟» قال: لا. قال «قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما».(5/31)
من العلماء من هذا العموم، وقال إن تحية المسجد تفعل في كل الأوقات ولا تقيَّد بوقت دون وقت؛ لأن اللفظ عام فلا يقيده شيء، وما سواه فإنه خاص في غير تحية المسجد، وحملوا أحاديث النهي في غير تحية المسجد.
من العلماء من قال أحاديث عموم أحاديث النهي أيضا عامة فتخصِّص عموم حديث أبي قتادة، وإن كانت عامة في لفظها لكنها خاصة من حيث الوقت، فنخصص بها حديث أبي قتادة، فيصلى تحية المسجد في غير أوقات.
ولكن هنا للنهي وقتين وقت مضيق ووقت موسع ففي حديث عقبة بن عامر ثلاث ساعات نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نصلي فيها أو أن نقبر فيها موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تتهيأ للغروب.
فالذي يظهر في الأوقات الثلاثة ينبغي أن تتقيد بترك الصلاة فيها، وهو إذا ما دخلنا والشمس في أول طلوعها إلى أن ترتفع قيد رمح، وإذا كان قبيل الظهر بدقائق نمتنع حتى يؤذن الظهر وإذا دخلنا قبيل المغرب بدقائق فينتظر حتى تغرب الشمس.
أما بعد صلاة العصر وبعد صلاة الفجر فمن ترجح عنده العمل بعموم حديث أبي قتادة وصلى ركعتي تحية المسجد ورأى أنها خاصة مستثناة فلا ينكر عليه.
س3 / يسأل هذا الأخ يقول: ما رأيكم فيما يفعله بعض الشباب من أنهم يجتمعون ويخرجون للدعوة حددوا ذلك بثلاثة أيام أو أربعين يوما أو أشهر ويجعلون هذا قاعدة لدعوتهم فما توجيهكم لهذا الأمر وفقكم الله؟
ج/ الدعوة إلى الله مطلوبة ومرغب فيها وعمل صالح، وينبغي للدعاة إلى الله إذا أرادوا إنجاح دعوتهم أن يكون منهجهم موافقا لسنة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما عليه الدعاة المصلحون بعده المقتدون بأثره السائرون نهجه.(5/32)
وأما تحديد الخروج بأيام أو بأشهر معينة ونحو ذلك، فهذا قد يكون فيه شيء؛ لأن إن كانوا يظنون أن هذا التحديد شرعيا وأنه عبادة، فلا، فأما إن كانوا يرونه من باب هذه أوقات هم فارغون فيها وأنها تناسب وقتهم دون أن يربطوها بالشرع فهذا موضع نظر.
إما إن جعلوها هذا الخروج مقيدا بأربعين أو الأربعة ونحو ذلك بأن هذا عبادة وأن هذا مأخوذ ومن القرآن أو من السنة فإن هذا مما ابتدعوه في دين الله.
وهذه طريقة جماعة التبيلغ نسأل الله للجمع الهداية، يقيدون أنفسهم بهذه الأوقات ثلاث أيام أو أشهر أو أربعين يوم أو ثلاث أشهر أربع أشهر؛ لكن إن كانوا يظنون أن هذا شرع تعبد فهذا خطأ، أما إن كانت تناسب أوقاتهم أو أحوالهم، فهذا لعله أيسر من غيره.
إنما الواجب على كل حال إتباع السنة والسير على منهج النبي وأن تكون الدعوة تهتم بالتوحيد قبل كل شيء وبتأسيس العقيدة وبتثبيتها أما الدعوة المعتمِدة على مجرد الأذكار وأوراد صباحية مسائية ومناهج خططها ورسمها ونظمها أناس مشكوك في كثير من أحوالهم فإنما هي أوراد وأذكار ولا يهتمون بدعوة التوحيد ولا يفقهون الناس في دين الله ولا بأمر بخير ولا بنهي عن شر.
وإنما هي مجرد تجمعات وأمور الله أعلم بها وكثير من هذه الأمور لم تثمر خيرا ولم تتحقق خيرا لأنها لم تكن موافقة في المنهج إلى ما كان عليه محمد بن عبد الله وصحابته الكرام والدعاة المصلحون السائرون على نهجه.
س4/السؤال الأخير يقول: يتخذ بعض الشباب من بعض الوسائل كالتمثيل والكرة وما يسمى بالفيديو الإسلامي والرحلات وغيرها وسيلة من وسائل الدعوة ويذكرونها على الدين ويضعونها لدعوة الشباب ويقولون إن هذه الأمور ترغبهم كما توجه فضيلتهم في ذلك؟
ج/ الدعوة إلى الله تحتاج إلى أمور:
أولا الإخلاص إلى الله وأن تكون الدعوة خالصة لله ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ?[يوسف: 108]، فالإخلاص هو الأصل لله.(5/33)
ثانيا أن تكون على وفق منهج الله (أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ) أي على علم وهدى.
ينبغي للمسلم أن يتقي الله في أموره كلها، وينبغي للداعين لله أن يلتزموا بالعلم النافع وينظر في وسائل يستحسنها، لا يجعل استحسانه ومحبته للشيء لا ينبغي أن ينسبه للدين؛ بل يعرض منهجه ووسائله على شرع الله، ويبدأ يقارن بين المصالح والمفاسد، بين النافع والضر بين ما يغلب خيره وما يغلب شره، بين ما خيره راجح وبين ما شره راجح.
فإذا كان الداعي إلى الله كلما علم له من وسيلة سلكها دون النظر إلى عواقبها ونتائجها وما يترتب عليها، إذا كان كلما علمه سلكه دون أن يفكر أو يتدبر هذا قد تزل قدمه المهم ينظر، الدعوة إلى الله إيضاح الحق وبيان وعرضه العرض الصحيح بالقول والعمل فيكون قوله حق وعمله خير فيقتفي الناس آثاره مما يرون من سلوكهم الحسن وأعماله الصالحة.
أما أن يزج بالدعوة كل شيء وربما ارتكب بعض الأمور التي قد يكون فيها شيء من المخالفة، ويقول هذه وسائل الدعوة وهذه طرق دعوة وإلى آخره.
ويقول نحن قوم متحضرون لا نرى كذا وكذا إنما نتخذ الوسائل المختلفة المتعددة المتنوعة إلى آخره.
أخشى من هذه الطرق إذا تكاثرت أن تزول الدعوة وأن لا يكون لها الفاعلية الصحيحة ولا التأثير الحسن، وإنما تكون يعني القشور فيها أكثر من اللب، والأمور التي لا فائدة فيها أكثر مما هي فائدة.
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل الناس دعوة إلى الله لما أمرهم الله أن يصدع بدعوته كان يأتي القبائل ومجامع العرب ويتلو القرآن عليهم ويقول «من يأويني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة» وكان يغشى الناس في مجالسهم ليعلن دعوته ويوضح لهم كتاب الله ويبين الحق.(5/34)
فالداعية ينبغي أن ينظر منهج محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما استطاع أن يقتدي به في منهجه فهو المنهج الحق والطريق الواضح، ولا يزج بالدعوة في أمور قد لا تحقق هدفها ولا تؤدي الغاية المطلوبة منها.
وأسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
المقدِّم: نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا وصلى الله على نبينا محمد.
?????
أعدَّ هذه المادة: سالم الجزائري وأبو همام عبد اللطيف
---
([1]) البقرة:117، الأنعام:101.
([2])سورة هود: 7، الملك:2.(5/35)
التَّعْلِيقَاتُ الحِسَان([1]) على
الفرقان
بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية
-رحمه الله تعالى-
قال شيخ الإسلام قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد([2]) أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة، وبصّر به من العمى، وأرشد به من الغي، وفتح به أعينا عميا وآذانا صُمًّا وقلوبا غلفا، وفَرَقَ به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغيّ، والمؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، وبين أولياء الله وأعداء الله، فمن شهد له محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه من أولياء الله فهو من أولياء الرحمن، ومن شهد له بأنه من أعداء الله فهو من أعداء الله ومن أولياء الشيطان.(6/1)
قد بين سبحانه وتعالى في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء، ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فقال تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ?[يونس:62-64]،([3]) وقال تعالى ?اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[البقرة:257]، وقال تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ([4]) إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أو أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ(52)وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ(53)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ(6/2)
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54)إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:51-56]، وقال تعالى ?هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا?[الكهف:44]، ([5]) وذكر أولياء الشيطان فقال تعالى ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98)إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99)إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ?[النحل:98-100]، وقال تعالى?الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا?[النساء:76]، وقال تعالى?وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا?[الكهف:50]، وقال تعالى?وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا?[النساء:119]، وقال تعالى?الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173)فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ(6/3)
عَظِيمٍ(174)إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:173-175]، وقال تعالى?اإِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(27)وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا? إلى قوله ?إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ?[الأعراف:27-30]، وقال تعالى?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ?[الأنعام:121]، وقال الخليل عليه الصلاة والسلام?يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا?[مريم:45]، وقال تعالى?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ? الآيات إلى قوله?إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[الممتحنة:1-5]. ([6])
فصل
وإذا عُرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق الله ورسوله بينهما، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63](6/4)
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله من عادى لي وليا [فقد بارزني بالمحاربة] ([7]) أو فقد آذنته بالحرب وما تقرّب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» وهذا أصح حديث يُروي في الأولياء فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من عادى وليا لله فقد بارز الله بالمحاربة. ([8])
وفي حديث آخر: «وإني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحَرِب» أي آخذ ثأرهم ممن عادهم كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا لأن أولياء الله هم الذين أمنوا به ووالوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض ورضوا بما يرضى وسَخِطُوا بما يسخط وأمروا بما أمر ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع، كما في الترمذي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله».
وفي حديث آخر رواه أبو داود قال «ومن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» والوَلاية ضد العداوة، [وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد]([9]) وقد قيل أن الولي سُمِّي وليا من موالاته للطاعات أي متابعته لها والأول أصح والولي القريب فيقال هذا يلي هذا؛ أي يقرب منه.(6/5)
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - «ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر» أي لأقرب رجل إلى الميت، وأكده بلفظ الذكر ليبين أنه حكم يختص بالذكور ولا يشترك فيه الذكور والاناث كما قال في الزكاة «فابن لبون ذكر»، فإذا كان ولي الله هو الموافق المتابع له فيما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ويأمر به وينهى عنه، كان المعادي لوليه معاديا له كما قال تعالى ?لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1]، فمن عادى أولياء الله فقد عاداه ومن عاداه فقد حاربه فلهذا قال ومن عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، ([10]) وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضل المرسلين أولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، قال تعالى ?شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?[الشورى:13]، وقال تعالى ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا(7)لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا?[الأحزاب:7-8]. وأفضل أولي العزم([11]) محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد وصاحب الحوض المورود وشفيع الخلائق يوم القيامة وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه الله بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن(6/6)
قبلهم([12]) وهم آخر الأمم خلقا وأول الأمم بعثا، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «نَحْنُ الآخِرُونَ السابقون, بَيْدَ أَنّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ, فهذا اليوم الذي كتب الله عليهم, فاختلفوا فيه, -يعني يوم الجمعة- فهدانا الله له، فالنّاسُ لَنَا تَبَعٌ فِيهِ, غَداً للْيَهُودُ, وَبَعْدَ غَدٍ للنّصَارَى»، وقال - صلى الله عليه وسلم - «وَأَنَا أَوّلُ مَنْ تَنْشَقّ عَنْهُ الأرْضُ» وقال - صلى الله عليه وسلم - «آتِي بَابَ الْجَنّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَأَسْتَفْتِحُ. فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لاَ أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ» وفضائله - صلى الله عليه وسلم - وفضائل أمته كثيرة ومن حين بعثه الله جعله الله الفارق بين أوليائه وبين أعدائه، فلا يكون وليا لله إلا من آمن به وبما جاء به واتبعه باطنا وظاهرا، ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أولياء الله بل من خالفه كان من أعداء الله وأولياء الشيطان، قال تعالى?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ?[آل عمران:31]. قال الحسن البصري رحمه الله: ادعى قوم إنهم يحبون الله فأنزل الله هذه الآية محنة لهم، وقد بين الله فيها أن من اتبع الرسول فان الله يحبه ومن ادعى محبة الله ولم يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليس من أولياء الله، وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله ولا يكونون من أولياء الله، فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه قال تعال ?قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ?[المائدة:18] الآية، وقال تعالى ?وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ? إلى قوله ?وَلَا(6/7)
هُمْ يَحْزَنُونَ?[البقرة:111-112]، وكان مشركوا العرب يدعون إنهم أهل الله لسكناهم مكة ومجاورتهم البيت وكانوا يستكبرون به على غيرهم كما قال تعالى?قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ(66)مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ?[المؤمنون:66-67]، وقال تعالى?وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أو يَقْتُلُوكَ? إلى قوله ?وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ?[الأنفال:30-34]، فبين سبحانه أن المشركين ليسوا أولياءه ولا أولياء بيته إنما أولياؤه المتقون.(6/8)
وثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول جهارا من غير سر «إنّ آل فلان ليسوا لي بأولياء» يعني طائفة من أقاربه «إنما ولي الله وصالح المؤمنين» وهذا موافق لقوله تعالى?فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ?[التحريم:4]الآية، (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ([13]) هو من كان صالحا من المؤمنين، وهم المؤمنون المتقون أولياء الله، ودخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة وكانوا ألفا وأربعمائة وكلهم في الجنة كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال«لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة»([14]) ومثل هذا الحديث الآخر «إن أوليائي المتقون أيا كانوا وحيث كانوا»، كما أن من الكفار من يدعي أنه ولي الله وليس وليا لله بل عدو له، فكذلك من المنافقين الذين يُظهرون الإسلام يقرون في الظاهر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه مرسل إلى جميع الإنس بل إلى الثقلين الإنس والجن، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك مثل أن لا يقروا في الباطن بأنه رسول الله وإنما كان ملكا مطاعا ساس الناس برأيه من جنس غيره من الملوك، أو يقولون إنه رسول الله إلى الأميين دون أهل الكتاب كما يقوله كثير من اليهود والنصارى، أو أنه مرسل إلى عامة الخلق وأن لله أولياء خاصة لم يُرسل إليهم ولا يحتاجون إليه بل لهم طريق إلى الله من غير جهته كما كان الخضر مع موسى، أو أنهم يأخذون عن الله كلَّ ما يحتاجون إليه وينتفعون به من غير واسطة، أو أنّه مرسل بالشرائع الظاهرة وهم موافقون له فيها، وأما الحقائق الباطنية فلم يُرسل بها أو لم يكن يعرفها، ([15]) أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته، ([16]) وقد يقول بعض هؤلاء أن أهل الصُّفَّة كانوا مستغنين عنه ولم يرسل إليهم، ومنهم من يقول أن(6/9)
الله أوحى إلى أهل الصُّفَّة في الباطن ما أوحى إليه ليلة المعراج فصار أهل الصفة بمنزلته، وهؤلاء من فرط جهلهم لا يعلمون أن الاسراء كان بمكة كما قال تعالى ?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ?[الإسراء:1]. وأن الصفة لم تكن إلا بالمدينة، وكانت صفة في شمالي مسجده - صلى الله عليه وسلم - ينزل بها الغرباء الذين ليس لهم أهل وأصحاب ينزلون عندهم، فإن المؤمنين كانوا يهاجرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فمن أمكنه أن ينزل في مكان نزل به، ومن تعذّر ذلك عليه نزل في المسجد إلى أن يتيسر له مكان ينتقل إليه، ولم يكن أهل الصفة ناسا بأعيانهم يلازمون الصفة بل كانوا يَقِلُّون تارة ويكثرون أخرى، ويقيم الرجل بها زمانا ثم ينتقل منها، والذين ينزلون بها هم من جنس سائر المسلمين ليس لهم مزيّة في علم ولا دين بل فيهم من إرتد عن الإسلام وقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - كالعُرَنِيِّين الذين اجتووا المدينة أي استوخموها، فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلقاح أي إبل لها لبن وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلبهم فأتى بهم، فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسُمِرَت أعينهم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون، وحديثهم في الصحيحين من حديث أنس وفيه أنهم نزلوا الصفة فكان ينزلها مثل هؤلاء، ونزلها من خيار المسلمين سعد بن أبي وقاص وهو أفضل من نزل بالصفة، ثم انتقل منها ونزلها أبو هريرة وغيره، وقد جمع أبو عبد الرحمن السلمي تاريخ من نزل الصفة.(6/10)
وأما الأنصار فلم يكونوا من أهل الصفة وكذلك أكابر المهاجرين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف وأبي عبيدة وغيرهم لم يكونوا من أهل الصفة. وقد روى أنه بها غلام للمغيرة بن شعبة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا واحد من السبعة. وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم وإن كان قد رواه أبو نعيم في الحِلْيَة، وكذا كل حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب مثل أربعة أو سبعة أو انثي عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيءصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال، وروى فيهم حديث أنهم أربعون رجلا وانهم بالشام وهو في المسند من حديث علي كرم الله وجهه وهو حديث منقطع ليس بثابت ومعلوم أن عليا ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بالشام، فلا يكون أفضل الناس في عسكر معاوية دون عسكر علي. وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «تمرق مارقة من الدين على حين فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق» وهؤلاء المارقون هم الخوارج الحرورية الذين مرقوا لما حصلت الفرقة بين المسلمين في خلافة علي فقتلهم علي بن أبي طالب وأصحابُه، فدل هذا الحديث الصحيح على أن علي بن أبي طالب أولى بالحق من معاوية وأصحابه، وكيف يكون الأبدال في أدنى العسكرين دون أعلاهما. وكذلك ما يرويه بعضهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أنشد منشد:
قد لسعت حية الهوى كبدي فلا طبيب لها ولا راقِ
إلا الحبيب الذي شُغفت به فعنده رقيتي وترياقي(6/11)
وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تواجد حتى سقطت البردة عن منكبه، فإنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وأكذب منه ما يرويه بعضهم أنه مزق ثوبه، وأن جبريل أخذ قطعة منه فعلقها على العرش، فهذا وأمثاله مما يعرف أهل العلم والمعرفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أظهر الأحايث كذبا عليه - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك ما يروونه عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يتحدثان وكنت بينهما كالزنجي، وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث. والمقصود هنا أنه فيمن يقر برسالته العامة في الظاهر ومن يعتقد في الباطن ما يناقض ذلك فيكون منافقا وهو يدَّعي في نفسه وأمثاله أنهم أولياء الله مع كفرهم في الباطن بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إما عنادا، وإما جهلا، كما أن كثيرا من النصارى واليهود يعتقدون أنهم أولياء الله، وأن محمدا رسول الله، لكن يقولون إنما أرسل إلى غير أهل الكتاب، وأنه لا يجب علينا إتباعه لأنه أرسل إلينا رسلا قبله فهؤلاء كلهم كفار مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله، وإنما أولياء الله الذين وصفهم الله تعالى بوَلايته بقوله?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، ولابد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ([17]) ويؤمن بكل رسول أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله كما قال تعالى ?قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136)فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ(6/12)
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ?[البقرة:136-137]، وقال تعالى ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ?[البقرة:285]إلى آخر السورة، وقال في أول السورة ?الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[البقرة:1-4]، ([18]) فلابد في الإيمان من اأن تؤمن أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين لا نبي بعده، وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين، ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن كما قال الله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا(150)أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا(151)وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[النساء:150-152]، ([19]) ومن الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده وحلاله وحرامه، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما(6/13)
شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر من أولياء الشيطان.
وأما خلق الله تعالى للخلق ورَزْقُه([20])إياهم وإجابته لدعائهم وهدايته لقلوبهم ونصرهم على أعدائهم وغير ذلك من جلب المنافع ودفع المضار فهذا لله وحده يفعله بما يشاء من الأسباب لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل. ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - فليس بمؤمن، ولا ولي لله تعالى كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعُبَّادهم، وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من المشركين؛ مشركي العرب والترك والهند وغيرهم ممن كان من حكماء الهند والترك وله علم أو زهد وعبادة في دينه، وليس مؤمنا بجميع ما جاء به محمد فهو كافر عدو لله، وإن ظن طائفة أنه ولي لله، كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارا مجوسا، وكذلك حكماء اليونان مثل أرسطو وأمثاله كانوا مشركين يعبدون الأصنام والكواكب، وكان أرسطو قبل المسيح عليه السلام بثلاثمائة سنة، وكان وزيرا للإسكندر بن فيلبس المقدوني، وهو الذي يؤرخ له تواريخ الروم واليونان وتؤرخ به اليهود والنصارى، وليس هذا هو ذو القرنين الذي ذكره الله في كتابه كما يظن بعض الناس أن ارسطو كان وزيرا لذي القرنين لما رأوا أن ذاك اسمه الإسكندر وهذا قد يسمى بالإسكندر ظنوا أن هذا ذاك كما يظنه ابن سينا وطائفة معه، وليس الأمر كذلك بل هذا الإسكندر المشرك الذي قد كان أرسطو وزيره، متأخر عن ذاك ولم يبن هذا السُّور ولا وصل إلى بلاد يأجوج ومأجوج وهذا الإسكندر الذي كان أرسطو من وزرائه يؤرخ له تاريخ الروم المعروف وفي أصناف المشركين من مشركي العرب ومشركي الهند والترك واليونان وغيرهم من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة ولكن ليس بمتبع للرسل ولا يؤمن بما جاءوا به ولا يصدقهم بما أخبروا(6/14)
به ولا يطيعهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين ولا أولياء الله وهؤلاء تقترن بهم الشياطين وتَنَزَّل عليهم فيكاشفون الناس ببعض الأمور ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين قال الله تعالى ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ?[الشعراء:221-223]، وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات وخوارق العادات، إذْ لم يكونوا متبعين الرسل فلابد أن يكذبوا وتُكَذِبُهم شياطينهم، ولابد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين واقترنت بهم فصاروا من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، ([21]) قال الله تعالى ?وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ?[الزخرف:36]، وذِكر الرحمن هو الذِّكر الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - مثل القرآن فمن لم يؤمن بالقرآن ويصدق خبره ويعتقد وجوب أمره فقد أعرض عنه فيقيض له الشيطان فيقترن به قال تعالى ?وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ?[الأنبياء:50]، وقال تعالى ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) ([22])قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى?[طه:124-126]، فدل ذلك على أن ذكره هو آياته التي أنزلها، ولهذا لو ذكر الرجل الله سبحانه وتعالى دائما ليلا ونهارا مع غاية الزهد، وعَبَدَه مجتهدا في عبادته، ولم يكن متبعا لذكره الذي أنزله وهو القرآن كان من أولياء الشيطان، ولو طار في الهواء أو مشى على الماء فإن الشيطان يحمله في(6/15)
الهواء، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
فصل
ومن الناس من يكون فيه إيمان وفيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أربعٌ مَنْ كُنّ فيهِ كان مُنافِقاً خالصاً, وَمَنْ كانتْ فيهِ خَصْلةٌ مِنهنّ كانتْ فيهِ خَصْلةٌ مِنَ النفاقِ حتى يَدَعَها: إذا حدّثَ كَذَبَ, وإذا وعد أخلف، وإذا ائْتُمِنَ خان, وإذا عاهَدَ غدرَ».([23])
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من كان فيه خصلة من هذه الخصال ففيه خصلة من النفاق حتى يدعها.
وقد ثبت في الصحيحين أنه قال لأبي ذر وهو من خيار المؤمنين «إنك إمرؤ فيك جاهلية» فقال: يا رسول الله أعلى كبر سني قال «نعم».
وثبت في الصحيح عنه أنه قال «أربع في أمتى من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب، والنياحة على الميت والاستسقاء بالنجوم».([24])
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال«آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان». وفي صحيح مسلم «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».(6/16)
وذكر البخارى عن ابن أبي مليكة قال أدركت ثلاثين من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه وقد قال الله تعالى?وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ(166)وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أو ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ?[آل عمران:166-167]، فقد جعل هؤلاء إلى الكفر أقرب منهم للإيمان فعلم أنهم مخلطون وكفرهم أقوى، وغيرهم يكون مخلطا وإيمانه أقوى، وإذا كان أولياء الله هم المؤمنين المتقين([25]) فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى، فمن كان أكمل إيمانا وتقوى كان أكمل وَلاية لله، فالناس متفاضلون في ولاية الله عز وجل بحسَب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق، قال الله تعالى ?وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124)وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ?[التوبة:124-125]، وقال تعالى?إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ?[التوبة:37]، وقال تعالى?وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ?[محمد:17]، وقال تعالى في المنافقين?فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا?[البقرة:10].(6/17)
فبين سبحانه وتعالى أن الشخص الواحد قد يكون فيه قسط من ولاية الله بحسب إيمانه، وقد يكون فيه قسط من عداوة الله بحسب كفره ونفاقه، وقال تعالى?وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا?[المدثر:31]، وقال تعالى?لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ?[الفتح:4]. ([26])
فصل
وأولياء الله على طبقتين، سابقون مقربون وأصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة وآخرها، وفي سورة الإنسان، والمطففين، وفي سورة فاطر، فإنه سبحانه وتعالى ذكر في الواقعة القيامة الكبرى في أولها، وذكر القيامة الصغرى في آخرها فقال في أولها ?إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)إِذَا رُجَّتْ الْأَرْضُ رَجًّا(4)وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا(5)فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا(6)وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً(7)فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ(8)وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ(9)وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ(11)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(12)ثُلَّةٌ مِنْ الْأَوَّلِينَ(13) وَقَلِيلٌ مِنْ الْآخِرِينَ?[الواقعة:1-14]، فهذا تقسيم الناس إذا قامت القيامة الكبرى التي يجمع الله فيها الأولين والآخرين، كما وصف الله سبحانه ذلك في كتابه في غير موضع ثم قال تعالى في آخر السورة ?فَلَوْلَا? أي فهَلَّا ?إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ(83)وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ(84)وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ(85)فَلَوْلَا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ(86)تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(87)فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ(88)فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ(89)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ(90)فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ(6/18)
الْيَمِينِ(91)وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ(92)فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ(93)وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ(94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ(95)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ?[الواقعة:83-96]، وقال تعالى في سورة الإنسان ?إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلًا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا(4)إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(5)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا(6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا(7)وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا(8)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا(9)إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا(10)فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا(11)وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا?[الإنسان:3-12]الآيات، وكذلك ذكر في سورة المطففين فقال?كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ? إلى أن قال ?كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ(18)وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ(19)كِتَابٌ مَرْقُومٌ(20)يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ(21)إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(22)عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ(23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ(24)يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ(25)خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ(26)وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ(27)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ?[المطففين:18-28].(6/19)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف قالوا يمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشرب بها المقربون صرفا، وهو كما قالوا فإن الله تعالى قال (يَشْرَبُ بِهَا) ولم يقل يشرب منها لأنه ضمَّن ذلك قوله (يَشْرَبُ) يعنى يروى بها فإن الشارب قد يشرب ولا يروى. فإذا قيل يشربون منها لم يدل على الري فإذا قيل يشربون بها كان المعني يروون بها، فالمقربون يروون بها فلا يحتاجون معها إلى مادونها، فلهذا يشربون منها صرفا، بخلاف أصحاب اليمين فإنها مزجت لهم مزجا وهو كما قال تعالى في سورة الانسان?كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا(5)عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا?الإنسان:5-6]، فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «مَنْ نَفّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدّنْيَا, نَفّسَ اللّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ يَسّرَ عَلَىَ مُعْسِرٍ, يَسّرَ اللّهُ عَلَيْهِ فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً, سَتَرَهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَاللّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً, سَهّلَ اللّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقاً إلى الْجَنّةِ. وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللّهِ, يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ, وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ, إِلاّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السّكِينَةُ, وَغَشِيَتْهُمُ الرّحْمَةُ وَحَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ, وَذَكَرَهُمُ اللّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. وَمَنْ أَبَطأَ بِهِ عَمَلُهُ, لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» رواه مسلم في صحيحه.(6/20)
وقال - صلى الله عليه وسلم - «الرّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرّحْمَنُ. ارْحَمُوا مَنْ في اْلأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السّماءِ» قال الترمذي حديث صحيح.
وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في السنن «قال الله تَعالى: أَنَا الرّحْمنُ, خَلَقْتُ الرّحِم وَشَقَقْتُ لَهَا مِنْ اْسِمي, فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ». وقال «ومن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله» ومثل هذا كثير. وأولياء الله تعالى على نوعين: مقربون وأصحاب يمين كما تقدم.(6/21)
وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل القسمين في حديث الأولياء فقال «يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها». فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض يفعلون ما أوجب الله عليهم ويتركون ما حرم الله عليهم ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات ولا الكف عن فضول المباحات. وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبًّا تاما. كما قال تعالى ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ يعني الحب المطلق([27]) كقوله تعالى ?اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ?[الفاتحة:6-7]، أي أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى ?وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا?[النساء:69]، فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل فكانت أعمالهم كلها عبادات لله، فشربوا صرفا، كما عملوا له صرفا، والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم فلا يعاقبون عليه ولا يثابون عليه فلم يشربوا صرفا بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا.(6/22)
ونظير هذا إنقسام الانبياء عليهم السلام إلى عبدٍ رسولٍ ونبيِ ملك، وقد خير الله سبحانه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بين أن يكون عبدا رسولا وبين أن يكون نبيا ملكا، فاختار أن يكون عبدا رسولا؛ فالنبي الملك مثل داود وسليمان ونحوهما عليهما الصلاة والسلام، قال الله تعالى في قصة سليمان الذي قال ?قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ?[ص:35-39] أي إعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك. فالنبي الملك يفعل ما فرض الله عليه ويترك ما حرم الله عليه ويتصرف في الولاية والمال بما يحبه ويختار من غير إثم عليه.
وأما العبد الرسول فلا يعطي أحدا إلا بأمر ربه ولا يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، بل يعطي من أمره ربه بإعطائه، ويولي من أمره ربه بتوليته، فأعماله كلها عبادات لله تعالى كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت» ولهذا يضيف الله الأموال الشرعية إلى الله والرسول كقوله تعالى ?قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ?[الأنفال:1]، وقوله تعالى ?مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ?[الحشر:7]، وقوله تعالى ?وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ?[الأنفال:41].(6/23)
ولهذا كان أظهر أقوال العلماء أن هذه الاموال تصرف فيما يحبه الله ورسوله بحسب اجتهاد ولي الأمر كما هو مذهب مالك وغيره من السلف. ويذكر هذا رواية عن أحمد، وقد قيل في الخمس أنه يقسم عل خمسة كقول الشافعي وأحمد في المعروف عنه، وقيل على ثلاثة كقول أبي حنيفة رحمه الله، والمقصود هنا أن العبد الرسول هو أفضل من النبي الملك كما أن إبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم الصلاة والسلام أفضل من يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، كما أن المقربين السابقين أفضل من الأبرار أصحاب اليمين الذين ليسوا مقربين سابقين فمن أدى ما أوجب الله عليه وفعل من المباحات ما يحبه فهو من هؤلاء، ومن كان إنما يفعل ما يحبه الله ويرضاه ويقصد أن يستعين بما أُبيح له على ما أمره الله فهو من أولئك. ([28])
فصل(6/24)
وقد ذكر الله تعالى أولياءه المقتصدين والسابقين في سورة فاطر في قوله تعالى ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34)الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ?[فاطر:32-35]، لكن هذه الأصناف الثلاثة في هذه الآية هم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة كما قال تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)، وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمم المتقدمة، وليس ذلك مختصا بحفّاظ القرآن بل كل من آمن بالقرآن فهو من هؤلاء، وقسّمهم إلى ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق، بخلاف الآيات التي في الواقعة والمطففين والإنفطار فإنه دخل فيها جميع الأمم المتقدمة كافرهم ومؤمنهم، وهذا التقسيم لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالظالم لنفسه أصحاب الذنوب المصرون عليها، والمقتصد المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، والسابق للخيرات هو المؤدي للفرائض والنوافل، كما في تلك الآيات، ([29]) ومن تاب من ذنبه أي ذنب كان توبة صحيحة لم يخرج بذلك عن السابقين والمقتصدين كما في قوله تعالى ?وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ(6/25)
لِلْمُتَّقِينَ(133)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134) وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ(135)أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ?[آل عمران:133-136]، والمقتصد المؤدي للفرائض المجتنب للمحارم، والسابق بالخيرات هو المؤدي للفرائض والنوافل كما في تلك الآيات، وقوله ?جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا?([30]) مما يستدل به أهل السنة على أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد.(6/26)
وأما دخول كثير من أهل الكبائر النار فهذا مما تواترت به السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تواترت بخروجهم من النار وشفاعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أهل الكبائر، وإخراج من يخرج من النار بشفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وشفاعة غيره، ([31]) فمن قال أن أهل الكبائر مخلدون في النار وتَأَوَّلَ الآية على أن السابقين هم الذين يدخلونها، وأن المقتصد أو الظالم لنفسه لا يدخلها، كما تأوله من المعتزلة، فهو مقابل بتأويل المرجئة الذين لا يقطعون بدخول أحد من أهل الكبائر النار، ويزعمون أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب، ([32]) وكلاهما مخالف للسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولإجماع سلف الأمة وأئمتها وقد دل على فساد قول الطائفتين قول الله تعالى في آيتين من كتابه وهو قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48]، فأخبر تعالى أنه لا يغفر الشرك، وأخبر أنه يغفر ما دونه لمن يشاء، ولا يجوز أن يراد بذلك التائب كما يقوله من يقوله من المعتزلة، لأن الشرك يغفره الله لمن تاب، وما دون الشرك يغفره الله أيضا للتائب، فلا يتعلق بالمشيئة. ولهذا لما ذكر المغفرة للتائبين، قال تعالى ?قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ?[الزمر:53]، فهنا عمم المغفرة وأطلقها فإن الله يغفر للعبد أي ذنب تاب منه، فمن تاب من الشرك غفر الله له، ومن تاب من الكبائر غفر الله له، وأي ذنب تاب العبد منه غفر الله له، ففى آية التوبة عمم وأطلق، وفي تلك الآية خصص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفره، وعلق ما سواه على المشيئة، ومن الشرك التعطيل للخالق، وهذا يدل على فساد قول من يجزم بالمغفرة لكل مذنب، ونبه(6/27)
بالشرك على ما هو أعظم منه كتعطيل الخالق، أو يجوز أن لا يعذب بذنب، فإنه لو كان كذلك لما ذكر أنه يغفر البعض دون البعض، ولو كان كل ظالم لنفسه مغفورا له بلا توبة ولا حسنات ماحية لم يعلق ذلك بالمشيئة.
وقوله تعالى ?وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48], دليل على أنه يغفر البعض دون البعض، فبطل النفي والعفو العام.
فصل
وإذا كان أولياء الله عز وجل هم المؤمنون المتقون، والناس يتفاضلون في الإيمان والتقوى، فهم متفاضلون في وَلاية الله بحسب ذلك، كما أنهم لما كانوا متفاضلين في الكفر والنفاق كانوا متفاضلين في عداوة الله بحسب ذلك، وأصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله، وجِماع ذلك الإيمان بخاتم الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله ورسله، وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به، فإن هذا هو الكفر الذي يستحق صاحبه العذاب في الآخرة، فإن الله تعالى أخبر في كتابه أنه لا يعذب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة؛ قال الله تعالى ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا?[الإسراء:15]، وقال تعالى ?إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا(163)وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164)رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ?[النساء:163-165]، وقال تعالى عن أهل النار ?كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ(8)قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ(6/28)
فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ?[الملك:8-9]، فأخبر أنه كلما أُلقي في النار فوج أقروا بأنهم جاءهم النذير فكذبوه، فدل ذلك على أنه لا يلقى فيها فوج إلا من كذب النذير، وقال تعالى في خطابه لإبليس ?لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ?[ص:85]، فأخبر أنه يملؤها بإبليس ومن اتبعه، فإذا ملئت بهم لم يدخلها غيرهم، فعلم أنه لا يدخل النار إلا من تبع الشيطان، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها من لا ذنب له، فإنه ممن لم يتّبع الشيطان، ولم يكن مذنبا، وما تقدم يدل على أنه لا يدخلها إلا من قامت عليه الحجة بالرسل. ([33])
فصل(6/29)
ومن الناس من يؤمن بالرسل إيمانا عاما مجملا، وأما الإيمان المفصل فيكون قد بلغه كثير مما جاءت به الرسل ولم يبلغه بعض ذلك، فيؤمن بما بلغه عن الرسل وما لم يبلغه لم يعرفه ولو بلغه لآمن به، ولكن آمن بما جاءت به الرسل إيمانا مجملا، فهذا إذا عمل بما علم، إن الله أمره به مع إيمانه وتقواه، فهو من أولياء الله تعالى، له من ولاية الله بحسب إيمانه وتقواه، وما لم تقم عليه الحجة به فإن الله تعالى لم يكلفه معرفته، والإيمان المفصل به، فلا يعذبه على تركه، لكن يفوته من كمال ولاية الله بحسب ما فاته من ذلك، فمن علم بما جاء به الرسل وآمن به إيمانا مفصلا وعمل به فهو أكمل إيمانا ووَلاية لله ممن لم يعلم ذلك مفصلا ولم يعمل به وكلاهما ولي لله تعالى والجنة درجات متفاضلة تفاضلا عظيما، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم، قال الله تبارك وتعالى ?مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا(18)وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20)انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا?[الإسراء:18-21]، فبين الله سبحانه وتعالى أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه، وأن عطاءه ما كان محظورا من بر ولا فاجر، ثم قال تعالى (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) فبين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا، وأن درجاتها أكبر من درجات الدنيا، وقد بين تفاضل أنبيائه(6/30)
عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين، فقال تعالى ?تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ?[البقرة:253]، وقال تعالى ?وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا?[الإسراء:55].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيّ خَيْرٌ وَأَحَبّ إلى اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضّعِيفِ. وَفِي كُلَ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللّهِ. وَلاَ تَعْجِزْ. وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنّي فَعَلْتُ لكان كذا وكذا. وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللّهِ. وَمَا شَاءَ فَعَلَ. فَإِنّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَانِ».(6/31)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إذَا اجتهد الْحَاكِمُ فَأَصَابَ, فَلَهُ أَجْرَانِ, وَإذَا اجْتَهَد فََأَخْطَأَ, فَلَهُ أَجْرٌ»، وقد قال الله تعالى ?لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أعظم دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى?[الحديد:10]، وقال تعالى ?لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا(95)دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[النساء:95-96]، وقال تعالى ?أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19)الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أعظم دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20)يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ?[التوبة:19-22]، وقال تعالى ?أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا(6/32)
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ?[الزمر:9]، وقال تعالى ? يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ?[المجادلة:11]. ([34])
فصل
وإذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا لقوله تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63].(6/33)
وفي صحيح البخاري الحديث المشهور وقد تقدم، يقول الله تبارك وتعالى فيه «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه»، ولا يكون مؤمنا تقيا حتى يتقرب إلى الله بالفرائض، فيكون من الأبرار أهل اليمين، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين، فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله، وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قُدِّر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ومن لم تبلغه الدعوة، وإن قيل إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسولا فلا يكونون من أولياء الله إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين، فمن لم يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بترك السيئات لم يكن من أولياء الله، وكذلك المجانين والأطفال، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «رُفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ» وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقَبول، لكن الصبي المميز تصح عباداته ويثاب عليها عند جمهور العلماء، وأما المجنون الذي رُفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات، بل لا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة، فلا يصلح أن يكون بزازا ولا عطارا ولا حدادا ولا نجارا، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء، فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعي، ([35]) ولا ثواب ولا عقاب، بخلاف الصبي المميز فإن له أقوالا معتبرة في مواضع بالنص والإجماع، وفي مواضع فيها نزاع، وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل وامتنع أن يكون وليا لله فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي لله، لا سيما أن تكون حجته على ذلك(6/34)
إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من تصرف مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صُرع، فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعُبَّاد المشركين([36]) وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله وإن لم يعلم منه ما يناقض وَلاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله، مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو يقول إن الأنبياء ضيّقوا الطريق، أو هم على قدوة العامة دون الخاصة، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية، فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان فضلا عن ولاية الله عز وجل، فمن احتج بما يصدر عن أحدهم من خرق عادة على وَلايتهم كان أضل من اليهود والنصارى، وكذلك المجنون فإن كونه مجنونا يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات التي هي شرط في وَلاية الله، ومن كان يُجَنُّ أحيانا ويُفيق أحيانا إذا كان في حال إفاقته مؤمنا بالله ورسوله ويؤدي الفرائض ويجتنب المحارم فهذا إذا جُنَّ لم يكن جنونه مانعا من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه الذي أتى به في حال إفاقته، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك، وكذلك من طرأ عليه الجنون بعد إيمانه وتقواه فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه، ولا يحبطه بالجنون الذي أبتلي به من غير ذنب فعله، والقلم مرفوع عنه في حال جنونه، فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يجتنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك،لم يكن لأحد أن يقول هذا ولي، لله فإن هذا إن لم يكن مجنونا بل كان متولها من غير جنون، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة ويفيق أخرى، وهو لا يقوم بالفرائض، بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول -(6/35)
صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، وإن كان مجنونا باطنا وظاهرا قد ارتفع عنه القلم، فهذا وإن لم يكن معاقبا عقوبة الكافرين فليس هو مستحقا لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عز وجل، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه ولي لله، ولكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنا بالله متقيا كان له من ولاية الله بحسب ذلك، وإن كان له في حال إفاقته فيه كفر أو نفاق أو كان كافرا أو منافقا ثم طرأ عليه الجنون فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق. ([37])
فصل(6/36)
وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، إذا كان كلاهما مباحا، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحا، كما قيل كم من صِدِّيقٍ في قَبَاء، وكم من زنديق في عَبَاء، بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور، فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويوجدون في التجار والصناع والزراع، وقد ذكر الله أصناف امة محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى ?إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ?[المزمل:20]، وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم القراء، فيدخل فيهم العلماء والنساك، ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء، واسم الصوفية هو نسبة إلى لباس الصوف، هذا هو الصحيح، وقد قيل إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء، وقيل إلى صوفة بن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك، وقيل إلى أهل الصفة، وقيل إلى الصفا، وقيل إلى الصفوة، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى، وهذه أقوال ضعيفة فإنه لو كان كذلك لقيل صِفِّي أو صفائي أو صَفوي أو صَفِّي ولم يقل صوفي، وصار أيضا اسم الفقراء يعنى به أهل السلوك، وهذا عُرف حادث، وقد تنازع الناس أيهما أفضل مسمى الصوفي أو مسمى الفقير، ويتنازعون أيضا أيهما أفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر، وهذه المسألة فيها نزاع قديم بين الجنيد(6/37)
وبين أبي العباس بن عطاء.
وقد روي عن أحمد بن حنبل فيها روايتان، والصواب في هذا كله ما قاله الله تبارك وتعالى حيث قال ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ?[الحجرات:13].
وفي الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي الناس أفضل قال «أتقاهم» قيل له: ليس عن هذا نسألك، فقال «يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن اسحق نبي الله إبراهيم خليل الله» فقيل له ليس عن هذا نسألك، فقال «عن معادن العرب تسألوني؟ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقِهُوا» فدل الكتاب والسنة أن أكرم الناس عند الله أتقاهم. ([38])
وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى كلكم لآدم وآدم من تراب». وعنه أيضا - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن الله تعالى أذهب عنكم عَبِيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان مؤمن تقي وفاجر شقي». فمن كان من هذه الأصناف أتقى لله فهو أكرم عند الله وإذا استويا في التقوى استويا في الدرجة، ولفظ الفقر في الشرع يراد به الفقر من المال، ويراد به فقر المخلوق إلى خالقه، كما قال تعالى ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ?[التوبة:60]، وقال تعالى ? يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلى اللَّهِ?[فاطر:15].(6/38)
وقد مدح الله تعالى في القرآن صنفين من الفقراء؛ أهل الصدقات وأهل الفيء، فقال في الصنف الأول ?لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا?[البقرة:273]، وقال في الصنف الثاني وهم أفضل الصنفين ?لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ?[الحشر:8]، وهذه صفة المهاجرين الذين هجروا السيئات وجاهدوا أعداء الله باطنا وظاهرا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله».(6/39)
أما الحديث الذي يرويه بعضهم أنه قال في غزوة تبوك «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» فلا أصل له ولم يروه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، وجهاد الكفار من أعظم الأعمال بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان. قال الله تعالى ?لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا?[النساء:95]، وقال تعالى ?أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(19)الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أعظم دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ(20)يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ(21)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ?[التوبة:19-22].
وثبت في صحيح مسلم وغيره عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر ما أبالي أن أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال علي ابن أبي طالب الجهاد في سبيل الله أفضل مما ذكرتماه، فقال عمر لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إذا قضيت الصلاة سألته. فسأله فأنزل الله تعالى هذه الآية.(6/40)
وفي الصحيحين عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَيّ الأَعْمَالِ أَفضل إلى اللّهِ عز وجل؟ قَالَ: «الصّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ «ثُمّ بِرّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ «ثُمّ الّجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ» قَالَ: حَدّثَنِي بِهِنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - , وَلَو اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي الأعمال أفضل قال «إيمان بالله وجهاد في سبيله» قيل ثم ماذا؟ قال «حج مبرور».
وفي الصحيحين أن رجلا قال له - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله أخبرنى بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله قال «لا تستطيعه أو لا تطيقه» قال فأخبرنى به قال «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم ولا تفطر وتقوم ولا تفتر».([39])(6/41)
وفى السنن عن معاذ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وصاه لما بعثه إلى اليمن فقال «يا معاذ اتق اللّهَ حيثما كنتَ, واتْبَعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُهَا, وخالقِ الناسَ بخلقٍ حسنٍ» وقال «يا معاذ إني لأحبك فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»، وقال له وهو رديفه «يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده» قلت الله ورسوله أعلم قال «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك» قلت الله ورسوله أعلم قال «حقهم عليه ألا يعذبهم»، وقال أيضا لمعاذ «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» وقال «يا معاذ ألا أخبرك بأبواب البر الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار، وقيام الرجل في جوف الليل، ثم قرأ ?تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(16)فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[السجدة:16-17]» ثم قال «يا معاذ ألا أخبرك أملك لك من ذلك» فقال «أمسك عليك لسانك هذا، فأخذ بلسانه» قال: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، فقال «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يَكُبُّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»، وتفسير هذا ما ثبت في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «ومن كان يؤمن بالله واليوم الاَخرِ فلْيَقُلْ خيراً أو ليَصمُت» فالتكلم بالخير خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء فذلك من البدع المذمومة أيضا، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا قائما في الشمس فقال «ما هذا؟» فقالوا: أبو إسرائيل نذر(6/42)
أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه».
وثبت في الصحيحين عن أنس أن رجالا سألوا عن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنهم تقالُّوها فقالوا وأينا مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا آكل اللحم، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا، ولكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» أي سلك غيرها ظانا أن غيرها خير منها، فمن كان كذلك فهو بريء من الله ورسوله، قال تعالى ?وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ?[البقرة:130]، بل يجب على كل مسلم أن يعتقد أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما ثبت عنه في الصحيح أنه كان يخطب بذلك كل يوم جمعة. ([40])
فصل(6/43)
وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطىء، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهىالله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبَّسها عليه لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان وأن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى، فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الامة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، فقال تعالى ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ(285)لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ?[البقرة:285-286].(6/44)
وقد ثبت في الصحيح أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال قد فعلت، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية ?وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ?[البقرة:284]، قال دخل قلوبهم منها شيءلم يدخلها قبل ذلك شيء أشد منه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا» قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله تعالى ?لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا? إلى قوله ?أَوْ أَخْطَأْنَا? قال الله قد فعلتُ ?رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا? قال قد فعلت ?رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ? قال قد فعلت، وقد قال تعالى ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ?[الأحزاب:5].(6/45)
وثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما مرفوعا أنه قال «إذَا اجتهد الْحَاكِمُ فَأَصَابَ, فَلَهُ أَجْرَانِ, وَإذَا اجْتَهَد فََأَخْطَأَ, فَلَهُ أَجْرٌ»، فلم يؤثم المجتهد المخطىء بل جعل له أجرا على اجتهاده وجعل خطأه مغفورا له، ولكن المجتهد المصيب له أجران فهو أفضل منه، ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن يغلَط([41])لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو ولي لله إلا يكون نبيا، بل ولا يجوز لولي الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه إلا أن يكون موافقا للشرع، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه. ([42])
الناس في هذا الباب ثلاثة أصناف طرفان ووسط، فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه ولي لله وافقه في كل ما يظن أنه حدّثه به قبله عن ربه وسلم إليه جميع ما يفعله، ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع أخرجه عن ولاية الله بالكلية وإن كان مجتهدا مخطئا، وخيار الأمور أوساطها، وهو أن لا يجعل معصوما ولا مأثوما، إذ كان مجتهدا مخطئا فلا يتبع في كل ما يقوله ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده، ([43]) والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله، وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء ووافق قول آخرين لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف، ويقول هذا خالف الشرع.(6/46)
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «قد كان في الأمم قبلكم محدَّثُون فإن يكن في أمتي أحد فعمر منهم»،([44]) وروى الترمذي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لولم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر» وفي حديث آخر «أن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه» وفيه «لو كان نبي بعدي لكان عمر» وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول ما كنا نبعد أن السكينة تنطق([45]) على لسان عمر، ثبت هذا عنه من رواية الشعبي، وقال ابن عمر ما كان عمر يقول في شيء أني لأراه كذا إلا كان كما يقول([46]). وعن قيس بن طارق قال كنا نتحدث أن عمر ينطق على لسانه ملك. وكان عمر يقول اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون فإنه تتجلى لهم أمور صادقة. وهذه الأمور الصادقة التي أخبر بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنها تتجلى للمطيعين هي الأمور التي يكشفها الله عز وجل لهم، فقد ثبت أن لأولياء الله مخاطبات([47]) ومكاشفات فأفضل هؤلاء في هذه الأمة بعد أبي بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فإن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.(6/47)
وقد ثبت في الصحيح([48]) تعيين عمر بأنه محدَّث في هذه الأمة، فأيُّ محدّث ومخاطب فرض في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فعمر أفضل منه، ومع هذا فكان عمر - رضي الله عنه - يفعل ما هو الواجب عليه فيعرض ما يقع له على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتارة يوافقه فيكون ذلك من فضائل عمر كما نزل القرآن بموافقته غير مرة، ووافق ربه غير مرة، وتارة يخالفه فيرجع عمر عن ذلك، كما رجع يوم الحديبية لما كان قد رأى محاربة المشركين. والحديث معروف في البخاري وغيره فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اعتمر سنة ست من الهجرة ومعه المسلمون نحو ألف وأربعمائة، وهم الذين بايعوه تحت الشجرة، وكان قد صالح المشركين بعد مراجعة جرت بينه وبينهم على أن يرجع في ذلك العام ويعتمر من العام القابل، وشرط لهم شروطا فيها نوع غضاضة على المسلمين في الظاهر، فشق ذلك على كثير من المسلمين، وكان الله ورسوله أعلم وأحكم بما في ذلك من المصلحة، وكان عمر فيمن كره ذلك، حتى قال للنبى - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال «بلى»، قال: أفليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال«بلى»، قال فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه» ثم قال: أفلم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال«بلى»، قال «أقلت لك أنك تأتيه العام؟» قال: لا، قال «إنك آتيه ومطوف به» فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال له مثل ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورد عليه أبو بكر مثل جواب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن أبو بكر يسمع جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان أبو بكر - رضي الله عنه - أكمل موافقة لله وللنبى - صلى الله عليه وسلم - من عمر، وعمر - رضي الله عنه - رجع عن ذلك وقال: فعملت لذلك أعمالا. وكذلك لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عمر(6/48)
موته أولا، فلما قال أبو بكر أنه مات رجع عمر عن ذلك. وكذلك في قتال مانعي الزكاة قال عمر لأبي بكر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها»، فقال له أبو بكر - رضي الله عنه - ألم يقل «إلا بحقها» فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عَناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق.(6/49)
ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر مع أن عمر - رضي الله عنه - محدَّث، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدَّث، لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدَّث يأخذ عن قلبه أشياء وقلبه ليس بمعصوم فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كان عمر - رضي الله عنه - يشاور الصحابة رضي الله عنهم ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويُقِرُّهم على منازعته ولا يقول لهم أنا محدَّث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني، فأي أحد إدعى أو إدعى له أصحابه أنه ولي لله وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة فهو وهم مخطئون، ومثل هذا من أضل الناس، فعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أفضل منه وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه فيما يقوله وهو وهم على الكتاب والسنة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن الله عز وجل، وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به، ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يُعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب والسنة وجب قبوله، وماخالف الكتاب والسنة كان مردودا وإن كان صاحبه من أولياء الله، وكان مجتهدا معذورا فيما قاله له أجر على اجتهاده، لكنه إذا خالف الكتاب والسنة كان مخطئا، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى الله ما استطاع، فإن الله تعالى يقول ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ?[التغابن:16]، وهذا تفسير قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(6/50)
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ?[آل عمران:102]، قال ابن مسعود وغيره (حَقَّ تُقَاتِهِ) أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، أي بحسب استطاعتكم فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها كما قال تعالى ?لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ?[البقرة:286]، وقال تعالى ?وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ?[الأعراف:42]، وقال تعالى ?وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا?[الأنعام:152]. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الإيمان بما جاءت به الأنبياء في غير موضع كقوله تعالى ?قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ?[البقرة:136]، وقال تعالى ?الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[البقرة:1-5]، وقال تعالى ?لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى(6/51)
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ?[البقرة:177]. وهذا الذي ذكرته من أن أولياء الله يجب عليهم الإعتصام بالكتاب والسنة وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة، هو مما اتفق عليه أولياء الله عز وجل، من خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه، الذين أمر الله باتباعهم، بل إما أن يكون كافرا، وإما أن يكون مفرطا في الجهل، وهذا كثير في كلام المشايخ، كقول الشيخ أبي سليمان الداراني، أنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم([49])فلا أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة. وقال أبو القاسم الجنيد رحمة الله عليه علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لايصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال لا يقتدى به. وقال أبو عثمان النيسابوري من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم([50])?وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا?[النور:54]، وقال أبو عمرو بن نجيد كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. وكثير من الناس يغلَط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله، ويظن أن ولي الله يقبل منه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يقوله ويسلم إليه كل ما يفعله، وإن خالف الكتاب والسنة، فيوافق ذلك الشخص له ويخالف ما بعث الله به رسوله، الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه، وبين أهل الجنة وأهل النار، وبين السعداء والأشقياء، فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين،(6/52)
ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين، فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولا إلى البدعة والضلال، وآخرا إلى الكفر والنفاق،([51]) ويكون له نصيب من قوله تعالى ?وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا(27)يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا(28)لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا?[الفرقان:27-29]، وقوله تعالى ?يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ(66)وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ(67)رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا?[الأحزاب:66-68]، وقوله تعالى ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ(165)إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ(166)وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ?[البقرة:165-167]، وهؤلاء مشابهون للنصارى الذين قال الله تعالى فيهم ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ(6/53)
سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ?[التوبة:31].
وفي المسند وصححه الترمذي عن عدي بن حاتم في تفسيره هذه الآية لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال ما عبدوهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، وكانت هذه عبادتهم إياهم» ولهذا قيل في مثل هؤلاء إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول، فإن أصل الأصول تحقيق الإيمان بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلابد من الإيمان بالله ورسوله وبما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلابد من الإيمان بأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم وعربهم وعجمهم علمائهم وعُبّادهم ملوكهم وسوقتهم، وأنه لا طريق إلى الله عز وجل لأحد من الخلق إلا بمتابعته باطنا وظاهرا، حتى لو أدركه موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء لوجب عليهم اتباعه، كما قال تعالى ?وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ(81)فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ?[آل عمران:81-82].(6/54)
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وقد قال تعالى ?أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا(60)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا(61)فَكَيْفَ إذا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا(62) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا(63)وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا(64)فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا?[النساء:60-65]، وكل من خالف شيئا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقلدا في ذلك لمن يظن أنه ولي لله، فإنه بنى أمره على أنه ولي لله، وأن ولي الله لا يخالف في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء الله، كأكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، لم يُقبل منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك، وتجد كثيرا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليا لله أنه(6/55)
قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة، مثل أن يُشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانا أو يملأ إبريقا من الهواء، أو ينفق([52]) بعض الأوقات من الغيب، أو أن يختفى أحيانا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سُرق لهم، أو بحال غائب لهم، أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور، ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يُغترَّ به حتى ينظر متابعته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموافقته لأمره ونهيه، ([53]) وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة، وإن كان قد يكون صاحبها وليا لله فقد يكون عدوا لله، فان هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين فلا يجوز أن يظن أنّ كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي الله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة.(6/56)
مثال ذلك أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسا للنجاسات، معاشرا للكلاب، يأوي إلى الحمّامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب ولا كلب»، وقال عن هذه الأخلية «إن هذه الحشوش محتضرة» أي يحضرها الشيطان، وقال «من أكل من هاتين الشجرتين الخبيثتين فلا يقربن مسجدنا فان الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم»، وقال «إنّ الله طيب لا يقبل الا طيبا» وقال «إنّ الله نظيف يحب النظافة» وقال خمس من الفواسق يُقتلن في الحل والحرم، الحية، والفأرة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور» وفي رواية الحية، والعقرب. وأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل الكلاب. وقال «من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط»، وقال «لا تَصحب الملائكة رُفقة معهم كلب»، وقال «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب»، وقال تعالى ?وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ?[الأعراف:156-157].(6/57)
فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوى إلى الحمّامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبّها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه، ولا يُخْلِصُ الدِّين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران، أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويُقَدِّمُ عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن. ([54])(6/58)
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله، وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ورسوله. وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: لو طهُرَت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل. وقال ابن مسعود: الذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل، والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وإن كان الرجل خبيرا بحقائق الإيمان الباطنة فارقا بين الأحوال الرحمانية والأحوال الشيطانية فيكون قد قذف الله في قلبه من نوره، كما قال تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ?[الحديد:28]، وقال تعالى ?وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا?[الشورى:52] ([55]) فهذا من المؤمنين الذين جاء فيهم الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال« اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» قال الترمذي حديث حسن، وقد تقدم الحديث الصحيح الذي في البخاري وغيره قال « ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» فإذا كان العبد من هؤلاء فرّق بين حال أولياء الرحمن وحال أولياء الشيطان كما يفرق الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزَّيْف، وكما يفرق من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يفرق من(6/59)
يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبىء الكذاب، فيفرق بين محمد الصادق الأمين رسول ربّ العالمين - صلى الله عليه وسلم - وموسى والمسيح وغيرهم وبين مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي وباباه الرومي وغيرهم من الكذابين، وكذلك يفرق بين أولياء الله المتقين وأولياء الشيطان الضالين.
فصل
والحقيقة حقيقة الدين؛ دين رب العالمين هي ما اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وإن كان لكل منهم شرعة ومنهاجا، فالشرعة هي الشريعة، قال الله تعالى ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، وقال تعالى ?ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(18)إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ?[الجاثية:18-19]، والمنهاج هو الطريق، قال تعالى ?وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا?[الجن:16-17]، فالشِّرعة بمنزلة الشريعة للنهر، والمنهاج هو الطريق الذي سُلِك فيه، والغاية المقصودة هي حقيقة الدين وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وهي حقيقة دين الإسلام وهو أن يستسلم العبد لله رب العالمين لا يستسلم لغيره، فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم لله بل استكبر عن عبادته كان ممن قال الله فيه ?إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ?[غافر:60]، ودين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والمرسلين، وقوله تعالى ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل(6/60)
عمران:85] عام في كل زمان ومكان، فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريون كلهم دينهم الإسلام الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له. ([56]) قال الله تعالى عن نوح ?يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ? إلى قوله ? وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ? وقال تعالى ?وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ(130)إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131)وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[البقرة:130-131] وقال تعالى ?وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ?[يونس:84]، وقال السحرة ?رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ?[الأعراف:126]، وقال يوسف عليه السلام ?تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ?[يوسف:101]، وقالت بلقيس ? وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?[النمل:44]، وقال تعالى ? يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ?[المائدة:44]، وقال الحواريون ?آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?[آل عمران:52]، فدين الأنبياء واحد وإن تنوَّعت شرائعهم. كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إنَّا معشر الأنبياء ديننا واحد» قال تعالى ?شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا(6/61)
وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ?[الشورى:13]، وقال تعالى ?يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(51)وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِي(52)فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ?[المؤمنون:51-53].
فصل
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أولياء الله تعالى على ان الأنبياء أفضل من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء، وقد رتّب الله عباده السعداء المنعم عليهم أربع مراتب، فقال تعالى ?وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا?[النساء:69].
وفي الحديث «ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر» وأفضل الأمم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ?[آل عمران:110]، وقال تعالى ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا?[فاطر:32]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي في المسند «أنتم تُوَفُّونَ سبعين أمة أنتم خيرها واكرمها على الله» وأفضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - القرن الأول.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه أنه قال «خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وهذا ثابت في الصحيحين من غير وجه.
وفي الصحيحين أيضا عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحدٍ ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه».(6/62)
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من سائر الصحابة، قال تعالى ?لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أعظم دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى?[الحديد:10]، وقال تعالى ?وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ?[التوبة:100]، والسابقون الأولون الذين انفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والمراد بالفتح صُلح الحديبية فإنه كان أول فتح مكة، وفيه أنزل الله تعالى ?إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1)لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ?[الفتح:1-2] فقالوا يا رسول الله أَوَ فَتْحٌ هو؟ قال «نعم».
وأفضل السابقين الأولين الخلفاء الأربعة، وأفضلهم أبو بكر ثم عمر، وهذا هو المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الأمة وجماهيرها، وقد دلّت على ذلك دلائل بسطناها في منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام أهل الشيعة والقدرية.
وبالجملة اتفقت طوائف السنة والشيعة على أنَّ أفضل هذه الأمة بعد نبيها واحد من الخلفاء، ولا يكون من بعد الصحابة أفضل من الصحابة.(6/63)
وأفضل أولياء الله تعالى أعظمهم معرفة بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعا له كالصحابة الذين هم أكمل الأمة في معرفة دينه واتباعه، وأبو بكر الصديق أكمل معرفة بما جاء به وعملا به، فهو أفضل أولياء الله، إذْ كانت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأمم، وأفضلها أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأفضلهم أبو بكر - رضي الله عنه -. وقد ظن طائفة غالطة أنّ خاتم الأولياء أفضل الأولياء قياسا على خاتم الأنبياء، ولم يتكلم أحد من المشايخ المتقدمين بخاتم الأولياء إلا محمد بن علي الحكيم الترمذي، فانه صنّف مصنفا غلط فيه في مواضع، ثم صار طائفة من المتأخرين يزعم كل واحد منهم أنه خاتم الأولياء، ومنهم من يدعي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من جهة العلم بالله، وأن الأنبياء يستفيدون العلم بالله من جهته، كما زَعم ذلك ابن عربى صاحب كتاب الفتوحات المكية وكتاب الفصوص فخالف الشرع والعقل مع مخالفة جميع أنبياء الله تعالى وأوليائه، كما يقال لمن قال فخَرَّ عليهم السقف من تحتهم. لا عقل ولا قرآن، ذلك أن الأنبياء أفضل في الزمان من أولياء هذه الأمة، والأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام أفضل من الأولياء، فكيف الأنبياء كلُّهم والأولياء إنما يستفيدون معرفة الله ممن يأتي بعدهم ويدعي أنه خاتم الأولياء، وليس آخر الأولياء أفضلهم كما أن آخر الأنبياء أفضلهم، فإن فضل محمد - صلى الله عليه وسلم - ثَبَتَ بالنصوص الدَّالة على ذلك، كقوله - صلى الله عليه وسلم - «أنا سيِّد ولد آدم ولا فخر» وقوله «آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من أنت فأقول محمد، فيقول بك أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك» وليلة المعراج رفع الله درجته فوق الأنبياء كلِّهم، فكان أحقهم بقوله تعالى ?تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ?[البقرة:253] إلى غير ذلك من الدلائل،(6/64)
كلٌّ منهم يأتيه الوحي من الله لا سيما محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في نبوته محتاجا إلى غيره؛ فلم تحتج شريعته إلى سابق ولا إلى لاحق، بخلاف المسيح أحالهم في أكثر الشريعة على التوراة، وجاء المسيح فكمَّلها، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور وتمام الأربع وعشرين نبوة، وكان الأمم قبلنا محتاجين إلى محدَّثين، بخلاف أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنّ الله أغناهم به فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا إلى محدَّث، بل جمع له من الفضائل والمعارف والأعمال الصالحة وما فرَّقه في غيره من الأنبياء، فكان ما فضّله الله به من الله بما أنزله اليه وأرسله إليه، لا بتوسُّط بشر، وهذا بخلاف الأولياء فإنّ كل من بلغه رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يكون وليا لله إلا باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكل ما حصل له من الهدى ودين الحق هو بتوسط محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك من بلغه رسالة رسول إليه لا يكون وليا لله إلا إذا اتبع ذلك الرسول الذي أُرسل إليه، ([57])ومن إدعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد، وإذا قال أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شرٌّ من اليهود والنصارى الذين قالوا إنّ محمدا رسول إلى الاميين دون أهل الكتاب، فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فكانوا كفّارا بذلك، وكذلك هذا الذي يقول إن محمدا بُعث بعلم الظاهر دون على الباطن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر، وهو أكفر من أولئك؛ لأن علم الباطن الذي هو على إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة.(6/65)
فإذا إدعى المدعى أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول أؤمن ببعض وأكفر ببعض ولا يدعي أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولاية أفضل من النبوة، ويُلبِّسون على الناس فيقولون ولايته أفضل من نبوته، وينشدون:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي(6/66)
ويقولون نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن وَلاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى، فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون، وكلُّ رسول نبيٍّ وليٍّ، فالرسول نبي ولي، ورسالته متضمنة لنبوته، ونبوته متضمنة لوَلايته، وإذا قدروا مجرد إنباء الله إياه بدون وَلايته لله فهذا تقدير ممتنع، فإنه حال إنبائه إياه ممتنع أن يكون إلا وليا لله، ولا تكون مجردة عن وَلايته، ولو قُدرت مجردة لم يكن أحد مماثلا للرسول في وَلايته، وهؤلاء قد يقولون كما يقول صاحب الفصوص ابن عربى: أنهم يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، وذلك أنهم اعتقدوا عقيدة المتفلسفة ثم أخرجوها في قالب المكاشفة، وذلك أن المتفلسفة الذين قالوا أن الأفلاك قديمة أزلية لها علة تتشبَّه بها، كما يقوله أرسطو وأتباعه أو لها موجب بذاته كما يقوله متأخروهم كابن سينا وأمثاله، ولا يقولون إنها لربٍّ خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا خلق الأشياء بمشيئته وقدرته، ولا يعلم الجزئيات، بل إما اأن ينكروا علمه مطلقا كقول أرسطو، أو يقولوا إنما يعلم في الأمور المتغيرة كلياتها كما يقوله ابن سينا. وحقيقة هذا القول إنكار علمه بها، فإن كل موجود في الخارج فهو معين جزئي الأفلاك كل معين منها جزئي، وكذلك جميع الأعيان وصفاتها وأفعالها، فمن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات، والكليات إنما توجد كليات في الأذهان لا في الأعيان، والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر في رد تعارض العقل والنقل وغيره، فإن كُفر هؤلاء أعظم من كفر اليهود والنصارى، بل ومشركي العرب، فإن جميع هؤلاء يقولون إن الله خلق السموات والأرض، وإنه خلق المخلوقات بمشيئته وقدرته، وأرسطو ونحوه من المتفلسفة واليونان كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهم لا يعرفون الملائكة والأنبياء، وليس في كتب أرسطو ذكر شيء من ذلك وإنما غالب(6/67)
علوم القوم الأمور الطبيعية، وأما الامور الإلهية فكل منهم فيها قليل الصواب كثير الخطأ، واليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أعلم بالإلهيات منهم بكثير، ولكن متأخروهم كابن سينا أرادوا أن يُلفِّقوا بين كلام أولئك وبين ما جاءت به الرسل، فأخذوا أشياء من أصول الجهمية والمعتزلة، وركبوا مذهبا قد يعتزى إليه متفلسفة أهل الملل، وفيه من الفساد والتناقض ما قد نبّهنا على بعضه في غير هذا الموضع، وهؤلاء لما رأوا أمر الرسل كموسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - قد بهر العالم، واعترفوا بأن الناموس الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم ناموس طرق العالم ووجدوا الأنبياء قد ذكروا الملائكة والجن أرادوا ان يجمعوا بين ذلك وبين أقوال سلفهم اليونان الذين هم ابعد الخلق عن معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأولئك قد اثبتوا عقولا عشرة يسمونها المجردات والمُفَارَقات وأصل ذلك مأخوذ من مفارقة النفس للبدن وسموا تلك المفارقات لمفارقتها المادة وتجردها عنها وأثبتوا الأفلاك لكل فلك نفسا وأكثرهم جعلوها أعراضا وبعضهم جعلها جواهر، وهذه المجردات التي أثبتوها ترجع عند التحقيق إلى أمورموجودة في الأذهان لا في الأعيان كما أثبت أصحاب فيثاغورس أعداد مجردة، كما أثبت أصحاب أفلاطون الأمثال الأفلاطونية المجردة أثبتوا هيولى مجردة عن الصورة ومدة وخلاء مجردين، وقد إعترف حذاقهم بأن ذلك إنما يتحقق في الأذهان لا في الأعيان، فلما أراد هؤلاء المتأخرون منهم كابن سينا أن يثبت أمر النبوات على أصولهم الفاسدة، وزعموا أن النبوة لها خصائص ثلاثة من إتصف بها فهو نبي:
· الأولى أن تكون له قوة علمية يسمونها القوة القدسية، ([58]) ينال بها من العلم بلا تعلم.(6/68)
· الثاني أن يكون له قوة تخيليّة تخيل له ما يعقل في نفسه بحيث يرى في نفسه صورا أو يسمع في نفسه أصواتا كما يراه النائم ويسمعه ولا يكون لها وجود في الخارج، وزعموا أن تلك الصور هي ملائكة الله، وتلك الأصوات هي كلام الله تعالى.
· الثالث أن يكون له قوة فعالة يؤثر بها في هيولى العالم.
وجعلوا معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق السحرة هي قوى النفس، فأقروا من ذلك بما يوافق أصولهم من قلب العصا حية دون إنشقاق القمر ونحو ذلك، فإنهم ينكرون وجود هذا. وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في مواضع وبينا أن كلامهم هذا أفسد الكلام، وأن هذا الذي جعلوه من الخصائص التي تحصّل ما هو أعظم منه لآحاد العامة ولأتباع الأنبياء وأن الملائكة التي أخبرت بها الرسل أحياء ناطقون أعظم مخلوقات الله وهم كثيرون، كما قال تعالى?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ?[المثر:31]، وليسوا عَشَرة، وليسوا أعراضا لاسيما وهؤلاء يزعمون أن الصادر الأول هو العقل الأول، وعنه صدر كل ما دونه، والعقل الفعال العاشر رب كل ما تحت فلك القمر، وهذا كله يُعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل، فليس أحد من الملائكة مبدع([59]) لكل ما سوى الله، وهؤلاء يزعمون أن العقل المذكور في حديث يروى «إن أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل، فقال له أدبر فأدبر، فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم على منك، فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب» ويسمونه أيضا القلم لما روى «إن أول ما خلق الله القلم» الحديث رواه الترمذي. والحديث الذي ذكروه في العقل كذب موضوع عند أهل المعرفة بالحديث، كما ذكر ذلك أبو حاتم البُستي([60]) والدار قطني وابن الجوزي وغيرهم، وليس في شيء من دواوين الحديث التي يُعتمد عليها، ومع هذا فلفظه لوكان ثابتا حجةً عليهم، فإن لفظه أول ما خلق الله تعالى العقل قال له، ويروى لما خلق الله العقل قال له، فمعنى الحديث أنه خاطبه في أول أوقات خلقه ليس معناه(6/69)
أنه أول المخلوقات، وأول منصوب على الظرف كما في اللفظ الآخر لمّا، وتمام الحديث ما خلقت خلقا أكرم علي منك، فهذا يقتضى أنه خلق قبله غيره، ثم قال فبك آخذ وبك أعطي ولك الثواب وعليك العقاب، فذكر أربعة أنواع من الأعراض وعندهم أن جميع جواهر العالم العلوي والسُّفلي صدر عن ذلك العقل، فأين هذا من هذا وسبب غلطهم أن لفظ العقل في لغة المسلمين ليس هو لفظ العقل في لغة هؤلاء اليونان، فإن العقل في لغة المسلمين مصدر عَقَلَ، يَعْقِلُ، عَقْلاً كما في القرآن ?وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ?[الملك:10]، ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ?[النحل:12]، ?أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أو إذا نٌ يَسْمَعُونَ بِهَا?[الحج:46]، ويُراد بالعقل الغريزة التي جعلها الله تعالى في الإنسان يعقل بها، وأما أولئك فالعقل عندهم جوهر قائم بنفسه كالعاقل، وليس هذا مطابقا للغة الرسل والقرآن، وعالم الخلق عندهم كما يذكره أبو حامد عالم الأجسام العقل والنفوس فيسميها عالم الأمر، وقد يسمى العقل عالم الجبروت، والنفوس عالم الملكوت، والأجسام عالم الملك، ويظن من لم يعرف لغة الرسل ولم يعرف معنى الكتاب والسنة أن ما في الكتاب والسنة من ذكر الملك والملكوت والجبروت موافق لهذا، وليس الأمر كذلك، وهؤلاء يُلَبِّسون على المسلمين تلبيسا كثيرا كإطلاقهم أن الفَلَك محدث أي معلول مع أنه قديم عندهم، والمحدث لا يكون إلا مسبوقا بالعدم، ليس في لغة العرب ولا في لغة أحد أنه يسمى القديم الأزلى محدثا، والله قد أخبر أنه خالق كل شيء، وكل مخلوق فهو محدَث، وكل محدث كائن بعد أن لم يكن، لكن ناظَرَهم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة مناظرة قاصرة لم يعرفوا بها ما أخبرت به الرسل، ولا أحكموا فيها قضايا العقول، فلا للإسلام نصروا، ولا للأعداء كسروا، وشاركوا أولئك(6/70)
في بعض قضاياهم الفاسدة، ونازعوهم في بعض المعقولات الصحيحة، فصار قصور هؤلاء في العلوم السّمعية والعقلية من أسباب قوة ضلال أولئك كما قد بُسط في غير هذا الموضع.
وهؤلاء المتفلسفة قد يجعلون جبريل هو الخيال الذي يتشكل في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم -، والخيال تابع للعقل، فجاء الملاحدة الذين شاركوا هؤلاء الملاحدة المتفلسفة وزعموا أنهم أولياء الله، وأن أولياء الله أفضل من أنبياء الله، وأنهم يأخذون عن الله بلا واسطة، كابن عربي صاحب الفتوحات والفصوص، فقال: إنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملَك الذي يوحي به إلى الرسول، والمعدن عنده هو العقل، والملك هو الخيال، والخيال تابع للعقل، وهو بزعمه يأخذ عن الذي هو أصل الخيال، والرسول يأخذ عن الخيال، فلهذا صار عند نفسه فوق النبي، ولو كان خاصة النبي ما ذكروه، ولم يكن هو من جنسه فضلا عن أن يكون فوقه، فكيف وما ذكروه يحصل لآحاد المؤمنين، والنبوة أمر وراء ذلك فإن ابن عربى وأمثاله وإن ادعوا أنهم من الصوفية فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة ليسوا من صوفية أهل العلم، ([61]) فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والجنيد بن محمد وسهل بن عبد الله التستري وأمثالهم رضوان الله عليهم أجمعين.(6/71)
والله سبحانه وتعالى قد وصف الملائكة في كتابه بصفات تباين قول هؤلاء([62]) كقوله تعالى ?وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(27)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ(28)وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ?[الأنبياء:26-29]، وقال تعالى ?وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى?[النجم:26]، وقال تعالى ?قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22)وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ?[سبإ:22-23]، وقال تعالى ?وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ?[الأنبياء:19-20]، وقد أخبر أن الملائكة جاءت لإبراهيم عليه السلام في صورة البشر، وأن الملَك تمثّل لمريم بشرا سويا، وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية الكلبي وفي صورة أعرابي ويراهم الناس كذلك، وقد وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بأنه ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رآه بالأفق المبين ووصفه بأنه ?شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى(8)فَكَانَ قَابَ(6/72)
قَوْسَيْنِ أو أَدْنَى(9)فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12)وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى(13)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى(14)عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى(15)إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى(16)مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى(17)لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى?[النجم:5-18].
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم ير جبريل في صورته التي خُلق الله عليها غير مرتين، يعني المرة الأولى بالأفق الأعلى، والنزلة الأخرى عند سدرة المنتهى، ووصف جبريل عليه السلام في موضع آخر بأنه الروح الأمين وأنه روح القدس إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه من أعظم مخلوقات الله تعالى الأحياء العقلاء، وأنه جوهر قائم بنفسه ليس خيالا في نفس النبي، كما زعم هؤلاء الملاحدة المتفلسفة والمدعون وَلاية الله، وأنهم أعلم من الأنبياء، وغاية حقيقة هؤلاء إنكار أصول الإيمان بأن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وحقيقة أمرهم جحد الخالق فإنهم جعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق وقالوا الوجود واحد ولم يميزوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع، فإن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، كما تشترك الأناسيُّ في مسمى الإنسان، والحيوانات في مسمى الحيوان، ولكن هذا المشترك الكلى لا يكون مشتركا كليا إلا في الذهن، وإلا فالحيوانية القائمة بهذا الإنسان ليست هي الحيوانية القائمة بالفَرَس، ووجود الشهوات ليس هو بعينه وجود الإنسان، فوجود الخالق جل جلاله ليس هو كوجود مخلوقاته، وحقيقة قولهم قول فرعون الذي عطّل الصانع فإنه لم يكن منكرا هذا الوجود المشهود، لكن زعم أنه موجود بنفسه لا صانع له، وهؤلاء وافقوه في ذلك، لكن زعموا بأنه هو الله فكانوا أضل منه، وإن كان قوله هذا هو أظهر فسادا منهم، ولهذا جعلوا عبّاد(6/73)
الأصنام ما عبدوا إلا الله وقالوا لما كان فرعون في منصب التحكم صاحب السيف وإن جاز في العرف الناموس كذلك قال أنا ربكم الأعلى، أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منكم بما أُعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، قالوا ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله أقروا له بذلك، وقالوا إقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضى هذه الحياة الدنيا، قالوا فصحّ قول فرعون أنا ربكم الأعلى وكان فرعون عين الحق، ثم أنكروا حقيقة اليوم الآخر فجعلوا أهل النار يتنعمون كما يتنعم أهل الجنة، فصاروا كافرين بالله واليوم الآخر وبملائكته وكتبه ورسله مع دعواهم أنهم خلاصة خاصة الخاصة من أهل ولاية الله، وأنهم أفضل من الأنبياء، وأن الأنبياء إنما يعرفون الله من مشكاتهم، وليس هذا موضع بسط إلحاد هؤلاء، ولكن لما كان الكلام في أولياء الله والفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكان هؤلاء من أعظم الناس إدعاء لولاية الله، وهم من أعظم الناس ولاية للشيطان، نبهنا على ذلك. ([63]) ولهذا عامة كلامهم إنما هو في الحالات الشيطانية، ويقولون ما قاله صاحب الفتوحات باب أرض الحقيقة، ويقولون هي أرض الخيال، فتعرف بأن الحقيقة التي يتكلم فيها هي خيال، ومحل تصرف الشيطان، فإن الشيطان يخيل للإنسان الأمور بخلاف ما هي عليه، قال تعالى ?وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36)وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(37)حَتَّى إذا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ(38)وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ?[الزخرف:36-39]، وقال تعالى ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا(6/74)
بَعِيدًا? إلى قوله ?يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا?[النساء:116-120]، وقال تعالى ?وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ?[إبراهيم:22]، وقال تعالى ?وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ?[الأنفال:48].(6/75)
وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أنه رأى جبريل يَزَعُ الملائكة، والشياطين إذا رأت ملائكة الله التي يؤيِّد بها عباده هربت منهم، والله يؤيد عباده المؤمنين بملائكته، قال تعالى ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا?[الأنفال:12]، وقال تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا?[الأحزاب:9]، وقال تعالى ?إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا?[التوبة:40]، وقال تعالى ?إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ(124)بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ?[آل عمران:124-125]، وهؤلاء تأتيهم أرواح تخاطبهم وتتمثل لهم وهي جن وشياطين فيظنونها ملائكة كالأرواح التي تخاطب من يعبد الكواكب والأصنام.(6/76)
وكان من أول ما ظهر من هؤلاء في الإسلام المختار بن أبي عبيد الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «سيكون في ثقيف كذاب ومبير» وكان الكذاب المختار بن أبي عبيد، والمبير الحجاج بن يوسف، فقيل لابن عمر وابن عباس أن المختار يزعم أنه ينزل إليه، فقالا صدق قال الله تعالى ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ?[الشعراء:221-222]، وقال الآخر وقيل له إن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال قال الله تعالى ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121]، وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب الفتوحات أنه أَلقى إليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أنواعا من الخلوات بطعام معين وشيء معين، وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالا بالجن والشياطين فيظنون ذلك من كرامات الأولياء، وإنما هو من الأحوال الشيطانية وأعرف من هؤلاء عددا ومنهم من كان يحمل في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كانت يؤتى بمال مسروق تسرقه الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السرقات بجُعل يحصل له من الناس أو بعطاء يعطونه إذا دلّهم على سرقاتهم، ونحو ذلك.(6/77)
ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية كانوا مناقضين للرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، كما يوجد في كلام صاحب الفتوحات المكية والفصوص وأشباه ذلك يمدح الكفار مثل قوم نوح وهود وفرعون وغيرهم، ويتنقص الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وهارون، ويذم شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين كالجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التستري، وأمثالهما، ويمدح المذمومين عند المسلمين كالحلاج ونحوه، كما ذكره في تجلياته الخيالية الشيطانية، فإن الجنيد قدس اللهُ روحه كان من أئمة الهدى، فسئل عن التوحيد فقال التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن تميز بين القديم والمحدث، وبين الخالق والمخلوق، وصاحب الفصوص أنكر هذا وقال في مخاطبته الخيالية الشيطانية له يا جنيد هل يميز بين المحدث والقديم إلا من يكون غيرهما، فخطّأ الجنيد في قوله إفراد الحدوث عن القدم؛ لأن قوله هو أن وجود المحدث هو عين وجود القديم كما قال في فصوصه: ومن أسمائه الحسنى العلي على من؟ وما ثم إلا هو، وعن ماذا؟ وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، وهو عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاته، وليست إلا هو. إلى أن قال: هو عين ما بطن، وهو عين ما ظهر، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من ينطق عنه سواه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز!!! وغير ذلك من الأسماء المحدثات.(6/78)
فيقال لهذا الملحد ليس من شرط المميز بين الشيئين بالعلم والقول أن يكون ثالثا غيرهما، فإن كل واحد من الناس يميز بين نفسه وغيره، وليس هو ثالث، فالعبد يعرف أنه عبد ويميز بين نفسه وبين خالقه، والخالق جل جلاله يميز بين نفسه وبين مخلوقاته، ويعلم أنه ربهم وأنهم عباده، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، والاستشهاد بالقرآن عند المؤمنين الذين يقرون به باطنا وظاهرا، وأما هؤلاء الملاحدة فيزعمون ما كان يزعمه التلمساني منهم، وهو أحذقهم في إتحادهم لما قرىء عليه الفصوص فقيل له القرآن يخالف فصوصكم، فقال القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، فقيل له فإذا كان الوجود واحدا فلم كانت الزوجة حلالا والأخت حراما، فقال الكل عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم. وهذا مع كفره العظيم متناقض ظاهرا، فإن الوجود إذا كان واحدا، فمن المحجوب ومن الحاجب؟ ولهذا قال بعض شيوخهم لمريده من قال لك أن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له مريده فمن هو الذي يكذب؟ وقالوا لآخر هذه مظاهر، فقال لهم المظاهر غير الظاهر أم هي؟ فإن كانت غيرها فقد قلتم بالنسبة وإن كانت إياها فلا فرق. وقد بسطنا الكلام على كشف أسرار هؤلاء في موضع آخر وبينا حقيقة قول كل واحد منهم، وأن صاحب الفصوص يقول المعدوم شيء ووجود الحق فاض عليهما. فيُفرِّق بين الوجود والثبوت([64]) والمعتزلة الذين قالوا المعدوم شيء ثابت في الخارج مع ضلالهم خير منه فإن أولئك قالوا إن الرب خلق لهذه الأشياء الثابتة في العدم وجودا ليس هو وجود الرب، وهذا زعم أن عين وجود الرب فاض عليهما، فليس عنده وجود مخلوق مباين لوجود الخالق، وصاحبه الصدر القونوي يفرق بين المطلق والمعين لأنه كان أقرب إلى الفلسفة، فلم يقر بأن المعدوم شيء، لكن جعل الحق هو الوجود المطلق وصنَّف مفتاح غيب الجمع والوجود، وهذا القول أدخل في تعطيل الخالق وعدمه، فإن المطلق بشرط الإطلاق وهو الكلي(6/79)
العقلي لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، والمطلق لا بشرط وهو الكلي الطبيعي، وإن قيل أنه موجود في الخارج فلا يوجد في الخارج إلا معيَّنا، وهو جزء من المعين عند من يقول بثبوته في الخارج، فيلزم أن يكون وجود الرب إما منتفيا في الخارج، وإما أن يكون جزءا من وجود المخلوقات، وإما أن يكون عين وجود المخلوقات وهل يخلق الجزء الكل؟ أم يخلق الشيء نفسه؟ أم العدم يخلق الوجود؟ أو يكون يعض الشيء خالقا لجميعه؟ وهؤلاء يفرون من لفظ الحلول لأنه يقتضي حالاَّ ومحلاًّ، ومن لفظ الاتحاد لأنه يقتضي شيئين إتحد أحدهما بالآخر، وعندهم الوجود واحد ويقولون النصارى إنما كفروا لما خصصوا المسيح بأنه هو الله، ولو عمَّمُوا لما كفروا، وكذلك يقولون في عُبَّاد الأصنام إنما أخطأوا لما عبدوا بعض المظاهر دون بعض، فلو عبدوا الجميع لما أخطأوا عندهم، والعارف المحقق عندهم لا يضره عبادة الأصنام، وهذا مع ما فيه من الكفر العظيم، ففيه ما يلزمهم دائما من التناقض، لأنه يقال لهم فمن المخطىء؟ لكنهم يقولون إن الرب هو الموصوف بجميع النقائص التي يوصف بها المخلوق، ويقولون إن المخلوقات توصف بجميع الكمالات التي يوصف بها الخالق، ويقولون ما قاله صاحب الفصوص، فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفا أو عقلا أو شرعا، أو مذمومة عُرفا وعقلا وشرعا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة، وهم مع كفرهم هذا لا يندفع عنهم التناقض فإنه معلوم بالحسن والعقل أن هذا ليس هو ذاك، وهؤلاء يقولون ما كان يقوله التلمساني أنه ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل، ويقولون من أراد التحقيق يعنى تحقيقهم فليترك العقل والشرع. وقد قلت لمن خاطبته منهم، ومعلوم أن كشف الأنبياء أعظم، وأتم من كشف غيرهم، وخبرهم أصدق من خبر غيرهم، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يخبرون بما تعجز عقول الناس عن معرفته، لا بما(6/80)
يعرف الناس بعقولهم أنه ممتنع فيخبرون بمجارات العقول([65]) لا بمحالات العقول، ويمتنع أن يكون في أخبار الرسول ما يناقض صريح العقول، ويمتنع أن يتعارض دليلان قطعيان سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا، فكيف بمن ادعى كشفا يناقض صريح الشرع والعقل، وهؤلاء قد لا يتعمدون الكذب، لكن يخيل لهم أشياء تكون في نفوسهم ويظنونها في الخارج، وأشياء يرونها تكون موجودة في الخارج لكن يظنونها من كرامات الصالحين، وتكون من تلبيسات الشياطين، وهؤلاء الذين يقولون بالوحدة قد يقدمون الأولياء على الأنبياء، ويذكرون أن النبوة لم تنقطع، كما يُذكر عن ابن سبعين وغيره، ([66])ويجعلون المراتب ثلاثة يقولون العبد يشهد:
· أولا طاعة معصية.
· ثم طاعة بلا معصية.
· ثم لا طاعة ولا معصية.
والشهود الأول هو الشهود الصحيح، وهو الفرق بين الطاعات والمعاصي، وأما الشهود الثاني فيريدون به شهود القدر، كما أن بعض هؤلاء يقول إنا كافرون برب يعصى، وهذا يزعم أن المعصية مخالفة الإرادة التي هي المشيئة([67]) والخلق كلهم داخلون تحت حكم المشيئة ويقول شاعرهم:
أصبحت منفعلا لما تختاره مني ففعلي كله طاعات([68])(6/81)
ومعلوم أن هذا خلاف ما أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه فإن المعصية التي يستحق صاحبها الذم والعقاب مخالفة أمر الله ورسوله كما قال تعالى ?تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(13)وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ?[النساء:13-14]، وسنذكر الفرق بين الإرادة الكونية والدينية والأمر الكوني والديني، وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية فبينها الجنيد رحمه الله لهم، ومن اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل، لأنهم تكلموا في أن الأمور كلها بمشيئة الله وقدرته، وفي شهود هذا التوحيد وهذا يسمونه الجمع الأول، فبين لهم الجنيد أنه لابد من شهود الفرق الثاني، وهو أنه مع شهود كون الأشياء كلها مشتركة في مشيئة الله وقدرته وخَلقه يجب الفرق بين ما يأمر به ويحبه ويرضاه، وبين ما ينهى عنه ويكرهه ويسخطه، ويفرق بين أوليائه واعدائه، كما قال تعالى ?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ?[35-36]، وقال تعالى ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ?[ص:28]، وقال تعالى ?أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ?[الجاثية:21]، وقال تعالى ?وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ?[غافر:58]، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، ما(6/82)
شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا رب غيره، وهو مع ذلك أمر بالطاعة ونهى عن المعصية، وهو لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يأمر بالفحشاء، وإن كانت واقعة بمشيئته فهو لا يحبها ولا يرضاها، بل يبغضها ويذم أهلها ويعاقبهم. وأما المرتبة الثالثة أن لا يشهد طاعة ولا معصية فإنه يرى أن الوجود واحد، وعندهم أن هذا غاية التحقيق، والوَلاية لله، وهو في الحقيقة غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته وغاية العداوة لله. فإن صاحب هذا المشهد يتخذ اليهود والنصارى وسائر الكفار أولياء وقد قال تعالى ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، ولا يتبرأ من الشرك والأوثان فيخرج عن ملة ابراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه قال الله تعالى ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ?[الممتحنة:4]، وقال الخليل عليه السلام لقومه المشركين ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:75-77]، وقال تعالى ?لاَتَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أو أَبْنَاءَهُمْ أو إِخْوَانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ?[المجادلة:22]، وهؤلاء قد صنف بعضهم كتبا وقصائد على مذهبه مثل قصيدة ابن الفارض المسمات بنظم السلوك يقول فيها:
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت(6/83)
كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة
وماكان لي صلى سوائي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعة
إلى أن قال:
ومازلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي صلت
إلى رسولا كنت مني مرسلا وذاتي بآياتي على استدلت
فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن منادى أجابت من دعاني ولبت
إلى أمثال هذا الكلام، ولهذا كان هذا القائل عند الموت ينشد يقول:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمنا واليوم أحسبها اضغاث احلام
فإنه كان يظن أنه هو الله، فلما حضرت ملائكة الله لقبض روحه تبين له بطلان ما كان يظنه، وقال الله تعالى ?سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[الحديد:1] ([69]) فجميع ما في السموات والأرض يسبح لله ليس هو الله ثم قال تعالى ?لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(2)هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[الحديد:2-3].(6/84)
وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه «اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، إقض عنى الدَّين وأغنني من الفقر» ثم قال تعالى ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[الحديد:4]، فذكر أن السموات والأرض وفي موضع آخر وما بينهما مخلوق مسبح له، وأخبر سبحانه أنه يعلم كل شيء، ([70]) وأما قوله (وَهُوَ مَعَكُمْ) فلفظ مَعَ([71]) لا تقتضى في لغة العرب أو يكون أحد الشيئين مختلطا بالآخر كقوله تعالى ?اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ?[التوبة:119]، وقوله تعالى ?مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ?[الفتح:29]، وقوله تعالى ?وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ?[الأنفال:75]، ولفظ مَعَ جاءت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة في هذه الآية وفي آية المجادلة ?أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?[المجادلة:7]، فافتتح(6/85)
الكلام بالعلم وختمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل هو معهم بعلمه، وأما المعية الخاصة ففي قوله تعالى?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ?[النحل:128]، وقوله تعالى لموسى?إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى?[طه:47]، وقال تعالى ?إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا?[التوبة:40]، يعنى النبي- صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر - رضي الله عنه -، فهو مع موسى وهارون دون فرعون، ومع محمد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين، فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك وقوله تعالى ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]، أي هو إله من في السموات وإله من في الأرض كما قال الله تعالى ?وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?[الروم:27]، وكذلك قوله تعالى ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ?[الأنعام:3]، كما فسره أئمة العلم كالإمام أحمد وغيره أنه المعبود في السموات والأرض.(6/86)
وأجمع سلف الأمة وأئمتها على أن الرب تعالى بائن من مخلوقاته، يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، يوصف بصفات الكمال دون صفات النقص، ويعلم أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال، كما قال الله تعالى ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)?[الإخلاص]، قال ابن عباس الصمد العليم الذي كمل في علمه، العظيم الذي كمل في عظمته، القدير الكامل في قدرته، الحكيم الكامل في حكمته، السيد الكامل في سؤدده، وقال ابن مسعود وغيره هو الذي لا جوف له، والأحد الذي لا نظير له، فاسمه الصمد يتضمن اتصافه بصفات الكمال ونفي النقائص عنه، واسمه الأحد يتضمن إتصافه بأنه لا مثل له، وقد بسطنا الكلام على ذلك في تفسير هذه السورة وفي كونها تعدل ثلث القرآن. ([72])
فصل(6/87)
وكثير من الناس تشتبه عليهم الحقائق الأمرية الدينية الإيمانية بالحقائق الخلقية القدرية الكونية، فإن الله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر، كما قال تعالى ?إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ?[الأعراف:54]، فهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه لا خالق غيره، ولا رب سواه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما في الوجود من حركة وسكون فبقضائه وقدره ومشيئته وقدرته وخلقه، وهو سبحانه أمر بطاعته وطاعة رسله، ونهى عن معصيته ومعصية رسله، أمر بالتوحيد والإخلاص، ونهى عن الإشراك بالله، فأعظم الحسنات التوحيد، وأعظم السيئات الشرك، قال الله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48]، وقال تعالى ?وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ?[البقرة:165].(6/88)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قلت: ثم أي؟ قال «أن تزني بحليلة جارك» فأنزل الله تصديق ذلك ?وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69)إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[الفرقان:68-70]، وأمر سبحانه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وأخبر أنه يحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، وهو يكره ما نهى عنه، كما قال في سورة سبحان ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?[الإسراء:38]، وقد نهى عن الشرك وعقوق الوالدين، وأمر بإيتاء ذي القربى الحقوق، ونهى عن التبذير وعن التقتير، وأن يجعل يده مغلولة إلى عنقه، وأن يبسطها كل البسط، ونهى عن قتل النفس بغير الحق، وعن الزنا، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتى هي أحسن، إلى أن قال ?كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا?[الإسراء:38]، وهو سبحانه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، والعبد مأمور أن يتوب إلى الله تعالى دائما، قال الله تعالى ?وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[النور:31].(6/89)
وفي صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالذي نفسى بيده إني للأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» وفي صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة».
وفي السنن عن ابن عمر قال كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد يقول «رب إغفر لي وتب علي إنك أنت التّوّاب الرحيم» مائة مرة أو قال أكثر من مائة مرة. وقد أمر الله سبحانه عباده أن يختموا الأعمال الصالحات بالاستغفار، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من الصلاة يستغفر ثلاثا ويقول «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والاكرام»، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه وقد قال تعالى ?وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ?[آل عمران:17] فأمرهم أن يقوموا بالليل ويستغفروا بالأسحار، وكذلك ختم سورة المزمل وهي سورة قيام الليل بقوله تعالى ?وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[المزمل:17]، وكذلك قال في الحج([73])?فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ(198)ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ?[البقرة:198-199] بل أنزل سبحانه وتعالى في آخر الأمر لما غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك وهي آخر غزواته ?لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(117)وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ(6/90)
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ?[التوبة:117-118]، وهي آخر ما نزل من القرآن، وقد قيل إن آخر سورة نزلت قوله تعالى ?إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1)وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2)فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)?[النصر]، فأمره الله تعالى أن يختم عمله بالتسبيح والاستغفار.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم إغفر لي يتأول القرآن».
وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول «اللهم إغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، لا إله إلا أنت».
وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال «قل اللهم إني ظلمت نفسى ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وإرحمني إنك أنت الغفور الرحيم».([74])(6/91)
وفي السنن عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال «قل اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم، قله إذا أصبحت وإذا أمسيت، وإذا أخذت مضجعك»، فليس لأحد أن يظن استغناءه عن التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب بل كل أحد محتاج إلى ذلك دائما قال الله تبارك وتعالى ?وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا?[الأحزاب:72-73]، فالإنسان ظالم جاهل وغاية المؤمنين والمؤمنات التوبة.(6/92)
وقد أخبر الله تعالى في كتابه بتوبة عباده الصالحين ومغفرته لهم، وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال«لن يدخل الجنة أحد بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل» وهذا لا ينافي قوله تعالى ?كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ?[الحاقة:24]، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفى باء المقابلة والمعادلة، والقرآن أثبت باء السبب، وقول من قال إذا أحب الله عبدا لم تضره الذنوب، معناه أنه إذا أحب عبدا ألهمه التوبة والاستغفار، فلم يصر على الذنوب، ومن ظن أن الذنوب لا تضر من أصر عليها فهو ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره، وإنما عباده الممدوحين هم المذكورون في قوله تعالى ?سَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)وَالَّذِينَ إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ?[آل عمران:133-135]، ومن ظن أن القدر حجة لأهل الذنوب فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم ?سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ? قال الله تعالى رادّا عليهم ?كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ(6/93)
أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ(148)قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ?[الأنعام:148-149]، ولو كان القدر حجة لأحد لم يعذب الله المكذبين للرسل كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات وقوم فرعون، ولم يأمر بإقامة الحدود على المعتدين، ولا يحتج أحد بالقدر إلا إذا كان متبعا لهواه بغير هدى من الله، ومن رأى القدر حجة لأهل الذنوب يرفع عنهم الذم والعقاب، فعليه أن لا يذم أحدا ولا يعاقبه إذا إعتدى عليه، بل يستوى عنده ما يوجب اللذة وما يوجب الألم، فلا يفرق بين من يفعل معه خيرا وبين من يفعل معه شرا، وهذا ممتنع طبعا وعقلا وشرعا، وقد قال تعالى ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ?[ص:28]، وقال تعالى ?أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ?[القلم:35]، وقال تعالى?أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ?[الجاثية:21]، وقال تعالى?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ?[المؤمنون:115]،وقال تعالى?أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى?[القيامة:36]أي مهملا لا يُؤمر ولا يُنهى.(6/94)
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «احتج آدم وموسى، قال موسى: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، أخرجتنا ونفسك من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده، فبكم وجدت مكتوبا على قبل أن أخلق، وعصى آدم ربه فغوى. قال: بأربعين سنة. قال: فلم تلومني على أمر قدره الله على قبل أن أخلق بأربعين سنة. قال: فحجّ آدم موسى أي غلبه بالحجة»، وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان؛ طائفة كذبت به لما ظنوا انه يقتضى رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر، وطائفة شرّ من هؤلاء جعلوه حجة، وقد يقولون القدرحجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلا، ومن الناس من قال إنما حج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه كان قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الأخرى، وكل هذا باطل ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام لم يلم أباه إلا لأجل المصيبة التي لحقتهم من أجل أكله من الشجرة، فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة. ولم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنبا وتاب منه، فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب منه أيضا، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل ?رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ?[الأعراف:23]، والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ?[غافر:55]، فأمره بالصبر على المصائب والاستغفار من المعائب، وقال تعالى ?مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ?[التغابن:11]، قال ابن مسعود([75]) هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله(6/95)
فيرضى ويسلم. فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبة مثل المرض والفقر والذل صبروا لحكم الله، وإن كان ذلك بسبب ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي، فافتقر أولاده لذلك، فعليهم أن يصبروا لما أصابهم وإذا لاموا الأب لحظوظهم ذكر لهم القدر، والصبر واجب باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله، والرضا قد قيل أنه واجب وقيل هو مستحب، وهو الصحيح، وأعلى من ذلك أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها، حيث جعلها سببا لتكفير خطاياه، ورفع درجاته، وإنابته إلى الله، وتضرعه إليه، وإخلاصه له في التوكل عليه ورجائه، دون المخلوقين، ([76]) وأما أهل البغي والضلال فتجدهم يحتجون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويضيفون الحسنات إلى أنفسهم إذا أنعم عليهم بها، كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به، وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنة شهدوا إنعام الله عليهم بها، وأنه هو الذي أنعم عليهم، وجعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة، وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قوة إلا به، فزال عنهم بشهود القدر العجب والمن والأذى، وإذا فعلوا سيئة استغفروا الله وتابوا إليه منها.
ففي صحيح البخاري عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، أبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة».(6/96)
وفي الحديث الصحيح عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، ياعبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أَكسكم، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإنسكم وجِنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».(6/97)
فأمر سبحانه بحمد الله على ما يجده العبد من خير، وأنه إذا وجد شرا فلا يلومن إلا نفسه، وكثير من الناس يتكلم بلسان الحقيقة ولا يفرق بين الحقيقة الكونية القدرية المتعلقة بخلقه ومشيئته، وبين الحقيقة الدينية الأمرية المتعلقة برضاه ومحبته، ولا يفرق بين من يقوم بالحقيقة الدينية موافقا لما أمر الله به على ألسن رسله، وبين من يقوم بوجده وذوقه غير معتبر ذلك بالكتاب والسنة، كما أن لفظ الشريعة يتكلم به كثير من الناس، ولا يفرق بين الشرع المنزل من عند الله تعالى، وهو الكتاب والسنة الذي بعث الله به رسوله فإن هذا الشرع ليس لأحد من الخلق الخروج عنه، ولا يخرج عنه إلا كافر، وبين الشرع الذي هو حكم الحاكم، فالحاكم تارة يصيب وتارة يخطىء، هذا إذا كان عالما عادلا، وإلا ففي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «القضاة ثلاثة؛ قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق فقضى بغيره فهو في النار» وأفضل القضاة العالمين العادلين سيد ولد آدم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمنقضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار» قد أخبر سيد الخلق أنه إذا قضى بشيء مما سمعه وكان في الباطن بخلاف ذلك، لم يجزْ للمقضى له أن يأخذ ما قضى به له، وأنه إنما يقطع له به قطعة من النار، وهذا متفق عليه بين العلماء في الأملاك المطلقة إذا حكم الحاكم بما ظنه حجة شرعية كالبيِّنة والاقرار، وكان الباطن بخلاف الظاهر لم يجز للمقضى له أن يأخذ ما قُضي به له بالاتفاق، وإن حكم في العقود والفسوخ بمثل ذلك، فأكثر العلماء يقول أن الأمر كذلك، وهو مذهب مالك والشافعى وأحمد بن حنبل، وفرّق أبو حنيفة - رضي الله عنه - بين النوعين، فلفظ الشرع(6/98)
والشريعة إذا أُريد به الكتاب والسنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا لغيرهم أن يخرج عنه([77])، ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقا إلى الله غير متابعة محمد - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا فلم يتابعه باطنا وظاهرا فهو كافر، ([78]) ومن احتج في ذلك بقصة موسى مع الخَضِر كان غالطا من وجهين، أحدهما أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثا إلى بني إسرائيل، وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس، ولوأدركه من هو أفضل من الخضر كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم إتباعه، فكيف بالخضر سواء كان نبيا أو وليا، ولهذا قال الخضر لموسى أنا على علم من علم الله علَّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقول مثل هذا. ([79])
الثاني أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفا لشريعة موسى عليه السلام، وموسى لم يكن عَلِمَ الأسباب التي تبيح ذلك فلما بينها له وافقه على ذلك، فإن خرق السفينة ثم ترقيعها لمصلحة أهلها خوفا من الظالم أن يأخذها إحسان إليهم، وذلك جائز، وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرا، ومن كان تكفيره لأبويه لا يندفع إلا بقتله جاز قتله، قال ابن عباس رضي الله عنهما لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان قال له: إن كنت علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم. رواه البخاري. وأما الإحسان إلى اليتيم بلا عوض والصبر عل الجوع، فهذا من صالح الأعمال فلم يكن في ذلك شيءمخالفا شرع الله.(6/99)
وأما إذا أريد بالشرع حكم الحاكم فقد يكون ظالما، وقد يكون عادلا، وقد يكون صوابا، وقد يكون خطأ، وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه كأبي حنيفة والثوري ومالك بن أنس والأوزاعى والليث بسعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم، فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة، وإذا قلد غيره حيث يجوز ذلك كان جائزا أي ليس اتباع أحدهم واجبا على جميع الأمة، كاتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحرم تقليد أحدهم كما يحرم اتباع من يتكلم بغير علم، وأما إن أضاف أحد إلى الشريعة ما ليس منها من أحاديث مفتراة، أو تأول النصوص بخلاف مراد الله، ونحو ذلك، فلهذا من نوع التبديل، فيجب الفرق بين الشرع المنزل، والشرع المؤول، والشرع المبدل، كما يُفرّق بين الحقيقة الكونية، والحقيقة الدينية الأمرية، وبين ما يستدل عليها بالكتاب والسنة، وبين ما يُكتفي فيها بذوق صاحبها ووجده. ([80])
فصل(6/100)
وقد ذكر الله في كتابه الفرق بين الارادة والأمر، والقضاء والإذن، والتحريم والبعث، والارسال والكلام، والجعل، وبين الكوني الذي خلقه وقدره وقضاه، وإن كان لم يأمر به ولا يحبه ولا يثبت أصحابه ولا يجعلهم من أوليائه المتقين، وبين الديني الذي أمر به وشرعه وأثاب عليه وأكرمهم وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين، وهذا من أعظم الفروق التي يفرق بها بين أولياء الله وأعدائه، فمن استعمله الرب سبحانه وتعالى فيما يحبه ويرضاه ومات على ذلك كان من أوليائه، ومن كان عمله فيما يبغضه الرب ويكرهه ومات على ذلك كان من أعدائه، فالارادة الكونية هي مشيئته لما خلقه، وجميع المخلوقات داخلة في مشيئته وارادته الكونية، ([81]) والارادة الدينية هي المتضمنة لمحبته ورضاه، المتناولة لما أمر به، وجعله شرعا ودينا، وهذه مختصة بالإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى ?فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ?[الأنعام:125]، وقال نوح عليه السلام لقومه ?وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ?[هود:34]، وقال تعالى ?وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ?[الرعد:11]، وقال تعالى في الثانية ?وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ([82])يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ?[البقرة:185]، وقال في آية الطهارة ?مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ?[المائدة:6]، ولما ذكر ما أحله وما حرمه من النكاح، قال(6/101)
?يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(26)وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا(27)يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا?[النساء:26-28]، وقال لما ذكر ما أمر به أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وما نهاهم عنه ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا?[الأحزاب:33]، والمعنى انه أمركم بما يذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، فمن أطاع أمره كان مطهرا قد أُذهب عنه الرجس، بخلاف من عصاه، وأما الأمر فقال في الأمر الكوني ?إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?[النحل:40]، وقال تعالى ?وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ?[القمر:50]، وقال تعالى ?أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أو نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ?[يونس:24]، وأما الأمر الديني فقال تعالى?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ?[النحل:90]، وقال تعالى ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا?[النساء:58]، وأما الإذن فقال في الكوني لما ذكر السحر ?وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ?[البقرة:102] أي بمشيئته وقدرته، وإلا فالسحر لم يبحه الله عز وجل، وقال في الإذن الديني(6/102)
?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ?[الشورى:21]، وقال تعالى ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45)وَدَاعِيًا إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ?[الأحزاب:45-46]، وقال تعالى ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ?[النساء:64]، ([83]) وقال تعالى ?مَا قطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ?[الحشر:5]، وأما القضاء فقال في الكوني ?فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ?[فصلت:12]، وقال سبحانه ?إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?([84]) وقال في الديني ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[الإسراء:23]، أي أمر وليس المراد به قدر ذلك فإنه قد عبد غيره كما أخبر في غير موضع كقوله تعالى ?وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ?[يونس:18]، وقول الخليل عليه السلام لقومه ?أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75)أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْأَقْدَمُونَ(76)فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ?[الشعراء:75-77]، وقال تعالى ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ?[الممتحنة:4]، وقال تعالى ?قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا(6/103)
أَعْبُدُ(3)وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ(4)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6)?[الكافرون]، وهذه كلمة تقتضى براءته من دينهم ولا تقتضى رضاه بذلك، كما قال تعالى في الآية الآخرى ?وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ?[يونس:41]، ومن ظن من الملاحدة أنّ هذا رضا منه بدين الكفار فهو من أكذب الناس وأكفرهم، كمن ظن أن قوله ?وَقَضَى رَبُّكَ?[الإسراء:23] بمعنى قدّر، وأن الله سبحانه ما قضى بشيء إلا وقع، وجعل عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب، ([85]) وأما لفظ البعث فقال تعالى في البعث الكوني ?فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا?[الإسراء:5]، وقال في البعث الديني ?هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ?[الجمعة:2]، قال تعالى ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، وأما لفظ الإرسال فقال في الإرسال الكوني ?أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا?[مريم:83]، وقال تعالى ?وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ?[الفرقان:48]، وقال في الديني ?إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا?[الأحزاب:45]، وقال تعالى ?إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ?[نوح:1]، وقال تعالى ?إنَّاأَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا?[المزمل:15]،(6/104)
وقال تعالى ?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ?[الحج:75]، وأما لفظ الجعل فقال في الكوني ?وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النَّارِ?[القصص:41]، وقال في الديني ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48]، وقال تعالى ?مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ?[المائدة:103]، وأما لفظ التحريم فقال في الكوني ?وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ?[القصص:12]، وقال تعالى ?قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ?[المائدة:26]، وقال في الديني ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ?[المائدة:3]، وقال تعالى ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ?[النساء:23]الآية، وأما لفظ الكلمات فقال في الكلمات الكونية ?وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ?[التحريم:12].(6/105)
وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول «أعوذ بكلمات الله التامة، كلها من شر ما خلق ومن غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون»، وقال - صلى الله عليه وسلم - «من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرَّه([86]) شيء حتى يرتحل من منزله ذلك»، وكان يقول «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يارحمن» وكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر هي التي كون بها الكائنات، فلا يخرج بر ولا فاجر عن تكوينه ومشيئته وقدرته، وأما كلماته الدينية وهي كتبه المنزلة وما فيها من أمره ونهيه فأطاعها الأبرار وعصاها الفجار، وأولياء الله المتقون هم المطيعون لكلماته الدينية وجعله الديني وإذنه الديني وإرادته الدينية، وأما كلماته الكونية إلى لا يجاوزها بر ولا فاجر فانه يدخل تحتها جميع الخلق حتى إبليس وجنوده وجميع الكفار وسائر من يدخل النار، فالخلق وإن اجتمعوا في شمول الخلق والمشيئة والقدرة والقدر لهم فقد افترقوا في الأمر والنهي والمحبة والرضا والغضب، وأولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور، وتركوا المحظور، وصبروا على المقدور، فأحبهم وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه، وأعداؤه أولياء الشياطين وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم، ويغضب عليهم، ويلعنهم، ويعاديهم، وبسط هذه الجمل له موضع آخر، وإنما كتبت هنا تنبيها على مجامع الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجِمَاعُ([87]) الفرق بينهما اعتبارهم بموافقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه هو الذي فرق الله تعالى به بين أوليائه السعداء وأعدائه الأشقياء، وبين أوليائه أهل الجنة وأعدائه أهل النار، وبين أوليائه أهل الهدى والرشاد وبين أعدائه أهل الغي والضلال والفساد، وأعدائه حزب الشيطان،(6/106)
وأوليائه الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأايدهم بروح منه، قال تعالى ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ?[المجادلة:22]الآية، وقال تعالى ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ?[الأنفال:12]، وقال ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ?[الأنعام:121]، وقال ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا?[الأنعام:112]، وقال ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222)يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ(224)أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(225)وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ(226)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ?[الشعراء:221-227]، وقال تعالى ?فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ(38)وَمَا لَا تُبْصِرُونَ(39)إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ(41)وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ(42)تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(43)وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44)لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ(6/107)
حَاجِزِينَ(47)وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(48)وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ(49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ(50)وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ(51)فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ?[الحاقة:38-52]، وقال تعالى ?فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ?[الطور:29] إلى قوله ?إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ?[الطور:34]، فنزه سبحانه وتعالى نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - عمن تقترن به الشياطين من الكهان والشعراء والمجانين، وبيّن أن الذي جاءه بالقرآن ملك كريم اصطفاه، قال الله تعالى ?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ?[الحج:75]، وقال تعالى ?وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192)نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193)عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ(194)بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ?[الشعراء:192-195]، وقال تعالى ?قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ?[البقرة:97]الآية، وقال تعالى ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ?[النحل:98] إلى قول ?وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ?[النحل:102]، فسمّاه الروح الأمين وسماه روح القدس وقال تعالى ?فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ(15)الْجَوَارِي الْكُنَّسِ?[التكوير:15-16] يعنى الكواكب التي تكون في السماء خانسة أي مختفية قبل طلوعها، فإذا ظهرت رآها الناس جارية في السماء، فإذا غربت ذهبت إلى كناسها الذي يحجبها، ?وَاللَّيْلِ إذا عَسْعَسَ?[التكوير:17] أي إذا أدبر وأقبل الصبح ?وَالصُّبْحِ إذا تَنَفَّسَ?[التكوير:18] أي أقبل، ?إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ?[التكوير:19] وهو جبريل عليه السلام ?ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20)مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ?[التكوير:20-21] أي مطاع(6/108)
في السماء أمين، ثم قال ?وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ?[التكوير:22] أي صاحبكم الذي منَّ الله عليكم به إذ بعثه إليكم رسولا من جنسكم يصحبكم إذْ كنتم لا تطيقون أن تروا الملائكة كما قال تعالى ?وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ(8)وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا?[الأنعام:8-9] الآية وقال تعالى ?وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ?[التكوير:23] أي رأى جبريل عليه السلام ?وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ?[التكوير:24] أي بِمُتَّهَم، وفي القراءة الاخرى ?بضنين? أي ببخيل يكتم العلم ولا يبذله إلا بجُعل كما يفعل من يكتم العلم إلا بالعوض ?وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ?[التكوير:25]، فنزه جبريل عليه السلام عن أن يكون شيطانا كما نزه محمدا - صلى الله عليه وسلم - عن أن يكون شاعرا أو كاهنا.(6/109)
فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بيّن لهم أن يتبعوه فيه، فيؤيدهم بملائكته وروح منه، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين، وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين، كما كانت معجزات نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، كذلك. وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل انشقاق القمر، وتسبيح الحصى في كفه، وإتيان الشجر إليه، وحنين الجذع إليه، وإخباره ليلة المعراج بصفة بيت المقدس، وإخباره بما كان وما يكون، وإتيانه بالكتاب العزيز، وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة، كما أشبع في الخندق العسكر من قِدْر طعام وهو لم ينقص؛ في حديث أم سلمة المشهور، وأروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص، وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص، وهم نحو ثلاثين ألفا، ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفى الناس الذين كانوا معه، كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة، ورده لعين قتادة حين سالت على خده فرجعت أحسن عينيه، ولما أرسل محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف فوقع وانكسرت رجله فمسحها فبرئت، وأطعم من شواء مائة وثلاثين رجلا كلا منهم حز له قطعة وجعل منها قصعتين، فأكلوا منها جميعُهم، ثم فضل فضلة، ودين عبد الله أبي جابر لليهودي وهو ثلاثون وسقا، قال جابر فأمر صاحب الدين أن يأخذ التمر جميعه بالذي كان له فلم يقبل فمشى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال لجابر جُدَّ له فوفاه الثلاثين وسقا وفضل سبعة عشر وسقا، ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة.(6/110)
وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدا، مثل ما كان أسيد بن حضير يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته.
وكانت الملائكة تسلم على عِمْران بن حُصَيْن، وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها، وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط، فلما افترقا افترق الضوء معهما. رواه البخارى وغيره.
وقصة الصديق في الصحيحين؛ لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة إلا ربى من أسفلها أكثر منها فشبعوا، وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت فرفعها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا.
وخبيب بن عدي كان أسيرا عند المشركين بمكة شرّفها الله تعالى وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة.
وعامر بن فهيرة قُتل شهيدا فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه، وكان لما قتل رُفع، فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، وقال عروة فَيَرَوْن الملائكة رفعته.
وخرجت أم أيمن مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حسا على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت، وما عطشت بقية عمرها.
وسفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده.
والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله تعالى أبرّ قسمه، وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون يا براء أقسم على ربك فيقول: يا رب أقسمت عليك لمَاَّ([88]) منحتنا أكتافهم فيهزم العدو، فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك يا رب لمََّا منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدا.(6/111)
وخالد بن الوليد حاصر حصنا منيعا، فقالوا لا نسلم حتى تشرب السّم فشربه فلم يضره. وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له([89]) وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق، وعمر بن الخطاب لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمّى سارية، فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر يا سارية الجبل يا سارية الجبل، الجبل، ([90]) فقدم رسول الجيش فسأل فقال يا أمير المؤمنين لقينا عدوا فهزمونا فإذا بصائح يا سارية الجبل يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله.
ولما عذبت الزَّنِيرَة على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها. قال المشركون أصاب بصرَها اللاتُ والعزى قالت: كلا والله. فردّ الله عليها بصرها.
ودعا سعيد بن زيد على أروى بنت الحكم فأعمى بصرها لما كذبت عليه، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها. فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت.
والعلاء بن الحضرمي كان عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البحرين، وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم، يا عليّ يا عظيم. فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عُدموا الماء والاسقاء لما بعدهم، فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم، ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات فلم يجدوه في اللحد.(6/112)
وجرى مثل ذلك لأبي مسلم الخولاني الذي أُلقي في النار فإنه مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمى بالخشب من مدها، ثم إلتفت إلى أصحابه فقال تفقدون من متاعكم شيئا حتى ادعوا الله عز وجل فيه، فقال بعضهم فقدت مخلاة، فقال اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها، وطلبه الأسود العنسي لما دعى النبوة فقال له أتشهد أني رسول الله؟ قال ما أسمع، قال أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال نعم فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها، وقد صارت عليه بردا وسلاما، وقدِم المدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وقال الحمد الله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من فُعل به كما فُعل بإبراهيم خليل الله، ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره، ([91]) وخببت إمرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت، وجاءت وتابت فدعا لها فرد الله عليها بصرها.
وكان عامر بن عبد قيس يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه، ومايلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجيء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها، ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد ثم وضع رجله على عنقه. وقال إنما أنت كلب من كلاب الرحمن، وإنى استحي أن أخاف شيئا غيره، ومرت القافلة، ودعا الله تعالى أن يهوّن عليه الطهور في الشتاء فكان يؤتى بالماء له بخار، ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه.(6/113)
وتغيب الحسن البصرى عن الحجاج فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله عز وجل فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتا، وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو، فقال اللهم لا تجعل لمخلوق علي مِنَّةً، ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته قال يا بني خذ سرج الفرس فإنه عارية، فأخذ سرجه فمات الفرس، وجاع مرة بالأهواز فدعا الله عز وجل واستطعمه فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير، فأكل التمر وبقي الثوب عند زوجته زمانا، وجاءه الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل، فلما سلم قال له أطلب الرزق من غير هذا الموضع، فولى الأسد وله زئير، وكان سعيد بن المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوقات الصلوات، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره. ورجل من النخع كان له حمار فمات في الطريق، فقال له أصحابه هلم نتوزع متاعك على رحالنا، فقال لهم أمهلوني هنيهة ثم توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فأحيا له حماره، فحمل عليه متاعه. ولما مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكفانا لم تكن معه قبل، ووجدوا له قبرا محفورا فيه لحد في صخرة فدفنوه فيه، وكفنوه في تلك الاثواب.
وكان عمرو بن عقبة بن فرقد يصلي يوما في شدة الحر فأظلته غمامة، وكان السّبع يحميه، وهو يرعى ركاب أصحابه، لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه يخدمهم.
وكان مطرف بن عبد الله بن الشخّير إذا دخل بيته سبّحت معه آنيته، وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط. ولما مات الأحنف بن قيس وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى ليأخذها فوجد القبر قد فسح فيه مد البصر.
وكان إبراهيم التيمي يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئا، وخرج يمتار لأهله طعاما فلم يقدر عليه، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله ففتحها فإذا هي حنطة حمراء، فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا.(6/114)
وكان عتبة الغلام سأل ربه ثلاث خصال؛ صوتا حسنا، ودمعا غزيرا، وطعاما من غير تكلف، فكان إذا قرأ بكى وأبكى ودموعه جارية دهره، وكان يأوى إلى منزله فيصيب فيه قوته ولا يدرى من أين يأتيه.
وكان عبد الواحد بن زيد أصابه الفالج فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء، فكان وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ثم تعود بعده.
وهذا باب واسع قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، ([92])وأما ما نعرفه نحن عيانا، ونعرفه في هذا الزمان فكثير.(6/115)
ومما ينبغى أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا إحتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوى إيمانه ويسدّ حاجته، ويكون من هو أكملُ وَلاية لله منه مستغنيا([93]) عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته، وغناه عنها لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يُجري على يديه الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة، وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية([94]) مثل حال عبد الله بن صياد الذي ظهر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال، وتوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من جنس الكهان، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «قد خبأت لك خَبْأ» قال: الدخ الدخ، وقد كان خبأ له سورة الدخان، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «إخسأ فلن تعدو قدرك» يعنى إنما أنت من إخوان الكهان، والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال « إِنّ الملائكةَ تنزلُ في العَنان -وهو السحابُ- فتذكر الأمرَ قُضيَ في السماءَ, فتَسْترقُ الشياطين السمعَ فتوحيه إِلى الكُهّانِ, فيَكذبونَ منها مائةِ كذبةٍ من عندِ أنفُسِهم».(6/116)
وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه» قالوا كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «فَإِنّهَا لاَ يُرْمَىَ بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ. وَلَكِنْ رَبّنَا, تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ إِذَا قَضَىَ أَمْراً سَبّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ. ثُمّ سَبّحَ أَهْلُ السّمَاءِ الّذِينَ يَلُونَهُمْ. ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتّىَ يَبْلُغَ التّسْبِيحُ أَهْلَ هََذِهِ السّمَاءِ. ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش: مَاذَا قَالَ رَبُّنا؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ ثم يُسْتَخْبِرُ أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا، وتخطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون».
وفي رواية قال معمر قلت للزهري أكان يرمي بها في الجاهلية قال نعم، ولكنها غلظت حين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -.([95])
والأسود العنسي الذي إدّعى النبوة كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة، فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه، حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه.
وكذلك مسيلمة الكذاب وكان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات، ويعينه على بعض الأمور.(6/117)
وأمثال هؤلاء كثيرون مثل الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان، وادعى النبوة، وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد، وتمنع السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده، وكان يرى الناس رجالا وركبانا على خيل في الهواء، ويقول هي الملائكة وإنما كانوا جِنًّا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه، فقال له عبد الملك إنك لم تسم الله، فسمّى الله فطعنه فقتله.
وهكذا أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل آية الكرسي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - لما وكله النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة وهو يمسكه فيتوب فيطلقه فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما فعل أسيرك البارحة» فيقول زعم أنه لا يعود، فيقول «كذبك وإنه سيعود» فلما كان في المرة الثالثة، قال دعني حتى أعلمك ما ينفعك إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ?اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ?[البقرة:255] إلى آخرها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «صدقك وهو كذوب» وأخبره أنه شيطان، ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها، مثل من يدخل النار بحال شيطاني أو يحضر سماع المكاء والتصدية فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلاما لا يعلم وربما لا يفقه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع، والإنسان الذي حصل له الحال لا يدري بذلك بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس، ولَبِسَهُ وتكلم على لسانه فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال. ولهذا قد يضرب المصروع وذلك الضرب لا يؤثر في الإنسي، ويخبر إذا أفاق أنه لم يشعر بشيء لأن(6/118)
الضرب كان على الجني الذي لبسه. ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجا شرعيا، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يلبي، ولا يقف بمزدلفة، ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة، ولا يرمى الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته، وهذا ليس بحج مشروع باتفاق المسلمين، وكمن يأتي الجمعة ويصلي بغير وضوء إلى غير قبلة، وهم هؤلاء المحمولين مرة إلى عرفات، ورجع فرأى ملائكة تكتب الحجاج، فقال ألا تكتبوني، فقالوا لست من الحجاج يعنى لم تحجّ حجًّا شرعيا.(6/119)
وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة، منها أن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى، والأحوالُ الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله، وقد قال تعالى ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ?[الأعراف:33]، فالقول على الله بغير علم، والشرك، والظلم، والفواحش، قد حرّمها الله تعالى ورسوله، فلا تكون سببا لكرامة الله تعالى ولا يُستعان بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، بل تحصل بما يحبه الشيطان وبالأمور التي فيها شرك كالاستغاثة بالمخلوقات، أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق، وفعل الفواحش، فهي من الأحوال الشيطانية، لا من الكرامات الرحمانية، ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار، فإذا حَضَرَ رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه، فيسقط، كما جرى هذا لغير واحد، ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت، سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص، وهو ملك تصور على صورته، وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين. ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له أنا الخَضِر، وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويردّ الودائع، ويفعل أشياء تتعلق بالميت، ويدخل على زوجته، ويذهب، وربما(6/120)
يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنار كما تصنع كفار الهند، فيظنون أنه عاش بعد موته. ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال إذا أنا مِتُّ فلا تدع أحدا يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رآى خادمه شخصا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله، أي غسّل الميت غاب، وكان ذلك شيطانا، وكان قد أضل الميت، وقال إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك. ومنهم من يرى عرشا في الهواء وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه ويقول أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول، ومنهم من يرى أشخاصا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد، ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر، ما الصديق - رضي الله عنه - أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر، وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه.(6/121)
وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم، وعلى مذهبهم، والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطىء، فإن كان الإنسي كافرا أو فاسقا أو جاهلا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال، وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر، مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة، أو يقلب فاتحة الكتاب، أو سورة الإخلاص، أو آية الكرسي، أو غيرهن، ([96])ويكتبهن بنجاسة فيغورون له الماء وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر. وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي، إما في الهواء وإما مدفوعا ملجأ إليه، ([97]) إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها والإيمان بها إيمان بالجبت والطاغوت، والجبت السحر، والطاغوت الشياطين والأصنام. وإن كان الرجل مطيعا لله ورسوله باطنا وظاهرا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته، ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله، كان عمّار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية، وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى، فيدعون الميت أو يدعون به، أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب، أقرب إلى الأحوال الشيطانية، فإنه ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال قبل أن يموت بخمس ليال «إن من أَمَنِّ الناس عليّ في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أهل الارض لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله، لا يبقين في المسجد خَوخة إلا سُدّت إلا خَوخة أبي بكر، إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك».(6/122)
وفي الصحيحين عنه أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكروا من حسنها وتصاوير فيها، فقال «إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيها تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة».
وفي المسند وصحيح أبي حاتم عنه - صلى الله عليه وسلم - قال «إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين اتخذوا القبور مساجد».
وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها».
وفي الموطأ عنه أنه قال «اللهم لا تجعل قبر وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».
وفي السنن عنه أنه قال «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا على حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني». وقال - صلى الله عليه وسلم - «ما من رجل يسلم عليّ إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام»، وقال - صلى الله عليه وسلم - «إنّ الله وَكَّل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام»، وقال - صلى الله عليه وسلم - «أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة عليّ»، قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي بليت فقال «إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء».(6/123)
وقد قال الله تعالى في كتابه عن المشركين من قوم نوح عليه السلام ?وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا?[نوح:23]، قال ابن عباس وغيره من السلف، هؤلاء قوم كانوا صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، فكان هذا مبدأ عبادة الأوثان، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد، ليسدّ باب الشرك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ، والشيطان يقارنها وقت الطلوع ووقت الغروب، فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لصلاة المشركين، فسد هذا الباب، والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب، ودعاها كما يفعل أهل دعوة الكواكب، فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور، ويسمون ذلك روحانية الكواكب، وهو شيطان، والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه، وعاقبة من أطاعه إلى شر إلا أن يتوب الله عليه، وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم الشياطين، وكذلك من استغاث بميت أو غائب، وكذلك من دعا الميت أو دعا به، أو ظنّ أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد، ويروُون حديثا هو كذب باتفاق أهل المعرفة، وهو إذا أعْيَتْكُم الأمور فعليكم بأصحاب القبور، وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك.(6/124)
ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات، وهي من الشياطين، مثل أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد، أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه، يفعل الشيطان هذا ليضلهم، وإذا قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا، فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء، فقال لا إله إلا الله فسقط، ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد إنشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان. وهذا باب واسع لا يتسع له هذا الموضع. ([98])
ولما كان الإنقطاع إلى المغارات والبوادي من البدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله صارت الشياطين كثيرا ما تأوى إلى المغارات والجبال، مثل مغارة الدم التي بجبل قاسيون، وجبل لبنان الذي بساحل الشام، وجبل الفتح بأسوان بمصر، وجبال بالروم وخراسان، وجبال بالجزيرة، وغير ذلك، وجبل اللكام، وجبل الأحيش، وجبل سولان قرب أردبيل، وجبل شهنك عند تبريز، وجبل ماشكو عند أقشوان، وجبل نهاوند، وغير ذلك من الجبال التي يظن بعض الناس أن بها رجالا من الصالحين من الإنس ويسمونهم رجال الغيب، وإنما هناك رجال من الجن، فالجن رجال كما أن الإنس رجال، قال تعالى ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا?[الجن:6]، ومن هؤلاء من يظهر بصورة رجل شعراني جلده يشبه جلد ماعز، فيظن من لا يعرفه أنه أنسي، وإنما هو جني، ويقال بكل جبل من هذه الجبال الأربعون الأبدال، وهؤلاء الذين يظن أنهم الأبدال هم جن بهذه الجبال، كما يعرف ذلك بطرق متعددة، وهذا باب لا يتسع هذا الموضع لبسطه، وذكر ما نعرفه من ذلك، فإنا قد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه في هذا المختصر، الذي كتب لمن سأل أن نذكر له من الكلام على أولياء الله تعالى ما يعرف به جمل ذلك.
والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام:(6/125)
½ قسم يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدق به مجملا، وكذّب ما يذكر له عن كثير من الناس، لكونه عنده ليس من الأولياء.
½ ومنهم من يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليا لله.
وكلا الأمرين خطأ، ولهذا تجد أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين، وأنهم من أولياء الله، وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة.
½ والصواب القول الثالث وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم لا من أولياء الله عز وجل، كما قال الله تعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، وهؤلاء العباد والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين، فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضا، وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم، ولا بد ان يكون في أحدهم من الكذب جهلا أو عمدا، ومن الأثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم، ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين، قال الله تعالى ?هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221)تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ?[الشعراء:221-222] والأفاك الكذّاب، والأثيم الفاجر، ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية سماع الغناء والملاهي، وهو سماع المشركين، قال الله تعالى ?وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً?[الأنفال:35].(6/126)
قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهما من السلف التصدية التصفيق باليد والمكاء مثل الصفير، فكان المشركون يتخذون هذا عبادة. وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فعبادتهم ما أمر الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك، والاجتماعات الشرعية، ولم يجتمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على استماع غناء قط، لا بكف ولا بدف، ولا تواجد، ولا سقطت بردته، بل كل ذلك كذب باتفاق أهل العلم بحديثه.
وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم أن يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول لأبي موسى الأشعري ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يستعمون. ومرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال له «مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك»، فقال لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا. أي لحسنته لك تحسينا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «زينوا القرآن باصواتكم»، وقال - صلى الله عليه وسلم - «لله اشد أذنا -أي استماعا- إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» وقال - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود «اقرأ علي القرآن» فقال أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال «إني أحب أن أسمعه من غيري» فقرأتُ عليه سورة النساء حتى انتهيت إلىهذه الآية ?فَكَيْفَ إذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا?[النساء:41] قال« حسبك» فاذا عيناه تذرفان من البكاء.(6/127)
ومثل هذا السماع هو سماع النبيين وأتباعهم كما ذكره الله في القرآن، فقال ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا?[مريم:58] وقال في أهل المعرفة ?وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ?[المائدة:83] ومدح سبحانه أهل هذا السماع بما يحصل لهم من زيادة الإيمان واقشعرار الجلد ودمع العين، فقال تعالى ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ?[الزمر:23]، وقال تعالى ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ?[الأنفال:2-4].(6/128)
وأما السماع المحدث سماع الكف والدف والقصب فلم تكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأكابر من أئمة الدين يجعلون هذا طريقا إلى الله تبارك وتعالى، ولا يعدّونه من القرب والطاعات، بل يعدّونه من البدع المذمومة حتى قال الشافعي ”خلّفتُ ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير“، يصدون به الناس عن القرآن، وأولياء الله العارفون يعرفون ذلك، ويعلمون أن للشيطان فيه نصيبا وافرا، ولهذا تاب منه خيار من حضره منهم، ومن كان ابعد عن المعرفة وعن كمال وَلاية الله كان نصيب الشيطان منه أكثر، وهو بمنزلة الخمر يؤثر في النفوس أعظم من تأثير الخمر، ولهذا إذا قويت سكرة أهله نزلت عليهم الشياطين، وتكلمت على ألسنة بعضهم، وحملت بعضهم في الهواء، وقد تحصل عداوة بينهم كما تحصل بين شراب الخمر فتكون شياطين أحدهم أقوى من شياطين الآخر فيقتلونه، ويظن الجهال أن هذا من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هذا مبعد لصاحبه عن الله، وهو من أحوال الشياطين، فإن قتل المسلم لا يحل إلا بما أحله الله، فكيف يكون قتل المعصوم مما يكرم الله به أولياءه، وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة، فلم يكرم الله عبدا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه، ويرفع به درجته، وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات، ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات، ومنها ما هو من جنس الغنى ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال. والغنى(6/129)
وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه ويقربه إليه ويرفع درجته، ويأمره الله به ورسوله، ازداد بذلك رفعة وقربا إلى الله ورسوله، وعلت درجته، وإن استعان به على ما نهى الله عنه ورسوله كالشرك والظلم والفواحش، استحق بذلك الذم والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة أو حسنات ما حية، وإلا كان كأمثاله من المذنبين، ولهذا كثيرا ما يعاقب أصحاب الخوارق تارة بسلبها كما يعزل الملك عن ملكه، ويسلب العالِمَ علمه، وتارة بسلب التطوعات فينقل من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن الإسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيرا من هؤلاء يرتد عن الإسلام، وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية؛ بل يظنها من كرامات أولياء الله،([99]) ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبدا خرْق عادة لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن الله إذا أعطى عبدا ملكا ومالا وتصرفا لم يحاسبه عليه.
ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمورٍ بها ولا منهيٌ عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء، وهم الأبرار المقتصدون، وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء كما أن العبد الرسول أعلى من النبي الملك.(6/130)
ولما كانت الخوارق كثيرا ما تنقص بها درجة الرجل كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك، ويستغفرالله تعالى كما يتوب من الذنوب كالزنا والسرقة، وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك أن لا يقف عندها ولا يجعلها همته، ولا يتبجح بها مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها، فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر، وتقول هنيئا لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول خذني حتى يأكلني، الفقراء ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح، وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة، وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة، أو تُرِيَه أنوارا أو تحضر عنده من يطلبه، ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله. وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له أنا من أمر الله ويعده بأنه المهدي الذي بشّر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويظهر له الخوارق مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينا أو شمالا ذهب حيث أراد وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة وتأتي به، وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك، فيقول في نفسه كيف تصوروا بصورة المردان فيرفع رأسه فيجدهم بلحى، ويقول له علامة أنّك أنت المهدي أنك تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها، وغير ذلك، وكلّه من مكر الشيطان.(6/131)
وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير، وقد قال تعالى ?فَأَمَّا الْإِنسَانُ إذا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي(15)وَأَمَّا إذا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ?[الفجر:15-16] قال الله تبارك وتعالى ?كَلاَّ?[الفجر:17] ولفظ (كَلاَّ) فيها زجر وتنبيه؛ زجر عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به ويأمر به بعده، وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل مكرما له بها، ولا كل من قدَّر عليه ذلك يكون مهينا له بذلك، بل هو سبحانه يبتلي عبده بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه ولا هو كريمٌ عنده ليستدرجه بذلك، وقد يحمي منها من يحبه ويواليه لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده أو يقع بسببها فيما يكرهه منه.(6/132)
وأيضا كرامات الأولياء، لابد أن يكون سببها الإيمان والتقوى، فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله، لا من كرامات أولياء الله، فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء، وإنما تحصل عند الشرك مثل دعاء الميت والغائب، أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات، ومثل الغناء والرقص لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع مزامير الشيطان فيرقص ليلا طويلا فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدا أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه ويتكلفه، ليس له فيه محبة ولا ذوق ولا لذة عند وجده، ويحب سماع المكاء والتصدية، ويجد عنده مواجيد، فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى ?وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ?[الزخرف:36]، فالقرآن هو ذكر الرحمن، قال الله تعالى ?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى?[طه:124-126] يعني تركتَ العمل بها، قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفّل الله لمن قرأ كتابه وعمل بما فيه أن لا يضل في الدينا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية.
فصل
ومما يجب أن يُعلم أن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الإنس والجن، فلم يبق إنسي ولا جني إلاّ وجب عليه الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واتباعه، فعليه أن يصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر، سواء كان إنسيا أو جنيا(6/133)
ومحمد - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى الثقلين بإتفاق المسلمين، وقد استمعت الجن القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه ببطن نخلة، لما رجع من الطائف وأخبره الله بذلك في القرآن بقوله ?وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ(29)قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إلى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ(30)يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(31)وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ?[الأحقاف:29-32]، وأنزل الله تعالى بعد ذلك ?قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا(1)يَهْدِي إلى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا(2)وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا(3)وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا(4)وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا(5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا?[الجن:1-6] أي السفيه منا في أظهر قولي العلماء، وقال غير واحد من السلف كان الرجل من الإنس إذا نزل بالوادي قال: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر سفهاء قومه. فلما استغاثت الإنس بالجن ازدادت الجن طغيانا وكفرا، كما قال تعالى ?وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنسِ(6/134)
يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا(6)وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا(7)وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا?[الجن:6-8]، وكانت الشياطين تُرمى بالشهب قبل أن ينزل القرآن، لكن كانوا أحيانا يسترقون السمع قبل أن يصل الشهاب إلى أحدهم فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا، وصارت الشهب مرصدة لهم قبل أن يسمعوا كما قالوا ?وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا?[الجن:9] وقال تعالى في الآية الأخرى ?وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211)إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ?[الشعراء:210-212] قالوا ?وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا(10)وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا?[الجن:10-11] أي على مذاهب شتى كما قال العلماء منهم المسلم والمشرك والنصراني والسني والبدعي ?وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا?[الجن:12]، أخبروا أنهم لا يعجزونه لا إن اقاموا في الأرض ولا إن هربوا منه ?وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا(13)وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ?[الجن:13-14] أي الظالمون يقال أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار وظلم ?فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا(14)وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا(15) وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)لِنَفْتِنَهُمْ(6/135)
فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا(17)وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا(18)وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا(19)قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا(20)قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا(21)قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا?[الجن:14-22] أي ملجأ ومعاذا ?إِلَّا بَلَاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا(23)حَتَّى إذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا?[الجن:23-24]، ثم لما سمعت الجن القرآن أتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به وهم جن نصيبين، كما ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود وروى أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وكان إذا قال ?فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ?([100]) قالوا ولا بشيء من آلائِكَ ربنا نكذب، فلك الحمد، ولما اجتمعوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - سألوه الزاد لهم ولدوابهم، فقال «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علفا لدوابكم» قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد لاخوانكم من الجن» وهذا النهي ثابت عنه من وجوه متعددة، وبذلك احتج العلماء على النهي عن الاستنجاء بذلك، وقالوا فإذا منع من الاستنجاء بما للجن ولدوابهم فما أعد للإنس ولدوابهم من الطعام والعلف أولى وأحرى، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى جميع الإنس والجن وهذا أعظم قدرا عند الله تعالى من كون الجن سخروا لسليمان عليه السلام، فإنهم سخروا له يتصرف فيهم بحكم الملك، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أرسل إليهم يأمرهم بما(6/136)
أمر الله به ورسوله؛ لأنه عبد الله ورسوله، ومنزلة العبد الرسول فوق منزلة النبي الملك.
وكفار الجن يدخلون النار بالنص والاجماع، وأما مؤمنوهم فجمهورالعلماء على أنهم يدخلون الجنة، وجمهور العلماء على أن الرسل من الإنس ولم يبعث من الجن رسول، لكن منهم النذر، وهذه المسائل لبسطها موضع آخر.
والمقصود هنا ان الجن مع الإنس على أحوال:
½ فمن كان من الانس يأمر الجن بما أمر الله به رسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه، ويأمر الإنس بذلك فهذا من أفضل أولياء الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونوابه.
½[ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حُرّم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك،] ([101]) وهذا إذا قُدّر أنه من أولياء الله تعالى، فغايته ان يكون في عموم أولياء الله، مثل النبي الملك مع العبد الرسول؛ كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
½ ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك، وإما في قتل معصوم الدم، أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم، وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة، فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان، ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص إما فاسق وإما مذنب، غير فاسق.(6/137)
½ وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات مثل أن يستعين بهم على الحج، أو أن يطيروا به عند السماع البدعي، أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ونحو ذلك، فهذا مغرور قد مكروا به، وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أن ذلك من الجن، بل قد سمع أن أولياء الله لهم كرامات وخوارق للعادات، ([102]) وليس عنده من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية، فيمكرون به بحسب اعتقاده، فإن كان مشركا يعبد الكواكب والاوثان أوهموه أنه ينتفع بتلك العبادة ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صور ذلك الصنم على صورته من ملك، أو نبي، أو شيخ صالح، فيظن أنه يعبد ذلك النبي أوالصالح، وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان. قال الله تعالى ?وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ?[سبإ:40-41]، ولهذا كان الذين يسجدون للشمس والقمر والكواكب يقصدون السجود لها فيقارنها الشيطان عند سجودهم ليكون سجودهم له، ولهذا يتمثل الشيطان بصورة من يستغيث به المشركون، فإن كان نصرانيا واستغاث بجرجس أو غيره جاء الشيطان في صورة جرجس أو من يستغيث به، وإن كان منتسبا إلى الإسلام واستغاث بشيخ يحسن الظن به من شيوخ المسلمين، جاء في صورة ذلك الشيخ، وإن كان من مشركي الهند جاء في صورة من يعظمه ذلك المشرك، ثم إن الشيخ المستغاث به إن كان ممن له خبرة بالشريعة لم يعرفه الشيطان أنه تمثل لأصحابه المستغيثين به، وإن كان الشيخ ممن لا خبرة له بأقوالهم نقل أقوالهم له فيظن أولئك أن الشيخ سمع أصواتهم من البعد وأجابهم، وإنما هو بتوسط الشيطان، ولقد أخبر بعض(6/138)
الشيوخ الذين كان قد جرى لهم مثل هذا بصورة مكاشفة ومخاطبة؛ فقال يرونني الجن شيئا براقا مثل الماء والزجاج، ويمثلون له فيه ما يطلب منه الإخبار به، قال فأخبر الناس به، ويوصلون إلي كلام من استغاث بي من أصحابي فأجيبه فيوصلون جوابي إليه، وكان كثير من الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذّب بها من لم يعرفها، وقال إنكم تفعلون هذا بطريق الحيلة، كما يدخل النار بحجر الطلق، وقشور النارنج، ودهن الضفادع، وغير ذلك من الحيل الطبيعية، فيتعجب هؤلاء المشايخ ويقولون نحن والله لا نعرف شيئا من هذه الحيل، فلما ذكر لهم الخبير إنكم لصادقون في ذلك، ولكن هذه الأحوال شيطانية أقروا بذلك وتاب منهم من تاب الله عليه، لما تبين لهم الحق، وتبين لهم من وجوه أنها من الشيطان، ورأوا أنها من الشياطين لما رأوا أنها تحصل بمثل البدع المذمومة في الشرع وعند المعاصي لله، فلا تحصل عندما يحبه الله ورسوله من العبادات الشرعية، فعلموا أنها حينئذ من مخارق الشيطان لأوليائه، لا من كرامات الرحمن لأوليائه.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وصلى الله وسلم على محمد سيد رسله وأنبيائه وعلى آله وصحبه وأنصاره وأشياعه وخلفائه صلاة وسلاما نستوجب بهما شفاعته آمين([103])
---
([1]) ملاحظة: العنوان من اختيار المفرّغ، هذا أولا، أما ثانيا فإنه من الملاحظ أن الأشرطة تسجيلها في كثير من الأماكن غير مسموع جيدا ولذلك الكلمات غير المفهومة فقد وضعت مكانها... ، وأرجو المعذرة. [قام بإعداد هذه المادة سالم الجزائري].
([2]) قول شيخ الإسلام (ونشهد) فيه جواز ذلك؛ لأنّ من الناس من قال الأفضل أن يتكلم المرءُ عن نفسه فيقول: أشهد، وألاّ يأتي بنون الجمع الدالة على نفسه وعلى غيره، لأنّ الشهادة أمرها باطن. وهذا جائز يقول عن نفسه وعن غيره أيضا باعتبار ظاهر الحال.(6/139)
([3]) في هذه الآية أنّ الأولياء هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، ولهذا عرّف جماعة من أهل العلم الولي: بأنّه كل مؤمن تقي وليس بنبي؛ ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس: 63] هم الأولياء، والإيمان والتقوى تتفاضل؛ الإيمان يتفاضل يزيد وينقص، ويتفاضل أهله فيه، وكذلك التقوى يتفاضل أهلُها فيها، فيكون إذن وصف الوَلاية يتفاضل أهله فيه، فالأولياء إذن ليسوا على مرتبة واحدة، لكن صار غالبا في الاصطلاح أنّ الولي هو المؤمن الذي كمَّل التقوى بحسب استطاعته، وليس مَن عنده شيء من الإيمان وشيء من التقوى وليا، وإنْ كان كل مؤمن تقي له وَلاية بحسَب ذلك، ففرق بين الاسم؛ اسم الولي وبين الوَلاية؛ الولاية التي هي محبة الله لعبده ونصرتُه له هذه تكون عنده بقدر ما عنده من الإيمان والتقوى، وأمّا اسم الولي فالآية دلت على أنّ من عنده إيمان وتقوى فهو من الأولياء، لكن في الإصطلاح إذا قيل الأولياء فهم العُبّاد الصالحون الذين كمّلوا التقوى بحسب استطاعتهم، أو بحسب حالهم، فلا يدخل فيه من خلط عملا صالحا وآخر سيئا.(6/140)
([4]) قوله جل وعلا هنا ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] هذا التولي المكفر الذي هو نصرة الكافر عن المسلم في حال الحرب لقصد ظهور الكفر، أو بقصد سلامة النفس على سلامة الإسلام، يدلّ على هذا التفسير قوله في الآيات نفسها ?فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ?[المائدة:52] (يُسَارِعُونَ فِيهِم) يعني في توليهم وفي نصرتهم ? يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ?[المائدة:52] فهذه دلّت على أن المقصود بقوله ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] أنّه في حال القتال والنصرة؛ ? لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51] يعني خرج عن الدين لأنه نصرهم في حال قتالهم لأهل الإسلام، استشهد بها شيخ الإسلام للدِّلالة على معنى الوَلاية وأن الوَلاية هي المحبة والنصرة، (لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) يعني أحبابا منصورين تنصرونهم وتتناصرون معهم، (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) بعضهم يحب بعضا وينصر بعضا.(6/141)
القصد؛ في قصة حاطب، حاطب حصل منه مسارعة في إفشاء السر والإخبار بعزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إتيان مكة، فلما قال عمر للنبي عليه الصلاة والسلام يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال« يا عمر أرسله، يا حاطب ما حملك على هذا؟» فاستفصاله عليه الصلاة والسلام دال على اعتبار القصد، وقد علل هو بأمر دنيوي، فقال: يارسول الله ما من أحد من صحابتك إلا وله في مكة قرابة أو أهل، يدفعون عن ماله، وليس لي أحد، فأردت أن يكون لي بذلك يد أدفع بها عن مالي. فقال عليه الصلاة والسلام «صدقكم»، فدل هذا على أنه لم يقصد ظهور الكفر على الإسلام، وإنما قصد حماية نفسه. قصد حماية المال والنفس هذا راجع إلى أمر الدنيا وليس راجع إلى أمر الدين، فيكون التولي أو الوالاة بهذا المعنى محرّم وضلال عن سواء السبيل، ولكن ليست مكفرة، وذلك لقول الله جل وعلا ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1] قال العلماء: أثبت أنهم ألقوا المودة، ومع ذلك ناداهم باسم الإيمان فقال (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ومع ذلك قال في آخرها ?وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ?[الممتحنة:1] فدلّ على أن هذا الفعل وهو الموالاة بهذا المعنى محرّم وضلال عن سواء السبيل ولكن لا يخرج عن اسم الإيمان. ومَنْ نَصَرَ مُرجِّحًا سلامة نفسه على سلامة الإسلام فهو هنا يكفر ولو بالفعل، فرق بين أن يُسرّ لهم بشيء أو يمدهم بمال أو نحو ذلك وما بين فعل شيء فيه نصر لهم على المسلمين؛ يعني يفعل شيء معه نصر للكفر على الإسلام أو ظهور للكفار على المسلمين، ولهذا في نواقض الإسلام لإمام الدعوة رحمه الله ذَكر من النواقض مظاهرة المشركين على المسلمين، والمظاهرة لفظ له هذا المعنى الذي ذكرت، هذا بحث له موطن آخر بتفصيل.(6/142)
([5]) هذه الآيات السالفة كلها في بيان أولياء الرحمن، والولاية كما ذكرت معناها المحبة والنصرة ?هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ?[الكهف:44] يعني النصرة الكاملة والمحبة في الله ولله جل وعلا الحق سبحانه وتعالى، فمن أحب شيئا دون الله جل وعلا وتعلق قلبه به خذل من جهته، وكذلك من طلب النّصرة من غير الله جل وعلا وتعلق القلب بذلك خُذِل من جهته، ومن تعلق قلبه بالله وانتصر به كفاه، وهذا معنى قوله ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا?[المائدة:55] يعني يحبكم وناصركم الله ورسوله والذين آمنوا، هذا هو الواجب أن تكون وَلاية المؤمنين في الله جل وعلا ولله.
([6]) هذا كله استدلال بالآيات على التسمية؛ يعني كأنه استحضر رحمه الله من يقول له: من أين أتيت بهذه التسمية أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؟ فأتى بالآيات التي تدل أن للرحمن أولياء وعلى أن للشيطان أولياء، هذه خطبة للكتاب، يعني مقدمة، بعدها يأتي للصفات؛ ما صفات هؤلاء وما صفات هؤلاء.
([7]) شيخ الإسلام دائما استدلاله بالأول (فقد بارزني بالمحاربة) وهذا اللفظ ليس في كتب الصحاح، إنما هو عند أبي نعيم، وعند غيره من الكتب غير المشهورة، ولعله أخذها من بعض المستخرجات على الصحيح كمستخرج أبي عوانة، أو مستخرج الإسماعيلي البخاري ونحو ذلك، لأنه عنده عناية بالجمع بين الصحيحين للحميدي. المقصود أن هذا اللفمظ مما يعترض به على شيخ الإسلان كثيرا لأن هذا اللفظ غير معروف (فقد بارزني بالمحاربة)، واللفظ المعروف في الصحيحين (فقد آذنته بالحرب) هذا هو المعروف في الحديث المسمى حديث الولي.(6/143)
([8]) هذا القول في أوائل هذا الفصل فيه البيان على أنّ الله جل وعلا فرق بين أولياء الله وأولياء الشيطان، فكونه سبحانه يذكر في القرآن أنّ لله أولياء وأنّ للشيطان أولياء، ثم لا يفرق بين هؤلاء وهؤلاء بالصفات بما يُعلم به هؤلاء وهؤلاء، هذا ممتنع؛ لأن الله جل جلاله جعل هذا القرآن فرقانا ? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ?[الفرقان:1] فهو فرقان بين الأشياء المتقابلة التي قد تلتبس، ومن ذلك وصف أولياء الرحمن ووصف أولياء الشيطان، فالفرقان قائم بين هذين الحزبين وبين هاتين الطائفتين، هؤلاء لهم صفات وهؤلاء لهم صفات، أعظم ما في القرآن من وصف أولياء الله جل وعلا في آية سورة يونس التي استدل وبها وهي قوله تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] فبيّن جل وعلا أنّ الأولياء هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، ومن المتقرر أنّ الإيمان يتبعض وأنّه درجات بعضها فوق بعض، وأنّ التقوى كذلك تتبعض والناس فيها مختلفون كلٌّ يأخذ منها بحسب ما يُسِّر له، فنتج من ذلك أن الأولياء أيضا ليسوا على مرتبة واحدة، بل هم مراتب فصفات الأولياء التي تجمعهم أنهم المؤمنون المتقون، والمؤمن هو المؤمن بالله ورسوله وبكتابه، فلا يُتصور من الولي الخروج عن أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمر كتاب الله لأهواء ولآراء، بل هو متبع للكتاب والسنة، كذلك لا يُتصور في الولي أنه صاحب كبيرة أو صاحب إصرار على الصغائر واستمرار فيها؛ لأن التقوى هي صفته التي لازمته (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) والتعبير أواستعمال (كَانُوا يَتَّقُونَ) يفيد ثبات هذه الصفة. فإذا كان كذلك، كان وصف الأولياء في القرآن أنهم المؤمنون المتقون.(6/144)
أما وصفهم في السنة فقد جاء بأكثر تفصيلا في حديث الولي المعروف وهو ما رواه البخراري رحمه الله وغيره، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال « يقول الله تعالى من آذى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه» هنا الفرائض أحب إلى الله جل وعلا من النوافل، وزيادة تقرب العبد بالنوافل سبب في محبة الله جل وعلا لعبده قال«فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به» سمعَه يعني يسدد في سمعه، كان الله سمع الولي يعني سدده في سمعه فلا يسمع إلا ما يحب ربه ومولاه «وبصره الذي يبصر به» يعني أسدده في بصره فلا يبصر إلا ما أحب، ولا يستأنس في بصره إلا بما أحب «ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» يعني يسدد في هذا كله؛ فلا يبطش بيده إلا فيما أذن الله جل وعلا به، ولا يمشي برجله إلا بما يحب الله جل وعلا، قال «ولئن سألني لأعطينه» يعني أنه مجاب الدعاء «ولئن استعاذني لأعيذنَّه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه» التردد هنا، تكلم عليه أهل العلم بكلمات وأصح ذلك أن التردد مثل الصفات الأخر التي هي صفة المكر والاستهزاء ونحو ذلك من جهة أنّه يكون نقصا ويكون كمالا:
· فيكون نقصا إذا كان التردد مع عدم علم بالعاقبة؛ لأنّه يكون من نتائج الجهل، فالمتردد يتردد ويكون نقْصا في حقه أنه تردد؛ لأنه لا يعلم العاقبة، أو لخوفه وعدم جرأته على الأمر، أو لعدم قدرته عليه؛ يشك هل هو يقدر أو لا يقدر، أو هل سيقوى أو لا يقوى، وعدم علمه بالعاقبة هي سبب هذا التردد، وهذا التردد نقص وهذا منفي عن الله جل وعلا.(6/145)
· والنوع الثاني وهو تردد بين أمرين كل منهما هو حق ومحمود في نفسه، لكن يختلف الإختيار بحسَب تعلقه بالمختار له، مثل –في حياة البشر- تريد أن تشتري لمن تحب شيئا، تردد بين هذا وهذا لا من جهة عدم علمك بالأفضل، ولكن من جهة الإكرام...، هذا التردد ليس بنقص، أنت الآن بين كرم وبين أكرم، فهذا ليس نقصا، هذا تردد فيما يناسب المختار له، هذا هو الذي من جنسه جاء هذا الحديث، (وما ترددت في شيء أنا فاعله) هذا التردد الحق، التردد الذي هو كمال الذي لا نقص فيه، بوجه من الوجوه.
هذا من أحسن الأجوبة على ذلك وهو طريقة المحققين.(6/146)
? السمع والبصر معنويان؛ يعني نوعان من أنواع الإدراكات معنويان، تشوف السمع؟ ما تشوفه، تشوف البصر؟ ما تشوفه، لكن اليد والرجل هذا ظاهران، فمثل بشيئن معنويين وبشيئين ظاهرين، وهذا له نظائر في القرآن ?أم تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ?[الفرقان:44]، ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا?[الأعراف:179]، وكقوله في آخر السورة?أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(191)وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ? [الأعراف:191-192] إلى آخر الآيات، المقصود من ذلك أنه يُرد التمثيل بالحواس، فهذا ليس المراد به الحصر؛ كنت سمعه وبصره وأيضا لسانه وفهمه وتفكيره، خذ فيه رواية موضوعة يستدل بها الصوفية وهي مكذوبة في هذا الحديث بعد قوله (ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وحتى يقول للشيء كن فيكون)، هذه موجودة في بعض كتب الحديث مسندة لكنها موضوعة، يستدل بها بعض الصوفية في أن الله جل وعلا يُعطي الأولياء ملكوته يتصرفون فيه بما يريدون، وهذا باطل من جهة الإستدلال وباطل من جهة الأصول القطعية على أنّ الله جل وعلا لا ينازعه أحد في ملكه وليس له شريك في مُلكه.
[9] هذا الأصل في الموالاة والمعاداة هو القدر الواجب في الولاء والبراء، القدر الذي به يصح الإسلام، فلا يصح إسلام أحد حتى يكون عنده موالاة ومعاداة؛ عنده ولاء وبراء.
· الولاء الذي يصحّ به أصل الإسلام: هو المحبة؛ محبة الله, محبة دينه، محبة رسوله، محبة توحيده، هذه الحبة هي الأصل، لها لاوازم في الظاهر، هذه لها أحكامُها.(6/147)
· العداوة أو البراء: هو بغض الشرك، بغض الضلال، بغض الشيطان، بغض عبادة غير الله، بغض الكفر، هذا القدْر هو الشرط من لم يأتِ به فلا إسلام له.
فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هذه مشتملة على الولاء والبراء، مشتملة على الموالاة والمعاداة، لكن الولاء والبراء منه قدر مجزئ لا يصح إسلام أحد إلا به؛ يعني مجزئ في صحة الإسلام، ومنه قدْر آخر واجب لكن ليس شرطا في الصحة، القدْر الواجب هو ما كان من قبيل الحب والبغض، أصل المعنى، وهو الموجود في القلب، فمحبة التوحيد وبغض الشرك هذا أصل في الإسلام وهو معنى الولاء والبراء ومعنى كلمة التوحيد، فمن لم يكن عنده حب للتوحيد وبغض للشرك فلا إسلام له أصلا، بخلاف محبة أهل التوحيد، محبة أهل الشرك ونحو ذلك، فهذه فيها أحوال وتفصيلات.
([10]) هذا من شيخ الإسلام ذكر لبعض شروط الولي من جهة اللغة فإنه فسّر لفظ الولي والموالاة بما تضمنه كلامه السابق وفيه شورط الولي، فمن شروطه:
1. يأمر بما أمر الله ويأمر بأتمر بذلك.
2. ينهى ما ينهى عنه الله وينتهى عن ذلك.
3. يرضى ما يرضي الله ويسخط ما يسخط الله جل وعلا.
4. ويحب ما أحب الله ويبغض ما أبغض الله.
فهذا جاء من جهة اللغة مع ضميمة أيضا الذين آمنوا وكانوا يتقون، تخلص من ذلك إلى أن صفات الأولياء التي منها ماهو صفة شرط؛ يعني صفة إذا لم توجد لم يكن وليا مأخوذة من قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) يعني كلمة الإيمان والتقوى، ومأخوذة أيضا من جهة اللفظ؛ لفظ الولي؛ لأن الولي هو المحي التابع الناصر، وهذه المحبة تقتضي موافقته فيما أحب، موافقته فيما نهى عنه جل وعلا، وهكذا، وهذا من نوع الفرقان بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان.(6/148)
([11])أولو العزم يعني أولوا الصبر، العزم هنا الصبر وتحمل المشاق والقوة، وجميع المرسلين أولو صبر وتحمل للمشاق وقوة، لكن أولئك أولوصبر خاص وعزم خاص فخصوا؛ لهذا الاسم دون غيرهم، وهم الخمسة الذين ذكرهم الله جل وعلا.
([12]) هذه الكلمات قارنها بالختمة المنسوبة لشيخ الإسلام (ختمة القرآن)فيها هذه الكلمات، الكلمات الموجودة في الختمة لم تصح اسنادا؛ لكنها مشهورة النسبة، كلماتها موجودة متفرقة في كتب شيخ الإسلام، يعني من أراد أن ياخذها جملا ويحيل كل جملة إلى موضعها من كلام شيخ الإسلام وجد ذلك، ولهذا يقول علماؤنا إنّ هذه نفسها نفس شيخ الإسلام، كلامها كلام شيخ الإسلام، من عرف كلام شيخ الإسلام قال أنها له.(6/149)
([13]) الصالح في الشرع هو من قام بحقوق الله جل وعلا الواجبة عليه وقام بحقوق خلقه الواجبة عليه. القائم بحقوق الله وحقوق الخلق هو الصالح من عباد الله، والصالحون مقتصدون وسابقون، فالمقتصد هذا صالح؛ يعني الذي يفعل الواجبات وينتهي عن المحرمات، والسابق بالخيرات هذا أفضل الصالحين، فأولياء الله جل وعلا هم صالحوا المؤمنين الذين يفعلون الواجبات وينتهون عن المحرمات، ومنهم وأخصّهم الذين يسارعون في الخيرات، لكن لفظ الولي بخصوصه أُطلق على من كان سابقا بالخيرات، على من كان من خاصّة صالحي المؤمنين، ففي العُرف ليس المقتصدون يعني الذين إختصروا على آداء الواجبات وتركوا المحرمات يُسَمَّوْن أولياء، هم في الحقيقة أولياء لله لقول الله جل وعلا ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] وقوله ?فَإِنَّ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ?[التحريم:4]، ?إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ?[الأنفال:34] ونحو ذلك من الأدلة.(6/150)
([14])«لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة» له نظائر في النصوص من استعمال كلمة (لا يدخل) إما في الجنة أو في النار؛ «لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان«، «لا يدخل الجنة قتاد«، «لا يدخل الجنة قاتل«، ونحو ذلك، وهذا النفي بالدخول عند أهل السنة تارة يُراد به نفي الأصل، وتارة يراد به نفي تخليد، وتارة يُراد به نفي الأولوية، ففي النفي في هذا الحديث المراد به نفي الأصل (لا يدخل أحد النار بايع تحت الشجرة) يعني لا يدخلها أصلا، وما جاء في النفي بدخول الجنة «لا يدخل الجنة قتاد نمام«، ونحو ذلك، هذا المراد به الدخول الأولي، يعني لا يدخلون أولا بل يتأخرون، ويقابل هذا النفي التحريم في النصوص، يَحْرُم على النار، ونحو ذلك في الجنة فإنّه يراد به تارة تحريم الأبدي وتارة تحريم المعقد أو التحريم الأمدي. هذه –يعني الألفاظ- ينبغي أن تفهم على ضوء ما ذكرنا.(6/151)
([15])يقصد بالمنافقون الذين هذه صفتهم، ملتبسا عليه الأمر، فيكون على ضلال من جهة الباطن ألحقه بالمنافقين. فإنّ طوائف من غلاة الصوفية والإتحادية يقولون نحن في الظاهر متبعون لصاحب الشريعة وفي الباطن مستقلون، كما قاله ابن عربي وغيره قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام لما طاف بالبناء؛ بناء الأنبياء فوجد البناء قد كَمُل وحَسُن إلا موضع لبنة فقال عليه الصلاة والسلام أنا هذه اللبنة التي كمل بها هذا البناء؛ بناء الأنبياء، فقال ابن عربي بعد ذلك: ولا بد لخاتم الأولياء أن يرى نفسه في موضع لبنتين، لبنة ذهب ولبنة فضة، فيكون الظاهر لبنة، ويكون الباطن لبنة، أما اللبنة الظاهرة فتأخذ من صاحب الشريعة، وأما اللبنة الباطنة فيستقي بها من المعدن الذي استقى منه الملك؛ يعني يأخذ من عن الله جل وعلا مباشرة، فإنهم في الباطن هم غير متعبدين بالشرع، في الظاهر متابعون، وهؤلاء هم الذين يدّعون الوَلاية ويدّعون أنهم أولياء، ويغتر الناس بهم في كثير من أمصار المسلمين هم غلاة المتصوفة الذين يقولون بأقوال أهل الإتحاد وأشباه ذلك. لهذا تجد عندهم من غرائب الأقوال والأعمال ما يخرجون به عن الشريعة، حتى زعم كثير منهم أنّهم سقطت عنهم التكاليف، وكانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام كالخضر مع موسى حيث وسعه الخروج عن شريعة موسى، وهذا كفر وزندقة، وهو نوع من أنواع النفاق. فشيخ الإسلام يريد بالمنافقين في هذا الكلام هذه الطائفة التي كانت منتشرة وهي موجودة إلى يومنا هذا.
([16])كل واحدة من هذه هو قول لفرقة، كل وصف من هذه قول لفرقة من الفرق، هي ليست من باب الإستطراد بل كل واحدة قول لطائفة، نسأل الله العافية والسلامة.(6/152)
([17]) هذا الكتاب هو كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان والله جل وعلا فرق بين هؤلاء وهؤلاء؛ فوصف أولياء الرحمن ووصف أولياء الشيطان، وما ذكره المصنف في هذا المقطع الذي قرأنا فيه بيان أنّ الكفار من أولياء الشيطان، وأنّ المنافقين في هذه الأمة نظروا إلى الوَلاية؛ ولاية.....-الشريط مقطوع-....... وما يحصل لهم من أشياء يعجز عنها من حولهم حتى زعموا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن مختصا بهذا العِلم الذي جاء، بل من الصحابة من كانوا في منزلته في العلم بل هناك بعضهم من هو أرفع منه، كما يقوله طائفة، فزعموا أنّ العلوم الخاصة غير العلوم العامة وأن هناك العلوم الباطنة جعلها الله سبحانه الفقراء، ولهذا مثّل بأهل الصفة والمقصود بالتمثيل بالفقراء، والاعتقاد بالفقراء، وهذا كثير في البلاد الإسلامية فيظنون ملازمة الولاية للفقر، وأنّ الولي لابد أن يكون فقيرا متنكبا عن الدنيا، وهذا باطل بل سادة أولياء الله جل وعلا من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -العشرة المبشرون بالجنة في مجلس واحد، ومنهم أبو بكر - رضي الله عنه - وكان غنيا, وعمر - رضي الله عنه - وكان غنيا, ومنهم عثمان وكان غنيا, ومنهم عبد الرحمن بن عوف وكان غنيا، ومنهم سعد وكان غنيا.(6/153)
فوصف الغنى والفقر ليس من الأوصاف التي يكشف بها الولي، فمن ظن أن وَلاية أهل الصفة كانت من جراء كونهم فقراء فقط، فهذا ليس بصحيح، بل الوَلاية كما قال الله جل وعلا ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، فالولي هو كل مؤمن تقي وليس بنبي، وليس من أوصافه أن يكون فقيرا أو أن يكون من حاله كذا وكذا، في أمر دنياه، بل الولاية راجعة إلى أمر الدين إلى أمر اتباع الشريعة، وأولياء الله جل وعلا ليس لهم علوم خاصة بل علومهم تابعة للشرع تابعة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فليسوا محدَّثين بأشياء ليست عند النبي عليه الصلاة والسلام، بل علمهم منُوط بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ذهب بعض المتأخرون من الجهال أنّ هناك من أولياء الله من يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملَك مباشرة، يقولون: الولي يأخذ عن الله مباشرة أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فيأخذ عن الله جل وعلا بواسطة جبريل. كما ذكر ابن عربي وكما ذكر غيرُه قال: الولي ياخذ من المعدن الذي أخذ منه المعدن مباشرة. يعني فلا يحتاج إلى واسطة، ففضُل بهذا عن النبي، وقالوا الولي يمكن أن يخرج عن شريعة النبي لأنه في الظاهر متبع للنبي، لكنه في الباطن يتلقى تلقيا خاصا، ولهذا زعموا بأن هناك من تسقط عنه التكاليف، وأنّ هناك من يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسِع الخضر الخروج عن شريعة موسى.(6/154)
وهذا الإعتقاد في جهّال المسلمين من قديم، وفي زمن الدعوة كان هذا موجودا في نجد؛ الاعتقاد في الصوفية وفي الفقراء وربما أنهم فعلوا أشياء خارجة عن الشريعة ويبقون على وَلاتهم، كما ذكر الشيخ رحمه الله في النواقض –نواقض الإسلام- أن من النواقض أن أحدا من الخلق يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى. هؤلاء الجهال يعتقدون في المجانين و يعتقدون في الفقراء و يعتقدون في الشياطين، وربما جعلوهم أقطابا أو جعلوهم أوتادا أو جعلوهم أبدالا أو جعلوهم نجباء إلى آخره، فتجدهم يقولون مثلا الغوث الأكبر واحد، وكل غوث له أقطاب أربعة في الأرض، لكلّ واحد منهم قسم من الأرض، ولكل واحد من هذه الأربعة سبعة، ولكل واحد من هذه السبعة أربعون، فلن تصل إلى الغوث إلا عن هذه الطريقة. وصنفت المصنفات في ذلك في ذكر الأربعين ولي في مصر، أو الأربعين وتد في المغرب، هذه مصنفات موجودة، عندهم أن الأربعين هؤلاء يرفعون إلى السبعة، والسبعة يرفعون إلى الأربعة، والأربعة يرفعون إلى الغوث، والغوث يطلب من الله جل جلاله، فهؤلاء إذا تأملت أسماءهم وتراجمهم وهي موجودة وجدت أنه كما ذكر شيخ الإسلام أنهم من المنافقين، أو من المجانين، فلا يصح أن يكونوا أولياء فضلا أن يكونوا من سادة الأولياء أو من المقدمين. وهذه الألفاظ أقطاب، أبدال، نجباء إلى آخره، الغوث، كلها لم ترد في الكتاب والسنة، وإنما جاء لفظ الأبدال في بعض الأحاديث، وإنْ كان في إسنادها شيء، ومن حسنها فالمعنى واضح؛ فإنّ الأبدال هم الذين يأتي طائفة منهم بدل من قبلكم أبدال بمعني أنهم يبدلون بغيرهم ويبدل غيرهم بهم، وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله». نكتفي بهذا القدْر وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.(6/155)
([18]) هذا الكتاب هو الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وذكرنا لكم أن تعريف الولي عندنا أنه كل مؤمن تقي ليس بنبي، فلا بد في الولي أن يكون مؤمنا، ولا بد أن يكون تقيا لإطلاق خصوص الولي عليه، وذكرنا الإيمان يتبعض وأن التقوى تتبعض، وبالتالي يكون ما ينتج منهما وهو الوَلاية تتبعض، فيكون الأولياء ليسوا على مرتبة واحدة، وذلك كما قال جل وعلا ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:55-56]، فلكل مؤمن وَلاية بحسبه، لكن اسم الولي هذا خاص بمن كمّل الإيمان والتقوى، يعني سعى في تكميل إيمانه وتقواه والإيمان؛ إيمان بالأركان الستة التي جاءت في هذه الآيات وفي حديث جبريل وغيرها، ومنها الإيمان بالرسل، والإيمان بالكتب، ومن الإيمان بالرسل والإيمان بالكتب بل هو أخصها الإيمان بأنّ محمدا بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنّ القرآن خاتم الكتب، وأنّ طاعة محمد بن عبد الله فرض وليس لأحد أن يخرج عن طاعته، هذا كل السياق من شيخ الإسلام ليبين أن قول حزب الشيطان في عصره وما بعده، أنّ هناك أولياء لا يخضعون لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - باطنا وإنْ خضعوا لها ظاهرا بحكمهم من الأمة بأن هذا باطل، كما ادعى طائفة أن الولي له ظاهر وباطن، وظاهره متابع لشريعة النبي الذي أُرسل إليه، وباطنه يتلقى من مشكاة الوحي الذي تلقى منها ذاك النبي، وقد يَفْضُل عليه إلى آخر ذلك، فهذا السياق لتقرير أن الولي مؤمن بأركان الإيمان.
([19])الكفر هنا في قوله (من آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض) وكذلك في الآية ?نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ?[النساء:150]، الكفر هذا قسمان:(6/156)
القسم الأول: كفر التكذيب وهو أن يكذبوا بالكتاب أو برسالة الرسول، يقولون فلان رسول، وفلان ليس برسول، نكذّب برسالة فلان ولا نقر له بالرسالة، تكذيبا له فيما جاء به، وفُلان هذا من عباد الله هذا رسول، فهذا تكذيب برسالة بعض، وإقرار برسالة بعض، ومن كذب فقد كفر، ومن صدق فهو مؤمن.
القسم الثاني: كفر من جهة الإيباء والإستكبار والإمتناع؛ بمعنى أنه أبى أنْ يتّبع ذلك الرسول، أبى أن يكون ملتزما بشريعة ذلك الرسول بل يقول أنا أومن بالرسول وأتبع شريعة فلان ولا أتبع شريعة الآخر، وهذا من جهة الإحتجاج على اليهود.
والواجب على عباد الله أن يكونوا مؤمنين بالرسل جميعا مصدقين، وأنْ يكونوا منْقادين طائعين لما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به القرآن لأنه خاتم الكتب لأن محمدا عليه الصلاة والسلام خاتم الرسل.
فإذن يكون الإيمان على درجتين كل منهما فرض لا يتم الإيمان إلا بهما جميعا، الإيمان بمعنى التصديق برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم الإيمان بمعنى الإلتزام بما جاء به وعدم الإمتناع عما جاء به فمن كذب فقد كفر، ومن أبى واستكبر فهو كافر.
([20])الرَّزق بالفتح، المصدر بالفتح، الرِّزق هو الشيء المرزوق، رَزَقَ الله عبدا رَزْقا، فذاك الشيء هو الرِّزق، وأما المصدر فهو الرَّزق. الخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة والبَرّ إلى آخره.(6/157)
([21])هذا الكلام يريد به شيخ الإسلام رحمه الله بيان أنّ الطوائف من المسلمين الذين إدَّعَوا الولاية، أُدعي فيهم أنهم أولياء وعُظِّموا بسبب ذلك، هؤلاء، وإنْ كان سبب وَلايتهم أنهم متبعون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ظاهرا وباطنا مؤمنون به يحكمون لشريعته في أنفسهم، هذا ظاهر لأنهم من أولياء الله، وأما إنْ كان سبب إطلاق الولاية عليه بهم أنهم زهاد عباد وأنهم متنزهون عن كثير من الدنيا، وأنهم مقبلون على أمر آخرتهم، وفيهم مكاشفات وإخبار بغيبيات، ويحصل لهم خوارق عادات، فإنَّ هذا القدْر يحصل أيضا لكثير من المتزهدة ومن له بعض فلسفة وعلم من الذين داووا نفوسهم وباطنهم من غير هذه الأمة، فذكر أمثلة من التُّرك يعني الروس الآن وإلى تركستان وما حولها، ومن الهند ومن خراسان، وكذلك من اليونان، هؤلاء فيهم أناس نُقل من نَقل المستفيض أنه يحصلهم خوارق عادات، وأن عندهم زهد وعبادة إلى آخره، فإن كان-شيخ الإسلام كأنه يتنزل ويناظر- مدار الوَلاية وإطلاق اسم الولي على من عنده زهد وعبادة أوخوارق عادات فأولئك أيضا كذلك، لكن هم كفار بالإجماع؛ لأن متعبدة اليهود، زهاد النصارى قد يكون لهم بكاء من خشية الله وقد يكون عندهم خوارق عادات، وكذلك زهاد ومتعبدة الهند والترك والفرس واليونان إلى آخره هؤلاء كفار بالإجماع؛ لأنهم لم يتبعوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا مسلمين ظاهرا وباطنا. فإذن ما الفرق في الحال بين هؤلاء الذين أُدعي فيهم الولاية وادعوا الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأولئك؟ فإذا قيل إن عندهم خوارق عادات، فنقول إن خوارق العادة ليس هو الكرامة، فالذي يؤتي الله جل وعلا الأولياء هي الكرامات، وأما الخوارق فإنها تجري للسحرة، وتجري للكهنة، وتجري للشياطين وغير ذلك، فحصول الخارق للعادة ليس برهانا على أنّ من حصل له ولي من أولياء الله، خارق للعادة مثل يخبرك بها في نفسك، مثل أن يجري شيئا غريبا،(6/158)
مثل أن ينتقل من مكان إلى مكان بسرعة عجيبة، مثل أن يَحْضُر شيء من الأطعمة ليست في أوانها.[انتهى الشريط الأول] إلى آخره
هذه نحصل للسحرة وتحصل للكهنة وتحصل للمشعوذين فالخارق للعادة أمر يشترك بين الأنبياء والرسل، وما بين الأولياء وما بين المشعوذون والكهنة والسحرة والبطّالون:
1. فإن كان الخارق للعادة أوتي نبيا فيُسمى آية وبرهانا.
2. وإن كان الخارق للعادة أوتي عبدا صالحا تبعا لنبي فيسمى كرامة للوليِّ.
3. وإن كان الخارق للعادة أوتي مستكبرا على الأنبياء أو مبتدعا أو فاجرا أو كافرا فإنّه يُسمى مخاريق شيطانية أو من مساعدة الشياطين.
فإذن ليس العبرة في خرق العادة. ولهذا تعرّف الكرامة التي تكون للأولياء بأن الكرامة أمر خارق للعادة يرى على يدي ولي، وآية النبي أمر خارق لعادة الجن والإنس، يرى على يدي نبي، والعادة التي تُخرق لفظها غير منضبط؛ لأنهم قالوا خارق للعادة. العادة هذه عادة من؟ هذا الوصف غير منضبط لأنه خارق للعادة ، لهذا عند التحقيق يكون ثَم تفصيل:
· فالعادة التي تُخرق للرسل والأنبياء آية وبرهان، فتكون العادة هي عادة الجن والإنس عادة الثقلين، قد دل على هذا قوله تعالى?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88].(6/159)
· وأما الكرامة فهي خارق لعادة الإنس الذين فيهم ذلك الولي، قد يكون في مكان آخر لا تخرق العادة، لكنه يكرم بهذا مثل طعام يؤتاه في فصل الصيف وهو من طعام الشتاء، في مكان أخر من الأرض يكون ثَم شتاء في وقت هذا الصيف فيكون طعامهم طعام الشتاء، فيكون إذن العادة في حق الولي عادة الإنس الذين فيهم ذلك الولي، وقد يكون الإنس بعامة مثل المشي على الماء، أو الطيران في الهواء أو إلى آخره، لكن هذا يختلف باختلاف الأزمنة، فمثلا إذا مشى على الماء؛ الماء صار له يابسا ومشى عليه، اليوم ممكن أنه يقوم ببعض المعالجات الماء يكون يابس ويُمشي عليه، كذلك الطيران في الهواء كرامة، اليوم اختلف الوضع صار البر والفاجر يطير في الهواء بوسائل أحدثت، فإذن خرق العادة بالنسبة للولي قيده أن تكون عادة الناس في زمنه، أو عادة جنسه الذين يعيش فيهم.
· أما خرق العادة بالنسبة الشياطين: الكهنة والسحرة فهم يأتون بأمور خارقة للعادة ولكنها عادة من ليس منهم، فالساحر يخرِق عادة من ليس بساحر، والكاهن يخرق عادة من ليس بكاهن.
المقصود من هذا بيان التفصيل في هذه الكلمة المجملة وهي خرق العادة، وأنّ ما آتاه الله جل وعلا للأنبياء والرسل خوارق للعادات، ولكن عادة كذا وكذا، وما آتاه الله جل وعلا الأولياء خارق للعادة من الكرامات ولكن عادة كذا وكذا، وأما مخاريق السحرة والكهنة فهي خارق للعادة من ليس من السحرة والكهنة، ولهذا لما أتى الله جل وعلا بآية موسى بطَلَت مكايد السحرة وما فعلوا؛ لأن ذلك الذي أعطاه جل وعلا موسى فوق ما تخرق الشياطين وتخبر به الجن أو يفعله السحرة والكهنة.(6/160)
كل هذا لأجل تقرير الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، إذن كون الشيء يحصل خارقا للعادة المعتادة لا يدلّ على أن من حصل له وليا، يخبر بما في نفسه أو يخبر بأمر غائب، أو يأتيه شيء غريب في وقت غريب، أو يحصل له نوع أشياء وانتقالات، أو يسّر له أمور ونحو ذلك لا يدل على أنه ولي حتى يكون مؤمنا تقيا، لأن الخوارق قد تحصل من جهة الشياطين وحزبه. في هذا القدْر كفاية وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
([22]) صلة لما سبق من أن أولياء الله جل جلاله أهل الإيمان والتُّقى والطاعة، فلا يوصفون إلا بمتابعة الكتاب والسنة والإيمان والتقوى، وليسوا بمعرِضين عن ذكر الله بل مقبلون عليه، والذي لا يقرأ القرآن ولا يتبع ما فيه ولا يستن بسنة النبي العدنان بل يخالفها بأقواله وأعماله وعلمه، فإنّ هذا ليس من أولياء الله، بل أولياء الله جل وعلا هم المؤمنون المتقون. فهذا تتمة لما سلف الكلام عليه من وصف أولياء الله بأنّهم أهل ذكر الله وأهل طاعته وتقواه
([23])المقصود بـ (الخصلة)أن يكون يغلب على أمره ذلك، أما من حصل منه مرة كذب في الحديث، أو خيانة في الأمانة، أو إخلاف للوعد، فلا يقول فيه لهذا شعبة من شعب النفاق، بل يكون عنده معصية فالشعبة من شعب النفاق تكون لمن كان على ذلك مستمرًّا، كان إذا حدّث كذبّ يكذب في الحديث دائما، أو يغلب عليه الكذب، معروف بالكذب في الحديث، فهذا هو الذي يكون فيه خصلة من النفاق، وكذلك إذا عاهد غدر أو إذا أئتمن خان أو إذا خاصم فجر، أما حصول ذلك على جهة القلّة ليس هذا دليلا على شعب النفاق في من كانت فيه. وقوله «إذا وعد أخلف» يعني إذا أعطى الوعد ناويا به الإخلاف، أما إذا وعد على رجاء الوفاء ثم حصل منه الإخلاف فإنّ هذا غير مراد هنا، كما هو مبسوط في مكانه في الشروح.(6/161)
([24]) الفخر بالأحساب بقصد الترفع على القبائل الأخرى، يفخر بحسَبه لإظهار فضله على غيره، أما الفخر في الحسب لإظهار حسبه وأنّه أصيل ونحو ذلك، دون ترفع على غيره، ليس هذا بمراد هنا لأنه ليس أمر الجاهلية. كذلك الطعن في النسب المقصود منه طعن في الأنساب بغير دليل، أو لازدراء الناس ونحو ذلك والقاعدة الشرعية أن الناس مؤتمنون على أنسابهم، لكن من ادعى نسبا وهو فيه كاذب، فتكذيبه فيه بما يُعلم أنّه كاذب فيه ليس طعنا في النسب، وتفصيل شرح هذا الحديث في شروح كتاب التوحيد وفي شروح كتب السنة.
([25])المؤمنين المتقين خبر كان، (وإذا كان أولياء الله هم) هم: ضمير فصل لا محل له من الإعراب، ليس مبتدأ وما بعده خبر، وما بعده خبر كان، كقوله جل وعلا ? الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمْ الْخَاسِرِينَ?[الأعراف:92] أو في قوله في سورة الأنفال ? وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ?[الأتفال:32] ضمير الفصل (هُوَ)وأشباهه، إذا يأتي بين المبتدأ والخبر في اسم كان وخبرها أو في اسم إنّ وخبرها أو غير ذلك يراد به الفصل بين المبتدأ والخبر حتى لا يشابه الصفات؛ حتى لا يتشابه الخبر بالنعت، لأنه بدون(هم) تقرأها هكذا (وإذا كان أولياءُ الله المؤمنين المتقين) يشتبه، تقول (أولياء الله المؤمنون المتقون) مبتدأ وخبر يشتبه، هل المؤمنون المتقون نعت، اخبر لم يأتِ، أو أنها خبر، (أولياء الله المؤمنون المتقون لهم الجنة) يُشكل، لكن إذا قلت (أولياء الله هم المؤمنون المتقون) ظهر بظهير الفصل لأنك فصلت الخبر والمبتدأ بهم لئلا يشتبه الخبر بأنه نعت للمبتدأ، وهذا على طريقة عامة النحاة، وإن كان سيبويه أجاز على لغة بعض العرب أن يكون الضمير هذا ضمير الفصل مبتدأ وما بعده خبرا للمبتدأ، وعليها بعض القراءات في بعض الآيات.(6/162)
([26]) هذا الفصل لبيان أن الوَلاية ليست على مرتبة واحدة، وأنّ الأولياء متفاوتون، وذاك لأنّ شرطي الوَلاية الإيمان والتقوى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، ومن المتقرر أنّ الإيمان في أهله متفاضل، وأنّ التقوى في أهلها متفاضلة، فنتج من ذلك أن ما ترتب منهما وهي الوَلاية تتفاضل؛ لأنّ الإيمان متفاضل والتقوى متفاضلة، فالوَلاية متفاضلة، فالولي قد يكون عنده بعض نقص، في الإيمان والتقوى، ولكن هو له نصيب من وَلاية الله جل وعلا لما معهم من الإيمان والتقوى، لهذا نقول كل مؤمن له نصيب من الوَلاية وليس كل مسلم، لكن كل مؤمن عنده إيمان له نصيب من ولاية الله جل وعلا، وهؤلاء يتفاوتون، ومَنْ وصل إلى مرتبة الإيمان فهو من أولياء الله إذا كان من المتقين، لكن درجته فيه مختلفة، وسبب نقص الإيمان أو نقص التقوى في الولي ليس هو ارتكاب المعاصي، وإنما هو إما من جهة الإقتصاد، وإما من جهة أنّه لم يسابق في الخيرات.
فإذن الأولياء ليسوا بظالمي أنفسهم، وإنما هم من المؤمنين المتقين، والمتقي أقلّ درجاته أن يكون تاركا للمحرمات ممتثلا للواجبات، وأكمل درجات هؤلاء أن يكون مسابقا في الخيرات، لهذا يأتيك في الفصل الذي بعده أنّ الأولياء على قسمين مقتصدون وسابقون.
([27])الحب المطلق يعني الكامل، كنظائره: الإيمان المطلق يعني الكامل، الهداية المطلقة يعني الكاملة، الكفر المطلق يعني الكامل، بخلاف مطلق الحب يعني أصلَه، مطلق الإيمان يعني أصله، مطلق الهداية يعني أصلها، مطلق الكفر يعني أصل الكفر، وكل هذه قد تكون أقل الدرجات.(6/163)
([28]) هذه مباحث متنوعة لكن يجمعُها أنّ أولياء الله جل وعلا لا يكونون من الظالمين لأنفسهم، بل أولياء الله إمّا مقربون سابقون بالخيرات، وإمّا مقتصدون أصحاب يمين، وأمّا الظالم لنفسه الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا من الأشياء التي لا تكفر مثل يعني الكبائر وأشباه ذلك، فإنّ هذا لا يسمى وليا بالإتفاق، وله نصيب من الوَلاية؛ ولاية الله لعبده بقدر ما عنده من الإيمان، لكن ليس له اسم الولي؛ فالأولياء هم الصالحون من عباد الله القائمون بحقوقه وحقوق عباده إمّا مقتصدون وإما مقربون سابقون بالخيرات، وهؤلاء لهم محبة الله جل وعلا وعوْنه وتوفيقه ومعيته الخاصة، ذَكر أيضا أن هذا نظير امتثال الأنبياء والرّسل إلى عبد رسول وإلى نبي ملِك، فالعبد الرسول كأولي العزم من الرسل، والنبي الملك كيوسف وداوود وسليمان عليهم الصلاة والسلام، ففرّق بينهما:
• لأن النبيّ الملِك يتصرّف في المال باختياره؛ يعني أنه ينظر للمصالح العامة وفيما يراه فيتصرف في المال بما يراه، إذ المال بيده فيتصرف فيه كيف يشاء فيما لم يأتِ فيه أمر أو نهي بخصوصه.
•أما العبد الرسول فإنه قاسم يضع المال حيث أمره الله جل وعلا ولا يجتهد فيه، هذا باعتبار الغالب، وقد يجتهد فيه في بعض الأحوال، كما اجتهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض قسمة الفيء فأعطى رجلا واحدا ما بين جبلين من الإبل والماشية، وهكذا.(6/164)
لهذا اختلف الصحابة رضوان الله عليهم كما ذكر لك أنّ أصح قولي العلماء أن ولي الأمر والإمام يتصرف في المال بما فيه المصلحة الدينية حيث أمر الله جل وعلا، والقول الآخر لأهل العلم أن ولي الأمر يتصرف في المال حيث ينظر هو المصلحة فيه فيما يتعلق لما فيه المصالح والمفاسد من قسمة الفيء ونحو ذلك، ولا يلزم له الرجوع لأهل العلم ولا لما يشاوَر فيه بل بما ينظر فيه، وشيخ الإسلام بسط هذه المسألة طويلا في كتابه منهاج أهل السنة النبوية لمّا ذكر طعن الرافضة في عثمان وأنّه تصرف في الأموال كيف شاء، قال شيخ الإسلام هناك ما حاصله: إنّ أهل العلم في مسألة تصرف الوالي في المال على قولين:
? منهم من يقول يأخذون بما عليه العبد الرسول، فلا يضعون المال إلا فيما أمر الله به في الشرع، وإذا لم يكن ثَم أمر ونهي في خصوصه وتعرضت له المصلحة فإن عليه أن يشاور في وضع المال، وعلى هذا سيرة أبي بكر وعمر فإنهما لم يجتهدا في المال رضي الله عنهما.
? والقول الآخر أنّ ولي الأمر له أن يأخذ بسيرة النبي الملك، فيتصرف في المال كيف شاء بما يراه فيه مصلحة، ولو كان فيه محاباة لبعض أهله وأقاربه. قال: وعلى هذا يخرّج فعل عثمان - رضي الله عنه -، وفعل معاوية - رضي الله عنه -؛ وهما عثمان أحد الخلفاء الراشدين ولم يخطئه أحد من أهل السنة في فعله؛ في تصرفه في المال، إنما خطّأه الظلاّل، وذاك معاوية خير ملوك المسلمين وتصرف في المال على هذا النحو.(6/165)
المقصود من هذا –المسألة تحتاج إلى زيادة تفصيل- لكن التنبيه إلى أصل هذه المسألة حيث أشار شيخ الإسلام هنا بقوله؛ في أصح قولي العلماء أن ولي الأمر يتصرف في المال حيث المصلحة الشرعية فيما يحبه الله ورسوله بحسب إجتهاده. والقول الآخر أن له أن يتصرف حيث يرى هو المصلحة دون الرجوع لأهل العلم إلا فيما فيه أمر ونهي من أداء الزكاة وصرفها في مصارفٍ شرعية أما الفيء الذي يَفِيؤُه الله جل وعلا في الأموال العامة فله أن يجتهد فيها بحسب ما يرى، فهما قولان لأهل العلم، وحبذا مراجعة المسألة في كتاب منهاج أهل السنة فقد بسطها وأجاب عن قول الرافضة والخوارج في طعنهم على عثمان وعلى معاوية رضي الله عنهما في التصرف في المال، وقال إنّ أهل السنة لم يطعن أحد منهم في عثمان لأجل تصرفه في المال من جهة محاباته لأقاربه وتوليته بعض الولايات لذوي رحمه؛ لأنّ هذا راجع إلى تخريج شرعي، وعثمان أجل من أن يظن فيه أنه يسير في ذلك وفق هواه، وإنما يسير في ذلك وفق الإجتهاد الشرعي الذي يراه لكونه نائب في هذا المال عن النبي وله أنْ يُعطي وله أن يمنع بحسب ما يراه، فهما قولان والصحيح ما ذكر هنا منْ أنّ ولي الأمر يتصرف في المال على وفق ما يحبه الله ورسوله...(6/166)
إذا تقرر هذا فإنّ أولياء الله يوصفون بأنهم متنزهون عن فضول المباحات، وشيخ الإسلام حرّم على المسلم أنْ يأتي كل مباح، سواء كان من مباحات النّظر أم من مباحات السماع أم من مباحات العمل، قال: للمسلم أن يعمل بعض المباحات لكن أنْ يأتي كل مباح دون تنزه عن فضول المباحات، قال هذا لا يجوز، وأخذ هذا من ظاهر قول الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام ?لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى?[طه:131]، وظاهر قوله جل وعلا ?أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا?[الأحقاف:20] فيرى أنّ التمتع بفضول المباحات لا يجوز.
والقول الآخر لأهل العلم أن التمتع بفضول المباحات جائز وهذا هو الظاهر؛ لأن قوله (وَلَا تَمُدَّنَّ) هذا للنبي عليه الصلاة والسلام خاصة، وهذا يدل على تكْميله عليه الصلاة والسلام، وأنْ لا يتعرض إلى ما فيه إنقاص لمرتبته العليا عليه الصلاة والسلام، أما قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا) فهي في الكفار وليست في المسلمين.(6/167)
فأولياء الله يتنزهون عن فضول المباحات وليس كل مباح يأتونه، بل هناك مباحات لا تناسبهم ولو كانت مباحات في الشرع، ولكن تناسب غيرهم من المسلمين، فالأولياء يتنزهون عن كثير من المباحات، إما من جهة الورع وإما من جهة ترك خوارم المروءة وإما من جهة أشياء قد يراها الولي لا تناسبه، مثاله مثلا كثرة المزاح والضحك بأنْ يغلب هذا على المرء وإنْ كان مباحا إذا لم يكن ينطق بكذب وأشباه هذا، لكن أولياء الله في قلوبهم فإجلال الله وخشيته والرغبة فيما عنده ما يجعلهم لا يُكثرون من هذا، وإنما إن فعلوا فيكون من جهة الإستنباط الوارد عنه الصلاة والسلام، وهذا أصل في أن الأولياء فيما يفعلون من فضول المباحات، يتابعون النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصول ما فعل، فيضحكون بعضا من الوقت لأنه ضحك عليه الصلاة والسلام وتبسم، ويفعلون بعض الأشياء التي فيها ترويح بما لا يكون قادحا وأشباه ذلك بنية الإقتداء ونية العمل، وهذا في بعض المباحات ما في كل المباحات، والولي لا بمد أن يكون متنزها عن فضول المباحات، أمّا الولي لا يتصور فيه من حيث الواقع أنْ يأتي كل مباح، بل الولي من حيث الواقع ومن حيث دِلالة العمل الأول عليه أنّه لابد أن يكون متنزها على مباحات كثيرة لأسباب.
نكتفي بهذا القدر صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.(6/168)
([29]) أنّ الأمم التي سبقت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فالمؤمنون فيها قسمان: مقتصدون وظالمون لأنفسهم، أما السابقون بالخيرات في الأمم السالفة هم الأنبياء والرسل، وفي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيهم ثلّة من الأولين وقليل من الآخرين، فالأمم السالفة قسمان، كما قال جل وعلا في سورة المائدة ? أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ?[المائدة:66] وعلى هذا أكثر أهل التفسير بأن الأمم السالفة تنقسم على ظاهر هذه الآية –يعني من استجاب إلى الرسل- إلى ظالم لنفسه وإلى مقتصد، والسبْق بالخيرات هذا من فضل الله جل وعلا لهذه الأمة.
([30])الرعد:23، النحل:31، فاطر:33.
([31])هذا كله استطراد البحث كان في الأولياء وأنّ الأولياء قسمان مقتصدون وسابقون بالخيرات، أما الظالم لنفسه فلا يكون وليا وهو المصر على الذنوب، أما المقتصد قد يكون وليا، السابق بالخيرات قد يكون وليا لله جل جلاله، ثم استطرد رحمه الله لذكر الأقسام الثلاثة وماذا يراد بهذه الأقسام وشرح ذلك، لكن أصل الكلام حتى لا يغيب عنك الكلام في أنّ الأولياء قسمان: صفة الولي أن يكون أما مقتصدا أو يكون سابقا بالخيرات، مع أن الجميع مع الظالم لنفسه موعود بالجنة بفضل الله وكرمه.(6/169)
([32])لاحظ هنا قوله (أن أهل الكبائر قد يدخل جميعهم الجنة من غير عذاب) هذا قول المرجئة، وأهل السنة يقولون "أهل الكبائر قد يدخلون الجنة بلا عذاب" واضح الفرق بين القولين؟ الفرق بينهما أن أولئك يُجَوِّزُونَ دخول الجميع للجنة بلا عذاب، وأهل السنة يُجَوِّزُونَ دخول البعض الجنة بلا عذاب؛ لأنّ الله جل وعلا قال ?وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[المائدة:40] ووعيده حق جل وعلا فلا بد أن يصيب بعضا منهم وواجب بأن يغفر لمن يشاء وحق فلا بد أن يصيب بعضا منهم. فإذن المرجئة يقولون أهل الكبائر قد يدخلون جميعا الجنة بلا عذاب، هذا غلط بل الصواب أن أهل الكبائر قد يدخل بعضهم الجنة بلا عذاب فيغفر الله جل وعلا له ?وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[المائدة:40]، الفرق في إطلاق لفظ جميعهم.(6/170)
([33])نربط الموضوع بأصله وهو أن هذا الكتاب فيه ذكر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، يعني الفاصل والفصل وما يميز هذا من هذا، وقد ذكرنا أن الأصل في الفرق هو قول الله جل وعلا?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63]، وإذا كان كذلك، فإنّ أولياء الله هم المؤمنون المتقون والإيمان يتبعض والناس ليسوا فيه سواء، وكذلك التقوى تتبعض والناس ليسوا في التقوى بسواء فحصل من ذلك أن وَلاية الله جل وعلا لعباده المؤمنين المتقين ليست واحدة بل متفاضلة، فالله جل وعلا يحبّ المؤمن المتقي بعامة، ومن كان أكثر إيمانا وتقوى كان أحب إلى الله جل وعلا، وهذا من جهة محبة الله جل وعلا للعبد فإنّ كل مؤمن مُتَّقٍ له نصيب من ولاية الله جل وعلا وله نصيب من محبة الله جل وعلا ونصرَتِه على حسب ما معه من الإيمان والتقوى، كذلك إذا كان معه عصيان وضلال وبدع وفسوق وفجور فله نصيب من بغض الله جل وعلا له، فعندنا أنه يجتمع في حق المعين ما يوجب الولاية وما يوجب العداوة، هذا من جهة الوصف أما من جهة الاسم أو اسم الولي فإنما يطلق في الإصطلاح على من حقق الإيمان والتقوى وكل ذلك بحسبه وسعته وطاقته؛ فلا يقال فلان ولي لحصول أصل الإيمان والتقوى فيه لأن كل مسلم عنده أصل الإيمان وأصل التقوى، فإنّ كل مسلم عنده قدر من الإيمان، وكل مسلم عنده قدر من التقوى، فالمقصود أنّ الولي هو من حقق الإيمان والتقوى هذا من حيث الإصطلاح، أما من حيث الشرع فكما ذكر في أول الكلام أنّ الولي هو المؤمن التقي، وأنّ كل واحد له نصيب من هذه الولاية إذا كان عنده إيمان وتقوى، ذكر شيخ الإسلام بعد ذلك أنّ أصل حصول الولاية إنما هو باتباع الرسل، فإن الإيمان إيمان بالرسل وما جاءت به الرسل، والتقوى هي اتقاء ما حذرت عنه الرسل وأنذرت وخوفت، وإذا كان كذلك رجعت الوَلاية وحصول(6/171)
هذه المحبة والنصرة من الله جل وعلا، رجعت إلى الإيمان بالرسل وإلى متابعة الرسل والتصديق بما جاءت به الرسل، كلٌّ بحسب الرسول الذي بُعث إليه، ولما بعث المصطفي محمد عليه الصلاة والسلام صار الإيمان والتقوى راجعا إلى هذه الوسيلة العظيمة وهو محمد عليه الصلاة والسلام، فكلّ ادعاء لوَلاية ليست سببها الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام واتقاء ما حذر عنه عليه الصلاة والسلام فهو ادعاء كاذب. وبهذا سيفصل في ذكر الإيمان بالرسل لتحقيق أنّ الوَلاية لا تكون إلا باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام.(6/172)
([34])هذا استطراد من شيخ الإسلام رحمه الله، ليبين أن المؤمنين بالرسل من هذه الأمة ليسوا على مرتبة سواء، فبعضهم إيمانه مجمَل وليس عنده إيمان مفصل، فيكون مؤمنا تقيا؛ مؤمنا بما جاءه وما عنده من الإيمان المجمَل، وهناك من إيمانه مفصل يعني عمل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فآمن به مفصَّلا، ومنهم من آمن فما جاءه مفصلا لكن ما جاء غيره أكثر لما عنده من العلم، فصار الذين يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام متفاضلين فبعظمهم أعظم إيمانا من بعض لما وصله من العلم. كذلك من جهة العمل فإنّ الإيمان منه العمل فإذا عمل بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام كان أعظم إيمانا به، ونتج من ذلك أنه أعظم وَلاية، فإذن الأولياء ليسوا على مرتبة واحدة، ثم ذكر الأدلة الدالة على أنّ التفاضل بين أهل الإيمان كثير في النصوص، فذكر أنّ الرسل فضل الله جل وعلا بعضهم على بعض، وذكر أنّ المؤمنين فضل الله بعضهم على بعض في عدة نصوص من القرآن، وكذلك المجاهدين فضل الله بعضهم على بعض ?لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ?[الحديد:10] والصحابة يختلفون في مراتبهم و«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير»، فهذا الإستطراد يدل على أن الأصل الذي أصله معروف في الشريعة. وهذا تنتبه له في طريقة شيخ الإسلام رحمه الله في أنّه يقرر في صدر الكلام ما يريده، ثم يستحضر سؤالا أو استشكالا يورده عليه من أنشأ الرسالة لأجله (هذه الرسالة أو غير هذه الرسالة) فيأتي بالنظائر التي تدل على أن أصله الذي أصله سليم من جهة الإستدلال وسليم من جهة النظر، وهذا لا شك أنه قوة في الحجة سيما مع المجادلين والمبتدعة لأن هذه الكتب ألفها شيخ الإسلام لهداية من ضل في باب السلوك.
([35])لا يتعلق بها حكم شرعي، المقصود به التكليفي أما الوضعي فيؤاخذ به.(6/173)
([36]) كلام شيخ الإسلام من أول الفصل إلى هذا الموطن يريد أنّه بعد أنْ بين أنّ التقوى والإيمان سبب ولاية الله لعبده، وأنّ الولي هو المؤمن التقي، بين أنّ الإيمان والتقوى والتقوى لا تصح من العبد إلا إذا كان باختياره، يعني إذا كان مكلفا وصار متقيا لرغبته واختياره، وصار مؤمنا برغبته واختياره، وأمّا منْ رفع عنه القلم لا يوصف بالإيمان والتقوى، حتى ولو حصل منه بعض الأشياء التي هي منَ العبادات فإنّه لا يوصف بالإيمان والتقوى حتى يأتيها اختيارا، ومثَّل بذلك بالمجنون لأنّ الصوفية لهم اعتقاد في المجنون لأن الصوفية لهم اعتقاد في المجانين كما سيأتي في بقية الكلام، فالمجنون هذا لم يقع منه في جنونه إيمان وتقوى برغبة واختيار وطاعة لله، فإذن تعريف الولي بأنه كل مؤمن تقي وليس بنبي هذا لا يصدق عليه لأنه لم يأتِ الإيمان والتقوى طاعة لله واختيارا، بل هو غاقل أو مجنون والمجنون مرفوع عنه القلم، ومثَّل له أنّ الناس مجمعون على أن المجنون لا يبايع ولا ينكح إلى آخره، ويأباه الناس حتى لا يقعوا في تصرفات له لا يعقلوها، وكذلك أعظم الأمور وأهم المهمات وهو الإيمان فإنه لا يوصف المجنون بذلك، معلوم أنّه إذا كان الجنون عرض له فإنّه إذا مات عليه فإن حاله على ما كان قبل الجنون؛ يعني إذا كان قبل الجنون رجلا صالحا فإنّه إلى حين أن يُجَن فيعتبر رجلا صالحا، وما بعد ذلك لا يوصف بصلاح ولا بغيره، بل بداية الجنون كنزول الموت، فيقال كان كذا، كان رجلا صالحا، أما في حال جنونه من جهة تصرفاته وعطائه الشرعي فإنّه مرفوع عنه القلم، يعني قلم التكليف، قد يقع من المجنون أشياء غريبة وتوافق صوابا في نفسها، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مرة أن أحد ولاة دمشق مرّ في سوق، وكان في الطريق رجل من المجانين فلما مرّ عليه فصاح هذا بالوالي "يا هذا ما فعلت الخبزة" فارتاع الوالي لهذه الكلمة ونزل، وسأل عنه قال هذا المجنون فلان، وكانوا يعتقدون في(6/174)
المجانين، وأخذه وقبل يده. فقال فكان هذا المجنون ربما أتى في مجلس الوالي وبصق في وجهه وذاك مسرور بفعله.
لأنهم يعتقدون أن الجنون سببه إنجذاب الروح عن المخلوق إلى الخالق، فالظاهر في ما بينه وبين الناس أنّه لا عقل له لأن عقله مع ربه جل وعلا، لهذا يعدلون عن اسم المجنون إلى اسم المجذوب يعني الذي جُذب عقله وروحه إلى ربّه فغاب عقله عن الناس وصار مع ربه، فلهذا يقولون أنه إذا تصرف فهو يتصرف بأمر الله، وأشباه ذلك مما يتنزه العقلاء من ظنّه فضلا عن اليقين به، وفي هذا قال قائلهم في وصف المجانين:
والمجانين إلا أنّ سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل
يعني أن سبب الجنون هو كمال المحبة والإنجذاب إلى الله جل وعلا. نسأل الله العافية.
([37])ذكر أن شبهة المعتقدين في الجنون والمجنونين والمجذوبين والمتولهين ما يحصل لهم من نوع خوارق للعادات سواء كانت خوارق علمية بذكر أشياء، يقول أنت تقول كذا، وحصل منك كذا، وهو مجنون فيوافق صوابا، أو خوارق من جهة القُدْرة كما ذكر يشير إلى أحد فيموت، أو يشير إلى الماء فيمشي عليه أو يحلق بإصبعه فينزل عليه رغيف وأشباه ذلك من أنواع القدرة والعلم، هذه أنواع خوارق والمتقرر أن الخوارق حصلت للكهان، حصلت للسحرة, وحصلت للمشعوذين وللشياطين وللكفار، وحصلت أيضا الخوارق للمؤمنين وحصلت أيضا الخوارق للرسل والأنبياء، لهذا قسم العلماء الخوارق إلى ثلاثة أقسام من جهة من تحصل له باعتبار من حصلت له. [انتهى الشريط الثاني]
قالوا الخوارق:
1. قد تحصل للأنبياء والرسل؛ حصلت للأنبياء والرسل وهذه تسمى آيات وبراهين.
2. والقسم الثاني خوارق تحصل لاتباع الرسل، هذه تسمى الكرامات.
3. والثالث خوارق تحصل للمنافقين والعاصين للرسل، فهذه خوارق شيطانية ليست إكراما من الله عز وجل لهم؛ لأن الله لايكرم من لم يتبع رسله عليهم الصلاة والسلام،(6/175)
فإذن ليس اعتبار المرء محبوبا لله، وليا لله، أنه يحصل له خارق؛ لأن الخارق يحصل للشياطين وللكفار وللمنافقين، إذن لابد في النظر فيمن حصلت له، فإنْ حصل الخارق لمطيع للرسل معظم لهم متبع لهم في الظاهر والباطن صارت هذه الخوارق كرامات، وإنْ حصلت لمنافق عاص للرسل مبتدع أو مجنون فنقول هذه من الشياطين لإيقاع الناس في الفتنة أو في الكفر والشرك. هذا باعتبار.
وباعتبار آخر، فإن الخوارق راجعة من حيث الصفات إلى نوعين من الصفات: وهي صفتي الغنى والقدرة. ومعلوم أن غنى المغتني وقدرته على الشيء إنما هي بإقدار الله جل وعلا له وبإغتنائه جل وعلا، وإذا كان كذلك فإن:
1. الخارق للعادة إذا كان راجعا إلى صفة الغنى فقد يكون لحاجة من حصل له الخارق، فالخارق حصل له لأجل إغنائه، فهذا يدل على أنّ من حصل له الخارق لا يُفضَّل على من لم يحصل له الخارق؛ لأنّ الخوارق راجعة إلى صفتي الغنى والإقتدار، فإذا كان ليس بغني ومحتاج وضعفت نفسه فقد يكون يحصل له خارق، وهو ليس كالولي الذي لم يحصل له خارق، لهذا نجد أنَّ بعض الصحابة كان أكثر خوارق ممن كان أفضل منه كأبي بكر وعمر، وذلك لكمال غنى أبي بكر وعمر الكمال البشري، وافتقار ذلك إلى ما يقوي إيمانه ويصحح أويثبت يقينه.
فحصول الخارق من حيث هو باعتبار صفات الكمال راجع إلى النقص، فيحصل الخارق لفائدة الشخص لرفع النقص عنه في صفات الكمال أو لزيادته في صفات الكمال، فإذا كان ضعيفا من جهة الغنى زِيد في غناه بالخارق ليقوى إيمانه.
2. كذلك من جهة القدرة ربما أُعطي ليظهر إيقانه كما يحصل للمجاهدين فإنّ بعظهم يُكرم بأشياء؛ لأنهم لم يحققوا من أمر الله جل وعلا ما يوجب إغتناءهم عن الكرامات، فيكون اتيانهم بالكرامات لأجل عدم قدرتهم والله جل وعلا يريد نصر دينه ونصر أتباع دينه على أعدائه وأعداء دينه.(6/176)
وهذه مسألة تحتاج إلى مزيد بسط لمعرفة أفراد صفات الغنى وتقسيماتها، وأفراد صفات الإقتدار والقدرة وتقسيماتها، وهي مبسوطة في كتب أهل العلم.
المقصود من هذا أن المجنون لا يجوز أن يوصف بأنه من الأولياء لأن ليس له اختيار وليس له فعل بنفسه، وإنما الأولياء هم المؤمنون المتقون.
([38]) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه،أما بعد: فهذا الفصل تفريع على تعريف الولي وشروط الوَلاية، قد ذكرنا لكم أن الولي هو كل مؤمن تقي وليس بنبي، والولي هو من حصّل الإيمان والتقوى، ومعلوم أنّ الإيمان والتقوى لا يشترط على أهله أنْ يكونوا على صفة ما في المأكل أو المشرب أو في اللباس، إلا أنْ يكون ذلك إتيان الحلال و ترك الحرام، فإنّ هذا هو الذي جعلهم أولياء مؤمنين أتقياء، تميّز الأولياء بلباس خاص يُشار إلهيم به ليس له أصل، وتميّزهم بشكل في شعورهم ليس له أصل، إما بحلق الرأس أو بتكثيره أو ما أشبه ذلك، فهذا كله ليس له أصل، وكذلك تميّزهم في مآكلهم أو في مراكبهم أو في مشاربهم ونحو ذلك، هذا كله ليس له أصل، بل يختلفون في هذه إذا كان ما يأتون من المباح لهم. نعم، مِن صفة أولياء الله جل وعلا أنهم لا يتوسّعون في المباحات؛ يعني ليس كل مباح يأتونه لأنّ الله جل وعلا نهى نبيه عن ذلك بقوله ?لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى?[طه:131]، وذَكر أنّ مدّ النظر إلى ما مُتِّع به الناس من زهرة الحياة الدنيا أنّ هذا من عاجلة الدنيا، ونُهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مدِّ العين إلى كل المباحات في الآية، وأنّ رزق الله خير وأبقى يعني في الآخرة، هذا يدل على أنّ من صفة العُبَّاد ومن صفة أولياء الله الذين كمّلوا الإيمان والتقوى أنهم لا يتوسّعون في المباحات،(6/177)
فربما كان الشيء مباحا وتُرك لأنّ فيه نوع تعلق بالدنيا، لكن مِن جهة الأمور لا يختلفون عن غيرهم إلا فيما يكون فيه نوع خرم للمروءة ودناءة أو أشباه ذلك فإنهم يتنزهون عنه، لهذا كان الناس يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلسه فيسألون أيكم محمد؟ لأنّه لم يكن عليه الصلاة والسلام يتميز عنهم بمكان أو بلباس أو بشارة ونحو ذلك عليه الصلاة والسلام، وأمّا إحداث بعض الألبسة لخاصة من الناس فإنما حدث في المائة الثانية، كما حدث أنّ للصوفية لباس خاص يعني للزهاد أو للفقراء، وكما حدث في المئة الثامنة أنْ يُخصّ آل البيت بلباس أخضر يجعلونه على أكتافهم أو بعمامة خضراء؛ ليدلوا الناس على أن هذا من آل البيت حتى يعطوه حقه الذي أوجبه الله جل وعلا له. هذه كلّها أمور حادثة، فعُلم منه أنّ الصالحين والأولياء والمتقين ليس لهم لباس خاص، ومن منع بعض الأشياء لأجل أنها ليست من لباس الأولياء،؛ فهذا من جنس المُحدثين في الدين وإن أعتقد صار ذلك بدعة وقولا على الله جل وعلا بلا علم، وهذا له أصناف شتى قد يقع الناس فيه من حيث لا يشعرون، يرون مثلا أنّ بعض الألوان تناسب وبعض الألوان لا تناسب، ويرون مثلا أنّ بعض الأغذية تناسب وبعض الأغذية لاتناسب،... وبعض المراكب تناسب وبعض المراكب لا تناسب، وأشباه هذا، وهذا إذا كان من جهة الرّأي فلا أصل له، أما إذا كان من جهة ترك مشابهة الفسّاق فإن هذا مطلوب، فإنّ الأولياء الصالحين لا يلبسون لباسا يشابهون فيه لباس الفساق وإن كان مباحا، ولا يعملون عملا يشابهون فيه الفسّاق ولو كان مستحبا، بل ربما تركوه لترك المشابهة، وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد حينما أتى لبيان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعره وأنّه عليه الصلاة والسلام كانت له جُمَّة تضرب إلى أنصاف أذنيه وكان له غَدائر يعني شعر طويل ربما جعله غدائر ، قال وكان على هذا العلماء حتى فشى في فسقة الجُنْد أنهم(6/178)
يتخذون الشعر للزينة عند أهل الفسق والمجون، لما شاع ذلك فيهم ترك العلماء إكرام الشعر وتربيته واختاروا قَصَّهُ مخالفة لفسقة الجند. وهذا أصل معروف وشاع في الأزمنة المتأخرة أنه يكون من صفة أهل الفسق أو من صفة أهل عدم الطاعة أنّ لهم كذا وكذا من الأحوال، فهي وإنْ كانت مباحة فتترك إذا كانت مميزة له، هذا يتميز به الصالحون لا حرج في ذلك، أما أنْ يُعتقد شيء من المباحات لاوما لأهل الصلاح، أو يُعتقد في شيء من المباحات أنه لا يجوز في أهل الصلاح دون سبب شرعي من مشابهة ونحو ذلك فإنه لا يسوغ، بل أولياء الله هم المؤمنون المتقون كما وصفهم الله جل وعلا لأنهم من جميع الفئات، فمنهم العابد، ومنهم العالم، ومنهم التاجر، ومنهم المعلم، ومنهم الغازي في سبيل الله، وأشباه هؤلاء في أصناف الأمة، كما قال الله جل وعلا في آخر سورة المزمل ?إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ?[المزمل:20]الآية، فذكر فيها أصناف الناس وأن منهم الذين يضربون في الأرض ويبتغون من فضل الله، وأنّ منهم من يقاتل في سبيل الله، وهذا يعم من أنواعا كثيرة.(6/179)
أما لفظ الصوفية ولفظ الفقراء فهذان لفظان حادثان من جهة وسم المتعبدين الزهاد بذلك، وذكر عدة أقوال في الصوفية واشتقاقها، وذكر الصحيح منها أنها نسبة إلى الصّوف، ولِبْس الصوف في الصيف والشتاء -الصوف الخشن- يدلّ على بعد عن التلذذ في الحياة في الدنيا، ولذلك صار سُنّة لهم أنهم لا يلبسون الرقيق من الثياب ولا القطن ولا الكَتَّان وأشباه ذلك من الثياب الناعمة؛ لأنّ فيها نوع تلذذ ونوع إقبال على الدنيا، وهذا بلا شك في أصله خروج عن السنّة؛ لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام كان يلبس الثياب ما جرت عادة قومه بلبسه ما لم يكن مما يخص المشركين في هيئتهم الظاهرة أو يخص أهل الكتاب في هيئتهم الظاهرة، فلبِسَ الإزار والرداء، ولبس القميص والسراويلات، ولبس العمائم وترك، ولبس الصوف ولبس الخزّ ولبس الكتان ولبس القطن ونحو ذلك، وهذا يدل على أن لبس الخشن من الثياب لأهل الصلاح أنه بدعة، قال الصحيح أنهم نسبوا إلى الصوف، فقيل لهم صوفية نسبة إلى الصوف، وهذا أرجح الأقوال كما ذكر، ومن القوال أيضا في نسبتهم التي لم يذكرها أنهم منسوبون إلى كلمة يونانية هي كلمة (صوفيا) وهؤلاء هم متنسكة اليونان الذين يطلبون الحكمة. فالفلسفة (فلا صوفيا) وبالعربية تكون بالسين وبالصاد.
وإذا عرفتَ تاريخ ظهور هؤلاء الصوفية في بلاد الإسلام، عرفتَ أنه جاء من جهة النصارى، فإنّ اتصال بعض من لا علم عنده من المتزهّدة بالنصارى وانقطاع أولئك مع النصارى في معابدهم في الكنائس والأديرة خارج البلدان المعمورة خارج المدن، أنشأ هذا المذهب أو هذه الطريقة الصوفية، كما هو ظاهر من كتاب الديارات للسابُسكي وغيره مما هو معروف في تاريخ الصوفية، يعني أنهم يطلبون – يعالصوفية- أنهم أهل الإشراق الروحي أو أهل الحكمة السلوكية. هذا قول نصره أيضا طائفة من العلماء.(6/180)
([39])هذه الأحاديث التي ذَكر فيها بيان خصال أهل الإيمان والتقوى، وأنّ مَنْ أتى بهذه الخصال فهو أحبّ إلى الله جل وعلا، ومعلوم أن من يُسَمَّوْن بالفقراء في البلاد التي تنتشر فيها الصوفية أو المتصوفة أنهم يتركون الجهاد في سبيل الله، وينقطعون عن الأعمال، ويَلزَمون مجالسهم في مساجدهم، أو يلزمون الذِّكر، أو يلتزمون الببيوت، ولا يعملون من الأعمال الصالحة ما ذكر الله جل وعلا في كتابه أو بيّنه الله جل وعلا في سنته من حل أهل الإيمان والتقوى، فعُلم منه أنه يفوتهم شيء كثير من الطاعات، فمن أتى بهذه الطاعات فهو أفضل منهم ولو كانوا منقطعين فإنّ الإيمان يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وكلما كان المرء أكثر طاعة لله كلما كان أقرب وأعظم وأكرم عند الله جل وعلا.
لهذا ليس من صفة الأولياء الإنقطاع عن مخالطة الناس، وليس من صفة الأولياء أنهم يلتزمون البحث عن النفس وعن عيوبها ويتركون بهذا الأعداء بأصناف الأعداء، بل أولياء الله جل وعلا هم الذين يمتثلون الأوامر حيث وجبت عليهم، أو توجّهت إليهم؛ فإذا كان المقام مقام إصلاح للنفس أصلحوها، وإذا كان المقام مقام تركٍ للحرام تركوه، وإذا كان المقام مقام جهاد جاهدوا، وإذا كان المقام مقام دعوة دَعَوْا، وإذا كان المقام مقام أمر ونهي أمروا ونهوا، كل ذلك لتحصيل ما أمر الله جل وعلا به، أما من يترك هذه الأشياء ويلتزم الذِّكر الطويل ويلتزم العبادة الطويلة والصلاة الطويلة ويترك واجبات كثيرة، فهذا ليس بأفضل ممن يقوم بواجبات هاهنا يعني حيث وجبت. فيقوم بكلّ ما أوجب الله جل وعلا عليه بحسب طاقته. نكتفي بهذا.(6/181)
([40])هذا تتمة لما سبق في بيان أنّ أولياء الله جل وعلا ليس لهم وصف غير الإيمان والتقوى والسعي في تكميل ما أوجب الله جل وعلا عليهم والابتعاد عما نهى وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وأن هؤلاء لهم صفات متعددة فأكرمهم عند الله أتقاهم فأعلاهم منزلة عند الله جل وعلا أمثلهم وأكثرهم امتثالا لشرعه ودينه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفليسوا بالاسم يكونون أولياء؛ باسم الفقير، أو باسم الصوفي، أو باسم العالِم، أو باسم المحدِّث، أو باسم المؤلف، أو باسم كذا يكونون أولياء، وإنما يكونون أولياء بتقربهم إلى الله جل وعلا بالطاعات الواجبة والمستحبة وابتعادهم عما نهى الله جل وعلا عنه ونهى عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هذه صفتهم.
([41])غلِط، يغلَط،غلَطا، في الماضي غلِط، والمضارع يغلَط.
([42])هذا التفصيل أصل في مسألة الوَلاية؛ وهو أنّه ليس من شرط ولي الله جل وعلا أنه لا يخطئ البتة، أو لا يغلط أبدا، أو لا يكون عنده إلتباس في بعض المسائل المهمة في العقيدة أو في الشريعة، أو لا يكون عنده نقص في العمل في بعض الأشياء، هذا ليس مِنْ شرط ولي الله جل وعلا أنْ يكون كاملا، إذْ لو شرط هذا لقيل إن الولي في مرتبة النبي؛ لأن النبي هو الذي لا يغلَط وهو الذي لا ينقص عن الكمال في مسألة الطاعة، ولا يلتبس عليه شيء، أمّا أولياء الله جل وعلا في هذه الأمة وفي الأمم فَهُم أكمل أقوامهم وأكمل أتباع الأنبياء، فقد يحصل لهم غلط والتباس واشتباه وبعض قصور في العمل، ولا ينفي ذلك أن يكونوا أولياء الله جل وعلا؛ لكن من كان أتم في العلم والعمل كان أكثر وأعظم ولاية؛ لأن الولاية تتبعض -كما ذكرنا في دروس ماضية-.(6/182)
ومن المهم في هذا الباب أنَّ الولي -كما ذَكر- قد يحصل له اشتباه فيما يحصل له من أنواع الكرامات أو الخوارق؛ فإنّه يأتيه خارق قد يحصل له اشتباه في أنْ يظنّه كرامة وهذا لا يقدح في أن يكون وليا ولو كان هذا الخارق شيطانيا؛ لأنّ هذا راجع إلى العلم، فالتفرقة ما بين العارض الشيطاني والعارض الرحماني، أو الكرامة الرحمانية والخارق الشيطاني هذا يحتاج إلى العلم بالتفريق في ما بين هذا وهذا، فإذَا لم يفرِّق كان ذاك بسبب قصور العلم، وقصور العلم لا ينفي أن يكون وليا لله جل وعلا في مثل هذا؛ لأنّ الإلتباس وقع على كثير من الصفوة في مثل هذه المسائل فيقع لهم أشياء من خوارق الشيطان، وقد يكون ضعيفا عن العلم بها.
القاضي يكون وليا لله جل وعلا وقد يخطئ في اجتهاده، ... لكنه حين اجتهد استفرغ وسعه أو يعطي مالا لغير مستحقه في نفس الأمر، لكنه حين أعطى استفرغ وسعه في الإجتهاد وبذل طاقته، والله جل وعلا رفع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان، وثبت كما نقل شيخ الإسلام في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال «إذَا اجتهد الْحَاكِمُ فَأَصَابَ, فَلَهُ أَجْرَانِ» أجر الإجتهاد وأجر الإصابة، وإن أخطأ فله أجر واحد وهو أجر الإجتهاد بذل الوسع في معرفة حكم الشرع في هذه المسألة.
فهذا يعني أن من رُئِي عليه نقص في العلم والعمل مما لا يقوده إلى معصية فإنه لا ينفي أن يكون وليا لله جل وعلا، وقد يكون عنده قصور في السنّة في بعض المسائل، أو قصور في العلم في بعض المسائل، ويكون عنده من الخير والعبادة وتحقيق الإيمان والتقوى ما به يكون وليا لله جل وعلا، والأولياء مراتب ودرجات ليسوا مرتبة واحدة إما أن تحصل وإما ألاّ تحصل، بل هم متفاوتون في ذلك كما قال جل وعلا ?هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ?[آل عمران:163].(6/183)
([43])المقصود من (مع اجتهاده) فيما يسوغ فيه الإجتهاد، أمّا الإجتهاد في المسائل المجمع عليها أو في العقيدة؛ عقيده أهل السنة أو ما أشبه ذلك فهذه لا يسوغ فيها الإجتهاد، ومن خالف واجتهد فيما ليس مجالا للإجتهاد فهو معلوم ومؤثّم، أما المسائل التي يقبل فيها الاجتهاد لا يلام صاحبها بل يشكر، ولا يؤثم إذا أخطأ بل يقال أخطأ وأراد الخير حيث اجتهد فيما يسوغ فيه الإجتهاد.
? ...أمّا من جهة المواجهة فلا، لأنها مدح وثناء، فلا يكون في وجه الرجل أما في ذكره وخلفه يعني فيما لا يكون مواجهة فلا بأس، إذا كان المرء قالها عن علم لا عن هوى لأن مسألو الولاية تدخل فيها الأهواء وقد يقول لمعجب له هذا ولي الله ليرفع مقامه بين الناس، هذا حكم عليه بأنّه ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] لا يجوز التجرّي في مثل هذه المسألة إلا بعلم، وهدي السلف ترك المقولة هذه إلا في أشخاص معدودين مثل أنهم قالوا فلان من الأبدال، فلان من أولياء الله، قليل، فيمن اشتهرت إمامته وعلمه وتقواه زصلاحه فلا بأس، أما أن تدخل هذه الأسماء الأهواءُ وكل معجب بأحد يقول هذا ولي الله، وإذا لم يكن هذا ولي لله فليس لله ولي، أومثل هذه العبارات، فهذا من التَجَرِّي على الدين وعلى ما يحب الله.(6/184)
([44]) مُحَدَّث يعني مُلهَم، فيُلقى الصواب في روعه فيدركه؛ يأتيه، وعُبّر عنه بلفظ المحدَّث لأن صاحبه يشعر أنه يحدث بهذا الصواب، فيحدث كأنّ أحدا يكلمه في داخله ويقول كذا وكذا، من الكلام في المسألة، مثل ما حصل لعمر - رضي الله عنه - فإنه ثبت عليه الصلاة والسلام أنه قال «إن الله ألقى الحق على لسان عمر وقلبه» وعمر - رضي الله عنه - حُدِّث بحال سارية فتكلم به ((يا ساريةُ الجبل، الجبل)) يعني إلزم الجبل، حُدِّث بحاله فأوصى، وكُشِفَ له حجاب البصر فرأى ما يفعل سارية فأوصى، فإذن التحديث راجع إلى علم سمعي، قد ذكرنا لكم أنّ الكرامات منها ما يحصل من جهة العلم، ومنها ما يحصل من جهة السمع، ومنها ما يحصل من جهة البصر، ومنها ما يحصل من جهة القدرة، فهي أربعة اقسام: كرامات علمية، كرامات سمعية، وكرامات بصرية، وكرامات قُدرية.
1. فالعلمية: مِثْل ما حصل لأبي بكر الصديق أنه قال لإمرأته أن في بطنها أنثى هذا من جهة العلم، ويدخل فيه قول عمر يا سارية الجبل، الجبل.
2. والسمعية: مثل سماع سارية لكلام عمر - رضي الله عنه - فسمع كلام عمر؛ فهذا كرامة من جهة السمع.
3. من جهة البصر: يرى ما لا يرى غيرُه، أو أو يحجب عنه ما يُرى بالبصر، مثل أن شُرَط دخلوا على الحسن يريدونه فبحثوا في البيت، بحثوا، لم يجدوا أحدا وخرجوا وهو بفناء الدار جالس يُسبِّح أمامهم، فحُجب عنهم أن يُبصروه، هذا من جهة الكرامات البصرية.
4. والكرامات القُدريّة: -من جهة القدرة- أنْ يقدر على ما لا يقدر غيره. يقدر على أن يمشي على الماء بإقدار الله جل وعلا عليه وإكرامه له، يقدر على أن يُحيى له الميت، مثل ما حصل للصحابي مع فرسه، أو حصلت له من جهة القدرة أنه يرفع فلا يُعرف له مكان، أو دخل النار فلا يضره ذلك. وأشباه هذا.(6/185)
إذن هي أقسام يمكن أن ترجع أنواع الكرامة إلى واحدة من هذه الأقسام، وكلّ قسم منها أيضا ينقسم إلى نوعين: لازم، ومتعدي. وحصول اللازم والمتعدي لمن حصلت له لا يدل على قوة إيمانه، ولا قوة إيمان من حصلت فيهم؛ لأنّه قد يكون محتاجا إلى ذلك فيُثَبَّت بالكرامة، فقد يكون الناس محتاجين فيثبتون بالكرامة إذا حصلت لبعضهم.
([45])السكينة اسم لما يُسكن إليه من الأقوال والإعتقادات والأعمال، ويُسكن إليه لأنّه الحق. كما قال جل وعلا في الإعتقادات ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ?[الفتح:4]، وقوله (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا) دل على أنّ السكينة حصل بها زيادة إيمان لهم، فهي نوع اعتقاد نتج عنه الطمأنينة والراحة. كذلك ما يُسكن إليه مِنَ الحق في الأقوال يقال سكينة، وما يُسكن إليه من الأعمال للحق يُقال له سكينة،... (سكينة تنطق) هذه سكينة قولية.
([46])ومن هذا الموافقات؛ وافَقَ حكم عمر حكم الرب جل وعلا في مواضع في القرآن.
([47]) وقصد بالمخاطبات ليست المخاطبات التي يخاطب بها الرب عبادَه أو تخاطِب بها الملائكةُ العباد؛ لأن هذا للأنبياء، وإنما يقصد بالمخاطبات الإلهام القولي الذي يُحس به الولي المحدَّث في نفسه؛ فيحس أنه يخاطَب بشيء، وأنّ كلاما يقال له في أذنه أو في قلبه، وهذا نوع من الإلهام له، قد يكون بواسطة الملَك الذي يلازمه وقد يكون بواسطة ملَك آخر، المهم أنه ليس وحيا إليه، ولا مكاشفة قولية من الرب جل وعلا كما يزعم الصوفية.
([48])ثبت في الصحيح يحتمل أن يكون المراد ثبت في البخاري أو مسلم أو هما معا. ومراده هنا مسلم.(6/186)
([49]) النكتة من نكت القوم يعني يأتي في خاطره وفي قلبه شيء مما يتصل بالإيمان والأحوال وتزكية النفس ورؤية الأشياء والتفكر وأشباه ذلك. فيقع في الخاطر أشياء. قال فلا أقبلها إلا بشاهدين من الكتاب والسنة؛ لأنّه قد يكون هذا الخاطر الذي جاءه ليس بحق، قد يكون هذا التأمل الذي جاءه باطل، قد يكون هذا الاستنتاج الذي استنتجه باطل، فإذا شهد له الكتاب والسنة وهما القاضيان والشاهدان والمعدِّلان والمزكيان للأفكار والآراء، فإنه إذا لم يُشهد له فإنه باطل.
?... لأنه يعلم وخالف عنه فهذا من أهل الإباء والإستكبار مثل حال ابن عربي والتلمساني وأشباههم؛ الذين يقولون لأقوامهم ما نقول لكم وحي من الله، ونحن معصومون أن نخطئ لا في اللفظ ولا في العمل ولا في الفكر، هؤلاء إما أنْ يكونوا علماء فهؤلاء كفار لأنهم أبوا واستكبروا عن الإنقياد للحق وإلا أن يكونوا جهّالا هؤلاء قد يعذرون.(6/187)
([50])في كلامه (القديم) غلط؛ لأن القرآن محدث ليس بالقديم، كما قال سبحانه ?مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2)لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا?[الأنبياء:2-3]، وكذلك في آية سورة الشعراء، فالقرآن مُحْدَث بمعنى حديث النزول من ربه جل وعلا حديث العهد من ربه جل وعلا، إنما تكلم الله به فسمعه جبريل فبلغه للنبي عليه الصلاة والسلام، وأما الذي يقال أنه قديم هو كلام الله ليس القرآن، الكلام كلام الرحمن جل وعلا نقول قديم النوع حادث الآحاد، ويجوز أن نقول إنّ كلام الله قديم؛ يعني قديم النوع لا بأس بهذا؛ لأنّ الله جل وعلا أول وكذلك صفاته سبحانه وتعالى أزلية -يعني الصفات الذاتية- أزلية قديمة، فهو سبحانه وتعالى يتكلم كيف شاء وإذا شاء وكلامه قديم ولا يزال يتجدد كلامه بتجدد الأحوال، متعلِّقا بمشيئته سبحانه وتعالى وقدرته، فالقرآن لا يسوغ وصفه بأنّه قديم، بل هذا مذهب الأشاعرة فإنهم يجعلون القرآن قديما تكلم الله به في الأزل، فكل كلام أراده الله ثم يتعلق هذا الكلام بالإرادة وبالزمن الذي يصلح له فيتجدد، فليس عندهم أن القرآن كلام الله جل وعلا الذي تكلم به حين أَنزل القرآن، ولهذا اعترض الآمدي عليهم في هذه المسألة في كتابه أفكار الأفكار وفي كتابه نهاية وغاية المرام وفي غيرهما بأن قول الأشاعرة باطل فإم أن يكون الحق من جهة التقسيم قول أهل السنة وإما أن يكون قول المعتزلة الذي هو أن القرآن مخلوق ثم استدل على بطلان قول المعتزلة وبقي الحق وهو قول أهل السنة؛ لأنه يلزم من أن القرآن قديم -حسَب كلام الآمدي- قال تأملت هذه المسألة -وهو أشعري من كبارهم، من علماء أهل الكلام- من يقول الكلام قديم فإذا في القرآن ?قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا?[المجادلة:1]، وفي القرآن ?قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي(6/188)
السَّمَاءِ?[البقرة:144]، وفي القرآن ?قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ?[الأنعام:33] ونحو ذلك مما فيه ذكر صيغة الماضي قد سمع الله فإن كان هذا الكلام قديما فإن الله يقول قد سمع لشيء لم يحصل وهذا، وهذا لا يجوز لأنّه نوع من الكذب وهذا يدل على بطلان هذا القول.
المقصود أنّ القول هذا (في كلامه القديم) هذا غلط موافق لطريقة الأشاعرة لعله من إضافاتهم.
([51])هذا الكلام الذي سبق كله تفريع على ما ذكرتُ في أول الفصل من أن أولياء الله جل وعلا ليس من شرطهم أن يكونوا معصومين من الغلط؛ بل قد يكون المرء يغلط بالعمل وقد يكون عنده بعض غفلة؛ بعض نسيان، قد يغلط في بعض ما يجتهد فيه سواء في أمور العمليات أو العلميات فكل هذا يحصل، وهم على نوعين:
1. منهم من يغلط بعد استفراغ الوسع والطاقة في الإجتهاد، فهذا معذور وله أجر على اجتهاده؛ لأنّه نظر واجتهد وأفرغ الوُسع والطاقة، والله سبحانه وتعالى يقول ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ?[التغابن:16].
2. ومنهم من لا يُفرغ الوسع والطاقة، ولا يجتهد عن بذل لتحري الحق، وبذل لطاقته في تحصيل الحق، وإنما يثق بأول خاطر أو إذا نَدَر عليه شيء و عرض لذهنه شيء أو لقلبه تطق به أو تكلم، وذكر ذلك عن نفسه أو حثَّ الناس عليه، دون الإجتهاد والرجوع إلى النصوص، فهذا مذموم، وإن كان يُسَمِّي نفسه مجتهدا فهو مذموم.(6/189)
فأولياء الله جل وعلا لا يشترط فيهم عدم الغلط، بل يكون وليا وإنْ كان عنده نوع معصية أو غفلة لا يقيم عليها، أو عنده نوع إجتهاد يغلط فيه ويبقى على غلطه لعدم ظهور الحجة له، أو لتأوله ولإجتهاده هذا بخلاف حال الأنبياء فهم الذين لا يتكلمون إلا بحق ولا يوافقون أو يقرون على إجتهاد باطل، وهذا من الفروق ما بين الأنبياء –كما ذكر- وبين الأولياء، وهذا يبين لك ضلال قول من قال إنّ الأولياء أرفع رتبة من الأنبياء، مثل ما قاله الضال الزنديق حيث يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف ببناء الأنبياء فوجد لبنة في زاوية منه لم تَكْمُل فقال أنا تلك اللبنة. قال: فيرى خاتم الأولياء نفسه في مقام لبنتين في البناء لبنة ظاهرة من ذهب، ولبنة باطنة من فضة -أو العكس- ويأخذ من المشكاة التي أخذ منها الرسول. فهو في الظاهر متبع وهو في الباطن يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الرسول عليه الصلاة والسلام؛ يعني يأخذ من الله مباشرة أو من جبريل، وهذا رفع لمقام الأولياء على مقام الأنبياء وهو من أنواع الزندقة، فمن فَضَّل وليا على نبي فإنه كافر بالله جل وعلا لأن الأنبياء هم أفضل الخلق والأولياء تبع لهم بل ما ارتفع الأولياء إلا لكونهم أتباع الأنبياء، فدليل وَلاية الولي أنّه تابع للنبي كيف يكون أفضل منه؟ أو يأمر بشيء لم يجيء بالكتاب والسنة أو ينهى عن شيء قد جاء الأمر به في الكتاب والسنة، وأشباه ذلك، لا شك أن هذا ليس من صنيع أولياء الله.
ومثل هذا الكلام هنا ربما لا نعرف أبعاده لكن في البلاد التي يكثر فيها الصوفية وغلاة الصوفية يرون من هذا شيئا عجيبا، حتى أن الشعراني ذكر بأن فلانا الولي يقول ومنهم يعني من الأولياء سيدي فلان الفلاني كان - رضي الله عنه - يتلو آيات ليست في القرآن، وكان فلان من الأولياء يخطب الجمعة في سبع صلاة يعني في نفس الوقت، ونحو ذلك مما يفضلون به الأولياء على الأنبياء، مثل ما قال قائلهم:(6/190)
مقام النبوة في برزخ فُوَيْقَ الرسول ودون الولي
يعني أن أعلى مقامات الولي ثم يليه النبي ويليه الرسول، عكسوا.[انتهى تعليقات الشريط الثالث]
([52])ينطق بعض الأوقات من الغيب.
([53])هذا الكلام مبني على تفصيل ما ذكره في الفصل، وأنّ أولياء الله جل وعلا لا يكونون أولياء حتى يكونوا مِن المتبعين للكتاب والمتبعين للسنة وليس الوَلاية دعوى ليس لها برهان، فمِن الناس من يغلط في هذا الموضع فيقول هذا ولي الله فيقبل منه ما جاء به ما ذكر على أساس هذه المقدمة الباطلة أنّه ولي لله، فلا يكون وليا لله في الواقع لمخالفته للأمر والنهي ولوقوعه في مفسِّقات أو في أمور بدعية أو شركية إلى غير ذلك، فيُسَلِّم له الأمور البدعية أو الشركية على أساس أنه ولي لله جل وعلا، وهذا هو الذي جعل البدع والشركيات تنتشر في الأمصار من جرّاء الاعتقاد في الأولياء، فإنّه يكون هذا الولي حيًّا ويكون فاسقا فيحبّب للناس بعض المنكرات أو بعض البدع ليحصُل منهم على مال أو على جاه أو إلى آخره، فيعتقد الناس أنّه ولي فيتبعونه على ذلك ويقولون قالها الولي الفلاني، والذي يحطِّم هذا الأمر هو إقامة البرهان عند الناس أن الوَلاية لا تكون إلا للمؤمنين المتقين ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] فالمؤمن الذي حصَّل الإيمان والأركانه، المتقي الخائف من اللله جل وعلا، والممتثل للواجب، وينتهي عن المحرم ووجل قلبه من الله، ويستعد للقائه، وهذا هو المتقي، وهو المؤمن الذي يرجى أن يكون وليا لله جل وعلا، أمّا الذين أتوا بالبدع والشركيات ليسوا من أولياء الله فَرَاج أمرهم في الناس والناس لا ينظرون هل هو ولي أم ليس بولي. إنتشر في الناس أنه ولي فقبلوا كل ما جاء به ولهذا ذكر لك في أول الكلام أبي عمرو بن نجيد (كل وَجْدٍ لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل) والوَجد(6/191)
يعنون به ما يظهر للمرء من الاستحسان لأشياء في العبادة أو في التأملات والتفكر، أو في السلوك مع الناس وكل وجد ليس عليه دليل فهو باطل.
ومن عجائب ذلك ما ذكره بعض العلماء أن رجلاً من أحفاد أحد الأولياء -كما يزعمون- في المغرب، زعم عند بعض الناس أنه من أولياء الله وأن جدَّه حدثه بكذا وكذا وكذا، فعظَّمه من حلّ بهم وأسكنوه عندهم، فصار يأمرهم وينهاهم وهم يطيعون، فقال لا أكافؤكم إلاّ أن تحجوا معي هذا العام، قالوا أَوَ تحج؟ قال نعم وستحجون معي جميعا، -وهم في المغرب- فلما صار وقت الحج قرب وأعدّ العدة، قالوا ألاَ نحج؟ قال سوف نحج فالأمر عند الأولياء يسير، والثاني والثالث، والرابع حتى أتى يوم عرفة، فقالوا ألا تحج؟ فقال بلى إذا أتى بعد العصر ذهبنا إلى عرفة، فلما أتى بعد العصر أمرهم بالإستعداد، ولما تجهزوا هم وأهلوهم، قال هلمُّوا، فصعد بهم إلى سطح البيت، وقال لهم سبحان الله هذا جبل عرفة، فقالوا له أين جبل عرفة؟ فقال لهم وهل تريدون أن تروا نُورَ الأولياء؟ هذا جبل عرفة أدعوا هنا، فدعوا فلما مكث مدة، قال غابت الشمس في عرفة فارحلوا فرحلوا قليلا، فقال افعلوا كذا، أتريدون أن نطوف هذه الكعبة، فطوفوا، فأخذ يعمل بهم مثل هذه الحركات وهم يسلمون له للوَلاية.(6/192)
يعني أن الدرجة الأولى التي يدخل بها صنيع الدجالين والمشعوذين والكهنة وأشباه هؤلاء أن يقال لكل الناس وأن يعلم كل الناس أن الولي لا يكون إلا مؤمنا تقيا، فإذا كان حي في الناس يأمرهم وينهاهم ويدعوهم إلى أشياء ويعتقد أنها تفيد، فيقال لهم الولي هو المؤمن التقي وهذا من أفعاله كيت وكيت وكيت من المحرمات، والأولياء الدجالين أشاعوا في الناس أن الأولياء أعمالهم الظاهرة غير أعمالهم الباطنة حتى لا يأتي مثل هذا، فيقال هو في الظاهر يعمل أشياءً وفي الباطن قلبه وعمله لله جل وعلا، ومنهم طائفة تسمى الملامكية أو الملامية، وهم الذين إدَّعَوْا أنهم لإخلاصهم يُظهرون خلاف التوحيد، أوخلاف الإستقامة، خلاف الإخلاص لأجل أن لا يُتَّهموا بالرياء يقولون نظهر هذا في الناس لأجل الإخلاص حتى لا يقال هم مراؤون، فيُخفون الطاعات ويظهرون الفسوق لأجل ألا يرائي في الناس، ففي مثل هؤلاء قال فضيل بن عياض وجماعة ”العمل لغير الله رياء وترك العمل لغير الله شرك“ فهؤلاء يزعمون أنهم هربوا من الرياء ووقعوا في الشرك، لأنهم تركوا العمل لأجل الناس، فالعمل لغير الله رياء وترك العمل لأجل الناس أو لغير الله هذا شرك. يعني ترك العمل الصالح الواجب.
المقصود من هذا أن تأصيل شيخ الإسلام عظيم في بيان هذه المسألة المهمة.
[الهروي الذي تكلمنا عليه المرة الماضية هو أبو إسماعيل في الصحيح مثل ما هو موجود عندكم في الكتاب أبو إسماعيل عبد الله محمد الهروي ليس إسماعيل إسماعيل رجل آخر غير المنقول الآن؛ أبو إسماعيل عبد الله محمد الهروي]
([54]) هذه صفات موجودة في فئات ممن يُدَّعى أنهم من الأولياء وأنهم من أصحاب الكرامات:
الفئة الأولى المجاذيب والمجانين: وفيهم مثل هذه الصفات من ترْك الوضوء والصلاة لأنه مجنون أصلا، والناس يعتقدون في جنونه كما سبق أن ذكرنا.(6/193)
الفئة الثانية الدّجّالون: الذين عرفوا أن مثل هذه الصفات يعتقد الناس فيها الوَلاية، فأرادوا أن يجعلوا لأنفسهم مقاما، فتلبسوا بهذه الصفات المنكرة، والعياذ بالله لأجل أن يعظمهم الناس ويدعوا فيهم الوَلاية.
الفئة الثالثة الكهنة والسّحرة وأصحاب المخارق الشيطانية: والمشعوذون منهم عقلاء ولكن يستعينون بالجن ويستخدمون الجن يكون لهم مثل هذه الصفات السئة.
هذه الفئات الثلاث إدعى فيها الناس إلى يومنا هذا أنهم من أهل الكرامات والأولياء، نجد في بعض البلاد يُقال للكاهن أنّه ولي وهو كاهن، إنما يخبر من طريق الجني، وكذلك منهم من يجعل المجنون الذي يترك الصلوات ويلابس النجاسات ولا ينطق كلمة عاقلة يجعلون ذلك أيضا دليلا على ولايته وكرامته كذلك الفئة الثالثة، فكما ذَكر شيخ افسلام هنا أن أهل الإيمان لهم صفات وهؤلاء وإنْ ظهرت على أيديهم خوارق فإنما هي من الشياطين لتغوي الناس، شياطين الجن قد تُظهر للمرء بعض المعلومات، وقد تجعل له بعض الأحوال في مساعدتهم فيغتر الناس لذلك، والجن أقدرهم الله جل وعلا على بعض الأمور لا يقدرها البشر كما قال جل وعلا ?قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ(39)قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ?[النمل:39-40] يعني من الإنس ممن عُلِّم الاسم الأعظم (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ) يعني بالإسم الأعظم الذي إذا سئل به الله جل وعلا أجاب وإذا طلب به منه أعطى?أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ?[النمل:40]، إلى آخر الآيات، فدل أن الجن يقدرون على أشياء أقدرهم الله جل وعلا عليها، (قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ) أحمل لك العرش من اليمن إلى بيتك أو إلى دار لك في الشام قبل أن تقوم من مقامك فقط مدة مقامك في المجلس.(6/194)
فالجن يخبرون بمغيبات، ليست مغيبات مطلقة؛ مغيبات عن بعض البشر حصلت في الماضي، وربما أخبروا عن مغيبات تحدث في المستقبل، ومنهم من يكون صادقا فيما أخبر ويكون مما إلتقطه المسترق السمع، ومنهم وهو الأكثر أن يكونوا كَذَبَة فيكذبون مع الخبر الصادق مائة كذبة فيروج هذا فيالناس، ومنهم –يعني غير الإقدار وغير الإعلام وهو الوحي- من يوحي يعني يلقي في نفس وليه ما في قلب صاحبه؛ فيأتيه آتٍ ويقول له كلاما فيأتيه الجني ويقول هذا كاذب لأنه حصل منه كذا وكذا فيقول أنت كاذب، كيف تقول هذا وفي بيتك كذا؟ كيف تفعل وأنت البارحة قد عملت كذا فيغتر هذا السائل بحال هذا المسؤول. هو الذي يعلمه بالأمور الغيبية الماضية والحاضرة والمستقبلة ويخبره عن أشياء وهو الملك، ولا يجعلون هذا من الشياطين لأنه بالإتفاق الشياطين لا تخدم أهل الإيمان، لهذا وَجَب على المؤمنين أن يغتروا بمثل هذه الظواهر التي يكون فيها ادعاء للخوارق.
كما ذكرنا أن الخوارق تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1. خوارق جرت على يدي الأنبياء هذه تسمى آيات وبراهين ودلائل.
2. وخوارق جرت على يد أولياء صالحين مؤمنين متقين هذه تسمى كرامات.
3. والثالث خوارق جرت على أيدي الفسقة، المردة، وربما كفرة بعيدون عن الشريعة لا يصلون ولا يتطهرون، أو عندهم بدع، عندهم خرافات وأشباه ذلك، هذه تكون من عند الشياطين.
طبعا في حدودها مختلفة؛ يعني الخارق الشيطاني غير الكرامة بضابطها غير الآية والبرهان.(6/195)
([55])وأظهر دلالة على المقصود من إستدلاله بالآيتين قوله جل وعلا في سورة الأنفال ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا?[الأنفال:29] فبتقوى الله جل وعلا يجعل للمرء فرقانا، وهذا الفرقان قد يكون في الأمور العلمية، وقد يكون في الأمور العملية، وقد يكون في الأمور القُدرية يعني الراجعة إلى القدرة, وهذه هي أنحاء الكرامات فالكرامة قد تكون راجعة إلى العلم، وقد تكون راجعة إلى العمل، وقد تكون راجعة إلى القُدرة، ولهذا قوله سبحانه (إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) يعني فرقان بين الأشياء بين الحق والباطل في الأمور العلمية، وما بين الهدى والضلال في الأمور العملية، وما بين صنيع الشياطين وصنيع الأولياء وكرامات الأولياء والصالحين ومخاريق الكهنة والشياطين، فهذا يكون بالتقوى، فإذا اتقى اللهَ العبدُ وكان في تقواه محسنا، فإنه يؤتى هذا الفرقان، ويُبصر الحق ويبصر الباطل وكما قال سبحانه وتعالى ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ?[الحديد:28] ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم، وهذا النور هو الفِراسة وقوله عليه الصلاة والسلام «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»، الفراسة قسَمَها العلماء إلى ثلاثة أقسام:(6/196)
1. فراسة خَلقية رياضية: هذه الفراسة هي التي كتبت فيها المألفات التي تسمى كتب الفراسة، يعني يستدلون بالخَلق على الخلق، يستدلون بالخَلق على الصفات، يستدلون بصفة العينين على ذكائه من عدمه، يستدلون بكبر الرأس عن ذكائه من عدمه، يستدلون عن سعة الصدر عن حلمه وعدم حلمه، يستدلون بوَفْرة جسمه على كذا من كذا، يستدلون بتقاطيع وجهه، بعرض جبهته، بشموخ أنفه بسعة وجهه، بطول وجهه إلى آخره، هذه أُلفت فيها مألفات كثيرة، بلون الشعر، بلون العينين على صفات هذا المتصف بتلك الصفات. فهذا النوع وهي الفراسة الخَلقية هذه راجعة إلى تجارب الناس منها ما هو حق، و منها ما هو باطل، كذلك ما فيها لا يجوز أن يُعتمد بإطلاقه، كذلك لا يرد بإطلاقه؛ لأنّ فيه ما هو من حق، ومن العلماء من كان يغلو في مثل هذه كان يعتمدها، مثل ما يذكر -وهو صحيح عنه- عن الشافعي رحمه الله، فإنه تعلم هذا النوع من الفراسة و أكثر فيها جدا، حتى ربما أُشتري له الشيء من أحد فسأل عن صفته فربما لم يطعم الطعام لأجل صفته؛ أرسل خادمه مرة فقال له أنْ يشتري له بعض البقول يعني بعض الخضروات فقال: ممن إشتريت؟ قال: من رجل؟ قال: ما صفته؟ قال: كان أعرج. فقال: لا آكله، كلوه. وأشباه ذلك، هذا نوع من التشاؤم وإن كان وقع فيه بغض أجلة أهل العلم وأجلة الأئمة لكنه شيء يغلب على النفس، وكل يأخذ من قوله ويرد0 وبعض العلماء أيضا كان يكثر من هذا ويستعمله في حياته، فهذا لاينبغي فأن الصحابة رضوان الله عليهم كانت صفاتهم محتلفة منهم كان دقيقا قصيرا جدا، ومنهم من كان طويلا، ومنهم من كان كبير الرأس، ومنهم من كان صغير الرأس، ومنهم من كان صغير العينين إلى آخر هذه الصفات التي يزعمون، وكاتوا في مقامات الإيمان والصلاح والفأل ومخالفة ما تعلمه.(6/197)
2. والنوع الثاني من الفراسة: فراسة علمية: وهذه الفراسة العلمية تسمّى فراسة؛ لأنّ العلم الصحيح يأتي لصاحبه كوُفود صاحب الفرس عليه، ودنو صاحب الفرس منه وتمكنه من ذلك. أيضا هذا يأتيه من العلم والإلهام ما يعلم به الحق، وهذا النوع من الفراسة هو الذي يكون كرامة من الكرامات ولهذا يببحث العلماء بحث الفِراسة وأنواعها في مبحث كرامات الأولياء لأجل هذا النوع0 فقوله عليه الصلاة والسلام «إتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» يعني هذا النوع من الفراسة في الأمور العلمية الراجعة إلى علمه بالأشياء؛ علمه بما في تفس صاحبه، ينظر إليه فيعلم ما يجول بخاطره، يعلم أنه يفكر في كذا وأشباه هذا، هذا من النور الذي يقذفه الله جل وعلا في قلبه، لكن هذا لايسوغ أن يُحكم به؛ يعني أنْ يجعل دليلا على الحكم؛ فيستعمله المستعمل على أنه دليل، هذا خاطر يأتي للقلب، ويكون في أهل الولاية وأهل الإيمان الصحيح والتقوى فراسةً، لكن لا يسوغ لصاحبه أن يحكم به وأن يستعمله، فيظن بالناس الظنون لأجل هذه الفراسة أو أن يحمدهم لأجل هذه الفراسة، لأن هذه الفراسة دليل ناقص؛ قد تكون من نور الله جل وعلا وقد لاتكون، فالمرء لا يزكي نفسه فلا يدري هذا الخاطر الذي هجم عليه هل هو من نور الله جل وعلا أو هو من الظن السيء أو هو من الظن الحسن الذي فيه تزكية لغيره وأشباه ذلك مما لا يسوغ، فله أن يستعمله من جهة الإحتياط، من جهة المعرفة ولكن ليس له أن يحكم به إلا في بعض الأحوال التي يقوى فيها حيث يكون عنده يقين بذلك قال عليه الصلاة والسلام «كان فيمن كان قبلكم محدَّثون» يعني ملهمين «فإن يكون أحد منكم فعمر»(6/198)
3. النوع الثالث من الفراسة -أُدخلت في الفِراسة- المسماة بالقياسَة: والقاسَة منهم من يعلم الأشكال فيلحق هذا بأبيه، ومنهم من يعلم الأثر. وهذه القياسة قد تصل في أهلها، معروف عن قبائل العرب فيها هذا الأمر كبني مُرَّة ونحوهم يعرفون من وطئ القدم هو من أي قبيلة، ويعرفون من وطئ القدم هل هو رجل أم إمرأة، وهل المرأة حائض أم طاهر، وهذا يسمى القياسة؛ تتبع الأثر، هذا علم خاص يتداولونه فيما بينهم وهو صحيح دلت التجارب على صحته، والشريعة جاء فيها الحكم بالقياسة، فالقائس يُحكم بقوله في المسائل التي يحتاج فيها إلى قائس، مثل تنازع الأنساب وأشباه ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام كان عنده زيد بن حارثة نائما وابنه أسامة بن زيد وقد غطيا وجهيهما وبدت أقدامهما، فات رجل من القاسة قال يارسول الله هذه الأقدام بعضها من بعض فسُرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وبرقت أسارير وجهه عليه الصلاة والسلام، لمحبته لأسامة ولأبيه رضي الله عنها، فهذا النوع شرعا ويحكم به ويصير القاضي إليه، وهو من حيث الظاهر أقوى الأدلة، يعني أقوى أنواع الفراسة، وليست الأدلة التي هي البينات عند القاضي، أقوى أنواع الفراسة؛ يعني من حيث الحكم الظاهر، أما الباطن فالثاني الذي هو الكرامة؛ فراسة المؤمن، والأول قد يكون أو لا يكون.
العلماء يقولون علم ... فيه استعداد فطري لكن هو علم. نكتفي بهذا
([56]) يعني دين الإسلام العام، فكل دين؛ الذي جاء به الرسل هو دين الإسلام لكنه دين الإسلام عام الذي يشترك فيه الأنبياء والمرسلون الذي هو الاستسلام لله بالتوحيد والإنقياد له الطاعة والبراءة من الشرك وأهله أما الإسلام الخاص فهو شريعة الإسلام؛ الذي أُرسل به محمد عليه الصلاة والسلام، فالإسلام ثلاثة؛ يطلق على ثلاثة أشياء:(6/199)
1. الإسلام العام: وهو دين الأنبياء والمرسلين جميعا من أجل قول جل وعلا ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ?[آل عمران:85].
2. و الثاني دين الإسلام الخاص: وهو الإسلام الذي بُعث به محمد عليه الصلاة والسلام.
3. والثالث هو الإسلام الأخص: وهو أن تشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن إستطعت إليه سبيلا.
إذن الإسلام في النصوص له هذه الإطلاقات الثلاث عام وخاص وأخص.
([57])هذا الكلام من أول الفصل على هنا في مسألة أنّ الأنبياء أفضل من الأولياء قطعا، وتفضيل النبي على الولي ظاهر من جهة الدليل، كما ذكر شيخ الإسلام بالأدلة الكثيرة في الباب، وظاهر أيضا من جهة التعليل؛ فإنّ الولي لم يكن وليا إلاّ باتباعه للنبي فبسبب إقتداءه بالنبي واتباعه له صار وليا وجاءته الكرامة من جهة اتباعه للنبي عليه الصلاة والسلام، فهو دائما أقلّ رتبة والأولياء في هذه الأمة أكملهم وأرفعهم درجة الأربعة الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
والطوائف التي فضلت الأولياء على الأنبياء، أو فضلت خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء ثلاث طوائف: أما الأولى: فهم غلاة الصوفية، والثانية: هم الرافضة والإسماعيلية باعتبار أصلهم بأنهم طائفة واحدة. والثالثة: الفلاسفة.(6/200)
1. غلاة الصوفية: فزعموا أن جهة تفضيل الولي على النبي، أنّ النبي إنما يأخذ من الملَك، وأما الولي فإنه يأخذ من المعدن الذي أخذ منه الملَك، كما قال ابن عربي في فصوصه؛ فالنبي يأخذ بواسطة والولي يأخذ بلا بواسطة ولهذا كتب ابن عربي كتابه المعروف (الأربعين عن رب العالمين) يعني التي حَدّث بها عن رب العالمين مباشرة لما سمعه منه. وهذا من حيث التفضيل أنّ الولي يصل به المكاشفة إلى حيث لا يكون هناك حجاب، والأنبياء حُجبوا منهم من كلموا في بعض الأحيان، أما الولي فإنه إذا اختار أن يسمع الكلام فما عليه إلا أنْ يصفي قلبه ويعمل بالرياضات الخاصة عندهم؛ الرياضات الروحية، ثم ينكشف له الحجاب فيصبح يرى ما يحدث في الملكوت ويسمع أوامر الحق جل وعلا للملائكة.
2. والطائفة الثانية الرافضة والإسماعيلية: فإن الرافضة يزعمون أن أئمتهم لهم من المقام ما ليس للأنبياء، وعندهم هذا من ضروريات المذهب حيث يقول بعض أئمتهم: من ضروريات مذهبنا أنّ لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل. يعني مما لا يُحتاج إلى استدلال أصلا معروف، الأئمة الأثني عشر إبتداء من علي إلى العسكري، هؤلاء لا بيلغهم ملَك مقرب ولا نبي مرسل، قال: وأنهم كانوا قبل خلق هذا العالم أنوارا فجعلهم الله بعرشه محدثين وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لم يجعله لأحد من العالمين. والإسماعيلية القرامطة والعبيديين والنصيرية والدروز زعموا أن الأولياء؛ أولياؤهم أعظم من الأنبياء من جهة أنّ الولي -وهم أولياء سبعة عندهم أو أربعة – أنّ الولي يحل فيه الحق جل وعلا، وليس كل شيء يستحق هذه المنزلة، فالأولياء تميزوا على الأنبياء لأنهم يحل فيهم الحق جل وعلا فيصبحون صورة لله جل وعلا؛ صورة ناسوتية وليست لاهوتية يعني بحلول الحق جل وعلا، فالجسمان جسمان إنساني ولكن العلم والحكمة والأمر والنهي إلهي.(6/201)
3. والطائفة الثالثة ممن يقولون بتفضيل الأولياء على الأنبياء الفلاسفة: فإنهم يقولون التبوة الفلسفة تجتمع في شيء واحد، وهو أن الجميع فيه تحصيل غاية الحكمة، والنبوة تحصيل الحكمة فيها بواسطة الملَك لا دور للنبي في تحصيل الحكمة بإدراكه وعقله وسعيه وبذله، وأما الفيلسوف الحكيم فإنه حصل له هذا المقام وإدراك الحكمة بفعله وإدراكه وبذله وعقله وفهمه، ولهذا الفيلسوف تساوى مع النبي في إدراك الحكمة، ولكن زاد على أنه أدركها بعقله وبحثه ونظره، وذاك بواسطة، ومن أدرك بنفسه أرفع درجة ممن أدرك بواسطة. وهذا القول وكل الأقوال السالفة زندقة وكل من قال بهذا القول فهو زنديق يستتاب هلى الكفر فإن تاب وإلا قتل. وكلام أهل العلم قالوا يجب قتله بلا استتابة؛ من أظهر هذا القول فإنه يجب قتله بلا استتابة؛ لأنّ هذا القول مما لا شبهة فيه أصلا وإنما هي زندقة محضة.
وما ذكره شيخ الإسلام في تفصيل الكلام واضح من أنّ الرسالات جميعا جاءت بالإسلام وأن الرسل إنما يَفْضُلون بالإسلام لله رب العالمين وباتباع الأنبياء والرسل يشرف أقوامهم والأولياء، إلى آخر ما ساق من الآيات والأحاديث في هذا الباب.
نقف عند هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(6/202)
([58])ما سبق يريد منه الشيخ تقي الدين رحمه الله أنْ يربط ما بين قول غلاة المتصوفة في مسألة الولاية وقول الفلاسفة، فإنّ غلاة المتصوفة أخذوا تفضيل الولي على النبي من الفلاسفة، والفلاسفة -كما ذكرت لك في الدرس الماضي- قالوا إنّ الفيلسوف وصل إلى الحكمة بجهده، وأما النبي فوصل إليها بإعطاء، ومعلومٌ أن المجتهد أفضل من المُعطى وهؤلاء نظروا إلى جهة العمل؛ لأنّ الحكمة والفضل يرجع إلى جهتين: إلى قوة علمية وإلى قوة عملية، فالفلاسفة فضلوا من الجهة العلمية؛ فضلوا الفلاسفة والحكماء على الأنبياء من جهة العلمية، والصوفية؛ غلاة المتصوفة فضلوا الأولياء على الأنبياء من الجهة العملية التي أساسها الجهة العلمية؛ لكن طابع الفلاسفة غير طابع المتصوفة، طابع الفلاسفة شيء والمتصوفة شيء آخر، سبب هذا التفضيل راجع إلى ما وصف لك شيخ الإسلام من أصول أقوال الفلاسفة من فلاسفة اليونان أصلا، والقول بوجودات مجردة وكليات مجردة وتصرفات للكواكب أو تصرفات للعلل التي تنتج المعلولات، وأنّ إدراك هذه الحقائق الكلية وتأثيراتها في هذا الكون هو حقيقة الحكمة والعلم الذي يتفاضل به الناس، فالقوة مختلفة؛ فالقوة العلمية والعملية هذه هي أقوى الإدراكات، وكذلك القوة التخيلية التي بها يُتخيل الأمر، فرجعوا بالنبوات إلى أنها إجتماع قوة علمية وعملية وتخيلية، فلهذا قالوا: نحن نقول ما نقول عن برهان، وأما الأنبياء والرسل فقالوا ما قالوا عن تخيل. والبرهان الذي أقاموه برهان خطابي لا برهان عقلي فإنما جاء في النبوات من ذكر الجنة والنار وذكر الغيبيات أمور عندهم خَطابية والعقليات المجردة وتصور الأمثلة المجردة عن الواقع، المقصود من هذا الكلام وهو مبسوط وله كلام لشرحه ولايناسب شرحه في المساجد.(6/203)
المقصود من هذا الصلة ما بين قول الفلاسفة الإسلاميين والفلاسفة اليونانيين ثم ما نتج من قول الصوفية، وفي الحقيقة أن الصوفية لم يأخذوا هذا القول كما ذكر شيخ الإسلام أو ما ألمع إليه كلامُه لم يأخذوه من الفلسفة الإسلامية، بل أخذوه من الفلسفة اليونانية، وأصل ذلك أن الفلسفة اليونانية والفلسفة القديمة لها قسمان:
1. فلسفة علمية: وهذه المراد منها الوصول إلى حقائق الأشياء العلمية على ما هي عليه.
2. والنوع الثاني فلسفة عملية: والمراد منها الوصول بالروح إلى إشراقها.
ولهذا صارت الفلسفة أقساما ومنها الفلسفة العلمية التي ذهب إليها أفلاطون وتلميذه أرسطو، والفلسفة الإشراقية التي قال بها أفلوطين (أفلوطين غير أفلاطون).
دخلت المذاهب –يعني فيه تفاصيل لمذاهبهم وكذا- هذه إلى بلاد المسلمين وتلقفها من تلقفها:
فالفلسفة العلمية تلقفها العقلانيون من المعتزلة فنشأ من خليط ما عند أهل الإعتزال وما عند الفلاسفة وما في النصوص ما يسمى بعلم الكلام، خليط من هذه الأشياء الثلاثة عقيدة المعتزلة، النصوص، فالفلسفة، فنشأ علم الكلام من مجموع هذه الثلاثة أشياء.
وأما الفلسفة العملية الإشراقية فهذه أيضا دخلت إلى المسلمين عن طريقين: الطريق الأول طريق الكتب المترجمة، والطريق الثاني مخالطة طائفة كبيرة من المسلمين للنصارى في أديرتهم في الشام وفي العراق وفي غيرها.(6/204)
دخلت الفلسفة الإشراقية -الفلسفة الإشراقية معناها الوصول بالروح إلى إشراقها فتتعدى العالم المحسوس إلى العالم غير المحسوس، وهذا يصل بالرياضة، يصل إليه الواصل بالرياضة-، هذا النوع هو الذي دخل في الصوفية فنشأ الغلو في التصوف من جهة دخول فلسفة أفلوطين الإشراقية، ونشأ ما يسمى بالسلوك الضال أو التصوف في خليط ما بين الزهد الشرعي، وما بين الإشراق الفلسفي وظهرت النظريات أو الأقوال المختلفة عند الصوفية الغالية من الإتحاد والوحدة والفناء إلى آخره نتيجة لهذا.وصلوا كما وصل إليه الفلاسفة العمليين الإشراقيين إلى أنّ الإنسان قد يصل إلى مرتبة تُكشف عنه فيها الحُجُب فيصل إلى ما وراء العالم المنظور إلى آخره.
فحصل القول عند الطائفتين أن الفيلسوف صاحب المحكمة هو أفضل البشر، فالفيلسوف العلمي العقلي أفضل من غيره، وهذا الذي قال به الفلاسفة مثل ابن سينا وجماعته، قالوا يتفضيل الفيلسوف على النبي لما ذكرنا لك في الدرس السابق، والصوفية فضّلوا الولي صاحب الإشراق على النبي؛ لأن النبي حجب بالحجب أما ذاك فأشرق فكمُل ووصل إلى مشاهدة الرب جل وعلا وسماع كلامه والأخذ من المعدن الذي أَخذ منه الملَك الذي نقل إلى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه؛ ففضَلوا من جهة أنهم أخذوا بلا واسطة وأن الأنبياء أخذوا بواسطة.
فيه تفاصيل في هذا الكلام معروف؛ لكن بيان أصل الإتباط ما بين القول بتفضيل الولي على النبي في ربطه بالفلاسفة العلميين والفلاسفة العمليين كما ذكرتُ لك.
([59]) تكون (مبدعًا) لأنها خبر ليس.
([60]) أبو حاتم البستي يعني ابن حبان.
([61]) أهل الكلام –مثل ما في النسخة الثانية- لأن أهل الكتاب والسنة هم أهل العلم
([62]) المقصود من هذا: الصلة بما سبق الكلام عليه من الفرق ما بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وكرامات الأولياء ومخاريق السحرة ومعجزات الأنبياء، فإنّ الخوارق كما ذكرنا التي تحصل في الأرض ثلاثة أصناف:(6/205)
1. خوارق الأنبياء وهذه تسمى آيات وبراهين، وآيات الأنبياء قسمان: آيات كبرى وآيات صغرى.
2. والثاني من الخوارق ما يختص بالأولياء، وهذه يُقال لها كرامة، وهذه تكون من الآيات الصغرى للأنبياء، أو من جنس الآيات الكبرى مع اختلافها معها في الذات والقدْر والصفة.
3. والثالث خوارق جرت على ايدي السحرة والكهنة، فهذه مخاريق الشياطين ليست من الله جل وعلا إمدادا لهم، وإنما هي من الشياطين إبتلاء لهم.
الأول آيات وبراهين، والثاني كرامات، والثالث خوارق شيطانية.
أما آيات الأنبياء فإنها لا تشبه كرامات الأولياء، ولا تشبه مخاريق السحرة والشياطين والكهنة، فربُّنا جل وعلا قال في وصف الآيات التي أعطاها نبيه - صلى الله عليه وسلم - محمدا قال ?لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى?[النجم:18] فدل على إنقسام آيات ربنا جل وعلا إلى كبرى وما هو أدنى من ذلك صغرى وغيرها. كذلك قوله جل وعلا في موسى عليه السلام ?فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى(20)فَكَذَّبَ وَعَصَى?[النازعات:20-21]، فدل المفهوم أن هناك آيات دون ذلك؛ فالآيات الكبرى هذه لا يَشْرَكهم فيها حتى الأولياء لا يمكن أن يعطى الولي آية كبرى؛ لأنّ هذه الآية الكبرى دليل نبوة النبي ودليل رسالة الرسول عليهم صلوات الله وسلامه، أما الآيات الصغرى مثل نبع الطعام منبع الماء قليل مثلا من الأصابع أو مثل سماع الأخبار أو مثل المشي على الماء أو أشباه ذلك هذه آيات تحصل للأنبياء -أو تكثير الطعام القليل- تحصل للأنبياء وتحصل للأولياء وأما الآيات الكبرى فإنها إنْ حصل للولي فإنما يحصل له ما من جنسها لكن لا يماثلها قدْرا ولا ذاتا ولا صفة؛ مثل النار التي جعلت لإبراهيم عليه السلام فأنجاه الله منها، والنار التي جعلت لأبي مسلم الخولاني في نجد فأنجاه الله منها، فما بين النار والنار فرق، وما بين الصفة والصفة فرق، وما بين سبيل النجاة وسبيل النجاة فرق.(6/206)
فإذن هنا بهذا التفصيل يزول إشكال من قال إنه لا كرامة للولي لأنه لو قلنا بالكرامات لاشتبهت خوارق الأنبياء وآياتهم بكرامات الأولياء كما هو مذهب المعتزلة وابن حزم وجماعة ممن أنكر كرامة الأولياء وأنكر الخوارق، وكذلك يبطل قول من قال أن كل خارق يحصل لحكيم أو لولي، فإنها قد تحصل للشياطين لكن ما يحصل للشياطين فليس معجِزا إلا لمن لم يكن مثلهم، أما من كان مثلهم فهو لا يعجز، لأنّه ليس بإقداره هو وإنما بمقدرته يعني أن الشياطين أعطته ذلك حصل له ذلك بالكهانة، حصل له ذلك بالسحر أما الكرامة فهي من الله جل وعلا لعبده، فالسحرة مثلا الذين جاءوا لموسى جاءوا بسحر عظيم هؤلاء سحرهم العظيم إنما كان خارقا على من لم يكن ساحرا، أما من كان ساحرا فليس عليه بخارق وأما أهل الكرامات، كرامات الأولياء الأولياء الذين لهم الكرامات فإنّهم جنسها يختلف ما بين ولي وولي، وما بين مُكرَم بهذه الكرامة وآخر، وكل أجناسها يكون مُعجزا أو خارقا لناس زمانهم، وقد يكون حصل لناس في الزمن الأول كرامة هي في وقتنا الحاضر ليست كرامة لأنها تحصل لآحاد الناس مثل الطيران في الهواء، مثل المشي على الماء وأشباه ذلك، أو أنْ يكون في الشتاء القارس بملابس خفيفة هذا قد يحصل الآن لاختلاف الزمن.
فإذن كرامة الولي تحصل خارقةً لناس زمانهم ليس الناس جميعا أو للإنس والجن جميعا، وإنما لناس زمانه أي في أرضه ومن عنده؛ ليدل ما حصل له على كرامته على الله جل وعلا، أما خوارق الأنبياء آياتهم وبراهينهم الكبرى فإنها خارقة [انتهى الشريط الرابع] لعادة الجن والإنس جميعا لهذا ينبغي أن يُضبط قول من قال خارق للعادة في الكرامات أو في الخوارق أو في آيات الأنبياء أو في المعجزات.(6/207)
خارق للعادة, العادة هذه عادة من؟ فإن فُسِّرت بأنها عادة الجن والإنس جميعا فيكون الخارق آية وبرهان لنبيٍّ, لأن الله جل وعلا قال في سورة الإسراء ?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88]. فجعلها معلّقة في الجن والإنس جميعا، وأهل الكرامات يكون خارقا لعادة الناس في بلدهم وزمنانهم، فقد لايكون خارقا لأناس في طرف من الأرض آخر, يكون خارقا لمثل أهل زمانهم ما يحصل لهم مثل هذا, مثل مثلا يحضر له عنب في وقت الصيف أو في وقت الشتاء هذا بالنسبة لأهل مكة ليس عندهم عنب لكن لو لكن لو تذهب إلى بلد آخر يكون فيه، هذا ينبغي أن لا يكون خلط هذا بهذا. أما السّحرة والكهنة والخوارق الشيطانية تتقيد بأنها خارقة لعادة من لم يكن مثلهم؛ يعني لمن من الناس من لم يكن ساحرا، ولا يدخل في ذلك من هو أعلى منهم قدرا في المعجزات والبراهين مثل الأنبياء.(6/208)
مقصود شيخ الإسلام بما مرّ إثبات الكرامات، وأن الكرامة إنما هي خارق أُيِّد به ولي، أو أُعْطِيه ولي، وأنّ جنس الخوارق قد يحصل للشياطين، وأنّ قول طائفة من الصوفية أو أكثر الصوفية أن كل خارق دليل الكرامة هذا غلط، كذلك من شاركهم في ذلك مثل القلاسفة وأتباع الفلاسفة الذين قالوا إنّ الخوارق تحصل بالرياضات؛ فإذا إجتمعت القوة العلمية بالتخيلية والفعلية صار .... الخوارق، قالوا هذه تحصل بالرياضات والجوع والتعب، فبالعلم تحصل القوة العلمية ..... المعلومات، وبالجوع والسهر تحصل القوة التخيلية، وصدق من قال أنه تحصل القوة التخيلية كما قال الذهبي في السير وفي غيرها، لأنهم إذا أداموا الجوع وأدمنوا السهر فإنه فقد يتصورون أشياء ويتخيلون صورا ويسمونها ملائكة، ويسمعون أصواتا من جراء إضطراب أبدانهم وعقولهم ويجعلونها نداء من الملأ الأعلى وهي الشياطين خاطبتهم إلى غير ذلك.
فهذا فرقان عظيم ما بين ما يُعطاه الولي من الكرامة، وما يكون عند الكهنة وأولياء الشياطين من الخوارق، أو ما عند الفلاسفة من الخوارق، فالفلاسفة يقولون لا فرق فإنها تحصل النبوة علما وعملا؛ علم: قوة علمية، وعمل: قوة فعلية، وتخيلات، هذا يحصل للفيلسوف ويحصل للنبي، فالأنبياء إنما هم فلاسفة وأولي إصلاح العالم. نسأل الله جل وعلا العفو والعافية، عليهم من الله ما يستحقون، معلوم أنه فرق كبير بين هذا وهذا. لا يستوي الليل والنهار.
¨ ...هيولى الشيء ما منه يتكون؛ قد تكون مادة قد يكون غيرها؛ فهيولى العالم يعني مكونات العالم.(6/209)
نبّه شيخ الإسلام على مسألة مهمة، ليكن تقعيد في العلوم جميعا، وهي أن: المصنف لعلم قد يستخدم عبارات يتلقاها المتلقي في ما عنده من معنى هذه العبارات والمصنف عنى بها معتى آخر، ويصبح يردد كلام هذا المؤلف أو هذا الذي قرأ كلامه والمراد مختلف؛ مثل قول الفلاسفة إنّ هذا العالم مُحْدَث، أو قولهم في العقل، العقل عندهم غير العقل عند العرب، فالعقل عند منطق اليونان، عند فلسفة اليونان ومن ورث فلسفتهم له معنى آخر، له معنى آخر غير العقل في النصوص، العقل في النصوص له مراد، والعقل هناك له مراد آخر، ولهذا لما جاء أهل الكلام راموا الجمع ما بين الفلسفة والشريعة، فظنوا أن العقل هناك هو العقل في النصوص، فجمعوا بينها على ما ترون بما سُمي بعلم الكلام، فعلم الكلام خليط ما بين فهم الفلسفة وفهم الشريعة وجاء المشترك بينهم الألفاظ التي جاءت هنا وهنا مثل ما نبه شيخ الإسلام، فإذن استعمال لفظ في معنى لم يرده من وضفه أو من استعمله فيه هذا لاشك أنه يُحدث جنايات، وهذا من أنواع استعمال المصطلحات التي تُحدث جنايات في الأمة، كذلك لفظ المُحدث؛ يقول الفلاسفة مثلا هذا العالم مُحدث نحن قد نستعمل المحدث ونريد به أنه مخلوق خُلق وأُحدث من غير مثال سابق –أُحْدث-، وهم يريدون بكلمة محدث أنه معلول، لأنّ المحدث عندهم لا بد أن يكون عن علة أحدثته عندهم، الحدث هو المعلول فإذا قال العالم محدث أو قال هذا الملكوت الذي تراه محدث لا يعني أنه مخلوق، يعني أنه معلول لعلة سبقته، وعلة سبقتها علة إلى أن تصل إلى الأصل الفعال إلى أن نصل إلى الأصل الذي صدرت عنه العلل ومعلولات العلل. فهذا يعطيك تحفُّزا في أنّ استعمال الألفاظ الشرعية لا بد منه بل هو المتعين؛ وأن طالب العلم إذا احتاج إلى استعمال ألفاظ القوم فلا بد أن يفهم مرادهم منها أولا، ثم المراد منها لغة ثانيا، استعمال غيرهم ثم ينزلها منزلتها اللائقة بها، أما أنْ يسمع لفظا ثم يستعمله بدون(6/210)
معرفة لأبعاده ومعرفة المعنى الأول المستعمل له، فهذا يحدث فسادا ويحدث خللا، مثل الألفاظ هذه التي تستعمل؛ المحدثة، قد يستعملها المرء ويظن أنها سليمة لكنّ مراد الأول غير مراد الثاني بها, فأنت تنشر لفظا أُريد به باطل لفهمك له فهما صحيحا، هذا ليس سليما؛ لأنّ المتلقي قد يفهمه فهم الأول أو قد يُنشر في الناس الفهم الأول، فتصبح أنت ناقل لمصطلحات الناس؛ مثل لو قلنا مثلا للناس أنّ الله جل وعلا ليس بجسم، بمعنى ليس بجسم يدخل فيه قول من قال أن الله لا يتصف بالصفات، يعني ليس بجسم هذه الكلمة لمم يرِد نفيها ولم يرد إثباتها، ولو قلنا ليس بجسم كتلك الأجسام لكان صحيحا، لكن إطلاق هذا اللفظ يجعل هذه الكلمة وسيلة لتقرير عقائد باطلة. الألفاظ المحدثة كثيرة والمصطلحات في هذا متنوعة.
فإذن استعمال العقل في النصوص غير العقل عند الفلاسفة، استعمال لفظ الخارق عند أهل السنة غير الخارق عند الصوفية غير الخارق عند الفلاسفة، استخدام لفظ النبوة عندنا غير النبوة عند الفلاسفة، المعاد عندنا غير المعاد عند الفلاسفة، الخطاب، الوحي عندنا غير الوحي عندهم. فإذن معنى كل كلمة لابد له من استدلال، فبعض المعاصرين فيمن قرأنا بعض كتاباتهم لم يفهموا هذا فهما جيدا فأصبحوا ينتقدون بعض كلام شيخ الإسلام أو بعض كلام المحققين فيقولون بل نص فلان في الكتاب الفلاني على أن العالم مُحدث وقال أنه أقر بالنبوة أو ابن سينا أقرّ في موضع بالمعاد هو ما يعرف كلمة المعاد حيث وردت، كلمة العقل حيث وردت إلى آخره.
فإذن فهم كلام المتكلم على غير استعماله للعبارات؛ قد يستعمل عبارة لها مدلول عنده خاص، والمدلول عندنا يختلف فمحاكمته على مدلولاته لا على ما عندنا، فاختلاف اللغات في العلم يسبب خلالا في الفهم والتقويم والإدراك. نقف عند هذا وأسأل الله جل وعلا لي ولكم العفو والعافية.(6/211)
([63])هذا الكلام واضح في بيان إستطراده لبيان معتقد غلاة المتصوفة أصحاب وحدة الوجود مثل إبن عربي الطائي وأمثاله، وهؤلاء قالوا إنّ الوجود واحد، ووهذا الوجود إنما هو وجود الله جل وعلا، وينقسم إلى وجود مقصود ووجود غير مقصود, وأنّ وجود الله جل وعلا مقصود وهو الأصل وأن وجود غيره وهو وجوده سبحانه، إذْ لو لم يوجد غيره لم يوجد هو فصار الأمر إلى أن الوجود واحد، والوجود من حيث هو صفة لا توجد في الظاهر، لاتوجد كما ترى في خارج الأذهان إلا مضافة إلى متصف بها مثل المعاني العامة التي ذكرنا لكم فيما سبق المعاني لاتوجد من حيث هي عامة إلا في الأذهان؛ ما يوجد في الخارج شيء اسمه كلام، وشيء اسمه وجود، وشيء اسمه حياة، هكذا بدون موجود أو متكلم أو حي، إنما يوجد في الرأس في الذهن تصور الوجود، يوجد في الذهن تصور الحياة، لكنها في خارج الأذهان في الواقع لابد أن تضاف لمتصف بها، فالإشتراك في المعنى الكلي لا يعني الإشتراك في المعنى الإضافي، فالمعنى الكلي نعم؛ يشترك فيه كل موجود، ولكن لكل وجودٍ يناسبه، وإذا تفرّقت الأشياء بالوجود الذي يناسب كل شيء على حِدَا، فإن معنى ذلك أن الأشياء تغايرت فتباينت في الذات، مثل ما ذكر مثل الإنسان والفرس يشتركان في معنى الحيوانية وهي الحياة المتحركة؛ الحياة والحركة، يقال الحيوان الحيِّ المتحرك؛ يعني أن الإنسان والفرس إشتركا في هذه الصفة، لكن الحياة والحركة وهي الحيوانية هذه هل هي موجودة في الخارج بدون متصف بها ؟ لا. فهل يقال إنّ الإنسان والحيوان شيء واحد من جهة صفة الحياتية؟ لا قائل به حتى أصحاب وحدة الوجود. لكنهم يقولون من جهة صفة الوجود نعم. وهذا في الحقيقة راجع إلى شيء وهو أن أصحاب وحدة الوجود أخذوا هذا من قول الجهمية الذين لا يؤمنون إلا بصفة واحدة لله جل وعلا وهي صفة الوجود الأعظم، فلما لم يصفوا الله بشيء وكانت صفة وجود المخلوق مشكلة على إثبات وجود الله جل وعلا جعلوا(6/212)
الخالق عين المخلوق والمخلوق عين الخالق من جهة الوجود، حتى فرعون جعلوه رمزا أو صفة من صفات وجود الله جل وعلا؛ لأنه قال ?مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي?[القصص:38]، وقال ?أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى?[النازعات:24].
ومن هذا المنطلق أو من هذا المبدأ والأصل أخذه النصيرية وأخذه الدروز وأصحاب التناسخ والنصارى بأن هذا وهذا إتحدا وكانا شيئا واحدا، وتفصيل الكلام على مقالهم كما قال شيخ الإسلام ليس هذا موضعه، وإنما المقصود بيان فساد قولهم.
([64])هذا الكلام استطراد في بيان حال المدعون للإتحاد ووحدة الوجود والذي يهمُّك في هذا أشياء:
الأول: أن إنشاء شيخ الإسلام لهذا الإستطراد وهذه البينات لهؤلاء الملاحدة، الغرض أنّ أهل الشام ومصر في ذلك الوقت يعظمون أصحاب وحدة الوجود؛ يعظمون ابن عربي والتلمساني وأشباه هؤلاء، وابن الفارض يعظمونهم جدا، واشتهر عنهم أنهم يقولون بهذا الكلام ومع ذلك يعظمونهم، ولهذا أوجب أن يبين أن هؤلاء ليسوا من أولياء الله، فاستطرد ليبين لك فساد قول هؤلاء وأنه لا يكون أمثال هؤلاء أولياء لله جل وعلا.(6/213)
الثاني: أنّ هؤلاء الملاحدة والزنادقة أمثال ابن عربي وأشباهه، شاع في الناس أنّ لهم كرامات وأنهم يخبِرون بأشياء تكون حقا، وأنّ الكهان من اتباعهم والمنتسبين للتصوف عندهم أحوال إيمانية ينكشف لهم بها الغيب، وأنّه يوحى إليه، وأنه تأتيه المعلومات ليست إلا عندهم، فجعلوا هذه الأشياء من كراماتهم فبيّن رحمه الله فيما ذكر أنّ هذه الأشياء التي تنسب إليهم صحيحة، ولكن ليست هي كرامات تأتيهم من الملائكة وإنما هي أحوال شيطانية تأتيهم من الشياطين ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121]، والشيطان يتنزل على مَن يواليه ويخبره بأشياء ويعلمه ويعطيه معلومات فربما حمله وربما تصور بصورته وربما طار به في الهواء وربما سخر له بعض الأشياء بما أقدره الله عليه، فإذن فالشأن ليس في أنّه يُخدم، أو أنه يُدَّعَى أنّ الملائكة تخدمه وتعمل له، ولكن الشأن هل هو من أولياء الله موافق لشرع الله ومتبع للسنة أو لا؟ فإذا لم يكن متبعا للسنة ويقول مثل هذه الأقوال الكفرية فنعلم قطعا أنه من أولياء الشيطان، وأنّ ما قاله وافتراه وادعاه من هذه الأقوال الباطلة هي دليل أنه شيطان من الشياطين، وأنّ المؤمن لا يجوز له أن يغتر بأحوال هؤلاء وأنْ يجعلهم من أولياء الله جل وعلا .(6/214)
والثالث من أسباب إنشائه هذا الكلام أو الاستطراد: أنّ أكثر السحرة والكهنة في أزمنة الإسلام ادَّعَوا الصلاح، وادعوا أنّ ما يأتيهم إنما هو من جهة الملائكة، فهذا تسمعه عند كثير من مُغَفَّل من المسلمين وجهلتهم فيما يذكرون من أخبار بعض الناس في بلد كذا وبلد كذا وبلد كذا، هم يقولون فلان تأتيه هذا تخبره الملائكة لأنه رجل صالح، وهذا لاشك أن هذا من براثن تلك الخلفية العامة، فإذا قيل إنّ فلانا تنزل عليه الملائكة فاعلم أن هذا من جهة أولياء الشيطان؛ لأننا لا نعلم أحدا من الصحابة ولا من التابعين ولا من سادات المسلمين قيل أن الملائكة تنزل عليه فتخبره إلى آخره، وإنما هي دعوى لأولئك الفسقة الفجرة فيها يروجون على الناس في كهانتهم أو سحرهم، فالسحرة الآن يأمرون الناس بتلاوة القرآن؛ ويتلون عليهم القرآن ثم يخلطون معها غيرها، يقولون نخبركم؛ الملائكة تأتينا وتخبرنا، وهي الشياطين، وهم أصلا من أكذب الناس فكيف يصدَّقون في مثل هذه الأشياء، فإذن يبيّن شيخ الإسلام حال من كان في زمنه؛ وهو الوجه الثاني الذي ذكرنا، والوجه الثالث حال كل من ادعى نزول الملائكة عليهم، فإنّه الحجة كما قال ابن عباس في حال المختار بن أبي عبيد؛ قيل له إنه ينزّل عليه قال صدق فإنه تنزّل عليه الشياطين، كما قيل إنه يوحى إليه قال نعم كما قال الله ?وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ?[الأنعام:121](6/215)
وملخص هذا أن الكلام أو الغرض منه ما ذكرنا من بيان الفرقان العظيم بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وأن مسألة خرق العادات ليست فرقانا؛ أن يحصل للمرء خارقا للعادة؛ أن يحصل له شيء لم يحصل لغيره هذا ليس دليلا على صلاحه، وليس دليلا على فساده، حتى ينظر في أمره فإن كان من أهل الإيمان والصلاح المتابعين للحق فإنه يرجى أن تكون هذه كرامة له، وإن كان من غير أهل الإيمان؛ من أهل البدعة والفسق والفجور فإن ما حصل له يعتبر فارقا شيطانيا وحالا شيطانية وليست بكرامة. فإذن هذا كل ما بحثه في هذا الموضع والذي قبله ملخصه أن الأحوال والخوارق ليست برهانا ولا دِلالة، وإنما البرهان والدلالة هو ما قال الله جل وعلا ? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62]، والملائكة لا تنزل إلا على الرسل أو على المؤمنين لتثبيتهم في القتال أما الإخبار بالمغيبات وأشباه ذلك فلا يكون، قد يُلقى في روع المؤمن من أن يكون هذا الأمر كذا؛ يكون من باب الفراسة الإيمانية التي يعطيها الله جل وعلا لمن يشاء من خلقه، لكن تحديث الملائكة ويقول سمعت الملائكة قالت لي الملائكة هذا لا شك أنه من صنيع الشيطان.
سؤال فقهي: أرجو التوضيح فيما قلتم في الفرق بين... ؟ البر والشعير من الأصناف الربوية كما هو معلوم والذهب والفضة من الأصناف الربوية والنبي عليه الصلاة والسلام قال «إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» فبهذا الحديث ترى عند اختلاف الأصناف أن يكون مقبوضا يدا بيد، ذهب بفضة لابد أن يكون يدا بيد، ذهب ببر لا بد أن يكون يدا بيد، ذهب بشعير، فضة بشعير يدا بيد، فهل هذا في كل الأنواع أم لا؟ هذا ليس في كل الأنواع، إذا كان أحد النوعين نقدا جاز التفاضل وأن نتداين، إذا كان أحد العوضين نقد...(6/216)
هذا أحد الأخوة كتب على حقيقة التوحيد للدكتور يوسف القرضاوي فيه أغلاط كثيرة في التوحيد منها عده الذبح والنذر من الشرك الأصغر ومنها أن المقصود توحيد الربوبية وأشياء من هذا، ومن جهة مكاتب الدعوة والجاليات يُنَبَّهون إلى منعه من التداول ومن توزيعه وإقرائه... فمن رآه في مكتب ينبها إن شاء الله ونتابع هذا نحن مأمورون بإزالة هذا الكتاب مع أنه طبع في الإفتاء في المكان الذي نشروه تبع الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله لكن ... أنّ فيه أغلاط كثيرة فمن رآه ينبه صاحب المكتب الجاليات والدعوة عليه ويذكرني بهذا ... لأن فيه خلطا كثيرا .
([65])مجازات العقول يعني ما تُجيزه العقول فليس المقصود المجاز الذي هو قسيم الحقيقة أو مقابل الحقيقة؛ مجازات العقول هنا يعني ما تجيزه العقول، هذا أصل معنى المجاز؛ أصل معنى المجاز ما يجيزه الشيء، فمجاز في اللغة ما تجيزه، هنا مجاز العقول يعني ما تجيزه العقول لا بمحالات العقول.
([66])هذا الكلام راجع إلى كون كلام الناس في الإتحاد والحلول، وتقرير هذا الباب وفهم كلام شيخ الاسلام، هذا يحتاج إلى إيضاح لمعنى الحلول والإتحاد:
الحلول في عُرف القوم أن شيئين متمايزين مختلفين في الحقيقة يحل أحدُهما في الآخر مع بقاء التميّز.
والإتحاد أيضا شيئان مختلفانفي الحقيقة يتحد أحدهما بالآخر فيزول التميُّز.
• فالحلول يبقى هذا وهذا لكن الصورة الظاهرة واحدة، ولكن حل أحدُهما في الآخر؛ مثل الكأس والماء فالكأس إذا حلّ فيه الماء, حقيقة الكأس شيء وحقيقة الماء شيء وصارا شيئا واحدا كأس ماء لكن هناك تميز؛ يمكن هذا أن يفصل عن هذا.(6/217)
• لكن الإتحاد مثل السكر والماء, الحبر والماء, الملح والماء، الشاي والماء, كانا منفصلين فاتحد أحدهما بالآخر حتى صارا لا ينفك أحدهما عن الآخر، يعني لا يتميز أحدهما عن الآخر، السكر لما ذاب في الماء، أين السكر؟ تقول في الماء، والماء ذاب فيه السكر، أين هذا وهذا؟ سكر وماء، أفصلهما، ما ينفصلان، ورق شاي حَطِّيتَهْ في الماء كذلك صار ماء وشاي إلى آخره. هذا الفهم في تقريرها مهم في بيان ما عليه الناس في ذلك.
إذا تبين هذا في المعنى العام. فالحلول نوعان، والإتحاد أيضا نوعان، الحلول عام وخاص عند أهله، والإتحاد عام وخاص عند أهله:
?فالقائلون بالحلول منهم من قال حلّ في أشخاص معينين؛ حلّ الله جل جلاله -تعالى الله عن قولهم- حلّ في أشخاص معينين؛ حلّ في عُزير عند اليهود، حلّ في المسيح عند النصارى، حلّ في البقر عند عباد البقر، حلّ في الإله الفلاني عندهم، حلّ في الصنم، حلّ في كذا وكذا إلى آخره، حلّ في أئمة آل البيت عند غلاة الرافضة، حلّ في الحاكم بأمر الله العبيدي عند الدروز، وهكذا، هذا حلول خاص في بعض المخلوقات.
?وهناك حلول عام وهو قول من قال: الله حالٌّ في كل مكان. وهذا قول المتكلمين والمعتزلة والأشاعرة وأشباههم، الله حالٌّ في كل مكان، في أي مكان هو حال، ولكن منفصل ليست مختلطة، الحقيقة متميزة.(6/218)
والإتحاد نوعان أيضا: إتحاد خاص وإتحاد عام، والقائلون بالإتحاد هم غلاة التصوفة هم الذين يقولون بالإتحاد، وأما الحلول فلا يقول به غلاة المتصوفة وإنما يرون أنّ من قال بالحلول في شخص معين فهو كافر، فعند أهل الوحدة -وحدة الوجود، أو إتحاد الله بكل موجود حتى صارت الحقيقة مع حقيقة المخلوق غير متميزة- يقولون كفر من كفر لادعائه عدم الإتحاد أو لإدعائه الحلول في بعض المخلوقات دون بعض؛ لأنّ النصارى كفرت لأن المسيح حل فيه الله، واليهود كفروا كذا، والعرب كفرت لأنها قالت إنّ هذه الأصنام آلهة يعني يحل فيها الله، وهكذا، ولو أنهم قالوا حلّ في كل شيء؛ يعني إتحد بكل شيء فصارت الأشياء عين وجود الله جل وعلا لم يكفروا، وعندهم الإتحاد -عند القائلين به- نوعان: إتحاد خاص وهو ببعض المخلوقات، وإتحاد عام بجميع المخلوقات:
?فالذين يقولون بالإتحاد العام هم الذين يُعَبَّر عنهم بأصحاب وحدة الوجود، إتحد بالسموات والأرض؛ كل شيء هذه إتحد بها حتى صار موجود الحق جل وعلا هو عين وجود هذه المخلوقات، وجود المخلوقات هو عين وجود الله؛ حتى ما تفك هذه عن هذه، مثل السكر الذي ذاب في الماء صارت الحقيقة واحدة لا يمكن إنفصال إحدى الحقيقتين عن الأخرى.
?والذين قالوا بالإتحاد الخاص –غير الإتحاد العام- هؤلاء لا يقال لهم أصحاب وحدة الوجود هم طائفة من المتصوفة، فغلاة المتصوفة جميعا إتحادية، لكن منهم أهل وحدة الوجود ومن إتحد بكل موجود، بحيث صار عين الوجود واحدة، ومنهم من يقول بالإتحاد في بعض المخلوقات دون بعض.(6/219)
ومن أعظم ما يدل على كفر هؤلاء؛ على كفر من يقول بالإتحاد العام وكذلك الإتحاد الخاص: أنّ هذا القول يعني أنّ الكفر والفِسق صارا في الله جل وعلا؛ لأن الفاسق والمجرم والقاتل والزاني وشارب الخمر وفاعل الفواحش والكاذب إلى آخره من أنواع الموبقات والكبائر لما كان هو عين الوجود ولا تمايز بينهما يكون لا يُفَرَّق بين الكاذب شَخْصًا والكاذب إتحادًا، لأنه صارت حقيقة واحدة، كما أننا لا نقول الماء حلو والسكر لا طعم، كما أننا لا نقول السكر حلو والماء لا طعم له، فأنت إذا شربت ماءً زِيد فيه سكر صارت الحقيقة واحدة، ما تستطيع أن تقول هذا حلو وهذا وهذا مالح والماء هذا فيه ملح ما تستطيع أن تميز بين هذا وهذا لأنه بالإتحاد صارت الحقيقة واحدة هذا هو معنى الإتحاد، فيلزم من هذا أن يكون كل من شر وكل فسق وكل هذا منسوب لله جل وعلا، لهذا ابن القيم لما ذكر هذه المسائل في أول النونية قال:
يا أمة منكوحها معبودها أين الإله وثغرة الطعام(6/220)
ما فيه تفريق صار المنكوح حالّ فيه الإله يعني إتحد به الإله الحقيقة واحدة؛ مَاهُو حلّ لأن الحلول يقتضي الإنفصال في بعض الأحوال لكن المتحد مع المتحد به صارت الحقيقة واحدة صار الناكح هو المنكوح فأين الإله بين هذا وهذا، لاشك أن هذا من أعظم ما يكون من إهانة الرب جل وعلا وسبّه وعدم قدْره حق قدْره سبحانه. هؤلاء لما قالوا بالإتحاد وبالوحدة قالوا إنّ الاتحاد العام والوحدة العامة هذه متفاوتة بين أهلها؛ فيكون الولي له من الإتحاد لتخصيصه ما ليس لغيره من الموجودات، فلهذا يصبح ينظر بنظر الإله لما له من خصوصية في الإتحاد، ويصبح يقدْر بقدرة الاله لما له من خصوصية في الإتحاد، فالإتحاد عام لكن درجات المتَّحد بهم مختلفة من حيث الصفات، ولهذا جعلوا للأولياء مقاما يزيد على مقام الأنبياء؛ لأنّ عندهم درجة الإتحاد مختلفة فالأنبياء أعطوا درجة لكن هذه الدرجة زاد عليهم فيها أصحاب الوَحدة من جهة أنّ أولئك -في شبههم- وجودهم هو عين وجود الله جل وعلا، لكن عند غلاة المتصوفة الأنبياء يحتاجون في الأخذ من السماء كلام الله جل وعلا إلى واسطة، فلم يكن الإتحاد بهم من جميع الصفات, وأما الأولياء -كُمَّلُ الأولياء عندهم- فإنهم الإتحاد بهم جاء في الصفات كلها، لهذا يجعلون العالم مقسَّما قسم يتولاه الولي الفلاني وقسم يتولاه الولي الفلاني، وقسم يتولاه الولي الفلاني، إلى آخر ما عندهم في ذلك.
المقصود أن فهم هذا الكلام، وفهم هذه المسائل، وما يدور عليها:
1. راجع إلى فهم معنى الحلول والإتحاد.(واحد)
2. راجع إلى معنى أقسام الحلول والإتحاد.(اثنين)
3. راجع إلى أنّ أصحاب الوَحدة -غلاة الصوفية- يقسمون القسمة لاختلاف الصفات، فلا يجعلون الإتحاد عاما في الصفات، كما أن أهل الحلول لا يجعلونه متساويا فيمن حلّ بهم.(6/221)
هذا أصل مسألة تفضيل الولي على النبي عندهم، وأن الولي له كرامات أكثر ويصل، تكشف عنه الحجب والنبي قد لا يُعمل عقله، لكن الولي يرى ما لا يراه غيره وحسه يكذب العقليات، إلى غير ذلك من المسائل. نعم
[سؤال: عن لازم المذهب هل هو من المذهب؟]
هذا إن كانوا ينكرون هم لا ينكرون هذا هم يفتخرون به قال ابن الفارض
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلّت
ما في جبتي إلا هو، هم يعترفون بذلك مثل ما قال لك شيخ الإسلام أن رجلا من غلاتهم قال لمريده من حدّثك أن في الوجود غير الله فهو كاذب، إذا قال لك أحد في الوجود غير الله فهو كاذب، فقال له الغلام: من الكاذب؟!!! – ما أعرف من هو الكاذب إذا كان ما في الوجود غير الله- إذا ما كان في الوجود غير الله فمن الكاذب. فهم يعترفون، لازم المذهب ليس بمذهب إذا كان لا يُقِرُّه هو، لا يلتزم به، لكن في مثل هذه المسائل هم يلتزمون بها، نقول لازم المذهب ليس بمذهب في التفصيلات التي ذكرها شارحج الطحاوية في أولها: يلزم منها إبطال الرسالات... لازم المذهب ليس بمذهب، لكن في أنهم يرون أن هذا الذي صلى إليه هو الله ويستدلون بقوله تعالى ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[الإسراء:23] هذا قضاء كوني فلم يعبد إلا هو فمن عبد الصنم عبد الله ما كفر بعبادته الصنم ممكن الرجل الصالح يعبد الصنم ولا يكفر، لكن كفر باعتقاده أنّ الصنم غير الله جل وعلا لأن الصنم هنا منفصل باعتقاده في الحجر من حيث هو، أما إن عبد الحجر من حيث فيه الله حال فيه فهذا ما عبد غير الله جل وعلا، أعوذ بالله من كلامهم.
لكن المقصود من هذا أن تفهم مراد شيخ الإسلام في ما أورد أعوذ بالله منهم ومما قرب إلى قولهم. نعم
نحن ما أوردنا الآثار المترتبة، ولا أوردها هو، لكن هم إعترافهم أن المصلي صلى لنفسه:
لها صلاتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت
لا يفرق بين هذا وهذا.(6/222)
انفصل اللاهوت يعني الجثمان هذا صفة بشرية، روح عيسى هذه إلهية، لذلك عندهم أنه لما انقضت المدة مدة التكفير عن الخطيئة دفن عيسى بعد صلبه، والقسم اللاهوتي الذي حل في هذا الجثمان البشري صعد إلى الله يعني رجع إلى أصله؛ فيكون عندهم قبر في القدس لعيسى عليه السلام حسب ما يدعيه النصارى ?وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ?[النساء:157] عندهم أنه بقي في القبر ثلاثة أيام حتى الجثمان نفسه ثم صعد؛ رفع حتى الجثمان، يعني معتقد النصارى كلها أشياء يضحك منها العاقل فضلا عن ذوي البصيرة.
• شوف هذه عندك مخلوقات توصف هذه التي ذكرتها أنت من أن الوحدة عامة في الصفات، فجنس المخلوقات التي فيها صفات الخالق كلها يخصص بعضهم لكذا وبعضهم لكذا، يعني صفات الخالق موجودة في المخلوقات؛ لأنهم لما قالوا بأن وجود المخلوق هو عين وجود الله ووجود الله جل وعلا هو عين وجود المخلوق، فصارت صفات الحق جل وعلا؛ صفات الله سبحانه وتعالى موجودة في المخلوقات لكن بالتخصيص، تختلف بالتخصيص الذي ذكرته لك.
• (ويقولون ما قاله صاحب الفصوص، فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية والنسب العدمية، سواء كانت محمودة عرفا أو عقلا أو شرعا) لعله يعني بها هو لما قسمها إلى نعوت وجودية ونسب عدمية أنّ كمال يجمع ما بين النفي والإثبات، فالصفات صفات الكمال فيها وجود؛ صفات وجودية يثبتها يعني يثبتونها وجودا، وفيه أشياء تنفي وهي التي تسمى عند الأشاعرة والمتكلمين السُّلُوب؛ ما بسلب على الله جل وعلا فهنا يقول (فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستوعب به جميع النعوت الوجودية –وهي والمثبتة- والنسب العدمية – يعني الصفات السلبية-) لاحظ ما قال صفات وإنما سمّاها نسب يعني ما ينسب إليه مما يعدم ولا يثبت.(6/223)
([67]) (أنا كافر برب يُعصى) يَقصد به يُعصى في كونه، لكن التعبير هذا، تعبير كفري؛ لأن الله جل وعلا يعصى، يعصى في الأرض، فَهُم يشهدون الحقيقة الكونية فيقولون الله غالب على أمره، أمر الله نافذ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فيقولون إذا الرب لا يعصى فوقعت المعصية بإرادة الله الكونية وأمره الكوني، لكن لم تقع بإرادته الشرعية ولا كونه الشرعي، فعبروا بتعبير يوهم حال الإرادة والأمر، وهذا من الألفاظ الكفرية.
([68])لأنهم يقولون بالجبر، الصوفية جبرية.
([69])وكذلك في الحشر:1، الصف:1.
([70])هذا الكلام له سابق بني عليه، لكن خلاصة ذلك كما قال في أوله حيث قال عنهم يعني الذين يقولون بالوحدة: يجعلون المراتب ثلاثة من حيث شهود الطاعات والمعاصي يقولون العبد يشهد أولا طاعة ومعصية، ثم يشهد طاعة بلا معصية، ثم لا يشهد طاعة ولا معصية. فعندهم أنّ الناس مرتبون على ذلك، فأقل درجات الناس الذين يشهدون الطاعات والمعاصي، ثم يطيع ولا يرى المعصية يعني سقطت عنه التكاليف في المعاصي لعدم تأثيرها فيه ثم تسقط عنه التكاليف كلها لا في التكاليف ولا في المعاصي لعدم تأثير الطاعات فيه إيمانا ولعدم تأثير المعصية فيه إيمانا أو جحدا أو كفرانا، وكما هو معلوم من كلام شيخ الإسلام كما سمعت أن الأول ولا شك أنه هو الذي أُمر به العباد أن يشهدوا الطاعة والمعصية، أن تسره طاعته وأن تسأه معصيته، هذا هو حال الأنبياء والمرسلين وحال أولياء الله جل وعلا.(6/224)
وأما شهود الطاعة بلا معصية أو لاشهود لا طاعة ولا معصية، هذا عند الصوفية له منشأ، ومنشؤه الغلو في إثبات المشيئة الكونية القدرية وعدم النظر في المشيئة الكونية والإرادة الشرعية، وذلك أنّ النصوص كما هو معلوم لكم في غير هذا الموضع قررت الفرق بين ما يشاؤه الله جل وعلا كونا وبين ما يريده شرعا، فالعبد ينظر بنظرين؛ ينظر إلى ما ينفذه الله جل وعلا في ملكوته كونا وأنه واقع بمشيئة الله جل وعلا الطاعة والمعصية جميعا كما هو قول أهل الحق في القدر، وأنّ الطاعة كانت من مشيئة الله وأن المعصية كانت من معصية الله، وأمّا الشرع فنقول الإرادة الشرعية أن تُفعل الطاعة وألا تفعل المعصية. فإذا غلب على العبد شهود الأمر الكوني نظر إلى أنّ العباد مجبرون على الطاعات وعلى المعاصي، فيُثبت أن الله جل وعلا أجبر العباد، ولذلك الصوفية كلهم جبرية؛ ومنهم من يغلو في الجبر حتى يرى أنّ الإنسان لا منزلة له لشهود الإرادة الكونية حيث لا قيمة له، لا اختيار له أصلا إنما هو مفعول به دائما، ومنهم من يرى الطاعة دون المعصية في شهود الأمر الكوني يعني أنّ المعصية إنما وقعت لأجل الطاعة، لأجل الطاعة يعني من جهة التوبة ومن جهة الإنابة وأشباه ذلك، فإنما يرى طاعة الله بلا معصية لحصول المعصية بحكمة الله جل وعلا، فيرى إذن أمر الله جل وعلا الكوني خاص بالطاعات دون المعاصي وأنّ المعاصي غير مقصودة لذاتها، فالله أجبر على المعصية عندهم ولكن لأجل الطاعة، وهذا إذا نظر فيه المكلف أيضا يعني منهم فيقول أنا مطيع وإن عصيت فلأجل طاعته، فما عصيت إلا لأجل أن أطيع. والعياذ بالله، فهو يرى المعصية يرتكبها ويرضى بها؛ يرضى أن يكون عاصيا لأجل رضائه بإرادة الله الكونية.(6/225)
والثالث وهو قول ملاحدتهم أنه لا يشهد طاعة ولا معصية.فني عن شهود سوى الله عز وجل، فلا الطاعات لها أثر ولا المعاصي لها أثر، وإنما الأثر فيما حصل لهذا الذي يزعم الوَحدة باتحاده بالله جل وعلا أو حلول الله جل وعلا فيه مثل ما سمعت من كلام ابن العارض.
هذا كله استطراد من شيخ الإسلام في الرد على من يزعم أنه من الأولياء وهو يفضل الأولياء على الأنبياء أو أنه لا يشهد طاعة ولا معصية أو لايشهد معصية وإنما يشهد طاعة، وكل هذه ليست من صفات الأولياء. فأولياء الله وصفتهم أنهم أهل فرقان ?إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا?[الأنفال:29]، وأهل التقوى هم أهل الإيمان وهم الأولياء ? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62]، فحصل من ذلك أن أهل التقوى هم أهل وَلاية الله جل وعلا، وأهل تقوى الله هم الذين لديهم الفرقان، لذلك سمّى شيخ الإسلام كتابه هذا الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ لأن العمدة في الفرق فيما بين ولي الله وولي الشيطان، هل عنده فرقان أم لا؟ والصوفية الغلاة منهم يزعمون أن الأولياء يأخذون إلى المرتبة المتوسطة التي يكون عندهم الحال أنه لا فرق بين الطاعة والمعصية، فالمعصية تؤول إلى الطاعة، والطاعة هي المقصودة، وقد يصل إلى أنه لا فرق أصلا بين الطاعة والمعصية إذ لا طاعة ولا معصية، وهذا إستطراد فيما أصله بعد ذلك. وأولياء الله جل وعلا هم المتقون المؤمنون وهم الذين لديهم الفرقان بين الطاعة والمعصية يشهدوا الطاعة كونا وشرعا ويشهد المعصية كونا وشرعا، فيرضى بالطاعة كونا وشرعا، ويرضى بالمعصية شرعا ويكرهها كونا؛ يعني يكره وقوعها يعني يرضى بها من جهة الحكم من جهة تحريمها ومن جهة ذمها ولا يرضى بوقوعها؛ لأن المعصية وقوعها كان من جهة تفريط العبد، فإذن نشهد الطاعة رضاءً كونا وشرعا، ونشهد المعصية(6/226)
بعدم الرضا بها بل نذم أنفسنا على المعصية، وهذا هو صفة أولياء الله جل وعلا، أما الذي ينظر إلى المهصية؛ كلما فعل المعصية قال هذا خير لي، ويقبل على المعاصي ويقول هذا خير لي، هذا من صفات المهملين ليس من صفات أولياء الله جل وعلا، بل المؤمن هو الذي تسرُّه حسنته وتسوؤه سيته ويكون عنده فرقان بين المحمود والمذموم.
([71])يعني هذا من أدلة أهل الحلول أن الله يكون مع الولي، إذا كان معه معناه يكون ملازم له أو يكون فيه؟ استدلوا به على أنه يكون حل فيه.(6/227)
([72])هذا رد عل احتجاج أهل الإتحاد في آية المعية على أن الله جل وعلا يحل في خلقه أو بعض خلقه-لأنه كما ذكرنا لكم الإتحاد والحلول نوعان:عام وخاص- وهذا من جملة الأدلة التي استدلوا بها وظهر لك في البحث أن هذا ليس بدليل بل هو ضد ما قالوا، وهم جهلة أصلا كيف يستدلون، لكن أهل الباطل يبحثون عن شبهة ليتمسكوا بها-هذه قاعدة-؛ لأنّ الله جل وعلا وصفهم بقوله ?فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ?[آل عمران:7] والزيغ موجودا أولا، ثم يأتي اتباع المتشابه ولذا فإنّ المتشابه في القرآن لا يُحدث زيغا، فالله جل وعلا ابتلى العباد به، والزائغ يبحث عن المتشابه ليستدل به على زيغه، قال (فأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) يعني يتتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، فوجود الزيغ أولا، وهؤلاء زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، استدلوا بآية المعية، استدلوا على الوحدة من القرآن والسنة بأدلة كثيرة؛ استدلوا مثلا من القرآن بقوله ? قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ?[الأنعام:19] و(في كل شيء له آية تدل على أنه الواحد)[هذا بيت لأبي العتاهية ذكره الشيخ صالح آل الشيخ في شرح ثلاثة الأصول(المفرغ)] وكل شيء يشهد أن الله جل وعلا هو الرب وحده، جعلوا هذا إلى هذا جعلوا الأشياء كلها هي الله جل وعلا (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) التفسيرات المنسوبة إلى المتصوفة كابن عربي وغيره تجد كثيرا من الآيات التي فيها عموم الخلق أو الشهادة العامة يستدلون بها على الوحدة، وكذلك من أدلتهم أن الآيات؛ آية الأنعام ?وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ?[الأنعام:3] وكقوله تعالى ?وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي(6/228)
الْأَرْضِ إِلَهٌ?[الزخرف:84]يستدلون بها على الوحدة والإتحاد العام. لكن هذه كلها من إتباع المتشابه مما يدل على أنّ في قلوبهم زيغ، الحقيقة ليست متشابهة (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) ليست متشابهة لأن دلالتها ظاهرة على المعنى، ليست متشابهة أصلا، وكذلك(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) ليست متشابهة لكن هم يتبعون بما اشتبه عليهم من الإشتباه النسبي فيستدلون به، كل هذا نسأل الله العافية من آثار ترك التمسك والاستسلام للكتاب والسنة.(6/229)
كتاب الفرقان عندنا الآن أربعة أو خمسة شروح كلها استطراد، ذهب عن الأصل بعد ما عرّف التعريفات، تذكرون الولي وتعريفه وصفات الأولياء و شروح شروط الولي إلى آخره، الآن كلٌّ استغرق في لما أتى للأولياء والفرق بين ولي الرحمن المطيع لله جل وعلا المستجيب للكتاب والسنة المنسجم صاحب عمل[انتهى الشريط الخامس] وأن ولي الشيطان عنده كذا من المخاريق. إذن كلها استطرادات في علوم شتى دخل في علوم الفلاسفة كما تذكرون، وفي بعض المباحث الكلامية، وذهب إلى قول الإتحادية...، يرجع بعد ذلك إلى أصل المبحث والكلام على الكرامات وعلى صفات الأولياء وشروط الكرامة إلى آخر ذلك من المباحث، وهذه نبهتكم مرارا عليها شيخ الإسلام استطراداته تشتت الذهن لهذا ينبغي لطالب العلم لما يقرأ كتب شيخ الإسلام أن لا يسترسل مع استطراداته، إذا أراد أن يفهم الموضوع يفهمه أولا مختصرا عن طريق الفهرس أو عن طريق تتبع الفصول، ويأخذ جملة الكلام ويأخذ القواعد التي هي الفوائد والإستدلالات، وإذا فهم هذا وعرف بناء الكتاب على أي شيء أو بناء القاعدة على أي شيء في فهم شيخ الإسلام وتصوره قبل إنشاء الكلام، بعد ذلك لو قرأ ومرت عليه الإستطرادات فإن انساق مع الإستطرادات نسي الموضوع، وشيخ الإسلام لو استطرد يحصل في استطراده أنواع من العلوم والفوائد، لكن قد لايكون نحريرها في هذا الموضع هو الأكمل، تجد أنه في موضع يستطرد لكنه يكون فيه ثغرات كثيرة ما استكملها، يأتي كلما أراد يبحث يقول (وقد بسطنا هذا في موضع آخر)، (قد بسطناه) ثم لا يكون مع طالب العلم في فهم معنى الإستطراد من كل وجه هو يستطرد لغرض يريد تقريره ليس لتقرير المسألة التي استطردها، لكن المسألة هذه جاءت لغرض آخر .(6/230)
طالب العلم لابد أن يكون متتبع كلام شيخ الإسلام كليا قبل أن يبحث جزئياته، يعني يتصور الكتاب قبل، مثلا في كتاب الفرقان الولي من هو، الدليل على وجود الأولياء من هم الأولياء، تعريف الولي، شروط الأولياء، الإيمان والتقوى، الإيمان متفاضل، التقوى متفاضلة، فصّل فيها كذا، صفة الأولياء، الخوارق التي تحصل لهم والكرامات، جمع العناوين هذه هي زبدة البحث، إذا جاء الإستطراد تتركه؛ يعني تمر على الكتاب، ثم تستكمل كل الفصول بالعناوين الرئيسة هذه للفصول فتعرف ماذا يريد أن يقرر شيخ الإسلام، في بعض كتبه الإستطراد بلغ مائة صفحة استطرد إلى مئة صفحة رحمه الله تعالى؛ يعني .... صفحة عندنا، هو كتب الواسطية في جلسة والحموية في جلسة إلى آخره فلا غرابة أن يستطرد فهو بحر لا ..... رحمه الله تعالى، لكن طالب العلم في الاستفادة منها واضح أنه ينتبه، ومن الكلام الحسن ما قاله الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله -وسمعته منه-: شيخ الإسلام يأتي إلى جدار الباطل كالموت فيُسقطه جميعا دفعة واحدة، وأما ابن القيم فيأخذ جدار الباطل حجرا حجرا فيكسّره. وهذا واقع ومثل ما وصف الشيخ؛ فإنك تجد ما أجمله شيخ الإسلام واستطرد فيه وجاء جميعا كالموت إذا جمعت بين هذا وهذا أخذت بقوة كلام شيخ الإسلام وبحسن عرض ابن القيم رحمه الله تعالى. نسأل الله جل وعلا أن يرفع منزلتهما في الجنة وأن يجعلهما مع الأنبياء والصديقين وأن يجزيهما عن أهل التوحيد خير الجزاء، فقد أبليا بلاء حسنا عظيما رحمهما الله تعالى، وابن القيم حسنة من حسنات شيخ الإسلام، ولو الله جل وعلا ثم شيخ الإسلام ما راح ابن القيم وما جاء مثل ما ذكر عن نفسه في النونية لما ذكر حالته لما قدم فقال:
حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني
رحمهما الله تعالى.نكتفي بهذا القدر
([73])هذه في البقرة.(6/231)
([74])شيخ الإسلام رحمه الله يستطرد في الاستدلال قد يذهب لطالب العلم المقصود من ذلك، فتكلم في هذا الكتاب الفرقان بين صفات أولياء الله وصفات أولياء الشيطان فمن صفات الذين ادعوا الوَلاية وتعلق الناس بهم في زمن شيخ الإسلام من أصناف المخرفين رأوا الأمر؛ أمر الله جل وعلا واحدا، رأوا أنه إذا مثل فيهم القدر فقد مثل فيهم الشرع، وأنهم مجبورون وكل ما يعملون، وكل ما يعملون به محبوب لله جل وعلا، ولذلك لا تجد عند أحدهم ندما على ما يحصل له من المعصية ولا فرحا بما يحصل له من الطاعة، فليس عندهم فرق ما بين الأمر الكوني القدري والأمر الشرعي الديني، وأولياء الرحمن جل وعلا هم الذين يفرقون بين الأمرين، الله سبحانه فرّق بين الخلق والأمر فقال ?أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ?[الأعراف:54] وأَمْر الله سبحانه بالشرع غير الأمر الله جل وعلا الكوني القدري، فالأمور الكونية القدرية التي تحصل في ملكوت الله وما في الأرض وما يحصل للإنسان من أشياء وتقلبات وأمور مقدرة عليه وما يحصل من تقاتل الناس إلى آخره، هذه كلها حصلت بإذن الله جل وعلا ومشيئته كما قال سبحانه ?وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ?[البقرة:253] فإذن الأمر الكوني القدري شيء والأمر الشرعي الديني ما أمر الله به في كتابه وعلى لسانه رسوله عليه الصلاة والسلام شيء آخر، قد يجتمعان فيي المحبة وقد يفترقان، ويكون إذن ما أمر الله جل وعلا به شرعا هو محبوب له سبحانه ولذلك أمر به، فامتثاله امتثال لما هو محبوب وتركه لم يأذن الله جل وعلا به شرعا، تركه مذموم، تركه أصحابه عصاة، ترك الأمر ...النهي مع كونه مأذون به كونا ووقع قدرا بمشيئة الله جل وعلا، ولكن لا يحبه الله ولا يرضاه.(6/232)
الصوفية أو الذين ادعوا ولاية الله جل علا ممن ضلوا قال طائفة منهم: أنه إذا حصل لي حال أو حصل علي شيء فإن هذا هو نفوذ أمر الله فيّ، فاستسلامي لذلك ورضاي به هو حقيقة التوحيد والإستسلام لله، وهذا باطل؛ لأن الله جل وعلا أوجب على العبد أن يفرح بالطاعة، وأن يبغض المعصية، وأنه إذا غَفل أو جاءه ما يصدّه، أو فرط في أمر الله، أو جاء نهيه سبحانه أو ران على قلبه فإنه يجب الإستغفار والتوبة وهو ما يل على لأن مخالفة الأمر الشرعي يجب منه التوبة ويجب منه الاستغفار ومعنى ذلك أن المخالفة مذمومة، وأن العبد بحاجة إلى أن يكفِّر عن ذلك وأن يستغفر الحق جل وعلا. وهذا يدل على أن نفوذ الأمر الكوني القدري لا يعني أن يُرضى به، بل هذا لله جل وعلا فيه حكمة بالغة.
فإذن فهؤلاء هم الذين أراد شيخ الإسلام أن يرد عليهم الذين يجعلون يحصل عليهم من أمور المعصية والطاعة كلها أمر كوني شرعي قدري، ويخلطون الأمرين ويجعلونها محبوبة لله وبالتالي فهم يرضون لذلك تجد في تراجم الصوفي، تجد أنهم ربما مُدحوا لفعل لبعض المعاصي لماذا؟ لأنهم عندهم على أصلهم أنه لا فرق ما بين الأمر الكوني والأمر الشرعي فنفوذ أمر الله فيهم بهذا الشيء يعني أن لا يختاروا غيره، معناه أن نستسلم لأمر الله وهذا عندهم هو نهاية التوحيد والفناء لأحد أقطابهم كما هو معروف. المقصود أن الاستدلالات؛ والاستطراد في الإستدلال أراد به ما ذكرتُ لك من التفريق والرد على تلك الطائفة.
([75])قال الشيخ محمد في كتاب التوحيد قال علقمة وذكره، باب الإيمان بالله والصبر على أقدار الله.(6/233)
([76])الكلام الذي سبق واضح؛ واضح في دلالته على مراد المصنف الذي من أجله أتى بهذا الكلام وواضح في نفسه، ولهذا لا نقف على ما سبق، وإنما في هذا الموطن وهو قوله رحمه الله تعالى (إنّ الصبر مأمور به وعلينا الرضا وعلينا الشكر) هذه مراتب ثلاث للعبد المؤمن تجاه ما يصيب به الله جل وعلا ويبتليه، وسعادة المؤمن تكمن في أنه إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، ومن كان عنده هذه الثلاث وهي الإستغفار عند الذنب والشكر على النعمة والصبر على الإبتلاء كان قد حصل الإيمان الحق.
الصبر مأمور به فهو واجب، وإذا كان الصبر مأمورا به فإنما يؤجر العبد على صبره، لا على نفس المصيبة، ولهذا إذا أصابت العبد المصيبة فإن المصيبة بنفسها يكفِّر الله جل وعلا بها من خطاياه، فالمصائب كفّارات كما سلف في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:«ما أصاب المؤمن من همّ ولا حَزن ولا وصب حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» وهذا يدل مع أحاديث أُخر على أن المصيبة تكفّر، لكن الأجر على المصيبة لا يكون إلا لمن صبر كما جاء في الحديث الآخر الذي جاء في الصحيح أيضا «عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنّ أَمْرَهُ كُلّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ. فَكَانَ خَيْراً لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرّاءُ صَبَرَ, فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاّ لِلْمُؤْمِنِ ». فإذن المصائب بنفسها كفارة ولا يؤجر إلاّ على الصبر وذلك لأنّ الصبر مأمور به وإذا امتثل الواجب فصبر أُجر على ذلك.
أما الرضا فهو مقام أعلا.
والصبر: -تعلمون تفسيره- هو حبس القلب عن التسخط، واللسان عن التشكي، والجوارح عن إظهار الجزع باللطم والشق أو بأشباه ذلك. فإذن من شكى باللسان فإنه ليس بصابر، ومن تسخط المصيبة بالقلب فليس بصابر، ومن لطم وشق أو عمل أعمالا تنافي الصبر فليس بصابر.(6/234)
المرتبة الثانية الرضا : قال رحمه الله إن الرضا (قيل واجب وقيل مستحب) وهذان قولان لأهل العلم منهم من قال إن الرضا واجب. ومنهم من قال إن الرضا مستحب. والصواب أن لا يقال أن الرضا لا هو واجب ولا مستحب بل هو جهتان:
1. الرضا بفعل الله جل وعلا فهو قضاءه وقدره وهذا واجب، لأن الرضا بصفات الله جل وعلا وما يفعله واجب.
2. والثاني الرضا بالمقضي بالمقدر فهذا مستحب.
مثلا فقد الولد أو فقد حبيب من جهة أنّ هذا الفعل جاء من الله جل وعلا فواجب الرضا عن أفعال الله جل وعلا وأما تسخط أفعال الله جل وعلا في ملكوته لأن هذا يدخل في ظن السوء بالله؛ يدخل في عموم قوله ?الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ?[الفتح:6]، والجهة الثانية المقضيُّ نفسه والمصيبة نفسها وهي فقد الولد، فالرضا به فهذا مستحب، يرضى لكونه يعلم أن هذا فيه خير له وأنه أصلح وأن الله جل وعلا لا يختار للعبد إلا ما هو أصلح له ونحو ذلك فهنا يرضى بالمصيبة وهذا من الأمور المستحبة لذوي المقامات العالية، كما قال تعالى ?وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ?[التغابن:11]، قال علقمة هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها –يعني المصيبة- من عند الله فيرضى بها ويسلّم لله جل وعلا. هذا من تمام الإيمان وهو سبب من أسباب الهداية.
فإذن الرضا له جهتان:
جهة واجبة وهي الرضا بفعل الله؛ الرضا بالقضاء نفسه يعني بما أمر الله جل وعلا به كونا وبما قضاه يعني بما أمر به أن يقضى بفعله سبحانه بصفته بتقديره وأشباه ذلك فهذا واجب. لأن الرضا عن الله جل وعلا عن صفاته وأسمائه واجب، فلا يظن به سبحانه ظن السوء.
والجهة الثانية الرضا بالمقدور فهذا مستحب، الرضا بالمصيبة في نفسها بفقد الولد في نفسه وأشباه ذلك.(6/235)
المرتبة الثالثة: أن يكون بعد الرضا شاكرا لله جل وعلا على تلك المصيبة وهذه إنما هي لخاصة عباد الله ?وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ?[فصلت:35]. فهو رضى وبعد ذلك يشكر الله جل وعلا أنْ جاءته هذه المصيبة ليكون له بها الخير في جهة تكفير السيئات ومن جهة أنه يصبر فيثاب؛ ومن جهة أنه يرضى عن فعل الله جل وعلا الرضا الواجب فيثاب، ويرضى بالمصيبة أيضا فيثاب، وأيضا لذلك يشكر الله سبحانه وتعالى أن لم يجعله من المتسخطين أو من ... أو نحو ذلك وهذا مقام الشكر لله جل وعلا.
إذن فثم أربع درجات ذكرها شيخ الإسلام الأولى: الصبر، والثانية: الرضا عن القضاء أو عن فعل الله، والثانية: الرضا بالمصيبة والثالثة: الشكر. اثنتان منها واجبة واثنتان مستحبة؛ الصبر والرضا بقضاء الله هذا واجب والرضا بالمصيبة والشكر بعد ذلك مستحبة وهي من مقامات الأولياء. نقف عند هذا، ونكمل إن شاء الله في المرة القادمة.
- المصائب كفارات للخطايا بمجردها، الضابط هو أن يكون مؤمنا فقط، أما هو ولو لم تخطر بباله كفّر الله بها من خطاياه لو ما خطر بباله، لو ما علم فمن رحمة الله بهذه الأمة «ما أصاب المؤمن من همّ ولا حَزن ولا وصب حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» فالمصائب كفارات للخطايا بمجردها.
- الصبر واجب فإن لم يصبر أثم، يكفّر ولو لم يصبر لكنه لا يؤجر إلا بالصبر. هذا الذي دلت عليه الأحاديث في هذا الباب وهو قول عامة جمهور أهل العلم.(6/236)
أما من جهة فعل الله جل وعلا فهو ظن السوء به سبحانه بصفته وأن هذه جاءت بغير حكمة أو أنه ابتلاه هو وترك غيره وأن غيره أولى منه وهذا قلّ من يسلم منه... هذا ما رضي عن فعل الله ظن بالله ظن السوء، الرضا بالمصيبة في نفسها وأن ينشرح صدره لها فإن كَلِفَت نفسه وعدّ هذا فعل المصيبة عليه بفقده للولد أو في فقده لأبيه ونفسه ما انشرحت لذلك ويكرهها ويكره ما حصل له هذا ما رضي بالمصيبة في نفسها.
([77])الحمد لله وبعد: هذا المقطع الذي سمعتم اشتمل على تأصيل مسألة عظيمة هي الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهي أن العبد المؤمن يفرق ما بين ما يجريه الله جل وعلا كونا وقدرا وما يجعله الله جل وعلا دينا وشرعا. فالحقيقة منقسمة إلى حقيقة كونية قدرية وإلى حقيقة شرعية دينية، فلهذا يتعامل مع ما يجري كونا بالرضا بل بالصبر عليه والرضا به كما ذكرت لك آنفا أن الصبر واجب وأن الرضا مستحب يعني بما يقع، ومع الحقيقة الدينية الشرعية التي يتعامل معها بالامتثال في الأمر والنهي، إذا نظر العبد إلى ما بين هاتين المسألتين وجد أن الولي هو الذي لا يحتج بالقدر إذا ... ولا يحتج بالجبر إذا رغب إذا رغب، فالأمور الكونية التي تحصل من المصائب والبلاء والفتن التي تحصل في الأرض أو مما يحصل في السماء مما يبتلي به الله جل وعلا العباد، هذه أمور كونية لله جل وعلا فيها الحكمة البالغة، لا تؤثر هذه في الإستسلام وفي الرضا على أفعال العبد تجاه هذه الأشياء، فضلَّت طائفة رأوا أن كل ما يجري فيه حكمة ولكن لا يفعلون معها شيء؛ لا يفعلون مع ما يحصل شيئا، وهذا من مثل مثلا ابتلاء الله جل وعلا العباد بالأعداء، ابتلاء الله جل وعلا العباد المؤمنين بالمنافقين، ابتلاء الله جل وعلا العباد بالفُرقة والفتنة ونحو ذلك من الأمور التي تحصل، وهو مما قدره الله كونا ووقع، فهذه من استسلم لها ولم ينظر إلى الحقيقة الشرعية الدونية فإنه ضال وعلى غواية، وأما من(6/237)
جمع بين الأمرين ورأى أن هذه وقعت والله جل وعلا له الحكمة البالغة في ذلك، وإذا وقعت لم يحمله هذا ولم ينشغل به عما يجب عليه شرعا، فإن الناس قد ينشغلون بالكونيات عن الشرعيات، والناس عند ورود البلاء وورود الشبهات وعند ورود الفتن قد لا يستعملون معها الشرعيات، قد لا تتحملها قلوبهم وعقولهم فلا يعملون معها ما يجب، وهذه ليست من صفة أولياء الله، فأولياء الله جل وعلا هم الذين يعلمون أن ما يُجري الله جل وعلا في الكون أنه بحكمة وأن له الأمر الغالب، ثم يستعملون ما أمر به شرعا، إذا كان الميدان ميدان جهاد جاهدوا، إذا كان الميدان ميدان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمروا ونهوا، إذا كان المجال مجال نصيحة نصحوا لله جل وعلا ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإذا كان الميدان ميدان اجتماع وائتلاف ونهي عن الفرقة والإختلاف فإنهم لا يشغلهم ذكر الفرقة والإختلاف عن ما يجد شرعا تجاه ذلك من كف اللسان ومن النصيحة ومن التآلف والتآخي ووقلّ من يَخلص من ذلك بالتوفيق ما بين أمر الله الشرعي وما بين ابتلائه الكوني، وإنما يخلص من ذلك أولياء الله جل وعلا، كذلك ذكر أن أولياء الله جل وعلا بخلاف من ليسوا كذلك في أمر الشريعة فليس أمر الشريعة فيما يسمى شريعة ليس هو فقط فيما أنزل الله جل وعلا على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بل ما حكم به الحاكم فيما له أنْ يحكم فيه القاضي هذا أيضا من الشريعة الذي لا يجوز لأحد أن يخرج عنه، لكن ثَم فرق ما بين الكتاب المنزل والسنة والشريعة التي هي كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي من خالفها فهو كافر وما بين كلام عالم أوحكم قاض ونحو ذلك فليس كل من خالف كلام عالم أو طائفة من العلماء يُعد كافرا، وليس كل من خالف أو لم يرض بحكم الحاكم المعين أنه يكون كافرا، بل ثَم فرق بين النوعين لكن من خالف الشريعة المنزلة أو خرج عنها هذا كافر، ومن خالف عالما معين فهذا فيه التفصيل،(6/238)
فقد يخالفه لأمر آخر يكون فيه محقا أو يكون فيه مبطلا، لكن يكون ثم له شبهة، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام ذكر أنه قد يقضي القضاء عليه الصلاة والسلام ولا يكون مصيبا في حقيقة الأمر، ولكن يكون مصيبا في ظاهر الأمر؛ لأن قضاء القاضي إنما هو على البينات الظاهرة أو على الإقراء، فإذا قضى على من يكون من بيننا أو ما يأتيه من الفهم من حجة هذا وحجة هذا فإنه في الظاهر حكم بشرع الله جل وعلا وأعطى الحق لأهله، وقد لا يكون في الباطن وصل إلى حقيقة الأمر، وهذا ما يجعل هذا القاضي لم يصب حكم الشريعة، لهذا القاضي إذا قضى على نحو ما سمع أو علة نحو ما ظهر له من الأمر وكان في الباطن ليس محقا، فإن هذا لا يقدح فيه فإن النبي عليه الصلاة والسلام وهو أكمل الخلق قد قال «لعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأحكم له فإنما أقضي على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقضي له بقطعة من النار فليأخذ أو ليدع» مع أنه عليه الصلاة والسلام هو النبي وهو المؤيد وهو الذي يوحى إليه، لكن قد يخالف حكمه الظاهر ما في حقيقة باطن المسألة فيقضي لمن ليس له الحق فليس هذا موجبا للقدح فيه، والناس في هذا ما بين طرفين ووسط، والطرفان طرف أولياء الشيطان أو من لم يرعَ للشريعة حقها فرأى أنه بهذا يسعه الخروج من حكم الشريعة إذا حصل له علم الحقيقة الباطن ، وطرف آخر غلا فقال إن القاضي إذا حكم بغير الحق في نفس الأمر فإنه يُحكم عليه بالكفر، ويحكم عليه الضلال ونحو ذلك لأنه إذا لم يكن إلى حقيقة الأمر فإنه اتبع هواه وهذا أيضا باطل والصواب التفريق ما بين الشريعة المطلقة التي لا يسوغ لأحد أن يخرج عنها وما بين حكم الحاكم أو كلام العالم أو فتوى العالم أو رأي العالم أو طائفة من العلماء في مسألة ما أو في مسائل، فإن هذه قد يكون لهم الحق فيها وقد لا يكون، لكن الناس يلزمهم أن يمشوا على فتوى علمائهم، وأن يلتزموا بقضاء قضاتهم، ولو كان في نفس(6/239)
الأمر غير موافق للصواب، لأن الناس لا يصلحون فوضى ولا يصلحون دون حكم حاكم ودون فتوى مُفْتٍ للمسائل.
فإذن يُنتبه إلى طرف الغلاة وهم الذين جعلوا الشريعة قِسْما واحدا وهو ما دل عليه الكتاب والسنة فمن خالفها فهو ضال دون نظر إلى ما يجري ظاهرا على فهم العلماء من المفتين والقضاة، وما بين فئة جَفت فتركت اتباع السنة، واتباع محمد عليه الصلاة والسلام طلبا للحقيقة كما سيأتي في كلام الشيخ رحمه الله تعالى.
([78])مثل بعض المسائل قد يرددها بعضهم وهو لايفقه مثلا يقول: حَكم بغير الشريعة، يقول هذا حُكم بغير الشريعة ونحو ذلك لخروج من فعل ذلك عن الحكم بقول بعض العلماء أو القول ببعض المذاهب ونحو ذلك، فهذا لاشك أنه لا يجوز أن يطلق القول في حق أحد أو في حق دولة أو في حق مجتمع بأنه حكم بغير الشريعة لخروجه عن الحكم بقول طائفة من أهل العلم، وإنما يقال حكم بغير الشريعة وخرج عن الشريعة إذا خرج عن مدلول الكتاب والسنة؛ خرج عن ما دل عليه الدليل، فإنْ كان الدليل محتملا والمسألة ليس فيها إجماع فلا يجوز أن يقال أن فلانا خرج عن حكم الشريعة أو حكم بغير الشريعة، والقاضي الفلاني حكم بالهوى وبحكم بغير الشريعة، أو الدولة الفلانية تحكم بغير الشريعة إذا كانت حكمت بقول غير طائفة معينة من أهل العلم، فإذن لا بد من التفريق ما بين الحكم المطلق للشريعة الذي من تركه فهو كافر وضال وما بين الحكم المقيد الشرعي فهو شريعة فهو حكم طائفة من أهل العلم، فإن الخروج عن الأول كفر؛ الشريعة المنزلة، أما الخروج عن الثاني ففيه تفصيل
([79])الخضر سبب اتصال موسى به أنه قال أي موسى: أنا أعلم أهل الأرض فأوحى الله جل وعلا إليه "إيتي عبدنا خضرا فإنه أعلم منك" والحديث معروف في أول البخاري وفي تفسير سورة الكهف.
الخضر اختلف العلماء فيه: هل كان نبيا أم كان وليا؟(6/240)
فرأى طائفة أنه نبي وهم [جمهور أهل العلم] أنه كان نبيا، واستدلوا على ذلك بقوله جل وعلا ?وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا?[الكهف:65] وما حصل من قصته مع موسى من أشياء لا يمكن أن يدركها إلا بالوحي وفيها قول ينسب إليه وإلى الملائكة وهو قوله ?فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا? [الكهف:81] وقال في الجدار ?فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ? [الكهف:82] وهذا إنما يكون عن وحي والوحي للأنبياء لا لأولياء لأن للولي إلهام والإلهام في قضايا ولا يكون في مثل هذه يكون في قضايا يحكم فيها يتبين له فيها الصواب أما هذا إنما هو الوحي، قتل الغلام، إقامة الجدار خرق سفينة ونحو ذلك، وقال (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا).
والقول الثاني وهو قول [قليل من أهل العلم] أنه كان وليا، جمهور أهل العلم على أنه كان ولي وقالت طائفة إنه نبي واستدلوا بما ذكرت لك من الأدلة وقال الجمهور إنه ولي وليس بنبي. وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله إن أولى درجات الزندقة أن يقال إن الخضر ولي لأجل أن الزنادقة الذين خرجوا عن اتباع محمد عليه الصلاة والسلام من أصحاب الوحدة قالوا كما وسع الخضر الخروج نخرج. الخضر خرج عن رسالة موسى وعن اتباع موسى لما أُلهم لأنه كان وليا فنحن نخرج كما خرج الخضر عن موسى.
المقصود –حاصل الكلام- أن المحققين من أهل العلم على أنه نبيا، والجمهور على أنه كان وليا يعني أكثر العلماء الذين تكلموا في هذه المسألة.(6/241)
تعرفون كلمة الراجح هي نسبية معناها الراجح عند المتكلم إذا سمعتم (والراجح كذا) فمعناها الراجح عندي، إذا قال أحد من أهل العلم (الراجح كذا) الراجح عنده لا أنه راجح في نفس الأمر، لأن الرجحان هذا نسبي، والراجح ... يعني عنده، ما فيه راجح عام الرجحان نسبي إفهموها في كلام أهل العلم، إذا قال بعض أهل العلم (والصحيح كذا) يعني والصحيح عنده ليس الصحيح المطلق، إذا قال الراجح في المسألة كذا يعني عنده هو بما تحرى هو من الحق، (أصح القولين في المسألة كذا) يعني عنده،قد لا تكون أصح القولين في نفس الأمر.
لهذا ذكرت لك في المسألة هذه أن جمع من المحققين أنه نبي وأبطلوا القول بأنه ولي، وجمهور أهل العلم على أنه ولي، كذلك إذا قلنا مثلا كيف الراجح؟ معناه –كما في سؤال الأخ- معناه أُوش ترى في المسألة؟ هذا إذا اختلف العلماء وقيل ما الراجح عندك؟ معناه ما قولك في المسألة على أي القولين. (الدرس عندنا درس تعليم الترجيح والإتباع لأهل العلم الراسخين)(6/242)
كلمة المحققين كلمة فتانة في الدروس والكتب هذه معناها أنه إذا عرض لمسألة فإنه لا يمر عليها على وَفق ما عنده من المعلومات السابقة التي ربما نشأ عليها، بل اعتاد أنه يحرر كل مسألة خاصة المسائل العظام، الذي إعتاد أنْ يحرر كل مسألة يقال له محقق، ليس تحقيق الكتب هذه الآن. وأصلها في اللغة من حَقَّقَ الشيء إذا أحسن نسجه، والثوب المحقق إذا كان نسجه على الغاية، لهذا المحقق من يحسن النظر في المسائل لا يدري هكذا بما ألف أو بما سمع بل يحسن النظر ، معلوم الأمة إختلفت إختلاف كبير في مسائل العلم والمسائل المجمه عليها قليلة، المسائل المختلف فيها كثيرة جدا جدا جدا، لذلك لا يخلو أحد مهما كان من تقليد (التقليد المحمود يعني الإتباع) الإمام مالك رحمه الله، الإمام أبو حنيفة قبله جرى على ما عليه أهل الكوفة أخذ فتاوى ... فتاوى أصحاب ابن مسعود وقاس وزاد أشياء، جرى على أشياء قلد فيها، الإمام مالك أيضا قلد أهل المدينة في أشياء ... عليه، الشافعي قلد أهل مكة وخلط شيء من نظر أهل المدينة ولما ذهب إلى بغداد أيضا شيء من نظر أهل العراق، جمع بين أشياء كون بها فقهه في مصر، الإمام أحمد اختلفت أقواله في المسائل لأسباب تارة في المسألة الواحدة تجد عنده عدة روايات، بل في مسألة جاء سبع روايات، هذا له أسباب يطول المقام بذكرها، لكن منها أنه يتابع بعض العلماء ممن قبله في مسائل، إذا نظرتَ إلى مسائل الأصول؛ أصول الفقه فيها تقليد، شيخ الإسلام بن تيمية اجتهد أن يحقق بعض المسائل في الأصول، إذا نظرت إلى الرجال هل كل عالم له نظر مستقل في الرجال في باب الحديث، يعني فلان ابن اسحاق هل هو ثقة أو صدوق؟ الواقدي هل هو ثقة أم هو ضعيف؟ الحجاج بن ... إيش وضعه؟ السدي الكبير ، اسماعيل بن عبد الرحمان هذا هل هو ثقة هل هو صدوق رواية مسلم لمن روى؟ رواية البخاري لمن روى؟ هذه كلها مسائل إختلف فيها أهل العلم في الرجال أو في المنهج، هل نستطيع أن(6/243)
نحقق في كل مسألة؟لا، فلا بد لكل أحد من التقليد هذه ليمكن الكف عنها ولكن ثم تقليد لأئمة السنة، هذا ولله الحمد به تبرأ الذمة وثم تقليد لمن ليس من أهل العلم المحققين فهذا نوع ما نشأ عليه العبد نشأ عليه الإنسان في بلده أو حسب وضعه يختلف يختلف الحال، فإذن الذين يقولون الاجتهاد، لا يسمى إجتهادا كاملا، يجتهد في مسألة فحققها فصار مجتهد في هذه المسألة المعينة أما أن يصير عالم مجتهد فهذا مستحيل ولذلك من أراد الاجتهاد في أول طلبه العلم في كل مسألة يحررها إلى آخرها فسيكون جاهلا في مسائل كثيرة لن يطلع عليها لن يكون فيها محقق ولا مقلد لأنها تفوته، لأن العلم كثير. لذلك ذكرنا لكم مرارا أنّ طالب العلم يسعى في معرفة كلام العلماء في مسائل المسائل كلها في التوحيد في الفقه يمر عليه بكماله، الأحاديث المشهورة يعرف معناها التفسير يمر عليها بكاملها يكون طالب علم، ثم بعد ذلك مع ما قُدِّر له وما عنده من الإستعدادات والمواهب والآلات وجِدّه واجتهاده في طلب العلم بعد توفيق الله له يكون عنده تحقيق واجتهاد في المسائل إذ هذه المسألة تجد فلان متميز فيها، مثلا صالح بن عبد العزيز عنده مسائل حررها فأحسن الكلام فيها فيه مسائل أخرى ليس كذلك، وهكذا آخر من أهل العلم تجد عنده مسائل حررها وهكذا؛ لأن العلم واسع ولا يمكن لأحد أن يقال كلامي هو التحرير في كل مسألة هذا جناية على العلم وأيضا المرء يجني فيه على نفسه، أو أن يتطلب الواحد منا أن يحرر في كل مسألة الأعمار أقل من ذلك والعلم كثير إذا وصلت آخره نسيت أوله ينبغي لك تكرار وفهم وتصوير المسائل ونحو ذلك، لهذا ينبغي أن ينتبه طالب العلم أن دعوى الإجتهاد في كل مسألة، والنظر كما نظر الأئمة أحمد والشافعي ومالك في فعل السلف وتحري الأدلة في كل مسألة هذا يجعل المرء جاهلا في مسائل كثيرة، نعم يحقق هذه المسألة فيجيد فيها وتجد عنده تفصيل وربما يتميز عن بعض الراسخين في العلم بكثرة(6/244)
معرفته وتفاصيله لهذه المسألة أو المسائل التي حررها، لكن تجد عنده من الجهل الكثير في مسائل لم يطلع عليها لأنه شغل وقته بتحرير مسائل وأطال فيها وترتب على هذا أنه جهل مسائل كثيرة كما هو الواقع، وحرك ترى ولهذا طالب العلم ينبغي عليه أن لا يجعل العلم في طلبه له لذة وشهوة، وقد قال ابن المبارك رحمه الله "إن للعلم طغيانا كطغيان المال" مثل ما يكون الغني يطغى ?أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى?[العلق:7] كذلك طالب العلم ربما يطغى، صار عنده مسائل، شاف نفسه مثلا في الأصول عنده كذا، صار عنده نظر جيد، أو عنده في الحديث أو الرجال معرفة، صار عنده في بعض المسائل، هذا ليس من صنيع أهل العلم، كلما ازدت علما ازدت معرفة بأنك تجهل الكثير، وأنه لو مد الله جل وعلا في عمرك لحققت مسائل كذا ولزدت معلومات وهكذا، لذلك قال بعض أهل العلم أموت ولا زال في نفسي شيء من حتى. حتى تارة ترفع، تارة تنصب، تارة تخفض. وهذه المشائل الرفوع والمنصوب والمخفوض هي مسائل النحو فيموت وهو متعلق بتحرير مسائل المخفوض والمرفوع والمنصوب.لا كما يفهم البعض أموت ولا زال في نفسي شيء من حتى، يعني مات وما يعرف معنى حتى؟ لا. هذه كلمة لأحد علماء النحو الكبار يعني أن مسائل العلم هذه إما مرفوع وإما مخفوض وإما منصوب هذه في النحو، حتى تارة ترفع، تارة تنصب، تارة تخفض وهكذا العلم، تارة ترفع هذا ، وتخفضه وتنصبه فإذن يموت المرء وهو يتعلم، يموت المرء وهو في العلم، لا يظنن ظان أنه سيحيط بالعلوم كلها هذه إقطعها، أن تحيط بكل شيء إقطعها؛ إقطع الأمل، وليكن إن أحطت بكثير فذاك حسن وأعظم ما تهته به ما قاله ابن القيم رحمه الله في نونيته
والعلم أقسام ثلاث مالها
من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للديانِ
والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني(6/245)
تهتم بثلاثة علوم إهتمام عام ثم بعد ذلك زد في التفاصيل بحسب ما قدر لك من العمر والإستعدادات والمواهب وما وفق الله جل وعلا العبد به. الإهتمام بالتوحيد في مسائل... لأن صلاح القلب ?إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ?[الشعراء:89] وأعطم الحسنات حسنة التوحيد فعلا وتعلما لأن الوسائل لها أحكام المقاصد. والثاني الأمر والنهي الحلال والحرام فهذه في الفقه تتعدد، واحد يدخل بيته لا يعرف الأحكام الشرعية في عشرته لأهله يعاشرهم هكذا بمقتضى الطبيعة والجبلة وما نشأ عليه وما رأى عليه أهل بيته الجد والجدة وإلى آخره، ما يعرف الأحكام الشرعية فهو سيتصرف بلا على هذا ليس بعالم هذا جاهل يصاحب الناس في البيت، في المسجد يصاحب الناس في العمل زملاء إلى آخره أصناف الناس لن يتعامل معهم بعلم لأنه فاته أشياء كثيرة، في التجارة، في البيع في الأمر، في النهي في النصيحة، في أشياء كثيرة، ما يعترض له من أشياء في يومه وليلته، العالم هو الذي علم فطبق بحسب ما قدر له، هذا العلم في الأمر والنهي؛ الفقه لا بد ينقل بدليله من الكتاب والسنة هذا هو الأصل والإجماع والأدلة البقية المتفق عليها والمختلف فيها، لكن هل كل مسألة ستدركها بالدليل؟ ليس كذلك، فلذلك لا بد أن تعرف الفقه جميعا على كلام طائفة من أهل العلم واحد أو أكثر تتصوره وتمضي، لأن الله جل وعلا كلف العبد بأن يسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ?[الأنبياء:7، النحل:43] فإذا جهلت في المسألة فاسأل أهل الذكر، فلا بد للعلم، لمعرفة الفقه على قوم هذا سؤال أهل الذكر، أما في المسألة فتحرر فيها هذا لن يكون إلا إذا أمد الله في العمر ثم تتابعت شيئا فشيئا بعد ذلك.(6/246)
ثم العلم الثالث بعد التوحيد والفقه: علم السلوك، الجزاء، القيامة، أن يحسن فهم العبد، الطمأنينة التي يحسن العبد بها، الاستقامة، وعدم الركون للدنيا، ومعرفة بحال السلف، وحال الأئمة، وحال الصالحين، وحال الزهاد حتى ينطلق في الدنيا فيضل في الفقه، وحتى لا يغفل عن فعل السلف، وعن سلوكهم وعن صلاحهم فيضعف من إخلاصه وتوحيده هذه الثلاث هي العلم، وكل يأخذ بما قُدِّرَ له من ذلك، ولهذا نسأل الله جل وعلا دائما العلم النافع والعمل الصالح وأن يزيدنا علما وعملا ووهدى واقتداء إنه سبحانه جواد كريم، هذه كلمة وإطالة إقتضاها المقام ومناسبة لا أدري هل هي مناسَبة مناسِبة أم لا؟ لكن لا بد من الأخذ بالتّواصي في مثل هذه المسائل وأسأل الله جل وعلا أن يختم لي ولكم برضاه أختم بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.(6/247)
العلم له شهوة، له لذة، تجده منبسط في السيرة، تجد ليله ونهاره في السيرة، طيب أين التوحيد، سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، نعم هل علمت توحيد الله جل وعلا عليك، الأفعال، الألفاظ، التوحيد، الشرك الظاهر، الخفي، أنواعه ألعقيدة العامة لله جل وعلا وملائكته ورسله، الأمر والنهي وهل خلاصك على بينة، فعلك زكاتك صيامك حجك، كل هذه... عن بينة، الأحكام التي تليها في لبس لباسك في مركبك إلى آخره كل هذه إذا طلب الطالب العلم عن شهوة ولذة تجد أنه يتوسع في أشياء ثم لو نظر في نفسه لوجد أنه يجهل أشياء من ضروريات الدين وهذا لايسوغ، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة له أن العبد قد يطلب العلم بلذة مثل الكريم الذي يكرم الناس بلذة لو ما أكرم وأضاف الأضياف ضاق وما تحمل لما طبعه الله جل وعلا عليه، ولهذا فإن صاحب هذه اللذة فعل ما يجب من تعلم العلم الذي فرض عليه فإنه ينجو بإذن الله تعالى، فإذا كان يجهل ما فرض الله عليه فإنه... فيكون ممن ألهاهم التكاثر، أو ممن اتبعوا الشهوات لأن العلم شهوة وإن كان طلب العلم عبادة لكن العبادة إذا كانت معارضة بعبادة أوجب منها، فعبادة واجبة وعبادة مستحبة، لا يجوز، نعم نظرك في الأصول نظرك في الرجال، نظرك في التخريج، نظرك في السيرة، هذا علم مستحب لكن هل يقدم، هل هو أولى أو الواجب عليك؟ هذه مصيبة تراها الآن في مجتمعات كثيرة، تحقيقات وكتب كثيرة ومطبوعات كثيرة، لكن أين العلم النافع ؟ المسائل الظاهرة ما يعرفها، مسائل النظر فإما أن يغلي فيحرم ما لا يحرم أو يبيح ما لا يباح لا لغرض له في ذلك إلا لأجل عدم العلم... المقصود أن هذه المسألة أنتم تعرفونها، وتعرفون الواقع وواقع طلبة العلم لكن هي ليست لأجل عيب من كان كذلك نبرأ إلى الله من ذلك، لكن لأجل الوصية, أوجه لنفسي بذلك قبلكم وأسأل الله جل وعلا أن يعينني وإياكم على الحق والهدى.(6/248)
([80])الحمد لله وبعد: هذا الكتاب؛ كتاب الفرقان أنشأه شيخ الإسلام لبيان ضلال طوائف من غلاة الصوفية في مسائل الولاية والأولياء وبين في هذا الكتاب الفرق البيّن بين ولي الله وولي الشيطان، وسمى كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فطوائف الضلال في هذا الباب لهم أقوال ولهم آراء ولهم شبه كثيرة في مسألة الوَلاية وفي مسألة الإعتقاد في الأولياء، فمن تلك المسائل زعم طائفة من ظلال الصوفية أنّ أحدا من الناس الذين بلغوا مبلغا عظيما وسمعوا الخطاب، سموا أولا، ثم سمعوا الخطاب؛ خطاب الرب جل وعلا أنّ لهم أن يخرجوا عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، وهذا الرأي الذي ذهبوا إليه مبني على شيئين:
الأول: الخضر خرج على شريعة موسى.
الثاني: خاطبهم الله جل وعلا وأوحى إليهم كما خاطب جل وعلا الخضر وموسى.
هذان القولان ردهما شيخ الإسلام فيما سمعت.
الأول: خروج الخضر عن شريعة موسى لا يعرف أنه خرج عن شريعة موسى بهذه الأفعال الثلاثة التي صحب فيها موسى الخضر، هذه الأفعال الثلاثة جاءت بها شريعة الخضر، وهي موجودة حتى في شريعة الإسلام، ففعل أفعالا ثلاثة أنكرها عليه موسى، وإنكار موسى عليه هذه الأفعال الثلاثة ليس لأجل أنها لا توافق الشريعة لكن لأجل أنه لم يعلم تأويلها ولم يعلم تفسيرها فما صبر لهذا قال الخضر لموسى عليه السلام (أنت على علم من علم الله لا أعلمه وأنا على علم من علم الله لا تعلمه)يعني فإذا كان المرجع علم الرب جل وعلا، فإنّ الواجب عليك أن لا تنكر ما لا تعلم، سبب ذهاب موسى إلى الخضر أنه قال حين سئل أي الناس أعلم، أو أي أهل الأرض أعلم فقال موسى عليه السلام أنا، ولم يُرجع الأمر إلى علم الله فقال له الله جل جلاله موحيا إليه (إيتي عبدنا خضرا فإنه أعلم منك) كما رواه البخاري في أول الصحيح. الأفعال الثلاثة:(6/249)
? خرق السفينة هذا إحسان والإحسان مطلوب في الشرائع جميعا وفعل الخضر لم يكن ظلما ولم يكن إعتداء بل كان إحسانا إليهم وهذا الإحسان جاءت به شريعة موسى عليه السلام وجاءت به الشرائع جميعا، فإن الملك أراد أن يأخذ الفينة السليمة فلما وجد أن السفينة معابة تركها ثم أصلحت السفينة.
?كذلك الغلام خشي أن يكفر أبويه كما قال سبحانه ?فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا?[الكهف:80] أنْ يَطغى عليهما وأن يكفر أو أن يكفرهما وأن يدلهما على الكفر والباطل فقتل هذا الذي علم أنه سيكون صائلا على أبويه في الدين أصله مشروع؛ لأنّ الصائل على الأبدان يقتل فكيف بالصائل على الدين.
?الثالث بناء الجدار هذا أيضا إحسان فإذن في أفعال الخضر لم يكن شيء منها دالا على أن الخضر خرج عن شريعة موسى، فإذن تأصيلهم المسألة بأن الولي له أن يخرج عن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى هذا مبني على هذه المقدمة غير الصحيحة؛ لأن هذه المقدمة مظنونة، هل كان الخضر مخاطبا بشريعة موسى أو غير مخاطب، هذا لا نعلمه هل كان مأمورا باقتداء موسى أو لم يكن هذا لا نعلمه، هل كان موسى من قوم موسى أم لم يكن لا نعلمه فالخضر علم من الله جل وعلا ?وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا?[الكهف:65] له علم لدني من الله سبحانه وتعالى وأفعاله لا تدل على ذلك وليس ثَم دليل زائد على ما زعموا.(6/250)
الأمرالثاني الذي بني عليه الكلام: الكلام على الولي مخاطب هذا في الحقيقة باطل لأن الوحي إنقطع والخطابات التي يسمعها من إستعمل الرياضة والجوع والتفكر هذه خطابات من داخل النفس، وليست وحيا من الله جل وعلا، ضلّ طائفة منهم سمعوا أحاديث قدسية يعني سمعوا الرب جل وعلا يتكلم بكلام. حتى منهم من قال إنّ عند بعض الأئمة أو الأولياء عندهم شيء زائد عن القرآن كما ذكر الشعراني في طبقات الأولياء في أوخره في ترجمة أحد الناس قال في ترجمته: كان رحمه الله ورضي عنه يتلو آيات ليست في القرآن. يعني -على أصلهم- أنه سمع كلام الله جل وعلا فأصبح يقرأ أشياء ليست في القرآن، وهذا ولا شك أنها مقدمة باطلة؛ لأن الوحي إنقطع ولايمكن لأحد أن يوحى إليه وحي سماء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما في هذه الأمة فيها الإلهام والتحديث بما يوقع في روع العبد أما السماع يقول سمعت، وكما قلنا في ابن العربي الأربعين في أحاديث رب العالمين، الأحاديث التي سمعها عن الرب جل وعلا الأحاديث القدسية كلها فيها قال الله تعالى كذا فيما يرويه مما سمع.
• ..النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن أولاد المشركين قال الله أعلم بما كانوا عاملين، الله جل وعلا أطلع الخضر ما سيعمله هذا، لأنه يُخشى أن يرهق أبويه طغيانا وكفرا، فالزائد على هذا لا نعلمه لكن إذا كان الله جل وعلا يعلم أنه إذا بلغ سيكون كافرا فإنه من أهل النار الله أعلم بما كانوا عاملين، فأولاد المشركين فيهم أقوال كثيرة عند أهل العلم، وأقرب الأقوال أنْ يقال كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - الله أعلم بما كانوا عاملين. هل بما كانوا عاملين لو بلغوا أو بما كانوا عاملين يوم القيامة إذا بُعث لهم رسول قولان عند أهل العلم، لكن نقول بما قاله عليه الصلاة والسلام، نقول كما قال الله أعلم بما كانوا يعملون، هذا خشي أن يرهقهما طغيانا وكفرا فقتل....(6/251)
([81])الإرادة كما ذكر منقسمة إرادة كونية قدرية وإلى إرادة دينية شرعية، وأما المشيئة فلا تنقسم ولا يقال مشيئة كونية ومشيئة شرعية بل يقال مشيئة الله، ولا توصف المشيئة بكونها كونية أودينية، لأن المشيئة نوع واحد فلا تنقسم المشيئة، فلم يأتي الدليل ما يدل على إنقسامها بل معناها واضح في أنها متعلقة بالكون وليست متعلقة بالشرع، لهذا نقول مشيئة الله جل وعلا نوع واحد، وهي إرادته الكونية، الإرادة هي التي تنقسم كما ذكر لك في هذه الأنواع، هذه الأنواع جميعا تنقسم إلى كونية ودينية، وليس منها المشيئة، الإرادة منقسمة وسيأتي بالأدلة.
([82])الثانية الإرادة الدينية، الأولى من الآيات الإرادة الكونية والمجموعة الثانية في الإرادة الدينية الشرعية.
([83])هذه محتملة للنوعين ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ?[النساء:64] هذه تحتمل أن تكون الكونية و تحتمل أن تكون الشرعية؛ يعني الآيات فيهما معا تصلح لهذا وتصلح لهذا، فالرسول طاعته شرع، فيكون إذن الله جل وعلا هو الشرع الديني، وأيضا الرسول يطاع بإذن الله جل وعلا الكوني أن يطاع. (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ) يعني ممن أطاعه، وتكون الطاعة هذه بإذن الله، ليس العبد هو الذي يطيع من عند نفسه، بل?وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ?[الإنسان:30، التكوير:29] فتصلح للنوعين.
وكذلك ?مَا قطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ?[الحشر:5]،هذه يعني في أمر الله جل وعلا، يعني فيما تُرك وفيما أُبقي ... الشريعة وهو بإذن الله الشرعي، وهو أيضا ما ترك وما أبقي هو بمشيئة الله جل وعلا بإذنه الكوني، ولكن الثانية أظهر في الشرع.(6/252)
· ...هناك من يقول إنّ الإذن لا ينقسم إنما إذن كوني فقط. أما المنقسم هو الإرادة وآية السّحر هي في الكوني وغيرها مثلها، ومن قال إن الآيات التي فيها الإذن ديني ما عندنا في الكوني إلا آية السحر ?وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ?[البقرة:102] فإيراد الاحتمال في الجميع يقوي الانقسام، عندك الآن الإذن في آية السحر هذا إذن كوني لأنّ...محرم، ... هم يريدون مثالا آخر على الإذن الكوني؛ من طريق آخر، لا يوردون إلا آية السحر، فالذين يتعلقون بالسحر يقولون الإذن هنا (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الإذن هنا ما هو الإذن الكوني فيدخل فيه الإذن الشرعي أيضا؛ لأنّ هناك من يجيز استعمال السحر فيما ينفع ولا يضر، وبقولون ما يضر يعني مثل...و الصرف والعطف يعني إلى وقتنا الحاضر وفي زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى آخره يجادل كثيرون في أن الصرف والعطف يعني المحبة هذه التي تنتج محبة -وفي الحقيقة فيها ضرر هذه من هنا تكون محرمة- ويكون هنا الإذن هنا يكون ديني (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) يعني الإذن الديني، المقصود أنّ إنقسام الإذن دليله في الإذن الكوني آية السحر، وعدم إيراد العلماء –أنا ما استقرأت القرآن-لأنواع أخرى لأدلة أخرى يشكل في تقوية الإنقسام -واضح هذا؟- لهذا نزول الآيات محتملة لهذا وهذا حتى يقوى التقسيم، وهذا معلوم في قوله مثلا ?وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ?[النساء:27] يعني يحب الله أن يتوب عليكم، أنّ من تاب قد وقعت توبته بالنوعين، لكن لا يلزم من محبة الله جل وعلا وإرادته الشرعية أن يقع الكوني لا يلزم منه من مثل الإذن الكوني؛ يعني قد يريد الله جل وعلا الشيء شرعا ولا يريده كونا كما هو معلوم، وقد يأذن به شرعا ولا يأذن به كونا، والإستلزام غير حاصل من الجهتين أو الإستلزام في الجهة الثانية(6/253)
غير حاصل، يعني أنه وجد الشرعي وُجد الديني, لا, إذا وجد الشرعي قد يكون الكوني موجود وقد لا يكون، فإذا وقع الشرعي لا شك أنه يجتمع فيه الأمران يعني في طاعة المطيع تحصل الإرادتان، في القطع هذا قطع اللينة وتركها هذا يقع وانتهى واجتمع فيه الإذن الشرعي والإذن الديني بمعنى أن الإشياء الدينية التي ذكر هي قد توافق الكوني فتكون واقعة وقد لا توافقه فلا يفعلها العبد، مثل الجعْل فلا يأتيه إلى آخره ?جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ?[المائدة:97] هذا جعل شرعي؛ ديني، أناس ما جعلوها كذلك واقتحموا البيت وقتلوا من قتلوا وسفكوا الدماء كالقرامطة ونحوهم، ما جعلوا البيت قياما للناس، إذن الجعل هما شرعي يعني حينما لم يؤمَّن البيت لم تجتمع الجهتان، فلما أُمِّن البيت إجتمعت هذه وهذه، فإذن وجود الأول وهو الكوني لا يستلزم الثاني ووجود الثاني لا يستلزم الأول [وجود في الآيات(المفرّغ)] لكن وقوع الثاني يستلزم وجود الأول. نعم كمّل.
([84]) البقرة:117، آل عمران:47، مريم:35.(المفرّغ)(6/254)
([85])يعني به أصحاب وحدة الوجود الذين قالوا المعبود والعابد شيء واحد لأن الله جل وعلا قضى أنْ لا يُعبد إلا هو ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ?[الإسراء:23]، يعني قَدَّر أن لا يعبد إلا هو؛ فمن عبد غير الله فقد عبد الله؛ لأن الله قدّر كونا أن لا يُعبد إلا هو، هذا باطل عظيم البطلان؛ لأن (قَضَى) هنا بمعنى أمر ووصى؛ لأنه سبحانه هو الذي أثبت بالقرآن أنهم عبدوا غير الله ?وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ?[الفرقان:17، مريم:49]، و? أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5] فهو سبحانه هو الذي بين أنهم عبدوا غيره، وكلمة الغَيْرِيّة هذه واضحة، وكونهم عبدوا من دون الله آلهة أيضا واضحة، في أنه لا يمكن أن تكون قضى بمعنى أمضى. وهذا هو الذي ذكره شيخ الإسلام، و الوجه الثاني أن قضى هنا لا تكون بمعنى قدّر و إنما بمعنى أمر لمجيء (أنْ) بعدها فـ(أنْ) تفسيرية تكون بعد كلمة فيها معنى القول دون شروط القول، وكلمة (قدّر) ليس فيها معنى القول وليس فيها حروف القول بخلاف كلمة (أمر) فإنها في معنى القول، ولهذا إذا إخترنا القول في (أنْ) في قوله (أَلَّا تَعْبُدُوا) تفسيرية قضى بمعنى أَمَر واضحة، وكل منهما مترتبة على أخرى، يعني (قَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا)، (أمر ألا تعبدوا) من أجل التفسير بأَمر صارت (أنْ) تفسيرية، وأيضا كون (أنْ) مصدرية هذا فيه بحث.
¨ ... كأنه عندك إشكال لماذا خصّ الكتب؟ هو في الحقيقة لا إشكال في ذلك، لكن كقاعدة في الأشياء المتلازمة أنه قد يفترض أحد النوعين ويترك الآخر أو تترك الأشياء التي تلزم إكتفاءً بما ذكر، التكذيب بالكتب هو تكذيب بمن أُنزلت عليه الكتب، فنقول إن الإيمان بالكتب إيمان بالرسل، والإيمان بالرسل إيمان بالكتب، فالأشياء المتلازمة يُكتفى فيها بأحد النوعين. أكمل.(6/255)
([86])الفعل المشدد دخلت عليه (لم) الأصل أنه يجزم وتكون علامة جزمه السكون وتكون علامة جومه السكون، لكن إلتقى ساكنان؛ سكون التضعيف والسكون الذي هو علامة فلذلك غُيِّر إلى الفتح لسببين:
الأول: لأن الفتحة أخف الحركات.
والثاني: لأن الضم ممتنع لكونه حالة الفعل قبل دخول (لم) والكسر ممتنع لأن الفعل لا يجر أو لايدخله الجر.
هذه مثل: لم يَجُرُّهُ، لم يهمَّه...، إلى آخره، كل فهل مشدد في آخره إذا دخلت عليه (لم) أو حرف من حروف الجزم فإنه يكون مجزوم بسكون مقدّر.
([87])جماع الفرق يعني وأصل الفرق، جِماع الشيء يعني الأصل الذي يقوم عليه.
([88])بعنى (إلاّ) قال جل وعلا ?وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ?[يس:32] يعني إلاّ جميعم.
([89])يعنى ما دعا فاستجاب الدعوة؛ يعني الغالب بل الأكثر، وليس معناه أن له حقا في أنه ما دعا به يُجاب، فهذه لم يُعطها الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، الأنبياء ربما ردت دعواتهم كما ردّت دعاء نوح لابنه ?إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ?[هود:45] وكما ردت دعوة إبراهيم لأبيه?وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ?[التوبة:114]، وكما رد استغفار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب وهكذا، فدعوات الأنبياء هي أعظم الدعوات التي تجاب، ثم الصالحون من أقوامهم ممن يقال فيهم مستجاب الدعوة يعني بأكثر دعواتهم، ويُرد منها كثير لأن إجابة الدعاء من آثار الربوبية والله جل وعلا له الحكمة فيما يأتي، فيما يفعل، وفيما يُقَدِّر، وفيما يجيب، وفيما يمنع، وهو سبحانه المعطي المانع.
([90])معنى يا سارية الجبلَ، الجبلَ: يا سارية إلزم الجبل، إلزم الجبلَ.
([91])هذه أمثلة كثيرة لما حصل للصحابة رضوان الله عليهم من كرامات، وما حصل لهم من الإكرام.(6/256)
([92])قاعدة في الكرامات مطبوعة”قاعدة في الكرامات والخوارق“ كبيرة لشيخ الإسلام أصّل فيها قاعدة الخوارق والآيات والكرامات والفرق بين هذه الأمور.
([93])مستغنيا هي الخبر.
([94])هذا الكلام المستفيض ذكر فيه شيخ الإسلام رحمه الله وأجزل له المثوبة وجزاه عنا وعن كل سنُّي خيرا، ذكر فيه الكرامات وأن الكرامة فرع معجزات الأنبياء؛ لأنّ كلّ كرامة لم تحصل إلا باتباع النبي عليه الصلاة والسلام، والذي لا يتّبع النبي عليه الصلاة والسلام لا تحصل له كرامة، وإنما الذي يحصل له خارق شيطاني من الشيطان وليس بكرامة من الله جل وعلا، إذْ الكرامة للمتبعين وليست للمخالفين، وباب الكرامات باب واسع، والكرامة تُعرّف بما يجريه الله من خوارق العادات على يدي ولي، والكرامة من لفظها إكرام للعبد وقد يكون هذا الإكرام لحاجته هو إلى ذلك أو لحاجة غيره، ولهذا حصول الكرامة لا يدل على رِفعة من حصلت له، فهو إكرام خاص، وقد يكون من لم تحصل له كرامة أُكرم بأنواع من الإيمان واليقين والصدق بما لم يكرم به من حصلت له كرامات، لهذا ذكر لك شيخ الإسلام أنّ الكرامات في التابعين أكثر منها في الصحابة لأجل ضَعف الإيمان وحاجتهم لما يقوي إيمانهم ولحاجة غيرهم ممن يراهم إلى اتباعهم واقتفاء أثر التابعين لضَعف الإيمان في الناس وضعف اليقين، فإذن الكرامات من حيث الأصل هي فرع معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، ولا تصل إلى قدرها وإن كانت تشترك معها في الجنس؛ يعني قد يحصل للولي من الكرامة؛ إجراء طعام على يديه لكن لا يبلغ قدْر المعجزة لأن يطعم بطعام الذي يأتي الولي يطعم به الجيش العظيم لكن يحصل له جنس الكرامة، يحصل له ما يشترك به مع المعجزة في الجنس، ومثل النار التي حصلت لإبراهيم عليه السلام قال لها الله جل وعلا ?كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ?[الأنبياء:69] هذه نار عظيمة أجج النار بنار عظيمة، فكانت معجزة لإبراهيم، حصلت لبعض الصحابة أنه(6/257)
أدخل النار فلم تضره لكن كانت نارا ليست على قدر تلك النار كانت نارا صغيرة وهكذا في أجناس ما سمعت.
إذن فكل كرامة هي معجزة للنبي؛ يعني مجموع الكرامات التي حصلت بالإتباع هي من جملة دلائل النبوة؛ لأنها ماحصلت للأولياء إلا باتباع محمد عليه الصلاة والسلام.
الكرامات من حيث التقسيم، نحن نؤمن أهل السنة بكرامات الأولياء ونؤمن بما يجري اله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات، فالكرامات نصدّق بها، ونؤمن بأنها تحصل لأولياء الله جل وعلا، وهذه الكرامات على نوعين:
· الأول كرامة علمية: فالعلم قد يكون علما كشفيا بأن يعلم الخافي مثل علم أبي بكر بالجنين (بنوع الجنين، علم أبي بكر رضي الله عنه بنوع الجنين رأى بطن امرأته فقال فيها أنثى) وقد يكون علما بالسماع؛ يسمع ما لم يسمعه غيره، مثل سارية سمع كلام عمر، أو اسماع ما لم تجرِ العادة أن يُسمع مِنْ بُعد المسافة مثل الكرامة التي حصلت لعمر، وقد يكون الخارق العلمي من جهة التأثير على الخلق، فيكون العالم أوالرجل الصالح يُعلِّم يؤثر على الناس بعلمه أو بوعظه ونحو ذلك فيهديهم الله جل وعلا ويصلحهم على يديه، هذا نوع إكرام من جهة العلم والتعليم. له أمثلة كثيرة مما مرّ معنا، أدرج الأمثلة المناسبة تحت هذا القسم.(6/258)
· الثاني كرامة من جهة القدرة والتأثير: يعني أنْ يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، وأن يؤثر في الكونيات بما لا يؤثر عليه غيره وإن قلت يأثر ويقدر فهو إجراء الله على يديه ذلك، كما عرفنا الكرامة بقولنا: ما يجري اللهُ من خوارق العادات على يدي ولي. وليس معناه أنه يعطى القدرة بالتأثير، كما يقوله غلاة الصوفية حتى بلغوا فيمن يزعمونه وليا بأنه يقول للشيء كن فيكون، إنما يجريه الله على يديه إكراما له، وليس معناه أنه عنده قدرة دائمة في التأثير أو في قلب الأشياء أو ما أشبه ذلك، من هذا المثال: يُرسل النهر لسعد حتى يمر عليه ومن معه، وسفينة مسك بالأسد حتى أوصله مقصده, وأمثال كثيرة في أنواع القدرة.
إذن الكرامة من حيث هي حاصلة، الكرامة لا تدل على أن من حصلت له أعظم ممن لم تحصل له، الكرامة قد يحتاج إليها ضعيف الإيمان فتحصل له وتُحجب عن قوي الإيمان فلا يُعطى كرامة حسية من قدر وتأثير أو كشف علمي، وإنما يُعطى العلم التأثيري وأشباه ذلك، الخوارق سيأتي كلام شيخ الإسلام عليها وأنها تختلف عن الكرامات، الخوارق تجري على يدي المبتدعة، العصاة إلى آخر ذلك.
إذا تبين هذا، فالكرامة قد تحصل على يدي غير الولي، الأصل أنها لا تحصل إلا لمطيع، لصالح، لولي مؤمن متقي. وقد تحصل لعاصي وقد تحصل لمبتدع، وهذه الحالات القليلة إنما هي لتقوية إيمانه لضعفه أو لتقوية من معه على عدوهم لما معهم من أصل الإيمان مع عدوٍ معه الكفر أو لأنه ينافح عن الدين فيُعطى من الإكرام لأجل منافحته عن الدِّين في مقابل المشرك والكافر، لهذا يُشكل على البعض حصول طائفة من الكرامات أو الخوارق لمن هو مبتدع مثل ما قد يُذكر من حصول كرامات في أفغانستان لبعض الناس وفي قتالهم مع الملاحدة ويأتي طائفة ويقولون ليس بصحيح لأن هؤلاء مبتدعة ويفشو فيهم أنواع من الشِّركيات ويكذبون، وآخرون ويقولون رأينا بأعيننا فيصدقون فيحصل خلط، هل يكذب هذا أم يصدّق؟(6/259)
وقاعدة أهل السنة في هذا الباب أنّ هؤلاء يقاتلون الملاحدة، يقاتلون الكفار أعداء الله جل وعلا، فهؤلاء المسلمون الذين ينتسبون إلى أصل الإسلام قد يعطون شيئا من الخوارق لا لهم ولكن لإظهار الدين الذي معهم على عدوهم.
وهذا يحصل أيضا في باب المناظرات قد يأتي شخص من المعتزلة ويناظر نصرانيا فيُكرم بأشياء من الحجج ما خطرت بباله، وذلك لما له من أصل الإسلام في مقابلة ذلك النصراني المشرك، وقد يكون أشعريا مثلا يناظر وهكذ.
فإذن الكرامة التي تحصل للعبد ينبغي النظر فيها والتأمل فلا يُعجَّل بالإثبات ولا بالإنكار.
أيضا من قاعدة أهل السنة في الكرامة أن الكرامة لا يُتعلق بأصحابها بل هي إكرام لهم، ولا يُتعلق بصاحبها لأجل الكرامة والله جل وعلا أكرمه وأعظم من كرامة الولي كرامة محمد عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد مماته بالآيات وبالبراهين، بل وباصطفائه رسولا وخاتما للأنبياء والمرسلين ومع ذلك هو عليه الصلاة والسلام الذي حذّر أن يتخذ قبره مسجدا، وأن يُدعا، وأن يجعل قبره عيدا وأشباه ذلك لما حدثت لطائفة من الأولياء الذين حُكيت عنهم كرامات. فإذن حصول الكرامة لا تعني التعلق، بل لا يجب التعلق بمن حصلت له الكرامة لا في حياته ولا بعد مماته، التعلق غير الشرعي، أما التعلق الشرعي بأن يتأثر بالرجل الصالح وأن يصاحب لتقوية المصاحَب على طاعة الله أو أن يسأل أحيانا للدعاء، أن يدعو ونحو ذلك، فهذا لا بأس به لكن لا من جهة التعلق به. وهذا لمصلحة؛ لمصلحة عامة يحصل ذلك مثل ما طلب من سعد أن يقسم في الفتح وأشباه ذلك مما هو داخل في ضمن الفائدة العامة.
إذن فأهل السنة في باب الكرامات وسط؛ وسط بين المنكرين كالمعتزلة ومن شابههم كابن حزم وغيره، وبين الغالين كغلاة الصوفية الذين يجعلون الكرامة سبيلا للتعلق البدعي وأيضا لا يفرقون بين الخارق الشيطاني وبين الكرامة. سيأتي في هذه المباحث زيادة تفصيل فيما نستقبل. نقف عند هذا.(6/260)
· ...الكرامة مثل ما ذكرت لك ما يُجري الله من خوارق العادات على يدي ولي، أما على يدي نبي الآية والبرهان ما يؤتاه النبي مما يَعجز عنه الإنس والجن، فالأشاعرة عندهم المعجزة والكرامة متساوية في جنسها وقدرها؛ في الجنس والقدر متساوية؛ النار هي النار المعجزة التي تحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - تحصل للولي بنفسها لكن الفرق بينهما أنها تكون في النبي مقرونة بدعوى النبوة وبالتحدي في بعضها ليس في جميعها، وأما الكرامة فليست مقترنة بذلك. وهذا غير لازم؛ لأن الكرامات مراتب مختلفة في الجنس وفي القدْر وكذلك آيات الأنبياء مختلفة في الجنس والقدْر.(6/261)
· الرؤيا: هذا مثل يضربه الملك لروح النائم أو يُري روحه أشياء وهو نائم قد تكون دليلا على ما سيقع، أما تعبير الرؤيا فهو علم، والله جل وعلا يُعلِّم عباده تعبير الرؤيا. إما بقذف؛ يقذف في قلوبهم الصواب، وإما بالدلائل.ولهذا من عبر الرؤيا وهو ليس عالم بها فهو داخل في الوعيد?وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ?[الإسراء:36] والله سبحانه وتعالى سمّى التعبير علما ?وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ?[يوسف:21] فتأويل الرؤى علم وليس خرصا، ولا يجوز للمرء أن يقدم على تفسير الرؤيا في غير علم بها، العلم قد يكون بدليل منالكتاب والسنة، عندك الفقه في الشرع الفقه في حال السائل في حال الرائي ومعرفة يستدل بالشيء على الشيء لأنها أمثال مضروبة، والمثل قد يدركه صاحب الفِراسة، ويستدل بآية بحديث هذا ظاهر، وقد يكون أن وقع في نفسه تفسير الرؤيا كذا بدون دليل،لو تفكر لا دليل على ذلك أو شيء مستغرب جذا أن يفسره بهذا، وهذا كثير جدا في تعبير الرؤيا. إذن فالمقصود أن تعبير الرؤى علم، ومما ينبغي في آداب الرؤيا أن لا يتحدث المرء بالرؤى؛ إذا رأى رؤيا تسوؤه فيستعيذ بالله جل وعلا من شرها ويتفل عن يساره أولا ثلاثا ثم يستعيذ بالله جل وعلا من شرها وينقلب إلى الجهة الثانية كما ثبت في الصحيح، وإذا رأى رؤيا تسره يحمد الله جل وعلا عليها ويسال الله خيرها، فإذا أراد أن يقصها فلا يقصها إلا على عالم مأمون؛ لأن الرؤيا على رِجل طائر وفي رواية على جناح طائر إذا قٌصَّت وقعت، يعني مثل الطائر الذي له جناح إذا قص الجناح وقع وكذالك الرؤيا على جناح طائر إذا أولت وقعت، فلا ينبغي للمرء أن يعرِّض نفسه لمثل هذه المخالفات قد فيكون في تأويل الرؤيا شر عليه فإذا أمضاها تُركت.(6/262)
· ...هو ما ذكرنا أنه في مقابلة المشرك تحصل له لا في نفسه –لا تحصل للعاصي في نفسه، لا تحصل للمؤمن المبتدع في نفسه إنما تحصل له في مقابلة أهل الشرك في حرب أو مناظرة أو نحو ذلك، لنصرة الدين ، من جنس إنزال الملائكة ومن جنس تأييد الناس قد يؤيدون بأشياء ...
([95])استراق السمع موجود قبل النبوة، وفي أثناء حياة النبي عليه الصلاة والسلام، نبيا رسولا، وبعد موته عليه الصلاة والسلام فاستراق السمع لم ينقطع لكنه كان:
· قبل البعثة كان كثيرا جدا لحكمة يعلمها الله جل جلاله.
· وبعد البعثة ملئت السماء حرسا شديدا وشهبا، فلم يصل مردة الجن، ولم يصل مسترق السمع إلى ما كان يصلون إليه قبل ذلك، وإنما قلت جدا، ولكنهم استرقوا بعض السمع ولكنهم لم يسترقوا السمع كُلاًّ، مثل ما جاء الحديث ابن صائد أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال «قد خبأت لك خَبْأ» قال: الدخ ، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «إخسأ فلن تعدو قدرك» ولأنك كاهن سمعت الشياطين الكلمتين وأوحتها إليك الدخ لكن لا تدري البقية لأن الشياطين لا تحسن إستماع الوحي الذي يوحى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ربما تحدث أشياء في وقت النبوة مما يقضي الله جل وعلا به من الأمر في السماء، مما لا يختص بالوحي إنما هو من الأوامر الكونية وما سيحدث ونحو ذلك فتسترق الشياطين السمع فيصلون لكن بقلة.
فإذن الأحوال استراق الشياطين للسمع بالنسبة للبعثة ثلاثة: ما قبل البعثة الاستراق كثير، وفي وقت البعثة مدة الرسالة قليل أو نادر وبعد محمد عليه الصلاة والسلام زاد ولكن لا يوصف بالكثرة ولا بقلة؛ يعني زاد على ما كان في البعثة لكن لا يوصف بكثرة ولذلك كان قبل البعثة الكهان كثيرون يخبرون بالمغيبات، وبعد البعثة لا؛ موجود لكن قليل عما كان؛ يعني بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قليل عما كان قبل حياته عليه الصلاة والسلام.
هذا من جهة.(6/263)
والجهة الثانية أن أولياء الشيطان تحصل لهم خوارق مثل الإخبار بالمغيبات فكون الرجل يكون عنده خوارق عنده إخبار بالمغيبات لا يعني أنه ولي، هذا غلِط فيه أناس كثيرفي عهد شيخ الإسلام ومن بعده يعتقدون أن من حصل له خوارق وإخبار بالمغيبات أنه ولي؛ هذا غلط كبير، الولي هو المؤمن التقي المتابع للسنة الموحد الصادق، هذا هو الولي، يجُري الله جل وعلا على أيدي هؤلاء بعض الكرامات، لكن إذا كان فاسقا فاجرا مفرطا عمل المحرمات يترك الفرائض فكيف يكون ما يحدث له كرامة إنما هذه خوارق شيطانية، فإذن الخوارق على هذا ثلاثة أقسام:
? القسم الأول: خوارق ليست في مقدور الجن والإنس وهذه هي الآيات والبراهين التي يؤتاها الأنبياء.
? والنوع الثاني: خوارق تكون على يدي المؤمن التقي، تجري على يدي المؤمن التقي، وهذه هي التي تسمى كرامة وهو دليل أيضا من دلائل النبوة لأنها ما حصلت لهذا إلا لاتباعه لنبيه.
? الثالث: خوارق تحصل للفجرة والكفرة وللعصاة الذين يرتكبون المحرمات ويفعلون الموبقات ويتركون الفرائض هذه تسمى خوارق شيطانية.
إذن حصول الخارق بنفسه بمجرده لا يعني شيئا في الحكم على صاحبه بل يُنظر في حاله.
([96])يقلبها يعني يقرأها من آخرها إلى أولها وهذا بالنسبة للآيات.(6/264)
([97])وهذا سحر من كتابة الآيات بالنجاسات وإهانة المصحف والعياذ بالله أو البول عليه والعياذ بالله، هذا من آخر مراتب السحرة يعني بتعلم السحر والعياذ بالله لا يكون كاهنا ساحرا تخدمه الشياطين وتعمل بأمره فيما يشتهي إلا إذا حصل منه الكفر، بهذه الأنواع كما قد ذكر في بعض كتب السحر المعاصرة والقديمة فالناس في زمن شيخ الإسلام وما قبله إلى زمن قريب من زمننا هذا كانوا يعتقدون في هؤلاء السحرة والكهنة، واليوم في بعض البلاد مثل ما هو موجود في المغرب فيما يذكرون، وفي لبنان وفي مصر أيضا على قلة لكن في المغرب يقولون بكثرة، وفي بعض البلاد يوجد أناس تخدمهم الشياطين ويخبّرونهم بالمغيبات وراج على بعض أهل هذه البلاد من أهل الفطرة راج عليهم أنّ أولئك قالوا الملائكة تخبرهم، الملائكة تخدمهم، هؤلاء صالحون ويظهرون لهم بصورة الصلاح، ويزعمون أن الملائكة هي التي تصنع لهم وتخدمهم، الملائكة لا تفعل شيئا من ذلك، ولم تخدم الصحابة في مثل هذه الأشياء، وإنما هذه من الشياطين، يخبرونهم بالمغيبات ويغيرون لهم الأشياء، وينطق الناطق وهو بعيد ويأتي ويقول الميت يقول كذا وكذا، أو يسمع صوت وأشباه ذلك مما ذكر.
المقصود من هذا البحث الذي ذكر شيخ الإسلام وأطال فيه من حيث الأمثلة، تأصيل القاعدة بأن الفرقان بين الخارق الشيطاني هوحال الشخص، فإذا كان من حصلت له الخوارق مطيعا لله ورسوله آمرا ناهيا صاحب تقوى، فهذا قد يُجري الله على يديه كرامات، وإذا كان عاصيا مخالفا مرتكبا للمحرمات تاركا للفرائض، عنده حب للنجاسات، وعنده إظهار للتعذيب بالنار أو الخوارق التي لا تحصل لأهل الإيمان لأنها أمور منكرة فهذه حال شيطانية، ولو إدعى أنها من الملائكة أو من صلاحه أو إلى آخره فهذه أحوال شيطانية.(6/265)
كذلك ما يكون من الأمور التي ذكرها من الأمثلة هذه يجب على المرء أن لا يكذب يقول لا ما حصل هذا، لأن الأشياء حصلت ويكون الذي رأى أنه حصل يقول حصل ورأيته بعيني فيحيل الداعية إلى الحق يحيل الموحد، يقول نعم حصل ولكن لم يحصل إلا من الشيطان، نعم سُمع الصوت من القبر وهو صوت فلان وكلمكم قال إفعلوا كذا أو غفرت لكم أو سألت لكم ربي أو شفعت لكم، لكن هو في الواقع صوت شيطان ليس صوت الميت، لأن الشيطان قلد صوت الميت ليغوي العباد فالأموات لا يخاطبون الأحياء، لا يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام الأحياء والصحابة ولا شهداء بدر ولا أكرم الناس، لم يخاطبوا الأحياء بأمور، وإذا الشيطان تكلم على لسان هذا الميت فيحصل من هذا التكليم إغواء تعلق وإعتقادات باطلة إذن فالشياطين مهمتهم الإغواء كما هو معلوم ?لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا(62)قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا(63)وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ?[الإسراء:62-64] صوت الشيطان يشمل كل ما يغوي الشيطان به العباد من الأصوات سواء كانت أصوات المخلوقين التي من جهة الشيطان أو تجد الشيطان نفسه في القبور في هذه الأحوال.(6/266)
فإذن يجب أن ينتبه إلى مثل هذه المسائل خاصة في البلاد التي يكثر فيها الجهل والإعتقاد بالكهنة والأولياء وما شابه ذلك وأن أكثر ما يحصل لهم من هذه الأشياء إنما هي من الشياطين، وبعضها خيالات، سبب إستطراد شيخ الإسلام في مثل هذه الأمثلة هو أن يُعلم القارئ الذي يقرأ كتابه أنه محيط بأحوال القوم حتى لا يقول قائل أنت تتكلم عنهم وأنت لا تعرفهم فذكر كل الأصناف الأصناف جميعا التي يحصل لهم الخوارق وتخدمهم الشياطين وأصناف ما يحصل لهم في الأطعمة في الأشربة في الطيران في الهواء في الماء وفي الإخبار بالمغيبات وفي المكث عند القبور والتمثل بالأشخاص كل هذه حصلت للناس وهو يمثل بها حتى يجمع ما بين معرفة واقع الناس وما بين تقرير الأحكام الشرعية حتى يكون أعظم في الحجة.
ذكر شيخ الإسلام في بعض كتبه لا أدري هل ذكرها هنا أم لا؟ أن الشيطان تمثل في صورته يقول وقعت مرة لطائفة من أصحابي ضائقة وكرب قالوا فرأينا صورتك يعني فرأيناك عندنا فاستغثنا بك، فأتيت وخلصتنا من العدو، فلما أخبره لما قدموا هنا قال لم آتِ إنما ذاك شيطان تصور بصورتي ليغويكم فاحذروا ، أو كما قال رحمه الله تعالى. فالشيطان بشهادة الثقات الجمع من أصحابه تمثل بصورته لذلك هند شيخ الإسلام هذا يقيني لأنه شهد به الثقات وهو يعلم بيقين من نفسه أنه ما تعدى بنفسه، كيف هؤلاء يقولون حصل لنا كيت وكيت وأنت جئت وخلصتنا لاشك أن هذا من الشيطان لذلك، يتكلم بأشياء مبنية على محسوس والمبني على محسوس لا يُكذَّب والذي ذكرتَه هذا يُرد عليه بما ذكر شيخ الإسلام عن نفسه لأنه لم يتخيل بحال الناس إنما ذكر عن نفسه هذه الأشياء. المسألة هذه تطول نقف عند هذا.(6/267)
([98])بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهذه الجمل أوردها شيخ الإسلام المؤلف رحمه الله لبيان حال الذين تحصل لهم خوارق، وأنّ كثيرين من أهل زمنه، بل أن الكثيرين من أهل زمنه لا ينفكون عن أن يكونوا من أهل هذه الصفات إما أن يدعو الميت وإما أن يدعو به وإما أن يتخذوا قبره مكانا للعبادة، والطرق الصوفية بعامة تعلقت بالقبور وتعلق أصحابها وتعلق المريدون بالمشاهد هذه إما قبور من اتبعوهم من أصحاب المعرفة، مثل ما يُفعل عند قبر عبد القادر الجيلاني، ومثل ما يفعل عند قبر الرؤساء منهم في دمشق وفي مصر إلى آخره، هؤلاء صفتهم أنهم يتعلقون بالموتى واتخذوا القبور مساجد وعظموا تلك المساجد ولهذا ذكر لك أنّ هؤلاء الذين تحصل لهم خوارق هم من أهل البدع والشركيات، معلوم أن الكرامة لعبده إنما هي للمؤمن التقي، وأما أهل البدع والشرك فهم إن وقعت لهم خوارق فهي من الشياطين؛ لأنهم يضلونهم بغير علم وهذه الصّور الثلاث التي ذكر أن يدعى الميت بأنواع الدعاء:(6/268)
? إما باستغاثة به يقول يا ولي الله أغثني، أنجدني أنا في كفايتك، أنا في كنفك، أعني على هذا الأمر، أنا في غياثك يا غياث المستغيثين، أغثني ونحو ذلك، مما هو دعوة لغير الله جل وعلا فيما هو من صفات الرب جل جلاله، أو أن يدعى بالميت والدعاء بالميت له صور منها أن يسأل به في ذاته، يقول أسألك ربي بفلان بالميت بعبد القادر بالبدوي بالعندروس وأشباه ذلك، هذا إذا سأل بالميت يظن السائل أنه يحصل له حين ذلك قبول لسؤاله، وتحصل له أحوال عند القبر إذا سأل بالميت؛ لأن روح الولي تساعده والسؤال بفلان هذا وسيلة من وسائل الشرك وبدعة وخيمة، فلا يجوز لأحد أن يبتدع هذه البدعة، ولا أن يعمل بها هي أن يسأل بفلان كائنا من كان ولو كان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسألك بنبيك، أسألك بأبي بكر، أسألك بأهل بدر، أسألك بالولي الفلاني هذا كله بدعة ووسيلة إلى الشرك.
? الصورة الثانية للدعاء بالميت، أن يتوسل بما يظنه من منزلة للميت يقول أتوسل إليك ربي بحق فلان الولي عليك أتوسل إليك بعمله الصالح أتوسل إليك بمكانته عندك وحرمته عندك ، ونحو ذلك أو أن نقول أسألك بحقه أسألك بحرمته عندك بجاهه عندك ونحو ذلك هذه كلها داخلة في الدعاء به وهي أيضا بدعة ووسيلة إلى الشرك.
? أما الدعاء عند القبور فإنما شرع الدعاء عند القبور للميت وقد يدخل الحي تبعا، فالشرع جاء بالزيارة الشرعية للقبر والدعاء عند القبر للمقبور لا للحي وقد يدخل الحي تبعا في الدعاء فأن يقول الحي للميت: اللهم إرحم المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، أو يقول اللهم إغفر لأصحاب القبور ونور عليهم قبورهم، واغفر لنا ولهم ونحو ذلك، فيكون دعاؤه لنفسه أتى تبعا لأنه دعى للمؤمنين بعامة من أهل القبور، فيدخل هو تبعا لا استقلالا، أما أن يختص موقع قبر أو قبور أو المقبرة للدعاء للحي أو أن يدعو لنفسه فهذا من البدع المحدثة ووسيلة إلى تعظيم القبور والعبادة عندها.(6/269)
وهذه الصفات الثلاث موجودة عند أهل التصوف وأهل الغلو في الأولياء حتى قال قائلهم في قبر معروف الكرخي العابد المشهور قالوا فيه:
(قبر معروف الترياق المجرب ) يعني من أعياه شيء وأراد الاستشفاء من الأمراض البدنية أو الأمراض الدينية يعني كان عليه جنون أو أراد شيئا في أمره دينه أو دنياه فعليه بقبر معروف فإنه الترياق المجرب، يعني أن يدعى معروف أو أن يسأل به أو أن يدعى عند القبر، كل هذه الصور حاصلة، وإذا كانت هذه الصور من البدع والمحدثات وبعضها بدعة كفرية شركية، فمعلوم أن الشياطين تساعد أهل البدع، وتساعد أهل الشرك كما ساعدت أوائلهم، وأن أول الشرك كما ذكر هو قصة قوم نوح في عبادة ودّ وسواع ويعوق ونسر، ولما عبدوهم أغوتهم الشياطين، وصار عندهم أحوال وآراء وكلام تنطق، وربما خرج من القبر وتصور بصورته وتكلم بصورته إلى غير ذلك مما ذكر، لهذا جاء في هذه الشريعة النهي الشديد عن اتخاذ القبور مساجد «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا لا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» وأن من اتخذ القبر مسجدا يعني فصلى عنده أو دعى عنده واختصه بذلك فإن هذا مبتدع وملعون فكيف بمن عبد صاحب القبر واستغاث به لا شك أن هذا أعظم «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» هذه وصية قالها عليه الصلاة ولسلام في آخر حياته وصية أوصى بها الأمة وحذرها من ذلك، فإذا كان هؤلاء من أهل الشرك والبدع والخرافات فإنه يحصل لهم خوارق، وهذه الخوارق من الشياطين ليست كرامات، فإذن لا بد أن يكون ثم فرقان بين الكرامنة والخارق الشيطاني، فالكرامة هي للمؤمن المتقي المتبع للسنة، أما الخارق الشيطاني فهذا يحصل لكل من تولى الشيطان، تولاه بطاعته في الشرك وفي البدع والخرافات وفي التعلق بغير الله جل جلاله.(6/270)
إذا تبين ذلك فأصحاب الطرق الصوفية في زمن شيخ الإسلام كان عندهم كل هذه أنواع التعلقات؛ التعلق بالقبور، التعلق بالأوثان، التعلق بالأولياء، كان عندهم اعتقاد بالشيخ حتى إنهم يعتقدون فيه أنه يَعلم ما في النفس، حتى ولو بَعُدَ، كما قال قائلهم لأحد مريديه إذا هممت بمعصية فتذكر أني أعلم حالك، هذا لا شك أنه من إدعاء ما ليس له، وبه حصل التعلقات لأنها تربية غير شرعية فهي إن كان نطق بها الأول يريد تخويفه ويريد تربيته لكن هذا إدعاء لشيء من أمور الغيب، والعياذ بالله، ولهذا حصل من التربية الباطلة السلوكية حصل الشرك والبدع وأنواع من الضلالات.(6/271)
المقصود من هذا أن المكلف الذي يتعلق بهذه البدع بالقبور ودعاء أصحابها وبالبناء على القبور هذه المشاهد الشركية أو بسؤال أصحابها أو السؤال بهم أو الدعاء واختصاص القبور بمزيد مزية، هؤلاء قد تخدمهم الشياطين، وقد تظهر له من القبر من قبر فلان يسمع صوت المدفون هو يعرف صوته؛ من مشايخه ثم يخبره بأشياء فعلها هو فعلت في بيتك كذا وهذا يبقى متعلقا لا يدري أنّ حقيقة الحال أن هذا شيطان، والجن يرونها من حيث لا نراهم ?إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ?[الأعراف:27] فالشيطان ولي لغير المؤمن ينصره ويساعده ويذله، لهذا ينبغي على الناظر في مثل هذه الأحوال، أو الذي يُناظر الذي يذكر مثل هذه الأحوال أن لا يبادر بإنكار وقعها يقول مثل هذا قد يقع، قد يكلمك الميت قد تسمع أصوات، قد يخبرك فلان بالمغيبات، لكن الذي يخبره بهذه الأشياء ويحصل له هذه الخوارق إنما هي الشياطين، لأنها ولية لأهل البدع والشرك، والشيطان يريد بالعباد أن يقعوا في الشرك والبدع التي هي وسائل الشرك هي طريق الشرك، وبريد الشرك لذلك يعينهم الشيطان، فيؤول الأمر أن هذا من فعل الشياطين فلا ينفى وقوعه لأنه وقع وشوهد لكنه يكون خارقا شيطانيا وليس كرامة، فالفرق بين الكرامة وبين الأحوال الشيطانية ظاهر وهي أن الكرامة يؤتاها المؤمن التقي تعالى ?أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:62-63] فالولي هو المؤمن التقي ? لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا?[يونس:64] ومن البشرى الكرانات التي قد تحصل لبعض عباد الله أما من ليس على الإيمان والتقوى والسنة من أهل البدع والشركيات هذا تحصل له الخوارق ولكن ليست بكرامات إنما هي خوارق شيطانية إما من جهة القدرة أو من جهة الغنى أو(6/272)
من جهة العلم تحصل لهم خوارق عديدة، مثل ما ذكر نقل في الهواء ولما قال لا إله إلا الله ذهب الشيطان الذي يحمله فسقط، ومثل أن يعلم ما في البطن ومثل أن يغيث في وقت الحاجة، ويكلمهم ويخبرهم بأشياء مخفية كل هذا من فعل الشياطين، والإنسان يعلم قصوره وأنه لا يعلم الغيب? قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ?[النمل:65] سبحانه وتعالى.
¨ هي لا تنسب إليهم بعد الممات، بالنسبة للخارق الشيطاني يحصل لهم في الحياة، أمابعد الممات فليس له لأنه إنتهى لكن الشيطان يضل به ليس خارقا له لكن يضل به مثل ما يحصل عند القبور الشيطان يضله ليس خارقا له لأنه انتهى، وأما الكرامة فإن العبد المؤمن قد يكرم بعد مماته، يكرم في أحبابه يكرم فيمن يعطف عليهم، فيمن يرحمهم، مثل ما أكرم الله جل وعلا به أمة محمد عليه الصلاة والسلام بعد وفاته بأشياء كثيرة فهذا لأجله محبته عليه الصلاة والسلام لنا، ومثل إكرام الله جل وعلا للعبد الصالح الذي يموت فيصلح الله جل وعلا عقبه ويحفظ لهم دينهم وأموالهم إلى آخره كما جاء في سورة الكهف ? وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ?[الكهف:82] فبسبب الصلاح أكرم الأبناء وهكذا، فإذن بعد الممات الموتى لا ينسب الخارق ولا الإكرام للميت وإنما يقال الشياطين فعلت أو أكرم الله جل وعلا فلانا بعد وفاته بكذا بصلاح أحبابه، بنفع من يحب، بنفع الأمة إلى آخره، أما الميت فلا يحصل له كرامة في نفسه فيما يراه الأحياء كرامته في الجنة عند ربه جل وعلا.(6/273)
¨ ليست منزلة صورة ثانية، صورة مثل السؤال بالذات، لكن السؤال بالذات أعظم وسيلة للشرك من السؤال بالجاه، أو بالعمل أو بحق فلان، الصوفية عندهم كتب في السؤال بالمنظومات في السؤال بالذوات مثل منظومة تسمى جالية الكدر بالسؤال بأهل بدر، منظومة كل بيت نها سؤال بواحد من الصحابة، الصوفية يعظمون السؤال بالموتى كثيرا، السؤال بالذات أعظم وسيلة، السؤال بالحق والجاه أقل منه لكن كلها بدع ووسائل للشرك. هي طريق لتعظيمه بدعة وليست شركا، بدعة واعتداء في الدعاءلأنه لم يأتِ بها دليل ولا وسنة ووسيلة إلى أن يعظم السؤول به فيسأل من دون الله، أول ما حدث كان السؤال بالذوات قبل أن يحصل دعاء غير الله مباشرة كان السؤال بالذوات نسألك بفلان وفلان كثر هذا ثم حصل الشرك بسؤال الميت، نسأل الله العافية، لهذا تجد أن شيخ الإسلام في بعض المواضع يسمي سؤال الميت الشفاعة بدعة والسؤال به بدعة وذلك لأنها لم تكن عند المشركين حتى طوائف مشركي العرب لا تعرف الاستشفاع به مباشرة يعني يقول اشفع لي لكنهم يعبدون ليشفعوا، لكن اشفع لي يا لات اشفع لي يا عزى هذه ما فيه ولكن يعبدون ويتقربون ليشفعوا ?مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى?[الزمر:3] فهم يرومون منها الشفاعةلذلك سماها بدعة في بعض المواضع لأنها بدعة حدثت وليست سابقة وهي بدعة كفرية شركية، مثل الشرك نقول محرم ?قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا?[الأنعام:151] البدعة لا يعني أنها ليست بشرك، تكونشركا أكبر وبدعة هذا باعتبار أنها حدثت في الأمة، فالبدع منها بدع كفرية شركية مخرجة من الملة منها بدع ما دون ذلك، لكن في تعبير أهل العلم العام يعني الذي يجري ومشهور أن يُختص البدعة لما دون الشرك أذا أردت أن تعبر سنعبر عن البدعة بما دون الشرك، فإذا كانت المسألة شركا أكبر ننص عليها نقول شرك أكبر مخرج من الملة أو(6/274)
شرك أصغر أو نحو ذلك.
([99]) ذكر في ما سمعنا عدة مسائل:
· المسألة الأولى منها: أنّ طائفة ممن تحصل لهم الخوارق تعبّدوا بعبادات بدعية منْ مثل الإنقطاع والذهاب إلى المغارات والجبال والبراري والخلوات يتأملون ويتعبدون وينقطعون عن الناس، فتجد أنّ طائفة منهم يأوون إلى الغيران أو إلى الأودية ويلبسون ملابس الحيوانات يعني صوف الحيوانات ونحو ذلك رغبة في التقشف والبعد عن الملذات وأيضا رغبة في التفكر، ولا شك أن هذه الطريقة لتحصيل الإيمان طريقة بدعية مذمومة، فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر بها بعد نزول الوحي عليه، وإنما كان يتعبد ويتحنث في الغار يعني في حراء الليالي ذوات العدد في السنة قبل نزول الوحي عليه، ولما نزل الوحي عليه ونبئ ربما أتى إلى الغار، ثم لما بُعث للناس ترك عليه الصلاة والسلام ذلك تعبدا، فإذن إحداثه بدعة فلم يأمر به عليه الصلاة والسلام بل أمر بمخالطة الناس والصبر على أَذَاهُم قال عليه الصلاة والسلام«الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» فإذن التَّخَلِّي في بمثل هذه الطرق والابتعاد يضم هذا المحذور ويضم محذورا آخر، وهو أن فاعله يسير وحده ويبيت وحده ويأوي إلى هذه الغيران وحده، وهذه أشياء تأتي معها الشياطين كما قال عليه الصلاة والسلام«الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب»، فهؤلاء لما أَوَوْا إلى المغارات وتعبدوا بها العبادات البدعية جاءتهم الشياطين، وذكر أحوالهم وذكر أنواع ما يحصل في الجبال إلى آخره، وهؤلاء تأتيهم أحوال كلامية؛ يعني يسمعون من يكلمهم ومن يحضر لهم الغيلان بكلام رجال وتارة يكون فيه صور رجال لا يعلمونهم، وهذه الأنواع سمتها الصوفية رجال الغيب؛ يعني الرجال الذين لا يُعرفون ويأتون ليخدموا ولينصروا الولي وهم غائبون لا يُعرف من هم، وكما ذكر لك شيخ الإسلام أن الرجل إذا انقطع فإن الشاطين تعينه والذين يعينونه هم رجال(6/275)
الجن فإذا كان رأى رجلا فإنه رأى جنيا والجني قد يتشكل في صورة رجل وقد يسمع صوت رجل، إلى آخره، قالوا الآن تقريبا انقطعت إلا في قلة جدا في العالم، لكن مثل هذه الأحوال والانقطاع للتعبد والنظر والتفكر هذه إنقطعت على هذا النحو.
· المسألة الثانية التي عرض لها: هي أنّ الخوارق التي تحصل، الناس في التصديق بها والتكذيب ثلاثة أقسام كما ذكر:
1. قسم مكذِّب مطلقا.
2. قسم مصدق مطلقا.
3. والصواب أنها لا تصدق ولا تكذب؛ بمعنى نقول ليست هذه كرامة من الله -من جهة التكذيب- والواقع حصلت -من جهة التصديق- لكنها من جهة الشياطين.
والعياذ بالله لما دخل الإستعمار ودخل جنود المشركين الكفار إلى طائفة من بلاد الإسلام في القرون المتأخرة، ورآهم مَن رآهم من الصوفية سماها -سمى تلك العساكر الشركية الكفرية- سماها طائفة من الصوفية رجال الغيب؛ يعني أن هؤلاء الرجال الذين ينصرون الأمة بالغيب ...كرامة وهذا ولا شك بسببه تمكن الكفار من بلاد المسلمين، فأعظم من مكن لهم الصوفية الذين إما تركوا الأمر قالوا توكلنا على الله ولم يفعلوا سببا، أو قالوا هؤلاء رجال الغيب الذين يخدمون المؤمنين، وهذا من جراء الاعتقادات الفاسدة والباطلة.(6/276)
· المسألة الثالثة التي ذكر: هي مسألة السماع-السماع مما تكلم فيه العلماء من قديم- وكان الناس يتعبدون به في أول ما حدث من جهة ما يسمى التغبير كما قال الشافعي في من أحدث التغبير في بغداد، والتغبير سمي تغبيرا لأنهم يأخذون جلودا قديمة يَبِسَتْ عليها تراب والغبار فيبدؤون –يعني لأنهم ... متزهدون كما يزعمون- فيضربون عليها بالعصي فتحدث صوتا كصوت الدف، فيترنّمون به مع الأشعار، فسمي الفعل مع الإنشاد تغبيرا؛ لأنه يظهر معه الغبار، وحقيقة التغبير هي إنشاد الأشعار الزهدية مع استخدام الدفوف، هذه حقيقة التغبير، والأشعار الزهدية أحدثها طائفة من المتزهدة لتنشد في مقابلة الغناء المحرم الذي انتشر في عهد الدولة العباسية، انتشر الغناء المحرم والمعاوف يعني في أنواع من الألحان موجودة في كتب ومعروفة وأصوات، فأحدثوا هذا في مقابلة ذاك، وتدرّج الأمر إلى أن صاروا يتقربون إلى الله بسماع الدف نفسه والطبول والمزمار الذي هو القصب يعني لأنه هو القصب؛ قصب السكر يؤخذ ييبّس ويفرّغ وبعد ذلك ...ثم يكون منه مزمارا، فأصبحوا يتقربون إلى الله بذلك، ينشدون الأشعار الزهدية، ويترنمون بهذه الأصوات يعني بالقصب وبالمزمار والطبل بأشياء محزنة، ومعلوم أن هذه الآلات قد تُستخدم بألحان يكون معها نشوة، وقد تُستخدم بألحان يكون معها حزن ورِقّة، فلهذا هم استخدموها في جانب الحزن والرقة والبكاء، وأثّرت على النفوس وبكى من بكى من سماعها، وأثّرت في القلوب وفي ترقيقها ظنّوا أن هذا مشروع؛ لأنها أحدثت أمرا مشروعا وهو البكاء والخوف من الله جل وعلا، فظنوا أنّ وسيلته مشروعة فلهذا ألفوا فيه من ألف من أهل العلم في السماع وفي ذمه، وأنه مما أحدث في مؤلفات كثيرة معلومة لدى المطلع، آلَ الأمر بعد زمن إلى أنْ يصحب هذا السماع رقص، والرقص ليس على صفة الرقص الذي ترونه الآن من الصوفية، لا. هو أول ما بدء رَقْصُ تمايل من التواجد كما يقولون، والتمايل من(6/277)
جراء أثر هذا السماع، فهو من جهة خوفه ورقته وترنمه وانشغاله بهذا السماع ورقة قلبه، أصبح يتمايل ويتمايل، ثم آل الأمر حتى أصبح التمايل مقصود، إلى أن صار هناك أناس يأدونه، فصار طقوسا وشعائر عندهم مع الزمن، هذه كلها أمور لا شك أنها محدثة، أرادوا منها؛ من السماع؛ سماع الأشعار أو سماع المزامير هذه، أرادوا منها رقة القلوب، وأرادوا منها الإستعاظة عن سماع المعازف والسماع الشيطاني، وآل بهم الأمر إلى أن كان سماعا شيطانيا.
ومعلوم أن السماع الذي يحرك القلوب ويبعث فيها الإيمان ويبعث فيها الخوف والرجاء والمحبة وأنواع العبادات القلبية ويثمر العمل إنما هو سماع القرآن هذا هو السماع المشروع?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?[الحشر:21]، وقال جل وعلا أيضا ?إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا?[مريم:58] من شدة ما سمعوا وتأثُّرهم به، وكما ذكر لك لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام قراءة أبي موسى الأشعري وحدّثه فقال أبو موسى: له لو علمت بك لحبّرته لك تحبيرا. وقال عليه الصلاة والسلام «زينوا القرآن بأصواتكم» القرآن حجة الله الباقية وفي نفسه مؤثر، ولكن مطلوب أن يُزيَّن القرآن بالصوت؛ لأن الصوت من جهته يحصل نوع تأثر فالتأثر يكون بالكلام وبنغمة الصوت؛ رنة الصوت، ولهذا أوتي داوود مزمارا؛ كان داوود إذا ترنم فكأنما يسمعون مزمارا، وهذا التلذذ بسماع القرآن هو السماع الشرعي الذي به تحيا القلوب، وبه يكون الإيمان، وتعظم أنواع العبادات القلبية النفس، الخوف من الله جل وعلا وإجلاله وتعظيمه؛ لأنه يسمع كلام الملك العلام الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، إذن فهذا السماع هو سماع أهل الإيمان.(6/278)
أما سماع المشركين فهو كما كانوا يفعلون عند البيت ?وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً?[الأنفال:35] يعني دعاءهم عند البيت كان مكاء يعني صفيرا؛ لأن المكاء في اللغة هو الصفير، (مَكَّ) يعني صَفَر، والتصدية هي التصفيق، كانوا يتعبدون بذلك برنة يعني يَصْفِرُونَ ويصفِّقون برنة للتأثير على القلب.
الله جل جلاله جعل سماع أهل الإيمان سماع القرآن ?وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[الأعراف:204]، فإذن أنواع السماع التي يظن أنها فيها فوائد من سماع الألحان لما يكون غير القرآن هذا كله من المحدثات، ومن جنسه ما حدث في هذا الزمان من الأناشيد التي يسميها الشباب الأناشيد الإسلامية التي فيها استعمال الدفوف أو تحتوي على معنىً باطل أو تكون جماعية، هذه كلها من المحدثات.
فإذا كان النشيد الذي هو الشعر جماعيا هذا واحد، أو كان معه دف أو كان مشتملا على معنى باطل إما من جهة العقيدة؛ الإستغاثات، مخاطبة الموتى، أو من جهة التحنيث الباطل ونحو ذلك، هذه كلها منكرة وهي شبيه بألحان وسماع الصوفية، ولهذا إنما جاءت الأناشيد من جراء التربية الصوفية لبعض الجماعات الإسلامية.(6/279)
أما نشيد المرء بمفرده فلا بأس، حتى ذكر العلماء أن المرء ليترنم ببيت أو ببيتين من الشعر وترنم بها فهذا لا بأس به، يعني لو كان وحده وكان قليلا، يعني أراد أن يرفع صوته بشيء فهذا لا بأس به، يعني أنه ليس بمنكر لأن النفس قد -كما عللوا- قد تحتاج، بحث هذا السّفاريني في شرح منظومة الآداب، وبما هو معروف في محله. المقصود أن إنشاد المنشد وحده بقصيدة في محل لا بأس به، إذا كان وحده ينشد قصيدة لكن لا يستعاض عنها أو يكون سماعا مقصودا يعني يرقق القلوب بها وتُكرر ويصبح ترقيق القلوب بمثل هذه القصائد التي تتكرر، هذه كلها من جنس سماع الصوفية وقد تفضي إليها, سماع المؤمن هو القرآن، لهذا تجد أن الذين انفتحوا على هذه الأشياء ما يستلذون القرآن، ومن استلذ القرآن وأذن له وسمعه وتلاه أو حفظه هو وقام به فإنه لا يأنس لتلك الأشياء؛ لأن الله جل وعلا قذف بالحق على الباطل?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ?[الأنبياء:18].
¨ ...الرياء هذا بحسب النفس؛ يعني مثلا قد أُحسِّن قراءتي بالقرآن لأجل أنْ يقال قراءته جيدة هذا رياء، وقد أحسِّن قراءتي بالقرآن وأتباكى أو أبكي لأجل أنْ يتأثر السامع هذا مشروع «إقرأوا القرأن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا»، «زينوا القرآن بأصواتكم» النية هي المدار، وأبوموسى الأشعري رضي الله عنه يريد أن تكون قراءته أعظم تأثيرا للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه إذا كان حدث للنبي عليه الصلاة والسلام خشوع وتعظيم وعبادة حين سماعه لأبي موسى فله هو أجره فهو يريد هذا الأجر العظيم الذي حصل بسببه لأفضل الخلق عليه الصلاة والسلام.[انتهى الشريط الثامن]
¨ ...كلامنا في أي القسمين؟ كلامنا فيمن اتخذ السماع عبادة، أما الذي يسمع للهو؛ يسمع المعازف لغير العبادة فهذا ليس الكلام فيه، نحن تكلمنا فيمن سمع للتعبّد، المعازف معروف الكلام عليها والغناء يعني تصحبه معازف وألحان.(6/280)
سكر مثل ما ذكر شيخ الإسلام أن الغناء يحدث سكرا، السكر يحصل بثلاثة أشياء: بالهوى وبالغناء أو بالخمرة، الهوى يعني هوى الرجل للصور للمرأة وبالخمر وبالغناء فإذا اجتمعت الثلاث سكر العياذ بالله من جميع الجهات؛ سكر عقله وسكر بدنه إلى آخره، فإذا لم يكن خمر يكن سكر، الهوى يسكر بمعنى أنه يغطي العقل عن الصواب يعني يكون خمرا للعقل يغطي العقل عن إدراك الصواب، كذلك الغناء من استبانه وألف له –الغناء المحرم؛ المعازف المحرمة والغناء المحرم-فيحدث لصاحبه السكر والعياذ بالله، فهذه أنواع السكر إذا اجتمعت طغى السكر على صاحبه؛ يعني صار في أقبح أنواع السكر والعياذ بالله.
¨ ... مثل ما قال الصوفية وهذا كلام الصوفية، التغبير أو ما حدث لأجل الترقيقأول ما حدثت عندنا يعني في بيتنا؛ أذكر أنه أول أناشيد جاءت يمكن في حدود عام 96هجري أو 97 أذكرها وكانت تباع بالسر والدَّف كان فيه تسجيلات في البطحة في ... بالدَّف يعني الناس... يكفي أنها منكرة هم عارفين أنها منكرة، ثم بعد ذلك أصبحت تمارس في بعض المعاهد في الأندية الصيفية حتى ألفها الناس، أول ما جاءت الأناشيد السورية لا أدري موجودة الآن أو لا؟ كان معا طبل، بَعْدِينْ جاءت أشياء معها طبل لا أدري إيش، وتوسعوا فيه إلى أن صارت أناشيد متنوعة يعني أغاني متنوعة بعضها خليط وبعضها محلي وبعضها كذا، والله المستعان.
قد يُحتاج إليها للصغير –صغير السن دون التكليف- ، قد يُحتاج إليها في شخص إنتقل من الغناء، يعني هذه الحالات تقدر بقدرها، يعني يقدرها العالم أو المفتي أو المربي بقدرها على حدودها، لكن أنها تكون منهج أو أن تكون عادي ما فيها شيء، الأصل فيها أنها منكرة، الإجتماع عليها منكر.(6/281)
مثل ما قلت لك أنا هذا الضابط الذي قلت لك ما فيه مانع، كان العلماء يتعاطون بعض الأشعار التي يقرأها أحدهم في مثل هذا ... مع الترنم بها ، يعني فيه سماع له، ..... ما يكون المقصود سماع تلذذ، سماع تعبد، ما يكون سماع تلذذ ولا تعبد، يكون سماع فائدة لا بأس، سماع الفائدة مطلوب، لكن سماع التلذذ للحن هذا ما يصلح، إذا كان سماع تلذذ للحن لا يصلح ؛ للحن، أما إذا كان فائدة يسمعها للفائدة هذا من جنس ما يُقرأ من الأشياء.
([100])آية مكررة في سورة الرحمن 31 مرة.[المفرغ]
([101])هذا إذا كان، إذا كان صحيحا يعني قد يأمرهم وينهاهم مثل ما حصل لسليمان عليه السلام، كل ملَك يأمر وينهى، إذا كان، فهذا يكون بمنزلة الملوك مش بمنزلة المحتاج ما يخرج عن هذا القسم، هو يأمرهم وينهاهم لأنه كالملك عليهم، أوامر كثيرة يدخل ضمنها الأمر الواجب، كذلك عندك في النسخة الثانية (إذا كان يأمرهم) يعني من كان استعملهم في أمر مباح وهو مع هذا يأمرهم وينهاهم بما يجب عليهم فهو كالملك لأن الملك يسعى في صلاح رعيته وهو يجمع ما بين الاستفادة منهم في الأمور المباحة وأمرهم ونهيهم ما يجب شرعا.
الحال الأولى: حال الكُمَّل.
الحال الثانية: هذه موارد زلل.
¨ .... تعرف أصلا أن استخدام الإنس والطلب منه، تعرف الأصل فيه المنع، هذا يعني رتب هذا على هذا، يعني أن الأصل الترك ، يعني وإن عرض يعني عرض جني وقال أخدمك، إن عرض جني وقال أنا أدلك على الطريق، مثل واحد ضاع في فلاة، وقال أنا أدلك على الطريق، أو أشباه ذلك فإن قال له دلني ، فلا بأس، باعتبار أنه حاضر يقدرويسمع، فإن تركه فهو مثل استخدام الإنس وقال له أنا لست محتاج لك، أنا بَدُلْ الطريق بنفسي ، يعني المقصود في أصل المسألة، موش في الاستعانة، يعني فيه أناس يرفضون حتى الاستفادة من الإنس على الأمور المباحة... خاصة الذين يسعون في الكمالات السلوكية.(6/282)
¨ ...ما فيه شك، هو مثل استعمال الإنس ، استعمالك في أمور مباحة، يعلم الإنسي أنها مباحة، هذا إذا جاءه الجني؛ عرض له -مسلم أو غير مسلم- لا بأس به، إذا كان الأمر مشتبها عليه ما يدري فلا بد أن يكون مسلما مثل استخدام الانس لأنه لا يأمن الجني الكافر ولا يشترط هنا؛ لا أعرف أن أهل العلم قالوا تسأله مسلم أو كافر، لكن إذا جاء من جهة الكيد فيحذر الجني، إذا جاء من جهة قبول الخبر: الجني خبره ضعيف لا يصدق إلا أن يكون على البرهان، مثل بعض الناس يجيءه الذين يقرؤون يجيء الجن ينطق يقول هذا فيه بلاء أو يعلمه بعض الأشياء وزوجته ما أدري أوش سوّت، خبر الجن أصله ضعيف ما يصدق لأن الجن هذا لا تعلم عدالته ولا تعلم صدقه ولا تعلم ديانته، كيف تأخذ خبره وتنقله للإنس؟ يحصل مشاكل يحصل مصائب وقطيعة بسبب نقل خبر الجني إلى الإنس، يقول فيكم بلاء مسويلكم كذا وكذا، أم الزوج فعلت فيك كذا وكذا من جهة الجني، والجني خبره ضعيف ما يصدق فلا يجوز نقله حتى تعلم عدالته، العلم بعدالة الجني متعذرة، ولهذا قال أهل العلم في المصطلح ؛ مصطلح الحديث وحديث الجني ضعيف؛ يعني إذا كان في الإسناد جني فالإسناد ضعيف وفيه روايات كثيرة معروفة في أسانيدها جن لكن هي ضعيفة.(6/283)
([102])هذا الفصل ذكر فيه شيخ الإسلام رحمه الله أحوال الجن من جهة التكليف ومن جهة النبوة ومن جهة إستجابتهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وما أنزل الله جل وعلا فيهم من قرآن يُتلى، ومن جهة علاقة الإنسي بالجني، وسبب هذا الفصل أنّ طائفة من الذين يدعون الوَلاية يقولون نستخدم الجن فيما ينفعنا، وهذا كان كثير في أنه يكون للإنسي ولي من الجن يساعده على أمور، والجن كما ذكر سابقا هم الذين يعينون أصحاب الخوارق؛ بل يعينون من يدّعون الوَلاية من أهل البدع والفجور والشركيات، يعينونهم على الخوارق ويفعلون بهم أشياء حتى يغووا الناس بهم. فالمقصود من هذا الفصل هو أن علاقة الإنس بالجن مبيّنة في الكتاب والسنة وأنها ليست متروكة لإجتهاد الناس فيما يرون أنه ينفع، فالنبي عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس بعامة، وهذه البعثة معناها أنهم يؤمرون وينهون، وأنّ التكليف الذي على الإنس تكليف على الجن، وأن الجن ليسوا بخارجين على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، فإذن ما يكون بدعة في حق الإنسي هو بدعة في حق الجني، وما كان وسيلة إلى الشرك في حق الإنسي يكون وسيلة إلى الشرك في حق الجني، وما كان شركا في حق الإنسي يكون شركا في حق الجني، لهذا كان الساحر الذي يستخدم الجن كان كافرا لأنه استعان بهم في أمور أشرك فيها وأولئك دعوه إلى الشرك فصاروا هم كفارا وصار الساحر أيضا كافرا، كما قال جل وعلا ?وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ?[البقرة:102] ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «حَدّ السّاحِرِ ضَرْبه بالسّيْفِ» أو «ضَرْبة بالسّيْفِ» الصحيح أن هذا حد ردة وليس حد تعزير أو حد قصاص؛ كما هو مبسوط في موضعه. إذن فالجن مخاطبون بمثل ما خوطب الإنس لهذا من الجن مسلمون ومنهم مشركون، من الجن يهود ونصارى وسنة وبدعة إلى آخره، كما أن الإنس فيهم ذلك، إذا تبين هذا فللإنسي مع(6/284)
الجني كما ذكر أحوال:
1. أكمل هذه الأحوال أنه إذا علم الإنسي بالجني فإنه يكون فيه في مقام ورثة الأنبياء؛ أنه يأمره وينهاه؛ يأمره بطاعة الله وينهاه عن معصية الله، كما يحصل لبعض أهل العلم إذا قرأوا على أحد وكلمهم الجني الذي يكون متلبسا بالإنسي فإنه إذا نطق فإنهم يعلمونه التوحيد وينهونه عن الشرك ويأمرونه بالإحسان وينهونه عن التعدي والظلم الذي منه دخول الجني في هذا الإنسي، فيأمرونه بما أمر به الله جل وعلا به ورسوله وينهونه عما نهى الله جل وعلا ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا كان عليه الصلاة والسلام وورثة الأنبياء يفعلون ذلك لا يطلبون منهم ولا يسألونهم بل يأمرونهم وينهونهم ويتلون عليهم القرآن والسنة إقامة للحجة عليهم وتعليما لهم وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر كما يفعل هذا مع الإنسي، سواء بسواء لأنهم مكلفون.(6/285)
2. والحال الثانية أن الإنسي قد يحتاج إلى جني في أمر مباح، وهذا لا حرج أن يستخدم الإنسيُّ الجنيَّ إذا إحتاج إليه في أمر مباح؛ لكن هذا بشرط وهو ألاّ يكون هذا ديدنا له؛ يعني يؤاخي قرينا من الجن أو إذا احتاج علما أو خيرا طلب من جني معين، بل الاستخدام الذي قاله هنا شيخ الإسلام (ومن كان يستخدم الجن في أمور مباحة) يعني إذا عرض له الجتي استعمله في أمر مباح، أما أن يكون الجني مآخيا مستخدما دائما هذه ليست بالحالة الجائزة؛ لأن هذه تفضي إلى محرم والله جل وعلا قال في وصف الإنس والجن ?رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ?[الأنعام:128] ومعنى الاستمتاع يعني الديمومة؛ أن الجني يستمتع دائما بالإنسي والإنسي يستمتع دائما بالجني، كما يستمتع الرجل بصديقه الدائم معه وكما يستمتع الرجل بنسائه وأهله إلى آخره بما يكون ملازما له، إذا عرض له فإنه يخاطبه وقد يطلب منه أشياء ويستخدمه في أمر مباح، وهذا على وجه القلة لا على وجه الديمومة. يعني من عرض له جني فاستفاد منه في أمر مباح فلا يقال هذا خارج عن الشريعة، لكن من كان له جني يقول أنا أستخدم هذا الجني المعين دائما فهذا لاشك أنه محرم؛ لأنه لم يأتِ عليه دليل لا من الكتاب ولا من السنة ولم يكن عليه فعل أهل العلم والسلف بل كانوا يفعلون بالجن كما كان عليه حال النبي عليه الصلاة والسلام وحال أصحابه من بعده.
المقصود من هذا أن قول شيخ الإسلام (ومن كان يستخدم الجن في أمور مباحة فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة) فهو كما استعمل الجن في أمور مباحة؛ فالإنسان يعرض له إنسي فيطلب منه شيء يسأله عن شيء يعرض له يسأله عن شيء لكن لا يتخذه دائما على هذه الحال في سؤال الجني.(6/286)
فإذن سؤال الجني دائما إما أن يقول أسأل قريني أو يقرأ على أحد وإذا تكلم سأله أو يتخذ عنده شخص فيه جني ملابس له وكلما أراد أن يستعلم شيئا قرأ عليه حتى ينطق الجني ثم بعد ذلك يسأله على أشياء، فإن هذا كله من وسائل البدع والمحدثات وفهو محرم ومنكر ويجب النهي عنه، أما الإستخدام الذي يكون في حالة دون حالة يعني تارة يعرض له مرة ونحو ذلك فهذا لا يقدح مثل ما كان يحصل لبعض الأولياء يعني ممن مثل بهم شيخ الإسلام يعني في مقصود كلامه أنه إذا استخدمه مرة ونحو ذلك استعمله في عمل مباح فهذا لا حرج فيه.
3. الحال الثالثة في علاقة الإنسي بالجني: في علاقة الاستمتاع بالمحرم إما بالإخبار بالغيب أو بالإتيان بالأمور المحرمة له من النساء أو المردان أو خمر أو مال مسروق يأتي به الجني ونحو ذلك، هذه كلها حرام وهي حرام وهي بحسب الحال إن كان استخدمه في أمور شركية فهو شرك وإن استخدمه في محرم فهو محرم.
ثم ذكر في آخر قال (إن استعان بهم على المعاصي فهو عاصي إما فاسق وإما مذنب غير فاسق) وذلك أن المعصية قد تكون فسقا وقد لاتكون فسقا فبيست كل معصية فسقا، وكذلك ليس كل عاص فاسقا فالفاسق هو الذي يجاهر بالكبيرة، هذا الذي عليه حد الفسق أما فعل الصغائر ليس بفسق، وكذلك الكبيرة إذا استتر بها فلا يحكم عليه بالفسق لقوله « كلّ أمّتي مُعَافىً إلا المجاهِرين»، فالمعاصي منقسمة إلى كبائر وصغائر، وإلى فسوق وإلى غيره؛ وكذلك فاعل المعصية قد يكون مذنبا وقد يكون فاسقا بحسب نوع الذنب وصفة إرتكابه.
...لا، في مقدور الجن ليس في مقدور الإنس إشترط أن يطلب منهم أشياء في مقدورهم.(6/287)
...هو فتنة إذا حدّث به أو بين لهم أنّ هذا من وَلايته وإلى آخره هذا بحسب الذي يحصل له، حصلت للصحابة أشياء ما افتتن الناس بهم حذيفة رضي الله عنه أتاه أناس في دمشق فسألوه الدعاء يعني طلبوا منه أن يدعوا لهم فدعى، ثم أتوه مرة أخرى فطلبوا منه الدعاء فأنكر عليهم وقال أنبياء نحن؟ ففرق بين الإستمرار والحالة، هذا أصل مهم ففرق بين الإستمرار في الأشياء والحالة لأن الإستمرار يجعل الشيء ملازم يجعل الشيء يعتقد فيهإما اعتقاد في شخص أو إعتقاد في حالة أو صفة إلى آخره العبرة بالحالة العبرة بالفاعل.
([103])هذا تمام هذه الرسالة النافعة الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
وخلاصة هذه الرسالة في مسائل:
· المسألة الأولى: في أنّ وجود ولي الله وولي الشيطان هذا أمر مقرّر في الشرع؛ في الكتاب والسنة:
1. أما وَلاية الله جل وعلا لعبده فهي كما قال ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ?[المائدة:55-56]، وقال? أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ?[يونس:62].
2. وفي وَلاية الشيطان آيات كثيرة ?إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ?[النحل:100]، وقال ?إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:175] والآيات في ذلك كثيرة ساقها الإمام في أول البحث.
· المسألة الثانية: في تعريف وليّ الله وتعريف وليّ الشيطان وأنّ:(6/288)
1. وليّ الله: الوليّ هو كل مؤمن تقي ليس بنبيّ للآية حيث عرّف الأولياء بأنهم ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ?[يونس:63]، المؤمن المتقي هو الوليّ.
2. ووليّ الشيطان: هو الذي يطيع الشيطان ويأمر بأمره ويخالف ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله جل وعلا قال ?أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ?[يس:60] يعني بطاعته في ارتكاب الحرام بأنواعه، في ترك الفرائض بأنواعها، والآيات في هذا كثيرة ذكرنا لكم بعضًا منها.
· المسألة الثالثة-في خلاصة هذا-:
1. أنّ وَلاية المؤمن لله جل وعلا ووَلاية الله جل وعلا لعبده المؤمن متبعِّضة ليست على مرتبة واحدة؛ فكل مؤمن له نصيب من التقوى له نصيب من الوَلاية، فالإيمان والتقوى متبعِّضة فكذلك الوَلاية متبعضة.
2. وكذلك وَلاية الشيطان للعبد والعبد للشيطان متبعضة فكل عاص له نصيبه من وَلاية الشيطان.
فمعتقد أهل السنة أنه يكون في الشخص أشياء موجبةً لوَلاية الشيطان وموجبة لولاية الرحمن جل وعلا، فيجتمع في المعيّن الوَلاية من الجهتين، وهو لما غَلَبَ منها، يعني يكون ولي لله جل وعلا في طاعته ويكون مطيع للشيطان وولي له فيما عصاه به؛ لكن لا يُقال في المؤمن: إنّه ولي للشيطان بإطلاق. بل يقال: مؤمن وليّ لله جل وعلا فيه معصية، فيه طاعة للشيطان ونحو ذلك. لأن الله سبحانه جعل وَلاية الشيطان وسلطانه على الذين لا يؤمنون؛ ?إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ?[الأعراف:27]. إذن المؤمن لا يُقال: هذا ولي للشيطان بإطلاق. لكن بتقييد.
· المسألة الرابعة: أنّ لأولياء الرحمن علامات، ولأولياء الشيطان علامات، وذكرها شيخ الإسلام في الكتاب.
· المسألة الخامسة:(6/289)
1. أنّ أولياء الرحمن لهم كرامات، والكرامة عُرّفت بأنها أمر خارق للعادة يجري على يدي وليّ، وأن حصول الكرامة لا يعني رِفعة من حصلت له على من لم تحصل له، بل قد يكون من لم تحصل له كرامة أرفع ممن حصلت له كرامة. وهذه قرّرها في كتابه.
2. وما يحصل لأولياء الشيطان من خوارق هي خوارق شيطانية من جهة الشيطان يعينهم، وليس الله جل وعلا يكرمهم بذلك؛ ليسوا بأهلٍ للإكرام.
فإذن يجب أن يُنظر في الفرق ما بين وليّ الرحمن ووليّ الشيطان من جهة العمل؛ من جهة طاعته لله ورسوله، وليس ذلك عمادُه الخوارق؛ قد تحصل الخوارق الشيطانية لبعض الناس.
· المسألة السادسة: أنّ المبتدعة من هذه الأمة والمشركين والذين يتعلقون بالقبور ويتعلقون التعلقات البدعية والشركية بالمعظَّمين، هؤلاء تُعينهم الشياطين على أشياء غريبة، بالأنواع التي ذكرها وأصناف أطال فيها من أمور علمية وأمور قُدَرية وأشباه ذلك، أو أنواع هذه الأجناس، هذا كلُّه إذا كان لمن ليس على الإيمان والتقوى؛ يعني أن أهل الشرك والبدع تحصل لهم أمور خوارق، وهذه من جهة إعانة الشياطين لهم بأمور كثيرة من تكليمهم الموتى، ومن حصول أنواع المعلومات والمعارف، وأحيانا يكون شفاء مرضى، وأحيانا يشفى بقراءته، وأحيانا يشفى بلمسه أو بكتابته أو ما أشبه ذلك، كل هذا يكون من الشيطان، الشيطان الذي يَنْخَسُ المرء ويُوجع، ثم إذا أتى هذا المشرك والمبتدع فحصل منه بعض الأشياء رفع يده، مثل ما قال ابن مسعود: إنما ذلك الشيطان ينخسها بيده.
فهذا أيضا فرقان مهمّ في أنّ أهل الشرك والبدع والتعلقات الشركية والقبور والأوثان ليسوا بأهل لكرامة الله جل وعلا؛ بل هم أهل لإهانة المولى جل جلاله، ولكن يحصل لهم خوارق من فعل الشياطين.(6/290)
· المسألة السابعة: أنّ الجن مكلفون مثل تكليف الإنس، وأنهم مخاطبون، وأنّ وليّ الله جل وعلا إذا عرضت له الجن والشياطين بأشياء تخدمه بها أو أحوال يفعلونها به فإنه يجب عليه أن يأمرهم وينهاهم كما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهاهم، وأن يتلو عليهم القرآن، وأن يقيم عليم الحجة.
· المسألة الثامنة: والأخيرة التي ختم بها الكتاب أنّ العبد إذا تبين له الحق والصواب في هذه المسائل، وعرف المقصد، وعرف سبب ونشأة الضلال، فيجب عليه أن يراجع الصواب وأن يتوب إلى الله جل وعلا فإن الحق ديْدن المؤمن، ولا يجوز له أن يعلم الحق ويكابر، ويترك ذلك إلى غيره، كما ذكر أنّ طائفة من الناس عرفوا الحق في ذلك، وأنّ ما يأتيهم من الشياطين، فاستغفروا وأنابوا وتركوا موجبات إعانة الشيطان من البدعة والشرك إلى آخره، إلى موجبات إعانة الرحمن جل جلاله وتوفيقه وهي السنة ومتابعة الهدي ولزوم طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم. وهذا ختام هذه الرسالة.
وأسأل الله جل جلاله أن ينفعنا بما سمعنا، وأن يُقِرَّ العلم في قلوبنا، وأن لا يحجبه عنا ولا عن أحبابنا بذنوبنا ومعاصينا، كما أسأله سبحانه أن يلهمني وإياكم كلمة التقوى، وأن يجعلنا من الدعاة إلى دينه والمعلمين شريعة نبيه عليه الصلاة والسلام للناس أجمعين، إنّه سبحانه جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(6/291)
الرقى و أحكامها
مع تعليق لسماحة الشيخ العلامة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رحمه الله تعالى
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي مَنَّ على عباده أجمعين بقوله ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ(57)قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ?[يونس:57-58].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنَّه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى ترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا هالك.
اللهم صلِّ وسلم على عبد ورسولك محمد كلما ذكره الذاكرون وصلى عليه المصلون. اللهم صل وسلم على عبد ورسولك محمد كلما غفل عن الصلاة عليه الغافلون، وسلم اللهم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فنسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل تقواه، ومن أهل طاعته، ومن الذين منَّ عليهم بالعفو والعافية، كما أسأله سبحانه أن يجعلنا ممن إذا أُعطي شكر وإذا أبتلي شكر وإذا أذنب استغفر، وهذه الثلاث عنوان السعادة للعبد إذا أخذ بها.
كما اسأل المولى جل وعلا أن يبارك لنا جميعا في أعمارنا وأعمالنا وأقوالنا، وأن يجعل موازيننا مُثقلة، ونعوذ به من الجور بعد الكور، ونعوذ به من الضلال بعد الهدى، اللهم آمين.(7/1)
ثم إنه يعلم الجميع إن هذه الندوات والمحاضرات التي تُرَتَّب في هذا الجامع منذ القديم، تُرتب توضع جداولها ويختار المشاركون فيها بعناية ومتابعة سماحة شيخ الجميع العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فسح الله في أجله، وأمده بالعفو والعافية، وجزاه عنا وعن الإسلام خيرا، فهي ثمرة من ثمرات جهده وجهاده، وهي ثمرة من ثمرات عنايته بالمسلمين في إرشادهم وتبيين الحق لهم.
فأسأل الله جل وعلا أن يجزل له المثوبة، وأن يبارك في أعماله وعمره وقوله، وأن يبارك في ذريته، وأن يجعله إماما من أئمة الهدى، كما أسأله سبحانه أن يجعل خير عمره آخره، وخير عمله خواتمه، وأن يجزيه خير ما جزى به عالما عن أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
موضوع هذه المحاضرة:
الرقى وأحكامها
وموضوع الرقى مهم، وأهميته ظاهرة لكل أحد منكم؛ لأن المسلم يحتاج إلى الرقية دائما، يحتاج إليها في تعويذ نفسه وتعويذ أحبابه، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل، يقرأ المعوذتين وينفث في كفه في يده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، ويمسح بها رأسه ووجهه وما استطاع من جسده، وفي تعويذ من يحب لدفع البلاء قبل وقوعه، ولتكون تحصينا وحرزا للمرء من تسلُّط الشياطين على العبد.
ويظهر أيضا أهمية عِلم المسلم بالرقى أنّ الرقى اختلط فيها المشروع بالممنوع، اختلط فيها الرقى الشرعية بالرقى البدعية؛ بل بالرقى الشركية.
وقد كان أهل الجاهلية يتعاطون رقى شركية، وكان يتعلمها الناس ينقلها الخالف عن السالف، فلما جاءت الرسالة المحمدية على نبينا أفضل الصلاة والسلام مُنعت الرقى حتى أُذن بما ليس فيه شرك من ذلك، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فأن تكون على بينة من الرقى الشرعية والرقى الممنوعة، هذا مهم؛ لأنه فرقان ما بين المشروع وما بين الشرك ووسائل الشرك.(7/2)
وكثير من الناس ربما راج عليه صلاح الراقي أو ظاهر صلاح من يتعاطى الأدوية، فيصف له أشياء إما من الأذكار وإما من الأوراد أو نحو ذلك، يصفه له ويكون غاشا له من أنه يرده إلى غير المشروع، ويرشده إلى أمر فيه بدعة أو فيه شرك، والعياذ بالله.
لهذا كان من الواجب عليك ألاَّ تستعمل من الرقى إلا ما علمت أنه مشروع؛ لأن الأصل فيها المنع غلا ما كان جائزا فيها، وهذا له شروط وبيان يأتي إن شاء الله تعالى.
وتظهر أهمية هذا الموضوع أنَّ كثيرا من وسائل الشرك في بلاد الإسلام إنما انتشرت بواسطة المتتطببة والذين يعالجون بالأدوية ويعالجون بالقرآن، ومنهم المشعوذون والذين يتعاطون استعمال الجن وشياطين الجن والعياذ بالله.
وقد ذكر ابن بشر في أول تاريخ نجد أنَّ من أسباب انتشار الشرك في نجد هو نزول المتطببة والمداوين من أهل البادية في القرى وقت الثمار، فيحتاج إليهم الناس إما في رقية وإما في مداواة، فأمروهم بالشرك وأمروهم بغير المشروع، فانتشر بذلك -فيما يستظهر ابن بشر رحمه الله- انتشر بذلك عن طريق الجهلة أولئك أو عن طريق المشعوذة والسحرة، انتشر كثير من الشرك والفساد، ولا غرابة فالنفوس ذواقة لزوال ما بها من سواءٌ أكان بالمشروع أو بغيره، ولا شك أن العلم بحدود ما أنزل الله جل وعلا على رسوله مطلوب في أمور العقيدة وأمور الأحكام.
وهذا الموضوع متصل بالتوحيد والعقيدة، فالعلم به من الذي ينبغي على كل مسلم أن يحرص عليه، وأن يطلب معرفة حكم الله جل وعلا فيه.
الرقى أصلها أدعية وقراءة ونفث يكون فيه استعانة أو استعاذة، هذا أصلها؛ يعني القصد منها أن يكون ثَم دفع للبلاء أو رفع للبلاء باستعاذة أو باستعانة.
ولهذا صارت الرقى على قسمين:
رقى يستعاذ فيها ويستعان بالله جل جلاله وحده، فهذا هو المأذون به والمشروع.
ورقى يستعاذ فيها ويستعان بغير الله جل وعلا، وهذا هو الشرك وهو الممنوع.(7/3)
وكان أهل الجاهلية يتعاطون الرقى بكثرة كما قال جل جلاله ?وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ?[القيامة:27] (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ)؛ يعني حين حضور الموت يَطلب المرء من يرقيه، وقد قال القائل:
وإذا المنيةُ أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفعُ
يعني الأسباب التي كانوا يتعاطونها، فكان أهل الجاهلية يتعاطون الرقى لدفع أو رفع؛ يعني لدفع البلاء، دفع المرض، دفع العين، أو رفعها، إزالتها، مثل الأدوية، إزالتها بعد وقوعها؛ لكن كانت أكثر رقاهم يستعيذون فيها بغير الله جل وعلا -بآلهتهم أو بأصنامهم أو بالجن والعياذ بالله من ذلك كله-، أو يستعينون فيها بغير الله جل جلاله.
ولهذا اثبت في صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «اعْرِضُوا علَيّ رُقَاكُمْ. لاَ بَأْسَ بِالرّقَىَ مَا لَمْ يَكُنْ [فِيهِ] شِرْكٌ» يعني ما لم يوجد شرك فيها، ورواه غيره بلفظ «لاَ بَأْسَ بِالرّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكاً» وهذا بسبب عوف بن مالك للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حين قال له: يا رسول الله أرأيت رقى كنا نرقي بها في الجاهلية فقال «اعْرِضُوا عَلَيّ رُقَاكُمْ لاَ بَأْسَ بِالرّقَى مَا لَمْ يَكُنْ شِرْك» وأفاد هذا الحديث:
أولا أن الأصل في الرقى -عند من لم يعلم- الأصل فيها المنع، وأنْ المرء إذا أراد أنَّ يرقي برقية يعرضها على من يعلم حتى يتأكد من سلامة الرقية من المخالفة، قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «اعْرِضُوا علَيّ رُقَاكُمْ. لاَ بَأْسَ بِالرّقَىَ مَا لَمْ يَكُنْ شِرْكٌ».
ودلَّ على جواز الرقية.(7/4)
والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حثّ على نفع الأخ لأخيه، جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سألوه عن رجل أصيب بلدغة عقرب أو حية، وسألوه عن الرقية قال «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ»، وهذا يدل على تجويز الرقية؛ لكن الرقية التي ليس فيها شرك، ولهذا النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان يرقي نفسه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، ورقى غيره، وأيضا رقاه جبريل عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وأمر بأن يُسترقى لآل جعفر ولغيرهم، ولامرأة جارية جاءت لمنزله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فرأى فإذا بها النظرة يعني في وجهها سفعة صفار فقال «إن بها النظرة استرقوا لها» والنظرة هي عينٌ تكون من الجن في الغالب أو من الإنس، فأمر بها يعني أمر بطلب الرقية، فدل ذلك على أن الاسترقاء والرقية مشروع بفعله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ، وبإقراره كما سيأتي وبأمره عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.(7/5)
وإقرارُه هو الذي جاء في حديث أبي سعيد في الصحيح في قصة لديغ الحي من العرب حيث أصابته لدغة، فكان جمع من الصحابة اجتازوا بهم فلم يقروهم يعني لم يضيفوهم فتركوهم، ثم بعد ذلك مروا بهم فوجدوا منهم سيد القوم لديغا، فقالوا: لهم هل فيكم من راق. يعني هل فيكم من يحسن الرقية، فقالوا: لقد نزلنا بكم فلم تقرونا -أو لم تضيفونا- لا نرقي لكم إلا بِجُعل. فجعلوا بينهم مائة شاة، فجعل يقرأ عليهم الراقي بفاتحة الكتاب على موضع اللدغ، وحتى إذا ختمها نفث بريق؛ يعني تفل، وفي رواية جمع بزاقه فتفل، فلما أعطوهم هذا الجعل العظيم، قالوا: اقسموه بيننا. فقال رجل منهم: لا، حتى نعرض ذلك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لشدة تحرِّيهم أن يفعلوا فعلا ليس عليه إذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما عرضوه على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «وما أدراكم أنها رقية» وقال «اضربوا لي معكم بسهم» فدل ذلك على مشروعية الرقية بفاتحة الكتاب؛ بل مشروعية الرقية بعامة وبفاتحة الكتاب بخاصة، وعلى أن أخذ الجُعل عليها لا بأس به مطلقا.
النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كما ذكرنا رقى ورقي وأمر، فرقى نفسه بالمعوذتين، وكان يرقي نفسه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ببعض الأدعية فلما نزلت المعوذتان أخذهما وترك ما سواهما.
وأيضا أقر الرقية بالفاتحة، وجمع الفاتحة والمعوذتين في الرقية فيه مناسبة، وهو أنَّ الفاتحة هي أم القرآن مشتملة على معاني عظيمة، منها الاستعانة بالله جل وعلا وتوحيد الله جل وعلا في العبادة في قوله ?إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ?[الفاتحة:5]، والمعوذتان فيها التعويذ، والاستعانة والاستعاذة هما ضربا الرقية؛ لأن الراقي إما مستعيذ وإما مستعين أو بالأمرين معا.
وصحَّ عنه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ في الرقية أشياء كثيرة من الأدعية:(7/6)
منها قوله عليه الصلاة والسلام «من حضر مريضا فقال عند رأسه: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات إلا عافاه الله جل وعلا من ذلك البلاء ما لم يحضر أجلُه».
وكان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يُرشد أن الإنسان إذا أصابه ألم في شيء من جسده أنْ يمسح بيده على الذي يؤلمه من جسده سبع مرات، ثم يقول سبع مرار: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر».
ورقى النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بالرقية المشهورة «بسم الله أرقيك من شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك» وهذه رقية جبريل للنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
وصح عنه أيضا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه كان يرقي إذا زار مريضا بقوله «أذهِب ألباس رب الناس واشفي فإنك أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما».
وغير ذلك من الأدعية التي هي في رفع البلاء يعني بعد نزول المرض أو قبله كقوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك».
وكما كان يقرأ سورتي المعوذتين قبل المنام ويمسح بهما جسده.
فدل ذلك، دلت هذه الأحاديث على أنَّ الرقية مشروعة أو جائزة، وعلى أن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أورثنا أدعية معروفة وصورا نقرؤها أرشد عليها الناس عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ. فهذه هي الرقية المشروعة.
فإذن نتحصل من ذلك على أمور:
الأول أن الرقية المشروعة هي دعاء يدعو به المرء يحصن به نفسه، وينفث على بدنه أو في يديه أو على من يرقيه، ينفث أو يتفل كما سيأتي بيان الفرق بينهما إن شاء الله، وعلى أن هذه الرقى التي أرشد إليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي بكتاب الله جل وعلا، أو بالأدعية التي فيها استعانة واستعاذة بالله جل وعلا وحده ورجاء ما عنده في دفع المرض أو في رفعه أو في دفع العين أو في رفعها.(7/7)
ودل أيضا على أن الرقى الشرعية هي التي تكون بهذا المعنى؛ يعني فيها توحيد الله جل وعلا استعانة واستعاذة، وفيها الإقبال على الله جل جلاله دون ما سواه.
ولهذا العلماء قالوا تجوز الرقية بشروط ثلاثة:
الأول: أن تكون بأسماء الله وصفاته جل وعلا؛ يعني أن يستعين فيها بالله جل وعلا متوسلا بأسماء الله جل وعلا وبصفاته.
والثاني: أن تكون باللغة العربية، أو ما يعرف معناه إن كان بغير العربية.
والثالث: أن يعتقد الراقي والمرقى أن هذه الرقية سبب من الأسباب، ونفع الأسباب إنما هو بإذن الله جل وعلا، قد تنفع وقد لا تنفع بإذن الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، فالذي ينفع في الحقيقة والذي يُورث النفع بالسبب وينتج المسبَّب هو الرب جل جلاله، هو الذي بيده ملكوت كل شيء، ?مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ?[فاطر:2]، وقال سبحانه ?وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ?[الأنعام:17]، والأسباب يؤمر العبد بتعاطيها لكن مع تعلق القلب بالله جل وعلا.
قال العلماء هذه الشروط الثلاث في جواز الانتفاع في جواز استعمال الرقية.
ما جاء في الكتاب والسنة أو القرآن بعمومه وما جاء في السنة من الرقى هي منطبقة على هذه الأمور.
فالرقية بالقرآن:
فيها أنها بأسماء الله جل وعلا وبصفاته.
فيها الاستعانة بالله جل وعلا والاستعاذة بالله سبحانه.و
فيها التوكل على الله.
وفيها تفويض الأمر إليه سبحانه وتعالى.
وفيها التقرب إليه بأفضل ما خرج منه سبحانه وهو كلامه القرآن العظيم جل جلال ربنا وتقدست أسماؤه وتعالت صفاته.
وفيها أنها باللسان العربي المفهوم.
وفيها أيضا أنها أعلى ما يُتقرب، وأجمع ما يشمل المعاني، فالعدول عنها إلى غيرها عدول عن الفاضل إلى المفضول، عدول عن العالي إلى ما دونه مما يعرف معناه ويقل من الأدوية التي يختارها الناس.(7/8)
فإن دلت هذه الشروط على أن أفضل ما يرقي به الإنسان أن يرقي بالكتاب وبالسنة، والقرآن جعله الله جل وعلا شفاء كما قال سبحانه ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ?[يونس:57] فهو شفاء لما في الصدور من الأمراض الحسية والمعنوية، وهو شفاء أيضا فيما يقع، وأيضا تعويذ فيما لم يقع، وقال سبحانه ?وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ?[الإسراء:82]، وقال أيضا جل وعلا ?قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ?[فصلت:44]، والاستشفاء بالقرآن يكون في أمور البدن كما يكون في أمور النفس؛ يعني إذا مرض الإنسان في عضو من أعضائه أو أصابه شيء فإن القرآن شفاء للأمراض العضوية كما مر معك في حديث اللديغ؛ هذا رجل لدغته حية أو عقرب فرُقي بالفاتحة بكتاب الله جل وعلا فبرئ، فقام كأن لم يصبه شيء، هذا مرض حسي ولدغة شديدة أزالها القرآن؛ أزالها الله جل وعلا بسبب الرقية بكتابه، كذلك الأمور المعنوية أو الأمور النفسية؛ مثل ضيقة الصدر أو مثل العين التي تؤثر على العقل أو على النفس ونحو ذلك هذا أيضا شفاؤها بالرقية بكتاب الله جل وعلا وبسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بما شرع مما يجوز من استعمال الأدعية المعروفة المعنى.(7/9)
الشرط الثاني الذي ذكرنا هو أن تكون باللغة العربية، أو بما يفهم معناه من غيرها، وإذا كانت باللغة العربية فيجب أن تكون معلومة المعنى، ليست كلمات متقاطعة كلمات لا يعرف معناها، أسماء مجهولة، فلا بد أن تكون بأسماء الله جل وعلا وبصفاته، أو بما أبيح من الأدعية التي فيها التوسل بأسماء الله وبصفاته، وأن لا يكون فيها أسماء مجهولة، وقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن الرقى التي فيها أسماء مجهولة قال: وما يدريك لعلها كفر. يعني لعل في هذه الأسماء المجهولة ما يكون فيه أسماء شياطين أو أسماء ملائكة، ينادي الملائكة ويستغيث بهم أو ينادي الشياطين أو يتقرب بذلك فيكون بذلك كفرا.
لذلك لابد أن تشتمل الرقية المشروعة على أسماء معلومة -أسماء الله جل وعلا وصفاته المعلومة- وتكون باللغة العربية، وإذا كانت بغير اللغة العربية فيجوز بشرط أن تكون معلومة المعنى للراقي، وعدم اشتمالها على شرك بالله جل وعلا أو أسماء مجهولة لا يعلم معناها.
الشرط الثالث أن يعتقد بأنها سبب وهذا مهم؛ لأن من الناس من يظن أن الشفاء من عند الراقي لا بسبب الرقية، يقول هذا الراقي هو الذي عنده القدرة والراقي نافع وطبيب وقد يحسن وقد لا يحسن، والسبب هو الرقية، والنافع الضار هو الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.
فإذن الرقية سبب، والراقي مثل الطبيب يبذل هذا السبب، والتعلق من الرقي التعلق بالله جل وعلا يسأل أن ينفع سبحانه بهذه الرقية وبقراءة القارئ، كان أهل الجاهلية يعتقدون في الرقية بإطلاق كانوا يعتقدون فيها أنها مؤثرة جزما، وكان يعظمون الرقية وتتعلق الرقية بالراقي وبالرقية، ويكون التوكل على الله جل وعلا حين إذْ ضعيفا، وهذا يكون في النفوس سواء في نفوس السابقين يعني في الجاهلية أم في نفوس أيضا بعض أهل الإسلام، يكون هناك تعلق وضعف في التوكل، ويكون هناك رغبة فيما عند الناس.(7/10)
والأكمل أن يكون المرء طالبا يعني في الرقية طالبا العافية من الله جل وعلا إذا لم يرقي نفسه، إلا إذا عرض عليه، فمن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل، ولهذا جاء في حديث حصين بن عبد الرحمن السلمي المعروف الذي قال فيه: كنّا عند سعيد بن جبيرٍ، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي أنقض البارحة؟ ثم قال قلت يعني حصين بن عبد الرحمن من التابعين: أما إني لم أكن في صلاةٍ. ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟ قال: استرقيت. يعني طلبت الرقية، قال: فما حملك على هذا؟ قال: حديث حدثناه يعني عامر بن شراحيل الشعبي. عن بريده بن الحصيب؛ أو عن عمران بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. الحمة اللدغ قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكني سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «عرضت علي الأمم، فإذا النبي ومعه الرجل والرجلان، وإذا النبي وليس معه أحد. ثم رفع إلي سوادٌ عظيمٌ، فقلت: هذه أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي أنظر إلى الأفق فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقالوا: هذه أمتك، ثم قيل أنظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم قال هذه أمتك، قال وفيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ». وقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الصحابة، قال: فخاض الناس في أولئك السبعين ألف. فقال بعض الصحابة: لعلهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يعني الذين تقدموا في الإسلام وكان معهم مزيد اختصاص بالصحبة، وقال بعض: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً ، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلم ما اختلفوا فيه، فقال: «هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون.وعلى ربهم يتوكلون». فقوله هنا (لا يسترقون) يدل على أنَّ الأكمل أن لا يكون من عادة الإنسان أن يطلب الرقية من غيره بل غما أن يرقي نفسه، وإما أن ينتظر حتى يأتيه أحد فيرقيه فيقول له أرقيك فهنا لا يدخل(7/11)
في طلب الرقية، هذا من جهة الكمال؛ يعني السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب هذه صفتهم.
وقد جاء في لفظ عند الإمام مسلم «لاَ يَرْقُونَ. وَلاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ. وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ » فحذف لفظ (لا يكتوون) وزاد (لاَ يَرْقُونَ)، وهذه اللفظة من أهل العلم من حكم عليها بالشذوذ والمخالفة كشيخ الإسلام ابن تيمية، ومنهم من صححها كالحافظ ابن حجر وغيره.
ونفي الرقية هنا (لاَ يَرْقُونَ. وَلاَ يَسْتَرْقُونَ)، نفي أنه يرقي يعني الراقي يخرج من السبعين ألفا، هذا فيه نظر من جهة المعنى، وذلك أن الراقي محسن كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، والإحسان مأمور به في الشرع.
المقصود أن الذي يتعاطى طلب الرقية دون أن يرقي نفسه ويتعاطى ذلك دائما ويتعلق بالراقي هذا ضعف توكله إذا كان هذا من طبعه، ولهذا كان الأكمل أن لا يتعلق قلب المرء بالراقي وبالرقية.
هذا بعض ما يتعلق بالرقية المشروعة؛ لأننا قلنا لكم إن الرقية قسمان: قسم مشروع وقسم ممنوع، رقى شرعية ورقى شركية أو بدعية، فهذا القسم الأول مع بعض الكلام عليه الرقى الشرعية.
مما يتصل بالرقى الشرعية أنَّ الرقية المقصود منها إيصال القرآن إلى المرقي إذا كان عن طريق النفث أو الدعاء له والاستعانة والتوسل بالله جل وعلا بأسمائه وصفاته أن يجيب الدعاء.(7/12)
والرقية إما أن تكون بنفث أو بتفل أو بما هو دون هذين، لهذا إذا اختلف العلماء في مسألة هل تشرع الرقية بنفخ دون نفث؟ على قولين ورُجِّح أن الجميع جائز، فإن كان بنفخ وهو ما لا ليس معه شيء من الريق وإنما هو إخراج هواء فقط فهو جائز، وإن كان بنفث فهذا هو المشروع والذي كان عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يقرأ ويتعوذ وينفث في يديه وينفث على المريض أيضا، وإما أن تكون بما هو أعظم من النفث وهو التفل، والنفث إخراج بعض الريق، قليل من الريق مع الهواء؛ يعني إذا أراد أن ينفث يعني يقرأ الفاتحة وإذا ختم ينفث مع بعض الريق أو يتفل ومعه التفال -معه البصاق- أكثر مما مع النفث.
وهذا النفث أو التفل قد يكون مباشرة على البدن، وقد يكون بواسطة ماء أو بواسطة زيت أو شيء آخر، كل هذا مأذون به، أو بكتابته على الشيء؛ كتابة بعض الآيات على المرض ونحو ذلك، وقد جاء عن الصحابة في هذا أشياء منها أن ابن عباس كان يأمر أن يكتب للمرأة إذا كانت شقت عليه الولادة أو تأخرت ولادتها أن يكتب في إناء ?كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ?[الأحقاف:35] وكذلك الآية الأخرى ?كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا?[النازعات:46]، وتسقى منه المرأة التي تأخرت ولادتها أو شق عليها ذلك ويصب الباقي على صدرها وعلى شيء من بطنها.
ونحو ذلك مما جاء عن بعض الصحابة أنهم كانوا يكتبون على بعض [...] ?فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ?[البقرة:266].
قد قال صالح بن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: اعتللت مرة فقرا لي أبي في ماء ونفث فيه ثم أمرني بشربه وأن أغسل رأسي، وكذلك روى عبد الله بن الإمام أحمد في جواز ذلك.(7/13)
المقصود من هذا أن إيصال الماء إيصال القراءة، إيصال الرقية بالنفخ بالنفس أو بالنفث إلى الماء ثم يسقاه المريض أو يصب عليه أن هذا لا بأس به لفعل السلف له ولم يُنكر؛ ولأن له أصلا في السنة.
لكن كلما كانت الرقية مباشِرَة كلما كانت أفضل ولهذا قال الجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى ورفع درجته في الجنة قال: كلما الوقت كان أنفع يعني يقرأ في الماء كان أقرب بالنفخ أقرب بالنفث أقرب بالرقية كلما كان أنفع، وكلما كانت الوسائط أقل كان أنفع؛ يعني قراءة المرء على نفسه يعني ما فيها واسطة، واسطة واحدة؛ لكن كون المرء يقرأ على الإنسان صار هناك واسطة ثانية، كون أيضا ينفث في ماء ثم الماء يشرب ويغسل به صار هناك واسطة ثالثة، أو كونه يكتب في صحن ويغسل بزعفران أو بنحوه ثم يشرب هنا صار عندنا واسطة ثالثة كلما ضعفت، ولهذا كان الأعلى ما ثبت في السنة وهو القراءة المباشرة من الإنسان على نفسه أو بقراءة أحد عليه ثم القراءة بالماء، ثم القراءة بالكتابة في الورق وحله بالماء هذا مما يسوغ لكن مما لم يكن عليه العمل عمل السلف.
هذه بعض المسائل المتعلقة بالرقية المشروعة.
القسم الثاني من الرقى:
الرقى الشركية والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال في حديث ابن مسعود رضي الله عنه «إن الرقى والتمائم والتولة شرك». والرقى المقصود بها هنا الرقى الشركية التي كان يستعملها أهل الجاهلية أو من شابههم، والرقى الشركية ممنوعة (لاَ بَأْسَ بِالرّقَى مَا لَمْ يَكُنْ شِرْك) ممنوعة وهي شرك بالله جل وعلا، ما صفة الرقى الشركية؟ الرقى الشركية تشمل على أحد أشياء:
الأول: أن يكون فيها استغاثة أو استعانة أو استعاذة بغير الله جل وعلا استعانة بشيطان، بولي، باسم وَلِيّ ينفخ وينفث على أحد ويدعو، ولو كان فيها استعانة بالله لكن معها استعانة أو استعاذة بولي أو بميت أو بشيطان أو بجني فهذا شرك بالله جل وعلا.([1])(7/14)
أو أن تكون الرقى هذه الشركية أن يكون فيها أسماء مجهولة، ما يُعرف معناها، يكتب أسماء لا معنى لها، هذه قد تكون من الشياطين، ولذلك يُمنع منها لأنها وسيلة من وسائل الشرك، ولا يجوز أن تستعمل لأنه قد يكون فيها شرك، وسيلة الشيء في القواعد لها حكمه، فإذا كان هذه قد تكون وسيلة إلى الشرك فتمنع كما يمنع المقصد.
وأيضا الرقى الشركية قد تكون بالعزائم، التي يسميها السحرة والمشعوذين العزائم التي يكتبون فيها آيات ولكن ربما نكَّسوا الآيات، ويضعون في الورقة التي تحل وتشرب، أو ربما تحفظ كتميمة في الجيب مثلا أو تعلق، يضعون فيها مربع فيه أرقام مجهولة وفيه حروف غير معلومة، أو مثلث ويكتب عليه على أنحائه بعض أسماء الله؛ ولكن في داخله أسماء مجهولة ونداءات وأرقام لا يعلم معناها، وهذا كله لا شك أنه من وسائل الشرك أو من الشرك المحقق لأنهم يستغيثون ويستعيذون بالشياطين.
ومن صور أيضا الرقى الشركية أنَّ الرقى الشركية تشتمل على أدعية فيها وسيلة من وسائل الشرك، مثل التوسل بذوات الأولياء أو بحرمتهم أو بجاههم، فهذه تمنع لأن التوسل بالذوات أو بالحرمة أو بالجاه هذا بدعة ووسيلة من وسائل الشرك.
ومما يدخل أيضا في هذا؛ يعني في الرقى الممنوعة الرقى البدعية أو التي بها اعتداء، مثل واحد يؤلف رقية أو ربما يجتهد أحد في الرقية يكون فيها اعتداء مثل رقية ذكرت عن بعض العلماء أنه يقول فيها: رددت عين الحاسد إلى نفسه وإلى أعز الناس لديه أو أحب الناس لديه. العائن اعتدى؛ لكن أحب الناس إليه والده أو والدته أو قريبه أو ولده ما اعتدى، فترد العين إلى من لم يعتدي هذه دعوى فيها إثم, لأن فيها اعتداء في الدعاء، فهي من الدعوات أو الرقى البدعية، وإن كان ذكرها ابن القيم رحمه الله في معرض كلام له في زاد المعاد.
فإذا يظهر بهذا أنَّ الأصل في الرقى المنع إلا ما جاز منها.(7/15)
وهذا يدل على أنه يجب عليك التحري، وأن لا تقبل الرقية من أي أحد، وأن لا تذهب إلى كل من قيل أنه راق؛ لأنه بما لم يكن على هدى وعلم، إذا ظهرت لك رقية أو أُرشدت إلى شيء أو لم تكن من الكتاب والسنة فاعرضها على أحد من أهل العلم يبين لك هل هي جائزة أم لا؟ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ قال« اعْرِضُوا علَيّ رُقَاكُمْ.-الذي لا يعلم يعرض الرقية- لاَ بَأْسَ بِالرّقَىَ مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكا» عنا تعرض الرقية على العالم ليقول لك هل هذه جائزة هل غير جائزة هل هي مشتملة على معنى حق وجائز أم ليس كذلك.
فإذا الواجب على الجميع الأخذ بالمشروع، وترك أو الحذر والتحذير من الرقى الشركية أو البدعية؛ لأنها وبال على...
ولأن الشرك يحدث العمل والعياذ بالله فيأتي يريد النجاة ثم يبوء بخسارة الدنيا والآخرة والعياذ بالله.
الذي يرقي له صفات؛ يعني الراقي يكون:
أولا: مخلصا لله جل وعلا؛ يعني يكون بعمله وأقواله ليس من أهل الشرك، وإنما هو من أهل التوحيد والإخلاص، وأيضا إذا رقى أحد فيخلص الاستعانة والاستعاذة بالله جل وعلا في الانتفاع بهذه الرقية.
الخصلة الثانية: من صفات الراقي أن يكون ذا علم، والمقصود بالعلم هنا العلم المقيد؛ يعني أن يكون ذا علم في أنَّ الرقية مشروعة، تكون الرقية بالقرآن, بما ثبت في السنة, بالأدعية المعروفة, يكون ذا علم؛ يعلم أنّ هذه الرقية مشروعة، عرضها على عالم فقال هذه الرقية لا بأس بها، أما إذا كان ذا جهل ليس من أهل العلم وليس عنده تحري فيما يترك أو فيما يأتي, فإنه فإن هذا من علامات عدم إحسانه للرقية أو عدم السماح له بأن يرقي أو التمكين بأن يرقي.(7/16)
الصفة الثالثة: أن يكون يقصد النفع، هذه صفة مستحبة أن يقصد نفع إخوانه نفع المحتاج، وهذا دل عليه حديث جابر رضي الله عنه بل عنهما رضي الله عنهما قال (مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ) ونفع الإخوان نفع المحتاج نفع المريض إحسان ولو أخذ عليه جعلا لكن النفع إحسان و الإحسان مطلوب بين العباد، وأحب العباد إلى الله أنفعهم إلى عباد الله.
ومن صفات الراقي: أن يكون معلقا المرقي بالله جل وعلا، لا يعلق المرقي لا يعلق المريض بنفسه، ويأتي يعمل على نفسه حالة من العظمة ومن الانتفاع بالرقية، ويحدث بأحاديث أنا شفيت من مرض كذا وأنا قرأت وشفيت من السرطان وأنا قرأت على فلان وشفيت من مرض كذا ويعظم نفسه عند من يقرأ عليه, من صفات الراقي المحمود أن يكون ذا خشوع وخضوع وإخبات لله جل وعلا، وأن لا يتعاظم ويعظم نفسه، وينفع بما أعطاه الله جل وعلا ولا يعظم نفسه, يعلق الناس به؛ بل يعلق الناس بالأذكار المشروعة والأوراد التي ثبتت في السنة ونحو ذلك، ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر, ويفتح لهم أسباب الخير، لهذا صار كثير ممن رأينا, كثير خاصة الجهلة والنساء يتعلقون بالراقي من حيث هو، فلان رقيته كذا وربما ما قرأ كلمة أبدا، أو ربما قرأ شيئا يسيرا ونحو ذلك؛ يعني ما اجتهد وتحرى الصواب وتحرى الآيات التي تنفع ونحو ذلك، وإنما هكذا بالاسم، وهذا غير محمود؛ بل الذي ينبغي أن ينصح الراقي الناس بأن النافع هو الله جل وعلا، وأنا صاحب سبب والرقية أيضا سبب، ويعلمهم الأوراد المحمودة ويعلمهم الخير وينهاهم عن الشر.
وأيضا من صفات الراقي: أن يكون متنزها عن موارد الزلل والفتنة، خاصة في الرقية على النساء؛ لأن الشيطان ربما دخل على الإنسان من جهة الرقية في الخلوة بالمرأة، أو في وضع يده على المرأة، أو نحو ذلك مما يبغي عنه شرعا.(7/17)
فالواجب على الراقي أن يحذر من وسائل الشيطان ومن سبل الفتنة التي ربما أدت به إلى افتتان في الدين والعياذ بالله، وحصل هذا من بعض من تعاطوا الرقية. و نسأل الله للجميع قَبول التوبة والهداية إلى سواء الصراط.
أما المرقي الذي يُرقى عليه؛ المريض، الذي أصابته عين، أولا من صفاته التي ينبغي أن يتحلى بها:
أولا أن يعظم الرجاء والاستعانة والاستعاذة بالله جل وعلا، والله سبحانه وتعالى قال لعباده?وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ?[يونس:107]، وقال جل وعلا في آية الأنعام ?وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17)وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ?[الأنعام:17-18]، قال أيضا سبحانه ?وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ?[الشعراء:80].
فإذن أنت يا من تحتاج إلى من يرقيك: أعظِم الرجاء في الله جل وعلا، كما تذهب إلى الطبيب وتعرف أن الطبيب سبب و النافع هو الله جل وعلا، فكذلك الراقي سبب والنافع هو الله جل جلاله.
أيضا أيها المرقي يا من يحتاج إلى الرقية إياك والوسواس، فإن مجال فإن مجال العين والحسد مجال للوسواس, الإنسان ينظر -الرجل أو المرأة- فينظر ويقول أنا أصابني كذا يقول فلان كذا، أصابني كذا بالحسد, أصابني بكذا، يأتي إلى أوهام كثيرة ويعظم عنده الأمر، ويورثه هذا مرضا على مرضه، والواجب على العبد أن يعظم التوكل على الله جل وعلا وأن يأخذ الأسباب؛ ولكن لا يجعل للشيطان من قلبه نصيبا في أنه يوسوس له ويضعفه؛ لأنه إذا ضعف تسلَّط عليه الشيطان أكثر.(7/18)
ومن صفات المرقي أن يتعلم الأوراد هو بنفسه، ليس دائما يحتاج إلى الناس هو يرقي بنفسه، يرقي نفسه بفاتحة الكتاب، بسورة الإخلاص والمعوذات، وبآية الكرسي قبل أن ينام, بالأوراد طرفي النهار وبعد الصلوات المكتوبة، ونحو ذلك، فتحصنه؛ لأن هذه الأدعية والرقى تنفع دفعا وتنفع رفعا؛ يعني تنفع بدفع السوء تكون مثل اللباس مثل الحديد الذي يحصنك من الضرر الذي يأتي بك, فهي مثل الألبسة التي تقي لأنها سبب نافع، والله جل وعلا هو النافع الضار سبحانه وتعالى.
هناك مخالفات نختم بها الكلام يقع فيها الذين يرقون وأيضا الذين يسترقون.
أما مخالفات الرَّاقين:
أولها وأعظمها أن يتخذ القراءة والرقية حرفة يتفرَّغ لها تفرغا كاملا، والمعلوم أن الناس بحاجة إلى الرقية، والتفرغ لها لم يكن من هدي الصحابة في عهده عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ مع أن فيهم راقين، ولم يكن من هدي الصحابة ولا التابعين، وإنما نشأ في أعصر متأخرة، فالذي عليه هدي السلف الصالح والذي دلت عليه السنة أن ينفع المرء إخوانه بجُعل أو بغير جعل في الرقية؛ ولكن لا يتفرغ لها لا يتخذ الرقية حرفة يكون كالطبيب المتفرغ لها، وهذا من جهة أنه لم يرد أو لم يكن في الزمن الأول في قيام الحاجة إليه.
أيضا من جهة أخرى فيما رأينا من الذين تفرغوا أورثتهم أشياء ممنوعة كثيرة، فمن تفرغ للرقية تجد عنده أشياء من المخالفات؛ لأنه يحتاج إلى أشياء يفعلها وإلى أشياء يتركها، وفعلوا أشياء من بيع من غير برهان، ومن فعل بالرقية عن طريق الأشرطة وعن طريق الأصوات يكون هو يقرأ في غرفة والسماعات في غرفة أخرى على الراقين، ونحو ذلك مما فيه مخالفة للوارد، وهذا ينبغي أن يمنع سدا للذريعة؛ لأنه ربما أقضى إلى أشياء مذمومة من توسع هؤلاء القراء في أشياء لا تجوز أو لم يأذن بها الشرع.(7/19)
أيضا من المخالفات التي هي منتشرة عند القراء، وهي أيضا أشد من الأولى، هي استخدام بعضهم لقرينه من الجن، وهذه شبهة شبَّه بها بعض القراء، وحتى سرت في بعض منهم، وهو أنه يقول: أستعين بمسلم الجن أو بقريني, أستعين بمسلم الجن إذا حضروا أو بقريني في معرفة ما بالمرقي, معرفة ما به: هل به عين؟ هل به سحر؟ هل فيه كذا وكذا؟
والاستعانة بالجن الأصل فيها المنع، أجاز بعض العلماء أنَّه إذا عرض الجني أحيانا -يعني نادرا- عرض للمسلم لإبداء إيمانه له فإنه له أن يفعل ذلك؛ لكن ليس هذا من هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا صحابته؛ بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له من الجن حالان:
الأول: أن يأمرهم وينهاهم؛ يأمرهم بالتوحيد وينهاهم عن ضده؛ لأنهم مكلفون، فهم مثل غيرهم في الأمر والنهي.
والحال الثانية: مع الجن شياطين الجن هي أن يستعيذ بالله جل وعلا من شرهم، وأن يسترق بالرقى المحمودة المشروعة لدفع شرورهم.
أما الاستعانة بالجن حتى ولو كان حاضرا فلم يكن عليه هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا صحابته، ومن أجاره من العلماء فإنما هو إذا عرض في حال معينة، وهذا لا ينبغي أن يكون في حال الرقية.
فإذن الواجب هو ترك الاستعانة بالجن؛ لأن هذه وسيلة من وسائل الشر والشرك بالله جل وعلا.(7/20)
ثم أيضا فيمن استعان بمسلم الجن هذا أوْرثهم أنهم جعلوا هناك مصائب وفرقة وشحناء في النفوس من جراء إخبارهم بما أخبر به من زعموا أنه من مسلمي الجن، يخبرهم أنه هذا فيه عين وهذه العين من زوجته الثانية, من بنت، أو سحر أو شيء هو من كذا، فيحدِّث بما أخبره به هذا الجني، والجني قَبول خبره بما يُخبر به متوقف على أنه عدل وأنه ثقة، وعدالة الجن لا تعلم حتى ولو كان قرين الإنسان أو كان حاضرا معه، لا تعلم عدالة الجني هل هو عدل أم غير عدل ولهذا ذكر علماء الحديث في كتب المصطلح على أن كتب المصطلح أن رواية الجني مسلم الجن روايتهم ضعيفة؛ لأن الرواية في صحتها موقوفة على معرفة العدالة معرفة الثقة وهنا لا سبيل إلى الوصول إليه، فكيف يخبر بخبر الجني هذا الذي يزعم أنه مسلم؛ يخبر بأنه أخبره الجني بأن هذا فيه سحر من فلانة, هذه المرأة فيها سحر من زوجة زوجها الثانية -من ضرتها- أو من امرأة أبيها أو من عمتها، فيخبر بذلك فتقع شحناء وقطيعة إلى آخره, بل قد يقول البلاء من زوجك, زوجك فعل كذا وكذا، وهذا لا يجوز اعتماده، ولا يجوز الاستعانة بالجن في ذلك سدا لذريعة الشرك بالله وللفرقة التي قد تحصل في المؤمنين.
أيضا من المخالفات في الراقين: أنهم تساهلوا في المشروع في الرقية، ولكثرة الناس وقِلَّة الوقت أصبحوا يرقون بأنواع من الرقية في وسيلتها هي مخالفة للوسيلة المشروعة؛ مثلا بعضهم يصنع أختاما؛ ختم فيه الآية يختم بها على زعفران ثم يضع فيه الأوراق، وأنا رأيت من ذلك ختم كبير يختم به على الورقة، والختم لا بد فيه من ضرب على الورقة، وهذه آية من القرآن وهذا امتهان للقرآن؛ لأنه يأتي يختم فيه آية القرآن محرَّم ثم يضربه على الورقة ضربا، هذا مخالفة؛ لأنه امتهان للقرآن وامتهان القرآن محرم.(7/21)
من ذلك مثلا أنه يأتي بما يسميه: قراءة عادية، وقراءة مركزة، ويقولون أيضا قراءة ملكية، كيف؟ يقول هذا قرأت فيه كذا وإلى آخره، وهذا كله وسيلة من وسائل أكل أموال الناس بالباطل، وخلاف الأصل, الأصل أن يُقرأ بالمشروع دون تفريق، لا تقول هذه قراءة عادية بخمسين ريال، وقراءة ممتازة بمائتين، وقراءة ملكية بألف، هذا مما لا يسوغ؛ لأنه أولا يُفضي إلى أشياء منكرة، ثم هو أيضا مما هو مخالف لما جاء في نصوص السنة؛ يعني في أصل الرقية, هذا مما ينبغي الحذر منه ومخالفته، وأن يكون المرء الراقي يكون مخلصا صادقا معتمدا على المشروع، تاركا لغير المشروع، حذرا من مزلة الشيطان له.
هذه بعض المخالفات التي يقع فيها بعض الذين يرقون.
من جهة أخرى هناك المخالفات العظيمة الشركية التي يقع فيها السَّحرة والمشعوذون والمتطببة بالباطل, فيأتون بالرقى كما ذكرنا لكم الشركية، يُعطون أوراق فيها أسماء شياطين أو فيها أسماء غير معروفة أو نحو ذلك، فهذا الحذر الحذر منه؛ لأنه شرك بالله جل وعلا، وقد يكون معه والعياذ بالله وصية بذبحٍ لغير الله جل جلاله مما يخرج المرء من دين الله؛ لأنه شرك أكبر وعبادة يجب أن تكون لله جل جلاله، أو يأمره بأن يفعل أشياء من الشرك والعياذ بالله، أو من الكفر كإهانة المصحف ونحو ذلك مما هو كفر بالله جل جلاله.(7/22)
لهذا يجب على الجميع التعاون على البر والتقوى والتعاون على إنكار المنكر، مَن علم أنه يتخذ في قراءته أو في رقيته أساليب غير شرعية من الشرك والشعوذة والدَّجل فإنه يجب الإبلاغ عنه، ولا تبرأ ذمتك حتى تبلغ عنه؛ لأن هؤلاء يفسدون في الأرض، والله جل وعلا أمر بإصلاح الأرض ونهى عن إفسادها، وواجب التعاون إذا علمت أو رأيت فيجب عليك أن تحذر من أن تسكت، ويجب عليك أن تبلغ، تبلغ من؟ تبلغ جهات الاختصاص، الهيئة، أو تبلغ الإمارة، أو تبلغ القاضي في البلد، أو المحكمة أو نحو ذلك مما تبرأ به ذمتك، أو تبلغ بعض أهل العلم الذين تعرفهم مما تبرأ, لا يجوز السكوت.
هذه كلمات تبصِّرُك عن قرب وبدون تعمق في موضوع هذه المحاضرة وهو الرقى وأحكامها.
ولا بد للجميع بالعناية بهذا الموضوع، وأن يتفقهوا في الدين؛ لأن من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
وأن ينتبهوا للنساء في البيوت وللجهلة من أن يذهبوا إلى قرَّاء أو إلى من يرقي بدون أن تعلم شخصه وعدالته وثقته وأمانته وحسن استعماله للرقية.
الواجب على الجميع أن يتعلم، وأن يحذر من وسائل الشرك، وأن يحرص على السنة، وما جاء فيها من إرشاد وبيان، فالخير كل الخير في إتباع سنة محمد عليه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ؛ لأنه لا خير إلا دلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه, فدلنا على الرقية المشروعة، وذلك بالقرآن أو بما أرشد إليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ من الأدعية المعروفة، وكذلك نهانا عن الشر من الرقى الشركية وما شابهها مما هو وسيلة إليها, وأمرنا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بكل خير وحضنا عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
أسأل المولى جل وعلا أن يجعل ما سمعنا نافعا، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.(7/23)
كما أسأله سبحانه أن يثبتنا على الإخلاص له وعلى توحيده وتحقيق توحيده, وأن يجعلنا من الذين رضي عنهم, رضي قولهم ورضي عملهم فأرضاهم إنه سبحانه جواد كريم.
كما أسأل المولى جلت قدرته أن يصلح ولاة أمورنا وأن يهديهم إلى الرشاد، وأن يوفقهم إلى كل سبيل خير فيه نصرة للإسلام والمسلمين وفيه نفع للبلاد والعباد.
كما أسأله جل جلاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، ونعوذ به من الحور بعد الكور، ومن الظلال بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الإيمان ?رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ?[آل عمران:8].
اللهم أنزل علينا جميعا عفوك ورحمتك ومغفرتك وعافيتك على قلوبنا وأبداننا, وأصح اللهم من اللسان والبنان والقلب والجوارح، وقوِّي عقيدتنا وإيماننا وتوحيدنا إنك جواد كريم.
أنت أكرم من سئل وأنت بالإجابة جدير ونحن محتاجون فقراء إليك ربنا.
اللهم فأجب ما سألنا واغفر لنا جما.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.
تعليق سماحة شيخ الجميع العلامة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
قد سمعنا جميعا هذه المحاضرة القيمة التي تفضَّل بها صاحب الفضيلة الشيخ: صالح بن عبد العزيز بن إبراهيم آل الشيخ جزاه الله خيرا وضاعف مثوبته.
وهي محاضرة قيمة في موضوع جدير بالعناية.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يضاعف له المثوبة، وأن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنح الجميع الفقه في الدين.(7/24)
ووصيتي للجميع العمل بما سمعتم من التوجيهات والفائدة من جهة الرقية، كثير من الراقين ليس عندهم البصيرة في الرقية، وكثير منهم يحدث منهم ما لا ينبغي، وينبغي للمؤمن أن يتوخى إذا أراد الرقية يتوخى المعروفين بالخير والمعروفين بالاستقامة المعروفين بالعلم، حتى لا يقع فيما يخالف الشرع.
وقد سمعتم ما جاء في الحديث يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ بَأْسَ بِالرّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكاً»، ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا رقية إلا من عين أو حمة»، والعين عين العائن، والحمة سم ذوات السموم؛ يعني أنها أولى من غيرها، وإلا فالرقية لكل شيء من الأمراض أو ما يعرض للإنسان من البلاء.
وقد رقى الصحابة رضي الله عنهم لديغا فعافاه الله، رقاه بعضهم بالفاتحة فعافاه الله، وقال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخبروه «أصبتم» صوبهم ولم يعنف عليهم، وأخذوا جعلا من أصحاب المريض، ورقاه بالفاتحة.
فالمقصود أن الرقية أمرها لا بأس به، وهي رقية شرعية كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ بَأْسَ بِالرّقَى مَا لَمْ تَكُنْ شِرْكاً» وكان يرقي، قد رقى ورقي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ. وكان الصحابة يرقون.
والرقية تكون بالقرآن، وتكون بما جاء في الأحاديث، وتكون بالأدعية الطيبة المباحة، المؤمن يتحرى لرقيته، ما جاءت به النصوص، ويتحرى ما يتعلم من الأدعية الطيبة يدعو بها للمرقي، ويتحرى الإخلاص في ذلك، ويعلم أن الله سبحانه هو الذي بيده الشفاء والعافية، وإنما الرقية سبب من الأسباب.(7/25)
فعلى الراقي والمرقي الثقة بالله والتعلق بالله، والإيمان بأنه سبحانه هو بيده الضر والنفع والعطاء والمنع والشفاء والعافية، وتكون القلوب معلقة به سبحانه، ومطمئنة إليه يعلم الراقي والمرقي أن الشفاء بيد الله، فيعلق رجاءه بالله، ويسأل الله أن ينفع بالأسباب سواء الأسباب رقية أو كي أو علاج بأدوية أخرى، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «عِبَادَ الله َتَدَاوَوْا وَلاَ تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»، فالتداوي والعلاج لا بأس به بالرقية وغيرها؛ لكن مع الثقة بالله والاعتماد على الله وألا يرقي إلا بما شرع الله وبما أباح الله، وأن لا يداوي غيره ولا تداوي إلا بما أباح الله، وأن يكون قلبه معلقا بالله وواثقا بأنه سبحانه هو الذي بيده الشفاء، وإنما هي أسباب، والشفاء بيد الله جل وعلا، والرقية كما سمعتم لها شروط ثلاثة:
الأول: أن تكون الرقية بالقرآن أو بما جاء في الأحاديث أو بالأدعية المباحة و الأشياء الواضحة المباحة، أما بأسماء مجهولة أو الأشياء المجهولة أو [بالشِّرج] أو بالتعلق على غير الله أو بالتوسل بالجن، كل هذا ممنوع، لابد من هذا الأمر، تكون الرقية بأشياء واضحة من الآيات أو من الأحاديث أو أشياء واضحة مباحة لا بأس بها.
والثانية: لا تجوز الرقية بما يخالف الشرع أو بالأسماء المجهولة.
الثالثة: أن نعتقد أنها سبب وأن الشفاء بيد الله هو الذي يشفي جل وعلا، وإنما هي أسباب.(7/26)
ومما ينبغي التنبيه عليه كما نبه عليه فضيلة الشيخ صالح: الحذر من سؤال الجن، والاعتماد على أقوالهم، يقول: هذا سحرته أخته أو أخت زوجته أو أمه أو فلانة أو فلان. كل هذا باطل، كل هذا كذب ولا يجوز الاعتماد على ذلك، ولا يجوز للراقي سؤالهم ولا الاعتماد على قولهم؛ لأن فيهم الكذاب وفيهم المجهول وفيهم الفاسق وفيهم الكافر، فلا يجوز الاعتماد عليهم ولا سؤالهم، وإنما يرقيه، وإذا كان به جن تكلم مع الجني وعظه وذكَّره وحذره من البقاء في الإنسي، وأنَّ هذا ظلم وأنه لا يجوز له والواجب عليه الخروج وأن يتق الله وإن كان مسلما أن يراقب الله ويحذر مغبة الظلم.
وأما أن يصدقه بأنه دخلت بسبب فلان وأن فلانة فعلت وفلانة فعلت أختك أو أمك أو زوجة أخيك أو جارك أو فلان، كل هذا يجب الحذر منه، وأن لا يصدق هؤلاء الكذابون من الجن.
ولكن الراقي يعضهم ويذكرهم ويأمرهم بالخروج وأنه وقع في الظلم، إذا كان مسلم يتقي الله ولا يظلم أخاه، وإن كان غير مسلم كذلك يجب الحذر من الظلم ولأن عاقبته وخيمة، فيذكره ويحذره من البقاء في المسلم، وأن هذا ظلم يجب الحذر منه.
وبكل حال الواجب على الراقون أن يتقوا الله وأن يراقبوا الله، وأن يرقوا بالآيات القرآنية والأدعية النبوية والأدعية المباحة، وأن يحذروا مما حرم الله من الأسباب المحرمة، وأن يحذروا الكذب، وتصديق الجن أو سؤالهم أو الاعتماد عليهم.
كل ذلك يجب الحذر منه، وأن يكون الراقي يعتمد على الله ويعلم أنه مسبب الأسباب وأن بيده الضر والنفع وأنه القادر على كل شيء جل وعلا.(7/27)
ولهذا بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» يعني الرقى المجهولة أو الرقى بغير شرع الله وبغير ما أباح الله، أو الرقى التي فيها التوسل بالشياطين والجن ونحو ذلك، إنما الرقى هي التي تكون بالقرآن العظيم والأدعية النبوية والأدعية المباحة، و(التِّولة) الصرف والعطف والسحر، و(التمائم) ما يعلق على الناس ما يعلق على الأولاد وغير الأولاد من الحروز كلها منكرة يجب الحذر منها.
أما حديث فيه السبعين لا يسترقون ولا يكتوون، فهذا من باب الفضل، عدم الاسترقاء أمر أفضلي، وعدم الكي أفضل، وإلا لا بأس أن يسترقي ولا بأس أن يكتوي، النبي كوى وكوي واسترقى، أمر عائشة أن تسترقي، وأمر أم [...] أن تسترقي؛ بل ترك الاسترقاء من باب الفضيلة من باب ترك سؤال الناس، وإذا استرقى للحاجة أو كوى للحاجة فلا بأس.
ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «الشفاء في ثلاثة: كية نار أو شرطة محجم أو شربة عسل وما أحب أن أكتوي» وفي لفظ آخر «وأنهى أمتي عن الكي»، فالكي آخر الطب، عند الحاجة إليه لا بأس به.
وأما رواية (لا يرقون) فهي رواية شاذة غير صحيحة، وإنما المحفوظ (لا يسترقون) أما كونه يرقي هذا من مشروعية نفعه لأخيه، كما في الحديث «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ» كونه ينفع أخاه ويرقيه هذا أمر مشروع ومأجور؛ لكن مع تحري الرقية الشرعية والحذر مما حرمه الله من الرقية في الجاهلية.
نسأل الله أن يوفق الجميع للعلم النافع والعمل الصالح.
ونسأل الله أن يمنحنا وإياكم الفقه في الدين.
ونسأل الله أن يضاعف الأجر لفضيلة الشيخ صالح عما بذل وعما وضح وبين.
ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى أصحابه وأتباعه بإحسان.
?????
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري.
---
([1])انتهى الوجه الأول.(7/28)
بعض خصائص
الفرقة الناجية؛ الطائفة المنصورة
[شريط مفرّغ]
الحمد لله الذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله, وكفى بالله شهيدا, أحمده سبحانه حمد عبد معترف بما له جل وعلا من الآلاء والنعم...، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم جميعا ممن أصلح قوله وعمله, وجعل حياته زيادة في كل خير ونعوذ به جل وعلا من الخذلان، كما نسأله أن يُلزمنا كلمة التقوى وطريقة السلف الصالح التي هي أولى.
ثم إني في مقدمة هذه المحاضرة أشكر الأخ الشيخ عبد المحسن العجيمي إمام هذا المسجد تنظيم هذه المحاضرات التي نحرص عليها؛ لأن لها فوائد كثيرة؛ ولأن بها نشر العلم النافع، ونشر العلم النافع به صلاح القلوب وصلاح العباد؛ فهو شجرة زكية تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.(8/1)
وموضوع هذه المحاضرة هو بعض خصائص الفرقة الناجية والطائفة المنصورة, وهذه المحاضرات كما سمعتم تُنظَّم في عقيدة أهل السنة والجماعة وفي صفاتهم، وتنظيمها في هذا الموضوع مهم؛ لأن الحاجة في كل زمن إلى بيان ما عليه أهل السنة والجماعة الذين وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة من النار، هو درس لكل مسلم بأن يحتذي حذوهم، وأن يلازم طريقتهم، وأن يستمسك بعرى الدين الذي هم عليه، فقد جاء على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الْيَهُود افْتَرَقَتِ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وإنّ النّصَارَى افْتَرَقَتِ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وإنّ هذه الأمة ستفترق علَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلّهَا فِي النّارِ إِلاّ وَاحِدَةً » قالوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ الله؟ قال «وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» وفي رواية أخرى قال «هِيَ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْم وَأَصْحَابِي». وهذا الحديث يدل على أنّ الطائفة الموعودة بمغفرة الله جل وعلا وبالنجاة من عذابه في النار، أنها هي الملازمة للجماعة، وهي الملازمة لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولهذا تنوّعت أسماء هذه الفئة إلى عدة أسماء عند أهل العلم:
? فتارة يسمونهم أهل السنة والجماعة، باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم نصّ على أنها الجماعة وأنها على مثل ما هو عليه عليه الصلاة والسلام؛ يعني على السنة فصاروا أهل السنة والجماعة.
? ومنهم من يصفهم بأنهم الفرقة الناجية، وهذا وصف جاء متأخرا ولم يكن معروفا في الزمن القريب منه عليه الصلاة والسلام، وأُخذ من أنها نجاة من النار ما بين الثلاث وسبعين فرقة، فوصفت بأنها الفرقة الناجية وسميت الفرقة الناجية.(8/2)
? ومنهم من يقول الطائفة المنصورة، وهذا باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي عَلَى الْحَقّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ ولا من خالفهم حَتّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله تعالى»، وفي لفظ آخر «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ »، وفي لفظ ثالث «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي عَلَى الْحَقّ منصورة لاَ يَضُرّهُمْ مَن خالفهم ولا مَن خَذَلَهُمْ حتى تقوم الساعة» وهذا يدل على أنّ هذه الطائفة على الحق، والحق هو الذي عليه الفرقة الناجية، والحق هو الذي عليه تلك الفرقة التي تميزت من بين ثلاث وسبعين فرقة برضا النبي صلى الله عليه وسلم وبوعده لها بأنها تنجو من النار، ووصفها هنا بأنها منصورة لأنه نظر إلى أنّ الله جل وعلا وعد من استمسك بكتابه وبسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وبالهدى الأول بأنه سيستنصر، كما قال جل وعلا ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ(51)يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ?[غافر:51-52] والعياذ بالله، وكما جاء في قوله تعالى في آخر سورة الصافات ?وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ?[الصافات:171-173]، وكما جاء في قوله تعالى أيضا ?وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ?[الروم:47] ونحو ذلك مما فيه لفظ النصر والنصرة من الله جل وعلا.
لهذا هذه أسماء لشيء واحد ولمسمى واحد ولطائفة واحدة، فيقال أهل السنة والجماعة، الطائفة المنصورة، الفرقة الناجية، وهذه أسماء متقاربة متحدة الدلالة، وفي المعنى بعضها يدل على الآخر كما ذكرت لك.(8/3)
إذا تبين لك ذلك فإن هذه الفئة والطائفة لا شك أنها وُصفت بأنها على الجماعة، وأنها ملازمة لطريق النبي صلى الله عليه وسلم ولطريق صحابته، وأنها على الحق، وهذا يدل على أنها لم تبدل في دينها عما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وهذا هو الأصل العظيم في معرفة الصلة الكبرى التي تندرج تحتها جميع السمات والصفات والخصائص في أنهم يلازمون طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وسنته وهدي الصحابة وطريقة الصحابة.
ومعلوم أن الإسلام ينقسم: إلى عقيدة، وإلى شريعة. كما قسمه طائفة من العلماء، وإن كان شريعة يُعنى بها العقيدة في بعض الاستعمالات.
والعقيدة يراد بها ما ليس في أمور الفروع وأمور العبادات والمعاملات إلى آخره؛ يعني العقيدة في الأمور الغيبية؛ الإيمان بالله وملائكته وما يعتقد ولا يدخله العمل من جهة لفظه.
وأما الشريعة ففيها أنواع العبادات والمعاملات والسلوك إلى آخره.
ولا شك أن الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسائل؛ في العقيدة والشريعة، هناك إجماع منهم على مسائل في الشريعة والعقيدة، وهناك مسائل اختلفوا فيها فعذر بعضهم بعضا فيها وهي في مسائل الأحكام؛ في بعض مسائل الأحكام الفقهية مما لم يجمعوا عليه، اختلفوا في بعض المسائل الفقهية ولم يعب بعضهم على بعض فيها؛ لأن في الدليل ما يدل على كل قول من الأقوال، فعذر بعضهم بعضا فيها، والمجتهد له أجران إن أصاب وله أجر واحد إن أخطأ، وأما مسائل العقيدة فإنهم لم يختلفوا فيها، وكذلك طائفة من مسائل الشريعة أجمعوا عليها سواء في مسائل ما يجب أو فيما يحرم، فأجمعوا في الواجبات على شيء، وأجمعوا في المحرمات على شيء، ?وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115].(8/4)
لهذا وجب على كل مسلم يريد سلامته ونجاته، وعلى طلاب العلم بالخصوص الذين ائتمنهم الله جل وعلا لأجل حرصهم على العلم على أن يأخذوا العلم من مصدره، وعلى أن لا يفرقوا دين الله جل وعلا، وجب عليهم بأن يهتموا بأمور العقيدة وأمور الجماعة أعظم اهتمام؛ لأنها السِّمة العظيمة لهذه الفئة والفرقة الناجية الطائفة المنصورة.
إذا نظرت إلى هذه السِّمات والخصائص التي ستأتي فإنك ستجد أنها منقسمة إلى عدة أقسام:
? منها ما هو متصل بالأصل الأصيل الذي هو منهج التلقي ومعرفة الأدلة التي يُستدل بها...... فيما يرومه من مسائل.
? والقسم الثاني: فيما يتصل بقواعدهم في العقيدة التي بها تميزوا عن فرقة الضلال من الخوارج والمرجئة والمعتزلة وأشباه هذه الفرق التي خالفت طريقة الصحابة رضوان الله عليهم.
? والقسم الثالث: ما يتعلق بمنهج التعامل مع أصناف الخلق، ومسائل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعامل مع -كما ذكرت- أصناف المسلمين من طائعين ومبتدعة وعصاة إلى غير ذلك.
أما:
القسم الأول(8/5)
فإن أهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة على الحق ساروا على وفق ما أمر الله جل وعلا في معرفة ما يستدل به؛ يعني الإنسان المسلم إذا أراد أن يبرهن على قضية فبما يبرهن؟ هل يبرهن بأي برهان يأتي على ذهنه؟ ويكون ليس له منهج في الإستدلال ولا في التلقي؟ أم أنه هناك ضابطا يضبطه في مسألة كيف يستدل وبما يستدل؟ ولهذا أهل البدع أرادوا الاستدلال ببعض الأدلة دون بعض فخابوا وخسروا؛ فالخوارج مثلا أخذوا ببعض أدلة القرآن دون بعض، وأخذوا ببعض السنة دون بعض، والمرجئة أخذوا ببعض دون بعض، وهكذا أهل الاعتزال أخذوا ببعض دون بعض، وهكذا، أيضا سلطوا العقل على الأدلة؛ فجعلوا الدليل تابعا للعقل، أو استدلوا بالعقل المجرد فجعلوه هو الحق، وجعلوا الدليل إذا خالف العقل فإنه لا يستدل به لأجل أن العقل قطعي عندهم، وأما الأدلة من الكتاب والسنة وعمل السلف فإنها أو أقوال السلف فإنها مظنونة كما يزعمون، لهذا قال بعضهم: إنّ العقل هو القاضي المصدَّق وإنّ الشرع هو الشاهد المعدل. فجعل مرتبة العقل القضاء والقاضي هو الذي يفصل، وجعل الشرع شاهدا. وهذا من أعظم السّمات التي يتّسم بها من لم يأخذ بطريقة الصحابة رضوان الله عليهم، لهذا كان مصدر التلقي في معرفته في المسائل كلها؛ في مسائل الغيب والإيمان والقضاء والقدر، بل في التوحيد والربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وما سيأتي من مباحث، لا بد من معرفة كيف تستدل؟ وبما تستدل؟(8/6)
فأدلة أهل السنة والجماعة على مسائلهم في الأمور التي تميزوا بها عن غيرهم واتفقوا عليها: هي الكتاب والسنة والإجماع. وأما العقل فيجعلون العقل تابعا للنقل، فإن الشرع دل على العقل ليُفهم به النص لا أن يكون العقل معارضا لما دل عليه الدليل؛ لأن العقل اجتهاد فرد، والدليل وحي من الله جل وعلا، وإذا قال القائل العقل، فإنما هو قول لا حقيقة له واحدة؛ لأنه إذا قيل العقل يدل على كذا فعقل من هل هو عقل واحد أو عقل اثنين أو عقل عشرة أو عقل مائة إلى آخره، فالعقول تختلف، والمدارك تختلف، لهذا في المسائل العظيمة التي ذهب إليها من يقولون إنهم أصحاب العقول لما كبروا في السن تغيرت عقولهم ورأوا أنهم لم يدركوا شيئا؛ لأن حتى عقل الإنسان ينمو مع الزمن، فعقله وهو ابن ثلاثين، يختلف على عقله وهو في الأربعين، يختلف عن عقله وإدراكه وهو ابن الخمسين وابن الستين، فإذن كلمة ”العقل“ هذه ليست لها وحدة واحدة ترجع إليها، لا من جهة الأشخاص بأن يقال عقل –مثلا- الناس يدل على كذا، وكذلك في عقل معين يختلف ما بين فترة وأخرى، فالعقل يختلف باختلاف السّن باختلاف المعلومات وأنواع الادراكات، وفوق كل ذي علم عليم، لهذا صار العقل في الشرع مقدّرا ولكنه تابع للشرع؛ لأنه لا يستقل بالإدراك بل لا بد أن يكون تبعا للمصدر الحق.(8/7)
فإذن منهج التلقي عند أهل السنة والجماعة منحصر في أن يكون في الكتاب السنة والإجماع. والكتاب الذي هو القرآن نعني به ما يشمل جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله جل وعلا، تارة يُستدل بقراءة، وتارة يستدل بالقراءة الأخرى، والتي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه بالتواتر برواية أكثر من عشرين صحابيا أنه قال «أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ»، والقرآن حجة لأنّه من الله جل وعلا، لهذا قال الله جل وعلا ? وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ?[المائدة:49] والحكم يكون في المسائل العلمية وفي المسائل العملية، وقال جل وعلا ?وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ?[الأنعام:115] (تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) يعني الشرعية، (صِدْقًا) فيما أخبر الله جل وعلا به من أمور الغيب، (وَعَدْلًا) فيما أمر به ونهى من الأوامر والنواهي فتمت كلمة ربك وفي القراءة الأخرى – (وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)سبحانه وتعالى.(8/8)
والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا بتحكيم سنته عليه الصلاة والسلام، قال جل وعلا? وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا?[الحشر:7] والْحَظْ في أول الجملة الأولى ما قال (وما أمركم) حتى لا يكون ما آتانا النبي صلى الله عليه وسلم منحصرا في الأحكام العملية، بل قال (ما أتاكم فخذوه) بما يشمل العقائد وأمور الغيب وما يشمل المسائل العملية، وأما النهي فهو راجع إلى العمل لا إلى الأخبار؛ لأن الأخبار لا مجال فيها للنهي، بل هي ما أوتينا فيها فإننا نصدقه كما أنزل الله جل وعلا وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» وأمر الله جل وعلا بطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام في أكثر من ثلاثين موضع كما هو معلوم، وطاعته تشمل طاعته في الأخبار بتصديقها، وطاعته في الأوامر والنواهي بامتثال الأمر واجتناب النهي والاستغفار عن التقصير.
لهذا من المهم أن يكون الاستدلال في مسائل الاعتقاد، في المسائل الغيبية في مسائل المنهج، في المسائل التي يختلف فيها الناس فيها بين الفرق التي انقسمت، يكون الاستدلال بكتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بالإجماع؛ لأنّ الإجماع حجة، ولما ذكر الشافعي رحمه الله تعالى الإجماع وأنّه حجة قالوا له من أين أتيت بأنّ الإجماع حجة؟ قال: فقرأت القرآن أريد دليلا على أن الإجماع حجة حتى بلغت قوله تعالى في سورة النساء ?وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا?[النساء:115]. و(غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني غير ما أجمعوا عليه، فتوعده الله بأن يصليه جهنم وساءت مصيرا؛ لأنّ هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كما جاء في الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم.(8/9)
فإذن منهج الاستدلال وتحت هذه الجملة كلمات:
? منهج الاستدلال أن يكون بالقرآن ويشمل ذلك جميع الأحرف السبعة والموجود منها الآن القراءات ربما عشر أو أربعة عشرة قراءة وهي تدخل أو هي بعض بمجموعها بعض الأحرف السبعة بمجموعها، ولا صلة بين الأحرف السبعة والقراءات السبعة، القراءات السبعة هذا اصطلاح اصطلحه أبو بكر بن مجاهد في كتاب أحد القراء في كتاب اختار من قراء المسلمين الذين نقلوا القرآن سبعة، اختار سبعة قراء وجعلهم في كتابه، القراءات السبع هذا شيء ليس مساويا للأحرف السبعة وإن اشتركوا في أن هذا سبع وهذا سبع.
? أما السنة فيُستدل عند أهل السنة والجماعة بما ثبت على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يعني أهل السنة والجماعة بصحيح السنة وبما لا يصح من السنة، فلا يستدل في مسائل الاعتقاد والمسائل العظيمة بما لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام، ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله في معرض كلام له: أهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول، بل إما في تأييده أو في فرع من الفروع. أو كما قال رحمه الله، لأن السنة الصحيحة حجة، فإذا ثبت الحديث بأنْ كان حديثا صحيحا أو كان حديثا حسنا؛ إما أن يكون حسنا لذاته، أو أن يكون حسنا لغيره لتقوية الشواهد له لم يكن فيه نكارة ولا شذوذ، فإنه يحتج به، فهذا من التلقي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.(8/10)
? أما الإجماع فإنّ الإجماع إذا نقله جمع من العلماء وقالوا: أجمع العلماء على كذا. فإنه يُقبل، وأما إذا قال أحد العلماء: أجمع العلماء على كذا. فإنه قد يكون له اصطلاح في الإجماع كما كان لابن المنذر اصطلاح في الإجماع رحمه الله تعالى وكما كان لغيره إصلاح لكلمة ”أجمعوا“ كذلك اتفقوا على كذا، فإذا نقل أكثر من عالم هذا الإجماع ولم يتعقب فإن هذا يدل على صحة هذا الإجماع، وكذلك ما اشتهر من الإجماعات؛ ما اشتهر من الإجماعات حتى غدا معروفا عند أهل السنة والجماعة بحيث لا يُحتاج فيه إلى إثبات نقل عليه؛ مثل تقديم أبي بكر رضي الله عنه للخلافة لتقديمه في الفضل، وكذلك تقديم عمر بعده لتقديمه في الفضل، وكذلك تقديم عثمان بعده على من عداه من الصحابة لتقديمه في الفضل، وهكذا علي رضي الله عنه، فإننا نعلم أن الصحابة على هؤلاء الأربعة أجمعوا واتفقوا على ما ساروا إليه بنقل جماهير المسلمين بحيث كان فائضا ومستفيضا من المعلوم.
وثم بحوث أخرى تتصل بمنهج الاستدلال.(8/11)
إذن تلحظ أنّ منهج الاستدلال عند أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة ليس فيه تقديم العقل كما يقدمه المعتزلة، ليس فيه الأخذ ببعض الكتاب دون بعض كما هو عند الخوارج والمرجئة وفئات، ليس فيه تقديم أو الاحتجاج بالمنامات أو ما بما يسمونه الفيوضات عند الصوفية، وعند بعض الناس الذي يرى أنه صار متعبدا متعبدا جاءه منام ظنه وحي ربما خالف، خالف... ولهذا يحكي عن أحد العلماء وأظنه عبد القادر الجيلاني وكان سنيا وإنْ خالف من بعده فعظموه حتى خرج أتباعُه عن طريقة السلف، قال: جاءني في المنام -أو كما جاء في الرواية- شيطان فقال أنا ربك أسقطت عنك الصلوات، فقال قلت أعوذ بالله منك فقال فساح ولم أره. لأن إسقاط الصلوات عن واحد من عباد الله لم تأتِ به الشريعة، فهذا عالم لا يمكن أن يأخذ بكلام أحد يأتيه ويجعله مقدما على ما جاء في النصوص بما أوجب الله عليه، ظل بهذا الطريق فئات فرأوا أنّ الصلوات والعبادات ربما سقطت عنهم، وأنهم وصلوا إلى حالة من الإيمان والقوة بحيث أنه إذا عاشر منكرا أو أنه إذا ترك واجبا أنه لا يضره في إيمانه كما هو عليه طائفة من الذين أسقطوا على أنفسهم التكاليف، أو ظنوا أنهم يسعهم الخروج عن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام. فإذن الاستدلال بالمنامات، الاستدلال فيقول جاءني ما جاءني في الفيوضات ورأيت كذا، هذا ليس من منهج أهل السنة والجماعة ولا من طريقة الفرقة الناجية؛ بل هو من طرق أهل الضلال، فلا يقدم العقل، ولا تقدم المنامات، ولا الفيوضات ونحو ذلك من ما يستدل به من يستدل ممن خالف طريقة الصحابة رضوان الله عليهم.
كل المسائل هذه فيها تفصيلات لكن يذكرها باختصار لأجل رعاية استيعاب الموضوع.
القسم الثاني
القواعد التي رعاها أهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة الفرقة الناجية التي رعوها حتى فارقوا أهل الضلال بتمسكهم بالكتاب والسنة؛ القواعد في عقيدتهم وفي سلوكهم:(8/12)
?أولا: قالوا إنّ التوحيد الذي أمر الله جل وعلا به في كتابه هو أن يؤمن به جل وعلا دون ما سواه يكون في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته.
وقالوا إنّ القرآن دلنا على منهج إثبات الربوبية.
وأن القرآن دلنا على أن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده دونما سواه.
وأن القرآن -يعني والسنة في كل المواضع والسنة- دلنا القرآن والسنة على أن الواجب هو إثبات الأسماء والصفات لله جل وعلا وعدم تأويل شيء من ذلك يخرجه عن ظاهره.(8/13)
وهذا بيِّن في أنّ الأدلة دلت على أنّ التوحيد الذي طلبه الله جل وعلا من الناس لما بعث إليهم الأنبياء إنما هو التوحيد المتعلق بالإله؛ المتعلق بالألوهية، قال جل وعلا لما أرسل كل رسول كما في سورة الأعراف([1]) أن كل رسول يقول لقومه ?أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ?([2])، وقال جل وعلا ?إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ?[الصافات:35]، فأمر الله جل وعلا بهذا التوحيد الذي هو توحيد الإلهية وهو عبادته وحده دونما سواه، فقرّر أهل السنة والجماعة أنّ التوحيد الذي ينجي العبد في العبادة إنما هو أن يوقن بأنّ الله هو المستحق للعبادة وحده وأنّ هذا هو معنى لا إله إلا الله، وأن الربوبية؛ توحيد الربوبية يتضمنه توحيد الإلهية، فمن عبد الله وحده دونما سواه فإنه مؤمن بأن الله هو ربه وحده؛ مفارقة لطريقة الأشاعرة مثلا والمعتزلة والمتكلمين الذين قالوا إنّ التوحيد المطلوب من العبادة الذي ينجيهم هو توحيد الربوبية، فإذا كان كذلك فإنّ الله أثبت أن المشركين الذين بُعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوقنون بأن الله ربهم وأنه خالقهم ورازقهم ومدبر الأمر، ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ?[يونس:31] يؤمنون بأنّ الذي يفعل هذا هو الله جل وعلا، هذا ربوبية، لكن ما أنجاهم، لهذا غلطوا الأشاعرة ومن نحى نحوهم لما فسروا الإله بأنه القادر على الاختراع، وفسروا الإله تارة بأنه المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه، كما قال صاحب السَّنوسية من كتبهم يقول –يسمونها أم البراهين- يعني التي فيها البراهين الكافية وهي ليست كذلك، قال: فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنى عما سواه ولا مفتقر عليه كل ما(8/14)
عداه إلا الله. إذ الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه، هذا كل أحد يؤمن بأن الرب بأن الله جل وعلا مستغن عن الخلق وأن الخلق مفتقرون عليه، هذا يؤمن به أبو جهل ويؤمن به كل الذين عارضوا الرسل ليس عندهم إشكال، الإشكال ومعارضة الرسل في أن يُوَحَّد المعبود؛ أن يذروا الأصنام وأن يتوجهوا بالعبادة إلى إله واحد، ولهذا في القرآن ?وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ?[البقرة:163] إذ أنهم كانوا إذا قيل لهم (لَا إِلَهَ) يعني يستحق العبادة إلا الله (يَسْتَكْبِرُونَ)، ولما قالوا في سورة ص ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا?[ص:5]، إذن فهذا المنهج مهم في أنّ السلف والصحابة فمن بعدهم إلى زماننا هذا ممن لزم هذا المنهج يعلمون أنّ الابتلاء وقع في الألوهية وممن أبرز هذا أيّما إبراز وركز عليه الحافظ الإمام ابن جرير الطبري في التفسير؛ فركّز عليه، وهناك من قبله من أئمة السنة، لكن هو كرر هذا المعنى في تفسيره في ذكر توحيد الربوبية نصا، وتوحيد الألوهية نصا.(8/15)
أما توحيد الأسماء والصفات فمعناه الإيمان بأن الله جل وعلا له الأسماء الحسنى والصفات العلى وأنه لا مثيل له في أسمائه ولا في ما اتصف به من الصفات على ما قال جل وعلا ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، والذين خالفوا طريقة أهل السنة قالوا إن الصفات لا يثبت منها كل ما جاء في القرآن والسنة، وإنما تقسم الصفات إلى صفات دل عليها العقل، وصفات لم يدل عليها العقل بل دل العقل على أنه لا يوصف جل وعلا بها، وهذا تفريق بين كلام الله جل وعلا، والأخذ ببعض وردّ بعض؛ لأن الله جل وعلا لما وصف نفسه في كتابه وسمى نفسه جعل المجال مجالا واحدا، وجعل الطريق طريقا واحدا، لم يفرّق بين صفة وصفة؛ لأنها كلها أمور غيبية يذكر الله جل وعلا عن نفسه العلية وعن ذاته المقدسة جل جلاله ما يجب علينا أن نؤمن به، فلماذا يفرق الإنسان ما بين شيء وشيء وكله جاء في القرآن والسنة؟ فالتفريق هذا ليس من منهج أهل السنة؛ بل أهل السنة والجماعة يجعلون الباب بابا واحدا، فكل ما جاء في الكتاب أو السنة في وصف الله جل وعلا، أو في ذكر أي أمر من الأمور الغيبية فإنهم يثبتونها على ما دل عليه ظاهر اللفظ دون تأويل أو تحريف يخرجه عن ظاهره أو عن دلالة ظاهره. ولهذا تعلمون القاعدة التي قعّدها أهل السنة في هذا بأننا نؤمن بما جاء في الكتاب والسنة من ذكر أمور الصفات؛ من ذكر صفات الله جل وعلا أو أسماء الرحمن جل وعلا، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. فنحن لا نكيّف ولا نمثّل ولا نعطل ولا نجسم، لا نتأول تلك النصوص تأويلا تخرجها عن ظاهرها. فإذن إثبات اليدين لله جل وعلا هو مثل إثبات السمع لله جل وعلا، قال أولئك ممن ظل في هذا الباب، قالوا إننا إذن قلنا أن اليدين مثبتة لله جل وعلا، أو أن الله يوصف بالرحمة، أو أنه يوصف بالغضب ويوصف بالرضا، هذا معناه شبهناه بالمخلوق؛ لأن هذه أشياء يتصف بها المخلوق. طيب ما الذي(8/16)
أثبتم من الصفات؟ قالوا أثبتنا وجود الله جل وعلا، وأثبتنا الكلام لله جل وعلا، وأثبتنا السمع لله جل وعلا، وأثبتنا الإرادة لله جل وعلا، وأثبتنا الحياة لله جل وعلا، وأثبتنا القدرة لله جل وعلا... إلى آخره. أليست هذه موجودة في المخلوق؟ أليست الحياة موجودة؟ أليس السمع موجودا؟ أليس البصر موجودا؟ أليست القدرة موجودة؟ فما الفرق عندكم ما بين اتصاف المخلوق بهذه الصفات واتصاف الله؟ قالوا: المخلوق له منها ما يناسبه قدرته محدودة. طيب تقول إذن في المقام الثاني: إنه إذن ما يليق بالله جل وعلا من الصفات لا يُنفى عن الله، فنقول لله وجه سبحانه كما يليق بجلاله وعظمته ولو لم يخبرنا الرب جل وعلا على أن له وجها لو لم يخبرنا أن له وجها لما أثبتناه، لو لم يخبرنا سبحانه وتعالى أنه متّصف بالرضا والغضب ?غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ?[الفتح:6]، قالوا: لا، الله لا يغضب. ليش ما يغضب؟ لأن هذه صفة نقص في المخلوق أنه إذا زعل. كيف يزعل؟ لماذا هل هو عندكم أن الغضب هنا ينفى لأجل مشابهة المخلوق؟ قالوا: نعم. طيب، الصفات التي أثبتوها لا تشابه المخلوق؟ فلا مجال لهم في الإنكار، لهذا من خصائص أهل السنة أنهم لا يفرقون في باب الأسماء والصفات ولا في باب الغيبيات بين باب وباب، في باب الغيب قال جل وعلا ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ?[الأنبياء:47]، يأتي آتٍ ويقول ما فيه موازين؛ لأن الميزان يحتاجه الشخص الذي يُشك فيه هل هو عادل أو ليس بعادل؟ والله جل وعلا يوم القيامة هو الحكم العدل سبحانه، فما يحتاج إلى موازين، فإذن الموازين هذه معناها العدل لماذا قلتم هذا؟ لأجل أن العقل قال لهم لا نحتاج لهذا، أما أهل السنة والجماعة فقالوا أثبت الله الموازين فنثبتها والله جل وعلا جعل الميزان في مثقال ذرة، قال ? فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه?[الزلزلة:7] لاحظ كلمة (مِثْقَالَ) ? وَمَنْ يَعْمَلْ(8/17)
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه?[الزلزلة:8]، ثم وَضْعُ الشيء في الميزان ليس هو لأجل إبراز عدل، لأجل حاجة الله جل وعلا أن يُثبت عدله ولكن لأجل إقامة الحجة على المخلوق المكلف؛ لأن هذا هو ميزانه، هذه حسناتك وهذه سيئاتك، وأنت الآن الحكم على نفسك ? وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ?[الأنبياء:47]، وفي الآية الأخرى قال جل وعلا ? اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا?[الإسراء:14] فيُعطى الكتاب قبل الميزان فينظر في الكتاب كل شيء عمله من خير أو شر فإنه يجده في كتابه، ثم بعد ذلك يضع الله الميزان، وينظر العبد أنه توضع فيه الحسنات وأنه توضع فيه السيئات.
إذن التأويل الذي يُخرج هذه الآيات عن ظاهرها لاشك أنه باطل، إذن من خصائص أهل السنة والجماعة والطائفة الناجية أنهم لا يخوضون في آي القرآن ولا في دلائل السنة بتأويل يصرفها عن ظاهرها؛ بل يؤمنون بالغيب كله لأن الله أثنى عليهم بقوله في أول آية في القرآن ? ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ?[البقرة:2] المتقي الذي يخاف الله جل وعلا أوّل صفاته ?الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ?[البقرة:3] ثم بعد ذلك ذكر العبادات، الإيمان بالله إيمان بالغيب، الإيمان بالملائكة إيمان بالغيب، الإيمان بالرسل الذين سلفوا إيمان بالغيب، الإيمان بالكتب إيمان بالغيب، الإيمان بالقدر إيمان بالغيب، الإيمان باليوم الآخر إيمان بالغيب، فرجع حقيقة أركان الإيمان والعقيدة إلى أنها إيمان بالغيب، فمن آمن ببعض الغيب وبعض الغيب تأوله فإنه خارج عن صراط الصحابة والفرقة الناجية في ذلك، هذه مسألة.
إذن مسائل التوحيد هذا نهجهم رضي الله عنهم وأرضاهم.(8/18)
?القاعدة الثانية: أنهم يؤمنون بأن الله جل وعلا جعل لكل شيء قدَرا كما أنه جعل لكل شيء قدْرا فما خلق الله من شيء إلا بقدَر سبحانه وتعالى قال جل وعلا ? وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا?[الفرقان:2] وقال سبحانه في سورة القمر ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ?[القمر:49]، وقال سبحانه ? وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا?[الأحزاب:38] فإذن الإيمان بالقدر هذا من سِمَة أهل السنة والجماعة، ([3]) من الإيمان بالقدر؛ مما تميزوا به أنهم يعلمون أن الله جل وعلا جعل لكل شيء سببا، فأناط المسببات والنتائج بالأسباب وبالمقدمات، فيقول أهل السنة والجماعة إن الله جل وعلا جعل السبب ينتج المسبب، ومن فعل سببا فقد أتى بالواجب عليه، فإنه من الواجب على العبد أنْ يأتي بالأسباب التي توصل إلى المقصود، فأعظم الأسباب التي توصل إلى المقصود الإيمان بالله جل وعلا حتى ينجو العبد، أعظم الأسباب التي توصل إلى المقصود طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، الإيمان بالقرآن وهكذا، فهذه من الأسباب العظيمة حتى لا يتمنى أحد على الله الأماني، كذلك في الأمور الكونية جعل الله جل وعلا الماء منبتا للزرع، قال جل وعلا ?فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ?[ق:9] أنبتنا به، جعل الله جل وعلا ولد فلان ابن فلان عقد أته سيأتي في اليوم الفلاني وفي الساعة الفلانية سيخرج إلى الدنيا؛ لكنه جعل لإتيانه سببا أن فلانا يتزوج ثم يُواقع امرأته في وقت معلوم إلى آخره، فتحمل به بإذن الله جل وعلا، هذه الأمور الأسباب يؤمن بها أهل السنة والجماعة، لكن في الأسباب لا ينظرون إلى الأسباب، لا يلتفتون إلى الأسباب، لا ينظرون إليها على أنها تُحَصِّل المقصود وحدها، بل ينظرون على أنها سبب والله جل وعلا هو الذي ينفع بالسبب ويجعل السبب سببا نافعا، خُذ فمثلا أحدهم يذهب إلى الطبيب فيعطيه دواء فلا ينفع، الذهاب إلى الطبيب سبب، الدواء سبب(8/19)
مشروع لا بأس به، تناول الدواء المباح لا بأس به، فإذا فعل ذلك، هل لابد أن يحصل له الشفاء؟ لا يحصل، فإذن نأتي السبب ثم بعد ذلك نفوض الأمر إلى الله جل وعلا في الانتفاع بهذا السبب، أما محو الأسباب أن تكون أسبابا كما على غير أهل السنة والجماعة من الذين ينفون الأسباب، ويقولون في القدر بالجبر الجبرية في باب القدر يقولون: لا، الأسباب هذه أشياء خلقها الله للظاهر، ولكن في الحقيقة الإنسان مجبور على كل شيء. طيب الآن الإنسان يعلم أنه يشرب الماء فيرتوي، الارتواء كيف حصل؟ قالوا، ماذا يقول أهل السنة؟ يقولون الارتواء حصل بسبب الماء شربت فارتويت، يعني سبب ظاهر النار وَلَّعْتَها على شيء فأحرقته، النار هي التي أحرقته لكن من الذي نفع جعل الماء يروي؟ هو الله جل جلاله، من الذي جعل النار تحرق؟ هو الله جل جلاله، لو أراد الله جل وعلا أن يبتلي العبد بأن يشرب من الماء بحارا ولا يرتوي لفعل سبحانه وتعالى، كما يحصل مع بعض المرضى أو كما يحصل مع من ابتلاهم الله جل وعلا، وكذلك لو أراد الله جل وعلا أن يبطل فعل النار أن تؤثر بالإحراق لأبطل –لاحظ- لأبطل السبب، كما أبطلها حين قُذف إبراهيم عليه السلام في النار ?قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ?[الأنبياء:69] هذا قول أهل السنة.
أما أهل البدع، والجبرية فإنهم ماذا يقولون؟ يقولون: لما شربتَ الماء أحدث الله لك الشعور بالارتواء، لما اقترنت النار بهذه الورقة أحرق الله الورقة، لما حصل التقاء الذكر بالأنثى وضع الله جل وعلا الحمل، وهذا كما يرى أي منصف أنّ هذا خلل في العقل والتفكير؛ لأنك تسلب الأسباب أن تكون أسبابا، ولهذا أهل السنة ساروا في القدر على منهاج رضي؛ لأنهم نظروا إلى الأسباب نظرا صحيحا، ومسألة الأسباب مهمة في السلوك وفي القدر وفي الإيمان؛ لأن بها وضوح النظرة إلى هذه الأشياء.(8/20)
من منهج أهل السنة والجماعة في باب القدر أيضا أنهم قالوا إنّ الإنسان جعله الله جل وعلا مخيّرا يختار طريق الحق ويختار طريق الضلال، كما قال سبحانه ? وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ?[البلد:10] يعني طريق الخير وطريق الشر، يختار، ? وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا?[الشمس:7-10] (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) في الخير، و(خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) في الشر، والذي يسعى في تزكية نفسه ويسعى في تدسية نفسه وخيبتها، لكن كما أنه ليس بمجبر وهو مختار، لكن هناك شيء مهم وهو أن الله جل وعلا يعين ويوفّق من توجه إليه، كيف؟ يعني الذي يرغب في الخير يعينه الله ويوفّقه، والذي يرغب في الشر ويسعى إليه يخذله الله ويكله إلى نفسه، فلهذا المؤمن المصدق بالقدَر يرى أنه فيما أطاع الله فيه أنه ليس من عند نفسه؛ هو نعم اجتهد، لكن الله أعانه، وهذا يحس بها كل واحد فينا أن الله أعانه، كذلك الذي عصى الله جل وعلا إنما عصى الله جل وعلا بمحض اختياره، والله جل وعلا خذله ووكله إلى نفسه.
?من القواعد أيضا في هذا الباب أنّ أمور الغيب بعامة بابها واحد كما ذكرنا، وأنه لا يُتَعَرَّضُ فيها بالتأويل، ونخص هنا ذكر التأويل؛ لأن التأويل نجده مبثوثا في كثير من كتب التفسير وكتب الحديث، يخرج المسألة الغيبية عن ظاهرها إلى ما يقبله العقل، والتأويل لفظ كان مستعملا؛ بل جاء في القرآن لفظ التأويل، وجاء في السنة، واستعمله المتأخرون على معنى باطل. أما الذي في القرآن والسنة فإنّ التأويل له معنيان:(8/21)
المعنى الأول: أنّ التأويل بمعنى التفسير؛ يعني تأويل كذا يعني تفسير كذا، كما قال جل وعلا ?وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا?[يوسف:100]، (تَأْوِيلُ رُؤْيَاي) يعني تفسير رؤياي، ?وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ?[يوسف:44] يعني بتفسير الأحلام، هذا هو معنى الأول التأويل بمعنى التفسير.
المعنى الثاني: الذي في القرآن التأويل بمعنى ما تؤول إليه حقائق القرآن؛ حقائق الأحكام أو حقائق الأخبار، تؤول إليه؛ يعني ما تؤول إليه في النهاية، وهذا كما في قوله جل وعلا ?وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ?[آل عمران:7]، يشمل تأويل التفسير فيما اشتبه على بعض الناس علمُه، ويشمل التأويل الذي ما تؤول إليه حقائق يوم القيامة، كذلك في قوله تعالى في سورة الأعراف ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ?؛ يعني تأويل القرآن ? يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ?[الأعراف:52]، إذن في قوله (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ)، يعني ما تؤول إليه حقائق القرآن يوم القيامة، تؤول إليه؛ يعني تنتهي إليه، يوم القيامة يَبِينُ، يَبِينُ الوصف الحق، يَبِينُ الجنة، يَبِينُ النار، يَبِينُ الظالم، يَبِينُ، الحقائق تَبِينُ.
هذان المعنيان صحيحان.(8/22)
أما التأويل الثالث الباطل الذي ينفيه أهل السنة والجماعة وليس من منهجهم، هو أنْ يُصرف اللفظ الذي في القرآن والسنة مما يتعلق بالغيب إلى معنى آخر لا يدل عليه الظاهر لأجل العقل، وهذا هو طريقة المتكلمين؛ من المعتزلة، الأشاعرة، الماتريدية، والكلابية، وفئات كثيرة، ويدخل فيهم الرافضة، والزيدية، الإباضية، والخوارج، كلهم ينحون منحى التأويل هذا، يقولون العقل دلَّنا على أنّ هذه لا نحملها على ظاهرها، تحملونها على أي شيء؟ نحملها على معنى ثان. يؤولونها بما يتفق مع العقل، هذا تأويل باطل.
التأويل في اللغة التفسير. التأويل في القرآن جاء بمعنى التفسير؛ فسّر الآية بظاهرها، فإذا كنت لا تحسن تفسير ظاهرها أمرّها كما جاءت، فإنّ ذلك تفسيرها لأنك لا تدخل فيما لا علم لك به
?القاعدة الرابعة في هذا الأمر المهم أنّ أهل السنة والجماعة تميزوا بأنهم في الإيمان يقولون: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ قول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان؛ يعني بآلات الإنسان، ببدن الإنسان، واعتقاد بالجنان، وليس الإيمان اعتقاد بدون عمل، أو قول اعتقاد بدون عمل، فلا بد من الثلاث، هذه حقيقة الإيمان وهي أركان الإيمان.(8/23)
وليس قولهم في الإيمان كقول من خالفهم؛ لأنهم أخذوا مسألة الإيمان أخذوها مما يدل عليه القرآن والسنة، قال النبي عليه الصلاة والسلام عليه الصلاة والسلام «آمُرُكمْ بِالإيمَانِ بِاللّهِ وَحْدَه، أَتَدْرُونَ مَا الإيمَانُ بِاللّهِ وَحْدَه؟» قَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «أنْ تشْهَدوا أنْ لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن تقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم» وفي رواية «وأنْ تجاهِدُوا في سَبِيلِ الله» هنا سألهم: (أَتَدْرُونَ مَا الإيمَانُ) ثم ذكر أشياء، هذا السؤال عن بيان حقيقة، يريد أن يبين لهم حقيقة الإيمان، ما هي؟، فذكر الشهادتين، ذكر الأعمال؛ الصلاة عمل بدني، الزكاة عمل مالي، وذكر آداء الخمس من المغنم، الذي هو نتيجة للجهاد في سبيل الله كذلك في الحديث الآخر «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ, أَوْ بِضْعٌ وَسِتّونَ شُعْبَةً, فَأَعْلاَهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطّرِيقِ, وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» لماذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة؟ يُبَيِّن الأعلى والأدنى، والأعلى اِلْحَظْ أنّه قول، والأدنى اِلْحَظْ أنه عمل، والحياء هذا إيش؟ شيء في القلب، الحياء أمر قلبي ينتج عن أشياء، ليدل عليه الصلاة والسلام أُمتَه على أنّ الإيمان فيه أقوال وأعمال وأشياء قلبية.
إذن فهذا حقيقة قول أهل السنة الذي تميزوا به.
أما الخوارج والمعنزلة ومن خالف، فإنهم جعلوا الإيمان شيئا واحدا إما أن يأتي كله، وإما أن يزول كله.
أما أهل السنة فقالوا: العمل يختلف؛ عمل فلان عن فلان، هم درجات عند الله، هذا رجل متعبد، وآخر خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فهل يستوون؟ لا، الإيمان يتبعض؛ فهو مراتب، بعض الناس أعلى من بعض في الإيمان.
أما غيرهم قالوا: لا، هو حقيقة واحدة، إمّا أنْ يأتي كلُّه وإما أن يذهب كلُّه.(8/24)
الأمر الثاني قالوا: إن الذي يرتكب الكبيرة ليس بمؤمن؛ لأنه فقد شرط صحة الإيمان وهو العمل.
وأهل السنة والجماعة يقولون: لا، هو مؤمن بإيمانه، ولكنه فاسق بكبيرته، واحد عنده عمل صالح وهو نفسَه عنده عمل آخر سيء، الله جل وعلا يقول ?وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ?[التوبة:106]، وقال في وصفهم ?وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا?[التوبة:106] فالذي يأتي إلى الناس ويقول هذا الإيمان إما أن يأتي كلُّه وإلا ذهب كله، هذا ليس على طريقة أهل السنة والجماعة، سواء كان المحكوم عليه فردا، أم كان حاكما، يقول إما أن يأتي كله أو يذهب كله فإن هذا ليس من أقوال أهل السنة، بل طريقة أهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة في باب الإيمان أنهم يقولون: الإيمان يتبعض، وأن المؤمن يمكن أن يكون يعمل خيرا، ويمكن أن يكون يعمل شرا. فهو ربما جمع بين هذا وهذا، فهو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، لا نسلبه اسم الإيمان لأجل معصية وقع فيها.
القسم الثالث
من خصائص أهل السنة والجماعة ما يتعلق بالمنهج الذي سلكوه تجاه الصحابة رضوان الله عليهم أو في الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو نحو ولاة الأمر وما شابه هذه المسائل؛ لأن هذه المسائل افترقت فيها الأمة، فأول ما حدث الخروج على عثمان رضي الله عنه، ثم تكفير بعض الصحابة؛ تولي بعض وتبرأ من بعض مثل الخوارج والناصبة والرافضة، ثم جاء ضلال في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما عند المعتزلة في وقت متأخر، وهكذا.
فاتّسم أهل السنة والجماعة لإكرام الله جل وعلا لهم بالنجاة والنصر بأنهم يسلكون في ذلك بما دلت عليه النصوص ولا يفرِّقون في ذلك بين نص ونص أو يُخرجون النصوص عن ظاهرها.(8/25)
ففي مسألة الصحابة: إنّ أهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة والفرقة الناجية ويتولون جميع الصحابة بلا استثناء؛ كل صحابي فإننا نحبه ”فلمقام أحدهم ساعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عبادة أحدكم ستين سنة“ كما جاء في الأثر عن بعض الصحابة، وقال عليه الصلاة والسلام «لاَ تَسُبّوا أَصْحَابِي. فَوَالّذِي نَفْسُ مُحًمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا بَلَغَ مُدّ أَحَدِهِمْ, وَلاَ نَصِيفَهُ» يعني ولا نصف المد، والله جل وعلا يقول ? مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا?[الفتح:29]، إلى أن قال في آخر الآية آخر سورة الفتح ? وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا?[الفتح:29]، وقال جل وعلا ? لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ?[الفتح:18]، وقال جل وعلا ? وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ? يعني بعد الصحابة ? يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ?[الحشر:10]، فمن خصائص أهل السنة محبتهم لجميع الصحابة، وأنهم يتولون الجميع، ولا ينتقصون صحابيا من الصحابة مهما كان، لا ينتقصونهم، وأفعال الصحابة رضوان الله عليهم مما اجتهدوا فيه، منهم من كان مصيبا فله أجران، ومنهم من كان مخطئا اجتهد رغبة في الأجر وتحريا للحق فله أجر واحد، وهكذا كان الأمر في الخلاف ما بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه، فإن أهل السنة والجماعة يرون هنا أنّ عليا رضي الله عنه هو المصيب فهو الأولى بالحق، وهو الذي يجب على(8/26)
الناس إذْ ذاك الالتزام به، ومعاوية رضي الله عنه كان مجتهدا فله أجر واحد على اجتهاده، ويرتبون الصحابة أنّ الخلفاء الأربعة ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ولا ينتقصون أحدا من الصحابة البتة.
كذلك منهجهم مع أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وأخصّهن خديجة رضي الله عنها وعائشة رضي الله عنها الصّدّيقة بنت الصديق، فإن أهل السنة والجماعة يتولون جميع أمهات المؤمنين، ولا يذمون امرأة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل يشهدون أنهن زوجاته في الآخرة كما كنّ زوجاته في الدنيا عليه الصلاة والسلام، كما قال جل وعلا في وصف النساء وأزواجه ? النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ?[الأحزاب:6] فهن أمهات المؤمنين والأم لها حق -صحيح أنها ليست أم في المحرمية وليس الصحابي محرما لها- فهذا أُمّ في الحق، وفي تحريم النكاح كما هو معلوم.(8/27)
أمّا أهل البدع فتجد أن الخوارج يكفرون بعض الصحابة، من الذي الذي قتل عثمان؟ الخوارج. من الذي قتل علي رضي الله عنه؟ الخوارج. أفضل رجلين في زمانهما عثمان وعلي يُقتلان تقربا إلى الله جل وعلا، هل بعد هذا الضلال من ضلال؟ يأتي عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل عليا، وكان متعبدا من الخوارج الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله « يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ. وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ» ما أعجبته تصرفات علي رضي الله عنه فسعى، واتفقوا على أن يُقتل ثلاثة منهم عليًّا فقُتل علي فأتوا إلى ابن ملجم ليقطعوا رأسه، فقال: إني سائلكم ألا تقطعوا رأسي مرة واحدة بل قطِّعوا أطرافي شيئا فشيئا حتى ألتذَّ بتعذيب بدني في سبيل الله جل وعلا. أعظم من هذه رغبة في سبيل الله جل وعلا، لكن هل هم رضي الله عنهم؟ لا، بل هم كلاب أهل النار، كما قال عليه الصلاة والسلام «أيْنَمَا لقِيتُمُوهُم فاقْتُلُوهُم فإنَّ فِي قَتْلِهِم أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُم» مع أن عبادتهم عظيمة، -اسمع كلامهم- حتى أتى الخارجي الثاني يمدح هذا الذي قتل علي يقول:
يا ضربة من تقيٍّ ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكرُه حينا فأحسبُه أوْفى البرية عند الله ميزانا
يقول أوفى البرية عند الله ميزانا هو الذي قتل علي، هذا ضلال، ضلال مبين، مع كثرة العبادة ومع كثرة الصلاح الظاهر لكنهم كلاب أهل النار، لما؟ لأنهم لم يلتزموا نهج الصحابة رضوان الله عليهم، فالطريقة الأولى والجماعة هي الفرقة الناجية ومن عداهم لاشك أنه متوعَّد بالنار ومن أهل الضلال.(8/28)
أما في مسائل العلماء بصلتها بالصحابة: فإن طريقة أهل السنة والجماعة أنهم لا يذمون أهل العلم إذا أخطؤوا في مسألة ما داموا مستمسكين بما دل عليه الدليل؛ يعني في الجملة، فإذا غلِط أحدهم في مسألة أو في مسألتين أو اجتهد فأخطأ، فإنهم لا يتبعونه فيما أخطأ فيه، لكنهم لا يذمونه لأنهم يعلمون أنه مجتهد، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، فمن منهجهم سلامة ألسنتهم من الوقيعة في أهل العلم؛ لأن العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الذين يدلُّون الناس على الشريعة، فإذا قُذف العلماء وطُعن أهل العلم لأجل أنّ فلان لم يصوِّب فعلهم فإنه يقع الضرب في ماذا؟ في الشرع، وأفرح ما يفرح الشيطان وأولياء الشيطان في أن يُطعن في الذين يُرشدون الناس وهم العلماء؛ لأنْ يختلّ الناس ولا يبقى لهم من يُرشدهم، أو لا يبقى لهم من يثقون به؛ فيسيرون وفق أهوائهم فيضلون ويُضلُّون، لهذا سلامة اللسان من الوقيعة في أهل العلم، هذه السنة وخصّيصة من خصائص الطائفة المنصورة والفرقة الناجية.(8/29)
من صفاتهم أيضا وخصائصهم في هذا المقام المتعلق بالمنهج: أنهم يتولّون ولي الأمر الذي وَلاَّه اللهُ جل وعلا أمرهم، ويدعون له بالصلاح والمعافاة، ويعينونهم على الخير، ولا يعينونهم على الشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل لأنّ الله جل وعلا أمر بذلك في كتابه، وأمر به نبيُّه صلى الله عليه وسلم، فقال ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ?[النساء:59]، وقال جل وعلا ?وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ [عَلَيْكُمْ]([4]) وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا?[النساء:83]، ويؤمنون بقول النبي صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَطَاعَ الأَمِير فَقَدْ أَطَاعَنِي. وَمَنْ عَصَىَ الأَمِير فَقَدْ عَصَانِي»، وأهل السُّنّة يُطيعون ولاة الأمر في غير المعصية، أما في المعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قولهم في غير معصية يشمل مسألتين:
المسألة الأولى: أنهم يطيعونهم فيما فيه طاعة لله جل وعلا؛ يعني أمروا بالصلاة فإننا نطيعهم طاعة لله جل وعلا ثم طاعة لأولي الأمر، أمروا بأداء الزكاة لا يفرّ المسلم منها؛ بل يطيع الله جل وعلا ثم يطيع ولي الأمر، أمروا بالجهاد فإنّ الجهاد مع كل بَرّ وفاجر من ولاة الأمور وهكذا.(8/30)
أما المسألة الثانية: فإنهم يُطاعون فيما هو من موارد الاجتهاد، إذا كانت المسألة اجتهادية؛ اختلف فيها أهل العلم، فإنهم، أو اجتهد الوالي في مصلحة للدين ومصلحة للمسلمين فإنه يُطاع ولو لم يكن اتفاق على أنّ هذا فيه مصلحة، بل يُطاع في المسائل الاجتهادية، وهذا ما يتعلق بالمصالح المرسلة، أما ما فيه نص فخالفه فإنّ هذا فيه معصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وهذه هي التي بيَّنها عليه الصلاة والسلام في قوله «إنّمَا الطّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» يعني فيما عُرِفت الطاعة فيه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهنا خالف في طاعة ولاة الأمور الخوارج فخرجوا على عثمان، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية لمّا ردّ على الشيعة في كتابه منهاج أهل السنة قال: وما من أحد خرج على ولي الأمر إلا وله تشبثٌ ببعض التأويل الذي له فيه حق-لأنّه ما يمكن واحد يكون ولي الأمر كاملا ثم يخرج عليه، لا يكون هذا شيء آخر، لكن يكون ولي الأمر كاملا ويخرج عليه هذا، إنما يخرج الذين يخرجون لأجل مخالفة أو مخالفات رأوها، يقول:- وهكذا كانوا الذين خرجوا على عثمان رضي الله عنه الخليفة الراشد، فإنهم تشبثوا بمسائل أخذوها عليه في تصرفه في بعض الأموال، وفي تعيينه لبعض قرابته، وأرادوا في الحق ظاهرا، والمالَ أرادوه باطنا. أو نحو كلامه رحمه الله. يعني أنّ المسألة اختلطت في الرغبة في الدنيا والرغبة في الآخرة، فنقذوا وخرجوا ولم يطيعوا لأجل دخول هذه في هذه. والله جل وعلا حسيب كل عبد على نفسه.
الأخيرة أو قبل الأخيرة: منهجهم في التعامل مع الخلق؛ في الدعوة، الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، وفي الجهاد في سبيل الله جل وعلا، فإنّ الطائفة المنصورة وُصفت بأنها منصورة، وبأنها ظاهرة على الحق، والظُّهور هنا -كما قال العلماء-:(8/31)
? هو ظهور باللسان والبيان في كل زمان وأوان؛ لأن معهم القرآن، والله جل وعلا جعل القرآن مهيمنا على ما عداه، فظهورهم على كل أحد لا بد؛ لأن حجتهم أقوى، لأن برهانهم أقوى، فَهُم يقولون بالقرآن والسنة، فما دل عليه فهو الحق والهدي، فهذا ظهور لسان وبيان.
? والقسم الثاني يكون أحيانا، وهو ظهور السيف والسنان؛ يعني أن يتغلبوا على غيرهم وأن يظهروا على غيرهم ظهور سيف وسنان بالقتال والجهاد، فهذا يكون بعض الأحيان، فليس دائما يُشْرع الجهاد، وليس دائما يكون الجهاد في سبيل الله جل وعلا بالسيف موجودا؛ بل قد تمر في الأمة فترات لا يكون فيها جهاد، كما قال عليه الصلاة والسلام «تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ هُدْنَةٌ» إلى آخره، أما ظهور بالبيان واللسان فهذا في كل زمان.(8/32)
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ يأمرون المسلم بالمعروف وينهون المسلم عن المنكر، لا رغبة في الاستعلاء عليه؛ ولكن رحمة له ودِلالة للخلق على الخالق جل وعلا، وامتثالا لقوله ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ?[آل عمران:110]، ما معنى الآية؟ يعني كنتم للناس يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام، كنتم للناس خير أمة أخرجت يعني على الإطلاق، الأمة ليست تُخرج للناس، بعض الناس يتصور معنى الآية (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أنّ الأمة أُخرجت للناس، لا، الأمة لا تَخرج للناس، الذي بُعث للناس من؟ الرسول. لكن معنى الآية كنتم للناس خير أمة أخرجت تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، فالدعوة ؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، النهي عن المنكر، النهي عن الشرك، النهي عن البدع، النهي عن المحرمات، هذا من معالم خيرية هذه الأمة للناس، صحيح أنّ المأمور وأنّ المنهي يغضب أو يِزْعَل أو لا يرغب أنْ يكون مأمورا منهيا، لكن أنتَ تدله على ما فيه مصلحته، مثل من عندك رجل يحتاج إلى إسعاف وهو ما يدري أنه مريض أو داخ؛ جاته دوخة وطاح ولا يدري أنه مريض لابد أن يسعف، فإذن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصدره الرحمة وليس مصدره الاستعلاء على الخلق، فإذا رحمت العباد فأمرتهم ونهيتهم ودعوتهم إلى الله جل وعلا فإنك في الحقيقة تكون صاحب حق عليهم وصاحب فضل عليهم لو كانوا يشعرون .(8/33)
كذلك الجهة الأخرى وهي أنهم في دعوتهم وفي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وفي تعاملهم مع الخلق يتصفون بصفة في كل أحوالهم وأحكامهم، وهي أنهم يتقون الله جل وعلا في ألسنتهم؛ فلا يقولون إلا بالحق، كما قال جل وعلا في أمره لعباده ?وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ?[الإسراء:53]، فالمتحقّق بصفة أهل السنة والجماعة وبصفة الطائفة المنصورة وبسماتهم فأنه لو أغضبه من عنده فأنه يكتم ويصبر ولا يقول إلا التي هي أحسن، لماذا؟ لأن المُرَادّة والمضادّة تُحْدِثُ تَفَرُّق، والله جل وعلا أمر بالاجتماع ونهى عن التفرق، الإصلاح يكون بالطريقة السّويّة سواء بين الأفراد، أو بين فلان وفلان، أو بين فئة وفئة، أو بما هو أكبر، يكون بالطريقة الشرعية الصحيحة.
فإذن من سماتهم سلامة ألسنتهم، قيل للإمام أحمد لا نراك تتكلم في فلان قال يا عبد الله -يعني ابنه- وهل رأيت أباك يوما يسب أحدا؟ -ليش ما تسبّ فلان وفلان، حتى ولو كانوا- قال: وهل رأيت أباك يوما يسب أحدا؟. وقال الإمام أحمد رحمه الله: ودِدتُّ أنّ جسمي قُرِّضَ بالمقاريض وأنّ الخلق أطاعوا الله جل وعلا. وقال آخر من السلف الصالح رضوان الله عليهم: نحن أنفع لهؤلاء من أنفسهم؛ يريدون أن يقتحموا، ونحن ندعوا لهم أو نأمرهم وننهاهم.
لهذا مسالة أن يكون المرء صاحب عقيدة توحيد وفي كل زمان ومكان تجده صاحب غيبة، ويقدح في فلان، ويسبُّ فلانا، هذا يُظلم القلب ويُصَيِّر في القلب قسوة، والقلب محتاج إلى النور، والمخالفة بالاعتداء بالكلام أيضا بحسب الكلام المعتدى عليه، قد تعدي على صاحب مقام رفيع فيكون أعظم في حقه.
فرق ما بين النصيحة وما بين التشهير في بيان الحق حتى يعلم الناس أن غيره باطل، وما بين السّب والشتم والألفاظ التي ليست من سمات المتحققين بمنهج السلف.(8/34)
إذن فمن سمات أهل السنة والفرقة الناجية كما كان عليه الصحابة رضوان الله عليه أنهم كانوا لا يمارون؛ لأن الله نهاهم عن المراء، ونهاهم عن المجادلة إلا بالتي هي أحسن، عن أهل الكتاب، ماذا قال الله فيهم؟ ?وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ?[العنكبوت:46] (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يعني أحسن ما تحب، فكيف بالمسلم؟ كيف تجادله؟ كيف ترد عليه؟ كيف تخاطبه؟ هذا لابد أن يكون بأسلوب شرعي مَرضي حتى يتحقق سلامة القلب وسلامة اللسان من المخالفة.
في الختام هذه كلمات في هذا الموضوع الطويل؛ لكنها تعطي الحاضرين بعض صفات وسمات بما ينبغي أن يكون عليه أهل السنة والجماعة والمتبعون للسلف الصالح الذين يرجون النجاة، فلا شك أن:
كل خير في اتّباع من سلف وأن كل شر في اتّباع من خلف
وأنّ التزام طريق أئمة أهل الحق والسنة أنه خير في الحال والمآل، وأنّ الصبر واجب، وأنّ التعلم وأخذ الحِيطة للمرء في لسانه وأعماله أنّه سبب في النجاة، فلا يُخَاطِرَنَّ أحد بدينه في مخالفة طريقتهم رحمهم الله تعالى؛ بل ورضي عنهم وأرضاهم.
هذا وفي الختام أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، كما أسأله سبحانه أنْ يوفق ولاة أمرونا للعمل بالحق والدِّلالة عليه، وأن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، وأن يجعل ولاتنا في من خافه واتقاه واتبع رضاه إنه سبحانه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: فؤاد عز الدين
سالم الجزائري
---
([1]) لم أجدها في الأعراف.
([2]) هود:2، فصلت:14، الأحقاف:21.
([3]) انتهى الوجه الأول.
([4]) لم يذكرها الشيخ.(8/35)
فتنة التَّكفير
لقاء مع قناة المجد
[على إثر تفجيرات الرياض]
[مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
راشد الزهراني (مقدِّم): الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وأهلا ومرحبا بكم في لقاء متجدد في ملفات خاصة والتي تستضيف في هذا اللقاء معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ....
معالي الشيخ .... أولاً أول الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن: هل هذه الأحداث وهذا العنف الذي يقع سواء في بلادنا أو في غيرها من البلاد الإسلامية يكون وراءه أفكار أعني معينة أم أنه يهدفون من ورائها إلى إصلاح أو قضايا أخرى؟
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فلا شك أن تاريخ الانحراف في تاريخ المسلمين قديم، هو ابتدأ في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين خرج رجل يتَّهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه لم يعدل في قسمته، آل الأمر إلى خروج طائفة تسمى طائفة الخوارج يتعبدون الله جل وعلا بالقتال غير المشروع للمسلمين ولغير المسلمين، وهذه الطائفة –حسب معتقدها وحسب ظنها وحسب ما تريد- ترمي إلى إحقاق الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان من ذلك في ظنهم قتل عثمان بن عفان وقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهما صاحبا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وممن شهد لهما النبي صَلَّى الله عليه وسلم بالجنة، فقتلوهما يريدون من ذلك الأجر والثواب.
فأحيانا يأتي الشيطان إلى المتلبس بالدين الراغب في نصرة الدين يأتيه من هذه الجهة؛ من جهة غيرته، من جهة ديانته، من جهة حبه للإسلام للمسلمين حبه لكتاب الله، حتى يحرفه من هذه الجهة فيقوده إلى الغلو والانحراف.(9/1)
فإذن هذه الأحداث الأخيرة ليست جديدة في الواقع على الأمة الإسلامية وإن كانت في تصويرها وهيأتها وشكلها وعُنْفها فيها بشاعة كبيرة ربما قلت أن مرت على الأمة الإسلامية؛ لكن أساساتها وهي الفكر المنحرف الغالي الخارج عن طريقة أهل السنة والجماعة الذي ينحو إلى التكفير؛ تكفير المسلمين أو تكفير أصحاب المعاصي أو تكفير الحكام أو تكفير الدول، وينحو إلى الغيرة غير المنضبطة بضوابط الشرع هذا الانحراف الكبير والجرأة أدى إلى مثل هذه الأعمال الكبيرة، فنحن حينما ننظر إليها ننظر إلى تاريخ لأمثال هؤلاء وليست وليدة اليوم ولا البارحة.
راشد: أحسن إليكم معالي الشيخ يعني أترون أن من الأسباب التي كان بسببها هذه التفجيرات هي قضية أن بعض من فعل هذا يحمل فكر التكفير يا شيخ؟
الشيخ: لاشك أن الأحداث هذه سبقتها أحداث في الرياض من سبع سنوات، وقد قابلوا الذين فجروا في الرياض من سبع سنوات وبيَّنوا أنهم يدينون بالتكفير حتى تكفير العلماء فضلا عن تكفير غيرهم.
فهذا الأمر مستقر وإن لم يظهروه؛ لأن كون الإنسان يقدم على مثل هذه الأعمال الإجرامية البشعة لابد أن يكون عنده دافع يبرر له ما فعل، وهذا التبرير لا يكون إلا بتكفير الناس أو تكفير بعضهم، ذلك يؤول إلى عدم قبول العلماء وعدم الرضا عن المجتمع أوالرغبة في الجهاد بحسب ظنه الجهاد -غير المكتمل الشروط الشرعية-.
راشد: وهذا ما يفسر معالي الشيخ حينما كنتم نائبا لوزير الشؤون الإسلامية بعقد دورة بعد أحداث الرياض في مدينة الرياض عن التكفير والوسطية؟(9/2)
الشيخ: هذا صحيح لأن موضوع التكفير دائما متجدد في الأمة هو مرتبط بفكر الخوارج على العموم، والنبي صَلَّى الله عليه وسلم حينما تحدث على الخوارج قال «لا يزالون يخرجون حتى يقاتِل آخرُهم مع الدجال» فظهور الخوارج ليس مقتصرا على الزمن الأول، (لا يزالون يخرجون) لكن في أثواب جديدة، ويجمعها أنّهم يذهبون إلى الغلو، الغلو في مجالات ومنها قضية التكفير، فمسائل التكفير هذه هي السبب الذي يُقنع به الشباب هؤلاء أو من ينحو هذا المنحى يقنع به نفسه أن تصرفه سليم، فهو ينحو إلى شيء يريد تبريرا له، وهذا الذي نحى إليه هو من جهة نفسية يكون إما من واقع المجتمعات الإسلامية، أو تسلُّط غير المسلمين على المسلمين في أنفسهم أو في بلادهم، أو من حيث كثرة المنكرات الموجودة، أو من حيث تَعَطُّل بعض أنواع الجهاد ونحو ذلك.
راشد: أحسن الله إليكم، معالي الشيخ مسائل التكفير يعني واضحة وبينة في كتاب الله وسنة رسوله، ويعني في مناهجنا التعليمية والحديث على هذا الموضوع وخطورته؛ لكن مع هذا كله وقع بعض الانحراف ما هو السبب معالي الشيخ؟
الشيخ: أولا أحب أن أقدم أن التكفير حكم؛ التكفير معناه أن تكفر مسلما، والتكفير أتى في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى الله عليه وسلم، تكفير من كفره الله جل وعلا أو تكفير المسلم الذي ارتد عن دينه هذا حكم موجود في الكتاب والسنة يقول الله جل وعلا ?وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ?[التوبة:74]، وقال ?كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ?[آل عمران:86، 90]، وقال ?مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ?[المائدة:54]، والنبي صَلَّى الله عليه وسلم بين أن من المرتدين «التَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلجَمَاعَةِ».(9/3)
فإذن حكم التكفير موجود، ومنهج أهل السنة والجماعة أن الردة قد تعرض على المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إما بقول أو فعل أو اعتقاد أو شك، وهذا هو الذي دونه أهل العلم في كتب التفسير وكتب العقائد وكتب الفقه من أتباع الذاهب الإسلامية جميعا؛ لكن هذا الأمر الذي هو موجود في التفاسير وموجود في الأحاديث وموجود في الشروح وموجود في كتب الفقه حتى لا يوجد مذهب إلا وهناك باب خاص في هذا الأمر اسمه باب حكم المرتد.
هذا التكفير مع صعوبته وكونه من أواخر أبواب الفقه خاض فيه من لا يعرف أحكام الصلاة التفصيلية ولا أحكام الزكاة التفصيلية، وهو أصعب الأبواب من جهة الفهم وجهة التطبيق.
باب التكفير على العموم لا يليه أفراد الناس، إذا كان الحكم في مسائل البيوع الموجودة في كتب الفقه يليه أو يتولاه من هو متخصص في البيوع، أحكام الشركات من هو متخصص في الشركات، أحكام الأوقاف والوصايا والمواريث من هو متخصص في الفرائض والوصايا والمواريث، الجنايات من يحكم بأن هذا يقتل وهذا يقتص منه وهذا يعطى الدية وهذا إلى آخره من الأحكام الشرعية؟ من هو مختص في أحكام القضاء أو من أهل الفتوى، فكيف بالحكم على مسلم بالردة، لاشك أن هذا الأمر من أصعب ما يكون من جهة الفتوى ومن جهة الحكم، ولذلك الحكم فيه ليس للأفراد، وليس هو مما يطالب كل مسلم أنه يطبقه، أو أنه يقول أنا أحكم على فلان وفلان بحسب ما أرى، هذا مرتبط بوجود شروط ووجود موانع ووجود أحكام تفصيلية له، فلهذا أهل العلم يجعلون أبواب التكفير مُوكَلَة إلى القضاة فقط وليست إلى عامة الناس، ولا حتى أفراد طلبة العلم أنه يقول فلان ارتد وفلان خرج من دينه هذا كافر ونحو ذلك، هذا حكم مختص بالقاضي، القاضي هو الذي يحكم، أو المفتي الذي اجتمعت فيه شروط القضاء، المفتي الذي يحسن القضاء يعني إثبات الشروط وإثبات انتفاء الموانع.(9/4)
لهذا نقول: إنّ التسارع الذي حصل في هذه المسائل، أنا لست مع من ينفي هذا الحكم الشرعي، لاشك أن هذا خطورة أنه نقول: إنه لا يوجد باب اسمه باب ردة، ولا يوجد أن المسلم يمكن يرتد، ولا يصح أن نكفر. حتى هناك من قال: لا تكفروا اليهود والنصارى لا تكفروا غير المسلمين، هذا مناقضة لأحكام الله جل وعلا في كتابه وأحكام النبي صَلَّى الله عليه وسلم؛ لكن المسألة الحكم موجود في الكتاب والسنة؛ لكن من يلي هذا الحكم؟ أهل العلم ذكروه، لكن من يلي هذا الأمر؟ هنا يأتي ضبط المسألة، فإذن المسألة من جهة فقهية ومن جهة عقدية موجودة.
المسألة تعرض لها في كتب العقائد -مسائل التكفير- وعرضها في كتب العقائد من جهة الاعتقاد لا من جهة الحكم؛ لأن الأحكام في الواقع هذه مرتبطة بالفقه، العقيدة فيها بعض أنواع التكفير لتعتقدها؛ يعني من هو الذي يكفر؟ ما هي الأعمال المكفرة ما الصفة؟ حتى يحذر منها المسلم ويعتقد ما قاله الله جل وعلا وقاله رسوله صَلَّى الله عليه وسلم.
من هنا بدأ الخلل بعد التفجيرات التي ذكرتها سابقا في الرياض وعلى إثرها عقدها في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد عدة محاضرات ودورات تتعلق بإيضاح مسائل الغلو والدعوة إلى الوسطية وإيضاح مسائل التكفير، ومنها الدورة التي ذكرتها في مطلع السؤال.(9/5)
هذه الدورات تهدف إلى بيان ما يتصل بهذه المسألة وتحذير الشباب من أن يتعاطوا هذه المسألة، وأنا بحكم قربي من طائفة كبيرة من الشباب وطلبة العلم من قديم أجد أنّ كثيرا من الشباب يرومون الخوض في هذه المسائل ويأنسون لها، وهذا خلاف ما يجب عليهم الواجب عليهم أن يدخلوا ويبحثوا على المسائل التي تنفعهم في دينهم أما المسائل التي هي من اختصاص القضاء أو من اختصاص المفتي أو نحو ذلك ما فيه أحكام كبيرة، هذا ليس من الحسن أن يدخل فيه أفراد الناس؛ بل يسبب ضلالا وانحرافا في الطريق، الحظ أيضا أن دخول الناس في هذه المسائل سيؤول إذا لم يُحَدّ منه إلى أن يكفر بالهوى يعني شخص ما أعجبته تصرفات شخص آخر أو قال أن هذا التصرف يلزم منه أنه يكره الدين، هذا التصرف يلزم منه أنه يفعل كذا، فيكفِّر باللازم، وهذا وجد في بعض البلاد الإسلامية بعض الفئات والجماعات تكفر باللازم؛ يعني يقول يلزم من كلامه أنه يكون كذا وكذا وكذا، وكما يقول أهل العلم من الأصوليين وغيرهم لازم المذهب ليس بمذهب وناقل الكفر ليس بكافر، قد يكون بعض الكلام الذي قد يؤاخذ صاحبه عليه لكن لا يبلغ به هذا المبلغ.
من المسائل أيضا التي أدت إلى فكر التكفير بشكل عام الخوض في مسائل الحكم بغير ما أنزل الله، وهذا الحكم بغير ما أنزل الله معروف تفاصيل الأحكام عليه في كتب أهل العلم في العقيدة والحديث والفقه والتفسير أيضا منذ القديم، تكلم فيه ابن عباس رضي الله عنهما وتكلم فيه أئمة الإسلام؛ لكن الآن تجد الشاب بعض الفئات خمسة عشر، سبعة عشرة سنة، عشرين، خمسة وعشرين سنة ما عرفوا أحكام الفقه ولا أحكام العقيدة تجد أنه يجادل في مسائل الحكم بغير ما أنزل الله فجعلت هدفا لإحياء قضايا التكفير عند بعض الجماعات والفئات.
راشد: السبب معالي الشيخ؟ يعني هؤلاء الشباب في هذا السن يتركون العلوم الواضحة البيِّنة ويقدمون على مثل هذه الأشياء؟(9/6)
الشيخ: أتصور أن نفسية الشاب وحبذا أيضا في هذا المقام أنه لو يستعان بأطباء أطباء النفس طبيب متخصص طبيب نفسي في عرض وجهة النظر؛ لماذا يجنح الشاب إلى أصعب الأمور، إلى التكفير، إلى قتل النفس، إلى هذه المسائل التي فيها انحراف وجرم كبير لماذا يلجأ إليها.
أنا في تصوري من واقع التجربة أن الشاب عنده رغبة في إثبات نفسه، وإثبات غيرته على الدين، وعنده رغبة في أن يقول للصّح صح وللغلط غلط بمنظوره هو، فيندفع في وجهته في هذا صح وهذا غلط يؤديه بأن هذا إيمان وهذا كفر، فالشاب يريد الإثبات يريد التميز، فالآن تصرفات الشباب بشكل عام، حتى الشباب الذي عنده تصرفات شهوانية أو أشباه ذلك في ملابسه مثلا أو في سلوكه أو في أعماله أو في هيئاته أو نحو ذلك، هو يبحث عن التميز، هذا صراع نفسي في داخله، يبحث عن التميز، لفت النظر إلى آخره، هذه قد تلبس أيضا ثوب الدّين، فيذهب إلى هذه المسائل الصعبة التي يَبرز فيها بحسب ظنه ويترك المسائل التي تنفعه في دينه لأنها لا تُبْرِزه؛ تجعله شخص غير صاحب رؤية مثلا، أو كذا؛ لأنه يتكلم، إذا بحث في مسائل العقيدة العامة في الإيمان وأركان الإيمان ونحو ذلك مسائل الصلاة، العبادة، الطهارة، العبادات، أحكام بعض المعاملات؛ العِشْرَة، التعامل، الاجتماعيات؛ البر، طريقة التعامل؛ الصلة، الحقوق؛ حقوق نفسه عليه، حقوق والديه، حقوق أقاربه، حقوق ولاة الأمر، حقوق أهل العلم، حقوق المسلمين، يجد أن هذه مسائل تفرض عليه أشياء ولكن لا تعطيه تميُّزا، فلذلك يجنح إلى شيء يثبت به صحة إيمانه وغيرته على الدين وصحة محبته للإسلام، فيجنح إلى أشياء صعبة مثل قضايا التكفير أو الجهاد الذي لم تكتمل شروطه الشرعية.(9/7)
راشد: ذكرتم معالي الشيخ في لقائكم بما يتعلق بالتكفير أنه هناك شروط وموانع؛ يعني كون إنسان قد ينتقل من الإسلام للكفر هذا ثابت كما في كتب الفقه؛ لكن ما هي الشروط التي يأخذ بها القاضي أو الفقيه أو العالم حتى يحكم على إنسان بالكفر.
الشيخ: أولا نعرِف أن أحكام الشريعة في تحقيقها منوطة بشروط ومنوطة بموانع، هذا والأصوليون يجعلون من الأحكام الوضعية السبب والشرط والمانع إلى آخره، فهي مرعية في جميع الأحكام، إذا نظرنا للطهارة نقول شروط صحة الوضوء كذا، الصلاة شروط الصلاة كذا، النواقض الوضوء هذا، مبطلات الصلاة فيه عدة أشياء، وهكذا في الحج، في الزكاة، في مسائل كثيرة، حتى البيوع له شروطه النكاح له شروط أركان إلى آخره، كيف هذه المسألة العظيمة مسألة إخراج مسلم من دينه، أو الحكم على إنسان بأنه ليس بمسلم ليس بمؤمن، هذا ما فيه شك أنه سيحتاج إلى قواعد شرعية، الشريعة إذا كانت مسائل العبادات التي لا تؤدي إلى صراع بين الناس جعلت لها قواعد وشروط وموانع، فكيف بهذه المسألة العظيمة.
لهذا أهل العلم قالوا: إنه لا يجوز إخراج؛ لا يحل إخراج مسلم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله من دينه إلا ببينة في الوضوح بمثل البينة التي دخل بها إلى الإسلام. هو دخل بشيء واضح أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإخراجه من هذه الشهادة لابد أن يكون بشيء واضح في ذلك، ولذلك جعلوا هناك شروط وهناك موانع لابد من الانتباه لها.(9/8)
من الشروط أن يكون فيما أتى من قول قاصدا للقول، قاصدا للفعل، أن يكون عنده علم بما يقول، ما يكون مثلا جاهل، ما يكون مثلا نشأ في مكان بعيد لا يعرف الأحكام، ما يكون عنده شبهة، أيضا لابد من إزالة الشبه التي عنده في الحكم عليه؛ لأنه احتمال عنده تأويل، احتمال عنده فهم خاطئ، احتمال احتمال، احتمال، فإذا وردت الاحتمالات على قول أو فعل أو سلوك فلابد من أن يكون هناك مرجعية، القاضي يستفسر منه، أن فيها إثبات أو المفتي يستفسر منه ويجاوبه.
كذلك أن التكفير يكون بمجمع عليه التكفير ما يكون بالمسائل الخلافية، فإذا كان هناك مسألة اختلف فيها العلماء من المسائل.
شخص يقول أن هذا الأمر مكفر والآخر يقول لا، ولا دليل واضح من الكتاب والسنة ينصر أحد القولين، فإذن المسألة صارت اجتهادية في الحكم على مسألة بالردة هذا لا تكفير فيها؛ لأن المسألة التكفير إخراج من الدين فلابد أن يكون بشيء واضح مجمع عليه متفق عليه، أما المسائل المختلف فيها فكما هو معلوم أنه لا تكفير على ذلك.
العلماء؛ علماء الدعوة السلفية بشكل عام خاصة فيما تأصل من المدرسة عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب ومن تبعهم رحمة الله على الجميع لحظوا هذا في توسع الكتب الفقهية في أحكام الردة، إذا نظرت مثلا إلى كتب فقهاء السادة الحنفية تجد أن باب حكم المرتد طويل وفيه تفصيلات حتى إنهم يحكمون بالكفر على من صغر المصحف فقال: مُصَيْحَف، أو صغّر المسجد فقال: مُسَيْجِد، أو قال لفظا أو عمل عملا يوهم أو يُظنه امتهان أو إهانة للإسلام أو عدم تعظيم الواجب، كذلك فقهاء السادة الشافعية، كذلك فقهاء السادة المالكية، وفقهاء الحنابلة رحمة الله على الجميع، توسعوا في أبواب الفقه في هذا الأمر.(9/9)
جاءت أئمة الدعوة السلفية لحظوا هذا الأمر، وهم الآن يأتون يعني بعض من لا يفهم حقيقة المذاهب وحقيقة أئمة الدعوة السلفية خاصة شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن تبعهم يظنون أنهم هم الذين وسعوا التكفير، وفي الحقيقة هم الذين ضيقوه؛ لأنك إذا وجدت الشروط تجد الذي يفصل في الشروط والموانع تجد فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، حتى أنه نفى أن يكون هناك تكفير لمتأول أو أن يكون هناك تكفير بما ليس بمجمع عليه.
هنا لما جاء الفقهاء وجعلوا من نواقض الإسلام من شك في كفر الكافر، جاء بعض الناس وقالوا كفر الكافر هذا يعني إذا حكمت على واحد بالكفر وشكّ في كفره أحد فالذي شك هو كافر، بيَّن شيخ الإسلام ابن نيمية وابن القيم وأئمة الدعوة أيضا بينوا على أن الكافر الذي أراده العلماء بهذه اللفظة من هو؟ هو الكافر الذي كفّره الله وكفّره رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنص أو كان تكفيره مما هو مجمع عليه مما هو معروف معلوم من الدين بالضرورة أن يكون خارجا من الملة، فأما من كان اجتهاديا الحكم عليه أو حكم عليه البعض وترك البعض فهذا ما يدخل في مثل هذه القواعد.
إذن علماء الدعوة ضيقوا الدائرة، إذا نظرت مثلا إلى كتاب ابن حجر العلامة ابن حجر الهيتمي الشافعي، الفقيه الشافعي المعروف له كتب مشهورة وكان مفتيا في مكة، له كتاب خاص بالمكفرات كبير جدا عنوانه (الإعلام بقواطع الإسلام)، تكلّم فيها على المكفرات وعن أنواع النواقض؛ لكن لما أتى علماء الدعوة ضيَّقوا ذلك في المشهور وبعد وجود الشروط وانتفاء الموانع، وذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، طبعا ابن حجر الهيتمي في القرن التاسع والعاشر الهجري.
بعد ذلك بينوا أن المسألة لابد أن تضيق ليست لكل أحد.(9/10)
فإذن موجود في تراث الفقه الإسلامي وفيما نص عليه الفقهاء موجود سَعَة فيما يكون به المسلم مرتدا، جعلوا التكفير بالقول بالفعل بالاعتقاد بالشك، فيه أشياء كثيرة.
لما أتت الدعوة السلفية ولاحظت هذا الأمر وكان مقصدها الأصل هو في توحيد العبادة، توحيد العبادة عبادة الله جل وعلا وحده وعدم صرف الدعاء لغير الله جل وعلا والاستغاثة بغير الله أو الذبح لغير الله ونحو ذلك، أتوا إلى مسائل مشابهة فوجدوا أنه يُخشى من التوسع في هذا الأمر فضيقوا الخناق، بعض الأتباع نجده في بعض البلاد الإسلامية أو حتى في هنا ما مضى ربما نحوا إلى هذا المنحى فيردهم أهل العلم، فلذلك أهل العلم الراسخون المتحققون بفهم الكتاب والسنة وبفهم ما كان عليه سلف الأمة لا يوسعون دائرة التكفير بل يضيقونها من أجل أن إثباتها ليس بالأمر السهل.
راشد: ترتب عليها أحكام؟
الشيخ: ترتَّب عليها أحكام شرعية، وفي إقامة الحكم عليه، وفي أحكام أهله إلى آخره، حتى وجد أن من يجعل بعض المسائل الخلافية تترتب عليه الأحكام.
مثلا مسألة ترك الصلاة، ترك الصلاة كما هو معروف عندا الراجح من أقوال أهل العلم أن تارك الصلاة تهاونا أو كسلا أنه يكفر لأجل الحديث «من تركها فقد كفر»، المسألة خلافية تعرف الشافعية لا يكفرونه وهناك مناظرة، وكذلك الحنفية وغيرهم، وهنا أتى من طرد هذا الأمر إلى أن قال: من ترك الصلاة فإنه ينفسخ نكاحه تلقائيا، رتّب عليه أحكام، وهذا ليس بجيد؛ لأن:
الأحكام تترتّب:
· إما بمُجْمَع عليه.
· أو بحكم حاكم شرعي أو بحكم قاض هو الذي يرتب؛ لأنه ينبني على الحكم أنه لابد يزيل عليه الشبهة.
لذلك الفقهاء حتى فقهاء الحنابلة رحمهم الله حينما تكلموا عن مسألة تارك الصلاة متى يكفر ومتى يحكم عليه، جعلوها قالوا: يستتاب ويدعى إلى الصلاة فإن أصر حتى ضاق وقت الثانية عنها، ثم قالوا: إنه يدعوه إمام أو نائبه ويستتيبه ثلاثا فإن تاب وإلا قتل.(9/11)
إذن المسألة هنا واحد يجيء ثلاثة أيام ويقال له: صلّ وإلا-جُليت عنه الشبهة- هذا ليس عنده تأويل ثم بعد ذلك صل ثلاثة أيام وإلا ترى السيف، ثم يختار هذا الأمر الصعب على الصلاة، فهنا رجع إلى شيء في نفسه بين أنه يكره هذا الأمر أصلا أو يجحده، أو أنه لا شبهة عنده وإنما هو استكبار وعدم التزام بالحكم الشرعي.
أنا أقصد من هذا المنحى أن مسائل الشروط والموانع هذه هي التي فصل فيها علماء الدعوة السلفية بشكل خاص، وهم الذين بيَّنوا الكثير من الضوابط على أحكام الفقهاء.
ولهذا لابد من الانتباه إلى أن ما ينسب إلى دعوة الإمام المصلح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى والتي يسميها أعداؤها بالدعوة الوهابية هذه الدعوة هي التي ضيقت ما هو موجود في كتب الفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة ولم توسعه في مسائل التكفير، وإنما نظرت إلى ما هو متفق عليه بين أئمة المذاهب دون ما هو مختلف فيه، والشيخ محمد بن عبد الوهاب له رسالة في هذا الأمر، وكذلك الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب له رسالة، وعلماء الدعوة بشكل عام، شيخ الإسلام وابن القيم رحمهم الله تعالى ورحم علماء المسلمين جميعا أيضا لهم تفاصيل في هذا الأمر.
فإذن هناك شرط وهناك موانع لابد من استيفائها، لا تكفير إلا بمجمع عليه، المتأول الذي له تأويل سائغ المقابل له يرى أن فعله أو قوله أو تصرفه أنه كفر، الآن الخوارج على شدة ما قاموا به قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحاربوا المسلمين وأحدثوا فتنة إلى اليوم، العلماء اختلفوا في تكفيرهم للعلماء في تكفيرهم قولان، ولما سئل عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أكفار هم قال من الكفر فروا؛ يعني رأى التأويل الذي لديهم في هذه المسألة.(9/12)
فتلخيص الكلام أن هذه الشروط والموانع لابد من وجودها لابد من استيفاء الشروط للحكم التكفير وانتفاء الموانع، وهذه ليست لآحاد الناس وإنما يقوم بها القاضي أو المفتي الذي ولي القضاء أو يصلح أن يلي القضاء.
راشد: بما يتعلق دعوة محمد بت عبد الوهاب ذكرت أنها ضيقوا قضية التكفير مع اعتنائهم الشديد بالتوحيد، ما هو السبب؟
الشيخ: السبب التوحيد تخليص للنفس من عبادة غير الله جل وعلا، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى له في موضع كلام يقول حينما سئل هل تكفرون من يعبد البدوي أو يعبد من هو عند قبة الكواز أو أو يعني ممن يعبدون غير الله قال: لا، لا نكفرهم لأجل عدم وجود من ينبههم. ونفى أن يكون حكم عليهم، ولما سئل أنك أنت تحكم على الناس بأنهم كفار قال: سبحانك هذا بهتان عظيم. فهم من أهل العلم الذين جعلوا هذه الدائرة فيما نُصّ عليه في الشرع حكم الله جل وعلا حكم رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أجمع عليه أهل العلم، أما ما اختلفوا فيه فإنهم لا يكفرون؛ بل هناك مسائل هي أقل ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مثلا في موضع -وأنا أطلت هنا على الدعوة لأجل كثرة ما يقال عنها في هذا الزمن مما هو متصل بها الموضوع-، لما أتى إلى بعض المسائل مثل بعض مسائل التوسل بالأحياء أو التوسل بالجاه أو بالحرمة أو نحو ذلك، قال: أنا ما تكلمت في هذه المسائل. في أول دعوته رحمه الله، قال: أنا ما تكلمت في هذه المسائل أنا ما تكلمت إلا فيما أجمع علماء المسلمين على حرمته، أما المسائل المختلف فيها فأنا ما تكلمت فيها. وهذا من فقهه رحمه الله في أول دعوته حتى يبين للناس أنه ليس كل ما نرومه في الدعوة أننا نقوله في كل مكان وفي كل زمان، الدعوة لابد أن تترتب على حسب فقه الأولويات وحسب المكان والزمان إلى آخره، فليس كل مسألة هي حق في نفسها أن تقال في كل زمان وفي كل مكان، لابد من ترتيب الأمور مسائل التكفير لاشك أن الدعوة(9/13)
بحكم دراستي لها ومعرفتي -للدعوة السلفية بالعموم- أنها ضيقت ما في كتب المذاهب، والمجال مفتوح للباحثين والدارسين أن ينظروا، بس كتاب واحد الإعلام بقواطع الإسلام أو باب حكم المرتد في كتب الحنفية رحم الله الجميع، وينظروا هل الدعوة وسعت أو ضيقت.
راشد: شيخ بعض الشباب يقولون: أنتم الآن تقولون لا تشتغلوا بالتكفير وما يتعلق به، مع أن من الأشياء المقررة عندنا قضية أنه لا يتم تحقيق التوحيد إلا بالكفر الطاغوت، فأنا حتى يتحقق توحيدي لابد أن أكفر بالطاغوت وأن أبيِّن كفره للناس، فكيف الجواب عن هذا؟
الشيخ: هنا ما هو الطاغوت؟
الطاغوت هناك شيء معنوي -يعني نعبر عنها بما يناسب المقام-، معنوي وهناك ذاتي، الطاغوت هو عبادة غير الله جل وعلا?فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى?[البقرة:256] (مَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) هذا معنى لا إله، (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) هذا فيها الإثبات إلا الله.
فمن يكفر بالطاغوت يكفر بعبادة غير الله؛ يعني لما تأتي لهذه القضية تقول: ما تقول في عبادة الأوثان؟ ما تقولا في عبادة الأصنام؟ ما تقول في التوجه إلى بشر أو حجر أو جني بالعبادة من دون الله جل وعلا؟ لابد نقول: نكفر بعبادة غير الله جل وعلا، هذا هو الكفر بالطاغوت، الطاغوت هذا لابد الكفر به، هذا ما يكفر به معنى.
ما يكفر به ذاتا –مثل ما ذكر الأئمة – قالوا الطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمسة:
هنا من دعا إلى عبادة نفسه، واحد يقول للناس تعالوا اعبدوني، هناك من دعا إلى عبادة نفسه.
أو دعا إلى عبادة غير الله جل وعلا قال أعبدوا الصنم هذا، اعبدوا الوثن، أعبدوا فلانا من الناس، أعبدوا الجني الفلاني إلى آخره.(9/14)
أو من الطواغيت مثل ما يذكر الأئمة في هذا الحاكم الجائر المغير لأحكام الله جل وعلا، أتى حاكم في بلد ما وقال: لابد أن أمسح آيات الربا من القرآن. يغير حكم الله، أحاديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي تتكلم عن حرمة الزنا أنا أريد أن أشطبها، ما فيه كلام في القرآن على اليهود أنا أريد أن أحذفه، كيف يخرج لنا قرآن مختصر، هذا مغير لأحكام الله جل وعلا، مغير لأحكام الله من جهة –لاحظ كلمة مغيّر- مغير لحكم الله يريد أن يلغي حكما من أحكام الله جل وعلا الذي هو في القرآن.
أما من يأتي يقول: أنا والله أعرف أن هذا حكم؛ لكن أنا أعمل غيره، هذا ما صار مغير، هو ما قال ألغي هذا الحكم هو يقول أنا لن أغيره هو حكم موجود؛ لكن يأتي ويتأول ويقول الزمن فيه كذا وأنا أعمل كذا، والظروف تقتضي أني لا أعمل بهذا وأن أجله وصعب علي تطبيقه ونحو ذلك، فهذا يدخل في منحى آخر قد يكون فيه معذورا وقد لا يكون معذورا بحسب الحال.(9/15)
أقصد من هذا الكلام أن العقيدة الإيمان بالله والكفر بالطاغوت هذه عقيدة نفسية قلبية، فأنت تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره أليست هذه هي أركان الإيمان؟ فإذن الإيمان بهذه الأركان الستة يتحقق به الإيمان، فنأتي إلى الكفر بالطاغوت أيضا هو كفر بما يعبد بعبادة غير الله لا إله يعني لا إله لا معبود مستحق للعبادة إلا الله جل وعلا، المعبودات كثيرة فيهم من عبد الشمس والقمر ومن عبد الإله الفلاني والإله الفلاني أو الشيخ فلان أو حتى الأنبياء أو بعض الملائكة أو نحو ذلك كما هو معروف في التاريخ وفي الواقع، لابد أنه يكفر بكل معبود سوى الله جل وعلا بعبادة غير الله جل وعلا؛ يعني من أتى يقال له أنت تؤمن أو تسهّل في عبادة غير الله إذا قال لك والله ما فيه مانع الناس يعبدون كل واحد زَيْ ما يبغى، فهنا لم يؤمن حقيقة بالله ولم يكفر بالطاغوت، والله جل وعلا بيّن في كتابه هذه المسألة أتم بيان وسيما في سيرة إبراهيم الخليل كما قال جل وعلا في سورة الزخرف ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ?[الزخرف:26-28] هذا الأمر هو المنوط بكلمة التوحيد لا إله إلا الله.
راشد: معالي الشيخ ذكرتم في أكثر من مناسبة أنه عند الاختلاف في قضية من القضايا يُرجع إلى الأمر العتيق وإلى كلام السلف قبل أن تقع الفتنة، الشباب يذكرون في قضية الولاء والبراء وهي جانب من الجوانب التي أيضا أنشأت قضية التكفير كالتعامل مع الآخر، مع اليهود والنصارى ونحو ذلك يعني حينما نرجع إلى كلام العلماء، كلام بين وواضح في قضية من والى المشركون ومن والى اليهودي والنصراني، هل فعلا يا شيخ الكلام واضح وبين في مسألة الولاء والبراء؟(9/16)
الشيخ: الولاء والبراء هذه قضية تحتاج إلى جلسة طويلة أو إلى حلقة مستقلة لأن أهل العلم يفهمون هذه المسألة بلا شك، وهي مفصلة في الكتاب والسنة وفي كلام أهل العلم؛ لكن الناس خاضوا فيها من قبيل الغيرة، فرعوا الواقع فأثر الواقع عليهم فضخموا أو اعتقدوا أشياء أكثر مما أذِن بها الشرع.
فمثلا مسألة الولاء والبراء هذه الولاء، ما هو؟ والبراء ما هو؟
أولا لفظ الولاء والبراء موجود في الكتاب والسنة؛ يعني بعض الناس يقول هذا محدث جاء من الخوارج وبعدين جاء في الدعوة الإصلاحية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هذا موجود في الكتاب والسنة ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالذِينَ آمَنُوا?[المائدة:55]، ?إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ?[الزخرف:26-27]، الولاء والبراء موجود؛ لكن الولاء ما معناه؟
الولاء للدّين يعني أن تعطي محبتك ونصرتك وولاءك -الولاء الداخلي- لدين الله جل وعلا لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا أصل الدين أن تعطي ولاءك لله محبتك ونصرتك، ما معنى أن أسلمت وأمنت؟ ولاءك وحبتك وانتماءك لهذا الدين.
البراء هو كرهك وبغضك لما ينافي هذا الدين من الاعتقادات الكفرية والمذاهب الكفرية والمذاهب الضالة، فهنا تتبرأ من عبادة غير الله جل وعلا، وتعطي الولاء لعبادة الله جل وعلا.
فإذن الولاء والبراء أو الحب والبغض أو الموالاة والمعاداة هذه ألفاظ يستعملها العلماء في هذا المقام وهي متساوية، والولاء والبراء والحب والبغض؛ الحب في الله والبغض في الله، الموالاة في الله والمعاداة في الله، هناك رسائل وكتب كثيرة في هذا الموضوع.(9/17)
راجعة في الأساس إلى حب الدين وبغض الكفر لأنها عقيدة، الولاء معناه مولاة الدين في الله جل وعلا حب الله جل وعلا حب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبغض الكفر، يتضمن ذلك أنه يحب من أحب الله جل وعلا ويبغض من أحب الكفر ومن أبغض الله جل وعلا، يتضمنه، يتضمن عقيدة أنك تحب الله وتكره الكفر تكره عبادة غير الله تحب من يحب الله جل وعلا وتكره من يكره الله جل وعلا أو يحب الطواغيت أو عبادة غير الله جل وعلا أو ما أشبه ذلك.
فإذن هذه متضمنة أما مسألة موالاة غير المسلم فهذه لها تفصيلات كثيرة، ليست كل علاقة ومعاملة مع غير المسلم أو مع اليهودي أو مع النصراني أنها تعتبر مولاة، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه النصارى واستضافهم؛ استضافهم في المسجد، أتى اليهودي وزاره وقَبِل دعوة اليهودي في بيته، ولما مرض غلام يهودي كان يرجو عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إسلامه زاره في بيته.(9/18)
فإذن المسألة؛ مسألة التعامل لها أحكامها التفصيلية، كذلك مسألة الإجارة، مسألة أنه يعمل وتستأجر غير المسلم هذه لا علاقة لها بالموالاة، من تزوج امرأة غير مسلمة -يعني كتابية- فأحبها هل يمنع منه، الشريعة أباحت أن يتزوج المسلم غير المسلمة بشروطها المعروفة في كتب أهل العلم، والآية في سورة المائدة كما هو معروف، هل من أحب امرأته النصرانية يعتبر مواليا للنصرانية، مواليا لدين النصرانية، أو والى النصارى أو نحو ذلك؟ لا، لأن هذه مسائل محبة طبيعية، عامَل تاجر من التجار ونفعه في بلاد أي ملة كانت ونفعه وصار في قلبه له شيء من المودة الدنيوية في قلبه لأنه نفعه، طبيب بفضل الله جل وعلا أنقذ مسلما فتعلق به، هذه مسائل التعامل ليست قادحة في الولاء والبراء؛ بل هذه من المقتضيات الطبيعية، لكن إذا كانت المودة راجعة للدين فهذه هي القادحة؛ يعني يود يهودي ليهوديته، يحب امرأته النصرانية ما لأنها معه أو لأنها جميلة أو لأنه ارتاح معها لا، لأنها نصرانية لنصرانيتها، فإذن رجع هذا من محبة لشيء وصار محبة للدين، فهنا إذا دخلنا في الأمور الدينية العقدية انتقلنا إلى الموالاة والمعاداة الشرعية أو الدينية.
راشد: وهذا أي يفسر كلام محمد بن عبد الوهاب في النواقض، حينما ذكر أن من نواقض الإسلام المعاونة للمشركين ونحو ذلك؟
الشيخ: هذه لها تفصيل معاونة المشركين في الناقض الثامن من نواقض الإسلام لها تفصيل آخر، أنا قصدي هنا التعامل نوعية التعامل كيف تكون هذه لا علاقة لها بالموالاة.(9/19)
انظر مثلا إلى قصة حاطب رضي الله عنه حاطب لما سمع بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيذهب إلى مكة غازيا كتب بسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل مكة، كتب بالسر أن محمدا بن عبد الله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ سيأتيكم فخذوا حذركم الآن أعد العدة سيأتيكم، هذا نوع موالاة ما فيه شك موالاة لهم؛ لكن هل هذه صارت مكفرة له؟ أو يعتبر أعان المشركين على المسلمين إعانة كفرية؟ هنا نأتي إلى الحديث لما أكتشف أمره أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا فإنه قد نافق، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يا حاطب ما حَمَلَكَ على هذا؟» المسألة فيها اشتباه أن يكون لقصد الدنيا أو لقصد الدين:
إذا كان هو أفشى بالسر رغبة في الدين أو لحماية دين المشركين أو لحماية ملتهم أو لحماية بلدهم أو نحو ذلك هذا له شأن.
وإذا كان قصده نفسه أنه ينقذ نفسه أو دنياه أو ماله أو نحو فهذا له شأن.
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استفصل منه فدل على أن مثل هذه المسائل حتى في الموالاة موالاة المشركين تحتاج إلى استفصال وليست كفرا كما يزعم بعض الناس أن كل أنواعها كفر، لا، تحتاج إلى استفصال.(9/20)
فقال هنا «يا حاطب ما حَمَلَكَ على هذا؟» فقال: يا رسول الله والله ما حملني على هذا محبة للكفر بعد الإسلام؛ لكن وما من أصحابك أحد إلا وله يد يدفع بها في مكة عن أهله وماله وليس لي يد فأردت أن يكون لي بها يد أدفع بها عن مالي في مكة. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «صدقكم» ثم قال «إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»، نزلت فيها أول سورة الممتحنة كما هو معروف في قوله جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1] في حاطب فهنا الحظ في الآية أنه قال (لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) فأثبت فعله نوع موالاة ثم قال (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ)، (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ)، فهذا الفعل الذي فعله حاطب إلقاء بالمودة؛ لكن مع ذلك قال أهل العلم من المفسرين وعلماء التوحيد قال ناده باسم الإيمان قال (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا) قال ? لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ?[الممتحنة:1] الآيات، فإذن لم يمنع هذا الفعل من بقائه على اسم الإيمان فهو لازال مؤمنا في ذلك؛ لأجل الاستفصال الذي استفصل منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فإذن مسائل التعامل الولاء البراء ما يصلح الخوض في التكفير بها؛ لأنها مسائل تفصيلية، وتنبني على مقاصد، ولابد من القصد كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة حاطب استفصل منه، الاستفصال ما فائدته؟ الظاهر معروف، الاستفصال لأجل القصد، ما الذي حملك على هذا؟ هذا سؤال عن النية وعن القصد في ذلك، إذا كان ينوي دفع ماله، ينوي حماية نفسه، ينوي كذا وكذا، فضعف من هذا الباب هذا له حكم من أحكام الموالاة والمودة لا تخرجه من الدين.(9/21)
راشد: البعض يا شيخ يقول أنا رأيت فلان، والعلماء لا يكون في أن هذا العمل كفر، ومع ذلك يقول العلماء أن فاعل الكفر قد لا يكون كافرا، هل هذه القاعدة مع إطلاقها معالي الشيخ؟
الشيخ: هناك ثنائية معروفة عند أهل العلم في الأصول وفي العقائد وفي الفقه في أصول الفقه والفقه والعقائد، وهي ثنائية الكفر والكافر، الكفر والتكفير، الفسق والفاسق، البدعة والمبتدع، فليس كل من قام به الكفر كافر، ولبس كل من قامت به البدعة مبتدعا، وليس كل من قام به الفسق فاسقا؛ لأن إثبات هذه الأحكام هذه قضية ثانية، فهناك الآن قول أو فعل أو شك أو إلى آخره مما يعمله الإنسان فيقع في البدعة أو يقع في الفسق أو يقع في الكفر، يعني فيكون فعله بدعة أو يكون فعله فسقا أو يكون فعله كفرا، هنا من يرتب الحكم هذا يحتاج مثل ما قلنا إلى اجتماع الشروط وانتفاء الموانع، فيأتي واحد يعمل ببدعة هو يعرف أنها بدعة، أو عنده تأويل فيها ليس مطّرحا، تأويلا قد يكون مقبولا، مثل -لأن التأويلات مثلا في البدع منها ما هو مقبول ومنها ما هو مطرح- مثل مثلا التعريف في الأمصار يوم عرفة التحريف في الأبصار قال به بعض الصحابة قال به بعض التابعين يعني أوش معنى التعريف أننا نجلس في المساجد يوم عرفة و الناس في عرفة نحرم ونجلس في المساجد مشتركة لهم؛ مشاركة للحجاج، هذا عامة أهل العلم على أنه بدعة؛ لكن قال به البعض مشاركة في ذلك متأولا في هذا؛ لكن في حقيقته أنه بدعة، لكن ما نحكم على من قال به من الصحابة ومن التابعين على أنه [مبتدع]؛ لأجل وجود بعض الاشتباه في هذا، مثل قيام ليلة النصف من شعبان عندنا مثلا الصحيح أنه لا يسوغ لأنه محدث ولم يثبت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا الخلفاء الراشدين ولكن فعلها بعض التابعين وهنا نقول الصحيح أنها بدعة؛ ولكن هل كل من فعلها هو مبتدع ؟ لا.
فإذن هناك مسائل غير متفق عليها التأويل فيها سائغ، فهنا يختلف الأمر.(9/22)
فمثلا بعض المسائل الفسق ممكن ترك النوافل شخص مستديم على ترك النوافل، طائفة من أهل العلم يقول: من استدام على ترك النوافل فهو فاسق، كيف يستديم دائما على ترك نوافل العبادات؛ لا يصلي الصلوات الراتبة، لا يصلي الوتر، لا يصوم صيام التطوع، دائما لا يفعل أي شيء تطوع، بعض العلماء قال من استدام على ترك النوافل فهذا من الفسق؛ لكن هذا فيه نظر أيضا طائفة من أهل العلم يأخذون بحديث الأعرابي الذي أتى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لما علّمه الفرائض الخمس قال: والله لا أزيد على هذا وأنقص فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أفلح إن صدق» فدل على عدم اعتبار مثل هذا الكلام، طبعا العلماء الذين قالوا بهذا الأمر يريدون التحذير من ترك النوافل؛ لكن هنا أيضا ثنائية بين الفسق والتفسيق.
فهناك مسائل لو نطرد فيها –بمعنى نجري فيها – كل ما قال فيه أهل العلم أنه كفر فمن قال به فهو كافر أو أنه فسق فمن قال به فهو فاسق أو أنه بدعة فمن قال به فه مبتدع، هنا لم يستقم لنا شيء لأجل كثرة خلاف العلماء في هذه المسائل؛ ولكن هنا نركز على أشياء:
أولا أن يكون الكفر مجمعا عليه، أو الخلاف فيه مطرح لا اعتبار له عند عامة أهل العلم.
الثاني أن يكون الفسق مجمعا عليه أو أن يكون الخلاف فيه مطرحا لا اعتبار له أو في مناقضة الدليل.
أن تكون البدعة متفق عليها أو أن يكون الخلاف فيها مطرحا لأجل عدم وجود ما يدل عليه من فعل السلف الصالح.
طبعا ما نرى هنا ما انتشر في القرون الأخيرة هذه المسائل، نرى في الخلاف والفواق في ما كان في القرون المفضلة.
راشد: معالي الشيخ للتعاطي مع الأزمة، أنا معي فتوى هيئة كبار العلماء حول حادث التفجير الذي وقع في الرياض([1]) ووقّع عليه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في حينه يقول:(9/23)
ولذا فإن الهيئة تقرر أن هذا الاعتداء آثم وإجرام شنيع، وهو خيانة وغدر، وهتك لحرمات الدين في الأنفس، والأموال، والأمن، والاستقرار، ولا يفعله إلا نفس فاجرة مشبعة بالحقد والخيانة والحسد والبغي والعدوان، وكراهية الحياة والخير، ولا يختلف المسلمون في تحريمه.
يعني التعاطي يا شيخ مع هذه الأحداث يمثل هذه الكلمات يعني البعض يقول أين نحن من قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه إخواننا بغوا علينا، فماذا عن هذا يا شيخ؟
الشيخ: أولا إذا وقعت مثل هذه الأحداث ومثل هذه الجرائم فلا يجوز أن يكون الدفع؛ دفعها بأمر سهل لا يوازي شناعة الفعل؛ لأنه إذا صارت الكلمات التي تنكر بها على هذا الفعل أو على الفاعلين إذا كانت خفيفة فإن هذا يغري الآخرين بالتساهل في الأمر أو يوقعهم في شبهة بأن هذا الفعل فيه تأويل ممكن أنه يكون من جهة أخرى.
فواجب أهل العلم أن يبينوا هذا العمل ومن قام به هل هو عمل إصلاحي أو إجرامي، كونه يكون إصلاحي هذا له شأن، وكونه يكون إجرامي هذا له شأن.
لذلك أهل العلم فيما وقع من أحداث من قديم تجد أن عباراتهم شديدة مثل هذا، مثل كلام مجموعة من أهل العلم في هيئة كبار العلماء، وكان برئاستها في ذلك الوقت سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، لابد أن يكون الرد قويا، أما الذي يأتي ويقول والله نحن تكلم على الفعل ولا نتكلم على الفاعل، أو نقول هذه أفعال صحيح سيئة وأن فيها اعتداء ولكن من فعله يريدون الخير ويريدون كذا، هذا ليست طريقة أهل العلم وليس فقيها ولا عالما من يستعمل هذا الأسلوب، وإنما هذا عنده شبهة في نفسه فيجب عليه أن يزيل الشبهة عن نفسه أولا، ثم يجب عليه أن لا يغش المسلمين بألفاظه الهينة السهلة.
هذه جريمة ما حصل جريمة وكما قال هنا لا تفعلها إلا نفس مشبعة بأمور من الكبائر والمنكرات.
الذي حصل جمع أنواعا من الموبقات:(9/24)
أولا فيه قتل للنفس، والنفس، قتل لنفس الإنسان فجر نفسه ليقتل مسلمين ومعهم غير مسلمين قتل نفسه لأجل ذلك، والله جل وعلا حرم قتل النفس قال ?وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا?[النساء:29]، ?وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ?[البقرة:195]، إذا كان هذا في الإنفاق فكيف بقتل النفس صراحة، وقتل النفس من قتل نفسه بحديدة عذِّب بها يوم القيامة.
الأمر الثاني أن في هذا الفعل قتلا للمسلمين، وقتل المسلم كبيرة من الكبائر العظيمة، يعني بعد الشرك بالله قتل النفس قتل المسلم، والله جل وعلا يقول ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا?[النساء:93]، هو يقتل مؤمنا وهو يعرف أنه سيقتل مؤمنا متعمدا فهذا ذكر الله جل وعلا قال(فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)، هذا النوع الثاني قتل المسلمين.(9/25)
الثالث قتل لمن لا يستحق القتل شرعا من المعاهدين، أو المستأمنين، أو أهل الذمة، أو من لهم أمان بتأمين ولي الأمر، أو بتأمين المسلمين لهم، أو قدموا لغرض من الأغراض، والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، فضلا عمن أمّنته الأمة وأمّنته الدولة وأمنه ولي الأمر أو جاء بكفالة أو ذلك هذا لا يسوغ الاعتداء عليه، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة»، كذلك حكم المستأمن والذمي والمعاهد، فمن بيننا وبينه عهد يجب أن نوفي بالعهد ? يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ?[المائدة:1]، وقال جل وعلا ?وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاَ?[الإسراء:34]، حينما قدِم هل هو قدم على أنه سيُقتل؟ لو علم هذا ما أعطانا هذا الأمر لكن أعطيناه عهدا أنه سيأتي لعمل أو يأتي لشيء وهو سالم، فلا يجوز لمسلم ولا يحل له أن يخفر العهد، وخيانة العهد من خصال المنافقين ليست من خصال المسلمين، فآية المنافق ثلاث ومنها وإذا عاهد غدر، فالغدر في العهد فهذا ليس من سمة المسلم بل من سمة المنافقين.
كذلك فيها الاعتداء على أموال المسلمين، الآن هذه الأرواح التي أزهقت والموال التي أتلفت ونحو ذلك، أموال من؟ أموال المسلمين هي في دور مستأجرة لمسلمين إلى آخره فأصابها ما أصابها من الدمار وحرمة المسلم في دمه وماله وعرضه معروفة، وأكدها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته يوم عرفة، إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا كما في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.(9/26)
كذلك فيها سلب للأمن ورفع للأمن الذي جعله الله جل وعلا من مقاصد الشريعة، من مقاصد الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة تحقيق الأمن في حياة الناس، وهذه منَّ الله جل وعلا بها على عباده في قوله تعالى في سورة النور ?وَعَدَ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمْلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا? ثم جاء بالنتيجة ?يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا?[النور:55] إذن تحقيق الأمن مقصد من مقاصد الشريعة، الشريعة جاءت لتحقيق الأمن، الذي ينتج عنه عبادة الله جل وعلا وحده لا شريك له، وينتج عنته الخيرات وإزالة المنكرات وانتشار الدعوة وانتشار الخير والإصلاح ونماء الأمة وقوة الأمة وما أشبه ذلك، لهذا الحظ في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تسير الضعينة من العراق إلى مكة لا تخشى إلا الله» لاحظ أنه علّق الأمن بإتمام الأمر (والله ليتمن الله هذا الأمر حتى) النتيجة إيش هي؟ الأمن، لهذا جاء حد الحِرَابة في الشريعة، نقول حد الحِرَابة، كثير من الناس ما يفهم ليش سمي حد الحرابة ؟ الله جل وعلا يقول ?إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِيَن يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا?[المائدة:33] الآية، لماذا جعل الإفساد في الأرض إخافة السبيل تنظيم جماعة من الناس على فعل ما جعل حرابة؟ ليش كان بنص القرآن حرب لله جل وعلا ولرسوله؟ لأنه حرب للأمن الذي هو هدف ومقصد من مقاصد الله ورسوله في إنزال الشريعة، فهو حرب للأمن، ومحاربة الأمن حرابة لمن جعل الأمن مقصدا وهو الله جل وعلا ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(9/27)
فإذن حد الحرابة سمي حد الحرابة، يجيء واحد مثلا في طريق يقول: والله أنا مجرد وقفت سيارة بالقوة ونزّلت صاحبها وضربته وأخذت منه بعض المال كيف أصير أنا محارب لله ولرسوله نقول نعم هو محاربة لله ورسوله؛ لأن مقصد الشريعة هو الأمن، الأمن في إيش؟ الأمن على الناس في دماؤهم في أعراضهم في أموالهم ونحو ذلك فإذن هذه الأفعال الإجرامية يجب أن تصد بقوة كبيرة جدا في اللفظ وفي المعنى وإيضاح أحكام الشريعة دون مضاربة.
فأنا الحقيقة أنتقد بعض تعرض لهذا الموضوع انتقاد شرعي من تعرض لهذا الموضوع بعبارة خافتة باهتة، مثلا يقول هذا الفعل سيئ بس الفاعلين متأولين ويقول مثل هذا العبارات التي لا تدل على علم بكتاب الله جل وعلا وبكتاب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبقواعد الشريعة وأحكام الفقه، أو يقول لا يصلح لنا أن نستجرّ هذه المعركة إلى بلاد المسلمين أو نحو ذلك من الألفاظ التي ليست ألفاظا شرعية.
هذه مسائل فيها إجرام كبير وخيانة عظيمة، مثل هذه التفجيرات وأشباهها، فكون عبارات بعض طلبة العلم وبعض الدعاة باهتة خافتة في الإنكار هذا لاشك يغري ولا يحقق مقصود الشارع في إنكار هذه المنكرات والموبقات العظيمة.
راشد: معالي الشيخ أخيرا في ما يتعلق الآن بكلمة توجيهية للشباب، البعض يقول هو محب لعلمائه؛ لكن يقول حينما أقرأ بعض الأشياء في الإنترنت وكتب وأشرطة ونحو ذلك يقول سبحان الله يعني أحد الإخوة من طلبة العلم يقول قرأت موقع في أحد الإنترنت فأحسست بشيء في قلبي تجاه العلماء ثم استغفر الله سبحانه وتعالى. كيف يحصن الشاب نفسه وهو يرى هذه الفتنة مثل هذه الأحداث العظيمة؟
الشيخ: أولا الإنترنت وسيلة من الوسائل التي حدثت كغيرها من الوسائل، فيجب أن تستثمر في الخير، ويجب أن لا نجعلها حجة علينا هذه منة من الله جل وعلا، من استخدمها في شيء فعليه وزرها، ومن استخدمها في حسن فله أجرها مثل أي وسيلة من الوسائل.(9/28)
ما ينشر في الإنترنت يفتقد الكثير من الآداب الشرعية، إذا نظرت أنا للحوار الذي يجري في الإنترنت الواحد يبدي ما في نفسه طيب ما فيه شيء، تبدي ما في نفسك أو تنتقد بعض الأشياء أو تستفسر ولو كان الاستفسار فيه غلظة هذا ليس فيه إشكال من هذه الجهة لكن يتأدب بآداب الشريعة يأتي واحد ينتقد وضع لكنه يهاجم عالم من العلماء المسلمين، أو يستعدي الناس على واقعهم أو على علمائهم أو على دولتهم أو يسمه بأوصاف الكفر أو نحو ذلك، فهذا كله خوض في أمور بلا علم، والله جل وعلا يقول ?وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً?[الإسراء:36]، إذا كان الذي يكتب يَكتب بدون ظن منه أنه سيلقى الله جل وعلا ويحاسبه على ما كتب هذه مصيبة عظيمة، وإذا كان يكتب أو يشارك في الإنترنت وهو يعلم أنه محاسب وهو ليس كحديثه مع زميل له، أنت الآن تنشر ليقرأها آلاف من الناس أو مئات الآلاف أو ربما أكثر، فكيف إذا كان بسبب كلمة قلت أنه حصل وهو ما حصل، أو قلت فلان فيه كذا من الأفعال وهو ليس فيه، أو سمعت كلاما ونشرته على أنه حقيقة وأنت ما تثبت منه، وانتقل بين الناس على أنه حقيقة ثابتة.(9/29)
مثل عُزِي إلي في الإنترنت مقال أن فلان صالح آل الشيخ أنه يقول لا يجوز الدعاء على اليهود والنصارى، وطنطنوا عليها وكثّروا هل يقول أحد من أهل العلم أو ممن عرف بعض أحكام الشريعة فضْلا على أن يكون عرف كثيرا منها وعلم كثيرا منها أنه يقول لا يجوز الدعاء -بهذا الإطلاق- لا يجوز الدعاء على اليهود والنصارى، ما فيه أحد، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بآخر حياته قال «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» واللعن الطرد والإبعاد من رحمة الله جل وعلا وهو الدعاء عليهم، فنسب هذا الأمر مع أن كلامي أنا في هذا الموضوع كان قبل سبع سنوات، نقله أحد من لا يفهم نقله من احد الدروس ثم أُوِّل أو صنف على ذلك وهو الكلام إنما كان في قضية -أنا أستطرد فيها بس لأجل المناسبة-، كان في قضية محددة وهي أن لا نعارض حكمة الله جل وعلا في وجود الكفار وجود اليهود وجود النصارى، ندعو عليهم مثلا بالهلاك العام بالاستئصال، نحن نعلم أن اليهود والنصارى سيبقون إلى آخر الزمان، يأتي واحد ويقول اللهم أبدهم الآن أجمعين، أنت تعارض حكمة الله جل وعلا، تعارض ما أخبر الله جل وعلا في كتابه، فمن دعا بدعاء نعلم أنه مستحيل أو أن الشرع أخيرنا بخلافه أو نعلم أنه لن يكون هذا اعتداء في الدعاء من أسباب رد الدعاء.
وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكر في الفتاوى كما ذكره غيره أن من أسباب الاعتداء في الدعاء ورد الدعاء أن يدعو بدعاء نعلم من الشريعة أنه ليس متحققا.(9/30)
فنعلم أن اليهود والنصارى سيبقون إلى زمن عيسى ابن مريم، ويأتي واحد ويدعو عليهم بالهلاك جميعا الآن وأن يدعو على جميع الكفار الآن أو يدعو على أطفالهم وعلى نسائهم هذا الدعاء العام بالاستئصال والهلاك العام هذا ليس من الشرع لاشك وهو اعتداء في الدعاء لهذا الأمر لمناقضته لحكمة الله جل وعلا ولما أخبر الله جل وعلا في كتابه قال سبحانه ?وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ?[الزخرف:61]، فأولوا الأمر وصار ت المسألة على أن فلان لا يجيز الدعاء على اليهود والنصارى بهذا الإطلاق، وجاء أناس آخرين وعلَّقوا، سبّوا وشتموا.
هو ليس عليَّ وحدي فقط بل على كثير من أهل العلم وعلى كثير من الولاة نسبت أقوال أحيانا وأفعال لم يفعلها الإنسان البتة، ويستغرب كيف جاء الافتراء ثم جاء الانتشار بعد ذلك.
أيضا هناك مسألة تتعلق بالإنترنت في آداب الحوار.
راشد: لو سمحت لي معالي الشيخ بما يتعلق بالدعاء بالهلاك يبدو أن هذا هو أيضا هو هدي السلف؟
الشيخ: هذا يعني يكاد يكون ما أعلم أن أحدا نص على الإجماع لكن ما أظن يكون فيه خلاف أصلا، الذِينَ يُقَاتِلُونَ أَوْلِيَاَءَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ؛ يعني الدعاء المقيد أنت قصدك.(9/31)
آداب على الإنترنت، النشر على الإنترنت لها آداب وأخلاق؛ لأنها حوار والسلف وضعوا آداب البحث والمناظرة، كيف تبحث مع إنسان وترد عليه، هذا يسب هذا وهذا يشتم هذا؛ بل أتوا إلى أشياء هداهم الله إلى أشياء شخصية، يتكلم عن الإنسان على عائلته، يتكلم عنه في بيته، طيب من تلقى كيف يثبت له أن هذا صحيح أو غير صحيح، والناس عندنا مولعون بشيء، هو من تركيبة المجتمع العربي بعامة مولعون بالشك، الأصل عندهم دائما عندهم الشك، بداية يقولون واحد والله فعل هذا الفعل يصدقون؛ لأن الأصل عندهم الشك هذا ربما مرتبط بالبيئة القبلية أو البيئة البدوية أو الظروف القديمة نمت عند الناس الحذر والشك في أي تصرف؛ لكن هذا ليس شرعيا الأصل في المسلم السلامة واحد يأتسي ويقول قول في الإنترنت يتهم فيه فلان ويذكون أشياء في الأسر أو يتعلق، هذه أمور سيئة، أو يستخدمون الإنترنت بحوارات هابطة وسباب وشِتَام، هذا يترفع العاقل عنها فضل عن مسلم يخشى الله جل وعلا ويعلم أنه غدا سيحاسبه الله جل وعلا ?مَا يَلْفِظْ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ?[ق:18].
وأنا أرجو أن تخصص حلقة في قناة المجد لآداب الحوار في الإنترنت؛ يعني يشارك فيها بعض المعروفين بالاهتمام بهذا المجال من طلبة العلم الشرعي أو الدعاة، كيف نحاور على الإنترنت كيف نستثمر هذه الوسيلة، ما الأشياء التي تنشر، ما الأشياء التي لا تنشر التحذير من اتهام الناس الدعوة إلى الإنصاف والعدل في هذا الأمر.
راشد: معالي الشيخ جزاكم الله خيرا على استجابة هذه الدعوة مع كثرة أعمالكم ومشاغلكم، ونسأل الله عز وجل أن يجعل هذا في ميزان حسناتكم.(9/32)
الشيخ: أنا أشكر لقناة المجد إتاحة هذه الفرصة، ونرجو لها إن شاء الله التقدم المطرد، فهي تقوم برسالة اليوم مهمة، وأشكر لكم أيضا الأخ راشد لهذه النقاط المهمة التي تعرضتم لها، وأرجو الله تعالى أن يكون فيما تحدثت به فتح لبعض الأبواب وإلا فالموضوعات كما ترى موضوعات كبيرة وحية ومتوسعة، وأنا رميت في الحديث أن يكون الحديث حديث مجالس يعني ما نحينا فيه إلى ناحية التأصيل الشرعي المفصل بدقة لأجل أن يناسب ما ينشر في مثل هذه القنوات، داعيا للجميع بالتوفيق وأن يوفق الله جل وعلا ولاة أمورنا إلى ما فيه الرشد والسداد وأن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، وأن يوفق علماء المسلمين لنشر كلمة الله جل وعلا لبيان الحق وإرشاد الناس وتبصير الجاهل.
كما أسأله سبحانه لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل الطاعة، ويعافى ويهدى فيها أهل المعصية إنه سبحانه جواد كريم.
?????
أعدَّ هذه المادة: سالم الجزائري
---
([1])قرار حادث التفجير الذي وقع في الرياض في حي العليا:
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه، وبعد:
فإن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية علمت ما حدث من التفجير الذي وقع في حي العليا بمدينة الرياض قرب الشارع العام ضحوة يوم الأثنين20/6/1416 هـ وأنه قد ذهب ضحيته نفوس معصومة، وجرح بسببه آخرون ، ورُوّع آمنون وأخيف عابر السبيل.
ولذا فإن الهيئة تقرر أن هذا الاعتداء آثم وإجرام شنيع، وهو خيانة وغدر، وهتك لحرمات الدين في الأنفس، والأموال، والأمن، والاستقرار، ولا يفعله إلا نفس فاجرة مشبعة بالحقد والخيانة والحسد والبغي والعدوان، وكراهية الحياة والخير، ولا يختلف المسلمون في تحريمه، ولا في بشاعة جرمه وعظيم إثمه، والآيات والأحاديث في تحريم هذا الإجرام وأمثاله كثيرة ومعلومة.(9/33)
وإن الهيئة إذ تقرر تحريم هذا الإجرام وتحذر من نزعات السوء، ومسالك الجنوح الفكري، والفساد العقدي، والتوجيه المردي، وإن النفس الأمارة بالسوء إذا أرخى لها المرء العان ذهبت به مذاهب الردى، ووجد الحاقدون فيها مدخلاً لأغراضهم وأهوائهم التي يبثونها في قوالب التحسين، والواجب على كل من علم شيئاً عن هؤلاء المخربين أن يبلغ عنهم الجهة المختصة.
وقد حذر الله سبحانه في محكم التنزيل من دعاة السوء والمفسدين في الأرض فقال: ?إنَّمَا جَزَاءُ الذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ?[المائدة:33]، وقال تعالى:?وَمِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ(204)وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ويُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ(205)وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالِإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المِهَادُ?[سورة البقرة:204-206].
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يهتك ستر المعتدين على حرمات الآمنين، وأن يكف البأس عنا وعن جميع المسلمين، وأن يحمي هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يوفق ولاة أمرنا وجميع ولاة أمر المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد إنه خير مسؤول.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.[نقلا من قرارات مجلس هيئة كبار العلماء حول حوادث التفجير والاغتيالات وخطف الطائرات والسفن لمحمد الحصين من مكتبة سحاب](9/34)
فتنة الخوارج
كلمة في ندوة بالمدينة النبوية بمناسبة
(جائزة الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة)
[شريط مفرّغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
يسر إخوانكم في مؤسسة دار ابن رجب للإنتاج الإعلامي والتوزيع بالمدينة النبوية أن يقدموا لكم هذه المادة العلمية، سائلين الله عز وجل أن ينفع بها وأن يجعلنا ممن يسمع القول فيتبع أحسنه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإني مسرور غاية السرور أن تكون هذه الندوة فاتحة أنشطة كثيرة ومتوالية ومتتابعة لجائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة.
فأجدني متذكرا جهد سموه الكبير على مدى سنتين مضت لترسو قواعد هذه الجائزة ولتتضح معالم أنشطتها والأطر لبحوثها.
فأبدأ بعد حمد الله والثناء عليه بالشكر لسموه باسمي وباسم جميع طلبة العلم والباحثين والدارسين وخطباء المساجد والدعاة الذين هم جميعا يحرِصون على السنة النبوية وعلومها.
ثم اشكر لسمو أمير منطقة المدينة المنورة حضوره لهذه لهذا الافتتاح وهذه الندوة، شاكرا له جهوده الكبيرة في دعم النشاط العلمي والبحثي في منطقة المدينة المنورة.
ولسمو المشرف العام على الجائزة الشكر منا والتقدير على حرصه على هذه الأنشطة والندوات، وما قدمه في كلمته من إيضاح للجائزة ولأنشطتها، وما ذكره من جائزة جديدة لحفظ السنة النبوية والحديث النبوي الشريف.
ولأمانة الجائزة ولسعادة الدكتور المقدِّم مني الشكر والتقدير.
الوقت يضيق عن تَكرار بعض ما تفضل به سماحة الشيخ محمد سيد طنطاوي جزاه الله خيرا.
وأجدني مضطرا لأن أدخل في صلب الموضوع.
وأقسم ما سأتكلم عنه إلى أربعة أقسام:(10/1)
أما الأول: فهو ذكر أسباب الفتن؛ لأن معرفة السَّبب يورث معرفة المسبَّب، ومعرفة المقدمات تورث يقينا معرفة المآلات.
والثاني: بعض نتائج وصور من الفتن والافتتان الذي وقع في هذه أمة.
والثالث: رؤية موجزة للعلاج.
والرابع: ما موقف المسلم أيا كان من الفتن في ضوء الكتاب والسنة وقواعد الشريعة المطهرة.
الفتن: جمع فتنة، والفتنة كغيرها من الألفاظ لها استعمالان:
استعمال لغوي: وقد فصل فيه فضيلة الشيخ قبل ذلك، وذكر الشواهد عليه من الكتاب والسنة.
وهناك استعمال اصطلاحي عُرفي مشى في الناس: وهو أنَّ الفتنة ضرر يقع في الناس باختلاف فيما بينهم أو قتل أو انعدام في الأمن.
أو يمكن تعريف الفتنة التي يتداول معها الناس هذه الكلمة: بأنها أقوال وأعمال تخرج عن الشريعة، وتؤدي إلى انعدام الأمن واختلال الجماعة وحدوث الفرقة.
وهذا هو المقصود من التحذير من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وهو تحذير من الأعمال والأقوال التي تخرج عن إطار الشريعة، وتؤدي إلى انعدام الأمن وتفرق الجماعة وحصول الفرقة.
هذا المعنى للفتن وُجد في تاريخ الإسلام؛ بل قد قال بعض الباحثين إن تاريخ الإسلام مملوء بالفتن.
بل غلا بعضهم وقال: هل تاريخ المسلمين إلا الفتن، وهل نقرأ في كتب التاريخ إلا الاقتتال، وهل تقرأ في كتب التاريخ إلا سفك الدماء.
وهذا صحيح من وجه وغلط من وجه:
أما صحته فموجود في التاريخ ما ذُكر؛ من كثرة اقتتال والخروج والدماء واستباحة الدم والمال والعرض.(10/2)
ولكن هناك شأن عند المؤرخين لا ينبغي لا أن يسود في أذهانا وأذهان المسلمين، وهو أنّ المؤرخين درجوا على أنهم لا يذكرون إلا السيئ الغريب، ولا يذكرون الحسنات الكثيرة التي عملها الخلفاء وعملتها دول الإسلام، إلا ما ندر، فتجدهم عند حوادث كل سنة يذكرون ما حصل فيها من القتال، ما حصل فيها من الفتن، ما حصل فيها من الوفيات، والقليل أن يذكروا ما فيها من أمور محمودة، فلا يغلبَنَّ على الأذهان تلك الصورة التاريخية مما هو موجود في التاريخ.
لكن الفتن موجودة، وسنعرض لبعض الأمثلة بحسن ما يتسع له الوقت
فتن لها أسباب، الفتن بالمعنى الذي ذكرنا، الفتن التي تحدث الفرقة، تحدث انعدام الجماعة، تحدث الخروج عن إطار الشريعة وانعدام الأمن وحصول القلاقل والاعتداء على الناس في أنفسهم وأعراضهم لها نشأة.
نشأتها دائما تكون ممن مجموعة أو جماعة أرادت زعزعةَ الأمن وتفريق الجماعة، وغالبا من الصور تكون تلك الفئة أداها إلى الفتنة وإلى الخروج وإلى القتل وإلى السفك الغلو في الدين وزيادة التدين؛ لذلك نذكر بعض الأسباب بحسب ما يناسب المقام:
أما السبب الأول لظهور الفتن فهو الجهل، والجهل بالدين أو الجهل بقواعد الشرع، أو الجهل بالحقوق، هذا يؤدي إلى حدوث الفتن؛ لأن من كان عنده جرأة وغيرة باطلة غير منضبطة، فإنه سيتجرأ بجهله على أن يخوض الفتنة، وقد بدأت منذ ذلك الرجل الذي قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فرّق بعض المال قال: اعدل يا محمد. فنظر إله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضبا وقال «ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟»، ثم قال «يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم» هم أهل تعبد وأهل صلاة وأهل صيام، «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة»، فعلا خرج أولئك.(10/3)
الجهل بحق لنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الجهل بالعلم الجهل بالدين قاتل، ولذلك ما خرج أحد إلى الفت إلا وأداه خروجه إلى أن يكون جاهلا بل كان سبب ذلك هو جهله ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله والجهل
والجهلُ داء قاتلٌ وشفاؤه أمران في التركيب متفقانِ
نص من القرآن أو من سنة وطبيب ذاك العالم الرباني
فإذا كان الكتاب والسنة دواء، فإن صرفَه وفهمه يكون من العالم الرباني لا من فهْم آحاد الناس.
السبب الثاني لظهور الفتن وظهور الفاتنين والمارقين اتَّباع المتشابه وترك المحكم، الله جل وعلا ابتلى الناس بأن جعل في كتابه محكما ومتشابه.
المحكم: هو ما هو بين واضح يُدرك معناه.
والمتشابه: ما يشتبه معناه فيدركه أهل العلم وأهل الرسوخ في ذلك، ولا يدرك معناه كل أحد.
قال جل وعلا في فاتحة سورة آل عمران ?هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ?[آل عمران:7]، فيه آيات محكمات واضحة بينة، وفيه آيات متشابهة، قال ?فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ?[آل عمران:7].
وأقف هنا وقفتين:
?أما الأولى هو انقسام القرآن إلى محكم ومتشابه، فالمتشابه موجود، فمعنى ذلك ن يكون المسلم من أن يستدل بالقرآن استدلالا خاطئا، وكما قال بعض أئمة الإسلام: ليس الشأن في أن تستدل-ليس الشأن أن تقول قل الله قال رسوله-، وإنما الشأن أن يكون استدلالك صحيحا موافقا لفهم السلف. الشأن ليس في الدليل، الدليل منه محكم ومنه متشابه؛ لكن الشأن في أن يكون استدلالك صحيحا.(10/4)
كل أحد اليوم يقول الكتاب والسنة، ما فيه أحد يأتي، حتى أهل المروق وحتى أهل الضلال الذين أوبقوا وعملوا ما علموا من تفجيرات وفتن وقتل للمسلم ومن للمعاهد ومن فتن وعمِل، كل أحد يستدل هل الشأن في وجود الدليل؟ ليس الشأن كذلك، الشأن أن يكون:
أولا: الدليل محكما.
الثاني: أن يكون الاستدلال صحيحا؛ موافقا لفهم سلف الأمة من هذا الدليل.
وكذلك السنة، إذا القرآن فيه محكم ومتشابه، فالسنة كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه محكم وفيه متشابه، كيف نعرف المتشابه؟ كيف يعرف أهل العلم المتشابه؟ يردون المتشابه إلى المحكم فيفهمونه.
?الوقفة الثانية في الآية: والحظها في قوله (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ) فأثبت وجود الزيغ في القلوب، أولا قال (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ) يعني أن وجود المتشابه ليس هو سبب الزيغ؛ لكن هم قد وجد الزيغ في أنفسهم فاتبعوا المتشابه، وهذا كثير في أن المرء الذي عنده هوى وعنده ضلال يبحث عما يستدل به لمقررات سابقة عنده، وقد ذكر ابن حزم في أول كتابه الإحكام في أصول الأحكام ذكر أن من أسباب الانحراف أن يكون عند الإنسان مقررات سابقة، فهوم، أحكام، اتجاه فيبحث عن الدليل ليؤيد اتجاهه، وهذا سبب رئيس لحدوث الفتن والاختلاف والضلالات.
فاحذر أن يكون عندك هوى في شيء، ثم بعد ذلك تبحث في الأدلة تبحث في الكتب عما يساند ما قررته سلفا، وما اتجهت إليه سابقا، أو اتجهت إليه مجموعتك أو اتجهت إليه جماعتك أو نحو ذلك هنا نحذر.
في السنة أيضا محكم ومتشابه.
كذلك كلام العلماء، هل أقوال العلماء من الصحابة أو أقوال العلماء وأفعال العلماء كلها محكمة؟ ليست كذلك، منها ما هو محكم ومنها ما هو متشابه.(10/5)
فإذا أتى أحد وقال في بعض كلامه الإمام الشافعي قال كذا وكذا، الإمام ابن تيمية قل كذا وكذا، الإمام ملك قال كذا وكذا، هل المسألة انتهت في أن يكون قوله صوابا، ليس كذلك، لابد أن يكون أقوال أهل العلم:
أولا محكمة.
ثانيا إذا كانت متشابهة فترد إلى المحكم.
إذا لم يستبن الأمر فيها فالرجوع في فهم كلام أهل العلم إلى كتب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
السبب الثالث التأويل، وهل أفسد الدنيا إلا التأويل، يتأول الأمور فيحرف الأمور عن وجهها حتى يصل إلى ما يريده، والتأويل مما أضر بالناس سواء أكان التأويل في العقائد أم كان التأويل في مسائل العمليات التي اتجهت إليها الفرق كالخوارج والمعتزلة وغير ذلك .
من الأسباب [السبب الرابع] حب الدنيا والرياسة، ابن تيمية رحمه الله تعالى لما ذكر الخوارج قال: إن سبب ظهورهم.
هم ظهروا في أي زمن؟ ظهروا في زمن عثمان رضي الله عنه، هل هناك أنقى في زمن عثمان رضي الله عنه من عثمان؟ هل هناك أنقى من دولة عثمان؟ لكنهم نقموا عليه وخرجوا عليه وقتلوه في بيته وهو ناشر المصحف يقرأ فيه وكان صائما رضي الله عنه وأرضاه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن من خرج من الخوارج وغيرهم على ولي الأمر، فإنما أخرجه لذلك شهوة باطنة لحب الدنيا والرياسة، جعل لها سبيلا من بعض مسائل الدين أو الغيرة على الشريعة، فجعل ذلك سُلَّما لشهوة باطنة عنده.
وهذا كلاما ظاهر وصحيح لمن تأمله.(10/6)
السبب الخامس في الغلو هو مجاوزة الحد، الله جل وعلا نهى هذه الأمة عن الغلو كما نهى أهل الكتاب قال ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ?[النساء:171]، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو» الغلو مجاوزة الحد عن المأذون به، فمن جاوز الحد عن السنة المرضية فقد غلا، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خُيِّر بين أمرين إلا واختار أيسرهما، كان عف الكلام عف اللسان رحيما برا قويا في موضع القوة لينا في موضع اللين.
بعض الناس يظن أن الشدة دائما هي الحق، هذا غلط على الشريعة، قد يكون في مواضع كثيرة وكثيرة اللين واليسر والأناة والرفق هو المطلوب، لهذا ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله فمن كان رفيقا في أمره كله» فقد ابتعد عن الفتن وسلم من الغلو وكان محبوبا لله جل وعلا.
السبب الذي بعده [السبب السادس] مخالفة العلماء وعدم الرجوع إليهم، الخوارج ما رجعوا إلى الصحابة استقلوا بفهومهم، الذين خرجوا اليوم من هذه الجماعات الضالة جماعات الفتن الذين لا يفرقون بين مؤمن وغير مؤمن؛ بل يقتلون كما يشاءون ولا يرعون لذي عهد عهده، هؤلاء لم يرجعوا إلى فهم العلماء.
فكان من أسباب من ظهور الفتن والوقوع في الفتنة أن المرء يستق في نفسه في الفهم ولا يرجع إلى أهل العلم الراسخين فيه، العلم إذا رجعت ليس كل من قرأ صار عالما، وليس كل من بحث صار باحثا وعالما.
العلم له أهله الذين رجع إليهم، فلا بد حينئذ أن يعرف أن من أسباب الفتن مخالفة العلماء أو عدم الرجوع إلى العلم الراسخين فيه.
إذا تبين ذلك فإن هذه الأسباب مجتمعة أدَّت إلى خروج فئات في تاريخ الإسلام بسبب هذه الأسباب جميعا أو بعض هذه الأسباب، فكان صورتها أبشع صورة.(10/7)
من ذلك وهو أشهرها وأولها الخوارج، الخوارج خرجوا على الإمام الحق؛ خرجوا على عثمان رضي الله عنه وقتلوه.
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يُقَطِّعُ الليلَ تسبيحا وقرآنا
ثم قتلوا من؟ قتلوا علي بن أبي طالب خير الناس في زمانه، وهؤلاء مبشرين بالجنة.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في حق عثمان «ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم» لكنهم أداهم القول بالخروج وأداهم الهوى إلى أن يقتلوا عثمان ويقتلوا عليا، هل كانت حين ذاك كانت لهم معتقدات خاصة؟ لا، خرجوا وقتلوا لأنهم رأوا أن هؤلاء تجاوزوا الشريعة، قبل أن يحكموا على عثمان بالتكفير، عثمان ما حكموا عليه بالكفر، وإنما حكموا عليه بالضلال في باب المال، وفي باب الولايات وقالوا أنت تقسم المال كما تشاء، وتعطي الإقطاعات كما تشاء.
وأجمع أهل العلم على ضلال هؤلاء، وعلى أنهم من كلاب أهل النار.
كذلك قتلوا عليا رضي الله عنه، الذي قتل عليا من؟ هل قتل عليا رجل فاسق ويزني ويسرق ويرتشي ويشرب الخمر ويعمل؟ لا، ربما كان هذا الرجل الذي يعمل مثل هذه الأعمال لعلي في قلبه من المكانة ما ليس لدى قاتل علي، من؟ قاتل علي عبد الرحمن بن ملجَم ، ملجَم بفتح الجيم لا بكسرها.
عبد الرحمن بن ملجم هذا رجل صالح في أول أمره أرسله عمر بن الخطاب إلى مصر رضي الله عنه، طلبه عمرو بن العاص، قال: يا أمير المؤمنين أرسل لي رجلا قارئا للقرآن يقرئ أهل مصر القرآن. فقال عمر بن الخطاب: أرسلت إليك رجلا هو عبد الرحمن بن ملجم من أهل القرآن آثرتك به على نفسي -يعني أنا أريده عندي في المدينة؛ لكن آثرتك به على نفسي- فإذا أتاك فاجعل له دارا يقرئ الناس فيها القرآن وأكرمه.
لكن عبد الرحمن بن ملجم لم يكن عنده علم، دخلته الأسباب التي ذكرنا فجرّه الخوارج معهم.(10/8)
قتل عبد الرحمن بن ملجم علي رضي الله عنه، ولما قتله وقيد للقصاص قال للسيّاف: لا تقتلني مرة واحدة -يعني قطعة رأس- قطّع أطرافي شيئا فشيئا حتى أرى أطرافي تعذب في سبيل الله.
أنظر هذا الحب لله جل وعلا حب لله جل وعلا عظيم وبذل للنفس عظيمة يريد تُقطع ليش؟ لأنه عنده أن قتل علي حق.
لهذا تنتبه أن أئمة السنة والجماعة قالوا كلمة عظيمة قالوا: ليس الشأن أن تحِب الله -لأن هذه دعوى-؛ ولكن الشأن أن تحَب.
ليس الشأن أن تقول: أنا أحب الله جل وعلا وتعمل كل شيء. الشأن أن تبحث عما يحبه الله فتعلمه، تقول: أنا أحب الله غيرة لله جل وعلا، أنا أريد أن أضحي في سبيل الله، أريد أن أبذل نفسي في سبيل الله وتمشي في طريق خطأ؟ هذا عرضة للضلال.
لابد أن تبحث عما يحب الله، وقد يحب الله جل وعلا الأناة والحلم في موضعه، وقد يحب الإقدام في موضعه.
هذا قاتل علي أتى رجل بمدحه هو عِمران بن حِطَّان، عمران بن حطان من الخوارج تتابعوا الخوارج انقضوا؟ لم ينقضوا وهم أساس الفتن، وكما جاء في حديث «لا يزالون يخرجون حتى يقاتل آخرُهم مع الدجال »والحظ قوله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ (لا يزالون يخرجون) يعني يخرجون ثم يخمدون، ثم يخرجون ثم يخمدون، وقد قال في حقهم «أيْنَمَا لقِيتُمُوهُم فاقْتُلُوهُم فإنَّ فِي قَتْلِهِم أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُم عند الله جل وعلا» عمران بن حطان مدح قاتل علي بقوله:
يا ضربة من تقيٍّ ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
يمدح من؟ يمدح الذي قتل علي يقول
يا ضربة من تقيٍّ ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكرُه حينا فأحسبُه أوْفى البرية عند الله ميزانا
قبحه الله ذاك المجرم الخبيث.(10/9)
إذن سبب الفتن، أو من أسباب الفتن من مظاهرها في التاريخ الزيادة في التدين، فاحذر أن يكون التدين على طريق غلط؛ لأنه إذا تدينت على طريق خطأ فليس شأنك أنك تسلم، فقد تتدين على طريق خاطئة فتصبح مثل أولئك الأقوام الذين انحرفوا.
فالشأن أن تكون ناصحا لنفسك متدينا صالحا متبعا للكتاب والسنة متبعا للصحابة على نهج سلف الأمة حذِرا من الأهواء.
واحذر سبب الفتنة؛ وهو أن تسمع لأهل الفتن والأهواء، بعض الناس يتساهل في نفسه، يعرض نفسه للخطر؛ يسمع لهذا ويسمع لهذا ويجلس مع أصحاب الفتن، لا، من أسباب وقاية نفسك والوقاية خير من العلاج أن تبتعد عن أصحاب الفتن. قال بعض أئمة السلف:
لا تصغي إلى ذي هوى بأذنيك، فإنك ما يوحي إليك.
تجلس تتسائل، والله هؤلاء عندهم غيرة، هؤلاء فعلوا، هؤلاء مجاهدون، هؤلاء تجلس تسمع تسمع، ثم يأتيك الفتنة، ويأتيك الانحراف.
لابد أن يكون لك موقف واضح في هذا الأمر، موقف واضح وقائي، لا تتساهل في السماع؛ لأن المرء يتأثر بأي شيء؟ يتأثر بالسماع.
من مظاهر الفتن التي حصلت أن يتقرب أناس بالنيل من الكعبة وهم ينتسبون للإسلام.
ربما يكون فاسق إذا أتى عند الكعبة ورآها بكى ولان قلبه ولم تحدثه قلبه بمعصية.
لكن أتى أناس من قوة تدينهم لم يرعوا حتى للكعبة حرمة مثل ما حصل من طائفة من العبيدين؛ بل اقتلعوا الحجر الأسود وأخذوه معهم من مكة إلى الأحساء -كانت تسمى البحرين في ذلك الوقت-، جلس معهم فوق العشرين سنة، تقريبا من سنة 317 هجرية إلى 339 هجرية.(10/10)
الخِرقي -صاحب مختصر الحنابلة الذي شرحه ابن قدامة في المغني- لما أتى في الحج ألفه في وقت عدم وجود الحجر الأسود، قتلوا مئات الآلاف من الحجاج وأخذوا الحجر الأسود وذهبوا به باسم الدين، لما أتى لهذا الموضع قال: ويقبل الحجر الأسود إن كان. يعني إن كان موجودا؛ لأنه ما كان موجودا شيء يدمى له القلب أن يأخذ ناس الحجر الأسود ويذهبون به؛ لكن سببه التدين الباطل والتأويل والجهل والطائفة البطينية العبيدية.
كذلك منهم المنتسب للسنة حوادث الحرم الأخيرة التي حصلت سنة ألأف وأربعمائة 01/ 01/ 1400 هـ هذه الحوادث الفضيعة سببها إيش؟ هل كان أولئك في سلوكهم أو في ظاهرهم يشك فيهم؟ لا، كانوا ظاهرهم ظاهر الدين والخير ويطلبون العلم وفي حلق المشايخ لكن أتاهم الضلال والفتنة من جهة الغلو ومن جهة الجهل ومن جهة اتباع المتشابه ومن جهة الرؤى ومن جهة أسباب كثيرة، فأداهم إلى أن يجعلوا الحرم مكان خوف، الله جل وعلا قد أمن في الحرم إيش؟ أمّن الطير، أمن الحمام ، أمّن العصافير ، أمن الطيور، حتى بعض الحشرات غير الضارة مؤمَّنة فيه فكيف هؤلاء يرتكبون باسم الدين.
ما حصل من تفجيرات أخيرة هذه من الفتن، التفجيرات التي حصلت لأخيرة في الرياض وما حصل قبلها في الرياض والخضر، وفي غيرها من بلاد المسلمين في مصر قبل ذلك وفي إندونيسيا وإلى آخره، يأتون إلى أناس آمنين من مسلمين وغير مسلمين فيقتلون الجميع.
هذه من أعظم الفتن في هذا الوقت، السبب أن فيها عدة مخالفات؛ فتنة عن الدين عظيمة، وخروج عن الصراط، واتّباع لسبيل الخوارج من عدة أوجه:
أولا: أن فيها قتل للنفس، والله جل وعلا يقول ?وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا?[النساء:29].(10/11)
الأمر الثاني: أن فيها قتل للمسلمين، والله جل وعلا يقول ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا?[النساء:93]، بعض الذين قتلوا في الرياض مسلم، شاب مسلم كان ماشي، لما دخلوا بالرشاش هرب أراد أن يهرب ضربوه في رأسه، هو معروف أنه مسلم هارب ليس معه سلاح وليس معه شيء هرب ضربوه في رأسه هو وغيره ممن قتلوا.
قتلوا معاهدين أين هم من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة العهد لم يعطيه؟ يعطيه إمام المسلمين، الأمان من يعطيه؟ يعطيه الإمام يعطيه ولي الأمر حتى لو أعطاه أحد المسلمين بكفالة ودخل بأمان لا يجوز الاعتداء عليه لأن المسلمين تتكافأ دماءهم ويسعى بذمتهم أدناهم.
فيه اعتداء على الأموال كل المسلم على المسلم حرام دمه كما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «دمه وماله وعرضه»، الأموال هذه المجمعات إلى آخره هذه ملك لمن ؟ أليست ملك لمسلمين؟ بأي حق تفني أموال المسلمين وتعتدي على أموالهم؟ أين أنت من هذا الحديث؟ لكن هو الغلو هو سبب الفتن.
هناك عدة اعتبارات أخرى لمثل هذا، هذه صور لما حدث في التاريخ القديم والجديد يبين لك أن الفتن يجب أن نحذرها ممن جاء بها، سواء كانت فتن شبهات كما ذكرنا أم فتن شهوات .
العلاج أعطي نقط سريعة بدون شرح :
أولا يجب علينا أن نعتصم بالكتاب والسنة والله جل وعلا يقول ?أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ?[النساء:59].
[الثاني:] ويجب علينا أن نتبع المحكم من كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن كلام أهل العلم وأن ندع المتشابه.
الثالث: أن نلتزم فهم الراسخين في العلم وألا نأخذ بَنيات الطريق .(10/12)
الرابع: أن نحرص على لزوم الجماعة والحذر من الفرقة الله جل وعلا يقول ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا?[آل عمران:103]، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لكم «الجماعة رحمة والفرقة عذاب»، فمن سعى في أي سبيل للفرقة فقد دخل في الفتن من أوسع أبوابها، وفي الحديث «الفتنة نائمة لعن الله من أيقضها» رواه ابن النجار في تاريخه وغيره باسناد فيه مقال .
[الخامس:] من أسباب علاج الفتن الاهتمام بجمع الكلمة، الفتن لا تظهر إلا في أرض؛ أرض التفرق، ما تظهر في أرض الاجتماع.
فلذلك موقفك أيها لمسلم إذا أردت أن تأمن على نفسك، وأن تأمن على دملك، وأن تأمن على عرضك؛ بل أن تأمن على دينك، وأن تكون حاميا لدين الله جل وعلا، فاحذر الفتن بأي طريق؟ في أن يكون هناك أرضية خصبة أن يكون هناك أرض خصبة للفتن، بأي شيء؟ بأن تهتم لجمع الكلمة.
قد يكون هناك مفاسد، قد يكون هناك معاصي، قد يكون هناك منكرات، قد يكون، قد يكون..، لكن المصلحة العظمى في إيش؟ المصلحة العظمى في اجتماع الكلمة؛ لأن الشهوات تطرأ وتزول، مشكلة الشهوة أنها معصية، لكنها هي تطرأ وتزول، يعمل الشهوة المحرمة، ثم بعد ذلك يقول أستغفر الله وتوب إليه ويحس في نفسه بالألم والندم، الصلاة إلى الصلاة مكفرات، رمضان إلى رمضان مكفرات، العمرة مكفرة للعمرة، الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
لكن المشكلة الشبهة، الشبهة هذه ما دواؤها؟ الشبهة يتدين بها صاحبها وتبقى في نفسه، بخلاف الشهوة تأتي ويقول أستغفر الله وأتوب إليه أنا عصيت ربي وفي نفسه الندم، وإذا صلى يرجو مغفرة ذنوبه، وقال أستغفر الله تعالى.
لكن صاحب الشبهة إذا قال أستغفر الله تعالى؟ ما يستغفر الله تعالى من قتل مسلم، لا ما يستغفر الله تعالى من التفجير، ما يستغفر الله تعالى مما يعمل؛ لأنه يرى أن هذه قربة إلى الله جل وعلا، ويرى نفسه شهيدا، ويرى نفسه مجاهدا.(10/13)
فهنا الاهتمام بجمع الكلمة ووحدة الصف، هذا يُلغي كل سبيل إلى ذلك، فالله جل وعلا أمرنا بأن نحقق المقاصد والوسائل.
هذه بعض الكلمات في العلاج والوقائع والأسباب، موقفك أن تهتم بأن تكون أيها المسلم:
· بعيدا عن الفتن، ليس فقط بعيدا.
· وواقيا لنفسك ثانيا.
· الثالث أن تكون مسلما حقا مجاهدا في درء الفتن.
الجهاد أنواع:
من الجهاد أن تكون مجاهدا لهذه الفرق الضالة.
من الجهاد أن تكون مجاهدا في جمع الكلمة.
من الجهاد أن تكون محققا لمراد الله ومراد رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتاب والسنة في رد الفتن عن الدين ما ظهر منها وما بطن.
من الجهاد الحق أن تكون عنصرا عالما تقي صالحا بأن لا تجعل للشيطان مدخلا في هذه البلاد.
الله جل وعلا أصلح هذه البلاد وأصلح بلاد المسلمين، فكيف نسعى في الإفساد، يقول الله جل وعلا ?وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا?[الأعراف:56 ،85]، لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بجمع الكلمة، لا تفسدوا في الأرض بالشرك بعد إصلاحها بالتوحيد.
لعل فيما ذكرت كفاية، الموضوع مهم وطويل.
أكرر شكري لجميع الإخوة الحاضرين، وللمنظمين لهذا النشاط، ولمن سبقني لسماحة الشيخ ولمقدمي هذه الندوة، شاكرا للجميع حسن استماعه.
سائلا المولى جل وعلا أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما فيه رضاك.
اللهم اجمع كلمتنا على الحق والهدى.
اللهم من أراد بنا سوءا فرد كيده إلى نحره.
اللهم من أراد بنا فتنة فاجعل فتنته على نفسه واجعله عبرة لمعتبرين.
اللهم اجزي ولاة أمورنا خيرا عما يبذلون للإسلام والمسلمين.
اللهم أجزي صاحب الجائزة خيرا.
واجعلنا جميعا ممن يعلم الحق ويسعى في سبيله ويجاهد في سبيل درء الفتن وإحقاق الحق إنك جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
?????
أعدَّ هذه المادة: سالم الجزائري(10/14)
فَضْلُ التَّوحيد
و
تكفيرُه للذُّنوب
[شريط مفرغ]
التذكير بفضل التوحيد يحتاجه حتى أُولي المقامات العالية في الدين، لهذا لا يستغني أحد، يقول أحد أنا تعلمتُ، درستُ التوحيد، وعرفتُ فضله، ما يحتاج أكرر هذا، ما يحتاج أعطيه الناس، ليس الأمر كذلك؛ لأنّ هذا إذا علمته، أول من سيدرك هذا الفضل أنتَ، ومن ذلك الفضل أنه يكفِّر الذنوب؛ لأنه يزيد عند العلم الاعتقاد بتكريره، كما أنَّه يُنسى بعدم تعليمه وتدريسه.[الشيخ صالح]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وصفيّه وخليله، نشهد أنّه بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى تركنا على بيضاء ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده صلى الله عليه وسلم إلا هالك.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد كُلَّما صلى عليه المصلون وكُلَّما غفل عن الصلاة عليه الغافلون، وعلى آله وصحبه من اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا أنْ يجعلني وإياكم ممن إذا أُعطي شكر، وإذا اُبتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، كما أسأله سبحانه أنْ يمنّ علينا بتحقيق التوحيد، وبالعمل به، وبتكميله، وتخليصه مما يُنقص كمالَه أو يقدَح في أصله، إنّه سبحانه ولي الصالحين.(11/1)
لا شك أنّ هذه الدورة والدروس والمحاضرات العلمية التي كان موضوعها ”التوحيد“ من أهمّ ما عُمِل من سلاسل المحاضرات؛ وبل هي أهمُّها؛ لما اشتملت عليه مِنْ بيان وتوضيح أصل الأصول الذي هو حق الله جل وعلا على العبيد؛ وهو توحيده سبحانه وتعالى، والإخلاص له وإسلام الوجه والعمل له سبحانه بلا شريك ولا نِدّ ولا ظهير، والله جل جلاله إنما عَمَر السموات وخلقها، وعَمَر الأرض وخلقها، ليوحّد سبحانه، خلق السموات وجعل لها عُمّارا، وخلق الأرض وجعل فيها الجن والإنس مكلَّفين، وذلك كله لتوحيده سبحانه وتعالى، قال جل وعلا ? وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ?[الذاريات:56-58]، وهو سبحانه مستحقٌّ من عباده أنْ يُذكر فلا ينسى، وأن يُوحّد فلا يعبد أحد سواه، وأنْ يُخلص له دين والعبادة امتثالا لقوله ? فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ?[الزمر:2-3]، وهذا هو حقه سبحانه على عباده، الذي بعث به الرسل، ومن أجله أنزل الكتب، كما قال سبحانه ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ?[النحل:36]، وقال أيضا? وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ?[الأنبياء:25]، وهذا التوحيد هو الذي اجتمعت عليه الرسل، وهو الإسلام الذي لا يقبل الله جل وعلا من أحد غيرَه، قال جل وعلا ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، يعني التوحيد الخالص المبرّأ من كل شائبة شرك تقدح في خُلُوصه وإخلاصه، وقال أيضا جل وعلا ?وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ(11/2)
الْخَاسِرِينَ?[آل عمران:85]، والإسلام هذا ليس خاصًّا بأمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ بل كلُّ الأمم التي بُعِثت لها الرسل، كلها مطالبة بهذا الإسلام الواحد؛ وهو الإسلام العام الذي أُمِر به جميع الخلق، قال سبحانه (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) فآدم عليه السلام كان على الإسلام، ونوح عليه السلام كان على الإسلام، وإبراهيم عليه السلام كان على الإسلام، وأبناؤه الأنبياء والرسل كانوا على الإسلام، وموسى عليه السلام وعيسى عليه السلام كانا على الإسلام وأمرا به ودعا إليه، وكذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان على الإسلام الخالص وكانت شريعته أيضا هي شريعة الإسلام.
وهذا الإسلام الذي اجتمعت عليه الرسل وأُمرت به جميع الأمم هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله. هذا هو الاستسلام الذي يَنفع العبد، وهذا هو الاستسلام والإسلام الذي أُمر به جميع الخلق المكلَّفين من الجن والإنس.(11/3)
وموضوع هذه المحاضرة هو ”فضْلُ التوحيدِ وتكفيرُه للذّنوب“ وهذا التوحيد بُيِّن لكم كثيرٌ من مسائله فيما مرّ عليكم من المحاضرات السابقة؛ في بيان معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي بيان الشرك؛ الذي هو مضادٌّ للتوحيد؛ الشرك الأكبر، أو مضاد لكماله وهو الشرك الأصغر، وبُيّن لكم معنى توحيد الربوبية، توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا كلُّه بيان لتوحيد الله جل وعلا، هذا التوحيد كلُّه من أخذ به فإنّ له فضلا عظيما على أهله، التوحيد له الفضل الكبير الأكبر على أهله مِمَّن أخذ به والتزمه وحققه في الدنيا والآخرة، والنفوس مشتاقة دائما أن تسمع وأن تتعرف على فضل الشيء؛ لأنها ربما ظنَّت أنّ هذا الشيء فضله واحد غير متعدد، وإذا تعددت الفضائل تعددت أوجه الاشتياق لهذا الأمر، والعناية به والحرص عليه، وبيان ما للعباد من الفضل والأثر إذا التزموا بهذا التوحيد، لهذا جاء في ”كتاب التوحيد“ الذي هو كتاب للشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد رحمه الله تعالى، أول باب من أبوابه ”باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب“ هذا أول باب، لماذا؟ لأنّ هذا الباب إذا تبيَّن للعبد فضل التوحيد، وبيان أثر التوحيد، وبيان حسنات التوحيد، وآثار التوحيد على العباد؛ على العبد في نفسه، وعلى العباد، وعلى الناس في الدنيا والآخرة، واشتاقت النفوس وعظمت عندها الرغبة في أنْ يتعرفوا على هذا التوحيد، وأن يطلبوا علمَه، وأن يهربوا مما يضاد ذلك الذي يذهب بهذه الفضائل وهذه الآثار والحسنات.(11/4)
موضوع المحاضرة كما سمعتم في العنوان ”فضْلُ التوحيد وتكفيره للذنوب“، تكفير الذنوب أحد آثار التوحيد، وأحد فضائل التوحيد، لهذا لا يُقتصر في فضله على أنّه يكفر الذنوب، فالله جل وعلا منّ على عباده؛ لأنْ أوضح لهم هذا التوحيد، وبيّن لهم أنّ أهل هذا التوحيد تكفر لهم الذنوب والسيئات، قال جل وعلا ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:48]، ما دون الشرك يغفره الله سبحانه وتعالى لمن شاء من عباده، وهؤلاء الذين تخلّصوا من الشرك هم أهل التوحيد، والتوحيد عنوانه البارز تحقيق الشهادتين؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وثبت في صحيح مسلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال «الإسلام –يعني التوحيد- يجُبّ ما قبله، والهجرة تجُبّ ما قبلها»([1]) الإسلام لمن حققه، وأسلمه ابتغاء وجه الله جل وعلا لا نفاقا ورياء، وتبرّأ من الشرك وكفر بالطاغوت، وعلِم معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإنّ هذا الإسلام يجُبّ ما قبله، فأوّل ما يواجه العبد إذا أسلم، أنّ إسلامه يجُبّ ما سلف له من الآثام، وما سلف له من الذنوب حتى ولو كان أعظم الذنوب وهو الشرك الأكبر بالله جل وعلا، الإسلام هو أعظم وسائل التوبة، الإسلام هو أنجح وأبلغ وسائل مغفرة الذنوب لمن كان عليها، حتى الشرك الأكبر، فكيف بما دونه من الشرك الأصغر، أو عموم الذنوب والكبائر والآثام، لهذا يُدرك التوحيد أهل التوحيد بالفضل أوّل ما يعلنُ الإسلام؛ لأنه بتوحيده لله جل وعلا وبراءته من الشرك فإن هذا التوحيد والإسلام يجُبّ ما قبله مهما كان الذي قبله، ولو كان أشْرَكَ الشركَ الأكبر، أو سفك الدم، أو أخذ المال، أو انتهك العِرض، أو وقع في الموبقات والكبائر، فكل ما قبل الإسلام مغفور بالإسلام، الإسلام يجُبّ ما قبله.(11/5)
وأمّا أهل الإسلام في تكفير الذنوب فإنّ كلَّ مسلم يتفضّل الله جل وعلا عليه بأنّه تُكَفَّر له الذنوب -إذْ كان مسلما موحِّدا- في الآخرة بمشيئة الله جل وعلا، وفي الدنيا إذا تاب توبة صالحة؛ فمن تاب نفعه توحيده من كل ذنب، وكفّر له الذنوب، ومَنْ عمل بما دون الكبائر في الدنيا فإنّ توحيدَه وعمله الصالح يكفِّر عنه تلك الصغائر.
أما حقيقة هذا التوحيد الذي يحصل به تكفير الذنوب، فإنّه ألاّ يُعبد إلا الله جل وعلا، وأنْ يعلَم العبد معنى الشهادة لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة. التوحيد الذي من فضائله وآثاره أنّه يكفّر الذنوب هو أنْ تعلَم معنى هذه الشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنْ تشهد بها مُعْلِنا غير مستخْفٍ بهذه الشهادة العظيمة، لهذا ثبت في الصحيحين من حديث عُبَادة بن الصامت رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «مَنْ شَهِد أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله, وَأَنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ, وَأَنّ عِيسَىَ عَبْدُ اللّهِ وَرَسُوله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا عَلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ, وَأَنّ الْجَنّةَ حَقّ, وَأَنّ النّارَ حَقّ, أَدْخَلَهُ الله الْجَنّةَ عَلَى مَا كَانَ مِن العَمَل»، وفي رواية قال « حَرّمَ الله عَلَيْهِ النَّار» فمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأول هذه الفضائل بأن حقق التوحيد أو يعني شهد شهادة التوحيد بأقل درجاتها كما سيأتي بيانه، فإن فضل التوحيد عليه أن الله جل وعلا يُدخله الجنة وَعْدًا منه جل وعلا ووعده الحق والصدق، وأنّ الله يحرم عليه النار وعدا منه جل وعلا ووعده الحق والصدق، وجاء في الصحيحين أيضا من حديث عِتبان بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بيان فضل الشهادتين «إنّه مَنْ قال لا إله إلا الله أو من شهد أنه لا إله إلا الله وأني رسول الله حرم الله عليه النار» وفي لفظ أيضا «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» من جنس(11/6)
ما جاء في حديث عُبادة، وهذا كله من الفضل العظيم والأثر الكبير للتوحيد.
وهنا وقفة في هاتين المسألتين:
?أما الأولى: فما معنى كوْن هذا التوحيد -وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من الشرك وأهله، والكفر بالطاغوت، وترك الشرك كبيره وصغيره- ما معنى أنّه يَدخل الجنة على ما كان من العمل؟
?وما معنى أن الله حرّم عليه النار؟
هاتان مسألتان.
أما الأولى وهي أنّه يدخل الجنّة على ما كان من العمل، فإن أهل التوحيد مآلهم إلى الجنة؛ والتوحيد أهله فيه أصناف: منهم من حقق التوحيد، منهم من خلط مع التوحيد عملا صالحا وآخر سيئا، ومنهم من جاء بالتوحيد ومعه ذنوب كثيرة جدا.
?أما الأول: فمن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وتحقيق التوحيد معناه تكميله؛ من أن يكون إخلاصه لربه، وخوفه منه، ورجاؤه فيه، أن يكون في نقص بوجه من الوجوه.
ومعنى تحقيق التوحيد: أن يكون متخلصا وخالصا من الشرك الأكبر والأصغر، ووسائل الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدع صغيرها وكبيرها، ومنَ المعاصي والذنوب الكبائر والصغائر، إلا من تاب، والعمل بالصالحات كما أمر الله جل وعلا.
فهذا التوحيد فضله عليه أنّه يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهؤلاء الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب عِدَّتهم سبعون ألفا بنص الحديث أنّه في هذه الأمة سبعون ألفا؛ يعني إذا أتوا يوم القيامة فيهم؛ في هذه الأمة سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ومنّة من الله جل وعلا وكرم أنه مع كل ألف سبعون ألفا، وهذا ميدان يتنافس فيه المتنافسون، وأعظِم به أمنا وأمانا، وأعظِم به أثرا وفضلا في الدنيا والآخرة.(11/7)
? أما القسم الثاني من الناس: فَهُم الذين عملوا بالتوحيد؛ شهدوا شهادة التوحيد وآمنوا واعتقدوا الاعتقاد الحق في الله جل وعلا في توحيده؛ في إلهيته، وربوبيته، وفي أسمائه وصفاته، عبدوه وحده لا شريك له، وتخلصوا من الشرك امتثالا لقوله ?فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا?[الكهف:110]، ولكنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، فهؤلاء التوحيد فضله عليهم:
1. أنهم إنْ تابوا تاب الله عليهم.
2. وإن لقوا الله جل وعلا بكبائر بغير توبة فإنه يغفر سبحانه وتعالى ذلك لمن يشاء؛ يعني بدون محاسبة لهم يغفر لمن يشاء.
3. ومنهم من يكون عمله السيئ بالموازنة ويرجح التوحيد بأعماله السيئة فضلا من الله جل وعلا وتكرم.
?وأما الصنف الثالث: فهؤلاء الذين أتوا بالتوحيد، وقوي إخلاصهم، وقوي توحيدهم وقويت حميتهم لتوحيد الله، وبراءتهم من الشرك، وبغضهم للشرك والكفر ولأهل الشرك والكفران، وكفرهم بالطاغوت وهو كراهتهم لعبادة غير الله، وبغضهم للشرك بالله جل وعلا وللكفر بأنواعه، عَظُم ذلك عندهم، ولكن كثرت سيئاتهم وذنوبهم، فهؤلاء مَثَلُهم مَثَل الرجل الذي يؤتى به يوم القيامة كما ثبت بذلك الحديث «يؤتى برجل يوم القيامة بين الخلائق، وينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مد البصر فيها سيئاته وذنوبه، فإذا رأى ذلك خاف وأصابه الهلع، فيقول الله له: أتنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا أنكر من هذا شيئا. فتوضع هذه السجلات في كِفّة السيئات، ترجح كِفّة السيئات، ثم يقول الله له: ألك عمل؟ فيقول: لا يا رب. فيقول الله له: بلى. فيؤتى ببطاقة، فيقول: ما هذه يا رب؟ فتوضع في كِفّة الحسنات، فتطيش تلك السجلات» يعني من قوة رجحانها، كفة الميزان رجح بقوة، فارتفعت الكفة الأخرى، فطاشت السجلات وتناثرت من قوة ثقل هذه البطاقة، هذه البطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله.(11/8)
لكن هل هذا الفضل لكل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ لو كان الأمر كذلك لما دخل النار أحد من أهل التوحيد، والله جل وعلا قد توعد أهل التوحيد من أهل الكبائر وأهل الذنوب بأنهم يدخلون النار ويُنَقَّون فيها، ثم مصيرهم إلى الجنة، لكن هذه حالة خاصة لمن كان التوحيد في قلبه عظيما، وحُبُّه لله جل وعلا ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإخلاصه لله؛ بأنه مؤمن بتوحيد الله بربوبيته وبماهيته وبأسمائه وصفاته، وأنّ هذا التوحيد بأنه لا يعبد إلاّ الله ولا يشرك بالله جل وعلا شيئا، وأنه يحبّ التوحيد، ويحب أهله، ويبغض الشرك ويُبغض أهله، فتكون هذه البطاقة مَيَّزَتْه عن سائر الأمة، فطاشت سجلات السيئات، مقابلة بعظم التوحيد وعظم شأنه، والتوحيد في القلب أيضا إذا عظم، إذا عَظُم التوحيد في القلب فإنه لا يكاد يكون معه إقدام على سيئة أو إصرار على كبيرة من كبائر الذنوب، فتكون حالة خاصة لعبد يُخرج من بين الخلائق أو لمن هو مِثْلُه ممن كثرت سيئاته لكن عظم توحيده وإخلاصه لله جل وعلا.(11/9)
وهذا يُرَغَّب فيه كلُّ أحد، ويَرْغَب فيه كل أحد منّا ممن لا يأمن على نفسه المعصية والذنب وممن يغشى الذنوب أو تَقِلُّ عنده الحسنات، وكلما زاد علم العبد بربه كلما علم أنه محتاج لما يخلصه من الذنوب والآثام، ومن قلة الامتثال للواجبات، وأعظم ذلك هو الإخلاص وتوحيد الله جل وعلا علما وعملا وانقيادا، لهذا «قال موسى عليه السلام لربه جل وعلا: يا ربّ علمني دعاء أدعوك به أو أذكرك به، قال: يا موسى قل لا إله إلا الله. فقال موسى عليه السلام: يا رب كل عبادك يقول هذا -أو يقولون هذا، يعني أراد شيئا يختص به؛ لأنّه ظنّ أنه كما أنه من أولي العزم من الرسل، وأنه كليم الله، وأن الله أعطاه التوراة، فإنّ هناك شيئا خاصا يدعو الله ويذكر الله به – فقال جل وعلا له: يا موسى لو أنّ السموات السبع وعامرهن غيري، والأراضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، ما لت بهن لا إله إلا الله» وهذا الحديث فيه فوائد عظيمة، الفائدة الأولى: فيه بيان فضل كلمة التوحيد، وأنّ الله جل وعلا من منته وكرمه وتفضله جعل الكلمة العظيمة ذات الفضل العظيم التي ترجح بالسموات ومن يعمرها وترجح بالأرض ومن فيها، جعلها كلمة سهلة متاحة للجميع لمن علمها وشهد بها شهادة الحق، وهذا من رحمة الله جل وعلا المتصلة بربوبيته والمتصلة بألوهيته والمتصلة بأسمائه وصفاته، كيف ذاك؟ رحمة الله جل وعلا بعباده في آثار كونه، سبحانَ ربًّا لهم أنْ جعل الرِّزق الذي به قوام حياتهم ليس مختصا بفئة منهم، الرِّزق الذي به قوام الحياة شائع؛ يناله الغني ويناله الفقير، الماء والحب، البُرّ والتمر ونحو ذلك بحسب البلد، يكون شائعا؛ ليس نادرا في بلد أو في أرض حتى لا يُدرك هذا الشيء إلا الأغنياء أو إلا الشرفاء أو إلا قلة الناس، ربوبية الله جل وعلا على خلقه العامّة جعلت ما يحتاجونه بما به قوام حياتهم جعلته شائعا بينهم؛ يمكن تحصيله، وكذلك في توحيد إلهيَّته جعل من رحمته أنّ ما به(11/10)
يُحقّق العباد، توحيد الإلهية يشترك فيه الجميع بأبسط شيء وهو كلمة لا إله إلا الله، ونبّه الله موسى عليه السلام على ذلك ليبيّن له أنّ ما يحتاجه العباد من فضل التوحيد لا يختص به الأنبياء، ولا يختص به الرسل، ولا يختصّ به أولي العزم، ولا يختصّ به كليم الله جل جلاله، وإنما هذا شائع، (قال موسى: يا رب كل عبادك يقولون هذا) فدل هذا أن رحمة الله بعباده أدركتهم في ربوبيته لهم وفي ألوهيته لهم وفي أسمائه وصفاته لهم؛ في أنّ ما به حياتهم؛ قيام حياتهم البدنية، وما به قيام دينهم، وقيام نجاتهم في الدنيا والآخرة، أنّ هذا شيء مشاع دائما.
حديث موسى عليه السلام رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم، ورواه النسائي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري في إسناد حسن، وصحح الإسناد الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وله روايات أخر يصير مجموعها حسنا أو صحيحا.
إذا تبين هذا تبين لك عظم هذا الشأن، وهو شأن التوحيد، وسهولته وفضله، وأنّ العلم به أعظم المهمات، أعظم المهمات، ولهذا يُعلم الصغير التوحيد؛ لأنّ هذا أعظم الإحسان لهذا الصغير، وترك الصّغير أو حتى ترك الكبير من تعلّم وتعليم التوحيد هذا نقص وسعي فيما هو دونه، لهذا تنتبه لأصل من الأصول، وهو أن في حديث موسى عليه السلام أنّ التذكير بفضل التوحيد يحتاجه حتى أُولي المقامات العالية في الدين، لهذا لا يستغني أحد، يقول أحد أنا تعلمتُ، درستُ التوحيد، وعرفتُ فضله، ما يحتاج أكرر هذا، ما يحتاج أعطيه الناس، ليس الأمر كذلك؛ لأن هذا إذا علمته، أول من سيدرك هذا الفضل أنتَ، ومن ذلك الفضل أنه يكفِّر الذنوب؛ لأنه يزيد عند العلم الاعتقاد بتكريره، كما أنَّه يُنسى بعدم تعليمه وتدريسه.
إذن تحصّل لنا مما ذُكر أنّ من فضل التوحيد ومن أثره:
? أنّه يكفّر الله به الذنوب.
? وأن به ترجح كِفة الحسنات على كفة السيئات.(11/11)
? أما الأمر الثالث فإنه يمنع الخلود في النار وهو الذي ذكرته لك في الأحاديث السابقة (حَرّمَ الله عَلَيْهِ النَّار).
والتحريم في النصوص؛ تحريم الجنة أو تحريم النار على نوعين؛ في النصوص:
? تحريم أبدي.
? وتحريم أمدي.
(حَرّمَ الله عَلَيْهِ النَّار) من شهد شهادة التوحيد حرم الله عليه النار، يعني أنْ يكون خالدا مخلّدا فيها، قد يدخلها، وقد لا يدخلها، بحسب ذنوبه، وحسب ما عنده، لكنه متعرض للوعيد، لكن هل يَخْلُد فيها صاحب التوحيد؟ لا، بوعد الله جل وعلا لا.
حرم الله الجنة على الكفار هذا تحريم أيضا أبدي، الكافر لا يمكن أنْ يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط.
المؤمن هل تَحْرُم عليه الجنة؟ جاء في بعض النصوص أنّ بعض المسلمين بسبب الذنوب أنه حرم الله عليه الجنة، مثل «حرّم الله الْجَنّةَ على قَاطِعِ الرَحِمِ» «لا يجد ريح الجنة وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا » هذا التحريم ليس تحريما أبديا على أهل التوحيد، ولكنّه تحريم مؤقت؛ لأنّهم يُنَقَّون من ذنوبهم قبل ذلك، ثمّ بعد ذلك يتأخر دخولهم للجنة حتى يصيبهم ما شاء الله جل وعلا من العذاب بعدله وحكمته.
فإذن من فضل التوحيد أن أهله تَحْرُم عليهم النار أن يخلّدوا فيها.(11/12)
? الرابع أنّ من فضل التوحيد على أهله أنّ التوحيد أعظم الأسباب لنيل شفاعة محمد بن عبد الله النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، سأل أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك. قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة «لقد علمت أنّه لا يسألني أحد قبلك يا أبا هريرة عنْ هذا، لما علمت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا منْ قلبه ونفسه»، ومعنى (أسعد الناس بشفاعتي) يعني سعيد الناس بشفاعتي؛ السعيد من الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خاصا من قلبه ونفسه، مَن قال لا إله إلا الله مخلصا فيها من قلبه ونفسه، شاهدا شهادة الحق، عالما بمعناها، فإنه أحق الناس بشفاعة محمد عليه الصلاة والسلام، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنال بوسائل كثيرة عد العلماء منها –أمور كثيرة تزيد على العشرة- ما جاء في الأحاديث الصحيحة ولكن أسعد الناس بها الموحد الذي أخلص في توحيده، وهو أول الناس نيلا لهذه الشفاعة.
? أما الخامس فهو أنّ التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج الكُرُبات في الدنيا وفي الآخرة:
قال جل وعلا ?الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ(102)لَا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ?[الأنبياء:101-103]الآية، هؤلاء الذين سبقت لهم من الله الحسنى، من هم؟ هم أهل التوحيد؛ أهل الإيمان بالله الحق، بتوحيد الله جل وعلا، والإيمان فيه بأنه هو المستحق للربوبية وحده، وهو المستحق لإلهية، وهو المستحق لأسماء والصفات، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وعمل صالحا، هؤلاء هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، حالتهم بالآخرة لا يحزنهم الفزع الأكبر.(11/13)
وأما في الدنيا ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً?[النحل:97] فلهم الحياة الطيبة وتفريج الكربات في الدنيا وفي الآخرة.
قد قال نبينا صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما «يَا غُلاَمُ, إِنّي أُعَلّمُكَ كِلمَاتٍ: احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ» (اِحْفَظِ الله يَحْفَظْكَ)، ثم قال له «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله» هذا توحيد «وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بالله» توحيد، ثم قال له «وَاعْلَمْ أَنّ الأُمّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لَكَ, ولو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرّوكَ إِلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ, رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفّتِ الصّحُف» وفي رواية «واعلم أن الفرج مع الصبر وأن النصر مع الكرب»([2]) وهذا كله لأهل التوحيد الذين أخلصوه.
? الأمر أو الفضل السادس أنّ صاحب التوحيد الذي وحّد الله وتخلص من الشرك قولا وعملا واعتقادا، له الأمن والهدى في الدنيا والآخرة، قال جل وعلا ? الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ?[الأنعام:82]، لما نزلت هذه الآية شقّ ذلك على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه. كل أحد لابد يظلم نفسه بأيّ شيء، إما أن يفرط في واجب، أو أنه يرتكب منهي عنه، فإذا تذكر تاب من التفريط، وإذا ذُكر أيضا انتبه لتفريطه في أداء الواجب أو في عمله بعض المحرمات، أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ليس هذا التي تذهبون إليه، الظلم الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ?[ لقمان: 13]»، وذلك أن الظلم ثلاثة أنواع:
? ظلم العبد في حق نفسه بالذنوب.(11/14)
? وظلم العبد لغيره بالاعتداء على حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم.
? وظلم العبد في حق ربه جل وعلا بالشرك بالله جل وعلا.
فنبههم النبي صلى الله عليه وسلم على أنّ العموم في هذه الآية عموم مراد به الخصوص، وهو أحد الأنواع الثلاثة وهو ظلم العبد في حق ربه بالشرك بالله جل وعلا، الذي هو أعظم أنواع الظلم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وهذا هو معنى الإتيان بالتوحيد والبراءة والخلوص من الشرك، فإنّ هذا يحصل للعبد به الأمن والاهتداء.
لكن الناس في التوحيد درجات، كذلك في الأمن والاهتداء هم أيضا درجات، فكلما كمَّل العبد توحيدَه، وكمَّل العبد خلوصه وبراءته من الشرك علما وعملا في التوحيد، وعلما وعملا في براءته في خلوصه من الشرك، كلّما كمّل الله له الأمن في الدنيا وفي الآخرة وكمل الله له الاهتداء في الدنيا والاهتداء في الآخرة.
يأتي قائل ويقول: الأمن في الدنيا فهمناه؛ الأمن النفسي، والأمن ألاّ يعتدي عليه أحد، وقوّة القلب، والأمن في المجتمع، وأمن الدولة، وأمن البلد، هذه كله يدخل فيه، كذلك الهداية في الدنيا بالتوفيق إلى الصالحات، ورؤية الحق حقا، والمنّة من الله على عبده باتّباعه، ورؤية الباطل باطلا، والمنّة من الله لعبده باجتنابه، هذا أيضا مفهوم، الأمن في الآخرة بعدم الفزع، وعدم الحُزن والحَزن وبعدم دخول النار أيضا مفهوم، لكن كيف تكون الهداية في الآخرة؟ ألم ينقطع التكليف؟ انقطع التكليف، فهل في الآخرة هداية، لأننا نقول أمن وهداية في الدنيا والآخرة، كيف تكون الهداية في الآخرة؟ قال جل وعلا ?وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4)سَيَهْدِيهِمْ? يعني بعد القتل ?وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5)وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ?[محمد:4-6]، جعل هنالك ثلاث مراتب:
1. أولا القتل.
2. ثم يهديهم الله جل وعلا.
3. ثم يدخلهم الجنة.(11/15)
هذه الهداية هي الهداية في الآخرة، فسَّرها أهل العلم بالتفسير وأهل العلم بالتوحيد، بأنّها الهداية بسلوك الصراط حين وُرود الظلمة؛ لأنه قبل الصراط هناك الظلمة التي يلتبس فيها الطريق، فربما مرّ الإنسان أو ذهب يريد هذا الطريق؛ يريد طريق الصراط لكنه يسقط في النار -والعياذ بالله-، أو يمشي في الصراط قليلا ثم يضل، لا يعرف كيف يتجه؛ لأنه فيه ظلمة وليس عنده نور تام، ينقطع منه النور الذي هو بسبب توحيده، ثم بعد ذلك يسقط.
فإذن هناك هداية لطريق الجنة في الآخرة هذه تحصل بحسب قوة التوحيد، فكلَّما قوي التوحيد كلما قويت الهداية وقوي النور في الدنيا وفي الآخرة([3]).
? أما السابع فمن فضل التوحيد أنّ التوحيد إذا قوي وإذا أحبّ العبد توحيد ربه وعلِمه وتعلمه، فإنه يوفق لكل قول وعمل صالح، سواءٌ أكان هذا القول والعمل ظاهرا أم باطنا، في نفسه أو في غيره، وهذه من أعظم المهمات؛ لأن العبد لا يخلو:
¨ إما أن يتعامل مع نفسه.
¨ أو أن يتعامل مع غيره.
¨ أو أن يتعامل مع ربه جل وعلا، وتعامله مع الله جل وعلا عبادة؛ يعني بالعبادات.
وتعامله مع نفسه، في شأن هوى نفسه، وما يَرغَب فيه وما لا يرغب وكيف يمتثل الشرع في نفسه.
ومع غيره في تأديته لحقوق الناس والعباد، ابتداء بحق والديه، وحق زوجه، وحق أولاده، وحق جيرانه، وحق زملائه، ومن يخالطه، وحق العلماء، وحق ولاة الأمر، وحق الصحابة رضوان الله عليهم، وحق أهل الإيمان بعامة، وهكذا في هذا الشأن.
التوحيد سبب من أسباب التوفيق لحسن تعامل العبد مع نفسه، ومع الخلق، ومع ربه جل وعلا.(11/16)
أمّا مع الله جل وعلا: فأهل التوحيد يحبون عبادة الله جل وعلا، يحبون الإخلاص، أيضا يحبون أنواع العبادات؛ تجد الموحّد الحق يصلي، تجد الموحّد يعطي الزكاة، تجد الموحّد يصوم رغبة واختيارا، تجده يحجّ رغبة، كلما قوي التوحيد قوي تعلق العبد في الصلاة؛ تعلقه بالصلاة الفرض وبالنوافل، تعلقه بصيام الفرض وبالنوافل، وهكذا ففي تعامله وعبادته لربه بحسَب توحيده وقوته يُقبل على ذلك ويوفَّق لهذا الأمر، لهذا فانظروا إلى نفسك في أيّ من المجالات، إذا أحسست في نفسك تقصيرا في الفرائض أو حتى في النوافل، ففتِّش فستجد أن بعض الدنيا والخلق زاحموا محبة الله جل وعلا في القلب ولا بد، يجتمع في القلب واردان؛ وارد محبة الله جل وعلا وتوحيده، ووارد محبة الدنيا والخلق والرغبة فيها، فيتزاحمان، فإذا قوي التوحيد أضعف الشيء الآخر، وإذا قوي الآخر أضعف التوحيد بحسبه، ولهذا العلم بالتوحيد وتعليم التوحيد وإرشاد الناس إليه هو أعظم البر والإحسان إلى الخلق؛ لأنه به ينفتح ذلك إذا أُحسن تقريره وشرحه للناس وترغيب الناس فيه.(11/17)
أمّا تعامل العبد مع نفسه: فإن العبد له هوى وله رغبة؛ له هوى في بعض المحرمات، لا أحد يسلم من ذلك، له هوى ورغبة في ترك بعض الفرائض؛ تتثاقل عليه، ذلك تعامله مع نفسه فيما يأتي وفيها يذر، كلّما قوي توحيد الله في القلب، وعِلْم العبد بربه، بربوبيته وأنّه سبحانه هذه الأرض جميعا، والقلوب جميعا بين أصبع من أصابعه، الأرض قبضته يوم القيامة، وأنّ هذه الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأنه سبحانه هو الذي يدبر هذا الملكوت، وأنه هو الذي يعطي ويمنع، وينفع ويضر سبحانه وتعالى، ويخفض ويرفع، ويقبض ويبسط، ويخلق سبحانه، ويحيي ويميت، ويصح ويمرض، ويغني ويفقر، وأنَّه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فحينئذ يقوى في قلبه العلم بالله جل وعلا، يقوى في قلبه التوكل على الله جل وعلا، يقوى في قلبه محبة الله جل وعلا، كذلك العلم بأنّه هو المستحق للعبادة وحده، هو المستحق للطاعة سبحانه وتعالى طاعة العبادة وحده، هو المستحق لكذا، وكذا، وكذا من أنواع العبادات، فإنّه حينئذ يعظُم في قلبه محبة الله وتوحيده، وتضعف نوازع الشر في نفسه.
أما تعامله مع الخلق: فإنّ الموحّد لا يغيب عن باله إذا قوي توحيده، أنّ أنسه بالله فوق كل أنس، وأنّ رضا الله جل وعلا عنه فوق كل رضا، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، من التمس رضا الناس مهما كانوا؛ كبارا أو صغارا، رعاة أو رعية، ملوكا أو مملوكين، ومن كانوا، من التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. ومن التمس رضا الله ولم ينظر إلى الناس أن يسخطون أم يرضون رضي الله عنه وأرضى عنه الناس. وهذه مجربة فيمن سار على شرع الله بالحكمة والموعظة الحسنة في هذا الأمر.
فالتعامل مع الناس إذا تعلق القلب بالله فإنه سيعاملهم والله جل وعلا بين عينه، يرجوه ويخافه ويتّقيه ويحبه، يخشى أن يتغير قلبه عليه بظلم عبد من العباد، فلهذا يصلح علمه في نفسه ومع الخلق.(11/18)
فإذن أهل التوحيد يوفَّقون للأعمال الظاهرة والباطنة المتنوعة، وللأقوال الظاهرة والباطنة في تعامل العبد مع نفسه ومع الخلق وفي عبادة الله الواحد الأحد.
? الثامن من آثار التوحيد وفضائله وحسناته أنّ التوحيد يحرّر العبد من الرِّق للخلق والمبالغة في مراعاتهم، إلى عزّة الرّق والعبودية للواحد الأحد السميع البصير جل جلاله وتقدست أسماؤه. العباد عند الله جل وعلا سواسية، ابتلى الله العباد وجعل بعضهم لبعض فتنة كما قال سبحانه ?وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا?[الفرقان:20]، ما معنى (أَتَصْبِرُونَ)؟ جعل الله الفقير فتنة للغني، والغني فتنة للفقير.(11/19)
الفقير فتنة للغني هل يتعاظم ويعظم، وينظر أنه إذا حصل ألف أو ألفين أو مائة ألف أو مليون أو عشرات الملايين أو المئات أنّه عظُم وعظُم حتى صار عند نفسه أنه فوق الخلق، أُبتلي بالفقير ماذا يعمل معه، وهل يترفّع عليه أم لا؟ لهذا نبينا صلى الله عليه وسلم ماذا قال الله له؟ قال الله له ? وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا?[الكهف:28]، حتى لما رغِب عليه الصلاة والسلام في إسلام بعض الأغنياء والأثرياء وترك الفقير؛ لأنه في تقديره عليه الصلاة والسلام أنّه إذا أسلم الغني فإنه سينفع الإسلام أكثر وأكثر وترك الفقير، عاتبه الله جل وعلا، وقال له ?عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى(2)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى(5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى(6)وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى(7)وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى(8)وَهُوَ يَخْشَى(9)فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى(10)كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ?[عبس:1-11] له عليه الصلاة والسلام وللناس جميعا.
جعل الله أيضا الغني فتنة للفقير، هل يحسد الفقير الغني، أو يسأل اله جل وعلا السلامة؟ هل ينظر إليه بحنق وحقد وكذا، أم يعظم رغبته في الله؟
أيضا المريض والصحيح جعل الله بعضهم فتنة لبعض.
أيضا الملك والرعية جعل الله جل وعلا بعضهم فتنة لبعض.(11/20)
وهذا كله كما قال جل وعلا (أَتَصْبِرُونَ)، (جعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) لاحظ كلمة (فِتْنَةً) فتان (أَتَصْبِرُونَ) من يصبر ممن لا يصبر، من حقق التوحيد من أخذ بالتوحيد، من عمل بالتوحيد، نظر إلى الخلق نظرا صحيحا وتخلّص من الرّق للخلق ومن كثرة مراعاة الخلق، وعظُم في قلبه ربه جل جلاله وتقدست أسماؤه، وكان عزيزا لله الواحد الأحد، وكان مرتفعا لله والواحد الأحد، وكان عظيما لله الواحد الأحد، كما قال سبحانه ?وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ?[آل عمران:139] (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا) أوش تقدير الآية؟ بعض الناس يظن تفسير الآية وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن تكونوا مؤمنين فلستم بالأعلون، ليس هذا هو التفسير، تفسير الآية ولا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين وأنتم الأعلون لأنكم في حال إيمانكم، ما دام أنكم مؤمنون فلا تهنوا ولا تحزنوا فأنتم الأعلون. (وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ) هذه جملة من المبتدأ والخبر حاليا؛ يعني ولا تحزن ما دامك مؤمن لا تهن ولا تحزن فإنك أنت العالي .
إذن من فوائد التوحيد في القلب أنه يخلصه من الرّق للمخلوق، ومن الذل له، وإنما يعامل الموحد المخلوق بما أمر الله جل وعلا؛ لا يتكبر عليه، ولا يهينه وإنما يعامله لأنه مؤمن أو يعامله بحسب شأنه –نستمع للأذان-(11/21)
وبعد هذا فضائل التوحيد وآثاره، كما أنها متعلقة بأفراد المؤمنين، فهي أيضا متعلقة بالبلد المسلم الموحِّد والمجتمع والدولة، قال جل جلاله ?وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ?[الأعراف:56] والإفساد في الأرض بعد إصلاحها هي أن يُسلَك فيها بما يناقض التوحيد، أو بما يُنقص كمالَه بالشرك الأكبر أو بالشرك الأصغر، هذا هو الإفساد أعظم الإفساد في الأرض، وكذلك ما يحصل من التعديات على الخلق هذا إفساد في الأرض، وقال أيضا جل وعلا في بيان ذلك في سورة النور ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا?[النور:55] هنا وعد وموعود وحالة يكون عليها الوعد.
أما الموعود أولا فهم أهل الإيمان (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) هؤلاء هم الموعودون.
أما ما وُعدوا به فجاء في ثلاثة أشياء:
¨ أولا (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ) يعني إنْ لم يكن لهم غلبة ومنعة واستخلاف فالله يعدهم طال الزمان أو قصر أنْ يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم.
¨ ثم قال الوعد الثاني (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) أعظم شيء يختاره المؤمن ويريده أنْ يكون يعبد الله جل وعلا بتمكين؛ لا يَسْتَخْفِ بدين الله، ولا يكون مُهانا وهو يَدِينُ بدين الله؛ بل يكون مرفوع الرأس، يكون بما وعد الله جل وعلا له.(11/22)
¨ أما الوعد الثالث بقوله (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) يعني بعد أن كانوا قلة يخافون، استخلفهم ومكّن لهم دينهم، فصاروا بعد الخوف أَمْنَى؛ آمنين على أنفسهم، على دينهم، على أنفسهم، وعلى أولادهم، وعلى أعراضهم، وعلى أموالهم، هذه كلها مِنَن، ووعد من الله جل وعلا له.
ما حالتهم؟ بين الحالة في الجملة الفعلية بقوله (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) يعني إذا استخلفهم وبدّلهم ومكّن لهم دينهم وبدّلهم بعد الخوف أمنا، ما حالتهم في هذا كلِّه وقبله؟ أنهم (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، وهذا أعظم أثر للتوحيد على الناس في دولتهم وفي مجتمعه، أنهم إذا عبدوه ولم يشركوا به شيئا وأقروا التوحيد ونبذوا الشرك فإنهم موعودون بفتح فضل الله جل وعلا لهم بهذه الثلاث، وكذلك بأنهم تُفتح لهم بركات من السماء ومن الأرض، فيوسِّع الله عليهم في الأرزاق، ويكونون في حياة طيبة مطمئنة.
وبعد هذا كله يظهر لك أنّ فضائل التوحيد وآثاره وحسناته على الناس؛ على أهل الإيمان وعلى غيرهم، وعلى الأفراد، وعلى الدولة والمجتمع كبير جدا جدا، فلهذا يعظم حينئذْ الواجب، وتشتدّ حينئذن التبعة في أن نهتم بالتوحيد في أنفسنا وفيما حولنا إن رغبنا في هذا الخير العظيم، وإلاّ فليس هو من باب الفضائل، هو من لم يأخذ بالتوحيد ويجتنب الشرك فقد قال الله جل وعلا في شأنه ?إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ?[المائدة:76].
أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم من أهل توحيده الذين علموه واعتقدوه وشهدوا به وعملوا به ودعوا إليه وأعلنوه، إنه سبحانه ولي الصالحين، وهو ذو الفضل والإحسان.(11/23)
كما أسأله سبحانه أن يجعلنا جميعا ممن حاز هذه الفضائل، اللهم لا تحرمنا فضلك بذنوبنا ولا بتقصيرنا وبإسرافنا في أمرنا، اللهم اجعل عاقبة أمرنا إلى خير، واجعل لنا فواتح الأمر من الخير وخواتمه إنك على كل شيء قدير رحمن رحيم.
كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمورنا لما فيه رضاه، وأن يجعلنا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
نأخذ بعض الأسئلة ثم الإقامة لننصرف بعد الصلاة إن شاء الله:
1/ صاحب الفضيلة أسئلة تواردت عن التوجيه لقضاء الإجازة الصيفية سيما مع اقترابها ومع كثرة الذين حزموا حقائبهم استعدادا للسفر وللضرب في الأرض، ولعل معاليكم أنْ يوجه توجيها لهؤلاء ولشباب المسلمين جميعا، جزاكم الله خيرا.
أولا كلُّ شيء تجده في الكتاب والسنة؛ إخبارا وحكما وبيانا لأثره وآثاره. والسفر من ذلك في عدة آيات، ومنها قوله جل وعلا لما ذكر قصة سبأ ممتنا عليهم في بلادهم بقوله ?وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ?[سبإ:18] هذا الأمر (سِيرُوا) للامتنان ”أمر امتنان“ وهو أحد معاني الأمر السبعة والعشرين كما هو معروف عند الأصوليين، (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ) يعني امتن الله عليهم بأن يسيروا مسافرين آمنين ليالي وأياما، ثم عابهم بقوله ? فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ?[سبإ:19]، عاب الله عليهم أنهم لما سافروا ظلموا أنفسهم في أسفارهم.
فالسفر مباح وإذا خالطته أو صار القصد منه معصية، القصد من السفر أنشئ لمحرم صار سفرا محرما، وإذا كان أصله سفر طاعة فخالطته معصية أو ذنوب فإن هذا من جنس الذنوب التي يغشاها الإنسان.(11/24)
إذن السفر المباح كما هو معلوم وقد يكون الإنسان يختار ذلك لأنسه أو لأنس أولاده أو نحو ذلك مما أباحه الله جل وعلا، لكن الإجازة فرصة عظيمة وهذا الفراغ بأن يكسب الإنسان فيها، هي طويلة قد لا يسافر فيها كلها، حتى لو سافر يكسب فيها ما يؤنسه وما يستفيده في دينه، أما أن تكون لهوا ولعبا بدون أن يعود له منها فائدة هذه ليست من سيمات عباد الله جل وعلا الصالحين، قال جل وعلا لنبيه ?فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ(7)وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ?[الشرح:7-8]، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِن النّاسِ الصّحّةُ وَالْفَرَاغُ» (مَغْبُونٌ فِيهِمَا) يعني أنّ الناس يتمنون أن عندهم فراغ مثل ما عند هذا الذي عنده فراغ فإذا كان الأمر كذلك، فالمطلوب من الجميع أن يتقوا الله جل وعلا في أي أمر يكونون فيه إذا كانوا في حضر أو في سفر أو إذا عزموا أن يقتفوا نيتهم صالحة «إنما الأعمال بالنيات» وأن يكون قصدهم حسنا، وأن لا يعزموا على شيء فيه مضرة لأنفسهم لدينهم أو في دنياهم.
الأمر الثاني ألاّ يتركوا أنفسهم من نفعها، الفراغ فرصة تنفع نفسك وأولادك بالعلم النافع، التعويد على العبادة بإلحاقهم بدورات علمية، أو بإحسان القرآن، أو إحسان القراءة عَشَان قراءة القرآن أو بإحسان القراءة العامة أو بتحبيبهم للمطالعة للكتب، أو الصلة بأهل العلم، أو بالصالحين حتى يكون هناك تربية صالحة هذا من أعظم ما يصلح.
أما الأمر الثالث فإن كل إنسان قدوة في بيته، وقدوة لمن تحت رعيته، فلذلك ينبغي له أن يقبل على الخير، وأن يدعو من تحت يده للإقبال على الخير سواء في العلم أو في العمل. وفق الله الجميع لما فيه رضاه .
2/ أحسن الله إليكم معالي الشيخ كثرت الدعاوى في هذه الأيام إلى ما يسمى وحدة الأديان، وأن تجتمع المئذنة بجانب الكنيسة، أو ما يسمى التسامح الديني، فما تعليكم أحسن الله إليكم؟(11/25)
أولا الأديان كثيرة ?لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ?[الكافرون:6]، لكن الدين الذي أنزله الله من السماء واحد لا يتعدد ?إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ?[آل عمران:19]، ?إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(131)وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[البقرة:131-132] الإسلام العام هو الذي جاء من عند الله، الشرائع مختلفة، لهذا يثقل شرعا قول من يقول الديانات السماوية، فليس ثَم ديانات سماوية إنما الدين الذي من السماء واحد، والشرائع هي التي تختلف قال جل وعلا ?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا?[المائدة:48] وقال نبينا صلى الله عليه وسلم فيما رواه معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «الأنبياء إخوة لعلات الدين واحد والشرائع شتى».
فإذن من هذا نخلص إلى بطلان قول من قال الديانات السماوية، ويوجد ديانات لكن لا يصح أن يقال أنها سماوية؛ لأن من السماء لم يأتِ إلا دين واحد وهو دين الإسلام فالنصرانية واليهودية من السماء شرائع، لكن الدين هو الإسلام، يجوز أن تقول دين النصرانية ودين اليهودية على اعتبار أن المقصود بالدين هنا الشريعة، كما قال جل وعلا ?مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ?[يوسف:76] يعني في شريعة الملك، لكن إذا أضيف إلى السماء فهذا لا يصح ولا يصلح، هذه المسألة الأولى.
أما المسألة الثانية فقول القائل هنا في السؤال (كثر) هذا ليس بصحيح لم يكثر؛ تكثر هذه الدعوى وإنما وجدت هذه الدعوى من جهة أو من جهتين في العالم، ولكن الإعلام هو الذي أكثر ترديدها وذِكرها، وهذا الذي يسمى التسامح الديني، التسامح كلمة مجملة، قد تحتمل صوابا، وقد تحتمل خطأ:(11/26)
أما صوابها فأن يكون هذا التسامح على وفق شرع الله جل وعلا بأنه لا يجبر أحد على دين؛ لا يكره أحد على دين، كما قال جل وعلا ?إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ?[البقرة:256]، وكما قال جل وعلا ?لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ?[الكافرون:6]، ووجود الكنيسة بجانب المسجد هذا وُجد في زمن الصحابة رضوان الله عليهم في البلاد التي فيها أهل الذمة، وكانوا يتعبدون في كنائسهم، ولكن لا يعلنونها في شارع المسلمين -كما هو معروف من الشروط العمرية- ويسمح لهم بذلك في البلاد التي كان فيها أهل الذمة، التسامح في هذا المعنى تسامح جاء به الشرع وهو صحيح، أما في جزيرة العرب فقد روى الإمام مالك في الموطأ والإمام أحمد في المسند وغيرهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «لاَ يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ العَرَبِ دِينَانِ» يعني لا يجتمع في هذه الجزيرة دينان ظاهران، لا يظهر فيها إلا دين الإسلام، أما وجود غير المسلمين فلهم أن يتعبدوا في بيوتهم، وأن يمارسوا شعائرهم في أماكنهم دون أن يُظهروا ذلك، هذا المعنى من التسامح صحيح شرعا، وهو وفق الأحكام الشرعية.
أما الثاني التسامح وهو المعنى المرقوب والباطل، وهو أنْ يكون التسامح تسامحا مخالفا لأمر الله جل وعلا وأمر رسوله وما جاء في نصوص الكتاب والسنة، أن يكون التسامح بأن يوالي المسلم غير المسلم، وأن يودّ المسلم الكافر أو المسلم أو أن لا يتبرأ منه؛ يعني بأن لا في نفسه بغض للشرك والكفر، والآن هذه الدعوى الموجودة التي ذكرت يراد منها أن لا يكون في القلب كراهة لأي ملة من الملل؛ بل يكون من الناس فيما يتدينون به ما يشاءون، وهذا باطل، هذا أمر منوط بأحكام الشرع.
لهذا نقول كلمة التسامح هذه يمكن أن تفسر بتفسير صحيح على وفق الشرع، ويمكن أن تحمل معنى باطلا في نفسها وفي آثارها.(11/27)
لم يُعطِ أحدا الحق الديني في ديانة تخالف مثل ما أعطى الله جل وعلا ومثل ما أعطى رسوله صلى الله عليه وسلم في دين الإسلام من إكرام أهل الذمة يعني بعدم إهانتهم ومن أن لهم التعبد بعبادات أنهم لا ينصرون على دين الإسلام وأنه من أراد أن يتعبد بعبادة فلا يكره على دين الإسلام ولا يجبر على أن يسلم، بل يحث وينادى بذلك، وهذا الإكرام والإحسان من أسباب جعل الكثير من غير المسلمين يسلمون؛ بل قال الله جل وعلا ?لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?[الممتحنة:8]، الجار إذا لم يكن مسلما له حق المجورة يُهدى له ويعطى إلى آخره، فإذن الذي كفر حق المخالفين في الدين هو الله جل وعلا في هذا الدين دين الإسلام، وأما ما يدعون في المواثيق الدولية، وفي حقوق الإنسان، وفي بعض الوثائق التي يدعى إليها والقوانين من أن يكون التسامح على وفق فهمهم، فهو في الحقيقة ليس إعطاء كل ذي حق حقه، ولم يطبقوه أصلا في بلادهم، تجد أن جرس الكنيسة يُقرع والآذان يُمنع يقول الآذان يُزعج لكن جرس الكنيسة لا يزعج الناس، والأمثلة لهذا كثيرة لكن لا نحب أن نطيل بذكرها. المقصود التنبيه على ما سأل عنه السائل.
ونكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
---(11/28)
([1]) اللفظ الذي ذكره الشيخ في المسند أما لفظ مسلم: عَنِ ابْنِ شُمَاسَةَ الْمَهْرِيّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ـ وهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ ـ. فَبَكَىَ طَوِيلاً وَحَوّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ. فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ! أَمَا بَشّرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ أَمَا بَشّرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ قَالَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنّ أَفْضَلَ مَا نُعِدّهُ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ. إِنّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثٍ. لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدّ بُغْضا لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنّي. وَلاَ أَحَبّ إِلَيّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ. فَلَوْ مُتّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النّارِ. فَلَمّا جَعَلَ الله الإِسْلاَمَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ. قَالَ فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنّ الْحَجّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ»؟ الحديث.
([2]) في مسند الإمام أحمد قال النبي صلى الله عليه وسلم «وإنّ النصر مع الصبر, وإنّ الفرج مع الكرب».
([3]) انتهى الوجه الأول من الشريط.(11/29)
شرح العقيدة الواسطية
لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية
-رحمه الله-
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه و خليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
أما بعد ، فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح وأن ينور بصائرنا بالعلم والهدى وأن يقيم أعمالنا بدين الحق الذي أرسل به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذا الدرس الذي أسأل الله جل وعلا أن يتممه ، ألا وهو شرح هذه العقيدة الواسطية التي ألفها شيخ الإسلام والمسلمين علم الدين وتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الإمام المعروف المتوفى سنة 728 رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ، كتب هذه العقيدة إلى أهل واسط يبين لهم فيها اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة ومن تبعهم على هذا الاعتقاد إلى وقته رحمه الله تعالى.
وهذه الرسالة على وجازتها واختصارها قد اعتنى بها العلماء بعد شيخ الإسلام رحمه الله لأنها قد شملت من أصول عقائد أهل السنة والجماعة على الخلاصة الوافية .
فقد ذكر فيها رحمه الله كل أصول الاعتقاد .
ذكر فيها شرح أركان الإيمان الستة .
وذكر فيها ما يجب لله جل وعلا من صفات الكمال وما يوصف الله جل وعلا به والأصل في ذلك ، ومخالفة المبتدعين والضالين في باب الأسماء والصفات ، وذكر ما يتصل بذلك من الأمور الغيبية وذكر ما يتصل بذلك من الإيمان بالأمور الغيبية والإيمان بالكتب والرسل وبالقدر خيره وشره .(12/1)
وبين أن من أصول أهل السنة والجماعة الأحكام المتعلقة بالإمامة العظمى وكذلك بما يجب لولاة الأمر من حق السمع والطاعة مخالفة للخوارج وأشباههم ممن خالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك وذكر اعتقاد السلف الصالح في صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأن ذلك من الواجبات الشرعية الاعتقادية لأن فيه مخالفةً لأهل البدع من الروافض ومن شابههم الذين لا يتولون جميع أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وذكر أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذكر أحكام أو أصول الأخلاق عند أهل السنة والجماعة ، وبهذا الذي ذكره في هذه الرسالة العظيمة المختصرة يتبين أن اعتقاد أهل السنة والجماعة يشمل أصول :
الأول العقيدة العامة في الله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره .
ثم مسائل الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هذا هو الثاني ، والكلام في ما يتصل بذلك من الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم .
ثم الثالث ، الأصل الثالث من أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة : الكلام في أخلاق أهل السنة والجماعة
وهذه هي الأمور الثلاثة التي فَصَّلَ فيها شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الرسالة العظيمة
وهذه الرسالة وجيزةٌ ألفاظها لكن هي مدرسةٌ للعلم باعتقاد أهل السنة والجماعة ومنهج أهل السنة والجماعة .
وذلك الاعتقاد تفصيله في كتب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى . فكتب شيخ الإسلام رحمه الله تعد شرحاً لهذه العقيدة الواسطية .
فأحسن شرح لهذه ما نثره شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه وفصَّله وبيَّنه من أصول هذا الاعتقاد .
و كذلك تلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى . إذ لا أحسن في فهم كلام شيخ الإسلام من شرحه هو نفسه في مصنفاته الأخرى . وكذلك في فهم تلميذه ابن القيم رحمه الله جل وعلا .(12/2)
هذه الرسالة لها شروح كثيرةٌ كما هو معلوم ، هذه العقيدة المباركة لها شروحٌ كثيرة ، ومن أعظمها نفعاً وأدقها لفظاً:
الشرح المسمى بـ (التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية) للشيخ العلامة عبدالعزيز ابن رشيد رحمه الله تعالى . فإن هذا الشرح من أنفس شروح هذه العقيدة الواسطية . فقد بين من مسائل هذه العقيدة ومن ألفاظها ما يكفي طالب العلم في هذا الباب أعني باب الاعتقاد . لأنه ذكر فيها من العلم الواسع الغزير ما لو اكتفى به طالب علم في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة لكفاه . ولهذا أحض - من أراد شرحاً لهذه العقيدة - على هذا الكتاب . ألا وهو (التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية) للشيخ ابن رشيد رحمه الله تعالى .
من المقدمات المهمة قبل الشروع في شرحٍ لهذه العقيدة أن نبين أن هذه العقيدة المباركة وكذلك سائر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية بيَّن فيها عقيدة السلف وفصَّل فيها ما ذكره السلف في كتبهم من الاعتقاد.
وكتب شيخ الإسلام تتميز على كتب السلف يعني من كتب أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم ومن تلاهم زمناً تتميز هذه العقيدة وسائر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية عن تلكم الكتب الكثيرة في الاعتقاد بمزايا منها :
" أن شيخ الإسلام رحمه الله قد فهم ما قاله الأئمة من قبل ، فصاغه بصياغةٍ تجمع أقوالهم بأدلتها وببيان معانيها فهو خير من فهم كلام الأئمة من قبل .
" ومن مزاياه ، أعني مزايا كلام شيخ الإسلام في الاعتقاد : أنه - رحمه الله تعالى - قد بلغ في فهم نصوص الكتاب والسنة المبلغ والدرجة التي شهد له بها أهل عصره ومن تلاهم . ومن المعلوم أن أدلة الاعتقاد هي نصوص الكتاب والسنة . ثم هو مع هذا اطلع على كلام الصحابة وكلام التابعين ومن تبعهم في تفسير معاني نصوص الكتاب والسنة . ولهذا كلام شيخ الإسلام في بيان معاني الكتاب والسنة يُعد أحسن كلامٍ للعلماء المتأخرين يعني بعد الأئمة المشهورين .(12/3)
" ومن مزايا كلام شيخ الإسلام وهذه العقيدة أيضاً أن شيخ الإسلام استحضر حين كتابتها أقوال أهل البدع والمخالفين وحججهم فهو يذكر ما يذكر من الاحتجاجات مستحضراً تلك الأقوال وتلك الاعتراضات من أهل البدع أو تلكم الأقوال المنحرفة من أهل البدع على اختلاف أنواعهم ، ومعلومٌ أن حال الكاتب أو المؤلف الذي يؤلف وهو على هذه الدرجة العظيمة من الاستحضار أن كلامه يكون مُنبئاً عن ما يكون فصلاً في هذه المسائل .
" ومن مميزات هذه العقيدة وكذلك سائر كتب شيخ الإسلام رحمه الله : أن شيخ الإسلام أوضح فيها كثيراً من المجملات التي ربما كانت في كلام السلف . فقد تجد في كلام المتقدمين من أهل القرون المفضلة كلاماً في الاعتقاد ربما أُجْمِلَ في مواضع وَفُصِّلَ في مواضع وشيخ الإسلام يستحضر هذا وذاك ويذكر الكلام المجمل والمفصَّل كُلٌّ في مكانه ويوضح ذلك . بحيث إن من فهم كلام شيخ الإسلام وفهم كتب شيخ الإسلام رحمه الله ثم بعد فهمه لذلك وبراعته فيه رجع إلى كتب السلف فإنه يفهمها فهماً مصيباًَ على ما ينبغي . وأما من ترك التفقه في كتب شيخ الإسلام رحمه الله فربما زلَّ في فهمه لبعض كلام السلف وكلام الأئمة . لأن بعضهم ربما وقع في كلامه إجمال أو وقع في كلامه رعاية لحال السائل أو نحو ذلك من الأسباب التي لا يمكن المُجيب معها أن يفصِّل التفصيل المطلوب.
لهذا نقول إن العناية بهذه العقيدة مما حث عليه العلماء قديماً وحديثاً . فلا غرو أن أوصي إخواني وفقهم الله تعالى للخير بهذه العقيدة وبفهم ألفاظها ومعاني الألفاظ ومعاني ما فيها من الأدلة والاستدلال والحجج ، لأن فيها خيراً عظيماً.
عقيدة الفرقة الناجية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمْدُ للهِ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا.(12/4)
وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا مَزِيدًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابتدأ رحمه الله هذا الكتاب وهذه الرسالة بالثناء على الله ، بأنه هو المستحق لجميع أنواع المحامد لأن كلمة الحمد كما سبق أن أوضحت في غير هذا الدرس هي مكونةٌ من الألف واللام التي تدل على استغراق الجنس أو الأجناس .
ويكون معنى الحمدُ معناه جميع أجناس المحامد هي لله جل وعلا استحقاقاً .
فقوله (الحمْدُ للهِ) أفادنا أن كل أنواع المحامد لله جل وعلا .
وقد ذكرت لك فيما مضى أن أنواع المحامد لله جل وعلا كثيرة تجتمع في خمسةٍ وهي:
حمده جل وعلا على تفرده بالربوبية دون مشاركٍ له فيها وآثار الربوبية في خلقه أجمعين .
حمده جل وعلا على كونه ذا الألوهية على خلقه أجمعين وأنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه .
حمده جل وعلا على ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا .
حمده جل وعلا على شرعه وأمره ودينه .
حمده جل وعلا على قضائه وقدره وما أجرى في كونه .
هذه هي أنواع المحامد ، أو جِماع أنواع المحامد ، وقد مرت بك مفصلةً في أول شرح زاد المستقنع في الأسبوع الماضي .
وقوله هنا لله اللام هنا للاستحقاق ، فإذا كان ما قبل اللام من المعاني لا من الأعيان فإنها تفيد الاستحقاق ، وقد يكون مع الاستحقاق المِلْكْ .
والله جل وعلا له جميع أنواع المحامد استحقاقاً يستحقها ، وهو جل وعلا مالكٌ لها ، فله جميع المحامد مِلكاً واستحقاقاًَ ، مُلكاًَ له و استحقاقاً له جل وعلا ، وقوله هنا:(12/5)
الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
هذا اقتباس من آية في آخر سورة الفتح وهي قوله تعالى ?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً?
و(الهُدَى) هو العلم النافع مما جاء في الكتاب والسنة .
فالله جل وعلا أرسل رسوله بالهدى وهو العلم النافع سواءٌ في ذلك ما كان من باب الأخبار وهي أبواب الاعتقاد ، أو من باب الأمر والنهي ، وهذا كله العلم النافع الذي يورث الهدى ، وهو هدىً في نفسه يعني مرشداً ودالاًّ على الطريق التي هي أقوم ، وكذلك يورث الهدى الكامل في الدنيا وفي الآخرة .
وأما (دِينِ الْحَقِّ) فقد فسرها السلف بأنها العمل الصالح ، الأعمال النافعة .
الأعمال الصالحة للمؤمن في نفسه وللناس في أنفسهم ، وكما يقال : للمجتمعات وللأمم بأجمعها .
فالله جل وعلا أرسل رسوله بالهدى بالعلم النافع وبدين الحق الذي هو العمل الصالح .
وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا
كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا على ما ذكر ، فالله جل وعلا شهد بأن ما بعث به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو الهدى وهو دين الحق .
وشهادة الله جل وعلا فوق كل شهادة ، إذ لا أعلم من الله ، ولا شاهد يُكتفى به إلا الله جل وعلا في هذه المسائل العظيمة أو ما أوحى به إلى رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فمن أتته شهادة الله جل وعلا كفى بها شهادة .
إذا كذلك فمن المتقرر أن نصوص الكتاب والسنة التي وُصِفت في هذه الآية بأنها الهدى قد اشتملت على أنواع الأخبار التي هي في الأمور الغيبية عن الله جل وعلا وعن أسمائه وصفاته وعن ما يكون في يوم المعاد من الأمور الغيبية .
وإذا كانت هذه النصوص في هذه الأمور الخبرية وكذلك ما أخبر به النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في هذه الأمور قد وصفها الذي يُكتفى بشهادته بأنها هدى .(12/6)
فيُعلم منه أن من لم يرضَ بكون هذه النصوص وما دلت عليه الهدى الكامل والشفاء الكامل فإنه يتضمن ذلك بأنه لم يكتفِ بشهادة الله جل وعلا .
وهذا هو ما صنعه الذين سلكوا مسلك البدع من أنواع الفرق كالخوارج والمرجئة والقدرية والمعتزلة والجهمية والأشاعرة والماتريدية فإن كل فرقةٍ من هذه الفرق لم ترتضِ نصوص الكتاب والسنة ولم تجعلها كافية بل أعملت في ذلك إما بعقولها أو بأقيسةٍ ضالة .
فمن أخذ بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة ، وهي القاعدة العظيمة في الاعتقاد ، لأننا لا نتجاوز في الاعتقاد القرآن والحديث كما قال الإمام أحمد بهذا الأصل ، قال (نُمِرُّها كما جاءت) - أي بنصوص الصفات - لا نتجاوز القرآن والحديث .
يعني لا نتأول كما تأول المتأولة ولا نعطل كما عطل المعطلة ولا نُشبِه أو نمثل كما مَثَّلَ المجسمة أو مَثَّلَ الممثلة ، وإنما لا نتجاوز القرآن والحديث ، وذلك لأن أهل السنة قد اكتفوا بشهادة الله جل وعلا في هذه الآية بأن ما أرسل به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو الهدى وهو دين الحق ، فقبلوه ولم يتجاوزوا القرآن والحديث ، قال بعد ذلك :
وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا.
وهذه تحتاج إلى شيءٍ من التفصيل ، وذلك أن قوله هنا وأشهد هذه الشهادة معناها الاعتراف والإقرار الذي يتبعه إعلامٌ وإخبار.
لأن الشهادة تشمل : اعتقاد القلب وإخبار اللسان .
فمن اعتقد بقلبه دون أن يتكلم بلسانه لم يُعد شاهداً .
ومن تكلم بلسانه - كحال المنافقين - ولم يعتقد بقلبه لم يكن شاهداًَ بما دلت عليه كلمة التوحيد.
إذن الشهادة في قوله وأشهد يعني اعتقد وأعترف وأقر لله بأنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه وأخبر وأعلن بذلك بأن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة دون ما سواه .(12/7)
وهذا هو الذي فسر به قوله تعالى ?شَهِد َ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ?
(شهد الله) يعني أعلم وأخبر .
(والملائكة) شهدوا بذلك ، أعلموا وأخبروا بذلك واعتقدوا ذلك .
(وأولوا العلم) من خلقه شهدوا ذلك بمرتبتين :
- مرتبة الاعتقاد - ومرتبة القول .
قال (وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ) و أن ها هنا هي التفسيرية وضابطها أنها هي التي تأتي بعد كلمةٍ فيها معنى القول دون حروف القول كأشهد و نادى و أوحى و قضى و أمر و وصى ونحو ذلك .
فأن إذا أتت بعد هذه الألفاظ أو نحوها مما فيه معنى القول دون حروف القول هي التفسيرية ، لأن ما بعدها يفسر ما قبلها كالتي جاءت في قول الله جل وعلا ?وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً? الآية.
لا إله إلا الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وهذه الكلمة هي كلمة التوحيد ولها ركنان :
- النفي - والإثبات
النفي المستفاد من قوله لا إله ، والإثبات المستفاد من قوله إلا الله.
النفي نفي استحقاق العبادة عن كل أحد ، وإثبات استحقاق العبادة لله جل وعلا .
فركنا هذه الكلمة النفي والإثبات .
فمن نفى ولم يثبت لم يكن قد أتى بهذه الشهادة بهذه الكلمة على صحتها إذ أتى بركنٍ ولم يأتي بالثاني .
وكذلك من أثبت ولم ينف ، فإنه لم يأتي بما دلت عليه هذه الشهادة .
فلا بد أن يجتمع في حق الشاهد أنه ينفي استحقاق العبادة عن أحدٍ ، ويثبت استحقاق العبادة لله جل وعلا وحده دون ما سواه .
والمشركون كانوا يثبتون ولا ينفون .(12/8)
يقولون إن الله جل جلاله مستحقٌ للعبادة ، فهو مستحقٌ لأن يُعبد ، لكنهم لا ينفون ، ولهذا لما قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما قال لأبي طالب قل كلمة أحاج لك بها عند الله فأبى أن يقول ، فقال للمشركين ذلك ، فقالوا نقول عشر كلمات ، فلما قال لهم قولوا لا إله إلا الله أبوا ذلك لأنهم يعلمون أنه لا يصلح الإقرار بهذه الكلمة إلا بالجمع بين بالنفي والإثبات وهم إنما يثبتون لله جل وعلا أنه معبود وأنه يُعبد لكن ينفون كونه جل وعلا أحداً في استحقاقه العبادة
قال سبحانه ?إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ { 35 } وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ? وقال جل وعلا في سورة ص مخبراً عن قولهم ?أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً?
وهذا هو الذي صنعه المشركون فيما بعدهم من مشركي هذه الأمة فإنهم أتوا بركنٍ من ركني كلمة التوحيد ألا وهو الإثبات .
قالوا إن الله جل جلاله مستحقٌ للعبادة لكن قالوا يمكن أن يكون معه من يستحق شيئاً من أنواع العبادة لكن لا على وجه الأصالة ولكن على وجه الواسطة.
وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها ، وهي أنَ كلمة التوحيد لها ركنان :
- ركن النفي - وركن الإثبات
أما معناها فإن معنى الإله في قوله لا إله هو المعبود عن محبةٍ وتعظيم .
لأن مادة أَلَهَ في اللغة التي جاء ت والتي جاء بها القرآن معناها العبادة .
ألَهَ بمعنى عَبَدَ مع المحبة والتعظيم و الأُلُوهة العبادة مع المحبة والتعظيم .
فـ الإله هو المعبود مع المحبة والتعظيم .
ويدل له من قول العرب قول الشاعر في رجزه المشهور :
سبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ من تَأَلُّهِ لله دَرُّ الغانيات المُدَّهي
يعني من عبادة وعليه قراءة ابن عباس في آية الأعراف في قوله تعالى (ويذرك وإلهتك) يعني وعبادتك .
فإذن معنى الإلهة و الألوهة في كلام العرب العبادة مع المحبة والتعظيم .(12/9)
وهذا ينبئ ويثبت أن قول الأشاعرة والماتريدية والمتكلمين في معنى الإله أنه قولٌ باطل حيث انهم قالوا إن معنى الإله هو القادر على الاختراع .
الإله عند المتكلمين ومن حذا حذوهم ونحا نحوهم من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم يقولون الإله هو القادر على الاختراع .
وهذا هو معنى الرب وأما الإله فليس فيه معنى الخلق ولا القدرة على الخلق ولا القدرة على الاختراع وإنما فيه معنى العبادة .
ويقول آخرون من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم إن الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه ما عداه
كما قالها السنوسي في عقيدته المشهورة التي يسميها أصحابها أم البراهين يقول فيها ما نصه :
يقول (فالإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه ، فمعنى لا إله إلا الله -هذا من تتمة كلامه- لا مستغنياً عما سواه ولا مفتقراً إليه كل ما عداه إلا الله) .
ففسر الألوهية بالربوبية ، وهذا من مناهج المتكلمين ومن عقيدة أهل الكلام إذ أنهم يفسرون الإله بالرب.
يفسرون الألوهية بالربوبية ، وعلى هذا - عندهم - من اتخذ مع الله جل وعلا إلهاً آخر يعبده يرجوه يخافه يدعوه يستغيث به ينذر له يذبح له فإنه لا يكفر بذلك عندهم لأنه لم يخالف ما دلت عليه كلمة التوحيد إذا كان معتقداً - عندهم - بأن الله جل وعلا هو المتفرد وحده بالقدرة على الاختراع وبالاستغناء عما سواه وبافتقار كل شيء إليه جل وعلا .
فإذن معنى لا إله ليس معناها الربوبية ، وإنما معناها لا معبود ، وخبر لا النافية للجنس محذوف .
والعرب تحذف خبر لا النافية للجنس إذا كان المراد مع حذفه ظاهراً واضحاً لا إشكال فيه .
وهذا على ما قال ابن مالك - رحمه الله - في الألفية يقول :
وشاع في ذا الباب (يعني باب لا النافية للجنس) :
إذا المراد مع سقوطه ظهر وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر
وهنا في قوله لا إله إلا الله ، ما خبر لا ؟
لم يُذكر لأنه معروف .(12/10)
لأن المعركة بين الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ومن بُعِثَ إليهم كانت معروفة أنها لم تكن في نفي آلهة موجودة ، وإنما كانت في نفي استحقاق شيء من هذه الآلهة للعبادة .
ولهذا قَدَّرَ أهل العلم الخبر المحذوف بأنه كلمة حق .
لا إله حقٌ إلا الله ، أو لا معبود بحقٍّ إلا الله .
ومعنى ذلك أن كل معبودٍ سوى الله جل وعلا فإنه معبودٌ بغير الحقِّ ، معبود بالباطل بالبغي بالظلم بالعدوان ليس بحق ، وإنما المعبود بحق هو الله جل وعلا .
ثم قال إلا الله و إلا هذه إما أن تكون أداة حصر ، وإما أن تكون أداة استثناء ملغاة .
ولفظ الجلالة بعدها بدل من لا مع اسمها لأنه في محل رفع بالابتداء .
تحقيق لا إله إلا الله بألا يعبد إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله وشهد بها يحققها إذا لم يعبد إلا الله جل وعلا .
لم يتوجه بشيءٍ من أنواع العبادة إلا إلى الله جل وعلا .
لهذا نقول تحقيق الشهادتين يكون بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله :
- وتحقيق الأولى بألا تعبد إلا الله جل وعلا .
- وتحقيق الثانية بألا يُعبَد الله إلا بما شرعه رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
قال هنا (وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ) وهذا من التأكيد بعد التأكيد .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري على قوله وحده لا شريك له ، قال تأكيدٌ بعد تأكيد لبيان مقام التوحيد ، وأن الله جل وعلا في استحقاقه العبادة وحده لا شريك له في ذلك .
قال فهنا لا شريك له وأنواع ادعاء الشريك كثيرة ومجملها :
- أن اِدُّعِيَ له الشريك له في ربوبيته ، وأن ثَمَّ ظهير معه يُصَرِّفُ معه الأمر .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في استحقاق العبادة .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في أسمائه وصفاته على وجه الكمال .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في الأمر والنهي في التشريع .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في الحكمة التي قضاها في كونه كما يقول الفلاسفة ونحوهم .(12/11)
إذن أنواع الاشتراك التي اِدُّعِيَ أن ثَمَّ من يشارك الله جل وعلا فيها وهذه الخمسة هي جِماعُها .
لا شريك له
قال بعدها (إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا) الإقرار هو الإذعان والتسليم والاعتقاد بذلك .
إقراراً به يعني بأنه وحده لا شريك له .
وتوحيدا التوحيد مصدر وحد يوحد .
وقد جاء استعمالها في السنة فقد جاء في بعض طرق حديث ابن عباس أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال (إنك تأتي قوماً أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله) رواه البخاري في صحيحه وغيره .
فكلمة التوحيد لا إله إ لا الله محمد رسول الله ، قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (إلى أن يوحدوا الله)
فمن دعا إلى توحيد الله فمعنى ذلك أنه يدعو إلى تحقيق الشهادتين .
وكذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما أَهَلَّ بالحج قال الراوي أَهَلَّ رسول الله -صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ - بالتوحيد ، كان أهل الشرك يهلون بكذا وكذا وأهل رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالتوحيد .
إذن كلمة التوحيد موجودة في السنة ومستعملة ، ودين الإسلام هو دين التوحيد .
والتوحيد أربعة أنواع :
توحيد الله ثلاثة أنواع ، وهي :
" توحيد الربوبية .
" وتوحيد الألوهية .
" وتوحيد الأسماء والصفات .
قسمها العلماء إلى هذه القسمة الثلاثية ، دليلها فيها استقراء الكتاب والسنة ، ويكثر ذلك في كلام ابن جرير الطبري رحمه الله في التفسير وكلام ابن عبد البر رحمه الله في كتبه
ثم شاعت في كلام العلماء وأشهرها كثيراً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
فتوحيد الله ثلاثة أقسام :(12/12)
" توحيد الربوبية وهو توحيد الله جل وعلا بأفعاله ، يعني اعتقاد أن الله جل وعلا واحدٌ في أفعاله ، واحدٌ في خلقه لا شريك له ، واحدٌ في جميع معاني الربوبية . فهو جل وعلا المتفرد بالخلق وبالرزق وبالإحياء والإماتة وبتدبير الأمر وبتصريف هذا الملكوت وبأنه الذي يجير ولا يُجار عليه وأنه الذي ينزل الغيث وأنه الذي يحيي ويميت ويقبض ويبسط ونحو ذلك من معاني الربوبية .
" والثاني توحيد الألوهية وهو توحيد الله بأفعال العباد ، فتوحيد الربوبية توحيد الله بأفعاله هو وهذا يقر به أهل الشرك فإنهم يوحدون الله في أفعاله كما قال تعالى ?وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ? وقال تعالى ?قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ? ونحو ذلك فهم مقرون بتوحيد الله بأفعاله ، يعني غالب العرب أو بأكثر أفعال الله وأما توحيد الألوهية فهو توحيد العبادة توحيد الله بأفعال العباد فإذن توحيد الألوهية راجعٌ إلى فعل العبد وتوحيد الربوبية راجعٌ إلى فعل الله جل وعلا.
" والثالث توحيد الأسماء والصفات ، ومعناه اعتقاد أن الله جل وعلا هو المتوحدٌ في استحقاقه لما بلغ في الحسن نهايته من الأسماء ولما بلغ غاية الكمال من النعوت أو الصفات فالله جل وعلا لا يماثله أحد في أسمائه وصفاته ، كما قال ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? .
هذه ثلاثة أنواع هي أنواع توحيد الله جل وعلا .
النوع الرابع توحيدٌ دلت عليه شهادة أن محمداً رسول الله - وهو ألا يعبد الله إلا بما شرع ويسمى عند طائفة من أهل العلم توحيد المتابعة .(12/13)
يعني أن يكون المرء متابعاً للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وحده فلا أحد يستحق المتابعة على وجه الكمال إلا النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما قال ابن القيم في نونيته:
أعني سبيل الحق والإيمان فلواحدٍ كن واحداً في واحدٍ
وهذا التعبير - توحيد المتابعة - استعمله ابن القيم واستعمله شارح الطحاوية واستعمله جماعة من أهل العلم .
بعض أهل العلم يقسم التوحيد إلى قسمين :
يقول التوحيد قسمان :
- توحيدًٌ قولي اعتقادي - وتوحيد فعلي إرادي
وقوله توحيد قولي اعتقادي ، هذا يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات .
لأن توحيد الربوبية قولي واعتقادي ، وتوحيد الأسماء والصفات قولي واعتقادي .
وقولهم القسم الثاني توحيد فعلي إرادي ، هذا يعنون به ما يتعلق بفعل المكلف .
وهو على قسمين ، أعني فعل المكلف .
- أفعال القلوب - وأفعال الجوارح
وهذه يجب توحيد الله جل وعلا فيها أفعال القلوب وأفعال الجوارح .
أفعال القلوب مثل الخوف والرجاء والمحبة والرغبة والرهبة ونحو ذلك .
وأفعال الجوارح مثل الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر ونحو ذلك .
قال بعدها هنا (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا مَزِيدًا)
(وَأَشْهَدُ) ، يعني أعتقد وأخبر وأعلن .
(أَنَّ مُحَمَّدًا) محمد بن عبد الله القرشي ، أنه عبد الله ، ليس إلهاً وليس ملكاً ، وإنما هو عبدٌ من عبيد الله ، شرفه الله جل وعلا بالرسالة ، عبد الله ورسوله ، فلا يدعى فيه أكثر من أنه رسول من الله جل وعلا ، وكفى بها مرتبة وكفى بها منزلة .
وهذه الشهادة تقتضي - يعني اعتقاد أنه رسول الله - تجب طاعته فيما أمر وأن يُصدق فيما أخبر وأن يُجتنب ما نهى عنه وزجر وألا يُعبد الله إلا بما شرع
والمشهور أن هذا معنى الشهادة بأن محمداً رسول الله ، وهذا من مقتضياتها ومعناها التي تقتضيه .(12/14)
أما معناها الأول فهو اعتقاد وإعلام وإخبار بأن محمداً عبدٌ من عبيد الله ورسولٌ من المرسلين الذين أرسلهم الله جل وعلا .
هنا في قوله رسوله تنبيه ، وأن لفظ الرسول يختلف عن لفظ النبي ،وأيضاً معنى الرسول يختلف عن معنى النبي .
فالرسول من الإرسال وهو البعث .
وأما النبي فهو من النبوة وهي رفعة المنزلة .
هذا من حيث اللغة ، في بعض القراءات السبعية المتواترة (النبيء) و (النبوءة) يعني (النبيء) (يا أيها النبيء) ويكون منها (النبوءة) وهي من الإنباء وهو الإعلام بالوحي .
وأما بالمعنى أي في الاصطلاح فهناك فرق بينهما والفرق أن :
- النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه أو أمر بتبليغه إلى قومٍ موافقين .
- وأما الرسول فهو من أوحي إليه بكتاب أو بشرع وأمر بتبليغه إلى قومٍ مخالفين .
وعلى هذا يصح الكلية التي يعبر بها العلماء أن كل نبي رسول وليس كل رسولٍ نبياَّ .
قال هنا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ) ، هذا سؤال أن يثني الله على نبيه محمد .
إذ الصلاة من الله جل وعلا الثناء كما أوضحت لكم ذلك مفصلاً في أول شرح زاد المستقنع .
قال وعلى آله وسلم تسليماً مزيدا وذلك امتثالاً لقول الله جل وعلا ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً?
وبينت هناك أحكام الصلاة على النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لمناسبتها لدرس الفقه .
ثم قال أَمَّا بَعْدُ: فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ
(أَمَّا بَعْدُ) هذه كلمة يؤتى بها للانتقال ، وقد استعملها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، واستعملها الصحابة وقد قيل إنها فصل الخطاب الذي أوتيه داوود في قوله جل وعلا ?وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ? ، لكن هذا ليس بصحيح .
قال هنا (فَهَذَا) إشارة إلى ما سيأتي في هذه العقيدة .
يعني (هذا اعتقاد) يعني هذا الذي ستراه في هذه الورقات اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة .(12/15)
والاعتقاد ما يُعقد عليه القلب أو ما يَعقد القلب عليه من الأمور التي تعتقد .
وأصلها من العلم الجازم لأن الاعتقاد فيه جزمٌ عنه العلم ، فإذا علمت شيئاً وجزمت به صرت معتقداً له .
وخص هذا الاسم الاعتقاد بشرح أركان الإيمان الستة :
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله الإيمان باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى .
وما أضيف إلى ذلك من المسائل التي تميز بها أهل الاعتقاد الحق - في أسماء الله وصفاته وفي أركان الإيمان الستة - ما تميز بها أهل السنة والجماعة عن ما سواهم من المبتدعة والزائغين من أهل الفرق المختلفة من مثل الكلام - كما ذكرت لكم - في مسائل الإمامة والصحابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخلاق ونحو ذلك .
قال (فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ) الفرقة هي الطائفة من الناس أو الطائفة من أي شيء ، يقال فرقة من الطير ، كما جاء في الحديث الصحيح ، أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة تظللان صاحبهما كأنهما غيياتان أو قال غيابتان أو غمامتان أو فِرْقانِ من طيرٍ صواف ، يعني طائفتان من طير صواف .
وهذا كما قال جل وعلا ?فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ? وقال ?فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ? .
فإذن الفرقة الطائفة ?كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ? (الطود) الجبل
?فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ? يعني انفلق البحر فكان هذا كالجبل العظيم وهذا كالجبل العظيم وما بينهما يابس آية لموسى عليه السلام .(12/16)
الفرقة الناجية سميت فرقة لأجل أنها طائفة لأنها مقابَلة بالفرق الأخرى ولم يَرِدَ - فيما أعلم - هذا النص (الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ) في الحديث لكن العلماء أخذوه مما جاء في حديث معاوية وغيره في حديث الافتراء المشهور أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (ألا وإن اليهود افترقت على إحدى وسبعين ، وإن النصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) هذا لفظ أبي داوود في سننه .
فيفهم من هذا الحديث أن هذه الفرقة التي هي الجماعة هي الفرقة الناجية وغيرها من الفرق فرقٌ هالكة .
ولهذا قال أهل العلم في وصف من اعتقد الاعتقاد الحق وكان مع الجماعة أنه من الفرقة الناجية .
ووصفها بأنها ناجية يعني أنها ناجية من النار وهي ناجيةٌ في الدنيا من عقاب الله جل وعلا ومن أنواع عقوباته وسخطه وناجية في الآخرة من النار لقوله عليه الصلاة والسلام (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)
فكل الفرق متوعدة بالهلاك وأما هذه الفرقة فهي الناجية فإذن الناجية الأكثر أنه من صفات الآخرة.
يعني ناجية في الآخرة .
وأما صفتها في الدنيا فهي أنها منصورة كما قال شيخ الإسلام هاهنا ناعتاً هذه الفرقة بنعتين :
- أنها ناجية - ومنصورة .
قال (أَمَّا بَعْدُ ، اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ)
فأهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية وهم الطائفة المنصورة .
والفرقة الناجية والطائفة المنصورة بمعنىً واحد ولكن وصفها بأنها ناجية باعتبار الآخرة وفي ذلك أيضاً نجاةٌ في الدنيا ووصفها بأنها منصورة باعتبار الدنيا ، وهذا لأجل ما جاء في الأحاديث الكثيرة.
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) فهي طائفة منصورة .(12/17)
هم ظاهرون ومنصورون ، ينصرهم الله جل وعلا على من عداهم إما بالحجة وإما بالسنان إما باللسان نصر بيان ولسان وإما نصر سنان إذا كان ثَمَّ جهاد قائم .
وإما نصر حجة وبيان وهذا لا يخلو منه أهل السنة والجماعة .
وقد قال الإمام أحمد وغيره - في تحديد من هي الفرقة الناجية المنصورة ، قال الإمام أحمد إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم .
وذلك لأن أهل الحديث زمن الإمام أحمد كانوا هم القائمين بنصرة الدين والمنافحة عن الاعتقاد الصحيح والرد على المخالفين من أهل البدع الذين أدخلوا في الإسلام ما ليس منه ، الذين راموا تحريف الكلم عن مواضعه
وقال البخاري رحمه الله هم أهل العلم .
وإليه مال الترمذي في جامعه وغيره .
فالفرقة الناجية المنصورة هم أهل الحديث كما عليه أقوال أكثر أهل العلم ، وهم أهل العلم ، وهم الذين اعتقدوا الاعتقاد الحق .
فمن اعتقد الاعتقاد الحق فهو ناجٍ بوعد الله جل وعلا له ووعد الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ له في الآخرة وهو منصورٌ في الدنيا ومنصورٌ في الآخرة كما قال تعالى ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ? فهم منصورون في الدنيا ومنصورون في الآخرة .
إذن هذا النعت الذي عبر به شيخ الإسلام رحمه الله ينبئ عما كان كالإجماع عند أهل السنة والجماعة وعند أهل الحديث وعند أئمة الإسلام أن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة كلها تدل على طائفةٍ واحدة وعلى فرقةٍ واحدة وهم الذين اعتقدوا الاعتقاد الحق وساروا على نهج السلف الصالح رضوان الله عليهم .
وقد عُقِدَ لشيخ الإسلام مجلس محاكمة على هذه العقيدة لما ألفها ، وقيل له إنك تقول في هذا الاعتقاد فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة فهل معنى ذلك أنك تقول إن من لم يعتقد هذا الاعتقاد فليس بناجٍ من النار ؟(12/18)
فقال - رحمه الله - مجيباً في المجلس الذي حوكم فيه من قِبَلِ القضاة ومشايخ زمنه وولاة الأمر في زمنه قال لم أقل هذا ولم يقتضه كلامي أو قال لا يقتضيه كلامي فإنما قلت هذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة ، فمن اعتقد هذا الاعتقاد كان موعوداً بالنجاة ، ومن لم يعتقد هذا الاعتقاد لم يكن موعوداً بالنجاة وكان متوعداً بالعذاب ، وقد ينجو بأسباب منها صدق المقام في الإسلام وكثرة الحسنات الماحية بالجهاد في نصرة الإسلام وذلك عند من عنده نوع مخالفة لهذا الاعتقاد كما هو عند طائفة من أهل العلم فإنهم قد يكون عندهم كما قال شيخ الإسلام من الحسنات الماحية ومن صدق المقام في نصرة الإسلام ما يكفر الله جل وعلا به عنهم المعصية والكبيرة التي عملوها وهي بسوء الاعتقاد الذي اعتقدوه ولم يعتقدوا ما كان عليه أهل السنة والجماعة .
قال هنا (الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ)
والمراد بها قيام ساعتهم يعني ساعة المؤمنين ، يعني ساعة الطائفة المنصورة .
وقيام ساعة المؤمنين وساعة الطائفة المنصورة يكون قبل طلوع الشمس من مغربها بزمنٍ قليل عند كثير من أهل العلم وذلك كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه في الحديث (أنه يبعث الله جل وعلا قبل قيام الساعة ريحاً تقبض أرواح المؤمنين قلا يبقى مؤمن إلا قبضت روحه) .
ونكتفي بهذا القدر ....
وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ ?ِلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11].(12/19)
فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ.
ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى؛ فَإنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وصفوته من بريته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد مرت معنا مقدمة هذه الرسالة الوجيزة في ألفاظها الكبيرة في معانيها .
وقد ذكر رحمه الله تعالى أن هذا الاعتقاد الذي في هذه الرسالة هو اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة .
فهذا الاعتقاد كما ذكر هو اعتقاد الفرقة الناجية ، يعني التي ستنجو من النار بوعد الله جل وعلا لها بذلك يوم القيامة .
وهي ناجية في الدنيا من الانحراف ومن الفرقة والاختلاف ، وهم الطائفة المنصورة التي نصرها الله جل وعلا في الدنيا باللسان أو بالسنان أو بهما معاً ، وهي الطائفة المنصورة يوم القيامة على جميع المخالفين لها كما قال سبحانه ?إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ?
وبين أن هؤلاء هم أهل السنة والجماعة كما قال فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة .(12/20)
فإذن هذا الاعتقاد الذي سيأتي في هذه الرسالة مفصلاً هو اعتقاد الفرقة الناجية وهو اعتقاد الطائفة المنصورة وقد مرَ بك معنا كونها فرقةً ناجية ومعنى كونها طائفةً منصورة أما هذا اللفظ وهذا الوصف الثالث الذي تميز به هؤلاء وهو أنهم :
أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ
و معنى (أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) أنهم أصحاب السنة الذين لزموها باعتقادهم ولزموها في أقوالهم وأعمالهم - يعني في الجملة - وتركوا غير ما دلت عليه السنة .
والسنة هي الطريقة التي كان عليها رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأصحابه المنتخبون الخيرة ومن سار على نهجهم.
والسنة عند أهل الأصول هي ما أضيف إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو وصف .
فهذا يطلق عليه السنة والمراد هنا ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من الأقوال والأعمال والتقريرات .
فهذا ينسب إليه بهذا الاعتبار أهل السنة فيقال هم أهل السنة يعني هم أهل إتباع أقوال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأهل إتباع أفعاله عليه الصلاة والسلام وأهل إتباع تقريراته .
و أهل السنة - هذا اللفظ - يطلق باعتبارين :
1 - فتارة يطلق ويراد به من خالف الرافضة وفرق الرافضة ، من خالف الشيعة والرافضة وما تفرع من ذلك هذا إطلاق ، ويدخل في هذا الإطلاق - يدخل فيه أهل الأثر ، أهل الحديث - ويدخل فيه الأشاعرة ويدخل فيه الماتريدية ويدخل فيه كل من خالف الرافضة .
فيدخل في أهل السنة الذين عندهم نوع احتجاج بالحديث .
فيخرج الرافضة والشيعة والخوارج والمعتزلة ونحو ذلك .
هذا باعتبار المقابلة - باعتبار مقابلة هذا اللفظ - بأهل التشيع ، فيقال السنة والشيعة ، وأهل السنة وأهل التشيع فيدخل في هذا اللفظ - أهل السنة - من وصفت لك .(12/21)
2 - ثم يطلق باعتبار آخر وهو أنهم - كما ذكرت لك في التعريف الأول - أنهم أهل إتباع النبي عليه الصلاة والسلام في الأقوال والأفعال والتقريرات ، الذين لا يقدمون شيئاً من العقول على سنة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ سواءٌ في الأخبار أو في الأحكام أو في السلوك والأخلاق .
وهذا هو الذي يُعْنى به هذه الطائفة ، وهم طائفة أهل الأثر ، طائفة أهل السنة والجماعة ، طائفة أهل الحديث الذين تميزوا بهذا الاعتقاد ، الذين هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة.
فتلخص إذن أن هذا اللفظ وهو أهل السنة دون لفظ الجماعة دون أن تعطف الجماعة عليها يطلق بأحد هذين الاعتبارين :
- قد يطلق ويراد به ما عدا الرافضة .
- وقد يطلق وهو الأصل ويراد به من لازم السنة على ما وصفت لك .
وأما قوله والجماعة فإن هذا اللفظ استعمله طائفةٌ من أئمة السنة المتقدمين من طبقة مشايخ أحمد وطبقة الإمام أحمد ومن بعدهم وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ استعمل لفظ الجماعة فمنها أنه ذكر أن الفرقة الناجية في حديث الافتراق المشهور حيث قال - بعدما ساق الافتراق - قال (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) .
وفي لفظٍ آخر (كلها في النار إلا واحدة) قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وفي روايةٍ أخرى زاد لفظ (اليوم) بقوله (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .
فهذا اللفظ - لفظ الجماعة - قد جاء الحث بالتمسك به ، بالتمسك بالجماعة ولزوم الجماعة في أحاديث كثيرة والآيات التي فيها النهي عن التفرق فيها الأمر بلزوم الجماعة بالمفهوم .
وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (الجماعة رحمة والفرقة عذاب)
والنصوص في ذكر الجماعة كثيرة وبالحث عليها والحض على لزومها والتحذير من مخالفة الجماعة.(12/22)
وقد اختلف أهل العلم من المتقدمين اختلفوا في معنى الجماعة وفي تفسير الجماعة:
1- ففسرها طائفة بأن الجماعة هي السواد الأعظم
وهذا التفسير منقولٌ عن ابن مسعود الهذلي الصحابي المعروف رضي الله عنه وعن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنهما ، ساق ذلك عنهما جمعٌ منهم اللالكائي في كتابه (شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة) .
قال إن الجماعة هي السواد الأعظم ، وقد جاء في بعض الأحاديث - وفي إسنادها من لا يحتج به - أنه قال عليه الصلاة والسلام (عليكم بالسواد الأعظم) فأخذوا أن الجماعة هي السواد الأعظم ويعنون بـ (السواد الأعظم) السواد الأعظم في وقتهما وذلك أنه في وقت ابن مسعود في أواخره بدأ ظهور الذين ينقمون على عثمان من الخوارج ومن شابههم وحثوا على لزوم السواد الأعظم وهو سواد عامة صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
2- وفسر طائفة الجماعة- وهذا هو التفسير الثاني - بأن الجماعة هم جماعة أهل العلم والسنة والأثر والحديث، سواءٌ كانوا من أهل الحديث تعلماً وتعليماً ، أو كانوا من أهل الفقه تعلماً أو تعليماً ، أو كانوا من أهل اللغة تعلماً وتعليماً فأهل الجماعة هم أهل العلم والفقه والحديث والأثر هؤلاء هم الجماعة .
هذا القول هو مجموع أقوال عددٍ من الأئمة حيث قالوا إن الجماعة وإن الفرقة الناجية هم أهل الحديث كما ذكر ذلك الإمام أحمد بقوله إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ، وذكر ذلك أيضاً عبد الله بن المبارك ويزيد بن هارون وجماعة من أهل العلم ، وقال آخرون هم أهل العلم كما رواه البخاري .
محصل هذا القول أن الجماعة هم أهل العلم وأهل الحديث وأهل الأثر.(12/23)
وساق تلك الأقوال الخطيب البغدادي في كتابه (شرف أصحاب الحديث بأسانيدها إلى من قالها) وهذا هو الذي اشتهر عند العلماء بل عُدَّ إجماعاً أن المعنِيَ بالجماعة وبالفرقة الناجية أنهم هم أهل الحديث والأثر يعني في زمن الإمام أحمد وما قاربه لأنهم هم الذين نفوا عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وهم الذين نصروا السنة ونصروا العقيدة الحقة وبينوها وردوا على من خالفها وأعلوا عليه النكير من كل جهة .
3- القول الثالث أن الجماعة هم أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وهذا القول منسوبٌ إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز الأموي رضي الله عنه ورحمه رحمةً واسعة .
وهذا القول دليله واضح وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في بعض ألفاظ حديث الافتراق (هي الجماعة) وقال في ألفاظٍ أُخَرْ (ما كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) ومعنى ذلك أن الجماعة هي الصحابة .
4- القول الرابع وهو قولٌ نذكره ولكن دليل عليه أن الجماعة هم أمة الإسلام بعامة ، لكن هذا باطل لأن هذا يناقض حديث الافتراق فإن حديث الافتراق يبين أن أمة الإسلام - يعني أمة الإجابة - تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة وعدُ الجماعة هي أمة الإسلام يناقض هذا الحديث مناقضةً واضحة صريحة .
5- القول الأخير أن الجماعة يراد بها عصبة المؤمنين الذين يجتمعون على الإمام الحق فيدينون له بالسمع والطاعة ويعقدون له البيعة الشرعية ، واختار هذا القول ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى وجماعة كثيرون من أهل العلم .
قالوا لأنه بهذا يحصل الاجتماع والائتلاف إذا كان على إمامٍ حق .
إذا كان كذلك فهذه الأقوال كما ترى متباينة ولكن في هذا القول وهو تحديد من هم أهل السنة والجماعة نحتاج إلى أن نعلم هذه الأوصاف التي ذُكرت في هذه الأقوال .
وتحقيق المقام أن الأقوال الثلاثة الأُوَلْ :
" وهي القول بأن الجماعة هم السواد الأعظم .
" أو أن الجماعة هم أهل العلم والحديث والأثر .(12/24)
" أو أن الجماعة هم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذه الأقوال متقاربة وهي من اختلاف التنوع لأن الجماعة الذين هم السواد الأعظم كما فسرها ابن مسعود وأبو مسعود رضي الله عنهما هذا يعنون به صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
ومن فسرها - وهم أكثر أهل العلم - بأن الجماعة هم أهل العلم والأثر والحديث هؤلاء لأنهم تمسكوا بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد ، و الجماعة المراد بها أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فتحصل إذن أن هذه الأقوال الثلاثة ترجع إلى معنىً واحد وأن أهل السنة والجماعة هم الذين تابعوا صحابة رسول الله صلى عليه وسلم وتابعوا أهل العلم والحديث والأثر في أمورهم .
أما قول ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى فهذا صحيح وهو أن الجماعة هم عصبة المؤمنين الذين اجتمعوا على الإمام الحق وتبيان ذلك-مما يبين حصيلة هذا الكلام ويقرره أتم تقريرٍ وأوضح تقرير- أن الجماعة مقابلة للفرقة والافتراق يقابله الاجتماع .
وقد ذكر الخطابي رحمه الله تعالى في كتابه (العزلة) كلمة فائقة فيها تحرير هذا المقام .
قال إن الافتراق ينقسم إلى افتراق في الآراء والأديان .
و افتراق في الاجتماع والأبدان أو بالأشخاص والأديان .
افتراق تارةً يكون في الآراء والأديان وتارةً يكون في الأشخاص والأبدان .
هكذا قال وهذا كلامٌ دقيقٌ متين .
قال و الاجتماع يكون اجتماع بمقابل ذلك بالآراء والأديان ويكون اجتماع بالأشخاص الأبدان .
والاجتماع في الأشخاص والأبدان هذا ينقسم إلى آخر ما يحصله كلامه رحمه الله .
نأخذ من هذا أنه لفهم معنى الجماعة فهماً دقيقاً لأنه ينبني على هذا فهم معنى أهل السنة والجماعة حتى لا يُدخل فيهم من ليس منهم .
تحريره أن الجماعة تطلق باعتبارين :
- جماعةٌ باعتبار العقائد والأديان ، باعتبار الآراء والأديان .
فإذا نظرت إلى هذا المعنى في الاجتماع فإنه مأمورٌ به .(12/25)
والاجتماع على الآراء والأديان ، الأقوال في الدين وعلى الأحكام وعلى العقائد وعلى المنهج ونحو ذلك فهذا لا بد أن يكون له مرجع ، ومرجعه في فهم نصوص الكتاب والسنة هم صحابة رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم .
وبهذا يلتقي هذا الفهم مع أقوال أهل العلم الذين قالوا إن الجماعة هم صحابة رسول الله صلى عليه وسلم .
وعلى هذا فالذين أخذوا بما قالته الصحابة وما بينته الصحابة من أحكام الشرع من الأحكام الخبرية -يعني من العقائد- فإنه على الحق وهو الذي لم يكن مع الفرق التي فارقت الجماعة .
وهؤلاء الذين هم مع صحابة رسول الله صلى عليه وسلم هم مع السواد الأعظم قبل أن يفسد السواد الأعظم .
ومعلومٌ أنه لا يحتج بالسواد الأعظم في كل حال وإنما السواد الأعظم الذي يحتج به هو السواد الأعظم لصحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذه مسألةٌ في غاية الأهمية إذ الاحتجاج بالسواد الأعظم إنما يراد به السواد الأعظم للمهتدين وهم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ومن تابعهم في أمور الدين .
فصار إذن هاهنا قولان رجعا إلى هذا المعنى .
كذلك من قال إن الجماعة هم أهل العلم والحديث والأثر ومن سار على نهجهم من الفقهاء وأهل اللغة ونحو ذلك هؤلاء إنما أخذوا بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم وساروا على ما قرروه فإذن هم مع الجماعة قبل أن تفسد الجماعة ومع السواد الأعظم قبل أن يتفرق الناس عنه .
لهذا جاء ما جاء في أن الجماعة ما كان على الحق وإن كنت وحدك .
الجماعة ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد الجماعة كما قاله طائفة من علماء السلف وهذا يريدون به ما كان عليه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قبل أن يفسد الناس لأنه حصلت فتن وحصلت للناس أمورٌ منكرة وافتراءٌ في الدين .
فكيف تُضبَط هذه المسألة وهي أعظم المسائل التي هي مسألة الاعتقاد وما يجب اعتقاده وما ينهج بالحياة .(12/26)
قال أهل العلم إن الجماعة يعني التي من تمسك بها فهو على الجماعة ومن حاد عنها فهو من أهل الفرقة .
قالوا هم صحابة رسول الله صلى عليه وسلم وهذا ظاهرٌ كما ترى .
- المعنى الثاني للاجتماع اجتماعٌ بالأبدان - اجتماع في الأشخاص والأبدان - كما عُبِرَ عنه وهذا هو الذي فهمه ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى .
ولا شك أن هذا مأمورٌ به في نصوصٍ كثيرة :
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أمر بالجماعة بهذا المعنى - الاجتماع على الإمام - وعدم التفرق عليه وترك الخروج عليه والبعد عن الفتن التي تفرق المؤمنين ، وهذا مما تميز به صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وتميز به أهل السنة في كل عصر .
فنظَرَ ابن جرير رحمه الله تعالى في هذا المعنى إلى ما فعله الإمام أحمد رحمه الله تعالى مع ما حصل من المأمون والمتوكل والواثق فإنه لم ينزع يداً من طاعة لأنه رأى أن الاجتماع إنما يحصل بذلك فأخذ بما جاء في النصوص بهذا المعنى وهكذا أهل السنة والجماعة هم على هذين الأمرين .
فإذن أهل السنة والجماعة تحصل على أن معنى الجماعة- وإن تعددت الأقوال - فإن هذه الأقوال كاختلاف التنوع لأن جميعها صحيح دلت عليه نصوص الشرع .
فباجتماع هذه الأقوال يحصل لنا المعنى الصحيح لأهل السنة والجماعة .
فغلط من غلط في معنى أهل السنة والجماعة فأدخل في أهل السنة والجماعة الفرق ، بعض الضالة كالأشاعرة والماتريدية .
ومن أمثال من غلط من المتقدمين السَفَّاريني في شرحه (لوامع الأنوار البهية) فقال أهل السنة والجماعة ثلاث فرق :
o الأولى الأثرية أتباع الأثر .
o والثانية الأشعرية أتباع أبي الحسن الأشعري .
o والثالثة الماتريدية أتباع أبي منصور الماتريدي .
وإذا كان كذلك فإنه على هذا الكلام إن الأشعرية والماتريدية وأهل الأثر هم جميعاُ من الجماعة .(12/27)
وهذا باطل لأن أهل الأثر هم الذين تمسكوا بما كانت عليه الجماعة وأما الأشاعرة والماتريدية فإنهم يقولون قولتهم المشهورة يقولون كلام السلف أسلم ولكن كلام الخلف أعلم وأحكم .
وهذا لا شك أنه فيه افتراق وفرقة وخلافٌ واختلاف عما كانت عليه الجماعة قبل أن يَذِرَ نجم الابتداع في هذه الأمة.
فإذن هذا الكلام من الكلام الذي هو غلط على أهل السنة والجماعة ولم يقل به أحد أئمة أهل السنة الذين يفهمون كلام أهل السنة وكلام المخالفين .
فإذن أهل السنة والجماعة فرقةٌ واحدة طائفةٌ واحدة لا غير وهم الذين يعتقدون هذا الاعتقاد الذي سيبينه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه الرسالة .
وإذا تبين لك أن من لم يكن على هذه الجماعة فإنه على الفرقة والضلال والاختلاف فهذا يعطيك أهمية العناية بهذه الرسالة التي تشرح لك اعتقاد أهل السنة والجماعة قبل أن يخالفها المخالفون وقبل أن يكثر الفساد والاختلاف في هذه الأبواب ، وأن تلتزم بطريقتهم ونهجهم في هذه الأمور التي سيبينها شيخ الإسلام في هذه الرسالة العظيمة .
كل ما سيأتي في هذه الرسالة هو تفصيلٌ لاعتقاد أهل السنة والجماعة مع شيء من الاقتضاب يناسب هذه الرسالة .
قال هنا في بيان هذا الاعتقاد :
وَهُوَ الإِيمانُ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، والإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خِيْرِهِ وَشَرِّهِ.
اعتقاد أهل السنة والجماعة مبنيٌ على هذه الأركان التي بينها الشيخ رحمه الله تعالى في هذه الكلمات
وهذه الكلمات هي أركان الإيمان التي جاء الأمر بها في الآيات وفي الأحاديث الصحيحة .(12/28)