شرح رسالة كتاب الإيمان
الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام
شرح الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله، نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنا -إن شاء الله - في هذه الدورة، سوف نتكلم على هذه الرسالة: رسالة كتاب الإيمان، الذي صنفه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام وهذه الرسالة موضوعها -كما هو معلوم- الإيمان ومعالمه وسننه، واستكماله ودرجاته.
المؤلف - رحمه الله - من علماء القرن الثاني والثالث الهجري فإن ولادته سنة سبع وخمسين ومائة من الهجرة، ووفاته سنة أربع وعشرين ومائتين، وهو عاش في القرن الثاني والقرن الثالث، ألف هذه الرسالة ليبين فيها حقيقة الإيمان، وما دلت عليه النصوص من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -وما قرره أهل العلم وفهموه من النصوص.
ويرد على المخالفين وهم المرجئة وهم طائفتان -كما سيأتي-: مرجئة محضة، الذين قولهم منكر، وطائفة ثانية: مرجئة الفقهاء الذين وافقوا جمهور أهل السنة في المعنى، وخالفوهم في اللفظ، ولكن خلافهم له آثار تترتب عليه، فإنهم وإن وافقوا أهل السنة والجماعة في أن الأعمال لا بد منها، وأن الأعمال واجبة، وأن الواجبات واجبات، والمحرمات محرمات، وأن فاعل الواجب يستحق الثواب ويمدح على فعله، وفاعل المعصية والكبيرة يذم ويستحق الوعيد، ويقام عليه الحد -إن كان لهذه المعصية حد- إلا أن خلافهم له آثار ترتبت عليه، حتى قال بعض أهل العلم إن فتنتهم أشد من فتنة الأزارقة وهم الخوارج؛ وذلك أنهم خالفوا النصوص لفظا، وإن وافقوهم معنى.
والواجب على المسلم أن يتأدب مع النصوص من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يوافق النصوص لفظا ومعنى. وليس للإنسان أن يخالف النصوص لا لفظا ولا معنى.(1/1)
ومن هذه الآثار: أن خلاف مرجئة الفقهاء وهم الأحناف وأول من قام بالإرجاء حماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة فإن خلافهم مع جمهور أهل السنة وقولهم: إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان. فتحوا بابا للمرجئة المحضة وهم الجهمية فقالوا: إن الأعمال ليست واجبة، وليست مطلوبة.
ومن الآثار التي ترتبت على خلافهم: أنهم فتحوا بابا للعصاة والفسقة، فيأتي السكير العربيد فيقول: أنا مؤمن كإيمان جبريل وميكائيل وكإيمان أبي بكر وعمر فإذا قيل له: إن أبا بكر وعمر لهما أعمال عظيمة. فقال: ليس الخلاف في الأعمال، الأعمال شيء والإيمان شيء آخر، أنا مصدق وأبو بكر وعمر مصدقان. كل منهما مصدق.
وكذلك من الآثار التي ترتبت على خلاف الأحناف ومرجئة الفقهاء مع جمهور أهل السنة مسألة الاستثناء في الإيمان، وهي قول: أنا مؤمن إن شاء الله. فإن مرجئة الفقهاء لا يرون الاستثناء، ويمنعون من الاستثناء، ويقولون: إن من استثنى فهو شاكٌّ في إيمانه. ويسمون الذين استثنوا في إيمانهم الشكاكة.
أما جمهور أهل السنة فإنهم يفصلون، ويرون أن المستثني إن قصد الشك في أصل إيمانه، فهو ممنوع من الاستثناء، أما إن نظر إلى أعمال الإيمان، وأنها متعددة، وأن الواجبات كثيرة، وأن الإنسان لا يزكي نفسه، ولا يجزم بأنه أدى ما عليه، فإنه يستثني في هذه الحالة، وكذلك إذا استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، فإنه يستثني، كذلك إذا استثنى وأراد التبرك باسم الله، فله أن يستثني.
فالمقصود أن الخلاف بين مرجئة الفقهاء وجمهور أهل السنة ليس خلافا لفظيا من جميع الوجوه، كما قاله صاحب شارح الطحاوية -رحمه الله- ولكنه خلاف له آثار تترتب عليه كما سمعنا.
والآن نبدأ، فاقرأ ترجمة المصنف أولا.
ترجمة المصنف
مولده ونشأته :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ترجمة المصنف:(1/2)
الإمام ابن سلام هو أبو عبيد، القاسم بن سلام البغدادي الإمام المجتهد، البحر اللغوي الفقيه، صاحب المصنفات، ولد بـ" هراة " نحو سنة سبع وخمسين ومائة، وكان أبوه عبدا روميا لبعض أهل هراة سمع جماعة من الأئمة الثقات، مثل: سفيان بن عيينة وإسماعيل بن علية ويزيد بن هارون ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وحماد بن سلمة وغيرهم.
وحدث عنه الإمام الدارمي وأبو بكر بن أبي الدنيا وعلي بن عبد العزيز البغوي ومحمد بن يحيى المروزي وآخرون.
قال الإمام إسحاق بن راهويه "الله يحب الحق، أبو عبيد أعلم مني وأفقه". وقال أيضا: نحن نحتاج إلى أبي عبيد وأبو عبيد لا يحتاج إلينا. وقال أحمد بن حنبل أبو عبيد أستاذ، وهو يزداد كل يوم خيرا. وسئل يحيى بن معين عنه فقال: أبو عبيد يسأل الناس عنه؟! وقال أبو داود ثقة مأمون. قال الحافظ الذهبي من نظر في كتب أبي عبيد علم مكانه من الحفظ والعلم.
وكان حافظا للحديث وعلله، عارفا بالفقه والاختلاف، رأسا في اللغة، إماما في القراءات، له فيها مصنف، وقع لي من تصانيفه كتاب "الأموال"، وكتاب "الناسخ والمنسوخ".
ولذلك من كان محدثا يروي بالأسانيد، في هذه الرسالة يروي بالأسانيد، بعضها مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضها موقوف على الصحابة وبعضها موقوف على من بعدهم. نعم.
ثناء العلماء عليه
وقال الخطيب البغدادي "وكان ذا فضل ودين وستر، ومذهب حسن، وكتبه مستحسنة مطلوبة في كل بلد، والرواة عنه مشهورون ثقات، ذو ذكر ونبل، وكتابه "الأموال" من أحسن ما صنف في الفقه وأجوده".
قلت: ومع هذه المناقب والفضائل، فإن الأئمة الستة لم يخرجوا له شيئا من الحديث.
انتظر "قلت" هذا، للشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني -رحمه الله- نعم.
وفاته
كذلك من الأدلة الكثيرة على أنهم لم يخرجوا لجميع رواة الحديث الثقات.. فلا غرابة بعد هذا أن لا يخرج البخاري لبعض رواة أهل البيت الثقات منهم، رضي الله عنهم.(1/3)
ومن كلام أبي عبيد -رحمه الله تعالى-: المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله - عز وجل-.
قلت: هذا في زمانه، ماذا يقال في زماننا؟! أقام -رحمه الله- ببغداد مدة، ثم ولي القضاء بـ" طرسوس " -ثم ولي القضاء بـ" طَرَسوس "، بفتح الراء- ثم ولي القضاء بـ" طَرَسوس "، وخرج بعد ذلك إلى مكة فسكنها حتى مات بها، سنة أربع وعشرين ومائتين.
رحمه الله.
وبهذا يتبين أن الإمام أبا عبيد إمام -رحمه الله- محدث فقيه، جمع بين الحديث والفقه. نعم.
وله عناية بالحديث وبالفقه، وبالتوحيد والعقيدة. نعم.
باب نعت الإيمان في استكماله ودرجاته
سند الرسالة إلى المؤلف:
باب نعت الإيمان في استكماله ودرجاته.
أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن معروف، أعني ابن أبي نصر في داره بدمشق في صفر سنة عشرين وأربعمائة، قال: حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن أحمد بن يحيى العسكري صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام هذه الرسالة وأنا أسمع، قال أبو عبيد
هذا سند الرسالة، فإن الذي رواها الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن أبي نصر رواها عن صاحبه الإمام أبي عبيد وهو أبو يعقوب إسحاق بن أحمد بن يحيى العسكري وروى هذه الرسالة قبل وفاته بأربع سنين. قبل وفاة المؤلف -رحمه الله-بأربع سنوات، وعلى هذا تكون الرسالة ثابتة للمؤلف -رحمه الله- ونسبتها إلى المؤلف ثابتة. نعم.
سبب تأليف هذه الرسالة
قال أبو عبيد أما بعد: فإنك كنت تسألني عن الإيمان، واختلاف الأمة في استكماله، وزيادته ونقصه، وتذكر أنك أحببت معرفة ما عليه أهل السنة من ذلك، وما الحجة على من فارقهم فيه، فإن هذا -رحمك الله - خطب، قد تكلم فيه السلف في صدر هذه الأمة وتابعيها، ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقد كتبت إليك بما انتهى إلي علمه من ذلك مشروحا ملخصا وبالله التوفيق.(1/4)
وبهذا يتبين أن هذه الرسالة جواب لسؤال، هذا سبب تأليف الرسالة: أن المؤلف -رحمه الله-سئل هذا السؤال، فأجاب بهذه الرسالة. قال: "أما بعد: فإنك كنت تسألني عن الإيمان". السؤال سؤال عن الإيمان، واختلاف الأمة في استكماله وزيادته ونقصه، والسائل يذكر أنه أحب أن يعرف ما عليه أهل السنة والجماعة من ذلك، ويعرف أدلة من خالفهم، فالمؤلف -رحمه الله-أجاب بهذه الرسالة.
إذن موضوع الرسالة: الجواب عن هذا السؤال وهو الإيمان، ما الإيمان؟ وما حقيقته؟ وما الخلاف في ذلك، في استكماله وزيادته ونقصه؟ هل الخلاف من خالف له حظ من النظر؟ من خالف أهل السنة والجماعة ومن خالف السلف من الصحابة والتابعين هل له حجة، وهل له دليل؟
والمؤلف -رحمه الله-يقول: "فإن هذا - رحمك الله". وهذا من نصح المؤلف -رحمه الله- أنه يعلمك ويدعو لك: اعلم رحمك الله، فإن هذا رحمك الله. وهذه طريقة العلماء الربانيين يعلمون الناس ويدعون لهم، هم يعلمونهم ويدعون لهم.
يقول المؤلف -رحمه الله-: "فإن هذا خطب". خطب يعني: أمر، أمر عظيم، ليس بالأمر الهين، لا بد من تحقيقه. وقد تكلم فيه السلف في صدر هذه الأمة وتابعيها، تكلم في هذا الأمر: في مسألة الإيمان، وهل العمل من الإيمان؟ وهل الإيمان يزيد وينقص؟ هذا أمر عظيم لا بد من تحقيقه؛ لأن تحقيق هذا الأمر فيه سلامة لدين المرء وإيمانه، واعتقاده في ربه ونبيه ودينه. والمؤلف يقول: "قد تكلم فيه السلف ". تكلموا في هذا، من الصحابة ومن بعدهم.
كما سيأتي أن المؤلف -رحمه الله- ساق الأدلة والنصوص عن الصحابة كقول معاذ بن جبل "اجلس بنا نؤمن ساعة -رضي الله عنه، الصحابي الجليل- اجلس بنا نؤمن ساعة. تكلم في الإيمان، وبين أن العمل من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص؛ ولهذا قال: "اجلس بنا نؤمن ساعة". يعني: يزداد إيماننا.(1/5)
فالسلف من الصحابة والتابعين والأئمة ومن بعدهم، بينوا هذا الأمر العظيم، بينوا حقيقة الإيمان، وأنه إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح.
هذه حقيقة الإيمان التي دلت عليها النصوص من كتاب الله -تعالى-، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبينها أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة من بعدهم: أن حقيقة الإيمان قول القلب وإقراره وتصديقه، وقول اللسان وهو النطق، وعمل القلب، والنية والإخلاص، وأعمال الجوارح.
حقيقة الإيمان تشمل هذه الأمور الأربعة: قول اللسان وهو النطق، لا بد أن يتلفظ المسلم بالشهادتين، لا بد أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ولا بد من قول القلب، وهو الإقرار والاعتراف والتصديق، ولا بد من عمل القلب: النية والإخلاص والصدق والمحبة والانقياد، ولا بد من عمل الجوارح: الصلاة والصيام والزكاة والحج، وبر الوالدين وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والإحسان إلى الجيران، وكف المسلم نفسه عن المحرمات التي أعظمها وأغلظها وهو الشرك بالله - عز وجل- والعدوان على النفس في الدماء، والعدوان على النفس في الأموال، والعدوان على النفس في الأعراض.
يبتعد عن المحرمات تدينا وإيمانا بالله، وبما جاء عن الله، وبما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ترك المحرمات، هذه هي حقيقة الإيمان التي دلت عليها النصوص، من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، كما قال كثير من السلف الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان -أي: القلب- وعمل بالأركان وهي الجوارح.(1/6)
وقال بعضهم: الإيمان عمل ونية. عمل، عمل القلب وعمل الجوارح والنية، هذه حقيقة الإيمان؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: إن هذا خطب قد تكلم فيه السلف في صدر هذه الأمة وتابعيها، ومن بعدهم إلى يومنا هذا. يعني: هذا أمر واضح ليس أمرا خفيا؛ لأن الإيمان هو المطلوب الذي أراده الله -تعالى- من عباده، وخلقهم من أجله، خلقهم له سبحانه وتعالى، خلق الله الخلق ليعبدوه، ويؤمنوا به ويوحدوه، ويمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه، ويلتزموا شرعه ودينه، ويقفوا عند حدوده، ويستقيموا على شرعه ودينه، هذا هو الأمر الذي خلق الله الخلق من أجله.
فلا بد أن يكون هذا الأمر واضحا وجليا؛ ولهذا فإن النصوص من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واضحة في هذا، قال الله -تعالى-: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } (1).
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 2-4.(1/7)
بين الله -سبحانه وتعالى- أنه. صفات المؤمنين صفات المؤمنين حقا، وأنهم الذين توجل قلوبهم عند ذكر الله، ويزدادون إيمانا عند تلاوة آياته، ويتوكلون على الله، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهذه الأعمال فيها.. هذه الأمور شملت أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وجل القلب عند ذكر الله، هذا من عمل القلوب، زيادة الإيمان عند تلاوة القرآن، إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، هذه أعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان: { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } (1) وقال -سبحانه-: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) } (2).
هؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، آمنوا بالله وبرسوله، ولم يرتابوا ولم يشكوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فدل على أن من لم يأت بالأعمال ليس صادقا في إيمانه، فيقال:: ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقا. الفاسق والعاصي ومرتكب الكبيرة، وإن كان داخلا في الإيمان، إلا أنه لا يطلق عليه الإيمان، بل لا بد من التقييد نفيا وإثباتا، فلا يقال: مؤمن، ولا يقال: ليس بمؤمن. بإطلاق، لا يقال: مؤمن بإطلاق، ولا يقال: ليس بمؤمن بإطلاق، بل لا بد من التقييد في النفي وفي الإثبات.
في الإثبات تقول: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرة. وفي النفي تقول: ليس بمؤمن حقا، ليس بصادق الإيمان. لأنك إذا أثبت له الإيمان، قلت: هو مؤمن -بإطلاق- وهو عاص بارتكاب الكبائر، وافقت المرجئة.
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 4.
(2) - سورة الحجرات آية: 15.(1/8)
وإذا قلت: ليس بمؤمن -ونفيت عنه الإيمان- وافقت الخوارج والمعتزلة فلا بد من التقييد في النفي والإثبات، مؤمن ناقص الإيمان في النفي، ليس بصادق الإيمان، قال -سبحانه-: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } (1).
وثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الإيمان بضع وسبعون شعبة وفي رواية البخاري الإيمان بضع وستون شعبة وفي رواية مسلم " الإمام مسلم ": الإيمان بضع وسبعون شعبة (2) وفي رواية البخاري الإيمان بضع وستون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (3).
دل على أن الإيمان شعب متعددة كثيرة، كلها داخلة في مسمى الإيمان، ومثل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأعلاها وأدناها، فأعلاها قول لا إله إلا الله "كلمة التوحيد"، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وبين الأعلى والأدنى شعب متفاوتة، منها ما يقرب من شعبة الشهادة، ومنها ما يقرب من شعبة الإماطة.
__________
(1) - سورة النساء آية: 65.
(2) - مسلم: الإيمان (35) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5004).
(3) - البخاري: الإيمان (9) , ومسلم: الإيمان (35) , وابن ماجه: المقدمة (57).(1/9)
فالصلاة شعبة، والزكاة شعبة، والصوم شعبة، وبر الوالدين شعبة، وصلة الرحم شعبة، والأمر بالمعروف شعبة، والنهي عن المنكر شعبة، والإحسان إلى الجيران شعبة، والإحسان إلى اليتامى والأرامل والمساكين والحيوانات، كلها من شعب الإيمان، وهكذا. ومثل النبي - صلى الله عليه وسلم - للشعبة القولية: كلمة التوحيد، والشعبة العملية: إماطة الأذى عن الطريق، والشعبة القلبية: الحياء شعبة من الإيمان، فدل على أن أعمال الجوارح وأعمال القلوب، وأقوال اللسان، كلها داخلة في مسمى الإيمان، وهذا هو الذي أقره أهل السنة والجماعة وهو الذي عليه الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أهل العلم ومن الأئمة: كسفيان والثوري وسفيان بن عيينة وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أهل العلم وهو الذي عليه الصحابة والتابعون والأئمة.
وفي حديث وفد عبد القيس لما جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: إنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر ولا نستطيع أن نخلص إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل، نعمل به ونخبر به من وراءنا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، آمركم بأربع: شهادة أن لا إله إلا الله، أتدرون ما شهادة أن لا إله إلا الله؟ وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم (1) وفي رواية: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم (2).
__________
(1) - البخاري: مواقيت الصلاة (523) , ومسلم: الإيمان (17) , والترمذي: الإيمان (2611) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031) , وأبو داود: الأشربة (3692) , وأحمد (1/361).
(2) - البخاري: المغازي (4368) , ومسلم: الإيمان (17) , والنسائي: الأشربة (5692) , وأبو داود: السنة (4677).(1/10)
ففسر الإيمان بهذه الأمور الخمسة، فسرها بالشهادة "كلمة التوحيد"، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأداء الخمس، وهذه أعمال، فدل على دخول الأعمال في مسمى الإيمان. والأدلة في هذا كثيرة، وأقوال العلماء في هذا كثيرة، كما بين المؤلف -رحمه الله-: أبو عبيد القاسم بن سلام وبينه غيره من أهل العلم
قد ألف أبو العباس، شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كتابا في الإيمان، كتابًا كبيرا وكتابًا صغيرا عظيما، في بيان الإيمان وما يدخل في مسماه، وبيان من خالف. نعم.
مسمى الإيمان
افتراق أهل العلم في الإيمان إلى فرقتين
اعلم - رحمك الله-، أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين: فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب، وشهادة الألسنة، وعمل الجوارح. وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة، فأما الأعمال فإنما هي تقوى وبر، وليست من الإيمان.
نعم. "اعلم رحمك الله". اعلم هذا أمر، يعني: انتبه، وألق سمعك لهذا الأمر، اعلم: أمر؛ ليلقي طالب العلم سمعه، ويحضر ذهنه، حتى يعلم هذا الأمر. ثم قال: "رحمك الله". دعاء، وهذا من نصحه رحمه الله.
قال: اعلم -رحمك الله- أن أهل العلم والعناية بالدين، افترقوا في هذا الأمر فرقتين. يعني: في مسمى الإيمان. هذا الأمر يعني: مسمى الإيمان. ما هو مسمى الإيمان ؟
افترقوا فرقتين: الفرقة الأولى: الصحابة والتابعون وتابعوهم، والأئمة. قالوا: إن مسمى الإيمان قول باللسان، وقول القلب، وعمل القلب وعمل الجوارح. فقالوا: والإيمان بالإخلاص لله بالقلوب، وشهادة الألسنة، وعمل الجوارح. هذا هو المذهب الحق، وهذا هو الصواب، الذي دلت عليه النصوص من كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(1/11)
الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب، عمل القلوب وشهادة الألسنة، ينطق الإنسان بلسانه، ويشهد أن لا إله إلا الله، ويشهد أن محمدا رسول الله، ويعمل بجوارحه: الصلاة يصلي، يصوم، يزكي، يحج، يبر والديه، يصل رحمه، يحسن إلى جيرانه، يحسن إلى الفقراء واليتامى والمساكين والأرامل يكف جوارحه عما حرم الله - عز وجل- كل هذا عمل الجوارح، داخلة في مسمى الإيمان.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: فقالت إحداهما: الإيمان: الإخلاص لله بالقلوب. هذا عمل القلب، "وشهادة الألسنة". يعني: النطق باللسان، الألسنة جمع لسان. "وعمل الجوارح": الجوارح تعمل، واللسان ينطق، والقلب عنده إخلاص وبر ونية، وانقياد ومحبة، وخوف ورجاء إلى الله - عز وجل- كل هذا من عمل القلوب: الخوف من الله، والرجاء والنية والإخلاص والمحبة، والانقياد مع قول اللسان، ومع أعمال الجوارح، كل هذه داخلة في مسمى الإيمان، هذه الفرقة الأولى.
وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة، فأما الأعمال فليست من الإيمان. قالوا: الإيمان شيئان: إيمان بالقلوب -يعني: تصديق بالقلب-، وإقرار باللسان فقط، فأما الأعمال فليست من الإيمان، وإنما نسميها تقوى، نسميها بر، ولا نسميها إيمانا، وإن كانت واجبة، لكنها ليست من الإيمان.
هذا هو مذهب مرجئة الفقهاء وهم طائفة من أهل السنة أبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة أهل العبادة من أهل الكوفة هذا قرروا أن الإيمان شيئان: في القلب وفي اللسان. في القلب: التصديق والإقرار، وفي اللسان: النطق. أما أعمال الجوارح فليست من الإيمان: الصلاة الصوم، والزكاة والحج، ليست من الإيمان، ولكنها تقوى وبر، من أعمال نسميها تقوى، ونسميها برا، ولا نسميها إيمانا، وإن كانت مطلوبة.(1/12)
قالوا: فالإنسان عليه واجبان: و(3) الإيمان، وواجب العمل. ولا يدخل إحداهما في مسمى الآخر. واختلفوا في أعمال القلوب: هل هي داخلة أو ليست داخلة؟ فمنهم من أدخلها، ومنهم من أخرجها من مسمى الإيمان، وأما جمهور أهل السنة فقالوا: الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، أعمال القلوب وأعمال الجوارح، نسميها إيمانا، ونسميها تقوى، ونسميها برا، ونسميها إيمانا أيضا، هي تقوى وبر وإيمان.
قال مرجئة الفقهاء هي تقوى وبر وليست إيمانا، فالبر والتقوى غير الإيمان. الإيمان: تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وأما أعمال الجوارح نسميها تقوى، ونسميها برا، ومطلوبة وواجبة، ويثاب فاعلها ويعاقب تاركها، ويقام عليه الحد: على من ارتكب كبيرة، لكن لا نسميها إيمانا، ليست من الإيمان، شيء آخر، له اسم آخر، نسميها برا، نسميها تقوى.
فقال جمهور أهل السنة بل نسميها تقوى وبرا وإيمانا. أي الفرقتين أسعد بالدليل؟ الفرقة الأولى أسعد بالدليل، إذا نظرنا إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجدنا أن النصوص أدخلت الأعمال في مسمى الإيمان، كما سمعتم، كما سبق: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } (1).
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 2-4.(1/13)
أدخل هذه الأعمال في مسمى الإيمان، عمل القلب وعمل الجوارح: الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (1) كل هذه شعبة، والبضع من ثلاثة إلى تسعة، قد ألف الإمام البيهقي -رحمه الله- مؤلفا في هذا، سماه "شعب الإيمان"، تتبع ما ورد في النصوص تسميته إيمانا، ووضعه في كتابه، وأوصلها إلى تسع وسبعين شعبة، أوصل البضع إلى أعلاه.
فالمؤلف-رحمه الله- يقول: إن أهل العلم والعناية بالدين، افترقوا في هذا الأمر فرقتين: جمهور أهل السنة ومرجئة الفقهاء كلهم من أهل العلم والدين؛ لأن مرجئة الفقهاء طائفة من أهل السنة لكنهم خالفوا النصوص في اللفظ كما سمعتم، وإن كانوا من أهل العلم والدين إلا أن الفرقة الأولى أسعد منهم بالدليل، وهم الذين وافقوا النصوص من كتاب الله - تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لفظا ومعنى، وتأدبوا مع النصوص، وسموا الأعمال إيمانا.
وأما مرجئة الفقهاء فإنهم أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان، ولم يدخلوها في الإيمان؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: إنهم افترقوا فرقتين: فرقة أدخلت الأعمال في مسمى الإيمان، وفرقة أخرجت الأعمال عن مسمى الإيمان. وهناك فرقة ثالثة، لكنهم ليسوا من أهل العلم والدين
المؤلف -رحمه الله-قال: إن أهل العلم والدين افترقوا فرقتين: وهم جمهور أهل السنة ومرجئة الفقهاء كلهم مسلمون، وكلهم من أهل العلم والدين أما الفرقة الثالثة وهم المرجئة المحضة كالجهمية وغيرهم -كما سيأتي-، فإنهم قالوا: إن الإيمان مجرد المعرفة بالقلب. ويتزعمهم الجهم بن صفوان ويقول: الإيمان -يقرر الإيمان-: معرفة الرب بالقلب، والكفر: هو جهل الرب بالقلب. فمن عرف ربه بإيمانه، فهو مؤمن عند الجهم فمن عرف ربه بقلبه فهو مؤمن، ومن جهل ربه بقلبه فهو كافر.
__________
(1) - مسلم: الإيمان (35) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5004).(1/14)
وعلى هذا ألزم العلماءُ الجهمَ بأن إبليس مؤمن؛ لأنه عرف ربه بقلبه: { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) } (1) وفرعون الذي ادعى الربوبية وقال: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) } (2) مؤمن على مذهب الجهم؛ لأنه يعرف ربه بقلبه، قال الله -تعالى- عنه وعن ملئه: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } (3) واليهود على مذهب الجهم مؤمنون؛ لأنهم يعرفون ربهم بقلوبهم، ويعرفون صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - قال -تعالى-: { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) } (4) وأبو طالب -ثبت في الصحيح "صحيح البخاري " أنه مات على الشرك- يكون على مذهب الجهم مؤمنا؛ لأنه يعلم صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قصيدته المشهورة:
ولقد علمت بأن دين محمد
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار سبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
هذه الطائفة وهم الطائفة الجهمية ليسوا من أهل العلم والدين؛ ولهذا ما ذكرهم المؤلف رحمه الله. قال: إن أهل العلم والدين افترقوا في هذا فرقتين، وهذه الفرقة الثالثة ليست من أهل العلم والدين ويسمون المرجئة المحضة ويرون أن الأعمال ليست واجبة، وأن الإنسان لو ارتكب جميع الكبائر والمنكرات، وهدم المساجد وقتل الأنبياء والصالحين وهو يعرف ربه بقلبه - يكون مؤمنا على مذهب الجهم كما بين ذلك أهل العلم العلامة ابن القيم -رحمه الله- في "الكافية الشافية".
لو فعل الإنسان على مذهب الجهم جميع الكبائر والمنكرات، وكثيرا من أمور الردة، لا يكون.. يبقى اسم الإيمان عنده، ما دام يعرف ربه بقلبه". نسأل الله السلامة والعافية.
__________
(1) - سورة الحجر آية: 36.
(2) - سورة النازعات آية: 24.
(3) - سورة النمل آية: 14.
(4) - سورة البقرة آية: 146.(1/15)
والجهم بن صفوان ملحد، كفره أهل العلم والجهمية كفرهم أهل العلم من العلماء من كفرهم بإطلاق، ومنهم من بدعهم، ومنهم من كفر غلاتهم، وذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله-أنهم كفرهم خمسمائة عالم، خمسمائة عالم كفروا الجهمية قال -رحمه الله- في القصيدة النونية:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في
عشر من العلماء في البلدان
خمسون في عشر خمسمائة.
واللالكائي الإمام قد حكاه عنهم
بل قد حكاه قبله الطبراني
فالمقصود أن أهل العلم والدين كما قال المؤلف -رحمه الله- افترقوا في مسمى الإيمان إلى فرقتين: فرقة أدخلت أعمال القلوب وأعمال الجوارح في مسمى الإيمان، مع تصديق القلب والإقرار باللسان، وهذا هو الذي عليه.. وهذا هو مذهب الصحابة والتابعين والأئمة، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أهل العلم والطائفة الثانية: مرجئة الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه وأهل الكوفة ومن تبعهم، يرون أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان، وتصديق القلب، وأما الأعمال مطلوبة، أعمال الجوارح وأعمال القلوب مطلوبة، ويجب على الإنسان أن يؤدي الواجبات، ويجب عليه أن يترك المحرمات، إلا أنهم لا يسمونها إيمانا، يسمونها تقوى وبرا، ولا يسمونها إيمانا. وأما جمهور أهل السنة فإنهم يسمونها إيمانا، ويسمونها تقوى ويسمونها برا، فهي تقوى وإيمان وبر، نعم.
رد المؤلف نزاع الفرقتين إلى الكتاب والسنة
وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين، فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وينفيان ما قالت الأخرى.(1/16)
يعني المؤلف -رحمه الله- لما ذكر الخلاف في هذه المسألة، عملا بقول الله - عز وجل- { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } (1) وهذه هي طريقة أهل العلم أنهم يردون ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عملا بقول الله - عز وجل- { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) } (2) وقال -سبحانه-: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } (3).
والواجب على المسلم أن يرد ما تنازع فيه الناس، وأن يعرض الخلاف، خلاف الناس واختلاف العلماء على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فما وافق كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو الحق، وما خالفهما فهو مردود.
فالمؤلف الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- من الراسخين في العلم من أهل العلم والبصيرة من أهل الفقه في الدين؛ ولذلك رد هذا النزاع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - رد نزاع هاتين الفرقتين إلى الكتاب والسنة، فوجد أن الكتاب والسنة يوافقان قول من؟
قول جمهور أهل السنة وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فتبين بهذا أنه الحق، وأن قول مرجئة الفقهاء في إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان، قول ليس بصحيح، يخالف النصوص من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيجب قبول ما دلت عليه النصوص من كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - نعم، وإنا نظرنا.
ترجيح المؤلف للفرقة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل
__________
(1) - سورة النساء آية: 59.
(2) - سورة النساء آية: 59.
(3) - سورة الشورى آية: 10.(1/17)
وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين، فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وينفيان ما قالت الأخرى، والأصل الذي هو حجتنا في ذلك، اتباع ما نطق به القرآن، فإن الله -تعالى ذكره علوا كبيرا- قال في محكم كتابه: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) } (1) وإنا رددنا الأمر إلى ما ابتعث الله عليه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل به كتابه، فوجدناه قد جعل بدء الإيمان شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد النبوة عشر سنين، أو بضع عشرة سنة، أو بضع عشر سنة -أو بضع عشرة سنة- أو بضع عشرة سنة يدعو إلى هذه الشهادة خاصة. وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها.
يعني المؤلف- رحمه الله- يقول: إن هذه المسألة من مسائل النزاع، رددناها إلى الكتاب والسنة، فوجدنا الكتاب والسنة يوافق ما ذهب إليه جمهور أهل السنة يقول: والأصل الذي هو حجتنا، اتباع ما جاء في القرآن. يقول: اتباع ما نطق به القرآن. أخذا من قول الله -تعالى-: { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } (2).
كل هذا قال المؤلف: اتباع ما نطق به القرآن. يعني: أخذا من الآية. يقال: نطق القرآن، نطق الكتاب. وبين المؤلف-رحمه الله- أن بدء الإيمان الشهادتان، الشهادة لله -تعالى- بالوحدانية، والشهادة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة. هذا أصل الدين وأساس الملة.
أصل الدين وأساس الملة، أن تشهد لله -تعالى- بالوحدانية، وأن تشهد لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، وأن توحد الله وتخلص له العبادة.
__________
(1) - سورة النساء آية: 59.
(2) - سورة الجاثية آية: 29.(1/18)
وهذا هو الأمر الذي أنزل الله به الكتب، وأرسل به الرسل، قال-تعالى-: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } (1) وقال -سبحانه-: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) } (2) وكل نبي بعثه الله يدعو قومه -بادئ ذي بدء- إلى توحيد الله، وإخلاص الدين له، ويأمرهم بعبادة الله، ويقول: اعبدوا الله. كما قال -سبحانه-: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (3) وقال: { * وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (4).
وقال: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (5) وقال: { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } (6) هذا الأمر هو الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب. والنبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله -تعالى- بالتوحيد، بعثه الله في مكة بين قوم مشركين، فدعاهم إلى التوحيد، وقال: قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا (7).
ومكث على هذا بضع عشرة سنة، يدعو إلى هذه الشهادة خاصة، ولم يأمرهم بصلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج؛ لأن أصل الدين وأساس الملة هو التوحيد، لا بد من التوحيد، ولا تصح الأعمال إلا بالتوحيد، إلا الصلاة؛ فإنها فرضت قبل الهجرة بسنة أو بسنتين، أو ثلاث على الخلاف.
__________
(1) - سورة النحل آية: 36.
(2) - سورة الأنبياء آية: 25.
(3) - سورة الأعراف آية: 59.
(4) - سورة الأعراف آية: 65.
(5) - سورة الأعراف آية: 73.
(6) - سورة الأعراف آية: 85.
(7) - أحمد (3/492).(1/19)
فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة واستقر التوحيد في القلوب، شرع الله الشرائع: فرضت الزكاة في المدينة فرض الصوم في المدينة فرض الحج، شرع الأذان، شرعت الحدود، أما في مكة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على دعوتهم إلى التوحيد؛ لأن التوحيد هو أصل الدين وأساس الملة، وهو الذي تبنى عليه الأعمال، ولا تصح الأعمال إلا به، فلا بد من التوحيد، فإذا ثبت التوحيد واستقر في القلوب، عند ذلك تبنى عليه الأعمال وتصح الأعمال. أما إذا عمل الإنسان عملا، وهو لم يوحد، وصلى وصام وزكى وحج وهو مشرك، ما نفع. لا تصح الأعمال إلا بعد استقرار التوحيد، وثبات التوحيد والإيمان في القلب. نعم.
الإيمان في مكة اقتصر على الشهادتين فقط
فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة بعد النبوة عشر سنين، أو بضع عشرة سنة، يدعو إلى هذه الشهادة الخاصة، وليس الإيمان المفترض على العباد يومئذ سواها، فمن أجاب إليها كان مؤمنا، لا يلزمه اسم في الدين غيره، وليس يجب عليهم زكاة ولا صيام، ولا غير ذلك من شرائع الدين. -نعم، هذا في مكة في أول الأمر، نعم- وإنما كان هذا التخفيف عن الناس يومئذ فيما يرويه العلماء رحمة من الله بعباده ورفقا بهم؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بجاهلية وجفائها، ولو حملهم الفرائض كلها معا، نفرت منه قلوبهم، وثقلت على أبدانهم.
ولأنها لا تصح إلا بعد استقرار التوحيد وثباته في القلب؛ لأن هذه الصلاة والزكاة والصوم والحج، لا تصح ولا تقبل، ولا تكون نافعة عند الله، إلا بعد التوحيد؛ ولهذا بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد، كل نبي يدعو قومه إلى التوحيد. نعم.(1/20)
ولو حملهم الفرائض كلها معا، نفرت منه قلوبهم، وثقلت على أبدانهم، فجعل ذلك الإقرار بالألسن وحدها هو الإيمان المفترض على الناس يومئذ، فكانوا على ذلك إقامتهم بمكة كلها، وبضعة عشر شهرا بالمدينة وبعد الهجرة، فلما أثاب الناس إلى الإسلام، وحسنت فيه رغبتهم، زادهم الله في إيمانهم.
أثاب يعني: اجتمع. لما اجتمع الناس على الإسلام -أثابوا يعني: اجتمعوا- على الإسلام في المدينة واستقر التوحيد وثبت في القلوب، وحسنت رغبتهم فيه -شرع الله الشرائع، حددت الأوقات للصلوات، وشرع الأذان، وشرعت الجماعة، وفرضت الزكاة، وفرض الصوم، وفرض الحج، شرعت الحدود. نعم.
بعد الهجرة شرعت الشرائع وطلب منهم امتثال الأوامر واجتناب النواهي
قال المؤلف -رحمه الله تعالى -: فلما أثاب الناس إلى الإسلام، وحسنت فيه رغبتهم، زادهم الله في إيمانهم، أن صرف الصلاة إلى الكعبة بعد أن كانت إلى بيت المقدس فقال: { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } (1).
ثم خاطبهم وهم بالمدينة باسم الإيمان المتقدم لهم في كل ما أمرهم به، أو نهاهم عنه، فقال في الأمر: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } (2) وقوله -تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } (3) وقال في النهي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } (4) وقوله -تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } (5).
__________
(1) - سورة البقرة آية: 144.
(2) - سورة الحج آية: 77.
(3) - سورة المائدة آية: 6.
(4) - سورة آل عمران آية: 130.
(5) - سورة المائدة آية: 95.(1/21)
المعنى: لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة شرعت الشرائع، فناداهم الله باسم الإيمان أمرا ونهيا، وطلب منهم -سبحانه وتعالى- امتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ لأنهم موحدون، فقال في الأمر: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } (1) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا } (2) يعني: وحدوا الله وثبت التوحيد، أوجب الله عليهم الصلاة: { ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } (3).
قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } (4) أمرهم بالوضوء. وفي النهي، نهاهم عن الربا، قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } (5) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } (6) شرعت الشرائع وفرضت الواجبات وحرمت المحرمات، فامتثلوا أمر الله واجتنبوا نهيه.
لعلنا نقف على هذا. فيه أسئلة؟ لعلنا نقف على هذا. وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
__________
(1) - سورة الحج آية: 77.
(2) - سورة الحج آية: 77.
(3) - سورة الحج آية: 77.
(4) - سورة المائدة آية: 6.
(5) - سورة آل عمران آية: 130.
(6) - سورة المائدة آية: 95.(1/22)
هذا سائل يسأل يقول: ما رأيكم فيمن قال: إن مرجئة الفقهاء خلافنا معهم حقيقي من وجوه عدة: من جهة مخالفتهم للنصوص الصريحة وإجماع السلف على أن الأعمال من الإيمان، ومن جهة حكمهم على أهل الكبائر وعدم تكفيرهم لبعض من تلبس بالكفر العملي، ومن جهة ما يثمر عن ذلك من الولاء والبراء، والفاسق والفاجر في الإيمان سواء، والمؤمن سواء، فالمحبة لهم سواء. والرابع: أنهم فتحوا بابا للفسقة والفجرة ليفعلوا ما شاءوا، ويقولون: إن إيماننا كامل؟
نعم، كما سبق أن خلافهم ليس خلافا لفظيا، ولكنه خلاف له آثار تترتب عليه، منها ما سمعتم. أولا: أنهم جمهور أهل السنة تأدبوا مع النصوص، فقالوا: إن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان. ومرجئة الفقهاء خالفوا النصوص في اللفظ، وإن وافقوهم في المعنى. ومنها فتح الباب للفسقة، وفتح الباب للمرجئة ومنها مسألة الاستثناء في الإيمان، أما الأشياء الأخر أعدها الآن. في السؤال، أنه أيش؟ أعد.
ما رأيكم فيمن قال: إن مرجئة الفقهاء خلافنا معهم حقيقي من وجوه مخالفتهم للنصوص الصحيحة، وإجماع السلف على أن الأعمال من الإيمان؟
نعم هذا سبق، هذا صحيح، خالفوا النصوص، نعم.
ومن جهة حكمهم على أهل الكبائر وعدم تكفيرهم لبعض من تلبس بالكبائر؟
الحكم على الكبائر، مرجئة الفقهاء يرون أن صاحب الكبيرة يستحق الوعيد، ويقام عليه الحد إذا كان الكبيرة عليها حدا. هذا قول المرجئة المحضة الجهمية هم الذين يرون أن صاحب الكبيرة ليس عليه شيء، أما مرجئة الفقهاء من أهل السنة يرون أن صاحب الكبيرة مذموم، وعليه الوعيد، ويقام عليه الحد، إذا كان رتب على هذه الكبيرة حدا، ويشمل تكفير أيش؟
حكم أهل الكبائر في الدنيا.
نعم في الدنيا. نعم، في الدنيا يرون أنه يقام عليه الحد.
يقولون: إنه مؤمن كامل الإيمان.(1/23)
نعم، يرون أنه مؤمن كامل الإيمان؛ لأن التفاضل بين الناس في الأعمال، التفاضل بين الناس في الأعمال، ليس التفاضل بينهم في الإيمان؛ ولهذا يقول الطحاوي "والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء" نعم، وهذا أصل مسألة الخلاف. نعم.
وعدم تكفيرهم لبعض من تلبس بالكفر.
نعم، هذا فيه تفصيل، هم يفصلون في هذا؛ لأنهم يرون أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والكفر هو.. إنما يكون الجحود، الجحود بالقلب، يرون أن الأعمال الكفرية دليل، دليل على الجحود، دليل على ما في القلب، يرون أنها دليل، والصواب أن الأعمال الكفرية هي كفر، فمن سجد للصنم.. السجود للصنم كفر، ومن سب الله، أو سب الرسول، أو سب دين الإسلام فهذا كفر، وليس هو دليل على الكفر، نعم هذه من مسائل الخلاف، هم يقولون: هذا دليل على الكفر، دليل على ما في القلب.
والصواب أن الكفر يكون بالجحود كأن يجحد فرضية الصلاة وفرضية الزكاة وفرضية الحج، أو ينكر البعث، أو الجنة أو النار، أو يجحد صفة وصف الله بها نفسه، أو خبرا أخبر الله به بعد قيام الحجة.
ويكون أيضا بالقول، كما لو سب الله أو سب الرسول، أو سب دين الإسلام، أو استهزأ بالله أو بكتابه، أو برسوله، أو بدينه، كما قال الله -تعالى- في جماعة استهزءوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالقراء من أصحابه في غزوة تبوك أنزل الله فيهم هذه الآية: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (1) فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان.
ويكون الكفر بالعمل أيضا، كما لو سجد للصنم، فالسجود للصنم كفر وعمل، ويكون أيضا الكفر بالإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعبد الله. فالكفر يكون بالقلب ويكون باللسان، ويكون بالعمل، ويكون بالرفض والترك، والإعراض عن دين الله.
__________
(1) - سورة التوبة آية: 65-66.(1/24)
أما المرجئة فإنهم يرون أن الكفر لا يكون إلا بالقلب، وأن السجود للصنم أوالسب، إنما هو دليل على ما في القلب. والصواب أنه كفر مستقل، كفر بنفسه. السجود للصنم كفر بنفسه، كفر مستقل، والسب والاستهزاء بالله وبكتابه، وبرسوله وبدينه كفر بنفسه، وكذلك أيضا الإعراض عن دين الله، لا يتعلم ولا يعبد الله كفر، قال -تعالى-: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) } (1) { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) } (2) نعم.
قالوا: والثالث: ما يثمر من ذلك من الولاء والبراء، فالفاسق والفاجر والمؤمن عندهم سواء -أيش؟- ما يثمر عن هذه العقيدة -نعم- من أن الفاسق والفاجر والمؤمن، في الإيمان سواء، فالمحبة لهم سواء.
نعم، كذلك الحب في الله والبغض في الله، والولاية، فمرجئة الفقهاء يرون أن الناس قسمان: ولي لله، وعدو لله. فالمؤمن سواء كان عاصيا أو مطيعا ولي لله، والكافر عدو الله، وأما جمهور أهل السنة فيرون الناس ثلاثة أقسام: ولي لله كامل الولاية، وهو المؤمن التقي، الذي أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات، وعدو كامل العداوة، هو الكافر.
وهناك قسم ثالث: ولي لله من وجه، وعدو لله من وجه، وهو المؤمن العاصي. فهو ولي لله بإيمانه وطاعته، وعدو لله بمعصيته وفسقه، فيوالي من وجه، ويعادى من وجه، ويحب من وجه، ويبغض من وجه، أما مرجئة الفقهاء فلا يرون هذا التقسيم، يرون أن الناس قسمان: ولي لله، وهو المؤمن -سواء كان مطيعا أو عاصيا- وعدو لله وهو الكافر.
هذه من وسائل النزاع، نعم.
ومن فتحوا بابا للفسقة، يقولون: نفعل ما نشاء، وإيماننا كامل.
نعم، هم يرون أن المفاضلة بين الناس، التفاضل في أعمال القلوب، في البر، وأن الإيمان ليس فيه تفاضل. نعم.
__________
(1) - سورة الأحقاف آية: 3.
(2) - سورة السجدة آية: 22.(1/25)
هذا سائل يسأل ويقول: ظهرت نابتة في الآونة الأخيرة، ممن ينتسبون إلى مذهب السلف وأهل السنة ولهم جهود في ذلك مشكورة، ولكنهم وافقوا ليس فقط مرجئة الفقهاء بل في بعض الجوانب -وافقوا أيش؟- وافقوا ليس فقط مرجئة الفقهاء بل في بعض الجوانب وافقوا الجهمية وعدم تكفيرهم من ادعى النبوة، وإن قامت عليه الحجة، حتى قالوا: يكفي أن يقول: لا إله إلا الله. - حتى قالوا؟- حتى قالوا: يكفي أن يقول: لا إله إلا الله. ولو عمل ما عمل من أعمال الكفر. وإذا قيل لهم: ما تقولون فيمن سب الله والرسول؟ قالوا: هو علامة على الكفر. فهل هؤلاء يحذر منهم، ويتعامل معهم كالتعامل مع أهل البدع؟ مع أن أهل العلم قد أفتوا، وكبار أهل العلم قد أفتوا فيهم، وبينوا خطأهم، وردوا عليهم، ولكنهم أصروا وعاندوا ولم يرجعوا.
هذا لا، هؤلاء هم الجهمية المحضة على مذهب الجهمية الذي يقولون: إن من ادعى النبوة لا يكفر. هذا هو مذهب الجهمية الجهمية والمرجئة المحضة يرون أن الإيمان هو التصديق بالقلب، معرفة الرب بالقلب فقط، وأنه لو فعل جميع الكبائر والمنكرات وأعمال الردة، فلا يكفر، من ادعى النبوة وسب الله، وسب الرسول.. هذا مذهب الجهمية هذا مذهب المرجئة المحضة ليس مرجئة الفقهاء
مرجئة الفقهاء طائفة من أهل السنة وإن كان خلافهم له آثار، لكنهم يرون أن الواجبات واجبات، وأن المحرمات محرمات، وإلا تكون من الإيمان، ويكفرون من كفره الله ورسوله، لكن هؤلاء جهمية، المرجئة المحضة هم الذين يرون أن الإيمان هو المعرفة بالقلب كافية، وأنه لو فعل المنكرات والكبائر فلا لوم عليه، ولا يؤثر في إيمانه.(1/26)
فإذا كان هناك أحد يرى هذا الرأي، معناه أنه من الجهمية يوافق قول الجهمية أنه ما يكفر من ادعى النبوة، معناه: أنه يرى ما يراه الجهمية والمرجئة المحضة من أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وأن فعل الكبائر والمنكرات وأعمال الردة، لا تؤثر في الإيمان، حتى يجهل ربه بقلبه. هذا مذهب الجهمية والمرجئة المحضة نعم.
حكم التعامل معهم؟
لا شك أنه يحذر منهم، ويبين أن مذهبهم مذهب باطل وفاسد، وأن هذا مذهب الجهمية والمرجئة وسيأتي المؤلف -رحمه الله-يتكلم عن هؤلاء، ويبين ويقول: إن إبليس أخف كفرا منهم، وإن إبليس.. الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام سيتكلم عن الجهمية ويرى أن إبليس أخف كفرا منهم. نسأل الله السلامة والعافية، نعم.
رجل ترك جميع الأعمال، فهل هذا مسلم؟ وبعضهم يحتج بحديث: يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط (1).
لا بد من العمل، ما يتحقق الإيمان إلا بالعمل، الإنسان لا بد من التصديق والإيمان، وهذا التصديق والإيمان لا بد له من عمل يتحقق به، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون.
إبليس مصدق وفرعون مصدق، لكن ما عندهم انقياد، ليس عندهم انقياد بالعمل، إبليس لما أمره الله بالسجود لآدم رفض وعارض أمر الله، وقال: أنا خير منه، أنا أفضل منه. ولا يمكن أن يسجد الفاضل للمفضول: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) } (2).
وفرعون كذلك، رفض أمر الله وأمر رسوله، ولم يؤمن بنبيه. فمن يدعي الإيمان والتصديق ويرفض العمل، فهو مستكبر، يكون كفره بالاستكبار، لا بد من الانقياد، ولا بد لهذا الإيمان والتصديق الذي في القلب من عمل يتحقق به، أما إذا رفض العمل، معناه استكبر عن عبادة الله، يكون كفره بالاستكبار والعياذ بالله، ويقال له: أي فرق بين إيمانك وإيمان إبليس وفرعون ؟
__________
(1) - النسائي: الْبُيُوعِ (4694).
(2) - سورة الأعراف آية: 12.(1/27)
كما أن الذي يعمل: يصلي ويصوم ويتصدق ويحج، لا بد لهذا العمل من إيمان يصححه، وإلا صار كإسلام المنافقين فالمنافقون يصلون ويجاهدون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن أعمالهم لا، ليس لها إيمان يصححها، قال الله -تعالى-: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) } (1) قال -سبحانه-: { إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) } (2).
فلا بد للإيمان والتصديق بالقلب من عمل يتحقق به وانقياد لأمر الله وأمر رسوله، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون ولا بد للعمل من صلاة وصيام وزكاة وحج، من إيمان يصححها، وإلا صار كإسلام المنافقين نعم.
الحياء شعبة من الإيمان (3) لو أن رجلا ترك.. أو كان تاركا لجميع الأعمال تركا كليا، ولكن عنده حياء، فهل هذا معناه أنه يسمى مؤمنا؟ وضحوا لنا هذه الشبهة.
ليس عنده حياء، الحياء.. عنده دعوى، الذي يترك الأعمال ليس عنده حياء، وكونه يدعي الحياء كذبٌ. فالذي يستحي من الله ورسوله هو المؤمن المصدق، الذي يعمل ويمتثل أمر الله، ويجتنب نهيه، أما من كان يرفض أمر الله، وأمر رسوله فليس عنده حياء. وفي الحديث الصحيح: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت (4) معنى هذا يصنع ما يشاء؟ ليس عنده حياء هذا. نعم.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 8.
(2) - سورة المنافقون آية: 1.
(3) - البخاري: الإيمان (9) , ومسلم: الإيمان (35) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5004) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/414).
(4) - البخاري: أحاديث الأنبياء (3484) والأدب (6120) , وأبو داود: الأدب (4797) , وابن ماجه: الزهد (4183) , وأحمد (4/121 ,5/273).(1/28)
ذكرتم - أحسن الله إليكم - أن جمهور أهل السنة يقولون: إن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فلماذا لم تقولوا: إن هذا قول كل أهل السنة؟
لأن مرجئة الفقهاء طائفة من أهل السنة الإمام أبو حنيفة وأصحابه، والعباد من أهل الكوفة يسمون مرجئة الفقهاء، وهم من أهل السنة نعم.
هل هناك فرق بين الإثبات أو النفي لمطلق الإيمان، وبين الإثبات والنفي للإيمان المطلق؟ وإن كان هناك فرق، فما أثره؟
أيش؟ أعد.
هل هناك فرق بين الإثبات أو النفي لمطلق الإيمان ؟
سبق أن قلت في مقدمة الدرس: إن مذهب أهل السنة والجماعة عدم إطلاق الإيمان نفيا أو إثباتا للعاصي والفاسق ومرتكب الكبيرة، بل لا بد من التقييد في النفي وفي الإثبات، فلا يقال عن الفاسق والعاصي ومرتكب الكبيرة: إنه مؤمن بإطلاق، ولا يقال: ليس بمؤمن بإطلاق. لا بد من التقييد في النفي، ولا بد من التقييد في الإثبات.(1/29)
ففي الإثبات تقول: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرة. لأنك إذا قلت: مؤمن. وسكت، وافقت المرجئة المرجئة يقولون عن العاصي: إنه مؤمن. وفي الإثبات لا بد أن تقيد، وفي النفي لا بد أن تقيد، فتقول: ليس بصادق الإيمان، ليس بمؤمن حقا. لأنك إذا قلت: ليس بمؤمن. وسكت، وافقت الخوارج والمعتزلة نعم، وفي الحديث: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم، حين ينتهبها وهو مؤمن (1) هذا نفي كمال الإيمان، هذا نفي الإيمان الكامل، لكن الزاني والسارق عنده أصل الإيمان، والشارب والمنتهب عنده أصل الإيمان، والنصوص في هذا كثيرة: لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه (2) لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (3) هذا نفي كمال الإيمان. نعم.
يقول: ما الفرق بين هذا الكتاب وكتاب ابن أبي شيبة ؟ ثم هل لشيخ الإسلام ابن تيمية قول حول رأي فقهاء الأحناف ؟&
أيش؟
ثم هل لشيخ الإسلام ابن تيمية قول حول رأي فقهاء الأحناف ؟ وأن الخلاف معهم جوهري وليس لفظيا، بل هو خطير ولا يقبل؟&
__________
(1) - البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106).
(2) - أحمد (2/288).
(3) - البخاري: الإيمان (13) , ومسلم: الإيمان (45) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2515) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5016 ,5017) , وابن ماجه: المقدمة (66) , وأحمد (3/176) , والدارمي: الرقاق (2740).(1/30)
نعم، كتاب الإيمان لابن أبي شيبة نصوص وآثار، كتاب الإيمان لأبي عبيد أنه أوسع، وفيه تفصيل، وأما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بين في هذا، ونقل نقولا عن علماء بأن مرجئة الفقهاء وإن كان خلافهم لفظيا، في كون مرتكب الكبيرة لا ينفى عنه الإيمان، وأن مرتكب الكبيرة عليه الوعيد، نقل نقولا في أن فتنتهم، قال عن بعض العلماء عن العلماء إن فتنتهم أشد من فتنة الأزارقة والخوارج نظرا لما يترتب عليه من الآثار التي سبق الكلام عليها. نعم.
يقول: ما الفرق بين قول القلب وعمله وقول اللسان وعمله؟
نعم، قول القلب: التصديق والإقرار. وعمل القلب: النية والإخلاص والصدق والمحبة. قول اللسان النطق، وقد يسمى قول اللسان عملا. نعم.
يقول المؤلف: -رحمه الله- لما قال: إن أهل العلم افترقوا فرقتين. يلاحظ أنه لم يذكر في مذهب السلف مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، حتى يكتمل مذهب السلف
سيأتي، سيأتي مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، سيأتي فيما بعد، نعم.
يقول: هل هناك فرق بين هاتين الكلمتين: يكمل، ويستقيم؟ يعني: الإيمان.
أيش؟
يكمل ويستقيم، هل هناك فرق بين هاتين الكلمتين؟.
يكمل ويستقيم.
يستقيم، قد يقال: يستقيم الإنسان على طاعة الله. هنا يكمل إيمانه، من كمل إيمانه هو مستقيم، يعني كأن الاستقامة نتيجة لكمال الإيمان، من كمل إيمانه قد استقام على طاعة الله واستقام دينه. فمن كمل إيمانه استقام دينه، ومن استقام دينه فقد كمل إيمانه، يعني قد يقال: إن إحداهما نتيجة للأخرى. نعم.
السؤال الأخير: هذا سائل يقول: بعض المؤلفين في علوم القرآن يذكرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت دعوته للتوحيد فقط في مكة أما الشرائع فكانت في المدينة ما صحة هذه المقولة؟.
أيش؟ أعد.
بعض المؤلفين في علوم القرآن يذكرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت دعوته للتوحيد فقط في مكة أما الشرائع فكانت في المدينة ما صحة هذه المقولة؟(1/31)
هذا صحيح، كما سبق الآن، كما قرأنا، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث بمكة يدعو إلى التوحيد، ما شرع إلا صلاة القيام قبيل الهجرة؛ لأن التوحيد هو أصل الدين وأساس الملة، يدعوهم إلى التوحيد، ولأن الأعمال لا تصح حتى تبنى على التوحيد، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة شرعت الشرائع. نعم.
يقصد يا شيخ، أنه فقط في المدينة دعا للتوحيد -نعم؟- يقول: إنه دعا للتوحيد في مكة فقط؟.
لا، التوحيد من أول حياته إلى آخرها يدعو إلى التوحيد. في حديث معاذ أتدري ما حق الله عليك، وما حق العباد على الله؟ (1) والأحاديث كثيرة في هذا: من قال: لا إله إلا الله. خالصا.. (2) في حديث أبي هريرة من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله. خالصا من قلبه (3) والنصوص في هذا كثيرة، الإمام مسلم ذكر في صحيحه، في "كتاب الإيمان" نصوصا كثيرة في هذا، والبخاري -رحمه الله- نعم. وفي المدينة يدعو إلى التوحيد، ويدعو له، وشرعت الشرائع.
وفق الله الجميع لطاعته، ورزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
التوحيد الذي في مكة والشرائع التي نزلت في المدينة كلها جميعا الإيمان
__________
(1) - البخاري: الجهاد والسير (2856) واللباس (5967) والاستئذان (6267) والتوحيد (7373) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (5/234).
(2) - البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373).
(3) - البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373).(1/32)
وعلى هذا، كل مخاطبة كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة، وإنما سماهم بهذا الاسم بالإقرار وحده، إذ لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد هذا، وجبت عليهم وجوب الأول سواء، لا فرق بينهما؛ لأنهما جميعا من عند الله، وبأمره وبإيجابه، فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها، وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه، والقبلة التي كانوا عليها -لم يكن ذلك مغنيا عنهم شيئا، ولكان فيه نقض لإقرارهم؛ لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان، من الطاعة الثانية. فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة، كإجابتهم إلى الإقرار، صارا جميعا معا هما يومئذ الإيمان؛ إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فالمؤلف -رحمه الله-يقرر مذهب أهل السنة والجماعة جماهير أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة والعلماء أن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالقلب وعمل بالجوارح وأن مسمى الإيمان يشمل هذه الأمور كلها: يشمل تصديق القلب، والإقرار باللسان، وعمل القلب وعمل الجوارح. هذا هو مسمى الإيمان عند أهل الحق، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة والعلماء وهو الذي تدل عليه النصوص من كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(1/33)
ويبين المؤلف -رحمه الله-أنه في أول الأمر، لما كان المؤمنون لما كانوا مستضعفين في مكة وفي أول بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فرض الله عليه -سبحانه وتعالى- الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر، وفرض عليهم أن يوحدوا الله، وأن يخلصوا له العبادة، ولم يفرض شيء من الشرائع: لا الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج، ثم لما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهاجر المسلمون إلى المدينة فرض الله الفرائض، فرض الله الشرائع: فرض الأذان، وفرض الله الجماعة ينادى لها، وفرض الله الزكاة، وفرض الله الصوم، ثم فرض الله الحج بعد ذلك، وشرعت الحدود.
فالمسلمون قبلوا ذلك، وآمنوا بذلك، فكان هذا من الإيمان. ولما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وجه في الصلاة إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، ثم بعد ذلك حولت القبلة إلى الكعبة فقبل المسلمون ذلك، فصار هذا من الإيمان.
فلو أن أحدا امتنع من الصلاة إلى الكعبة بعد أن حولت، لصار ناقضا هذا الإيمان للأول، وكذلك لو أن أحدا لم يقبل الصلاة، ولم يقبل شرعية الصلاة، وشرعية الصوم، وشرعية الزكاة وشرعية الحج، فإن عدم قبوله يكون ناقضا لإيمانه الأول، لإقراره الأول.(1/34)
ففي الأول كان الإيمان. المؤمن في مكة الموحد، الذي لا يشرك بالله شيئا، ولم تفرض الصلاة إلا قبيل الهجرة بسنة، أو بسنتين، أو بثلاث، ولم تفرض الزكاة، ولم يفرض الصوم، ليس هناك صوم في مكة ولا زكاة ولا حج، فصار المؤمن.. الإيمان هو التوحيد، والموحد الذي وحد الله وآمن برسوله، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة شرعت الشرائع، فصارت من الإيمان، وخاطب الله المؤمنين بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا } (1) كما سبق، وحولت القبلة، وقبل المسلمون ذلك، وخاطبهم الله بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } (2) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } (3) شرع الوضوء.
وفي النهي النواهي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } (4) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } (5) فهذا كله داخل في مسمى الإيمان.
وعلى هذا، يقول المؤلف: وعلى هذا كل مخاطبة كانت لهم فيها أمر أو نهي بعد الهجرة.. كل داخل في الاسم، وإنما سماهم يعني مؤمنين، إنما سماهم بهذا الاسم، يعني الإيمان بالإقرار وحده، لما لم يكن هناك فرائض.
لما كانوا في مكة سماهم مؤمنين بالإقرار وحده، التصديق والتوحيد والإيمان، ولم يكن هناك فروض، ولم تفرض الصلاة، ولم يفرض الصوم، ولم يفرض الحج، فلما فرضت الفرائض، وحدت الحدود، وشرعت الشرائع في المدينة ونزلت الشرائع، وجبت عليهم وجوب الأول سواء.
__________
(1) - سورة الحج آية: 77.
(2) - سورة الحج آية: 77.
(3) - سورة المائدة آية: 6.
(4) - سورة آل عمران آية: 130.
(5) - سورة المائدة آية: 95.(1/35)
يعني: وجب عليهم أن يقبلوا شرع الله ودينه: يقبلوا الصلاة، ويقبلوا شرعية الصلاة، شرعية الصوم، كما قبلوا في مكة الإيمان والتوحيد؛ لأنها - يقول المؤلف- لا فرق بينهما؛ لأنها جميعا من عند الله، كما أن الله أمرهم بالإيمان وحده في مكة أمرهم في المدينة بالصلاة والزكاة والصوم والحج، لا فرق بينهما؛ لأنها جميعا من عند الله، وبأمره وبإيجابه.
يقول المؤلف -رحمه الله-: فلو أنهم عند تحويل القبلة إلى الكعبة أبوا أن يصلوا إليها، وتمسكوا بذلك الإيمان الذي لزمهم اسمه، والقبلة التي كانوا عليها. يعني التوجه إلى بيت المقدس لو أن أحدا قال: أنا أكتفي بالإيمان الأول في مكة ولا أقبل الشرائع التي نزلت في المدينة وأكتفي بالتوجه إلى بيت المقدس ولا أقبل التوجه إلى الكعبة يقول المؤلف: لم يكن ذلك مغنيا عنه شيئا، ولكان فيه نقض لإقراره الأول.
لو قال أحد هذا، لانتقض إيمانه، لانتقض تصديقه، لانتقض توحيده السابق؛ لأن الطاعة الأولى ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة الثانية، الطاعة الأولى هو الإيمان في مكة فقط وحده، والطاعة الثانية في المدينة الشرائع التي نزلت، مثل: الصوم والزكاة والحج والشرائع، والأذان والحدود.
فالطاعة الأولى وهي الإيمان في مكة ليست بأحق باسم الإيمان من الطاعة، وهي الشرائع التي شرعت في المدينة(1/36)
فلما أجابوا الله ورسوله إلى قبول الصلاة -يعني في المدينة كإجابتهم إلى الإقرار بالإيمان في المدينة - صارا جميعا معا، هما يومئذ الإيمان. يعني: لما كان المسلمون في مكة الإيمان: هو التوحيد فقط، فلما هاجروا إلى المدينة شرع الله الشرائع، فصار قبولهم من الإيمان، وصار الإيمان والتوحيد الذي قبلوه بمكة يضاف إليه الشرائع التي شرعت في المدينة فصارا جميعا معا هما يومئذ الإيمان، صار التوحيد والإيمان الذي في مكة والشرائع التي نزلت في المدينة كلها جميعا الإيمان، لا يفرق بينها، إذ أضيفت الصلاة إلى الإقرار؛ لأن الصلاة أضيفت إلى الإقرار، يعني التصديق والإيمان، نعم.
الدليل على أن الصلاة من الإيمان
والشهيد على أن الصلاة من الإيمان قول الله - عز وجل- { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) } (1).
الشهيد. لعله هو الشاهد، يعني الشهيد والشاهد، يعني الدليل، الدليل على أن الصلاة من الإيمان قول الله - عز وجل- { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) } (2).
ويتبين هذا بمعرفة سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة وهاجر المسلمون وجههم الله إلى بيت المقدس في الصلاة ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، ثم حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فتوجه المسلمون إلى الكعبة
حتى إن أهل قباء لم يبلغهم تحويل القبلة إلا في صلاة الفجر، وكانت حولت القبلة في صلاة العصر، فذهب ذاهب ومر على أهل قباء ووجدهم يصلون إلى بيت المقدس فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد حولت القبلة إلى الكعبة فاستداروا وهم في الصلاة.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 143.
(2) - سورة البقرة آية: 143.(1/37)
استداروا وهم في الصلاة إلى الكعبة فكانوا في أول الصلاة -في أول صلاتهم- متجهين إلى بيت المقدس وفي آخرها متجهين إلى الكعبة تحولوا، صارت النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، يعني المسجد فيه النساء خلف، فاستداروا وصار الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، ويسمى بمسجد القبلتين وهذا من كمال طاعتهم لله ولرسوله، وفيه دليل على قبول خبر الواحد.
وقد مات بعض الصحابة قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة مات بعض الصحابة قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة فقال بعض المسلمين كيف حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس وقد حولت القبلة إلى الكعبة ؟ فأنزل الله هذه الآية: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) } (1).
والمراد بقوله: "إيمانكم" يعني صلاتكم إلى بيت المقدس { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (2) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس فسمى الصلاة إيمانا، يعني أن المسلمين الذين توفاهم الله وهم يصلون إلى بيت المقدس لا لوم عليهم، ممتثلون لأمر الله، وإيمانهم وعملهم صحيح في ذلك الوقت، مشروع، فلهم إيمانهم، ولهم عملهم، والله لا يضيع إيمانهم ولا يضيع عملهم.
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (3) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس فسمى الصلاة إيمانا، وهذا من أقوى الأدلة للرد على المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، الصلاة عمل سماها الله إيمانا، سمى الله الصلاة إيمانا وهي عمل { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (4) يعني صلاتكم إلى بيت المقدس وهذا من أقوى الأدلة على الرد على المرجئة
__________
(1) - سورة البقرة آية: 143.
(2) - سورة البقرة آية: 143.
(3) - سورة البقرة آية: 143.
(4) - سورة البقرة آية: 143.(1/38)
والمرجئة كما سبق طائفتان: المرجئة المحضة وهم الجهمية ومرجئة الفقهاء وهم أهل الكوفة وأبو حنيفة وأصحابه، يرون أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، لكن المرجئة المحضة يرون أن الأعمال ليست مطلوبة، ومرجئة الفقهاء يرون الأعمال مطلوبة، لكن ليست من الإيمان.
فالآية فيها رد على المرجئة على الطائفتين من المرجئة وذلك أن الله تعالى سمى الصلاة إيمانا، والصلاة عمل، فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: والشاهد أو الشهيد -يعني الدليل- على أن الصلاة من الإيمان هذه الآية الكريمة صريحة في أن الأعمال من الإيمان، سمى الله الصلاة إيمانا { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } (1) أي: صلاتكم إلى بيت المقدس نعم.
وإنما نزلت في الذين توفوا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم على الصلاة إلى بيت المقدس فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية.
نعم، والحديث في صحيح البخاري ثابت، نعم.
فأي شاهد يلتمس على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه الآية؟
يعني: فأي دليل، فأي دليل يطلب على أن الصلاة من الإيمان بعد هذه الآية؟ المعنى أن هذه الآية صريحة وواضحة في أن الأعمال من الإيمان؛ لأن الله سمى الصلاة إيمانا وهي عمل، فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان وهذا يرد قول المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان، نعم.
قبول فرضية الزكاة من الإيمان
فلبثوا بذلك برهة من دهرهم، فلما أن داروا إلى الصلاة مسارعة، وانشرحت لها صدورهم، أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبلها، فقال: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ } (2) وقال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } (3).
__________
(1) - سورة البقرة آية: 143.
(2) - سورة البقرة آية: 43.
(3) - سورة التوبة آية: 103.(1/39)
يقول المؤلف -رحمه الله-: فلبثوا، لبث المسلمون بعد هجرتهم إلى المدينة برهة من دهرهم -يعني وقتا من الزمان، البرهة الوقت، والدهر كذلك الزمان- لبثوا زمانا وقد قبلوا الصلاة، وتوجهوا إلى بيت المقدس ثم نسخ الله توجههم إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة وقبلوا شرع الله، وسارعوا إلى مرضاته، وامتثلوا أمره، وانشرحت لها صدورهم، ورضيت بها نفوسهم.
بعد ذلك أنزل الله فرض الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، أنزل الله فرض الزكاة، فصار قبول فرض الزكاة والتصديق بذلك من الإيمان، فأضافه الله إلى إيمانهم، فصار داخلا في مسمى الإيمان؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: أنزل الله فرض الزكاة في إيمانهم إلى ما قبله، يعني إلى ما قبلها من فرضية الصلاة، يعني ضم فرضية الزكاة إلى فرضية الصلاة في الإيمان، فأنزل الله: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ } (1) قرن الله الزكاة بالصلاة.
وقد قرن الله تعالى الزكاة بالصلاة في مواضع كثيرة من كتابه، فهي أختها؛ ولهذا يقول القحطاني -رحمه الله- في نونيته:
................................فصلاتنا وزكاتنا أختان
وقال سبحانه في بيان وجوب الزكاة وفرضيتها مخاطبا نبيه -عليه الصلاة والسلام-: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } (2) صدقة يعني الزكاة { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } (3) هذا أمر من الله تعالى بأخذ الزكاة، تطهرهم يعني تزكي نفوسهم، تطهرهم من أدران الشح والبخل، فالزكاة تطهر نفس المُخرج من أدران الشح والبخل واللؤم، وتطهر المال وتحفظه؛ ولهذا قال: { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } (4) نعم.
عدم قبول فرضية الزكاة ناقض للإيمان
__________
(1) - سورة البقرة آية: 43.
(2) - سورة التوبة آية: 103.
(3) - سورة التوبة آية: 103.
(4) - سورة التوبة آية: 103.(1/40)
فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار، وأعطوه ذلك بالألسنة، وأقاموا الصلاة غير أنهم ممتنعون من الزكاة، كان ذلك مزيلا لما قبله، وناقضا للإقرار والصلاة، كما كان إيتاء الصلاة قبل ذلك ناقضا لما تقدم من الإقرار.
المؤلف يبين -رحمه الله- في هذا أن قبول فرضية الزكاة من الإيمان، وأنه لا بد منه، وأن من لم يقبله وامتنع كان هذا ناقضا لإيمانه الأول، وتصديقه وقبوله للصلاة؛ لأن الجميع من الله - عز وجل- فرضية الصلاة وفرضية الزكاة من الله.
الذي يقبل فرضية الصلاة ولا يقبل فرضية الزكاة ينتقض إيمانه؛ ولهذا قال المؤلف: فلو أنهم ممتنعون من الزكاة، يعني لو أنهم امتنعوا من الزكاة بعد فرضيتها وأعطوا ذلك بالألسنة، يعني واكتفوا بالإيمان باللسان فقط، وأقاموا الصلاة، وقبلوا فرضية الصلاة، لكن امتنعوا من الزكاة، كان ذلك -يعني امتناعهم من الزكاة وعدم قبولهم لها- مزيلا لما قبله من الإيمان، يعني ينقض ما قبله من الإيمان، وناقضا للإقرار والصلاة.
يعني أن عدم قبول فرضية الزكاة وعدم الإيمان بذلك ينقض إيمانهم السابق، إيمانهم وتصديقهم بالله، وإيمانهم بفرضية الصلاة، كما أن إباء الصلاة لو لم يقبله أحد لكان ناقضا لما تقدمه من الإيمان، فكذلك عدم قبول الزكاة ينقض ما تقدمه من قبول الصلاة والإيمان السابق، نعم.
إباء الصلاة يعني عدم القبول، فلو أنهم ممتنعون من الزكاة عند الإقرار، وأعطوا ذلك بالألسنة، وأقاموا الصلاة، غير أنهم ممتنعون من الزكاة، كان ذلك مزيلا لما قبله، وناقضا للإقرار والصلاة، كما كان إباء الصلاة -يعني عدم قبول الصلاة- كما كان إباء الصلاة -يعني الامتناع، الإباء بمعنى الامتناع- كما كان إباء الصلاة -يعني ممن لم يقبل فرضيتها وشرعيتها- ينقض ما تقدمه من الإقرار من الإيمان، فالذي لا يقبل فرضية الصلاة ينتقض إيمانه السابق في مكة فكذلك الذي لا يقبل فرضية الزكاة ينتقض إيمانه بفرضية الصلاة وإيمانه السابق بمكة نعم.(1/41)
الدليل على نقض إيمان من لم يقبل فرضية الزكاة
والمصدق بهذا جهاد أبي بكر الصديق -رحمة الله عليه- بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، كجهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الشرك سواء، لا فرق بينهما في سفك الدماء، وسبي الذرية، واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها.
يعني يقول المؤلف -رحمه الله-: الدليل على أن من لم يقبل فرضية الزكاة ينتقض إيمانه قتال الصديق والصحابة -رضوان الله عليهم- لمانعي الزكاة مع أهل الردة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الناس بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير من العرب من قبائل العرب ارتدوا، وهم على أنواع:
منهم من أنكر نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: إنه لو كان نبيا ما مات، ومنهم من أقر بنبوة مسيلمة وهم بنو حنيفة وقالوا: إنه شريك النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من عبد الأوثان والأصنام، ومنهم من امتنع من أداء الزكاة وقال: لا نؤديها إلا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقاتلهم الصديق والصحابة -رضوان الله عليهم- وسماهم كلهم مرتدين، لم يفرقوا بينهم.
والمؤلف -رحمه الله- يقول: المصدق يعني الدليل، المصدق يعني الدليل، الدليل على ما ذكرته لك من أن من امتنع عن الزكاة ينتقض إيمانه بفرضية الصلاة وتوحيده، جهاد أبي بكر الصديق -رحمة الله عليه- بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، جاهدوا وقاتلوا من منع الزكاة، كما قاتلوا أهل الشرك -يعني عباد الأوثان- لأنهم أهل الردة، أنواع:
منهم من عبد الأصنام والأوثان، ومنهم من أنكر نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من أقر بنبوة مسيلمة ومنهم من امتنع عن الزكاة، وأبو بكر الصديق والصحابة كلهم قاتلوهم سواء، وسموهم مرتدين، ولم يفرقوا بينهم؛ فالمؤلف يرى أن من امتنع من الزكاة فإنه يقاتل كما يقاتل أهل الشرك سواء، لا فرق بينهم.(1/42)
ولهذا يقول: إن الصديق والصحابة قاتلوهم، قاتلوا مانعي الزكاة كما قاتلوا أهل الشرك، يعني كما قاتلوهم سواء، لا فرق بينها في سفك الدماء، وسبي الذرية، واغتنام المال، كلهم اعتبروهم مرتدين.
فالذي عبد الأصنام، والذي أنكر نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي أقر بنبوة مسيلمة والذي منع الزكاة، كلهم قاتلهم الصحابة واعتبروهم مشركين، وسبوا ذراريهم وأموالهم.
يقول المؤلف: فإنما كانوا مانعين لها، غير جاحدين بها، يعني الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كانوا ممتنعين لها، لكن غير جاحدين بها، هذا ما ذهب إليه المؤلف، والصواب في المسألة أن الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - منعوها وقاتلوا عليها، ولما منعوها وقاتلوا عليها صار قتالهم عليها في حكم الجاحدين لها، بل هو دليل على جحودهم لها، فلما منعوها وقاتلوا عليها دل على جحودهم لها، فصاروا من أهل الردة، أما لو منعوها ولم يقاتلوا عليها فإنها تؤخذ منهم بالقوة ويؤدبون.
الصواب في هذه المسألة أن منع الزكاة فيه تفصيل:
من منع الزكاة إن كان جاحدا للزكاة هذا كافر مرتد، وإن منعها بخلا ولكنه مقر بوجوبها ومؤمن بها، لكنه منعها بخلا وتهاونا، فهي تؤخذ منه ويؤدب، فإن منعها وقاتل عليها صار مرتدا؛ لأن قتاله عليها يدل على جحوده لها، وهذه هي حال أهل الردة، أهل الردة منعوا الزكاة وقاتلوا عليها، لو أنهم منعوها ولم يقاتلوا عليها لأخذها منهم الصحابة وأدبوهم ولم يقاتلوهم، لكن لما منعوها وقاتلوا عليها صار قتالهم لها دليلا على جحودهم، هذا هو الصواب في هذه المسألة.(1/43)
والمؤلف -رحمه الله- ظاهر كلامه يقول: إنهم إنما كانوا مانعين لها غير جاحدين، لكن الصواب أنهم لما قاتلوا عليها صاروا جاحدين، فعلى هذا لو منع شخص الزكاة ننظر في حاله، فرض، إن كان جاحدا لوجوبها هذا ردة؛ لأنه أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة، وإن كان مقرا بوجوبها لكن منعها بخلا وتهاونا، تؤخذ منه ويعزر ويؤدب، ولا يكفر على الصحيح من أقوال أهل العلم بخلاف الصلاة، فإن ترك الصلاة وحدها، الصواب أنه كفر وردة؛ لما ورد في فرضية الصلاة من النصوص التي لم ترد في غيرها.
ثبت في صحيح البخاري حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله (1) والذي يحبط عمله هو الكافر، قال -عليه الصلاة والسلام-: بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة (2) فأتى بالكفر معرفا.
وقال في الحديث، في النهي عن الخروج على الأمراء والولاة قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة (3) فدل على أن من لم يقيموا الصلاة فهم كفار ينابذون بالسيف، فالصلاة ورد في شأنها من النصوص ما لم يرد في غيرها، والصواب أن ترك الصلاة ولو أقر بوجوبها كسلا وتهاونا كفر وردة، بخلاف الزكاة فإنه لا يكفر إلا إذا جحدها أو جحدها وقاتل عليها، نعم.
شرائع الإسلام تجب على المسلم ويشملها اسم الإيمان
ثم كذلك كانت شرائع الإسلام كلها، كلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة به، ويشملها جميعا اسم الإيمان، فيقال لأهله: مؤمنون.
__________
(1) - البخاري: مواقيت الصلاة (553) , والنسائي: الصلاة (474) , وأحمد (5/349 ,5/357).
(2) - مسلم: الإيمان (82) , والترمذي: الإيمان (2620) , وأبو داود: السنة (4678) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) , وأحمد (3/370 ,3/389) , والدارمي: الصلاة (1233).
(3) - مسلم: الإمارة (1855) , وأحمد (6/24) , والدارمي: الرقاق (2797).(1/44)
يعني ثم بعد فرضية الزكاة فرضت بقية الشرائع، فرض الآذان، فرضت الحدود، فرض الحج بعد ذلك، فكانت شرائع الإسلام كلها يجب على المسلم، من بلغه الحكم الشرعي أن يقبلها، وأن يلتزم بها، فكلما نزلت شريعة صارت مضافة إلى ما قبلها لاحقة بها، ويشملها جميعا اسم الإيمان، فيقال لأهله مؤمنون، كلها داخلة في مسمى الإيمان، نعم.
منشأ غلط المرجئة في مسمى الإيمان
وهذا هو الموضع الذي غلط فيه من ذهب إلى أن الإيمان بالقول لما سمعوا تسمية الله إياهم مؤمنين، أوجبوا لهم الإيمان كله بكماله.
يقول: هذا هو الموضع الذي غلط فيه المرجئة وهم الذين ذهبوا إلى أن الإيمان بالقول، هذا مذهب المرجئة يقولون: الإيمان بالقول، تصديق بالقلب وإقرار باللسان فقط.
سبب غلطهم أنهم سمعوا أن الله سماهم مؤمنين فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا } (1) فظنوا أن كل من ناداه الله باسم الإيمان يكون إيمانه كاملا، قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (2) ثم قال: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } (3) فسمى القاتل، فجعل القاتل أخا للمقتول، وهذه أخوة في الإيمان، لكن لا يلزم من ذلك كمال الإيمان، فالمرجئة غلطوا وظنوا أن الله لما سماهم مؤمنين في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } (4) أنهم حصلوا على الإيمان الكامل، فظنوا كذلك فغلطوا.
وهذا من غلطهم وجهلهم؛ لأن القاتل ضعيف الإيمان، ناقص الإيمان، والزاني ناقص الإيمان، والسارق ناقص الإيمان، ضعيف الإيمان، وإن سموا مؤمنين، إلا أن إيمانهم ناقص، فهذا منشأ غلط المرجئة أنهم لما سمعوا الله سماهم مؤمنين -وإن كانوا عصاة- ظنوا أن إيمانهم كامل، وهذا غلط.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 178.
(2) - سورة البقرة آية: 178.
(3) - سورة البقرة آية: 178.
(4) - سورة البقرة آية: 178.(1/45)
فالإيمان الكامل إنما يوصف به من أدى الواجبات، وانتهى عن المحرمات، والتزم بشرع الله ودينه، أما من فرط أو قصر في بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرمات، فهذا إيمانه ناقص، وإيمانه ضعيف، نعم.
غلط المرجئة في تأويل حديث النبي حين سئل عن الإيمان
كما غلطوا في تأويل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن الإيمان، ما هو؟ فقال: أن تؤمن بالله وكذا وكذا.
نعم، كما غلطوا - يعني المرجئة - المرجئة غلطوا في تأويل حديث جبريل والمشهور في حديث جبريل وحديث عمر بن الخطاب الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه مطولا، ورواه البخاري عن أبي هريرة مختصرا، وذلك أن جبرائيل جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يعرفه أحد ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام فأخبره بأركان الإسلام الخمس، فقال: أخبرني عن الإيمان، فقال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره.
المرجئة غلطوا، ظنوا أن من آمن بقلبه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر حصل له كمال الإيمان، ولو تساهل في الصلاة، ولم يصل الصلاة في وقتها، ولو تساهل في أداء الزكاة، ولو فعل بعض المحرمات، ولو زنى، أو سرق، أو شرب الخمر، هذا غلط منهم، هذا مؤمن، صحيح مؤمن، لكنه ناقص الإيمان، ضعيف الإيمان، ما التزم، قصّر في الواجبات، أو فعل بعض المحرمات فغلطوا في تأويل هذا الحديث، وظنوا أن من آمن بالأركان الستة فإيمانه كامل، ولو كان مقصرا في بعض الواجبات، أو مرتكبا لبعض المحرمات، نعم.
غلط المرجئة في تأويل حديث عتق الأعجمية
وحين سأله الذي عليه رقبة مؤمنة عن عتق العجمية فأمر بعتقها وسماها مؤمنة.(1/46)
نعم، وهذا حديث معاوية بن الحكم السلمي موجود في صحيح مسلم أن معاوية بن الحكم السلمي له جارية أعجمية -يعني وليدة رقيقة يعني عبدة-، وجعلها راعية لغنمه، فجاء الذئب وأخذ شاة وهو ينظر، فغضب عليها وقال: كيف تتركين الذئب يأخذ الشاة؟ فصكها.
فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، وشدد عليه الأمر، شدد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: كيف تعتدي عليها؟ قال: يا رسول الله إني أعتقتها، إنها حرة لوجه الله مقابل هذا الذنب، أنه اعتدى عليها وضربها، قال: يا رسول الله إني آسف كما يأسف الناس، وأغضب كما يغضب الناس، وإن الذئب أخذ شاة فصككتها، فلما شدد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله إنها حرة لوجه الله، فقال النبي: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار. وقال للأعجمية ائت بها وسألها قال: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتقها فإنها مؤمنة (1) وهي أعجمية.
وهذا في الرد على أهل البدع، أهل البدع يقولون - الذين ينكرون علو الله وأن الله فوق العرش، فوق السماوات - يقولون: إن الله ليس فوق السماوات، حتى أهل البدع -والعياذ بالله- الذين ينكرون العلو يقولون: إن الله في كل مكان. وهذا كفر وضلال، ولا يقولون إن الله في السماء، يقولون: لو قلت إن الله في السماء لجعلت الله متحيزا ومحدودا ومجسما في مكان واحد، وهو في الجهات كلها - أعوذ بالله -.
__________
(1) - مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الصلاة (930).(1/47)
فإذا قيل لهم هذا الحديث في صحيح مسلم النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد لهذه الأعجمية بالإيمان، قد سألها قال: أين الله؟ قالت: في السماء. قالوا: لا هذه الأعجمية ما تفهم، والرسول سألها سؤالا فاسدا، سألها سؤالا فاسدا يناسب عقلها، وأجابت بجواب فاسد، وأقرها على جواب فاسد؛ لأن هذا هو الذي تفهمه، فاتهموا الرسول عليه الصلاة والسلام - نسأل الله السلامة والعافية - وهذا -والعياذ بالله- من التعنت، ومن الانحراف ومن الزيغ في تأويل النصوص.
فالمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أعتقها فإنها مؤمنة (1) سماها مؤمنة، يعني هل هذا معنى مؤمنة أنها حصلت على كمال الإيمان؟ أو حصلت على أصل الإيمان؟ حصلت على أصله، آمنت بالله وبرسوله، فغلط المرجئة فظنوا أن إيمانها كامل ولو لم تعمل، هذا من غلطهم، كما غلطوا في تأويل حديث جبريل وكما غلطوا في حديث عتق الأعجمية، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماها مؤمنة، نعم.
قبول شرائع الإسلام من الإيمان
وإنما هذا على ما أعلمتك من دخولهم في الإيمان، ومن قبولهم وتصديقهم بما نزل منه، وإنما كان ينزل متفرقا كنزول القرآن.
يعني الأعجمية التي آمنت هذه دخلت في الإيمان، معنى أنها مؤمنة يعني دخلت في الإيمان، ولا بد بعد ذلك أن تقبل الشرائع، ولهذا قال المؤلف: وإنما هذا على ما أعلمتك من دخولهم في الإيمان، ومن قبولهم وتصديقهم بما نزل منه، والإيمان ينزل متفرقا، كما أن القرآن ينزل، القرآن نزل منجما على حسب الحوادث في مدة ثلاث وعشرين عاما، وكذلك الإيمان ينزل بشرع، وكلما نزل تشريع قبِلَه المؤمنون وصار من الإيمان، نعم.
الأدلة على أنه كلما نزل تشريع صار من الإيمان
والشاهد لما نقول والدليل عليه من كتاب الله -تبارك وتعالى- وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) - مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الصلاة (930).(1/48)
يعني الشاهد أي الدليل، الدليل لما نقول أنه كلما نزل تشريع صار من الإيمان، ويجب على المسلم أن يؤمن به، الدليل نصوص من كتاب الله وسنة رسوله نعم.
قوله تعالى " فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا"
فمن الكتاب قوله تعالى: { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) } (1).
نعم الآية فيها الدليل على أن الإيمان يزيد من قوله: { فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } (2) إذن الإيمان يزيد، يزيد في القلب كلما عمل الإنسان بالطاعات وانتهى عن المحرمات زاد إيمانه، وكلما نزل تشريع وعلم بحكم شرعي وقبله زاد إيمانه وهكذا، والآيات صريحة في هذا، نعم.
قوله تعالى " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا"
وقوله: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) } (3).
الشاهد قوله: { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } (4) دل على أن الإيمان يزيد وينقص يزيد إذا فعل الإنسان الطاعات، وينقص إذا فعل المعاصي، ويزيد إذا قَبِل الأحكام الشرعية وعمل بها، نعم.
أدلة في مواضع أخرى من القرآن
في مواضع من القرآن مثل هذا.
__________
(1) - سورة التوبة آية: 124.
(2) - سورة التوبة آية: 124.
(3) - سورة الأنفال آية: 2.
(4) - سورة الأنفال آية: 2.(1/49)
يعني في أدلة أخرى تدل على هذا، كقوله تعالى: { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } (1) { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا } (2) { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا } (3) إلى غير ذلك من الأدلة، نعم.
تعقيب المؤلف على الأدلة من القرآن
أفَلَست ترى أن الله تبارك وتعالى لم ينزل عليهم الإيمان جملة كما لم ينزل القرآن جملة؟.
يعني أن الإيمان ينزل شيئا بعد شيء والشرائع تنزل شيئا بعد شيء، كما أن القرآن ينزل منجما على حسب الحوادث، نعم.
فهذه الحجة من الكتاب.
يعني هذا الدليل هذه النصوص دليل من الكتاب، هذه الأدلة من الكتاب، وستأتي الأدلة من السنة، نعم.
فلو كان الإيمان مكمَّلا بذلك الإقرار ما كان للزيادة إذن معنى، ولا لذكرها موضع.
ولو كان الإيمان مكملا بالقلب -كما تقوله المرجئة بمجرد الإقرار والتصديق- ما كان للزيادة إذن معنى، لو كان الإيمان كاملا في القلب كما تقوله المرجئة المرجئة يقولون: من صدّق، قال: آمنت بالله ورسله، فإيمانه كامل كإيمان جبريل وميكائيل وكإيمان أبي بكر وعمر بل يكون إيمان أهل السماء وإيمان أهل الأرض واحدا، وإيمان السكير العربيد الذي يشرب الخمور، ويقتل النفوس، ويسرق الأموال، مثل إيمان الصديق وعمر ومثل إيمان جبريل وميكائيل هكذا يقول المرجئة
__________
(1) - سورة الفتح آية: 4.
(2) - سورة المدثر آية: 31.
(3) - سورة المدثر آية: 31.(1/50)
يقولون: هذا مصدق وهذا مصدق، والأعمال لا دخل لها في الإيمان، الأعمال ليست من الإيمان، شيء آخر، الأعمال بر وتقوى، أما الإيمان واحد، إيمان أفسق الناس وأتقى الناس واحد. هذا باطل، فالمؤلف -رحمه الله- يرد عليهم يقول: لو كان الإيمان مكمَّلا بذلك الإقرار بمجرد التصديق -كما تقوله المرجئة - ما كان للزيادة إذن معنى: { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا } (1) { زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } (2) ولا كان لذكرها في الآية موضع، نعم.
حديث وفد عبد القيس
وأما الحجة من السنة والآثار المتواترة في هذا المعنى من زيادات قواعد الإيمان بعضها بعد بعض، ففي حديث منها أربع، وفي آخر خمس، وفي الثالث تسع، وفي الرابع أكثر من ذلك.
فمن الأربع حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن وفد عبد القيس قدموا عليه فقالوا: يا رسول الله إن هذا الحي من ربيعة وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر فلسنا نخلص إلا في شهر حرام، فمُرنا بأمر نعمل به وندعوا إليه مَن وراءنا. فقال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان، ثم فسره لهم: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خُمُس ما غنمتم، وأنهاكم عن أربع: أنهاكم عن الدباء، والحنتم، والنقير، والمقير قال أبو عبيد حدثناه عباد بن عباد المهلب
وهذا الحديث حديث صح، حديث صحيح ثابت في الصحيحين وفي غيرهما، وهو حديث وفد عبد القيس هذا دليل من السنة؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: وأما الحجة من السنة والآثار المتواترة في هذا المعنى من زيادات قواعد الإيمان بعضها بعد بعض، يعني: وأما الأدلة من السنة ومن الآثار، فإنها متواترة من جهة المعنى، يعني بلغت حد التواتر من جهة المعنى، كلها متعاضدة، ويقوي بعضها بعضا، تدل على أن الإيمان يزيد وينقص وأن قواعد الإيمان يأتي بعضها بعد بعض.
__________
(1) - سورة المدثر آية: 31.
(2) - سورة الأنفال آية: 2.(1/51)
ويدل على ذلك أن في بعض الأحاديث ذكر أربعا -يعني الإيمان- وأنه أربع أشياء، وفي بعض الأحاديث ذكر الإيمان خمسة أشياء، وفي بعضها ذكر الإيمان تسعة، وفي الرابع أكثر من ذلك، بل في حديث أبي هريرة الإيمان بضع وسبعون شعبة كلها من الإيمان، هذا يدل على أن الإيمان أيش؟ يزيد وينقص، وأن قواعد الإيمان يأتي بعضها إلى بعض.
ثم ذكر مثالا للأربع فقال: فمن الأربع حديث ابن عباس في حديث وفد عبد القيس وهو حديث مشهور، وفد بني عبد القيس أسلموا قديما، وهم في المنطقة الشرعية الآن في الأحساء وبلدتهم جواث ومسجد جواثة هو ثاني جمعة أقيمت فيه، الجمعة الأولى في مسجد النبي وثاني جمعة في وفد عبد القيس هو موجود الآن في الأحساء ومعروف مكانه الآن، كان آثاره الآن عليه، أسلموا قديما، وبينهم وبين النبي مسافة في المدينة وكانت الحروب بين العرب حروب تقوم بينهم، ولكنهم يتوقفون عن الحرب في الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وشهر رجب.
فوفد عبد القيس آمنوا وبينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - مسافة، فقالوا: يا رسول الله: إن هذا الحي من ربيعة نسكن في منطقة بعيدة، مكان بعيد عن المدينة ولا نستطيع أن نصل إليك، وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر، يقاتلوننا، ما نستطيع المجيء، فلسنا نخلص إلا في شهر حرام، إذا وضعت الحرب أوزارها في الشهر الحرام، في ذي القعدة وذي الحجة وفي المحرم وفي رجب نستطيع الآن، أما قبل ذلك فلا نستطيع، فمرنا يا رسول الله -يخاطبون النبي - مرنا يا رسول الله بأمر نعمل به وندعو إليه مَن وراءنا، يعني: أعطنا من جوامع الكلم بأمر جوامع نعمل بها، ونخبر بها من وراءنا.(1/52)
فقال النبي: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، ثم قال: الأربع قال: الإيمان، آمركم بالإيمان، ثم فسر الإيمان فسره بأي شيء؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء الخمس، فسره بأربعة أشياء، فسر الإيمان بأيش؟ بأربعة أشياء، بالشهادتين، الشهادة لله تعالى بالوحدانية، وللنبي بالرسالة، هذا الأمر الأول. الثاني: إقام الصلاة. الثالث: إيتاء الزكاة. الرابع: أداء الخمس.
فدل على أن الإيمان متعدد، قواعد يأتي بعضها بعد بعض، جعل الإيمان أربعا، وفي حديث جعله خمسا، وقال وأما في النهي: أنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير، وهذه أوعية كانوا ينتبذون بها الشراب، يجعلون فيها عصيرا، يعصرون مثلا التمر، أو العنب، أو غيره، ويجعلونه في هذه الأوعية، والمزفت المطلي بالقار والزفت، والنقير جذع النخلة ينقرونه، ينقرون وسطه ويجعلونه، والحنتم جرار الخضر توضع فيه من الطين المطبوخ الفخار، مثل الطين التي فيه الأزيار، مثل الزير، والدباء القرع اليابس، يأخذون اللب ويبقى فيها.
هذه الأشياء صلبة، كانوا يجعلون فيها العصير من التمر أو من الشعير أو من الزبيب، ويضعون عليه الماء فيكون حلوا، شرابا حلوا، يشربونه اليومين والثلاثة، لكنه بعد مدة عند شدة الحر يتخمر، يصير خمرا، بعد ثلاثة أيام في الغالب يصير خمرا، فيتخمر ولا يدرون عنه فيشربونه.(1/53)
فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: لا تضعوا العصير في هذه الأشياء الصلبة، في جذع النخل وفي النقير وفي المزفت. لماذا؟ لأنها تتخمر ولا تعلمون بها، لكن ضعوا العصير في الأسقية من الجلد؛ لأنها إذا تخمرت تمزقت، إذا صارت خمرا تمزقت، فعرفتم أنها خمر فتجتنبونها، أما هذه الأشياء الصلبة تتخمر ولا تعلمون عنها فتشربون الخمر؛ ولهذا نهاهم قال: أنهاكم عن أربع: عن الدباء -القرع- والحنتم، يعني الوعاء وجرار الخضر، والوعاء المزفت، والمقير المطلي بالقار، والنقير جذع النخل، والحنتم الجرار الخضر، هذه أشياء صلبة لا تضعوا فيها العصير، أنهاكم عنه.
ثم بعد ذلك لما استقرت الشريعة وعرف الناس واستقر تحريم الخمر نسخ ذلك، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - انتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا الخمر نعم، قال أبو عبيد
ثبوت حديث وفد عبد القيس
قال أبو عبيد حدثناه عباد بن عباد المهلب قال: حدثنا أبو جمرة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
يعني هذا سند الحديث وأنه ثابت.
حديث "بني الإسلام على خمس"
ومن الخمس حديث ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (1).
نعم، وهذا حديث ابن عمر في الصحيحين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الإسلام قال: بني الإسلام على خمس، وفي حديث جبريل كذلك ذكر هذه الخمس، وأنها دعائم الإسلام وأركانه: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والإسلام إذا أُطلق دخل فيه الإيمان، فدل على أن الإيمان يكون. فسره في حديث وفد عبد القيس بأربع، وفي هذا بخمس، في حديث ابن عمر نعم. دل على أن الإيمان متعدد نعم.
__________
(1) - البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26).(1/54)
سند حديث "بني الإسلام على خمس"
قال أبو عبيد حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي عن حنظلة عن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
ومن التسع حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال.
يعني: فسر الإسلام بتسعة أشياء، والإسلام إذا أطلق وحده دخل فيه الإيمان والإيمان إذا أطلق وحده دخل فيه الإسلام، فالإيمان مرة فسر بأربع، ومرة بخمس، ومرة بتسع، ومرة ببضع وسبعين شعبة، فدل على أن كل هذه داخلة في مسمى الإيمان، والأعمال كلها تزيد الإيمان، يزيد إذا عمل بها الإنسان، وينقص إذا ترك شيئا من الواجبات، إذا ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات، نعم.
حديث "إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق"
ومن التسع حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق قال أبو عبيد صوى هي ما غلظ وارتفع من الأرض واحدتها صوة منها: أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئا، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم، فمن ترك من ذلك شيئا فقد ترك سهما من الإسلام، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره.
نعم، يعني يقول: إن هذا الحديث فيه بيان التسع، إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق يعني: علامات ودلائل تدل على الإسلام، وذكر منها: أولها أن تؤمن بالله ولا تشرك به شيئا، هذا أصل الدين وأساس الملة، والثاني: إقام الصلاة، والثالث: إيتاء الزكاة، والرابع: صوم رمضان، والخامس: حج البيت، والسادس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسابع: أن تسلم على أهلك إذا دخلت عليهم، وأن تسلم على القوم إذا مررت بهم.(1/55)
قال في آخر الحديث: فمن ترك من ذلك شيئا فقد ترك سهما من الإسلام، ومن تركهن -يعني جميعا- فقد ولى الإسلام ظهره ومن تركها فقد ترك الإسلام؛ لأن أولها التوحيد، التوحيد هو أصل الدين وأساس الملة نعم.
سند حديث "إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق"
قال أبو عبيد حدثنيه يحيى بن سعيد العطار عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن رجل، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
نعم هذا سند الحديث، ذكره المؤلف -رحمه الله-& وأخرجه جمع منهم الحاكم وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي نعم.
توفيق المؤلف بين العدد في أحاديث أركان الإيمان والإسلام
فظن الجاهلون بوجوه هذه الأحاديث أنها متناقضة لاختلاف العدد منها، وهي -بحمد الله ورحمته- بعيدة عن التناقض، وإنما وجوهها ما أعلمتك من نزول الفرائض بالإيمان متفرقة، فكلما نزلت واحدة ألحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عددها بالإيمان، ثم كلما جدد الله له منها أخرى زادها في العدد حتى جاوز ذلك السبعين كلمة، كذلك في الحديث المثبت عنه أنه قال: الإيمان بضعة وسبعون جزءا أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (1).
__________
(1) - مسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/379 ,2/445 ,2/501).(1/56)
هذا توجيه المؤلف -رحمه الله- لهذه الأحاديث، يقول: هذه الأحاديث التي فيها أن الإسلام أربع وخمس وتسع، وكذا ظن الجاهلون بوجوه هذه الأحاديث أنها متناقضة لاختلاف العدد، وهذا من جهلهم وضلالهم، ولكنها -بحمد الله- بعيدة عن التناقض، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- كلامه يصدق بعضه بعضا، وإنما وجوهها -يعني تأويلها- ما أعلمتك من نزول الفرائض والإيمان متفرقان نزول الفرائض شيئا بعد شيء، وكلما نزلت واحدة قبلها المسلمون وآمنوا بها، ثم يلحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - عددها بالإيمان، تكون من الإيمان، ثم كلما جدد الله له منها أخرى زادها في العدد حتى جاوز ذلك السبعين كلمة.
يشير إلى الحديث، الحديث المثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: الإيمان بضع وسبعون جزءا (1) وفي لفظ الآخر: الإيمان بضع وستون (2) الحديث رواه الشيخان رواية البخاري الإيمان بضع وستون جزءا (3) ورواية مسلم الإيمان بضع وسبعون جزءا (4) وذكر أعلاها وأدناها، فأفضلها شهادة أن لا إله إلا الله (5) وفي لفظ: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (6).
__________
(1) - مسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5004).
(2) - البخاري: الإيمان (9) , ومسلم: الإيمان (35) , وابن ماجه: المقدمة (57).
(3) - صحيح البخاري: كتاب الإيمان (9) , وسنن ابن ماجه: كتاب المقدمة (57).
(4) - مسلم: الإيمان (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5004).
(5) - مسلم: الإِيمَانِ (35) , والترمذي: الإيمان (2614) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005) , وأبو داود: السنة (4676) , وابن ماجه: المقدمة (57).
(6) - مسلم: الإيمان (35) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5005) , وابن ماجه: المقدمة (57) , وأحمد (2/379 ,2/445).(1/57)
حتى إن البيهقي -رحمه الله- عد هذه الشعب، وألف مؤلفا وسماه شعب الإيمان، وتتبع هذه الشعب من النصوص حتى أوصلها إلى تسع وسبعين شعبة، والبضع من ثلاث إلى تسع، بضع وسبعون، البضع العدد من ثلاث إلى تسع فأوصلها إلى آخر البضع، وألف مؤلفا سماه شعب الإيمان، نعم.
قال أبو عبيد حدثنا أبو أحمد الزبيري عن سفيان بن سعيد عن سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة بهذا الحديث، وإن كان زائدا في العدد، فليس هو بخلاف ما قبله، وإنما تلك دعائم وأصول.
يعني في هذا الحديث، وإن كان زائدا في العدد، وأوصلها إلى بضع وسبعين، فلا يخالف الأحاديث التي قبله، فليس هو بخلاف ما قبله، وإنما تلك دعائم وأصول، أركان الإسلام خمسة، يعني دعائم وأصول، الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر، هذه أصول، هذه أصول الإيمان والخمسة الإسلام، أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، هذه عمد الإسلام وأسسه التي يرتكز عليها، فهذه هي الأسس، والباقي شعب فلا منافاة، تلك دعائم وأصول، وهذه شعب، نعم.
خصال الإيمان تناهت وكملت في بضع وسبعين شعبة
وهذه فروعها زائدات في شعب الإيمان من غير تلك الدعائم، فنرى -والله أعلم- أن هذا القول آخر ما وصف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان؛ لأن العدد إنما تناهى به، وبه كملت خصاله.(1/58)
يقول: نرى والله أعلم نُرى بالضم يعني نظن، ونَرى بالفتح يعني نعلم، يقول: نرى أن هذا القول في هذا الحديث -حديث الإيمان بضع وسبعون شعبة- آخر ما وصف به الرسول الإيمان، قال العدد تناهى، هذا تناهى عند بضع وسبعون شعبة، وبه كملت خصاله، والدليل على هذا أن الله أنزل بعد ذلك: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } (1) فدل على أن عدد الشرائع والخصال تناهى، وكمل في بضع وسبعين شعبة، نعم.
الدليل على أن خصال الإيمان تناهت وكملت في بضع وسبعين شعبة
والمصدق له قول الله -تبارك وتعالى-: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } (2) قال أبو عبيد حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب -رحمة الله عليه ورضي عنه-: إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فذكر هذه الآية، وقال عمر إني لأعلم حيث أنزلت، وأي يوم أنزلت، أنزلت بعرفة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة
قال سفيان وأشك أقال يوم الجمعة أم لا؟
نعم، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، وأن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب إنكم تقرءون آية لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا يومها عيدا، فقال: أي آية؟ فقالوا: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (3) انظر اليهود -والعياذ بالله- يعلمون الحق ولكنهم لم يؤمنوا، عاندوا الحق، يقولون: هذه الآية نزلت عليكم أيها المسلمون آية عظيمة، لو كانت نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا يومها عيدا، فقال: أي آية؟ فقالوا: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (4).
__________
(1) - سورة المائدة آية: 3.
(2) - سورة المائدة آية: 3.
(3) - سورة المائدة آية: 3.
(4) - سورة المائدة آية: 3.(1/59)
فقال عمر أنا أعلم الزمان الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، واليوم الذي نزلت فيه، هو عيد، والمكان أيضا كذلك، مشعر، نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة، في حجة الوداع، واليوم يوم جمعة، وهو يوم عيد؛ ولهذا قال عمر إني لأعلم حيث أنزلت وأي يوم أنزلت. يعلم المكان والزمان الذي أنزلت فيه، الزمان نزلت في اليوم التاسع من ذي الحجة، والمكان نزلت في عرفة في حجة الوداع، وهو يوم عيد، فيوم عرفة يوم عيد، ويوم جمعة، يوم عيد، نعم.
والشاهد أن الآية { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (1) أنها من آخر ما نزل، نزلت قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بثمانين يوما، أو باثنين وثمانين يوما، فدل على أن خصال الإيمان تناهت وكملت في بضع وسبعين، هذا مقصود المؤلف -رحمه الله- نعم.
قال أبو عبيد حدثنا يزيد عن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار قال: تلا ابن عباس هذه الآية وعنده يهودي، فقال اليهودي: لو أنزلت هذه الآية فينا لاتخذنا يومها عيدا.
قال ابن عباس فإنها نزلت في يوم عيد، يوم جمعة ويوم عرفة.
قال أبو عبيد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزلت عليه وهو واقف بعرفة حين اضمحل الشرك، وهدم منار الجاهلية، ولم يطف بالبيت عريان.
وهذا مرسل؛ لأن الشعبي لم يسمع من عمر تابعي، وهو مرسل لكن صحيح، دلت عليه كما سبق في الحديث السابق، نعم.
أنها نزلت وهو واقف بعرفة حين اضمحل الشرك وهدم منار الجاهلية، لما حج النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حج قبله في السنة التاسعة أبو بكر جعله أميرا على الناس، وكان معه مؤذنون يؤذنون في الناس ألا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، نعم.
فذكر الله جل ثناؤه إكمال الدين في هذه الآية.
__________
(1) - سورة المائدة آية: 3.(1/60)
كانوا قبل ذلك كانوا يحجون وهم مشركون، وكانت النساء في الآفاق. الذي يأتي من خارج مكة لا يطوف بثوبه الذي يأتي به، يقول: هذا ثوب عصيت الله فيه، ما يصلح، ماذا يعمل؟ يستعير ثوبا من أهل مكة واحد من أهل مكة يقول: أعطيه ثوبا، أعطيه -جزاك الله خيرا- ثوبا أطوف به، فإن أعطاه فهو به، وإن لم يعطه طاف وهو عريان، حتى المرأة، فكانت المرأة تطلب ثوبا، فإذا لم تجد نزعت ثوبها وطافت عريانة، وتضع يدها على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
وما بدا منه فلا أحله
هكذا الجهل.
النبي - صلى الله عليه وسلم - أمّر أبا بكر في السنة التاسعة، جعله أميرا على الحجاج، وأرسل معه مؤذنين، يؤذنون في الناس يوم النحر بمنى ألا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، فالتزموا بذلك، فلما حج النبي - صلى الله عليه وسلم - السنة العاشرة انتهى الطواف بالبيت عراة، وانتهى حج المشركين، ولم يحج مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، هذا معنى قوله: بعد أن اضمحل الشرك، وهدم منار الجاهلية، ولم يطف بالبيت عريان، نعم.
فذكر الله جل ثناؤه إكمال الدين في هذه الآية، وإنما نزلت فيما يروى قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بإحدى وثمانين ليلة.
لأنها نزلت في اليوم التاسع من ذي الحجة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - توفي بعدها بثمانين أو بإحدى وثمانين، توفي في أول ربيع الأول، فإذا حسبت محرم وصفر ستين يوما وعشرين من ذي الحجة، هذه ثمانين يعني في اليوم الأول من ربيع على الخلاف، على خلاف بين العلماء في وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - هل هي في اليوم الأول من ربيع أو في اليوم الثاني عشر أو في غيرها خلاف، نعم.
الدليل على أن الإيمان لا يكون كاملا بالإقرار فقط(1/61)
قال أبو عبيد كذلك حدثنا حجاج عن ابن جريج فلو كان الإيمان كاملا بالإقرار ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة في أول النبوة كما يقول هؤلاء: ما كان للكمال معنى، وكيف يُكمِل شيئا قد استوعبه وأتى على آخره.
نعم، يقول المؤلف -رحمه الله-: لو كان الإيمان كاملا بالإقرار كما تقوله المرجئة المرجئة يقولون: الإيمان يكمل بمجرد الإقرار، يعني التصديق بالقلب، ورسول الله بمكة في أول النبوة كما يقول هؤلاء -يعني المرجئة - "هؤلاء" يعود إلى المرجئة ما كان للكمال معنى في قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (1) لو كان الإيمان كاملا حينما كان الناس كان المؤمنون في مكة كيف يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (2) وقد كمل في مكة ؟ كيف يكمل شيئا قد استوعب؟ شيء استوعب وأُتي إلى آخره، كيف يقال يكمل؟
والمرجئة يقولون: الإيمان كامل في مكة خلاص الإيمان كامل، والله تعالى قال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (3) متى قالها؟ متى أنزلت؟ السنة العاشرة في حجة الوداع، بعد أن كمل الدين، بعد أن نزلت الشرائع، وفرضت الفرائض، وحدت الحدود، أنزل الله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (4).
والمرجئة يقولون: إن الإيمان كامل في القلب، لما كان المؤمنون المستضعفون في مكة قبل أن تفرض الصلاة والزكاة والصوم والحج، الإيمان كامل، فالمؤلف هنا كشف، يقول: لو كان الإيمان كاملا بالإقرار والتصديق فقط ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة في أول النبوة كما يقول هؤلاء -يعني المرجئة - ما كان للكمال معنى في قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (5) وكيف يكمل شيئا قد استوعبه وأتى على آخره في مكة ؟ فدل على بطلان هذا القول، نعم.
__________
(1) - سورة المائدة آية: 3.
(2) - سورة المائدة آية: 3.
(3) - سورة المائدة آية: 3.
(4) - سورة المائدة آية: 3.
(5) - سورة المائدة آية: 3.(1/62)
وفق الله الجميع، رزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
يقول: يا شيخ أنت ذكرت أن الدليل على أن مانعي الزكاة كانوا جاحدين أنهم قاتلوا على تركها، فهل هذا الكلام ينطبق على من يحكم بغير ما أنزل الله؟ أي أنه قاتل كل من أراد الحكم بما أنزل الله، فهذا دليل على جحوده الحكم بما أنزل الله؟
هذه المسألة، وهي مسألة منع الزكاة كما سمعت فيها كلام لأهل العلم، لكن هذا هو الصواب، هذا هو الصواب من أقوال أهل العلم، أن مانع الزكاة أيام الردة قاتلهم الصحابة وحكموا عليهم بحكم المرتدين؛ لأنهم منعوها وقاتلوا عليها، أما مسألة الحكم بغير ما أنزل الله هذا فيه تفصيل، الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا أكبر، وقد يكون كفرا أصغر.
والله تعالى يقول: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) } (1) { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) } (2) { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) } (3) وروي عن ابن عباس أنه قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، وإنما إذا فعله فهو كفر به وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وروي عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر، من العلماء من تأول الآية على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله ومن ذلك الحكم بالتوحيد.
__________
(1) - سورة المائدة آية: 44.
(2) - سورة المائدة آية: 45.
(3) - سورة المائدة آية: 47.(1/63)
ومن العلماء من تأولها على ترك الحكم - بغير ما أنزل الله - جاحدا له، ومنهم من تأولها في أهل الكتاب فالعلماء لهم أقوال، والصواب في هذه المسألة أن الحكم بغير ما أنزل الله يكون كفرا أكبر ويكون كفرا أصغر، فإذا حكم بغير ما أنزل الله معتقدا أن الحكم بما أنزل الله لا يناسب العصر الحاضر، أو أن الإنسان مخير، يجوز له أن يحكم بالشريعة وبغير الشريعة، وأنه مخير فيه، وجوز الحكم بغير ما أنزل الله فهذا كفر وردة، مثل من يقول: إن الزنا حلال، أو الربا حلال، أو الخمر حلال هذا يكفر؛ لأنه استحل أمرا معلوما من الدين بالضرورة تحريمه، أو أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة.
فرق بين من يقول الزكاة،& شخص يقول الزكاة غير واجبة، والصلاة غير واجبة هذا يكفر ولو كان يصلي ولو كان يزكي؛ لأنه أنكر معلوما من الدين بالضرورة، لكن شخص لا يزكي ويرى أن الزكاة واجبة هذا لا يكفر، شخص يقول: الزنا حلال، أو الربا حلال، أو الخمر حلال هذا يكفر؛ لأنه استحل أمرا معلوما من الدين بالضرورة، لكن شخص يزني، أو يشرب الخمر ويعلم أنه حرام الزنا ويعلم أن الربا حرام لكن غلبه الجشع فتعامل بالربا، غلبته الشهوة فزنى، غلبه حب المال فسرق هذا إيمانه ضعيف فاسق ومرتكب لكبيرة وعليه الوعيد لكن ما يكفر، لكن الذي يرى أن الزنا حلال يكفر.
كذلك الحكم بغير ما أنزل الله، الذي يحكم بغير ما أنزل الله ويرى أن الحكم بغير ما أنزل الله أنه يجوز الحكم بالقوانين والآراء وأنه لا حرج وأن الإنسان مخير هذا كفر وردة، أما من حكم طاعة للهوى والشيطان وهو يعلم أن الحكم بما أنزل الله واجب، لكن حكم بغير ما أنزل الله لرشوة، أو لأجل أن ينفع المحكوم عليه، أو لأجل أن يضر المحكوم عليه، أو ينفع المحكوم له، وهو يعلم أن الحكم بما أنزل الله واجب وأنه عاص، فهذا كفر أصغر وكبيرة، ولا يكون كفرا أكبر.(1/64)
فالمقصود هذا فيه تفصيل وهذا بينه أهل العلم واستدلوا عليه بالنصوص وعلى السائل يراجع ما كتبه العلماء على الآيات ويراجع التفاسير كتفسير الحافظ ابن كثير وغيره على هذه الآيات من سورة المائدة { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) } (1) { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) } (2) فالحكم بغير الله يكون كفرا أكبر ويكون كفرا أصغر على حسب حال الحاكم نعم.
هذا سائل أيضا يتابع معنا على الإنترنت يقول: ما قولكم فيمن يقول إن العمل المتعلق بأصل الإيمان إنما هو عمل القلب ؟ وأما عمل الجوارح فتعلقه بكمال الإيمان الواجب إن كان العمل واجبا والمستحب إن كان العمل مستحبا؟
لا هذا يختلف، فالعمل قد يكون واجبا وقد يكون مستحبا، أعمال الجوارح، فالصلاة والزكاة هما من أعمال الجوارح وهي واجبة والسنن النوافل صلاة الضحى والسنن الرواتب مستحبة ولو كانت من أعمال الجوارح، وأعمال القلوب قد يكون منها كبائر مثل العجب والكبر والخيلاء هذه من أعمال القلوب وهي من الكبائر العظيمة والخوف والرجاء والمحبة هذه أيضا من الأعمال العظيمة الواجبة التي لا بد منها ولو كانت من أعمال القلوب، فأعمال القلوب قد تكون واجبة وقد تكون مستحبة وأعمال الجوارح قد تكون واجبة وقد تكون مستحبة على حسب ما ورد في النصوص، نعم.
السؤال من بريطانيا أيضا مرسل بالإنترنت يقول: لا شك أن الإيمان عند أهل السنة قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، السؤال: ما الدليل من الكتاب والسنة على هذا التقسيم؛ لأني سمعت في بريطانيا لدينا أحد طلبة العلم يقول بعدم وجود الدليل على هذا التقسيم.
__________
(1) - سورة المائدة آية: 44.
(2) - سورة المائدة آية: 45.(1/65)
تقسيم أيش؟ تقسيم الإيمان قول وتصديق وعمل كما سمعت البارحة، ذكرنا الأدلة الكثيرة وكما مر الآن من النصوص قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } (1) جعل هذه الأمور كلها من الإيمان، بعضها من أعمال القلوب وزيادة في القلب وزيادة في الإيمان وبعضها من أعمال الجوارح، { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) } (2).
الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (3) حديث وفد عبد القيس آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، و أن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمس ما غنمتم (4) كل هذه أدلة تدل على أن أعمال القلوب وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، وأعمال القلوب وتصديقه كلها داخلة في مسمى الإيمان نعم.
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 2-4.
(2) - سورة الحجرات آية: 15.
(3) - مسلم: الإيمان (35) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5004).
(4) - البخاري: المناقب (3510) , ومسلم: الإيمان (17) , والترمذي: السير (1599) والإيمان (2611) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5031) , وأبو داود: الأشربة (3692) والسنة (4677).(1/66)
هل صحيح أن السلف كان ذمهم في أكثر مصنفاتهم منصبا على مرجئة الفقهاء وأما الجهمية الخلص فكانوا يصرحون باسمهم بالجهمية؛ ولهذا كان في مصنفاتهم التقرير أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان أكثر من تقرير أو أكثر في الرد على من يقول إن الإيمان هو المعرفة ولعل ذلك لأن السلف أدركوا خطورة هذا المذهب أكثر من الجهمية الخلص؛ لأن أمرهم مفضوح؟
لا شك أن السلف صنفوا في هذا وفي هذا، ومن ذلك رسالتنا هذه رسالة الإيمان لأبي عبيد في بيان مذهب الجهمية سيأتي في آخرها، وكلهم مرجئة لكن المرجئة إذا أطلق المرجئة ينصرف في الغالب إلى المرجئة المحضة؛ ولهذا فإن مرجئة الفقهاء أنفسهم يسمون الجهمية المرجئة يسمونهم مرجئة ولا يسمون أنفسهم مرجئة، ويسمون الجهمية هم المرجئة السلف ردوا على هؤلاء وهؤلاء.
ولا شك أن مذهب الجهمية مذهب خبيث، مذهب خطير ولهذا بيّن العلماء مذهب الجهمية والجهم يتزعم عقائد فاسدة والعياذ بالله، الجهم بن صفوان اشتهر بأربع عقائد: عقيدة نفي الصفات، وعقيدة الإرجاء والقول بأن الأعمال ليست من الإيمان وليست مطلوبة، وعقيدة الجبر وهو اعتقاد أن الإنسان مجبور على أفعاله، وعقيدة اعتقاد فناء الجنة والنار.
هذه أربع عقائد اشتهر بها الجهم لخبثه، والعلماء والأئمة صنفوا في مذهب الجهم وبيان بطلان هذه العقائد الخبيثة ومنها الإرجاء بينوا هذا وحكموا على الجهم بالكفر وشنعوا على الجهمية ومن عقائدها هذه الأربع كلها من عقائد الجهمية نعم ومنها الإرجاء نعم.
هذا سؤال أيضا من شبكة الإنترنت يقول: ما معنى قول شيخ الإسلام من كان عقده الإيمان ولا يعمل بأحكام الإيمان فهو كافر كفرا لا يثبت معه التوحيد من كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ؟(1/67)
عقده الإيمان يعني اعتقاده يعتقد الإيمان ولا يعمل بأحكام الإسلام يعني لا يعمل لا يؤدي الواجبات ولا ينتهي عن المحرمات يكون مستكبرا، يكون إيمانه كإيمان إبليس وفرعون من اعتقد يقول: أنا مصدق ولكن يرفض، تقول له: صل، يرفض يأبى الصلاة، زَكِّ، يأبى، الصوم يأبى، ما يعمل لكنه مؤمن بالقلب بالمعرفة، يعرف ربه يقول هذا كافر ولا يفيده الإيمان لأنه مستكبر عن عبادة الله، أبى واستكبر، كما أن إبليس كفره بالإباء والاستكبار { إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) } (1) وفرعون كفره بالإباء والاستكبار واليهود كفرهم بالإباء والاستكبار، وأبو طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - كفره بالإباء والاستكبار وهو عالم قال:
ولقد علمت بأن دين محمد
من خير أديان البرية دينا
لكنه حملته العصيبة ومنعته من أن يشهد على قومه على آبائه وأجداده بالكفر، فكان مستكبرا عن عبادة الله واتباع رسوله، فالمقصود أن معنى ذلك أن من ادعى أنه مؤمن بقلبه ولكنه استكبر وأبى الالتزام بشرع الله ولم يعمل -يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات- فإنه كفره يكون بالإباء والاستكبار لأن هذا الإيمان الذي في قلبه أو الذي اعتقده لا بد له من عمل يتحقق به فإذا رفض العمل فيكون مستكبرا ويكون دعواه الإيمان دعوى باللسان لا تفيده نعم.
ما زال السؤال الذي على الإنترنت يقول: وكذلك قول شيخ الإسلام وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة - أيش؟ وقد تقدم - وقد تقدم أن جنس الأعمال من لوازم إيمان القلب.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 34.(1/68)
يعني: جنس الأعمال يعني: إيمان القلب الذي يدعي أنه مؤمن بقلبه فمن لوازم ذلك أن يعمل، فإذا لم يعمل ما صح إيمانه، يلزم هذا لوازم لازم يلزم الإنسان المصدق أن يمتثل لأمر الله وإلا كان تصديقه باطلا، شخص يصدق يقول أنا مصدق مؤمن بالله ورسوله ويرفض شرع الله ودينه كيف؟ تصديق باطل رفضه هذا ينقض التصديق، فيلزم الإيمان الصادق العمل لا يمكن أن يتخلف، الإيمان إذا كان صادقا فلا بد من العمل، فإذا تخلف العمل دل على عدم صدق إيمانه هذا معنى قول شيخ الإسلام نعم.
وأن إيمان القلب التام بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع.
نعم ممتنع، ما يمكن يعني يكون إيمان تام بالقلب بدون أن يعمل الإنسان، لا هذا ليس بصحيح، إذا كان الإيمان تاما فلا بد أن يعمل، يعني ما يمكن شخص يؤمن بالله ورسوله، ويعتقد أن الجنة حق وأن النار حق، ويصدق بالبعث، وأنه سيبعث، وسيوقف بين يدي الله، ويصدق بأن الصلاة فيها فضل عظيم وأجر كبير، وأنها تكفر الذنوب، والوضوء يكفر الذنوب، ثم يبقى طول عمره فلا يصلي، يقول أنا مصدق بس ما أصلي، وأعلم أن الصلاة عليها الوعيد الشديد على تركها الوعيد الشديد، وأن الله رتب عليها الثواب والوضوء عليه ثواب، لكن ما أصلي هل هذا يكون مؤمنا؟
يقول: أنا عارف الثواب وعارف العقوبة الشديدة، والوعيد الشديد على الصلاة وأنا مؤمن تام الإيمان بس ما أصلي، هل هذا إيمان صحيح؟ أبدا لو كان في القلب إيمان صادق لبعث على الصلاة، كيف يترك الصلاة طول عمره، وهو يعلم ما أعد الله للمصلين من الثواب، ويعلم ما أعد الله لترك الصلاة من العقاب ويعلم الفضل والأجر الكبير الذي رتب على أداء الصلاة والفضل العظيم الذي رتب على إسباغ الوضوء، ويبقى طول عمره لا يصلي: هل هذا مصدق؟ لا يمكن أبدا، هل هذا الإيمان تام في قلبه؟ لو كان في قلبه إيمان لدفعه إلى أداء الصلاة نعم.
سواء جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءا من الإيمان كما تقدم بيانه.(1/69)
نعم المقصود سواء قال: إن هذه الأعمال الظاهرة من لوازم الإيمان أو جزء من الإيمان، المقصود أنه لا بد أن يعمل، لا بد من العمل نعم.
يقول السائل: خرج بعض المعاصرين بأقوال جديدة في الإيمان، وقال: إن العمل شرط كمال في الإيمان وليس شرط صحة؟
لا أعلم لهذا القول أصلا أنه يشترط الكمال كونه شرط كمال أو شرط صحة، لا أعلم لهذا القول أصلا، لا مذهب المرجئة ولا مذهب أهل السنة أهل السنة يقولون: الإيمان -جمهور أهل السنة - الإيمان قول باللسان، وتصديق بالقلب وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح، الإيمان عمل ونية، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فالعمل جزء من الإيمان، الإيمان مكون من هذه الأشياء، من تصديق القلب وقول اللسان، وعمل الجوارح، وعمل القلب فيكون الإيمان كم جزء؟
كل هذه الأجزاء، تصديق بالقلب، لا بد أن يقر باللسان، ينطق باللسان، ويصدق بالقلب، ويعمل بقلبه، ويعمل بجوارحه، كلها داخلة في مسمى الإيمان، اسم الإيمان يشمل هذا، والمرجئة ماذا يقولون؟ يقولون: الأعمال ليست من الإيمان ولكنها - الأعمال - دليل على الإيمان، أو هي مقتضى الإيمان، أو هي ثمرة الإيمان، المرجئة يقولون: الأعمال ما هي من الإيمان ولكن ثمرة الإيمان العمل ثمرة الإيمان أو هي دليل على الإيمان، أو هي مقتضى الإيمان أما القول بأن العمل شرط كمال أو شرط صحة لا أعلم لهذا القول أصلا، لا من قول المرجئة ولا من قول أهل السنة كيف يكون شرط كمال؟ العمل ما هو بشرط، لا شرط كمال ولا شرط صحة وإنما هو جزء من الإيمان، جزء من الإيمان فهذا القول لا أعلم له أصلا، لا يوافق مذهب المرجئة ولا مذهب جمهور أهل السنة(1/70)
بل قد يقال: إنه يوافق مذهب المرجئة من جهة أنهم أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان في الجملة يعني، أقرب ما يكون للمرجئة حيث إنهم أخرجوا العمل من الإيمان، فالذي يقول إن العمل شرط كمال أو شرط صحة نقول هذا مذهب المرجئة أخرجت الأعمال عن مسمى الإيمان، إما أن تقول: العمل داخل في مسمى الإيمان أو جزء من الإيمان، فإن قلت العمل ليس من الإيمان فأنت من المرجئة سواء قلت شرط كمال، أو شرط صحة، أو دليل على الإيمان، أو مقتضى الإيمان، أو ثمرة الإيمان، كل من أخرج العمل من الإيمان فهو من المرجئة واضح هذا؟
أهل السنة يقولون: الإيمان، قول باللسان، تصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح هذه أجزاء الإيمان الإيمان هذه الأشياء كلها، كلها يشملها اسم الإيمان فمن أخرج شيئا منها فهو من المرجئة فالذي يقول: إن العمل شرط كمال أو شرط صحة أخرج العمل من الإيمان فصار من المرجئة وإن كان أقوال المرجئة يقولون: إن الأعمال دليل، يقال العمل دليل على الإيمان، أو العمل ثمرة الإيمان، أو العمل مقتضى الإيمان هذه أقوال المرجئة يقولون: الأعمال ليست من الإيمان لكن هي ثمرة الإيمان، أو دليل على الإيمان، أو مقتضى الإيمان وهذا القول الجديد قالوا: شرط كمال أو شرط صحة يلحق بالمرجئة؛ لأنه أخرج العمل من الإيمان نعم.
الذين يقولون: إنه شرط صحة يا شيخ؟.
نعم أخرجها عن مسمى الإيمان ولا ما أخرجها؟
لا هو يقول شرط صحة يقول: إنه لا يصح الإيمان إلا بالعمل.
ما يخالف وكذلك أيضا المرجئة يقولون: لا يمكن إيمان إلا بالعمل، ثمرة العمل ومع ذلك صاروا مرجئة، المهم أخرجها عن مسمى الإيمان ولا لا؟ هل يقول إنه في مسمى الإيمان ولا خارج عن مسمى الإيمان؟ خارج ولا داخل؟ اللي يقول شرط كمال أو شرط صحة؟
الذي يقول شرط صحة يجعله داخل مسمى الإيمان.(1/71)
لا. خارج، ومن قال جعله خارجا فهو من المرجئة واضح هذا؟ الشرط لا يتقدم ولا يتأخر الوضوء شرط في صحة الصلاة، هل الوضوء من الصلاة؟ واستقبال القبلة من الصلاة هل هي الصلاة؟ ولا شرط خارج؟ سواء داخل ولا خارج ولا متقدم ولا متأخر، فمن أخرج العمل عن مسمى الإيمان فهو من المرجئة واضح؟ لكني لا أعلم أن المرجئة يقولون إنه شرط كمال أو شرط صحة، الذي أعلمه أن المرجئة يقولون: الأعمال ثمرة الإيمان، أو دليل على الإيمان، أو مقتضى الإيمان نعم. فما أدري من أين يعني جاء هذا، لكن ومع ذلك فهو يوافق مذهب المرجئة؛ حيث إنه أخرج العمل من مسمى الإيمان نعم.
لا التفصيل هذا ما له أصل، العمل مطلق، مطلقة من الإيمان، كل الأعمال من الإيمان كل الأعمال الإيمان بضع وسبعون شعبة (1) كلها من الإيمان، وبضع وسبعون شعبة شملت الدين كله، وأنزل الله بعدها: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } (2) كما قال المؤلف -رحمه الله- وجمعها الإمام البيهقي في أيش؟ جمعها في مؤلف سماه شعب الإيمان، كلها من الإيمان، فالذي يخرج شيئا منها من المرجئة نعم.
هذا السؤال أيضا من الإنترنت يقول: كيف نوفق بين حديث البطاقة مع قول أهل السنة بأن العمل من الإيمان؟
__________
(1) - مسلم: الإيمان (35) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5004).
(2) - سورة المائدة آية: 3.(1/72)
لا منافاة بينها، لا منافاة حديث البطاقة ما فيه منافاة، ما فيه أنه أخرج الأعمال من الإيمان، لكن حديث البطاقة فيه أن أنه يؤتى برجل يوم القيامة ويوقف بين يدي الله ويخرج له تسع وتسعون سجلا، كل سجل مد البصر سيئات، ويقرر يقال: هل أنت تنكر هذا؟ فيقول: لا والله يا رب كل هذا حق، فيقال هل لك من حسنة؟ هل تذكر حسنة؟ فلا يذكر شيئا، فيقول الله له: بلى إنك لا تظلم، إن لك عندنا حسنة فتخرج له بطاقة فيها الشهادتان أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فتوضع البطاقة في سجل في كفة والسجلات في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة فغفر الله له، قال العلماء: إن هذه الشهادة كل مؤمن له مثل هذه الشهادة ومع ذلك بعضهم يعذب في النار وكل مؤمن له هذه الشهادة أليس كذلك؟
كل مؤمن له شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ومع ذلك بعضهم يعذبون وهذا لم يعذب قال العلماء: إن هذا الشخص قال هذه الكلمة عن صدق وإخلاص وتوبة نصوح فأحرقت جميع السيئات، هذه الكلمة قالها عن صدق وإخلاص فأحرقت هذه السيئات وقضت عليها، قالها إما عند الموت أو قالها عن توبة فأحرقت هذه السيئات وقضت عليها نعم.
باقي سؤال، نفس الأخ يقول: هل أحد من أهل العلم صحح حديث الذبابة ؟
حديث الذبابة، مقصوده حديث الذبابة إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء (1) هذا مقصوده حديث الذبابة؟ -ما أدري- إذا كان مقصوده هذا الحديث هذا ثابت في صحيح البخاري وهو أصح الكتب بعد كتاب الله، لا إشكال فيه وإذا كان مراده شيئا آخر فليذكره.
حديث كتاب التوحيد الذي قرب الذبابة.
__________
(1) - البخاري: بدء الخلق (3320) , وأبو داود: الأطعمة (3844) , وابن ماجه: الطب (3505) , وأحمد (2/229 ,2/246 ,2/263 ,2/443) , والدارمي: الأطعمة (2038).(1/73)
إذا كان مقصده حديث طارق بن شهاب دخل رجل النار في ذبابة نعم هذا ثابت عن طارق بن شهاب وهو صحابي صغير وهو مسند صحابي، فالصحابة يروون عن الصحابة نعم.
هذا يسأل ويقول ما الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق ؟
مطلق الإيمان يعني أصل الإيمان والإيمان المطلق كمال الإيمان، فالعاصي يعطى مطلق الإيمان ولا يعطى الإيمان المطلق، العاصي يقال مؤمن بتقييد ناقص الإيمان، ولا يعطى الإيمان المطلق فيقال مؤمن بإطلاق فمطلق الإيمان أصل الإيمان، والإيمان المطلق كمال الإيمان نعم.
يقول: هل التكفير متعلق بالدنيا ولا يحكم عليهم بالآخرة ؟
نعم من حكم عليه بالكفر المخرج من الملة فيحكم عليه بالخلود في النار، كل كافر كفرا أكبر فهو مخلد في النار - نسأل الله السلام والعافية - من وقع في الشرك الأكبر أو في الكفر الأكبر أو في النفاق الأكبر ومات على ذلك من غير توبة فهو مخلد في النار، فإن تاب توبة نصوحا قبل الموت تاب الله عليه نعم.
يتكلم العلماء عن الإعراض عن دين الله فهل هو مختلف عن ترك العمل؟
الإعراض عن دين الله معناه هو الذي لا يتعلم الدين -دين الله- ولا يعبد الله هذا كافر، من أعرض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعبد الله هذا هو الكفر، { وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) } (1) كفر نعم.
هذا سائل يقول: إذا قال قائل في العهد المكي كان الصحابة يتعلمون القرآن ومنهم من هاجر إلى الحبشة وغير ذلك، وهذه الأعمال من الإيمان لذلك لا يسلم للمصنف أن الإيمان في مكة كان مجرد الإقرار، فهل لهذا القول حظ من النظر؟
__________
(1) - سورة الأحقاف آية: 3.(1/74)
حتى الذين هاجروا إلى الحبشة هل فرضت الصلاة؟ هل عليهم زكاة؟ هل عليهم صوم؟ هل عليهم حج؟ هل فيه حدود هل آذان؟ ما في، الشرائع ما شرعت إلا في المدينة إلا الصلاة فرضت قبل الهجرة بسنة أو سنتين أو ثلاثة يعني مقصود المؤلف أن الواجب عليهم في الأول التوحيد في مكة أوجب الله التوحيد، يوحدون الله ولا يشركوا به شيئا، أما الشرائع فرضت في المدينة حتى الذين هاجروا إلى الحبشة ماذا يعملون؟ هل هم يزكون؟ هل هم يصومون؟ هل هم يحجون؟ هل هم يؤذنون؟ ما شرع إلا في المدينة بعد الهجرة نعم.
هذا يسأل يقول: هل من سب الله - والعياذ بالله - أو رسوله هل هو مرتد عند مرجئة الفقهاء؟
المرجئة يرون أن الكفر لا يكون إلا بالجحود، يكون هذا دليلا على الكفر يكون كفرا لكن الدليل هذا دليل على ما في قلبه، أما جمهور أهل السنة وأهل الحق والصحابة يرون أن نفس السب كفر، ونفس الاستهزاء كفر.
أما أولئك يقولون لا - المرجئة يقولون: ما هو كفر لكن دليل على الكفر، دليل على ما في قلبه، ولو سجد للصنم يقولون: السجود ليس بكفر لكنه دليل على ما في قلبه، على الجحود جحد حق الله فكان كافرا، جحد حق الله ولذلك سب الله، فهو دليل على ما في القلب من الجحود.
وأما أهل السنة فيقولون نفس السجود للصنم كفر، كفر مستقل، نفس الاستهزاء كفر مستقل لأن الكفر يكون بالقلب ويكون باللسان ويكون بالجوارح ويكون بالاستكبار والرفض والإعراض عن دين الله نعم.
هذا سائل يسأل يقول: من الناس من لا ينتظم في صلاته، فيصلي بعض الفروض لا كلها، فهل هذا الصنف من الناس حكمه حكم من ترك الصلاة كليا ؟(1/75)
هذه المسألة خلافية بين أهل العلم في كفر من قال بكفر تارك الصلاة من العلماء من قال: إنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلوات كلها أما من كان يصلي ويخلي فلا يكفر حتى يترك جميع الصلوات، فإذا كان يصلي بعض الفروض ويترك بعض الفروض فلا يكفر، وقال قوم من أهل العلم: يكفر إذا ترك فرضا واحدا متعمدا وليس له عذر، لا نائما نوما يعذر فيه ولا متأولا خرج الوقت.
واستدلوا بحديث البخاري حديث بريدة بن الحصيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله (1) والذي يحبط عمله هو الكافر، وهذا هو أصح الأقوال أنه إذا ترك فرضا واحدا متعمدا حتى خرج الوقت وليس له عذر كفر.
أما إذا كان نائما نوما يعذر فيه أو كان متأولا مثل بعض المرضى في المستشفى يتأولون ما يصلي، فإذا قيل له كيف ما تصلي؟ قال: كيف أصلي، ثيابي نجسة ولا أستطيع أتوضأ، لكن إذا خرجت من المستشفى توضأت وغسلت ثيابي وصليت، طيب من قال لك أنك تخرج من المستشفى قد تموت ولا تخرج من المستشفى، ثم لو قدر أنك تخرج كيف تترك الصلاة؛ ولهذا ينبغي لطلبة العلم إذا زاروا المرضى في المستشفى يبينوا لهم أنه يجب على المريض أن يصلي على حسب حاله وما عجز عنه يسقط عنه، إذا استطعت أن تتوضأ توضأ وإلا تيممت، إذا استطعت أن تغسل ثيابك تغسل، إذا استطعت أن توجه السرير إلى القبلة وجهه وإن لم تستطع صل على حسب حالك، { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (2).
__________
(1) - البخاري: مواقيت الصلاة (553) , والنسائي: الصلاة (474) , وأحمد (5/349 ,5/357).
(2) - سورة التغابن آية: 16.(1/76)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن الحصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب (1) زاد النسائي فإن لم تستطع فمستلقيا { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (2) والصحابة الذين أرسلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الغزوات قبل أن يشرع التيمم لطلب عقد عائشة أدركتهم الصلاة ولم يشرع التيمم فصلوا بغير ماء ولا تراب، فأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فاقد الطهورين هذا، إنسان محبوس وليس عنده ماء ولا تراب أو مصلوب على خشبة وجاءت الصلاة ماذا يعمل؟ يصلي ولا يترك الصلاة؟ يصلي ولو بغير ماء ولا تراب هذا يسمى فاقد الطهورين عند أهل العلم، بغير ماء ولا تراب { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (3) نعم.
يقول: البعض يستشهد بحديث الرجل الذي قال لأبنائه: احرقوني في النار لأن قدر الله علي، استدلوا به أو استشهدوا به على أن من تكلم بالكفر مهما كان لا يكفر؟
هذا الحديث قصة الرجل هذا حديث في الصحيحين ثابت في الصحيحين وفي غيرهما وهو أن رجلا ممن كان قبلنا كان مسرفا على نفسه وفي لفظ: كان لم يبتدر خيرا لم يعمل خيرا فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وأهله وقال: أي أب كنت لكم؟ فأثنوا عليه خيرا، فقال إنه لم يبتدر خيرا وإن الله إذا بعثه ليعذبنه عذابا شديدا جاء في بعضها أنه كان نباشا للقبور.
فلما حضرته الوفاة جمعهم وأخذ عليهم الميثاق والعهد أنهم إذا مات أن يحرقوه، ثم يسحقوه ويطحنوه ثم يذروه في البر وفي لفظ: يذروا نصفه في البر ونصفه في البحر وقال: لأن قدر الله علي وبعثني ليعذبني عذابا كبيرا، عذابا شديدا وظن أنه في هذه الحالة أنه يفوت على الله ففعلوا به ذلك فلما مات أحرقوه، ثم سحقوه، طحنوه، ثم ذروه في البر نصف في البر ونصف في البحر.
__________
(1) - البخاري: الجمعة (1117) , وأبو داود: الصلاة (952).
(2) - سورة التغابن آية: 16.
(3) - سورة التغابن آية: 16.(1/77)
جاء في الحديث أن الله تعالى أمر البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، فقال الله له: قم فإذا هو إنسان قائم، فقال الله: ما الذي حملك على ذلك؟ قال: من خشيتك يا رب، فما تلافى أن -رحمه الله- وغفر له، اختلف العلماء في هذا فقال بعضهم: إن هذا في شرع من قبلنا وليس في شرعنا.
وأصح ما قيل في ذلك ما أقره الأئمة والعلماء أن هذا الرجل جاهل وأن جهله إنما هو في أمر دقيق خفي بالنسبة إليه، وأن الذي حمله على ذلك ليس العناد ولا التكذيب ولكن الذي حمله على ذلك الجهل، الجهل مع الخوف العظيم، اجتمع أمران جهل وخوف عظيم فغفر الله له، فهذا الرجل ما كان مكذبا للبعث، يثبت البعث، يقر البعث ويعتقد أنه لو ترك ولم يحرق ولم يسحق يعذب، ولم ينكر قدرة الله هو يظن أن الله قادر وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة وظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة أحرق وسحق وذر في البر وفي البحر فات على الله ولم يدخل تحت القدرة.
وهذا الظن الذي حمله ليس العناد ولا التكذيب وإنما الذي حمله أمران: الأمر الأول: الجهل، والجهل إنما هو في أمر دقيق خفي ليس كل جهل يعذر فلو إنسان تعامل بالربا مثلا، إنما الذي يعذر من الذي يعذر؟ الجاهل الذي مثله يجهل هذا الأمر كأن يكون في مسألة دقيقة خفية مثله تخفى عليه فهذا يعذر أما لو أنكر أمرا معلوما لكل أحد وهو معلوم له فلا يعفى عنه.(1/78)
مثال ذلك: لو أن إنسانا تعامل بالربا في مجتمعنا الآن، ثم نهيته عن الربا وقلت: لماذا تتعامل بالربا؟ قال: أنا جاهل ما أدري، هل نقره الآن؟ هل يصدق؟ هل يعذر بالجهل؟ نقول: لا هذا ليس بصحيح، هذا معلوم تحريم الربا يعرفه العام والخاص، لكن لو إنسان أمريكي أسلم في أمريكا وأسلم وهو يعيش طول حياته بين الربا ولا يعرف إلا به، ثم تعامل بالربا فلما قلنا له كيف يا فلان أسلمت وتتعامل بالربا؟ قال: أنا ما أدري هذا جاهل، يمكن يكون جاهلا ولا يمكن؟ يمكن هذا يعذر؛ لأنه هكذا عاش، فالجاهل إذا كان جاهلا في مسألة دقيقة خفية مثله يجهل، يعذر.
أما إذا كان الأمر واضحا وليس دقيقا ولا خفيا ومثله لا يجهل فلا يعذر، فهذا الرجل مثله يجهل هذه المسألة دقيقة وخفية بالنسبة إليه، لا يعلم ظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة فات على الله ولم يدخل تحت القدرة، ولم ينكر البعث، ولم ينكر قدرة الله وإنما أنكر كمال تفاصيل القدرة وظن أنه إذا وصل إلى هذه الحالة فات على الله ولم يدخل تحت القدرة فغفر الله له، والذي حمله عليه ليس التكذيب ولا العناد وإنما الجهل والخوف العظيم فغفر الله له هذا هو الصواب في هذه المسألة والذي أقره المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
السؤال الأخير: يقول بعض طلاب العلم: يعذر الجاهل في سجوده للصنم ويستدل بحديث سجود ++ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا صحيح أم لا؟
الجواب على هذا السؤال كالجواب على السؤال السابق إذا كان مثله يجهل في المسألة دقيقة وخفية ومثله يجهل يعذر، أما إذا كان مثله لا يجهل فلا يعذر.
وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
أحاديث في خصال الإيمان
حديث "الحياء شعبة من الإيمان"
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نعم. سَمِّ الله.
بسم الله الرحمن الرحيم(1/79)
الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف - رحمه الله تعالى-:
قال أبو عبيد فإن قال لك قائل: فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون ؟ قيل له: لَمْ تسم لنا مجموعة فنسميها، غير أن العلم يحيط أنها من طاعة الله وتقواه، وإن لم تُذكر لنا في حديث واحد، ولو تُفُقِّدتْ الآثار لوجدت متفرقة فيها.
ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءا من الإيمان ؟ وكذلك قوله في حديث آخر: الحياء شعبة من الإيمان وفي الثالث: الغيرة من الإيمان وفي الرابع: البذاذة من الإيمان وفي الخامس: حسن العهد من الإيمان فكل هذا من فروع الإيمان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فهَذا اعتراف قد فُرض على المؤلف - رحمه الله - حينما قال: إن شُعب الإيمان وأجزاء الإيمان كثيرة، وكلها داخلة في مسمى الإيمان، يقول: "فإن قال لك قائل"، قال أبو عبيد المؤلف -رحمه الله- أبو عبيد القاسم بن سلام "قال أبو عبيد " يعني نفسه، "فإن قال لك قائل"، واعترض عليك معترض، فما هذه الأجزاء الثلاثة وسبعون ؟
يشير إلى حديث الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان فهذا الحديث فيه بيان أن الإيمان شُعَبٌ متعددة، وأنه بضع وسبعون، والبضع من ثلاثة إلى تسعة.
ولهذا الإمام البيهقي - رحمه الله - جمع في كتابه الذي سماه "شعب الإيمان" تسعا وسبعين شعبة، في كتابه سماه "شعب الإيمان"، وقول المؤلف -رحمه الله- قيل هذه الأجزاء الثلاثة والسبعون، في الحديث الذي يظهر بأنه ليس في الحديث تسمية ل "ثلاث وسبعين" وإنما: "بضع وسبعون" والبضع من ثلاثة إلى إلى تسعة، ليست ثلاث.(1/80)
يقول: فما هذه الأجزاء البضع والسبعون؟ لأنها في في هذا الحديث لم تحدد ثلاث، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بضع وسبعون في رواية مسلم وفي رواية البخاري بضع وستون قيل -يعني في الجواب-: لم تسم لنا مجموعة فنسميها، يعني هذه الأجزاء البضع والسبعون لم تسم لنا مجموعة فنسميها.
ما سماها لنا الشارع وقال: الجزء الأول كذا والجزء الثاني كذا، والثالث كذا،ما سماها في مكان واحد، في + واحد،غير أن العلم يحيط أنها من طاعة الله وتقواه، يعني: غير أننا نجزم بأنها "هذه الشعب" كلها من طاعة الله وتقواه.
بضع وسبعون، وإن لم تُذكر لنا في حديث واحد، لكن تؤخذ من مجموع الأحاديث من مجموع النصوص من الكتاب والسنة، وهي لم تسم لنا في حديث واحد، وإلا لم تسم في حديث واحد، لكنها سميت في عدة نصوص من الكتاب ومن السنة،ولهذا قال المؤلف: ولو تفقدت الآثار لوجدت متفرقة فيها، يعني لو تفقدتْ الآثار والنصوص -والآثار يعني النصوص- لوُجدتْ متفرقة فيها.
وأقول ليست خاصة بالآثار، بل حتى نصوص القرآن الكريم، لو بحثتَ عنها وتفقدتها في نصوص الكتاب والسنة لوجدت هذه البضع والسبعين، ثم مثَّل -رحمه الله- "ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءا من الإيمان"، في نفس الحديث الإيمان بضع وسبعون شعبة قال: فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان .
فإذن مثّل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث لأعلاها ولأدناها وللحياء، فقال: أعلاها قول لا إله إلا الله وهي كلمة التوحيد، هي أعلاها وهي من قول اللسان مع اعتقاد القلب، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق هذا عمل، عمل بدني، والحياء شعبة من الإيمان عمل قلبي.(1/81)
فمثَّل للشعبة القولية ومثَّل للشعبة العملية ومثَّل للشُّعبة القلبية، فدلّ على أن شعب الإيمان تكون من أعمال القلوب ومن أعمال البدن ومن أقوال اللسان، وكلها داخلة في مسمى الإيمان، وهذا يدل على أن مسمى الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح.
يقول: ألا تسمع قوله في إماطة الأذى وقد جعله جزءا من الإيمان ؟ وقوله: الحياء شعبة من الإيمان ؟ في نفس الحديث قال: والحياء شعبة من الإيمان يعني هذه من الأجزاء، وهذا الحديث متفق عليه كما سبق من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله.
الإيمان بضع وسبعون في رواية مسلم وفي رواية البخاري بضع وستون شعبة فأعلاها وفي رواية: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان في نفس الحديث. وفي الثالث: الغيرة من الإيمان في حديث آخر: الغيرة من الإيمان المُحَشِّي المحقق قال: رواه البزار وابن بطة في الإبانة عن أبي سعيد مرفوعا بسند فيه مجهول الحال.
لكن جاء في في الحديث الآخر في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا تعجبون من غيرة سعد ؟ فأنا أغير منه، والله أغير مني فالثابت في الصحيح الحديث هذا: الغيرة من الإيمان وإن كان في سنده مجهول، لكن الغيرة ثابتة.
وصف لله يليق بجلاله وعظمته لا يماثل أحدا من المخلوقين في صفاته فلما قال سعد بن معاذ يا رسول الله: لو رأيت أحدا مع أهلي لضربته بالسيف غير مصفح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتعجبون من غيرة سعد ؟ لأنا أغْيَر منه، والله أغير مني فوصف الله بالغيرة.(1/82)
وفي الرابع يعني في حديث رابع: البذاذة من الإيمان جعلها من الإيمان، البذاذة: يعني التقشف، التقشف: يعني ترك الأشياء الجميلة والثياب الجميلة في بعض الأحيان، إن الأفضل للمسلم أنه إذا أنعم الله عليه بنعمة أن تظهر هذه النعمة عليه، كما في الحديث إن الله يحب إذا أنعم على عبد أن يرى أثر نعمته عليه .
لكن إذا ترك أحيانا الجمال أو الثياب الجميلة، كسرا للنفس وتواضعا فهذا مطلوب، وهذا هو معنى البذاذة، البذاذة: يعني ترك الثياب الجميلة في بعض الأحيان، والتواضع؛ كسْرا للنفس وبعدا لها عن العُجْب، فهذا هو البذاذة البذاذة من الإيمان .
وفي الخامس يعني في حديث خامس: حسن العهد من الإيمان فكل هذه من فروع الإيمان، يعني لو تتبعت النصوص من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تتبعها البيهقي -رحمه الله- لوجدت هذه الشعب، نعم، فكل هذه التي وردت في هذه النصوص من فروع الإيمان، نعم.
فكل هذا من فروع الإيمان، ومنه حديث عمار: ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسك، وبذل السلام على العالم .
نعم، هذا التخريج يقول المحشي روي مرفوعا وموقوفا، والراجح الموقوف على أن في سنده من كان اختلط، ولكن فات على المؤلف - الشيخ ناصر الدين الألباني - أن هذا الحديث، أن أثر عمار هذا رواه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به، فقال: وصح عن عمار أنه قال: ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم رواه البخاري
ما في "للعالم" هذا رواه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به، ومن المعلوم أن البخاري إذا رواه معلقا مجزوما به فهو صحيح إلى من علقه، قد صح،قال البخاري في صحيحه: وصح عن عمار أنه قال: ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم ثلاث من الإيمان: أو من كمال الإيمان، أو من استكمال الإيمان، نسيتُ.(1/83)
المقصود أن هذا الأثر رواه البخاري معلقا في صحيحه، مجزوما به إلى عمار وصح عن عمار أنه قال: ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان أو ثلاث من الإيمان: الإنفاق من الإقتار يعني تنفق مع قلة ذات اليد، الإنفاق مع الإقتار: يعني ينفق الإنسان ويتصدق ويحسن ولو كان ماله قليلا، والإقتار: يعني الضيق والفقر.
ينفق الإنسان، إذا كان عنده درهمان مثلا فأنفق درهما، أبقى لأهله درهما وتصدّق بدرهم، هذا إنفاق مع الإقتار، وقد يسبق هذا الدرهم الآلاف؛ ولهذا جاء في حديث آخر: سبق درهم ألف درهم سبق درهم ألف درهم كيف؟ هذا إنسان عنده درهمان، تصدق بدرهم وأبقى لأهله درهما، وذاك عنده ملايين وأنفق ألفا، عنده ملايين وأنفق من هذه الملايين ألفا.
فيكون هذا أنفق نصف ماله، درهمين أنفق النصف، وذاك أنفق ألفا من ملايينه فيكون سبق درهم ألف درهم، فدرهم هذا سبق الألف التي أنفقها هذا.
الإنفاق مع الإقتار: يعني الإنسان يضغط على نفسه، ويتصدق ولو كان قليل ذات اليد، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- لما حثهم النبي على الصدقة أن يحاملوا: يعني يشتغل حمَّال يحمل على ظهره. فإذا أعطاه الأُجرة درهمين، تصدق بدرهم وأبقى لأهله درهما -رضي الله عنهم- الإنفاق مع الإقتار.
والثاني: الإنصاف من نفسك: تنصف من نفسك وتقول الحق، ولو كان على نفسك، هذا لمن يستطيع هذا، من يستطيع هذا ؟ لا يستطيعه إلا أهل العدل الإنصاف أن تنصف من نفسك، وتخبر بالواقع وتقول الحق ولو على نفسك، هذا من الإيمان، ومن استكماله.
والثالث: بذل السلام للعالَم: للعالَم يعني للناس جميعا، بعض الناس ما يسلم إلا على من يعرف، واللي ما يعرفه ما يسلم عليه، هذا غلط، في السنة إفشاء السلام كل من لقيت، كل من لقيت، حاول أن تبدأه بالسلام، إلا إذا عرفت أنه كافر فلا تبدأه بالسلام؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم بالطريق فاضطروهم إلى أضيقه .(1/84)
وإذا سلّم عليك ولو غير مسلم ترد عليه، وتقول: وعليك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: وعليكم .
فبذل السلام للعالَم جاء في حديث في إسناده بعض الشيء: في آخر الزمان يكون السلام للمعرفة بعض الناس يسلم على من يعرف وأما الذي لا يعرف يمر وما كأنه مسلم أمامه، هذا غلط، وإن كان ابتداء السلام سنة،ولكنه من أسباب المحبة، وفي الحديث: والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم نعم.
حديث" أي الخلق أعظم إيمانا "
ثم الأحاديث المعروفة عند ذكر كمال الإيمان حين قال: أي الخلق أعظم إيمانا؟ فقيل الملائكة، ثم قيل. نحن يا رسول الله فقال: بل قوم يأتون بعدكم فذكر صفتهم.
نعم - هذا الحديث، ذكر المحشي أنه أخرجه الحسن من + + جزئه وأن سنده ضعيف عن أبي هشام عن أبيه عن جده، نعم.
حديث "من أكمل المؤمنين إيمانا"
ومنه أيضا قوله: من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا .
نعم، هذا فيه ذكر كمال الإيمان، نعم.
هذه الأحاديث التي فيها ذكر كمال الإيمان تدل على أن الإيمان يزيد وينقص ويتفاوت وأنه أجزاء، وأنه متعدد، وهذا فيه رد على المرجئة وهذا هو الذي يريده المصنف -رحمه الله- والأحاديث التي فيها ذكر كمال الإيمان تدل على أن الإيمان يكون كاملا عند بعض الناس ويكون ناقصا عند بعض الناس، وإذا كان الإيمان يكمل وينقص يدل على أمور متعددة، وليس شيئا واحدا كما تقول المرجئة
المرجئة يقولون: الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، هو كامل من الأصل كامل في القلب، وهو التصديق، تصديق القلب، لكن الأحاديث التي فيها ذكر كمال الإيمان تردّ هذا المذهب، مذهب المرجئة وتدل على أن الإيمان يكون كاملا ويكون ناقصا عند بعض الناس؛ لأنه متعدد، لأنه عمل بالجوارح وقول باللسان وتصديق بالقلب.(1/85)
هذا هو مقصود المؤلف -رحمه الله- من ذكر الأحاديث في كمال الإيمان في الرد على المرجئة نعم.
حديث "لا يؤمن الرجل الإيمان كله"
وكذلك قوله: لا يؤمن الرجل الإيمان كله حتى يدع الكذب في المزاح والمراء، وإن كان صادقا (1).
يعني قوله: لا يؤمن الرجل الإيمان كله (2) هذا فيه دليل على أن الإيمان يتفاوت، وأن بعض الناس يؤمن الإيمان كله وبعضهم لا يؤمن الإيمان كله، فدل على أنه متفاوت، وأنه متبعض، وأنه متعدد وليس شيئا واحدا كما تقول المرجئة نعم.
ففيه نفي الإيمان الكامل عمن لم يدع الكذب في المزاح والمراء، وإن كان صادقا، هذا إيمانه ناقص، والذي يدع الإيمان يدع الكذب والمراء وإن كان صادقا، مع أداء الواجبات وترك المحرمات، إيمانه كامل فدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان خلاف المرجئة الذين يقولون: إيمان أهل الأرض وإيمان أهل السماء سواء، هو شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، هذا باطل، نعم.
حديث الشفاعة
وقد روي مثله أو نحوه عن عمر بن الخطاب وابن عمر ثم من أوضح ذلك وأبينِه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة حين قال: فيخرج من النار من كان في قلبه مثقالُ شعيرة من إيمان مثقال وبرةٍ من إيمان ومثقال ذرة (3).
يعني من أوضح ذلك وأبينه، يعني من أوضح الأدلة وأبينها في رد مذهب المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاوت ولا يتبعض، من أوضح ذلك أحاديث الشفاعة، فإن أحاديث الشفاعة متواترة، نصوص الشفاعة متواترة في إخراج العصاة، عصاة الموحدين من النار.
__________
(1) - أحمد (2/364).
(2) - أحمد (2/364).
(3) - البخاري: التوحيد (7510) , ومسلم: الإيمان (193) , وأحمد (3/116).(1/86)
ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع أربع شفاعات في العصاة، وفي كل مرة يحد الله له حدا، بعد ما يسجد لربه - عز وجل- ويأتي الإذن من الله - عز وجل- ويقول الله: يا محمد ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع، قال: فيحد الله له حدا ليخرجهم من النار إلى الجنة (1).
جاء في بعضها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له في المرة الأولى: أخرج من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان (2) وجاء في بعضها - الثاني - أنه قال: نصف دينار (3) وفي بعضها مثقال ذرة من إيمان (4) وفي بعض الأحاديث مثقال ذرة من إيمان (5) والثانية أدنى مثقال ذرة من إيمان (6) والثالثة أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان (7) والرابعة: ثم من قال لا إله إلا الله (8).
دل هذا على أن الإيمان يتفاوت بعض الناس لا يكون في قلبه إلا مثقال ذرة، وبعضهم مثقال شعيرة، وبعضهم مثقال بُرة، وبعضهم مثقال دينار، وبعضهم أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فهذه النصوص - نصوص الشفاعة - دليل واضح وبيّن على بطلان قول المرجئة الذين يقولون: إيمان الناس واحد، وإيمان أهل الأرض وأهل السماء واحد، وإيمان أفسق الناس وأتقى الناس واحد.
__________
(1) - البخاري: تفسير القرآن (4712) , ومسلم: الإيمان (194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434).
(2) - البخاري: التوحيد (7440).
(3) - البخاري: التوحيد (7440) , ومسلم: الإيمان (183).
(4) - مسلم: الإيمان (183) , وأحمد (3/94).
(5) - مسلم: الإيمان (183) , وأحمد (3/94).
(6) - البخاري: التَّوْحِيدِ (7510) , ومسلم: الإيمان (193) , والترمذي: صفة جهنم (2593) , وأحمد (3/116) , والدارمي: المقدمة (52).
(7) - البخاري: التَّوْحِيدِ (7510) , ومسلم: الإيمان (193) , والترمذي: صفة جهنم (2593) , وأحمد (3/116) , والدارمي: المقدمة (52).
(8) - البخاري: العلم (99) , وأحمد (2/373).(1/87)
هذا باطل نصوص الشفاعة - وهي متواترة - تردّ على مذهب المرجئة الذي يقول: إن الإيمان شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص، نعم.
حديث الوسوسة
ومنه حديثه في الوسوسة حين سُئل عنها فقال: ذلك صريح الإيمان (1).
نعم، الحديث في الوسوسة، لما قال الصحابة -رضوان الله عليهم-: يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا ما لئن يخر الإنسان من السماء خير له من أن ينطق به - وفي لفظٍ "ما يحب أن يكون حَمَمَة" يعني فحمة ولا يتكلم به- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم يا رسول الله، فقال: ذاك صريح الإيمان (2).
صريح الإيمان: يعني كتْم الوسوسة، ومحاربة الوسوسة واستعراضها، وعدم التكلُّم بها هو صريح الإيمان، كونه يحارب الوساوس التي تعرض عليه، يحاربها ويدافعها ويكتمها ويستعظمها، هذا صريح الإيمان؛ ولهذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تميّزوا على المتأخرين، فالصحابة والتابعون إذا وجدوا وسوسة في نفوسهم حاربوها ودافعوها وكتموها ولم يتكلموا بها.
أما المتأخرون فإنهم تكلّموا بها وسوّدوا بها الكتب، وشبهوا بها على الناس، وأوردوا الشبه على الناس، فاضطر أهل العلم من أهل السنة والجماعة إلى الرّدّ عليهم لمّا تكلّموا بالباطل، وكان الناس في العصر الأول في عافية، ولهذا تكلم المعتزلة والخوارج والجهمية والرافضة وغيرهم، تكلموا بالوساوس التي تكون في نفوسهم، والتي تخالف النصوص.
أما الصحابة والتابعون ومَن بعدهم حاربوا الوسوسة، وكتموها ودافعوها، فقال النبي: ذاك صريح الإيمان (3) يعني محاربة الوساوس ودفعها وكتمانها، وعدم التكلم بها، نعم.
__________
(1) - مسلم: الإيمان (132) , وأبو داود: الأدب (5111) , وأحمد (2/397 ,2/441).
(2) - مسلم: الإيمان (132) , وأبو داود: الأدب (5111) , وأحمد (2/397 ,2/441).
(3) - مسلم: الإيمان (132) , وأبو داود: الأدب (5111) , وأحمد (2/397 ,2/441).(1/88)
وهذا يدل على أي شيء ؟ يدل على بطلان مذهب المرجئة لأنه قال: "هذا صريح"، فالإيمان فيه صريح وغير صريح والمرجئة يقولون: الإيمان واحد، كل الناس إيمانهم صريح، وهذا من أبطل الباطل، نعم.
حديث " إن الإيمان يبدأ نكتة في القلب"
وكذلك حديث علي - عليه السلام-.
علي - رضي الله عنه- كل الصحابة لا يختصُّ علي كل الصحابة رضي الله عنهم، هذا بعض التابعين يكتبها.
وكذلك حديث علي - رضي الله عنه- إن الإيمان يبدأ نكتة في القلب، فكلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض عظما .
نعم، فهذا موقوف على عليّ - رضي الله عنه- لأن الإيمان يبدأ شيئا بعد شيء نكتة، ثم يزداد حتى يكون نعم.
الآثار والأدلة تبيّن أن الإيمان يتفاضل في القلوب والأعمال
في أشياء من هذا النحو كثيرة، يطول ذكرها تبين لك التفاضل في الإيمان بالقلوب والأعمال.
يعني هناك أدلة وآثار ونصوص غير هذه النصوص، من الأدلة التي ذكرناها من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن أقوال الصحابة ومن أقوال التابعين والأئمة والعلماء، كلها تبيّن أن الإيمان يتفاضل في القلوب والأعمال وذلك لأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذه كلها ترد وتبطل مذهب المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد لا يتفاضل، وإيمان البَرِّ والفاجِر سواء، وهذا من أبطل الباطل، نعم.
الواجب على المسلم أن يقبل الآثار الصحيحة
تبين لك التفاضل في الإيمان بالقلوب والأعمال وكلّها يشهد أو أكثرها أن أعمال البِرِّ من الإيمان، فكيف تعاند هذه الآثار بالإبطال والتكليف؟
وكلها. وكلها يشد. لعلها يدل، لعلها كلها يدل، لو قال: وكلها يدل، أو أكثرها على أن أعمال البر من الإيمان.
أو كلها وكلها تشهد أو أكثرها من شدة ما تشهد، نعم.
وكلها تشهد أو أكثرها أن أعمال البر من الإيمان فكيف تعاند هذه الآثار بالإبطال والتكليف ؟&(1/89)
فكيف تعارض هذه الآثار بالإبطال والتكليف من قبل المرجئة ؟! المرجئة عاندوا هذه الآثار، بعضها أبطلوها وبعضها كذّبوها، والواجب على المسلم أن يَقبَل شرع الله ودينه، وأن يقبل الآثار إذا صحت الأحاديث، إذا صحت يجب على المسلم، إذا صح سندها وعدّلت رواتها، فيجب على المسلم أن يقبلها، يقبل الحديث إذا صح سنده وعدلت رواته، نعم.
كما أنه يقبل كتاب الله قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) } (1) نعم.
آيات تبين تفاضل الإيمان في القلب بالأعمال
قوله تعالى "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله"
ومما يصدّق تفاضله بالأعمال قول الله جل ثناؤه: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) } (2) إلى قوله: { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } (3).
__________
(1) - سورة الأحزاب آية: 36.
(2) - سورة الأنفال آية: 2.
(3) - سورة الأنفال آية: 4.(1/90)
ومما يصدق تفاضله: يعني ومما يدل على أن الإيمان يتفاضل بالأعمال هذه الآيات الكريمة، هذه الآيات الكريمة من سورة الأنفال. { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } (1) يعني إنما المؤمنون الكُمّل الذين اتصفوا بهذه الصفات، { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (2) هذا عمل قلبي، وجل القلب عند ذكر الله، { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } (3) هذا من عمل القلب { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) } (4) - هذا من عمل القلب وعمل الجوارح. التوكل يجمع الأمرين، فعل الأسباب والاعتماد على الله.
{ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } (5) إقامة الصلاة من أعمال الجوارح، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) } (6) يقال لهم: { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } (7) فهذا في بيان المؤمنين الكُمَّل الذين كمل إيمانهم، والذين اتصفوا بهذه الصفات، فدل على أن الإيمان يتفاضل بالأعمال، نعم.
فلم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط.
هذا وجه الاستدلال من الآيات، قوله: فلم يجعل على وجه الاستدلال من الآيات لم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل، على هذه الشروط المذكورة، كما سمعتم وجل القلب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند عند تلاوة القرآن والتوكل على الله وإقامة الصلاة والإنفاق، فجعل الله للإيمان حقيقة بالعمل بهذه الشروط، الحقيقة الكاملة، نعم.
من يزعم أن الإيمان بالقول خاصة معاند للكتاب والسنة
والذي يزعمه أنه بالقول خاصة يجعله مؤمنا حقا، وإن لم يكن هناك عمل فهو معاند لكتاب الله والسنة.
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 2.
(2) - سورة الأنفال آية: 2.
(3) - سورة الأنفال آية: 2.
(4) - سورة الأنفال آية: 2.
(5) - سورة الأنفال آية: 3.
(6) - سورة الأنفال آية: 3.
(7) - سورة الأنفال آية: 4.(1/91)
والذي يزعمه أنه بالقول خاصة، يعني مرجئ المرجئ الواحد من المرجئة يزعم أن الإيمان بالقول خاصة والذي يزعم أن الإيمان بالقول خاصة يجعله مؤمنا حقا كامل الإيمان بمجرد القول، بمجرد قول القلب وإقراره تصديق، وإن لم يكن هناك عمل.
ويقول إن هذا معاند للكتاب، كتاب الله وسنة رسوله؛ لأن النصوص كما سمعتم واضحة، هذا الكتاب - القرآن - { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (1) والحديث الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان .
فالذي يقول إن الإيمان هو القول خاصة، ويكون مؤمنا كامل الإيمان بمجرد القول، عاند الكتاب وعاند السنة، عاند كتاب الله وعاند السنة، وهم المرجئة -نعم- والمؤلف -رحمه الله- اشتد عليهم؛ لأن النصوص واضحة فيها، نعم.
قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات"
ومما يبين لك تفاضله في القلب قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } (2) ألست ترى أن هاهنا منزلا دون منزل، { اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } (3).
يعني يقول أن هذا مما يدل على أن الإيمان يتفاضل في القلب خلافا للمرجئة الذين يقولون: الإيمان في القلب واحد، شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، ومما يدل عليه آية الممتحنة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } (4) دل على أن الإيمان يتفاضل في قلوبهن.
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 2.
(2) - سورة الممتحنة آية: 10.
(3) - سورة الممتحنة آية: 10.
(4) - سورة الممتحنة آية: 10.(1/92)
تمتحن المهاجرة، إذا جاءت المرأة مهاجرة إلى المدينة تمتحن حتى يعلم ما في قلبها من الإيمان، حتى يعلم أنها مؤمنة صادقة أو مؤمنة غير صادقة؛ ولهذا قال { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } (1) وإن لم تعلموهن مؤمنات يعني، فتُرجع إلى الكفار؛ ولهذا قال: ألست ترى أن هاهنا منزلا دون منزل، يعني منزل للإيمان.
المنزل الأول فامتحنوهن، والمنزل الثاني { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } (2) امتحن، هناك منزلان منزل أن تُعلم أنها مؤمنة، والمنزل الثاني: أن تعلم أنها ليست مؤمنة، ولذا قال: ألست ترى أن أن هاهنا منزلا دون منزل؟ هذا وجه الدلالة من الآية، على أن الإيمان يتفاضل في القلب، نعم.
قوله تعالى "يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله ورسوله"
كذلك ومثله قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } (3) فلولا أن هناك موضع مزيد ما كان لأمره بالإيمان معنى.
يعني يقول: هذا دليل آخر مع بيان وجه الدلالة، قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ } (4) آية النساء، وجه الدلالة هم مؤمنون وقال لهم: آمنوا، كيف الله تعالى ينادي المؤمنين ويقول لهم: يا أيها الذين آمنوا ؟ أليسوا مؤمنين ؟
__________
(1) - سورة الممتحنة آية: 10.
(2) - سورة الممتحنة آية: 10.
(3) - سورة النساء آية: 136.
(4) - سورة النساء آية: 136.(1/93)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا } (1) يعني ازدادوا إيمانا فدل على أن الإيمان يزيد وينقص؛ ولهذا قال المؤلف في بيان وجه الدلالة، فلولا أن هناك موضعَ مزيد ما كان لأمره بالإيمان معنى، لو كان الإيمان لا يزيد كيف يأمر ربنا بالإيمان ؟ والمرجئة يقولون أن الإيمان ما يزيد ولا ينقص، لو كان الإيمان ما يزيد وينقص لم يأمرهم الله بالإيمان، كيف يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا } (2) وهم آمنوا والإيمان لا يزيد ولا ينقص؟ يكون الأمر ماله معنى.
فلولا أن الإيمان يزيد لما قال الله يا أيها الذين آمنوا. وهذا واضح في الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وإنما هو شيء واحد في القلب، نعم.
قوله تعالى "فليعلمن الله الذين صدقوا"
ثم قال أيضا: { الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) } (3).
نعم، وهذه الآية واضحة في أن الإيمان يزيد وينقص في قوله { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } (4) يعني في إيمانهم { وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) } (5) إذن هناك مؤمن صادق، وهناك مؤمن غير صادق. فالمؤمن ضعيف الإيمان، ما يقال: هذا صادق الإيمان، يقال: غير صادق الإيمان، والمؤمن قوي الإيمان يقال: صادق الإيمان، فدل على أن الإيمان يتفاوت.
__________
(1) - سورة النساء آية: 136.
(2) - سورة النساء آية: 136.
(3) - سورة العنكبوت آية: 1-3.
(4) - سورة العنكبوت آية: 3.
(5) - سورة العنكبوت آية: 3.(1/94)
يكون العاصي إيمانه غير صادق والمطيع إيمانه صادق؛ ولهذا يُقال في المعاصي: مؤمن ناقص الإيمان، ويقال: ليس بمؤمن حقا، ليس بصادق الإيمان؛ ولهذا قال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) } (1) في الآية الأخرى، وهنا قال { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) } (2) صدقوا في إيمانهم وليعلمن الكاذبين. نعم.
وقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } (3).
وهذا فيه بيان ضعيف الإيمان. { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ } (4) هذا ضعيف الإيمان، { فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } (5) وفي الآية الأخرى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } (6) على طرف.
إذن الناس يتفاوتون. منهم ضعيف الإيمان، فإذا أوذي افتتن عن دينه ونكص على عقبيه، ومنهم الصادق في إيمانه، الذي يتحمل. فدل على أن الإيمان يتفاوت. والناس يتفاوتون في الإيمان- نعم.
قوله تعالى "وليمحص الله الذين آمنوا"
وقال: { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) } (7).
يعني فيه تمحيص. يمحص الله الذين آمنوا حتى يتبين المؤمن الصادق من المؤمن غير الصادق، فدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان وهذا يدل على -يعني- دقة هذا المؤلف -رحمه الله-.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 177.
(2) - سورة العنكبوت آية: 3.
(3) - سورة العنكبوت آية: 10.
(4) - سورة البقرة آية: 8.
(5) - سورة العنكبوت آية: 10.
(6) - سورة الحج آية: 11.
(7) - سورة آل عمران آية: 141.(1/95)
أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله- دقيق إلى الفهم والاستنباط من الآيات والنصوص، من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهو إمامنا - رحمه الله - في النصوص الدقيقة، في فهمها وبيان إبطال مذهب المرجئة نعم.
تعقيب للمؤلف على الآيات
أفَلَسْتَ تراه تبارك وتعالى قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل ؟.
ولهذا قال: { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) } (1) فالصادق في إيمانه هو الذي يصدّق عملُه قولَه بعض الناس يقول: آمنا بالله، فإذا جاءت الفتنة نكص على عقبيه، يقول آمنا بالله، فإذا طُلب منه الجهاد امتنع. ومن الناس من يقول آمنا بالله ثم يجاهد، هذا صدق، صدق إيمانه بالعمل، والثاني كذب عمله ما يدعيه من الإيمان- نعم.
أفلست تراه تبارك وتعالى قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل ؟ -نعم- ولم يرض منهم بالإقرار دون العمل.
نعم. ما يرضى بالإقرار بالقلب فقط، بل لا بد من العمل؛ ولهذا قال { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } (2) يعني الذين صدقوا بالأعمال. التي صدّقت إيمانهم، نعم.
الإنسان لا يتبع إلا ما دلت عليه النصوص
حتى جعل أحدهما من الآخر، فأي شيء يتَّبع بعد كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومنهاج السلف بعده الذين هم موضع القدوة والإمامة.
نعم، يقول: الله تعالى لم يرض بالإقرار دون العمل، حتى جعل أحدهما من الآخر، جعل أحدهما من الآخر: جعل القول والعمل، جعل كلا منهما إيمانا، فأي شيء يتبع الإنسان بعد كتاب الله وسنة رسوله، التي دلت على دخول الأعمال في مسمى الإيمان ؟ وكذلك أجمع على هذا السلف الصالح، الذين هم موضع القدوة والإمامة من الصحابة والتابعين ومَن بعدَهم.
__________
(1) - سورة العنكبوت آية: 3.
(2) - سورة العنكبوت آية: 3.(1/96)
ما بعد هذا ؟ كيف يترك الإنسان ما دل عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، وما أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم، الذين هم موضع القدوة. نعم.
خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان
فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا، مما اقتصصنا في كتابنا هذا: أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أنَّ أوّلها وأعلاها الشهادة باللسان، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءا. فإذا نطق بها القائل وأقرّ بما جاء من عند الله، لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه، بالاستكمال عند الله.
لا بالاستكمال لا يستقيم المعنى، لا بالاستكمال، بالدخول فيه لا بالاستكمال، نعم.
وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه. لا بالاستكمال عند الله، ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى ازداد به إيمانا.
هذا يعتبر خلاصة. هذه الأسطر الستة، الستة أسطر هذه خلاصة لمعتقد أهل السنة والجماعة تكتب بماء الذهب، لو كتبتها بماء الذهب لم يكن كثيرا، هذه الأسطر الستة التي سمعتم، هي خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة وهي -يعني- بيان القاعدة العظيمة عند أهل السنة والجماعة في الإيمان.
فجدير بالمسلم أن.. يعني ينبغي أن تُكتب هذه الأسطر. المسلم يكتبها في ورقة ويجعلها في جيبه دائما، حتى أيش؟ يتبين له مذهب أهل السنة والجماعة ويرد على المرجئة يقول المؤلف -رحمه الله-: "فالأمر الذي عليه السنة عندنا": يعني عندنا معشر أهل السنة والجماعة والأئمة والعلماء.
"الأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا " ويقول المحشي "ما مضى عليه علماؤنا". ما مضى لها وجه، يعني: ما استمروا عليه وما اعتقدوه وقرروه، وجيهة "ما مضى".(1/97)
" فالأمر الذي عليه أهل السنة عندنا ما مضى عليه علماؤنا، مما اقتصصنا في كتابنا هذا"، يعني مما ذكرنا في كتابنا هذا من الأدلة والنصوص. " أن الإيمان بالنية والقول والعمل " يكون كم جزءا ؟ ثلاثة أجزاء: النية والقول والعمل.
النية، يعني لا بد من النية، النية ما يكون منها الإنسان ينوي في الصلاة في الزكاة في الصوم في الحج، العبادات لا بد لها من نية إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ولا تصح الأعمال إلا بالنية، فالنية من الإيمان، النية. والقول، والقول يشمل قول اللسان وهو النطق، وقول القلب وهو التصديق والإقرار. والعمل يشمل عمل القلب وعمل الجوارح.
فصار الإيمان مكونا من أي شيء ؟ من النية والقول -يشمل أمرين: قول القلب وقول اللسان- والعمل يشمل أمرين: عمل القلب وعمل الجوارح.
يقول الإمام أبو عبيدة -رحمه الله-:
الأمر الذي عليه السنة عندنا ما مضى عليه علماؤنا مما اقتصصنا في كتابنا هذا: أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا وأنه درجات بعضها فوق بعض.
خلاف المرجئة الذين يقولون شيئا واحدا المرجئة يقولون: الإيمان شيء واحد، ما فيه درجات، ولا فيه نية ولا عمل ما فيه إلا التصديق بالقلب فقط، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها، أول الدرجات وأعلاها ما هي ؟ كلمة التوحيد، كلمة التوحيد؛ لأنها أصل الدين وأساسها الشهادة لله، الشهادة لله تعالى بالوحدانية و لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة.
هذا أصل الدين وأساسه، هذا أول الإيمان، أول درجات الإيمان، وأصلها وأسسها الذي تنبني عليه الأعمال، والشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة -أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله- هذا أولاها وأعلاها، الشهادة باللسان.(1/98)
"كما قال رسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءا"، في الحديث الذي جعله، الضمير يعود إلى الإيمان فيه، "بضعة وسبعين جزءا" يشير إلى الحديث في الصحيحين، السابق حديث أبي هريرة الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (1).
فإذا نطق بها القائل -نطق بكلمة التوحيد- قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، "وأقر بما جاء من عند الله" يعني التزم، أقر واعترف وصدّق، بما جاء من عند الله من الأوامر والنواهي، نطق بالشهادتين وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، هذا مسلم مؤمن ملتزم بالشريعة.
"إذا نطق بها وأقر بما جاء من عند الله، لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه"، صار يسمى مؤمنا، ويسمى دخل في الإيمان،"لا بالاستكمال عند الله"، ما نقول: إنه إيمانه مستكمل، حتى ينظر، حتى يعمل كونه نطق بالشهادتين والتزم بأحكام الإسلام، هذا دخل في الإسلام دخل في الإيمان، لكن ما يكون مستكملا للإيمان حتى يعمل، أي يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي.
ولهذا قال المؤلف: "فإذا نطق بها" يعني بالشهادتين، "القائل وأقر بما جاء من عند الله، لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه، وصار يسمى مؤمنا إذا دخل فيه، لا بالاستكمال فيه"، لا نقول إنه استكمل عند الله لا بالاستكمال عند الله، ولا على تزكية النفوس، وليس له أن يقول: أنا مؤمن، ويزكي نفسه، بل إنه مؤمن الآن، لزمه اسم الإيمان لكن لا يكون مستكمل الإيمان حتى يؤدي الفرائض وينتهي عن النواهي.
__________
(1) - مسلم: الإيمان (35) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5004).(1/99)
وليس له أن يزكي نفسه فيقول: أنا مؤمن، الإنسان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله،أرجو، كما قال بعض السَّلف كما سيأتي، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى ازداد إيمانه، كلما زادت الطاعات والنوافل والصدقات ونوافل العبادة، زاد الإنسان الفرائض، يصلي الصلوات الخمس، هذا مؤمن لكن، إذا زاد صلى السنن الرواتب، وصلى الضحى، وصلى تحية المسجد، وسنة الوضوء، وصلى في الليل صلاة الليل.
وكذلك أيضا زاد في الصوم، صام ثلاثة أيام من كل شهر، وصام الاثنين والخميس، وصام تسع ذي الحجة، وستة من شوال، والتاسع والعاشر من المحرم، زاد تقواه وإيمانه، وكذلك الزكاة أدّاها وتصدق، في الصدقات، كلما ازداد لله طاعة وتقوى ازداد إيمانا.
خلاف المرجئة الذين يقولون: لا يزيد الإيمان، لا يزيد ولا ينقص، وهذه الأسطر الستة تكتب بماء الذهب، وهي تمثل معتقد أهل السنة والجماعة ينبغي أن تكتب،نعم.
باب الاستثناء في الإيمان
النصوص والآثار التي وردت في الاستثناء في الإيمان
أثر"قال رجل عند ابن مسعود أنا مؤمن"
باب الاستثناء في الإيمان:
قال أبو عبيد حدثنا يحيي بن سعيد عن أبي الأشهب عن الحسن قال: قال رجل عند ابن مسعود أنا مؤمن، فقال ابن مسعود أفأنت من أهل الجنة؟ فقال: أرجو، فقال ابن مسعود أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى ؟.
نعم، هذا الحديث وهذا الأثر عن ابن مسعود - رضي الله عنه- وإن كان قال المحشي إن سنده منقطع، إلا أن له شواهد، له شواهد تقوِّيه وتشده كما ذكر المؤلف -رحمه الله- أنه قال رجل عند ابن مسعود أنا مؤمن، يعني ما استثنى كأنه يزكِّي نفسه، ما قال: إن شاء الله، فقال ابن مسعود أفأنت من أهل الجنة ؟ لِلَّهِ تستطيع أن تقول أنك من أهل الجنة؟ قال: أرجو، قال: لماذا لم تقل في الإيمان: أرجو أن أكون مؤمنا، أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى ؟(1/100)
أفلا وكلت الأولى إلى مشيئة الله كما وكلت الأخرى إلى مشيئة الله ؟ لِلَّهِ لما قال له: أنت من أهل الجنة؟ قال: أرجو، يعني إن شاء الله، ولما قال: أنت مؤمن؟ قال: أنا مؤمن، وسكت قال: اجعل الأولى مثل الثانية استثن قل: أنا مؤمن إن شاء الله، أو قل: أنا أرجو، لأنك لا تزكي نفسك، لأن شُعب الإيمان متعددة.
ولا يجزم الإنسان بأنه أدّى ما عليه؛ لأن الإنسان محل النقص والتقصير، يتطرق إليه النقص والخلل في أداء الواجبات أوفي فعل شيء من المحرمات، فلا يزعم الإنسان بأنه أدى ما عليه، ولا يزكي نفسه؛ ولهذا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ولهذا أنكر ابن مسعود - رضي الله عنه- وقال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟ أفلا وكلت الأولى إلى مشيئة الله كما وكلت الأخرى، الأولى: قوله أنا مؤمن، والثانية: لما قال له: أنت من أهل الجنة؟ استثنى في الثانية ولم يستثن في الأولى، نعم.
أثر عبد الله "بينا نحن نسير إذ لقِينا ركبا"
قال أبو عبيد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن سعيد عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: بينا نحن نسير إذ لقِينا ركبا، فقلنا من أنتم ؟ فقالوا: نحن المؤمنون، فقال: أَوَلا قالوا: إنا من أهل الجنة ؟
وهذه كذلك، يعني أنكر عليهم قولهم: نحن مؤمنون، يعني لِماذا لم يستثنوا؟ لم لم يقولوا: نحن المؤمنون إن شاء الله؟ جاء رجل إلى عبد الله فقال: بينا نحن نسير إذ لقِينا ركبا، فقلنا من أنتم ؟ فقالوا: نحن المؤمنون، فأنكر عليهم عبد الله فقال: أَوَلا قالوا: إنا من أهل الجنة؟ يعني من جزم بأنه مؤمن فليجزم بأنه من أهل الجنة، يعني لِمَ لَمْ تستثنوا؟ لِمَ لَمْ تقولوا نحن مؤمنون إن شاء الله؟
فكما أنك لا تجزم بأنك من أهل الجنة فلا تجزم بأنك مؤمن بإطلاق، وأنك أديت ما عليك؛ بل أنت محل النقص والتقصير، نعم، فينبغي أن تستثنى، أن تقول: مؤمن إن شاء الله، نعم.
أثر"قال رجل عند عبد الله أنا مؤمن"(1/101)
قال أبو عبيد حدثنا يحيي بن سعيد ومحمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم عن علقمة قال: قال رجل عند عبد الله أنا مؤمن، فقال عبد الله فقل: إني في الجنة! ولكن آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله.
نعم، وهذا فيه أنه أنكر علقمة من أصحاب عبد الله بن مسعود أنكر عبد الله بن مسعود على من قال: أنا مؤمن، ولم يستثن، فقال عبد الله فقل إني في الجنة ؟ يعني إذا قلت وجزمت بأنك مؤمن فاجزم بأنك في الجنة، ولكن قل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذا أصل الإيمان.
ولهذا قال القائل إذا قيل لك: هل أنت مؤمن ؟ قل: أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، يعني أصل الإيمان، أما أن يجزم بأنه مؤمن كامل الإيمان فالإنسان لا يجزم ولا يزكي نفسه، نعم.
أثر"قال لي إبراهيم إذا قيل لك أمؤمن أنت "
قال أبو عبيد حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن مُحِلّ بن محرز قال: قال لي إبراهيم إذا قيل لك: أمؤمن أنت ؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
لعله يعني إبراهيم النخعي يقول: وإذا قيل لك أمؤمن أنت ؟ فقل آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذا أصل الإيمان، تجزم بأنك مؤمن أصل الإيمان، ولكن ما تجزم أنك أديت الواجبات وتركت المحرمات، فتقول: أنا مؤمن بإطلاق؛ ولهذا قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، نعم.
أثر طاوس " إذا قيل لك أمؤمن أنت "
قال أبو عبيد حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن مَعْمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
نعم، هذا طاوس عن أبيه، طاوس بن كيسان اليماني التابعي الجليل، روى طاوس عن أبيه أنه قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت ؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، هذا هو أصل الإيمان، أما تقول: مؤمن وتسكت، لا، فلا تزكي نفسك، نعم.
أثر ابن سيرين "إذا قيل لك أمؤمن أنت"(1/102)
قال أبو عبيد حدثنا عبد الرحمن عن حماد عن حماد ابن زيد عن يحيي بن عتيق عن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط
نعم، أبو عبيد هو المؤلف -رحمه الله- قال أبو عبيد ثم ذكر الأثر عن محمد بن سيرين أنه قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت ؟ فقل: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط يعني أصل الإيمان، نعم.
أثر "قال رجل لعلقمة أمؤمن أنت"
قال أبو عبيد حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن إبراهيم قال: قال رجل لعلقمة أمؤمن أنت ؟ فقال: أرجو إن شاء الله.
نعم، قال رجل لعلقمة وهو من أصحاب عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه- أمؤمن أنت ؟ فلم يجزم، استثنى، قال: أرجو إن شاء الله، يعني لأن الإنسان محل التقصير، ما يجزم بأنه أدى ما عليه، الخلل حاصل، والتقصير حاصل في أداء الواجبات وترك المحرمات؛ ولهذا قال: أرجو إن شاء الله، وهذا مذهب الجمهور، نعم، جمهور أهل السنة والجماعة نعم.
تعقيب من المؤلف على الآثار السابقة
قال أبو عبيد ولهذا كان يأخذ سفيان ومن وافقه الاستثناء فيه، وإنما كراهتهم عندنا أن يبتُّوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمُّون أهل الملة جميعا مؤمنين؛ لأن وِلاياتهم وذبائحهم، وشهاداتهم ومناكحتهم، وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان؛ ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعا واسعين.
يعني هذا تعقيب من المؤلف - رحمه الله - على هذه الآثار، يبيّن وجه ذلك، قال أبو عبيد "ولهذا كان يأخذ سفيان "، سفيان يعني الثوري ومن وافقه الاستثناء فيه يعني يستثنى في الإيمان، فإذا قيل: أمؤمن أنت؟ يقول: إن شاء الله، ولا يجزم فيقول: أنا مؤمن، يكره أن يقول: أنا مؤمن ويسكت.(1/103)
ووجه ذلك، وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان؛ مخافة ما أعلمتكم به في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، هذا وجه كونهم يستثنون، وجه كونهم يستثنون أنهم لا يجزمون على أنفسهم بالإيمان، لا يجزمون على أنفسهم بأنهم أدوا ما أوجب الله عليهم وتركوا ما حرم الله عليهم، يخشون من تزكية النفس؛ لأن الإنسان محل التقصير؛ ولهذا قال: وإنما كراهتهم عندنا أن يبتّوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله.
يعني أن الذي قال: أنا مؤمن فقد زكّى نفسه، وشهد على نفسه أنه كامل الإيمان عند الله، وهذا ما يستطيع الإنسان الجزم به، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعا مؤمنين، يعني بالنسبة للأحكام فإنهم يقولون: إن الناس كلهم مؤمنين الفاسق والعاصي والمطيع، كلهم مؤمنون.
"يسمونهم مؤمنين" لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، فالولي يشترط -ولي المرأة الذي يعقد النكاح لها- أن يكون مؤمنا، ولو كان فاسقا، ولو كان عاصيا، فالولاية يكفي لها مجرد اسم الإيمان، والذبائح تصح ذبيحة المؤمن ولو كان عاصيا، والشهادة كذلك، والنكاح يزوج ولو كان عاصيا، وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، يعني هذه الأحكام إنما تتعلق بأصل الإيمان، الولاية و الذبائح والشهادات والمناكحة إنما هي على الإيمان.
أما الجزم بأن الإنسان مؤمن وأنه أدّى ما عليه، لا، هذا لا بد من أيش؟ لا بد من الاستثناء، نعم.
الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعا
قال أبو عبيد ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعا واسعين. حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله فحسن؛ لقول الله - - عز وجل- { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ } (1) وقد عُلم أنهم داخلون.
__________
(1) - سورة الفتح آية: 27.(1/104)
نعم، يعني يقول: إن الجمهور من السلف والصحابة والتابعين يرون الاستثناء وبعض العلماء كالأوزاعي يرى أن الأمر واسع، لك أن تستثني ولك أن لا تستثني، يرى الاستثناء وتركه جميعا واسعين؛ ولهذا روى أبو عبيد بالسند عن الأوزاعي أنه قال: من قال: أنا مؤمن -يعني بدون استثناء- فهو حسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن، يعني مخير، واستدل بقول الله - عز وجل- { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ } (1) وقد عَلم أنهم داخلون، فدل على أنه لا بأس بالاستثناء، فمن استثنى فقد استدل بالآية، نعم.
معنى أثر ابن مسعود كنت من المؤمنين
وهذا عندي وجه حديث عبد الله، حين أتاه صاحب معاذ فقال: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر، فمن أيِّهم كنت ؟ قال: من المؤمنين، إنما نراه أراد: أني كنت من أهل هذا الدين، لا من الآخرين -نعم- فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده. فكيف يكون ذلك، والله يقول: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) } (2).
يقول المؤلف -رحمه الله-: وهذا عندي وجه حديث عبد الله وهو ابن مسعود حين أتاه صاحب معاذ فقال له: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر. ذكرهم الله في أول سورة البقرة، ذكر المؤمنين باطنا وظاهرا في أربعة آيات، والكفار ظاهرا وباطنا في آيتين، والمنافقين وهم الكفار باطنا والمؤمنين ظاهرا في ثلاث عشرة آية.
__________
(1) - سورة الفتح آية: 27.
(2) - سورة النجم آية: 32.(1/105)
قال له: ألم تعلم أن الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر فمِن أيهم كنتَ ؟ قال: من المؤمنين، ولم يقل له: من المؤمنين إن شاء الله. يقول: هذا وجه ذلك أنه على مذهب الأوزاعي أنه لا بأس يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء قال: إنما نراه أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين.
يعني مقصوده أني كنت من أهل هذا الصنف المؤمنين، لا من الآخرين، يعني المنافقين والكافرين؛ لأن الإيمان في مقابل الكفر والنفاق، الناس ثلاثة أصناف: مؤمن وكافر ومنافق، فمِنْ أيِّهم؟ قال: أنا من المؤمنين لا من الآخرين، يعني المنافقين والكفار.
وليس المقصود أنه يشهد عند الله أنه مؤمن كامل الإيمان، لا، أو أنه يزكّي نفسه؛ ولهذا قال فأما الشهادة بها عند الله، فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، من أن يريد أنه كامل الإيمان، فكيف يكون ذلك والله يقول: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) } (1) ؟ نعم.
والشاهد على ما نظن أنه كان قبل هذا، لا يقول: أنا مؤمن، على تزكية ولا على غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله، لا يزيد على هذا اللفظ وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين
نعم، يقول: الشاهد على ما نظن، يعني في قوله: وهذا عندي وجه حديث عبد الله يعني الشاهد على ذلك أنه -يعني- يريد أصل الإيمان، ولا يريد التزكية، أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن بإطلاق، على تزكية ولا غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله، لا يزيد على هذا اللفظ.
__________
(1) - سورة النجم آية: 32.(1/106)
لأن هذا أصل الإيمان، وأما إطلاق الإيمان فيقول: أنا مؤمن، يريد التزكية، فهذا لا يمكن، لا يُظن به، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان ؛ لأن الأوزاعي والجماعة يرون الاستثناء وعدمه سواء، أن الاستثناء وعدم الاستثناء الأمر فيهما واسع، وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين كلهم يرون أنه يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء نعم.
ثم أجاب عبد الله إلى أن قال: أنا مؤمن، فإن كان الأصل محفوظا عنه، فهو عندي على ما أعلمتك.
ثم أجاب عبد الله بعد ذلك وقال: أنا مؤمن، في الأول يمكن أن يقول: أنا مؤمن، ثم قال وأجاب: أنا مؤمن، فإن صح هذا عنه وثبت عنه فهذا وجهه، وجهه أنه إما أن يريد أصل الإيمان، وإما أن يريد أن الأمر واسع، على ما ذهب إليه إبراهيم وطاوس وابن سيرين والأوزاعي نعم.
ضعف أثر ابن مسعود كنت من المؤمنين
فإن كان الأصل محفوظا عنه فهو عندي على ما أعلمتك، وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره ويطعن في إسناده؛ لأن أصحاب عبد الله على خلافه.
يعني هذا الأثر - كما قال المؤلف - هذا الأثر ضعيف؛ لأن في سنده رجل لم يسمَّ؛ ولهذا يقول المؤلف: فقد رأيت يحيى بن سعيد ينكر هذا الأثر عن عبد الله أنه سكت، أنه لما سئل، أجاب: أنا مؤمن وسكت، وقال: هذا ما ثبت عن عبد الله؛ لأن يحيى بن سعيد أنكر هذا، وطعن في إسناد هذا الأثر، لأن أصحاب عبد الله بن مسعود على خلاف ذلك، وأنه لا بد من الاستثناء
لكن لو صح فهذا وجهه، لو صح فهو يُحمل على أيش؟ على أن المراد أصل الإيمان، أو المراد أن الأمر واسع على مذهب هؤلاء: ابن سيرين وطاوس وإبراهيم والأوزاعي لو صح، لكنه لا يصح لأنه مطعون في سنده، ويدل على ذلك أن أصحاب عبد الله على خلاف ذلك، وأنه لا بد من الاستثناء، نعم.
الفقهاء الذين لا يستثنون مقصودهم التسمي بالإيمان(1/107)
وكذلك نرى مذهب الفقهاء الذين كانوا يتسمون بهذا الاسم بلا استثناء، فيقولون: نحن مؤمنون، منهم: عبد الرحمن السُّلَمي وإبراهيم التيمي وعون بن عبد الله ومَن بعدَهم، مثل: عمر بن ذر والصلت بن بهرام ومسعر بن كِدام ومن نحا نحوهم، إنما هو عندنا منهم على الدخول في الإيمان، لا على استكمال.
يعني يقول: إننا نؤيد هذا، يؤيد أن هذا الأثر لم يصح عن عبد الله بن مسعود؛ لأنه مطعون في سنده، أن مذهب الفقهاء الذين يتسمون بهذا الاسم بلا استثناء، يعني يقول الواحد منهم: أنا مؤمن ولا يستثنى ولا يقول: إن شاء الله، مقصودهم أنا مؤمن يعني الإيمان العام، الدخول فيه، لا على الإيمان الكامل، فيقولون: نحن مؤمنون.
مِن هؤلاء الفقهاء: عبد الرحمن السلمي وإبراهيم التيمي وعون بن عبد الله وعمر بن ذر والصلت بن بهرام ومسعر بن كدام كلهم يقول الواحد منهم: أنا مؤمن يعني مقصوده الدخول في الإيمان، وليس مقصوده أنا مؤمن كامل الإيمان، ولهذا قال: لا على استكمال الإيمان، ثم أيّد ذلك بتأييد بعده، نعم.
الفرق بين الذين يستثنون والذين لا يستثنون في الإيمان
إنما هو عندنا منهم على الدخول في الإيمان، لا على الاستكمال، ألا ترى أن الفرق بينهم وبين إبراهيم وبين ابن سيرين وطاوس إنما كان أن هؤلاء كانوا به أصلا -لعل كانوا لا يتسمون به نعم- كانوا لا يتسمون به أصلا، وكان الآخرون يتسمون به.
يعني يقول: هم يؤيدون هذا أن الفرق بينهم وبين الذين يطلقون الإيمان وبين الذين يستثنون، الفرق بين من يقول: أنا مؤمن ويسكت، وبين من يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، إنما كان أن هؤلاء كانوا..، يعني الفرق بينهم وبين إبراهيم النخعي وابن سيرين وطاوس إنما كان أن هؤلاء كانوا لا يتسمون به أصلا، وكان الآخرون يتسمَّوْن به.(1/108)
الذين منعوا من قول: أنا مؤمن إن شاء الله إنما يقصدون الكمال، أنا مؤمن، وإذا قصد كمال الإيمان واستكماله فلا بد أن يقول: إن شاء الله، ومن أجاز قوله: أنا مؤمن مراده التسمي بالإيمان والدخول فيه، فمن أراد بقول: أنا مؤمن التسمي بالإيمان والدخول في الإيمان فلا يلزمه الاستثناء، فيقول: أنا مؤمن، يعني دخلت في الإيمان وتسميت به، وأما من أراد: أنا مؤمن، يعني استكملت الإيمان ويزكي نفسه، فهذا لا بد أن يستثنى، نعم.
ليس من طريق العلماء القول بأنه مؤمن كإيمان الملائكة والنبيين
فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين، فمَعَاذَ الله، ليس هذا طريق العلماء.
يعني أما مَن قال: أنا مؤمن، يعني: إيمانا كاملا كإيمان الملائكة وإيمان النبيين فمعاذ الله أن يقوله أحد من أهل العلم، ما يقوله أحد، وكيف يجزم الإنسان بأن إيمانه كإيمان النبيين والملائكة، ليس مقصوده -من قال: أنا مؤمن وسكت- ليس مقصوده الإيمان الكامل، كإيمان الملائكة والنبيين، وإنما مقصودهم التسمي بالإيمان والدخول فيه؛ ولهذا قال: فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين، فمعاذ الله، وليس هذا طريق العلماء، نعم.
كراهية إطلاق الإيمان بدون استثناء مفسَّرة عن عدة من السلف
وقد جاءت كراهيته مفسَّرة عن عدة منهم.
يعني جاءت كراهية إطلاق الإيمان بدون استثناء مفسَّرة عن عدة من السلف من العلماء، نعم.
أثر الضحاك "كان يكره أن يقال أنا على إيمان جبريل وميكائيل "
قال أبو عبيد حدثنا هُشيم أو حُدّثتُ عنه، عن جويبر عن الضحاك أنه كان يكره أن يقول الرجل: أنا على إيمان جبريل وميكائيل -عليهما السلام-.
نعم، هذا الدليل، الأثر يُكره أن يقول الإنسان: أنا مؤمن كإيمان جبريل وميكائيل يكره: يعني ظاهر الكراهة، المراد بها المنع، يعني يمنع ويحرم -نعم- الكراهه قد توضع عند السلف على كراهة التحريم، نعم.(1/109)
أثر ابن أبي مُلَيكة "إن رجلا في مجالسك يقول إن إيمانه كإيمان جبرائيل "
قال أبو عبيد حدثنا سعيد ابن أبي مريم المِصري عن نافع عن عمر الجمحي قال: سمعت ابن أبي مُلَيكة وقال له إنسان: إن رجلا في مجالسك يقول: إن إيمانه كإيمان جبرائيل فأنكر ذلك وقال: سبحان الله، واللهُ قد فضل جبريل -عليه السلام- في الثناء على محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) } (1).
يعني أنكر عليه لما قال الرجل في مجلسه قال: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل يعني أنكر عليه وقال: سبحان الله تعجّب، أنكر عليه وقال: كيف يكون إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل والله تعالى فضل جبريل في الثناء على محمد ؟ فقال: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) } (2) يعني وصفه بهذه الأوصاف ووصف نبيه بقوله: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) } (3).
وأما مسألة التفضيل، تفضيل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتفضيل الملائكة، هذه المسألة خلافية بين أهل العلم، هل الأنبياء وصالح البشر أفضل من الملائكة أم الملائكة أفضل ؟ والصواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الملائكة، لكن ليس المقام مقام بحث هذه المسألة، إنما المقصود الإنكار على من قال: إيماني كإيمان جبريل نعم.
أثر ميمون بن مهران " أنه رأى جارية تغني"
قال أبو عبيد حُدثنا عن ميمون بن مهران أنه رأى جارية تغني فقال: من زعم أن هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب.
__________
(1) - سورة التكوير آية: 19-21.
(2) - سورة التكوير آية: 19-21.
(3) - سورة الحاقة آية: 40-41.(1/110)
نعم، ميمون بن مهران رأى جارية تغني، والغناء معلوم أنه فسق، ولا سيّما الغناء الذي يُلهب النفوس ويقعدها، هذا من الفسق، فقال: من زعم أن هذه على إيمان مريم ابنة عمران فقد كذب، فمريم ابنة عمران صدِّيقة وإيمانها كامل، وهذه الجارية فاسقة إيمانها ناقص، فكيف يكون إيمان هذه الجارية الفاسقة التي تغني، مثل إيمان مريم ابنة عمران ؟! نعم.
تعقيب للمؤلف يرد على قول المرجئة إيمان الناس شيء واحد
وكيف يسع أحدا أن يشبِّه البشر بالملائكة ؟ وقد عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب، وأوْعدهم أغلظ الوعيد، ولا يُعلم فَعل بالملائكة من ذلك شيئا- فَعل، يعني لا يُعلم فعل الله بالملائكة- ولا يعلم فعل بالملائكة من ذلك شيئا.(1/111)
فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) } (1) -نعم- وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (2) -نعم - وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) } (3) وقال تعالى: { * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) } (4).
فأوعدهم النار في آية، وآذنهم بالحرب في أخرى، وخوفهم بالمقت في ثالثة، واستبطأهم في رابعة، وهو في هذا كله يسميهم مؤمنين، فما تشَبُّه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله، إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله، والجهل بكتابه.
أيضا هذا التعقيب على الآثار تعقيب جيد من المؤلف -رحمه الله- مناقشة حادة للمرجئة وبيان واضح لبطلان مذهب المرجئة الذين يقولون: إن إيمان الناس شيء واحد، إيمان الملائكة وإيمان البشر واحد، إيمان أفسق الناس وأتقى الناس واحد، إيمان الملائكة وإيمان الفاسق واحد، هذا هو قول المرجئة
__________
(1) - سورة النساء آية: 29-30.
(2) - سورة البقرة آية: 278-279.
(3) - سورة الصف آية: 2.
(4) - سورة الحديد آية: 16.(1/112)
المؤلف يناقش، ويرد عليهم، مناقشة حادة قوية، مبنية على فهم النصوص من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويقول: "وكيف يسع أحدا أن يشبه البشر بالملائكة"، ويقول: إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة؟ من الذي شبه هذا ؟ المرجئة المرجئة يقولون: إيمان البشر مثل إيمان الملائكة، يقول الواحد: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل كإيمان أبي بكر وعمر إيمان أفسق الناس وأتقى الناس واحد.
يعني المؤلف يتعجب: كيف ؟ استفهام إنكاري، كيف يسع أحدا أن يشبه البشر بالملائكة ؟ لِلَّهِ ويقول إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة ؟ والملائكة إيمانهم كامل مطيعون لله، { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) } (1) { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) } (2) الملائكة ما يعصون الله، إيمانهم كامل فلا يعصون الله طرفة عين.
كما قال الله: { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) } (3) أما بنو آدم يعصون الله، يعصون الله في الأرض، يقصرون في الواجبات ويرتكبون بعض المحرمات، أما الملائكة كما قال الله تعالى: { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) } (4) { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) } (5).
__________
(1) - سورة التحريم آية: 6.
(2) - سورة الأنبياء آية: 27.
(3) - سورة الأنبياء آية: 27.
(4) - سورة التحريم آية: 6.
(5) - سورة الأنبياء آية: 27.(1/113)
كيف يشبه بنو آدم الذين فيهم العصاة والظلمة والفساق، ويقول: إن إيمانهم مثل إيمان الملائكة الذين { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) } (1) والمؤمنون من البشر عاتبهم الله، عاتبهم ولم يعاتب الملائكة فقال في عتاب المؤمنين من البشر في غير موضع، عاتب الله المؤمنين في غير موضع من الكتاب أشد العتاب، وأوعدهم أغلظ الوعيد، ولا يُعلم أنه توعّد الملائكة أو أغلظ لهم، لا يُعلم فَعل بالملائكة من ذلك شيئا.
فقال في عتاب المؤمنين من البشر: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (2) إذن لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، والذي يأكل بالباطل يُعاتَب، وقال { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } (3) هذا عتاب { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) } (4) ثم قال { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) } (5) ولم يتوعد الملائكة بشيء من ذلك.
وقال أيضا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (6) هذا وعيد، ولم يتوعد الملائكة، وقال في الوعيد: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) } (7) والمقت هو أشد البغض.
__________
(1) - سورة التحريم آية: 6.
(2) - سورة النساء آية: 29.
(3) - سورة النساء آية: 29.
(4) - سورة النساء آية: 29.
(5) - سورة النساء آية: 30.
(6) - سورة البقرة آية: 278-279.
(7) - سورة الصف آية: 2-3.(1/114)
وقال -ولم يقل هذا في الملائكة-: { * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) } (1) ثم قال معقبا على الآيات فأوعدهم النار في آية في قوله: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا } (2) وآذنهم بالحرب في أخرى قال: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (3).
وخوفهم بالمقت في ثالثة { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) } (4) واستبطأهم في رابعة { * أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ } (5) وهو في هذا كله يسميهم مؤمنين، يسميهم مؤمنين مع أفعالهم هذه، هل هم مؤمنون كاملو الإيمان، أم أصل الإيمان ؟ أصل الإيمان، لكن كيف تشبه هؤلاء العصاة بالملائكة ؟
ولهذا قال: وما تشبه هؤلاء بجبريل وميكائيل مع مكانهم من الله، كيف نشبه هؤلاء الذين توعدهم الله بإصلاء النار، توعدهم بالمقت، توعدهم بالحرب، نشبههم بالملائكة بجبريل وميكائيل مع قربهم ما ذكرت من الله ؟ ثم قال المؤلف -رحمه الله-: إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه.
__________
(1) - سورة الحديد آية: 16.
(2) - سورة النساء آية: 30.
(3) - سورة البقرة آية: 279.
(4) - سورة الصف آية: 3.
(5) - سورة الحديد آية: 16.(1/115)
إني لخائف على المرجئة الذين يقول أحدهم: إيمان أفسق الناس مثل إيمان الملائكة، خائف أن يكون هذا من الجُرأة على الله، ومن الجهل بكتابه، يقول المؤلف: إني خائف على المرجئ الذي يقول: إن إيمان هؤلاء الفساق والعصاة الذين يتوعدهم الله بالحرب، آذنهم بالحرب والمقت ووعدهم بالنار، خائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه.
وحاصل مسألة الاستثناء في الإيمان، الاستثناء في الإيمان هو أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، هذه يقال لها مسألة الاستثناء في الإيمان، مسألة الاستثناء في الإيمان أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله.
مسألة الاستثناء في الإيمان فيها ثلاثة مذاهب عند الناس: طرفان ووسط، مذهب يوجب الاستثناء فيقول: يجب أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومذهب يحرم الاستثناء فيقول: يحرم ولا يجوز أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ومذهب يفصل فيُجِيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا القول الوسط هو الصحيح.
أما من يُوجب الاستثناء في الإيمان فيوجب أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فلهم مأخذان: المأخذ الأول: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، وهو غير معلوم للإنسان، والإنسان لا يدري ما يُختم له؛ إذَن يجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهذا مأخذ الكلبية واستدلوا بقول الله تعالى: { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ } (1) قالوا: يجب على الإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
ووجه ذلك قالوا: الإيمان المُعتبر عند الله هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان ما يدري هل يموت على الإيمان أو لا يموت، فإذا يجب أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله، وتوسّعوا في هذا حتى قالوا: إن الله يحب مَن عَلِم أنه يموت على الإيمان ولو كان كافرا، وإن الله يُبغض من يموت على الكفر ولو كان في حاله مؤمنا.
__________
(1) - سورة الفتح آية: 27.(1/116)
فيقول: الكافر الذي علم الله أنه يموت على الإيمان يحبه الله ولو في وقت كفره، هذا باطل ليس بصحيح، والمطيع الذي يطيع الله وقد علم أنه يموت على الكفر هذا يبغضه الله، ولو كان مطيعا فيقول: إن إبليس يبغضه الله قبل أن يعود، لما كان مطيعا مع الملائكة، فهو مبغوض لله وعدو لله؛ لأن الله يعلم أنه يموت على الكفر.
والكافر الذي عاش في زمن كفره كافرا، لكن الله علم أنه سيختم له بالإيمان فالله يحبه، ولو في زمن كفره؛ لأن العبرة بالإيمان واالشيء الذي يموت عليه الإنسان، ولكن هذا ليس بصحيح، هذا باطل، فالمطيع يحبه الله في حال طاعته، فإن عصى صار مُبغَضا لله.
والمأخذ الثاني قالوا: الإيمان مطلق يتضمن فعل الأوامر وترك النواهي، وهذا بتزكية النفس؛ ولأنه لو جُوّز الإنسان أن يشهد على نفسه بالإيمان لجوز له أن يشهد لنفسه بالجنة، وهذا ليس بصحيح، لا يجوز لإنسان أن يشهد لنفسه ولا لغيره بالجنة، إلا لمن شهدت له النصوص.
فلو جاز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن بإطلاق، لجاز له أن يقول: أنا في الجنة، والثاني ممتنع فيكون الأول كذلك، وهذا هو مأخذُ كثير من السلف أما من يمنع الاستثناء، من يحرِّم الاستثناء في الإيمان ويقول: لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله، فكلهم يجعل الإيمان شيئا واحدا، من المرجئة وغيرهم.
المرجئة يقولون: لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله، ويقولون: أن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله، فقد شك في إيمانه، يقولون: شك في إيمانه، ويسمون أهل السنة والجماعة الشَّكّاكة، الشكاكة أنت تشك في إيمانك، أنت تعلم أنك مؤمن كما تعلم أنك صليت، وتعلم أنك قرأت الفاتحة، فإذا قرأت الفاتحة تقول: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله؟ ما تقول، وكذا ما تعلم نفسك أنك مؤمن أنك مصدق؛ لأن الإيمان شيء واحد.(1/117)
وقالوا: من استثنى في إيمانه فهو شاكٌّ في إيمانه، إيمانه غير صحيح، شاك فلا تشك في نفسك، ولا يشك الإنسان في الموجود، وإنما يشك في الشيء الذي لم يحصل، أما الإيمان الذي حصل في قلبك كيف تشك فيه ؟ لكن قال لهم أهل السنة جمهور أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعين قالوا: إن الاستثناء يجوز في حالات، يجوز في اعتبار ولا يجوز في اعتبار، وهذا هو الصحيح بتفصيل.
فالذي يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، إن قصد الشك في أصل إيمانه هذا لا يجوز، وإن قصد أنه لا يزكي نفسه، وأن واجبات الإيمان متعددة، الواجبات متعددة، ولا يجزم الإنسان بأنه أدى ما أوجب الله عليه وترك ما حرم الله عليه، لأنه محل النقص والتقصير، ولا يزكي نفسه، هذا لا بأس أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
وكذلك أيضا إذا استثنى وقال: أنا مؤمن إن شاء الله، وقصد عدم علمه بالعاقبة، وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله فلا بأس، وكذلك إذا قصد التبرك بذكر اسم الله، جاز له أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. والدليل على جواز الاستثناء قول الله تعالى { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } (1) مع أنه معلوم دخولهم ومع ذلك استثنى الله.
__________
(1) - سورة الفتح آية: 27.(1/118)
وفي الحديث الذي أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه الزائر إلى القبر، قال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون (1) هذا استثناء مع أنه يجزم بأنك ستلحق الموتى، هل يشك في أنك تموت أم يجزم ؟ يُجزم. فلم قال: وإنا إن شاء الله بكم للاحقون (2) دل على الجواز.
وكذلك أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له (3) مع أنه يجزم جزما بأنه أتقى الناس، الرسول - صلى الله عليه وسلم - أتقى الناس وأخشى الناس، ومع ذلك قال: "أرجو" فدل على الجواز.
فالخلاصة في هذا: أن من الناس من يوجب الاستثناء، وهذا مذهب طوائف من الكُلابية ويقولون: يجب على الإنسان أن يستثنى؛ لأن الإنسان لا يعلم بما يموت عليه، والعبرة بما يموت عليه. وحتى إنهم توسعوا في الاستثناء، وزاد بعضهم -بعض هذه الطائفة- وصاروا يستثنون في الأشياء الواضحة، التي لا استثناء فيها.
فيقول بعضهم: صليتُ إن شاء الله، وتوضأت إن شاء الله، يقول: هذا لا شك فيه، صليت الآن توضأت، ما فيه إشكال إلا إن قصد القبول عند الله، وحتى تغالى بعضهم وقال في الأشياء في الجمادات يقول: هذا حبل إن شاء الله، هذا دلو إن شاء الله، هذا كتاب إن شاء الله، فإذا قيل: هذا ما في إشكال إنه كتاب، قال لو شاء الله أن يغيره لغيره، فهذا غلو منهم.
__________
(1) - مسلم: الطهارة (249) , والنسائي: الطهارة (150) , وأبو داود: الجنائز (3237) , وابن ماجه: الزهد (4306) , وأحمد (2/300 ,2/375 ,2/408) , ومالك: الطهارة (60).
(2) - مسلم: الطهارة (249) , والنسائي: الطهارة (150) , وأبو داود: الجنائز (3237) , وابن ماجه: الزهد (4306) , وأحمد (2/300 ,2/408) , ومالك: الطهارة (60).
(3) - مسلم: الصيام (1110) , وأبو داود: الصوم (2389) , وأحمد (6/67 ,6/156) , ومالك: الصيام (641).(1/119)
فالمقصود أن هناك طائفة ترى الوجوب مطلقا، وطائفة تمنع وتحرم الاستثناء وهم المرجئة وأما أهل الحق فيقولون: يجوز الاستثناء باعتبار ويمتنع باعتبار، يجوز في حالة أن تستثني وفي حالة لا تستثني، فالحالة التي لا يجوز الاستثناء، إذا قصدتَ الشك في أصل إيمانك، إذا قصدت الشك في أصل إيمانك لا تستثني، لا يجوز أن تستثني تقول: أنا مؤمن، والحالة التي يجوز الاستثناء ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا أردت أن الاستثناء راجع إلى تزكية النفس، وإلى تعدد الأعمال الواجبة في الإيمان، وهي الواجبات وترك المحرمات، وأنك لا تجزم بأنك أديت ما عليك، ولا تزكي نفسك فلا تستثني.
الحالة الثانية: إذا قصدت عدم علمك بالعاقبة، وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله تستثني، تقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
الحالة الثالثة: أن تقصد التبرك بذكر اسم الله فتقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ثلاث حالات تستثني، وحالة لا تستثني.
وإلى هذا وبهذا نأتي إلى ختام درسنا هذه الليلة، ونسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح والثبات على دينه حتى الممات، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين.
هناك تنبيهان قبل الأسئلة.. بعض الأخوة -يعني- يرسل الأسئلة ويلح كثيرا ويقول: لا بد من عرضها على الشيخ، ونقول للأخوة: الأسئلة كثيرة جدا، ولا يمكن أن نعرض كل الأسئلة.
الأمر الآخر: أي سؤال خارج عن موضوع الدرس لا نعرضه، إلا إذا جاء عن طريق شبكة الإنترنت؛ لأن بعض الناس يكونون في بلدان لا يوجد بها علماء، ويكونون مضطرين لبعض الأسئلة.
وكذلك لو تحال الأسئلة إلى المكتب نطبعها ونجيبها إن شاء الله.
تحال لمكتبه الذي بجوار مسجده ويأتيه الجواب مطبوعا كما يقول الشيخ إن شاء الله.(1/120)
هنا سؤال أتى من الإنترنت يقول: أرجو من فضيلتكم بيان معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية يقول ابن تيمية -رحمه الله-: " هناك قولان متطرفان: قول من يقول: الإسلام مجرد الكلمة، والأعمال الظاهرة ليست داخلة في مسمى الإيمان، وقول من يقول: مسمى الإسلام والإيمان واحد".
هذا سيأتي -إن شاء الله- لعل الدرس القادم في الليلة القادمة إن شاء الله، في الفرق بين الإسلام والإيمان بعض الناس يقول: الإسلام مجرد الكلمة، يعني النطق بالشهادتين، وهذا مروي عن الزُّهري فإنه قال: " الإسلام هو كلمة، والإيمان العمل "، والإيمان هو العمل، والإسلام هو الكلمة، النطق بالشهادتين، وليس المقصود أنه يعني لا يجب إلا الشهادتين.
والقول الثاني: أن الإسلام والإيمان مترادفان، وهذا مروي عن بعض أهل السنة وهو مذهب الخوارج والمعتزلة يقولون: الإسلام والإيمان مترادفان، وهو مذهب الإمام البخاري في الصحيح.
والقول الثالث: وهو قول جمهور أهل السنة وهو الصواب، أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا،فإذا أطلق الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وإذا أطلق الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فُسّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة.
كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام فسر بها أركان الإسلام الخمسة، ولما سئل عن الإيمان فسر بها الأعمال الباطنة الستة، وهذا هو الراجح من الأقوال، سيأتي إن شاء الله، غدا إن شاء الله، نعم.
هذا سؤال طويل فضيلة الشيخ: يشكك بعض +++ العصر ممن تكلم في مسألة الإيمان في الإجماع الذي حكاه الإمام الشافعي -رحمه الله- وهو قوله: " كان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومَن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر" وقد نقله عنه -كما تعلمون- شيخ الإسلام في كتابه الإيمان.(1/121)
فمرة يقولون عن هذا: إنه غير صحيح، ومرة يقولون: لا يجزئ، أي لا يكون كاملا، ومرة يقولون: العمل في كلام الشافعي أي عمل القلب، ويقولون إن الإيمان الذي لا بد منه الاعتقاد والقول، أما العمل ففرع، فلو عاش الإنسان دهره كله تاركا للفرائض فلا صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حج، وفاعلا ما استطاع من منكرات، من زنا وشرب خمر، وارتكاب الفواحش، خلا الشرك، فيقولون: إنه مؤمن معرّض للوعيد ما دام أنه يعتقد ويقول بلسانه، فآمل من فضيلتكم شرح قول الشافعي وتوضيحه.
نعم، كلام الشافعي واضح في نقل هذا الإجماع عن الصحابة والتابعين والأئمة، أن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، هذا كما نقل الإمام أبو عبيد من الآثار ومن النصوص، من كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال العلماء وأقوال السلف وأقوال الصحابة واضح هذا.
ولكن طريقة أهل الزيغ -والعياذ بالله- يشككون، يريدون أن لا تثبت الآثار، ولا تثبت النصوص، فمرة يطعنون بالنصوص، ومرة يطعنون بالآثار، ومرة يطعنون بأقوال العلماء، ومرة يطعنون في كتب أهل السنة.
يشككون، حتى أن بعض أهل الزيغ يقولون: رسالة الإمام أحمد في الصلاة غير ثابتة، رسالة الإمام أحمد في الرد على الزنادقة غير ثابتة، مروي عن فلان كذا وهو ليس بثابت وهكذا، يشككون، لا يريدون أن تثبت، حتى لا يثبت الحق، حتى ينطلي زيغهم وانحرافهم، ينطلي على الناس، فتجدهم يشككون في كتب أهل العلم وفي نسبتها إليهم، وكذلك في أقوال أهل العلم، وفي الإجماع، ويطعنون في الآثار، وفي النصوص، حتى لا يثبت، حتى ينطلي زيغهم وانحرافهم على الناس.(1/122)
وقول الإمام الشافعي -رحمه الله- واضح، وقد سمعنا كثيرا من كلام الإمام أبي عبيد -رحمه الله- من النصوص ومن الآثار، ومن كلام أهل العلم، فكيف يطعن فيها كلها، هب أنه ما ثبت واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة، كيف ترد هذه النصوص الكثيرة ؟ ما تستطيع تردها تردها، ولو فرضنا أنه رد النصوص من السنة، كيف يرد النصوص من القرآن الواضحة، واضحة قطعية، وكذلك الأحاديث الثابتة في الصحيحين وفي غيرها، وأقوال العلماء الكثيرة، لم يستطيع هؤلاء أن يردوها، نعم.
هذا سائل أيضا يقول: لا يخفى على فضيلتكم ما ابتلي به أهل هذا العصر من تصدر كثير ممن لم ترسخ قدمه في العلم للتدريس، والخوض في مسائل الإيمان بل وكثير منهم لا يعرف دراسة العقيدة وتلقيها من العلماء الذين عُرفوا بذلك.
حتى أن بعضهم أخذ يجمع بين متناقضات، فتجده يقول: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، ثم يقول: لا كفر إلا كفر التكذيب والجحود، ويشغب بعضهم على المبتدئين من طلاب العلم بعبارات لابن نصر المروزي قالها في رده على الخوارج والمعتزلة المكفرين لأهل الكبائر: إن الإيمان -يعني قول ابن نصر - أصل وهو الاعتقاد والقول، وفرع وهو العمل، وتارك الأصل يكفر، أما تارك الفرع لا يكفر.
كما سبق، هذه طريقة أهل الزيغ وأهل الانحراف، نسأل الله السلامة والعافية، طريقتهم كما سبق يشبهون، ويأخذون بعض النصوص ويتركون البعض الآخر، ويتأولونها على غير تأويلها، حتى يشبهوا على العوام وعلى الجهّال وعلى المبتدئين، فيظنون أنهم على الحق وهم مبطلون، هذه +++ معروفة من أهل الزيغ والضلال، نسأل الله السلامة والعافية، نعم.(1/123)
لا شك أنه تناقض قول وعمل واعتقاد، ثم يقول إن المطلوب أصل الإيمان، نعم، لا شك أن التناقض والاضطراب في أقوالهم واضح؛ لأنهم أهل زيغ، ما قصدوا الحق، نسأل الله السلامة والعافية، أما من قصد الحق فإنه يعمل بالنصوص، ويأخذ بالنصوص، ويضم بعضها إلى بعض، ولا يحرف ولا يؤوّل - نعم- تحريفا باطلا ++ لا إشكال فيه واضح، موافق لأهل السنة والجماعة؛ لأن أصل الدين وأساس الملة هو الإيمان بالله ورسوله، والشهادة لله -تعالى- بالوحدانية ولنبيه بالرسالة.
لكن لا بد أن يتحقق الإيمان بعمل، ما يتحقق هذا الإيمان إلا بعمل، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون يعني: من ادعى أنه مؤمن وأنه موحد لا بد لهذه الدعوة من دليل يثبتها وهو العمل، يتحقق بالعمل، أما مجرد النطق باللسان فهذا أي فرق بينه وبين إيمان إبليس وفرعون ؟ نعم.
الناس التي تكفر تارك الصلاة؟
لا شك أن تارك الصلاة يكفر عند أهل السنة والجماعة نعم.
يقول: جاء في رسالة الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب معنى الطاغوت ورءوسه وأنواعه، الثاني منها: الحاكم الجائر المغير لأحكام الله -تعالى-، والدليل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ } (1).
الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله -تعالى-: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) } (2) ثم قال في آخر الرسالة: واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمنا بالله إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } (3).
__________
(1) - سورة النساء آية: 60.
(2) - سورة المائدة آية: 44.
(3) - سورة البقرة آية: 256.(1/124)
آمل من فضيلتكم شرح كلام الشيخ وبيان الفرق بين النوعين: الثاني والثالث، الحاكم الجائر بغير أحكام الله، والذي يحكم بغير ما أنزل الله ؟
على كل حال كلام الشيخ -رحمه الله- واضح في أنه يجب على المسلم أن يلتزم بشرع الله ودينه، وأن يتحاكم إلى شرع الله، إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن الحاكم الجائر المغير الذي يغير شرع الله ويبدل الدين، هذا معناه غير الدين، الحاكم الجائر المغير لشرع الله من أوله إلى آخره، فهذا بدّل الدين رأسا على عقب.
ولهذا ذكر العلماء - كالحافظ ابن كثير والشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- في رسالة تحكيم القوانين، أنّ من غير أحكام الشريعة كلها رأسا على عقب بلا استثناء، هذا بدّل الدين، فيكون مبدِّلا لدين الله - عز وجل-.
أما من حكم في بعض المسائل، أو في بعض الجزئيات، حكم لأجل الهوى طاعةً للشيطان، طاعةً للهوى، إما لرشوة أو لمال أو رغبة أو رهبة، أو لأجل أن ينفع المحكوم له أو يضر المحكوم عليه، فهذا كفر، إنما كفره كفر أصغر؛ لأنه يعلم أنه على الباطل ويعلم أنه مبطل، ولكنه غلبه الهوى فحكم بغير ما أنزل الله طاعةً للهوى والشيطان.
أما من اعتقد أنه يجوز له أن يحكم بغير ما أنزل الله، فهذا كافر كفرا أكبر؛ لأنه استحل أمرا معلوما من الدين بالضرورة بطلانه، وهو الحكم بغير ما أنزل الله، وهذا أمر محرم، مجمع على تحريمه، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله كفر.
لكن من حكم في بعض المسائل أو في بعض الجزئيات لطاعة الهوى والشيطان وهو يعلم أنه مبطل، ويعلم أنه عاص، ويعلم أنه مستحق العقوبة لكنه حكم طاعةً للهوى والشيطان، فهذا الكفر كفر أصغر ولا يكفر كفرا أكبر، والمسألة فيها تفصيل معروف لأهل العلم، وتفصيلها معروف مفسر في كتب أهل العلم، والتفصيل يحتاج إلى وقت طويل. نعم.(1/125)
يسأل الكثير -فضيلة الشيخ- عن الذين يحكمون بما أنزل الله، ويلزمون الناس، وينشئون محاكم وضعية ويحرمون عليهم ويمنعونهم من التحاكم إلى شرع الله فما حكم من فعل هذا؟
على كل حال هذه المسائل كلها تحتاج إلى تفصيل، ولا يستطيع الإنسان أن يجيب جوابا مجملا لكل قضية، يعني: تدرس من جميع نواحيها وينظر ما الحامل للشخص على هذا، وينظر ما الذي صنعه، هل في قضية أو في قضايا، وما الذي حمله على الإلزام، على كل حال المسألة فيها تفصيل، كما سبق، من بدَّل الدين هذا كفر، ومن حكم في طاعة الله والشيطان في بعض المسائل فإن كفره كفر أصغر. نعم.
هذا سائل من الإنترنت: ماذا لو قاتل على هذا، على محاربة الشرع والحكم بغير الشرع؟
من قاتل وهو يعلم بدون شبهة، من قاتل معناها: حارب المؤمنين، حارب الله ورسوله، يعني: يقاتل المؤمنين ويحارب المؤمنين ويحاكم من يحكم بكتاب الله وسنة رسوله لا شك أنه كافر بدين الله. نسأل الله العافية، نعم.
ما حكم من يقول: دعوى "أن الإيمان يستلزم العمل دعوى" لا أصل لها، هل هذا القول قول المرجئة أم لا؟
نعم، هذا قول المرجئة يقولون: الإيمان يستلزم العمل، العمل لازم للإيمان. ويقولون: العمل ثمرة الإيمان، مقتضى الإيمان، من لوازم الإيمان، أما أهل السنة والجماعة فيقولون: العمل جزء من الإيمان، كما سبق، لا أنه ثمرة؛ لأن الثمرة خارجة عن الشيء، وكذلك الاستلزام؛ اللازم غير الملزوم، والثمرة غير الشيء.
كذلك من قال: إنه شرط الكمال أو شرط الصحة؛ الشرط غير المشروط، الشرط خارج عن المشروط، فمن قال: إن الأعمال شرط الكمال أو شرط الصحة، أو ثمرة الإيمان أو مقتضى الإيمان أو لازم الإيمان، فهذا قول المرجئة؛ لأن اللازم غير الملزوم، والثمرة غير الشيء، والشرط غير المشروط، والمقتضى غير المقتضي.
فمن قال: إن الأعمال ثمرة الإيمان، أو مقتضى الإيمان، أو لازم الإيمان، أو ركن أو شرط الكمال أو شرط الصحة -فهذه كلها أقوال المرجئة نعم.(1/126)
ما حكم من يقول: إن عقيدة أهل السنة في التكفير مبنية على إثبات التلازم بين الباطل والظاهر، فكل من كفر كفرا عمليا أكبر مخرجا عن الملة، فإن هذا الكفر يستلزم ويدل على الكفر الاعتقادي، كما ذكر ذلك الشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله - في أعلام السنة المشهورة، فكفر الظاهر متلازم مع كفر الباطن ومستلزم له، فهل هذا القول صحيح أم لا؟
ما يلزم، قد يقال: إن هذا قول المرجئة أنه يلزم من العمل الاعتقادي، ما يلزم، قد يسب اللهَ ورسولَه شخصٌ بسبب خصومة بينه وبين شخص فيسب الله ورسوله وما يعتقد في قلبه فيكفر بهذا السبب -والعياذ بالله- لو خاصم شخص شخصا ثم سبّ الدين وما يعتقد وهو ما عنده شيء، وما عنده عقيدة، سب الله ورسوله عنده أو استهزئ بالله ورسوله كفر.
والدليل على هذا أن جماعة من الناس في غزوة تبوك سَبُّوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يأكلون كثيرا ويكذبون وهم جبناء عند اللقاء. قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، يعني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قراء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء. يعنون: الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فنزلت الآية الكريمة: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } (1).
فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان في هذه المقالة، فلا يزالون هكذا، قد يكفر الإنسان ولو لم يعتقد بقلبه: قد يكفر إذا داس المصحف بقدميه أو لطخه بالنجاسة، كفر بهذا العمل، شخص مزّق المصحف استهانة به، أو داسه بقدميه متعمدًا أو لطخه بالنجاسة كفر، وسب الله وسب الرسول يكفر، يستهزئ بالله وبكتابه ورسوله كفر، سجد للصنم ولو قال الذي يسجد للصنم: أنا وضعت رأسي أمامه.
__________
(1) - سورة التوبة آية: 65-66.(1/127)
ولهذا ناقش ابن القيم -رحمه الله- يقول: إن الصوفية الذين يسجدون لشيوخهم، شيخ الصوفية يطلب من أتباعه أن يسجدوا له إذا جاء أو يركعوا له، فإذا قيل لهم كيف تسجدون لغير الله؟! قالوا: إن هذا إنما هو وضع الرأس قدام الشيخ احتراما له وتواضعا. فقال ابن القيم ولو سميتموه ما سميتموه، فإن من سجد للصنم فقد وضع رأسه للصنم احتراما له وتواضعا.
فالمقصود أنه لا يلزم منها، ما في تلازم بين العمل وبين القلب، إنما المرجئة هم الذين يقولون: يلزم، إن السجود للصنم ليس بكفر ولكنه دليل على ما في القلب من كفر، فإذا سب الله وسب الرسول ليس الكفر بالسب، وإنما هو دليل على ما في القلب، دليل على الكفر، ومن سجد للصنم لا يكفر لكنه دليل على الكفر، ليس السجود للصنم هو كفر بذاته لكنه دليل على الكفر، والسب: سب الله، وسب الرسول ليس هو الكفر، ولكنه دليل على الكفر.
والصواب أن نفس السب كفر، ونفس السجود للصنم كفر، فالتلازم ربط الكفر بالقلب هذا مذهب المرجئة يقولون: لا، العمل لا بد التلازم بينه وبين القلب، نعم، كما سبق أن الكفر يكون بالقلب بالاعتقاد، ويكون الكفر بالقول باللسان، ويكون الكفر بالعمل كمن سجد للصنم، ويكون الكفر بالإعراض والترك والرفض لدين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، فإذا رفض دين الله لا يعلمه ولا يعبد الله كفر بهذا الرفض والترك، قال -تعالى-: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) } (1).
__________
(1) - سورة السجدة آية: 22.(1/128)
فالرفض والترك والإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، هذا يكون كفر، ولو ما اعتقد بقلبه، ما في تلازم بالقلب: مجرد الرفض والإعراض عن دين الله كفر وردة، إذا سجد للصنم كفر وردة ولو ما اعتقد بقلبه، إذا سب الله وسب الرسول كفر وردة، وإذا اعتقد بقلبه الكفر كفر أيضا، كفر مستقل، فالاعتقاد بالقلب كفر مستقل، اعتقاد الكفر وعمل الكفر كفر مستقل، الاعتقاد بالقلب كفر مستقل، وعمل الكفر بالجوارح كفر مستقل، وقول الكفر باللسان كفر مستقل، والإعراض عن دين الله والرفض والترك لدين الله كفر مستقل. نعم.
هذا يسأل ومجموعة من الإنترنت يعني سريعا في بعض الأحكام، يقول: ما حكم السلام على أهل البدع وأصحاب المذاهب من الفرق الضالة.
أهل البدع لا يسلم عليهم، بل يهجرون إذا كانوا مظهرين لبدعتهم، كان السلف يهجرونهم ولا يسلمون عليهم ولا يكلمونهم، وهذه مسألة الهجر فيها تفصيل لأهل العلم: هجر العصاة والمبتدعة، هل يهجرون أو لا يهجرون؟ الصواب في هذه المسألة الذي قرره العلماء والمحققون - كشيخ الإسلام ابن تيمية - أن الهجر يستعمل كالدواء، فإن كان العاصي أو المبتدع إذا هجرته ترك بدعته وترك معصيته اهجره لا تكلمه ولا تسلم عليه حتى يتوب، أما إذا كان الهجر يزيده شرا فلا تهجره.
بعض العصاة يفرح إذا هجرته، في الأول يراعيك ويترك بعض الشيء، فإذا هجرته صار يزيد في البدع أو يزيد في المعاصي، يعني: لا تهجره، والدليل على هذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هجر الثلاثة: كعب بن مالك وصاحباه: هلال بن أمية وكعب بن الربيع هجرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون خمسين ليلة، ولم يهجر المنافقين.(1/129)
فالهجر كالدواء يستعمل؛ لأن هؤلاء الثلاثة مؤمنون، فالهجر نفعهم وزادهم إيمانا وتقوى وتابوا إلى الله وأنزل الله في توبتهم قرآنا يتلى إلى يوم القيامة: { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) } (1).
ولم يهجر المنافقين، فالمنافقون الذين تخلفوا نفاقا جاءوا وحلفوا أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله، نعم، فالهجر كالدواء، فأهل البدع إذا كان الهجر يفيدهم لا تسلم عليهم ولا تكلمهم ولا تُجِب دعوتهم، وأما إذا كان الهجر يزيدهم شرا فسلم عليهم وانصحهم. نعم.
هذا سائل يسأل أيضا على الإنترنت، يقول: كثر بعض من ينتسب إلى العلم في الكلام حول الغناء، ويجيزونه ويقولون: حتى من حرمه فإن الخلاف بيننا وبينهم سائر، فيقول أيضا: هل الغناء حرام أم فسق ؟
الغناء فسق، الغناء الذي يلهب النفوس ويقعدها، قال -تعالى- { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) } (2) جاء في تفسير الآية أن ابن مسعود حلف أن لهو الحديث الغناء، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري يقول: إن في أمتي قوم يستحلون الحرير والخمر والمعازف (3) وإن كان الحديث رواه البخاري معلقا، إلا أن الحديث موثوق وثابت.
__________
(1) - سورة التوبة آية: 118.
(2) - سورة لقمان آية: 6.
(3) - أبو داود: اللِّبَاسِ (4039).(1/130)
وفي الباب نصوص وأحاديث أخرى، وأحيل السائل إلى "إغاثة اللهفان" لابن القيم؛ فإنه ذكر أدلة كثيرة في هذا، نعم، ويرجع لكتب التفسير على الآيات الكريمات. نعم.
يقول: إذا فاتتني ركعة جهرية لصلاة الجماعة أقضيها جهرية أم سرية ؟.
الذي تقضيه هو آخر صلاتك، إذا كنت أدركت ركعتين من صلاة العشاء وفاتك ركعتان، الذي أدركته مع الإمام هو أول صلاتك، والذي تقضيه هو آخر صلاتك، وعلى هذا فلا تجهر في الركعتين الأخريين، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا (1) وفي رواية: فاقضوا؟ نعم.
إذا فاته من صلاة الفجر ركعة؟
نعم، يجهر إذا كانت من صلاة الفجر عند قراءة الفاتحة، يجهر بها؛ السنة الجهر. نعم.
هذا يسأل يقول: ما الفرق بين تزكية العالم الشخص وتوثيقه له ؟
التوثيق شيء آخر، التوثيق توثيق المحدثين، يوثقونه حتى يؤخذ بروايته، أما التزكية فهو يزكيه أمامه ويكون حاضرا أمامه، هذا منهي عنه، وهو يزكيه ولا يريد مثلا رواية الحديث، وإنما يزكيه هكذا تزكية، ما ينبغي، بل يقول: "أحسبه والله حسيبه"، إذا كانت تزكية ما يترتب عليها شيء.
أما إذا كان يترتب على هذا رواية في الحديث، والمحدث والمحدثين من رواة الحديث، لا بد أن يذكر ما له وما عليه، يذكر ما فيه ولا يسر ما يتعلق براوية الحديث، وهو ما يتعلق بثقته وأمانته وديانته، أما إذا كان ما ليس محدثا فلا يزكيه، بل يقول: "أحسبه والله حسيبه"، وكذلك إذا كان أمامه؛ لأن هذا قد يحمله على العُجْب والكبر. نعم.
إذا كان رجل نطق بالشهادتين ولم يعمل أيَّ عمل فما حكم هذا الرجل في الإسلام، هل هو مسلم أم هو كافر؟
__________
(1) - البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/306) , والدارمي: الصلاة (1283).(1/131)
هذا فيه تفصيل، إذا نطق بالشهادتين ثم توفي، والله يعلم من قلبه أنه ملتزم هذا يكفيه، هذا أمره+ عند الله؛ لأنه ما تمكن، نطق بالشهادتين ثم مات قبل أن يأتي وقت الصلاة، أما من نطق بالشاهدتين ثم رفض العمل وجاء وقت الصلاة فترك الصلاة، فالصواب أنه يكفر إذا تركها حتى خرج الوقت متعمدا، وليس له عذر، وإن كان جاحدا لوجوبها؛ فإن جحوده نقض إيمانه.
والنطق بالشهادتين، إذا نطق بالشهادتين وقال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله"، ثم دخل وقت الصلاة فقيل له: صلِّ فقال: الصلاة غير واجبة. كفر بجحوده، نقض، وإن قال: إنها واجبة لكن لا أصلي حتى خرج الوقت متعمدا وليس له عذر، فالصواب أنه يكفر كفرا أكبر. وقال بعض المتأخرين من الفقهاء: إنه يكفر كفرا أصغر.
والصواب الذي تدل عليه النصوص أنه يكفر كفرا أكبر؛ لما ثبت في صحيح البخاري من حديث بريدة ابن الحصيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله (1) والذي يحبط عمله هو الكافر. نعم.
هذا يقول: آمل التوضيح الدقيق بين الأعمال عند أهل السنة والأعمال عند الخوارج ؟
الخوارج يرون أن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، لكن يقولون: إذا ترك واجبا أو فعل كبيرة ذهب الإيمان كله، الإيمان لا يتجزأ، يقولون: الإيمان يشمل الأعمال كلها مثلما يقول أهل السنة "الإيمان قول وتصديق وعمل"، لكن إذا ترك واجبا أو فعل كبيرة ذهب الإيمان كله.
وأما أهل السنة فإنهم يقولون: الإيمان والتصديق والأعمال، ولكن إذا إذا ترك واجبا أو فعل كبيرة فلا يكفر ولا يذهب الإيمان، بل يَضعُف الإيمان وينقص. نعم.
__________
(1) - البخاري: مواقيت الصلاة (553) , والنسائي: الصلاة (474) , وأحمد (5/349 ,5/357).(1/132)
هذا يقول: قول المؤلف: وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان للدخول فيه لا بالاستكمال عند الله، فهل الشخص إذا أقر بهذا الدين كله لكنه ترك جنس بعض الأعمال، مع إقراره وإصراره على ذلك لا يزال مؤمنا؟
نعم، إذا أقر وأصر فإنه لزمه الدخول في اسم الإيمان، ولكن ما يكون مستكملا حتى يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات، هذا المراد، المراد أنه يطلق عليه اسم الإيمان، لكن ما يطلق عليه الإيمان الكامل حتى يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات، فإن أدى الواجبات وانتهي عن المحرمات فهذا هو المؤمن كامل الإيمان، وإن قصر في بعض الواجبات وارتكب بعض المحرمات فهذا يطلق عليه اسم ناقص الإيمان. نعم.
وإن فعل من أمور الردة شيئا انتقض إيمانه -أعوذ بالله-: كما لو سب الله، أو سب الرسول، أو سجد للصنم، أو دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، انتقض إيمانه. نسأل الله السلام والعافية. نعم.
يقول: كل الأدلة التي سمعناها من الكتاب والسنة تدل على زيادة الإيمان، فما هي الأدلة على نقصانه ؟
كل شيء يزيد فهو ينقص، الشيء الذي يزيد ينقص، ليس هناك شيء يزيد إلا ينقص، إذا كان يزيد بالطاعة ينقص بالمعصية، وهناك أدلة مرت بنا كثيرا تدل على النقصان، نعم، كل شيء يزيد فهو ينقص، وكل شيء ينقص فهو يزيد، الذي يزيد ينقص والذي ينقص يزيد هذا معروف نعم.
يقول: إن الأعمال من الإيمان، وتدخل في مسمى الإيمان، ولكن بعض الإيمان شرط في صحة الإيمان كالصلاة مثلا، أو أعمال القلوب كالاعتقادات، وبعض الأعمال شرط في كمال الإيمان: كالزكاة وبر الوالدين وغيرها، فلو تركها قلّ إيمانه، وإذا استكملها كمل إيمانه.(1/133)
نعم، هذا واضح؛ لأنه مثلا "شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله"، لو شهد أن لا إله إلا الله، ولم يشهد أن محمدا رسول الله ما صح إيمانه، ولو شهد أن محمدا رسول الله، ولم يشهد أن لا إله إلا الله ما صح إيمانه، كذلك من صلى بغير وضوء ما صح إيمانه؛ لأن الوضوء شرط في صحة الإيمان.
الشهادة لله -تعالى- بالوحدانية لا تصح إلا بالشهادة لنبيه بالرسالة، والشهادة لنبيه بالرسالة لا تصح إلا بالشهادة لله بالوحدانية، وكذلك الصلاة شرط، الصواب أنها شرط في صحة الإيمان، لا يصح الإيمان إلا بها، أما الواجبات الأخرى التي ليست شرطا فهذه يضعف الإيمان بها وينقص. نعم.
ومن من المعلوم أن الإسلام والإيمان إذا تفرقا ولم يذكرا جميعا دخل كل واحد منهما في الآخر ودل أحدهما على الآخر، ولكن إذا اجتمعا سويا هل تكون الأعمال من مسمى الإيمان أم يكون التصديق فقط؟.
نعم، تكون الأعمال من مسمى الإيمان، يأتي إن شاء الله الكلام عليه، غدا إن شاء الله.
حديث: يخرج من النار من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان وبرة من إيمان (1) هل يدل على أن من ترك الصلاة يدخل الجنة؟
الصواب، أن من ترك الصلاة لم يبق في قلبه ولا ذرة ولا برة، ينتهي الإيمان بالمرة، الإيمان ما ينتهي إلا بالكفر وترك الصلاة كفر، أما المعاصي ولو عظمت ولو كثرت ما تذهب الإيمان، تضعف الإيمان حتى ما يبقي إلا مثقال ذرة أو مثقال شعيرة ولو كثرت الذنوب، إلا إذا جاء الكفر؛ إذا جاء الكفر قضى على الإيمان بالمرة وما يبقى شيء ولا مثقال ذرة، وترك الصلاة كفر يقضي على الإيمان. أعوذ بالله، نعم.
يقول البعض: من عمل مكفرا فإنه لا يكفر باطنا وإنما يكفر ظاهرا، وباطنه يُوَكَّل إلى الله؟
__________
(1) - البخاري: التوحيد (7510) , وأحمد (3/247).(1/134)
أقول: من عمل كفرا وحكم عليه بالكفر، يكفر عليه الباطن والظاهر، ويحكم عليه بالخلود في النار، لكن لا بد من قيام الحجة عليه، ما يكفر الشخص الذي يعمل الكفر حتى تقوم عليه الحجة، يكون عالما بهذا الشيء.
المقصود أن فعل كفرا أكبر يحكم عليه بأنه كافر باطنه وظاهره -والعياذ بالله- ويخلد في النار -ونسأل الله السلامة والعافية-، وهذا إنما هو ليس المؤمن ما يفعل هذا من كيفه، يأخذ هذا من كتاب الله وسنة رسوله، النصوص هي التي دلت على هذا، ما هو من كيفه أن يقول هذا الكلام، إنما هو من كلام الله وكلام رسوله، من كفره الله ورسوله كافر كفرا أكبر، فهو كافر ومخلد في النار؛ لأن الله حكم على الكافرين بالخلود في النار، فالله -تعالى- هو الذي كفرهم، وهو الذي حكم عليهم بالخلود. نعم.
هذا يقول: أَشْكَلَ علي أن شهادة أن لا إله إلا الله أول الإيمان وأعلاه، فهل علو الشهادة مرتبط بتحقيقها، أم أن علوها مطلق بمجرد أدائها صادقا فيها، وما دامت الأعمال التي هي دونها تزيد المؤمن إيمانا أكثر منها فكيف تكون الأعلى! وكذلك الأدنى أهو مرتبط بالعمل -أي: أدنى العمل- أم أدنى الإيمان؟
الأعلى: الأفضل، يعني: أفضلها، ويدل على ذلك الحديث اللفظ الآخر: "أفضلها"، أعلاها يعني: أفضلها، أفضلها وأوجبها وأهَمُّها، هذا المراد. نعم.
السؤال الأخير يقول: كيف تكون أول الإيمان وأعلاه ما لم تكن بها مؤمن ؟
نعم، تكون أولها وأعلاها وأفضلها، هي أول الإيمان وهي أفضل الإيمان وهي أوجب الإيمان، لا معارضة لا تنافر، نعم، لا بد من الإخلاص، ما تصح إلا بالإخلاص والصدق، لو قالها بلسانه وهو لم يعتقد المعنى بقلبه ما نفعت ولا صحت، لا بد منها. نعم.(1/135)
هذا السؤال الأخير يقول: الكفر كفران -يعني: يسأل عن هذه العبارة-: كفر اعتقادي يخرج من الملة، وكفر عملي ينقسم إلى نوعين: كفر عملي ينبني على كفر اعتقادي، مثل السجود للصنم، فهو كفر عملي في ذاته، وهو وهو ينبئ عن كفر اعتقادي، وكفرٌ عملي مجرد عن كفر اعتقادي، مثل الطعن في النسب.
لا يسأل + مثل هذا الكلام، الكفر كفران: كفر اعتقادي، وكفر عملي. فالكفر الاعتقادي يخرج من الملة، مثل: من كذب الله أو كذب الرسول، أو أبغض الله وأبغض رسوله، أو سب ما جاء به الرسول، أو صار يُسَرّ في ضعف الإسلام والمسلمين وانخفاض دين الرسول، أو يكره انتصار المسلمين وعلو الإسلام، وهذا كفر اعتقادي صاحبه من أهل الدرك الأسفل في النار، أعوذ بالله.
والكفر العملي ينقسم إلى قسمين: قسم ينافي الإيمان بالكلية، كما لو كان شركا في العبادة وناقضا في الإسلام مثل: السجود للصنم، ومثل تعلم السحر وتعليمه، ومثل سب الله وسب الرسول، هو كفر عملي لا يخرج من الملة، وهو الذي لا يكون شركا في العبادة ولا ناقضا في الإسلام، وإنما هو معصية مثل ما جاء في الحديث: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (1).
__________
(1) - البخاري: الإيمان (33) , ومسلم: الإيمان (59) , والترمذي: الإيمان (2631) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5021) , وأحمد (2/357 ,2/397 ,2/536).(1/136)
هذا النفاق الأصغر ومثله الكفر صنفان في الناس، الطعن في النسب والنياح على الميت هذا كفر أصغر، معصية، مثل إذا قال رجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض (1) ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (2).
هذا كله كفر أصغر والمعاصي؛ لأنها ليست شركا في العبادة ولا ناقضا من نواقض الإسلام، وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
باب الزيادة في الإيمان والانتقاص منه
النصوص والآثار التي تدل على زيادة الإيمان ونقصانه
أثر معاذ "اجلس بنا نؤمن ساعة"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: "باب الزيادة في الإيمان والانتقاص منه"
قال أبو عبيد حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي عن سفيان عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال، قال معاذ بن جبل لرجل: اجلس بنا نُؤْمِن ساعة. يعني: نذكر الله. وبهذا القول كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس يرون أعمال البر جميعا من الازدياد في الإسلام؛ لأنها كلها عندهم منه.
__________
(1) - البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/358 ,4/363 ,4/366) , والدارمي: المناسك (1921).
(2) - البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: الإيمان (2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4106) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/454).(1/137)
وحجتهم في ذلك ما وصف الله به المؤمنين في خمسة مواضع من كتابه، منه قوله: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) } (1) وقوله: { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا } (2) وقوله: { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } (3) وموضعان آخران قد ذكرناهما في الباب الأول، فاتَّبَع أهل السنة هذه الآيات وتأولوها أن الزيادات هي الأعمال الزاكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا الباب ذكر فيه المؤلف -رحمه الله- النصوص والآثار التي تدل على زيادة الإيمان ونقصانه وعلق عليها بما يدل على على وضوحها وصراحتها في زيادة الإيمان ونقصانه، فقال: "باب الزيادة في الإيمان والانتقاص منه"، قال أبو عبيد هو المؤلف -رحمه الله- ثم ذكر سنده إلى معاذ بن جبل - رضي الله عنه- قال: اجلس بنا نؤمن ساعة، يعني: نذكر الله.
معنى "نؤمن"، يعني: يزداد إيماننا، وإلا فهم مؤمنون، الصحابة مؤمنون، يعني: اجلس بنا نؤمن ساعة، يعني: نذكر الله. فإذا ذكر الله زاد إيمانه، فالمؤمن إذا عمل الطاعات زاد إيمانه، وإذا عمل المعاصي نقص إيمانه، كل شيء يزيد فهو ينقص.
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 173.
(2) - سورة المدثر آية: 31.
(3) - سورة الفتح آية: 4.(1/138)
فالمؤمن إذا ذكر الله وتلا القرآن، أو أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر، أو دعى إلى الله وصلى وصام وزكى وحج وجاهد في سبيل الله، وأحسن إلى الناس وامتنع عن المحرمات طاعة لله ولرسوله -فإنه يزيد إيمانه، وإذا فعل المعاصي نقص إيمانه؛ ولهذا قال معاذ - رضي الله عنه- لرجل اجلس بنا نؤمن ساعة. يعني: نذكر الله، يعني: فيزداد إيمانه بذكر الله - عز وجل-.
قال المؤلف رحمه الله: "وبهذا القول" يعني: القول بزيادة الإيمان ونقصانه، "كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس وغيرهم من أهل العلم"، هذا مثال، مثل بسفيان الثوري والأوزاعي ومالك بن أنس وهذا قول جميع الصحابة والتابعين والأئمة والعلماء، منهم الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعمرو بن الشعبي وغيرهم من أهل العلم وأهل الحديث.
كلهم يقولون بهذا القول، وأن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويرَوْن أن أعمال البر جميعا من الازدياد في الإسلام؛ لأن الزيادة في الإسلام والإيمان لأنها عندهم منه، يعني: أعمال البر كلها من الإسلام ومن الإيمان، فأعمال البر من الصلاة والصوم والصدقة والحج، وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الناس، والأمر بالمعروف وكف الأذى والبعد عن المحرمات -كل هذه الأعمال تسمى برا، وتسمى تقوى وتسمى إيمانا، وهي إيمان وهي إسلام وهي بر وهي تقوى.
وبهذا القول يكون المؤلف كان يأخذ سفيان والأوزاعي ومالك مثالا: مثل مالك بن أنس من الصحابة والأوزاعي من التابعين وسفيان كذلك من بعدهم، فمثل لكل طبقة بواحد. يقول المؤلف -رحمه الله-: "وحجتهم في ذلك ما وصف الله به المؤمنين في خمسة مواضع من كتابه" يعني: وصفهم بزيادة الإيمان.(1/139)
منه قول الله - عز وجل- { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) } (1) هذه الآية صريحة في زيادة الإيمان، قوله: { فَزَادَهُمْ إِيمَانًا } (2) وقوله - عز وجل- { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا } (3) وقوله: { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا } (4) دليل صريح واضح في أن الإيمان يزيد، وقوله - عز وجل- { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } (5) وهو صريح في زيادة الإيمان.
كل شيء يزيد فهو ينقص، فالإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ثم قال المؤلف -رحمه الله- "وموضعان آخران قد ذكرناهما في الباب الأول"، فلم يذكر المؤلف++ فيما سبق، وهذان الموضعان أحدهما في سورة التوبة، وهي قول الله - عز وجل- { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) } (6) والثاني في سورة الأنفال في قول الله - عز وجل- { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) } (7).
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 173.
(2) - سورة آل عمران آية: 173.
(3) - سورة المدثر آية: 31.
(4) - سورة المدثر آية: 31.
(5) - سورة الفتح آية: 4.
(6) - سورة التوبة آية: 124.
(7) - سورة الأنفال آية: 2.(1/140)
فهذه خمسة مواضع من كتاب الله - عز وجل- تدل على زيادة الإيمان، وإذا كان الإيمان يزيد فهو ينقص، قال المؤلف -رحمه الله-: "فاتبع أهل السنة هذه الآيات وتأولوها أن الزيادات هي الأعمال الزاكية"، اتبع أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة والعلماء، كلهم عملوا بهذه الآيات واتبعوها وقرروا أن الإيمان يزيد وينقص، خلافا للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وهو شيء واحد، إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد.
"وتأولوها أن الزيادات هي الأعمال الزاكية" الأعمال الزاكية: أعمال البر وأعمال التقوى، الواجبات والفرائض والمستحبات، إذا فعل المسلم زاد إيمانه، وإذا قصّر في الواجبات أو ارتكب بعض المحرمات نقص إيمانه. نعم.
مذهب المرجئة وتأويلهم للنصوص التي فيها تصريح بزيادة الإيمان
وأما الذين رأوا الإيمان قولا ولا عمل، فإنهم ذهبوا في هذه الآيات إلى أربعة أوجه: أحدها أن قالوا: أصل الإيمان الإقرار بجمل فرائض، مثل: الصلاة والزكاة وغيرها، والزيادة بعد هذه الجمل، وهو أن تؤمنوا بأن هذه الصلاة المفروضة هي خمس، وأن الظهر هي أربع ركعات والمغرب ثلاث، وعلى هذا رأوا سائر الفرائض.
والوجه الثاني: أن قالوا: أصل الإيمان الإقرار بما جاء من عند الله، والزيادة تمكن من ذلك الإقرار. والوجه الثالث: أن قالوا: الزيادة في الإيمان الازدياد من اليقين. والوجه الرابع: أن قالوا: إن الإيمان لا يزداد أبدا، ولكن الناس يزدادون منه.
نعم، ذكر المؤلف -رحمه الله- في هذا مذهب المرجئة وتأويلهم لهذه النصوص التي فيها تصريح بزيادة الإيمان، فقال: -"وأما الذين رأوا قولا ولا عمل" هم المرجئة؛ لأنهم رأوا الإيمان قولا وقلبا وهو التصديق والإقرار "ولا عمل" يعني: ولا يدخل العمل في المسميات. هذا قول المرجئة(1/141)
أما الذين رأوا الإيمان قولا، يعني: هو قول القلب وتصديقه وإقراره بدون عمل، فإنهم ذهبوا في هذه الآيات إلى أربعة أوجه، يعني تأولوا هذه الآيات الخمس الصريحة في أن الإيمان يزيد، تأولوها بأربعة تأويلات:
التأويل الأول: قالوا: أصل الإيمان الإقرار بجمل الفرائض، مثل: الصلاة والزكاة وغيرها، قالوا: أصل الإيمان معناه: هو أن يقر المسلم في جمل هذه الفرائض. يعني: يؤمن بها إيمانا إجمالا، يؤمن بأن الله فرض الصلاة، ويؤمن بأن الله فرض الزكاة، بأن الله قد فرض الصوم، فرض الحج.
ثم بعد ذلك جاءت النصوص بتفصيل هذه النصوص المجملة ففصلت الصلاة، جاء تفصيل الصلاة بأن الصلاة المفروضة خمس صلوات في اليوم والليلة، وبأن صلاة الظهر أربع ركعات، وصلاة العصر أربع ركعات، وصلاة المغرب ثلاث ركعات.. إلى آخره، وكذلك أيضا الزكاة جاء تفصيلها ببيان نصب الزكاة واشتراط الحول للأموال، لما يشترط له الحول وهكذا.
وهكذا الصوم جاء تفصيله بأنه صوم شهر رمضان، وبأنه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهكذا الحج جاء تفصيله بأنه لا يجب إلا في العمر مرة، فتأولوا الزيادة على أنها على الزيادة في الإيمان، على أن المراد تفصيل النصوص المجملة، قالوا: فالنصوص المجملة النصوص جاءت بوجوب الصوم والصلاة والزكاة والحج، فآمن بها المسلمون ثم جاء تفصيلها بعد ذلك. فالتفصيل هو الزيادة، تأولوا الزيادة على أنها تفصيل، هذا التأويل الأول.(1/142)
التأويل الثاني: قالوا: إن أصل الإيمان هو الإقرار بما جاء من عند الله والتصديق، وأما الزيادة، قوله: { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا } (1) تأولوها على أنها الزيادة هي التمكن من ذلك الإقرار "ليزدادوا إيمانا" يعني: ليتمكنوا من الإقرار، ليتمكن الإقرار ويثبت في قلوبهم ويرسخ. فعلى هذا يكون الإيمان التصديق والإقرار، ومعنى قوله: { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا } (2) يعني: يتقوى الإيمان ويرسخ ويثبت في قلوبهم.
والتأويل الثالث: تأولوا الزيادة على أنها الزيادة من اليقين: { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا } (3) يعني: يزدادون يقينا، فالإيمان واحد لكن الزيادة المراد بها الازدياد من اليقين، زيادة يقين، الإيمان موجود واليقين حاصل، ولكن المراد تأويل الزيادة في الآيات الزيادة من اليقين.
والتأويل الرابع: تأولوا الآيات بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولكن الناس هم الذين يزدادون منه، الناس هم الذين يزدادون من الإيمان، الإيمان لا يزيد لكن الناس هم الذين يزدادون منه. فهذه أربعة تأويلات للنصوص، وسيتعقبها المؤلف -رحمه الله- ببيان بطلان هذه التأويلات. نعم.
بطلان تأويل المرجئة أثر اجلس بنا نُؤْمِن ساعة
وكل هذه الأقوال لم أجد لها مُصدِّقا في تفسير الفقهاء ولا في كلام العرب فالتفسير ما ذكرناه عن معاذ حين قال: "اجلس بنا نُؤْمِن ساعة"، فيُتوهَّم على مثله أن يكون لم يعرف الصلوات الخمس ومبلغ ركوعها وسجودها إلا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد فضله النبي - صلى الله عليه وسلم - على كثير من أصحابه في العلم بالحلال والحرام، ثم قال: يتقدم العلماء برتوة هذا لا يتأوله أحد يعرف معاذا
__________
(1) - سورة الفتح آية: 4.
(2) - سورة الفتح آية: 4.
(3) - سورة المدثر آية: 31.(1/143)
المؤلف -رحمه- الله ناقش تأويلهم الأول وقال: لا يمكن هذا التأويل، لا يمكن أن يضاف إلى معاذ بن جبل -رحمه الله- الصحابي الجليل -رضي الله- حينما قال للرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة" لأن التأويل الأول معناه أن معاذا مقصوده "نؤمن" يعني: نزداد من تفصيل النصوص المجملة، الفرائض المجملة.
فالإيمان هو الإيمان بوجوب الصلاة ووجوب الزكاة ووجوب الصوم ووجوب الحج، هذا هو الإيمان، والزيادة معناها: معرفة النصوص التي فيها تفصيل: تفصيل الصلاة وأنها خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن صلاة الفجر ركعتان، وأن صلاة الظهر أربع ركعات.. إلى آخره، وتفصيل الزكاة وأنها لا بد لها من النصاب ولا بد لها من الحول، وتفصيل الصوم.
يقول: هذا التأويل لا يمكن أن ينطبق على معاذ بن جبل -رحمه الله ورضي عنه- حينما يقول لصاحبه: "اجلس بنا نؤمن ساعة" لأنه على هذا التأويل يكون المعنى أن معاذ بن جبل -رحمه الله- لم يعرف الصلوات الخمس، ولم يعرف ركوعها ولا سجودها ولا عددها إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا يمكن.
لا يمكن أن يقال: إن معاذا -رحمه الله ورضي عنه- ما عرف تفاصيل الصلاة وتفاصيل شروط الزكاة وشروط الحج إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أَعلَمُكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل فَضّله النبي - صلى الله عليه وسلم - على كثير من أصحابه وقال: يتقدم العلماء برتوة يعني: برمية سهم.
فهل يقول إنسان: إن معاذ بن جبل -رحمه الله- ما عرف تفاصيل وجوب الصلاة ووجوب الصوم ووجوب الحج وعدد ركعات الصلاة وشروط وجوب الزكاة إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا لا يمكن، لا يقوله إنسان، فدل على بطلان هذا التأويل. نعم.(1/144)
بطلان تأويل المرجئة من ناحية اللغة
وأما في اللغة فإنا لم نجد المعنى فيه يحتمل تأويلهم، وذلك كرجل أقر له رجل بألف درهم له عليه، ثم بيَّنها فقال: مائة منها في جهة كذا، ومائتان في جهة كذا، حتى استوعب الأَلْف، ما كان هذا يسمى زيادة، وإنما يقال له: تلخيص وتفصيل. وكذلك لو لم يلخصها ولكنه ردد ذلك الإقرار مرات، ما قيل له: زيادة أيضا، إنما هو تكرير وإعادة؛ لأنه لم يغير المعنى الأول ولم يزد فيه شيئا.
إنما+ هذا فيه بيان بطلان هذا التأويل الأول من اللغة، بطلان التأويل الأول في تفسير الفقهاء عند الفقهاء وعند أهل العلم: لا يمكن أن يكون معاذ بن جبل -رحمه الله ورضي عنه- ما عرف تفاصيل الصلاة والزكاة والصوم والحج إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم-.
وأما في اللغة أيضا، فإن هذا باطل، وذلك لو أن رجلا أقر لشخص بألف درهم وقال: فلان له علي ألف درهم مجملة. ثم فصلها بعد ذلك وبينها فقال: مائة منها أعطانيها في بلد كذا، ومائة منها أعطانيها في مكة، ومائتان مثلا في المدينة، ومائتان في الرياض.. وهكذا، وجعل يفصلها حتى استوعب الألف، هل يسمى هذا زيادة؟ قوله: "مائتان.. كذا"، حينما فصلها، ما يسمى زيادة في اللغة.
وكذلك لو كررها وقال: له علي ألف، له على ألف، له علي ألف. ما يقال: إن هذا زيادة، وإنما يقال: هذا تلخيص وتفصيل لما أقر. إذا أقر شخص لشخص بأن له عليه ألف، فقال: له علي ألف. ثم فصلها وقال تفصيلها: أعطاني مائة في الرياض، ومائة في القصيم، ومائة في الدمام، ومائة في المدينة. هل يقال: إنه حينما قال: أعطاني مائة في كذا ومائة في كذا هذه زيادة، أو يقال: هذا تفصيل؟ يقال: هذا تفصيل وتلخيص.(1/145)
وكذلك لو كررها وقال: له علي ألف، له علي ألف. هذا إنما هو تكرير وإعادة ولا يسمى تفصيلا، وبهذا يتبين بطلان هذا التأويل عند الفقهاء وعند أهل اللغة، يعني: يتبين بطلان هذا التأويل شرعا ولغة، من جهة اللغة ومن جهة الشرع باطل هذا التأويل. نعم.
بطلان تأويل المرجئة الإيمان لا يزداد أبدا ولكن الناس يزدادون منه والرد عليهم
فأما الذين قالوا: يزداد من الإيمان ولا يكون الإيمان هو الزيادة، فإنه مذهب غير موجود؛ لأن رجلا لو وصف ماله فقيل: هو ألف، ثم قيل: إنه ازداد مائة بعدها، ما كان له معنى يفهمه الناس إلا أن يكون المائة هي الزائدة على الألف، وكذلك سائر الأشياء، فالإيمان مثلها لا يزداد الناس منه شيئا، إلا كان ذلك الشيء هو الزائد بالإيمان.
نعم، وهذا أيضا فيه إبطال لتأويلهم بقولهم: إنه يزداد من الإيمان، ولا يكون الإيمان هو الزيادة، ولكن الناس يزدادون من الإيمان -التأويل الرابع قولهم: إن الإيمان لا يزداد أبدا، ولكن الناس يزدادون منه. يقول: هذا مذهب غير موجود، هذا مذهب باطل، وبيان ذلك لو أن رجلا وصف ماله فقيل له: ألف، ثم قيل: إنه ازداد مائة بعدها، ما كان له معنى يفهم إلا أن تكون المائة هي الزائدة على الألف.
وكذلك سائر الأشياء، فكذلك الإيمان مثلها لا يزداد الناس منه شيئا إلا كان ذلك الشيء هو الزائد بالإيمان، وهذا فيه بطلان للتأويل الرابع بقولهم في قولهم: الإيمان لا يزداد، ولكن الناس يزدادون منه. الناس يزدادون من الإيمان، والإيمان لا يزداد، يكون هذا باطل، وهذا غير معروف، وغير مفهوم.(1/146)
وبيان ذلك: أنه لو وصف مال شخص فقيل: مال هذا الشخص ألف، زاد ماله مائتان، وزاد ماله سيارة، وزاد ماله بيتا، فهل يقال: إنه لم يزدد هذا الشيء؟ هل يقال إن: المال لا يزداد، ولكن هو يزداد منه؟! لا يمكن أن يقال هذا، بل المال زاد، وهو يزداد منه، فكذلك الإيمان لا يزداد الناس شيئا منه إلا كان ذلك الشيء هو الزائد بالإيمان، فإذا ازداد الناس من الإيمان ازاداد الإيمان.
أما قولهم: إن الإيمان لا يزداد، ولكن الناس يزدادون منه. هذا باطل، هذا تناقض، كل شيء يزداد منه الإنسان فهو يزيد، يزداد هو بنفسه، فإذا ازددت من المال زاد المال، إذا ازددت من الإيمان زاد الإيمان، أما قولهم وتأويلهم: إن الإيمان لا يزداد، ولكن الناس يزدادون منه. فهذا مذهب باطل وتفريق بين متماثلين، لا فرق بين قولك: الناس يزدادون من الإيمان، والإيمان لا يزداد. هذا تناقض لا يمكن؛ لأن الإنسان إذا ازداد من الإيمان زاد الإيمان، فكذلك المال، إذا كان عندك مال وازددت منه فلا بد أن يزيد المال؛ كل شيء تزداد منه فهو يزيد، فبطل هذا التأويل. نعم.
بطلان تأويل المرجئة الزيادة بالإيمان المراد بها الازدياد من اليقين والرد عليهم
وأما الذين جعلوا الزيادة ازدياد اليقين فلا معنى لهم؛ لأن اليقين من الإيمان، فإذا كان الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار، ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم، أفليس قد أحاطوه باليقين من قولهم؟ فكيف يُزداد من شيء قد استقصي وأحيط به، أرأيتم رجلا نظر إلى الناس بالضحى حتى أحاط عليه كلِه بضوئه، هل كان يستطيع أن يزداد يقينا بأنه نهار، ولو اجتمع عليه الإنس والجن، هذا يستحيل ويخرج مما يعرفه الناس.(1/147)
هذا رد على تأويلهم الثالث في قولهم: الزيادة بالإيمان المراد بها الازدياد من اليقين، المؤلف -رحمه الله- ما رتبها في الرد، فرد عليها لكن بغير ترتيب، فهو الآن يبطل قولهم: إن المراد من الزيادة بالإيمان الازدياد من اليقين. يقول: هذا باطل؛ لأن اليقين من الإيمان إذا قيل: الإنسان يزداد من اليقين، إذا ازداد يقين الإنسان زاد إيمانه، فإذا ازداد اليقين زاد الإيمان.
فقولهم: إن الزيادة في الإيمان يعني: الازدياد من اليقين، هذان الأمران متلازمان، فإذا زاد اليقين زاد الإيمان، وإذا نقص الإيمان نقص اليقين، فقولهم: إن الزيادة من اليقين لا من الإيمان هذا باطل؛ لأن اليقين من الإيمان، ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: وأما الذين جعلوا الزيادة ازدياد اليقين فلا معنى لها؛ لأن اليقين من الإيمان، فإذا كان الإيمان عندهم -يعني: المرجئة - كله برمته -يعني: كاملا في القلب- إنما هو الإقرار، يعني: التصديق.
فالمرجئة عندهم الإيمان كامل برمته يعني: كامل بالإقرار، والإقرار معناه التصديق بالقلب، فإذا صدق وآمن وأقر بقلبه كمل الإيمان في قلبه، هذا عند المرجئة هذا معنى قوله: "فإذا كان الإيمان عندهم كله برمته إنما هو الإقرار، ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم، أفليس قد أحاطوه باليقين من قولهم؟"
ما دام أن الإيمان هو التصديق والإقرار يكون كاملا في القلب، واستكملوه بقلوبهم، فقد أحاطوه باليقين من قولهم، فكيف يقال: إن الزيادة إنما هي الزيادة من اليقين لا من الإيمان. ما دام إن الإيمان هو الإقرار عند المرجئة والتصديق بالقلب، وأنه كامل في القلب، فهذا كامل اليقين، إذا كمل الإيمان كمل اليقين، وإذا نقص الإيمان نقص اليقين.(1/148)
فإذا كان الإيمان كله عند المرجئة إنما هو الإقرار، ثم استكمله هؤلاء المقرون بإقرارهم فقد أحاطوه باليقين، فكيف يزداد من شيء قد استقصي وأحيط به، كيف يزداد من شيء هو كامل في قلبه؟ عند المرجئة الإيمان كامل، كامل في القلب بمجرد الإقرار والتصديق، فكيف يؤولون الآيات ويقولون: معناها الازدياد من اليقين. اليقين هو الإيمان؛ الإيمان كامل في القلب، واليقين كامل في القلب، فإذا كمل الإيمان في القلب فقد أحاطه باليقين، فكيف يزداد من شيء قد استقصي وأحيط به وكمل؟!
ثم ضرب لهذا مثلا فقال: "أرأيتم رجلا نظر إلى النهار بالضحى حتى أحاط عليه كله بضوئه، هل كان يستطيع أن يزداد يقينا بأنه نهار"، إذا نظر إنسان إلى النهار بالضحى، يقال: إن هذا الشخص أحاط بالنهار وبضوئه، هل يستطيع أن يزداد يقينا بأنه نهار، ولا اليقين كامل في نفسه؟
إنسان في الضحى أحاط بضوء النهار وتيقن النهار، وواقف في الضحى في الصحراء، ألا يقال: إن هذا أحاط بالنهار؟ هذا أحاط بالنهار، فكيف يقال: إنه يزداد يقينا بأنه نهار! لا يمكن؛ لأن اليقين حاصل له، فلا يحتاج إلى زيادة بعد ذلك، فكذلك قولهم: إن الإيمان كامل في القلب مجرد الإقرار والتصديق، ثم يؤولون الزيادة في الإيمان بأنها زيادة في اليقين.
الإيمان كامل في القلب واليقين كامل، فكيف يزداد من شيء قد كمل؟! ولهذا قال المؤلف: "ولو اجتمع عليه الإنس والجن" هذا يستحيل، ويخرج مما يعرفه الناس، لو اجتمع عليه الإنس والجن وأرادوا أن يزيد من هذا يقينا من النهار وهو في وسط النهار في رابعة النهار في الصحراء، ما استطاعوا أن يزيدوه يقينا؛ لأن اليقين حاصل له وكامل له. نعم.
باب تسمية الإيمان بالقول دون العمل
أدلة من جهة النظر والعقل والنصوص على تفاوت الناس في الإيمان
الإيمان المفروض في صدر الإسلام هو التوحيد فقط
"باب تسمية الإيمان بالقول دون العمل"(1/149)
قال أبو عبيد قالت هذه الفرقة: إذا أقر بما جاء من عند الله وشهد شهادة الحق بلسانه، فذلك الإيمان كله؛ لأن الله - عز وجل - سماهم مؤمنين، وليس ما ذهبوا إليه عندنا قولا ولا نراه شيئا، وذلك من وجهين: أحدهما -ما أعلنتك بالثلث الأول- أن الإيمان المفروض في صدر الإسلام لم يكن يومئذ شيئا إلا إقرار فقط.
وأما الحجة الأخرى فإنا وجدنا الأمور كلها يستحق الناس بها أسماءها مع ابتدائها والدخول فيها، ثم يَفْضُل فيها بعضهم بعضا، وقد شملهم فيها اسم واحد، من ذلك أنك تجد القوم صفوفا بين مستفتح للصلاة وراكع وساجد وقائم وجالس، فكلهم يلزمه اسم المصلي، فيقال لهم: مصلون، وهم مع هذا فيها متفاضلون.
وكذلك صناعات الناس، لو أن قوما ابتنوا حائطا، وكان بعضهم في تأسيسه، وآخر قد نَصَفه، وثالث قد قارب الفراغ منه، قيل لهم جميعا: بناة، وهم متباينون في بنائهم.
نعم، وهذا الباب في تسمية الإيمان بالقول دون العمل، قال أبو عبيد وهو المؤلف -رحمه الله-: قالت هذه الفرقة -يعني: المرجئة -: إذا أقر بما جاء من عند الله وشهد شهادة الحق بلسانه فذلك الإيمان كله. هذا مذهب المرجئة أنه إذا أقر بما جاء من عند الله وصدق وأقر واعترف وصدق بقلبه وشهد بلسانه -يعني: نطق بلسانه- فذلك الإيمان كله، كامل في القلب ولو لم يعمل، وحجتهم قالوا: لأن الله - عز وجل - سماهم مؤمنين.
المؤلف -رحمه الله- رد عليهم من وجهين: قال: "وليس ما ذهبوا إليه عندنا قولا، ولا نراه شيئا، وذلك من وجهين: أحدهما -ما أعلمتك في الثلث الأول من الكتاب- أن الإيمان المفروض في صدر الإسلام لم يكن يومئذ شيئا إلا إقرار فقط"، يعني: أن الله -سبحانه وتعالى- فرض على المسلمين في مكة قبل الهجرة الإيمان والتوحيد فقط.(1/150)
فرض عليهم الإيمان والإقرار والتصديق وتوحيد الله - عز وجل - والبعد عن الشرك، ولم تفرض الواجبات، ما فرضت الزكاة ولا الصوم ولا الحج، إلا الصلاة فرضت فيه لعظم شأنها قبل الهجرة بسنة أو بسنتين أو ثلاثة، لكن الأذان ما شرع إلا في المدينة والزكاة والصوم والحج والحدود، كلها في المدينة أما في مكة فالواجب عليهم الإيمان والإقرار والتوحيد، توحيد الله - عز وجل -.
فهذا الوجه الأول الذي رد به المؤلف -رحمه الله- على المرجئة في قولهم: إنه يكفي الإقرار بالقلب والشهادة باللسان بدون العمل؛ لأن الله سماهم مؤمنين. يقول المؤلف -رحمه الله-: لا نرى هذا القول شيئا، ورد عليه من وجهين:
الوجه الأول: أن الإيمان المفروض في صدر الإسلام إنما هو التوحيد والعمل بما شرع بعد الهجرة إلى المدينة لما ثبت التوحيد ورسخ الإيمان في القلوب وابتعدوا عن الشرك، بعد ذلك شرعت الأعمال، فرضت الفرائض وشرعت الحدود؛ لأن التوحيد والإيمان هو أصل الدين وأساس الملة، وهو الذي تبنى عليه الأعمال، ولا يصح العمل إلا إذا بني على التوحيد والإيمان، وأصل الدين وأساس الملة الشهادة لله -تعالى- بالوحدانية، ولنبيه - صلى الله عليه وسلم- بالرسالة، توحيد الله - عز وجل - وهذا هو الواجب على المؤمنين في مكة قبل الهجرة إلى المدينة
وأما الحجة الثانية التي رد بها المؤلف -رحمه الله- قال: إنا وجدنا الأمور كلها يستحق الناس بها أسماءها مع ابتدائها والدخول فيها، ثم يفضل فيها بعضهم بعضا، وقد شملهم فيها اسم واحد. يعني: يقول: إن الإنسان إذا دخل في الشيء استحق هذا الاسم مع الابتداء والدخول فيه، وإن كان الناس يتفاضلون فيه، فإذا أقر المسلم وصدق وآمن بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم- نبيا ورسولا، دخل في الإسلام، دخل في الإسلام وشمله اسم الإيمان.(1/151)
وآخرُ كذلك أقر ثم أيضا عمل: صلى، وصام، وزكى، وحج. وآخر زاد على ذلك وأدّى النوافل، فعل النوافل والمستحبات. كلهم يشملهم اسم الإيمان من حين ابتدائهم، من حين ابتداء دخولهم فيه، لكن يفضل بعضهم بعضا، ومثَّل لذلك قال: من ذلك أنك تجد القوم صفوفا في الصلاة، تجد هذا كبّر ويستفتح الصلاة، وتجد الثاني راكعا، وتجد الثالث ساجدا، وتجد الثالث قائما، وتجد الرابع يتشهد.
كلهم يسمَّوْن مصلين، وهم متفاوتون، هذا مُصَلٍّ في أول الصلاة في الركعة الأولى، وهذا مُصلٍّ في الركعة الثانية، وهذا مُصلٍّ في الركعة الثالثة، وهذا مُصلٍّ في الركعة الرابعة، من حين يكبر ويدخل في الصلاة اسمه مُصلٍّ، وإن كانوا متفاوتون: بعضهم في أول الصلاة، وبعضهم في وسطها، وبعضهم في آخرها.
فكذلك المؤمن إذا دخل في الإيمان سُمي مؤمنا، ومن أدى الواجبات وترك المحرمات يسمَّى مؤمنا، ومن زاد وأدى النوافل والمستحبات يُسمَّى مؤمنا، لكن يتفاضلون: فالذي يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات هذا من المقتصدين، والذي يكون عنده نشاط -ونحو ذلك، ويؤدي المستحبات والنوافل، ويبتعد عن المكروهات وفضول المباحات- هذا من السابقين الأولين، وهو مؤمن، والمؤمن الذي يقصر في بعض الواجبات ويرتكب بعض المحرمات هذا ظالم لنفسه، وهو مؤمن وكلهم مؤمنون.
فالظالم لنفسه مؤمن لكنه مؤمن ناقص الإيمان، والمقتصد الذي أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات مؤمن، والسابق بالخيرات الذي أدى الواجبات وفعل المستحبات والنوافل وترك المحرمات والمكروهات وفضول المباحات مؤمن أيضا، وهم متفاوتون، فكذلك الناس في الإيمان يتفاوتون.(1/152)
وكذلك الصناعات يتفاوت الناس فيها، ومثل المؤلف -رحمه الله-: لو أن قوما ابْتَنَوْا حائطا وكان بعضهم يؤسس الحائط، وآخر في طرف الحائط قد بلغ نصف الحائط، والثالث قرب الفراغ منه، كلهم جميعا يبنون حائطا واحدا، لكن أولهم يحفر الأساس، والثاني في آخر الحائط مشى حتى انتصف في الحائط، والثالث قرب الفراغ منه، كلهم يسمون بناة، وهم متباينون في البناء: هذا في أول البناء، وهذا في وسط البناء، وهذا في آخره.
فكذلك المؤمنون كلهم يُسمَّون مؤمنين، هذا دخل في الإسلام من جديد، وهذا أدى الواجبات وترك المحرمات، وهذا فعل المستحبات والنوافل، كلهم مؤمنون. نعم.
مثال يدل على تفاضل الناس وتفاوتهم في الإيمان
وكذلك لو أن قوما أُمُروا بدخول دار فدخلها أحدهم، فلما تعتب الباب أقام مكانه، وجاوزه الآخر بخطوات، ومضى الثالث إلى وسطها، قيل لهم جميعا: داخلون، وبعضهم فيها أكثر مُدخلا من بعض؛ فهذا الكلام المعقول عند العرب السائر فيهم، فكذلك المذهب في الإيمان إنما هو دخول في الدين، قال الله -تبارك وتعالى-: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } (1).
نعم، وهذا مثال آخر ضربه المؤلف -رحمه الله-، مثّل به قال: "وكذلك لو أن قوما أمروا بدخول دار" عندك جماعة ضيوف وقفوا عند الباب، فتقول: تفضلوا حياكم الله. فدخل أحدهم، فلما تعتب الباب جاوز العتبة جلس، وجاوزه الآخر بخطوات وجلس، ومضى الثالث إلى المجلس، وبعضهم جلس في الحوش مثلا، قيل لهم جميعا: داخلون، وبعضهم فيها أكثر مُدخلا من بعض، وهذا كلام معقول عند العرب
__________
(1) - سورة النصر آية: 1-3.(1/153)
فكلهم في الدار، الواقع اللي جلس عند الباب، واللي جلس في المجلس، واللي جلس في الحوش، واللي جلس في السطح، كلهم يسمَّوْن داخلين. فكذلك الداخلون في الإيمان يتفاوتون؛ ولذلك قال المؤلف: "كذلك المذهب في الإيمان إنما هو دخول في الدين، قال الله -تعالى-: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } (1) نعم، هم يدخلون في دين الله، وهما متفاوتون، إيمانهم متفاوت. نعم.
قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة"
وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } (2) فـ "السلم" الإسلام، وقوله: "كافة" معناها عند العرب الإحاطة بالشيء.
نعم، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ } (3) يعني: في الإسلام. "كافة" معناها: الإحاطة بالشيء، "ادخلوا في السلم كافة": ادخلوا فيه، في جميعه، فهم يدخلون في الإسلام وهم متفاوتون. نعم.
حديث "بني الإسلام على خمس"
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بني الإسلام على خمس (4) فصارت الخمس كلها هي الملة التي سماها الله سِلْمًا مفروضا، فوجدنا أعمال البر، وصناعات الأيدي، ودخول المساكن، كلها تشهد على اجتماع الاسم وتفاضل الدرجات فيها.
__________
(1) - سورة النصر آية: 1-3.
(2) - سورة البقرة آية: 208.
(3) - سورة البقرة آية: 208.
(4) - البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26).(1/154)
نعم، يعني يقول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم- بني الإسلام على خمس (1) وهذا الحديث رواه الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام (2).
قال المؤلف: "فصارت الخمس كلها هي الملة التي سماها الله سلما مفروضا"، يعني: إسلاما مفروضا؛ لأن هذه الأركان هي عمد الإسلام وأسسه التي لا يقوم ولا يستقيم إلا بها، فمن استقام عليها وأداها عن صدق وإخلاص فلا بد أن يؤدي بقية الأعمال وشرائع الإسلام.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: "فوجدنا أعمال البر، وصناعات الأيدي، ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم وتفاضل الدرجات فيها"، يعني: أعمال البر يدخل الناس فيها ويتفاوتون كما سبق، يتفاوت الناس في صدقاتهم وكلهم متصدق، هذا تصدق بأَلْف وهذا تصدق بألفين، وهذا تصدق بثلاثة آلاف، وهذا تصدق بريال، كلهم متصدقون، كلهم يشملهم اسم المتصدق، لكنهم متفاوتون.
وكذلك المصلون يتفاوتون، وكذلك المحسنون يتفاوتون، وكذلك يتفاوتون في الصناعات مع أنهم كلهم يشملهم اسم الصناعة، وكذلك في دخول المساكن؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم مع تفاضل الدرجات فيها.
__________
(1) - البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26).
(2) - البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26 ,2/120 ,2/143).(1/155)
هذه الأدلة إنما هي أدلة من جهة النظر والعقل تضاف إلى الأدلة التي دلت عليها النصوص من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- فدلت النصوص من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- ودل النظر الصحيح على أن الإيمان درجات ومنازل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإن كان الناس كلهم وإن كانوا مؤمنين وإن كانوا كلهم يسمَّوْن مؤمنين إلا أنهم يتفاوتون في هذا الإيمان. نعم.
النصوص والعقل يدلان أن الإيمان درجات
فوجدنا أعمال البر وصناعات الأيدي ودخول المساكن كلها تشهد على اجتماع الاسم وتفاضل الدرجات فيها، هذا في التشبيه والنظر مع ما احتججنا به من الكتاب والسنة.
يعني يقول: احتججنا بالنظر والعقل، واحتججنا بالنصوص من الكتاب والسنة، يعني يقول: دلت النصوص من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- على أن الإيمان درجات ومنازل والناس يتفاضلون فيه وكذلك دل على ذلك العقل والنظر الصحيح. نعم.
الإيمان مبني على العمل
فهكذا الإيمان هو درجات ومنازل وإن كان سُمِّيَ أهلُه اسمًا واحدًا، وإنما هو عمل من أعمال تعبد الله به عباده وفرَضه على جوارحهم، وجعل أصله في معرفة القلب، ثم جعل المنطق شاهدا عليه، ثم الأعمال مصدقةً له، وإنما أعطى الله كل جارحةٍ عملا لم يعطه الأخرى، فعمل القلب الاعتقاد، وعمل اللسان القول، وعمل اليد التناول، وعمل الرجل المشي، وكلها يجمعها اسم العمل.
فالإيمان على هذا التناول إنما هو كله مبني على العمل، إلا أنه يتفاضل في الدرجات على ما وصفنا.
نعم، يقول المؤلف -رحمه الله-: الإيمان كله عمل: أعمال القلوب، وأعمال الجوارح ,وأعمال اللسان، كلها أعمال تعبد الله بها عباده وفرضها على جوارحهم، وفرض الله على الإنسان أن يؤمن ويصدق ويقر بقلبه، وفرض عليه أن ينطق بلسانه، عمل اللسان النطق بالشهادتين، وعمل القلب الإقرار والتصديق، والجوارح كذلك لها أعمال.(1/156)
وأصله: تصديق القلب وإقراره وإيمانه، ثم النطق بالشهادتين شاهد على ما في القلب وينبع عما في القلب، ثم الأعمال تصدق هذا الإيمان، فالإيمان أصله التصديق والإقرار والاعتراف، الإيمان بالقلب بالتصديق والإقرار والاعتراف، وهذا أصل الإيمان، التصديق بالقلب وإقراره، ثم النطق بالشهادتين شاهد لهذا الإقرار، ثم أعمال الجوارح تصدق هذا الإيمان.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: "وإنما أعطى الله كل جارحةٍ عملا لم يعطه الأخرى" كل جارحة من الجوارح لها عمل تعبده الله بها: فعمل القلب الاعتقاد، وعمل اللسان القول والنطق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وتلاوة القرآن والذكر.. إلى غير ذلك.
وعمل اليد التناول، يتناول بها ويأخذ ويعطي، وعمل الرجل المشي، وكلها يجمعها اسم العمل؛ فالإيمان على هذا التناول إنما هو كله مبني على العمل، فالإيمان مبني على العمل من أوله إلى آخره، إلا أنه يتفاضل في الدرجات على ما وصفناه، فعمل القلب الاعتقاد والتصديق والإقرار، وعمل اللسان النطق، والجوارح أيضا تعمل. نعم.
تناقض قول المرجئة الإيمان قول دون عمل
وزعم من خالفنا أن القول دون العمل، فهذا عندنا متناقض؛ لأنه إذا جعله قولا فقد أقر أنه عمل، وهو لا يدري بما أعلمتك من العلة الموهومة عند العرب في تسمية أفعال الجوارح عملا.
نعم، "وزعم من يخالفنا" وهم المرجئة أن الإيمان هو القول دون العمل، القول يعني: قول القلب وإقراره وتصديقه، زعمت المرجئة أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره، وأن العمل لا يدخل في مسماه. يقول المؤلف: -رحمه الله- هذا متناقض. متناقض لماذا؟ لأنه إذا جعله قولا فقد أقر أنه عمل؛ لأن قول القلب وإقراره وتصديقه عمل، هذا عمل القلب؛ وذلك أن العرب تسمي أفعال الجوارح عملا.(1/157)
وسيستدل المؤلف -رحمه الله- على تسمية قول اللسان عملا، فيقول: إن المرجئة متناقضون في قولهم: "إن الإيمان هو القول دون العمل" لأن هذا القول الذي هو التصديق والإقرار هو عمل للقلب، وقول اللسان ونطقه هو عمل، يسمى عملا، جاء في النصوص في تسمية النطق باللسان عملا، وكذلك العرب تسمي أفعال الجوارح عملا.
فأفعال الجوارح تسمى عملا، وأقوال اللسان تسمى عملا، عمل للسان، وإقرار القلب وتصديقه عمل للقلب، نعم، وسيستدل على هذا بالنصوص. نعم.
نصوص تدل على تسمية عمل القلب عملا
وتصديقه في تأويل الكتاب في عمل القلب واللسان، قول الله في القلب: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } (1) وقال: { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } (2) وقال: { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (3) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إن في الجسد لمضغةً، إذا صلحت صلح سائر الجسد، وهي القلب (4) وإذا كان القلب مطمئنا مرة ويصغى أخرى ويوجل ثالثة، ثم يكون منه الصلاح والفساد، فأي عمل أكثر من هذا.
__________
(1) - سورة النحل آية: 106.
(2) - سورة التحريم آية: 4.
(3) - سورة الأنفال آية: 2.
(4) - البخاري: الإيمان (52) , ومسلم: المساقاة (1599) , وابن ماجه: الفتن (3984) , وأحمد (4/270 ,4/274) , والدارمي: البيوع (2531).(1/158)
هذه النصوص استدل بها المؤلف -رحمه الله- على تسمية عمل القلب عملا، وأن عمل القلب سماه عملا، طمأنينة القلب كونه يصغى ويوجل وكونه يصلح ويفسد، كل هذه أعمال؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: وتصديقه في تأويل الكتاب في عمل القلب قول الله: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } (1) فوصف القلب بأنه يطمئن، وهذا عمل عمل القلب يطمئن: { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (2) وجل القلب، هذا عمل القلب.
وفي الحديث، قال النبي - صلى الله عليه وسلم- إن في الجسد لمضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله (3) المؤلف رواه بالمعنى من حديث: إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب (4) فنسب الصلاح والفساد إلى القلب، فدل على أن القلب له أعمال، فالقلب يكون مطمئنا، يوصف بأنه مطمئن، ويوصف بأنه يصغى، ويوصف بأنه يوجل، ويوصف بأنه يصلح، ويوصف بأنه يفسد، يقول: فأي عمل أكثر من هذا! نعم.
ثم بين ما ذكرنا قوله: { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } (5) فهذا ما في عمل القلب.
__________
(1) - سورة النحل آية: 106.
(2) - سورة الأنفال آية: 2.
(3) - البخاري: الإيمان (52) , ومسلم: المساقاة (1599) , وابن ماجه: الفتن (3984) , وأحمد (4/270) , والدارمي: البيوع (2531).
(4) - البخاري: الإيمان (52) , ومسلم: المساقاة (1599) , وابن ماجه: الفتن (3984) , وأحمد (4/270) , والدارمي: البيوع (2531).
(5) - سورة المجادلة آية: 8.(1/159)
نعم، وكذلك: { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ } (1) يعني: في قلوبهم يقولون: سرا في قلوبهم، وقد ينطقون به بألسنتهم، قال: { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } (2) فسماه قولا وهو عمل، عمل القلب، وجاء في تفسير هذه الآية: { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ } (3) أي: يقولون للناس سرا بألسنتهم. نعم.
نصوص تدل على تسمية قول اللسان عملا
وأما عمل اللسان فقوله: { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) } (4) فذكر القول ثم سماه عملا، ثم قال: { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) } (5).
هل كان عمل رسول - صلى الله عليه وسلم- معهم إلا دعاؤه إياهم إلى الله وردهم عليه قوله بالتكذيب، وقد أسماها ها هنا عملا، وقال في موضع ثالث: { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) } (6) إلى: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) } (7) فهل يكون التصديق إلا بالقول، وقد جعل صاحبها ها هنا عاملا؟! قال: { اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا } (8) فأكثر ما يعرف الناس من الشكر أنه الحمد والثناء باللسان، وإن كانت المكافأة قد تُدعَى شكرًا.
هذا في احتجاج المؤلف -رحمه الله- على تسمية قول اللسان عملا، احتج عليهم بأربع حجج:
__________
(1) - سورة المجادلة آية: 8.
(2) - سورة المجادلة آية: 8.
(3) - سورة المجادلة آية: 8.
(4) - سورة النساء آية: 108.
(5) - سورة يونس آية: 41.
(6) - سورة الصافات آية: 51-52.
(7) - سورة الصافات آية: 61.
(8) - سورة سبأ آية: 13.(1/160)
الحجة الأولى: قول الله -تعالى-: { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) } (1) فقوله: { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } (2) فعملهم ما هو؟ تبييتهم قولا لا يرضاه الله، فسماه الله عملا بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) } (3) يعني: من هذا القول الذي بيتوه.
فسماه عملا فدل على أن قول اللسان يسمى عملا: { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) } (4) قول المؤلف: "فذكر القول ثم سماه عملا": { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) } (5).
الدليل الثاني، أو الحجة الثانية: قول الله تعالى في سورة يونس: { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) } (6) سمى قول النبي - صلى الله عليه وسلم- عملا، الرسول -عليه الصلاة والسلام- عمله ما هو؟ دعوتهم إلى الله وتبليغهم رسالة الله بلسانه. فسماه عملا في قوله: { لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } (7).
ما هو عمل الرسول؟ عمل الرسول دعاؤهم إياهم إلى الله وتبليغهم رسالة الله وإنذارهم وتخويفهم. وهم ردوا -المشركون- على النبي - صلى الله عليه وسلم- قوله بالتكذيب، وسماه الله ها هنا عملا، فسمى دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم- لهم عملا، وسمى تكذيبهم له بالقول عملا، هذا عمل وهذا عمل.
__________
(1) - سورة النساء آية: 108.
(2) - سورة النساء آية: 108.
(3) - سورة النساء آية: 108.
(4) - سورة النساء آية: 108.
(5) - سورة النساء آية: 108.
(6) - سورة يونس آية: 41.
(7) - سورة يونس آية: 41.(1/161)
فعمل النبي - صلى الله عليه وسلم- دعائه إياهم بلسانه وقوله، وعملهم تكذيبهم له بالقول، فسمى هذا عملا وهذا عملا، فقال: { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) } (1).
الدليل الثالث، أوالحجة الثالثة: قول الله -تعالى- في سورة الصافات: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) } (2).
هذه الآيات فيها محاورة بين مؤمن وكافر، هناك مؤمن، هذا المؤمن له قرين في الدنيا، وهذا القرين يكذب بالبعث، فلما مات صار هذا القرين الكافر في النار، والمؤمن صار في الجنة، فلما جعل المؤمن يتحدث مع إخوانه المؤمنين، وتذكر حال قرينه الكافر الذي ينكر البعث: { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) } (3) المؤمنون: { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) } (4).
__________
(1) - سورة يونس آية: 41.
(2) - سورة الصافات آية: 50-61.
(3) - سورة الصافات آية: 50.
(4) - سورة الصافات آية: 51.(1/162)
كان لي قرين في الدنيا ينكر البعث ويقول -يعني: يخاطب المؤمن-: { أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) } (1) تصدق بأنك إذا مت وكنت ترابا وعظاما سوف تبعث وتجازى وتحاسب؟ فقال وهو محال: { هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) } (2) يعني: هل نطلع ننظر حالك؟
فاطلعوا وهم في الجنة في أعلى عليين، والنار في أسفل سافلين، فاطلع المؤمن على قرينه الكافر فوجده يتقلب في النار في وسط الجحيم: { فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) } (3) انظر معي البعد العظيم، كم بين الجنة والنار! الجنة في أعلى عليين والفردوس الأعلى أعلاها والسقف هو عرش الرحمن، والنار في أسفل سافلين ومع ذلك المؤمن صار يتفرج على الكافر في النار، ورآه يتقلب في وسط الجحيم.
والله -تعالى- أعطانا مثالا في هذه الدنيا الآن: الآن الإنسان يشاهد من في المشرق ومن في المغرب الآن، كما تبصر في الشاشة الآن، كما تشاهدون فهذا نموذج الآن، فالمؤمن يخاطب الكافر مع بعد المسافة، وهو يرى المؤمن في الجنة في أعلى عليين، والكافر في أسفل سافلين، فالمؤمن ينظر إلى الكافر وهو يتقلى في سواء الجحيم مع بعد المسافة، ينظر إليه.
__________
(1) - سورة الصافات آية: 52-53.
(2) - سورة الصافات آية: 54.
(3) - سورة الصافات آية: 55.(1/163)
كشف الله له ينظر إليه ويخاطب أيضا، قال المؤمن للكافر الذي يقلى في وسط الجحيم: { تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) } (1) "كدت لتردين" لتضلني؛ لأنك تنكر البعث: { وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) } (2) ثم يقال: { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى } (3) أنت تنكر البعث: { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) } (4) ثم قال الله: { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) } (5).
هذا الشاهد، فالشاهد أن المحاورة بين المؤمن والكافر قول، قوله سماه الله عملا، فقال: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) } (6) وجَّه المؤلف هذه الآيات، لكن الآية: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) } (7) يعني: لمثل هذا اليوم العظيم الذي يلاقي الإنسان فيه ربه ويلقى جزاءه يعمل العاملون، التوحيد والإخلاص، توحيد الله وإخلاص الدين لله، وأداء الفرائض والامتناع عن المحارم والاستقامة على دين الله، والوقوف عند حدود الله: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) } (8).
__________
(1) - سورة الصافات آية: 56.
(2) - سورة الصافات آية: 57.
(3) - سورة الصافات آية: 58-59.
(4) - سورة الصافات آية: 58-59.
(5) - سورة الصافات آية: 60-61.
(6) - سورة الصافات آية: 61.
(7) - سورة الصافات آية: 61.
(8) - سورة الصافات آية: 61.(1/164)
المؤلف -رحمه الله- استدل بقوله: { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) } (1) استدل بقول الله: { أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) } (2) قال: إن التصديق سماه الله عملا بقوله: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) } (3) فهذا المؤمن صدق بلقاء الله وبالبعث وبالجزاء وبالنشور ووحد الله، فسماه الله عملا بقوله: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) } (4) يقول المؤلف: فهل يكون التصديق إلا بالقول، وقد جعل صاحبها ها هنا عاملا؟!
ثم الدليل الرابع، والحجة الرابعة: استدل بقول الله -تعالى-: { اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا } (5) فسمى العمل شكرا. يقول المؤلف -رحمه الله- "أكثر ما يعرف الناس من الشكر أنه الحمد والثناء باللسان، وإن كانت المكافأة قد تُدعَى شكرا" والصواب أن الشكر يكون بالقلب ويكون باللسان ويكون بالجوارح: بالقلب تعظيم الله وخشيته وإجلاله واعتراف بنعمه، ويكون باللسان يتحدث بالنعمة ونسبتها إلى المنعم -جل وعلا- ويكون بالجوارح، صارت هذه النعمة في طاعة الله واستعمالها في مرضاة الله - عز وجل -. نعم.
تسمية الكلام عملا دلت عليه لغة العرب
فكل هذا الذي تأولنا إنما هو على ظاهر القرآن، وما وجدنا أهل العلم يتأولونه، والله أعلم بما أراد، إلا أن هذا هو المستفيض في كلام العرب غير المدفوع، فتسميتهم الكلام عملا، من ذلك أن يقال: "لقد عمل فلان اليوم عملا كثيرا"، إذا نطق بحق وأقام الشهادة ونحو ذلك.
وكذلك إن أسمع رجلٌ صاحبَه مكروها، قيل: قد عمل به الفاقرة، وفعل به الأفاعيل، ونحوه من القول. فسموه عملا وهو لم يزده على المنطق، ومنه الحديث المأثور: من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه .
__________
(1) - سورة الصافات آية: 51-52.
(2) - سورة الصافات آية: 52.
(3) - سورة الصافات آية: 61.
(4) - سورة الصافات آية: 61.
(5) - سورة سبأ آية: 13.(1/165)
يقول المؤلف -رحمه الله-: كل هذه هذه النصوص التي تأولناها، تأولناها لأن ظاهر القرآن يدل عليها، ووجدنا أيضا أهل العلم يتأولون بهذا التأويل ويفسرونها بهذا التفسير، النصوص دلت على تفسير القول بالعمل، وكذلك أهل العلم، وهذا هو المستفيض أيضا في كلام العرب ولا يوجد ما يدفعه أنهم يسمون الكلام عملا.
ومن ذلك أيضا في لغة العرب يقال: "لقد عمل فلان اليوم عملا كبيرا" إذا نطق بالحق وأقام الشهادة ونحو هذا، إذا نطق الإنسان بالحق وأقام الشهادة وأدى الشهادة، تقول العرب عمل فلان اليوم عملا كثيرا، وهو ما نطق بلسانه، نطق بالشهادة، نطق بالحق وقال الحق وتكلم بالحق، فسموا هذا عملا، فيقولون: لقد عمل فلان اليوم عملا.
وكذلك إذا أسمع رجل صاحبه كلاما سَيِّئًا يكرهه، تقول العرب قد عمل به الفاقرة، وفعل به الأفاعيل. وإنما تكلم بكلام سيئ، فسماه عملا وهو لم يزد على المنطق.
المؤلف -رحمه الله- يقول: إن تسمية الكلام عملا دلت عليه النصوص، ودلت عليه أيضا لغة العرب ومنه الحديث المأثور: مَن عَدَّ كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه هذا المُحشِّي يقول: لم أجد هذا الحديث، وأغلب الظن أنه موقوف فيحتاج إلى مراجعة الحديث، ويحتمل أنه من الحكمة: "من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه" فالشاهد من القول: "من عد كلامه من عمله" فأدخل الكلام في العمل. نعم.
ترجيح مذهب أهل السنة والجماعة
فوجدنا تأويل القرآن وآثار النبي - صلى الله عليه وسلم- وما مضت عليه العلماء، وصحة النظر كلها تصدق أهل السنة في الإيمان، فيبقى القول الآخر، فأي شيء يبتدع بعد هذه الحجج الأربعة؟(1/166)
نعم، يقول المؤلف -رحمه الله-: إنا وجدنا النصوص من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وإجماع العلماء والنظر الصحيح كلها تدل لمذهب أهل السنة والجماعة من أن الإيمان: قول باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح وأن أقوال الإنسان تسمى عملا، وكذلك أيضا النظر الصحيح واللغة؛ فصارت الأدلة التي تدل على مذهب أهل السنة والجماعة من أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن أقوال اللسان وأعمال القلوب وتصديق القلب، كلها داخلة في مسمى الإيمان. دلَّ على هذا القرآن الكريم، النصوص من كتاب الله -تعالى-، والآثار من سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم- وإجماع العلماء، والنظر الصحيح كلها تصدِّق أهل السنة في الإيمان.
" فيبقى القول الآخر -يعني قول المرجئة الذي يقول: "الإيمان هو قول القلب وتصديقه- فأيُّ شيء يتبع بعد هذه الحجج الأربع؟" الحجج الأربع التي استدل بها على أن قول اللسان يسمى عملا: { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ } (1) الحجج الأربعة الأدلة التي استدل بها المؤلف على أن قول اللسان داخل في العمل، يقول: فأي شيء يتبع بعد هذه الحجج الأربع؟ نعم.
مناقشة المؤلف للمرجئة وإلزامهم بإثبات الإيمان لإبليس اليوم
__________
(1) - سورة النساء آية: 108.(1/167)
وقد يلزم أهل هذا الرأي ممن يدَّعي أن المتكلم بالإيمان مستكمِل له من التَبِعة ما هو أشد مما ذكرنا، وذلك فيما قصَّ علينا من نبأ إبليس في السجود لآدم فإنه قال: { إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) } (1) فجعله الله بالاستكبار كافرًا، وهو مقرٌّ به غير جاحد له، ألا تسمع: { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) } (2) وقوله: { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي } (3)؛ فهذا الآن مقر بأن الله ربه، وأثبت القدر أيضًا في قوله: { أَغْوَيْتَنِي } (4).
وقد تأوَّل بعضهم قوله: { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) } (5) أنه كان كافرًا قبل ذلك، ولا وجه لهذا عندي؛ لأنه لو كان كافرًا قبل أن يُؤمر بالسجود لما كان في عداد الملائكة، ولا كان عاصيًا إذا لم يكن ممن أمر بالسجود، وينبغي في هذا القول أن يكون إبليس قد عاد إلى الإيمان بعد الكفر؛ لقوله: { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي } (6) وقوله: { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) } (7) فهل يجوز لمن يعرف الله وكتابه، وما جاء من عنده، أن يثبت الإيمان لإبليس اليوم ؟.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 34.
(2) - سورة الأعراف آية: 12.
(3) - سورة الحجر آية: 39.
(4) - سورة الحجر آية: 39.
(5) - سورة البقرة آية: 34.
(6) - سورة الحجر آية: 39.
(7) - سورة الأعراف آية: 12.(1/168)
هذه مناقشة من المؤلف -رحمه الله- للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان كامل في القلب بمجرد الإقرار والتصديق، يكْمُل الإيمان في قلبه. يقول المؤلف -رحمه الله-: يلزم أهل هذا الرأي، وهم المرجئة ممن يدَّعي أن المتكلم بالإيمان مستكمل له من التبعة -يعني من النقد والردِّ- ما هو أشدُّ مما ذكرنا، وذلك في قصة إبليس التي قصَّها الله علينا في القرآن الكريم، حينما أمر الله -تعالى- الملائكة بالسجود لآدم، قال الله -تعالى-: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) } (1) يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "جعله الله بالاستكبار كافرًا، جعله كافرًا بالاستكبار، من استكبر وعارض أمر الله بالاستكبار فإنه يكون كافرًا، ولو كان مقرًّا، لا ينفعه الإقرار؛ لأن الكفر يكون بالإباء والاستكبار؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: فجعله الله بالاستكبار كافرًا، وهو مقرٌّ به غير جاحد، ألا تسمع -يعني: إقراره- بقوله: { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) } (2) قال: { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي } (3) قال: { رَبِّ فَأَنْظِرْنِي } (4).
__________
(1) - سورة البقرة آية: 34.
(2) - سورة الأعراف آية: 12.
(3) - سورة الحجر آية: 39.
(4) - سورة الحجر آية: 36.(1/169)
إذن معترف بربوبية الله ومصدق بالأمر، لكنه عارض أمر الله بالإباء والاستكبار، لم يعارضه بالتكذيب، ما كذَّب الأمر، ولكن عارضه بالإباء والاستكبار والرفض؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: جعله الله بالاستكبار كافرًا وهو مقرٌّ به غير جاحد، حيث إنه قال: { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) } (1) وقال: { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي } (2) يعني: هو عارض أمر الله بالاستكبار، ويقول: عنصري أحسن من عنصر آدم؛ عنصر آدم الطين، وعنصر إبليس النار، والنار أفضل من الطين -هكذا يقول إبليس- ولا يمكن أن يخضع الفاضل للمفضول؛ ولهذا قال: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) } (3).
فإذن هو عارض أمر الله بالرفض والاستكبار، ولم يردَّ أمر الله بالتكذيب، فهو مقرٌّ ومصدِّق بلسانه، ومعترف أيضًا بقلبه بربه وأمره، ومع ذلك ما نفعه؛ لأنه عارض أمر الله بالاستكبار، فيقول: فهذا الآن مقر بأن الله ربه، ويقول: هذا -يعني إبليس- مقرٌّ بأن الله ربه، ولم ينفعه هذا الإقرار؛ بسبب استكباره عن عبادة الله، وأثبت القدر أيضًا، إبليس مُثْبت للقدر، أثبت القدر في قوله: { أَغْوَيْتَنِي } (4).
يقول المؤلف: وقد تأوَّل بعضهم قول الله -تعالى-: { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) } (5) أنه كان كافرًا قبل ذلك، يقول: ولا وجه لهذا عندي؛ لأنه لو كان كافرًا قبل أن يؤمر بالسجود لما كان في عداد الملائكة. لو كان كافرًا قبل أن يؤمر بالسجود ما أُمر بالسجود، ما كان دخل في قوله -تعالى-: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ } (6) ولا كان عاصيًا حينما امتنع من السجود.
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 12.
(2) - سورة الحجر آية: 39.
(3) - سورة الأعراف آية: 12.
(4) - سورة الحجر آية: 39.
(5) - سورة البقرة آية: 34.
(6) - سورة البقرة آية: 34.(1/170)
ثم قال يرد هذا القول: وينبغي في هذا القول أن يكون إبليس قد عاد إلى الإيمان بعد الكفر. يعني: من قال: إن إبليس كان كافرًا قبل ذلك، يعني يلزمه أن يقول: إن إبليس كان كافرًا قبل ذلك، ثم عاد إلى الإيمان بعد الكفر، حيث إنه قال: { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي } (1) وقال: { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) } (2) ثم بين شناعة هذا القول، فقال: فهل يجوز لمن يعرف الله وكتابه، وما جاء من عنده، أن يثبت الإيمان لإبليس اليوم -يعني: بقوله: { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) } (3) - ؟ هذا لا يمكن، فدلَّ على أن إبليس إنما هو كان كفره بالإباء والاستكبار، بعد أن كان مخاطبًا مع الملائكة بالسجود.
باب من جعل الإيمان المعرفة بالقلب وإن لم يكن عمل
قال أبو عبيد قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا في أن العمل من الإيمان، على أنهم -وإن كانوا لنا مفارقين- فإنهم ذهبوا إلى مذهب قد يقع الغلط في مثله، ثم حَدَثَت فِرقة ثالثة، شذَّت عن الطائفتين جميعًا، ليست من أهل العلم ولا الدين، فقالوا: "الإيمان معرفة للقلوب بالله وحده، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل". وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية؛ لمعارضته لكلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- بالردِّ والتكذيب.
__________
(1) - سورة الحجر آية: 39.
(2) - سورة الأعراف آية: 12.
(3) - سورة الأعراف آية: 12.(1/171)
هذا الباب عقده المؤلف -رحمه الله- للردِّ على الجهمية وهم المرجئة المحضة الغلاة، الذين يرَوْن أن الإيمان مجرد معرفة الرب بالقلب، يقولون: الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جحد الرب بالقلب. فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن عند الجهم بن صفوان ولا يكون كافرًا، ولو فعل جميع المنكرات والكبائر، ولو فعل الكبائر، وأنواع الردَّة، وهدَم المساجد، وقتل الأنبياء والمصلحين، فلا يكون كافرًا إلا إذا جهِل ربَّه بقلبه.
هذا أفسد ما قيل في حدِّ الإيمان وتعريفه، وهو قول الجهم أفسد ما قيل في تعريف الإيمان تعريف الجهم يقول: الإيمان هو معرفة بالقلب.. معرفة الرب بالقلب.
يقول المؤلف: قال أبو عبيد وهو المؤلف -رحمه الله-: قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيَّانا -المراد بهم: مرجئة الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه- يقول: قد ذكرنا -فيما سبق- أن مرجئة الفقهاء فارقونا في أي شيء ؟ في أن العمل من الإيمان: نحن نقول: العمل من الإيمان، وهم يقولون: العمل ليس من الإيمان، وعلى أنهم -وإن كانوا مفارقين لنا ومخالفين، ومذهبهم مذهب باطل- إلا أن هذا المذهب قد يقع الغلط في مثله، قد يكون صاحبه له شبهة، يغلط، لكن المصيبة فرقة حَدَثَت وشذت عن الطائفتين جميعًا، وهم الجهمية وهم المرجئة المحضة الغلاة، المصيبة: مذهب الفرقة الثالثة التي شذت عن الطائفتين.(1/172)
شذت عن مذهب أهل السنة والجماعة وشذت عن مذهب مرجئة الفقهاء وإن كان ليس بصحيح، وهم يقولون: إن العمل ليس داخلا في مسمى الإيمان، لكن يقولون: العمل مطلوب، الواجبات واجبات والمحرمات محرمات، ومن فعل الواجبات فهو مثاب، إذا كان صادرًا عن إخلاص ومتابعة، ويستحق الثواب والمدح، ومن فعل الكبائر عليه الوعيد الشديد، ويقام عليه الحد إذا كان عليه حد، وهو (غالط) لكن الواجبات واجبات والمحرمات محرمات، وإن كان هذا القول -يعني- غلطا، إلا أنه أهون بكثير من مذهب الجهمية والمرجئة المحضة؛ لأن هؤلاء -وإن كانوا من أهل العلم وأهل الدين، أبا حنيفة وأصحابه وغيره، ولهم شبهة- لكن المصيبة أنه حَدَثَت فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعًا، الطائفتين: أهل السنة والجماعة وطائفة مرجئة الفقهاء وليسوا من أهل العلم والدين، فقالوا: الإيمان معرفة بالقلوب بالله وحده فقط، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل. مجرد ما يعرف الإنسان ربه بقلبه -هذا هو الإيمان عند الجهمية - ولو لم يعمل، ولو لم يقل شيئًا، ولو لم يفعل شيئًا من الواجبات، حتى قالوا: إن من صدَّق بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان، ويدخل الجنة من أول وهلة، ولو لم يفعل شيئًا من الواجبات، ولو ارتكب جميع المحرمات والكبائر.
قال المؤلف -رحمه الله-: وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنيفية -جمع مفرده الملة الحنيفية- لأنه يعارض كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم- بالردِّ والتكذيب؛ لأن هذا انسلاخ من الدين بالكلية، وإبطال للشرائع، إبطال للكتب المنزلة، وإبطال لما جاءت به الرسل، فهو مذهب باطل؛ لانسلاخه من العلم والدين، ومخالفته لما جاء به المرسلون، وما أنزل الله به من الكتب، نعم.
مناقشة المؤلف قول الجهمية والرد عليهم(1/173)
ألا تسمع قوله: { قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } (1) الآية، فجعل القول فرضًا حتمًا، كما جعل معرفته فرضًا، ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم. ثم أوجب مع الإقرار الإيمانَ بالكتب والرسل، كإيجاب الإيمان، ولم يجعل لأحد إيمانًا إلا بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم- في كل ما جاء به، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } (2) وقال: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } (3) وقال: { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (4) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم- فلم يجعل الله معرفتهم به -إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم- إيمانًا، ثم سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان، فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله (5) فيه أشياء كثيرة من هذا لا تحصى.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 136.
(2) - سورة النساء آية: 136.
(3) - سورة النساء آية: 65.
(4) - سورة البقرة آية: 146.
(5) - البخاري: تفسير القرآن (4777) , ومسلم: الإيمان (9) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426).(1/174)
هذا فيه مناقشة للجهمية المرجئة المحضة يناقشهم المؤلف -رحمه الله- ويقول في الرد عليهم وبيان بطلان مذهبهم بأن الواجب الإيمان فقط دون القول والعمل قال: ألا تسمع قول الله سبحانه: { قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } (1) قولوا، هذا أمر، والأمر للوجوب، فجعل القول فرضًا حتمًا كما جعل معرفته فرضًا حتمًا. فكما أن معرفة الله والإيمان به وتصديقه بالقلب فرض حتم، فكذلك القول فرض حتم. النطق باللسان لا بد أن ينطق المسلم بالشهادتين، ويشهد لله -تعالى- بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فجعل القول فرضًا حتمًا كما جعل المعرفة فرضًا حتمًا، ولم يكتف الله -تعالى- بالمعرفة؛ ولهذا قال المؤلف: ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم، بل قال: { قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ } (2) فدلَّ على بطلان مذهب الجهمية الذين يقولون: القول غير واجب، وأنه يكفي المعرفة.
ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان، قال: { قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } (3) إلى آخر الآية، فالله -تعالى- أوجب القول، وأوجب الإيمان بالكتب والرسل، ولم يكتف بالتصديق، ولم يجعل لأحد إيمانًا إلا بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم- في كل ما جاء به، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } (4) فدل على بطلان هذا المذهب، فاسد، وهو مذهب الجهم القائل بأن الإيمان مجرد المعرفة.
__________
(1) - سورة البقرة آية: 136.
(2) - سورة البقرة آية: 136.
(3) - سورة البقرة آية: 136.
(4) - سورة النساء آية: 136.(1/175)
الله -تعالى- لم يجعل لأحد إيمانًا إلا بتصديق النبي - صلى الله عليه وسلم- في كل ما جاء به، قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ } (1) وقال { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) } (2).
وكذلك أيضًا نفى الإيمان عن مَن لم يحكِّم الرسول - صلى الله عليه وسلم- في مسائل النزاع، فقال: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } (3) ولم يثبت الإيمان لأهل الكتاب مع كونهم يعرفون بقلوبهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم- رسول الله، ويعرفون صدقه وصفته، فقال: { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (4) ثم قال: { وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) } (5) فهم يعرفون بقلوبهم، ولم تنفعهم هذه المعرفة؛ لأنهم لم يؤمنوا ولم يصدقوا، فدل على أن المعرفة لا تكفي؛ ولهذا علَّق المؤلف -رحمه الله- على هذه النصوص، فقال: فلم يجعل الله معرفتهم به -إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم- إيمانًا، فلم يجعل الله معرفتهم -يعني معرفة اليهود أهل الكتاب، معرفتهم بالله- لم يجعلها إيمانًا حين تركوا الشهادة له بألسنتهم.
__________
(1) - سورة النساء آية: 136.
(2) - سورة النساء آية: 136.
(3) - سورة النساء آية: 65.
(4) - سورة البقرة آية: 146.
(5) - سورة البقرة آية: 146.(1/176)
ثم سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان -يعني في حديث جبريل لما سأل عن الإيمان- فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره (1) ولم يقل، ولم يكتف بالمعرفة بالقلب، فدل على بطلان هذا المذهب وفساده، نعم.
بيان من المؤلف لمفاسد مذهب الجهمية
قال: في أشياء كثيرة من هذا لا تحصى، وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي عنهم بالمعرفة، ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عُرِف الإسلام من الجاهلية، ولا فَرِقَت الملل بعضها من بعض؛ إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم، غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة، والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب.
ولو كان هذا يكون مؤمنًا، ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين -كما يقول المجوس والزنادقة -، أو ثالث ثلاثة -كقول النصارى - وصلَّى للصليب، وعبد النيران، بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله؛ لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمنًا مستكملا الإيمان، كإيمان الملائكة والنبيين، فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله، أو مؤمن له بكتاب، أو رسول؟ وهذا عندنا كفر لن يبلغه إبليس فمن دونه من الكفار قط.
__________
(1) - البخاري: تفسير القرآن (4777) , ومسلم: الإيمان (9) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4991) , وابن ماجه: المقدمة (64) , وأحمد (2/426).(1/177)
هذا بيان من المؤلف -رحمه الله- لمفاسد مذهب الجهمية الذين يزعمون أن الإيمان معرفة الرب بالقلب فقط يقول: وزعمت هذه الفرقة -وهم الجهمية - أن الله رضي منهم بالمعرفة -يعني: أنه اكتفى بهذا، وأن هذا هو الإيمان-، يقول: ولو كان أمر الله ودينه على ما يقوله هؤلاء، ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض. لو كان الإيمان مجرد المعرفة، ما يعرف الإسلام من الجاهلية؛ لأن الإيمان في القلب، لا يعرف هذا من هذا، ولا يعرف الفرق بين ملة اليهودية وملة النصرانية وملة الإسلام؛ ما يعرف لأن الإيمان هو معرفة الرب بالقلب.
يقول يعرف ربه بقلبه ولو كان يهوديًّا، ويعرف ربه بقلبه ولو كان نصرانيًّا، ويعرف ربه بقلبه ولو كان وثنيًّا، ويعرف ربه بقلبه ولو كان من أهل الجاهلية، فعلى هذا المذهب ما يعرف الإسلام من الجاهلية، ولا يعرف الفرق بين ملة اليهودية وملة النصرانية وملة الوثنية، إن كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم؛ لأن الإيمان هو ما يدَّعونه في قلوبهم من المعرفة، فلو كان الإيمان هو معرفة الرب بالقلب -كما يزعمون- لرضي الله منهم بالدعوى، رضي منهم بالدعوى على قلوبهم، ولم يحصل الفرق بين الإسلام والجاهلية، ولا بين الملل، غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة، والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب.
يعني يقول: إنه لو كان الإيمان هو المعرفة -مجرد المعرفة- لرضي منهم بالدعوى على قلوبهم، ولكنه -سبحانه وتعالى- لا يرضى من المؤمن إيمانه إلا إذا أقر بما جاءت به الأنبياء -عليهم السلام-، وتبرأ مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بقلبه ولسانه، لا يرضى الله من المؤمن حتى يوحِّد الله، ويخلص له العبادة، ويتبرأ من الشرك قليله وكثيره، ويؤمن بالله ورسوله، ويتبرأ من الأنداد والآلهة.(1/178)
يقول المؤلف -رحمه الله-: ولو كان هذا يكون مؤمنًا -يعني بمعرفته بقلبه- ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين، كما يقول المجوس والزنادقة أو ثالث ثلاثة، كقول النصارى وصلَّى للصليب، وعبد النيران، بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله؛ لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمنًا مستكملا الإيمان، كإيمان الملائكة والنبيين.
يقول له هذا إلزامًا للجهمي، يلزم الجهمية -الذين يقولون: الإيمان هو مجرد معرفة الرب بالقلب- أن يكون من قال: إن الله ثاني اثنين، يكون مؤمنًا؛ لأنه يعرف ربه بقلبه، ولو كان يقول ثاني اثنين، فيلزم -على مذهب الجهم - أن يكون المجوسي مؤمنًا؛ لأنه يعرف ربه بقلبه، ولو كان يقول: إن الله ثاني اثنين. وكذلك النصارى -الذين يقولون: إن الله ثالث ثلاثة- يكونوا مؤمنين على مذهب الجهم؛ لأنهم يعرفون الله بقلوبهم، وكذلك من صلَّى للصليب يكون مؤمنًا على مذهب الجهم وكذلك من عبد النيران يكون مؤمنًا على مذهب الجهم إذا كان قلبه على المعرفة بالله، بل يكون مؤمنًا مستكملا الإيمان، كإيمان الملائكة والنبيين.
يقول المؤلف -رحمه الله- ليبيِّن شناعة هذا القول: فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله، أو مؤمن له بكتاب أو رسول؟ هل يتكلم بهذا أحد يعرف الله معرفة صحيحة؟ وهل يتلفظ بهذا مؤمن بكتاب الله ورسوله؟ يقول المؤلف: وهذا عندنا كفر لن يبلغه إبليس فمن دونه من الكفار قط. يقول كفر الجهمية هذا تجاوز كفر إبليس، وتجاوز كفر من دونه، فيكون كفر الجهمية أعظم وأغلظ وأشد من كفر إبليس.(1/179)
هذا قول المؤلف، لكن هذا لا يسلَّم للمؤلف؛ لأن إبليس رأس الكفر والضلال، وكل كفر وضلال فهو من تسويله وتزيينه. كفر الجهمية من تسويل الشيطان وتزيينه، إبليس هو قائد الكفرة إلى النار ورأس الكفر والضلال؛ فقول المؤلف -رحمه الله-: إن كفر الجهمية أشد من كفر إبليس، لا يسلَّم له؛ لأن كفر الجهمية إنما كفر الجهمية بسبب تسويل إبليس وتزيينه، وهو الذي زيَّن لهم هذا الكفر، وهو الذي سوَّل لهم الكفر، فيكون مقدَّمًا عليهم؛ فلا يقال: إن كفر الجهمية أعظم من كفر إبليس، بل يقال: مثل كفر إبليس، ولا يقال: إنه أشد من كفر إبليس؛ إبليس هو رأس الكفر والضلال، وهو القائد للكفرة إلى النار نعوذ بالله.
فالمقصود أن المؤلف -رحمه الله- مقصوده أن يبيَّن فساد مذهب الجهمية وأنه مذهب فاسد، وهو أفسد ما قيل في تعريف الإيمان، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله -سبحانه وتعالى- أن يهدي قلوبنا، وأن يثبتنا على الإسلام والإيمان، وأن يتوفانا على التوحيد، غير مغيرين ولا مبدلين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحبه والتابعين.
جزى الله الشيخ خير الجزاء لِلَّهِ
الأسئلة كثيرة، ومعذرة؛ لأننا لن نستطيع عرض أكثرها.
هذا السؤال وصل من الإنترنت يقول: هل يعذر عوامُّ الصوفية وعبَّاد القبور وعوام الروافض بالجهل ؟(1/180)
هذا السؤال يقول: هل يعذر عوامُّ الصوفية وعوامُّ أهل القبور بالجهل ؟ أظن الآن في العصر الحاضر أنه بلغتهم الدعوة، ومن بلغتهم الدعوة، وبلغتهم الحجة، وبلغهم القرآن والسنة، فلا يعذرون، إنما الذي يعذر في هذا من لم تبلغه الحُجَّة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- قال الله -تعالى-: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) } (1) وقد بعث الرسول، قال -سبحانه-: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } (2) فمن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، وقال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار (3).
فمن قامت عليه الحجة، وبلغه الدليل، فلا يكون معذورًا، ولا يشترط معرفة فهم الحجة، بل يكفي بلوغ الحجة، يعلم أن هذا دليل على هذا الشيء، لكن بعض أهل العلم قال: إنه لو وجد بعض الناس اشتبه عليه الأمر، ولبس عليه الحق؛ بسبب الكفرة والمشركين، ولم يعرف الحق، واشتبه عليه الأمر، وصار بسبب تغطية الحق عليه وسيطرة أهل الضلال وأهل الشرك عليه، حتى أفهموه أن هذا الباطل هو الحق، فإنه يكون حكمه حكم أهل الفترات، ويكون أمره إلى الله - عز وجل - ولكنه إذا مات على هذه الحالة فلا يغسَّل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم، ولا يُدْعى له، وأمره إلى الله.
__________
(1) - سورة الإسراء آية: 15.
(2) - سورة الأنعام آية: 19.
(3) - أحمد (2/350).(1/181)
وبكل حال فمن بلغته الدعوى، وبلغه القرآن، وبلغته السُّنَّة، وعلم أن هذا الأمر محرَّم، فإنه لا يكون معذورًا، والدعوى الآن بلغت مشارق الأرض ومغاربها -دعوة الإسلام- لكن كون بعض المشركين يصمُّ أذنه عن سماع الحق، ولا يقبل الحق، ويرد الحق، ليس عذرًا له، فيجب على الإنسان أن يتعرف على الحق، ويطلب الحق، ويسأل عن الحق، ويسأل عن دينه، كما أنه يسأل عن أمور دنياه في كسبه ومعاشه وبيعه وشراءه، كذلك يجب عليه أن يتعلم دينه، وأن يسأل عما أشكل عليه، وأن يبحث عن الحق، وأن يريد الحق، إذا كان يريد الحق يكون معذورًا، وإذا كان يستطيع أن يعرف الحق، ويستطيع أن يسأل، ويجد من يسأل، ولا يسأل، فلا يكون معذورًا، لكن لو كان الإنسان أراد الحق، ولم يجد من يسأله، وتعذر عليه معرفة الحق، وظن أن ما هو عليه هو الحق، والتبس عليه الأمر بسبب تغطية الحق عليه من قِبَل أهل الشرك وأهل الضلال وأهل الكفر وعلماء الشرك، فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يكون حكمه حكم أهل الفترات.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: كيف تكون معاملة الرافضي ؟&
إذا كان لا يظهر معتقده الفاسد، ولا يعترف به، ويظهر الإسلام، فإنه يعامل معاملة المسلمين قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: تكثر الزندقة في الروافض والنبي - صلى الله عليه وسلم- كان يعامل المنافقين معاملة المسلمين إذا كانوا يظهرون الإسلام، فإذا كان هذا الشخص يظهر الإسلام، ولا يظهر معتقده وكفره وضلاله، فيعامل معاملة المسلمين(1/182)
فإذا أظهر كفره ونفاقه فإن الإنسان يتبرأ منه، يكون علاقته به في العمل فقط، ولا يتخذه صديقًا ولا معاشرًا، ويكون معاملته من جهة العمل للضرورة، لكن لا يتخذه صديقًا ولا كذا ولا يتعامل معه، أما إذا لم يظهر معتقده الخبيث، أو أنكره ونفاه، وأظهر الإسلام، يعامل معاملة المسلمين كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يعامل المنافقين معاملة المسلمين كعبد الله بن أبي وغيره من المنافقين الذين هم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والنفاق.
هذا سائل يسأل، ويقول: فضيلة الشيخ، كما تعلمون علم وفضل الشيخ العلامة المحدِّث الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله-، وأنه يعتبر ممن جدَّد علم الحديث، ونشر السنَّة، وكان شوكة في حلوق أهل البدع، ولكنه -رحمه الله- أخطأ وغلط في مسألة الإيمان، حيث وافق المرجئة حينما قال: إن العمل شرط كمال، وليس ركنًا وجزءًا من أجزاء الإيمان، فهل من قال هذا الكلام صحيح؟ وهل يُتابع الشيخ، ويقال: إنه حجتي عند الله؟ فإن طلاب الشيخ إذا ناقشناهم قالوا هذا الكلام، وزعموا أن الشيخ أعرف بمذهب السلف(1/183)
نعم، الشيخ محمد ناصر الدين الألباني محدِّث -رحمه الله-، وله اليد الطولى في الحديث، وخدم السُّنَّة خدمة عظيمة، نسأل الله أن يغفر له ويرحمه، لكنه ليس بمعصوم، فإذا كان قال: إن العمل خارج من مسمَّى الإيمان فقد وافق أبا حنيفة وأصحابه، وأبو حنيفة إمام من الأئمة، وسبق أن الخلاف بينه وبين أهل السنة خلاف لفظي، لا يترتب عليه فساد في العقيدة، لكنه له آثار تترتب عليه، إنما الخلاف الذي يترتب عليه الفساد في العقيدة خلاف الجهمية المرجئة المحضة، أما مرجئة الفقهاء فإنهم طائفة -وإن كانوا من أهل السنة وإن كانوا خالفوا في هذه المسألة- إلا أنهم من أهل العلم والدين -كما قال المؤلف أبو عبيد رحمه الله- لكنهم غلطوا وأخطئوا، وقال إن المرجئة -في الفصل الأخير الباب الأخير الذي قرأناه- قال: إنهم أخطئوا وغلطوا في أمر يكون فيه اشتباه، لكن المصيبة مذهب الجهمية
فالمقصود أن الشيخ الألباني وكذلك غيره، ومن هو أكبر منه - أبو حنيفة - غلط في هذا، ومن غلط يُترحم عليه، ويدعى له بالمغفرة، ولا يتبع في الغلط، وكل إمام من الأئمة يقول: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، وقال: إذا قلت قولا يخالف قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فخذوا بقول رسول الله، واضربوا بقولي عرض الحائط. قال هذا أبو حنيفة والشافعي وأحمد ومالك كلهم يغلطون، وكلهم يخطئون، ما في أحد ما يخطئ، فإذا غلط الإمام أو، غلط العالم أو الكبير، فإنه يُترحم عليه، ويُدعى له، ويلتمس له العذر، والخطأ مردود عليه، لا يتبع في الخطأ، وإنما يتبع القول الصواب، والقول الصحيح الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- والحق أحق أن يتبع، ويجب على طلابه -إذا كان الشيخ قال هذا الكلام- يجب على طلابه ألا يتبعوه في هذا، وأن يقبلوا الحق.(1/184)
والسلف والأئمة والعلماء يرجعون عن القول: فهذا عمر بن الخطاب الخليفة الراشد - رضي الله عنه- جاءه الإخوة الأشقاء في المسألة المشرَّكة -زوج وأمٌّ وإخوة لأم وإخوة أشقاء- فقسم الميراث على ما في كتاب الله، وأعطي الزوج النصف، والأم السدس والباقي للإخوة لأم، ولم يعط الإخوة الأشقاء شيئًا، ثم حدثت هذه المسألة بعد مدة -بعد سنتين- فجاءوا، فأشرك الإخوة الأشقاء مع الإخوة لأم، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، إنك قضيت فيها فيما مضى، ولم تشرك الإخوة. قال: ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي. تبيَّن له.
والإمام أحمد -رحمه الله- يكون له في مسألة سبع روايات، يتبيَّن له الحق فيقول بهذا القول، والإمام الشافعي -رحمه الله- له قولان: قول جديد وقول قديم: قول قديم في العراق والقول الجديد في مصر وما يزال العلماء يرجعون عن الخطأ، وعن القول الذي يتبيَّن لهم أنه خطأ في الفروع وفي الأصول.
وليس هناك أحد معصوم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- هو معصوم فيما يبلغ عن الله، ومعصوم عن الشرك، ومعصوم من الكبائر، أما غيره فليس معصومًا، ليس هناك أحد معصوم، لا الشيخ ناصر الدين الألباني ولا من هو أكبر منه.(1/185)
الصحابة أيضًا يرد بعضهم على بعض، وقد يغلطون في بعض المسائل. فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سيدة نساء أهل الجنة، غلطت، جاءت إلى أبي بكر بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم- وقالت: أعطني ميراثي من النبي - صلى الله عليه وسلم-. فقال لها: إن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة (1) وروى هذا الحديث عدد من الصحابة ولكنها لم تقتنع -رضي الله عنها- وولت، هجرت أبا بكر حتى توفيت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم- بستة أشهر، غلطت، والصواب مع أبي بكر، وليست معصومة، وهي سيدة نساء أهل الجنة.
عائشة -رضي الله- عنها جاء لما حصلت الفرقة على علي -رضي الله- عنه، والخلاف بينه وبين معاوية جاءت أيضًا عائشة -رضي الله عنها- ومعها طلحة والزبير تطالب بدم عثمان وخطب ابن عباس الناس، وقال: إنها أمكم، أم المؤمنين، وهي زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة، وإن الله ابتلاكم. بها غلطت وأخطأت، والحقُّ مع علي - رضي الله عنه-.
ما في أحد ما يغلط ولا يخطئ، فإذا غلط الشيخ ناصر الدين الألباني في هذه المسألة، أو غلط من هو أكبر منه، فالحجة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وما أجمع عليه الصحابة والتابعون والأئمة.
هذا أيضًا عن طريق الإنترنت، يقول: هل يسع طلبة الشيخ الألباني تقليده في هذه المسألة ؟
__________
(1) - البخاري: الوصايا (2776) , ومسلم: الجهاد والسير (1760) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2974) , وأحمد (2/463) , ومالك: الجامع (1871).(1/186)
سبق أنا قلت في السؤال السابق: إنه يجب على طلبته، وغير طلبته، أن يأخذوا بالحق، ويتركوا ما لم يقم عليه الدليل، سواء كان قال به الشيخ الألباني أو قال به من هو أكبر منه رحمه الله، الواجب على طلبته وغير طلبته اتباع الدليل، اتباع ما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وكل واحد من الأئمة يقول: خذوا بالدليل واتركوا قولي، إذا خالف قولي الدليل فخذوا بالدليل، قال بهذا أكبر من الشيخ الألباني قال بهذا الإمام أحمد والشافعي وأبو حنيفة ومالك
هذا سائل يسأل: ويقول: ما معنى قول شيخ الإسلام فإن المرجئة لا تنازع في أن الإيمان الذي في القلب يدعو إلى فعل الطاعة ويقتضي ذلك، والطاعة من ثمراته ونتائجه، لكنها تنازِع هل يستلزم الطاعة ؟
يعني يقول: إن المرجئة لا ينازعون في أن التصديق الذي في القلب يقتضي العمل، ويدعو إلى العمل، لكنهم ينازعون في كون العمل جزءًا من الإيمان، وهذا مذهب المرجئة يقولون: الإيمان يدعو إلى العمل، وهو ثمرة العمل، ومقتضى العمل، ويلزم منه العمل، ولكن النزاع إنما هو في كونه جزء من العمل، أما كونه يلزم: الظاهر أنهم ينازعون في كونه جزء من العمل. هل يستلزم الطاعة هل يكون جزءا من الإيمان؟ يراجع، نعم.
هذا يعقب على كلام الألباني يقول: إن من قال: إن الألباني يُخرج العمل عن مسمى الإيمان فقد افترى على الشيخ؛ لأنه ذكر -في كتابه "الذب عن مسند الإمام أحمد "- أنه يبرأ إلى الله من كل ما ينسب إليه من هذا القول، وقال: إنه قال بخلافه: إن العمل جزء من الإيمان.(1/187)
على كل حال ما نقول: إنه قال بهذا. إذا ثبت أنه قال إن العمل ليس من الإيمان فقد غلط، وإن ثبت أنه قال: العمل من الإيمان فقد أصاب. ما يهمنا الشخص، يهمنا الحق، ندور مع الحق حيث دار، نحن عندنا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- نعمل بهما، سواء قال به فلان أم لم يقل به فلان، فالحق إنما لا يعرف بالرجال، وهل يعرف الرجال بالحق أو الرجال يعرفون بالحق ؟ المهم الواجب على المسلم اتباع الحق واتباع الدليل، سواء قال به الشيخ الألباني أو لم يقل به، أو قال به غيره ممن هو أكبر منه، إذا كان ما قال بهذا فالحمد لله، هذا هو الذي نريد، معناه وافق السُّنَّة، وإن كان قال: إن العمل ليس من الإيمان، فقد غلط، ونسأل الله لنا وله المغفرة والرحمة.
هذا نقل عن شيخ الإسلام قوله في مجموع الفتاوى الجزء الرابع ص160: فكيف يقال: يلزم من السجود لشيء عبادته، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- لو كنت آمرًا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لعظم حقه عليها (1) ومعلوم أنه لم يقل: لو كنت آمرًا أحدًا أن يعبد. وقال في موضع آخر: أما الخضوع والقنوت في القلوب، والاعتراف بالربوبية والعبودية، فهذا لا يكون على الإطلاق إلا لله -سبحانه وتعالى- وحده، وهو في غيره ممتنع باطل، وأما السجود فشريعة من الشرائع إذا أمرنا الله أن نسجد له، ولو أمر الله أن نسجد له، ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير؛ طاعة لله - عز وجل - إذا أحب أن نعظِّم من سجدنا له، ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب ألبتة. فسجود الملائكة لآدم؛ عبادة لله وطاعة له، وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم، وسجود إخوة يوسف له تحية وسلام.
__________
(1) - الترمذي: الرضاع (1159).(1/188)
وقال في موضع آخر في الصارم المسلول: إن من سبَّ الله أو سب رسوله، كَفَر ظاهرًا وباطنًا سواء كان السابُّ يعتقد أن ذلك محرمًا، أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
فضيلة الشيخ، ألا يمكن من هذين النصين أن نستفيد أن التلازم بين الظاهر والباطن فيه تفصيل: فمرة يكون التلازم لازمًا، إذا كانت الدلالة قطعية تدل على التلازم، كالسابِّ لله والرسول، ولا يلزم التلازم إذا لم يكن هناك دليل، كمن حال دون كفره شبهة أو تأويل.
نعم التلازم بين العمل والقلب: قد يكون فيه تلازم، وقد لا يكون فيه تلازم، لكن المرجئة يقولون: لابد من التلازم في كل شيء، ويفهم من كلام الشيخ -رحمه الله- أن الإقرار لله بالربوبية والقنوت هذا يكون إلا له، أما السجود فهذا يختلف باختلاف الشرائع: ففي شريعة آدم لما خلق الله آدم أمر الملائكة فسجدوا له، فالسجود عبادة لله، وفيه تكريم لآدم والسجود في شريعة يوسف -عليه السلام- تحية، ليس عبادة، تحية وإكرام. وفي شريعتنا صار عبادة، وهكذا؛ لأنه يختلف باختلاف الشرائع.
فالمقصود أن هناك فرقًا: فالسجود في شريعتنا الآن إذا سجد -مثلا- لغير الله فإنه يكون مشركًا؛ لأن الله حرَّم هذا على شريعتنا. كان في شريعة يوسف السجود تحية وإكرامًا، وفي شريعتنا نسخ الله ذلك، وجعل السجود عبادة.
فالمؤلف -رحمه الله- يفرق يقول: إن الإيمان بالله، الإقرار بربوبية الله،الإيمان والقنوت لله، هذا لا يكون إلا لله، في كل وقت وفي كل زمان وفي كل شريعة، أما السجود فيكون في بعض الشرائع يكون تحية ويكون عبادة، في شريعة يوسف ما يكون عبادة، تحية وإكرامًا، وحينما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم هو عبادة لله وتكريم لآدم وفي شريعتنا الكاملة صار السجود عبادة.(1/189)
أما مسألة التلازم بين القلب واللسان: فلا يلزم، والمرجئة يقولون: يلزم التلازم، ما في كفر إلا بالتلازم، ما يكون كافرًا بالعمل إلا إذا اعتقد بالقلب. وهذا باطل، وقد يكون هناك تلازم في بعض الأشياء وبعض الأعمال، قد يلزم من هذا وقد لا يلزم، فقول المرجئة إنه يلزم أنه لا يكون كفرًا السجود للصنم إلا إذا اعتقد بقلبه، ولا يكون كفرًا إذا سب إلا باعتقاده، هذا باطل؛ ولهذا النقل الأخير الذي نقله المؤلف -رحمه الله-: أن من سبَّ الله وسبَّ رسوله فهو كافر. سواء اعتقد أو لم يعتقد، سواء اعتقد بقلبه أو لم يعتقد بقلبه، وهو قول الفقهاء قاطبة
سؤال أيضًا صوتي عبر الإنترنت: من المعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- نهى عن القبور، لكن المشكلة هي قبر الرسول؟
نعم ثبت في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور الأنبياء مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك (1) وهذا النهي يقتضي الفساد؛ ولهذا قال بعض أهل العلم بأنه لا تصح الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، وأنه ينظر، إذا وجد قبر في مسجد فينظر: فإن كان المسجد هو السابق فإنه ينبش القبر ويوضع في القبور، وإن كان القبر هو السابق هُدِمَ المسجد وبني في مكان آخر. فلا يجوز دفن الأموات في القبور، ولا يجوز بناء المساجد على القبور لا يجوز بناء القبر على المسجد، ولا يجوز أن يدفن الميت في المسجد، وإذا وجد ميت في مسجد فينظر: الحكم للسابق: إن كان السابق هو المسجد ينبش القبر ويوضع في مكان آخر، وإن كان السابق هو القبر يُهْدَم المسجد ويُبنى في مكان آخر.
__________
(1) - مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532).(1/190)
وإذا نظرنا إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم- نجد أنه لا ينطبق عليه لا هذا ولا هذا. النبي - صلى الله عليه وسلم- ما دفن في المسجد، ولا بني مسجد على قبره، لم يبنَ مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم- على القبر، ولم يدفن النبي - صلى الله عليه وسلم- في المسجد، لا هذا ولا هذا، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم- دفن في بيته، والبيت خارج المسجد.
ولكن لمَّا أراد الوليد بن عبد الملك في آخر القرن الأول أن يوسع المسجد، وسَّع المسجد وأدخل البيت كاملا، البيت فيه ثلاث قبور: قبر النبي - صلى الله عليه وسلم- وقبر صاحبيه أبي بكر وعمر فهذا غلط من الوليد بن عبد الملك فكون الوليد بن عبد الملك غلط وأدخل في التوسعة أدخل البيت كاملا في المسجد، لا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم- دفن في المسجد، فالنبي - صلى الله عليه وسلم- لم يدفن في المسجد، والمسجد ما بُنِيَ على قبر، لا هذا ولا هذا، وبهذا يتبيَّن أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يكن مدفونًا في المسجد، ولا أن مسجده مبنيٌّ على القبر، لا هذا ولا هذا، نعم.
هذا يقول: هل يستقيم المعنى لو قلنا: إن الإيمان هو عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح فعمل القلب اعتقاده، وعمل اللسان نطقه وإقراره، وعمل الجوارح الأداء ؟
نعم هذا قاله الإمام أبو عبيد واستدلَّ بحجج على أن قول اللسان يسمى عملا، وعلى كل حال، فقول اللسان هو داخل، سواء سمي عملا أم لم يسمَّ عملا، لكن المؤلف -رحمه الله- استدل على قوله: إن اعتقاد القلب يسمَّى عملا، وقول اللسان يسمى عملا، وعمل الجوارح يسمى عملا، استدل على هذا باللغة وبالنصوص.
يقول: نحن ليس عندنا أدنى شك في باطل المرجئة ولكن لو أشكلوا علينا بالنسبة لقولهم زيادة اليقين، في آية البقرة، في قوله -تعالى-: { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (1) نرجو توضيح ذلك ؟
__________
(1) - سورة البقرة آية: 260.(1/191)
نعم مثل ما قال المؤلف -رحمه الله- قال: اليقين من الإيمان، فإذا زاد اليقين زاد الإيمان. فاليقين هنا الإيمان: { لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (1) اطمئنان القلب زيادة في الإيمان، فاليقين من الإيمان، فإذا زاد اليقين زاد الإيمان، فلا يقال: إن اليقين شيء والإيمان شيء، اليقين من الإيمان، وبهذا يتبيَّن، فيزول الإشكال.
يقول: هل ردَّ المصنف على الشبهة الثانية للمرجئة " التمكن من الإقرار " ؟
نعم، ما ردَّ عليها -يعني- صراحة، ولكن ردَّ عليها -،-يعني يفهم من الحجج الأربع الردَّ عليها، نقول: التمكن من الإقرار، والجواب عليها أن يقال: إنه إذا كان القول هو الإيمان، وهو مكمَّل في القلب من أوله إلى آخره، فكيف يقال إن الأعمال تمكن من الإقرار وقد تمكن؟ الإقرار متمكن من الأوَّل، يعني: إذا كان الإيمان كاملا في القلب، فكيف يقال: إن الأعمال تمكن من هذا الإقرار؟ الإقرار هو متمكن من الأساس، هو متمكن وكامل، فكيف يقال للكامل متمكن وهو متمكن من الأساس هذا هو الرد عليه.
يقول هنا: هل اليقين يزيد كما يزيد الإيمان ؟
نعم؛ لأن اليقين من الإيمان: إذا زاد اليقين زاد الإيمان، فاليقين من الإيمان، فزيادة اليقين زيادة في الإيمان، قوله: { لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } (2) يعني: ليزداد إيماني، نعم.
يقول: الجواب عن تأويل المرجئة إن الزيادة في الإيمان هي الزيادة في اليقين.
المرجئة يفسرون قوله: { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا } (3) ليزدادوا يقينًا. المؤلف -رحمه الله- يردُّ عليهم، يقول: اليقين من الإيمان، فإذا زاد اليقين زاد الإيمان، وإذا نقص اليقين نقص الإيمان؛ لأن اليقين من الإيمان، نعم.
يقول: لم يتبين لي قول المؤلف: " قد أحاطوه باليقين من قولهم " على ماذا يعود الضمير في أحاطوه ؟
__________
(1) - سورة البقرة آية: 260.
(2) - سورة البقرة آية: 260.
(3) - سورة الفتح آية: 4.(1/192)
قد أحاطوه يعني: الإيمان، قد أحاطوه يعنى: استكمل الإيمان واليقين في قلوبهم، فكيف يزيد اليقين واليقين مكمَّل في القلب؟ لأن اليقين من الإيمان، فإذا كانوا أحاطوه باليقين من قلوبهم كيف يزداد وقد كمل؟ الشيء الذي أحيط به وكمل كيف يزداد ؟ انتهى، هو قد كمل.
من قولهم، قد أحاطوه باليقين من قولهم يعني: من قولهم: إن الإيمان هو الإقرار.
يقول: كيف يجمع بين قول أبي عبيد " القول يسمى عملا " وقول الإمام أحمد " تسمية المرجئة القول عملا هذا أخبث قول لهم ".
يحتاج إلى مراجعة كلام الإمام أحمد انظر ما قبله وما بعده. الإمام أحمد بعد أن قال، قال: لأنهم يقصرون العمل على القول فقط.
نعم، يعني السائل -وفقه الله- إنما نقل قول الإمام أحمد ولم ينقل ما قبله وما بعده، انقل ما قبله وما بعده حتى يتبين، مثل إنسان يقرأ: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) } (1) ويسكت "ويل للمصلين" وتسكت! أكمل. { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) } (2) فالإمام أحمد يقول القول عملا، يعني: كونهم قصروه على العمل.
الفرق بين قول أبي عبيد وقول هذا أن أبي عبيد يزيد، يدخل أعمالا أخرى احتج على أن القول يسمى عملا، ولكن قول الإمام أحمد إذا ثبتت العبارة هذه تراجع.
يردُّ عليهم لأنهم قصروه على القول نعم قوله: يسمى عملا، هو قوله، يكفيه القول، وهذا نسميه عملا، ولكن يكتفي به، نعم.
يقول: هناك شبهة، وهي في قول المؤلف، في الموضع السابق، في قوله -تعالى-: { قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) } (3) إلى قوله: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) } (4) من يقول: نعم، فليعمل العاملون على التصديق بالقلب فقط ولا تعمل، يكون العمل بالتصديق فقط؟
__________
(1) - سورة الماعون آية: 4.
(2) - سورة الماعون آية: 5.
(3) - سورة الصافات آية: 51-52.
(4) - سورة الصافات آية: 61.(1/193)
لا المؤلف استدل به على أن التصديق يسمى عملا، وليس المراد أن العمل لا يكون إلا بالقول، بل هذا استدل به على أن القول يسمى عملا، أما كون الاقتصار عليه، لا، لا يقتصر على القول، لا بد من عمل اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح.
يقول: لماذا ذهب المرجئة إلى عدم زيادة الإيمان ونقصانه ؟ هل يلزم من قولهم بزيادة الإيمان ونقصانه أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان ؟
نعم؛ لأن الإيمان هو التصديق، والتصديق شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، لكن لو كان معه عمل لزاد ونقص، إذا نقص العمل نقص الإيمان، وإذا زاد العمل زاد الإيمان، أما مجرد التصديق شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، نعم.
هذا جاءنا ملح من الإنترنت يقول: بارك الله فيكم! ما حكم من تزوج متعة ؟ وما الفرق بينه وبين المسيار مع أن أغلب أهل العلم في العالم الإسلامي لا يجيزون المسيار إلا بعض العلماء في المملكة ؟
زواج المتعة هذا محرم بالإجماع، منسوخ بالإجماع، ومن تزوج متعة فإنه زنا -والعياذ بالله-: وهو أن يتزوج امرأة مدة، يتزوجها أسبوعًا أو شهرًا أو شهرين بالعقد. وزواج المسيار شيء آخر، زواج المسيار معناه: أن يتزوج امرأة ويشترط عليها ألا يكون لها يوم، ولا يكون لها ليلة، تسقط شيئًا من حقوقها.
بعض النساء تكون محتاجة إلى أن تجلس مع والديها، فتقول: أنا أرضى منك، وأتزوجك ولو لم يكن لي ليلة، ما ترى، تأتي الخميس أو الجمعة. أسقطتْ حقها، كما أسقطت سودة أم المؤمنين -رضي الله عنها لما أحسَّت أن النبي، - صلى الله عليه وسلم- سيطلقها- وهبت ليلتها لعائشة وكذلك لو كانت امرأة مثلا أسقطت النفقة، مثلا تزوجها رجل وأسقطت النفقة، أو كانت تنفق عليه؛ لأنها غنية.
النفقة تكون على من ؟ على الرجل، فإذا أسقطها سقطت وقالت أسقطتُ ليلتي سقطت، وقت ما يتيسر لك تأتي، لا تأتي إلا في الأسبوع مرة، أو في الشهر مرة، أو ليست عليك نفقة.(1/194)
ما دام أنه عقد صحيح بولي وشاهدي عدل، وهي راضية معروفة برضاها، وهو كفء لها، ما في إشكال. أسقطتْ شيئًا من حقها: إذا أسقطت ليلتها، أو أسقطت النفقة عليها سقطت.
كيف يشبه بزواج المتعة؟ ما يشبَّه بزواج المتعة. ما تزوجها على أن يتزوجها شهرًا أو شهرين أو ثلاثة، لا، تزوجها زواجًا شرعيًا بولي وشاهدي عدل، ولا فيه تحديد مدة، إلا أنها أسقطت شيئًا من حقها: أسقطت ليلتها: إذا كان معه ثلاث زوجات، لها ليلة من أربع ليال، فإذا قالت: أنا يكفيني ليلة في الشهر، أو في الأسبوع، أسقطت حقها، والحق لها لا يعدوها، فإذا رجعت بعد ذلك رجعت لها ليلتها، وكذلك لو أسقطت نفقتها، كيف يقال: إن هذا مثل زواج المتعة؟
هذا سائل من الإنترنت يقول: بعض المساجد فيها مشاهد، وليس فيها قبر أي ضريح، ولكن غير مدفون به أحد، فهل يجوز الصلاة فيها ؟ المشهد غرفة موجودة وبه قبة.
نعم، إذا كانت تعبد ويطاف بها فلا يجوز، ولو فيها شيء موهوم، معناه أن تعبد هذا التراب وهذه الأحجار وهذه الغرفة، إذا كان يجعلونها مشاهد يدعونها ويطوفون بها الحكم، واحد، سواء: فيه قبر، أو ما فيه قبر.
نفس السائل حول الزواج يقول: وما حكم الزواج بنية الطلاق ؟
في خلاف بين أهل العلم؛ من العلماء من أجازه ومنهم من منعه، من العلماء من أجازه وقال: إنه قد ينوي ولكن لا ينفِّذ هذه النية، والنية ما عليها معوَّل، المعوَّل على العقد، ومنهم من منعه وقال: إنه لو علم الوليُّ أو لو علمت الزوجة بنية الطلاق لما قبلت الزواج، ولما قبل وليها؛ فلذلك لا يصح، يُرَاجِع السائل المغني لابن قدامة وغيره من كتب أهل العلم، يراجع يوجد فتوى في اللجنة الدائمة، أو فتوى لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمة الله عليه- وفي مؤلف أيضًا للشيخ الدكتور صالح المنصور رسالة خاصة في هذا، الزواج بنية الطلاق، نعم.
هذا سؤال من الإنترنت: في الإيمان عند أهل السنة والجماعة وردِّهم عن المذاهب الأخرى؟(1/195)
فيه مؤلفات: من أحسنها كتاب الإيمان للشيخ الكبير ابن تيمية -رحمه الله- وكذلك ما كتبه العلماء: مثل الإيمان لأبي عبيد والإيمان لابن أبي شيبة وغيره، يراجع الطحاوية في هذا في بحث جيد في مبحث الإيمان، شرح الطحاوية لابن أبي العز في مؤلفات في هذا: الآجري في الشريعة واللالكائي مؤلفات في هذا الباب كثيرة.
جزاكم الله خيرًا.
نعم، إن شاء الله بقية الرسالة سوف نقسِّمها لليلتين إن شاء الله، ننهي إن شاء الله الرسالة في ليلتين، يوم الخميس إن شاء الله. وفق الله الجميع لطاعته ورزق الله الجميع العلم النافع، والعلم الصالح. وصلى الله وسلم على محمد وسلم.
باب ذكر ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولا بلا عمل
الآثار الواردة في ذم الإرجاء والشهادة والبراءة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف رحمه الله تعالى: باب ذكر ما عابت به العلماء من جعل الإيمان قولا بلا عمل، وما نهوا عنه من مجالسهم.
قال أبو عبيد حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: قال حذيفة إني لأعرف أهل دينين، أهل ذينك الدينين في النار: قوم يقولون: الإيمان قول وإن زنى وإن سرق، وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس وإنما هما صلاتان. قال: فذكر صلاة المغرب أو العشاء، وصلاة الفجر. قال: وقال زمرة بن ربيعة يحدِّثه عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن حميد المقرائي عن حذيفة قارِن حديث حذيفة هذا قد قَرَنَ الإرجاء بحجة الصلاة، وبذلك وصفهم ابن عمر أيضًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:(1/196)
فهذا الباب عقده المؤلف -رحمه الله- لبيان الآثار الواردة عن السلف والصحابة والتابعين فمن بعدهم، في عيب المرجئة وذمهم، والنهي عن مجالستهم، وهم الذين يقولون: إن الإيمان قول بلا عمل -أي: قول القلب وتصديقه وإقراره بلا عمل- وأن أعمال الجوارح وأعمال القلوب لا تدخل في مسمى الإيمان. ثم ذكر أثر حذيفة - رضي الله عنه- قال: إني أعرف أهل دينين، أو أهل ذلك الدينين في النار: قوم يقولون الإيمان قول، وإن زنى وإن سرق. يعني يقولون: الإيمان كامل في القلب، ولا تضره المعاصي، وإن زنى وإن سرق، ما يضر إيمانه.
هذا قول المرجئة يقولون: إيمان العاصي كامل مثل إيمان المطيع، فإيمان الزاني والسارق مثل إيمان المطيع سواء بسواء، الإيمان قول -يعني: الإيمان كامل، قول يعني تصديق وإقرار القلب- وهو كامل في القلب وإن زنى وإن سرق.
والدين الثاني قوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس، وإنما هما صلاتان. قال: فذكر صلاة المغرب أو العشاء، وصلاة الفجر. قال: وقال زمرة بن ربيعة يحدِّثه عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن حميد المقرائي عن حذيفة يقول: قارِن حديث حذيفة هذا فإنه، قد قرن الإرجاء بمن يقول: إن الصلاة الواجبة صلاتان لا خمس صلوات.
الأثر كان فيه بعض السقط، لكن كأنه يقول إن حذيفة - رضي الله عنه- عقد مقارنة بين المرجئة -الذين يقولون: إن الإيمان قول بالقلب وتصديق بالقلب، ولا يضره، ولا ينقص الإيمان، ولو زنى و لو سرق- وبين من يقول: الصلاة الواجبة صلاتان في اليوم والليلة، لا خمس صلوات، وهي صلاة المغرب وصلاة الفجر، أو صلاة العشاء وصلاة الفجر فقط.
فكونه قرن المرجئة بمن يقول إن الصلاة الواجبة صلاتان، دليل على ذم المرجئة وعيبهم، وأن مذهبهم مذهب مذموم.(1/197)
لأن من قال: إنه لا يجب إلا صلاتان، أنكر وجوب الصلوات الخمس، هذا يكفر والعياذ بالله. من قال لا يجب في اليوم والليلة إلا صلاتان هذا كفر، وإن كان من قال: إن الإيمان قول والأعمال مطلوبة، لا يكفر لكنه قرنه به في الذمِّ.
أثر ابن عمر "صنفان ليس لهم في الإسلام نصيب"
وبذلك وصفهم ابن عمر أيضًا. قال أبو عبيد حدثنا علي بن ثابت الجزري عن ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال: صنفان ليس لهم في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية
هذا فيه ذم المرجئة لكن الحديث ضعيف، الحديث موقوف على ابن عمر لكنه ضعيف؛ لأن فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف من جهة حفظه، فهو ضعيف، لكن المرجئة -لا شك- أن مذهبهم مذموم من جهة أنه خالف النصوص، وكذلك القدرية الذين يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة لهم، ولم يقدرها الله.
أثر سلمة "اجتمع الضحاك وميسرة وأبو البَخْتري "
حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمع الضحاك وميسرة وأبو البَخْتري فأجمعوا على أن الشهادة بدعة، والإرجاء بدعة، والبراءة بدعة.
نعم، هذا فيه ذم الشهادة والإرجاء والبراءة وهذا الأثر -يقول المحشي -مذكور في الصحيح، ورجاله -وهم من صفوة التابعين أبو البختري والضحاك وميسرة - أجمعوا على بدعية هذه الأمور الثلاثة: الشهادة والإرجاء والبراءة.(1/198)
الشهادة: الشهادة على معين من المسلمين أنه من أهل النار أو أنه كافر، أنه كافر بدون العلم بما ختم الله له، ويحتمل المراد: الشهادة لمؤمن معين بالجنة. لا يشهد لشخص بعينه بالجنة غير من شهدت لهم النصوص؛ فهذه بدعة: كون الإنسان يشهد لشخص معين بأنه في الجنة، أو يشهد على شخص معين بأنه من أهل النار، بدون دليل، بدون العلم بما ختم الله له، أما من علم بأن الله ختم له بالنار: كأبي جهل وأبي لهب يشهد عليهم بالنار، لكن بدون دليل، بدون معرفة أن هذا الشخص مات على الكفر، ويحتمل أن المراد الشهادة لمؤمن معين بالجنة.
إنما يشهد للمؤمنين بالعموم، يقال: كل مؤمن في الجنة. أما فلان ابن فلان ما يشهد له بالجنة، لكن نرجوا للمحسن، ونخاف على المسيء، هذا ما ذكره أهل السنة والجماعة إلا من شهدت لهم النصوص: كالعشرة المبشرين بالجنة والحسن والحسين وكذلك بلال وابن عمر وغيرهم ممن شهدت لهم النصوص، وعكاشة بن محصن
والإرجاء بدعة الإرجاء -وهو القول بأن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان- بدعة لكن المرجئة طائفتان: محضة يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان وليست مطلوبة، مرجئة الفقهاء يقولون الأعمال مطلوبة ولكنها ليست من الإيمان.
والبراءة بدعة، لعل المراد بالبراءة: البراءة من أبي بكر وعمر كما تقول الروافض يقولون: لا ولاء إلا ببراء، لا ولاء إلا ببراء. يعني: لا يتولى أهلَ البيت إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر يقولون: لا يمكن أحد أن يتولى أهل البيت أو يتولى عليًّا إلا أن يتبرأ من أبي بكر وعمر فهذا باطل، أهل السنة يتولون الجميع، يتولون: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وأهل البيت جميعًا، وينزلونهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها، بالإنصاف والعدل لا بالهوى والتعصب؛ فقول الروافض لا ولاء إلا ببراء، لا يتولى أحد أهل البيت ولا يتولى أحد عليُّا إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر فهذا باطل.
أثر الزهري "ما ابْتُدِعت في الإسلام بدعة "(1/199)
قال أبو عبيد حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري قال: ما ابْتُدِعت في الإسلام بدعة أعزُّ على أهلها من هذا الإرجاء.
نعم هذا فيه ذم للإرجاء وأن تسميتها بدعة.
أثر "دخل فلان على جندب بن عبد الله البَجلي "
قال أبو عبيد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن مهدي بن ميمون عن الوليد بن مسلم قال: دخل فلان قد سماه إسماعيل -ولكن تركت اسمه أنا- على جندب بن عبد الله البَجلي فسأله عن آية من القرآن، فقال: أحرِّج عليك إن كنت مسلمًا لما قمت. قال: أو قال: أن تجالسني، أو نحو هذا القول.
نعم هذا فيه ذم للمرجئة وأن جندب بن عبد الله الصحابي الجليل، لما دخل عليه هذا المرجئ، وسأله عن آية، قال: أحرِّج عليك إن كنت مسلمًا لما قمت من مجلسي. نهى عن مجالسته، هذا فيه ذم للمرجئة وأن العلماء من الصحابة والتابعين يعيبونهم ويذمونهم، وينهون عن مجالستهم، نعم.
أثر سعيد بن جبير " لا تجالس فلانًا"
قال أبو عبيد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب قال: قال لي سعيد بن جبير غير سائله ولا ذاكرًا له شيئًا: لا تجالس فلانًا، وسماه أيضًا. فقال: إنه كان يرى هذا الرأي.
يعني: الإرجاء. "يرى هذا الرأي"، يعني: الإرجاء فنهى عن مجالسته، فيه دليل على أن العلماء ينهون عن مجالسة المرجئة ويذمونهم
الاكتفاء بالآثار التي فيها النهي عن مجالسة المرجئة
والأحاديث في مجانبة الأهواء كثير، ولكنا إنما قصدنا في كتابنا لهؤلاء خاصة.
يعني: المرجئة يقول المؤلف: الأحاديث -يعني الآثار- في المرجئة المرجئة النهي عن مجالسة المرجئة أهل البدع وذمهم كثيرة، لكن المقصود في كتابنا هذا النهي عن مجالسة المرجئة خاصة، أما النهي عن باقي أهل البدع من الخوارج والمعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل البدع، فالنصوص في هذا، والآثار عن الصحابة والتابعين كثيرة، لكن قصدنا النصوص التي فيها الآثار التي فيها النهي عن مجالسة هؤلاء المرجئة خاصة، نعم.(1/200)
تسمية بعض الأئمة الذين كانوا يرون الإيمان قولا وعملا
وعلى مثل هذا القول كان سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس ومن بعدهم من أرباب العلم وأهل السنة الذين كانوا مصابيح الأرض وأئمة العلم في دهرهم، من أهل العراق والحجاز والشام وغيرها، ذارِّين على أهل البدع كلها، ويرون الإيمان قولا وعملا.
يقول: إن الأئمة والعلماء من الصحابة والتابعين كلهم يذمون أهل البدع، وينهون عن مجالستهم ويعيبونهم، منهم: سفيان والأوزاعي ومالك بن أنس من أهل العلم، أرباب العلم وأهل السنة، الذين هم مصابيح الأرض وأئمة العلم، من أهل العراق والحجاز كلهم ينهون عن مجالسة أهل البدع ويذمونهم، ويرون أن الإيمان قول وعمل خلافًا للمرجئة الذين يرون أن الإيمان قول بلا عمل، نعم.
باب الخروج من الإيمان بالمعاصي
تأويل أهل السنة للأحاديث التي فيها نفي الإيمان
باب الخروج من الإيمان بالمعاصي
قال أبو عبيد أما هذا الذي فيه ذكر الذنوب والجرائم، فإن الآثار جاءت بالتغليظ على أربعة أنواع: فاثنان منهما فيها نفي الإيمان والبراءة من النبي - صلى الله عليه وسلم- والآخران فيها تسمية الكفر وذكر الشرك، وكل نوع من هذه الأربعة تجمع أحاديث ذوات عدة.
نعم هذا الباب عقده المؤلف -رحمه الله_ لبيان النصوص التي فيها أن أصحاب المعاصي يخرجون من الإيمان وتأويلها عند أهل السنة والجماعة فجاءت النصوص في الكتاب والسنة لنفي الإيمان عن أهل المعاصي، وهي أربعة أنواع -كما ذكر المؤلف-:
النوع الأول: نفي الإيمان، مثل حديث: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (1) فما تأويل ذلك ؟
__________
(1) - البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106).(1/201)
وفيها حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- برئ من الحالقة والصالقة والشاقة (1) فالحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة، والصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثوبها عند المصيبة.
وفي بعضهم تسميته بالكفر، كحديث: اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت (2).
والنوع الرابع تسميته بالشرك، كحديث: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3) فما تأويلها؟
__________
(1) - مسلم: الإيمان (104) , والنسائي: الجنائز (1863 ,1866) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1586) , وأحمد (4/411).
(2) - مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/431).
(3) - الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125).(1/202)
والخلاصة أن نفي الإيمان عند أهل السنة والجماعة في قوله: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (1) المراد: نفي كمال الإيمان لا أصل الإيمان؛ فالزاني والسارق وشارب الخمر -إذا لم يستحله- ليس كافرًا، بل هو مؤمن ضعيف الإيمان ناقص الإيمان، والنفي المراد: نفي كمال الإيمان، لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (2) المراد: نفي كمال الإيمان لا أصل الإيمان؛ لأنه ليس بكافر؛ لأنه لو كان كافرًا لقتل. ولم يقم عليه الحد لحديث: من بدَّل دينه فاقتلوه (3).
والحديث: برئ النبي -عليه الصلاة والسلام- من الصالقة والحالقة (4) لا يدل على أنه كافر، بل المراد: أنه مرتكب لكبيرة، النبي - صلى الله عليه وسلم- تبرأ من فعله، وما جاءت تسميته كفرًا. فالكفر + المراد كفر أصغر لا يخرج من الملة، فيكون صاحبه ضعيف الإيمان ناقص الإيمان.
__________
(1) - البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106).
(2) - البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106).
(3) - البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/217 ,1/282 ,1/322).
(4) - مسلم: الإيمان (104) , والنسائي: الجنائز (1863) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1586) , وأحمد (4/416).(1/203)
وكذلك الشرك: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (1) يعني: شركًا أصغر لا يخرج من الملة، فتكون النصوص، التي فيها بيان أن مرتكب الكبيرة يخرج من الإيمان، على هذه الأنواع الأربعة، قد ينفى عنه الإيمان، وقد يتبرأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم- وقد يوصف بالكفر، وقد يوصف بالشرك، نعم.
حديث "لا يزني الرجل حين يزني وهو مؤمن"
فمن النوع الذي فيه نفي الإيمان حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- لا يزني الرجل حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن (2).
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين، أن النبي قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن (3) فالمراد بنفي الإيمان: نفي كمال الإيمان؛ لأن إيمانه ضعيف وناقص؛ لا أنه كافر، إلا إذا استحل الزنا، رأى أن الزنا حلال، والسرقة حلال، استحله أو استباحه كَفَر، نعم.
حديث "ما هو بمؤمن"
وقوله: ما هو بمؤمن من لا يأمن جاره غوائله (4).
__________
(1) - الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125).
(2) - البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106).
(3) - البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106).
(4) - أحمد (2/288 ,2/336).(1/204)
هذا رواه المؤلف بالمعنى؛ لأن الحديث: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه (1) والبوائق الغوائل والشر، فالمراد: نفي كمال الإيمان، لا يؤمن الإيمان الكامل، يكون إيمانه ضعيفًا، نعم.
حديث "الإيمان قيد الفتك"
وقوله: الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن (2).
يعني: يمنع من الفتك. المُحَشِّي يقول: إن الحديث أخرجه أبو داود والحاكم قيد الفتك يعني: لا يفتك، يعني: يمنع المؤمن من الغدر والخيانة، فمن غدر أو خان، فيكون إيمانه ضعيفًا نعم.
حديث " لا يبغض الأنصار أحد"
وقوله: لا يبغض الأنصار أحد يؤمن بالله ورسوله (3).
كذلك لا يبغض الأنصار أحد يؤمن بالله ورسوله الإيمان الكامل، فيكون إيمانه ضعيفًا إذا أبغض الأنصار وقد يكون -إذا أبغض الأنصار - قد يكون منافقًا، فإذا أبغضهم لدينهم فهذا يكون كفر أكبر، أما إذا أبغضهم لأمور أخرى تتعلق بأشخاصهم، فيكون هذا نقص في الإيمان، نعم.
حديث "والذي نفسي بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا "
ومنه قوله: والذي نفسي بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا (4).
__________
(1) - البخاري: الأدب (6016).
(2) - أبو داود: الجهاد (2769).
(3) - مسلم: الإيمان (76) , وأحمد (2/419).
(4) - مسلم: الإيمان (54) , والترمذي: الاستئذان والآداب (2688) , وأبو داود: الأدب (5193) , وابن ماجه: المقدمة (68) والأدب (3692) , وأحمد (2/391 ,2/442 ,2/477 ,2/495).(1/205)
نعم وهذا ثابت في صحيح مسلم قوله - صلى الله عليه وسلم- والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم (1) فإذا تباغض المسلمون فيما بينهم ولم يتحابوا دلَّ على ضعف الإيمان ونقصه، نعم، نفي الإيمان نفي الكمال، نعم.
أثر " إياكم والكذب"
وكذلك قول أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-: إياكم والكذب فإنه يجانب الإيمان.
هذا أيضًا يجانب الإيمان الكامل، يعني: فإذا كذب ضعف إيمانه فالمراد: نفي كمال الإيمان، نعم.
أثر " لا إيمان لمن لا أمانة له "
وقول عمر - رضي الله عنه- لا إيمان لمن لا أمانة له.
يعني: لا إيمان كاملا، وهذا صح مرفوعًا من حديث أنس نعم.
أثر " كلُّ الخِلال يُطْبَع عليها المؤمن"
وقول سعد كلُّ الخِلال يُطْبَع عليها المؤمن إلا الخيانة والكذب.
نعم الخيانة والكذب تنافي الإيمان الكامل نعم.
أثر " لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان"
وقول ابن عمر لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقًّا، ويدع المزاحة في الكذب.
"لا يبلغ أحد حقيقة الإيمان" يعني: حقيقة الإيمان الكامل، فإذا لم يدع المراء، ولم يدع المزاح، فإن إيمانه ضعيف، نعم.
هذا النوع الأول -نفي الإيمان- أنا أجبت عنه، والمؤلف سيأتي بالجواب عنه، نعم، النوع الثاني، نعم.
وذكر المؤلف -رحمه الله- أن النصوص التي دلت في نفي الإيمان عن أهل المعاصي أربعة أنواع: النوع الأول نفي الإيمان، والنوع الثاني البراءة، براءة النبي - صلى الله عليه وسلم- من صاحب هذا العمل، نعم.
تأويل أهل السنة للأحاديث التي فيها البراءة من الفاعل
حديث " من غشنا فليس منا "
__________
(1) - مسلم: الإيمان (54) , والترمذي: الاستئذان والآداب (2688) , وأبو داود: الأدب (5193) , وابن ماجه: المقدمة (68) والأدب (3692) , وأحمد (2/391 ,2/442 ,2/477 ,2/495).(1/206)
ومن النوع الذي فيه البراءة قول النبي - صلى الله عليه وسلم- من غشنا فليس منا (1).
نعم، وفي لفظ: من غش فليس منا (2) هذا دليل على الوعيد الشديد، ليس المراد أنه كافر، لا، المراد: أنه ضعيف الإيمان، هذا من باب الوعيد، يكون مرتكبًا لكبيرة، الغاش مرتكب لكبيرة، وهو ضعيف الإيمان ولا يكفر إلا إذا استحل الغش، إذا استحل هذا كَفَر باستحلاله، نعم.
حديث " ليس منا من حمل السلاح علينا "
وكذلك قوله: ليس منا من حمل السلاح علينا (3).
نعم، هذا يدل على المسلمين على المسلمين ضعف الإيمان ولكنه لا يكفر، بل يكون ضعيف الإيمان، ليس من المؤمنين كاملي الإيمان، وإنما هو ضعيف الإيمان، نعم.
حديث " ليس منا من لم يرحم صغيرنا "
وكذلك قوله: ليس منا من لم يرحم صغيرنا (4) في أشياء من هذا القبيل.
نعم، فإذا لم يرحم الصغير، ولم يوقر الكبير، دل على ضعف الإيمان، يعني: في أشياء، في أدلة كثيرة من هذا الباب، نعم.
تأويل أهل السنة للأحاديث التي فيها تسمية الكفر
حديث "أتدرون ما قال ربكم"
ومن النوع الذي فيه تسمية الكفر.
هذا النوع الثاني تسمية مرتكب الكبيرة كافرًا، نعم.
قول النبي - صلى الله عليه وسلم- حين مطروا، فقال: أتدرون ما قال ربكم؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن وكافر. فأما الذي يقول: مطرنا بنجم كذا وكذا، كافر بي مؤمن بالكوكب، والذي يقول: هذا رزق الله ورحمته، مؤمن بي وكافر بالكوكب (5).
__________
(1) - مسلم: الإيمان (101) , وأحمد (2/417).
(2) - مسلم: الإيمان (102) , والترمذي: البيوع (1315) , وابن ماجه: التجارات (2224) , وأحمد (2/242).
(3) - مسلم: الإيمان (101) , وابن ماجه: الحدود (2575) , وأحمد (2/329).
(4) - الترمذي: البر والصلة (1919).
(5) - البخاري: الأذان (846) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451).(1/207)
الحديث رواه الشيخان، عن زيد بن خالد الجهني والمؤلف -رحمه الله- رواه بالمعنى، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم- في حديث زيد بن خالد الجهني يقول: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء من الليل -يعني: على إثر مطر- فأقبل علينا بوجهه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: أتدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال: مُطِرْنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب (1).
قوله: "كافر بي" هذا فيه تفصيل: إن اعتقد أن للنجم تأثيرًا في إنزال المطر فهذا كُفْرٌ أكبر؛ لأنه شرك في الربوبية، إذا اعتقد أن النجم له تأثير في إنزال المطر فهذا كفر أكبر. أما إذا اعتقد أن منزل المطر هو الله، ولكن النجم سبب، فهذا كفر أصغر، لا يخرج من الملة، لكن صاحبه ضعيف الإيمان.
فهذا على حسب اعتقاد الشخص: إذا قال مطرنا بالنجم الفلاني، إن كان يعتقد أن النجم له تأثير في إنزال المطر، هذا شرك أكبر مخرج من الملة؛ لأنه أشرك في الربوبية، جعل المطر مدبِّرًا. وإن كان يعتقد أن منزل المطر هو الله، لكن النجم سبب، أو أن الله أجرى العادة في نزول المطر عند طلوع النجم، فيكون شركًا أصغر، كفرًا أصغر، لا يخرج من الملة، كفْرٌ صاحبه ضعيف الإيمان، نعم.
حديث "لا ترجعوا بعدي كفارًا "
وقوله - صلى الله عليه وسلم- لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض (2).
__________
(1) - البخاري: الجمعة (1038) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451).
(2) - البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/358 ,4/363 ,4/366) , والدارمي: المناسك (1921).(1/208)
نعم، وهذا حديث ثابت في الصحيحين: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض المسلمين (1) قتال المسلمين كفر لكنه كفر أصغر لا يخرج من الملة، إلا إذا استحلَّ، إذا قاتل أخاه واستحله، ورأى أن دم أخيه حلال، هذا كفر أكبر، لكن إذا صارت في قلبه هذه الشحناء والعداوة، ويعلم أن القتال حرام ولا يجوز، هذا كفر أصغر، نعم.
حديث "من قال لصاحبه كافر "
وقوله: من قال لصاحبه: كافر، فقد باء به أحدهما (2).
نعم، وهذا الحديث أيضًا متفق عليه: من قال لصاحبه: يا كافر، فقد باء به أحدهما (3) يكون كفرًا أصغر، إذا قال لشخص: يا كافر يا منافق، هذا كفر أصغر، ينافي كمال الإيمان، نعم.
حديث "من أتى ساحرًا أو كاهنًا "
وقوله: من أتى ساحرًا أو كاهنًا، فصدَّقه بما يقول، أو أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم- أو كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم- (4).
نعم، وهذا الحديث ثابت أيضًا، وفيه الوعيد الشديد على من صدَّق الساحر أو الكاهن أو أتى المرأة في دبرها وأن هذا من كبائر الذنوب، لكن إذا صدَّق الكاهن فيه تفصيل:
__________
(1) - البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/358 ,4/363 ,4/366) , والدارمي: المناسك (1921).
(2) - البخاري: الأدب (6103).
(3) - البخاري: الأدب (6103).
(4) - الترمذي: الطهارة (135) , وأبو داود: الطب (3904) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/476) , والدارمي: الطهارة (1136).(1/209)
إن صدقه في دعوى علم الغيب فهو كفر وردَّة؛ لأنه مكذب لله. قال الله -تعالى-: { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } (1) أما إذا صدَّقه في شيء لا يتعلق بعلم الغيب: كأن يصدقه -مثلا- في معرفة مكان المسروق أو الضالة ++الساحر؛ لأن هذا قد يعلمه بعض الناس، فالساحر قد يخبر بعض الشيء، قد يخبره القرين هذا، فإذا كان شيء مسروق في مكان ما قد يعلمه بعض الناس.
لكن إذا كان من دعوى الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، إذا صدَّقه في دعوى علم الغيب يكون كفر وردة، أما إذا صدقه فيما دون ذلك فهذا عليه الوعيد الشديد، مرتكب لكبيرة، و إيمانه ضعيف، وكذلك من أتى المرأة في دبرها هذا من كبائر الذنوب، كفر أصغر، نسأل الله العافية، إلا أن يستحلَّه، إذا استحلَّه كفر.
أثر "سباب المؤمن فسوق "
وقول عبد الله سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر (2) وبعضهم يرفعه.
نعم الحديث ثابت مرفوع، في صحيح مسلم سباب المسلم فسوق (3) فإذا سبَّ المسلم أخاه فهذا فسق، فيكون ضعيف الإيمان، وقتاله كفر (4) كفر أصغر، لا يخرج من الملة، يكون ضعيف الإيمان، نعم.
تأويل أهل السنة للأحاديث التي فيها تسمية الذنب شركًا
حديث "أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر"
ومن النوع الذي فيه ذكر الشرك.
__________
(1) - سورة النمل آية: 65.
(2) - النسائي: تحريم الدم (4113).
(3) - البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: الإيمان (2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4106) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/454).
(4) - البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4108 ,4109 ,4113) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/433 ,1/454).(1/210)
هذا النوع الرابع، النوع الأول: نفي الإيمان، النوع الثاني: البراءة من الفاعل، النوع الثالث: تسميته كفرًا، النوع الرابع: تسمية الذنب شركًا، نعم.
قول النبي - صلى الله عليه وسلم- أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر. قيل: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء (1) ومنه قوله: الطيرة شرك (2).
وهذا الحديث ثابت أخرجه الإمام أحمد وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال الرياء. يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل إليه (3) فالرياء شرك أصغر وهو يحبط العمل إذا صدر من المؤمن، الرياء يكون أصغر ويكون أكبر: فالرياء الأصغر الذي يصدر من المؤمن، والرياء الأكبر يصدر من المنافق، الذي دخل في الإسلام رياءً ونفاقًا، هذا رياء أكبر، أما الرياء الأصغر: فالذي يصدر من المؤمن في الصلاة أو في العمل، الذي يعمله، فالرياء الذي يصدر من المؤمن الرياء اليسير، هذا يدخل في الشرك الأصغر، لا يخرج من الملة، ويكون إيمانه ضعيفًا، نعم.
حديث "الطيرة شرك"
ومنه قوله: الطيرة شرك، وما منَّا إلا، ولكنَّ الله يذهبه بالتوكل (4).
نعم، الطيرة شرك يعني: شرك أصغر، والحديث لا بأس بسنده، وما منَّا إلا يعني: ما منَّا إلا من يقع فيه في نفسه شيء من ذلك، ولكن الله يُذهبه بالتوكل والاعتماد على الله.
أثر عبد الله "في التمائم والتِوَلة"
وقول عبد الله في التمائم والتِوَلة: إنها من الشرك.
__________
(1) - مسند أحمد (5/429).
(2) - الترمذي: السير (1614) , وأبو داود: الطب (3910) , وابن ماجه: الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440).
(3) - ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30).
(4) - الترمذي: السير (1614) , وأبو داود: الطب (3910) , وابن ماجه: الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440).(1/211)
التمائم: جمع تميمة، وهي ما يعلِّقه الإنسان لأجل دفع العين؛ يعلق في رقبة الطفل أو الشخص أو في يده؛ لأجل دفع العين، هذا من الشرك، هذه من التمائم. والتولة شرك: والتولة: شيء يصنعونه، نوع من السحر، ضرب من السحر، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته، وهو ضرب من السحر، هو من الشرك، فهذا من الشرك الأصغر.
تعليق التمائم يُعلق في يده أو في رقبته أو رقبة إنسان أو دابة حِرزًا، وأصلهما خرزات توضع في رقاب الأطفال لدفع العين، إذا وضع في رقبته أو في يده خيطًا، أو في رجله؛ لدفع العين، أو وضع في سيارته، حتى يضع المصحف كاملا، يضعه في السيارة، هذا تميمة يعتبر من التمائم؛ لأن الإنسان يتعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، ويقرأ الأوراد الشرعية، أما أن يضع شيئًا؟ لا يضع مصحفًا أو يضع شيئًا؛ هذا من التمائم، نعم.
أثر ابن عباس "إن القوم يشركون بكلبهم"
وقول ابن عباس إن القوم يشركون بكلبهم يقولون: كلبنا يحرسنا، ولولا كلبنا لسُرِقنا.
نعم، يشركون: يعني الشرك الأصغر، لا يخرج من الملة، فيكون صاحبه ضعيف الإيمان، وهذا ثابت عن ابن عباس في تفسير قول الله -تعالى-: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) } (1) قال ابن عباس الأنداد: الشرك، أخفى من دبيب النمل، وهي أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ولولا الله وفلان، ولولا الكلب لأتى اللصوص، ولولا كليبكم هذا لأتانا اللصوص، ولولا الله وفلان..، هذا كله من الشرك، شرك أصغر، يكون صاحبه ضعيف الإيمان، نعم.
تأويلات الفرق لأحاديث نفي الإيمان عن أصحاب المعاصي
فهذا أربعة أنواع من الحديث، قد كان الناس فيها على أربعة أصناف من التأويل.
يعني: يقول: هذه أربعة أنواع، جاءت في نفي الإيمان عن أصحاب المعاصي، وهي:
__________
(1) - سورة البقرة آية: 22.(1/212)
النوع الأول: نفي الإيمان عنه، النوع الثاني: البراءة منه، النوع الثالث: وصفه بالكفر، النوع الرابع: وصفه بالشرك.
ذكر المؤلف -رحمه الله- أن الناس تأوَّلوها على أربعة تأويلات، يذكر تأويلات الناس، ثم يتعقبها بالإبطال والرد، التأويلات تأولها بعض الناس، تأويلات باطلة، نعم.
تأويل الكفر بكفر النعمة
وطائفة تذهب إلى كفر النعمة.
هذا التأويل الأول، هناك طائفة من الناس يراد بهم الكفر، والمراد كفر النعمة، هذا تأويل بعض الناس، وسيرد عليه المؤلف -رحمه الله- نعم.
تأويل الكفر بتغليظ النعمة
وثانية تحملها على التغليظ والترهيب.
هذا التأويل الثاني، بعض الناس يقول: ما يسمونه بكفر، ليس المراد به الكفر، وإنما هو من باب التغليظ والترهيب فقط، نعم.
تأويل الكفر بالردة
وثالثة تجعلها كفر أهل الردة.
ثالثة، الطائفة الثالثة تقول: يسمونه كفرا يخرج من الملة، يعني كفر ردة، نعم
إبطال النصوص التي فيها الكفر
ورابعة تذهبها كلها وتردها.
هذه الطائفة الرابعة، يعني تبطل هذه النصوص التي تتهم الناس بالكفر، ثم يضعفونها ويبطلونها، أو يقولون: إنها غير ثابتة، نعم.
بطلان التأويلات الأربعة
فكل هذه الوجوه عندنا مردودة غير مقبولة.
كل هذه الوجوه الأربعة، كلها مردودة باطلة، لماذا ؟ نعم.
لما يدخلها من الخلل والفساد.
نعم. يقول: هذه التأويلات الأربع، كلها باطلة، وسيردها واحدا بعد واحد، نعم.
رد المؤلف على من تأول الكفر بكفر النعمة
والذي يرد المذهب الأول.
ما هو المذهب الأول ؟ أنها كفر النعمة، حملها على كفر النعمة نعم.(1/213)
ما نعرفه من كلام العرب ولغاتها وذلك أنهم لا يعرفون كفران النعم إلا بالجحد لأنعام الله وآلائه، وهو كالمخبر على نفسه بالعدم، وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم، وقد منَّ الله عليه بالسلامة، وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن، ونشر المصائب، فهذا الذي تسميه العرب كفرانا، إن كان ذلك فيما بينهم وبين الله، أو كان من بعضهم لبعض، إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه، ينبئك عن ذلك مقالة النبي - صلى الله عليه وسلم- للنساء: فإنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير -يعني الزوج- وذلك أن تغضب إحداكن فتقول: ما رأيت منك خيرا قط (1) فهذا ما في كفر النعمة.
هذا رد المؤلف وإبطاله للتأويل الأول، التأويل الأول: الذين تأولوا الأحاديث التي فيها الكفر، بأنه كفر النعمة كحديث: اثنتان في الناس هما بهم كفر (2) لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (3) يقول: كفارا يعني كفر النعمة، يقول المؤلف -رحمه الله-: هذا باطل، والذي يدل على ذلك اللغة العربية، تدل على بطلان هذا الشيء، بطلان تفسير الكفر بكفر النعمة؛ لأن المعروف في لغة العرب أن كفران النعمة إنما يكون بالجحد لنعمة الله وآلائه، إنما الذي يقال إنه كافر كفر نعمة هو الجاحد، والجاحد لأنعام الله وآلائه، هذا هو الذي يقال إنه كافر كفر النعمة، هل يقال: إن من طعن في النسب جاحد لأنعام الله وآلائه.
__________
(1) - البخاري: الحيض (304) , ومسلم: الإيمان (80).
(2) - مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/431).
(3) - البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/358 ,4/363 ,4/366) , والدارمي: المناسك (1921).(1/214)
والجاحد لنعم الله وآلائه، هو الذي يخبر عن نفسه بالعدم، وقد وهب الله له الثروة، أو بالسقم وقد من الله عليه بالسلامة، هذا يجحد نعمة الله، الشخص الغني الذي أعطاه الله مالا وثروة، تجده يجحد نعمة الله، ويخرج إلى الناس في ثياب مرقعة مخرقة، ويظهر للناس أنه فقير، وقد يتسول الناس، هذا جاحد منكر لنعمة الله، إن الله يحب إذا أنعم على عبد نعمة، أن يرى أثر نعمته عليه (1).
وكذلك من منَّ الله عليه بالسلامة والعافية، يجعل نفسه مريضا، يجعل نفسه كأنه في هيئة مريض، يربط مثلا يده، ويقول: إنها فيها كسر، وكذا ويأتي بعصا يتوكأ عليه، وبعضهم يأتي، ولا يصلي والعياذ بالله، ويجلس أمام المصلين ويكشف بطنه، ويكون دهن بطنه بشيء لينتفخ البطن، ويظهر للناس أنه مريض، ويئن أنينا، وهذا حاصل واقع -نعوذ بالله- حتى يستدر عطف الناس، ويقولون: هذا مسكين مريض وما في خلاف، ما في خلاف، لكن اصطنع هذا، حزم يده وتوكأ بالعصا، ودهن بطنه فصار منتفخا، وإذا خرجت جماعة من المسجد قام سليما -والعياذ بالله-، هذا جاحد لنعمة السلامة والعافية، هذا الجاحد.
وكذلك ما يكون من كتمان المحاسن، الإنسان يكتم المحاسن، وينشر المصائب، هذا الجاحد، هذا الذي تسميه العرب كفرانا، إذا كان ذلك فيما بينهم وبين الله، وكذلك إذا كان من بعضهم لبعض، إذا تناكروا اصطناع المعروف عندهم وتجاحدوه، فإذا جحد الإنسان مثلا المعروف، المعروف الذي عليه لجاره أو لأخيه، يقال: إن هذا كفر النعمة، وينبئك عن ذلك، أي يدلك على ذلك، قول النبي - صلى الله عليه وسلم- للنساء: تصدقن يا معشر النساء، فإنكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة جزلة، وقالت: يا رسول الله، ما لنا أكثر أهل النار؟ قال: إنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير (2).
__________
(1) - الترمذي: الأدب (2819).
(2) - البخاري: الزكاة (1462) , ومسلم: الإيمان (80).(1/215)
يعني بالعشير الزوج، يعني تجحد النعمة، وذلك أن المرأة التي تجحد معروف الزوج، تجده يحسن إليها طول الدهر، فإذا وجدت بعض الشيء، قالت: ما رأيت منك خيرا قط، هذا الجحد، جحدت النعمة، فالمؤلف يقول: هذا دليل على الجحود، والحديث ثابت في الصحيحين، فتفسير هذه النصوص بكفر النعمة، يقول: المؤلف باطل لغة وشرعا.
فأما اللغة فإنه لا يفسر كفر النعمة إلا بالجحود، جحود النعمة، وكذلك الناس فيما بينهم، وكذلك الحديث يدل على ذلك في قوله: وتكفرن العشير (1) فدل على أن تفسير هذه النصوص بكفران النعمة، باطل من جهة اللغة، وباطل من جهة الشرع، شرعا ولغة، نعم.
رد المؤلف على من تأول الكفر بتغليظ النعمة
وأما القول الثاني -القول الثاني تأويل النصوص بأنها محمولة على التغليظ والترهيب، نعم- المحمول على التغليظ، فمن أفظع ما تؤول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، أن جعلوا الخبر عن الله، وعن دينه وعيدا لا حقيقة له، وهذا يؤول إلى إبطال العقاب، لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها كان ممكنا بالعقوبات كلها.
يقول: تأويل هذه الطائفة بأنه على التغليظ والترهيب، هذا أمر فظيع؛ لأنه يتأول نصوص النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه التي فيها الوعيد الشديد، والتنفير من هذا العمل، يجعل هذا وعيدا لا حقيقة له، وبالتالي يؤدي إلى إبطال العقاب، وأنه لا عقاب عليه، وإذا أمكن هذا في واحد من النصوص، كان ممكنا في جميع النصوص التي فيها الوعيد، فبطل هذا التأويل، نعم.
رد المؤلف على من تأول الكفر بالردة
وأما الثالث.
الثالث الذي يتأول الكفر بأنه كفر ردة، نعم. كفر أكبر مخرج من الملة، نعم.
__________
(1) - البخاري: الحيض (304) , ومسلم: الإيمان (80).(1/216)
الذي بلغ كفر الردة نفسها، فهو شر من الذي قبله؛ لأنه مذهب الخوارج الذين مرقوا من الدين بالتأويل، فكفروا الناس بصغار الذنوب وكبارها، وقد علمت ما وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من المروق، وما أذن فيه من سفك دمائهم، ثم قد وجدنا الله تبارك وتعالى.
يعني يقول: إن التأويل الثالث، وهو القول: بأنها كفر الردة، هذا يوافق مذهب الخوارج والخوارج مذهبهم: أنهم يكفروا الناس بالمعاصي، يقولون: الزاني كافر، والسارق كافر، والعاق لوالديه كافر، وقاطع الرحم كافر؛ والمرابي كافر، وشاهد الزور كافر، والذي يغش في المعاملات كافر، وهذا من أبطل الباطل، المعاصي ليست كفرا، المعاصي تضعف الإيمان، وتنقص الإيمان، ليست كفرا، إنما الكفر إذا كان ناقضا من نواقض الإسلام، أو شركا في العباد هذا كفر.(1/217)
أما المعاصي فإنها ليست كفرا، فالذي يتأولها على أنها كفر أهل الردة وافق الخوارج والخوارج مذهبهم باطل، وهم وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم- بأنهم مرقوا من الدين قال: يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية (1) وفي لفظ: يخرجون من الإسلام، ثم لا يعودون إليه (2) وفي لفظ: من وجدهم ومن عرفهم فليقتلهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم (3) وفي لفظ: لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد (4) فكيف يتأول هذا على قول يوافق مذهب الخوارج وقد وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم- بالمروق من الدين، وأذن في سفك دماءهم من لقيهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله (5) نعم.
__________
(1) - البخاري: المناقب (3610) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: تحريم الدم (4101) , وأحمد (3/4).
(2) - مسلم: الزكاة (1067) , وابن ماجه: المقدمة (170) , وأحمد (5/31) , والدارمي: الجهاد (2434).
(3) - ابن ماجه: الْمُقَدِّمَةِ (168) , وأحمد (1/404).
(4) - البخاري: التوحيد (7432) , ومسلم: الزكاة (1064) , والنسائي: الزكاة (2578) وتحريم الدم (4101) , وأحمد (3/68 ,3/73).
(5) - البخاري: المناقب (3611) , ومسلم: الزكاة (1066) , والنسائي: تحريم الدم (4102) , وأبو داود: السنة (4767) , وأحمد (1/131).(1/218)
ثم قد وجدنا الله تبارك وتعالى يكذب مقالتهم، وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد، وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه، ما كان الحكم على هؤلاء إلا القتل؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: من بدل دينه فاقتلوه (1) أفلا ترى أنهم لو كانوا كفارا، لما كانت عقوباتهم القطع والجلد، وكذلك قول الله فيمن قتل مظلوما: { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } (2) فلو كان القتل كفرا، ما كان للولي عفو، ولا أخذ دية ولزمه القتل.
يقول أيضا: مما يبطل هذا التأويل، وهو تأويل النصوص بأنها كفر أكبر، وهو مذهب الخوارج نصوص دلت على أن العصاة ليسوا كفارا، وذلك أن الله -سبحانه وتعالى- أوجب الحدود على العصاة، فالله تبارك وتعالى حكم على السارق بقطع اليد، قال: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } (3) ولو كان كافرا لوجب قتله، ما تقطع يده لقول النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: من بدل دينه فاقتلوه (4) والزاني بالجلد، وقال تعالى: { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (5) إذا كان بكر والقاذف يجلد ثمانين جلدة، وشارب الخمر يجلد، ولو كانوا كفارا، لوجب قتلهم.
__________
(1) - البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/217 ,1/282 ,1/322).
(2) - سورة الإسراء آية: 33.
(3) - سورة المائدة آية: 38.
(4) - البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/217 ,1/282 ,1/322).
(5) - سورة النور آية: 2.(1/219)
ولهذا قال المؤلف: ولو كان الذنب يكفر صاحبه، ما كان الحكم على هؤلاء إلا القتل؛ لأن المرتد ما هي عقوبته؟ القتل؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- قال: من بدل دينه فاقتلوه (1).
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: "أفلا ترى أنهم لو كانوا كفارا، لما كانت عقوباتهم القطع والجلد، يعني وإنما تكون عقوبتهم أيش؟ القتل.
ومن الأدلة أيضا قول الله تعالى فيمن قتل مظلوما، قال: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) } (2) يعني جاز له الخيار، ولي القتيل له الخيار، بين أيش؟ بين أن يقتل، يعني إذا قتل شخص شخصا عدوانا وظلما، يخير أولياء القتيل، يخيرون بين أي شيء ؟ بين أن يقتلوه قصاصا، وبين أن يعفون بالدية، وبين أن يعفون مجانا، ولو كان كافرا، ما كان فيه عفو لوجب قتله؛ ولهذا قال المؤلف: "فلو كان القتل كفرا، ما كان للولي عفو، ولا أخذ دية، ولزمه القتل"، فدل على بطلان هذا المذهب، وهو تأويل النصوص على أنها كفر أكبر.
اثنتان في الناس هما بهم كفر (3) ليس كفرا مخرجا من الملة، الطعن في النسب (4) إذا طعن في النسب، أو ناح على الميت، هذه معصية كبيرة، وكفر أصغر، لكنه لا يخرج من الملة، يضعف الإيمان، نعم.
رد المؤلف على من تأول النصوص بالتضعيف
وأما القول الرابع.
التأويل الرابع، ما هو التأويل الرابع ؟ تذهبها كلها وتردها، يعني إبطال هذه النصوص، هذه النصوص غير ثابتة، ضعيفة كذا يبطلونها، نعم.
__________
(1) - البخاري: الجهاد والسير (3017) , والترمذي: الحدود (1458) , والنسائي: تحريم الدم (4059 ,4060 ,4061 ,4062 ,4064 ,4065) , وأبو داود: الحدود (4351) , وابن ماجه: الحدود (2535) , وأحمد (1/217 ,1/282 ,1/322).
(2) - سورة الإسراء آية: 33.
(3) - مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/431).
(4) - مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/431 ,2/496).(1/220)
الذي فيه تضعيف هذه الآثار، فليس مذهب من يعتد بقوله، فلا يلتفت إليه، إنما هو احتجاج أهل الأهواء والبدع الذين قصر علمهم عن الاتساع، وعيَّت أذهانهم عن وجوهها، فلم يجدوا شيئا أهون عليهم من أن يقولوا: متناقضة فأبطلوها كلها.
هذا رد التأويل الرابع، وهو أنهم أضعفوا هذه الآثار وردوها، بعضهم يقول: هذه الآثار ثابتة، وبعضهم يقول: إنها أخبار آحاد، لا يحتج بها، فالمؤلف -رحمه الله- يقول: إن هذا المذهب ليس مذهب من يعتد بقوله، من أهل العلم والدين، فلا يلتفت إليه، وإنما هذا مذهب أهل الأهواء، وأهل البدع، الذين قصر علمهم عن فهم هذه النصوص، وعيت أذهانهم عن وجوهها، وفهم معناها، فلما كانوا كذلك اختاروا أن يردوها، وأن يبطلوها، وأن يقولوا: إنها متناقضة، أو إنها أخبار آحاد، أو إنها غير ثابتة فأبطلوها، وذلك بسبب مرض في قلوبهم، وضعف في أفهامهم.
فلهذا ردوا هذه الأحاديث وأبطلوها، طيب بعد أن رد المؤلف -رحمه الله- هذه الوجوه كلها، سيبين الآن معنى هذه النصوص، ما المراد بهذه النصوص ؟ هذه النصوص التي فيها نفي الإيمان عن أصحاب المعاصي أو البراءة منهم، أو وصفهم بالكفر أو بالشرك، ما هو المعنى الصحيح لهذه النصوص ؟ سيبينه المؤلف -رحمه الله- نعم.
تأويل المؤلف لأحاديث نفي الإيمان
وإن الذي عندنا في هذا الباب كله، أن المعاصي والذنوب لا تزيل إيمانا، ولا توجب كفرا، ولكنها إنما تنفي من الإيمان حقيقته، وإخلاصه الذي نعت الله به أهله، واشترطه عليهم في مواضع من كتابه، فقال:.
نعم يقول المؤلف -رحمه الله-: تأويل هذه النصوص عندنا، التي فيها نفي الإيمان عن العصاة، لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن أو بالبراءة، مثل: برئ النبي من الصالقة والحالقة والشاقة أو وصفه بالكفر، اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب أو وصفه بالشرك، من حلف بغير الله فقد أشرك .(1/221)
يقول: معناها عندنا أن هذه معاصي وذنوب وكبائر، الزنا، والسرقة، والطعن في النسب والنياحة، هذه معاصي، وذنوب لا تزيل الإيمان بالمرة عن صاحبها، ولا توجب الكفر الأكبر، الذي يخرج من الملة، ولكنها تنفي من الإيمان حقيقته، وإخلاصه تنفي كمال الإيمان، وإخلاصه وحقيقته، فيكون صاحبها ضعيف الإيمان، معه أصل الإيمان، وليس معه كماله، فهي تنفي حقيقة الإيمان، وإخلاصه الذي نعت الله به أهله، واشترطه عليهم في مواضع من كتابه.
فالله اشترط في المؤمن الكامل، أنه يؤدي الواجبات، وينتهي عن المحرمات، والذي يقصر في الواجبات، ويفعل المحرمات، ما أتى بالشرط، فيكون ضعيف الإيمان، وناقص الإيمان، هذا هو الصواب الذي ذكره المؤلف -رحمه الله- الصواب في تأويل هذه النصوص، أن المراد بالنفي في هذه النصوص، نفي كمال الإيمان وحقيقته، فيقال في العاصي: ليس بمؤمن حقا، ليس بمؤمن حقا، أو يقال: مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، ليس بمؤمن حقا، تنفي عنه حقيقة الإيمان، ينفى عنه كمال الإيمان وإخلاصه، الذي نعت الله به أهله.
ثم يذكر المؤلف -رحمه الله- نصوص فيها بيان المؤمنين الكمل، الذين أدوا الواجبات، وانتهوا عن المحرمات، فدل على أن الذي لا يأتي بهذه الشروط، لا يكون كامل الإيمان، بل يكون ضعيف الإيمان.
نصوص فيها بيان المؤمنين الكمل
قوله تعالى "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم"
في مواضع من كتابه، فقال: { * إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } (1) إلى قوله: { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) } (2).
__________
(1) - سورة التوبة آية: 111.
(2) - سورة التوبة آية: 112.(1/222)
نعم هذه الآيات فيها بيان أوصاف المؤمنين الكمل، هذه أوصافهم: { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) } (1) الكمل المؤمنين الكاملي الإيمان، فالذي لا يحفظ حدود الله، ضعيف الإيمان، فالذي لا يتصف بهذه الصفات، يكون ناقص الإيمان، ضعيف الإيمان، هؤلاء العصاة إيمانهم ضعيف، ما أتوا بهذه الشروط.
قوله تعالى "قد أفلح المؤمنون"
وقال: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) } (2) إلى قوله: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) } (3).
__________
(1) - سورة التوبة آية: 112.
(2) - سورة المؤمنون آية: 1-2.
(3) - سورة المؤمنون آية: 9-11.(1/223)
هذه الآيات فيها وصف المؤمنين الكمل { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) } (1) الذين كمل إيمانهم بهذه الصفات، ما هي صفاتهم ؟ { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) } (2) هؤلاء المؤمنون، { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) } (3) أما من لم يتصفوا بهذه الصفات، فهو ضعيف الإيمان، الذي لا يحفظ فرجه ضعيف الإيمان، الذي يخون الأمانة، يكون ضعيف الإيمان، هذه أوصاف المؤمنين الكمل. نعم.
قوله تعالى "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله"
وقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } (4).
__________
(1) - سورة المؤمنون آية: 1.
(2) - سورة المؤمنون آية: 2-9.
(3) - سورة المؤمنون آية: 10-11.
(4) - سورة الأنفال آية: 2-4.(1/224)
نعم، هذه أوصاف المؤمنون الكمل إذن الكمل الإيمان هذه أوصافهم، { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } (1) توجل قلوبهم عند ذكر الله، { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } (2) زيادة الإيمان عند ذكر الله، { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) } (3) يتوكلون على الله، { وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ } (4) وينفقون مما رزقهم الله، { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ } (5).
أما من لم تكن بهم هذه الصفات، ليس بمؤمن حقا، بل هو ضعيف الإيمان؛ ولهذا وعدهم الله بالثواب العظيم، قال: { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } (6) لكن هذا الوعد ليس لضعيف الإيمان، ضعيف الإيمان متوعد بالنار؛ الزاني والسارق، وشارب الخمر متوعد بالنار، وهذا موعود بالجنة فرق بينهما، المؤمن كامل الإيمان موعود بالجنة، والمؤمن ضعيف الإيمان موعود بالنار، { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } (7) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (8).
__________
(1) - سورة الأنفال آية: 2.
(2) - سورة الأنفال آية: 2.
(3) - سورة الأنفال آية: 2.
(4) - سورة البقرة آية: 3.
(5) - سورة الأنفال آية: 4.
(6) - سورة الأنفال آية: 4.
(7) - سورة النساء آية: 10.
(8) - سورة البقرة آية: 278-279.(1/225)
فرق بين هؤلاء، بين المرابي وآكل مال اليتيم، هذا موعود بالنار، وهذا موعود بالحرب، والمؤمن كامل الإيمان موعود بالجنة، فرق بينهما، هذا كامل الإيمان موعود بالجنة، وهذا ضعيف الإيمان موعود بالنار، لكن العاصي إذا دخل النار لا يخلد، يعذب على قدر المعاصي، ثم يخرجه الله برحمته، أو بشفاعة الشافعين، على حسب الجرائم، ما دام مات على التوحيد والإيمان، أما من مات على الشرك والكفر، فهذا لا حيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم- فيه، هذا مخلد في النار، نعم.
تعقيب المؤلف على الآيات
قال أبو عبيد فهذه الآيات التي شرحت، وأبانت شرائعه المفروضة على أهله، ونفت عنه المعاصي كلها، ثم فسرته السنة بالأحاديث، التي فيها خلال الإيمان، في الباب الذي في صدر هذا الكتاب، فلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان المنعوت بغيرها، قيل: ليس هذا من الشرائط التي أخذها الله على المؤمنين، ولا الأمارات التي يعرف بها أنه الإيمان، فنفت عنهم حينئذ حقيقته، ولم يَزُل عنهم اسمه.(1/226)
هذا كلام المؤلف قال: أبو عبيد وهو المؤلف قيس بن سلام تعقيب على هذه الآيات، قال: فهذه الآيات التي شرحت، وأبانت شرائعه المفروضة على أهله، ونفت عنه المعاصي كلها، هذه الآيات التي سبقت، { * إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ } (1) { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) } (2) { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } (3) هذه شرحت وبينت شرائع الإسلام المفروضة على أهله، ما هي شرائع الإسلام ؟ { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ } (4) { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) } (5) { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ } (6) { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا } (7).
هذه شرائع، هذه الآيات شرحت، وأبانت شرائعه المفروضة على أهلة، ونفت عنهم المعاصي كلها، ثم جاءت السنة، ففسرت السنة، فسرت السنة في الأحاديث التي فيها خلال الإيمان، يعني أوصاف الإيمان، أهل الإيمان في الباب الذي قصد بهذا الكتاب، الباب الأول، ذكر فيها أوصاف المؤمنين الأحاديث التي ذكرت أوصاف المؤمنين، وأنهم يقومون بما أوجب الله عليهم، ويؤدون حق الجار، ويبرون والديهم، ويحسنون وينتهون عن المعاصي، ولا يغشون، ولا يرابون، ولا يخادعون.
__________
(1) - سورة التوبة آية: 111.
(2) - سورة المؤمنون آية: 1.
(3) - سورة الأنفال آية: 2.
(4) - سورة التوبة آية: 112.
(5) - سورة المؤمنون آية: 1-2.
(6) - سورة الأنفال آية: 2.
(7) - سورة الأنفال آية: 3.(1/227)
فلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان المنعوت بغيرها، لما جاءت المعاصي، فخالطت الإيمان أصل الإيمان، صارت هذه المعاصي، أضعفت هذا الإيمان، فصار ضعيفا، اختل الشرط اختلت الشروط، التي أخذها الله على المؤمنين، ونقصت العلامات التي يعرف بها أهل الإيمان، فلما لم يؤدوا هذه الشروط، الله تعالى اشترط، قال: { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) } (1) هو خانوا الأمانة، ما أدى الشرط، نقص الشرط، قال: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) } (2) ما حفظ فرجه زنى، فلما خالطت هذه المعاصي هذا الإيمان.
قيل: ليس هذا من الشرائط التي أخذها الله على المؤمنين، اختلت الشروط، التي أخذها الله على المؤمنين، وصار هذا الإيمان، نقصت العلامات التي يعرف بها المؤمنون الكمل، الإيمان فلذلك انتفت عنهم حقيقة الإيمان وكماله، ولم يزُل عنهم الاسم، الاسم باقي، والكمال والحقيقية منفي، هذا الخلاصة، فنفت عنهم حينئذ حقيقته، ولم يَزُل عنهم اسمه، نعم.
سؤال كيف يقال ليس بمؤمن واسم الإيمان غير زائل عنه؟ وجوابه من النصوص وكلام العرب
ينفى عن الشيء حقيقته وكماله والاسم باقي
فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقال: ليس بمؤمن، واسم الإيمان غير زائل عنه ؟ قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا، غير المستنكر بإزالة العمل عن عامله، إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع -إذا كان ليس بمحكم لعمله-: ما صنعت شيئا، ولا عملت عملا، وإنما وقع معناهم -هاهنا- على نفي التجويد، لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان.
__________
(1) - سورة المؤمنون آية: 8.
(2) - سورة المؤمنون آية: 5.(1/228)
حتى تكلموا به، فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه، ويبلغ منه الأذى، فيقال: ما هو بولد، وهم يعلمون أنه ابن صلبه، ثم يقال: مثله في الأخ، والزوجة والمملوك، وإنما مذهبهم في هذا المزاينة الواجبة عليهم من الطاعة والبر، وأما النكاح والرق والأنساب، فعلى ما كانت عليه أماكنها وأسماؤها، فكذلك هذه الذنوب التي ينفى بها الإيمان، إنما أحبطت الحقائق منه للشرائع، التي هي من صفاته، فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك، ولا يقال لهم إلا مؤمنون، وبه الحكم عليهم.
هذا اعتراض من المؤلف وجواب، ذكر اعتراضا وجوابه، الاعتراض يقول: إنك تأولت النصوص، التي فيها نفي الإيمان عن العصاة، فكيف تقول: إنه ليس بمؤمن، واسم الإيمان باق عليه ؟ هذا تناقض، اعتراض تقول: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (1) تقول: إن هذا نفي لكمال الإيمان، وهو باق معه الإيمان، أليس هذا تناقضا؟، تقول: ليس بمؤمن، وهو مؤمن، واسم الإيمان باق عليه، واضح الاعتراض، المؤلف أورد أيضا، "فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقال: ليس بمؤمن، واسم الإيمان غير زائل عنه ؟".
__________
(1) - البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106).(1/229)
أجاب المؤلف -رحمه الله - قال: "ما فيه تناقض" لأن قاعدة تقول: شرط التناقض أن تكون الجهة واحدة، وأن يرد النفي والإثبات على شيء واحدة، أما إذا كانت الجهة منفكة، فلا تناقض واضح، هذا متى يكون التناقض؟ إذا كان النفي والإثبات يرد على جهة واحدة، أما إذا كانت الجهة منفكة، فلا يكون تناقضا، مثال ذلك: الله تعالى أثبت الإيمان للمنافقين، ونفاه عنهم، هل هذا تناقض؟ قال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) } (1).
إذن أثبت لهم الإيمان، ونفى عنهم الإيمان، هل هذا تناقض؟ معاذ الله أن يكون تناقضا؛ لأنه كلام الله، أما شرط التناقض، أن تكون الجهة واحدة، وهنا الجهة منفكة، فإثبات الإيمان يرجع إلى اللسان، ونفي الإيمان يرجع إلى القلب، إذن الجهة واحدة، ولا منفكة ؟ منفكة. لو كان الإثبات والنفي يرد على اللسان، لكان هذا تناقضا، أو كان الإيمان والنفي يرد على القلب، كان تناقضا، أما إذا كان إثبات الإيمان في جهة، ونفيه في جهة، صارت الجهة منفكة { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ } (2) هذا أيش؟ باللسان، { وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) } (3) بالقلب، فأثبت الإيمان باللسان، ونفى الإيمان عن القلب، فصارت الجهة منفكة، فلا يكون تناقض، شرط التناقض، أن يرد النفي والإثبات على شيء واحد.
وكذلك هنا فيقال: العاصي ليس بمؤمن، وهو مؤمن، كيف هذا ؟ العاصي ليس بمؤمن، النفي يرد على كمال الإيمان، والإثبات يرد على أصل الإيمان، فيقال: ليس بمؤمن، يعني جهة كمال الإيمان، النفي وهو مؤمن، هذا يرجع إلى أصل الإيمان، فالمؤلف ورد اعتراض، فإن قال قائل: كيف يجوز، أن يقال ليس بمؤمن، واسم الإيمان غير زائل عنه؟
__________
(1) - سورة البقرة آية: 8.
(2) - سورة البقرة آية: 8.
(3) - سورة البقرة آية: 8.(1/230)
قال المؤلف -رحمه الله -: الجهة منفكة، فنفي الإيمان يرجع إلى الكمال، وإثباته يرجع إلى الأصل والاسم، قال: قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا، غير المستنكر، في إزالة العمل عن عامله، إذا كان عمله على غير حقيقته.
يقول: إنها أيضا لغة العرب تدل على هذا، وهو واسع، وذلك أنه ينفى العمل عن الشخص، إذا كان لا يعمل عملا حقيقيا، ينفى عنه العمل، وإن كان عمله، إنسان يعمل عملا، ولا يصلح فيه، يخون في هذا العمل، ينفى عنه العمل، يقولون: فلان ما عمل، يعني ما عمل عملا متقنا، وإن كان عمل عملا ناقصا، وضعيفا، فهذا معروف في كلام العرب قيل: "هذا كلام العرب المستفيض عندنا، غير المستنكر، في إزالة العمل عن عامله، إذا كان عمله على غير حقيقته".
ثم مثل، فقال: ألا ترى أنهم يقولون للصانع، إذا كان ليس بمحكم لعمله: ما صنعت شيئا، ولا عملت عملا، فإذا كان العامل ما يحسن الصنعة، ولا يتقنها، يقال: ينفى عمله، يقال: ما صنعت شيئا، ولا عملت عملا، هل المراد أنه ما عمل شيئا ؟ إن المراد ما عمل شيئا جيدا؛ ولهذا قال: وإنما وقع معناهم هاهنا، على نفي التجويد، أيش التجويد ؟ يعني الصنعة الجيدة، ما عملت يعني، ما عملت عملا جيدا، لا على الصنعة نفسها، لا.
لأنك ما عملت، قد يعمل لك هذا الصانع، وهذا النجار يعمل باب من خشب، ولكنه باب ما على المطلوب، بابه ضعيف، وخشب رديء، مخلخل وغير مثبت، صنع ولا ما صنع؟ صنع لكن صنعه غير جيد، فيقال: ما صنعت شيئا، يعني جيدا، وإن كان صانعا صنعة رديئة، فأصل الصنعة ثابتة، والتجويد منفي عنه.(1/231)
فكذلك المؤمن العاصي، ينفى عنه كمال الإيمان، ويثبت له أصل الإيمان واسمه؛ ولهذا قال المؤلف: "وإنما وقع معناه هنا على نفي التجويد، لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان"، فالصانع الذي ما يتقن صنعته، يكون عاملا، بأيش ؟ بالاسم، اسمه عامل، وغير عامل في الإتقان والجودة، ينفى عنه العمل، من جهة الإتقان والجودة، ويثبت له العمل، من جهة أصل الصنعة، وأصل العمل، وكذلك المؤمن العاصي، يثبت له أصل الإيمان واسمه، وينفى عنه الكمال، وهو حقيقته.
يقول المؤلف: حتى تكلموا به فيما هو أكثر من ذلك، وذلك كرجل يعق أباه، ويبلغ منه الأذى، فيقال: ما هو بولد، وهم يعلمون أنه ابن صلبه، فالعاق الذي يعق أباه، ليس بولد، ومعلوم أنه ابنه من صلبه، لكن ليس بولد بار، وإنما هو ولد عاق، فهو ابن لأنه ابنه من صلبه، معروف لا إشكال فيه، لكنه ليس بابن بار، فيقال: هذا ليس بولد، هل معناه أنه ليس ابنا له؟ لا، بل المراد ليس بولد بار، ولكنه ولد عاق.
وكذلك مثل الأخ، والزوج والمملوك، الأخ إذا كان جافيا، ولا يحسن إلى أخيه، هذا ليس بأخ بار، وكذلك الزوجة، ليست زوجة إذا كانت غير مطيعة لزوجها، والعبد المملوك، يقول المؤلف -رحمه الله-: "انظر وإنما مذهبهم في هذا المزايلة، من الأعمال الواجبة عليهم، من الطاعة والبر، يعني مقصودهم بالنفي، أنه زال عنه العمل الواجب من الطاعة والبر، وأما النكاح والرق والأنساب، فعلى ما كانت عليه أماكنها وأسماؤها.(1/232)
فالزوجة فليست بزوجة، ليست بزوجة مطيعة، لكن واقع النكاح باق، ولو كانت ناشزا، ولو كانت غير مطيعة، نعم النكاح باق على اسمه، ولكن نفي عنها أيش؟ الطاعة وكذلك العبد يقال: ليس بعبد ليس بمملوك ليس بعبد جيد؛ لأنه يعصي سيده، لكن الرق باقي، ولو فسخ ملكه، باق. وكذلك الأنساب باق، يقال: هذا الابن العاق، ما هو بولد، النسب باقي، ولا غير باقي، النسب باقي، ولو نكر؛ ولهذا قال: "وأما النكاح والرق والأنساب، فعلى ما كانت عليه أماكنها وأسماؤها".
فكذلك هذه الذنوب، الذي ينفى بها الإيمان، هذه الذنوب ينفى بها الإيمان، ينفى بها كمال الإيمان، أما اسم الإيمان فهو باق؛ ولهذا قال: إنما أحبطت في الحقائق منه، للشرائع التي هي من صفاته، إنما أحبطت ما هي؟ الذنوب والمعاصي، أحبطت الحقيقة، حقيقة الإيمان وكماله، للشرائع التي هي من صفاته، فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك، الاسم باق، ولكن الذي نفي الحقيقة، ولا يقال لهم إلا مؤمنون، العصاة لا يقال لهم إلا مؤمنون، وبه الحكم عليهم، ويحكم عليهم، بإنهم مؤمنون، لكن النفي إنما هو للكمال، نعم.
قوله تعالى "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"
وقد وجدنا مع هذا شواهد، لقولنا: من التنزيل والسنة، فأما التنزيل فقول الله -جل ثناؤه- في أهل الكتاب حين قال: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } (1) قال أبو عبيد
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 187.(1/233)
يعني يقول: إنه وجدنا أدلة، تدل على هذا التأويل، الذي تأول هذه النصوص من القرآن العزيز، ومن السنة المطهرة، تدل على أي شيء، تدل على أنه ينفى عن الشيء حقيقته وكماله، وإن كان الاسم باقيا، من ذلك قول الله -جل ثناؤه- في أهل الكتاب اليهود والنصارى حين قال: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } (1) الله تعالى أخذ على أهل الكتاب أيش ؟ الميثاق، أن يبينوا ولا يكتموا، لكن كتموا ولم يبينوا، هل زال عنهم اسم أهل الكتاب ولا باق عليهم ؟ باق. هم أهل الكتاب الأحكام باقية، أهل الكتاب تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم، ولو كانوا ما قاموا بالعمل، فالاسم باق لكن نفي عنهم الكمال، كما سيبينه المؤلف.
قال أبو عبيد حدثنا الأشجعي عن مالك بن مغول عن الشعبي في هذه الآية، قال: أما إنه كان بين أيديهم، ولكن نبذوا العمل به، ثم أحل الله لنا ذبائحهم، ونكاح نساءهم، فحكم لهم بحكم الكتاب، إذ كانوا به مقرين، وله منتحلين، فهم بالأحكام والأسماء في الكتاب داخلون، وهم لها بالحقائق مفارقون، فهذا ما في القرآن.
يعني يقول: إن أهل الكتاب سماهم الله أهل الكتاب وهم لم يعملوا بالكتاب، نبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا، ومع ذلك ما زال عنهم اسم أهل الكتاب فهم نبذوا العمل، ولم يعملوا به، وهو بين أيديهم ولم تزل الأحكام باقية، فهم أهل الكتاب فأحل الله لنا الذبائح، وكذلك النساء، يجوز للإنسان أن يتزوج المرأة الكتابية -اليهودية والنصرانية- إذا كانت محصنة، وتجوز ذبيحته، إذا جهلت الحال، إلا إذا ذبح باسم المسيح، فلا تأكل، أو ذبح بالخنق، إذا جهلت أكلت، قال الله تعالى: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } (2).
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 187.
(2) - سورة المائدة آية: 5.(1/234)
ولو كان ما يعمل بكتابه، ولو كان يعمل بكتابه، عاص إذا لم يعمل بكتابه، فهو عاص، لكن باق الأحكام، مثل المؤمن العاصي، كما أن المؤمن العاصي يسمى مؤمن، وهو عاصي، فأهل الكتاب - اليهود والنصارى - ولو كانوا عصاة، يسموا أهل الكتاب الأسماء باقية، والأحكام باقية؛ ولهذا قال المؤلف: "كتاب الله بين أيديهم، ونبذوا العمل به، ثم بقيت الأحكام، ثم أحل الله لنا ذبائحهم، ونكاح نسائهم".
فحكم لهم بحكم الكتاب، إذا كانوا به مقرين" إذا كانوا مقرين بالكتاب، وله منتحلين" ينتسبون إلى كتابهم، ينتسبون إلى اليهودية والنصرانية، "فهم بالأحكام والأسماء في الكتاب داخلون" أحكامهم وأسماءهم داخلة، في مسمى أهل الكتاب "وهم لها بالحقائق مفارقون" في الحقيقة، مفارقون ما عملوا بالكتاب، فهم حقيقة مفارقون، ولكن حكما، واسما داخلون، فكذلك المؤمن العاصي حقيقة، الإيمان منفية عنه واسم الإيمان والأحكام كلها ثابتة له، هذا الدليل من الكتاب، نعم.
حديث المسيء صلاته
وأما السنة، فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم- الذي يحدث به رفاعة في الأعرابي الذي صلى صلاة فخففها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ارجع فصل فإنك لم تصل حتى فعلها مرارا، كل ذلك يقول: فصل، وهو قد رآه يصليها، أفلست ترى أنه مصل بالاسم، وغير مصل بالحقيقة ؟ وكذلك في المرأة العاصية.(1/235)
نعم، هذا دليل من السنة، الدليل من السنة، حديث رفاعة وهو يسمى عند أهل العلماء، بحديث الأعرابي، ويسمى حديث المسيء، الأعرابي مسيء، وهو حديث رواه الشيخان البخاري ومسلم وغيرهما، وذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان جالسا في المسجد، فدخل رجل فصلى ركعتين، تحية المسجد، ثم جاء وسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال له: وعليك السلام، ارجع فصل، فإنك لم تصل، فرجع الرجل، فصلى مثل صلاته الأولى، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: وعليك السلام، ارجع فصل، فإنك لم تصل، ثم رجع الرجل، فصلى مثل صلاته الأولى نقرها نقر الغراب، ما يتم الركوع، ولا السجود، ينقرها نقر الغراب حتى فعل هذا ثلاث مرات، في كل مرة، يقول النبي وعليك السلام: ارجع فصل، فإنك لم تصل، فقال الرجل في المرة الثالثة: والذي بعثك بالحق نبيا، لا أحسن غير هذا، فعلمني فعلمه، قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تعتدل جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تنزل جالسا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها أرشده إلى الطمأنينة، والشاهد من الحديث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم- & ;وفيه من الفوائد: أن الإنسان إذا صلى يسلم، صلى وسلم مرة ثانية، فالصلاة فاصلة، رجع فصلى فسلم، ورد عليه السلام، ولم ينكر عليه.
الشاهد من الحديث، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- قال: ارجع فصل فإنك لم تصل وجه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: إنك لم تصل، نفى عنه الصلاة، ولكنه مصل هو صلى، هو صلى، ولا لا، قال: في الحديث جاء رجل الأعرابي، فصلى فقال له النبي: ارجع فصل، فإنك لم تصل كيف يقول: فصلى، والنبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: إنك لم تصل، أثبت الصلاة، ونفاها عنه، هل هذا تناقض؟ لا؛ لأن الجهة منفكة.(1/236)
قلت فيما سبق: إن شرط التناقض، أن يكون على شيء واحد، قال: فرجع فصلى يعني صلاة صورية بالاسم، وقال النبي: لم تصلي يعني صلاة حقيقية؛ لأن ما فيها طمأنينة، فهذا الرجل ثبت له اسم الصلاة، ونفي عنه الصلاة، ما هو الذي أثبت له، وما هو الشيء الذي نفي عنه ؟
الشيء الذي أثبت له، الصلاة الصورية، الصورة، أنه صلى أربع ركعات، أو ركعتين، يركع ويسجد، هذه صلاة صورية، والذي نفي الصلاة، الحقيقة الشرعية؛ لأنها ما فيها طمأنينة، باطلة، فهذا الرجل بقي له الاسم، ونفي عنه الحقيقة، فهو مثل المؤمن العاصي، له الاسم والأصل، وينفى عنه الحقيقة والكمال واضح هذا؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "وأما السنة، فحديث النبي - صلى الله عليه وسلم- الذي يحدث به رفاعة في الأعرابي الذي صلى صلاة فخففها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ارجع فصل، فإنك لم تصل حتى فعلها مرارا، كل ذلك يقول: فصلي وهو قد رآه يصليها، أفلست ترى أنه مصل بالاسم ؟ يعني صلاة صورية، وغير مصل بالحقيقة؛ لأنها ليست فيها طمأنينة، نعم.
حديث "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة"
وكذلك في المرأة العاصية لزوجها، والعبد الآبق، والمصلي بالقوم الكارهين له، إنها غير مقبولة، نعم.
فالمرأة العاصية، والعبد الآبق من سيده، جاء في الحديث ما معناه: ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة، إمام قوم وهم له كارهون (1) وكذلك جاء أيضا في نفي قبول صلاة العبد الآبق، وأنه لا تقبل منه صلاة أربعين يوما، وكذلك المرأة العاصية لزوجها، لا تقبل صلاتها، فهل معنى ذلك أن صلاتهم باطلة، وأنهم كفار؟ لا، فالنفي إنما هو أيش ؟ للكمال والحقيقة؛ لعصيانهم، ولكن الصلاة صحيحة، والمنفي إنما هو الكمال لأجل عصيانهم، فكذلك المؤمن العاصي، ينفى عنه الكمال، ويثبت له الأصل والاسم نعم.
حديث "شارب الخمر وأنه لا تقبل له صلاة أربعين "
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/237)
ومنه حديث عبد الله بن عمر في شارب الخمر، أنه لا تقبل له صلاة أربعين ليلة.
نعم هذا الحديث، لا تقبل صلاته أربعين، ليلة شارب الخمر، فنفيت عنه الصلاة، يعني لا تقبل منه صلاة، يعني كاملة صلاته، ليست كاملة، وإن كانت صلاته صحيحة، لا يطالب بإعادتها، لكن نفي عنه الكمال، ليس ثوابها مثل ثواب المؤمن المطيع، وكذلك العاصي المؤمن، ينفى عنه كمال الإيمان، ويثبت له أصله واسمه نعم.
حديث "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"
وقول علي - رضي الله عنه- لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد.
وهذا موقوف على علي لكن مرفوعا، لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، يعني لا صلاة كاملة، ولو صلى في غير المسجد، صحت صلاته إلا أنه عاصي، وثوابها ليس كثواب..، وكذلك أيضا يكون آثما؛ لأن النصوص دلت على أنه، لا بد للرجل أن يصلي في الجماعة، إلا من عذر، فهذا المنفي الكمال، والصلاة ثابتة له، صلاته صحيحة وثابتة، لكن نفي عنه الكمال، وعليه الإثم، إذا كان يستطيع الجماعة. نعم
حديث "من قدم ثقله ليلة النفر لا حج له"
وحديث عمر - رضي الله عنه- في المقدم ثقله ليلة النفر أنه لا حج له.
هذا سيحتاج إلى -يعني- مراجعة الحديث، ما ذكر المؤلف تخريجه، من قدم ثقله ليلة النفر، قال: إنه لا حج له، يحتاج إلى تخريج الحديث، وعلى فرض ثبوته، يكون يعني لا حج له كاملا، لأنه ترك واجبا، من واجبات الحج هذا ألا يتقدم ليلة النفر، يعني ليلة العيد، ولا يبيت في المزدلفة، ترك واجبا من واجبات الحج، حجه صحيح، لكن عليه دم، عليه دم شاة يذبحها، وصار فديا، ولا أعرف حديثا ثابتا، في أنه لا حج له، لكن لو ثبت، فالمراد يعني لا حج له كاملا، نفي الكمال، يعني هذا مراد المؤلف -لو صح الحديث-، نعم.
أثر " من تأمل خلق امرأة من وراء ثياب وهو صائم "
وقال حذيفة من تأمل خلق امرأة من وراء ثياب وهو صائم أبطل صومه.(1/238)
المؤلف يقول: إن هذا موضوع +لكنه موضوع، لكن المؤلف ما رفعه إلى النبي، نسبه إلى حذيفة لكن لو صح، معناه أبطل صومه، يعني أبطل كمال الصوم، وإلا فلا، صومه صحيح، ما يبطل صومه، هو مجزئ، هذا لو صح، نعم.
جواب المؤلف عن الأحاديث التي فيها إطلاق اسم الكفر والشرك
قال أبو عبيد
هذا تعليق على الآثار، على النصوص الصادرة من الكتاب والسنة، والآثار سيعلق عليها المؤلف -رحمه الله-، نعم.
فهذه الآثار كلها، وما كان مضاهيا لها، فهو عندي على ما فسرته لك، وكذلك الأحاديث التي فيها البراءة، فهي مثل قوله: من فعل كذا وكذا فليس منا، لا نرى شيئا منها، يكون معناه التبرؤ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولا من ملته، إنما مذهبه عندنا، أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا، وهذه النعوت، وما أشبهها، وقد كان سفيان بن عيينة يتأول قوله: ليس منا، ليس مثلنا، وكان يرويه عن غيره أيضا.
فهذا التأويل، وإن كان الذي قاله إمام من أئمة العلم، فإني لا أراه من أجل أنه إذا جعل من فعل ذلك، ليس مثل النبي - صلى الله عليه وسلم- لزمه أن يصير من يفعله مثل النبي - صلى الله عليه وسلم- وإلا فلا فرق بين الفاعل والتارك، وليس للنبي - صلى الله عليه وسلم- عديل، ولا مثل من فاعل ذلك ولا تاركه، فهذا ما في نفي الإيمان، وفي البراءة من النبي - صلى الله عليه وسلم- إنما أحدهما من الآخر، وإليه يئول.
وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي، فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفرا، ولا شركا، يزيلان الإيمان عن صاحبه، إنما وجوبها أنها من الأخلاق، والسنن التي عليها الكفار والمشركون وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل في الكتاب والسنة، نحوا مما وجدنا في النوعين الأولين.
نعم قف على هذا(1/239)
قال أبو عبيد -تعليق على هذه الآثار-: "هذه الآثار كلها، وما كان مضاهيا لها، فهو عندي على ما فسرته لك"، ما هو الذي فسره ؟ فسره بأن النفي إنما هو نفي الكمال، والحقيقة كمال الإيمان، وحقيقته وإثبات الأصل والاسم، وكذلك الأحاديث، التي فيها البراءة، مثل قول النبي: برئ من الحالقة، والصالقة، والشاقة يقول: فهي مثل قول: من فعل كذا وكذا فليس منا، مثل: من حمل علينا السلاح فليس منا من غش فليس منا .
الأحاديث التي فيها البراءة، برئ النبي - صلى الله عليه وسلم- من الحالقة، والصالقة أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين يقول: تفسير الأحاديث التي فيها البراءة، مثل الأحاديث التي فيها ليس منا، من حمل علينا السلاح فليس منا من غش فليس منا ما معناها، يقول: لا نرى شيئا منها، يكون معناه التبرؤ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولا من ملته، يعني ليس المراد أن النبي تبرأ منه، ومن دينه؛ لأنه ليس بكافر، ما المراد ؟ قال: المراد إنما مذهبه عندنا، أنه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا.
إذن المؤلف -رحمه الله- يفسر النصوص التي فيها، براءة النبي - صلى الله عليه وسلم- من الفاعل أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين والأحاديث التي فيها ليس منا: من ضرب الخدود، وشق الجيوب فليس منا من حمل علينا السلاح فليس منا من غشنا فليس منا يقول: هذه لا تفيد الكفر، ليس معناها أنه كافر؛ لأن هذه معاصي لا يخرج من الملة، وليس معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- تبرأ من دينه؛ لأنها لا زالت باقية، لا زال باقيا اسم الإسلام.(1/240)
إنما معناها، يكون معناها، ليس من المطيعين منا، من حمل علينا السلاح فليس منا يعني ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا، من غش فليس منا يعني ليس من المطيعين لنا، وليس من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا، قال: وهذه النعوت، وما أشبهها، هذا تأويلها، تأويلها كذا برئ النبي - صلى الله عليه وسلم- من كذا، يعني برئ معناها أنه ليس من المطيعين، ولم يتبرأ من دينه، ليس من المطيعين، ولا من المقتدين، ولا من المحافظين على الشريعة.
يقول: "وقد كان سفيان بن عيينة يتأول تأويلا آخر" ما هو يتأوله ؟ يقول: "ليس منا، ليس مثلنا، وكان يرويه عن غيره أيضا" يعني سفيان بن عيينة يقول: " ليس منا من حمل علينا السلاح فليس منا، ليس مثلنا" وأبو عبيد يقول: "معناه ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا" ما الفرق بينهما ؟ يقول أبو عبيد "ليس منا يعني، ليس من المقتدين بنا، ولا المطيعين لنا، ولا من المحافظين على شرائعنا".
وسفيان بن عيينة يتأولها أيش ؟ ليس منا، ليس مثلنا، ويروي هذا التأويل عن غيره من العلماء، المؤلف يرد على سفيان تأويله، يقول: "فهذا التأويل الذي تأوله سفيان بن عيينة ليس منا، ليس مثلنا، وإن كان الذي قاله إمام من أئمة العلم، فإني لا أراه صحيحا" لماذا لا تراه صحيحا يا أبا عبيد ؟ قال: " لأن معناه، إذا قال: ليس مثلنا، هل معنى ذلك أنه إذا لم يفعل هذه المعصية، يكون مثل الرسول ؟ لا، ما يمكن أن يكون مثل الرسول، حتى لو كان مطيعا، ما يمكن أن يصل إلى ما وصل إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم- من التقوى والصلاح؛ فلذلك أرى أن هذا التأويل غير صحيح".(1/241)
هذا كلام من؟ أبو عبيد يرد تأويل سفيان بن عيينة يقول: "وإن كان إماما من أئمة العلم والدين، لكن ما أرى أن هذا التأويل سليم، لماذا ؟ لأن له مفهوم، إذا قال العاصي: ليس منا، ليس مثلنا، طيب المطيع، هل هو مثل الرسول ؟ لا يمكن أن يكون مثل الرسول؛ فلذلك أرى أن هذا التأويل ليس بصحيح، وإنما التأويل، أيش ؟ ليس من المطيعين لنا، واضح هذا.
ولذلك قال: "فإني لا أراه، من أجل أنه إذا جعل من فعل ذلك، ليس مثل النبي - صلى الله عليه وسلم- لزمه في المقابل أن يصير من يفعله، مثل النبي - صلى الله عليه وسلم- وإلا فلا فرق بين الفاعل والتارك، وليس للنبي - صلى الله عليه وسلم- عديل ولا مثل، من فاعل ذلك ولا تاركه" ما يمكن أن يكون أحد عديل للنبي، ولا مثله سواء كان مطيعا، أو غير مطيع.
قال المؤلف: "فهذا ما في نفي الإيمان، وفي البراءة من النبي - صلى الله عليه وسلم- إنما أحدهما من الآخر وإليه يئول، هذا التأويل النفي نفي الإيمان، لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن والبراءة برئ النبي - صلى الله عليه وسلم- من الحالقة والصالقة والشاقة أما الآثار المروية في ذكر الكفر والشرك، ووجوبها بالمعاصي، فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفرا، ولا شركا، يزيلان الإيمان عن صاحبه.
يقول: "الأحاديث التي فيها من حلف بغير الله فقد أشرك اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب. يقول: ليس معناها أن صاحبه كافر كفر، يخرج من الملة، ولا مشركا شركا في العبادة، ليس معناها أنه كافر كفر يذهب الإيمان، أو مشرك يزيل الإيمان، إذن ما معناها ؟ قال: "معناها أنها من الأخلاق والسنن، التي عليها الكفار والمشركون، هذا معناها، معناها أيش ؟ من حلف بغير الله فقد أشرك يعني فقد فَعَلَ فِعْل المشركين، وسننهم وأخلاقهم اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب الطعن في النسب ليس مخرجا من الملة، وإنما معناه، أنه من أخلاق الكفار، وسننهم وأفعالهم.(1/242)
ثم قال: وقد وجدنا لهذين النوعين، من الدلائل في الكتاب -نتوقف على وجدنا نوعين- هذا تأويل المؤلف، لكن الآن، أنا أقول تعقيبا على المؤلف -رحمه الله-: الأحسن والأصوب في تأويل هذه النصوص، أن يقال: إن هذه النصوص تفيد الوعيد والزجر، وأنها من الكبائر، وما سمي منها شركا، أو كفرا، فهو أصغر، لا يخرج من الملة، ما لم يكن شركا في العبادة، أو ناقضا من نواقض الإسلام.
والمؤلف -رحمه الله- هنا قوله: إنها ليست من شرائعنا، ولا من أخلاقنا، ولا المطيعين لنا، هذا يقوله النووي -رحمه الله-: أحيانا يتأول النصوص في شرح صحيح مسلم وأئمة الدعوة وغيرهم، من أهل العلم بينوا، أن هذا ليس بجيد، وليس بسليم؛ لأن هذا تأويل، يعتبر تأويل، ليس من المطيعين، لنا ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا، والأصوب أن يقال: أن هذه الأحاديث، وهذه النصوص، تفيد الوعيد والزجر، وأنها من الكبائر.
ولا يقال: إنه ليس من المحافظين لنا، ولا من المطيعين لنا؛ لأن هذا تأويل تبقى على حالها ولا تفسر، تبقى هذه النصوص على حالها؛ حتى تفيد الوعيد والزجر عن هذه الكبائر؛ لأنك إذا قلت ليس من المطيعين لنا، سهلت الأمر، ليس من المحافظين على شرائعنا، سهلت الأمر، لا تفسرها بهذا التفسير؛ لأنك إذا فسرتها بهذا التفسير، تساهل العاصي، قال: ليس منا من ضرب الخدود ليس من المطيعين لنا، هذا الأمر سهل، لكن ليس منا تقول: هذا وعيد شديد يدل على أن هذا الأمر من الكبائر، هذه المعاصي من الكبائر، تفيد الوعيد والزجر.(1/243)
و اثنتان في الناس هما بهم كفر كفر أصغر، لا يخرج من الملة، الحلف بغير الله من حلف بغير الله فقد أشرك شركا أصغر، إلا إذا كان شركا في العبادة، أو ناقضا من نواقض الإسلام، فإنه يكون كفرا أكبر، وليس كفرا أصغر، فالأصوب والأحسن، أن يقال في تأويل هذه النصوص: أنها تفيد الوعد والزجر، وأنها من الكبائر، وما سمي منها شركا وكفرا، فهو كفر أصغر، أو شرك أصغر، لا يخرج من الملة، ما لم يكن شركا في العبادة، أو ناقضا من نواقض الإسلام.
وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع العلم النافع، والعمل الصالح، وثبت الله الجميع على الهدى، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه، والتابعين، وغدا -إن شاء الله- نكمل الرسالة، وسأختمها -إن شاء الله- ونسأل الله أن يختم لنا بخير، وأن يوفق الجميع للعلم النافع، والعمل الصالح، والثبات على الإسلام، وإلى الأسئلة.
جزى الله الشيخ خير الجزاء، هذا ينبه على الآية في سورة الأنفال صفحة 79 نعم، يقول: ليس فيها الزكاة، { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } (1) { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } (2).
نعم { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } (3) صحح الذي عنده خطأ، يصحح الآية.
هذا يقول: هل يحكم على الخوارج المسلمون في الوقت الحاضر، والمعاصر الإباضية بالكفر ؟
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).
(2) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).
(3) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/244)
الخوارج المعاصرون مثل الخوارج القدامى، الحكم واحد، المذهب واحد، والخوارج فيهم كلام لأهل العلم، فالجمهور -جمهور العلماء- على أنهم عصاة، والصحابة -رضوان الله عليهم- عاملوهم معاملة العصاة، ولم يكفروهم، واستدلوا بقول الخليفة الراشد علي - رضي الله عنه- هل هم كفار لما قاتلهم، قال: من الكفر فروا؛ ولأنهم متأولون، فالصحابة عاملوهم معاملة العصاة.
ومن العلماء من كفرهم، وهي رواية عن الإمام أحمد واستدلوا بالنصوص، التي فيها ما يدل على كفرهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم- يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية وفي لفظ: يمرقون من الدين، ثم لا يعودون إليه وفي لفظ: لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد شبههم بقوم عاد وهم قوم كفار، وفيه: من لقيهم فليقتلهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله .
قالوا: فهذه النصوص صريحة في كفرهم، فدل على كفرهم، وهو رواية عن الإمام أحمد لكن الجمهور على أنهم عصاة، وهو الذي قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: إن الصحابة عاملوهم معاملة العصاة، لا المرتدين،وكلهم واحد، حكمهم واحد المختار الجمهور، على أنهم عصاة، نعم.
هذا يقول: ذكر المؤلف -رحمه الله- أن مرتكب الكبيرة والعصاة من المسلمين ننفي عنهم حقيقة الإيمان وإخلاصهم، أي مع بقاء أصل الإيمان، السؤال: ما الفرق بين الأصل والحقيقة، أليس الحقيقة هي الأصل ؟ قال الله تعالى بعد سرد صفات المؤمنين: { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } (1) نرجو الإجابة -وجزاكم الله خيرا-
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/245)
نعم، الفرق بين الأصل والحقيقة، الأصل اسم الإيمان، وثبات الإيمان، والحقيقة الكمال { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } (1) ويقال: العاصي ليس بمؤمن حقا، الحقيقة هي الكمال، والأصل هو أصل الاسم وثباته، وثبوت الاسم، نعم.
هذا يقول: الوجه الأول هو كفر النعمة، والوجه الثاني هو أن النصوص للترغيب والترهيب، من هم أصحاب هذه الأقوال ؟
ما ذكر المؤلف -رحمه الله- ما نسبهم، ما عزاهم، ما يهمنا من قال بهذا، المهم أن تعرف القول، والجواب عنه.
يقول: أشكل علي الرد على المذهب الثاني، المحمول على التغليظ، وجه الإشكال، أليس هناك نصوص يحملها العلماء على الوعيد ؟ وما معنى ذلك.
نعم يعني يقول: من حملها على الوعيد، بمعنى أنها من باب الوعيد فقط، ولا يقول: إنها كبيرة من كبائر الذنوب، أما إذا حملها على التغليظ، وقال: إنها من كبائر الذنوب، وأنها كبيرة، ولا تفيد ذلك، فلا بأس إذا قرن مع ذلك أنها كبيرة، قال: إنها تفيد الوعيد؛ لأنها من كبائر الذنوب، فهذا حق، أما إذا قال: تفيد الوعيد فقط، أو قال: إنها محمولة على التغليظ، معناه إنه تفيد التغليظ، وليست كبيرة، والأمر في هذا هين، نعم.
هذا يقول: ما معنى بعض أوصاف الخوارج أحداث الأسنان، يقولون: من خير قول البرية، لا يجاوز حناجرهم، هل بعض أوصافهم تكون في الرجل ؟ وهو لا يعلم، ثم بقية السؤال يقول:
نعم، يقول: أحداث الأسنان، يعني صغار السن، ليسوا كبارا، شبابا يقرءوا القرآن، لا يجاوز حناجرهم، هذا نفي الإيمان، يعني أنه لا يقبل منهم، لا يصح منهم، قد يعلمون، وقد لا يعلمون، والظاهر أنهم لا يعلمون، ويظنون أنهم على حق، نعم.
وهذا أيضا يقول: جاء في وصفهم، أنهم يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان.
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/246)
نعم هذا موصوف في الأحاديث، يعني يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يعني يقاتلون المؤمنين بالمعاصي، فيكفرون المؤمنين بالمعاصي، فالزاني يقتلونه، يستحلون دمه؛ لأنه كافر عندهم، والسارق كافر، والعاق والديه كافر، ولا يقاتلون الكفار، أهل الأوثان ما يقاتلونهم، لكنهم يقاتلون المسلمين العصاة، هذه من أوصافهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، جاء وصفهم في الأحاديث الصحيحة، نعم.
يقول: فهل الذين يفعلون في الدعاة، الذين هم من أهل السنة وعلى العقيدة الصحيحة، ويدعون أهل البدع، فيهم وصف من وصف الخوارج شبه من الخوارج ؟
لا شك أن هذا شابههم في هذا الوصف، نعم.
ما هو مذهب الإباضية وما مذهبهم في الإيمان ؟
سيأتي -إن شاء الله- في الدرس غدا -إن شاء الله-، المؤلف سيتكلم في آخر الكتاب عن الإباضية يتكلم عن الإباضية ومذهبهم، يكون الكلام عنهم غدا -إن شاء الله- نعم.
يقول: المعاصي تنفي كمال الإيمان، ويبقى أصل الإيمان، فما هو أصل الإيمان ؟ وهل هذا الأصل من جنس ما يكون به كمال الإيمان ؟
أصله يعني اسمه، اسم الإيمان، وكل الأحكام تجرى عليه أحكام الإيمان، يخاطب بـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } (1) ويقال: إنه مؤمن ويدخل في عموم المؤمنين، ويخاطب بالأوامر والنواهي، هذا أصل الإيمان وأما حقيقته كماله، ينفى عنهم كماله، نعم.
ما رأي فضيلتكم فيمن يقول: أن المعاصي سببها النقص في التوحيد، وداخلة في الكفر بالله، أي جنس هذه الذنوب ؟.
نعم لا شك، أن المعاصي نقص في التوحيد والإيمان لكنها لا تزيل الإيمان، إلا إذا كانت كفرا ناقضا، من نواقض الإسلام، أو شركا في العبادة، نعم.
يقول: ما الفرق بين الكفر الأصغر، وكفر النعمة ؟ وهل هما مختلفان ؟
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/247)
نعم كفر النعمة من الكفر الأصغر، لقوله تعالى: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } (1) هذا كفر أصغر، كفر النعمة، كفر أصغر، نعم.
يقول: أشكل علي، أن الحنفية لا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، مع أنهم من أشد الناس في التكفير بالأعمال، كالسجود للصنم، بل حتى من قدم بيضة لكافر في عيده.
نعم، هم ذكروا في هذا، من أكثر الناس، حتى أنهم أوصلوها إلى أربعمائة مكفر، وحتى قالوا: إن من قال: مستيقن أو مسيجد، على وجه التصغير كفر، فهم يرون أن المعاصي معاصي، والكبائر كبائر، والكفر كفر، وهذا غير مسألة أن تدخل الأعمال في مسمى الإيمان، لا منافاة، يقولون: الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، والكفر كفر، والشرك شرك، لكن هذا الكفر الذي يرونه، يرون أنه مخرج عن الملة، الكفر الذي يعني المكفرات، التي ذكروها التي تخرج من الملة، يرون أنها تنافي الإيمان، تنافي الإيمان من أصله، نعم.
يقول: هل يوجد في هذا الزمان خوارج ؟ ومتى يحل للمسلمين قتال الخوارج ؟
نعم يوجد خوارج، ذكر الأسئلة للإباضية وغيرهم، من الخوارج وهم الخوارج ذكر أهل الفرق أنهم ما يقرب من مائتين وعشرين فرقة، يوجد في هذا الزمان خوارج، موجودين في عمان وفي المغرب وفي غيرها من الجهات المتعددة، جماعة التكفير والهجرة، قد يكونون على مذهب الخوارج وقد يكون بينهم فرق، يحتاج إلى تأمل، ونظر في أحكامهم وأعمالهم؛ حتى يحكم الإنسان عليهم، نعم.
هل يلزم الاستحلال في كل معصية، حتى يحكم عليه بالكفر ؟ أم هذا هو قول المرجئة ؟
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/248)
ما يلزم قد يفعل الإنسان المعصية ولا يستحلها، يزني إن غلبته الشهوة، لكن إذا يستحل الزنا كفر، يسرق إذا غلبه حب المال، يرابي إن غلبه حب المال، لكنه يعلم أن الربا حرام، يكون عاصيا، أما إذا اعتقد أن الربا حلال، هذا ردة وكفر؛ لأنه استحل أمرا معلوما، من الدين بالضرورة، نعم.
يقول: يستدل الخوارج وأتباعهم، بالنصوص التي أوردها المؤلف -رحمه الله- في باب الخروج من الإيمان، على مذهبهم الفاسد، ونحن قدرنا فيها كمال الإيمان، أو الكفر الأصغر، ونحو ذلك، فما هو الصارف لها عن ظاهرها، لأننا نواجه منهم حجة واستدلالا، بالإطلاق والعموم في النصوص.
الصارف لها هو الجمع بين النصوص، النصوص يضم بعضها إلى بعض، الله تعالى أثبت الإيمان للعاصي، وأثبت لقوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } (1) فسمى القاتل أخا للمقتول، ومع ذلك نفي عنه الإيمان، الجمع بينهما النصوص التي نفت الإيمان، تحمل على كمال الإيمان، والنصوص التي أثبتت فيها الإيمان بالأخوة، أصل الإيمان هذا هو الصارف، النصوص يضم بعضها إلى بعض، وكلام الله، وكلام رسوله يصدق بعضه بعضا، ولا ينقض بعضها بعضا.
هذا هو الصارف لها، الجمع بين النصوص، في نصوص أثبتت الإيمان، ونصوص نفت الإيمان، فكيف نجمع بينها ؟ التي أثبتت الإيمان، تحمل على أصل الإيمان، واسمه وحده، ودخوله فيه، والنصوص التي نفت الإيمان، تحمل على كماله وحقيقته، نجمع بين النصوص، ونعمل بالنصوص من الجانبين.
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/249)
أما الخوارج فإنهم أخذوا النصوص التي تنفي الإيمان، ++ أصل وأغمضوا أعينهم عن النصوص التي تثبت الإيمان، فصاروا من أهل الزيغ، وكذلك المرجئة الذين أخذوا بالنصوص التي فيها إثبات الإيمان، وأغمضوا أعينهم عن النصوص التي فيها نفي الإيمان، فصاروا من أهل الزيغ، وأما أهل السنة فأخذوا النصوص من الجانبين، وعملوا بها فهم أهل الحق، وهم أهل الاستقامة، نعم.
هذا ألح على عرض السؤال يقول: في مشكلة مع والده، وأيضا فيها أمور في الإيمان وأسئلة، لكن يقول: يزجرني أبي لإعفاء لحيتي، وتقصير ثوبي، علما بأنه يصلي في المسجد خمسه، ويقرأ في اليوم ما يزيد على الجزأين، وإذا كنا في المجلس فيه شيخ يتحدث -يعني-، يقول: كأنه يسمع متعجبا وكذا.
وإذا كنا في البيت، رأيته من شياطين الإنس -والعياذ بالله- ومن جملة ما يقول: الإيمان في القلب، ولن يجادلك أحد في صلاتك وصومك، ولكني لا أحب هذه المظاهر، كاللحية الطويلة، والثوب القصير، علما بأنه يهذب لحيته، ويلقيها يقول: نصف سنتيمتر تقريبا، وإذا جادلته بالحكمة والدليل قال: اسكت وبلاش فلسفة، ووصلت به الحال إلى أن قال: إن بقيت على هذه الحال، لا أريدك في بيتي، يقول: ما حكم كلمته الإيمان في القلب ؟
أولا قولك إنه من شياطين الإنس، هذا خطأ منك، ليس لك أن تقول لوالدك، تصفه بهذا الوصف، فالوالد مهما عمل فإنه والد، يجب عليك أن تحسن إليه، وأن تبره حتى لو كان كافرا، يجب أن تحسن إليه، وتنفق عليه، قال الله تعالى في الوالدين الكافرين: { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } (1) ثم قال: { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } (2).
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).
(2) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/250)
يجب عليك أن تحسن لوالديك وتتلطف له، هو السبب في وجودك، وتحسن إليه وتنفق عليه، لكن لا تطيعه في المعصية، إذا أمرك بحلق اللحية، لا تطيعه، أمرك بإرخاء ثيابك، تحت الكعب، لا تطيعه، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم- لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإذا جادلته بين له الدليل باللين، والرفق، واترك الجدال العقيم، ويمكنك أن توعز إلى بعض الإخوان، وبعض الدعاة، أن ينصحونه، ويبينون له الحق.
وإذا خفت على دينك، ودعت الحاجة إلى أن تخرج، اخرج من البيت، اخرج واسكن في محل، إذا خفت ضررا في دينك، أو خفت أن يفتنك في دينك، أو اخرج وتزوره على فترات، وتحسن إليه، وتتصل به هاتفيا، وتدعو له، وتتلطف معه، ولا تطعه في المعاصي. نعم
يقول: نرجو منك الدعاء له.
نسأل الله لنا وله الهداية، نسأل الله لنا وله الهداية، نسأل الله أن يهديه، ادع له بظهر الغيب، من حقه عليك، أن تدعو له بظهر الغيب، ادع له في أوقات الإجابة، أن الله يهديه، كما كانت أم أبي هريرة - رضي الله عنه- كانت قبل أن تسلم، كانت تسب النبي - صلى الله عليه وسلم- وكان يشق هذا على أبي هريرة مشقة عظيمة، حتى يأتي يبكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يدعو له فدعا لها، ثم جاء بعد ذلك، ورآها لما قذف الله في قلبها الإسلام، ورآها تغتسل، وأسلمت، ففرح بذلك، وبكى من الفرح.
فالحمد لله، عليك أن أن تدعوأ، أن أن ت أن تدعو لوالديك، بظهر الغيب، في أوقات الإجابة، وتتلطف معه، وتحسن إليه، وتخاطبه بالتي هي أحسن، وتصحبه باللين والرفق، وتهدي له كتيبات، أو أشرطة، وتدعو أحد الدعاة من أهل العلم، من ينصحه، أو يجادله، ويبين له الحق، لعل الله أن يهديه، نسأل الله لنا وله الهداية والثبات.(1/251)
هذه رسالة يعني كتبها -جزاه الله خيرا-، يقول: قدمنا من بلاد بعيدة لطلب العلم- ملخص الرسالة، يقول: يعني هل يحق لنا، أن نقول: لمن يُعلم الناس أن نقول له: كثر الرءوس الجهال الذين يفتون الناس بغير علم في بلادنا، فهل يحق لنا أن نقول: للناس لا تأخذون ؟ أو إلى أحد من صغار طلبة العلم، نقل فتوى أو جاء يتكلم في شيء، نقول له سموا لنا رجالكم، وعلى أيدي مَنْ مِنْ العلماء طلبتم العلم، ونحو ذلك هل هذا من التنطع ؟
لا، ينظر في الشخص، إذا كان الشخص الذي يفتي ليس من أهل العلم، نعم. أو نقل فتوى، يقال: ممن نقلت الفتوى ؟ إذا كان ما هو معروف بالعلم، ولا هو من أهل العلم، ولا هو من أهل الفتوى، نعم. ينهى عن الفتوى، يقال: لا تفتي يا فلان، أهل الفتوى موجودون والحمد لله، الوسائل الحديثة، يعني وسائل الاتصال الحديثة سهلة، يستطيع في أي مكان في الدنيا، أن يتصل بأهل العلم الكبار، في المملكة العربية السعودية بلجانها الدائمة، الاتصال بالمفتين، يجد عندهم الجواب، ولا ينبغي أن يكون صغير، طالب علم يفتي، أو ينقل نقلا ما تثبت فيه، نعم ينهى عن هذا، الفتوى لأهلها، ليس لصغار الطلبة، ولا لغير الراسخين في العلم، ولا للمتسرعين، وضعفاء البصائر والإيمان أن يفتوا. نعم
وأيضا يقول: إننا لما تكبدنا المشاق إليكم، قول: زهدنا بعض الناس، وقال: يكفي الكتب، ولا يلزم أن تذهبوا إلى المشايخ.
هذا غلط ليس بصحيح، العلم إنما يؤخذ من أفواه العلماء، وليس هناك أحد صار طالب علم من الكتب، الكتب وحدها لا تكفي، وقديما قيل: "من كان شيخه كتابه فخطأه أكثر من صوابه" الكتب طيبة مفيدة، إذا لم يتيسر الحضور فطيب.
يقول: نفي الكمال عن العاصي قصدك نفي الكمال الواجب، أليس كذلك ؟
نعم + لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه يعني لا يؤمن الإيمان الكامل الواجب، نعم.
يقول: هل الكفر الأصغر، أعلى من الكبيرة وكذلك الشرك الأصغر؟(1/252)
نعم الصواب، أنه أكبر من الكبائر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- سماه كفرا وشركا، فهو أكبر من الكبائر، نعم.
هذا ينبه على الآية { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ } (1) يقول: سقطت السائحون الآية ص78.
نعم تعدل الآية جزاه الله خيرا، بارك الله فيه.
يقول: متى بدأ القول بأن الإيمان بالقول والقلب فقط، هل من عهد أبي حنيفة ؟ أم القول من قبل عهده ؟
نعم أول من قال: بأن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان حماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة نعم. بدأ عند أهل الكوفة يعني عباد الكوفة هم أول من قال: بذلك، نعم.
هل تجوز الصلاة خلف الإباضي ؟
القاعدة في هذا، أن الصلاة لا تصح خلف الكافر، أما المؤمن العاصي، أو المبتدع، فهذا فيه تفصيل، أما إذا كانت بدعته تكفره، فلا تصح بإجماع المسلمين فالإمام القبوري، الذي يدعو غير الله، ويذبح لغير الله، وينذر لغير الله، أو فعل كبيرة مكفرة، هذا لا تصح الصلاة خلفه، بإجماع المسلمين وإذا صلى وهو لا يعلم، يعيد الصلاة، أما المبتدع والعاصي، ومرتكب الكبيرة، فهذا فيه تفصيل:
من العلماء من قال: لا تصح وتعاد، ومنهم من قال: تصح مع الكراهة، والصواب أنها تصح، ولكن الصلاة خلف العادل أفضل؛ ولهذا كان الصحابة كانوا يصلون خلف الحجاج، وكان فاسقا ظالما، وصلوا خلف عقبة بن أبي معيط وقد شرب الخمر، ثم أعادوا الصلاة؛ لأنه صلى بهم سكران، المقصود أن الصواب في هذه المسألة، ويدل على هذا؛ ما ثبت في صحيح البخاري؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: يصلون لكم -يعني أئمة لكم- فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم، وعليهم .
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/253)
فالصواب صحة الصلاة خلف العاصي، وأنها صحيحة، ولكن الصلاة خلف العادل أولى، وقال بعض أهل العلم: تعاد الصلاة، هذا في العاصي الفاسق، أو المبتدع، أما الكافر فهذا لا تصح الصلاة خلفه، بإجماع المسلمين والإباضي ينظر، هل اعتقاده يوصله إلى الكفر أو لا يوصله ؟ وسبق أن الصحابة عاملوهم معاملة العصاة.
يقول: اليوم ذكرت آية تحليل طعام أهل الكتاب لنا، كنت في بلد غربي -يعني أجنبي- وأشكل علينا أمر الربط بين هذه الآية، وآيات ذكر اسم الله على الذبيحة، وأن غير ذلك فسق، مثل قوله تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } (1) إلى آخر الأدلة، ++
الإشكال الثاني + الإشكال الأول، أولا: أهل الكتاب الله تعالى نص على أن ذبائحهم حلال، قال: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } (2) وطعامهم يعني ذبائحهم، كما قال أهل العلم، فأهل الكتاب ذبيحتهم حلال لكن بشرط، الذبيحة لها شرطان:
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).
(2) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/254)
الشرط الأول: أن يكون الذابح مسلما، أو كتابيا -يهوديا أو نصرانيا- والشرط الثاني: قطع الحلقوم والمريء بآلة حادة، فإذا وجد الشرطان، صحت الذبيجة، وإذا تخلف واحد منها فإن الذبيحة غير صحيحة، فإذا ذبح الكتابي، ولا ندري كيف ذبح وقطع الحلقوم والمريء ؟ وجهلنا الحال نأكل، أما إذا علمنا أنه ذكر، قال: باسم المسيح، فلا يؤكل يقول الله تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } (1) أو ذبح بالخنق، أو ضرب الرأس، هذه لا تحل حتى ذبيحة المسلم، المقصود أن الكتابي إذا ذبح الكتابي، وجهلنا الحال نأكل، وإذا علمنا أنه مثلا ذبح بالخنق، أو ذكر اسم المسيح أو غيره، فلا نأكل فلا يوجد مانع، نعم.
الإشكال ثاني يقول: الربط بين الآية { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } (2) وحديث تحريم الأكل في آنية أهل الكتاب فإذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن استخدام آنيتهم، وفي هذا حكم واضحة، فمن باب أولى عدم أكل طعامهم. وما ترجح.
أين النهي عن الأكل في آنيتهم، ؟
ما في نهي ؟ بل في حديث أبي كعب الخشني وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم- عفا، إنا نكون في قوم لا نجد فيها إلا آنيتهم أفنأكل ؟ قال: نعم، قال: فإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها فإذا كان يخشى أن يكون فيها شيئا من الخمر أو الدم، فيغسلها، فالحديث واضح في أنه لا بأس من الأكل في أوانيهم.
يقول: فإذا كان تحليل طعام أهل الكتاب هو الراجح، فعند دعوتهم إذ إن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أجاب دعوتهم للطعام، ثم إنهم في الغرب استحدثوا طرقا جديدة؛ لقتل الحيوانات غير الذبح، فيطلقون الرصاص، يقول: رأيتها بنفسي.
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).
(2) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/255)
مثل ما سبق، لا بد أن يقطع الحلقوم والمريء، بآلة حادة، فإذا ذبح بالخنق، أو بالرصاص، فهذا لا يصح، حتى ذبيحة المسلم، حتى المسلم لو خنقها أو ضربها، فلا تصح، لا بد من الشروط، كما سبق قطع الحلقوم والمريء بآلة حادة، ويكون الذابح مسلما، أو كتابيا، ولا يذكر غير اسم الله عليها.
هو يشكل عليه، كيف يجيب دعوته ؟ وأنا رأيت بنفسي.
إذا رأيت بنفسك، لا تجب دعوته، إذا غلب على ظنك أنه ذبيحة ما قتل بالرصاص، لا تأكل، فإذا جهلت الحال فالأصل الحل، أظنك تجيب دعوته، وتأكل غير اللحم، تأكل فاكهة أو قهوة، أو شاي أو مشروب، نعم.
يقول: نحن في بلد عربي، لنا جيران نصارى، يحملون جنسيتنا، تمر عليهم أيام أعياد، كعيد الميلاد، فلا بد من مشاركتهم وتهنئتهم، وإن لم نفعل ذلك، صار بيننا من الحقد والضغينة الشيء الكبير، نعم. بيننا وبينهم كفر وإسلام، ولكن أتكلم عن مصالح العباد، وهل يختلف الحكم لو كان جاري نصرانيا ؟ وهو خال لأبنائي.
لا يجوز لك أن تشاركهم في أعيادهم ولا تهنئهم، لا يجوز تهنئتهم، ولا مشاركتهم، وأما مسألة الإحسان شيء آخر، والمعاملة شيء، أما أن تشاركهم في أعيادهم وتهنئهم، فهذا لا يجوز، وحتى ولو كان خالا لأولادك، نعم.
هذا يقول: فضيلة الشيخ، إني أحبك في الله -أحبك الله، الذي أحببتني فيه، نسأل الله لنا ولكم دوام التحاب في الله- يقول: أعاني منذ سنوات شكوكا، وشبهات في الإيمان، في الأسماء والصفات، وأنفث عن يساري، وأتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكنه يعود علي بشبهات، حتى شككت في إيماني، وأني من المنافقين، وأصبحت الوساوس تراودني في الطهارة، وأتأخر عن الصلاة، فكيف أدافع الوسواس، حتى يثبت الإيمان في القلب ؟(1/256)
مثل ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم- أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة قال: يأتي الشيطان الإنسان، فيقول: من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول: من خلق الله ؟ فإذا وجد ذلك، فليقل آمنت بالله ورسوله وفي بعضها فليستعذ بالله ولينته يستعذ بالله من الشيطان الرجيم، شروط التوحيد آمنت بالله ورسوله، وفي الحديث يقول: الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ من الشيطان ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقرأ { اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } (1) ويقول: آمنت بالله ورسله، وينته يقطع التفكير، ويشتغل في أموره.
وكذلك الوساوس في الطهارة، وفي غيرها، يكثر من ذكر الله، ويستعين بالله، ويجزم على الشيء، ولا يردد ولا يكرر، ويكثر من تلاوة القرآن والتدبر، ويستعيذ بالله من الشيطان، ويقرأ الأوراد في الصباح والمساء، وآية الكرسي بعد كل صلاة، والمعوذتين، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } (2) ويتعوذ بكلمات الله التامة، من شر ما خلق، ويستعين بالله، ويستمر في أمره، ويترك التردد ويجزم، نعم.
يقول: هل تعليق التمائم من القرآن يكون بدعة، أو شركا أصغر، أو جائزا ؟
التمائم من القرآن، فيها خلاف بين أهل العلم، بعض أهل العلم رخص فيها، والجمهور على المنع، وهو الصواب، أنه المنع، ولو كانت من القرآن؛ لأن النصوص عامة، ولم تخصص؛ ولأنها وسيلة إلى تعليق غير التمائم من القرآن؛ ولأنها وسيلة إلى امتهانها، ودخول الحمام، عند قضاء الحاجة، فالصواب المنع من القرآن، وغير القرآن، نعم.
__________
(1) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).
(2) - أبو داود: الصلاة (593) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (970).(1/257)
هذا جزاه الله خيرا، وجد تخريجا للحديث، الذي أبطله المؤلف، المحقق الشيخ الألباني من عد كلامه في آخره، ولعله يتعلق -إن شاء الله بما بيناه-، +يقول: أخرجه معمر بن راشد الجامعي موقوفا، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: سمعته غيبا، يقول: إن عمر بن عبد العزيز قال: من عد كلامه من عمله، قل كلامه، وبمثله أخرجه ابن معين في "حلية الأولياء"، وكذا أخرجه ابن المبارك في "الزهد"، وقال: أخبرنا أبو عبيد وغيره، عن عمر بن عبد العزيز ثم ذكره بمثله، أخرجه ابن حنبل في "الزهد"، وأخرجه مرفوعا، ابن عبد البر في "التمهيد"، وقال: روي عنه عليه السلام، أنه قال: في صحف إبراهيم من عد كلامه من عمله، قل كلامه، إلا فيما يعنيه.
حدثنا محمد بن خليفة قال: حدثنا محمد بن الحسين الفريابي قال: حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال: حدثني أبي، عن جدي، عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر - رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، ما كانت صحف إبراهيم عليه السلام، قال: كانت أمثالا كلها -فذكر الحديث، قال:- وكان فيها وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه هذا ما وقفت عليه في تخريج الحديث.
بارك الله فيكم، وجزاكم الله خيرا، سنأخذ صورة منه -إن شاء الله-.
وهذا يقول: ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم- يأرز الدين، كما يأرز الحية إلى جحرها، حتى يكون في المدينة أو كما قال - صلى الله عليه وسلم- ؟
هذا في آخر الزمان، إن الإيمان ليأرز من المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها هذا في آخر الزمان، وفي وقت خروج الدجال، حينما يأتي السبخة، وترجف المدينة ثلاث رجفات، ويخرج إليه كل كافر، وكل منافق، وكل خبيث، ولا يبقى إلا المؤمنون، نعم.
هذا يقول: ما حكم قول: يا رضا الله، ورضا الوالدين ؟(1/258)
ما أعلم لهذا أصلا ينادي أيش ؟ ينادي الصفة، ممنوع هذا نداء الصفة، إذا كان يا رضا الله صفة، فقال شيخ الإسلام إنه ردة الصفات، تنادى بعض الناس، يقول: يا وجه الله، ويقول: يا رحمة الله، ارحميني، ويا قدرة الله، أنقذيني، هذا لا يجوز، حتى قال شيخ الإسلام إنه ردة، لا تنادى الصفة، نعم.
أحسن الله إليكم، وجزاكم الله خيرا.
وفق الله الجميع رزق الله الجميع العلم النافع، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
النصوص الدالة على أن المعاصي لا تزيل إيمانا ولا توجب كفرا وإنما تنفي حقيقته
قوله تعالى "جعلا له شركاء فيما آتاهما"
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال المؤلف -رحمه الله تعالى-:
وقد وجدنا لهذين النوعين، من الدلائل في الكتاب والسنة، نحوا مما وجدنا في النوعين الأولين، فمن الشاهد على الشرك في التنزيل، قول الله تبارك وتعالى -في خلق آدم وحواء، عند كلام إبليس إياهما-: { * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ } (1) إلى { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } (2) وإنما هو في التأويل، أن الشيطان قال لهما: سميا ولدكما عبد الحارث، فهل لأحد يعرف الله ودينه، أن يتوهم عليهما الإشراك بالله مع النبوة ؟ والمكان من الله، فقد سمى فعلهما شركا، وليس هو الشرك بالله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك، على عبد الله ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
سبق الكلام من المؤلف -رحمه الله-: أن ذكر أن المعاصي التي يفعلها المؤمنون، أنها جاءت على أربعة أنواع:
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 189.
(2) - سورة الأعراف آية: 190.(1/259)
النوع الأول: نفي الإيمان عن العاصي، كقوله - صلى الله عليه وسلم- لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن (1) ولا يسرق السارق، حين يسرق وهو مؤمن (2).
والنوع الثاني: البراءة منه لقوله -عليه الصلاة والسلام- كحديث: برئ النبي - صلى الله عليه وسلم- من الصالقة والحالقة والشاقة (3).
النوع الثالث: أن يخبر عنه بأنه شرك، لقوله -عليه الصلاة والسلام-: من حلف بغير الله، فقد كفر أو أشرك (4).
__________
(1) - البخاري: المظالم والغصب (2475) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870 ,4871) والأشربة (5659) , وأبو داود: السنة (4689) , وابن ماجه: الفتن (3936) , وأحمد (2/317 ,2/386) , والدارمي: الأشربة (2106).
(2) - البخاري: الأشربة (5578) , ومسلم: الإيمان (57) , والترمذي: الإيمان (2625) , والنسائي: قطع السارق (4870) والأشربة (5659) , وابن ماجه: الفتن (3936) , والدارمي: الأشربة (2106).
(3) - صحيح مسلم: كتاب الإيمان (104).
(4) - الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125).(1/260)
النوع الرابع: يخبر عنه بأنه كفر، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم- اثنتان في الناس هما بهم كفر (1) وسبق الكلام على بيان معناها، وتأويلها عند أهل العلم، وذكر المؤلف -رحمه الله- مثالا هنا، لما ورد في النصوص، تسميته شركا، وهو من الكبائر، ومن الشرك الأصغر، ولا يصل إلى حد الشرك الأكبر، ذكر المؤلف -رحمه الله- قال: من الشاهد، يعني من الدليل على الشرك في التنزيل، قول الله تبارك وتعالى في آدم وحواء عند كلام إبليس إياهما: { * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } (2) الآية من سورة الأعراف.
يقول المؤلف -رحمه الله-: " تأويل هذه الآية، أن الشيطان قال: لهما سميا ولدكما عبد الحارث، فهل لأحد يعرف الله ودينه، أن يتوهم عليهما الإشراك بالله، مع النبوة والمكان من الله ؟ فقد سمى فعلهما شركا، وليس هو الشرك بالله".
__________
(1) - مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/431).
(2) - سورة الأعراف آية: 189-190.(1/261)
هذه القصة ذكرها الله سبحانه في كتابه يقول: { * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ } (1) ظاهر القصة أنها في آدم وحواء { * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } (2) هي آدم { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } (3) هي حواء، { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } (4) يسكن آدم إلى زوجه، { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } (5) يعني جامعها، { حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) } (6) { لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا } (7) يعني ولدا سليما، مستوي الخلقة، { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } (8).
جاء في تفسير هذه الآية، ذكر المفسرون أثرا، عن ابن عباس - رضي الله عنه- ما أن الشيطان جاء لهما، لما حملت حواء وقال لهما: سمياه عبد الحارث، لئن لم تسمياه عبد الحارث؛ لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك، فيشقه فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت في المرة الثانية، فآتهما فقال لهما: مثل ذلك فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت في المرة الثالثة، فقال لهما: مثل ذلك، فأدركهما حكم الولد، فسمياه عبد الحارث.
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 189.
(2) - سورة الأعراف آية: 189.
(3) - سورة النساء آية: 1.
(4) - سورة الأعراف آية: 189.
(5) - سورة الأعراف آية: 189.
(6) - سورة الأعراف آية: 189.
(7) - سورة الأعراف آية: 189.
(8) - سورة الأعراف آية: 189-190.(1/262)
وفي الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن الشيطان جاء لهما لما حملت حواء وقال لهما: سمياه عبد الحارث، لئن لم تسمياه عبد الحارث، لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقك، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت المرة الثانية، فأتاهما فقال لهما: مثل ذلك، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت في المرة الثالثة، فقال لهما: مثل ذلك، فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث؛ فذلك قوله - تعالى -: { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } (1) قال: شركاء يعني: شركاء في التسمية والطاعة، وليس شركا في العبادة.
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 190.(1/263)
وهذه القصة من أخبار بني إسرائيل، لا تثبت، لكن قال كثير من السلف روي عن الحسن وغيره، قال: هما أشفقا أن يكون بهيمة، وقال بعضهم: شركاء في التسمية، في الطاعة، وليس في العبادة، وكون هذه القصة لا تثبت، فالآية كافية لمن تدبرها وتأملها، فإنها ظاهرة في آدم وحواء، فالله تعالى: { * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } (1) هي آدم { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } (2) هي حواء، { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } (3) جامعها { حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا } (4) ثم+، { فَلَمَّا أَثْقَلَتْ } (5) ثقل الحمل ببطنها { دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا } (6) يعني: إنسانا مستويا، سليما - سليم الأعضاء - { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } (7) أما قوله تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) } (8) انتقال من الشخص إلى الجنس، هذا في الذرية: { فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) } (9).
وقال بعض العلماء: إن الآية إنما هي في الشخص في الجنس، لا في آدم المراد: جنس بني آدم، لكن الصواب، أنها في آدم وحواء وهذا هو الظاهر من الآية، والشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمة الله عليه- ذكرها في كتاب "التوحيد"، في باب قول الله تعالى: { فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } (10) وذكر أثر ابن عباس بصرف النظر عن كونه ثابتا، أو غير ثابت.
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 189.
(2) - سورة النساء آية: 1.
(3) - سورة الأعراف آية: 189.
(4) - سورة الأعراف آية: 189.
(5) - سورة الأعراف آية: 189.
(6) - سورة الأعراف آية: 189.
(7) - سورة الأعراف آية: 189-190.
(8) - سورة الأعراف آية: 190.
(9) - سورة الأعراف آية: 190.
(10) - سورة الأعراف آية: 190.(1/264)
وذكر الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتاب "تيسير العزيز الحميد": أن الآية صريحة، أن القصة في آدم وحواء وأن عليها تفاسير السلف وأن إنكار كونهما -كون الآية في آدم وحواء - مكابرة، وعدول عن تفاسير السلف إلى تفاسير أهل البدعة، ومن العلماء من قال: إنها ليست في آدم وحواء وإنما هي في جنس بني آدم، ذهب إلى هذا فضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله - في كتابه "القول المفيد"، وقال: إنها ليست في آدم وحواء وإنما هي في الجنس، وقال: إنه لا يمكن أن يقع منهما الشرك من آدم وهو معصوم من الشرك، والأنبياء معصومون من الشرك، ولو كان وقع الشرك لذكر الله التوبة توبتهما منه، كما ذكر توبتهما من الأكل من الشجرة.
والصواب -والذي يظهر لي أن الصواب- أنها في آدم وحواء وأن هذا شرك في التسمية، وقع منهما الذنب في الشرك في التسمية، كما وقع الذنب في الأكل من الشجرة؛ ولهذا قال العلماء: إن من ينكر وقوعهما في طاعة الشيطان في التسمية، كيف يغفل عن معصيتهما في المرة الأولى؟ فهما وقعا في المعصية، وأكلا من الشجرة، وسوّل لهما مرة أخرى، وأطاعاه في التسمية، فهو شرك في التسمية، لا شرك في العبادة. هذا هو الصواب أنها في آدم وحواء أما قول الله: { فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) } (1) فهذا في الذرية، انتقل من الشخص إلى الجنس، والشرك في هذه الآية ليس شركا في العبادة والتوحيد، وإنما شرك في الطاعة والتسمية، ولا يمنع وقوعه منهما، كما وقعت المعصية منهما في أول الأمر.
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 190.(1/265)
ولذلك المؤلف -رحمه الله- ذهب إلى أنها في آدم وحواء وقال: فمن الشاهد على الشرك في التنزيل، قول الله تعالى في آدم وحواء عند كلام إبليس، وقال: وإنما هو في التأويل أن الشيطان قال لهما: سميا ولدكما عبد الحارث، يقول المؤلف -رحمه الله-: فهل لأحد يعرف الله ودينه، أن يتوهم عليهما الإشراك بالله مع النبوة ؟ يعني: الشرك الأكبر، الشرك في العبادة الشرك الأكبر، يقول: إن الله أخبر أنه وقع منهما الشرك، وآدم نبي -عليه الصلاة والسلام-، هل يتوهم أحد أنه يقع منهما الشرك الأكبر ؟ والأنبياء معصومون من الشرك الأكبر، معصومون فيما يبلغون عن الله، فهل لأحد يعرف الله ودينه، أن يتوهم عليهما الإشراك بالله مع النبوة، والمكان من الله ؟ فقد سمى فعلهما شركا، وليس هو الشرك بالله.
يعني: بل هو شرك أصغر، شرك أصغر، شرك في الطاعة، في التسمية، ينافي كامل التوحيد، فالشرك الذي وقع من الأبوين، شرك في التسمية، شرك في طاعة الشيطان في التسمية، حينما سمياه عبد الحارث، وليس شركا في العبادة؛ ولهذا استدل المؤلف -رحمه الله- بهذه الآية على أن المعاصي بعض المعاصي تسمى شركا، كقوله -عليه الصلاة والسلام-: من حلف بغير الله فقد أشرك (1) فقد كفر أو أشرك، فكما سمى الحلف بغير الله شركا، فكذلك سمى ما وقع من الأبوين شركا في التسمية، وهو شرك أصغر، ويكون قد تابا منه، فهذا مثال للشرك الذي لا يخرج من الملة. نعم.
حديث "أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر"
وأما الذي في السنة كقول النبي - صلى الله عليه وسلم- أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر (2) فقد فسر لك بقوله: الأصغر، أن ها هنا شركا سوى الذي يكون به صاحبه مشركا بالله.
__________
(1) - الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86).
(2) - أحمد (5/428).(1/266)
نعم، وهذا مثال من السنة بتسمية، بعض الذنوب شركا وليس شركا في العبادة، وإنما هو كبيرة من الكبائر، سُمِّي شركا، وهو الرياء: أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر (1) والمؤلف يشير إلى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الرياء؛ يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه (2) فالرياء شرك أصغر، وكذلك الحلف بغير الله شرك أصغر، فبعض الذنوب تسمى شركا، ولا يكون ذلك شركا في العبادة. نعم.
أثر "الربا بضعة وستون بابا"
ومنه قول عبد الله الربا بضعة وستون بابا، والشرك مثل ذلك .
نعم، هذا + والشرك مثل ذلك، يعني: أبواب، أبواب كثيرة، والحديث أخرجه البزار من حديث ابن مسعود ولا بأس بسنده. نعم.
بيان وجه الدلالة من النصوص
فقد أخبرك أن في الذنوب أنواعا كثيرة، تسمى بهذا الاسم، وهي غير الإشراك التي يتخذ لها مع الله إلهًا غيره.
يعني هذا: بيان وجه الدلالة من هذه النصوص، يقول: إن هذه الذنوب سميت شركا، هناك ذنوب كثيرة سميت شركا؛ منها ما وقع من الأبوين، ومنها الرياء، ومنها الحلف بغير الله، ومنها ما يأتي في حديث ابن مسعود إن الربا بضعة وستون بابا، والشرك مثل ذلك يعني: بضعة وستون بابا، وهي ذنوب سُمِّيت شركا، يقول المؤلف: وهي غير الإشراك الذي يتخذ لها مع الله إلهًا غيره؛ لأنها غير الشرك الأكبر، الذي يكون شركا في العبادة، ويخرج من الملة.
وإنما هي معاص وكبائر سميت شركا، فهي تضعف الإيمان، وتنقص الإيمان، ولا يخرج صاحبها عن اسم الإيمان، بل يبقى اسم الإيمان عليه، كسائر المعاصي؛ إذا ارتكب الكبيرة، زنى، أو سرق، أو شرب الخمر، أو عقَّ والديه، أو قطع رحمه، أو شهد زورا، أو حلف بغير الله، فإن إيمانه اسمه ضعيف، ناقص، ولا ينتهي الإيمان إلا إذا فعل الشرك الأكبر.
__________
(1) - أحمد (5/428).
(2) - ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30).(1/267)
فالمؤلف يبين أن بعض الذنوب تسمى شركا ولا يخرج صاحبها عن الإيمان، ولا تخرج صاحبها عن الإيمان؛ لأنها من الكبائر، وإن كانت أكبر من الكبائر، ما سُمِّي شركا وكفرا أكبر من الكبائر، إلا أنها لا تخرج من الملة؛ لأنها ليست شركا في العبادة، ولا ناقضة من نواقض الإسلام؛ ولهذا قال المؤلف: فقد أخبرك أن في الذنوب أنواعا كثيرة تسمى هذا الاسم، وهي غير الإشراك التي يتخذ لها مع الله إلهًا غيره. نعم.
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فليس لهذه الأبواب عندنا وجوه، إلا أنها أخلاق المشركين، وتسميتهم، وسننهم، وألفاظهم، وأحكامهم، ونحو ذلك من أمورهم.
نعم، هذا سوغ المؤلف لها أنها أخلاق المشركين، وتسميتهم، وسننهم، وألفاظهم، وأحكامهم، سبق الكلام، أن الأصل في هذا أن يقال: إن هذه النصوص تفيد الوعيد والزجر، وأنها من الكبائر، وما سمي فيها شركا أو كفرا، فهو أصغر لا يخرج من الملة، ما لم يكن شركا في العبادة، أو ناقضا من نواقض الإسلام، فتكون هذه إذا فعل حلف بغير الله يكون إيمانه ناقصا، إيمانه ضعيفا، لكن لا يخرج من الإيمان، لا ينتهي إيمانه إلا بالشرك الأكبر. نعم.
قوله تعالى "ومن لم يحكم بما أنزل الله"
وأما الفرقان فالشاهد عليه في التنزيل، فقول الله - عز وجل - { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } (1).
لعله، وأما الكفر فالشاهد عليه في التنزيل، كمل - وأما الكفر - لأن المؤلف - رحمه الله - قال: وقد وجدنا لهذين النوعين من الدلائل في الكتاب والسنة نحوا مما وجدنا، يعني: الشرك والكفر، مثّل للشرك، وانتقل إلى التمثيل للكفر، لعل هذا خطأ، تجعل في الحاشية تقول: لعل العبارة: وأما الكفر. نعم.
__________
(1) - سورة المائدة آية: 44.(1/268)
وأما الكفر الشاهد عليه في التنزيل، قول الله - عز وجل - { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) } (1) وقال ابن عباس ليس بكفر ينقل عن الملة، وقال عطاء بن أبي رباح كفر دون كفر.
فقد تبين لنا أنه كان ليس بناقل عن ملة الإسلام، أن الدين باقٍ على حاله، وإن خالطه ذنوب، فلا معنى له إلا خلاق الكفار وسنتهم، على ما أعلمتك من الشرك سواءً؛ لأن من سنن الكفار الحكم بغير ما أنزل الله، ألا تسمع قوله: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } (2) تأويله عند أهل التفسير: أن من حكم بغير ما أنزل الله، وهو على ملة الإسلام، كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية، إنما هو أن أهل الجاهلية، كذلك كانوا يحكمون.
نعم، هذا مثال للكفر الذي لا يخرج من الملة، مثّله المؤلف -رحمه الله- بقول الله - عز وجل - { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) } (3) واستدل بتفسير ابن عباس وتفسير عطاء قال ابن عباس على هذه الآية الكريمة: ليس بكفر ينقل عن الملة، وتمام كلام ابن عباس ولم يذكره المؤلف: وهو ليس بكفر عمد ينقل عن الملة، بل إذا فعله فهو فيه كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر. هذا تكملة للأثر عن ابن عباس قال على هذه الآية: ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله فهو فيه كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر. وقال عطاء بن أبي رباح كفر دون كفر.
__________
(1) - سورة المائدة آية: 44.
(2) - سورة المائدة آية: 50.
(3) - سورة المائدة آية: 44.(1/269)
على هذا يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفر أصغر، والصواب أن الآية محتملة للكفر الأكبر، وللكفر الأصغر، على حسب حال الحاكم واعتقاده؛ فإن حكم بغير ما أنزل الله، معتقدًا أن الحكم بما أنزل الله لا يناسب العصر، وأنه لا يناسب العصر إلا الحكم بالقوانين والأعراف، فهذا كفر أكبر يخرجه عن الملة، وكذلك إذا حكم بغير ما أنزل الله معتقدًا أن الحكم بما أنزل الله منافٍ للحكم بالقوانين والأعراف، وأنهما سيان، وأن الإنسان مخير بين أن يحكم بما أنزل الله، أو يحكم بالقوانين والأعراف، فهذا الكفر الأكبر يخرج من الملة، وكذا إذا حكم بغير ما أنزل الله معتقدًا أن الحكم بما أنزل الله أحسن وأفضل، إلا أنه يجوز الحكم بغير ما أنزل الله، فهذا أيضا كفر أكبر يخرج من الملة؛ لأنه استحل أمرا معلوما من الدين بالضرورة تحريمه.
الحكم بغير ما أنزل الله حرام بالإجماع، فإذا استحله ورأى أن الحكم بالقوانين والأعراف جائز، صار كفرا أكبر، ولو اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن، وكذلك إذا حكم بغير ما أنزل الله، واستهان، واستهان بحكم الله، وكذا إذا بدّل الدين رأسًا على عقب، فالمقصود أن الآية محتملة للكفر الأكبر، وللكفر الأصغر، فالمؤلف -رحمه الله- مثّل بها للكفر الأصغر، الذي لا يخرج من الملة، وأنه ينافي الإيمان؛ ولهذا علق عليها، فقال: فقد تبين لنا إذ كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باقٍ على حاله، يعني: أن من حكم بغير ما أنزل الله يكون دينه باقٍ، وإيمانه باقٍ، ولا يخرج من الملة، ولا ينتهي إيمانه؛ لأنه لم يفعل شركا في العبادة، ولم يفعل ناقضا من نواقض الإسلام، وإنما فعل كبيرة من كبائر الذنوب، وإن سميت كفرا، إلا أنها لا تخرج من الملة، فيكون إيمانه ضعيفا، وناقصا، ويكون فاسقا بهذا العمل، لكنه لا يخرج من الملة.(1/270)
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: فقد تبين لنا إذ كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باقٍ على حاله، وإن خالطه ذنوب، فلا معنى له إلا أخلاق الكفار وسنتهم، على ما أعلمتكم من الشرك سواءً؛ لأن من سنن الكفار الحكم بغير ما أنزل الله، ألا تسمع قوله - عز وجل - { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } (1) تأويله عند أهل التفسير: أن من حكم بغير ما أنزل الله، وهو على ملة الإسلام، كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية، إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون.
المعنى: أنه لا يخرج من الملة، وأنه ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وكفرا أصغر لا يخرج من الملة، ولا ينتهي إيمانه بذلك، بل يكون إيمانه ضعيفا وناقصا، ويفسق بهذا العمل، إلا أنه لا يكفر كفرا، يخرج من الملة. نعم.
حديث "ثلاثة من أمر الجاهلية"
وهكذا قوله: ثلاثة من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنياحة، والأنواء (2).
نعم، يعني: هذا الحديث يدل على من فعل هذه الثلاثة، أو واحدا منها، يكون مرتكبا لكبيرة؛ لأنه فعل أفعالا من أفعال الجاهلية، حذر منها النبي - صلى الله عليه وسلم- ثلاث من أمر الجاهلية: الطعن في النسب (3) يعني: عيبها، عيب الأنساب، وتنقصها، وذمها، والنياحة (4) وهي رفع الصوت، والبكاء على الميت، والندب، وتعداد محاسن الميت والأنواء (5) يعني: الاستسقاء بالأنواء والنجوم نسبة المطر والسقي إلى النجوم والأنواء على أنها سبب.
__________
(1) - سورة المائدة آية: 50.
(2) - البخاري: المناقب (3850).
(3) - البخاري: المناقب (3850).
(4) - مسلم: الإيمان (67) , والترمذي: الجنائز (1001) , وأحمد (2/291 ,2/377 ,2/441).
(5) - الترمذي: الجنائز (1001) , وأحمد (2/526).(1/271)
فهذا شرك أصغر، وكفر أصغر، وهو من أعمال الجاهلية، لكنه لا يخرج به من الملة، مثل قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الآخر: أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت (1).
وهذا الحديث يفيد فائدتين: الفائدة الأولى: أن هذه الأمور واقعة في هذه الأمة، ففيها علم من أعلام النبوة، وأنه رسول الله حقا، والفائدة الثانية: التحذير من فعل هذه الأشياء، وأنه ينبغي للمسلم أن يحذرها، ولا يفعل شيئا منها، فالمؤلف -رحمه الله- يبين أن من فعل هذه الثلاثة أو واحدا منها، أنه مرتكب لكبيرة، لكنه لا يخرج به من الملة، ولا ينتهي إيمانه. نعم.
حديث "ثلاثة من سنة الجاهلية"
ومثله الحديث الذي يُروى عن جرير وأبو البختري الطائي ثلاثة من سنة الجاهلية: النياحة، وصنعة الطعام، وأن تبيت المرأة في أهل الميت من غيرهم .
نعم، أما النياحة: فالأحاديث فيها كثيرة، في أنها من كبائر الذنوب، ومن أعمال الجاهلية، وكذلك: صنعة الطعام، والاجتماع، كما قال جرير بن عبد الله البجلي -رحمه الله-: كنا نعد الاجتماع عند الميت، وصنعة الطعام من النياحة. وأما مبيت المرأة في أهل الميت، فيحتاج إلى النظر في ثبوت الحديث في هذا. نعم.
حديث "آية المنافق ثلاث"
وكذلك الحديث: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (2).
__________
(1) - مسلم: الجنائز (934) , وأحمد (5/342 ,5/344).
(2) - البخاري: الإيمان (33) , ومسلم: الإيمان (59) , والترمذي: الإيمان (2631) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5021) , وأحمد (2/357 ,2/397 ,2/536).(1/272)
يعني: هذا الحديث أن هذه الثلاث من علامات النفاق: إذا حدث كذب، يعني: الكذب في الحديث والخُلف في الوعد والخيانة في الأمانة وهذه معاصي، وليست نفاقا أكبر يخرج من الملة، وإنما هو نفاق في العمل، نفاق أصغر يكون صاحبها ضعيفَ الإيمان وناقصَ الإيمان، لكن لا ينتهي إيمانه، ولا يخرج من الإيمان؛ لأنها ليست كفرا أكبر، ولا رِدّة. نعم.
أثر "الغناء ينبت النفاق"
وقول عبد الله الغناء ينبت النفاق في القلب.
نعم، فإذا سمع الغناء وتلذذ به الذي يلهب النفوس ويقعدها، ضعف إيمانه، ونقص إيمانه. نعم.
وصف بعض الأعمال بالنفاق أو الكفر أو الشرك ليس معناها أنه يخرج من الملة
ليس وجوه هذه الآثار كلها من الذنوب، أن راكبها يكون جاهلا، ولا كافرا، ولا منافقا، وهو مؤمن بالله، وما جاء من عنده، ومؤدٍّ لفرائضه، ولكن معناها: أنها تتبين من أفعال الكفار، محرمة، منهيًّا عنها في الكتاب، وفي السنة؛ ليتحاماها المسلمون ويتجنبوها، فلا يتشبهوا بشيء من أخلاقهم ولا شرائعهم.
يعني: كما سبق، المؤلف يجزم ويعيد، ويبين أن هذه الآثار التي فيها وصف بعض الأعمال بالنفاق، أو بالكفر، أو بالشرك، أو بنفي الإيمان، أو بالبراءة منه، ليس معناها أنه يخرج من الملة، وأنه ينتهي إيمانه، وأنه يكفر كفرا أكبر، وليس معناها أن راكبها يكون جاهلا جهل الكفار، ولا كافرا كالكافرين الخارجين من الملة، ولا منافقا نفاقا أكبر، وهو مؤمن بالله، وما جاء من عنده، بل معناها أنه يكون جاهلا لمعصيته، جهلا أصغر، وكافرا كفرا أصغر، ومنافقا نفاقا أصغر.(1/273)
ولهذا قال: وليس معناها: أن راكبها يكون جاهلا، ولا كافرا، ولا منافقا، وهو مؤمن بالله، وما جاء من عنده، ومؤدٍّ لفرائضه، ولكن معناها: أنها تتبين من أفعال الكفار، محرمة، منهيًّا عنها في الكتاب وفي السنة، يعني: أنها يكون صاحبها مرتكبا لكبيرة ومعصية، ويكون إيمانه ضعيفا وناقصا، لكنه لا يخرج من الملة، ولهذا قال: ليتحاماها المسلمون ويتجنبوها، فلا يتشبهوا بشيء من أخلاقهم ولا شرائعهم. نعم.
حديث "إن السواد خضاب الكفار"
ولقد روي في بعض الحديث: إن السواد خضاب الكفار فهل يكون لأحد أن يقول: إنه يكفر من أجل الخضاب ؟.
نعم، وهذا الحديث ضعيف، أخرجه الطبراني والحاكم وقال الذهبي وغيره: حديث منكر، كما ذكر المحشِّي لكن على فرض صحته، فليس معناه أن الخضاب بالسواد يكون كفرا، وإنما يكون معصية؛ ولهذا قال المؤلف: فهل يكون لأحد أن يقول: إنه يكفر من أجل الخضاب؟!. تكون معصية، ويكون صاحبها ضعيف الإيمان، وناقص الإيمان، لو صح، هذا لو صح. نعم.
حديث "أيما امرأة استعطرت"
وكذلك حديثه في المرأة إذا استعطرت، ثم مرت بقوم، يوجد ريحها، أنها زانية، فهل يكون هذا على الزنا الذي تجب فيه الحدود ؟.
وهذا الحديث حديث صحيح، ولفظه: أيما امرأة استعطرت، فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية (1) يقول المؤلف -رحمه الله-: هذا الحديث في المرأة إذا استعطرت، ثم مرت بقوم يوجد ريحها، أنها زانية. يقول: ليس المراد الزنا الذي يجب فيه الحد، ويقام عليه الحد، وإنما معناه أنها عاصية، وأنها مرتكبة لكبيرة، وأن إيمانها ناقص، إيمانها ضعيف، وليس المراد أنها فعلت الزنا الذي يوجب الحد، ويقام عليها به الحد. نعم.
حديث " المستبان شيطانان يتهاتران "
__________
(1) - النسائي: الزينة (5126) , وأبو داود: الترجل (4173) , وأحمد (4/413 ,4/418).(1/274)
ومثله قوله: المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان (1) أفيتهم عليه أنه أراد الشيطانين الذين هم أولاد إبليس؟ إنما هذا كله على ما أعلمتك من الأفعال والأخلاق والسنن.
يعني يقول الحديث: المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان (2) هذا أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وابن حبان في صحيحه يقول المؤلف: المعنى: المستبان شيطانان، ليس المراد أنهما شيطانان من أولاد إبليس؛ لأن إبليس هو أبو الجن، ولهذا قال:
أتعرف الخلاق أم أنت ذا نكران ''وسلْ أبا الجن اللعين فقل له
فهو أبو الجن، ومن لم يسلم من الجن يُسمى شيطانا، يتمرد، ومن أسلم فلا يسمى شيطانا، فهل معنى هذا الحديث -يقول المؤلف- المستبان شيطانان (3) هل المراد أن هؤلاء المستبان من أولاد إبليس؟ لا، وإنما المراد أنهما يقول: على ما أعلمتك من الأفعال والأخلاق والسنن، يعني: فَعَل فِعْل الشياطين، المراد التمرد، المتمرد، أنه تمرد، والمتمرد من كل جنس يسمى: شيطانا، والمعنى: أن فعلهما -كونهما يتهاتران ويتكاذبان- هذا معصية وكبيرة، تضعف الإيمان وتنقص الإيمان، ولا يخرج بهما صاحبهما من الملة.
لا يقال: إنه خرج من الإيمان بذلك، وأنه كافر، كما أن الشيطان كافر فيكون كافرا، لا، المراد أن هذا العمل من كبائر الذنوب، ويضعف به الإيمان، وينقص به الإيمان، ولا يخرج به الإنسان من الإيمان، قال: يبقى معه أصل الإيمان، وصف الإيمان، ويخاطب يدخل في خطاب المؤمنين، وتشمله أحكامه المؤمنين. نعم.
النصوص التي بها ذكر الكفر أو الشرك لأهل القبلة يكون كفرا أصغر وشركا أصغر
وكذلك كل ما كان فيه ذكر كفر أو شرك لأهل القبلة، فهو عندنا على هذا.
__________
(1) - أحمد (4/162).
(2) - أحمد (4/162).
(3) - أحمد (4/162).(1/275)
نعم، يعني: كل ما جاء من النصوص به ذكر الكفر أو الشرك لأهل القبلة الموحدين، فهو عندنا على هذا، يعني يكون كفرا أصغر، وشركا أصغر، مثل: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (1) ومثل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم- إن الرياء من الشرك (2) ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم- اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت (3) ومثال قوله - صلى الله عليه وسلم- سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر (4) ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم- لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض (5).
ومثل كفر النعمة، وهو قوله: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } (6) ومثل قول - صلى الله عليه وسلم- من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما (7) وما أشبه ذلك.
__________
(1) - الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/86 ,2/125).
(2) - الترمذي: النذور والأيمان (1535).
(3) - مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/431).
(4) - البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: الإيمان (2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105 ,4106) , وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/454).
(5) - البخاري: العلم (121) , ومسلم: الإيمان (65) , والنسائي: تحريم الدم (4131) , وابن ماجه: الفتن (3942) , وأحمد (4/358 ,4/363 ,4/366) , والدارمي: المناسك (1921).
(6) - سورة النحل آية: 112.
(7) - البخاري: الأدب (6104) , والترمذي: الإيمان (2637) , وأحمد (2/18 ,2/60 ,2/112) , ومالك: الجامع (1844).(1/276)
فهذه النصوص التي فيها تسمية بعض الذنوب كفرا، أو شركا، وفاعلها موحد، وهو من أهل القبلة، فإن المراد أنه فعل شركا أصغر، أو كفرا أصغر، وارتكب هذه الكبيرة العظيمة، فيكون إيمانه ناقصا وضعيفا، ولا يخرج به من الإسلام والإيمان، وتبقى أحكام الإسلام، واسم الإيمان، وجميع الأحكام ثابتة له، إلا أنه ضعيف الإيمان، وناقص الإيمان. نعم.
الآثار الدالة على أنه لا يبلغ العبد كفرا ولا شركا حتى يفعل الشرك الأكبر
ولا يجب اسم الكفر والشرك الذي تزول به أحكام الإسلام، ويُلْحَق صاحبه برِدَّة إلا بكلمة الكفر خاصة، دون غيرها، وبذلك جاءت الآثار مفسرة.
يعني: يقول المؤلف: إن هذه النصوص التي سبقت في أن من فعل كبيرة، أو الكبائر التي سميت بها بعض الكبائر شركا، أو كفرا، إنما هي كبائر، وإن كان الشرك أو الكفر أكبر من الكبائر، إلا أنها كبائر لا تخرج صاحبها من الملة، ولا يلحقه اسم الكفر الأكبر، والشرك الذي تزول به أحكام الإسلام، ويُلْحَق صاحبه برِدَّة إلا بكلمة الكفر خاصة، دون غيرها، وكلام المؤلف -رحمه الله- فيه نظر، قوله: ويُلْحَق صاحبه برِدَّة إلا بكلمة الكفر خاصة دون غيرها، هذا فيه نظر، والصواب أن الردة تحصل بكلمة الكفر كما سبق، وبفعل الكفر، كما لو سجد للصنم، أو داس المصحف بقدميه، أو لطخه بالنجاسة، هذا يكفر بهذا الفعل -والعياذ بالله- ولو لم يتكلم.
كذلك أيضا يكون الكفر باعتقاد الكفر، كما لو اعتقد أن لله صاحبة أو ولدا، ويكون أيضا بكلمة الكفر، كما لو سب الله -من سب الله، أو سب رسوله، أو سب دينه، أو استهزأ بالله، أو بكتابه، أو برسوله-، ويكون بالإعراض، كما لو أعرض عن دين الله، لا يتعلم، ولا يعبد الله، أعرض عن دين الله علما وعملا، يكون كافرا، فقول المؤلف -رحمه الله-: لا يكون إلا بكلمة الكفر خاصة. ليس بسليم، بل يكون كافرا بكلمة الكفر، وبفعل الكفر، وباعتقاد الكفر، وبالإعراض عن دين الله؛ لا يعلم، ولا يتعلم.(1/277)
في هذه الأنواع كلها يخرج من الإسلام إلى دائرة الكفر، نعوذ بالله من ذلك. نسأل الله السلامة والعافية. نعم.
حديث "ثلاث من أصل الإسلام"
قال أبو عبيد حدثنا أبو معاوية عن جعفر بن بُرقان عن ابن أبي نُشدة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ثلاث من أصل الإسلام: الكف عمن قال لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض من يوم بعثني الله إلى أن يقاتل آخرُ أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عجز عاجز، والإيمان بالأقدار كلها (1).
نعم، وهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه سند مجهول، وهو يزيد السُّلمي ولكن الحديث معناه صحيح، وبعضه له شواهد، قوله: لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل (2) نعم، هذا صحيح، هذا معتقد أهل السنة والجماعة أن من قال: لا إله إلا الله، وكان لا يقولها في كفره فإنه يحكم بإسلامه، ثم بعد ذلك يلتزم بأحكام الإسلام، فالحمد لله، وإن فعل ناقضا من نواقض الإسلام عومل بذلك، فمن قال: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل (3) هذا معتقد أهل السنة والجماعة
يقول: والجهاد ماض من يوم بعثني الله إلى أن يقاتل آخرُ أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عجز عاجز (4) هذا ثابت، ثابت في الأحاديث، وقوله: والإيمان بالأقدار كلها (5) هذا يحتاج إلى الإيمان بالأقدار كلها، لا أعلم أنه ثابت في الحديث الصحيح، فيحتاج إلى مراجعته.
__________
(1) - أبو داود: الجهاد (2532).
(2) - أبو داود: الجهاد (2532).
(3) - أبو داود: الجهاد (2532).
(4) - أبو داود: الجهاد (2532).
(5) - أبو داود: الجهاد (2532).(1/278)
المقصود أن معناه صحيح، أنه يجب الإيمان بالأقدار، وهذا من أصل +، الإيمان بالقدر ركن من أركان الإسلام، لا يصح الإسلام إلا به، وكذلك الكف عمن قال: لا إله إلا الله، لا يكفر بذنب، ولا يخرج من الإسلام بعمل، إلا إذا فعل ناقضا من نواقض الإسلام، أو فعل شركا في العبادة، وكذلك أيضا الجهاد ماض إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال. كل هذا صحيح. نعم.
قال أبو عبيد حدثنا عباد بن عباد عن الصلت بن دينار
يعني: يبين المؤلف - رحمه الله - بهذا الحديث أن المسلم والمؤمن لا يخرج من الإيمان بذنب من الذنوب ولا يخرج من الإسلام بعمل يعمله، كما لو فعل كبيرة؛ كالزنا، أو السرقة، أو شرب الخمر، أو عقوق الوالدين، أو قطيعة الرحم، ما دام أنه مسلم ومؤمن وموحد، فلا يخرج من الإسلام بذنب، ولا يُكفَّر بمعصية من المعاصي، إلا إذا فعل ناقضا من نواقض الإسلام، أو فعل شركا في العبادة؛ كما لو دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو طاف بغير بيت الله تقربًا لذلك الغير، أو سجد للصنم، أو اعتقد الكفر. أما إذا فعل معصية أو كبيرة، فإنه يبقى على اسم الإسلام، وحكم الإسلام، ولكن إيمانه يكون ناقصا وضعيفا. هذا مقصود المؤلف - رحمه الله - من سياق هذا الحديث، والحديث ضعيف. نعم.
قال أبو عبيد حدثنا عباد بن عباد عن الصلت بن دينار عن أبي عثمان النهدي قال: دخلت على ابن مسعود وهو في بيت مال الكوفة فسمعته يقول: لا يبلغ عبد كفرا ولا شركا، حتى يذبح لغير الله، أو يصلي لغيره.(1/279)
نعم، هذا الأثر عن ابن مسعود ضعيف، من أجل الصلت بن دينار فإن ضعيف، متروك، يكون ضعيفا جدا، لكن المؤلف -رحمه الله- يبين أن الإنسان المؤمن لا يخرج من الإيمان بالمعاصي، إلا إذا فعل كفرا أو شركا على فرض صحته: لا يبلغ عبد كفرا ولا شركا، حتى يذبح لغير الله، أو يصلي لغير الله؛ لأنه إذا ذبح لغير الله أشرك شركا أكبر، وكذلك لو صلى لغير الله. هذا مثال، وكذا جميع النواقض، وجميع أنواع الشرك إذا فعلها خرج من الإسلام.
لا يبلغ عبد كفرا ولا شركا، يعني: بالمعاصي حتى يفعل الشرك الأكبر، ومثل لذلك بالذبح لغير الله، والصلاة لغير الله. نعم.
أثر "هل كنتم تسمون أحدا من أهل القبلة كافرا"
قال أبو عبيد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان قال: جاورت مع جابر بن عبد الله بمكة ستة أشهر، فسأله رجل: هل كنتم تسمون أحدا من أهل القبلة كافرا؟ فقال: معاذ الله، قال: فهل تسمونه مشركا؟ قال: لا.
نعم، وهذا الأثر عن جابر - رضي الله عنه- سنده صحيح، وفيه أن جابر بن عبد الله سأله رجل: هل كنتم تسمون أحدا من أهل القبلة كافرا؟ قال: معاذ الله؛ لأن أهل القبلة، الذين يستقبلون القبلة في الصلاة والذبح، وغيرها، وهم يلتزمون بأحكام الإسلام، هذا لا يسمى أحدا من أهل القبلة كافرا، إلا إذا فعل ناقضا من نواقض الإسلام أو شركا في العبادة؛ ولهذا قال جابر معاذ الله، قال: فهل تسمونه مشركا؟ قال: لا، فلا يسمى مشركا، ولا يسمى كافرا، وهو مؤمن، يبقى عليه اسم الإيمان، وأحكام الإسلام والإيمان، إلا إذا وُجد ما ينقض ذلك من الشرك في العبادة، أو ناقض من نواقض الإسلام. نعم.
باب ذكر الذنوب التي تُلحق بالكبائر بلا خروج من الإيمان
الأدلة على أن الذنوب التي تُلحق بالكبائر ولا تخرج من الإيمان
الذنوب والمعاصي والكبائر تتفاوت وهي كلها تضعف الإيمان(1/280)
باب ذكر الذنوب التي تُلحق بالكبائر بلا خروج من الإيمان قال أبو عبيد حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- لعن المؤمن كقتله (1) وكذلك قوله: حرمة ماله كحرمة دمه (2) ومنه قول عبد الله شارب الخمر كعابد اللات والعزى، وما كان من هذا النوع، مما يُشَبَّه فيه الذنب بآخر أعظم منه، وقد كان في الناس من يحمل ذلك على التساوي بينهما، ولا وجه لهذا عندي؛ لأن الله قد جعل الذنوب بعضها أعظم من بعض، فقال: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) } (3) في أشياء كثيرة من الكتاب والسنة يطول ذكرها، ولكن وجوهها عندي، أن الله قد نهى عن هذه كلها، وإن كان بعضها عنده أجل من بعض.
يقول: من أتى شيئا من هذه المعاصي، فقد لحق بأهل المعاصي كما لحق بها الآخرون؛ لأن كل واحد منهم على قدر ذنبه، قد لزمه اسم المعصية، وإن كان بعضهم أعظم جرما من بعض.
هذا الباب أتى به المؤلف -رحمه الله- لبيان ذكر الذنوب التي تُلحق بالكبائر، وليس فيها أنها شرك أو كفر، تلحق بالكبائر، ولا يخرج صاحبها عن الإيمان، فهي مثل الذنوب التي سميت شركا أو كفرا، كما أن الذنوب التي سميت شركا، كالحلف بغير بالله، والتي سميت كفرا، كالطعن في النسب، لا تخرج صاحبها عن الإيمان، فكذلك الذنوب، وكذلك الكبائر، وكذلك الذنوب التي تُلحق بالكبائر، فإنها لا تخرج صاحبها عن الإيمان، وإنما يكون صاحبها مرتكبا لكبيرة، فيكون ضعيف الإيمان، وناقص الإيمان.
__________
(1) - البخاري: الأيمان والنذور (6653) , ومسلم: الإيمان (110) , وأحمد (4/33).
(2) - أحمد (1/446).
(3) - سورة النساء آية: 31.(1/281)
قال المؤلف: قال أبو عبيد حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- لعن المؤمن كقتله (1) حديث أخرجه مسلم -رحمه الله- فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- شبه لعن المؤمن بالقتل، والقتل كبيرة، وكذلك اللعن كبيرة، فيكون لعن المؤمن كبيرة؛ فإذا لعن الإنسان مؤمنا ضعف إيمانه ونقص، كما أنه إذا قتله ضعف إيمانه ونقص، ومثل قوله: حرمة ماله كحرمة دمه (2) وهذا الحديث، يقول المؤلف: أخرجه الدارقطني وأبو نعيم عن ابن مسعود وله شاهد في مسلم
حرمة ماله كحرمة دمه (3) كما أن دمه حرام، فكذلك ماله حرام؛ فإذا أخذ ماله بغير حق ارتكب كبيرة، وضعف إيمانه ونقص، ومثله قول عبد الله شارب الخمر كعابد اللات والعزى -وهو عبد الله بن مسعود -، شارب الخمر كعابد اللات والعزى، شبه شارب الخمر بعابد اللات، شبه الذنب بذنب آخر، وإن كان عابد الوثن مرتكبا للشرك الأكبر، على الشرك الأكبر، إلا أن المشبَّه أقل من المشبه به، فيكون بتشبيهه به يدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب، هذا على فرض صحة الحديث، وهو موقوف على عبد الله موقوف ليس مرفوعا، وفي الحاشية إنه مرفوع، مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ولم أره موقوفا على عبد الله وهو ابن مسعود
فالمقصود أن هذا فيه تشبيه، شبهه بالشرك، لكن المشبه أقل من المشبه به، ولهذا قال المؤلف: وما كان من هذا النوع مما يُشَبَّه فيه الذنب بآخر أعظم منه، وقد كان في الناس من يحمل ذلك على التساوي بينهما، ولا وجه لهذا عندي، يقول: بعض الناس يسوي بين مشبه ومشبه به، فيقول: لعن المؤمن كقتله، في الجريمة، وهذا ليس بصحيح، فالقاتل أشد من اللاعن، كذلك حرمة ماله كحرمة دمه، حرمة الدم أعظم من حرمة المال، شارب الخمر كعابد الوثن، لا شك أن ش(8) الخمر ليس كعابد الوثن.
__________
(1) - البخاري: الأيمان والنذور (6653) , ومسلم: الإيمان (110) , وأحمد (4/33).
(2) - أحمد (1/446).
(3) - أحمد (1/446).(1/282)
فمن يحمل ذلك على التساوي، ويجعل المشبه كالمشبه به، هذا ليس بجيد؛ ولهذا قال: ولا وجه لذلك عندي، لماذا ؟ قال: لأن الله قد جعل الذنوب بعضها أعظم من بعض، يعني: الله -تعالى- جعل الذنوب، قسم الذنوب إلى كبائر وصغائر، والكبائر بعضها أكبر من بعض، فكل كبيرة فهي صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها، وكبيرة بالنسبة إلى ما دونها، واستدل بقول الله تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } (1) يعني: الصغائر { وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) } (2) في أشياء كثيرة من الكتاب والسنة يطول ذكرها، يقول هذه أمثلة، والأدلة كثيرة، ولكن وجوهها عندي، يعني: معنى هذه النصوص وتفسيرها: أن الله قد نهى عن هذه كلها، وإن كان بعضها عنده أجل من بعض.
الله -تعالى- نهى عن الكبائر، وإن كان بعضها أكبر من بعض، فنهى عن لعن المؤمن، ونهى عن قتله، وحرم ماله، وحرم دمه، وإن كان بعضها أكبر من بعض؛ فالقتل أعظم من اللعن، وحرمة الدم أعظم من حرمة المال، لكن يجمعها شيء واحد، وهو أن الله نهى عنها كلها، وإن كان بعضها عنده أجل من بعض، أي: عند الله، يقول: من أتى شيئا من هذه المعاصي فقد لحق بأهل المعاصي، كما لحق بها الآخرون؛ لأن كل واحد منهم على قدر ذنبه، قد لزمه اسم المعصية، وإن كان بعضهم أعظم جرما من بعض.
المعنى: أن الذنوب التي تلحق بالكبائر، أو تلحق بما هو أكبر منها، كلها معاصي، تنقص الإيمان، وتضعف الإيمان كالكبائر، لا تخرج صاحبها من الملة. نعم.
حديث "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله"
__________
(1) - سورة النساء آية: 31.
(2) - سورة النساء آية: 31.(1/283)
وفسّر ذلك كله الحديث المرفوع حين قال: عدلت شهادة الزور الإشراك بالله (1) ثم قرأ: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) } (2) فقد تبين لنا الشرك والزور، وإنما تساويا في النهي، نهى الله عنهما معا في مكان واحد، فهما في النهي متساويان، وفي الأوزار والمأثم متفاوتان.
يعني: يقول: يفسر هذا أن الذنب قد يلحق بالذنب، وإن لم يبلغ مرتبته، في الحديث المرفوع: عدلت شهادة الزور الإشراك بالله (3) هذا إذا صح الحديث، وأظن أن الحديث ضعيف، لكن على فرض صحته، ثم قرأ قول الله تعالى: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) } (4) فقرن قول الزور بالأوثان، ومعلوم أن قول الزور أقل من الأوثان، من عبادة الأوثان فهذا ألحق بهذا؛ لأن هذا كبيرة وهذا كبيرة، هذا كبيرة، الرجس من الأوثان، هذا كبيرة تصل إلى الشرك، وهذه كبيرة لا تصل إلى الشرك.
فإلحاق الذنب بما هو أكبر منه يجعله كبيرة، ولا يخرج صاحبه من الإيمان، فلا يخرج بقول الزور وشهادة الزور من الإيمان؛ ولهذا قال المؤلف: فقد تبين لنا الشرك والزور، وإنما تساويا في النهي، نهى الله عنهما معا في مكان واحد، في الآية، في آية الحج: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) } (5) فهما في النهي متساويان، نهى الله عنهما في مكان واحد، وفي الأوزار والمأثم متفاوتان؛ هذا شرك أكبر يخرج من الملة، وهذا معصية. نعم.
مثال على تفاوت الجرائم والمعاصي وتفاوت من يفعلها
__________
(1) - الترمذي: الشهادات (2300) , وأبو داود: الأقضية (3599) , وابن ماجه: الأحكام (2372) , وأحمد (4/321).
(2) - سورة الحج آية: 30.
(3) - الترمذي: الشهادات (2300) , وأبو داود: الأقضية (3599) , وابن ماجه: الأحكام (2372) , وأحمد (4/321).
(4) - سورة الحج آية: 30.
(5) - سورة الحج آية: 30.(1/284)
ومن هنا وجدنا الجرائم كلها، ألا ترى السارق يقطع في ربع دينار فصاعدا، وإن كان دون ذلك لم يلزمه القطع، فقد يجوز في الكلام أن يقال: هذا سارق كهذا، فيجمعهما في الاسم، وفي ركوبهما المعصية، ويفترقان في العقوبة على قدر الزيادة في الذنب.
يعني: يقول: هنا نجد الجرائم والمعاصي كلها كذلك، بينها تفاوت، فقد يكون مسماها واحدا، والذين يفعلونها متفاوتون فيها؛ ولهذا مثّل قال: ألا ترى السارق يقطع في ربع دينار فصاعدا، وإن كان دون ذلك لم يلزمه القطع، ربع الدينار: ثلاث دراهم، فإذا سرق ما يبلغ ربع دينار قطعت يده، إذا سرق ثلاث دراهم قطعت يده، وإذا سرق ألف تقطع يده، وإذا سرق ألفين تقطع يده، وإذا سرق دينارا لا تقطع يده، وكل يسمى السارق، اللي يسرق دينارا سارق، واللي يسرق ثلاث دنانير سارق، واللي يسرق ألفا سارق، واللي يسرق مليون سارق، كلهم جمعهم اسم السارق، لكنهم متفاوتون في الجريمة والمعصية.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: " ألا ترى السارق يقطع في ربع دينار فصاعدا، وإن كان دون ذلك لم يلزمه القطع " فقد يجوز في الكلام أن يقال: هذا سارق كهذا؛ فالذي سرق دينارا سارق، والذي سرق ألفا سارق، فيجمعهما في الاسم سواء، كل منهما يسمى: سارقا وفي ركوبهما المعصية، كل منهما عاصي، ويفترقان في العقوبة على قدر الزيادة في الذنب، فاللي يسرق ملايين ذنبه أعظم من الذي يسرق دينارا واحدا، وإن كان كل منهما يسمى: سارقا، إلا على أن الذنوب تتفاوت، والمعاصي تتفاوت، والكبائر تتفاوت، وهي كلها تضعف الإيمان. نعم.
وكذلك البكر والثيب يزنيان، فيقال: هما لله عاصيان معا، وأحدهما أعظم ذنبا، وأجل عقوبة من الآخر.(1/285)
نعم، البكر والثيب يزنيان، كل منهما يسمى زان، كل منهما عاصي عند الله، كل منهما مرتكب للكبيرة، لكن الثيب أعظم ذنبا، وأعظم عقوبة؛ فالثيب يرجم بالحجارة حتى يموت، والبكر يجلد مائة جلدة، ويغرب عاما؛ قال الله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } (1) وفي الحديث الصحيح، النبي قال: خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب الرجم (2) أو كما جاء في الحديث.
فالثيب يرجم، والبكر يجلد، فهما يشملهم اسم واحد وهو الزنا، ولكن العقوبة متفاوتة، وكل منهما ضعيف الإيمان، فكذلك المؤمنون يتفاوتون في إيمانهم، فالذي يرتكب الكبيرة العظيمة يضعف إيمانه، والذي يرتكب كبيرة أقل منها يضعف إيمانه، فيكون الذي يرتكب الكبيرة العظيمة إيمانه أضعف، ناقص أكثر، ينقص أكثر، فالزاني الثيب أضعف إيمانا من الزاني البكر، يكون إيمانه أشد ضعفا. نعم.
حديث "لعن المؤمن كقتله"
وكذلك قوله: لعن المؤمن كقتله (3) إنما اشتركا في المعصية حين ركباها، ثم يلزم كل واحد منهما من العقوبة في الدنيا بقدر ذنبه، ومثل ذلك قوله..
__________
(1) - سورة النور آية: 2.
(2) - مسلم: الحدود (1690) , والترمذي: الحدود (1434) , وأبو داود: الحدود (4415) , وابن ماجه: الحدود (2550) , وأحمد (5/313 ,5/317 ,5/318 ,5/320) , والدارمي: الحدود (2327).
(3) - البخاري: الأيمان والنذور (6653) , ومسلم: الإيمان (110) , وأحمد (4/33).(1/286)
يعني: حديث: لعن المؤمن كقتله (1) فالذي يلعن المؤمن، والذي يقتل المؤمن، كل منهما يسمى عاصي، فاللاعن عاصي، والقاتل عاصي، لكن هل العقوبة واحدة، والذنب واحد؟ لا، القاتل يقتل، إذا قتل عمدا وعدوانا، واللاعن ما يقتل، ولكن يقتص منه، وكذلك في الإيمان يتفاوتان، فقاتل المؤمن ذنبه عظيم، إيمانه ناقص، يعني: أضعف، إيمان القاتل أضعف من إيمان اللاعن نعم.
حديث "حرمة ماله كحرمة دمه "
ومثل ذلك قوله: حرمة ماله كحرمة دمه (2) وعلى هذا، وما أشبهه أيضا.
نعم، قوله: حرمة المال كحرمة الدم (3) لا شك أن من أخذ مال مسلم بغير حق مرتكب للكبيرة، ومن قتله بغير حق مرتكب للكبيرة، لكن أيهما أعظم؟ من سفك الدم بغير حق، هذا أعظم ذنبا، وإيمانه أشد ضعفا ممن أخذ المال، وكلهما يسمى عاصي، مرتكب للكبيرة، وكل منهما ناقص الإيمان، نعم.
والمؤلف هنا يبين أن الناس يتفاوتون في الإيمان يتفاوتون، ليسوا على حد سواء، خلاف المرجئة الذين يقولون: الإيمان واحد، المرجئة يقولون: الإيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد، وأن أفجر الناس وأتقى الناس واحد، فالذي يقتل النفوس، ويزهق النفوس، ويأخذ الأموال، ويشرب الخمور، هذا إيمانه مثل إيمان أتقى الناس وأعبد الناس، هل هذا صحيح ؟ هذا من أبطل الباطل. نعم.
فالمؤلف -رحمه الله- بيّن، قال: الناس يتفاوتون في الإيمان، على حسب تفاوتهم في التقوى والإيمان والطاعة، والعمل الصالح، وكذلك يتفاوتون في ضعف الإيمان، على حسب الجرائم التي ارتكبوها والكبائر، فالقاتل إيمانه أشد ضعفا ممن لعن المؤمن أو سبه. نعم.
الأسس التي صار عليها المؤلف في رسالته
__________
(1) - البخاري: الأيمان والنذور (6653) , ومسلم: الإيمان (110) , وأحمد (4/33).
(2) - أحمد (1/446).
(3) - أحمد (1/446).(1/287)
قال أبو عبيد كتبنا هذا الكتاب على مبلغ علمنا، وما انتهى إلينا من الكتاب، وآثار النبي - صلى الله عليه وسلم- والعلماء بعده، وما عليه لغات العرب ومذاهبها، وعلى الله التوكل، وهو المستعان.
قال أبو عبيد وهو المؤلف - رحمه الله- القاسم بن سلام كتبنا هذا الكتاب -وهو الإيمان- على مبلغ علمنا، هذا من ورعه - رضي الله عنه- من ورعه وتواضعه، هذا تواضع العلماء، يقول: هذا الكتاب على مبلغ علمي، وما انتهى إليّ من النصوص، من كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وأقوال أهل العلم.
يقول: إني كتبت هذا الكتاب، وألفت هذا التأليف، ووضعت ما فيه، ما وصل إليه علمي، والعلم إنما يصل من أي شيء؟ من كتاب الله، وسنة رسوله، وما دلت عليه اللغة العربية، وما أقره أهل العلم.
وهكذا ينبغي للإنسان أن لا يتكلم إلا بعلم، يقول: أنا ما تكلمت إلا بعلم، هذا الذي انتهى إليه علمي، ولا يجوز للإنسان أن يتكلم في شرع الله ودينه، عن علم وبصيرة؛ ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-، قال أبو عبيد كتبنا هذا الكتاب على مبلغ علمنا، على حسب العلم الذي وصل إلينا، وما انتهى إلينا من أي؟ من الكتاب العزيز، وآثار النبي - صلى الله عليه وسلم- السنة النبوية، والعلماء بعده، ما أقره أهل العلم، وفهموه من النصوص، وما عليه لغات العرب ومذاهبها.
فإذن المؤلف -رحمه الله- استدل بأي شيء في هذا الكتاب؟ بالكتاب والسنة، وأقوال أهل العلم، ولغات العرب وعلى الله التوكل، يعني: الاعتماد، وتفويض الأمر، وهو المستعان، وهو المعين -سبحانه وتعالى-. نعم.
مذاهب الجهمية والمعتزلة والإباضية والصفرية والفضلية في الإيمان والرد عليهم
قال أبو عبيد ذكر الأصناف الخمسة الذين تركنا صفاتهم في صدر كتابنا هذا، من تكلم به في الإيمان هم: الجهمية والمعتزلة والإباضية والصفرية والفضلية(1/288)
نعم، أبو عبيد -رحمه الله- قال: إنه ذكر في أول هذا الكتاب الأصناف الخمسة، أشار إليهم، وترك صفاتهم في الكتاب، وأراد الآن أن يذكر مذاهبهم في الإيمان، وهم خمس طوائف: الجهمية الطائفة الأولى، والطائفة الثانية: المعتزلة والطائفة الثالثة: الإباضية - والإباضية من الخوارج -، والصفرية كذلك من الخوارج والفضلية من الخوارج
فالمؤلف - رحمه الله - يريد أن يذكر مذهب هؤلاء الطوائف الخمس، مذهب هذه الطوائف الخمس في الإيمان، ما هو مذهبهم؟ مذهب الجهمية في الإيمان، ومذهب المعتزلة المعروف عن الجهمية هم الذين ينكرون أسماء الله وصفاته، هم الجهمية وزعيمهم الجهم بن صفوان يقولون: ليس لله اسم ولا صفة -والعياذ بالله-.
ويقولون: إن الأسماء والصفات الواردة في النصوص: وهو العليم الحكيم، وهو العزيز، يقولون: هذه أسماء لخلق، أضيفت إليه إضافة تشريف، كما أضيفت الناقة والعبد، والرسول إلى الله، وهذا ينتج العدم -والعياذ بالله-. الذي يقول: الله ليس له اسم، ولا صفة، أيش معناه ؟ شيء ليس له اسم ولا صفة، يقول: ما يوصف بأي وصف، ولا يسمى بأي اسم.
ما فيه شيء في الوجود إلا له اسم وصفة،+ هذه لها اسم، لها طول، ولها عرض، ولها عمق، وهي موجودة في الأرض، فإذا قلت: هناك مثلا كرسي+ ليس له طول، ولا عرض، ولا عمق، وليس في السماء، ولا في الأرض، ولا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايد له، ولا متصف به، ولا متصف بغيره، أيش يكون ؟ هذا العدم.
فالأمثلة، الجهمية هكذا يصفون ربهم، يعبدون معدوما، الجهمية يقولون: إن الله ليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا قدرة، ولا كذا، وليس في العلو، ولا فوق السماوات، ولا تحتها، ولا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا مباين له، ولا محايد له، ولا متصف به، ولا متصف بغيره، وأيش يكون؟(1/289)
ممتنع، أعظم من العدم، مستحيل -نعوذ بالله-، ولهذا كفّر العلماءُ الجهمية كما ذكر ابن القيم كفّرهم خمسمائة عالم؛ ولهذا قال:
في عشر من العلماء في البلدان بل قد حكاه قبله الطبراني ''ولقد تقلد كفرهم خمسون واللالكائي إمام حكاه عنهم
فالجهمية كفار -والعياذ بالله- لأنهم ما أثبتوا الوجود لله، نعوذ بالله، وبعضهم يقول: إن الله مختلط بالمخلوقات، الجهمية الأولى يقولون، الطائفة الأولى من الجهمية يقولون: إن الله مختلط بالمخلوقات، ممتزج بها -نعوذ بالله-، وهذا كفر وردة، الطائفة المتأخرون منهم ينفون + يقولون: لا داخل العالم، ولا خارجه.
والمعتزلة يثبتون الأسماء وينكرون الصفات يثبتون الأسماء لله، لكن ينكرون الصفات، يقولون: الله سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة. أيش هذا ؟ ما معنى هذا؟ اسم بلا معنى! ولهذا كفرهم أكثر أهل العلم كفرهم، ومن العلماء من بدعهم.
والإباضية طائفة من الخوارج والصفرية الفضلية كل هؤلاء الطوائف الخمس المؤلف -رحمه الله- استدرك وقال: ذكرت هذه الأصناف الخمسة في صدر هذه الرسالة، وتركت وصفهم، والآن أريد أن أتكلم على كل واحدة من هذه الطوائف الخمس، وأبين لك مذهبها في الإيمان. نعم.
مذهب الجهمية في الإيمان
فقالت الجهمية
هذا مذهب الجهمية هذه الطائفة الأولى، مذهب الجهمية في الإيمان وعرفنا أن الجهمية هم أتباع الجهم بن صفوان وهم ينكرون الأسماء والصفات -نعوذ بالله-، وسبق أن مذهبهم، المؤلف عقد لهم بابا، قال: مذهبهم أن الإيمان معرفة الرب بالقلب، والكفر جهل الرب بالقلب؛ فمن عرف ربه بقلبه فهو مؤمن، ولو فعل جميع المنكرات، وجميع أنواع الردة -نعوذ بالله-. نعم.
فقالت الجهمية الإيمان معرفة الله بالقلب، وإن لم يكن معها شهادة لسان، ولا إقرار بنبوة، ولا شيء من أداء الفرائض.(1/290)
هذا مذهب الجهمية إذن ما هو مذهب الجهمية في الإيمان؟ معرفة الله بالقلب، قالوا: من عرف ربه بقلبه، فهو مؤمن، ولو لم ينطق بلسانه،ولم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، ولو لم يعمل شيئا، لا صلاة، ولا زكاة، ولا صوم، ولا حج، يكفي المعرفة، ولو لم يقر بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم- ولو لم يفعل شيئا من الفرائض، لا صلاة ولا زكاة، هذا أخبث المذاهب، وأفسد مذهب قيل في تعريف الإيمان: مذهب الجهمية
وسبق أن المؤلف -رحمه الله- ألزم الجهمية بأن إبليس يكون مؤمنا على هذا، إبليس يعرف ربه بقلبه أو ما يعرف؟ يعرف، أيش الدليل؟ أنه أخبر هو: { قَالَ رَبِّ } (1) يعني: عرف ربه: { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) } (2) إذن إبليس يكون مؤمنا على مذهب الجهم أو غير مؤمن؟ مؤمن. وفرعون يعرف ربه -الذي قال-: { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) } (3) يعرف ربه بقلبه ولا ما يعرف ؟ يعرف، قال الله تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ } (4) يكون مؤمنا على مذهب الجهم أو كافر؟ مؤمن.
واليهود مؤمنون على مذهب الجهم ولا كفار؟ مؤمنون، الدليل؟ قال الله تعالى: { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (5) يعرفون وجود من؟ { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) } (6).
أبو طالب ثبت في الصحيح البخاري أنه مات على الشرك، يكون مؤمنا على مذهب الجهم أو غير مؤمن؟ مؤمن، الدليل ؟ قول أبي طالب في قصيدته:
العلم أين يكون؟ بالقلب.
__________
(1) - سورة الحجر آية: 36.
(2) - سورة الحجر آية: 36.
(3) - سورة النازعات آية: 24.
(4) - سورة النمل آية: 14.
(5) - سورة البقرة آية: 146.
(6) - سورة البقرة آية: 146.(1/291)
من خير أديان البرية دينا لوجدتني سمحا بذاك مبينا ''ولقد علمت بأن دين محمد لولا الملامة أو حذار سُبَّة
فتبين بهذا أن مذهب الجهم في الإيمان أفسد مذهب، وأخبث مذهب، وأن رءوس الكفر يدخلون في الإيمان على مذهبهم -نعوذ بالله-، يدخلون في الإيمان إبليس وفرعون واليهود والوثنينون وأبو طالب كلهم يدخلون في الإيمان على مذهب الجهم -نعوذ بالله-. نعم.
احتجوا في ذلك بإيمان الملائكة، فقالوا: قد كانوا مؤمنين قبل أن يخلق الله الرسل.
هذه حجتهم، حجتهم داحضة، قالوا: إن الملائكة مؤمنون قبل أن يخلق الله الرسل، فدل على أنه لا حاجة إلى الرسل، وأنه يكفي الإيمان بالقلب، هذا مذهب باطل، مذهب باطل. نعم.
مذهب المعتزلة في الإيمان
وقالت المعتزلة
انتقل إلى الطائفة الثانية، يبين مذهب المعتزلة في الإيمان وهم أتباع عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء المعتزلة اعتزلوا مجلس الحسن البصري وصاروا يقررون مذاهبهم الباطلة، في القول بأن مرتكب الكبيرة خارج من الإيمان، فسموا معتزلة. نعم.
الإيمان بالقلب واللسان، مع اجتناب الكبائر، فمن قارف شيئا كبيرا، زال عنه الإيمان، ولم يلحق بالكفر، فسُمي فاسقا، ليس بمؤمن ولا كافر، إلا أن أحكام الإيمان جارية عليه.
هذا مذهب المعتزلة في الإيمان، مذهبهم ما هو؟ الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، مع اجتناب الكبائر، مثل قول أهل السنة لكن يأتي الخلاف بينهم وبين أهل السنة تعريف الإيمان يتمشى مع مذهب أهل السنة -عند المعتزلة - ما هو؟ الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح، واجتناب الكبائر كلها، لا بد أن يؤدي الفرائض، ويبتعد عن الكبائر، ما يكون مؤمنا إلا إذا صدّق بقلبه، وأقر بلسانه، وأدى الفرائض، واجتنب الكبائر، هذا مذهبهم.(1/292)
لكن يأتي الخلاف بينهم وبين أهل السنة ما هو؟ أن من قارف شيئا كبيرا زال عنه الإيمان، إذا فعلت كبيرة واحدة انتهى الإيمان، إذا زنا انتهى الإيمان، خرج من الإيمان، إذا سرق خرج من الإيمان، إذا غشّ خرج من الإيمان، إذا عق والداه خرج من الإيمان، لكن هل يكون كافرا ؟
لا، خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، وأيش يكون؟ يقول: نسميه في منزلة بين المنزلتين: فاسقا، ليس بمؤمن ولا كافر، ليس بمؤمن ولا كافر، إلا أن أحكام الإيمان جارية عليه.
والخوارج كذلك مثلهم مع خلاف في أحكام الدنيا، طيب وفي الآخرة ؟ قال: يحكمون عليه يخلد في النار، يحكمون عليه بأنه مخلد في النار، اللي يفعل كبيرة خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، وصار في منزلة بين المنزلتين يسمى فاسقا، لا مؤمن ولا كافر، وفي الآخرة يخلد في النار. أما الخوارج فكذلك الإيمان عندهم، ما هو؟
تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، وأداء للفرائض، وابتعاد عن المحارم. ما يكون مؤمنا إلا إذا صدّق بقلبه، وأقر بلسانه، وأدى الفرائض، واجتنب الكبائر، لكن يأتي الفرق بينهم وبين أهل السنة ما هو؟
إذا فعل كبيرة -عند الخوارج - خرج من الإيمان ودخل في الكفر، هذا الفرق بينهم وبين أهل السنة وبينهم وبين المعتزلة
المعتزلة يقولون: خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر. أيش يكون؟ في منزلة بين المنزلتين، تُجرى عليه في الدنيا أحكام الإسلام، ولا أحكام الكفرة ؟ عند المعتزلة تجرى عليه أحكام المؤمنين، وعند الخوارج تجرى عليه أحكام الكفرة؛ فيستحلون دمه وماله. إذا فعل كبيرة خرج من الإيمان ودخل في الكفر، واستحق القتل، حل دمه وماله كالكفار، وفي الآخرة؟ يخلد في النار. واضح هذا ؟(1/293)
فيكون الخوارج والمعتزلة يتفقون في تعريف الإيمان، ويتفقون على أن صاحب الكبيرة يخرج من الإيمان، ويخلد في النار في الآخرة، لكن في أحكام الدنيا: المعتزلة قالوا: خرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، وتُجرى عليه أحكام الإسلام. والخوارج قالوا: خرج من الإيمان ودخل في الكفر، وتُجرى عليه أحكام الكفرة؛ فيقتل ويحل دمه وماله. نعم.
مذهب الإباضية في الإيمان
وقالت الإباضية الإيمان جماع الطاعات، فمن ترك شيئا كان كافر نعمة، وليس بكافر شرك، واحتجوا بالآية التي في إبراهيم: { بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } (1).
الإباضية طائفة من الخوارج الخوارج ذكر الذين كتبوا في الفِرَق، "كالملل والنحل" للشهرستاني وابن حزم و"الفرق بين الفرق" للبغدادي ذكروا أن الخوارج طوائف، ما يقارب من اثنين وعشرين فرقة، وكذلك الشيعة طوائف، ما يقارب من اثنين وعشرين فرقة أو أربع وعشرين فرقة، منهم الإباضية
فالإباضية طائفة من طوائف الخوارج وهذه الطوائف يتفقون في أشياء ويختلفون في أشياء، فالمؤلف يبين مذهب الإباضية وهم طائفة من الخوارج في الإيمان، ما هو الإيمان عندهم؟ وقالت الإباضية الإيمان جماع الطاعات، جميع الطاعات، يعني: لا بد أن يصدق بقلبه، ولا بد أن يقر بلسانه، ولا بد أن يؤدي الواجبات والفرائض، ويبتعد عن المحرمات، لكن من ترك شيئا منها -من الطاعات- يكون كافرا كفر نعمة، لا كافر شرك.
__________
(1) - سورة إبراهيم آية: 28.(1/294)
هذا يدل على أن الخوارج يتفاوتون، ليس كلهم يُكفِّرون بالمعاصي، هؤلاء ما كفّروا، قالوا: إذا ترك شيئا صار كافرا كفر نعمة، لا كافرا كفر شرك، دليلهم؟ الآية التي في إبراهيم: { * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } (1) هذا بدّل نعمة الله، هي الطاعة بدّلها، حيث تركها، فصار كافرا كفر نعمة، والمعروف عن الخوارج أنهم يقولون: إذا ترك الطاعة، أو فعل المعصية كفر كفرا أكبر، يخرج من الملة، ويحل دمه وماله، ويخلد في النار، لكن الإباضية يقول المؤلف: إن هذا مذهبهم يقولون: الإيمان جماع الطاعات كلها، وإذا ترك شيئا صار كافرا كفر نعمة، لا كافر كفر شرك، استدلالا بالآية. نعم.
مذهب الصفرية في الإيمان
وقالت الصفرية مثل ذلك في الإيمان: أنه جميع الطاعات، غير أنهم قالوا في المعاصي: صغارها وكبارها كفر وشرك، ما فيه إلا المغفور منها خاصة.
هذا مذهب الصفرية والصفرية طائفة من طوائف الخوارج كما سبق إن الخوارج طوائف متعددة، أكثر من عشرين فرقة، الإباضية عرفنا مذهبهم، والصفرية قالوا: مثل ذلك، قالوا: مثل ما قالت الإباضية الإيمان جميع الطاعات، كلها إيمان، تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، أداء لفرائض، وانتهاء عن المحارم.
__________
(1) - سورة إبراهيم آية: 28.(1/295)
لكن يقولون في المعاصي: إن المعاصي -صغارها وكبارها- كفر وشرك، كل معصية يسمونها كفر وشرك، ما فيه إلا المغفور منها خاصة، يعني: ما يستثنى منها المغفور خاصة، فالمغفور منها هذا يستثنى، وما لم يغفر فهو كفر وشرك، سواء كان معصية كبيرة، كل ذنب كبير أو صغير فهو شرك، إلا المغفور، إلا ما غفره الله، المغفور منها الذي يغفره الله يستثنى، والذي لا يغفره الله يكون كفرا وشركا، حتى اللطمة، وحتى السبّ، وحتى اللطمة الخفيفة، وما أشبه ذلك يسمى كفر وشرك، فهم يختلفون على أيش؟ على الإباضية الإباضية يقولون: إذا ترك شيئا كان كافرا كفر نعمة، وهؤلاء يقولون: جميع المعاصي صغيرة أو كبيرة كفر وشرك، ولا يستثنى إلا المغفور منها خاصة. نعم.
مذهب الفضلية في الإيمان
وقالت الفضلية مثل ذلك بالإيمان، أنه أيضا جميع الطاعات، إلا أنهم جعلوا المعاصي كلها ما غفر منها، وما لم يغفر كفرا وشركا، قالوا: لأن الله -جل ثناؤه- لو عذبهم عليها، كان غير ظالم، لقوله: { لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) } (1).
__________
(1) - سورة الليل آية: 15-16.(1/296)
هذا مذهب الطائفة الثالثة من الخوارج وهي الفضلية وهذه الثلاثة كلها من الخوارج الإباضية والصفرية والفضلية مذهبهم أيضا في الإيمان جميع الطاعات، وتكون الطوائف الثلاث كلها اتفقت - الإباضية والصفرية والفضلية - كلهم يقولون: الإيمان جميع الطاعات، فالفضلية يقولون: الإيمان جميع الطاعات، لكن يقولون: المعاصي كلها المغفور منها، وما لم يغفر كلها تسمى كفرا وشركا، فهم يسمون المعاصي كفرا، حتى المغفور منها يسمونه كفرا وشركا، كل معصية، ولو كانت سرقة، أو -مثلا- شرب خمر، أو سب، كلها كفر وشرك، وحتى لو كان مغفورا، فهم يقولون: الإيمان جميع الطاعات كلها، إلا أن المعاصي كلها تسمى: كفرا وشركا، حتى المغفور منها يسمى: كفرا وشركا، قالوا -دليلهم-: لأن الله -جل ثناؤه- لو عذبهم عليها، كان غير ظالم، واستدلوا بقوله تعالى: { لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) } (1) نعم.
اختلاف الإباضية والصفرية والفضلية من فرق الخوارج في الإيمان
وهذه الأصناف الثلاثة من فرق الخوارج معًا، إلا أنهم اختلفوا في الإيمان.
يعني: هذه الطوائف الثلاثة ما هي؟ الإباضية والصفرية والفضلية كلهم من فرق الخوارج؛ فرق الخوارج كثيرة تزيد على العشرين، إلا أنهم اختلفوا في الإيمان، اتفقوا على أن الإيمان جميع الطاعات، لكن اختلفوا فيمن فعل المعاصي بعد ذلك، فالإباضية يقولون: يكون كافرا كفر نعمة، والصفرية يقولون: المعاصي كلها -كبارها وصغارها- كفر وشرك، ولا يستثنى إلا المغفور، والفضلية يقولون: حتى المغفور يسمى: شرك وكفر. نعم.
الشيعة وافقت فرقتين من الخوارج في الإيمان
وقد وافقت الشيعة فرقتين منهم، ووافقت الرافضة المعتزلة فوافقت الزيدية الأباضية الزيدية الإباضية
__________
(1) - سورة الليل آية: 15-16.(1/297)
الشيعة طوائف كثيرة، اسم الشيعة علم في كل من يتشيع لعليّ وأهل البيت يسمى شيعة، لكن طبقات، أكثر من عشرين فرقة مثل الخوارج منهم الزيدية ومنهم الرافضة ومنهم المفضلة ومنهم المخطئة الذين خطئوا جبريل وقالوا: إن جبريل أخطأ في الرسالة، أرسله الله إلى عليّ فأخطأ، وأتى بها إلى محمد هؤلاء كفار بإجماع المسلمين
وكذلك أيضا النصيرية الذين يقولون: إن الله حلّ بعليّ وهم أعلى طوائف الشيعة النصيرية يقولون: إن الله حلّ بعليّ ويقولون: عليّ هو الإله، هؤلاء كفار بإجماع المسلمين ثم إن المخطئة الذين خطئوا جبريل قالوا: جبريل أرسله الله إلى عليّ لكن جبريل خان، خان وأرسلها إلى من؟ إلى محمد يقولون عبارة مشهورة: "خان الأمين وصدها عن حيدرة"، خان الأمين وهو جبريل وصدها، أي: الرسالة، عن حيدرة: علي حيدرة لقب عليّ خان الأمين وصدها عن حيدرة، هذا كفر بيِّن.
ثم الرافضة أيضا طائفة، والزيدية طوائف، هم طوائف كثيرة متعددة، الرافضة الذين يكفرون الصحابة ويسبونهم، ويعبدون آل البيت ويقولون: إن القرآن طار ثلثيه، ولم يبق إلا الثلث، هذه مذاهب كفرية -نسأل الله العافية- ومنهم الزيدية أخفهم الزيدية الزيدية الذين يفضلون عليّ على عثمان مبتدعا، فالشيعة طبقات، منهم الكافر ومنهم المؤمن، على حسب الاعتقاد، والخوارج طبقات.
يقول المؤلف -رحمه الله-: وقد وافقت الشيعة فرقتين منهم، وافقت الشيعة فرقتين من فرق مَن؟ من فرق الخوارج هذا إجمال، ثم فصّل، قال: فوافقت الرافضة المعتزلة ووافقت الزيدية الإباضية(1/298)
إذن الشيعة وافقوا فرقتين من فرق أيش؟ من فرق الخوارج فوافقت الرافضة المعتزلة الرافضة وافقت المعتزلة ما هو مذهب المعتزلة في الإيمان؟ قالوا: الإيمان، -إذا نظرت إلى فوق- تجد المعتزلة قالوا: الإيمان بالقلب واللسان، مع اجتناب الكبائر، ومن قارف شيئا كبيرا، زال عنه اسم الإيمان، ولم يلحق بالكفر، فيسمى: فاسقا، لا مؤمن ولا كافر. الرافضة وافقوهم، فمذهب الرافضة في الإيمان مثل مذهب المعتزلة
ووافقت الزيدية الإباضية الزيدية طائفة من الشيعة الإباضية ما هو مذهبهم ؟ قالوا: الإيمان: جماع الطاعات، ومن ترك شيئا كان كافرا كفر نعمة، لا كفر شرك، فالزيدية وافقوا الإباضية في الإيمان، والرافضة وافقوا المعتزلة في الإيمان، نعم. هذا يختلف، يختلف إن ترك شيئا من الإيمان، إن فعل ناقضا من نواقض الإسلام، أو شركا في العبادة يكون كفرا، وإن فعل كبيرة يُسمى: كافرا. نعم.
النصوص ترد على هذه المذاهب وتبطلها
وكل هذه الأصناف يكسر قولهم: ما وصفنا به باب الخروج من الإيمان بالذنوب.
يعني: كل هذه الأصناف يكسر قولهم، يعني: يرد قولهم، يرد قولهم ومذهبهم الباطل، ما وصفنا به باب الخروج من الإيمان بالذنوب، يقول: نرد على هذه الطوائف التي سبق ذكرها في قولهم: إنه يخرج من الإيمان بالمعصية، النصوص التي ذكرناها في الباب السابق: أن المؤمن لا يخرج من الإيمان بالمعاصي كما سبق، إذا فعل شركا أصغر، أو كفرا أصغر، أو فعل الزنا، أو السرقة يُنفى عنه الإيمان، ولا يخرج من الإسلام.
فهذه النصوص التي سبقت، نرد بها على هذه الأصناف -أصناف الخوارج والمعتزلة - كلهم يُرد مذهبهم، ويبطل مذهبهم، بماذا ؟ بالنصوص التي فيها أن المعاصي، لا تخرج صاحبها من الإيمان، ولا تنفي عنه اسم الإيمان، وإنما ينفى عنه كمال الإيمان، فيكون ضعيف الإيمان. نعم.
مذهب الجهمية يبطله جميع أهل الملة(1/299)
إلا الجهمية فإن الكافر لقولهم قول أهل الملة، وتكذيب القرآن إياهم حين قال: { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (1).
يعني يقول: إلا الجهمية فإن مذهبهم أشد، الأصناف التي سبقت - المعتزلة والإباضية والصفرية والفضلية - كلهم مذهبهم تبطله النصوص التي سبقت، في أن المعاصي لا تخرج صاحبها عن الإيمان إلا الجهمية فإن مذهبهم يبطله جميع أهل الملة، جميع المسلمين يردون مذهبهم ويبطلونه، والقرآن يكذب مذهبهم ويبطله، لخبثه وفساده.
فإن الجهمية قالوا: الإيمان معرفة الله بالقلب فقط، هذا مذهب خبيث، ومذهب فاسد، كل المسلمين يردونه ويبطلونه، بعد تكذيب الله له، وإبطاله بالقرآن، القرآن يبطل مذهبهم، والسنة تبطل مذهبهم، وعموم المسلمين كلهم يشنعون عليهم، ويبطلون مذهبهم، نعم. إلا الجهمية
الأدلة على بطلان مذهب الجهمية
قوله تعالى "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه"
إلا الجهمية فإن الكافر لقولهم قول أهل الملة، وتكذيب القرآن إياهم حين قال: { الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (2).
نعم هذه الآية، بيّن الله فيها أن أهل الكتاب يعرفون الرسول كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك هم كفار بإجماع المسلمين اليهود والنصارى كفار بإجماع المسلمين ومع ذلك يعرفون ربهم بقلوبهم، ويعرفون صدق محمد -عليه الصلاة والسلام-، ومع ذلك فهم كفار، هذا يبطل مذهب الجهمية الذين يقولون: الإيمان معرفة الرب بالقلب نعم.
قوله تعالى "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم"
وقوله: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } (3).
__________
(1) - سورة البقرة آية: 146.
(2) - سورة البقرة آية: 146.
(3) - سورة النمل آية: 14.(1/300)
كذلك أخبر الله عن فرعون وقومه، الذي ادعى الربوبية أنه يعرف ربه بقلبه، واستيقن بالباطل، قال الله: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } (1) ومع ذلك فرعون رأس في الكفر، رأس في الكفر والضلال، وهو يعرف ربه مستيقن بقلبه، هذا كله يبطل مذهب الجهمية الذين يقولون: الإيمان معرفة الرب بالقلب. نعم.
فأخبر الله عنهم بالكفر، إذ أنكروا بالألسنة.
أخبر الله عنهم، يعني عن أهل الكتاب أنهم كفروا، وكذلك فرعون وملأه كفروا؛ لأنهم أنكروا بألسنتهم، ولهذا قال: { وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) } (2) فرعون أنكر بالرسالة، كذب موسى وكذلك أهل الكتاب كذّبوا النبي - صلى الله عليه وسلم- وأنكروا رسالته إليهم، فكفروا، لما كذبوا بألسنتهم، ولو كانوا يعرفون بقلوبهم. نعم.
وقد كانت قلوبهم بها عارفة.
نعم، كانت القلوب عارفة، لكن كفروا لما كذبوا بألسنتهم. نعم.
قوله تعالى "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا"
ثم أخبر الله - عز وجل - عن إبليس، أنه كان من الكافرين، وهو عارف بالله بقلبه ولسانه أيضا.
نعم، إبليس أخبر الله أنه كافر، قال الله -تعالى-: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) } (3) مع أنه عارف ربه بقلبه ولسانه؛ لأن الله أخبر عنه قال: { قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) } (4) إذن عارف ربه بقلبه ولسانه، لكن لما استكبر عن عبادة الله صار كافرا، فكل إنسان يعرف ربه بقلبه وبلسانه، لا يكفي في الإيمان، حتى ينقاد لشرع الله ودينه. نعم.
في أشياء كثيرة يطول ذكرها، كلها ترد قولهم أشد الرد، وتبطله أقبح الإبطال.
__________
(1) - سورة النمل آية: 14.
(2) - سورة البقرة آية: 146.
(3) - سورة البقرة آية: 34.
(4) - سورة الحجر آية: 36.(1/301)
يقول المؤلف: يعني ذكرنا الآيتين، هذا مثال، وإلا الأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، كلها تبطل مذهب الجهمية وتردها، وتبطلها أقبح الإبطال. نعم.
خاتمة
تم الكتاب -أعني الرسالة- وكُتب بخطه في شوال سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، من نسخة الشيخ العفيف أبي محمد عثمان بن أبي نصر بمصر قوبل به، والحمد لله وحده.
نعم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- يثبتنا على دين الإسلام حتى الممات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم، وبارك على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، والتابعين.
إذا كان هناك أسئلة:
نعم، يقول للمغفور، الذي غفره الله، ما غفره الله يستثنى.
نعم، هذا المذهب، هذا مذهبهم. نعم.
الخوارج كما سبق، الخوارج فيهم خلاف، الجمهور على أنهم مبتدعة، الصحابة عملوا ما عملوا في المبتدعة، وبعض العلماء كفرهم، وروي عن الإمام أحمد كل النصوص التي فيها أنهم يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، نعم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أولا: هنا طلب من الشيخ -حفظه الله- أن يعرف هل دروس الإجازة مستمرة ؟ وهل هناك دورات علمية له بعد هذه الدورة ؟
نعم، الدروس متوقفة الآن، ولكن فيه مشاركة -إن شاء الله- في دورة شيخ الإسلام ابن تيمية يوم السبت القادم، بعد المغرب، في كتاب "الشرح والإبانة" لابن بطة نعم.
نعم، إي نعم مطبوع، نعم، ولكن سمع أحد الإخوان يقول: ما هو موجود في الأسواق، لكن سمعت أنه طُبع، +، نعم، الإبانة الصغرى، نعم. ويوجد أيضا دورات -إن شاء الله- في المدينة النبوية في شهر خمسة، في كتاب "التوحيد" للبربهاري كتاب السنة للبربهاري في شهر خمسة، أظن في 7 \ 5، فيه دورة بالمدينة النبوية لمدة أسبوعين، تبدأ من 7 \ 5 إلى أو من واحد إلى خمسة عشر، اشتراكي فيها في الأسبوع الأخير، فترتين في اليوم.(1/302)
في العام الماضي شاركنا أيضا كذلك في المدينة النبوية شرح كتاب "الوصية الكبرى" لشيخ الإسلام ابن تيمية وفيه أيضا -كذلك أيضا- نشارك في دورة علي بن المديني - إن شاء الله- كتاب أيضا الصابوني "العقيدة" للصابوني نعم. -أحسن الله إليك- وهي في بعد عودة المدرسين، أظن أنها تكون في 20 \ 5 -إن شاء الله- نعم، نسأل الله أن يحيينا وإياكم حياة طيبة، وأن يرزقنا جميعا العلم النافع، والعمل الصالح. نعم.
يا فضيلة الشيخ: كما تعلمون أن العلم وسيلة من وسائل التقرب إلى الله - عز وجل - وزيادة الإيمان والخشية، فبعد أن أنهينا كتاب الإيمان، ولله الحمد، فما هي نصيحتكم لطلاب العلم، للعمل بما علموا؛ لأن ثمرة العلم العمل.
نعم، لا شك أن ثمرة العلم العمل، وأن العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه، وإلا ارتحل، والله -سبحانه وتعالى- أثنى على المؤمنين بخشيته، وتقواه، قال -سبحانه-: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (1) فالعلماء قسمان: علماء الآخرة، وهم علماء الشريعة هم الذين يعلمون، ويعملون. أما علماء السوء فهم الذين يعلمون ولا يعملون -نسأل الله العافية- كما أخبر الله عن اليهود
ونحن في كل ركعة من ركعات الصلاة، علمنا الله -سبحانه وتعالى-، فرض علينا أن نقرأ سورة الفاتحة، وفيها الثناء على الله في أولها، ثم الدعاء العظيم في آخرها، فهو أعظم دعاء، وأمتع دعاء، وأجمع دعاء: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } (2) وحاجة الإنسان إلى هذا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجتيه إلى النَّفَس الذي يتردد بين جنبيه؛ لأن الإنسان إذا فقد الطعام والشراب، وفقد النَّفَس مات، والموت لا بد منه، الإنسان يفنى يموت.
__________
(1) - سورة فاطر آية: 28.
(2) - سورة الفاتحة آية: 6-7.(1/303)
ولا يظن الإنسان أنه يموت إذا كان مستقيما على شرع الله ودينه، لكن إذا فقد الهداية مات روحه وقلبه، وصار إلى النار -نعوذ بالله-، { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) } (1) ثبتنا، اهدنا، ودلنا، وأرشدنا إلى الصراط المستقيم، { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } (2) وهم الذين يعلمون ويعملون، هم المُنْعَم عليهم -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم- { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } (3) وهم الذين يعلمون ولا يعملون، ويدخل في ذلك بعض طوائف اليهود وما فسد من علماء هذه الأمة ففيه شبه من اليهود المغضوب عليهم هم الذين يعلمون ولا يعملون، { وَلَا الضَّالِّينَ (7) } (4) يعني: غير طريق الضالين، وهم الذين يعبدون الله على جهل وضلال.
فالطائفة الأولى تعلم ولا تعمل، فهم مغضوب عليهم، أمة الغضب، وهم العلماء الذين يعلمون ولا يعملون، علماء السوء، كما قال البخاري -رحمة الله عليه-: علماء السوء، تخالف أقوالهم وأفعالهم، كلما حسنت منهم الأقوال ساءت الأفعال، إذا قالوا بألسنتهم للناس: افعلوا، قالت أفعالهم للناس: لا تفعلوا، قطّاع طريق، يقطعون الطريق على الناس بأفعالهم الخبيثة، { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } (5) هم مغضوب عليهم، يعلمون ولا يعملون.
والطائفة الثانية: يعملون ويتعبدون، لكن على جهل وضلال كبعض طوائف النصارى وفي بعض الصوفية وغيرهم، فهما داءان، إذا سلم الإنسان منهما سلم.
الداء الأول: ترك العمل، وهو الغواية، داء الغواية.
والداء الثاني: الجهل، وهو التعبد على جهل وضلال.
__________
(1) - سورة الفاتحة آية: 6.
(2) - سورة الفاتحة آية: 7.
(3) - سورة الفاتحة آية: 7.
(4) - سورة الفاتحة آية: 7.
(5) - سورة الفاتحة آية: 7.(1/304)
وقد برأ الله نبيه الكريم من هذين الداءين في قوله - سبحانه -: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) } (1) ما ضل، ليس ضالا -عليه الصلاة والسلام-، بل هو على علم، علمه ربه، ولا غاويا، لا يعمل بعلمه، بل هو البار الراشد، فالمؤمن الذي يعمل بعلمه، يعلم ويعمل، هذا يقال: راشد، والذي يعلم ولا يعمل هذا غاو، والذي يعمل بدون علم هذا ضال. نعم.
جاءت أسئلة كثيرة يسألون عن تفسير قول المؤلف.. + المغفور منها، والتي لا يغفر، وغير المغفور؟
يعني: تستثنى منها، يقول: إنها تسمى شركا وكفرا، يعني: ما غفره الله، وما لم يغفره الله، كله يسمى شرك، ما يستثنى، وبعضهم يستثني المغفور منها. نعم.
هذا سائل يقول: أشكل علي قول: لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، أليس سب الله ذنبا والسجود للصنم عمل، فلماذا لا نكفره خاصة ؟
المراد لا نكفره بذنب، إذا ذكر الذنب، المراد به دون الشرك، لا نكفره بذنب، أي: دون الشرك، ولا نخرجه من الإسلام بعمل يعمله، يعني: إذا زنا أو سرق، أو ترك بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرمات، لا نخرجه من الإسلام بها، ما لم يفعل شركا، أو يفعل ناقضا من نواقض العبادة، المراد ما نكفر الإنسان بذنب، يعني: في المعصية، المراد المعاصي، الشرك ذنب، لكن أعظم الذنوب، الذنب إذا أطلق المراد ما دون الشرك، الذي لا يسمى شرك، ولا يسمى ذنب، المراد الذنب الذي هو دون الشرك. نعم.
يقول أيضا: ما مراد الإباضية بقولهم: كفر نعمة ؟
يعني: كفر أصغر، ما يخرج من الملة، مثل قوله -تعالى-: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } (2) كفر النعمة كفر أصغر. نعم.
ألست المعاصي كفرا بنعمة الله، فما الفرق بين أهل السنة وبين الإباضية ؟
__________
(1) - سورة النجم آية: 1-2.
(2) - سورة النحل آية: 112.(1/305)
لا، المعاصي عند أهل السنة طبقات، بعضها يسمى: كفرا، +سمي في النصوص كفر، مثل: الطعن في النسب، والنياحة على الميت، وبعضا لا يسمى كفرا، الذي لم يسم في النصوص كفرا ما نسميه كفرا، والإباضية يسمون كل معصية كفر نعمة؛ إذا ترك شيئا من الطاعات فهو كافر كفر نعمة. نعم.
قد وضحتم قول المؤلف: وأما النكاح، والرق، والأنساب فعلى ما كانت عليه أماكنها وأسماؤها، كذلك هذه الذنوب التي ينفى بها الإيمان.
يعني: المرأة إذا كانت عاصية لزوجها، تكون مرتكبة لكبيرة، ينفى عنها كمال الإيمان، لكن النكاح باق، النكاح باق، ما ينفسخ النكاح بالمعصية، ولو كانت ضعيفة الإيمان، وكذلك العبد الرقيق، إذا عصى سيده، يكون عاصيا مرتكبا لكبيرة، ولكن يبقى اسم الرق، يبقى ولو كان عاصيا لسيده، يبقى رقيقا، وما أشبه ذلك، كذلك النسب، الولد العاق لوالده، هذا عاق، ضعيف الإيمان، لكن يبقى النسب، هو ولده، ابن له، ولو كان ضعيف الإيمان، ولو كان ناقص الإيمان، ولو كان عاقا، فالاسم باقي، ولكن ينفى عنه كمال الإيمان. نعم.
هذا السؤال من الشبكة العالمية يقول: هل الإباضية قائلين بخلق القرآن والقائلين بقول الجهمية "سميع بلا سمْع" هل هم كفار؟
مَن قال بخلق القرآن فهو كافر كما قال كثير من السلف مَن قال بخلق القرآن فهو كافر على جهة العموم، أما الشخص المُعَيّن فلا يُكَفَّر حتى تقوم عليه الحُجة، حتى توجد الشروط وتنتفي الموانع، لكن على العموم مَن قال: كلام الله مخلوق، فهو كافر كما قاله الإمام أحمد وكثير من السلف على وجه العموم. - والثاني أيش؟
- مَن قال: القرآن مخلوق.
- أيش؟
- وقال: إن الله سميع بلا سمْع.
نعم هذا قول المعتزلة سبق أن المعتزلة فيهم خلاف من العلماء، الجمهور على أنهم مُبْتَدعة، وبعض العلماء كفَّرهم.
يقول: ما رأيكم في عقيدة الصابوني ؟
الصابوني أي: المؤلف، ما وضّح، هو من الإنترنت، هو يقصد مَن؟ المتأخر أو المتقدم ؟!
نعم يحتاج إلى بيان نعم.(1/306)
أيضا هذا يقول: ما قولكم؟ يقول بعض الجهلة -وصدّرها بهذا الكلام-: بأن جميع دول الغرب كأوروبا وأمريكا دُور حرب، وأن المسلم إذا كان داخلها بغير عهد جاز له أن يسرق فيها.
لا، ليس بصحيح، لا يجب للإنسان أن يسرق، ولا يأخذ مالا إلا مِن مال الكافر الحَرْبِيّ، مال الكافر الحربي اللي بيننا وبينه حرب، وبيننا وبينه السلاح، هذا حلال الدم والمال.
أما الكافر الذِّمِّيّ الذي له عهد، بيننا ويبنه عهد أو صلح، أو دخل إلى البلاد بذمة أو عهد وما أشبه ذلك، فهؤلاء لا يجوز قتلهم، ولا أخذ أموالهم، بل إن ذلك فيه الوعيد الشديد، قال -عليه الصلاة والسلام-: من قتل معاهدًا لم يَرُحْ رائحة الجنة (1) فمن كبائر الذنوب، فليس كل كافر يحل دمه وماله إنما هذا الكافر الحربي اللي بيننا وبينه حرب، وبيننا وبينه سلاح، هذا حلال دمه وماله.
السائل الذي سألك عن الصابوني أخشى أن يختلط عليه الصابوني المتقدِّم، فاكر لمّا قلتم: "يشرح كتاب الصابوني "، فاختلط عليه المتقدم.
لا الصابوني الإمام المتقدم، نعم والذي سنشرح كتابه. فالأخ لا بد أن يسمع كلام الشيخ، يقصد بالصابوني المتقدم، صاحب العقيدة المصنَّفة، أي نعم.
يقول -أيضا، هذا من الشَّبَكة- يقول: ما قولكم فيمن كفّر كل من والى الكفار بلا تفصيل ؟
ليس بصحيح هذا، لا بد من التفصيل، مَن تولّى الكفّار، تولي الكفار ردة، ومعنى "توليهم" يعني: محبتهم في القلب، ثم يتبع ذلك نصرتهم على المسلمين بالمال أو السلاح أو الرأي، فإذا أحب الكافر أو أعان الكافر على المسلمين وهم يقاتلوا المسلمين بسلاحه أو بماله أو برأيه هذا رِدة، قال -تعالى-: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } (2).
__________
(1) - البخاري: الجزية (3166) , وابن ماجه: الديات (2686).
(2) - سورة المائدة آية: 51.(1/307)
أما "الموالاة" يعني: معاشرتهم ومصادقتهم بدون حاجة هذه كبيرة من كبائر الذنوب، يتخذ الكافر عشيرا، صديقا ويزوره، ويتخذه صديقا من دون المؤمنين، أما التولي ردة، "تولي": محبة الكافر بالقلب، محبته لدينه، ثم ينشأ عن هذه المحبة نُصرته وإعانته على المسلمين في قتالهم، يُعين الكافر على المسلمين بماله أو بسلاحه أو برأيه، هذا كُفْر ورِدّة، نعم.
يقول: هل قول الإباضية يخالف منهج أهل السُّنة في الإيمان؛ وذلك لأن لهم نشاطا قويا في الدعوة إلى مذهبهم، وما نصيحتكم لهم؛ لأن منهم مَن يسمعنا الآن؟
نعم كما سبق قول المؤلف -رحمه الله-: مذهبهم الإباضية كما سبق في الإيمان، وعلى كل حال على كل إنسان -سواء من الإباضية وغيرهم- أن يتبع الحق، وأن يتبع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- .
على كل إنسان مسلم يجب عليه أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- سواء كان من الإباضية أو من غيرهم، ومن فعل معصية سواء تتعلق بالاعتقاد: كالزاني، والسارق، وشارب الخمر، وكذلك المعتزلة والأشاعرة والإباضية وغيرهم، كلهم عليهم أن يتبعوا كتاب الله وسنة رسول الله.
كل إنسان وقع في الذنب سواء بالاعتقاد أو في العمل، عليه أن يتوب إلى الله - عز وجل - وأن يرجع إلى الحق، فالحق أحق أن يُتَّبع، هذا هو واجب.
وإذا كان لهم نشاط في الإسلام طيب فعليهم أن يصححوا معتقدهم، وأن يتبعوا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وما قرّه السلف الصالح وأهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين والأئمة ومن بعدهم، نعم.
يقول: إن المؤلّف يقول: إن الأحاديث التي فيها ذكر الكفر والشرك، يقول: إنها من أخلاق المشركين وأفعالهم، يقول: هل هي كذلك أم إنها تفيد الترغيب والترهيب؟(1/308)
نعم، سبق في البارحة أن قلت: إن الأصل في هذا أن يقال: إنها من كبائر الذنوب، وإنها تنافي كمال الإيمان، فهي من كبائر الذنوب، وما سمي من الكفر فهو كفر أصغر، وشرك أصغر، ولا تفسر بهذا التفسير، وهذه هي طريقة السلف أنهم لا يفسرونها حتى تكون أبلغ في الزجر والرَّدع، نعم.
يقول -هذا سؤال من الشبكة- يقول: كما تعلمون أنه يجوز الزواج بالكتابية فهل محبتها محبة الزوجة تجوز مع أنها كتابية.
نعم، محبتها إذا أحبها لدينها هذا رِدّة، أما إذا أحبها محبة طبيعية، لا شك أنه يجوز الزواج بكتابية، لكن الأوْلى الترك، الأولى ألا يتزوج، يعني: ترْكه أولى؛ لأنه قد تؤثر على أولادها، قد تؤثر عليه هو، نعم.
يقول: الإباضية يقولون: إن مرتكب الكبيرة خالد في نار جهنم، فيقول: وهذا وجه الشبه بينهم والمعتزلة وقولهم: "كُفْر نِعمة"، كقول المعتزلة "في منزلة بين المنزلتين".
نعم، هذا قول الخوارج لكن هل الإباضية يقولون، هذا المؤلف -رحمه الله- أبو عبيد قال: إنهم يقولون: الإيمان جماع الطاعات كلها، ومن ترك شيئًا كان كافرًا كُفْر نِعمة، إذا كانوا يقولون: إنه إذا فعل الكبيرة خرج بالكفر، فهذا مذهب الخوارج وهو مذهب باطل، نعم.
يقول: هذا المؤلف يقول عن علي بن أبي طالب دائمًا: عليه السلام، فهل وردت هذه التسمية أم لا؟
لا، هذا الظاهر أنها من الذين يطبعون، من النُّساخ، والطباع الذين يطبعون، وإلا فلا يخصص علي ولا غيره بهذا، كل الصحابة سواء، كلهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وإذا صلى على بعض الصحابة في بعض الأحيان فلا بأس، أما أن يجعل الشعار لعلي وأهل البيت وقالوا: عليهم السلام، هذا من شعار الرافضة
هل قولهم كفر وشِرك -أي: الإباضية والصفرية والفضلية - أكبر أم أصغر؟(1/309)
نعم، قولهم كله كفر، لا، هو يقول: كُفر نعمة لا كُفر شرك كما ذكره المؤلف -رحمه الله- عن الإباضية يقولون: يكون كفر نعمة لا كفر شرك، الصفرية قالوا: المعاصي صغارها وكبارها كفر وشرك، ما فيه إلا المغفور منها خاصة، وكذلك -أيضا- الفضلية يقولون: المعاصي كلها ما أُطلقت كفر وشرك، فظاهر الفضلية يقولون: { لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) } (1) استدلالا بالآية بمعنى الشرك الأكبر.
أما الصفرية فهم اختلفوا، لكن الفضلية استدلوا بالآية: { لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) } (2) وهذا في الكافر.
يقول: هل يعذر الرافضة الذين يقولون -هذا السؤال من الشبكة-: بقَدَاسة علي وأنه يضُر وينفع ونحوه؟
مَن قال: إن عليًّا يضر وينفع أو غيره هذا ردة عن الإسلام، بل شرك في الربوبية أعظم مِن كُفْرِ كفار قريش كفار قريش الذين يعبدون الأصنام والأوثان ما يقولون: إنها تنفع ولا تضر، بل يقولون: الذي ينفع ويضر هو الله، لكن نعبدها -كما قال الله عنهم- لتقربنا إلى الله: { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (3).
فمن قال: إن عليا ينفع أو يضر، فقد تجاوز كفر كفار قريش وأشرك في الربوبية -نعوذ بالله، ما فيه أحد حتى من المشركين مشركي قريش يقول: إن الأصنام تنفع أو تضر، كلهم يقولون: النّافع الضار هو الله، الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع، { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } (4) { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } (5).
__________
(1) - سورة الليل آية: 15.
(2) - سورة الليل آية: 15-16.
(3) - سورة الزمر آية: 3.
(4) - سورة الزخرف آية: 87.
(5) - سورة العنكبوت آية: 61.(1/310)
فمن قال: إن أحدا ينفع أو يضر، سواء علي أو غيره، فقد تجاوز، تعدّى شرك كفار قريش ووصل إلى الشرك في الربوبية الذي لم يصل إليه كفار قريش -نعوذ بالله.
يقول: ما صحة قول: كل عاصٍ كافر كُفر نعمة ؟
ليس بصحيح، هذا باطل، ما يسمى كافرا كُفر نعمة، ما سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم- كفرا، والمعاصي فيها بعضها صغير، أي نعم.
يقول بعض الأحباش ويدعي بعض الأحباش والأشاعرة بأن الله في كل مكان.
هذا كفر -والعياذ بالله- هذا قول الجهمية وهذا يقول به الأشاعرة المتأخرون كالرازي وأمثاله، لكن الرازي يذكر شيخ الإسلام أنه تاب وترحّم عليه، ويقولون: إن الله في كل مكان، كفر وردة والعياذ بالله؛ لأنهم جعلوا الله مختلطا بالمخلوقات نسأل الله العافية، وهذا قول الجهمية الطائفة الأولى، كفرهم العلماء، نعم.
يقول: يستدلون بقوله: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (1) ويستدلون بقول الله -تعالى-: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (2) وغيرها، ونحن نستدل بحديث الجارية، وقوله -تعالى-: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (3) ونحوها، فكيف نربط بين أدلتنا وأدلتهم وكيف نجمع بينها؟
هذا معروف وسبق الكلام عليه من نصوص يضم بعضها إلى بعض، فالنصوص من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- لا تتناقض ولا تضرب النصوص بعضها ببعض؛ لأنها كلها معناها حق، فالنصوص نصوص المعية، وأن الله فوق السماوات وفوق العرش، وأن الله في العُلُوّ -تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف دليل كما قال الإمام ابن القيم
__________
(1) - سورة الحديد آية: 4.
(2) - سورة الزخرف آية: 84.
(3) - سورة الملك آية: 16.(1/311)
أكثر من ثلاثة آلاف دليل كلها تدل على أن الله فوق في العلو فوق العرش، أما قوله: { وَهُوَ مَعَكُمْ } (1) فليس معناه أنه مختلط بالمخلوقات، "المَعِيَّة" معناها: المصاحبة { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (2) يعني معناها في لغة العرب مُطْلَق المصاحبة، ولا تقتضي المماثلة ولا المحاذاة.
تقول العرب "ما زلنا نسير والقمر معنا، والنجم معنا، والقمر فوقك"، هل هو مختلط بك القمر؟ هذه لغة العرب وتقول: "المتاع معك" وإن كان فوق رأسك، { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (3) يعني معبود في الأرض كما هو معبود في السماء.
فالله معبود في الأرض ومعبود في السماء: تعبده الملائكة في السماء، ويعبده المؤمنون من الجن والإنس في الأرض، وليس معناها أن الله مختلط بالمخلوقات، هو فوق العرش، وهو معبود في السماء وفي الأرض -سبحانه وتعالى-، وذاته فوق العرش في أعلى، فوق المخلوقات، نعم سبحانه وتعالى.
هذا -أيضا- يسأل عن الشيعة الذين يقدِّسون عليًّا يقول: هل يُعْذَر عوامهم بالجهل؟
__________
(1) - سورة الحديد آية: 4.
(2) - سورة الحديد آية: 4.
(3) - سورة الزخرف آية: 84.(1/312)
نعم، مِن العلماء مَن قال: إنهم يُعذرون، وقال بعضهم: إنهم يكونون فُسّاقًا، وقال آخرون: هم لا يعذرون؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- أخبر في القرآن الكريم عن الجهال أنهم في النار: { وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) } (1) كلهم دخلوا النار، وقال: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَن لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) } (2).
فالتابعون والمتبوعون كلهم في النار، الجهال وأتباعهم { يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } (3) هؤلاء التابعون، { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } (4).
__________
(1) - سورة الأحزاب آية: 67-68.
(2) - سورة البقرة آية: 166-167.
(3) - سورة سبأ آية: 31-33.
(4) - سورة سبأ آية: 33.(1/313)
قال الله: { أَسَرُّواur النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ } (1) وكذلك أيضا الآية الأخرى في سورة الأعراف: { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ } (2) { وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) } (3).
وفي الآية قال الله -تعالى-: { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) } (4) فجعل التابعين والمتبوعين كلهم في النار -نعوذ بالله نسأل الله العافية.
هذا يقول: هل النية بمعنى الاعتقاد، أم النية هي عمل ؟ نرجو التفصيل؛ لأن تعريف الإيمان عند أهل السنة يقولون: قولٌ وعمل واعتقاد، ويقولون: قول وعمل ونيّة؟
نعم، القول هو التصديق والإقرار، وعمل القلب هو النية والإخلاص، النية والإخلاص والصّدق هذا عمل القلب، وقول القلب التصديق والإقرار.
يقول: كما تعلمون أن الروافض يسبُّون الصحابة وعائشة وعندهم بعض الشركيات فهم كفار، ولكن يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فهل يبقى أصل الإيمان في قلوبهم ؟
ما يبقى، إذا فعل الإنسان ناقضًا من نواقض الإسلام بطلت الشهادة، لو قال الإنسان: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، ثم عبد الصنم، تبقى الشهادة ولا ما تبقى؟ بطلتْ انتقضتْ، مثله في ذلك مثل الإنسان توضأ وأحسن الوضوء، وتطهّر وأحسن الطهارة، ثم خرج منه بوْلٌ أو غائط أو ريح، تبقى الطهارة ولا تبطل؟ بطلت.
__________
(1) - سورة يونس آية: 54.
(2) - سورة الأعراف آية: 38.
(3) - سورة الأعراف آية: 39.
(4) - سورة الأعراف آية: 38.(1/314)
فكذلك إذا قال: لا إله لا الله، ثم سجد للصنم، بطلت لا إله إلا الله، أو دعا غير الله، أو قال: إن أحدا ينفع ويضر مع الله، أو اعتقد أن لله صاحبة أو ولدا، أو أنكر وجوب الصلاة، أو أنكر وجوب الزكاة، أو أنكر تحريم الخمر أو الزنا، بطلت الشهادة إذا فعل ناقضًا من نواقض الإسلام، أو الشرك في العبادة بطلت الشهادة، كما أن الوضوء يبطل بنواقض الوضوء، أي نعم.
يقول: المبدلون لشرع الله هل يكونون مسلمين، أم أن التشريع حق لله وحده، ومَن نازعه فيه فقد أشرك في ربوبيته وألوهيته؟
نعم مَن بدّل شرْع الله ودينه كفر -نعوذ بالله.
قال أحد طلاب العلم المعروفين: إن صفة الاستواء على العرش صفة ذاتية لا تنفك عن الله -سبحانه-؛ ولذلك فهو ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير بعرشه -سبحانه-؛ لأن الاستواء صفة ذاتية لا فعلية، فما صحة قوله؟ وهل قال أحد من علماء السُّنة بذلك؟ وما مُلخص قول شيخ الإسلام في هذا؟
ليس بصحيح هذا؛ لأن الاستواء صفة فعلية، وكان بعد خلق السماوات، الصفة الذاتية التي لا تنفك عن الذات، مثل: العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعلو، والعزة، والكبرياء، أما صفة الاستواء فهي صفة فعلية، وكان بعد خلق السماوات والأرض.
فالله -تعالى- خلق العرش أولا، ثم خلق السماوات والأرض، ثم استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض، فكان تارة مستويًا على العرش، وتارة لم يكن مستويا على العرش، كان بعد خلق العرش وقبل خلق السماوات والأرض لم يكن مستويا على العرش، ثم استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض، دل على أنه صفة أيش؟ صفة فعلية.(1/315)
النزول والاستواء صفة فعلية، والاستواء علو خاص، أما صفة العلو، وأن الله فوق المخلوقات كلها ومنها العرش، هذه صفة ذاتية، الله -سبحانه وتعالى- فوق المخلوقات ليس فوقه شيء من خلقه، لكن الاستواء على العرش والاستقرار والصعود والعلو والارتفاع هو عُلو خاص، هذا كان بعد خلق السماوات والأرض، فدلّ على أنها صفة فعلية، ولا نعلم أن أحدا من أهل السنة قال: إنها صفة ذاتية، نعم، صفة فعلية، نعم.
سؤال مِن الشبكة يقول: هل يصح أن أناقش النصراني بالعقل دون الكتاب والسُّنة ؟
نعم إذا كان المناظَر لا يؤمن بالكتاب والسُّنة يناظر بالعقل، نعم.
- يا شيخ، أنا سمعت كثيرًا من مناقشات الشبكة، ولعل السائل يسأل؛ لأنه جاهل هو بالكتاب والسنة، ووجدت كثيرًا من المسلمين يدخلون يناقشون النصارى وهم على جهل فيسيئون أكثر مما يحسنون.
- نعم ما ينبغي هذا، ما ينبغي للإنسان أن يجادل إلا عن علم وعن بصيرة، وإذا كان جداله يضر بالإسلام والمسلمين فليس له ذلك، إنما هذا لأهل العلم الذين عندهم البصيرة، أما من ليس عنده علم فليس له ذلك، فإنما يحيل هذا إلى أهل العلم، نعم.
يقول -أيضا- هذا سؤال من الشبكة: ما حكم من يلعن معاوية ويزيد ؟
هذا لا يجوز، حرام عليه وفسق، فالواجب الترضِّي على الصحابة جميعا، والكف عما شجر بينهم، واعتقاد أنهم أفضل الناس، وخير الناس، وأنه لا كان ولا يكون مثلهم، وأن لهم من الحسنات ما يغطي ما صدر منهم من الهفوات.
وأنه لا يلحقهم مَن بعدهم؛ جهادهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم- وصحبتهم له، وتبليغهم لشرع الله ودينه، هذه حسنات عظيمة لا يبلغها مَن بعدهم إلى يوم القيامة.
فالواجب على كل إنسان أن يكف لسانه، وأن يكف عما شجر بين الصحابة وما حصل بينهم من الخلاف والقتال منه ما هو كذب لا أساس له من الصحة، ومنه ما هو ما له أصل، ولكن زِيدَ فيه ونقص منه، أو غُيِّر عن وجهه، ومنه ما هو صحيح.(1/316)
والصحيح أنهم ما بين مجتهد مصيب له أجران أو مجتهد مخطئ له أجر واحد فاته أجر الصواب، وحصل على أجر الاجتهاد، نعم.
هذا يقول: لقد قلتم -يا شيخ حفظك الله-: إن الشرك الأكبر يُذهب الإيمان، فهل مُرادُكم "يُذهب الإيمان": أنه انتفى من أصل الدين وأصل الإيمان؟
نعم، وعلى هذا هو كافر، نعم.
أم أردتم أنه يُذهب الإيمان، لكن لا يخرج من الإسلام؟
لا، الشرك الأكبر والكفر يخرج من الإيمان بالكلية، ينتهي الإيمان، ويخرج من الإسلام ويكون من الكفرة والمشركين، مثل:
إذا دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو قال: إن عليًّا ينفع ويضر -كفر وخرج من الإسلام بالكلية وصار من الكافرين -نعوذ بالله نسأل الله السلامة والعافية- إنما الشرك الأصغر والكفر الأصغر والمعاصي لا تخرج من الإيمان، نعم.
يقول: لقد ذكرتم -يا فضيلة الشيخ- أحوال مَن يحكم بغير ما أنزل الله فواضع الدستور، في أي صورة يدخل، والمنفذ للدستور، في أي حالة هو، والكاتب له، والمدرس لهذا الدستور؟
على كل حال الإنسان الذي يغير شرع الله ودينه رأسا على عقب هذا بدّل الدين كما قال أقر أهل العلم، الحافظ بن كثير -رحمه الله. والشيخ محمود بن إبراهيم -رحمه الله- مفتي الديار السعودية له رسالة في تحكيم القوانين، وقال: إن من الكفر المبين استبدال الشرع بالقانون اللعين، فمن بدّل دين الله رأسا على عقب كَفَرَ، وقال آخرون من أهل العلم: لا بد أن تقوم عليه الحجة؛ لأنه قد يكون عنده شُبهة، نعم.
يقول: واضع الدستور؟
هذا هو مثل ما سبق، هو داخل في هذا، نعم.
يقول: هل الفرق بين الاستحلال والجحود: أن الجحود يكون في الواجبات، ويقتضي ويستلزم الترك، والاستحلال يكون في النواهي والمحرمات، ويقتضي أو يستلزم الفعل؟(1/317)
نعم، الاستحلال: يستحل أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة كاللي يستحل الخمر يرى أنها حلال، أو الزنا حلال، أو عقوق الوالدين حلال. والجحود: يجحد أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة وجوبه: كأن يجحد وجوب الصلاة، أو وجوب الزكاة، أو وجوب الحج.
وقد يقال: أنْ يجحد تحريم الزنا، تحريم الربا، تحريم الخمر، وقد يقال -مثلا-: يستحل ترك الصلاة، يستحل ترك الزكاة، فهما متقاربان نعم.
هل يصح أن نطلق على من نجده مداومًا على الصلاة بأنه مؤمن، وإذا صح، فهل هناك دليل على ذلك؟
نعم، جاء في الحديث: إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان (1) لكن فيه بعض الضعف، فهو يعني: لا شك أنه علامة على الإيمان، لكن قد يكون بخلاف ذلك.
ما رأيكم فيمن يسجد بالكعبة معتقدا نفعها وضرها ويصلي لها ويتمسح بها ؟
هذا كافر -نعوذ بالله- اللي يصلي للكعبة ويعتقد أن الكعبة تنفع وتضر معناه: عبدها من دون الله، نحن نطوف بالكعبة؛ لأن الله أمرنا بذلك وتَعَبَّدَنَا بذلك.
ولهذا شُرع للمسلم إذا طاف بالبيت أن يصلي ركعتين خلف المقام، ويقرأ: "الفاتحة" في الركعة الأولى، و"قل يا أيها الكافرون"، وفي الثانية: "الفاتحة" و"قل هو الله أحد" سورتي الإخلاص؛ ليُشعِر نفسه وغيره أنه إنما يطوف بالكعبة امتثالا لأمر الله، لا أنه يعبد الكعبة وإنما يعبد الله نعم.
يقول: وهل التمَسُّح بالكعبة والتعلق بأستارها من الشرك الأكبر أم الأصغر ؟
من البدع.
يقول -فضيلة الشيخ-: المعتزلة اشترطوا في تعريف الإيمان اجتناب الكبائر، والإباضية اشترطوا فِعل جميع الطاعات، فهل هذا مذهب أهل السنة ؟
__________
(1) - الترمذي: تفسير القرآن (3093) , وابن ماجه: المساجد والجماعات (802) , وأحمد (3/68 ,3/76) , والدارمي: الصلاة (1223).(1/318)
نعم، هو مذهب أهل السنة هم وافقوا أهل السنة في الإيمان أنه جميع الطاعات، لكن خالفوهم فيمن فعل كبيرة ومعصية وترَك واجبا، والمعتزلة والإباضية والخوارج قالوا: إذا ترك طاعة قصّر في واجب أو فعل كبيرة ذهب عنه الإيمان بالكُلِّيّة.
وأهل السنة يقولون: لا ينقص إيمانه ولا يضر إلا إذا فعل شركًا في العبادة، أو ناقضا من نواقض الإسلام.
هذا سؤال من الشبكة يقول رافضي: إن أهل السُنّة يقولون: إنه يجوز التوسل بالأحياء، ونحن نتوسل بعلي بدليل قول الله -تعالى-: { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } (1).
هذا باطل، التوسل إنما يكون بالعمل الصالح، بالتوحيد والإيمان وبالعمل الصالح، كقصة الثلاثة الذين توسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة من بني إسرائيل، توسل أحدهم ببِرِّه لوالديه، والثاني بعفَّته عن الزنا، والثالث بأمانته.
نتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته، توسل إلى الله بفقرك وحاجتك، أما أن تتوسل بشخص فهذا لا يجوز، هذا من البدع، التوسل بحي أو بميت هذا من البدع.
أما إذا دعا الميت من دون الله، أو دعا الحي فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا شرك أكبر، لكن إذا دعا الله وجعله وسيلة يتوسل بحق فلان أو بجاه فلان أو بحرمة فلان، هذا من البدع.
يقول أيضا صاحب السؤال المعتزلي، يقول: ذكر بعض مَن كتب في الفرق من المتأخرين: إن الإباضية اليوم يكفرون فاعل الكبيرة.
+ إذا كانوا فعلوا ذلك فهذا مذهب الخوارج نعوذ بالله.
هذا سؤال من الشبكة يقول: ما ردكم على القائلين بأن أسماء الله عَيْن ذاته، وإنْ لم نقل به وقعنا بالقول في أنها زائدة عن ذاته؟
هذا من البدع، القول بأن أسماء الله زائدة عن ذاته أو ليست زائدة عن ذاته، لا بد من التفصيل:
__________
(1) - سورة آل عمران آية: 169.(1/319)
إن أراد الإنسان أن لله ذاتا مجرّدة عن الأسماء والصفات فهذا باطل، وإن أراد أن الاسم له معنى غير معنى الذات، وأن لله اسما، وأن الاسم غير مسمى، فهذا حق، والمسألة فيها تفصيل.
يقول: نحن لا يوجد في بلادنا علماء، وهناك من يفتي حتى بالقتل ونحوه فما رأيكم؟
لا، عليكم أن ترجعوا إلى العلماء، اتصلوا بالعلماء، الحمد لله الوسائل موجودة، اتصلوا بالمملكة العربية السعودية واسألوا المفتين عن طريق الشبكة، والهاتف -والحمد لله- متوفر، ولا يجوز للإنسان أن يسأل أحدا في الدين إلا مَن يثق في علمه ودينه، ولا يسأل أهل الجهل وأهل الضلال، إنما يسأل أهل العلم والدين؛ إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
يقول: إذا كان الحديث ضعيفًا وهو: "سمَّيْنَاه عبد الحارث" كما قال المحقق، فكيف يفهم من الآية أنهما وقعا في شرك التسمية فليس في الآية دليل على الشرك؟
الآية واضحة يكفي قراءتها: { * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } (1) وهي آدم { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } (2) حوّاء { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } (3) جامعها { حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا } (4) آدم وحواء { لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا } (5) مولودا سليما { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا } (6) سليما { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا } (7) من شرك التسمية، الآية كافية.
يسأل عن ضوابط التكفير.
__________
(1) - سورة الأعراف آية: 189.
(2) - سورة النساء آية: 1.
(3) - سورة الأعراف آية: 189.
(4) - سورة الأعراف آية: 189.
(5) - سورة الأعراف آية: 189.
(6) - سورة الأعراف آية: 189-190.
(7) - سورة الأعراف آية: 190.(1/320)
ضوابط التكفير يعني: لا يكفّر الشخص إلا إذا فعل ناقضا أو شركا في العبادة، ولا بد أن تقوم عليه الحُجة، توجد الفروض وتنتفي الموانع، الكفر والإيمان هذه إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، لا بالهوى والتشهي، نعم.
قول المؤلف: ووافقت الرافضة المعتزلة فهل المعتزلة من الخوارج ؟
لا، وافقتهم يعني: في مسمى الإيمان فقط، وافقتهم في مسمى الإيمان نعم.
يقول: ما هو معتقد الأشاعرة وما حكم معتقدهم، هل هو كفر أم بدعة ؟
الأشاعرة في الصفات يثبتون سبع صفات، وينفون بقية الصفات، بدعة من البدع نعم.
يقول: يا شيخنا، إنا نحبك في الله -أحبك الله الذي أحببتنا من أجله، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتحابين في الله-: بعدما تقدم من ذكر حقيقة الإيمان، فما أبعد الحال عنا وكماله، وصعوبة ذلك على ما نحن عليه من طلب العلم، والشاهد الواضح قسوة القلب، فماذا تنصحون -بارك الله فيكم- لتجديد الإيمان وحلاوته ؟
أنصح نفسي وإخواني أن يجاهد الإنسان نفسه، وأن يتدبر كتاب الله وسُنة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وأن يجاهد الإنسان نفسه على أداء الفرائض، وينتهي عن المحارم، والإكثار من ذكر الله، والإكثار من حضور حلقات الدروس والعلم، وهكذا مع جهاد النفس في أداء الفرائض، وليَنْتَهِ عن المحارم.
وفّق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع بالعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/321)