|
شرح الشيخ الدكتور: هاني بن عبد الله بن جبير
تم استيراده من نسخة: أ/علي عبد الباقي
شرح
دالية أبي الخطاب الكلوذاني
شرح الشيخ الدكتور
هاني بن عبد الله بن جبير
تقدمة وتمهيد
إن الحمد لله نحمده سبحانه، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فهذا شرح للمنظومة الدالية لأبي الخطاب الكِلْوذاني /، وهذه المنظومة في العقيدة نظمها أبو الخطاب /.
- اسم الناظم:
وأبو الخطاب هو: محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكِلْوذاني، ويقال في نسبته: الكَلْوذاني، ويقال: الكلواذي، ويقال: الكلوذي، وهي نسبة إلى كَلواذا وهي ناحية قرب بغداد. قال في معجم البلدان إنها الآن -في زمنه- غير عامرة..
وقال البعض: إن اسمها ليس كَلواذا بفتح الكاف؛ لأن النسبة إليها تكون كَلواذاني أو كَلواذي؛ لأن معنى النسبة أن تضيف إلى آخر الاسم ياء مشددة، فنسبتك إلى محمد: محمدي، فتضيف الياء المشددة في آخر الكلمة، وإذا كان في آخر الكلمة ألف متطرفة فتحذف إن كانت خامسة فأكثر، ففي مثل كَلواذا تحذف الألف من آخره فتصير كلواذ، ثم نضيف الياء المشددة فتصير كلواذي، وتحذف الألف المتوسطة تسهيلاً فتصير: كلوذي، نضيف نوناً قبل الياء فتصير: كلوذاني، وإضافة النون في آخر النسبة من النسبة الشاذة كما يقول ابن هشام في الكلوذاني، ولكنه عرف بهذا الاسم بين علماء الفقه.
والمعروف في نسبته الكَلوذاني -بفتح الكاف- وقيل: إن اسمه: الكِلوذاني -بكسر الكاف- وهذا فرع عن إثبات أن اسم الناحية كِلواذ بكسر الكاف وإسكان اللام، وذكر ياقوت الحموي بيتاً من الشعر يؤيد ذلك وهو قول الشاعر:
كأن أصوات الغبيط الشادي ... زير مهاريق على كِلْواذ
ويقول إن كلواذ هو اسم تابوت موسى، وقيل إنه دفن في تلك الناحية.
(1/1)
على كلٍ هو عرف باسم الكَلْوذاني بفتح الكاف، وهكذا عرف بين علماء الحنابلة.
- منزلته بين العلماء:
وهو من أكابر علماء الحنابلة، وعلماء الحنابلة يرجعون إلى القاضي أبي يعلى، وهو من أكابر علماء مذهب الإمام أحمد، ومعلوم أن الإمام أحمد لم يكن يقرر الفقه كمسائل, إنما نقل أصحابه فتاواه، فكانوا يسمعون منه الفتوى في مسألة فيكتبونها أو يحفظونها، وكان ينهى عن تدوين الفقه، ويوصي الناس بالعناية بالحديث والسنة والأثر.
فجاء من بعده فجمع فتاواه على شكل مسائل، ثم هذبها بعد ذلك أصحابه، وكان ممن قعد مذهب الإمام أحمد أصولاً وفروعاً القاضي أبو يعلى، وكان لأبي يعلى تلميذان مشهوران أخذا عنه العلم واشتهرا جداً حتى أن أي مسألة -في الغالب- في مسائل الأصول فيها خلاف تجد أن هذا الخلاف راجع لإختلاف هذين العالمين، الأول هو أبو الخطاب الكلوذاني صاحب هذه المنظومة, الثاني هو ابن عقيل الحنبلي.
- مولده ومشايخه:
وأبو الخطاب / ولد عام (432هـ) وأخذ العلم عن أبي يعلى، وبعد أن برز أبو الخطاب تتلمذ عليه عبد القادر الجيلاني، الزاهد المعروف، الذي نسج حوله الصوفية خزعبلاتهم الكثيرة، وإلا فعبد القادر الجيلاني من علماء الحنابلة، وممن سار على طريقتهم في الغالب، وله كتاب اسمه (الغنية) في مذهب الإمام أحمد، وعبد القادر الجيلاني من شيوخ ابن قدامة المقدسي العالم المعروف صاحب كتاب المغني وغيره.
- مؤلفاته:
ومن مؤلفات أبي الخطاب كتابه: (الهداية) في الفقه وهو مطبوع، وكتاب: (الانتصار في المسائل الكبار)، و(التهذيب في الفرائض) وهو أيضاً مطبوع.
وتوفي / سنة (510هـ).
- التعريف بالمنظومة الدالية ومميزاتها:
في هذه المنظومة يتكلم / عن مسائل الاعتقاد. ومن قرأ هذه المنظومة وجد أنها تمتاز بعدة أمور:
1- أن أبياتها قصيرة معدودة، يسهل حفظها ودراستها في مدة قصيرة.
(1/2)
2- أنه جمع فيها أهم مسائل الاعتقاد، ولا يذكر المسألة مجردة، بل يذكر المسألة ويشير إلى الدليل أو التعليل فيها، وكلما ذكر مسألة -في الغالب- وذكر ما يعتقده فيها أشار بعد ذلك إشارة لطيفة إلى وجه الدليل الذي يبني عليه رأيه، وهذا فيه فائدة عظيمة، فأنت لا تحفظ القول فقط، بل تحفظ أيضاً الإشارة التي تذكرك بالدليل الموصل إليه.
3- أنه جعلها على طريقة الحوار، كأن شخصاً يسأله وهو يجيب وكأنها مناظرة، فتجد أن أثر أبياته مبدوءة بقوله: (قالوا) (قالوا: بم عرف المكلف ربه؟).
وفي هذه الطريقة فائدتان:
(1) أن في طريقة الحوار، والأسئلة والأجوبة تقريباً للمعلومة إلى ذهن من يدرس هذه المنظومة، وهذه الطريقة صارت معتبرة كثيراً، وتسمى (طريقة المناقشة)، أن يناقش المدرس من يتلقى عنه، فهو بهذا يستفيد فائدة أكثر وترسخ المعلومة في ذهنه أكثر.
(2) أن استخدام طريقة المناظرة يجعل عند من يقرأ هذه المنظومة يقيناً، لأنه يتخيل هذا المبتدع وهو يناظره، فيعرف كيف يرد عليه ويبين الدليل.
4- أن عباراتها جزلة، فمن قرأ مطلعها يشعر أنه يقرأ قصيدة من أقوى القصائد الأدبية، وليست كعادة المنظومات العلمية سهلة العبارة وسهلة الوزن، التي تعتني بجمع المسائل العلمية والألفاظ العلمية ولو على حساب قوة العبارة والمعنى.
وهذه المنظومة رواها عن الناظم عدد من الحفاظ، ومن أشهرهم الحافظ محمد بن ناصر السلمي، ورواها عنه ابن الجوزي في المنتظم، وقد نسبها له ابن كثير والذهبي وابن رجب في ذيله؟؟ على طبقات الحنابلة وغيرهم.
والآن بعد أن تكلمنا عن هذه المنظومة فإننا نشرع في قراءتها:
أبيات دالية أبي الخطاب الكلوذاني
يقول الناظم /:
دع عنك تذكار الخليط المنجد ... والشوق نحو الآنسات الخرد
والنوح في أطلال سُعدى إنما ... تذكار سُعدى شغل من لم يسعدِ
واسمع مقالي إن أردت تخلصاً ... يوم الحساب وخذ بهديي تهتدي
واقصِد فإني قد قصدت مُوَفَّقاً ... نهج ابن حنبل الإمام الأوحدِ
(1/3)
خير البرية بعد صحب محمد ... والتابعين إمام كل موحدِ
ذي العلم والرأي الأصيل ومن حوى ... شرفاً علا فوق السُّها والفرقدِ
واعلم بأني قد نظمت مسائلاً ... لم آلُ فيها النصح غير مقلِّدِ
وأجبت عن تِسآلِ كل مهذَّب ... ذي صولةٍ عند الجدال مسوَّدِ
هجر الرقاد وبات ساهر ليلهُ ... ذي همةٍ لا يُستلذ بمرقدِ
قوم طعامهم دراسةُ علمهم ... يتسابقون إلى العلا والسؤددِ
قالوا: بم عرف المكلَّف ربه؟ ... فأجبت: بالنظر الصحيح المرشِدِ
قالوا: فهل ربُّ الخلائق واحد؟ ... قلت: الكمال لربنا المتفردِ
قالوا: فهل لله عندك مُشْبِهُ؟ ... قلت: المشبه في الجحيم الموصدِ
قالوا: فهل تصف الإله أبن لنا؟ ... قلت: الصفات لذي الجلال السرمدِي
قالوا:فهل تلك الصفات قديمةٌ ... كالذات؟ قلت: كذاك لم تتجددِ
قالوا:فأنت تراه جسماً مثلَنَا؟ ... قلت: المجسم عندنا كالملحدِ
قالوا: فهل هو في الأماكن كلها؟ ... فأجبت:بل في العُلْوِ مذهب أحمدِ
قالوا:فتزعم أنْ على العرش استوى؟ ... قلت:الصواب كذاك أخبر سيدي
قالوا:فما معنى استواه أبن لنا؟ ... فأجبتهم: هذا سؤالُ المعتدِي
قالوا:النزول؟ فقلت ناقله لنا ... قوم تمسكهم بشرع محمدِ
قالوا:فكيف نزوله؟ فأجبتهم: ... لم ينقل التكييف لي في مسندِ
قالوا: فيُنظر بالعيون؟ أبن لنا: ... فأجبت:رؤيته لمن هو مهتدِي
قالوا: فهل لله علم؟ قلت: ما ... من عالم إلا بعلم مُرتُدِي
قالوا: فيوصف أنه متكلم؟ ... قلت:السكوت نقيصةُ المتوحدِ
قالوا: فما القرآن؟ قلت كلامه ... من غير ما حدثٍ وغير تجددِ
قالوا: الذي نتلوه؟ قلت:كلامه ... لا ريب فيه عند كل مُسَدَّدِ
قالوا: فأفعال العباد؟ فقلت:ما ... من خالق غير الإله الأمجدِ
قالوا:فهل فعل القبيح مراده؟ ... قلت: الإرادة كلها للسيدِ
لو لم يُرده لكان ذاك نقيصة ... سبحانه عن أن يعجزه الردِي
قالوا: فما الإيمان؟قلت مجاوباً ... عمل وتصديق بغير تبلدِ
قالوا: فمن بعد النبي خليفةً؟ ... قلت: الموحِّدُ قبل كل موَحِّدِ
حاميه في يوم العريش ومن له ... في الغار يُسعِدُ يا له من مُسعِدِ
(1/4)
خير الصحابة والقرابة كلِّهِم ... ذاك المؤيِّدُ قبل كل مُؤَيِّدِ
قالوا:فمن صديق أحمد؟ قلت:من ... تصديقه بين الورى لم يُجحَدِ
قالوا:فمن تالي أبي بكر الرضا؟ ... قلت:الإمارةُ في الإمام الأزهدِ
فاروق أحمد والمهذب بعده ... نصر الشريعة باللسان وباليدِ
قالوا:فثالثهم؟ فقلت مسارعاً: ... من بايع المختار عنه باليدِ
صِهرُ النبي على ابنتيه ومن حوى ... فضلين، فضل تلاوة وتهجدِ
أعني ابن عفان الشهيد ومن دُعِي ... في الناس ذا النورين صهر محمدِ
قالوا:فرابعهم؟ فقلت مبادراً ... من حاز دونهمُ أخُوَّةِ أحمدِ
زوجُ البتول وخير من وطئ الحصى ... بعد الثلاثة والكريم المحتَدِ
أعني أبا الحسن الإمام ومن له ... بين الأنام فضائلُ لم تُجحَدِ
(ولإبن هندٍ في الفؤاد محبة ... ومودة فليُرغمنّ مفندِي
ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ ... الوحي المنزل، ذو التقى والسؤددِ)
(ولعم سيدنا النبي مناقبٌ ... لو عُدِّدت لم تنحصر بتعدُّدِ
أعني أبا الفضل الذي استسقَى به ... عمرُ أوان الجدب بين الشُهَّدِ
ذاك الهُمامُ أبو الخلائف كلهم ... نسقاً إلى المستظهرِ بن المقتدِي
صلى عليه الله ما هبت صبا ... وعلى بنيه الراكعين السُّجَّدِ
وأدام دولتهم علينا سرمدا ... ما حنَّ في الأسحار كل مغردِ)
(فعليهٍمُ وعلى الصحابة كلهم ... صلواتُ ربهمُ تروحُ وتغتدِي
إني لأرجو أن أفوز بحبهم ... وبما اعتقدت من الشريعة في غدِ)
قالوا: أبان الكلوذانِيُّ الهُدى ... قلت: الذي فوق السماءِ مُؤَيِّدِي
والحمد لله أولاً وآخراً
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
شرح دالية أبي الخطاب الكلوذاني
- شرح مقدمة المنظومة:
يقول الناظم /:
دع عنك تذكار الخليط المنجد ... والشوق نحو الآنسات الخرد
(1/5)
دع: أي اترك عنك. تذكار: أي تذكر. الخليط المنجد: هو الركب المتجه والنازل نجداً، يقال: أنجد إذا دخل نجداً، وأتهم إذا نزل تهامة، وأحرم إذا نزل الحرم. الخليط: الصحب والقوم الذين أمرهم واحد، ويطلق على النديم الجليس، ويطلق على الواحد والجمع بلفظ واحد، وقد كثر ذكر الخليط في أشعار العرب؛ لأنهم كانوا ينتجعون أيام الكلأ، فتجتمع منهم العشائر وقبائل في مكان واحد فيحصل بينهم من الأنس والألفة شيء كثير، ثم بعد ذلك إذا انتهى أوان الكلأ وارتحلوا وتفرقوا تذكروا اجتماعهم ذلك فساءهم التفرق، ولذا يكثر تحسرهم وتأسيهم وتأسفهم على افتراق ذلك الخليط (1) .
والشوق: يعني الاشتياق للآنسات. وفي بعض النسخ السوق: ومعناه السير نحوهن، والمشي خلفهن، يعني دع عنك الشوق والاشتياق للنساء والسير خلفهن.
الآنسات: جمع آنسة، وهي الفتاة التي تكون طيبة النفس؛ لأنه مأخوذ من الإنس.
الخرد: جمع خريدة، وهي الفتاة البكر، مأخوذة من اللؤلؤة، فإن اللؤلؤة تسمى خريدة.
فالمعنى: دع عنك تذكر أصحاب مضوا قد التقيت بهم، ودع عنك الاشتياق للفتيات الجميلات اللائى كاللؤلؤ.
والنوح في أطلال سعدى إنما ... تذكار سعدى شغل من لم يسعد
النوح: البكاء. يقال ناح الرجل استناح إذا بكى أو أبكى غيره.
الأطلال: جمع طلل، وهي البقايا التي توجد بعد رحيل القوم، فإنهم إذا نزلوا في موطن ثم رحلوا فإنه يبقى بقايا تدل على هذه الديار تسمى الأطلال.
__________
(1) انظر اللسان مادة الخلط (7/294).
(1/6)
فالمعنى: دع عنك النوح، البكاء في الأماكن التي تذكرك بالموطن الذي نزلت فيه سعدى، وهو اسم وهمي يعبر به الناظم عن المعشوقة التي صاحبها، وحق له ألا ينشغل بذكرها ولا يبكي من أجلها، فإنما تذكار سعدى شغل من لم يسعد: أي شغل من لم يذق السعادة الحقيقية، أما من ذاق السعادة الحقيقية فإنه لا يشغل نفسه بتذكر معشوقته، لأن سعادته أنسته كل محبوب، والسعادة الحقيقية هي ما سيتكلم عنه من مسائل العلم وتذكاره، لذا كان الشافعى / يقول:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي ... من وصل غانية وطيب عناق
فسهره ليحصل العلم ألذ له من وصال الغواني: وهن النساء الجميلات اللاتي استغنين بجمالهن عن الزينة.
- النجاة يوم القيامة بالأخذ بما في هذه المنظومة:
قال الناظم /:
واسمع مقالي أن أردت تخلصاً ... يوم الحساب وخذ بهديي تهتدي
تخلصاً: الخلاص النجاة، يقال خلص من كذا إذا نجا منه.
هديي: أي إرشادي لك ودلالتي إياك إلى سبيل الحق.
يوم الحساب: يوم القيامة.
(1/7)
يقول: اسمع قولي إن أردت أن تتخلص يوم الحساب وخذ بنصيحتي لك، فالنجاة يوم القيامة والفوز بما سأرشدك إليه وأدلك عليه. وسمي يوم القيامة بيوم الحساب؛ لأنه اليوم الذي يجازى فيه الخلق على أعمالهم إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، ويسميه الله تعالى: يوم الدين قال تعالى: (مالك يوم الدين). يعني مالك يوم الحساب والجزاء، كما قال ـ: (يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق) واليوم عند العرب يطلق على الوقت من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وإطلاقه على يوم القيامة المراد به ما بين قيام الساعة إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. يقول: إن أردت تخلصاً فاسمع مقالي وخذ بهديي: يعني خذ بإرشادي ودلالتي، وفي قول الله تعالى: (أولم يهد لهم) يعني: أولم يتبين لهم.خذ بهديي يعني خذ بتبييني وإيضاحي، أنا أوضح لك المسائل الآن فاتبعها وخذ بها تهتدي: يعني ترشد وفي بعض نسخ المنظومة ليست (وخذ بهديي) إنما (خذ بهذا تهتدي) يعني بهذا التقرير من مسائل الاعتقاد الذي سأقوله لك.
ومراد الناظم أنه سيبين لك المسائل العقدية التي يكون بها نجاة العباد يوم القيامة فعليك بها حتى تنال الهداية.
- أقسام الهداية:
والهداية تنقسم إلى قسمين:
(1) ... هداية تامة: وهي التي تحصل لمن استكمل الإيمان بالله ـ ولم ينقص شيئاً من واجباته، كما قال تعالى (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) يعني: الهداية التامة.
(2) ... هداية ناقصة: وهي التي تحصل لمن كان معه أصل الإيمان، لكنه خلطه بالذنوب والمعاصي، فهذه الذنوب تضعف من اهتدائه على قدر ما نقص من إيمانه.
- هذه المنظومة موافقة لعقيدة الإمام أحمد:
قال الناظم /:
واقصد فإني قد قصدت موفقاً ... نهج بن حنبل الإمام الأوحد
في بعض النسخ: (موافقاً).
اقصد: إذا قيل قصد قصده يعني نحا نحوه، أي اتبع طريقته.
نهج: النهج هو المنهج، والمراد به الطريقة.
(1/8)
الأوحد: من تفرد دون غيره في أمر ما يقال له واحد عصره، أي: المنفرد فيه.
أي اتبعني وسر على نهجي وطريقتي فقد سلكت طريقاً موفقاً، وفي بعض النسخ (موافقاً) يعني أني وافقت في اجتهادي نهج الإمام أحمد، أما (موفقاً) سلكت فيه منهج إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل ومن سلك مسلك هذا الرجل الموفق فقد وفق، فهو رجل مشهود له بسلامة الاعتقاد وحسن السيرة، وقد قام بالمنهج الأوحد الذي تفرد به في زمنه دون غيره، فقال كلمة الحق في مسألة خلق القرآن، فإن الناس في زمنه دعاهم المأمون ومن بعده من الخلفاء إلى القول بخلق القرآن، ومن لم يقل بذلك كانوا يأمرون بسجنه وتعذيبه وربما قتله، وقد قتل من علماء أهل السنة في زمانهم عدد، وسجن عدد، وذلك لأنهم لم يتبعوا ذلك المذهب البدعي الباطل، ولشدة العذاب وصعوبة الموقف فإن بعض العلماء في زمن فتنة خلق القرآن أجاب بالقول بخلق القرآن لما أكرهوا على ذلك، أو ورَّى في ذلك، أما الإمام أحمد بن حنبل فقد صمد كالجبل الشامخ، ووقف لهم وقفة قوية وأنكر عليهم هذا القول، فجلد وسجن وعذب في ذات الله، كل ذلك لأنه تمسك بقول أهل السنة والجماعة في وقت تخفى كثير من أهل العلم بهذا المذهب، ولذا وصفه الناظم بقوله (الإمام الأوحد) في قول كلمة الحق والصدع بها والصبر على ما أصابه من أجلها، وقد قيل: (أيد الله تعالى هذا الدين برجلين: أبي بكر زمن الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة).
ويقول إسحاق بن راهويه: لولا أحمد بن حنبل وبذله نفسه لذهب الإسلام. ولما كان هذا الإمام بهذه الجلالة قال الناظم إنه قد وافق مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولم يقل إنه قلد الإمام أحمد.
- عقيدة الإمام أحمد هي عقيدة سائل الأئمة:
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن الأمة جميعاً متفقون في أصول الاعتقاد، ولم يختلفوا في أصول الاعتقاد، فمن وافق الإمام أحمد في مذهبه في العقيدة فقد وافق الشافعي ومالك وكذلك وافق أبا حنيفة.
(1/9)
ولذا لما ألف شيخ الإسلام ابن تيميه / كتابه العقيدة الواسطية، عقد له مجلس مناظرة، واجتمع عدد من العلماء يناظرونه في هذه العقيدة، ويقررون بينهم هل هذه العقيدة وفق الصواب أو لا؟ فلما طال المجلس قال بعضهم: إنما أنت ألفت اعتقاد الحنابلة، فأنت على مذهب الحنابلة في العقيدة، ونحن شافعية أو مالكية أو حنفية، لنا اعتقادنا الخاص بنا واعتقاد الحنابلة ليس لك أن تجبرنا عليه وتلزمنا الأخذ به.
فقال شيخ الإسلام: ما كتبت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا، وقلت: قد أمهلت من خالفني في شيء منها ثلاث سنين فإذا جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك، وعلي أن آتي من نقول جميع الطوائف من القرون الثلاثة ما يوافق ما ذكرته من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم. فموافقة الإمام أحمد في أمور الاعتقاد تتضمن موافقة الشافعي وأبي حنيفة ومالك في الاعتقاد.
- فضائل الإمام أحمد:
قال الناظم /:
خير البرية بعد صحب محمد ... والتابعين إمام كل موحد
قوله: خير البرية: أي أفضل البرية بعد الصحابة والتابعين، والبرية: الخلق. يقصد أنه أفضل البرية في زمنه في مسألة إظهار القول بأن القرآن غير مخلوق، وهذا مقصده، ولو كان مقصده أنه خير البرية مطلقاً وأكثرها ثواباً لكان كلامه مردوداً عليه، لأن القول بأن فلاناً أكثر ثواباً من فلان، هذا يحتاج إلى توقيف، فحتى لو رأينا شخصاً يتعبد أكثر من آخر لا نقول إنه أفضل من غيره؛ لأن العبادات تتفاوت بحسب ما في قلوب أصحابها من إخلاص لله تعالى وإرادة وجهه ومن التقوى، تتفاوت وتتفاضل العبادات كما نبه على ذلك ابن القيم وذكر قول الشاعر:
من لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويداً وتجيء في الأول
(1/10)
فبعض الناس قد يكون قليل العبادة لكنه أفضل من غيره؛ لأنه إذا نام احتسب نومته وإذا قام احتسب قومته، فحياته كلها لله ومع الله، وإذا تعبد فإن عبادته خالصة لله.فهذا وإن كان يظهر للناس أنه قليل التعبد إلا أن قلبه قد استجمع من خشية الله والإخلاص له وإرادة وجهه ما لم يقم بقلب كثير من الناس ممن تعبد بعبادات أكثر منه، وهذا ثمرة العلم بالله تعالى فالمؤلف يقصد أن الإمام أحمد أفضل في زمنه بصدعه للحق وعدم مداهنته في هذا القول مع أنه كان مكرهاً، وكان يمكنه أن يقول بقولهم لأنه مكره، لكنه مع ذلك رغب في بيان الحق فصبر على العزيمة.
إمام كل موحد: أي قدوة كل موحد لله، لأن غير الموحد هو صاحب كفر، وصاحب الكفر لا يقتدي بالإمام أحمد؛ لأن الإمام أحمد قال بأن القرآن منزل غير مخلوق ومن خالفه قال بخلق القرآن ومن قال بخلق القرآن فهو كافر عند هذا العالم.
قال الناظم /:
ذي العلم والرأي الأصيل من حوى ... شرفاً علا فوق السها والفرقد
الإمام أحمد اشتهر بين بقية الأئمة الأربعة بأنه إمام أهل السنة والجماعة وهذا بسبب موقفه في فتنة خلق القرآن، وبسبب هذا الموقف عرف اعتقاد أهل السنة والسلف الصالح، بأنه اعتقاد الإمام أحمد، حتى أن أبا الحسن الأشعري لما رجع عن قوله وترك قوله قول الكلابية في آخر حياته وألف كتاب الإبانة قال: من سأل عن عقيدتي فإني على عقيدة الإمام أحمد بن حنبل دون غيره من الأئمة رغم أنهم يقولون بقوله، فهم متفقون معه، إلا أنه برز في هذا الجانب، وبعض أهل العلم يكون له موقف في أمر ما فينسب إليه ذلك الأمر أو المسألة، فعلم أصول الفقه ينسب إلى الشافعي لأنه أول من ألف فيه تأليفاً مستقلاً في كتاب الرسالة، كذلك موقف الإمام أحمد العظيم يجعل من يتكلم في الاعتقاد على مذهب أهل الأثر والحديث والسنة ينتسب إليه.
- أقسام العلم:
ثم قال: (ذي العلم والرأي الأصيل)، وهذا أيضاً ثناء من الناظم على الإمام أحمد.
(1/11)
والعلم: هو حكم الذهن الجازم المطابق للواقع.
فإذا كان مخالفاً للواقع فهو: الجهل المركب.
وعدم الإدراك بالكلية هو الجهل البسيط.
فمن قال: ربي الله وهو يعتقد اعتقاداً جازماً منه فهو عالم، ومن قال: لا أدري فهو جاهل، وإذا اعتقد أن مع الله آلهة أخرى وجزم بذلك فهو جاهل جهلاً مركباً، لأنه جاهل ولا يدري أنه جاهل.
- أقسام الرأي:
ثم قال: (ذي الرأي الأصيل)، لأن الرأي ينقسم إلى قسمين: -
1- رأي محمود: وهو الذي أُصل على الكتاب والسنة مثل القياس والاجتهاد المبني على النظر في كتاب الله والسنة، فهذا الرأي المستمد من الكتاب والسنة رأي محمود. والقياس مثل: أن تقيس فرعاً على أصل لعلة استنبطتها من النصوص الشرعية أو تقيس بتنقيح مناط أو تحقيق مناط نص من النصوص.
2- رأي مذموم: وهو مجرد التخمين والحدس الذي ليس عليه دليل.
فالإمام أحمد صاحب رأي أصيل مستمد من الكتاب والسنة والأدلة الصحيحة التي أجمعت الأمة على قبولها.
ثم قال: (من حوى شرفاً)، الشرف: هو المكانة يقول الناظم: قد حاز الإمام أحمد شرفاً علا فوق السها والفرقد.
السهى: هو كوكب من بنات نعش.
والفرقد: نجم معروف يعرفه المسافرون ويهتدون به. وبهذا يخبرنا الناظم أن الإمام أحمد بلغ شأواً بعيداً أو منزلة رفيعة علت على منزلة النجوم وارتفعت عن مقامها. وفي بعض النسخ (شرفاً علا فوق السماء الفرقد).
(1/12)
ولا يخفى أن جميع ما سبق فيه نوع من مبالغة وإطراء باعثه محبة هذا العالم للإمام أحمد وتقديره لموقفه في نصرة السنة، وإن كان المطلوب من الإنسان أن يكون منصفاً، فلا يغلو في حب ولا يغلو في بغض، ولا يمدح إنساناً إلا بالحق ولا يجاوز فيه القول المعتدل؛ لأن الغلو يؤدي بصاحبه إلى غير الصواب؛ لأن الغلو يؤدي إلى متابعة الإنسان في الصواب والخطأ،ومعلوم أن المعصوم هو من عصمه الله ـ، والإمام أحمد وغيره من الأئمة من أهل السنة يخطئون ويصيبون فالثناء عليهم والمبالغة في ذلك قد تودي بالبعض إلى أن يتبعه في الحق والخطأ، وكل إنسان يصيب ويخطئ، وكل يؤخذ منه ويرد إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه.
- عدم التقليد في أمر العقيدة:
قال الناظم /:
واعلم بأني قد نظمت مسائلاً ... لم آل فيها النصح غير مقلد
قوله: (نظمت) أي جمعت، نقول نظمت العقد أي جمعت حباته، فشبه هذه المنظومة بالعقد الذي جمعت حباته فكمل وحسن منظره.
قوله: (لم آل) أي لم أقصر ومنه قوله تعالى: (لا يألونكم خبالاً) أي لا يقصرون في خذلانكم.
النصح: هو إرادة الخير للمنصوح، والأصل في النصح الإخلاص، فأنا قد جئت لك بكلام واضح ليس فيه إشكال أريد به الخير لك.
قوله: (غير مقلد) أي غير متبع فيه رأي أحد، يعني أن كل المسائل التي أذكرها لك أنا اقتنعت بها وأخذتها عن دليل، واجتهدت في النظر فيها فألفيتها الصواب، ولم أقلد فيها أحداً، وأما الإمام أحمد، فإني قد وافقته في اجتهادي ولم أقلده، إنما اجتهدت فوجدت الصواب ما ذهب إليه، ومن ذلك ما ذكره الرحبي في منظومته، فإنه لما أثنى على زيد بن ثابت في علمه بالفرائض، قال: لاسيما وقد نحاه الشافعي، يعني: أنا اتبعت زيداً في الفرائض لاسيما أن الشافعي نحا نحوه، يعني وافق اجتهاده اجتهاد زيدٍ رضي الله عنه.
- حكم التقليد في العقيدة:
مسألة: هل يصح التقليد في مسائل الاعتقاد؟
(1/13)
قول الناظم (غير مقلد) يستدعي الوقوف على حكم التقليد في مسائل الاعتقاد.
وقد اختلف الناس في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: -
(1) القول الأول: أن التقليد في مسائل الاعتقاد حرام: فلا يجوز لأحد أن يقلد أحداً في مسائل الاعتقاد. واحتجوا لقولهم بأن التقليد إنما يفيد الظن، والظن لا يجوز في مسائل الإعتقاد بل لابد من اليقين؛ لأنها من الأمور العلمية الخبرية فلا يكفي فيها الظن، بل لا بد من اليقين والقطع، والتقليد لا يحصل به إلا الظن. هذا ما ذهب إليه أهل القول الأول.
(2) القول الثاني: أن التقليد في مسائل الاعتقاد جائز، واحتجوا بأن النبي ^ كان يقبل من الناس الإيمان ومنهم الذكي والبليد والأعرابي والكبير والصغير والذكر والأنثى فيأتيه فيشهد أن لا إله إلا الله فيحكم بإسلامه دون استدلالات عقلية أو تراكيب منطقية.
(3) القول الثالث: أنه التقليد في مسائل الاعتقاد يجوز للضرورة فلا بد في مسائل الاعتقاد من القطع، لكن لما كان بعض الناس لا يتمكن من ذلك لعدم قدرته والله ـ لا يكلف نفساً إلا وسعها، فالذي لا يستطيع الوصول إلى المعرفة بنفسه -مع أنه لابد من اليقين وعدم التقليد فيها- فإنه يجوز له أن يقلد عند العجز عن معرفة الحق بنفسه لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها).
- معنى التقليد في مسائل العقيدة:
وحتى نحرج من هذا الإشكال لابد أن نعرف معنى التقليد في مسائل الاعتقاد:-
(1/14)
1. القول الأول: وهو لأهل الكلام، قال علماؤهم: التقليد هو اتباع الكتاب والسنة من غير نظر عقلي، ومعناه عندهم: قبول قول القائل بلا حجة، فإذا جاءت آية من القرآن أو سمعت حديثاً نبوياً فيه أمر من الأمور العقائدية وليس فيه ذكر الدليل العقلي إذا رأيت هذا الرأي واعتقدت هذه العقيدة بناء على نص من الكتاب والسنة، فأنت مقلد للكتاب والسنة دون دليل. فالتقليد عندهم قبول أدلة الكتاب والسنة، وهذا قول مجانب للصواب، ففي القرآن والسنة من الأدلة العقلية الشيء الكثير، وما يذكرونه هم من أدلة عقلية قد جاء القرآن بخلاصته على أحسن نظام، وهذا ظاهر لمن تتبعه، ثم إن النبي ^ لم يأمر أحداً بالنظر العقلي، وإنما دعاهم إلى الإيمان فآمنوا وبين لهم أن هذا الإيمان:
(1) تدل عليه الفطرة.
(2) تدل عليه الأدلة الكونية الظاهرة في آيات الله ومخلوقاته.
(3) تدل عليه ما في هذا الشرع من حكم وأحكام دالة على أنه من حكيم عليم.
2. القول الثاني: موافقة المقلد لغيره في مسائل العقيدة، مثلاً: طفل نشأ في بيت مسلم ولم ينظر في الأدلة، ومع ذلك هو يعتقد بوحدانية الله ـ، ويعتقد مسائل الإيمان بناء على تقليده لأهله، وهذا هو المراد بالتقليد، لا ما ذهب إليه أهل الكلام.
- صحة إيمان المقلد:
(1/15)
والصحيح أن إيمان المقلد تقليداً جازماً صحيح، وأن التقليد يحصل العلم وليس محصلاً الظن فقط، وأما النظر والاستدلال الذي يذكرونه فهو ليس بواجب على المكلف إلا على من بلغته الدعوة ولم يحصل عنده الاعتقاد الجازم المبني على التقليد، وكان لا يمكنه معرفة الحق إلا بالنظر، فهذا يجب عليه أن ينظر. وإلا فغيره الواجب عليه الجزم. فنقول: الصواب من هذه الأقوال أن الواجب على المكلف الجزم في مسائل الاعتقاد، يعني: عدم الشك، أما التقليد وعدمه فإن إيمان الجازم سواء قلد في مسائل الاعتقاد أو لم يقلد إيمانه صحيح. والنبي × والسلام قبل إيمان الأعراب من دون أن يتأكد هل نظروا في ذلك أم لا، وقد يكون إيمانهم تقليداً ولكن لما كانوا جازمين فيه قبل إيمانهم وجعلهم من المسلمين. يقول النووي /: (من أتى بالشهادتين فهو مؤمن حقاً وإن كان مقلداً على مذهب المحققين من الجماهير من السلف والخلف وقد تظاهرت بهذا الأحاديث الصحاح). وبعد أن عرفنا أن المهم هو الجزم سواء عن طريق التقليد أو عن طريق النظر، أقول: إن سبب مسألة وجوب النظر أن علماء الكلام يقولون: إن أول واجب على المكلف هو النظر العقلي، يعني أن الإنسان أول ما يبلغ إن كان نشأ في بيت مسلم أول واجب عليه أن ينظر النظر العقلي، أي: يتأمل في الأدلة الكلامية والمنطقية ليصل من خلالها إلى المطلوب الخبري العلمي، وهذا القول خطأ، بل الوارد في النصوص أن أول واجب على العباد هو توحيد الله ـ، فلما بعث رسول الله ^ معاذاً إلى اليمن قال: (إنك تأتي قوما أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله – وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله). وأشار إلى هذه المسألة السفاريني في منظومته فقال:
وكل ما يطلب فيه الجزم ... فمنع تقليدٍ بذاك حتم
لأنه لا يُكتفي بالظن ... لذي الحجى في قول أهل الفن
هذا هو القول الأول، أنه يمنع التقليد وأنه لا بد من الدليل والنظر.
ثم قال:
(1/16)
وقيل يكفي الجزم إجماعاً بما ... يطلب فيه عند بعض العلماء
يعني أن بعض العلماء قالوا يكفي أن يجزم الإنسان في المطلوبات العلمية الخبرية، ثم قال:
فالجازمون من عوام البشر ... فمسلمون عند أهل الأثر
فمن جزم في عقيدته فهو مسلم عند أهل الأثر. وبناءً على الكلام في التقليد نقول:
- أقسام المسلمين بالنسبة لدخولهم في الإسلام:
إن من أهل العلم من قسم المسلمين إلى قسمين: -
1- القسم الأول مسلمة الدار: وهم الذين نشأوا وولدوا على الإسلام، فلم يعيشوا في الكفر ثم دخلوا في الإسلام برغبة، وإنما ولد في بيت مسلم ووجد أهله ووالديه على الإسلام فاستمر على ذلك، ولم يعرض عليه شيء من الشكوك.
2- القسم الثاني مسلمة الاختيار: وهم من اعتنقوا دين الإسلام عن علم وبصيرة، عرفوا الكفر ثم دخلوا في الإسلام على علم وبصيرة، ومثل هؤلاء يكون عندهم في الغالب من قوة الاعتقاد ما هو أكثر من عوام مسلمي الدار، وهؤلاء أبعد من الشبهات والشكوك من أهل القسم الأول.
- المنظومة جواب لأسئلة الأفاضل:
قال الناظم /:
وأجبت عن تسآل كل مهذب ... ذي صولة عند الجدال مسود
هجر الرقاد وبات ساهر ليله ... ذي همة لا يستلذ بمرقد
قوم طعامهم دراسة علمهم ... يتسابقون إلى العلا والسؤدد
يقول الناظم: أجبت في هذه المنظومة عن تساؤل واستفسار كل مهذب، وهو صاحب الأخلاق الحسنة والأدب الجم، ذي صولة وقوة عند الجدال والمناظرة والمحاورة في المسائل، مسودٍ بين قومه لعلمه ودرايته. وفي بعض النسخ: (ذي صولة يوم الجدال).
وفي قوله: (هجر)، أي أنه هجر الرقاد وبات ساهراً ليله كله في طلب العلم، فهو صاحب همة عالية تجعله لا يستلذ بالنوم، والهجر الترك، ومنه قوله تعالى: (والرجز فاهجر) الرجز: الأصنام.. أي: دعها واترك عبادتها. ولذا قال الشاعر:
ءأبيت سهران الدجى وتبيته ... نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي
(1/17)
وقوله: (قوم طعامهم دراسة علمهم) أي أصبحت دراسة للعلم والقراءة والاطلاع والبحث والنظر طعامهم الذي يقتاتون به، ويتسابقون ويتنافسون في تحصيل العلا وبلوغه، وتحصيل السيادة والعلم، وهو طريق الرفعة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) فمن أوتي العلم أصبح مطاع الكلمة بأمر الله في قوله تعالى (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وأولي الأمر هم العلماء, وهم أهل سيادة وعلا.
- كيف يعرف المكلف ربه؟:
والأبيات من بداية المنظومة إلى هذا البيت هي مقدمة الناظم لهذه المنظومة، وبعدها شرع في شرح مسائل العقيدة.
فقال الناظم /: -
قالوا: بم عرف المكلف ربه؟ ... فأجبت بالنظر الصحيح المرشد
من هذا البيت بدأ الناظم الشروع في لب المنظومة المراد بها، إذ أن الأبيات السابقة كانت بمثابة مقدمة للدخول في المراد من هذه المنظومة، وبهذا البيت بدأ الحوار بين الناظم وسائله، بهذا السؤال المهم الذي يحسن أن يعرف وفيه بيان أسباب وكيفية معرفة المكلف لله تبارك وتعالى؟ فقالوا: ما هي الطريقة وكيف السبيل لمعرفة المكلف -وهو العاقل البالغ- لربه تبارك وتعالى؟ فأجاب الناظم بأن هذه المعرفة تكون بالنظر الصحيح الذي يرشد إلى معرفة الله ـ وذلك بالتأمل والنظر في ملكوت السماء والأرض والتفكر في آيات الله ومخلوقاته، قال تعالى: (أو لم ينظروا في ملكوت السموات الأرض) وهذه آيات كونية دالة على عظمة الله وكبير قدرته، ومنه أيضاً النظر في الآيات الشرعية، فإن فيها من الحكم ما يجعل الإنسان يوقن بأن هذا الدين من رب عليم حكيم بمصالح خلقه، وبالنظر في الآيات الكونية والشرعية يصل المكلف إلى معرفة ربه تبارك وتعالى، وهذا النظر يسمى عند علماء الكلام بالنظر الساذج؛ لأن النظر عندهم على قسمين:-
- أقسام النظر العقلي:
(1/18)
(1) نظر ساذج: وهو النظر في ظواهر الحس، والتأمل في ملكوت الله، في السموات والأرض والشمس والقمر والجبال الشجر والدواب وعظيم خلق الله.
(2) نظر متعمق:ويعنون به النظر في البراهين المنطقية العقلية، ويقولون: إن المكلف يعرف ربه بالنظر العقلي، ولذلك يقولون: إن أول واجب على المكلف هو النظر العقلي المتعمق أما النظر الساذج فليس موصلاً عندهم للعلم.
وهذا خلاف ما كان عليه هدي النبي ^، فالنبي ^ كان يدعو الناس أولاً إلى الإيمان بالله والتوحيد، ولا يأمرهم بالنظر، بل إن بعض أهل الكلام يقولون: إن أول واجب على المكلف أن يشك، فإذا شك نظر في الدليل، وهذا كله خلاف ما كان عليه النبي ^، بل أول واجب على المكلف توحيد الله وإفراده بالعبادة، والنظر البسيط هو طريق إلى معرفة الله تعالى كما في الأصول الثلاثة (إذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: بآياته ومخلوقات،ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر). ومع ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيميه /: إن النظر يجب على من لا يستطيع الوصول إلى الحق إلا عن طريقه، فإذا كان إنسان غير مسلم ولم ينشأ في بيت مسلم ولم يتوصل إلى العلم عن طريق التقليد ولا يصل إلى الحق إلا بالنظر المتعمق للبراهين، يكون النظر في البراهين العقلية واجباً عليه. وشيخ الإسلام لا يعتبره طريقاً واحداً، ولكنه يجب على من لا يستطيع العلم إلا عن طريقه، وهذا بناء على القاعدة المعروفة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وهذا الأمر الذي ذكره ابن تيميه ليس قاعدة متبعة ثابتة في سبيل معرفة الحق، لكنه حاجة وضرورة تلزم من يحتاج إليها للوصول إلى الحق ومن لم يصل إلى الاعتقاد الجازم لا عن طريق النظر البسيط ولا عن طريق التقليد ولم يجد ذلك في فطرته، ولكن متى كان إيمان المقلد جازماً فإن فيه الكفاية.
- إثبات الكمال لله:
ثم قال الناظم /:
قالوا فهل رب الخلائق واحد؟ ... قلت الكمال لربنا المتفرد
(1/19)
هذا هو البيت الثاني من مسائل الاعتقاد، أخبر فيه أن خصومه سألوه: هل رب الخلائق واحد؟ فأجابهم وأخبرهم أن الكمال لربنا المتفرد، وصاحب الكمال المتفرد به هو الخالق لهذا الكون ومن فيه، وهو المالك له. وقوله: (المتفرد)، تسمية لله بما لم يرد في النصوص الشرعية، وليس (المتفرد) اسماً من أسماء الله بل جاءت النصوص بتسمية الله بأنه: (أحد) و(واحد) في قوله تعالى: (قل هو الله أحد)، لكن نجيب عن هذا الإشكال بأن هذا من باب الإخبار وليس من باب الوصف، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات، فقد يخبر عن الله تبارك وتعالى بما ليس من صفاته من باب الخبر وليس من باب الصفة، والفرق بين الصفة والخبر أن الصفة يستعاذ بها ويتوسل بها، أما الخبر فإنه لا يستعاذ به ولا يتوسل به إلى الله، ونظير هذا قولنا عن الله أنه شيء أو أنه موجود وأنه قائم بذاته ونحو ذلك، فكان من باب الإخبار لا من باب الوصف.
وفي قوله: (الكمال لربنا) يصف الله ـ بالكمال، ونحن نؤمن بأن كل صفات الله ـ صفات كمال ليس فيها نقص بوجه من الوجوه كما أن له سبحانه الأسماء الحسنى، قال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) وكذلك له الصفات العلى صفات الكمال. وفي هذا البيت تقرير للتوحيد في قوله (فهل رب الخلائق واحد؟)... الخ.
- أقسام التوحيد عند أهل السنة والجماعة:
والتوحيد عند أهل السنة والجماعة ينقسم إلى قسمين: -
(1) توحيد القصد والطلب: وهو ما يسمى بتوحيد الألوهية أو العبادة.
(2) توحيد المعرفة والإثبات: وهو ما يسمى بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
(1/20)
وفي سؤاله اقتصار على توحيد الربوبية في قوله (رب)، والرب هو المالك المعبود المتصرف، كما فسره ابن عباس ا، وتوحيد الربوبية يدخل تحت توحيد المعرفة والإثبات، ولا ينازع فيه إلا مكابر جاحد، حتى أن المشركين كانوا يؤمنون بأن الله هو المالك المدبر. والعجيب أن المتكلمين عندهم أن المقصود الأعظم من أنواع التوحيد هو توحيد الربوبية وليس توحيد الألوهية، مع أنه هو التوحيد الذي حصل فيه النزاع والخصام بين الأنبياء والرسل مع أقوامهم.
وتوحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير، والبعض يقول: هو توحيد الله بأفعاله، وهذا معناه لا خالق ولا رازق ولا متصرف إلا الله، وقد كان المشركون يقرون بهذا كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) فقد كانوا يقرون بأن الله هو الخالق المالك المتصرف الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وهو يجير ولا يجار عليه، ولم يخاصم المشركون الأنبياء في الربوبية؛ لأنه أمر فطري، وكل إنسان يوقن به، أما الذي ينكره فإنه ينكره جحودا، وفي الظاهر فقط كما فال الله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) لا نزاع فيه بين الأقوام وأنبيائهم.
أما توحيد الألوهية: فهو إفراد الله تعالى بأفعال العباد، وهي العبادة، وهو ما دلت عليه كلمة التوحيد لا إله إلا الله بالمطابقة؛ لأن معنى لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله وهو معنى توحيد الألوهية (أن لا نعبد إلا الله)، وهو الذي يقع فيه النزاع والخصام بين الرسل وأقوامهم، فيقرون بتوحيد الربوبية ويشركون في العبادة بصرفها لله ولغير الله. الأنبياء جاءوا للدعوة إلى إفراد الله بالعبادة (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وهذا هو المقصود الأعظم والمطلوب الأكبر في التوحيد.
(1/21)
أما توحيد الأسماء والصفات: فهو إفراد الله بما وصف به وسمى به نفسه وبما سماه ووصفه به رسوله ^ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تمثيل ولا تكييف.
- توحيد الألوهية أعظم أقسام التوحيد:
ومن العجيب أن أعظم أنواع التوحيد خالف فيه بعض الناس وقالوا: هو توحيد الربوبية، والصحيح أنه توحيد الألوهية؛ لأنه يدل على معنى لا إله إلا الله مطابقة، وهو: لا معبود بحق إلا الله كما تقدم؛ لأن الإله هو المألوه، والمألوه هو المعبود حباً وتعظيماً كما قال الشاعر:
لله در الغانيات المده ... سبحن واسترجعن من تألهي
تأله يعني: تعبد.
و(إله) اسم (لا)، أما خبرها فهو محذوف تقديره (حق) يدل عليه قوله تعالى: (ذلك بأن اله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل). ومعناها: لا تصرف العبادة إلا لله وهو معنى توحيد الألوهية مطابقة، وهذا هو قول أهل السنة. وقال المبتدعة: إن معنى لا إله إلا الله: أي: لا خالق إلا الله، وعندهم أن من قال: لا خالق إلا الله، فهو موحد وإن طاف بالقبور وسجد لغير الله؛ لأن الغاية عندهم توحيد الربوبية.
والفرق بين هؤلاء المبتدعين وبين أهل السنة والجماعة في أمرين:
1. الفرق الأول:أهل السنة يقولون: توحيد الألوهية هو الغاية أما توحيد الربوبية فهو وسيلة، فإذا علمت أن الله هو الخالق الرازق المالك المدبر أوصلك إلى الغاية العظمى وهي صرف العبادة لله وحده دون من سواه، أما المبتدعة فيقولون: إن توحيد الربوبية هو الأصل، فمن اعتقد أنه لا خالق إلا الله فهو موحد وإن طاف بقبر وصرف عبادة لغير الله ـ، وهذا قول خاطئ.
2. الفرق الثاني: أهل السنة والجماعة يقولون: توحيد الربوبية شيء فطري، تدل عليه الفطرة، أما المبتدعة فيقولون: إنه نظري، أي أنه لا بد له من أدلة وبراهين تدل عليه.
(1/22)
3. الفرق الثالث: المبتدعة يقولون: توحيد الربوبية هو كل التوحيد، فتقول: لا إله إلا الله، أي: لا خالق إلا الله، ومن قال: لا خالق إلا الله فهو كامل التوحيد وإن أشرك في الألوهية.وأهل السنة والجماعة يقولون: توحيد الربوبية ركن من أركان التوحيد، لأن التوحيد ثلاثة أقسام كما سبق ذكرها، فإذا انخرم ركن آخر كتوحيد الألوهية فإنه لا يكون الإنسان موحداً، فهو ركن من أركان الإيمان وليس هو الإيمان كله، ولا إله إلا الله تدل عليه بالاقتضاء، وتدل على توحيد الألوهية والعبادة بالمطابقة.
- أقسام دلالات الألفاظ:
لأن دلالة الألفاظ على الأشياء على ثلاثة أقسام: -
(1) دلالة المطابقة: وهي دلالة اللفظ على سائر معناه. مثلاً: كلمة بيت تدل على الجدران والسقف والغرف، كل هذا بيت، وهذا كله بالمطابقة.
(2) دلالة التضمن: وهي دلالة اللفظ على جزء من معناه، مثلاً: كلمة بيت تدل على الجدار وحده دلالة تضمن، يعني أن الجدار جزء من البيت.
(3) دلالة التزام: معناها دلالة اللفظ على أمر خارج عنه لازم له، مثل لفظ بيت يدل على وجود الفرش والأثاث؛ لأنك إذا قلت: بيت، يتبادر إلى ذهنك أنه لابد من وجود فرش ولا بد من وجود أثاث في البيت لكن كلمة بيت لا تدل على فراش وأثاث بذاتها.
ومما سبق من دلالات الألفاظ على الأشياء يتضح لنا أن كلمة التوحيد لا إله إلا الله تدل على توحيد الألوهية والعبادة بدلالة المطابقة؛ لأن معنى لا إله إلا الله هو: لا معبود حق إلا الله، ومعنى توحيد العبادة هو: ألا تصرف عبادة إلا لله، وتدل على النوعين الآخرين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات بدلالة الالتزام؛ لأنه يلزم من عدم صرفنا العبادة إلا لله أن يكون هو الخالق المالك المتصرف المتفرد بالربوبية، ويلزم من عدم صرفنا العبادة إلا لله أن يكون له الأسماء الحسنى الصفات العلى (أي المتفرد بهذه الأسماء والصفات).
(1/23)
لأنك لا تعبد إلا من له الكمال في ذاته وأسمائه وصفاته، فعبادتك لله وتحقيق الألوهية يستلزم منه إيمانك بأسماء الله وصفاته وأنه الرب الخالق المالك المتصرف في هذا الكون، فأنت لا تعبد إلا الكامل الذي خلقك ورزقك.
وقول الناظم (رب الخلائق واحد) ساقنا إلى الكلام عن توحيد الربوبية ولو كانت الإشارة إلى توحيد الألوهية لكان أولى؛ لأنه أهم، ولأنه هو الذي حصلت فيه الخصومة بين الأنبياء وأقوامهم.
- نفي التشبيه وإثبات الصفات لله:
قال الناظم /:
قالوا: فهل لله عندك مشبهُ ... قلت: المشبه في الجحيم الموصد
قالوا:فهل تصف الإله أبن لنا؟ ... قلت: الصفات لذي الجلال السرمدي
قالوا: فهل تلك الصفات قديمة ... كالذات؟ قلت: كذاك لم تتجدد
قال الناظم /: (قالوا) يعني: سألني هؤلاء (فهل لله عندك مشبه) المشبه يعني الشبيه والمشابه، هل تقول: إن لله شبيهاً؟ قال: (قلت: المشبه في الجحيم الموصد). يعني: الذي يشبه الله بخلقه أو يشبه الخلق بالله فهو في الجحيم الموصد، يعني: النار، و(الموصد) مأخوذة من المؤصد، والمؤصد: المغلق كما في قوله تعالى: (إنها عليهم مؤصدة) يعني: إنها عليهم مغلقة، قد أغلقت عليهم النار.
- الفرق بين التشبيه والتمثيل:
(الشبيه) هو المساوي في أكثر الصفات، فإذا قلت: فلان شبيه فلان، أي: يساويه في أكثر الصفات، ويماثله في أكثر الصفات. أما (المماثل) فهو المساوي في جميع الصفات من كل وجه، فإذا قلت: فلان مثل فلان، أي: أنه مساويه في جميع صفاته ويساويه في جميع خصائصه، ومن هذا نعرف أن الشبيه أقل من المثيل، فالمثيل: هو المساوي في جميع الصفات أو المساوي في كل الوجوه، أما الشبيه: فهو المساوي في بعض الصفات، وإذا قلنا: تمثيل الله تعالى بخلقه أي: إثبات مساوٍ لله تعالى في جميع صفاته، وإذا قلنا: التشبيه لله تعالى فالمعنى إثبات شبيه لله تعالى في بعض الصفات وليس في جميعها.
- الفرق بين التشبيه والتمثيل وبين التكييف:
(1/24)
والفرق بين التمثيل والتشبيه وبين التكييف:
الوجه الأول: أننا نؤمن أن لصفات الله كيفية ولكننا لا نعلم هذه الكيفية:
الوجه الثاني: التكييف هو إثبات كيفية صفات معينة سواء كانت مطلقة أو مشابهة لصفات معينة، أي: نقول: كيفية صفات الله تعالى كذا وكذا سواء كانت مشابهة لصفات المخلوقين أو غير مشابهة لصفات المخلوقين، فإذا أثبتنا كيفية لله تعالى وصفته، فهذا هو التكييف، ويكون تكييفاً يقتضي المشابهة بأن نقول هذه الكيفية مماثلة لكيفية صفات العبد وقد لا تقتضي المشابهة بأن نصفها بشيء ليس كصفات المخلوقين.
الوجه الثالث: أن التكييف يختص بالصفات، فصفات الله لها كيفية ولكنها غير معلومة لنا، فالتكييف يختص بالصفات، أما التشبيه فيكون في القدر وفي الصفة وفي الذات، فقد تشبه ذات الله تعالى بذات المخلوقين، وتشبه صفات الله بصفات المخلوقين، وقد تشبه قدر الله تعالى بقدر بعض المخلوقين، أو بالعكس، فترفع من مكانة المخلوقين حتى تجعلهم مساوين ومشابهين لقدر الله أو لصفاته، والمراد من هذا: أن التكييف أن تحكي كيفية لصفات الله تعالى، أما التشبيه والتمثيل فهو أن تجعل هذه الصفات مشابهة لصفات العباد، فالتكييف قد يكون فيه تشبيه وقد لا يكون فيه تشبيه، فقد تكيف الصفة على هيئة لا تشبه شيئاً من صفات المخلوقين، فلا يلزم من وجود التكييف وجود التشبيه، فالكيفية مختصة بالصفات , أما التشبيه فقد يكون في الصفة وقد يكون في القدر وقد يكون في الذات.
- نفي التشبيه من أصول أهل السنة والجماعة:
(1/25)
والتشبيه الذي نفاه الناظم في هذا البيت من أصول أهل السنة نفيه، فليس لله سبحانه وتعالى شبيه يقول ـ: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) قال شيخ الإسلام ابن تيميه عن هذه الآية إنها دستور أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات؛ لأن هذه الآية في أولها نفي الشبيه عن الله ـ، وفي آخرها إثبات صفات لله ـ، أولها: (ليس كمثله شيء) وآخرها: (وهو السميع البصير) فأول الآية ينفي مشابهة الله ـ لخلقه , وآخرها يثبت الصفات لله تعالى، والمعنى أن أهل السنة على طريقة الإثبات دون التشبيه، فيثبتون لله تعالى الصفات التي لا تشبه صفات المخلوقين، ومعنى (ليس كمثله شيء) الكاف في هذه الآية اختلف فيها الناس على قولين، والقولان كلاهما لا مانع منه، فليس هذا الاختلاف اختلاف تضاد وإنما هو اختلاف في فهم معنى الكاف.
- الخلاف في الكاف في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء):
(1) فالقول الأول أن هذه الكاف صلة: وإذا قيل هذا الحرف صله فالمعنى أنه حرف زائد لأجل التأكيد، ولكن يعبرون في القرآن بقولهم: صلة، ولا يعبرون بكلمة (زائد) تأدباً مع كتاب الله تعالى, وإذا كان هذا الحرف زيد للتأكيد فالمعنى: ليس مثل الله شيء وليس مثل الله شيء، كأنك تكرر، وهذا معنى التأكيد.
(2) القول الثاني أن الكاف على أصلها: فيكون معنى الآية: ليس مثل مثل الله شيء)، والمعنى من قوله: ليس مثل مثله شيء، أنه إذا انتفى مثيل المثل فانتفاء المثل من باب أولى، فإذا كان ليس مثل مثله شيء فمن باب أولى ليس مثله شيء ـ.
(التشبيه) يقول الناظم: المشبه في الجحيم، يعني: إنني لا أقول بالتشبيه فإن المشبه في الجحيم.
- أقسام التشبيه:
التشبيه ينقسم إلى قسمين:
(1/26)
1- القسم الأول تشبيه الخالق بالمخلوق: وهو الذي يذكر في باب الأسماء والصفات فيقال: إن صفات الله تعالى تشبه صفات المخلوقين أو يقال: إن ذات الله تعالى تشبه ذوات المخلوقين، أو تشبه ما للمخلوقين من صفات وخصائص،فإثبات هذا الشبيه تشبيه للخالق بالمخلوق وهذا منفي عن الله ـ وإنما يقول به المشبهة. ويقال إن أول من قال بذلك هشام بن الحكم الرافضي، فأول من قال بهذا القول هم هؤلاء الفرقة من الرافضة الذين قالوا: إن الله ـ يشبه خلقه في صفاته، وهم أرادوا من ذلك المبالغة في الإثبات فقالوا: إذا قال الله ـ: (وهو السميع البصير) نقول: إن سمعه كسمع خلقه، وبصره يماثل بصر خلقه. وفي قوله: (الرحمن على العرش استوى) استوى كاستواء الخلق على دوابهم أو على الفلك أو غيره, وإذا قال: (إن الله ينزل) فهو نزول كنزول الخلق، وهذا خطأ، ومشابهة الله تعالى لخلقه منفية شرعاً وعقلاً:
- منفية شرعاً بهذه الآية (ليس كمثله شيء) فالشرع نفى أن يكون هناك شبه بين الخالق والمخلوق.
- ومنفية عقلاً بأننا نؤمن بأن الله ـ هو الخالق الذي أوجد الخلق من العدم، ومن كان كذلك فإنه يمتنع أن يكون مشابهاً لخلقه الضعيف العاجز.
2- القسم الثاني تشبيه المخلوق بالخالق: وهو أن تشبه العباد بالله سبحنه وتعالى، ومعنى هذا القسم أن تثبت للمخلوق شيئاً من خصائص الله تعالى، وقدمنا أن معنى التوحيد هو إفراد الله تعالى بما يختص به، فإذا أثبت للمخلوق شيئاً مما يختص به الخالق تكون قد شبهت المخلوق بالخالق، فهذا التشبيه منافاة لنوع أو أكثر من أنواع التوحيد، وتشبيه المخلوق بالخالق قد يكون تشبيهاً له في أفعاله، وقد يكون تشبيهاً له في صفاته، وقد يكون تشبيهاً له في حقوقه.
(1/27)
فالقسم الأول تشبيه المخلوق بالخالق في أفعاله، وهذا شرك في توحيد الربوبية، فتوحيد الربوبية كما قدمنا هو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير، فمن أثبت خالقاً مع الله أو أثبت مدبراً مع الله تدبيراً كونياً أو تدبيراً شرعياً فإنه في ذلك يكون قد شبه المخلوق بالخالق في أفعاله، والله ـ مختص بالخلق والرزق، ومختص بالإحياء والإماتة، فمن جعل للمخلوق شيئاً من هذه الحقوق فقد شبه المخلوق بالخالق وهذا ينافي توحيد الربوبية.
... القسم الثاني: تشبيه المخلوق بالخالق في صفاته، وهذا شرك في توحيد الأسماء والصفات ، وهذا يقع من بعض الغلاة الذين يغلون في النبي عليه الصلاة والسلام فيثبتون له شيئاً من خصائص الله تعالى وصفاته، وقد يقع من بعض الناس تشبيه للمخلوق بالخالق ولو لم يكن هذا المخلوق من العباد الصالحين الزهاد، بل يكفي أن يكون حاكماً أو كبيراً أو مقدماً أو أميراً، ومن ذلك قول المتنبئ يمدح شخصاً فقال:
فكن كما شئت يا من لا شبيه له ... وكيف شئت فما خلقٌ يدانيك
وهذا تشبيه للمخلوق بالخالق في صفاته.
القسم الثالث: تشبيه المخلوق بالخالق في حقوقه، وهذا شرك في توحيد الألوهية، أي في الحقوق التي تثبت للخالق؛ فإن ما هو حق الخالق على الخلق، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وهذا هو توحيد الألوهية، فإذا صرفت شيئاً من أنواع العبادة إلى مخلوق تكون قد شبهت هذا المخلوق بالله ـ في حقوقه، والمشركون الذين يجعلون لأوثانهم حقاً في الألوهية قد ساووا هذه المخلوقات بالله ـ.وشبهوا هذه المخلوقات بالله ـ.
(1/28)
يقول المؤلف: (المشبه في الجحيم الموصد)، لأن المشبه من الفرق الضالة، وقد أخبرنا النبي ^: (أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، فيشمل هذا الفرق التي تشبه الله تعالى بخلقه وتشبه الخلق بالله ـ، فكلاهما منفي بالآية، لكن هذا التشبيه قد يكون شركاً في الربوبية، وقد يكون شركاً في الألوهية، وقد يكون في الأسماء والصفات، فالقاعدة التي نفهمها من كلام المؤلف أنه ينفي الشبيه والمثيل عن الله ـ
- قواعد في الأسماء والصفات:
وهذه أول قاعدة في باب الأسماء والصفات يذكرها المؤلف نفي الشبيه والمثيل عن الله ـ، فلا نشبه صفات الله تعالى بصفات الخلق، ثم ذكر الناظم في البيت الذي يلي هذا.
- إثبات الصفات لله:
القاعدة الثانية من قواعد الصفات: وهي إثبات الصفات لله ـ.
فأولاً نقول: ليس كمثل الله شيء فننفي الشبيه والمثيل، والقاعدة الثانية إثبات الصفات، والمعنى أننا نثبت الصفات إثباتاً ليس فيه تشبيه، والسبب في أنه قدم الكلام في نفي الشبيه قبل الكلام في إثبات الصفات: أن من أنكر الصفات أو حرف الصفات أو أول الصفات وصرفها عن ظاهرها يستدل على مذهبه وعلى طريقته بأنه يريد من ذلك نفي التشبيه عن الله ـ، أو كما يقولون: نريد تنزيه الله تعالى، فهنا إما أن يكونوا كالغلاة الذين قالوا: لا نثبت لله تعالى الصفات مطلقاً، فنقول: الله حياً بلا حياة وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر، وينفون هذه الصفات لئلا يلزم من ذلك تشبيه الله تعالى بخلقه، أو يكونوا كبعض الفرق التي تثبت بعض الصفات التي دل عليها العقل وتحرف باقي الصفات، وتحريفهم لباقي الصفات لأن هذه الصفات يقتضي إثباتها عندهم تشبيه الله تعالى بخلقه، فلما قدم الناظم الكلام على نفي الشبيه عن الله تعالى بعد ذلك قرر مسألة إثبات الصفات، ليفهم من يقرأ هذه المنظومة أنه إثبات بلا تشبيه.
- الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات:
(1/29)
ومن قال: إن إثبات الصفات لله تعالى يقتضي التشبيه، يجاب عليه بالقاعدة التي ذكرناها في شروحنا لغير هذه المنظومة وهي: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فنقول: أنت تثبت لله ـ ذاتاً، ومعلوم أن لكل مخلوق ذاتاً، فهل إثباتك الذات لله ـ يقتضي تشبيه الخالق بالمخلوق؟ فإذا قال: لا، لا يقتضي التشبيه بل أثبت لله تعالى ذاتاً تليق به وأثبت للمخلوق ذاتاً تليق به. فنقول: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أثبت لله ـ ذاتاً تليق به لا تشبه ذوات المخلوقين فأثبت لله تعالى صفات تليق بالله ـ لا تشبه صفات المخلوقين، فلله سمع يليق به لا يشبه سمع المخلوقين، وله بصر لا يشبه بصر المخلوقين، وله نزول يليق به لا يشبه نزول المخلوقين، إلى آخر الصفات.
- إثبات القدر المشترك بين الخالق والمخلوق:
الأمر الآخر أن كل الموجودات لابد من وجود قدر مشترك بينها، فنقول للذي ينفي الصفات أو يحرف الصفات أو يؤولها لغرض نفي التشبيه، كل الموجودين لا بد بينهم من قدر مشترك، فأنت تثبت أن العبد موجود وتثبت أن الله ـ موجود، وإثبات الوجود للخالق وإثباته للمخلوق لا بد فيه من قدر مشترك، فإذا قال: أنا أثبت وجوداً لله يليق به وأثبت وجوداً للمخلوق يليق به، فوجود المخلوق قاصر؛ لأنه مخلوق ولأنه يلحقه الفناء، أما الله ـ فهو الأول قبل كل شيء فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، فنقول: كما أثبت هذه الصفة أثبت باقي الصفات، ثم إن كل موجودين، وكل شيئين في الدنيا لابد بينهم من قدر مشترك، فإذا نفي القدر المشترك بينهما صار هذا الوجود ليس وجوداً حقيقياً؛ لأن الموجودات على قسمين:-
- أقسام الموجودات:
1- إما موجودات حقيقية: يعني لها وجود في الحقيقة. فهذه الموجودات الحقيقية لا بد من وجود قدر مشترك بينها.
2- وإما موجودات ذهنية: فهي موجودة في ذهن الإنسان قد يتخيلها، ولا يلزم من تخيلها أن تكون موجودة في الحقيقة
(1/30)
فنقول: الموجودات الحقيقية لا بد أن يكون بينها قدر مشترك، والقاعدة في الأسماء ودلالتها على المعاني أن الأسماء على أنواع: -
- أقسام الأسماء باعتبار لفظها ومعناها:
1. النوع الأول المترادف: وهو ما اتفق معناه واختلف لفظه، مثل: الأسد والليث، اسمان يدلان على حيوان مفترس.
2. النوع الثاني المتباين: وهو ما اختلف لفظه ومعناه، مثل: السماء والأرض.
3. النوع الثالث المشترك: وهو ما اتفق لفظه واختلف معناه، مثل: إطلاق المشتري على البائع وعلى الكوكب، ومثل إطلاق العين على العين الباصرة وعلى عين الماء وعلى الذهب وعلى الجاسوس، هذه كلها نطلق عليها عين.
4. النوع الرابع المتواطئ: وهو ما اتفق لفظه واتفق معناه وينقسم إلى قسمين:
(1) المتواطئ الكلي: يقتضي المساواة، كيد زيد ويد عمرو، كلاهما إنسان فاليد متساوية، يد الإنسان هذا تساوي يد الإنسان هذا وإن كانت تختلف عنها، فيد عمر ليست يد بكر، ويد زيد ليست يد علي، وهكذا، لكن المعنى فيها واحد، وهو معنى اليد المعروفة بشكلها وأصابعها وما فيها من أظفار وما فيها من جلد، وما فيها من شعر وما فيها من تقاسيم، وهذه المعاني معروفة ومتساوية، ولكن وإن حصل هذا التساوي إلا أنها مختلفة في العين، فيدي ليست يد الآخر. هذا هو المتواطئ الكلي.
(1/31)
(2) المتواطئ المشكك: ومعناه: اللفظان المتفقان في اللفظ والمعنى، لكن ليسا متساويين بل بينهما تفاوت في الشدة والقدر، مثل: ضوء الشمس وضوء السراج، فهذه الإضاءة الكهربائية البسيطة تسمى نوراً وتسمى ضوءاً، وكذلك الشمس يسمى ما فيها نوراً ويسمى ضوءاً، فالمعنى واحد، كلاهما نور، لكن ليس هذا هو هذا، ومثل يد الإنسان ويد الذرة، ويد الفيل، فهذه يد حقيقية وهذه يد حقيقية وتلك يد حقيقية، لكنها ليست متساوية ولا متماثلة، والله تعالى خاطب العباد باللغة العربية، كما قال: (بلسان عربي مبين) وقال ـ: (إنا جعلناه قرآناً عربياً) فالسامع لكلام الله ـ لا بد أن يفسره على مقتضى كلام العرب الذي يفهمونه، وهذه هي حقيقة الإشكال الذي يرد عند هؤلاء الذين يشبهون صفات الله تعالى بخلقه أو الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون يصرف اللفظ عن ظاهره، يحرفون هذه النصوص، يقولون أنها تقتضي التشبيه فنقول: إذا خاطبت أحداً بألفاظ معينة فهذه الألفاظ التي تريد أن تعبر بها عن المعاني التي تريدها لا بد أن يكون فيها قدر مشترك مع ما يفهم المخاطَب، فمن خلاله يفهم المعنى، فالله ـ وصف لنا ما في الجنة، وأن في الجنة الفاكهة، وأن في الجنة الخمر والنساء، وقد قال ابن عباس ا: (ليس شيء مما في الجنة يشبه ما في الدنيا إلا في الاسم) فنؤمن بأن الذي في الجنة نساء حقيقية، ونؤمن بأنها خمر حقيقية، ونؤمن بأنها فاكهة حقيقية، ونؤمن بأنه رمان حقيقي، ونؤمن بأن في الجنة فرشاً حقيقية إلى آخر هذه النصوص، مع أننا نؤمن بأن هذه الأشياء تخالف ما نعرفه في الدنيا، وكذلك نثبت لله تعالى الصفات التي يفهمها العرب من كلامهم وإطلاقاتهم واستخدامهم للفظ الدال على هذه الصفة، وإن كنا لا نعرف الكيفية، ولا نجعل هذه الصفة مشابهة لصفات المخلوقين.
- إثبات الصفات لله تعالى:
يقول الناظم / في إثبات الصفات:
قالوا: فهل تصف الإله أبن لنا؟ ... قلت: الصفات لذي الجلال السرمدي
(1/32)
بعد أن سألوه عن التشبيه ونفى التشبيه، (قالوا: فهل تصف الإله؟) يعنى: هل تثبت الصفات لله ـ، وتضيفها له؟
(أبن لنا): يعني: وضح لنا، والتبيين هو: التوضيح. فأجابهم فقال: (قلت الصفات لذي الجلال السرمدي) يعني: أنا أثبت الصفات لله ـ فبين أنه يثبت الصفات بعد أن بين في القاعدة السابقة أنه ينفي الشبيه.
- الإخبار عن الله بالسرمدية:
(لذي الجلال السرمدي) الله ـ هو ذو الجلال والإكرام، وقوله (السرمدي) يعني: هو الدائم في طرفي الزمان. لأن الزمان له طرفان، ماضٍ ومستقبل، فالسرمدي يعني: الذي يدوم في طرفي الزمان، أي: الذي يدوم في الأزل ويدوم في الأبد. لكن تسمية الله تعالى بأنه (السرمدي) أو بأنه (أزلي) هذه التسميات لم ترد في الكتاب ولا في السنة، وعندنا قاعدة في الأسماء والصفات وهي: أننا لا نثبت لله تعالى اسماً ولا صفة إلا إذا دل عليها الكتاب والسنة، والكتاب والسنة لم يصفا الله ـ بأنه سرمدي إنما وصفاه بأنه الأول والآخر، فنقول: إن هذا ليس من باب وصف الله تعالى، إنما هو من باب الإخبار عن الله، ولا بد في الإخبار عن الله أن يكون ما يخبر به عن الله ـ معناه موافق لما أثبته الله تعالى لنفسه، وهنا أخبر عن الله بأنه هو السرمدي، وهي صفة معناها ثابت في كتاب الله؛ لأن الله تعالى يقول: (هو الأول والآخر) يعني هو الدائم فليس يلحقه فناء وهو الأول لم يسبقه عدم، هذا هو المعنى الذي يريده هنا، لكن ومع ذلك فإن التعبير بالألفاظ الشرعية هو الأولى.
- الجمع بين النفي والإثبات في باب الصفات:
(1/33)
ويلاحظ من تركيب هذه الأبيات أنه نفى الشبيه ثم أثبت الصفات جرياً منه على طريقة الآية الكريمة: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فنفى المشابهة ثم أثبت الصفات، وكذلك الناظم أراد أن يقرر ذلك فبدأ بنفي الشبيه ثم بعد ذلك أثبت الصفات لله ـ. كان في السابق هذه الآية مكتوبة على جدار الكعبة (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فبعض الجهمية لما رأوا هذه الآية مكتوبة على جدار الكعبة كره ذلك وود لو أنه كتب: (ليس كمثله شيء) لأن طريقتهم تحريف نصوص الصفات، وعدم إثباتها لله لأنه يلزم منها التشبيه في زعمهم ولو أمعنوا النظر لأثبتوا الصفات لأن إثباتها لا يقتضي التشبيه ولذا كان بعض الفلاسفة والباطنية وبعض من ضل في باب الأسماء والصفات يصف الله بالنفي ولا يصفه بالإثبات، يقول: ليس كذا وليس كذا ويقول: لا تحويه الجهات ولا يدركه شيء، وليس فوق العالم ولا تحت العالم ولا عن يمين العالم ولا عن يسار العالم، ويجعل الصفات كلها صفات نفي دون إثبات، وقد قال أهل العلم: إن من قال ذلك فقد شبه الله ـ - وهو لا يشعر- بالمعدومات والله تعالى يقول: (ليس كمثله شيء)، فلا يشبه الله تعالى لا بالموجودات ولا بالمعدومات، فهؤلاء شبهوا الله تعالى بالمعدومات لأنهم لا يثبتون له الصفات، فجاءت طائفة -لما قيل هذا القول- أرادوا أن يخرجوا ويتخلصوا من هذا المأزق، لئلا يشبهون الله بالمعدومات، فنفوا عن الله الصفة وضدها، قالوا مثلاً: ليس الله تعالى موجوداً ولا معدوماً، وليس الله تعالى داخل العالم ولا خارجه، وهكذا، وهذا تشبيه منهم لله بالمستحيلات، فهم في جميع ما فعلوه مشبهين لله. والحقيقة أن من أول الأسماء والصفات وحرفها إنما حرفها بسبب أن قلبه قد أشرب التشبيه، فهو لا يتصور في قلبه إثباتاً إلا على مقتضى التشبيه، وإلا لو سلم قلبه من التشبيه لأمكن له أن يتصور إثباتاً.
- أقسام صفات الله عز وجل:
وصفات الله ـ على نوعين:
(1/34)
(1) صفات ذاتية: وهي الصفات التي لا تنفك عن الله ـ، مثل الحياة والعلم والسمع والبصر والقدرة.
(2) صفات فعلية: وهي الصفات التي تتعلق بالمشيئة، بمعنى أنه إذا شاء الله تعالى فعلها، مثل: الخلق والنزول والإحياء والبعث والمجئ.
الصفات الفعلية تنقسم إلى قسمين:
أ. ... صفات فعلية متعدية: مثل الخلق والرزق، فكون الله ـ يرزق العباد، ويخلق العباد أنه تعالى يخلق السموات والأرض، هذه كلها صفات فعلية متعدية.
ب. صفات فعلية غير متعدية: مثل النزول والمجيء لفصل القضاء، ومثل: الكلام باعتبار آحاده.
- أركان الإيمان بالأسماء والصفات:
إثبات الأسماء والصفات لله ـ يتضمن ثلاثة أركان:
1. الركن الأول: الإيمان بالاسم: ففي قوله تعالى: (وهو السميع البصير) نثبت ونؤمن أن من أسماء الله السميع، وأن من أسماء الله البصير، وفي قوله: (الحي القيوم)نثبت أن من أسماء الله تعالى الحي، ومن أسماء الله تعالى القيوم، وهكذا.
2. الركن الثاني أن نثبت لله الصفات التي أثبتها لنفسه: فنثبت لله تعالى المجيء الوارد في قول الله تعالى: (وجاء ربك)ونثبت لله الكلام ونثبت لله تعالى السمع لقوله: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)، ونثبت الصفات التي تضمنتها الأسماء، فإن الصفات منها ما تضمنته الأسماء ومنها ما لم يتضمنه اسم، والذي تضمنه اسم مثل: الحي، يتضمن أن الله تعالى صفته الحياة، والسميع يتضمن أن صفة الله تعالى السمع، والبصير يتضمن أن صفة الله تعالى البصر، والقيوم يتضمن أن صفة الله تعالى القيومية، فهذه الصفات تتضمنها أسماء، فإذا أثبتنا الاسم نثبت الصفة التي يتضمنها هذا الاسم؛ لأن كل اسم فهو متضمن لصفة، وكذلك نثبت الصفات التي لا تتضمنها أسماء مثل: المجيء والنزول والاستواء على العرش، فكل هذه نثبتها لله ـ.
(1/35)
3. الركن الثالث إثبات أثر هذه الصفة: فإيماننا بأن الله ـ هو الخالق يقتضي أن نثبت لله تعالى صفة الخلق، ويقتضي أن نقول: إن كل ما إنما في الكون من حركة وسكون فهو مخلوق لله ـ وهكذا، فنثبت أثر هذه الصفات.
- صفات الله تعالى غير مخلوقة:
قال الناظم /:
قالوا: فهل تلك الصفات قديمة ... كالذات؟ قلت: كذا لم تتجدد
يقول الناظم / وهو لا يزال يذكر في نظمه هذه الطريقة في المحاورة يقول: (قالوا فهل تلك الصفات قديمة كالذات؟ قلت كذاك لم تتجدد) يشير إلى قاعدة: (الكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات). يعني أنهم سألوه: هل صفات الله التي تثبتها له قديمة كالذات؟ لأن ذات الله قديمة؟ قال: إنها لم تتجدد، ومعنى التجدد: أن يحدث الشيء بعد انقطاعه، فإذا انقطع الشيء ثم حدث فهذا يقال له قد تجدد، كما إذا كان الشخص جالساً ثم قام فإن قيامه قد تجدد له بعد القعود، فيقول: إن صفة الله تعالى لم تتحدد بل هي قديمة.
- إطلاق القدم على ذات الله وصفاته:
(1/36)
وهنا وصف ذات الله تعالى بالقدم، وعند السلف أن القديم ليس من أسماء الله تعالى، وليس القدم من صفات الله تعالى؛ لأن عندهم قاعدة في الأسماء والصفات وهي: أن الأسماء والصفات توقيفية، فلا نثبت لله تعالى اسماً أو صفة إلا ما جاء في الكتاب والسنة، ولم يرد في الكتاب والسنة وصف الله تعالى بأنه قديم، ولا تسمية الله تعالى بالقديم، ولذا نقول: ليس من أسماء الله تعالى القديم، ونقول: إن القدم ليس من صفات الله تعالى، لكن باب الإخبار عن الله أوسع من باب الصفات، فإذا أخبر إنسان عن الله تعالى بأنه قديم فهذا الإخبار قد يكون مقبولاً؛ لأن المراد بالقدم هو ما دل عليه اسم الله تعالى الأول، فالله تعالى هو الأول، وهم يريدون بقولهم: قديم هذا المعنى وإلا فاللغة لا تطلق القديم على الأول الذي ليس قبله شيء، وإنما يطلق القديم في اللغة على المتقدم على غيره، فإذا كان الشيء تقدم على غيره فإنه يسمى قديماً، ولو لم يكن هو الأول الذي ليس قبله شيء، ففي قوله تعالى: (حتى عاد كالعرجون القديم) وصف العرجون بأنه قديم، ولا يعني هذا أنه أول ليس قبله شيء، بل المعنى أنه متقدم على العرجون الجديد، ولذا فهذه الصفة صفة القديم فيها معنى قاصر عن معنى الأول، وبعض من يصف الله تعالى يذكر أن صفاته قديمة يعني بهذا أنها ليست مخلوقة كذاته، وهنا لعلنا نحمل كلامه على هذا المراد.
- تجدد الصفات الفعلية وحدوثها:
(1/37)
قال: (كذاك لم تتجدد) يقصد إنها ليست مخلوقة بل إنها ثابتة لله ـ. وقوله: (لم تتجدد) قد يُفهم منه أن الناظم / يقول بقول من ينفي عن الله ـ الصفات الفعلية، ويقول إن إثبات الصفات الفعلية لله ـ يقتضي حدوثها وتجدد شيء لله لم يكن، وهذا الحدوث لا يحل إلا بحادث، فإذا أثبتنا حلول هذه الحدوث بالله فإننا ننفي عن الله تعالى صفة القدم، ولأجل هذا فبعض المبتدعة ينفي عن الله الصفات الفعلية، والصفات الفعلية هي المتعلقة بالمشيئة مثل: النزول، فيقول: إذا قلنا إن الله تعالى ينزل أثبتنا لله النزول وكذلك إذا قلنا إنه: استوى، وأيضاً إذا قلنا: إنه يجيء، هذه الصفات كلها حادثة، يعني: ليست ملازمة لله ـ، ليست كالعلم والحياة والقدرة، التي هي صفات ملازمة لله، فيقول: إثباتنا لهذه الصفات الفعلية يقتضي أن الله ـ تحل به الحوادث، ويعني بالحوادث: الأفعال الحادثة الطارئة الجديدة، يقول: وهذه الحوادث لا تحل إلا بحادث، والله تعالى ليس بحادث، فننفي عنه الصفات الفعلية، فينفون الصفات الفعلية لأجل أن يمنعوا عنه حلول الحوادث به، ولذا يثبتون الصفات الذاتية ولا يثبتون لله تعالى الصفات الفعلية؛ لأن إثباتها عندهم يقتضي حلول الحوادث بالله، وهذا المعنى يمكن أن يُفهم من كلام الناظم، ولكن نقول: لعل الناظم / إنما أراد بقوله: (لم تتجدد) يعني: أنها غير مخلوقة، وإن كان استعماله للفظ (قديم) لا ينبغي لأنه مع كونه لم يرد، فهو أيضاً مشابهة لقول هؤلاء المبتدعة الذين يقولون: إن صفات الله قديمة، ويقصدون نفي الصفات الفعلية، أما أهل السنة فيثبتون لله تعالى الصفات الفعلية التي تتعلق بالمشيئة، فلم يزل الله ـ ولا يزال يوجد أفعاله شيئاً فشيئاً، ولا يمكن لأحد أن يتصور أن الله ـ استوى على العرش قبل أن يخلق العرش، والذين يقولون إننا ننفي الصفات الفعلية عن الله تعالى لأجل أن لا نقول بحلول الحوادث في الله، نقول لهم: إن الله تعالى أثبت لنفسه أنه خلق
(1/38)
العرش ـ ثم استوى عليه، وإذا قلنا: إن هذه الأفعال ليست حادثة لله بل إنها ملازمة لله ـ في الأزل فمعنى هذا أن نقول: إن الله تعالى استوى على العرش قبل أن يخلق العرش، ولذا فإن أهل السنة يثبتون لله تعالى الصفات الفعلية ويقولون: إن الله ـ لا يزال يوجد أفعاله شيئاً فشيئاً وهذا لا يقتضي حلول الحوادث الذي يذكرونه.
وكلمة (حلول الحوادث) لفظ مجمل، ولم يأتِ في القرآن أو السنة نفي حلول الحوادث عن الله؟ وكذلك لم يأت في القرآن أو السنة إثبات حلول الحوادث لله، فهذا اللفظ لا نطلقه بنفي ولا إثبات، لكن نقول: إن أردتم بحلول الحوادث أن الله تعالى يفعل ما يشاء؟ فنقول: نعم إن الله يفعل ما يشاء، ولا يكون لفظكم المبتدع واستعمالكم لمثل هذه المصطلحات سبباً للعدول بنا عن كتاب ربنا وعن سنة نبينا عليه الصلاة والسلام. وأما إن أردتم بحلول الحوادث حلول المخلوقات فيمكن أن يكون لهذا وجه. لما تطرق المؤلف / للكلام عن الصفات ناسب أن نذكر الفرق بين الاسم والصفة، ويتلخص الفرق بينهما في أربعة أمور:-
- الفرق بين الأسماء والصفات:
1. الأمر الأول: أن الاسم علم على ذات الله ـ: مثل العلي، والرحمن، والملك، والسلام، والمؤمن، والمهيمن، هذه كلها أسماء وأعلام على ذات الله ـ، أما الصفة فإنها تضاف إلى الله ـ مثل: قدرة الله، وسمع الله، وبصر الله، مثلاً: قدير: اسم، والصفة: قدرة الله ـ، فالاسم: القدير، والصفة: القدرة، فالصفة هي التي تضاف إلى الله أما الاسم فهو العلم على ذات الرب ـ.
2. الأمر الثاني: أن الاسم تدعو به الله ـ: كما قال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) فالإنسان يدعو الله بأسمائه، يقول: يا قدير، يا حي، يا الله، يا رحمن، أما الصفة فإنك لا تدعوها، فلا تقول: يا قدرة الله، يا وجه الله، يا يد الله، يا رحمة الله، بل إن دعاء الصفة حرام، وذكر شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه (الرد على البكري): أن دعاء الصفة كفر.
(1/39)
3. الأمر الثالث: أن الاسم يعبد له: فيسمي الإنسان نفسه أو ابنه: عبد القادر، عبد الملك، عبد السلام، عبد الرحمن، عبد الله، أما الصفة فلا، فلا تقول: عبد القدرة، ولا عبد المشيئة، ولا عبد الإرادة، إنما هذا خاص بالأسماء.
4. الأمر الرابع: أن كل اسم تؤخذ منه صفة: فتأخذ من اسم الله تعالى: الحي، صفة: الحياة، والقدير، صفة: القدرة، واسم الله تعالى: القيوم، صفة القيومية، وهكذا.
لكن الصفات لا يؤخذ منها أسماء، فالله سبحانه وتعالى من صفاته الاستواء على العرش، لكن لا يسمى الله تعالى المستوي، ومن صفات الله تعالى النزول إلى السماء الدنيا، لكن لا يشتق له اسم هذه الصفة؟ ويوجد عند بعض من أخطأ في هذا الباب تسمية الله تعالى بأسماء مشتقة من صفاته، مثل: الجائي، ومثل: الماكر، وهذه الاشتقاقات التي تشتق من الصفات خطأ. فإن الاسم تؤخذ منه الصفة , أما الصفة فلا يشتق منها اسم لله ـ.
- من الأحكام المتعلقة بالصفات:
(1) دعاء الصفة: ذكرنا أن الصفة لا تدعى، وقلنا: إن دعاء الصفة حرام.
(2) الاستغاثة بالصفة: وأما الاستغاثة بالصفة فإنها جائزة، فيمكن للإنسان أن يقول اللهم برحمتك استغيث أصلح لي شأني كله، وهذا وارد في قول النبي ^: (يا حي يا قيوم برحمتك استغيث)، وهذه استغاثة بالرحمة وهي صفة من صفات الله.
(3) الاستعاذة بالصفة: كذلك يجوز للإنسان أن يستعيذ بالصفة، والاستعاذة بالصفة مثل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) فهذه استعاذة بالعزة والقدرة، ومثل قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) أخرجه مسلم، فهذه استعاذة بالصفة، فتكون الاستعاذة بالصفة جائزة.
(4) الحلف بالصفة: الحلف بالصفة جائز، مثل وعزة الله، وقدرة الله، وجلال الله، وكلام الله، وحياة الله، ولكن لا ينبغي التوسع في هذا الباب.
(1/40)
(5) التوسل بالصفة: التوسل إلى الله ـ بصفة من صفاته جائز، وهذا من التوسلات المشروعة مثل: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي) فقوله: (اللهم بعلمك الغيب) العلم صفة من صفات الله تعالى، والقدرة من صفات الله، فهو يتوسل إلى الله ويتقرب إلى الله ويزدلف إلى الله بصفات الله.
(6) لا ينبغي نسبة الأفعال إلى الصفات: مثل شاءت الأقدار، فلا تضاف المشيئة وهي صفة من صفات الله إلى القدرة وهي صفة من صفات الله ـ، إنما تقول: شاء الله تعالى. فهذه ست مسائل متعلقة بالصفات منها نوعان محرمان: إضافة الفعل إلى الصفة، ودعاء الصفة. وأربعة منها جائزة، مباحة أو مشروعة: الحلف بالصفة، والتوسل بالصفة، والاستعاذة بالصفة، والاستعاذة بالصفة.
جاءت النصوص أن النبي عليه الصلاة والسلام استغاث بصفات الله، واستعاذ بصفات الله، وتوسل إلى الله بصفاته، ولا شك أن من آداب الدعاء، أن الإنسان يدعو بصفة تليق بالمقام وتناسب المقام، فيقول مثلاً: اللهم يا عليم علمني، يا رحمن ارحمني، هذا من الأشياء المناسبة.
- التماثل والتباين في صفات الله:
من المسائل المتعلقة بالصفات:
هل صفات الله تعالى متماثلة أم أنها غير متماثلة؟
الجواب: أن صفات الله متماثلة من ثلاث حيثيات: -
1. الأولى: أن الموصوف بها واحد.
2. الثانية: أن الدليل على إثباتها الكتاب والسنة.
3. الثالثة: أن إثباتها لا يستلزم التشبيه:
- لأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
- والقول في الصفات فرع عن الكلام في الذات.
فكما أن إثبات ذات الله لا يقتضي تشبيه الله بخلقه ولا يقتضي أن ذات الله تماثل أو تشابه ذوات المخلوقين، فكذلك إثبات الصفات لله تعالى لا يلزم منه تشبيه الله تعالى بخلقه، فهذه الثلاثة أمور تتماثل فيها صفات الله.
(1/41)
وصفات الله تتباين من حيث دلالتها على معانٍ مختلفة: فالرحمن يدل على الرحمة، والرحمة تدل على أمر غير ما تدل عليه القدرة، فالقدرة غير الرحمة، لكن القدرة والرحمة كلاهما صفتان لله فالموصوف بها واحد.
- نفي التجسيم عن الله تعالى:
يقول الناظم / في نفي التجسيم:
قالوا: فأنت تراه جسماً مثلنا؟ ... قلت: المجسم عندنا كالملحدِ
وفي بعض النسخ: (قل لنا).
الجسم كل ما له جرم، فكل ما له جرم يسمى جسماً، يقول: فأنت إذا أثبت الصفات لله تعالى فأنت تراه جسماً، فيقول الناظم: (المجسم عندنا كالملحدِ)، يعني المجسم حكمه حكم الملحد، ولعل أن الكاف في قوله: (كالملحد) زائدة، ويكون المعنى أن المجسم ملحد؛ لأن المجسم ألحد في صفات الله وأسمائه.
- معنى الإلحاد:
والإلحاد لغة: هو الميل والانحراف، ومن ذلك يسمى اللحد في القبر لحداً لأنه شق مائل في القبر.
واصطلاحاً: هو الميل عما يجب اعتقاده، فكل من مال عما يجب اعتقاده أو عمله فقد ألحد، ولذا يكون الإلحاد في الاعتقاد ويكون في العمل.
وإذا مال الإنسان عن الواجب في اعتقاده عند أهل السنة فإنه يسمى ملحداً؛ لأنه مال عن اعتقادهم، ويمكن أن يكون الإلحاد في العمل، فإذا مال عما يجب عليه فعله، وترك بعض الواجبات وفعل بعض المعاصي، فإنه يسمى أيضاً ملحداً، ومن ذلك قول الله عز وجل: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) يعني: ميلاً عن الحق وفعل معصية.
- أقسام الإلحاد:
والإلحاد يكون في أسماء الله وصفاته وفي آيات الله:
1- فالإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته: أن يعدل بأسماء الله تعالى وصفاته عن الواجب فيها، فإذا انحرف في هذا الباب وعدل عما يجب عليه فيه فإنه يكون ملحداً في أسماء الله وصفاته، والله ـ يقول: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذر الذين يلحدون في أسمائه) يلحدون: يعني يميلون عن الواجب عليهم في هذا الباب.
والانحراف في باب الأسماء والصفات يكون بأمور منها:-
(1/42)
(1) أن ينكر شيئاً من أسماء الله وصفاته، إما أن ينكر الاسم أو ينكر ما دل عليه الاسم من صفة.
(2) أن يجعل معنى الصفات دالاً على مشابهة الله لخلقه، فيقول: النزول معناه هو الذي يشبه نزول المخلوقين، أو معنى الاستواء هو الاستواء الذي يشبه استواء المخلوقين، أو يقول: يد الله كيد المخلوقين، أو نحو ذلك.
(3) أن يسمى الله بما لم يسم الله به نفسه أو يصف الله تعالى بما لم يصف الله به نفسه، فالنصارى يسمون الله (أب) والله ـ لم يسم نفسه بذلك. والفلاسفة يسمون الله (العلة) فتسمية الله تعالى بذلك إلحاد في أسماء الله وصفاته
(4) أن يشتق من أسماء الله تعالى أسماء للأصنام والأوثان، كما فعل المشركون عندما اشتقوا اسم اللات من الإله، والعزى من العزيز، فهم اشتقوا أسماء لهذه الأوثان من أسماء الله تعالى.
2- ويكون الإلحاد في آيات الله بأمور منها:
1. الإلحاد في آيات الله الشرعية وهي القرآن، وذلك:
- بتحريف هذه النصوص
- وقد يكون أيضاً بتكذيب هذه النصوص، فمن كذب شيئاً من آيات الله تعالى فقد ألحد في كتاب الله.
- وقد يكون بعصيان أحكامها؛ لأنه عدل عما يجب عليه أن يفعله، وهو التزام أوامر الله تعالى الواردة في كتابه وعلى لسان نبيه ^.
2. الإلحاد في آيات الله الكونية وهي المخلوقات مثل: الشمس والقمر، وذلك:
- بأن ينسبها لغير الله، فيقول: الذي خلق الكون ليس الله.
- أو يجعل لله شريكاً فيها، في الخلق، أو الرزق، أو الملك، أو التدبير.
- إثبات الصفات لا يستلزم التجسيم:
(1/43)
وقد ذكر الناظم هذا البيت بعد أن ذكر إثبات الصفات، والسبب في ذلك أن شُبهة الذين ينفون الصفات عن الله ـ ويؤولون معانيها بالأصح يحرفون المعنى، فيقولون: نزول الله يعني نزول رحمته، شبهتهم في ذلك قالوا: إن إثبات الصفات لله يقتضي أن الله تعالى جسم، فإذا قلنا: إن لله تعالى يداً, وإن لله تعالى وجهاً، وإن له قدماً، إذا قلنا ذلك استلزم أن يكون الله جسماً، وهم يقولون: إن الله تعالى ليس بجسم فهذه شبهتهم، ولذا بعد أن ذكر الصفات خطر له أنهم سيحتجون عليها بأن إثبات الصفات تجسيم لله، والجواب عن ذلك أن نقول: إن لفظ التجسيم من الألفاظ المجملة، فهي من الألفاظ التي لم ترد في كتاب الله ولا في السنة إثباتاً ولا نفياً، فمثل هذه الألفاظ لا نثبتها ولا ننكرها، ولا نقول إن الله جسم ولا نقول: إنه ليس بجسم، والسبب في ذلك أنه لم يرد في الكتاب والسنة لا الإثبات ولا النفي، فهذا اللفظ نتوقف فيه، وأما المعنى الذي يدل عليه، فنستفصل فيه، فإن ذكروا معنى دلت عليه النصوص نقبله، وإذا ذكروا معنى لا تدل عليه النصوص فنحن ننفيه، فإذا قالوا: معنى الجسم هو الشيء المركب الذي يفتقر كل جزء منه للآخر كالإنسان، فالإنسان مركب من يدين ورجلين ورأس، وهذه الأجزاء تفتقر في بعضها إلى بعض، فالإنسان يحتاج إلى يده، واليد تحتاج إلى اليد الأخرى، ويحتاج إلى رجليه ليمشي عليهما، فهذا جسم مركب من أجزاء يفتقر بعضها إلى بعض، فإذا قالوا: هذا هو معنى الجسم، قلنا: هذا ممتنع عن الله ـ، بل الله سبحانه هو الغني، وإن أرادوا بكلمة جسم أنه هو ما يتصف بالصفات، فنقول: هذا المعنى الذي تذكرونه غير ممتنع، فنحن نثبت إن الله تعالى يتصف بالصفات التي أخبرنا بها وأخبرنا النبي أنه متصف بها ولا ننكر هذه الصفات، ولو سميتم ذلك تجسيماً فتسميتكم هذه باطلة، ودعواكم هذه لا تجعلنا ننكر ما أثبته الله تعالى لنفسه، وألقاب السوء التي يطلقها المبتدعة على أهل السنة ويردون
(1/44)
بها إلزامهم على إنكار الصفات لا تدفعنا إلى إنكار ما أثبته الله لنفسه، ونقول أيضاً: إن من أنكر الصفات مثل المعتزلة الذين ينكرون الصفات ويثبتون الأسماء فيقولون: الله ـ رحمن بلا رحمة، وعليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، مثل ما نقول الآن، وزير بلا وزارة، هم يقولون: ننفي الصفات لأن الصفات تقتضي التجسيم، فإذا أثبتنا أن الله تعالى موصوف بصفات فهذه الصفات إثباتها لله يقتضي التجسيم، فنقول: أيضاً تسميتكم الله بأنه حي وأنه قادر وأنه رحمن وأنه رحيم إثبات هذه الأسماء يقتضي التجسيم؛ لأننا لا نعرف شيئاً موجوداً يسمى حياً ويسمى قديراً ورحيماً إلا الأجسام، وهذا عائد إلى تلك القاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام وهي: أن الكلام في بعض الصفات كالكلام في البعض الآخر، فللمعتزلة الذين يثبتون الأسماء وينكرون الصفات نقول: إن كل موجود يسمى حياً وقادراً وعليماً، وإذا كان وجوداً حقيقياً فإننا لا نفهم من هذه التسمية إلا التجسيم، فإن قالوا: لا يلزم التجسيم، بل نقول: إنه حي وقادر وعليم لكنه ليس بجسم، فنقول: نحن أيضاً نثبت لله تعالى الصفات كما أثبتها لنفسه ولا يقتضي هذا أن يكون الله سبحانه وتعالى كما يقولون أجزاءً وأبعاضاً يفتقر بعضها إلى بعض إلى آخر ما يذكرونه.
(1/45)
وذكر الناظم لهذه المسألة بعد ذكره للصفات تدرج جميل منه فإنه ذكر إثبات الصفات لله ـ، ثم بعد ذلك بين شبهتهم وهي مسألة التجسيم؛ لأنه ذكر في البيت الذي قبله مسألة التجدد وحلول الحوادث، وتلك غالب ما تذكر في الصفات الفعلية، والتجسيم غالباً ما يذكر في الصفات الذاتية، فلذا ذكر في البيت الأول الصفات الفعلية وشبهتهم فيها، ثم ذكر الصفات الذاتية وشبهتهم فيها، وخلاصة الأقوال في الأسماء والصفات أن المبتدعة منهم من أنكر الأسماء والصفات، ومنهم من أثبت الاسم ونفى الصفة، ومنهم من أثبت بعض الصفات التي دل عليها العقل وأنكر الباقي، فالذين لم يثبتوا الأسماء ولا الصفات هم الفلاسفة والباطنية وأشباههم، الذين لا يصفون الله بأي اسم ولا أي صفة، ينكرون الأسماء والصفات كلها، أما الذين يثبتون الأسماء فهم المعتزلة، يثبتون الأسماء دون الصفات، ويبقى الأشاعرة وهم يثبتون لله الصفات السبع التي دل عليها العقل عنهم، وينكرون ما بقي، وهؤلاء الرد عليهم أيسر لأننا نقول لهم لأنهم فيما أثبتوه: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فكما أثبتم لله تعالى حياة وكلاماً وبصراً وسمعاً وقدرةً فكانت هذه الصفات عندكم لا تقتضي التجسيم، فكذلك القول في بقية الصفات أنها لا تقتضي التجسيم:
- إثبات العلو لله تعالى:
قال الناظم رحمه الله تعالى في إثبات صفة العلو:
قالوا فهل هو في الأماكن كلها؟ ... فأجبت: بل في العلْو مذهب أحمد
قوله: (في العلْو) سكّن اللام، وإلا فالأصل أن يقول في العلُو، ولكن سكن اللام ليستقيم وزن البيت، وأيضاً يقول: (بل في العلو مذهب أحمدِ) وهنا جعل علامة جر (أحمد) الكسرة، ومعلوم أن أحمد ممنوع من الصرف؛ للعلمية ووزن الفعل، والأصل فيها أن يقول: (مذهب أحمدَ)، لكن هذه منه لضرورة الشعر؛ لأن القافية على الدال المكسورة، وقد قال الحريري في منظومته:
وجائز في صنعة الشعر الصلف ... أن يصرف الشاعر ما لا ينصرف
(1/46)
فمن الضرورات الشعرية أن يصرف الشاعر الكلمات التي لا تنصرف حتى يستقيم البيت.
يقول هنا: إن سألوني هل الله تعالى في كل مكان؟ فإني أجيبهم: إن الله تعالى في العلو، والعلو صفة ذاتية لله ـ يثبتها أهل السنة له ويقولون:
- أقسام علو الله على خلقه:
إن علو الله تعالى يشمل ثلاثة أمور:
(1) علو الذات: فهو ـ مستوٍ على عرشه.
(2) علو القدر: علو قدره ـ.
(3) علو القهر: فهو سبحانه غلب المخلوقات بقهره.
هذه الثلاثة أمور كلها مراده، أما من ضل في هذا الباب فإنه ينكر علو الذات، ويقول: معنى العلو علو الصفات وعلو القدر، فقدره عالٍ، وينكر علو ذاته. أما أهل السنة فيثبتون العلو بجميع معانيه، فيثبتون لله علو الذات، فهو مستوٍ على عرشه ـ، ويثبتون له علو القدر، وعلو القهر. يقول الناظم: (بل في العلْو مذهب أحمدِ) يقول: إن إثبات العلو لله ـ هو مذهب الإمام أحمد، والصحيح أن هذا مذهب السلف كلهم، لكنه عبَّر بقوله: أحمد؛ لأنه من أئمة السلف، ولأنه قد قصد نظم المسائل التي اختارها الإمام أحمد في الاعتقاد، وأنه وافقه فيها.
- الأدلة على إثبات العلو لله:
(1/47)
والعلو من الصفات الثابتة لله ـ في أدلة كثيرة جداً، قسم أنواعها العلامة ابن القيم إلى واحد وعشرين نوعاً، وفي كل نوعٍ منها عدد ضخم من النصوص، فالنصوص الدالة على علوه بذاته سبحانه فوق خلقه أدلة كثيرة، فمن ذلك قول الله تعالى: (ءأمنتم من في السماء) في السماء، أي: على السماء، فتكون في بمعنى على، وحروف الجر تتناوب، ومن ذلك قول الله ـ: (يتيهون في الأرض أربعين سنة) ففي الأرض أي: على الأرض، فمعنى: (ءأمنتم من في السماء) أي: على السماء، أو نقول إن السماء معناها العلو، فيكون المعنى: (ءأمنتم من في العلو)، لأن لفظ السماء يطلق على كل ما علا على الإنسان، وفي ذلك يقول الله تعالى: (فليمدد بسبب إلى السماء) يعني ليمدد بسبب إلى السقف، والسبب هو الحبل، ليمدد بحبل إلى السقف، هذا معنى قول الله تعالى: (فليمدد بسبب إلى السماء). وكذلك في قول الله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) دليل على إثبات صفة العلو لله ـ، وفي قول النبي ^: (ربنا الذي في السماء تقدس اسمك) في الدعاء الوارد في رقية المريض، وكذلك في سؤال النبي ^ للجارية: (قال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء. فقال النبي ^ أعتقها فإنها مؤمنة) أخرجه مسلم، وهذه النصوص تدل على المعنى الذي ذكرته، وقد ذكر ابن القيم في النونية أنواع هذه الأدلة وبينها، من ذلك قوله في النونية:
هذا وخامسها صعود كلامنا ... بالطيبات إليه والإحسان
(صعود كلامنا إليه) فإن الله تعالى أخبر أنه إليه يصعد الكلم الطيب، فصعود الكلم الطيب دليل على أن الله تعالى في العلو، يقول:
هذا وسادسها وسابعها النزول ... كذلك التنزيل للقرانِ
(1/48)
فالله تعالى أخبر أنه ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، وخبر النبي ^ بذلك دليل على أن الله تعالى متصف بالعلو؛ لأن النزول يكون عن علو، وكذلك إخبار الله تعالى بأنه نزل القرآن (تبارك الذي نزل الفرقان) فالتنزيل يأتي من أعلى إلى اسفل، وهذا دليل على علو الله ـ، ومما يدل على علو الله تعالى: الفطرة الموجودة في قلب الإنسان، وفي هذا قصة مذكورة عن الجويني أنه كان ينكر استواء الله تعالى على عرشه، فقال له الهمداني: (دع عنك ذكر العرش ولكن أخبرني عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد من قلبه ضرورة لطلب العلو؟) فلطم الجويني رأسه وقال: (حيرني الهمداني، حيرني الهمداني) لأن هذا دليل فطري، وليس دليلاً عقلياً يمكن أن تأتي له بما ينقضه، وتورد له الاعتراضات والأسئلة، فدليل الفطرة موجود في القلب، فأي إنسان إذا أراد أن يدعو فإنه يتجه مباشرة إلى العلو، ويلتفت إلى العلو، ويرفع رأسه إلى العلو، ويقول: يا الله، وهذا دليل من الفطرة الموجودة في قلب كل إنسان على اتصاف الله بالعلو.
- عدم إحاطة شيء بالله تبارك وتعالى:
في بعض نسخ المنظومة:
قالوا فهل هو في الأماكن كلها ... فأجبت بل في العلو مذهب أحمد
وفي بعض النسخ:
قالوا فهل هو في الأماكن كلها؟ ... قلت الأماكن لا تحيط بسيدي
يعني أنه يجيب بأن الله تعالى أعظم وأجل من أن يحيط به شيء، فقد وسع كرسيه ـ السموات والأرض، والله تعالى يقول: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) لكن إثبات أن الله تعالى في السماء لا يعني أن السماء تحيط به، وبعض الناس يظن أن إثبات علو الله تعالى يقتضي أن السماء تحيط به، فنقول: إن إثبات أن الله في السماء لا يقتضي أنها تحيط به، وكيف تحيط به والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه؟ إنما يرد هذا في قلب من أشرب قلبه التشبيه وتمثيل الله تعالى بخلقه.
(1/49)
- إثبات صفة الاستواء على العرش لله تعالى:
يقول الناظم بعد ذلك في الاستواء على العرش:-
قالوا فتزعم أن على العرش استوى ... قلت الصواب كذاك أخبر سيدي
قالوا له: تقول: إن الله تعالى استوى على العرش؟ فيقول: الصواب كذاك أخبر سيدي. يعني أن الله تعالى أخبر أنه استوى على العرش، وذلك في آيات في سبعة مواطن من كتاب الله، في قوله: (الرحمن على العرش استوى) (أخبر سيدي) والسيد هنا هو الله. وهل يوصف الله بأنه السيد؟ نعم في قول النبي ^ (السيد الله) وهذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره، يقول أخبرني الله وأخبرني سيدي أنه مستوٍ على العرش، فنثبت لله تعالى الاستواء؛ لأنه جاءنا عن الله، فنؤمن بالله وبما جاءنا عن الله.
- معنى العرش:
والعرش في اللغة: يطلق على سرير الملك، فالسرير الذي يجلس عليه الملك يسمى العرش، ومن ذلك قول الله تعالى: (ولها عرش عظيم) وفي الشرع: العرش هو أعظم مخلوقات الله تعالى، وهو عرش حقيقي يليق بالله ـ، وصفه الله تعالى بأنه مجيد، وجاء في القرآن أنه يحمله الملائكة: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية).
- معنى استواء الله على عرشه:
واستواء الله تعالى على العرش من الصفات الفعلية التي يثبتها له أهل السنة، ويقولون: إن معنى الاستواء معروف في لغة العرب، ومعاني الاستواء التي تكلم بها السلف أربعة جمعها ابن القيم في قوله:
ولهم عبارات عليها أربع ... قد حصلت للفارس الطعانِ
وهي استقر وقد علا وكذلك ... ارتفع الذي ما فيه من نكران
وكذلك قد صعد الذي هو خامس ... وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيره ... أدرى من الجهمي بالقرآن
فاستواء الله تعالى على العرش يطلق على أحد أربعة معاني، بمعنى استوى الذي هو استقر، ومعنى استوى أي علا على العرش، وأيضاً بمعنى صعد على العرش، وبمعنى ارتفع، فهذه هي المعاني التي وردت عن السلف وتكلموا بها عن معنى الاستواء.
- الرد على من فَسَّر الاستواء بالاستيلاء:
(1/50)
بعض المبتدعة يحرف معنى الاستواء فيقولون: (الرحمن على العرش استوى) بمعنى استولى، ويقولون: إن العرش استولى الله عليه، ويستدلون على ذلك بقول الشاعر الأخطل النصراني المعروف، فإنه يقول: -
قد استوى بشرٌ على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق
ويقولون هذا البيت فيه أن بشراً استوى على العراق، فما معنى الاستواء إذا قلتم: معنى الاستواء ارتفع وصعد فكيف يصعد على العراق؟ فالمعنى إذن استوى على العراق، أي: استولى على العراق، فنقول: معنى استوى في اللغة يعني: استولى، فعلى هذا فمعنى: (الرحمن على العرش استوى)، أي: الرحمن على العرش استولى.
ويبطل أن يكون معنى استواء الله تعالى هو الاستيلاء:
أولاً: أن هذا البيت ليس موجوداً في ديوان الأخطل، وإلى الآن من ذهب يبحث في ديوان الأخطل لم يجد هذا البيت، بل هو مكذوب عليه، فإن الرواة الذين يروون الأشعار لم يذكروا في ديوان الأخطل هذا البيت.
ثانياً: رواية البيت بوجه آخر: فبعض الناس روى هذا البيت بوجه آخر، وهو أنه يقول:
بشراً قد استولى على العراق ... من غير سيف أو دمٍ مهراقِ
فيكون لفظ البيت استولى، وهنا ينتفي استدلالهم لأن البيت أصلاً ليس فيه كلمة استوى.
ثالثاً: أن نقول لا يمنع أن يكون معنى الاستواء: الصعود والعلو الارتفاع، على ما يذكره علماء اللغة، ثم بعد ذلك استعمل مجازاً في غير ما وضع له حقيقةً، أي: أن الأصل أن يستخدم كلمة استوى بمعنى: صعد وارتفع، ثم بعد ذلك استعيرت مجازاً لمعنى آخر، مثل أن كلمة الأسد تطلق على الحيوان المفترس وعلى السبع العادي في الحقيقة، لكن قد تستعار مجازاً في الرجل الشجاع، فيمكن أن تقول: رأيت أسداً تقصد الحيوان، ويمكن أن تقولها تقصد الرجل الشجاع، فنقول: إن استوى بمعنى صعد وارتفع وارتقى، لكن الأخطل استعارها أو استعملها مجازاً في معنى الاستيلاء.
(1/51)
رابعاً: أن القائل هو نصراني، وهو الأخطل، والنصارى معروف أنهم أعرضوا وحرفوا وبدلوا في باب الأسماء والصفات، والدليل لذلك: تسميتهم لله تعالى (أب)، وجعلهم لله سبحانه وتعالى الابن.
خامساً: لو قلنا: (الرحمن على العرش استوى) معناه استولى لأدى ذلك إلى أن الله تعالى لم يكن مستولياً على العرش قبل ذلك، وهذا لا يقول به أحد.
سادساً: لو قلنا: (الرحمن على العرش استوى) معناه استولى لصح لنا أن نقول: الرحمن على الجبل استوى، والرحمن على الأرض استوى، والرحمن على السماء استوى وهكذا، فنذكر هذه الألفاظ التي لا يقرون هم بذكرها، لأنه إذا كان المعنى: استولى، فالله ـ مستولٍ على الجبال وعلى السموات والأرض وعلى كل شيء، وهذا كله يبطل أن يكون معنى استواء الله تعالى هو الاستيلاء.
السابع: أن فصحاء العرب وعلماء اللغة كابن الأعرابي والخليل بن أحمد أنكروا أن يكون معنى استوى استولى، وقالوا: هذا لا يعرف في لغة العرب، وأسند عنهم ذلك اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهذا كله يبطل أن يكون معنى استواء الله تعالى هو الاستيلاء.
- جهل البشر بكيفية استواء الله على عرشه:
ثم بعد ذلك يقول الناظم /:
قالوا: فما معنى استواه أبن لنا؟ ... فأجبتهم هذا سؤال المعتدي
يقول: إنهم سألوه عن معنى استواء الله على العرش؟ يقول: فأجبتهم: هذا سؤال المعتدي: والمعتدي الذي يتجاوز الحد. لكن لماذا صار السؤال عن كيفية الاستواء تجاوزاً للحد؟ لأن كيفية صفات الله تعالى مجهولة لنا، ومن سأل عن كيفية صفات الله فإنه يجاب بأحد جوابين -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيميه-:
(1/52)
1. الجواب الأول: هو جواب الإمام مالك وربيعة والمروي عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً، أنه سئل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فالاستواء معناه في اللغة معروف وهو الارتفاع على العرش، وأما كيفية هذا الاستواء فمجهولة، والسؤال عن الكيفية بدعة.
2. الجواب الثاني: أن من سأل عن صفة من صفات الله فيقال مثلاً: كيف استوى؟ نقول له: أنت تؤمن بأن الله تعالى له ذات، فكيف هو ذاته؟ فيقول: أثبت أن لله ذاتاً لكن لا أعرف كيفية هذه الذات، فنقول: أثبت أيضاً أن لله تعالى استواء لا تعرف كيفيته, وإنما لم نعرف كيفية استواء الله تعالى وبقية صفاته، لأن الكيفية تعرف بأحد ثلاثة أمور:
- طرق معرفة الكيفية:
(1) بمشاهدة هذه الكيفية: بأن تشاهد شخصاً وهو يفعل فعلاً معيناً، فتكون مشاهدته معرفة أن كيفية جلوسه هي كذا، وكيفية مشيه هي كذا بالمشاهدة.
(2) معرفة الكيفية بالخبر: كأن يخبرك شخص أن كيفية جلوس فلان كذا، وكيفية قيامه كذا، ومشيه كذا.
(3) أن ترى من يشبهه: فترى من يشبه زيداً، فيقال لك: جلوس فلان كجلوس زيد.
وقد انتفت هذه الأمور الثلاثة في صفات الله تعالى:
1- فإن الله تعالى لا يرى في الدنيا.
2- ... والله تعالى لم يخبرنا عن كيفية صفاته.
3- ... والله تعالى ليس كمثله شيء.
- هل صفات الله من المحكم أم من المتشابه:
(1/53)
ولذا فإننا نجهل كيفية صفات الله ونؤمن بمعناها، بناءً على هذا نقول: هل صفات الله من المتشابه أو من المحكم؟ فإن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أن في كتابه المتشابه وفيه المحكم في قوله تعالى: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) فهل صفات الله تعالى من المحكم أم من المتشابه؟ نقول هي محكمة في المعاني، فمعاني صفات الله تعالى محكمة معروفة يعرفها العرب ولا بد من الإيمان بها، أما كيفية صفات الله سبحانه وتعالى فهي من المتشابه الذي نكل علمه إلى الله، ونقول: الله ـ أعلم بكيفية صفاته.
- نفي معاني الصفات قول المفوضة:
وقوله: (ما معنى استواه)، يعني: ما كيفية استوائه، هذا هو المعنى، وإنما قلنا ذلك لأجل أن نخرج أبا الخطاب عن أن يكون مفوضاً لمعاني صفات الله ـ، وقد ذكر ذلك الشيخ إسماعيل الأنصاري في تعليقه على هذه المنظومة، ومع ذلك وجد في بعض الحنابلة مفوضة مثل ابن الزاغوني وابن عقيل وأبي يعلى، فهؤلاء عقيدتهم التفويض في الصفات، ومعنى التفويض: أن معاني الصفات غير معلومة لنا، فيثبتون الصفات ويقولون: إن معانيها غير معلومة لنا، فيثبتون أن الله تعالى استوى على العرش، ولكن يقولون: إن معنى الاستواء هذا غير معلوم. ومعنى هذه الكلمة لا ندري ما هو، وقد يكون أبو الخطاب / ممن تأثر بذلك، لكن مع ذلك فإننا نحمل كلامه على الكيفية، أما الذين يقولون: إن معاني صفات الله غير معلومة فهم الذين يسمون المفوضة، والمفوضة يقولون: نؤمن بصفات الله تعالى مع أن صفات الله تعالى غير معلومة المعنى لنا، فكما تؤمن بأن لصفات الله كيفية وتقول: لا أعلم هذه الكيفية، يقولون هم: نحن نؤمن بأن الله تعالى استوى، ولكن لا نعرف ما معنى استوى. وهذا الاعتقاد التفويض يقول به الأشاعرة، ولهم في ذلك نظم يقولون:
وكل نص أوهم التشبيها ... أوِّله أو فوِّض ورُم تنزيهاً
(1/54)
يعني: كل نص احتمل في ذهنك أنه يقتضي مشابهة الله لخلقه، لم يقولوا: أثبته على الوجه الذي يليق بالله مع نفي التشبيه، بل قالوا: (أوله) أي: حرفه واصرفه عن ظاهره إلى معنى آخر، (أو فوضه) قل: الله أعلم، لا أعرف معنى هذا الكلام (ورم تنزيهاً)أي: اعتقد بذلك أنك تنزه الله تعالى وصفاته، ومذهب المفوضة هذا أخطر وأسوأ من مذهب من يحرف أسماء الله تعالى وصفاته؛ لأن معنى التفويض: هو تجهيل النبي ^ وأصحابه، ورميهم بأنهم كانوا يقرءون القرآن وهم لا يعلمون معانيه وهذا أيضاً معارض لقول الله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب تبياناً لكل شيء) فإنه إذا كان تبياناً لكل شيء فإن أول ما يبين هو صفات الله ـ وأفعاله، فإذا لم يبين هذا في كتاب الله فهذا معارض لهذه الآية، وأيضاً هذا ينافي أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام علم أمته جميع ما يحتاجون إليه، فنحن نؤمن بأن النبي عليه الصلاة والسلام علمنا كل ما نحتاج إليه، كما يقول أبو ذر: (مات رسول الله ^، وما طائر يقلب جناحيه إلا وذكر لنا منه علماً). وهذا يبين أن النبي عليه الصلاة والسلام بين للأمة جميع ما يحتاجون إليه في أمور دينهم، والعلم بالله سبحانه وأسمائه وصفاته من أول ما يدخل تحت هذه القاعدة؛ لأنه من أهم ما يحتاجه المسلم، فالقول بأن النبي عليه الصلاة والسلام وصحابته كانوا يقرءون هذه النصوص ولا يفهمون معانيها تجهيل لهم ولذا يسمى المفوضة: أهل التجهيل.
- إثبات صفة النزول لله تعالى:
يقول الناظم / في صفة النزول:
قالوا: النزول؟ فقلت: ناقله لنا ... قوم تمسكهم بشرع محمدِ
وفي نسخة أخرى: قوم هم نقلوا شريعة أحمد.
(1/55)
النزول: يطلق على انتقال الشيء من أعلى إلى أسفل، فإذا انتقل الشيء من أعلى إلى أسفل يقال: نزل. ونزول الله ـ صفة فعلية ثابتة لله ـ كما جاء في الحديث: (إذا كان ثلث الليل الآخر نزل الله ـ إلى السماء الدنيا فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟) ,هذا الحديث متفق عليه، وقد نقل ابن تيميه والذهبي والسيوطي أن هذا الحديث متواتر. لذا يقول الناظم:
(قالوا: النزول؟): يعنى: صفة النزول، ما تقول فيها؟ فيقول: (ناقله لنا قوم تمسكهم بشرع محمد)، يعني: نقلت صفة النزول عن طريق العدول أهل العلم الثقات الذين نقلوا لنا هذه الصفة التي هي صفة النزول، وفي النسخة الثانية: (قوم هم نقلوا شريعة أحمد) يعني: الذين نقلوا لنا هذه الصفة هم الذين نقلوا لنا بقية الشرائع، فإذا أنكرنا صفة النزول أفضى ذلك إلى أن ننكر بقية أحكام الدين الواردة في السنة، وهذا إشارة منه إلى أن أخبار الآحاد يعمل بها في العقائد كما يعمل بها في الأمور العملية.
- العمل بخبر الآحاد في العقائد:
وقد دلت السنة من فعل النبي ^، على أنه كان يبعث الرجل من أصحابه فيبلغ الناس أمور الاعتقاد كما يبلغهم أمور الشرائع، لا فرق في ذلك، فأرسل معاذاً إلى اليمن فقال: (إنك تأتي قوماً أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله – وفي رواية إلى أن يوحدوا الله -) وأرسل إلى قيصر وكسرى وإلى غيرهم، وهذا كله إرسال لآحادٍ من أصحابه إلى هؤلاء لتبليغهم أمور الدين، الشرائع والعقائد لا فرق بينهما، فالذين نقلوا لنا الشريعة نقلوا لنا الاعتقاد فكما نقبل منهم الشريعة نقبل منهم الاعتقاد.
- كيفية نزول الله مجهولة:
ثم يقول الناظم /:
قالوا: فكيف نزوله؟ فأجبتهم ... لم ينقل التكييف لي في مسندِ
(1/56)
يقول: إنهم سألوه، قالوا: أنت تثبت نزول الله ـ، فكيف هذا النزول؟ فيقول: إني أجبتهم بأن التكييف، يعني: كيفية نزول الله تعالى، لم تنقل لي في مسند، يعني: لم تنقل لي في خبر مسند يرويه لي الثقات كما روي لي النزول، فالثقات نقلوا لي أن الله ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ولم ينقلوا لي كيف ينزل، فأؤمن بأنه ينزل، وأقول: كيفية نزوله الله أعلم بها. وهذا لما قدمناه من أن كيفية الصفة إنما تعرف بمشاهدتها، أو مشاهدة نظيرها، أو بالخبر الصادق عنها، وفي البيت إشارة إلى أنه لم يرد خبر صادق عن كيفية النزول، ولذا فإن الناظم يقول: لم ينقل التكييف لي، فأقول: لا أعلم كيفية نزول الله ـ.
- إثبات رؤية الله في الآخرة:
ثم يقول الناظم / في إثبات رؤية الله تعالى في للآخرة:-
قالوا: فينظر بالعيون؟ أبن لنا ... فأجبت: رؤيته لمن هو مهتدي
(قالوا: فينظر بالعيون؟) يسألونه: هل الله تعالى يُرى في الآخرة؟ (أبن لنا) أي: وضح لنا، والتبيين بمعنى الإيضاح، يقول: (فأجبت رؤيته لمن هو مهتدي)، يعني: أُثبت رؤية الله تعالى لأهل الهداية، وهم أهل الإيمان، فيثبت أن الله تعالى يرى في الآخرة، ولكن يراه أهل الإيمان، وجاء في الحديث المتفق عليه أن النبي ^ قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا). وقوله (لمن هو مهتدي) لأن القرآن أخبرنا أن الكفار يُحجبون يوم القيامة عن الله، قال تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون)وهذا يدل على أن الرؤية، إنما تكون في الآخرة لأهل الإيمان دون أهل الكفر، بل هم محجوبون عن الله، وفي قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) فسر السلف هذه الزيادة بأنها هي النظر إلى وجه الله الكريم ـ، نسأل الله أن يرزقنا النظر إلى وجهه آمين. ويجمعنا وإياكم في جنات النعيم، آمين.
(1/57)
- مناقشة المنكرين لرؤية الله يوم القيامة:
وهذا البيت ليس مذكوراً في بعض النسخ ولا البيت الذي يليه، وهذا الكلام على رؤية الله تعالى وهي مما يثبته أهل السنة لله، ويقولون: إن الله تعالى يرى في الآخرة، يراه أهل الإيمان في الموقف، ويرونه في الجنة ـ، وينكرها من ضل عن منهج أهل السنة في هذا الباب، ويقولون: إن الله تعالى يقول: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) وإذا قلنا: إن الله تعالى يرى فنكون قد خالفنا هذه الآية، ويقولون أيضاً: إن في قول الله: (لن تراني) دليلاً على أن الله تعالى لا يُرى؛ لأن الله تعالى يقول لموسى: لن تراني، وقد أجاب أهل السنة عن هذين الدليلين بقولهم: إن قول الله تعالى: (لا تدركه الأبصار) نفي للإدراك وليس نفياً للرؤية، وبين الرؤية والإدراك تفاوت، فقد تحصل الرؤية دون الإدراك، ومثلوا لذلك بقول الله تعالى: (فلما تراءى الجمعان) يعني: جمع موسى وفرعون (قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا) فهنا رأى جمعُ موسى جمعَ فرعون، وكل جمع رأى الآخر، فقال أصحاب موسى: (إنا لمدركون) يعني: سيدركنا قوم فرعون، فقال موسى: (كلا)، فموسى أنكر الإدراك مع ثبوت الرؤية. فنقول: إن الله تعالى يُرى لكنه لا يُدرك. فنثبت رؤية الله تعالى في الآخرة وننفي الإدراك، أما في قول الله تعالى: (لن تراني) فأجاب أهل السنة عن ذلك بعدة أجوبة:
1. أن لن لا تدل على النفي المؤبد: وفي ذلك يقول ابن مالك:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا ... فقوله اردد وسواه فاعضدا
فالذي يرى النفي بلن مؤبداً يقول: رد قوله، بل النفي بلن ليس مؤبداً، ويدل لذلك أن الله تعالى أخبر عن الكفار أنهم: (لن يتمنوه أبداً) يعني: الموت، وأخبر أنهم في النار يقولون: (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) فهم تمنوا الموت في الآخرة مع أن الله تعالى قال: (ولن يتمنوه أبداً). وهذا دليل على أن لن ليست مؤبدة وإنما هي مؤقتة.
(1/58)
2. وأيضاً في قول موسى: (أرني كيف أنظر إليك) دليل على أن هذه الرؤية ممكنة، وذلك لأن الله تعالى لم ينكر عليه كما أنكر على نوح، فإن نوحاً قال: (إن ابني من أهلي )، فأجابه الله: (فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) فلما سأله مالا ينبغي أنكر الله تعالى عليه, أما موسى فإن الله تعالى لم ينكر عليه، وهذا يدل على أن هذا السؤال جائز، والمسؤول ممكن.
3. وأيضاً أن الله تعالى قال: (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) وهذا دليل على أن امتناع الرؤية إنما هو لأجل الضعف البشري في هذه الدنيا، فإذا شاء الله تعالى لهذا العبد أن يرى الله تعالى كما يحصل في الآخرة فإنه يمكنه من الرؤية. هذا مجمل ما أجاب به أهل السنة، وأثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة لأهل الإيمان.
- إثبات صفة العلم لله تعالى:
يقول الناظم / في صفة العلم:
قالوا: فهل لله علم قلت: ما ... من عالم إلا بعلم مُرتُدِي
هذا البيت غير موجود في بعض نسخ المنظومة، وفيه سؤال: أيوصف الله العلم؟ فيقول: (ما من عالمٍ إلا بعلم مرتدي)، أي: متصف بالعلم.
وأهل السنة يثبتون لله صفة العلم، ويقولون: إن من صفات الله العلم، وهي صفة ذاتية دل عليها كتاب الله وسنة نبيه ^، قال تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) وقوله تعالى: (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها) والآيات والأحاديث الواردة في إثبات صفة العلم لله معروفة ومشتهرة.
- نفي المعتزلة لصفة العلم:
(1/59)
وذهب المعتزلة إلى أن الله لا يوصف بالعلم مع أنهم يثبتون لله تعالى اسم العليم، وهذا على قاعدة أنهم يثبتون الأسماء وينفون الصفات، فيقولون عليم بلا علم، ودليلهم على ما ذهبوا إليه أن إثبات الأسماء ونفي الصفات فيه نفي مشابهة الله بخلقه، فيقولون: لا نعرف في الوجود من هو موصوف بالعلم إلا المخلوق المحدث، ويرد عليهم بأن صفة العلم أثبتها الله لنفسه في كتابه، ثم إننا نقول لهم: إننا لا نعرف من هو متسم باسم العليم في الوجود إلا وهو جسم، لأنهم قالوا: لا يوجد من هو متصف بالعلم إلا وهو جسم، فإن نفوا الصفة والاسم كبعض الفلاسفة فنقول لهم: إنكم شبهتم الله ـ بالمعدومات، فالمعدومات لا تسمى ولا توصف، فيقول بعض المبتدعة: ننفي الصفة وننفي ضدها، فنقول: الله ليس بعالم ولا متصفاً بضد العلم، وينفون النفي والإثبات، فنقول: إن هذا تشبيه منكم لله بالمستحيلات.
فكل هؤلاء فروا من التشبيه ووقعوا في التشبيه والشطط.
وفي قوله: (ما من عالم إلا بعلم مرتدي) وفي بعض النسخ: (ما من عالم إلا بعلم معلم). ويقصد بهذا أن علم الإنسان إنما اكتسبه بتعليم الله تعالى له، كما قال تعالى: (علم الإنسان ما لم يعلم). وفيه تسمية الله بأنه معلم، وهذا من باب الإخبار عن الله، وقد مرَّ أن باب الإخبار أوسع من باب الصفات، لكن لا نخبر عن الله إلا بما هو حق، فالله أخبرنا أنه علم الإنسان، فإخبارنا عنه بأنه معلم جائز.
- إثبات صفة الكلام لله تعالى:
قال الناظم / في صفة الكلام:
قالوا: فيوصف أنه متكلم؟ ... قلت: السكوت نقيصة المتوحِّدِ
وفي بعض نسخ المنظومة: (قلت: السكوت نقيصة بالسيدِ).
يقول: سألوني: هل الله متكلم؟ فأجبتهم بأن وصف الله تعالى بالسكوت أي بالبكم نقيصة، وما كان من الصفات فيه نقص فإنه لا يثبت لله.
- عقيدة أهل السنة في صفة الكلام وأدلتهم:
(1/60)
أهل السنة يثبتون لله تعالى صفة الكلام ويقولون: إن الله تعالى متكلم بكلام قديم النوع حادث الآحاد، أي أن من صفاته تعالى الكلام، وأنه يتكلم متى شاء بما شاء كيف شاء ـ، وأنه يتكلم بكلام مسموع سمعه موسى، قديم النوع، أي: أنه من صفات الله تعالى التي لا تنفك عنه أنه يتكلم بما شاء، حادث الآحاد، أي: أنه متكلم بما شاء إذا شاء، فصفة الكلام صفة ذاتية فعلية، ذاتية: باعتبار تعلقها بالله ـ واتصاف الله تعالى بها، وفعلية: باعتبار آحاد الكلام، أي أن الله ـ يتكلم بما شاء إذا شاء، فإنه لما سمع الله المجادلة تجادل النبي ^، قال تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) فهو قال ذلك لما سمعها، ولم يقل هذا في الأزل قبل أن يخلق المجادلة، ولا يقول عاقل: إن الله قال ذلك في الأزل قبل أن تحلق هذه المرأة، ودليل أهل السنة على أن الكلام صفة من صفات الله سبحانه قوله تعالى: (ومن أصدق من الله حديثا). وقوله: (من أصدق من الله قيلا). وقوله: (وكلم الله موسى تكليماُ) وقوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه) وهذه جميعاً تثبت صفة الكلام لله تعالى.
ومن الأدلة على أن كلام الله كلام حقيقي بصوت مسموع ما جاء في حديث النبي ^ أنه قال: (يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيناديه بصوت فيقول: أخرج بعث النار) هذا الحديث متفق عليه، وفيه أن الله ينادي آدم بصوت، وهو كلام يليق بجلال الله تعالى، ولا يقتضي تشبيه صفة الله بصفات العباد.
وقوله: (إن السكوت نقيصة)، أي: عيب، ومراده: أن الكلام صفة كمال لله يجب أن نثبتها لله ـ ,
- أقسام الصفات من حيث دلالتها على الكمال:
والصفات على ثلاثة أقسام:
(1/61)
(1) ... صفات كمال من كل وجه أو صفات كمال مطلق لا نقص فيها بوجه من الوجوه، مثل: صفة الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والرحمة، هذه كلها صفات كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فهذه الصفات يجب أن نثبتها لله تعالى على الوجه الذي يليق به، ولا ننكر منها شيئاً؛ لأن الله تعالى له الأسماء الحسنى، ونثبت له الصفات العلى،لأننا إذا وصفنا العبد بصفة كمال ونفينا بعض هذه الصفات عن الله لجعلنا صفات بعض المخلوقين أكمل من صفات الخالق، ولا شك أن الخالق أولى بالاتصاف بصفات الكمال من المخلوق؛ لأنه هو الذي خلق هذه الصفات في المخلوق، فكونه يخلقها في المخلوق وهو عارٍ منها هذا لا يقبل في العقل.
(2) ... صفات نقص لا كمال فيها بوجه من الوجوه، مثل: الموت، والجهل، والعجز، والعمى، فهذه ممتنعة في حق الله تبارك وتعالى. والله تعالى غضب على من وصفه بالنقص كما قال تعالى في اليهود: (وقالت اليهود يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا)، فمن وصف الله بصفة نقص فإنه متعرض لغضب الله تعالى عليه.
(3) ... صفات تكون كمالاً في حال ونقصاً في حال آخر، فلا نقول: إنها جائزة في حق الله تعالى على الإطلاق، ولا نقول: إنها ممتنعة عن الله تعالى على الإطلاق، بل نفصل فيها. فنثبتها حال كونها كمالاً، وننفيها حال كونها نقصاً، مثل وصف الله بالمكر والكيد والخداع، فإن هذه الصفات تكون صفات مدح وكمال إذا كانت في مقابلة من يفعل هذه الأشياء؛ لأنها تدل على أن الله قادر على مقابلة عدوه المسيء بمثل فعله، وتأمل قول الله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله) فأثبت المكر في مقابلة مكر العباد، لكنه لم يثبته إثباتاً مطلقاً، قوله: (إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً) فأثبت الكيد في مقابلة الكيد، وقوله: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) فأثبت الخداع في مقابلة من يفعل الخداع.
(1/62)
... أما الصفة التي لا يكون فيها كمال مطلقاً، أي: لا كمال فيها بوجه من ا لوجوه، فإنها لا تثبت لله ولا يوصف بها كقوله تعالى: (وذلك بأنهم خانوا الله فأمكن منهم). فإن الله لم يقل: خانوا الله فخانهم؛ لأن الخيانة لا تكون صفة كمال مطلقاً، لا على سبيل المقابلة ولا على غير سبيل المقابلة، فعليه فلا يوصف الله بالخيانة مطلقاً.
- إطلاق السكوت في حق الله تعالى:
قوله: (السكوت نقيصة)، نقول: إن السكوت يطلق على معنيين:
(1) عدم القدرة على التكلم، أي: البكم أو الخرس.
(2) عدم التكلم مع القدرة عليه.
يقول: السكوت نقيصة بالسيد أو بالمتوحد، قوله: (السكوت) يحتمل أن يريد بالسكوت: السكوت المطلق، وهو العجز عن الكلام، ويحتمل أن يريد بالسكوت: السكوت الذي هو عدم الكلام في حال دون حال، والحقيقة أن من عرف أن أهل السنة والجماعة يثبتون لله صفة الكلام، وأن صفة الكلام صفة فعلية باعتبار آحاد الكلام، وأنهم يقولون إن الله يتكلم بما شاء إذا شاء فمعنى هذا أنه إذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم يعني: سكت، فتكون صفة السكوت ثابتة لله بعدم التكلم إذا شاء؛ لأن الكلام صفة فعلية، والله يتكلم بما شاء متى شاء، وهذا قول أهل السنة أنهم يثبتون لله صفة السكوت على المعنى الثاني، كقول الرسول ^: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها).فهذا إثبات لصفة السكوت بمعنى عدم التكلم مع القدرة عليه.
- هل الكلام صفة ذاتية أو فعلية:
(1/63)
وبعض أهل الحديث ممن يثبتون صفة الكلام، يجعلون صفة الكلام صفة ذاتية لا تتعلق بالمشيئة، فلا يقولون: إن الله يتكلم بما شاء إذا شاء، ولكن يقولون: إن من صفات الله الكلام، وهي صفة ذاتية أزلية لا تتعلق بالمشيئة، ويقولون: إن السكوت هو وصف الله بالبكم، ولا يقولون: إنها صفة فعلية يتكلم متى شاء ويسكت متى شاء، ونخشى أن يكون هذا مراد الناظم، فإن شيخ الإسلام في كتابه (شرح العقيدة الاصفهانية) ذكر أن هذا هو قول أبي يعلى، وابن عقيل، وقدمنا أن أبا يعلى هو شيخ الناظم، وأن ابن عقيل من أقران الناظم.
فنقول: إن أهل السنة يثبتون أن الله يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء، وأن الكلام والسكوت من صفات الله الفعلية، أما السكوت الذي هو بمعنى امتناع الكلام مطلقا أو العجز عن الكلام أو السكوت الذي ليس بعده كلام فهذه صفة نقص ننفيها عن الله ـ، وأما من جعل صفة الكلام صفة ذاتية لا تعلق بها بالمشيئة فهذا مخطئ، فسورة المجادلة نزلت بعد أن جادلت المرأة الرسول ^ ولذلك قالت عائشة ل: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات والله إنها لتجادل رسول الله ^ وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل الله تعالى: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها)، أما على القول بأن صفة الكلام صفة ذاتية فالمعنى أن الله تعالى قد تكلم في الأزل فقال: (قد سمع الله قول التي تجادلك) مع أن هذا مخالف أيضا لقوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) أي: كلام حديد ليس بقديم تكلم به ثم سكت فلم يتكلم بعده. وفي هذا إثبات لصفة الكلام على أنها فعلية.
- عقيدة أهل السنة في القرآن:
قال الناظم / في القرآن:
قالوا: فما القرآن؟ قلت:كلامه ... من غير ما حدث وغير تجدد
(1/64)
يقول إنه سئل عن القرآن، فأجاب أنه كلام الله من غير ما حدث وغير تجدد. يعني: أن أهل السنة يعتقدون أن القرآن كلام الله تعالى منزل منه ـ وأنه غير مخلوق. ويدل على أنه كلام الله قوله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) أي: القرآن، فسمى القرآن كلام الله، وقوله تعالى: (هذا كتاب أنزلناه) دليل على أن القرآن منزل، وقوله: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله) فهذه كلها أدلة على أن القرآن كلام الله، تكلم به ـ.
والقرآن عند أهل السنة هو من كلام الله، وكلام الله عندهم قديم النوع حادث الآحاد، فصفة الكلام لله صفة ذات، أما أفراد الكلام فإنها حادثة ارتبطت بمشيئة الله تعالى وليست أزلية، وقوله: (من غير ما حدث وغير تجدد) إن أراد بقوله: (غير حادث) غير مخلوق؛ فهذا صحيح. لأن أهل السنة يقولون: إنه منزل وليس بمخلوق، إنما تكلم به الله ـ ونزله على نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس بمخلوق كما يقول المعتزلة وكما يلزم من قول الأشاعرة، وإن أراد بقوله: (من غير ما حدث غير تجدد)، أنه لا يتكلم إذا شاء فهذا خلاف قول أهل السنة؛ لأن أهل السنة يثبتون لله الكلام كصفة ذاتية وصفة فعلية. يقول الناظم:
قالوا: الذي نتلوه؟ قلت: كلامه ... لا ريب فيه عند كل مسدد
في بعض النسخ: (قالوا فما نتلوه..).
وفي بعض النسخ: (لا ريب فيه عند كل موحد).
- الفرق بين القراءة والمقروء واللفظ والملفوظ:
(1/65)
يقول: إنهم سألوه فقالوا: هذا الذي نقرأه ما هو؟ قال: فقلت هذا هو القرآن، والمعنى أن أهل السنة يقولون: إن قراءة العبد للقرآن لا تخرجه عن كونه كلام الله، فالقرآن كلام الله سواء كتب في المصاحف، أو قرأه العباد لا يخرج بذلك عن كونه كلام الله تعالى. ولذلك يقولون: الصوت صوت القارئ والكلام كلام البارئ، فالكلام الذي يقرؤه القارئ ويقرؤه الأئمة في الصلوات ويقرؤه المتعبدون إنما هو كلام الله ـ، أما الصوت الذي نسمعه فإنه صوت العبد، وهو صفة من صفات العبد فيكون مخلوقاً، فالقرآن الذي يقرؤه ويتكلم به الإنسان هذا هو كلام الله تعالى غير المخلوق، أما نفس التلفظ وعين التلفظ وهو حركة فم الإنسان وخروج الهواء عبر حلقه وحركة لسانه، فهذا الصوت الخارج هو صوت القارئ الذي هو صفة من صفاته، وهو مخلوق؛ لأن العبد مخلوق بذاته وصفاته وأفعاله، وصوته مخلوق، وأما ما يقرؤه فهذا كلام الله كما قال تعالى: (والله خلقكم وما تعملون). ويدل لذلك قول النبي ^ لأبي بن كعب: (أمرني ربي أن اقرأ عليك القرآن، قال أبي: فسماني لك ربي؟ قال: نعم. قال: فبكى، ثم قرأ عليه النبي ^ قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) , وفي قوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) دليل أيضاً على هذا، فالله جعل القرآن آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم. الذين حفظوا القرآن، فكونهم حفظوه لم يخرج بحفظهم له عن كونه كلام الله، كذلك بتلاوتهم له لم يخرج عن كونه كلام الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام قرأ على أبي بن كعب القرآن وقال: (أمرني ربي أن أقرأ عليك القرآن)، فقرأ عليه هذا القرآن ولم تكن تلاوته لهذه الآيات مخرجة لها عن كونها كلام الله ـ.
قال الناظم /:
قالوا: فأفعال العباد؟ فقلت: ما ... من خالق غير الإله الأمجد
(1/66)
بعد أن تناول الكلام على القرآن ناسب أن يذكر أفعال المكلفين، ومذهب أهل السنة أن أفعال العباد مخلوقة لله ـ لأن الفعل لا يتم إلا بإرادة وقدرة، أي: بإرادة تامة في الفاعل، وقدرة على الفعل، والله تعالى هو الذي خلق في الإنسان الإرادة وهو الذي خلق فيه القدرة، وخالق السبب التام خالق للمسبب، ولذا فإنهم يقولون أفعال العباد مخلوقة لله وهي كسب للعباد، لأنهم فعلوها بإرادة منهم تامة، لم يجبرهم الله تعالى عليها، بل فعلوها بإرادتهم التي هي تابعة لمشيئة الله تعالى، وفعلوها بقدرتهم التي خلقها الله تعالى فيهم، ولذا كانت هذه الأفعال مخلوقة لله ـ، وهي مع ذلك كسب لهم، فبها صاروا مطيعين وبها صاروا عصاة، وبها يجازون وبها يثابون، ويدل لذلك قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الله خالق كل صانع وصنعته)، وفي هذا الكلام رد على المعتزلة القدرية الذين يقولون: إن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد وإنما العباد هم الذين يوجدون أفعالهم دون أن يخلقها الله تعالى، فأثبتوا خالقين مع الله، وهذا الذي قالوه خطأ محض، مخالف للنصوص الشرعية.
- مراتب القدر عند أهل السنة:
أهل السنة يؤمنون بأن القدر له أربع مراتب: الإيمان بهذه المراتب يتضمن ويؤدي إلى هذا الحق.
1. العلم: يؤمن العبد بأن الله علم كل شيء جملة وتفصيلاً أزلاً وأبداً.
2. الكتابة: الإيمان بأن الله تعالى كتب ذلك في اللوح المحفوظ.
3. المشيئة: الإيمان بأنه لا يكون شيء في هذا الكون إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى.
(1/67)
4. الخلق: بمعنى أن الله خلق جميع الكائنات، خلقها بذواتها وصفاتها وأفعالها، والإيمان بالمرتبة الرابعة: (الخلق) هو معنى أن أفعال العباد مخلوقة، فكل فعل للعباد من طاعة أو معصية خلقه الله فيه، لأنه خلق فيه القدرة والإرادة، وهذا الخلق لفعل العبد لا ينفي أن يكون له إرادة، ولا أنه يثاب على فعله؛ لأنه فعله بإرادة تابعة لمشيئة الله ولو شاء الإنسان أن يستقيم لاستقام كما قال تعالى: (لمن شاء منكم أن يستقيم) لكن هذه المشيئة تابعة لمشيئة الله تعالى، والإنسان إذا فعل الطاعة أو فعل المعصية فإنه لا يحس أنه قد أجبر عليها، ولا أنه مكره على فعلها.
- إطلاق (الأمجد) على الله تعالى:
وفي قوله: (ما من خالق غير الإله الأمجد).
وصف الله تعالى بأنه (الأمجد): والأمجد مشتق من صفة المجد وهي صفة ثابتة لله، وهي مأخوذة من النصوص التي سمت الله باسم المجيد، فالله تعالى سمى نفسه المجيد، وسماه به النبي ^ كما في الصلاة الإبراهيمية: (إنك حميد مجيد).وهذا يتضمن أن المجيد اسمه والمجد صفته، إلا أن تسمية الله بالأمجد والماجد لم ترد في النصوص الشرعية، ولذا فقوله: (الأمجد) هو من باب الخبر عن الله، وباب الإخبار أوسع من باب الصفات، فللعبد أن يخبر عن الله بما هو متضمن في صفاته، دون أن يتعبد لله تعالى بهذا الاسم الذي يخبر به عن الله، ومعنى المجيد أنه عظيم الشأن، عظيم الجلال، عظيم الكرم، فهو اسم جامع لأسماء، جامع لمعنى الكرم، ولمعنى عظم الشأن، ولمعنى عظم الجلال، وعظيم الكرم، فهو اسم جامع لأسماء.
- إرادة الله للخير والشر:
قال الناظم:
قالوا: فهل فعل القبيح مراده؟ ... قلت: الإرادة كلها للسيد
(1/68)
بعد أن بين أن أفعال العباد مخلوقة بين اعتراضاً لهم، وهو أنكم إذا قلتم: إن أفعال العباد مخلوقة فمعناه أن الله ـ أراد القبيح؛ لأن من أفعال العباد الحسن ومنها السيئ وإذا قلنا: إن الله خلق أفعال العباد فمعنى ذلك أنه خلق الأعمال السيئة مع خلقه للأعمال الصالحة، والله تعالى لا يحب الفساد، ولا يريد الشر والسوء!!
فهل الله يريد فعل القبيح؟ فأجابهم: بأن الإرادة كلها للسيد.
لو لم يرده لكان ذاك نقيصة ... سبحانه عن أن يُعجَّز في الردي
وفي بعض النسخ: (سبحانه عن أن يعجزه الردي).
وفي بعض النسخ: (لو لم يرده وكان كان نقيصة).
وكان الأولى هنا تامة بمعنى وُجد، لا تحتاج إلى خبر كقولك، كان المطر، أي: وجد المطر. والمعنى: لو لم يرد القبيح وحصل القبيح كان نقيصة، والنقيصة هي: العيب؛ لأن ذلك يدل على أن إرادة الله لا تتعلق بالقبيح وأنه لا يقدر عليه. وقوله: (الإرادة كلها للسيد): يعني أن كل مشيئة للعباد فإنها تابعة لمشيئة الله تعالى كما قال تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) فكل فعل يفعله العباد فإنما يفعلونه بمشيئتهم، ومشيئتهم تابعة لمشيئة الله، لذلك يقول: (الإرادة كلها للسيد)، فيكون الفعل القبيح الذي فعله العبد إنما وقع بمشيئة الله تعالى. وقوله: (سبحانه من أن يعجزه الردِي) يعني أنزه الله عن أن يكون عاجزاً عن الفعل الردي الذي هو السيئ، والله ـ لا يخلق شيئاً ولا يوجده إلا لحكمة عظيمة يعلمها من يشاء من عباده، وربما خفيت على بعض عباده، لكن لابد أن نؤمن بأن الله حكيم، أي أن أفعاله كلها على مقتضى الحكمة العظيمة.
- الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية:
وهذا الاعتراض الذي ناقشه إنما جاءت شبهته لعدم التفريق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، وأهل السنة يجعلون الإرادة الإلهية تنقسم إلى قسمين:
(1/69)
1- إرادة كونية قدرية بمعنى المشيئة، فالمعصية وقعت بإرادة الله الكونية التي هي المشيئة، إذ كل فكل شيء في هذا الكون لا يحصل ولا يكون إلا بمشيئة الله ـ أي: بإرادته الكونية، فإذا قلت إن هذه المعصية وقعت بإرادة الله فهذا الكلام صحيح؛ لأنها وقعت بإرادة الله الكونية، يعني: المشيئة.
2- إرادة دينية شرعية بمعنى المحبة، والله لا يحب الفساد ولا يحب الكفر ولا يحب المعاصي، لكنها تقع بإرادة كونية منه ـ.
أما المبتدعة الذين يجعلون الإرادة معنى واحداً وهي الإرادة الدينية دون الإرادة الكونية، فيقع عندهم هذا الإشكال، ويقولون: كيف يريد الله تعالى السوء وكيف يريد الشر والله ـ أخبرنا أنه لا يحب الفساد،والله إنما يريد من عباده أن يتوبوا وأن يؤمنوا وأن يتركوا المعاصي؟ والجواب: أن نفرق بين الإرادتين، الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فنقول: إن الله ـ أراد المعاصي كوناً ولم يردها شرعاً، ولذا فالناس منهم من تتعلق به الإرادتان ومنهم من تتعلق به إرادة واحدة، فجميع الخلق إنما هو مرتبط وواقع وخاضع لمشيئة الله تعالى ولإرادته الكونية، لكن الخاضع للإرادة الشرعية هم أهل الإيمان والطاعة، فهم خاضعون للمشيئة الكونية والإرادة الشرعية، أما الكافر والعاصي فإنه خاضع للمشيئة الكونية وليس بخاضع للإرادة الشرعية، فهذا الذي اعترض على الناظم إنما يؤمن بالإرادة الشرعية ولا يقر الإرادة الكونية، وإذا أقر بالإرادتين وفرق بينهما وعرف أن الله له إرادة كونية وإرادة شرعية وأن إرادته الكونية لا يخرج أحد عن مرادها، وأما الإرادة الشرعية فإنها ترادف المحبة وقد يحصل مرادها وقد لا يحصل انزاح عنه هذا الإشكال في باب أفعال العباد وفي باب القدر.
- تعريف الإيمان وبيان حقيقته:
قال الناظم / في حقيقة الإيمان:
قالوا فما الإيمان؟ قلت مجاوباً: ... عملٌ وتصديقً بغير تبلد
وفي نسخة: (عملاً وتصديقاً).
(1/70)
فكلمة: (عمل) ممكن أن تكون مفعولاً على أنه مقول القول وممكن أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: الإيمانُ عملٌ وتصديقٌ، فكلا النسختين صحيحة.
... يخبرنا أنه سئل عن الإيمان، فأخبر أن أهل السنة يقولون الإيمان عمل وتصديق.
- تعريفات السلف للإيمان:
والسلف يعبرون عن الإيمان بعدة تعبيرات:
منهم من يقول: الإيمان قول وعمل واعتقاد.
ومنهم من يقول: الإيمان قول وعمل.
ومنهم من يقول: الإيمان عمل وتصديق.
- الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح:
وجميع هذه ترجع إلى أن الإيمان يحصل بثلاثة أمور.
1. قول اللسان.
2. اعتقاد القلب.
3. عمل الجوارح.
فمن قال: إن الإيمان عمل وتصديق مثل الناظم فإنه يقصد بالتصديق: الاعتقاد، ويقصد بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح وعمل اللسان، فيشمل النطق، أي: اللفظ. والمقصود أن نعلم أن أهل السنة يجعلون الإيمان عبارة عما وقع في القلب وتلفظ به اللسان وعملته الجوارح، وهذه الثلاثة كلها من الإيمان، ويدل لذلك قول النبي ^: (الإيمان بضع وستون أو سبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله – هذا قول - وأدناها إماطة الأذى عن الطريق – هذا فعل – والحياء شعبة من الإيمان – والحياء عمل قلبي، هو من الإيمان -)وكذلك يدل عليه قول الله تبارك وتعالى: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) يعني صلاتكم، فسمى الله الصلاة إيماناً؛ لأن الصلاة من الأعمال، والعمل جزء من الإيمان.
يقول: (قالوا: فما الإيمان؟ قلت مجاوباً: عمل وتصديق بغير تبلد) وقوله: (بغير تبلُدِ)، يعني أني أجبته بغير تبلد، والتبلد ضد الذكاء والفطنة، أي: فأجبته بذكاء، ومن وفقه الله تعالى وصار من أهل الذكاء والفطنة فإنه لا يجهل أن الإيمان عمل وتصديق وأيضاً لفظ وهو عمل اللسان.
- خلافة أبي بكر الصديق وفضائله:
قال الناظم / في الخلافة:
قالوا: فمن بعد النبي خليفة؟ ... قلت: الموحد قبل كل موحد
حاميه في يوم العريش ومن له ... في الغار يُسعد ياله من مُسعِدِ
(1/71)
خير الصحابة والقرابة كلهم ... ذاك المؤيِّدِ قبل كل مؤيِّد
قالوا: فمن صديق أحمد؟ قلت: من ... تصديقه بين الورى لم يجحد
هذه الأبيات هي في خلافة أبي بكر الصديق ا للنبي ^، وأهل السنة أجمعوا على أن خليفة رسول الله ^ هو أبو بكر، وأنه أفضل الأمة على التحقيق، وأنه أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله ^، ولم يطعنوا في خلافته، بل أجمعوا على أحقيته للخلافة وعلى أنه أفضل الأمة في ذاته. ولا مطعن في هذه الخلافة، فيقول الناظم إنهم قالوا: أي سألوه: من الخليفة بعد الرسول ^! فأجاب: (الموحد قبل كل موحد) أي من أسلم قبل سائر الناس،فإن أول من أسلم هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج الترمذي عن أبي بكر ا أنه قال: (ألست أول من أسلم؟).
- خصائص أبي بكر الصديق عن بقية الأمة:
ثم أخذ يصف أبا بكر الصديق ا بهذه الأوصاف:
1- ... حاميه في يوم العريش: وفي بعض النسخ: (صاحبه في يوم العريش)، ويقصد بيوم العريش غزوة بدر، حيث أقيم للرسول ^ عريش يستظل تحته، فساوى النبي ^ صفوف أهل بدر وحثهم على القتال، ثم آوى إلى عريشه ومعه أبو بكر، فطفق يدعو الله تبارك وتعالى ويتوسل إليه ويستغيث به ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها) وأبو بكر عنده يقول: (يا رسول الله بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك) فكان صاحبه في هذا العريش دون بقية أصحابه.
2- ... مؤانسه في الغار: (قال: ومن له في الغار يسعد ياله من مسعدٍ) أي: لرسول الله ^ (يسعد) يعني: أنه آنسه وصاحبه فيه، ياله من مسعد للنبي ^ في الغار، وفي هذا الموضع تحققت لأبي بكر معيتان، معية الله ومعية النبي ^، كما قال تعالى: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) فكان مع النبي ^، وكان معهما الله تبارك وتعالى يكلؤهما ويحفظهما.
3- (خير الصحابة والقرابة كلهم ذاك المؤيد قبل كل مؤيد): هذا البيت لم يذكر في بعض النسخ، ولعل عدم ذكره أنسب وأليق، وذلك لأنه بعده قال: (فمن صديق أحمد).
(1/72)
على كل يقول: (خير الصحابة والقرابة كلهم) وهذا بإجماع أهل السنة أن أبا بكر هو خير الصحابة، وهو أفضل الناس بعد النبي ^، بلى أفضل الناس بعد الأنبياء. يقول: (خير الصحابة والقرابة) يعني أنه أفضل من الصحابة وأفضل من القرابة -قرابة النبي عليه الصلاة والسلام- يشير بذلك إلى ما تزعمه الرافضة من أن علياً رضي الله تعالى عنه أفضل من أبي بكر فيقول: إن أبا بكر أفضل من الصحابة والقرابة كلهم، وقرابة أبي بكر للنبي ^ ليست قريبة، لأنه يجتمع مع النبي ^ في مرة بن لؤي بن غالب بن فهر - وفهر هو قريش -. وقرابته للنبي بعيدة، وعلي أقرب منه لا شك؛ لأنه ابن عم النبي ^، لكن أبا بكر خير الصحابة. وقوله: (ذاك المؤيد قبل كل مؤيد)، أي الذي نصره الله تعالى وأيده بأن وفقه للإسلام قبل كل من وفقه الله للدين لأنه أول من أسلم من الصحابة.
4- (قالوا: فمن صديق أحمد؟ قلت: من تصديقه بين الورى لم يجحد): هذا البيت أيضاً لم يذكر في بعض النسخ، وسمى أبا بكر بأنه صديق أحمد وهذا منصوص في كتاب الله في قوله تعالى: (والذي جاء بالصدق وصدق به)
5- وقوله: (تصديقه بين الورى لم يجحد): يعني أن وصف أبي بكر بأنه الصديق أمر لم يجحده الورى، يعني: لم يجحده الناس، بل هو متواتر، قال السيوطي /: أجمعت الأمة على تسمية أبي بكر بالصديق لأنه بادر إلى تصديق الرسول ^، ولم يجحد ذلك أحد من أهل السنة. , وإنما طعن في ذلك من رفض أبا بكر وعمر، وهم الرافضة، مع أن علياً ا كان يقول وهو على المنبر: من زعم أني أفضل من أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري. وقد روى البخاري عن ابن عمر ا قال: كنا نخير في زمن رسول الله ^ بين الناس فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نترك بقية الناس لا نخير بينهم.
- خلافة عمر بن الخطاب وفضائله:
قال الناظم في عمر بن الخطاب وفضائله:
قالوا: فمن تالي أبي بكر الرضا؟ ... قلت: الإمارة في الإمام الأزهد
فاروق أحمد والمهذب بعده ... نصر الشريعة باللسان وباليد
(1/73)
سألوه: فمن أحق الناس بالخلافة ومن أفضل الناس بعد أبي بكر؟ فأجاب: (الإمارة في الإمام الأزهد) أي: عمر بن الخطاب، وقوله: (أبي بكر الرضا) يعني المرضي، لأن أبي بكر هو المرضي عنه، ووصف عمر بأنه الأزهد أي: الأكثر زهداً، والزهد عرفه العلماء بأنه: ترك ما لا ينفع في الآخرة. أما الورع: فهو ترك ما يضره في الآخرة. وقوله: (الإمارة في الإمام الأزهد) لأن أول من سمي بأمير المؤمنين هو عمر بن الخطاب ا. وقد أجمعت الأمة على إمامته وزهده وأنه أحق الناس بالخلافة بعد أبى بكر وأنه أفضل الناس بعد أبي بكر، وهذا لا خلاف فيه بين أهل السنة. يقول واصفا عمر ا:
- إطلاق لقب الفاروق على عمر:
فاروق أحمد والمهذب بعده ... نصر الشريعة باللسان وباليد)
وفي نسخة: (سند الشريعة).
وصفه بأنه فاروق أحمد، وقد سمي عمر ا بالفاروق، فقد روى أبو نعيم وابن عساكر عن ابن عباس أنه سأل عمر بن الخطاب: لأي شيء سميت الفاروق؟ (فذكر لي قصة إسلامه , أنه بعد أن أسلم خرج الناس فطافوا حول البيت وصلوا وجاهروا بصلاتهم ودينهم فسماني الرسول ^ الفاروق)، لأن الله أظهر به الإسلام وفرق به بين الحق والباطل. قال: (نصر الشريعة) لأنه أول من جهر بالإسلام، فإنه خرج بعد إسلامه فقال: أي الناس أنقل للكلام؟ قالوا: جميل. وهو رجل من أهل مكة، فذهب إليه وطرق عليه وقال له: إني أسلمت. فخرج هذا الرجل مبادراً يجول في مكة ويقول: قد صبأ عمر. فاجتمع عليه قوم من المشركين وطفق يدافعهم عن نفسه حتى تعالى النهار. قال صهيب: لما أسلم عمر أظهرنا الإسلام ودعونا إلى الله تعالى علانية، وطفنا بالبيت، وصلينا حوله، وجلسنا حلقاً. ولم يكن يفعلون ذلك قبل إسلام عمر، فأعز الله دينه بإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وقوله: (المهذب بعده)، يعني: الذي كان يهذب الناس ويعتني بإرشادهم بعد أبي بكر، وقد عرف عن عمر أنه كان يسير ومعه الدرة يضرب بها ويهذب بها من رآه على منكر أو على معصية.
(1/74)
- خلافة عثمان بن عفان وفضائله:
قال الناظم / في عثمان بن عفان وفضائله:
قالوا: فثالثهم؟ فقلت: مسارعاً ... من بايع المختار عنه باليد
صهر النبي على ابنتيه ومن حوى ... فضلين فضل تلاوة وتهجد
أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي ... في الناس ذا النورين صهر محمد
بعد أن سألوه عن أبي بكر وعمر سألوه عن ثالث هؤلاء في الفضل والخلافة قال: (فقلت: مسارعاً)، وفي نسخة: (مجاوباً) وفي نسخة: (مبادراً) والمعنى متقارب. فثالث الخلفاء بإجماع المسلمين من أهل السنة الجماعة بعد أبي بكر وعمر هو عثمان وأنه من طعن في خلافة عثمان فهو أضل من حمار أهله. وقوله: (مبادراً) أي: مسارعاً؛ لأن الأمر معلوم وهو محل إجماع لا يشك فيه العاقل ولا يتردد. وقوله: (من بايع المختار عنه باليد) وعن أنس ا قال: لما أمر رسول الله ^ ببيعة الرضوان كان عثمان رسول رسول الله إلى أهل مكة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام بعث عثمان ليفاوض أهل مكة في دخول النبي عليه الصلاة والسلام سنة الحديبية ليعتمر مع أصحابه، فلما لم يكن موجوداً قال النبي ^: إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله، فضرب بإحدى يديه على يده الأخرى، فكانت يد رسول الله ^ لعثمان خيراً من أيديهم لأنفسهم) أخرجه الترمذي، ولذا قال: (من بايع المختار عنه باليد). والمختار يعني به المصطفى عليه الصلاة والسلام، فكانت يد النبي نائبة عن يد عثمان في البيعة.
- أشهر مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه:
ثم أخذ يتحدث عن مناقب عثمان فقال:
صهر النبي على ابنتيه ومن حوى ... فضلين فصل تلاوة وتهجد
(1/75)
لأنه تزوج ابنتي النبي عليه الصلاة والسلام، فتزوج رقية، ثم توفيت فتزوج أم كلثوم. وقد كان علماء السلف يقولون: إنه لم يغلق أحد بابه على ابنتين لنبي من الأنبياء إلا عثمان، ولذا سمي ذا النورين. يقول: (من حوى فضلين فضل تلاوة وتهجد). هذا مما اشتهر عن عثمان ا فإنه اشتهر بمصحفه وتهجده. وكثرة تلاوته للقرآن، حتى أنه قتل ا شهيداً وهو يقرأ القرآن، واشتهر بقيامه لليل، كما أنه اشتهر بصفة ثالثة وهي الحياء كما قال النبي عليه الصلاة السلام: (ألا استحيي من رجل تستحيي منه الملائكة) فهذه الصفات الثلاث قد اشتهرت عن عثمان ا.
ثم يقول: (أعني ابن عفان الشهيد) فقد استشهد ا سنة (35) للهجرة في أيام التشريق وهو يتلو كتاب الله تعالى.
- خلافة علي وفضائله:
قال الناظم رحمه لله في على بن أبي طالب:
قالوا: فرابعهم؟ فقلت مبادراً: ... من حاز دونهم أخوة أحمد
زوج البتول خير من وطئ الحصى ... بعد الثلاثة والكريم المحتد
أعني أبا الحسن الإمام ومن له ... بين الأنام فضائل لم تجحد
ثم سألوه عن رابع الخلفاء الراشدين؟ فأجاب أنه علي بن أبي طالب، وقد أجمع أهل السنة على ترتيب الخلفاء في الخلافة كما وقع، أي أن أحقهم بالخلافة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، أما في الفضل فقد حصل اختلاف بين السلف هل علي أفضل أم عثمان؟ أهل الكوفة يرون أن علياً أفضل من عثمان، وجمهور السلف يرون أن عثمان أفضل، ثم استقر قول أهل السنة على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، فأفضلهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على.
(1/76)
(قالوا فرابعهم؟ فقلت مبادراً) وفي نسخة (مجاوباً)..(من حاز) يعني: حصل، (له دونهم) أي: من بين الخلفاء الأربعة، (على أخوة أحمد)، وأحمد هو النبي ^، وهو يشير بهذا إلى ما يتناقله المؤرخون ويذكرونه من أن النبي عليه الصلاة والسلام بعد هجرته إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان يقول إنه آخى بينه وبين علي بن أبي طالب، وهذا كذب وافتراء؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام آخى بين المهاجرين والأنصار، ولم يثبت أنه آخى بين مهاجرين اثنين، ولا أنه آخى أحذاً من المهاجرين. ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ونقله عنه الذهبي في المنتقى من منهاج الاعتدال.
- إطلاق البتول على فاطمة:
ثم قال واصفاً لعلي ا:
زوج البتول وخير من وطئ الحصى ... بعد الثلاثة والكريم المحتد
(زوج البتول) البتول: لقب يطلق على فاطمة بنت النبي عليه الصلاة والسلام ل, وسميت البتول؛ لأن البتول يطلق على أحد أمور ثلاثة كلها اجتمعت فيها:
1. من انقطع عن غيره لعلوه وفضله ومكانته، ولا شك أن فاطمة كانت كذلك، وهي خير هذه الأمة نسباً، فهي ابنة نبينا عليه الصلاة والسلام.
2. يطلق على من تبتل لعبادة الله تعالى: وقد كانت كذلك ل.
3. يطلق على من فاق الناس في جماله وحسنه: وكذلك هي، وكيف لا تكون كذلك؟ وهي ابنة رسول الله ^.
وقوله: (خير من وطئ الحصى) يعني خير من داس على الأرض بعد هؤلاء الخلفاء، وبعد النبي عليه الصلاة والسلام الذي وصفه بأنه: (كريم المحتد)، المحتد: الأصل، أي كريم الأصل، وهو النبي محمد عليه الصلاة والسلام فهو كريم الأصل، وأوسط الناس نسباً.
(1/77)
قال: (أعني أبا الحسن الإمام)، وهي كنية على ا. وقال: (ومن له بين الأنام فضائل لم تجحد). حتى قال الإمام أحمد: لم يرد في أحد من الصحابة ما ورد في على من الفضائل. فإنه قد جاءت النصوص وتكاثرت في فضائله ا، وصار الناس فيه بين مبغض يكفره كما تفعل الخوارج، وبين محب يغلو فيه ويؤلهه، أو يعطيه من حقوق الربوبية والألوهية كما غلت الرافضة ومن نحا نحوهم.
- موقف أهل السنة من معاوية وسائر الصحابة:
ثم قال الناظم / مبيناً موقف السلف من معاوية بن أبي سفيان وبقية الصحابة رضي الله تعالى عنهم:
ولإبن هند في الفؤاد محبة ... ومودة فليرغمن مفندي
ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ ... ـوحي المنزل ذو التقى والسؤدد
بعد أن ذكر الخلفاء الأربعة وفضائلهم وذكر مناقبهم وترتيبهم في الفضل والخلافة، شرع في الكلام على صحابيين وهما معاوية بن أبي سفيان، والعباس عم النبي عليه الصلاة والسلام.
وإنما ذكر معاوية للرد على الرافضة الذين يبغضونه، ويعتقدون فيه ما ليس فيه ا. وأهل السنة يعتقدون في الصحابة وجوب المحبة وحرمة ذكر المساوئ، وأنه يجب أن تذكر محاسنهم , وأن يدعى لهم؛ لما لهم من السوابق والفضائل. وقد قال النبي ^: (لا تسبوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)يعني ما بلغ المد مما أنفق هؤلاء الصحابة ولا نصف المد، وهذا لما لهم من السابقة، ولما لهم من فضيلة الصحبة، وقد قال الله ـ (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا) هكذا يكون حال أهل الإيمان، يدعون لمن سبقهم إلى الإيمان، ويسألون الله تعالى ألا يكون في قلوبهم غل، وهذا يكون بالكف عن مساوئ الصحابة وذكر محاسنهم
- الموقف من أخطاء الصحابة رضي الله عنهم:
(1/78)
ولابد أن يعرف المسلم أن ما نقل عن بعضهم من الأمور التي فعلوها أنهم فيها مجتهدون فهم إما أن يكونوا قد أصابوا فحصلوا أجرين وإما قد أخطأوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لأنهم مجتهدون، ولهم أجر على هذا الاجتهاد.
وما وقعوا فيه من المعاصي فإنها تجوز عليهم؛ لأنهم من جملة البشر، والبشر تجوز عليهم الصغائر والكبائر، وتجوز عليهم الذنوب، لكن لابد أن تعرف أنهم:
- إما أن يكون خطؤهم مغفوراً؛ لأن لهم من السوابق والفضائل والصحبة ما ليس لغيرهم.
- ولأن لهم من الأعمال الصالحة ما يكفر هذه المعاصي
- أو لأنهم تابوا عنها.
- ثم بعد ذلك كله نعرف أنهم أحق الناس بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام فهم أصحابه ي.
يقول الناظم /: (ولإبن هند) أي، معاوية، فإنه ابن هند، وأبوه أبو سفيان، وقوله: (في الفؤاد محبة) أي إني أحبه وأوده. وقوله: (فليرغمن)، أي يصيبه الرغام، وهو: التراب، والمعنى أنه يدعو عليه أن يكون ذليلاً يتمرغ في التراب. (مفندي) أي المكذب، والفند هو التكذيب.
والمعنى: من كذبني على أن معاوية مستحق للمحبة لأنه من جملة الصحابة فأنا أدعو عليه أن يصيبه الذل والرغام.
- فضل معاوية رضي الله عنه:
وقوله:
ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ ... ـوحي المنزل ذو التقى والسؤدد
يصف معاوية بأنه (أمين مجتبى) قد اختاره النبي ^ لكتابة الوحي، ومعلوم أنه ليس كل الصحابة كتاباً للنبي عليه الصلاة والسلام وإنما اختار جملة من الصحابة ومن ضمنهم معاوية، واختيار النبي عليه الصلاة والسلام له دليل على فضله، وقوله: (ذو التقى والسؤدد) أي أنه صاحب تقى، وأما سؤدده فقد قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا ملكت فأحسن، إذا ملكت فأحسن) وهذه نبوءة من النبي عليه الصلاة والسلام بأنه سيملك ويحكم الناس.
- فضل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:
ثم بعد ذلك ذكر العباس بن عبد المطلب ا عم النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
(1/79)
ولعم سيدنا النبي مناقب ... لو عددت لم تنحصر بتعدد
أعني أبا الفضل الذي استسقى به ... عمر أوان الجدب بين الشهُّد
(أ عني أبا الفضل): أي العباس؛ لأنه أبو الفضل ابن عباس، وهو صحابي معروف، فيخبر أن له مناقب لا تنحصر بتعدادها، ومنها: أن عمر استسقى به (أوان الجدب) يعني: زمن الجدب، وهو: عدم المطر. قوله:(بين الشهد) أي: الناس الشاهدون الذين حضروا هذا الموقف.وقد روى البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب لما استسقى قال: اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا عليه الصلاة والسلام، وإننا الآن نستسقي بعم نبينا، قم يا عباس فأدع الله تعالى، فقام العباس ودعا الله تعالى أن يسقيهم. فمراده أن عمر استسقى به أي أن عمر توسل إلى الله تعالى بدعاء العباس، والتوسل إلى الله تعالى منه ما يكون توسلاً شرعياً جائزاً ومنه التوسل المحرم الباطل.
فالتوسل الجائز مثل أن يتوسل الإنسان ويتقرب إلى الله بدعاء الرجل الصالح له، كما وقع من عمر أنه طلب من العباس أن يدعو الله.
وأما التوسل الباطل فهو أن يتوسل الإنسان إلى الله بذوات المخلوقين فيقول: اللهم إني أسألك بفلان أو التوسل إلى الله بحق المخلوقين أو جاههم، مثل أن يقول: اللهم إني أسألك بجاه محمد.
- ذكر الخلافة العباسية:
هذان البيتان في عم النبي عليه الصلاة والسلام، والثلاثة الأبيات التي بعدها أبيات لم تذكر في أكثر النسخ، والظاهر عليها أنها مدخلة في المنظومة، فإنها مدح وثناء للدولة العباسية وحكامها، وهذا لا يتفق مع ما أراده الناظم من جمع مسائل الإعتقاد؛ فإن الثناء على أمة أو طائفة ممن حكمت أمة الإسلام ليس من جملة الاعتقادات التي يذكرها العلماء على عاداتهم في كتبهم ومصنفاتهم، وهذا يقوي أن تكون هذه الأبيات مدخلة في المنظومة، ومع ذلك فإننا نشرح ألفاظها يقول الناظم /:
ذاك الهمام أبو الخلائف كلهم ... نسقاً إلى المستظهر بن المقتدي
صلى عليه الله ما هبت صبا ... وعلى بنيه الراكعين السجد
(1/80)
وأدام دولتهم علينا سرمداً ... ما حن في الأسحار كل مغرد
يقول: (ذاك الهمام) أي: صاحب الهمة العظيمة. (أبو الخلائف كلهم): إذ ينتسب إليه خلفاء الدولة العباسية. (نسقاً إلى المستظهر بن المقتدي) أي: جميعهم إلى المستظهر بن المقتدي، وهو من خلفاء الدولة العباسية.(صلى عليه الله) أي العباس. (ما هبت صبا) الصبا نوع من الريح. (وعلى بنيه الراكعين السجد) أي وعلى بنيه صلى الله، المتصفون منهم بالركوع والسجود.
وفي قوله: (صلى عليه الله) صلاة منه على غير الأنبياء، ومعلوم أن الأنبياء يصلى عليهم، أما غير الأنبياء فإنه تجوز الصلاة عليهم كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (اللهم صل على آل أبي أوفي، اللهم صل على آل أبي أوفي) لكن تخصيصهم بالصلاة ليس جيداً، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل إلا على طوائف مخصوصة، صلى على آل أبي أوفي وهكذا، أما تخصيصهم بالصلاة فإن ذلك خلاف كتاب، الله ففي القرآن الترضي عن الصحابة، كما قال تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه)، ففي هذا الترضي عليهم وليس فيه الصلاة عليهم، ولو أبدل الصلاة بالترضي لكان أولى، وإن كانت الصلاة بغير تخصيص لأحد منهم، وإن كان ذلك جائزا ولكن استعمال اللفظ الذي جاء في القرآن أولى وأحرى.. قوله: (وأدام دولتهم علينا سرمدا) يعني: دائماً لا تنقطع. قوله: (ما حن في الأسحار صوت مغرد) يعني ما دمنا نسمع صوت الطيور، والمعنى: أنه يسأل الله أن تبقى هذه الدولة إلى قيام الساعة، وقد سقطت هذه الدولة في غزو المغول سنة 656هـ وانقضت هذه الخلافة، وإن كان حاول إعادتها بعضهم في مصر فبقي منهم بقية سنوات معدودة ثم تلاشت الخلافة العباسية وعقبها ما عقبها من دول، وهذه الدولة العباسية لم تكن مستحوذة على كامل بلاد الإسلام، فقد انفصلت الأندلس عنها وحكمها بقايا من بني أمية
- المفاضلة بين الدولة الأموية والدولة العباسية:
(1/81)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: الخلافة الأموية أفضل بالجملة من الخلافة العباسية، وذلك:
(1) لأن الدولة الأموية كانت في القرون المفضلة، وكان فيهم الصحابة، وأما الدولة العباسية فلم تكن في القرون المفضلة، ولم يكن في زمانهم أحد من الصحابة.
(2) الخلفاء في الدولة الأموية كانوا هم غالبا من يقوم بإمامة الناس في الصلاة، وكان فيهم الفقهاء، وأما في عهد الدولة العباسية فقد انقضى فيهم هذا الأمر.
(3) كما أنه ظهرت في وقت الدولة العباسية كثير من البدع التي كفر أصحابها، كالجهمية، والجبر، والإرجاء، وغير ذلك وانتشرت، وألزم بعض خلفائهم الناس بهذا القول.
- خاتمة المنظومة:
يقول الناظم /:
فعليهم وعلى الصحابة كلهم ... صلوات ربهم تروح وتغتدي
يقول: عليهم صلوات ربي تذهب وتجئ، والمراد أنها صلاة عليهم مستمرة دائماً لا تنقطع، وصلاته عليهم ترجمه وترضيه، فإن الصلاة تطلق على الترحم كما قال تعالى: (ولا تصل على أحدٍ مات منهم) وكقوله: (صل عليهم إن صلاتك سكن لهم)، فالصلاة تطلق على الدعاء، بمعنى أنه يدعو لهم، وقلنا: الأولى بالصحابة الترضي عليهم، لما جاء في الكتاب الله، ولأنه ما درج عليه أهل السنة، وأما الصلاة فإنها تجوز أن كانت على غير سبيل التخصيص لأحدٍ منهم معين.
قال الناظم /:
وإني لأرجو أن أفوز بحبهم ... وبما اعتقدت من الشريعة في غد
يقول: إني أرجو أن أفوز يوم القيامة بأمرين:
1- ما اعتقدته من عقيدة سلفية.
2- حبي لهؤلاء الصحابة.
والمعنى: أن حبه لهؤلاء الصحابة عمل صالح يرجو أن يثيبه الله عليه، ولا شك أن من الأعمال الصالحة محبة الصحابة ي، ومحبة المؤمنين وموالاتهم، بل قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله).
قالوا: أبان الكلوذاني الهدى ... قلت: الذي فوق السماء مؤيدي
أي: شرحت اعتقادك وأبنت لنا الهدى، وأبنت لنا الرشاد، وهادوا إلى قوله واقتنعوا بمذهبه وما يدعوهم إليه.
(1/82)
وقوله: (قلت: الذي فوق السماء مؤيدي):
المراد أن الله تعالى هو الذي نصرني، وهو الذي دلني إلى هذا الهدى، فكان بذلك مرشداً لي وهادياً لي وموفقاً وناصراً، وفي قوله: (إن الذي فوق السماء مؤيدي) يقصد أن الله هو الذي أيده ونصره ,وقد جاء في النصوص أن الله تعالى من صفاته أنه العلي -أنه فوق السماء- ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لا تغضب امرأة زوجها إلا كان الذي فوق السماء غاضب عليها حتى يرضى عنها زوجها) وقد قدمنا النصوص الدالة على علو الله ـ، وأن الله في السماء بمعنى على السماء. والمؤيد: هو الناصر الموفق.
وبذلك ينتهي هذا البيت الأخير من هذه المنظومة، وفيه رجوع هؤلاء إلى الرشاد، وإلى منهج الصواب، وبهذا نكون قد أكملنا ما يستحق من هذه المنظومة الشرح والإيضاح، وما يستحق منها التعليق والتنبيه على بعض ما تضمنت.
والحمد لله أولاً وآخراً
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
والحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
فهرس المحتويات
تقدمة وتمهيد ... 2
- اسم الناظم: ... 2
- منزلته بين العلماء: ... 3
- مولده ومشايخه: ... 3
- مؤلفاته: ... 3
- التعريف بالمنظومة الدالية ومميزاتها: ... 3
أبيات دالية أبي الخطاب الكلوذاني ... 3
شرح دالية أبي الخطاب الكلوذاني ... 3
- شرح مقدمة المنظومة: ... 3
- النجاة يوم القيامة بالأخذ بما في هذه المنظومة: ... 3
- أقسام الهداية: ... 3
- هذه المنظومة موافقة لعقيدة الإمام أحمد: ... 3
- عقيدة الإمام أحمد هي عقيدة سائل الأئمة: ... 3
- فضائل الإمام أحمد: ... 3
- أقسام العلم: ... 3
- أقسام الرأي: ... 3
- عدم التقليد في أمر العقيدة: ... 3
- حكم التقليد في العقيدة: ... 3
- معنى التقليد في مسائل العقيدة: ... 3
- صحة إيمان المقلد: ... 3
- أقسام المسلمين بالنسبة لدخولهم في الإسلام: ... 3
- المنظومة جواب لأسئلة الأفاضل: ... 3
- كيف يعرف المكلف ربه؟: ... 3
- أقسام النظر العقلي: ... 3
- إثبات الكمال لله: ... 3
(1/83)
- أقسام التوحيد عند أهل السنة والجماعة: ... 3
- توحيد الألوهية أعظم أقسام التوحيد: ... 3
- أقسام دلالات الألفاظ: ... 3
- نفي التشبيه وإثبات الصفات لله: ... 3
- الفرق بين التشبيه والتمثيل: ... 3
- الفرق بين التشبيه والتمثيل وبين التكييف: ... 3
- نفي التشبيه من أصول أهل السنة والجماعة: ... 3
- الخلاف في الكاف في قوله تعالى: (ليس كمثله شيء): ... 3
- أقسام التشبيه: ... 3
- قواعد في الأسماء والصفات: ... 3
- إثبات الصفات لله: ... 3
- الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات: ... 3
- إثبات القدر المشترك بين الخالق والمخلوق: ... 3
- أقسام الموجودات: ... 3
- أقسام الأسماء باعتبار لفظها ومعناها: ... 3
- إثبات الصفات لله تعالى: ... 3
- الإخبار عن الله بالسرمدية: ... 3
- الجمع بين النفي والإثبات في باب الصفات: ... 3
- أقسام صفات الله عز وجل: ... 3
- أركان الإيمان بالأسماء والصفات: ... 3
- صفات الله تعالى غير مخلوقة: ... 3
- إطلاق القدم على ذات الله وصفاته: ... 3
- تجدد الصفات الفعلية وحدوثها: ... 3
- الفرق بين الأسماء والصفات: ... 3
- من الأحكام المتعلقة بالصفات: ... 3
- التماثل والتباين في صفات الله: ... 3
- نفي التجسيم عن الله تعالى: ... 3
- معنى الإلحاد: ... 3
- أقسام الإلحاد: ... 3
- إثبات الصفات لا يستلزم التجسيم: ... 3
- إثبات العلو لله تعالى: ... 3
- أقسام علو الله على خلقه: ... 3
- الأدلة على إثبات العلو لله: ... 3
- عدم إحاطة شيء بالله تبارك وتعالى: ... 3
- إثبات صفة الاستواء على العرش لله تعالى: ... 3
- معنى العرش: ... 3
- معنى استواء الله على عرشه: ... 3
- الرد على من فَسَّر الاستواء بالاستيلاء: ... 3
- جهل البشر بكيفية استواء الله على عرشه: ... 3
- طرق معرفة الكيفية: ... 3
- هل صفات الله من المحكم أم من المتشابه: ... 3
- نفي معاني الصفات قول المفوضة: ... 3
- إثبات صفة النزول لله تعالى: ... 3
- العمل بخبر الآحاد في العقائد: ... 3
- كيفية نزول الله مجهولة: ... 3
- إثبات رؤية الله في الآخرة: ... 3
- مناقشة المنكرين لرؤية الله يوم القيامة: ... 3
(1/84)
- إثبات صفة العلم لله تعالى: ... 3
- نفي المعتزلة لصفة العلم: ... 3
- إثبات صفة الكلام لله تعالى: ... 3
- عقيدة أهل السنة في صفة الكلام وأدلتهم: ... 3
- أقسام الصفات من حيث دلالتها على الكمال: ... 3
- إطلاق السكوت في حق الله تعالى: ... 3
- هل الكلام صفة ذاتية أو فعلية: ... 3
- عقيدة أهل السنة في القرآن: ... 3
- الفرق بين القراءة والمقروء واللفظ والملفوظ: ... 3
- مراتب القدر عند أهل السنة: ... 3
- إطلاق (الأمجد) على الله تعالى: ... 3
- إرادة الله للخير والشر: ... 3
- الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية: ... 3
- تعريف الإيمان وبيان حقيقته: ... 3
- تعريفات السلف للإيمان: ... 3
- الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح: ... 3
- خلافة أبي بكر الصديق وفضائله: ... 3
- خصائص أبي بكر الصديق عن بقية الأمة: ... 3
- خلافة عمر بن الخطاب وفضائله: ... 3
- إطلاق لقب الفاروق على عمر: ... 3
- خلافة عثمان بن عفان وفضائله: ... 3
- أشهر مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه: ... 3
- خلافة علي وفضائله: ... 3
- إطلاق البتول على فاطمة: ... 3
- موقف أهل السنة من معاوية وسائر الصحابة: ... 3
- الموقف من أخطاء الصحابة رضي الله عنهم: ... 3
- فضل معاوية رضي الله عنه: ... 3
- فضل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: ... 3
- ذكر الخلافة العباسية: ... 3
- المفاضلة بين الدولة الأموية والدولة العباسية: ... 3
- خاتمة المنظومة: ... 3
فهرس المحتويات ... 3
(1/85)