.
لأبى إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبى
المتوفى سنة 790 هـ
تهذيب وجمع وترتيب
مصطفى بن محمد بن مصطفى
تحقيق
خالد بن عبد الكريم
1424 هـ - 2003 م
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
{ يَا أيُّها الذِينَ آمنُوا اتقُوا الله حَقَّ تُقاتِه ولاتَموتُنّ إلا وأنتُم مُسلمونَ } ، { يَا أيُّها النَّاس اتقُوا ربَّكُم الذِي خَلقكُم مِن نَفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ مِنها زوجَها وبَثَّ مِنهما رِجَالاً كَثِيراً ونِساءً واتقُوا الله الذِي تَسَاءَلُونَ بهِ والأرحَامَ إنَّ الله كانَ عَليكُم رَقِيباً } ، { يَا أيُّها الذِينَ آمنُوا اتقُوا الله وقُولُوا قَولاً سَدِيداً يُصلِح لَكُم أَعمَالَكُم ويَغفِر لَكُم ذُنوبَكم وَمن يُطِع الله ورسُولَه فَقَد فَازَ فَوزاً عَظِيماً } .
أما بعد ... فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثه بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.
فإن لكتاب الاعتصام لأبي إسحاق الشاطبي مكانة رفيعة لدى طالبى العلم في هذا الزمان وفي كل زمان، إذْ لا يتصور وجود طالب علم –على نهج السلف الصالح رضوان الله عليهم- لا يعرف البدع معرفة الحاذر المُحذِّر، فمعرفتها ضرورية من باب معرفة الشر لتجنبه، والكفر لتوقيه، ونواقض الشهادتين للحذر من الوقوع فيها، وقديماً تعلمنا من الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعن أبيه، أنه كان يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشر -بينما كان الناس يسألونه عن الخير- خشية أن يدركه (والحديث في الصحيح)(1).
__________
(1) ... يأتى تخريجه ص85.(1/1)
وفي زماننا هذا تشتد الحاجة إلى معرفة البدع، ومعرفة معناها وحَدِّها وحقيقتها وأنواعها وحكمها، ومعرفة موقفنا تجاه البدع والمبتدعة وهل هم على مرتبة ومعاملة واحدة؟، وكل ذلك وأكثر تجده في هذا السِفر الجليل، الذي ما إن تُذكر البدع حتى يكونَ الاعتصام أول ما يلوح للأذهان، وذلك لأنه مؤلَّف خاص بهذا الموضوع، وغيره ذكر البدع في ثنايا كتبه، ولم يخصها بمؤلَّف مفرد إلا النادر القليل.
وإنما قلت في زماننا تشتد الحاجة، لأننا في أزمنة تراكمت عليها البدع وتزاحمت، ظلمات بعضها فوق بعض، هرم عليها الكبير وشبَّ عليها الصغير، إذا تُرك منها شيء قيل تركت السنة!! بل أكثر من ذلك، أصبح العاملون بالسنة الحقة المتتبعون لها أصبحوا في نظر هؤلاء أهل بدع وخروج عن الدين، وأصبحت البدع مع كثرتها وفشوها دينًا ثانيًا لم ينزل الله به من سلطان إلا اتباع الظن وما تهوى الأنفس، أصبحت البدع تضاهي الدين القويم والشرع الحكيم والصراط المستقيم، فإلى الله المشتكى وإليه المنتهى وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.(1/2)
ولتعرف –أخي القاريء- مدى جرم المبتدع، وعظم إثمه، فاقرأ قول الله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (1)، وقوله تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ } (2)، وقال عز وجلّ: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْر ِهُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (3)، فالمبتدع يزعم أن الدين ناقص غير كامل، فهو بزعمه يبتدع ليسد هذا الخلل، وكذبَ فالخلل ليس في الدين بل في سمعه وقلبه وبصره كما أخبر خالقه وخالقنا، فإن الله قد أكمل الدين ورضيه لنا وأتم النعمة، وبلَّغه الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - ولم يكتم منه حرفاً، ونقله لنا أئمة المسلمين جيل بعد جيل. وهؤلاء الصحابة الكرام لو كان فيما ابتدعه أهل البدع خيراً لكانوا هم أحرى بالسبق إليه. وأيضاً فالمبتدع يتبع هواه وما تمليه عليه نفسه القاصرة الجاهلة لما يصلحها، وهو لا يتبع هُدى الله الذي شرعه لعباده وأرسل به رسوله وأمره بإبلاغه، فهوى المبتدع هو المُشرِّع له من دون الله { اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } فوصفه الله تعالى بأنه ليس هناك من هو أضل منه { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ } .
__________
(1) ... المائدة: 3.
(2) ... الجاثية: 23.
(3) ... القصص: 50.(1/3)
كما أن المبتدع مشاقّ للشريعة، محادٌّ لله ورسوله، أضف إلى ما تقدَّم أن المبتدع أسوأ حالاً من العاصي، فإن العاصي يعلم أنه على معصية، وأنه متعدٍ مقصِّر، فيُوشك أن يتوب ويقلِع عن معصيته، وأما صاحب البدعة فهو يظن أنه على حق وعلى خير ورشاد، فلا تخطر التوبة بباله، ويشير إلى ذلك حديث: "إنَّ الله احتجر التوبة عن كل صاحب بدعة" (صحيح: الصحيحة 1620)، وسيأتي معناه مفصَّلاً عند الشاطبي.
وكل صفة من الصفات السابقة كفيلة بأن تردي صاحبها، فكيف الحال وهي كلها مجتمعة في المبتدع، نسأل الله السلامة ونعوذ به من الخذلان.
هذا، وإن صلتي بكتاب الاعتصام بدأت منذ زمن بعيد منذ بدايات طلب العلم، ثم قمت بتدريسه في مساجد حلوان منذ ما يزيد عن عقد من الزمان، ثم لما شرعنا في عقد الدورة العلمية رأيت أنه من الضروري دراسة هذا المصنَّف الهام في المرحلة المتقدِّمة من الدورة، وقد كنت جمعت عليه بعض الشروح وقتما درَّسته في المرة الأولى، ثم زدت في هذه المرة عليه شروحاً أخرى ونفائس من كتب العلماء وذلك لتوضيح معنى أو ترسيخ مفهوم في أذهان الطلاب، أو لضحد شبهة أو لإزالة لبس وكشف غموض، أو حتى للتنبيه على خطأ وقع فيه المصنِّف رحمه الله.
ثم طلب مني الأخوة أن أهذِّب أصل الكتاب، وأنتقي منه أهم ما فيه، وأن أختصره دونما التفريط في نفائسه، وعلَّلوا ذلك بتقريبه وتيسيره على طلبة العلم كافة وعلى من يريد مدارسة الكتاب، وحتى نزيل حاجز الرهبة من قراءة هذا الكتاب من نفوس الطلبة الذين يظنون صعوبة موضوعه أو ألفاظه، فأجبت إلى ذلك متوكلاً على الله المعين ومستعيناً به وسائلاً إياه التيسير والتوفيق والسداد.
وقد جعلت متن الكتاب بعد الاختصار والتهذيب أعلى الصفحة مفصولاً عن الشرح بخط ليتميَّز كلٌّ عن الآخر.(1/4)
أسأل الله العظيم أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبَّلَه مني، وأن يجعل له القَبول بين الناس، { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (1).
... وكتبه
... مصطفى بن محمد بن مصطفى
... حلوان – القاهرة
... ذو القعدة 1423 هـ، فبراير 2003 م
__________
(1) ... البقرة: 127.(1/5)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن هذا الدين يقوم على أصلين اثنين لا ثالث لهما:
1. ... عبادة الله جل وعلا لا شريك له: قال تعالى: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوها اشهدوا بأنَّا مسلمون } (1).
2. عبادة الله جل وعلا بما شرع، لا نعبده بالأهواء والبدع.
فهما توحيدان: توحيد المعبود جلا وعلا – وتوحيد المتبوع صلوات الله وسلامه عليه.
فالعقول قاصرة على أن تعرف مراد الله وكيفية عبادته وما يحبه وما يرضاه، لذا أرسل إلينا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليبين لنا ما يحبه وما لا يحبه وبين ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
فقال - صلى الله عليه وسلم - : (صلوا كما رأيتمونى أصلى)(2)، (خذوا عنى مناسككم)(3)، وقال تعالى: { لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } (4).
وكما تقول عائشة رضى الله عنها "كان خلقه القرآن"(5).
فنحن مأمورون باتباع النبى - صلى الله عليه وسلم - اتباعًا مطلقًا، لذا كان الأصل فى العبادات المنع إلا لدليل لأننا لا ندرى ولا نعرف كيف نعبد الله جل وعلا، والأصل فى العادات الحل إلا لدليل يحرم.
وقد تواترت النصوص الشرعية وآثار السلف على هذا المعنى "تجريد متابعة النبى - صلى الله عليه وسلم - "، لأن النصوص الشرعية عن طريقه، وهو المبين لها قولاً وعملاً.
نصوص الكتاب:
? قال تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } (6).
__________
(1) ... آل عمران:64.
(2) ... رواه البخارى (631) من حديث مالك بن الحويرث، وأصله عند مسلم (674) وابن خزيمة (397) وابن حبان (2131).
(3) ... رواه مسلم (1297) وابن خزيمة (2877) وأبو داود (1970) والنسائى والبيهقى (2/425).
(4) ... الأحزاب : 21.
(5) ... رواه مسلم (746) وأبو داود وأحمد من حديث عائشة.
(6) ... الحشر: 7.(1/1)
? وقال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } (1).
? وقال تعالى: { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } (2).
? وقال تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } (3).
? وقال تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم } (4).
? وقال تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } (5).
? وقال تعالى: { يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شىءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا } (6).
نصوص السنة:
1. روى البخارى عن أبى هريرة مرفوعاً: (كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل ومن يأب يا رسول الله ؟! قال: من أطاعنى دخل الجنة ومن عصانى فقد أبى)(7).
__________
(1) ... آل عمران: 31.
(2) ... آل عمران: 32.
(3) ... النساء: 80.
(4) ... النور: 63.
(5) ... الأحزاب: .
(6) ... النساء: 59.
(7) ... رواه البخارى (7280) فى الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/2)
2. روى البخارى ومسلم عن ابن عباس مرفوعاً قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموعظة فقال: (يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذاتَ الشمال فأقول يا رب أصحابى، فيُقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنتَ أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شىء شهيدً } إلى قوله: (العزيز الحكيم) فيقال لى: (إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)(1).
3. وفى المسند والترمذى والحاكم عن النواس بن سمعان مرفوعاً. (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتى الصراط سُوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتعوَّجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تَفْتَحهُ تَلجْهُ، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى، والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعى على رأس الصراط كتاب الله، والداعى من فوق واعظ الله فى قلب كل مسلم)(2).
__________
(1) ... رواه البخارى (4625)، ومسلم (2860).
(2) ... رواه الحاكم (1/144) واللفظ له والترمذى (2859) وأحمد (4/183): صحيح.(1/3)
4. وفى المسند وابن ماجة وغيرهما عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: (كنا جلوساً عند النبى - صلى الله عليه وسلم - فخط خطاً هكذا أمامه فقال: (هذا سبيل الله عز وجل) وخطين عن يمينه وخطين عن شماله. قال: (هذه سبل الشيطان) ثم وضع يده فى الخط الأوسط ثم تلا هذه الآية: { وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } (1))(2).
5. وفى المسند وغيره عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنى مررت بأخ يهودى من قريظة فكتب لى جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال عبد الله بن ثابت: قلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، قال: فَسُرَّى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - وقال (والذى نفسى بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتمونى لضللتم، إنكم حظى من الأمم وأنا حظكم من النبيين)(3).
__________
(1) ... الأنعام: 153.
(2) ... رواه الدارمى (1/67) وابن ماجة (11: صحيح)، وابن حبان (1/180) والحاكم (2/348). انظر تصحيحه ص81.
(3) ... هذا الحديث رواه عبد الرزاق فى المصنف (6/113) وأحمد (3/471 – ح 15864) وابن عبد البر فى جامع بيان العلم وفضله (1495) وفى سنده جابر الجعفى رمى بالكذب.
ورواه عبد الرزاق من طريق آخر، ورواه أبو يعلى من طريق خالد بن عرفطة (62 زوائده) كنت جالساً عند عمر... ولكن فى سنده ضعيف.
ورواه أحمد (3/373) والدارمى (1/115) وابن أبى عاصم (50) عن جابر بن عبد الله أن عمر ... وفى سنده مجالد، وهو ضعيف.
ورواه الطبرانى فى الكبير عن أبى الدرداء: جاء عمر... والحديث حسنه الألبانى فى الإرواء (1589) بطرقه وانظر مجمع الزوائد (1/173 – 182).(1/4)
6. فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها مرفوعاً (من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(1).
7. روى مسلم والنسائى وابن ماجة عن جابر رضى الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: (صَبَّحَكُم مَسَّاكُمْ) ويقول: (بعثت أنا والساعة كهاتين) ويقرن بين أصبعيه السبَّابة والوسطى ثم يقول: (أما بعد .. فإن خير الأمور كتاب الله وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)(2).
8. روى أصحاب السنن الأربعة عن العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذَرَفَتْ منها العيون، ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله: إن هذه لموعظة مودع: فماذا تعهد إلينا؟ قال: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإنْ عبدًا حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد)(3).
وكان الصحابة رضى الله عنهم ملتزمين بما دلت عليه النصوص:
? يقول أبو بكر الصديق رضى الله عنه: "لست تاركاً شيئاً كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به لأنى أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ"(4).
__________
(1) ... رواه البخارى (2697) ومسلم (1718) وأحمد (6/73) وأبو داود (4606) وابن ماجة (14).
(2) ... رواه مسلم (867) وابن ماجة (45) وابن خزيمة (1785).
(3) ... رواه الترمذى (2676) وابن ماجة وهذا لفظه (43) والحاكم (1/175) وابن حبان (1/179) وأبو داود (4607) ولم يروه النسائى : الإرواء (2455) صحيح.
(4) ... رواه البخارى (2926) ورواه مسلم (1759) فى قصة طلب فاطمة ميراث النبى - صلى الله عليه وسلم - من أبى بكر الصديق رضى الله عنها وعنه.(1/5)
? عن ابن مسعود رضى الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق"(1).
? عن حذيفة رضى الله عنه: "كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تَعبَّدوها".
? عن ابن مسعود رضى الله عنه: "الاقتصاد فى السنة خير من الاجتهاد فى البدعة"(2).
? عن ابن عباس رضى الله عنهما: "النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة، عبادة".
? قال مالك رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
? قال الأوزاعى: "اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم"(3).
? قال أيوب السختيانى: "إنى لأخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأنى أفقد بعض أعضائى، وقال أيضاً: "إن من سعادة الحدث والأعجمى أن يوفقهما الله تعالى لعالم من أهل السنة"(4). وقال أيضاً: "ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً".
? عن محمد بن أسلم قال: "من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام"(5).
__________
(1) ... أخرجه الطبرانى، وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد (1/181) رجاله رجال الصحيح، ورواه الدارمى (1/80) وسيأتى تخريجه مفصلا.
(2) ... رواه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم (2334 : صحيح)، والبيهقى (3/19) وقال: هذا موقوف، وروى عن الحسن مرسلاً، والحاكم (1/184) وصححه على شرطهما.
(3) ... انظر إعلام الموقعين لابن القيم (4/151).
(4) ... انظر مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة للسيوطى (1/64) نقل ذلك عن اللالكائى .ط. الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(5) ... ذكره القرطبى فى تفسير قوله تعالى { وإذا رأيت الذين يخوضون فى آياتنا فأعرض عنهم } [الأنعام : 68] وذكر أنه رواه الحاكم مرفوعاً، وذكر الذهبى فى السير (8/435) عن الفضيل بن عياض : من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه..(1/6)
? وما أحسن ما قاله إبراهيم النخعى: "ما أعطاكم الله خيراً، أخبئ عنهم وهم أصحاب رسوله وخيرته من خلقه"(1).
? وعن عمر بن عبد العزيز: "قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفُّوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلت حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من خالف هديهم ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفى، وتكلموا فيه بما يكفى، فما فوقهم محسّر، وما دونهم مقصّر، لقد قصَّر عنهم قومٌ فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغفلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم"(2).
? الإمام أبو عمرو الأوزاعى: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول"(3).
الأمثلة العملية التى تؤيد ذلك:
ما رواه الدارمى (1/68) فى سننه عن عمرو بن يحيى قال، سمعته يحدث عن أبيه فقال: كنا نجلس على باب ابن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد ... وذكر إنكاره على من يكبرون جماعة فى المسجد وقوله لهم: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا نضيع من حسناتكم شىء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون وهذه ثيابه لم تبلَ وآنيته لم تكسر، والذى نفسى بيده إنكم لعلى ملة هى أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة ...
__________
(1) ... انظر إعلام الموقعين لابن القيم (4/151).
(2) ... انظر إعلام الموقعين لابن القيم (4/151).
(3) ... ذكره ابن حزم فى الأحكام بسنده (6/221ط الحديث) وابن القيم فى الإعلام (1/75)، والذهبى فى سير أعلام النبلاء (7/120).(1/7)
روى الترمذى (2738: صحيح) والحاكم أبو عبد الله فى مستدركه (4/295) بإسناد قوى أن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما كان فى مجلس فعطس رجل، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: وأنا أقول معك الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قل: الحمد لله، أو قال له قل الحمد لله رب العالمين.
لذا كان تحرير مسائل البدع والابتداع أمرًا ضروريًا ينتفع به المسلمون فى أمر دينهم ودنياهم ويكون عوناً عظيماً لدعاة الإصلاح الإسلامى فى أمر دينهم ودنياهم.
ولقد كتب كثير من العلماء فى البدع منفردين ورادّين على أهلها. وكثير من هذه الكتب اختص برواية الاخبار والآثار، وبعضها اختص بذكر أنواع من المحدثات، من غير اهتمام بإيضاح مجالات البدعة وأقسامها وأحكامها على شكل قواعد وأصول، يستوى فى ذلك المؤلفات القديمة والجديدة.
نعم هناك علماء اهتموا بوضع القواعد فى أمر البدع بعد استقراء النصوص الشرعية وفهم السلف لها وأقوالهم فيها. وهم قسمان:
الأول: ... لم يخصص لهذه القواعد مصنفاً ومن هؤلاء جماعة من العلماء قديماً وحديثاً، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
القسم الثانى: ... من خصص لقواعد النظر والحكم على البدعة مصنفاً واحداً وجمعهما فى مؤلف واحد.
يقول سعيد بن ناصر الغامدى(1): "ولم أطلع بحسب علمى الناقص على مؤلف يضاهى الاعتصام لأبى إسحاق الشاطبى رحمه الله تعالى".
وهذا الكتاب كما يقول العلامة محمد رشيد رضا(2): "الاعتصام لا ند له فى بابه فهو ممتع مشبع".
__________
(1) ... فى كتابه "حقيقة البدعة وأحكامها"، ط1، ص9، الطبعة الرابعة، مكتبة الرشد بالرياض.
(2) ... مقدمة محمد رشيد رضا لكتاب الاعتصام بتحقيقه، ط1، ص4، المكتبة التجارية الكبرى بمصر.(1/8)
ويقول مصطفى أبو سليمان الندوى(1): "الاعتصام موسوعة علمية مازالت غضةً طريّهً جمعت الفوائد والفرائد، وتغنى عن حمل الأسفار فى الأسفار".
والألبانى رحمه الله تعالى يصفه بالكتاب العظيم(2).
قال د. مصطفى الندوى فى مقدمته لكتاب الاعتصام بتحقيقه:
فلقد أردت أن أدبج مقدمة لهذا الكتاب المبارك، ولكننى احتقرت نفسى أمام ضخامة هذا العمل العظيم، وقلتُ: من أنا إلى جوار هذا الجبل الشامخ فى الأصول، والعَلَم السامق فى الفنون، والقنبلة المتزامنة مع كل زمن ضد أهل البدع، والعملاق الأكبر فى سائر فروع الشريعة الإسلامية.
أى مقدمة تليق بهذا الكتاب! أى أستاذ يتمكن من أن يؤدى لسفر الشاطبى حقه! أى سباح يخوض غمار بحر الاعتصام!
ولقد وقفت أمام هذا الكتاب وقفات طويلة أقدم رجلاً وأُوخر أخرى، أقرأ مقدمة المؤلف وأعاود مرات وكرات، أنظر فى فصل وأرجع إليه كمن يتطفل على مائدة يتمنى طعامها ويخشى فواته فينتظر حتى ينتهى الأكابر من طعامهم، ويفرغوا من أشغالهم ثم يتقدم على وجل.
وكلما تصفحت وطالعت أخذتنى النشوة وجذبنى الطرب إلى معاودة التصفح والمطالعة. ومن أكثر قراءة الكتاب ومدارسة ما فيه لا يشبع منه بحال، بل يروق له دوماً أن يبذل وقتاً أكثر فى إحسان ورغبة، فيصرف جزءاً فى الدرس، وآخر فى الفهم، وثالثًا فى العمل والتبليغ وأداء الواجب نحو إحياء سنة الحبيب محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
حتى المقدمة مهمة صعبة وشاقة، فكيف بالكتاب!.
__________
(1) ... انظر مقدمته فى تحقيقه للكتاب، ط1، ص10، دار الخانى بالرياض.
(2) ... وذلك فى شريط مسجل يتكلم فيه عن معنى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولوازمها –الاتباع-.(1/9)
وأخيراً هدانى الله تعالى لجعل مقدمة المؤلف مقدمة للكتاب حيث أنه المؤلف أولاً، وثانياً: أن صاحب البيت أدرى بما فيه، فلما كتب المقدمة أبان مقصوده من مؤلفه، وثالثاً: أن من كمالات إظهار الحق أن نقر ونعترف أننا نقف عاجزين أمام هذا الجهد العظيم، الذى أظهر فيه المؤلف وجه الحق، وبيَّن فيه دلائل الإعجاز النبوى، وألمح فيه إلى أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة دائماً وأبداً من يجدد لها أمر دينها.
وإننى أرى أن زماننا هذا هو زمان هذا الكتاب توافقاً وتتابعاً، لأن انتشار البدع وفساد الديانة وتخريب السنن فى كل مكان من أرض الإسلام واضح جلى لا يخفى على كل من لديه مُسْكةٌ من دين أو عقل أو أمانة أو علم، والغريب الذى يجب التنويه به والإشارة إليه أن وسائل الإعلام وسهولة المواصلات والراحة فى الأسفار كما ساعدت على نشر بعض عوامل الخير وأعماله فإنها ساعدت أيضاً على انتشار البدع والمفاسد فى الدين.
فكان القيام بشأن إحياء السنّة وإماتة البدعة واجباً شرعياً على كل أهل العلم فى كل بقعة من أرض الإسلام حتى تعود للسنّة مكانتها وترفرف أعلامها فى سماء الإسلام والمسلمين.
ترجمة المؤلف(1)
هو الإمام العلامة المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد الأصوليّ المفسر الفقيه المحدث اللغوىّ النظّارة المدقق البارع، صاحب القدم الراسخ والإمامة العظمى فى سائر فنون العلم الشرعى.
قال فيه الحفيد بن مرزوق: إنه الشيخ الأستاذ الفقيه الإمام المحقق العلاّمة الصالح.
وقال ابن مخلوف فى شجرة النور: هو المؤلف المحقق الفقيه الأصولى المفسر للحديث.
اسمه وكنيته ونسبه:
هو إبراهيم بن موسى بن محمد أبو إسحاق اللخمى الغرناطى الشهير بالشاطبى.
طلبه للعلم:
__________
(1) ... مصادر الترجمة:
? ... دّرة الجمال فى أسماء الرجال المعروف بذيل وفيات الأعيان 1/182.
? ... شجرة النور 1/231.
? ... نيل الابتهاج 46/50.(1/10)
أخذ العربية وغيرها من العلوم عن أئمة منهم: ابن الفخار الألبيرى، وأبو القاسم السبتى وأبو عبد الله التلمسانى وغيرهم.
مؤلفاته:
1. كتاب الموافقات فى أصول الشريعة، وهو من أنبل الكتب فى بابه، مطبوع.
2. كتاب المجالس، وهو شرح لكتاب البيوع من صحيح البخارى، لم يطبع.
3. كتاب الإفادات والإنشاءات، فيه طرق وتحف ومدح أدبية وإنشاءات، لم يطبع.
4. كتاب عنوان الاتفاق فى علم الاشتقاق، لم يطبع.
5. كتاب أصول النحو، لم يطبع.
تلامذته:
خلف جماعة من التلاميذ الذين صاروا أئمة فى العلم وقادة فى العمل.
وفاته:
توفى رحمه الله بغرناطة يوم الثلاثاء من شعبان سنة تسعين وسبع ومائة
(790 هـ).
أمّا عن الكتاب:
فهو بحق كما سماه مؤلفه اسم على مسمى، ولكن الإمام الشاطبى قد ألفه لطلاب العلم والعلماء على ما أرى لا لعامة الناس وغوغائهم.
ولعله كما صرح فى المقدمة قد أجهد كثيراً وعانى أكثر من تأليفه، وكابد أكثر وأكثر فى تحمل نتيجة هذا الصنيع، لهذا أسال الله أن يفسح له الجنان وأن يبارك فى هذا الكتاب إلى آخر الزمان.
والكتاب موسوعة علمية مازالت غضة طرية، جمعت الفوائد والفرائد وتغنى عن حمل الأسفار فى الأسفار(1).
فأولاً: ... صدر الكتاب بمقدمة غاية فى الإتقان والإحسان، تنبئ عن الذخائر القيمة والخزائن الدفينة بين طيات صفحاته، ابتدأها بالحديث عن غربة الإسلام واختتمها برجاء القبول من الله وطلب الأجر منه وحده على هذا العمل الذى جند نفسه من أجله.
ثانياً: ... جعل مباحث الكتاب فى عشرة أبواب، وفصَّلها فى عدة فصول حسب مقتضى الحاجة.
الباب الأول: ... ... فى تعريف البدع ومعناها.
الباب الثانى: ... ... فى ذم البدع وسوء منقلب أهلها.
__________
(1) ... الأسفار الأولى : جمع سِفْر، بكسر السين يعنى كتاب، قال تعالى { مثل الذين حملوا التوارة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً } الآية [الجمعة:5].(1/11)
الباب الثالث: ... فى ذم البدع والمحدثات عامة، وفيه الكلام على شُبَه المبتدعة، ومن جعل البدع حسنة وسيئة.
الباب الرابع: ... ... فى مأخذ أهل البدع فى الاستدلال.
الباب الخامس: ... فى البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما.
الباب السادس: ... فى أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة.
الباب السابع: ... ... فى الابتداع يختص بالعبادات أم تدخل فيه العادات.
الباب الثامن: ... ... فى الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان.
الباب التاسع: ... فى السبب الذى لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين.
الباب العاشر: ... ... فى الصراط المستقيم الذى انحرفت عنه المبتدعة.
رحم الله المؤلف وجعل الكتاب جُنةً للمسلمين، ولله الحمد والمنة.
وصلى الله على خير خلقه سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
خطبة الكتاب
قال أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمى الشاطبى الغرناطى:
الحمد لله المحمود على كل حال، الذى بحمده يستفتح كل أمر ذى بال، خالق الخلق لما شاء، وميسرهم على وفق علمه وإرادته، لا على وفق أغراضهم لما سر وساء، ومصرفهم بمقتضى القبضتين، فمنهم شقى وسعيد، وهداهم النجدين فمنهم قريب وبعيد، ومسويهم على قبول الإلهامين؛ ففاجر وتقى، كما قدر أرزاقهم بالعدل على حكم الطرفين ففقير وغنى.(1/12)
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبى الرحمة، وكاشف الغمة، الذى نسخت شريعته كل شريعة، وشملت دعوته كل أمة، فلم يبق لأحد حجة دون حجته، ولا استقام لعاقل طريق سوى لاحب محجته، فالسالك سبيلها معدود فى الفرقة الناجية، والناكب عنها مصدود إلى الفرق المقصرة أو الفرق الغالية، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة، واقتفوا آثاره اللائحة وأنواره الواضحة وضوح الظهيرة، وفرقوا بصوارم أيديهم وألسنتهم بين كل نفس فاجرة ومبرورة، وبين كل حجة بالغة وحجة مبيرة، وعلى التابعين لهم على ذلك السبيل، وسائر المنتمين إلى ذلك القبيل، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإنى أذكرك أيها الصديق الأوفى، والخالصة الأصفى، فى مقدمة ينبغى تقديمها قبل الشروع فى المقصود، وهى معنى قول
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (بدئ الإسلام غريباً وسيعود كما بُدئ فطوبى للغرباء، قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ فقال: الذين يصلحون عند فساد الناس)(1).
__________
(1) ... صحيح، انظر السلسلة الصحيحة 273، وهو عند الطبرانى فى الكبير (9/76) من حديث جابر، وفيه ابن لهيعة، ورواه (6/164) من حديث سهل ابن سعد الساعدى وفيه بكر بن سليم، مقبول (وشطره الأول عند مسلم (145) فى الإيمان من حديث أبى هريرة)، وابن ماجة (3986)، وأحمد (2/389).(1/13)
وجملة المعنى فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والمشاهدة فى أول الإسلام وآخره، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل، وفى جاهلية جهلاء، لا تعرف من الحق رسماً، ولا تقيم به فى مقاطع الحقوق حكماً، بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها، وما استحسنته أسلافها، من الآراء المنحرفة والنحل المخترعة، والمذاهب المبتدعة، فحين قام فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر، وغيروا فى وجه صوابه بالإفك، ونسبوا إليه، إذ خالفهم فى الشرعة، ونابذهم فى النحلة، كل محال ورموه بأنواع البهتان، فتارة يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق، الذى لم يجربوا عليه قط خبراً بخلاف مخبره، وآونة يتهمونه بالسحر، وفى علمهم أنه لم يكن من أهله ولا ممن يدعيه، وكرة يقولون: إنه مجنون مع تحققهم بكمال عقله، وبراءته من مس الشيطان وخبله.
فأبى عليه الصلاة والسلام إلا الثبوت على محض الحق والمحافظة على خالص الصواب، وأنزل الله { قل يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون } إلى آخر السورة.
ثم مازالت الشريعة فى أثناء نزولها، وعلى توالى تقريرها، تبعد بين أهلها وبين غيرهم، وتضع الحدود بين حقها وبين ما ابتدعوا.
ومازال عليه الصلاة والسلام يدعوا لها، فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد على حكم الاختفاء، وخوفاَ من عادية الكفار، زمان ظهورهم على دعوة الإسلام، فلما أطلعوا على المخالفة أنفوا، وقاموا وقعدوا، فمن أهل الإسلام من لجأ إلى قَبِيلِهِ فحموه على إغماض ومنهم من فر من الإذاية وخوف الغرة، هجرة إلى الله وحباً فى الإسلام.(1/14)
ثم استمر تزايد الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - ومن بعد موته، وأكثر قرن الصحابة رضى الله عنهم، إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأصغوا إلى البدع المضلة كبدعة القدر وبدعة الخوارج وهى التى نبه عليها الحديث بقوله: (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم)(1) يعنى لا يتفقهون فيه، بل يأخذونه على الظاهر: كما بينه حديث ابن عمر الآتى بحول الله، وهذا كله فى آخر عهد الصحابة.
ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق - صلى الله عليه وسلم - فى قوله: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة)(2) وفى الحديث الآخر: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا فى جحر ضب لدخلتموه) قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال (فمن) وهذا أعم من الأول فإن الأول عند كثير من أهل العلم خاص بأهل الأهواء وهذا الثانى عام فى المخالفات، ويدل على ذلك من الحديث قوله: (حتى لو دخلوا فى جحر ضب لاتبعتموهم)(3).
وكل صاحب مخالفة فمن شأنه أن يدعوا إليها، ويحض (سُؤَّاله بل) سواه عليها، إذ التأسى فى الأفعال والمذاهب موضوع طلبه فى الجبلة، وبسببه تقع من المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق المؤالفة، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين.
__________
(1) ... رواه مسلم فى كتاب الزكاة (1064)، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، وهو عند البخارى فى المغازى (4351) من حديث أبى سعيد الخدرى.
(2) ... حديث صحيح رواه جمع من الصحابة، رواه أبو داود (4596) من حديث أبى هريرة، وانظر تخريجه مفصلاً مع كتاب أصول وتاريخ الفرق الإسلامية، جمع وترتيب مصطفى ابن محمد بن مصطفى .
(3) ... رواه البخارى فى كتاب الاعتصام (7320)، (3456) من حديث أبى سعيد الخدرى، ومسلم (2669).(1/15)
كان الإسلام فى أوله وجدته مقاوماً بل ظاهراً، وأهله غالبون، وسوادهم أعظم الأسودة، فخلا من وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياء الناصرين، فلم يكن لغيرهم ممن لم يسلك سبيلهم أو سلكه ولكنه ابتدع فيه صولة يعظم موقعها، ولا قوة يضعف دونها حزب الله المفلحون، فصار على استقامة، وجرى على اجتماع واتساق، فالشاذ مقهور مضطهد، إلى أن أخذ اجتماعه فى الافتراق الموعود، وقوته إلى الضعف المنتظر، والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده، واقتضى سر التأسى المطالبة بالموافقة ولا شك أن الغالب أغلب، فتكالبت على سواد السنة البدعُ والأهواءُ، فتفرق أكثرهم شيعاً، وهذه سنة الله فى الخلق: أن أهل الحق فى جنب أهل الباطل قليل لقوله تعالى: { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } (1)، وقوله تعالى: { وقليل من عبادى الشكور } (2). ولينجز الله ما وعد به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم وذلك حين يصير المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وتصير السنة بدعة، والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف، كما كان أولاً يقام على أهل البدعة، طمعاً من المبتدع أن تجتمع عليه كلمة الضلال، ويأبى الله أن تجتمع عليه حتى تقوم الساعة، فلا تجتمع الفرق كلها –على كثرتها- على مخالفة السنة عادة وسمعاً، بل لابد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتى أمر الله غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء استدعاءً إلى موافقتهم، لا يزالون فى جهاد ونزاع، ومدافعة وقِراع(3)، آناء الليل والنهار وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل ويثبهم الثواب العظيم.
__________
(1) ... يوسف: 103.
(2) ... سبأ: 13.
(3) ... بكسر القاف هو المضاربة بالسيوف ويقال قرع الشىء يقرعه أى ضربه، اللسان 5/3594.(1/16)
وإنما قدمت هذه المقدمة لمعنى أذكره، وذلك أنى –ولله الحمد- لم أزل منذ فُتق للفهم عقلى ووجه شطرَ العلم طلبى، أنظر فى عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر منه على علم دون علم، ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون آخر، حسبما اقتضاه الزمان والإمكان.
إلى أن مَنَّ علىَّ الربُّ الكريم الرؤوف الرحيم، فشرح لى من معانى الشريعة ما لم يكن فى حسابى، وألقى فى نفسى القاصرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا فى سبيل الهداية لقائل ما يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتد به فيه، وأن الدين قد كمل، والسعادة الكبرى فيما وضع، وما سوى ذلك فضلال وبهتان وإفك وخسران.
وكنت فى أثناء ذلك قد دخلت فى بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها فلما أردت الاستقامة على الطريق، وجدت نفسى غريباً فى جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد.
فتردد النظر بين:
- ... أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس، فلابد من حصول نحو مما حصل لمخالفى العوائد، لاسيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، إلا أن فى ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل.
- ... وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذاً بالله من ذلك، إلا أنى أوافق المعتاد، وأعدُ من المؤالفين، لا من المخالفين.
فرأيت أن الهلاك فى اتباع السنة، هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عنى من الله شيئاً، فأخذت فى ذلك على حكم التدريج فى بعض الأمور، فقامت علىّ القيامة، وتواترت على الملامة، وفوَّق إلىّ العتاب سهامه.(1/17)
وربما ألموا فى تقبيح ما وجهت إليه وجهتى بما تشمئز منه القلوب، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة، فتارة نسبت إلىّ القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزى إلىّ بعض الناس، بسبب أنى لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع فى أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتى ما فى ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.
وتارة نسبت إلىّ الرفض وبغض الصحابة رضى الله عنهم، بسبب أنى لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم فى الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك شأن من السلف فى خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين فى أجزاء الخطب.
وتارة أضيف إلىّ القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكرى لهم فى الخطبة، وذكرهم فيه محدث لم يكن عليه من تقدم.
وتارة حُمِلَ علىَّ التزام الحرج والتنطع فى الدين، وإنما حملهم على ذلك أنى التزمت فى التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذاً فى المذهب الملتزم أو فى غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسط فى كتاب "الموافقات"(1).
وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أنى عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين –بزعمهم- لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.
وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة، بناء منهم على أن الجماعة التى أُمر باتباعها –وهى الناجية- ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. وسيأتى بيان ذلك بحول الله، وكذبوا علىّ فى جميع ذلك، أو وهموا، والحمد لله على كل حال.
__________
(1) ... كتاب الموافقات من مؤلفات الشاطبى، وهو من نفيس ما أُلِّفَ فى أصول الشريعة.(1/18)
فرجوت بالنظر فى هذا الموضع الانتظام فى سلك من أحيا سنة وأمات بدعة. وعلى طول العهد ودوام النظر اجتمع لى فى البدع والسنن أصول قررت أحكامها الشريعة، وفروع طالت أفنانها لكنها تنتظمها تلك الأصول، وقلما توجد على الترتيب الذى سنح فى الخاطر، فمالت إلى بثها النفسُ، ورأت أنه من الأكيد الطلب لما فيه من رفع الالتباس الناشئ بين السنن والبدع، لأنه لما كثرت البدع وعم ضررها، واستطار شررها، ودام الإكباب على العمل بها، والسكوت من المتأخرين عن الإنكار لها، وخلفت بعدهم خلوفٌ جهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها، صارت كأنها سُنن مقررات، وشرائع من صاحب الشرع محررات، فاختلط المشروع بغيره، فعاد الراجع إلى محض السنة كالخارج عنها كما تقدم، فالتبس بعضها ببعض، فتأكد الوجوب بالنسبة إلى من عنده فيها علم، وقلما صنف فيها على الخصوص تصنيف، وما صنف فيها فغير كاف فى هذه المواقف.
ثم إنى آخذت فى ذلك مع بعض الإخوان، الذين أحللتهم من قلبى محل السويداء وقاموا لى فى عامة أدواء نفسى مقام الدواء، فرأوا أنه من العمل الذى لا شبهة فى طلب الشرع نشره، ولا إشكال فى أنه بحسب الوقت من أوجب الواجبات، فاستخرت الله تعالى فى وضع كتاب يشتمل على بيان البدع وأحكامها وما يتعلق بها من المسائل أصولاً وفروعاً وسميته
بـ "الاعتصام". واللهَ أسألُ أن يجعله عملاً خالصاً، ويجعل ظل الفائدة به ممدوداً لا قالصاً، والأجر على العناء فيه كاملاً لا ناقصاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
الباب الأول
فى تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظًا(1/19)
وأصل مادة "بدع"(1) [1] للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى: { بديع السموات والأرض } (2)، أى مخترعهما من غير مثال سابق متقدم، وقوله تعالى { قل ما كنت بدعاً من الرسل } (3)، أى ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمنى كثير من الرسل، ويقال: ابتدع فلان بدعة يعنى ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. وهذا أمر بديع: يقال فى الشىء المستحسَن الذى لا مثال له فى الحُسن، كأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ... "من كتاب "حقيقة البدعة وأحكامها"(4):
1. ... المعنى اللغوى للبدعة:
البدعة مصدر (بدع) ولهذه الكلمة فى كتب اللغة ذكر يتناول أصل استخدامها عند العرب، والمعانى التى تدل عليها هذه الكلمة، ثم انتقال هذه المعانى إلى دلالات أخرى مشتقة من المعانى الأصلية لكلمة بدع.
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هى البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة: فمن هذا المعنى سمى العمل الذى لا دليل عليه فى الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه فى اللغة حسبما يذكر بحول الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأما أصل استعمالها فى لغة العرب فأصلان:
(.. أحدهما: ابتداء الشىء وصنعه لا عن مثال، والآخر: الانقطاع والكلال)(5).
وشواهد هذين الأصلين فى لغة العرب كثيرة، ومن ذلك:
قولهم -وهو يتعلق بالأصل الأول-: "بدعت الرَّكِىَّ إذا استنبطتها،
"الرَّكِىَّ: بتشديد الراء المهملة وفتحها وكسر الكاف وتشديد الياء المثناة هى البئر"(6).
__________
(1) ... العين للخليل بن أحمد 2/54.
(2) ... البقرة: 117.
(3) ... الأحقاف: 9.
(4) ... تأليف سعيد بن ناصر الغامدى ج1/ 242 : 255، ط4، مكتبة الرشد بالرياض.
(5) ... معجم مقاييس اللغة 1/209.
(6) ... انظر لسان العرب 14/331.(1/20)
رَكِىٌّ بديع: حديثة الحفر، وقول العرب: لست ببدع فى كذا وكذا، أى لست بأول من أصابه هذا، فهذا فى معنى الأصل الأول الذى هو (إحداث شىء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة)(1).
أما الأصل الثانى وهو الكلال، والانقطاع، فإنه يأتى من (بَدَعَ).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأُبْدِعَتْ الإبل: إذا تركت فى الطريق من الهزال، وقال فى معجم مقاييس اللغة: ... أبدعت الراحلة إذا كلت وعطبت، وأبدع الرجل إذا كلت ركابه وبقى منقطعاً به.
وفى الحديث: "أن رجلاً أتاه فقال: يا رسول الله إنى أبدع بى فاحملنى"(2).
وقد ذكر علماء اللغة ما اشتق من لفظة (بدع) من ألفاظ ومعان، أنقل منها هنا ماله علاقة بموضوع البحث، ففى كتاب العين:
(البَدْعُ) إحداث شىء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة.
البِدع: الشىء الذى يكون أولاً فى كل أمر.
البِدْعَةُ: اسم ما ابتدع من الدين وغيره ... ما استحدث بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهواء وأعمال ويجمع على: البدع.
وبعد ذكر أصل الاستعمال والاشتقاقات اللفظية من كلمة (بدع)، أذكر الترابط بينها وبين الاستعمالات الشرعية، أو بمعنى آخر: أذكر الدلالة المشتركة بين الأصل اللغوى والاشتقاقات اللفظية والاستعمال الشرعى على ضوء ما ذكر آنفاً.
أما الأصل اللغوى بالمعنى الأول فإنه ينطبق تماماً على البدعة بالمعنى الشرعى،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... العين للخليل بن أحمد 2/54.
(2) ... رواه مسلم (1893) من حديث أبى مسعود الأنصارى.(1/21)
لأنها إحداث فى دين الله وابتداء أشياء فى الشرع لا دليل عليها فيه، واختراع ما يضاهى المشروع بما ليس له ذكر فيه، وبما ليس عند فاعله معرفة ولا برهان (فإن جميع البدع إنما هى رأى على غير أصل)(1).
والأصل الثانى فى استعمال كلمة (بدع) هو الانقطاع والكلال مأخوذ من الإبداع، وهو المرض الذى يصيب الإبل فيمنعها من السير، من هزال أو عطب أو كلال. وهذا المعنى أيضاً ينطبق على البدعة بالمعنى الشرعى، إذ المبتدع حين ينشئ بدعته مضاد للشرع ومراغم له "حيث نصَّب المبتدع نفسه المستدرك على الشريعة، لا المكتفى بما حُدَّ له"(2).
وهذا هو عين الانقطاع، بل أشد الانقطاع وأخبثه، لأنه يزيح الإنسان عن تحصيل كمال خلقه بالعبودية التامة لله، والتى لا تتحقق إلا باتباع الشارع، (...فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم، وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم، أتممهم عبودية لله ... وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذى أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاستسلام له مستكبر)(3).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا حصل هذا الانقطاع تبعه انقطاع عن تحصيل لذته فى العاجلة والآجلة، بمرض قلبه واسوداده وانتكاسه، فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك:
أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يَعرفُ معروفاً ولا يُنْكرُ مُنكراً وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً، والباطل حقاً.
__________
(1) ... الاعتصام 1/99.
(2) ... الاعتصام 2/61.
(3) ... العبودية لابن تيمية ج1/110.(1/22)
الثانى: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانقياده للهوى واتباعه له(1). قال حذيفة بن اليمان رضى الله عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأى قلب أشربها نُكِتَتْ فيه نكتة سوداء، وأى قلب أنكرها نكتت فيه نُكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين قلب أسود مرباداً كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السموات
والأرض)(2).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا هو حال البدع، نسأل الله العافية – تنقطع بالإنسان عن الوصول إلى مراداته، وفى المثل: إذا طلبت الباطل أبدع بك(3)، وكل من ابتدع فى دين الله ما ليس منه وقع فى الوهن والضعف والكلال، إما بالانقطاع عن العمل المشروع كما هو حال كثير من المبتدعة فى الأعمال.. وإما بانقطاع إرادة القلب عن التلقى من الشرع كما ذكر ربنا سبحانه وتعالى عن بنى إسرائيل { وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها } (4).
__________
(1) ... إغاثة اللهفان 1/12.
(2) ... مسلم (144) فى الإيمان: باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وأحمد رقم 2334، 2355.
(3) ... انظر لسان العرب 1/8.
(4) ... الحديد: 27.(1/23)
والظاهر من سياق الآية مع ما قبلها وما بعدها: أن الله سبحانه يقصد إلى ذم الابتداع فى الدين، ويبين أنه مناف للفطرة، وأن كل من ابتدع بدعة فأن مقتضى الفطرة أن يهن ويضعف عن القيام بها، لأنها مخالفة ومجافية للفطرة والعقل السليم... فأما الدين الذى شرعه الرب العليم الحكيم لإتمام النعمة على عباده، فإنه لإصلاح الإنسانية، وأخذها إلى الصراط المستقيم بفطرة الله التى فطر الناس عليها(1).
والبدعة تخلِّف صاحبها وتخذله، إذ يحسب أنه على شىء وهو يطلب الأجر
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كمن يطلب الماء من السراب، حتى إذا جاءت أعماله لم يجدها شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه ... وهذا معنى قول العرب: فلان أبدع بفلان إذا قطع به وخذله ولم يقم بحاجاته ولم يكن عند ظنه به(2).
وبعد .. فهذا بيان معانى ودلالات لفظ (بدعة) وما اشتق منها:
1. البدعة: ... اسم يطلق على العمل المحدث ذاته، والجمع بدع(3).
ففى كتاب العين: (البدعة: اسم ما ابتدع من الدين وغيره).
وفى الصحاح: (البدعة: الحدث فى الدين بعد الإكمال).
والبدعة: (اسم هيئة من الابتداع كالرفعة من الارتفاع).
والدليل الشرعى على أن لفظ البدعة يراد به العمل المحدث
قوله - صلى الله عليه وسلم - : (فإن كل مُحدثةٍ بدعة)(4).
2. الابتداع: ... مصدر للمضارع ابتدع يبتدع، ويطلق على الاستخراج للبدعة(5).
أى: أن إيجاد البدعة وإحداثها يسمى ابتداعاً.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) ... من تعليق الشيخ محمد حامد الفقى، على كتاب التفسير القيم للإمام ابن القيم، جمع وترتيب محمد أويس الندوى حد هامش 484.
(2) ... انظر لسان العرب 8/9.
(3) ... انظر العين 2/55/54.
(4) ... رواه أبو داود (4607) صحيح من حديث العرباض، ورواه النسائى من حديث جابر، وابن ماجة (46) من حديث ابن مسعود وهو عند مسلم (867).
(5) ... انظر العين 2/55/54.(1/24)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ففى مسند الإمام أحمد أن الوليد بن عقبة(1) أخَّر الصلاة مرة، فقام عبد الله بن مسعود فثوب بالصلاة فصلى بالناس، فأرسل إليه الوليد: ما حملك على ما صنعت، أجاءك من أمير المؤمنين أمر فيما فعلت أم ابتدعت، قال: لم يأتِ أمر من أمير المؤمنين ولم أبتدع، ولكنه أبى الله عز وجل علينا ورسوله أن ننتظرك بصلاتنا وأنت فى حاجتك).
3. المُبْتَدَعْ: ... اسم مفعول دال على الحدث ومفعوله، ويراد به الأمر المحدث ذاته. ومن ذلك قول معاذ بن جبل: "فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعونى وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعى حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة)(2).
4. المُبْتَدِعْ: ... اسم فاعل دال على الحدث وفاعله، ويراد به الذى وقعت منه البدعة، والجمع: مبتدعة (وأكثر ما يستعمل المُبتدِع عرفاً فى الذم)(3).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفى صحيح البخارى: (باب: إمامة المفتون والمبتدع).
ومن كلام عمر بن عبد العزيز –رضى الله عنه-: (... ألا وإنى لست بقاض، ولكنى منفذ، ولست بمبتدع ولكنى متبع ...)(4).
__________
(1) ... هو الوليد بن عقبة بن أبى معيط الأموى القرشى، أسلم يوم الفتح، وكان شجاعاً شاعراً جواداً، فيه ظرف ومجون ولهو، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه، ولاه الكوفة ثم عزله منها بعد أن شهد عليه جماعة بشرب الخمر وحَدَّه وسجنه. اعتزل الفتنة ومات بالرقة فى خلافة معاوية (61هـ) الإصابة 3/610، شذرات الذهب 1/69، والحديث عند أحمد (2/30).
(2) ... أخرجه أبو داود فى كتاب السنة، باب لزوم السنة 5/17 (4611)، صحيح موقوف.
(3) ... لسان العرب 8/6.
(4) ... رواه الدارمى (1271).(1/25)
وقال الحافظ ابن كثير فى تفسيره: (سُمى المبتدع فى الدين مبتدعاً، لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره)(1).
5. التَّبَدُّع: ... وردت فى اللغة بمعنى مُبتدع، ففى اللسان: تَبدَع: أتى ببدعة) ووردت بمعنى التحول من السنة إلى البدعة. ففى تاج العروس: (وتَبَدَّع الرجل تحول مبتدعاً)(2). ومن ذلك قول ابن مسعود: (...وإياكم والتَّبدُّع)(3).
وقد ثبت فى علم الأصول أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة: حكم يقتضيه معنى الأمر، كان للإيجاب أو الندب. وحكم يقتضيه معنى النهى، كان للكراهة أو التحريم. وحكم يقتضيه معنى التخيير، وهو الإباحة. فأفعال العباد وأقوالهم، لا تعدوا هذه الأقسام الثلاثة: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون فى فعله وتركه. والمطلوب تركه لم يطلب تركه إلا لكونه مخالفاً للقسمين الأخيرين، لكنه على ضربين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... تفسير ابن كثير 1/282 (الآية 117 من سورة البقرة).
(2) ... تاج العروس 5/217.
(3) ... جزء من أثر رواه الدارمى فى سننه فى المقدمة باب من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع (1/54)، ونصه: "عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب بأصحابه، عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدرى متى يفتقر إليه أو يفتقر إلى ما عنده، إنكم ستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطع، وإياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق" ورجاله ثقات رواه عبد الرزاق فى المصنف (11/252) ،والطبرانى فى الكبير من طريقه (9/170) وإن كان ليس عندهما لفظة (التبدع)، وهى عند الدارمى من طريقين.(1/26)
6. المُبَدَّع: ... من رمى بالبدعة، وفى الصحاح: (بَدَّعَه: نسبة إلى البدعة). سواء كان المرمى بالبدعة ممن يصدق عليه هذا كالجهم بن صفوان، وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد(1)، أو لا يصدق رميه بالبدعة كالبخارى فى مسألة اللفظ.
أحدهما: أن يطلب تركه، وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع مجرد النظر عن غير ذلك، وهو إن كان محرماً سمى فعله معصية وإثماً، وسمى فاعله عاصياً وآثماً وإلا لم يسم بذلك، ودخل فى حكم العفو حسبما هو مبين فى غير هذا الموضع، ولا يسمى بحسب الفعل جائزاً ولا مباحاً، لأن الجمع بين الجواز والنهى، جمع بين متنافيين.
والثانى: أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود، وتعيين الكيفيات، والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك.
__________
(1) ... الجهم بن صفوان: زعيم الجهمية، أخذ القول بخلق القرآن عن الجعد بن درهم، وقُتل الجهم بهرو، قتله نائبها سلم بن أحوز، والجعد ضحى به أمير الكوفة خالد بن عبد الله القسرى يوم الأضحى.
واصل بن عطاء: زعيم المعتزلة، ولد سنة 80 بالمدينة، وكان بليغاً مفوهاً، وإن كان يلثغ بالراء غيناً، وطرده الحسن البصرى من مجلسه لما أظهر بعض اعتزاله بقوله الفاسق لا مؤمن ولا كافر، وانضم إليه عمرو بن عبيد واعتزلا حلقة الحسن فسموا المعتزلة ، وله كتاب المنزلة بين المنزلتين، قيل مات سنة 131هـ.
عمرو بن عبيد: الزاهد العابد القدرى كبير المعتزلة وأولهم دخل مع واصل بن عطاء فأعجب به وزوجه أخته، وقد كان المنصور يعظمه ! وذكر محمد بن عبد الله الأنصارى أنه رأى عمرو بن عبيد فى النوم قد مسخ قرداً، مات سنة 143هـ. انظر سير أعلام النبلاء، وانظر كتابنا أصول وتاريخ الفرق الإسلامية.(1/27)
وهذا هو الابتداع والبدعة، ويسمى فاعله مبتدعاً، فالبدعة إذن عبارة عن "طريقة فى الدين مخترعة تضاهى الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة فى التعبد لله سبحانه" هذا على رأى من لا يدخل العادات فى معنى البدعة، وإنما يخصها بالعبادات، وأما على رأى من أدخل الأعمال العادية فى معنى البدعة فيقول: "البدعة طريقة فى الدين مخترعة تضاهى الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية" [2].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[2] ... قال عبد الله بن عبد العزيز بن أحمد التويجرى فى كتاب
"البدع الحولية":
- البدعة فى الاصطلاح:
اختلف العلماء فى تحديد البدعة فى الاصطلاح، فمنهم من جعلها مقابل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السنة، ومنهم من جعلها عامة تشمل كل ما حدث بعد عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - سواء كان محموداً أو مذموماً ونبين ذلك فيما يلى:
القول الأول:
أن البدعة تطلق على كل ما حدث بعد عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء كان محموداً أو مذموماً، وقال به الشافعى والعز بن عبد السلام والقرافى، والغزالى فى الإحياء، وابن الأثير فى النهاية فى غريب الحديث والأثر، والنووى فى شرح مسلم.
قال الإمام الشافعى رحمه الله فيما يروى عنه حرملة بن يحيى قال: سمعت الإمام الشافعى يقول "البدعة بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم"(1).
وقال العز بن عبد السلام فى تعريف البدعة هى: "فعل ما لم يعهد فى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "(2).
__________
(1) ... يراجع: حلية الأولياء، لأبى نعيم (9/113)، ويراجع أيضاً فتح البارى (13/253).
(2) ... يراجع: قواعد الأحكام (2/337) ط. دار القلم، تحقيق د.نزيه حماد ود. عثمان جمعة.(1/28)
وقد اعتمدوا فى ذلك على ما ورد عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه حيث قال فى صلاة التراويح "نعْم البدعة هذه"(1).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول الثانى:
إن البدعة لا تطلق إلا على ما خالف السنة، وبه قال الشاطبى وابن حجر العسقلانى وابن حجر الهيثمى، وابن رجب الحنبلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والزركشى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (وقد قررنا فى قاعدة السنة والبدعة: أن البدعة فى الدين هى ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية، فهو من الدين الذى شرعه الله، وإن تنازع أولوا الأمر فى بعض ذلك، وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - أو لم يكن، فما فعل بعده بأمره، من قتال المرتدين والخوارج المارقين، وفارس، والترك والروم، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وغير ذلك ..، هو من سنته(2).
أدلة أصحاب القول الثانى:
أ. ... من السنة:
1. ما رواه جابر بن عبد الله –رضى الله عنهما- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: "صبحكم ومساكم"، ويقول "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... رواه البخارى فى صحيحه مع فتح البارئ (4/294) كتاب صلاة التراويح حديث (2010)، وانظر ما سيأتى قريبا من شرح قول عمر رضى الله عنه.
(2) ... يراجع مجموع الفتاوى (4/107-108).(1/29)
وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" ثم يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دَيْنًا أو ضياعاً فإلىّ وعلىّ"(1).
2. ما رواه ابن مسعود رضى الله عنه مرفوعاً وموقوفاً أنه كان يقول: "إنما هما اثنتان الكلام والهدى، فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ألا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"(2).
3. ما رواه العرباض بن سارية رضى الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)(3).
ب. ... ومن الآثار:
__________
(1) ... رواه مسلم فى صحيحه المطبوع مع شرح النووى (6/153 – 154) حديث رقم (867) كتاب الجمعة، ورواه النسائى فى سننه (3/189)، كتاب صلاة العيدين، ورواه ابن ماجة فى سننه (46)، المقدمة.
(2) ... رواه ابن ماجة فى سننه مرفوعاً إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - (1/18) المقدمة، ضعيف، وكذلك ضعفه الألباتنى فى ظلال الجنة / 25.
(3) ... رواه الإمام أحمد فى مسنده (4/126، 127) ورواه أبو داود فى سننه المطبوع مع شرحه عون المعبود (12/358 – 360) حديث (4607)، ورواه الترمذى فى سننه المطبوع مع شرحه تحفة الأحوذى (7/438 – 442): صحيح.(1/30)
1. ما ورد عن ابن عباس –رضى الله عنهما- أنه قال: "ما أتى على الناس عام، إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن(1).
2. ما ورد عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم"(2).
فما تقدم من الأحاديث والآثار، يدل على أن البدعة لم ترد فى الشرع إلا مذمومة. فالراجح -والله أعلم- أن البدعة لا تطلق إلا على ما خالف السنة، فليس فى البدع محمود.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "واعلم أن هذه القاعدة وهى: الاستدلال بكون الشىء بدعة على كراهته ، قاعدة عظيمة، وتمامها بالجواب عما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعارضها، وذلك أن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة، وقبيحة، بدليل قول عمر رضى الله عنه فى صلاة التراويح: "نعمت البدعة هذه".
وهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة.
والجواب: أما القول: "أن شر الأمور محدثاتها، وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار" والتحذير من الأمور المحدثات: فهذا نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع فى دلالته فهو مراغم.
ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهى قوله: (كل بدعة ضلالة) بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقرب منه إلى التأويل(3).
__________
(1) ... قال الهيثمى فى مجمع الزوائد: "رواه الطبرانى (10/262) فى الكبير ورجاله موثقون" مجمع الزوائد (1/188) باب البدع والأهواء وفيه مهدى بن أبى مهدى: مقبول، ورواه ابن وضَّاح فى كتاب البدع ص93.
(2) ... رواه الدارمى (1/74)، والبيهقى فى الشعب (2216) وفيه عنعنة الأعمش.
(3) ... يُراجع: اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/582 – 588).(1/31)
فأما صلاة التراويح فليست بدعة فى الشريعة، بل سنة بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله فى الجماعة، ولا صلاتها فى الجماعة بدعة، بل هى سنة فى الشريعة، بل قد صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى الجماعة، فى أول شهر رمضان ثلاث ليال، وقال فى الرابعة: (أما بعد: فإنه لم يخف علىّ مكانكم، ولكنى خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها)(1).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلَّلَ - صلى الله عليه وسلم - عدم الخروج بخشية الافتراض، فعلم بذلك أن المقتضى للخروج قائم، وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم، فلما كان فى عهد عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- جمعهم على قارئ واحد، وأسرج المسجد، فصارت هذه الهيئة، وهى اجتماعهم فى المسجد وعلى إمام واحد مع الإسراج عملاً لم يكونوا يعملونه من قبل، فسمى بدعة، لأنه فى اللغة يسمى بذلك، ولم يكن بدعة شرعية، لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح، لولا خوف الافتراض، وخوف الافتراض زال بموته - صلى الله عليه وسلم - فانتفى المعارض.
وأما قول عمر -رضى الله عنه-: "نعمت البدعة هذه" فأكثر المحتجِّين بهذا لو أردنا أن نثبت حكماً بقول عمر -رضى الله عنه- الذى لم يخالف فيه، لقالوا: قول الصاحب ليس بحجة، فكيف يكون حجة لهم فى خلاف قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة، فلا يعتقده إذا خالف الحديث.
وتسمية عمر -رضى الله عنه- صلاة التراويح بدعة، تسمية لغوية، لا تسمية شرعية، لأن البدعة فى اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق(2).
__________
(1) ... رواه البخارى فى صحيحه المطبوع مع فتح البارى (4/251)، كتاب صلاة التراويح، حديث (2012) وفى مواضع أخرى، ورواه مسلم فى صحيحه (1/524) كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم (761) (178).
(2) ... اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية (2/588 – 591).(1/32)
وأما البدعة الشرعية: فما لم يدل عليه دليل شرعى، فإذا كان نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دل على استحباب فعل، أو إيجابه بعد موته، أو دل عليه مطلقاً، ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة الذى أخرجه أبو بكر - رضى الله عنه -، فإذا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمل ذلك العمل بعد موته، صح أن يسمى بدعة فى اللغة، لأنه عمل مبتدأ، وكذلك صلاة التراويح، ومثلها جمع القرآن الكريم، ونفى عمر -رضى الله عنه- ليهود خيبر ونصارى نجران، ونحوهما من جزيرة العرب.
( ... قال سعيد بن ناصر الغامدى فى كتاب "حقيقة البدعة وأحكامها"
ص 252 : 255:
المعنى الاصطلاحى للبدعة إجمالاً (على المذهب الثانى):
اختلفت عبارات الناس سلفاً وخلفاً فى تعريف البدعة الشرعية، تبعاً لاختلاف تصورهم لماهية البدعة المنهى عنها، وتنوع مشاربهم، فالذى تلبس ببدعة عملية أو اعتقادية، يحاول أن يضع تعريفاً للبدعة يتلائم مع مسلكه، وهناك من التبس عليه فهم بعض النصوص الواردة فى السنة والبدعة فوضع تعريفاً ملبساً.
وهذا المعنى الاصطلاحى الذى اختاره كحد جامع مانع للبدعة المنهى عنها شرعاً، يلخص لنا ما ورد من نصوص شرعية، وأقوال مأثورة عن السلف فى حوادث جزئية وحالات مفردة، أو بصيغ عامة، وأقوال مطلقة، مجمعة أو
مفصلة.
ومثال ذلك ما ورد فى الحوادث المفردة من نصوص دالة على بدعيتها، كترك النكاح، وترك أكل اللحم تعبداً، أو تقديم الخطبة على الصلاة فى العيدين، وغير ذلك من الجزئيات التى جاء الحكم على المحدث فيها بالابتداع.
ولابد من بيان ألفاظ هذا الحد:(1/33)
فالطريقة والطريق والسبل والسنن هى بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها، وأيضاً فلو كانت طريقة مخترعة فى الدنيا على الخصوص لم تسمى بدعة كإحداث المصانع والبلدان التى لا عهد بها فيما تقدم.
ولما كانت الطرائق فى الدين تنقسم، فمنها ما له أصل فى الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها، خص منها ما هو المقصود بالحد وهو
القسم المخترع، أى طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكذلك ما يرد من أقول للعلماء فى تعريف البدعة، وهذه الأقوال تتناول جانباً واحداً من جوانب المعنى الشرعى للبدعة، كقول القائل: البدعة ما لم يشرعه الله ورسوله، أو قوله: البدعة ما ليس له أصل فى الدين ونحو ذلك من الأقوال التى لا تشمل كل جوانب المعنى الشرعى للبدعة. فكل هذه النصوص والأقوال تشكل بمجموعها معنى تركيبياً كلياً جامعاً يغنى عن المعنى الإفرادى لكل واحد من النصوص أو الأقوال.
ومن هذه التعريفات الكلية الجامعة: ما ذكره الإمام الشاطبى -رحمه الله-، وقد عرف البدعة بتعريفين:
أحدهما: عبارة عن طريقة فى الدين مخترعة ...
الثانى: على رأى من يقول بدخول الابتداع فى الأمور العادية ...
إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر -لبادى الرأى- أنه مخترع مما هو متعلق بالدين، كتعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة، وأصول الفقه وأصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة، فإنها وإن لم توجد فى الزمان الأول فأصولها موجودة فى الشرع، إذ الأمر بإعراب القرآن منقول، وعلوم اللسان هادية للصواب فى الكتاب والسنة، فحقيقتها إذًا أنها فقه التعبد بالألفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤدى.
وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس.(1/34)
وكذلك أصول الدين، وهو علم الكلام، إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها فى التوحيد وما يتعلق به، كما كان الفقه تقريراً لأدلتها فى الفروع العبادية.
فإن قيل: فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع.
فالجواب: أن له أصلاً فى الشرع، ففى الحديث ما يدل عليه، ولو سلم أنه ليس فى ذلك دليل على الخصوص، فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، وسيأتى بسطها بحول الله.
فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعياً لا إشكال فى أن كل علم خادم
للشريعة داخل تحت أدلته التى ليست بمأخوذة من جزئى واحد، فليست ببدعة البتة.
وعلى القول بنفيها لابد أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت فى علم البدع كانت قبيحة، لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال كما يأتى بيانه إن شاء الله.
ويلزم من ذلك: أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحاً، وهو باطل بالإجماع فليس إذاً ببدعة.
ويلزم أن له دليل شرعى، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة.
وإذا ثبت جزئى فى المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة.
فعلى هذا لا ينبغى أن يسمى علم النحو، أو غيره من علوم اللسان، أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة، بدعة أصلاً.
ومن سماه بدعة فإما على المجاز كما سمى عمر بن الخطاب رضى الله عنه قيام الناس فى ليالى رمضان بدعة، وإما جهلاً بمواقع السنة والبدعة فلا يكون قول من قال ذلك معتداً به ولا معتمداً عليه.
وقوله فى الحد "تضاهى الشرعية" يعنى أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون فى الحقيقة كذلك، بل هى مضادة لها من أوجه متعددة [3]:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[3] ... قال سعيد بن ناصر الغامدى فىكتاب "حقيقة البدعة وأحكامها"
(1/291 – 297).
ثانياً: البدعة هى التى تفعل بقصد القربة:
وهذا أصل أصيل عند أهل السنة، يفرقون به بين الفعل الذى يكون بدعة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(1/35)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والفعل الذى يكون معصية فقط، وإن كانت البدعة معصية لله سبحانه وتعالى إلا أنها تفوق المعصية فى الإثم والحكم.
فالمعصية فى أصل وقوعها من حيث العمل والاعتقاد تختلف عن البدعة من جهة ما يقترن بكل منهما. فالعاصى لا يعتقد أنه بمعصيته يُرضى الله بخلاف المبتدع فإنه يعتقد فى عمله المحدث القربة إلى الله، وهذا هو وجه المفارقة.
ووجه آخر: هو ما تؤول إليه البدعة من مفاسد حالية ومآلية فى الدنيا والآخرة، وذلك باعتقاد المشروعية أو الجواز فيما ليس له أصل، وما يترتب على هذا الاعتقاد من شيوع وانتشار، حتى ينشأ عليها الصغير ويموت عليها الكبير بخلاف المعصية أو المخالفة.
ومن هنا نفهم قول سفيان الثورى -رحمه الله- حين قال: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها)(1).
والسبب فى عدم توبة المبتدع أنه يرجوا بعمله أو قوله أو اعتقاده المحدث القرب من الله، فلا ينفك من ملازمة هذا العمل.
وبسبب كون البدع أشر من المعاصى، وأهلها أضر من أهل الذنوب، أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بقتال الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة(2).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومما جاء عن السلف فى اعتبار أن البدعة أشد ضرراً من المعاصى، ما رواه ابن وضاح بسنده عن أبى بكر بن عياش قال: (كان عندنا فتى يقاتل ويشربُ وذكر أشياء من الفسق، ثم أنه تَقَرّأ فدخل فى التشيع، فسمعت حبيب بن أبى ثابت وهو يقول: لأنت يوم كنت تقاتل وتفعل خير منك اليوم).
__________
(1) ... رواه أبو نعيم بسنده فى حلية الأولياء 7/26.
(2) ... انظر مجموع الفتاوى 7/284.(1/36)
والدليل على اختصاص البدعة بوصف قصد القربة، ما ورد فى الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبى - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبى - صلى الله عليه وسلم - ، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم أما أنا فإنى أصلى الليل أبداً، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس منى)(1).
وفى لفظ مسلم: ( ... فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم لا أنام على الفراش..) الحديث.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الحافظ ابن حجر: "قوله: (فمن رغب عن سنتى فليس منى) المراد بالسنة الطريقة..، إلى أن قال، والمراد: من ترك طريقتى وأخذ بطريقة غيرى فليس منى، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد، كما وصفهم الله تعالى(2)، ثم قال: وطريقة النبى - صلى الله عليه وسلم - الحنيفية السمحة، فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل)(3).
__________
(1) ... رواه البخارى فى كتاب النكاح باب الترغيب فى النكاح 6/116 (5063)، ومسلم فى كتاب النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه 2/1020 (1401). وسيأتى تخريجه مفصلاً ص254.
(2) ... بقوله جل وعلا { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله } [الحديد:27].
(3) ... فتح البارى 9/105.(1/37)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (.. ينكر على من يتقرب إلى الله بترك جنس الملذات، كما قال النبى - صلى الله عليه وسلم - للذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، ثم ذكر الحديث..)(1). فالإنكار إنما توجه إليهم بسبب قصد القربة بهذا الترك.
ومثل هذا حديث سعد بن أبى وقاص قال: (رَدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا)(2).
ومن هنا تتقرر هذه القاعدة التى نص عليها الشاطبى رحمه الله حيث قال: "ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل فى اعتقاد المبتدع مشروعاً، وليس بمشروع".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وباعتبار وصف القربة فى البدعة جاء تعريف شيخ الإسلام للبدعة، بأنها الدين الذى لم يأمر به الله، ولا يخفى ما فى هذا النعت من اعتبار قصد القربة فى العمل المحدث ليكون بدعة.
قال رحمه الله: "وقد قررنا فى القواعد فى قاعدة السنة والبدعة، أن البدعة هى: الدين الذى لم يأمر الله به فهو مبتدع بذلك، وهذا معنى قوله تعالى: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } [الشورى : 21].
وقال: ( ... فإن البدعة ما لم يشرعه الله من الدين، فكل من دان بشىء لم يشرعه الله فذاك بدعة وإن كان متأولاً فيه)(3).
وقال أبو شامة فى الباعث على إنكار البدع والحوادث ص49: "البدعة التى يظنها الناس أنها قربة، وهى بخلاف ذلك"، ثم قال: "فهذا الذى وضعت هذا الكتاب لأجله..".
__________
(1) ... الاستقامة 1/339.
(2) ... مسلم 2/1020 (1480)، البخارى 6/118 (5073)، وانظر آخر الباب الخامس.
(3) ... الاستقامة 1/5 : 42.(1/38)
وقصد القربة يراد به: إلحاق حكم شرعى بعمل محدث كالندب، والاستحباب والإيجاب، أو الكراهة والتحريم، قال شيخ الإسلام: (فمن ندب إلى شىء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله، أو فعله، من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله)(1).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويراد به كذلك استحسان الفعل المحدث، وإن لم يلحق به حكماً شرعياً، وإن كان ذلك غير متصور، لأن من لوازم استحسانه إلحاق وصف شرعى به، وإلصاق حكم تشريعى بالبدعة.
وقصد القربة يتوجه إلى العمل الذى لا يتصور فيه غير إرادة القربة كالعبادات المحضة، وهى حق خالص لله سبحانه، فلابد من مطابقة فعل العبد لأمر الشرع(2).
والعبادة التى هى حق لله سبحانه وتعالى لا يتصور فيها غير إرادة القربى، فالإحداث فيها يسمى ابتداعاً، سواء قصد القربة أو مع افتراض أنه لم يقصد القربة، فلو أحيا ليلة النصف من شعبان بعبادة مخصوصة، كالصلاة والذكر فهو مبتدع(3) حتى مع افتراض عدم قصده للقربة ... مع أن هذا الافتراض تخيلى لا يمكن وقوعه.
ويتوجه قصد القربة كذلك إلى العمل الذى يحمل أوجهاً متعددة مثل الأمور الدنيوية، فينظر إلى الفعل باعتبار الوجه الغالب عليه، أو باعتبار وجه القربة إذا اتحدت أوجه الفعل الواحد، ويتضح هذا بالمثال:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... مجموع الفتاوى 3/195.
(2) ... انظر الموافقات للشاطبى 2/308.
(3) ... الوارد فى فضل الصلاة فى هذه الليلة لا يصح. وانظر فى هذا الموضوع: مجموع الفتاوى (23/131)، ورهبان الليل (2/131)، والإبداع فى مضار الابتداع للشيخ على محفوظ (ص286)، وضعيف الترغيب (622، 623، 1651، 1654).(1/39)
فمن لبس ثوبًا ملونًا معينًا ولم يرد بذلك القربة فلا يوصف هذا العمل بالبدعة، لأنه مباح، إلا إذا لحقته أمور منهى عنها، كالإسبال والاشتهار، فإنه يكون معصية.
أما إذا أراد بذلك الثوب المعين، واللون المعين قربة، أو ألحق به وصف استحسان أو استحباب أو ندب أو إيجاب، فإنه يكون حينذاك بدعة، كما تفعل طوائف الصوفية التى تشترط لوناً معيناً لمريدى طريقتها.
والخلاصة، أن كل فعل أو ترك بقصد القربة، مما ليس له أصل فى الشرع فهو بدعة.
ويخرج بذلك ما فعل أو ترك لا بقصد القربة، فيكون حينئذ معصية، أو مخالفة أو عفواً، ولا يطلق عليه بدعة.
مثال ما فعل لا بقصد القربة ويكون معصية: جميع المنهيات الشرعية كالنظر إلى النساء، وسماع الغناء، فإذا كان هذا العمل بقصد القربة إلى الله فهو بدعة ...
ومثال ما ترك لا بقصد القربة ويكون معصية: ترك المأمور به شرعاً، كترك النكاح للقادر عليه، وترك الدعوة إلى الله ممن وجبت عليه. فإذا كان هذا الترك بقصد القربة إلى الله بذلك فهو بدعة.
ومثال ما فعل لا بقصد القربة ويكون عفواً: حلق الرأس فى غير نسك، فإذا فعل بقصد القربة فهو بدعة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومثال ما ترك لا بقصد القربة ويكون عفواً: الامتناع عن أكل اللحم للتطبب ونحوه، فإن كان الترك لأكل اللحم تديناً فهو بدعة.
وقد ذكر شيخ الإسلام ما يشبه هذا الكلام فى مواطن من كتبه، ومن ذلك ذكره للحلق الذى يكون مشروعاً، والحلق الذى يكون جائزاً، والحلق الذى يكون بدعة(1).
وهذا الشرط الذى هو قصد القربة، هو ما عناه الشاطبى فى تعريفة للبدعة بقوله: (طريقة فى الدين تضاهى الشرعية ... ).
__________
(1) ... اقتضاء الصراط المستقيم 1/326-327 و2/630-633، 637، الفتاوى 21/317– 319 و 18/346، درء التعارض 1/244.(1/40)
ومن هذه المضاهاة: طلب القربة من الله سبحانه، وقد حاول بعض مُحَسِّنى البدع إلغاء هذا الشرط، واعترض عليه بأنواع من الاعتراضات المقتضية لتحسين بعض البدع التى قصد بها القربة، كبدع التوسل بذوات الصالحين، وبدعة التبرك بآثارهم، وبدعة الاحتفال بالمولد النبوى(1).
مع أن المضاهاة مِن ألزم صفات البدعة، لأن ( ... البدعة لا تكون حقاً محضاً موافقاً للسنة، إذ لو كانت كذلك لم تكن باطلاً، ولا تكن باطلاً محضاً لا حق فيه، إذ لو كانت كذلك لما خفيت على الناس، ولكن تشتمل على حق وباطل،
منها(2) وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعد، ضاحياً لا يستظل، والاختصاص فى الانقطاع للعبادة والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة.
ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبى - صلى الله عليه وسلم - عيداً، وما أشبه ذلك.
ومنها التزام العبادات المعينة فى أوقات معينة، لم يوجد لها ذلك التعيين فى الشريعة كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته.
وثَمَّ أَوجهٌ تضاهى بها البدعة الأمور المشروعة، فلو كانت لا تضاهى الأمور المشروعة لم تكن بدعة، لأنها تصير من باب الأفعال العادية.
وأيضاً فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهى بها السنة حتى يكون ملبساً بها على الغير، أو تكون هى مما تلتبس عليه بالسنة، إذ الانسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع، لأنه إذ ذاك لا يستجلب به فى ذلك الابتداع نفعاً ولا يدفع به ضرراً، ولا يجيبه غيره إليه. ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيّل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه فى أهل الخير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... انظر البدعة د. عزت عطية 166، 178، 179، 416، 417.
(2) ... أى من الأوجه التى تشابه فيها البدعة الطريقة الشرعية وهى فى الحقيقة مضادة لها.(1/41)
فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل، إما مخطئاً غالطاً، وإما متعمداً لنفاق فيه وإلحاد(1).
فأنت ترى العرب الجاهلية فى تغيير ملة إبراهيم عليه السلام، كيف تأولوا فيما أحدثوه احتجاجاً منهم، كقولهم فى أصل الإشراك { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } (2) وكترك الحُمْس(3) الوقوف بعرفة لقولهم: لا نخرج من الحرم اعتداداً بحرمته، وطواف من طاف منهم بالبيت عرياناً قائلين: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها، وما أشبه ذلك مما وجهوه ليصيروه بالتوجيه كالمشروع، فما ظنك بمن عُدَّ -أو عَدَّ- نفسه من خواص أهل الملة؟ فهم أحرى بذلك، وهم المخطئون وظنهم الإصابة، وإذا تبين هذا ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ فى أجزاء الحد(4).
وقوله: يقصد بالسلوك عليها المبالغة فى التعبد لله تعالى هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.
وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب فى ذلك، لأن الله تعالى يقول: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (5) فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف.
__________
(1) ... درء التعارض 7/170.
(2) ... الزمر : 3.
(3) ... الحُمْس: هم القرشيون، أو بعض القرشين، سموا حمساً لأنهم تحمسوا فى دينهم وتشددوا، وكانوا شجعاناً لا يطاقون، وقيل كان من أفعالهم أنهم لا يستظلون أيام منى ولا يدخلون البيوت وهم محرمون، وغير ذلك من البدع والمنكرات فعلوها تعبداً وتقرباً إلى الله (للتفصيل راجع لسان العرب 2/995). وانظر تفسير ابن كثير عند قوله تعالى { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } من سورة البقرة: آية 199.
(4) ... أى أن ذكر قيد "تضاهى الشرعية" ضرورى فى تعريف حد البدعة.
(5) ... الذاريات : 56.(1/42)
وأيضاً فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جدد لها أمر لا تعهده، حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول ولذلك قالوا: (لكل جديد لذة)(1).
فى حديث معاذ بن جبل رضى الله عنه: فيوشك قائل أن يقول ما هم بمتبعىَّ فيتبعونى وقد قرأتك القرآن فلا تتَّبعُنِّى حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة(2).
وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل فى العادات، فكل ما اخترع من الطرق فى الدين مما يضاهى المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية.
وأما الحد على الطريقة الأخرى فقد تبين معناه إلا قوله: يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية.
ومعناه أن الشريعة جاءت لمصالح العباد فى عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم فى الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذى يقصده المبتدع ببدعته. لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتى تعبده على أبلغ ما يكون فى زعمه ليفوز بأتم المراتب فى الآخرة فى ظنه، وإن تعلقت بالعادات فكذلك، لأنه إنما وضعها لتأتى أمور دنياه على تمام المصلحة فيها.
وقد ظهر معنى البدعة وما هى فى الشرع والحمد لله [4].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[4] ... وقد رجَّح الشاطبى رحمه الله تعالى هذا التعريف الذى يقول بدخول البدع فى العادات والمعاملات، حيث قال:
__________
(1) ... قوله: لكل جديد لذة: فالبدعة شىء جديد فيكون لها لذة واستحسان حتى تتمكن من المبتدع ويصير داعياً لها، فيقبل عليها الناس كما يقبلون على كل جديد وهكذا تنتشر البدع كما تنتشر الحقائق ما لم يكن هناك أهل حق يفندونها ويعلمون الناس الحق.
(2) ... أخرجه أبو داود (4611) وعبد الرازق فى المصنف (20750) واللفظ له. انظر تحقيق الهلالى للاعتصام 1/55. وهو حديث صحيح موقوف.(1/43)
ثبت فى الأصول الشرعية أنه لابد فى كل عادى من سابقة التعبد، لأن مالا يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهى عنه فهو المراد بالتعبدى، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادى. فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدى، والبيع، والنكاح، والشراء، والطلاق، والإجارات والجنايات كلها عادى، لأن أحكامها معقولة المعنى، ولابد فيها من التعبد إذ هى مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها ... فإن جاء الابتداع فى الأمور العادية من هذا الوجه صح دخوله فى العاديات كالعبادات وإلا فلا".
وقال أيضا: شبه والرد عليها:
إذا كان الأصل فى العقود والشروط والمعاملات العفو حتى يحرمها الله تعالى، فكيف تدخلها البدع؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والجواب، أولاً: ثبت فى الأصول الشرعية أنه لابد فى كل عادى من شائبة التعبد لكونه مقيداً بأوامر الشرع إلزاماً أو تخييراً أو إباحة.
ثانياً: البدع لا تدخل فى الأمور العادية إلا من الوجه العبادى فيها، فإذا ألحق المكلف حكماً شرعياً بعمل عادى وقصد به القربة وهو فى حقيقته ليس كذلك فقد ابتدع.
قال ابن رجب رحمه الله: (فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود ... كمن تقرب إلى الله بسماع الملاهى أو بالرقص أو بكشف الرأس فى غير الإحرام ... ).
وكما يقول الشاطبى رحمه الله تعالى: والأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية فكلاهما مشروع من قبل الشارع فكما تقع المخالفة بالابتداع فى أحدهما تقع فى الآخر.
وقال النووى فى شرح مسلم لحديث (وفى بضع أحدكم صدقة) (1005)، "فى هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقة".
ويقول الغزالى فى الإحياء 4/371: وما من شىء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات.(1/44)
ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى فى الفتاوى 1/311: الأصل الثانى: أن نعبده بما شرع على ألسنة رسله، ولا نعبده إلا بواجب أو مستحب، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل فى ذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال فى الاستقامة 2/152: لذات الدنيا ونعيمها إنما هى متاع ووسيلة إلى لذات الآخرة وكذلك خلقت، فكل لذة أعانت على لذات الآخرة فهو مما أمر الله به ورسوله، ويثاب على ما يقصد به وجهه ... ).
ويمكن توضيح هذه المعانى بالأمثلة:
? وضع المكوس على الناس حتى تصبح أمراً محتوماً دائماً أو فى أوقات محدودة على كيفيات مضروبة بحيث تضاهى المشروع كالزكاة.
? نكاح المحلل الذى يحتال به لإجازة ما هو حرام شرعاً إذا اعتقد فاعلوه جواز ذلك، وحله فى الشريعة، أما إذا لم يعتقدوا ذلك فيكون حراماً ومعصية لا بدعة.
? وفى العادات بمثل التقيد بلباس معين أو عادة معينة، بحيث يجعل ذلك لازماً أو مستحباً وهو فى الأصل مباح، فذلك يعد بدعة كما نص شيخ الإسلام على ذلك، وقد نص رحمه الله تعالى على لبس الصوف ( ... اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقاً إلى الله بدعة) الفتاوى 11/28، 555.
فصل
فى الكلام على البدعة التَّرْكيَّة
وفى الحد أيضا معنى آخر مما ينظر فيه. وهو أن البدعة من حيث قيل فيها: إنها طريقة فى الدين مخترعة –إلى آخره- يدخل فى عموم لفظها البدعة التَّرْكيَّة، كما يدخل فيه البدعة غير التركية، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك أو غير تحريم، فإن الفعل -مثلاً- قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه، أو يقصد تركه قصداً.(1/45)
فهذا الترك إما أن يكون لأمر يعتبر مثله شرعاً أو لا، فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه، إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب تركه، كالذى يحرم نفسه الطعام الفلانى من جهة أنه يضره فى جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك، فلا مانع هنا من الترك، بل إن قلنا بطلب التداوى للمريض فإن الترك هنا مطلوب، وإن قلنا بإباحة التداوى، فالترك مباح.
وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذراً مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين(1)، وكتارك المتشابه، حذراً من الوقوع فى الحرام واستبراءً للدين والعرض.
وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تديناً أو لا، فإن لم يكن تديناً فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك، ولا يسمى هذا الترك بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: إن البدعة تدخل فى العادات. وأما على الطريقة الأولى فلا يدخل. لكن هذا التارك يصير عاصياً بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحل الله.
وأما إن كان الترك تديناً فهو الابتداع فى الدين على كلتا الطريقتين، إذ قد فرضنا الفعل جائزًا شرعًا فصار الترك المقصود معارضة للشارع فى شرع التحليل وفى مثله نزل قول الله تعالى: { ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } (2) فنهى أولاً عن تحريم الحلال. ثم جاءت الآية تشعر بأن ذلك اعتداءٌ لا يحبه الله. وسيأتى للآية تقرير إن شاء الله.
__________
(1) ... هذا صحيح لأن على المسلم أن يستبرأ لدينه، ويسد الذرائع الموصلة إلى المحرم، أما حديث " لا يبلغ العبد أن يكون فى المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به بأس" فهو ضعيف رواه الترمذى (2451)، والبيهقى فى الشعب، والطبرانى فى الكبير من حديث عطية السعدى، وابن ماجة (4215)، وضعفه الألبانى فى السنن، والجامع/6320.
(2) ... المائدة : 87.(1/46)
لأن بعض الصحابة هَمَّ أن يحرم على نفسه النوم بالليل، وآخر الأكل بالنهار، وآخر إتيان النساء، وبعضهم هَمَّ بالاختصاء، مبالغة فى ترك شأن النساء، وفى أمثال ذلك قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : (من رغب عن سنتى فليس منى)(1).
فإذاً كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعى فهو خارج عن سنة النبى - صلى الله عليه وسلم - ، والعامل بغير السنة تدينا، هو المبتدع بعينه [5].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[5] ... هل ترك المشروع أو المباح تقرباً وديانة يعد بدعة ..؟
__________
(1) ... تقدم تخريجه ص51.(1/47)
فإن قيل: فتارك المطلوبات الشرعية ندباً أو وجوباً، هل يسمى مبتدعاً أم لا؟
فالجواب: أن التارك للمطلوبات على ضربين:
أحدهما: أن يتركها لغير التدين إما كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك من الدواعى النفسية. فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر، فإن كان فى واجب فمعصية وإن كان فى ندب فليس بمعصية، إذا كان الترك جزئياً، وإن كان كلياً فمعصية حسبما تبين فى الأصول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البدعة كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكما تكون بفعل غير المشروع، تكون بترك المشروع.
? أما فعل غير المشروع فواضح وأمثلته كثيرة ودليله (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)(1). فإذا فعل المكلف ما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع وجود الداعى وانتفاء المانع فقد ابتدع ... ".
مثاله الجهر بالنية فى الصلاة، الأذان فى العيدين، الاجتماع على صلاة بصيغة فى أول رجب ونحو ذلك.
? وأما ترك المشروع أو المباح تديناً فمثاله ما رواه الترمذى عن ابن عباس أن رجلاً قال يا رسول الله إنى إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتنى الشهوة فحرمت على اللحم، فأنزل الله تعالى قوله: { ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } (2).
والثانى: أن يتركها تديناً فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع الله، ومثاله أهل الإباحة القائلين بإسقاط التكاليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذى حدوه.
فإذًا قوله فى الحد: "طريقة مخترعة تضاهى الشرعية" يشمل البدع التركية، كما يشمل غيرها، لأن الطريقة الشرعية أيضاً تنقسم إلى ترك وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... رواه مسلم (1718) وهو عند البخارى بنحوه (2697) من حديث عائشة.
(2) ... المائدة : 87، والحديث رواه الترمذى (3054): صحيح.(1/1)
أما الفعل فهو من حيث تعلق الخطاب الشرعى به فهو على ضربين(1):
أحدهما: متعلق بمراد الشارع من حيث الحظر والإباحة، وهو ما اصطلح عليه باسم العبادات والمعاملات.
الثانى: متعلق بفعل المكلف وهو على ثلاثة أقسام: قسم الاعتقاد، قسم القول، قسم الفعل (وكل هذه الأضرب والأقسام تدخلها البدع).
وسبق القول بدخول البدع فى المعاملات وأمثلة ذلك.
وسبق أيضاً القول بدخولها فى العادات كما فى حديث أبى اسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فنهاه النبى - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وأمره بالصيام(2)، وكذلك حديث الثلاثة الذين استقلوا عبادة النبى - صلى الله عليه وسلم - .
وسواء علينا قلنا: إن الترك فعل، أم قلنا: إنه نفى الفعل، على الطريقتين المذكورتين فى أصول الفقه.
وكما يشمل الحد الترك يشمل أيضاً ضد ذلك.
وهو ثلاثة أقسام:
قسم الاعتقاد، وقسم القول، وقسم الفعل، فالجميع أربعة أقسام [6].
وبالجملة، فكل ما يتعلق به الخطاب الشرعى(3)، يتعلق به الابتداع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[6] ... والبدعة أيضاً تكون فى العقائد والأقوال والأعمال(4):
لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
أمثلة البدع فى الاعتقاد: بدعة المرجئة والخوارج والمعتزلة والأشاعرة والرافضة.
أمثلة البدع فى الأقوال: الجهر بالنية فى الصلاة، ذكر الله تعالى بالاسم
المفرد.
أمثلة البدع فى الأعمال: لبس الصوف عبادة، عمل الموالد، صلاة الرغائب ونحو ذلك.
__________
(1) ... انظر "حقيقة البدعة وأحكامها" سعيد بن ناصر الغامدى، ط1، ص302 وما بعدها.
(2) ... رواه الترمذى (3054) والطبرانى فى الكبير (11/277) وقال الترمذى: ورواه بعضهم مرسلاً، وصححه الألبانى فى السنن، وانظر آخر الباب الخامس.
(3) ... ومما يتعلق به الخطاب الشرعى الفعل والترك وسبق الكلام عن الترك.
(4) ... انظر حقيقة البدعة وأحكامها للغامدى 1/298 – 307.(1/2)
الباب الثانى
ذم البدع وسوء منقلب أصحابها
لا خفاء أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها، لأن اتباعها خروج عن الصراط المستقيم ورمي في عماية، وبيان ذلك من جهة: النظر، والنقل الشرعي العام.
أما النظر فمن وجوه:
( أحدهما: أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غير مستقلة بمصالحها؛ استجلاباً لها، أو مفاسدها؛ استدفاعاً لها. لأنها إما دنيوية أو أخروية، فأما الدنيوية فلا يستقل باستدراكها على التفصيل البتة لا في ابتداء وضعها أولاً، ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها، إما في السوابق، وإما في اللواحق، لأن وضعها أولاً لم يكن إلا بتعليم الله تعالى، لأن آدم عليه السلام لما أُنزل إلى الأرض عُلِّم كيف يستجلب مصالح دنياه إذ لم يكن ذلك من معلومه أولاً، إلا على قول من قال: إن ذلك داخل تحت مقتضى قول الله تعالى: { وعلم آدم الأسماء كلها } (1) وعند ذلك يكون تعليماً غير عقلي، ثم توارثته ذريته كذلك في الجملة. لكن فرعت العقول من أصولها تفريعاً تتوهم استقلالها به. ودخل في الأصول الدواخل حسبما أظهرت ذلك أزمنة الفترات، إذ لم تجر مصالح الفترات على استقامة، لوجود الفتن والهرج، وظهور أوجه الفساد.
فلولا أن مَنَّ الله على الخلق ببعثة الأنبياء لم تستقم لهم حياة، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم، وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين.
وأما المصالح الأخروية، فأبعد عن مجارى العقول من جهة وضع أسبابها، وهي العبادات مثلاً. فإن العقل لا يشعر بها على الجملة، فضلاً عن العلم بها على التفصيل [7].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[7] ... يقول الشاطبى رحمه الله تعالى فى (الموافقات 1/537):
__________
(1) ... البقرة: 31.(1/3)
إن المصالح التى تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه والذى يخفى عليه منها أكثر من الذى يبدو له، فقد يكون ساعياً فى مصلحة من وجه لا يوصله إليها، أو يوصله إليها آجلاً لا عاجلاً، أو يوصله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تُرْبَى فى الموازنة على المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها، وكم من مدبر أمراً لا يتم على كماله أصلاً، ولا يجنى منه ثمرة أصلاً وهو معلوم مشاهد بين العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين فإذا كان كذلك فالرجوع إلى الوجه الذى وضعه الشارع رجوع إلى وجوه حصول المصلحة والتخفيف على الكمال، بخلاف الرجوع إلى ما خالفه، وهذه المسألة بالجملة فرع من فروع موافقة قصد الشارع أو مخالفته.
ومن جهة تصور الدار الأخرى وكونها آتية فلا بد وأنها دار جزاء على الأعمال، فإن الذي يدركه العقل من ذلك مجرد الإمكان أن يشعر به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويقول الشاطبى فى (الموافقات 2/44):
المصالح الدنيوية لا يتخلص كونها مصالح محضة وأعنى بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه ونَيْله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعماً على الإطلاق، وهذا فى مجرد الاعتياد لا يكون، لأن تلك المصالح مشوبةً بتكاليف ومشاق، قلت أو كثرت، تقترن بها أو تسبقها أو تلحقها، كالأكل والشرب، واللبس والسكنى والركوب، والنكاح، وغير ذلك فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب.
كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة، إذ ما من مفسدة تفرض فى العادة الجارية إلا ويقترن بها إذ يسبقها أو يلحقها الرفق واللطف ونيل اللذات كثير.(1/4)
ويدلك على ذلك ما هو الأصل، وذلك إن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق، وأصل ذلك الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص، قال تعالى { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } (1) وقال
ولا يغترن ذو الحجى بأحوال الفلاسفة المدعين لإدراك الأحوال الأخروية بمجرد العقل، قبل النظر في الشرع، فإن دعواهم بألسنتهم في المسألة بخلاف ما عليه الأمر في نفسه. لأن الشرائع لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل. والأنبياء أيضاً لم يزالوا موجودين في العالم وهم أكثر. وكل ذلك من لدن آدم عليه السلام إلى أن انتهت بهذه الشريعة المحمدية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } (2) وما فى هذا المعنى، وقد جاء فى الحديث (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)(3) فلهذا لم يخلص فى الدنيا لأحد جهةٌ خاليةٌ من مشاركة الجهة الأخرى.
فى حاشية الموافقات 2/45:
(حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) الحديث
طبعت النفوس على داعية حب الراحة والانغماس فى اللذائذ، ولكن المعالى والشرف لا تنال إلا باقتحام مصاعب هذه الحياة والخوض فى معامع الأخطار، فساعدة الأرواح تكون على قدر ما تحتمل من المتاعب وتقاسيه من آلام مخالفة، الهوى وقد رسم الشارع لها فى هذا السبيل حدوداً حجر عليها أن تتعداها، وفوض ما يعدو ذلك إلى همم المكلفين ليتسابقوا فى مقابلة الدواعى الزائفة ومصارعة ما يلاقونه من الشدائد.
__________
(1) ... الأنبياء: 35.
(2) ... تبارك: 2.
(3) ... رواه مسلم (2822) من حديث أنس، والترمذى (2559).(1/5)
غير أن الشريعة كانت إذا أخذت في الدروس بعث الله نبياً من أنبيائه يبين للناس ما خلقوا لأجله وهو التعبد لله. فلا بد أن يبقى من الشريعة المفروضة -ما بين زمان أخذها في الاندراس وبين إنزال الشريعة بعدها -بعض الأصول المعلومة.
فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول فتلقفوها أو تلقفوا منها، فأرادوا أن يُخَرِّجوه على مقتضى عقولهم، وجعلوا ذلك عقلياً لا شرعياً، وليس الأمر كما زعموا.
فالعقل غير مستقل البتة، ولا ينبني على غير أصل، وإنما ينبني على أصل متقدم مُسلَّم على الإطلاق. ولا يمكن في أحوال الآخرة قِبَلهم أصل مسلم إلا من طريق الوحي. ولهذا المعنى بسط سيأتي إن شاء الله.
فعلى الجملة، العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي. فالابتداع مضاد لهذا الأصل، لأنه ليس له مستند شرعي بالفرض، فلا يبقى إلا ما ادعوه من العقل. فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها ما رام تحصيله من جهتها، فصارت كالعبث. هذا إن قلنا: إن الشرائع جاءت لمصالح العباد.
وأما على القول الآخر، فأحرى أن لا يكون صاحب البدعة على ثقة منها، لأنها إذ ذاك مجرد تعبد وإلزام من جهة الآمر للمأمور. والعقل بمعزل عن هذه الخطة حسبما تبين في علم الأصول. وناهيك من نحلة ينتحلها صاحبها في أرفع مطالبه لا ثقة بها، ويلقي من يده ما هو على ثقة منه.
( والثاني: أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، لأن الله تعالى قال فيها: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } (1).
__________
(1) ... المائدة: 3.(1/6)
وفي حديث العرباض بن سارية: (وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا ؟ قال: تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الراشدين من بعدي) الحديث(1).
وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا(2) وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة.
فإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها، لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، لأن الله يقول: { اليوم أكملت لكم دينكم } (3) فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً.
(
__________
(1) ... رواه الترمذى (2676) والدارمى (1/57)، وهو صحيح، وأبو داود (4607) وأحمد (4/126).
(2) ... لحديث أبى ذر عند أحمد (5/153) والطبرانى: "لقد تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يحرك طائر جناحيه فى السماء إلا ذكر لنا منه علماً، زاد الطبرانى "فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - ما بقى شئ يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم" ورجال الطبرانى رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المفرى وهو ثقة ، وفى إسناد أحمد من لم يسم ( مجمع الزوائد 8/264) ، وحسنه محققوا مسند الرسالة.
(3) ... المائدة: 3.(1/7)
والثالث: أن المبتدع معاند للشرع ومشاق له، لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأخبر أن الخير فيها، وأن الشر في تعديها ... إلى غير ذلك، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين. فالمبتدع راد لهذا كله، فإنه يزعم أن ثم طرقاً أخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم، ونحن أيضاً نعلم. بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع، أنه علم ما لم يعلمه الشارع.
وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين.
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيره في بعض القدرية، فكتب إليه:
أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ قد كفوا ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أحرى. فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم، ورغب بنفسه عنهم، إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مَقْصَر، وما فوقهم مَحْسَر، لقد قصر عنهم آخرون فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم، ثم ختم الكتاب بحكم مسألته.
فقوله: "فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها" فهو مقصود الاستشهاد.
((1/8)
والرابع: أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع، لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك، لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون. وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع، ولم يبق الخلاف بين الناس. ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام.
فهذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيراً ومضاهياً للشارع حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف باباً، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك.
( والخامس: أنه اتباع للهوى، لأن العقل إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين. ألا ترى قول الله تعالى: { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } (1).
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى، وعزل العقل مجرداً إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك. وقال: { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه } (2).
فجعل الأمر محصوراً بين أمرين، اتباع الذكر، واتباع الهوى، وقال: { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } (3). وهي مثل ما قبلها. وتأملوا هذه الآية فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه، فلا أحد أضل منه.
وهذا شأن المبتدع، فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله. وهدى الله هو القرآن. وما بينته الشريعة وبينته الآية أن اتباع الهوى على ضربين:
أحدهما: أن يكون تابعاً للأمر والنهي فليس بمذموم ولا صاحبه بضال. كيف وقد قدم الهدى فاستنار به في طريق هواه، وهو شأن المؤمن التقي.
والآخر: أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأول، كان الأمر والنهي تابعين بالسنة إليه أو غير تابعين وهو المذموم.
__________
(1) ... ص: 26.
(2) ... الكهف: 28.
(3) ... القصص: 50.(1/9)
والمبتدع قدم هوى نفسه على هدى الله فكان أضل الناس وهو يظن أنه على هدى.
وقد انجَّر هنا معنى يتأكد التنبيه عليه، وهو أن الآية المذكورة عينت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقين:
أحدهما: الشريعة، ولا مرية في أنها علم وحق وهدى، والآخر: الهوى وهو المذموم، لأنه لم يذكر في القرآن إلا في سياق الذم، ولم يجعل ثم طريقاً ثالثاً. ومن تتبع الآيات، ألفى ذلك كذلك. ثم العلم الذي أحيل عليه والحق الذي حمد إنما هو القرآن وما نزل من عند الله، كقوله تعالى: { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } وقال بعد ذلك: { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم } (1) وقال: { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين } (2). وهذا كله لاتباع أهوائهم في التشريع بغير هدى من الله، وقال: { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } (3).
وهو اتباع الهوى في التشريع، إذ حقيقته افتراء على الله. وقال: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله } (4) أي لا يهديه دون الله شيء. وذلك بالشرع لا بغيره وهو الهدى.
وإذا ثبت هذا وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى، تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد، فكأنه ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى، فهو إذاً اتباع الهوى بعينه في تشريع الأحكام.
__________
(1) ... الأنعام: 144.
(2) ... الأنعام: 140.
(3) ... المائدة: 103.
(4) ... الجاثية: 23.(1/10)
ودع النظر العقلي في المعقولات المحضة فلا كلام فيه هنا، وإن كان أهله قد زلوا أيضاً بالابتداع فإنما زلوا من حيث ورود الخطاب ومن حيث التشريع، ولذلك عذر الجميع قبل إرسال الرسل، أعني في خطئهم في التشريعات والعقليات، حتى جاءت الرسل فلم يبق لأحد حجة يستقيم إليها { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (1) ولله الحجة البالغة. فهذه قاعدة ينبغي أن تكون من بال الناظر في هذا المقام، وإن كانت أصولية فهذه نكتتها مستنبطة من كتاب الله. أهـ.
فصل: فى ذم البدع من جهة النقل
وأما النقل فمن وجوه:
أحدها: ... ما جاء فى القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع فى دين الله فى الجملة.
( فمن ذلك قوله تعالى: { هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ما يعلم تأويله إلا الله } (2)، فهذه الآية من أعظم الشواهد، وقد جاء فى الحديث تفسيرها: فصح من حديث عائشة رضى الله عنها أنها قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: { فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } قال: (فإذا رأيتهم فاعرفيهم).
وصح عنها أنها قالت: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية { هو الذى أنزل عليك الكتاب } إلى آخر الآية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)(3).
(
__________
(1) ... النساء: 165.
(2) ... آل عمران: 7.
(3) ... رواه مسلم (2665) والترمذى (2994) والدارمى (1/66) والبخارى (4547).(1/11)
ومن الآيات قوله تعالى: { وأنَّ هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } (1) فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذى دعا إليه وهو السنة، والسبل هى سبل أهل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع، وليس المراد سبل المعاصى، لأن المعاصى من حيث هى معاص لم يضعها أحد طريقاً تسلك دائماً على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات.
ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبى وائل عن عبد الله(2) قال: (خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً خطاً طويلاً، وخط لنا سليمان خطاً طويلاً، وخط عن يمينه وعن يساره فقال: "هذا سبيل الله" ثم خط لنا خطوطاً عن يمينه ويساره فقال: "هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه" ثم تلا هذه الآية: { وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل -يعنى الخطوط- فتفرق بكم عن سبيله } ).
قال بكر بن العلاء: أحسبه أراد شيطاناً من الإنس وهى البدع والله أعلم، والحديث مخرج من طرق(3).
( ومنها قوله تعالى: { وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين } (4) فالسبيل القصد هو طريق الحق، وما سواه جائر عن الحق، أى عادل عنه، وهى طرق البدع والضلالات، أعاذنا الله من سلوكها بفضله وكفى بالجائر أن يحذر منه، فالمساق يدل على التحذير والنهى.
__________
(1) ... الأنعام: 153.
(2) ... هو ابن مسعود.
(3) ... رواه الدارمى (1/67) وسعيد بن منصور (5/112) والحاكم (2/2610) وأحمد (4142) والبزار (1677) والنسائى فى الكبرى (11175)، وهو صحيح، ورواه من حديث جابر ابن ماجة (11) وابن أبى عاصم (16) وأحمد (3/397) وصححه فى السنن، وفى سنده مجالد بن سعيد.
(4) ... النحل: 90.(1/12)
وعن مجاهد "قصد السبيل" أى المقتصد منها بين الغلو والتقصير، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالى أو المقصر، وكلاهما من أوصاف البدعة.
وحكى ابن بطال فى شرح البخارى عن أبى حنيفة أنه قال: لقيت عطاء ابن رباح بمكة فسألته عن شىء فقال: من أين أنت؟ فقلت من أهل الكوفة، قال: أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً: قلت نعم: قال من أى الأصناف أنت، قلت: ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر ولا يكفر أحداً بذنب، فقال عطاء: عرفت فالزم.
( ومنها قوله تعالى: { ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون } (1) قيل: هم أصحاب الأهواء والبدع. قالوا: روته عائشة رضى الله عنها مرفوعاً إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - (2). وذلك لأن هذا شأن من ابتدع حسبما قاله إسماعيل القاضى، وكما تقدم فى الآى الآخر.
( ومنها قوله تعالى: { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } (3).
قال أبو العاليه: "هن أربع: ظهر اثنتان بعد وفاه النبى - صلى الله عليه وسلم - بخمس وعشرين سنة، فألبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض، وبقيت اثنتان، فهما ولابد واقعتان، الخسف من تحت أرجلكم والمسخ من فوقكم". وهذا كله صريح فى أن اختلاف الأهواء مكروه غير محبوب ومذموم غير محمود.
وروى عن مطرف بن الشخير أنه قال: لو كانت الأهواء واحداً لقال قائل: لعل الحق فيه، فلما تشعبت وتفرقت عرف كل ذى عقل أن الحق لا يتفرق.
والآيات المصرحة والمشيرة إلى ذمهم عن ملابسه أحوالهم كثيرة، فلنقتصر على ما ذكرنا، ففيه -إن شاء الله- الموعظة لمن اتعظ، والشفاء لما فى الصدور.
الوجه الثانى من النقل:
__________
(1) ... الروم: 31-32.
(2) ... رواه الطبرانى فى الصغير (116)، وفيه بقية ومجالد، وكلاهما ضعيف: مجمع الزوائد (1/188، 10/185)، وابن أبى عاصم فى السُّنَّة (4) وضعفه الألبانى.
(3) ... الأنعام: 65.(1/13)
ما جاء فى الأحاديث المنقولة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهى كثيرة تكاد تفوت الحصر إلا أنا نذكر منها ما تيسر مما يدل على الباقى ونتحرى فى ذلك بحول الله ما هو أقرب إلى الصحة.
( فمن ذلك ما فى الصحيح من حديث عائشة رضى الله عنها عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفى رواية لمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)(1) وهذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام.
( وخرج مسلم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول فى خطبته: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)(2).
( وفى الصحيح من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً)(3).
( وفى الصحيح أيضاً عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من سنَّ فى الإسلام سنة خير فاتبع عليها فله أجره، ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شىء، ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئًا)(4).
(
__________
(1) ... الرواية الأولى للبخارى (2697) ومسلم (1718) وأحمد (6/73، 240) وأبو داود (4606) وابن ماجة (14)، والرواية الثانية عند مسلم (1718) وعلقها البخارى فى كتاب البيوع، باب (60) باب النجش (4/416 فتح)..
(2) ... رواه مسلم فى الجمعة – باب: تخفيف الصلاة والخطبة.
(3) ... رواه مسلم (2674) والترمذى وأبو داود (4609) وابن ماجة (206) والدارمى وابن حبان وابن ماجة من حديث أنس (205).
(4) ... رواه مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله والترمذى (2675)، ورواه ابن ماجة (207) من حديث أبى جحيفة.(1/14)
وما رواه الترمذى أيضاً وصححه، وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ... الحديث، وفيه .. وكل بدعة ضلالة".
( وفى الصحيح عن حذيفة أنه قال: إنَّا كنَّا فى جاهلية وشر يا رسول الله؟ هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: (نعم قوم يستنون بغير سنتى ويهتدون بغير هديى) قال فقلت: هل بعد ذلك الشر من شر؟ قال: (دعاة على نار جهنم من أجابهم قذفوه فيها) قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا) قلت: فما تأمرنى إن أدركنى ذلك؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) وخرجه البخارى على نحو آخر(1).
الوجه الثالث من النقل:
ما جاء عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم فى ذم البدع وأهلها وهو كثير.
( فمما جاء عن الصحابة ما صح عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه خطب الناس فقال: أيها الناس! قد سُنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً، وصفق بإحدى يديه على الأخرى. ثم قال: (إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل، لا نجد حدين فى كتاب الله، فقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا) إلى آخر الحديث(2).
( وفى الصحيح عن حذيفة رضى الله عنه أنه قال: يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً(3).
(
__________
(1) ... رواه البخارى (7084) كتاب الفتن – باب: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، ومسلم (1847) والبيهقى (8/156) والحاكم (1/197) وابن حبان (5963) وأبو داود (4244) بألفاظ متقاربة..
(2) ... رواه مالك (الحدود 10)، ورواه البخارى (6829).
(3) ... البخارى (7282) وابن عبد البر فى جامع البيان (1709).(1/15)
وروى عنه من طريق آخر أنه كان يدخل المسجد فيقف على الحلق فيقول (يا معشر القراء، اسلكوا الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً) وفى رواية ابن المبارك: "فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً.." الحديث.
( وعنه أيضاً: أخوف ما أخاف على الناس اثنتان: أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون وأن يضلوا وهم لا يشعرون. قال سفيان: وهو صاحب البدعة.
( وعنه أيضاً: أنه أَخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً قال: والذى نفسى بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لَتَفْشُونَّ البدع حتى إذا ترك منها شىء قالوا: تركت السنة.
( وعنه قال: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة(1)، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة وليصلين نساؤكم وهن حيض، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم ولا تخطئ بكم، وحتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس؟ لقد ضل من كان قبلنا، إنما قال الله: { أقم الصلاة طرفى النهار وزلفاً من الليل } (2) لا تصلون إلا ثلاثاً. وتقول الأخرى: إنما المؤمنون بالله كإيمان الملائكة، ما فيها كافر ولا منافق، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال".
__________
(1) ... رواه الحاكم (4/516) وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وروى شطره الأول ابن أبى شيبة فى المصنف (7/256) من حديث ابن مسعود.
(2) ... هود: 114.(1/16)
وهذا المعنى موافق لما ثبت من حديث أبى رافع عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى لا أدرى، ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه)(1) فإن السنة جاءت مفسرة للكتاب، فمن أخذ بالكتاب من غير معرفة بالسنة زل عن الكتاب كما زل عن السنة، فلذلك يقول القائل: "لقد ضل من كان قبلنا" إلى آخره.
وهذه الآثار عن حذيفة من تخريج ابن وضاح(2).
ومما جاء عمن بعد الصحابة رضى الله عنهم ما ذكر ابن وضاح عن الحسن قال: "صاحب البدعة لا يزداد اجتهاداً -صياماً وصلاة- إلا ازداد من الله بعدًا".
الوجه الرابع من النقل:
__________
(1) ... صحيح وتقدم أنه رواه الترمذى وابن ماجة (13).
(2) ... فى "البدع والنهى عنها".(1/17)
ما جاء فى ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس، وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية، لأن كثيراً من الجهال يعتقدون فيهم أنهم متساهلون فى الاتباع، وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت فى الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه. وحاشاهم فى ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به، فأول شىء بنوا عليه طريقتهم: اتباع السنة واجتناب ما خالفها حتى زعم مذكرهم وحافظ مأخذهم، وعمود نحلتهم، (أبو القاسم القشيرى) أنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفراداً به عن أهل البدع، فذكر أن المسلمين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتسمَّ أفاضلهم فى عصرهم باسم علم سوى الصحبة إذ لا فضيلة فوقها، ثم سمى من يليهم التابعين، ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين، ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية من الدين: الزهاد والعباد. قال: ثم ظهرت البدع وادعى كل فريق أن فيهم زهاداً وعباداً فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف(1). هذا معنى كلامه، فقد عدَّ هذا اللقب مخصوصاً باتباع السنة ومباينة البدعة، وفى ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم.
__________
(1) ... بدأ الشيخ يذكر أقوالاً من أقوال العلماء العبَّاد الزهاد الذين ينتسبون إلى الصوفية، وواضح كما قال الشيخ أن الخلل والبدع أتت ممن بعدهم، وقطعاً من فى زماننا هذا أشد خللاً وأشد ابتداعاً وبعداً عن الصراط المستقيم.(1/18)
وفى غرضى إن فسح الله المدة وأعاننى بفضله ويسر لى الأسباب أن أُلخص فى طريقة القوم أنموذجاً يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعى ولا فهم لمقاصد أهلها وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به، حتى صارت فى هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أُتى به محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فقد قال الفضيل بن عياض(1): من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة.
وقال ذو النون المصرى: من علامة حب الله متابعة حبيب الله - صلى الله عليه وسلم - فى أخلاقه وأفعاله وأمره وسنته. وقال: إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء: ... الأول: ضعف النية بعمل الآخرة.
الثانى: صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم.
الثالث: غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل.
الرابع: آثروا رضاءَ المخلوقين على رضاء الله.
الخامس: اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .
السادس: جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم.
وقال أبو على الحسن بن على الجوزجانى: من علامات السعادة على العبد تيسير الطاعة عليه، وموافقة السنة فى أفعاله، وصحبته لأهل الصلاح، وحسن أخلاقه مع الإخوان، وبذل معروفة للخلق واهتمامه للمسلمين، ومراعاته لأوقاته.
__________
(1) ... هو الإمام القدوة الثبت شيخ الإسلام المجاور بحرم الله ولد بسمرقند ونشأ بأبيورد وارتحل فى طلب العلم، وكان فى بدايته شاطراً يقطع الطريق، ثم سمع قوله تعالى { ألم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم } فقال: بلى يارب قد آن، اللهم إنى قد تبت إليك وجعلت توبتى مجاورة البيت الحرام. وكان ثقة نبيلاً فاضلاً عابداً ورعاً، وثقه وزكاه جمهور العلماء، وقال فيه ابن المبارك: ما بقى على ظهر الأرض عندى أفضل من الفضيل بن عياض. مات بمكة سنة 187هـ فى خلافة هارون الرشيد. (بتصرف عن سير أعلام النبلاء 8/421).(1/19)
وكلامهم فى هذا الباب يطول، وقد نقلنا عن جملة ممن اشتهر منهم ينيف على الأربعين شيخاً، جميعهم يشير أو يصرح بأن الابتداع ضلال، والسلوك عليه تيه، واستعماله رمى فى عماية، وأنه مناف لطلب النجاة، وصاحبه غير محفوظ، وموكول إلى نفسه، ومطرود عن نيل الحكمة، وأن الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة مجمعون على تعظيم الشريعة، مقيمون على متابعة السنة، غير مخلين بشىء من آدابها، أبعد الناس عن البدع وأهلها، ولذلك لا نجد منهم من ينسب إلى الفرق الضالة، ولا من يميل إلى خلاف السنة، وأكثر من ذكر منهم علماء وفقهاء ومحدثون، وممن يؤخذ عنه الدين أصولاً وفروعاً ومن لم يكن كذلك، فلابد له من أن يكون فقيهاً فى دينه بمقدار كفايته.
وهم كانوا أهل الحقائق والمواجد والأذواق والأحوال والأسرار التوحيدية، فهم الحجة لنا على كل من ينتسب إلى طريقهم ولا يجرى على منهاجهم، بل يأتى ببدع محدثات، وأهواء متبعات، وينسبها إليهم، تأويلاً عليهم من قول محتمل، أو فعل من قضايا الأحوال، أو استمساكاً بمصلحة شهد الشرع بإلغائها، أو ما أشبه ذلك. فكثيراً ما ترى المتأخرين ممن يتشبه بهم، يرتكب من الأعمال ما أجمع الناس على فساده شرعاً، ويحتج بحكايات هى قضايا أحوال إن صحت لم يكن فيها حجة، لوجوه عدة، ويترك من كلامهم وأحوالهم ما هو واضح فى الحق الصريح، والاتباع الصحيح، شأن من اتبع من الأدلة الشرعية ما تشابه بها [8].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[8] قال ناصر بن حمد الفهد فى كتاب الإعلام بمخالفات (الموافقات والاعتصام).
... وقد ذكرت مقدمات مختصرة هى:
المقدمة الأولى: فى عرض أقوال الرجال على الكتاب والسنة.
المقدمة الثانية: ... فى أن الرجل الفاضل الجليل قد تكون له زلات وهفوات يجب التنبيه عليها.(1/20)
ولما كان أهل التصوف فى طريقهم بالنسبة إلى إجماعهم على أمر كسائر أهل العلوم فى علومهم، أتيت من كلامهم بما يقوم منه دليل على مدعى السنة وذم البدعة فى طريقتهم حتى يكون دليلاً لنا من جهتهم، على أهل البدع عموماً، وعلى المدعين فى طريقهم خصوصاً، وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقدمة الأولى: "فى عرض الأقوال على الكتاب والسنة".
فقد أتت النصوص الشرعية بوجوب عرض كلام العلماء على الكتاب والسنة، فما وافقهما قبلناه وما عارضهما رددناه، فإن أقوال الرجال يحتج لها ولا يحتج بها، وقد ضُمنت لنا العصمة فى الكتاب والسنة ولم تضمن لنا فى أقوال العلماء، فيرد ما لم يُضمن إلى المضمون الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد قال الله تعالى: { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } (1).
المقدمة الثانية: ... فى أن الرجل الفاضل الجليل قد تكون له زلات وهفوات يجب التنبيه عليها.
إعلم أن سعة العلم وكثرة العبادة وظهور الفضل ليست من موانع الخطأ والزلل مطلقاً، فإن الله سبحانه لم يعصم أحداً من الناس -غير الأنبياء- عن ذلك، وقد يكون العالم مشتهراً بين الخاصة والعامة بالعلم والفضل وله لسان صدق فى الأمة ومع ذلك تقع منه الزلات والهفوات، والتى قد يكون بعضها عظيماً فلا يتبع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيما زل فيه، بل يجب التنبيه على ذلك سواء كان المنبه فاضلاً أو مفضولاً، لأن مراد الجميع الحق، ولهذا الأمر كثر التحذير من زلات العلماء فى كلام السلف، لأن العلم مظنة الاتباع.
__________
(1) ... النساء: 59.(1/21)
ومن ذلك قول عمر رضى الله عنه: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون)(1)، وروى نحوه عن أبى الدرداء وسلمان رضى الله عنهما(2)، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: (ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: يقول العالم برأيه، ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيترك قوله ثم تمضى الأتباع)(3).
ويخطئ فى هذا المقام طائفتان من الناس:
الطائفة الأولى: من إذا رأوا صدق العالم وفضله أحبوه وقبلوا جميع أقواله بلا تمحيص، ولم يرضوا بتخطئته، بل يتعدى بعضهم ذلك فلا يأخذ بالكتاب ولا السنة إلا بعد عرضها على قوله، وهذا كله من باب عبادة الأحبار والرهبان والتى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذمها الله سبحانه وتعالى بقوله { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } (4)، وفى مثل هؤلاء يقول عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "ألا لا يُقَلِّدنَّ أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة فى الشر"(5).
الطائفة الثانية: من إذا رأوا العالم أخطأ أو زَلَّ فى مسألة أو مسائل قاموا بالضرب على أقواله كلها حقها وباطلها، صحيحها وسقيمها، وهذا من الإجحاف والظلم واتباع الهوى، فإن سبيل المسلمين اتباع الحق أينما كان، والحق هو موافقة الكتاب والسنة، فمن جاء به قُبل منه أياً كان، ويدل عليه فعل
__________
(1) ... ورد بمعناه مرفوعاً : ولكنه ضعيف عند الطبرانى فى الكبير (17/14) والبزار (182كشف) وانظر مجمع الزوائد (1/187)، والموقوف عن عمر : رواه ابن عبد البر فى جامع بيان العلم (1867) وإسناده صحيح و(1869، 1870) وأخرجه اللالكائى (641).
(2) ... انظر جامع البيان والعلم (1711)، (1868).
(3) ... انظر (جامع بيان العلم وفضله) (1877).
(4) ... التوبة: 31.
(5) ... رواه ابن عبد البر فى الجامع (1882).(1/22)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه قَبِلَ الحق من اليهود كما فى الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: (جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد إنَّا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع والأراضين على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } (1))(2)، وفى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النسائى من حديث قتيلة بنت صيفى رضى الله عنها: (أن يهودياً جاء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت)(3).
__________
(1) ... الزمر: 67.
(2) ... رواه البخارى (4533) ومسلم (2786) من حديث ابن مسعود، وهاهنا أمر هام ينبغى التفطن إليه، وهو أن الحق يقبل لأنه حق، بصرف النظر عمن جاء به (يهودى أو شيطان)، ولكن معرفة أنه حق وإثبات ذلك لايكون عن طريق هؤلاء، وإنما يكون عن طريق شرعنا فالنبى صدق اليهودى لأنه عنده علم سابق بما قاله اليهودى، وكذلك قال عن الشيطان (صدق) لأنه عنده علم بذلك سابق، فالمرجع هو الشرع الحق، لا الشرائع المحرفة المبدلة.
(3) ... رواه النسائى (7/6) والحاكم (4/321) وأحمد، وهو صحيح.(1/23)
بل وأبلغ من ذلك ما فى الصحيح من حديث أبى هريرة رضى الله عنه الطويل عندما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ الزكاة، فكان يأتيه رجل فى كل ليلة فيحثو من الطعام فيمسكه أبو هريرة فى كل مرة ثم يطلقه، فلما كانت الأخيره أطلقه بعد أن علمه كلمات، فقال له: "إذا أويت إلى فراشك فأقرأ آية الكرسى، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح" وفيه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب يا أبا هريرة منذ ثلاث) فقال:لا، قال (ذلك الشيطان)(1) فقبل كلام الشيطان لأنه موافق للحق.
وإلى هاتين الطائفتين أشار معاذ بن جبل رضى الله عنه فيما رواه أبو داود
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بإسناد صحيح قال: (وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال الراوى: قلت لمعاذ: ما يدرينى -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التى يقال لها: ما هذه، ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً)(2).
__________
(1) ... رواه البخارى معلقاً بصيغة الجزم (2311) وصححه فى الترغيب (610) ومختصر البخارى، وذكر الحافظ أنه وصله أبو نعيم والإسماعيلى والنسائى فى الكبير (6/238).
(2) ... صحيح موقوف: ابن عبد البر فى جامع بيان العلم (1871)، وهو عند أبى داود (4611) وعبد الرزاق (20750) واللالكائى (116) والآجرى (48) قال مسلم ص56: وإسناده صحيح وله حكم الرفع لأن مثله لا يقال بالرأى والاجتهاد.(1/24)
فأشار رضى الله عنه إلى الطائفة الأولى بقوله: "إن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم"، وإلى الطائفة الثانية بقوله: "وأن المنافق قد يقول كلمة الحق"، وأشار إلى الطريق القويم فى هذا الباب بقوله: "اجتنب من كلام الحكيم المشبهات، ولا يثنيك ذلك –أى الخطأ- عنه فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته -يعنى من كل من أتى به- فإن على الحق نوراً".
تأثره بالصوفيه:
على الرغم من جهود الشاطبى رحمه الله فى التحذير من البدع فى العبادات والتى كان للصوفية فيها النصيب الأكبر، فقد تأثر ببعض ما ذهبوا إليه، وكان
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لرجوعه لكتب المتكلمين وعلمائهم أثر فى ذلك، وكان كثير الرجوع لكتب أبى حامد الغزالى وخاصة (إحياء علوم الدين) وسوف أذكر فى هذا الفصل بعض مظاهر تأثره بالصوفية فى المباحث التالية:
المبحث الأول: العمل رغبة فى الجنة وخوفاً من النار.
المبحث الثانى: شطحات التصوف.
المبحث الثالث: التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله.
المبحث الأول: العمل رغبة فى الجنة وخوفا من النار.
قال فى (الموافقات)(1) 1/357 –فى ترك النظر إلى المسبب وأن ذلك أعلى مرتبة وأزكى عملاً-: (فالملتفت إليها عامل بحظه، ومن رجع إلى مجرد الأمر والنهى عامل على إسقاط الحظوظ، وهو مذهب أرباب الأحوال).
وقال فى (الموافقات) 2/355 –بعد كلام طويل عن العامل لحظه-: (ولذلك عن جماعة من السلف المتقدمين: العامل للأجر كخديم السوء وعبد السوء، وفى الآثار من ذلك أشياء).
وقال فى (الموافقات) 2/359: (فإن كون الإنسان يعمل لمجرد امتثال الأمر قليل إن وجد، والله عز وجل قد أمر الجميع بالإخلاص، والإخلاص البرىء عن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) ... الطبعة الأولى، دار ابن عفان بمصر، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سليمان.(1/25)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحظوظ العاجلة والآجلة عسير جداً، لا يصل إليه إلا خواص الخواص، وهو قليل).
قلت:
وهذا الكلام يتضح فيه نفس التصوف، وذلك أنه جعل العمل لأجل الجنة والفرار من النار من العمل لحظ النفس، وجعل التجرد من ذلك والعمل لمجرد الأمر والنهى بدون النظر إلى ذلك من مراتب (خواص الخواص) ومذاهب (أرباب الأحوال) ، وهذا شبيه بكلام أهل التصوف، كقول القائل: (ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا رغبة فى جنتك، بل كرامة لوجهك ومحبة فيك)، وكقول القائل:
يعبدون الله خوفا من لظى ... ... فلظى قد عبدو لا ربنا
ولدار الخلد صلوا لاله ... ... ... شبه قوم يعبدون الوثنا
وسمى بعضهم من يعمل للأجر وطمعا فى الجنة أجير السوء، ونصوصهم فى هذا الباب كثيرة(1).
وهذا الكلام خلاف الكتاب والسنة وما عليه الأنبياء والمرسلون ومن بعدهم من الصديقين والصالحين، وهم (خواص الخواص) -إن صحت العبارة-، فإن الله سبحانه قال بعد أن ذكر أنبياءه -إبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوطاً ونوحاً وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذا الكفل وذا النون وزكريا ويحيى صلى الله
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليهم أجمعين-: { إنهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رَغَبًا ورَهَبًا وكانوا لنا خاشعين } (2).
__________
(1) ... انظر بعضها فى (دراسات فى التصوف) لإحسان ظهير ص70 وما بعدها.
(2) ... الأنبياء: 90.(1/26)
فهؤلاء -وهم أفضل الخلق- كانوا يدعون الله سبحانه رغبة ورهبة، فأى رتبة أعلى من رتبتهم؟ وقال تعالى -عن إبراهيم خليله-: { واجعلنى من ورثة جنة النعيم } (1)، وقال تعالى عن عباده -مثنياً عليهم-: { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعا } (2)، وقال تعالى: { ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً } (3)، وهذا كان حال سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - .
ففى الصحيحين أحاديث كثيرة فيها تعوذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من عذاب النار ومن جهنم وسؤاله الجنة وتعليمه ذلك للمسلمين(4)، وروى أحمد وابن ماجه وغيرهم من طريق جبر بن حبيب عن أم كلثوم بنت أبى بكر عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمها أن تقول دعاء وفيه: (وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل)(5)، والأحاديث فى هذا كثيرة ومعروفة.
والعمل المجرد من الخوف والرجاء هو الذى أدخل الزندقة فى كثير من المتصوفة الذين زعموا تجردهم عن الالتفات للجنة أو النار، وإنما يعبدون الله لمحبتهم له، فصاروا يحتقرون عذاب الله وناره، ويتهاونون بالجنة ونعيمها، ولهذا قال بعض العلماء: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حرورى(6)، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد".
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى –رداً على هؤلاء(7)-:
__________
(1) ... الشعراء: 85.
(2) ... السجدة: 16.
(3) ... الإسراء: 57.
(4) ... انظر صحيح مسلم (590، 903، 963، 2688، 2690، 2867) والبخارى (1372، 1377، 6368، 6375، 6376، 6389).
(5) ... صحيح رواه ابن ماجة (3846).
(6) ... يعنى من الخوارج الذين يكفرون بالذنوب.
(7) ... (النبوات) ص68، 69.(1/27)
"أن الواحد من هؤلاء لو جاع فى الدنيا أياماً، أو ألقى فى بعض عذابها، طار عقله، وخرج من قلبه كل محبة، ولهذا قال سمنون:
وليس لى فيما سواك حظ ... ... فكيفما شئت فامتحنى
فابتلى بعسر البول، فصار يطوف على المكاتب ويقول (ادعوا لعمكم الكذاب). وأبو سليمان لما قال: "قد أعطيت من الرضا نصيباً لو ألقانى فى النار
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكنت راضياً"، ذكر أنه ابتلى بمرض فقال: "إن لم تعافنى، وإلا كفرت"، أو نحو هذا، والفضيل بن عياض ابتلى بعسر البول فقال: "بحبى لك إلا فرجت عنى" فبذل حبه فى عسر البول، فلا طاقة لمخلوق بعذاب الخالق، ولا غنى به عن رحمته، وقد قال النبى - صلى الله عليه وسلم - لرجل: (ما تدعو فى صلاتك) قال: أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما إنى لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال: "حولها ندندن"(1).
وقال أيضا(2): وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق الأنبياء والمرسلين، وجميع أولياء الله السابقين المقربين وأصحاب اليمين، كما فى السنن أن النبى - صلى الله عليه وسلم - سأل بعض أصحابه (كيف تقول فى دعائك؟) قال: أقول: اللهم إنى أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إنى لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : (حولها ندندن)، فقد أخبر أنه هو ومعاذ -وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - إنما يدندنون حول الجنة، أفيكون قول أحد فوق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ ومن يصلى خلفهما من المهاجرين والأنصار؟ أهـ.
المبحث الثانى: شطحات التصوف
قال فى (الموافقات) 2/497: (وحديث أبى يزيد -يعنى البسطامى- مع خديمه لما حضرهما (شقيق البلخى) و(أبو تراب النخشبى)، فقالا للخديم: كل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) ... صحيح: رواه أبو داود (792) وابن ماجة (910).
(2) ... الاستقامة (2/110).(1/28)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معنا، فقال: أنا صائم، فقال له أبو تراب: كل ولك أجر صوم شهر، فأبى، فقال شقيق: كل ولك أجر سنة، فأبى، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله، فأخذ ذلك الشاب فى السرقة بعد سنة فقطعت يده).
وقال فى (الموافقات) 5/399-400 -تحت مسألة ترك الاعتراض على الكبراء محمود كان المعترض فيه مما يفهم أو لا يفهم-: (ما عهد بالتجربة من الاعتراض على الكبراء قاضٍ بامتناع الفائدة مبعد بين الشيخ والتلميذ، ولا سيما عند الصوفية، فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيرى عنهم أن التوبة منهم لا تقبل، والزلة لا تقال، ومن ذلك: حكاية الشاب الخديم لأبى يزيد البسطامى، إذ كان صائماً، فقال له أبو تراب النخشبى وشقيق البلخى: كل معنا يا فتى، فقال: أنا صائم، فقال أبو تراب: كل ولك أجر شهر، فأبى، فقال شقيق: كل ولك أجر صوم سنة، فأبى، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين الله، فأخذ ذلك الشاب فى السرقة وقطعت يده).
قلت: والكلام على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه القصة منكرة جداً، ولا أظنها تصح، فإن شقيقاً البلخى مات فى سنة أربع وتسعين ومائة (194)، بينما كان أبو يزيد -يوم مات شقيق- له ست سنوات فقط، لأنه ولد فى سنة ثمان وثمانين ومائة (188)، فهذا مما يدل على أن هذه القصة مكذوبة من أساسها.
الوجه الثانى: أن هذه القصة فيها من المنكرات أمور وهى:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأول: قول أبى تراب للخديم -لما رفض الأكل لصيامه-: "كل ولك أجر صوم شهر".
الثانى: قول شقيق أيضا "كل ولك أجر صوم سنة".(1/29)
وهذان القولان من العجائب!! فهل أطلعهم الله سبحانه على غيبه؟ أو أعطاهم خزائن رحمته؟! وهذا الأمر لا يملكه الأنبياء، فكيف بهؤلاء؟ وأعجب من هذين القولين إقرار الشاطبى -عفا الله عنه- لهذه القصة !! بل واستشهاده بها على عدم الاعتراض على الكبراء، فاستشهد بباطل على باطل.
الثالث من المنكرات: قول أبى يزيد -لما رفض الخديم الأكل لصيامه- (دعوا من سقط من عين الله)، وهذا من التألى على الله سبحانه، أو من ادعاء علم الغيب، وأيهما كان فهو من الموبقات! فقد روى مسلم عن جندب بن عبد الله رضى الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قال رجل: والله لا يغفر لفلان، قال الله عز وجل: من ذا الذى يتألى علىّ أن لا أغفر لفلان؟ إنى قد غفرت له وأحبطت عملك)، وفى رواية لأبى داود عن أبى هريرة رضى الله عنه نحو هذا -وفيه قصة، وفيه أن المقسم رجل عابد والآخر مذنب- وفيه قال أبو هريرة: "تكلم بكلمة أوبقت دنياه وأخراه"(1)، فإذا كان هذا حال من فعل هذا مع من أسرف على نفسه بالمعاصى وله شبهة فى نصوص الوعيد، فكيف بمن يقول ما قاله أبو يزيد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيمن صام نفلاً طاعة لله سبحانه؟، ومن مثل هذه الشطحات دخل التزندق والإلحاد من باب التصوف، والله المستعان.
__________
(1) ... رواه مسلم (2621) وأبو داود (4901) وابن حبان (5712).(1/30)
الوجه الثالث: أن قول الشاطبى: "ترك الاعتراض على الكبراء محمود كان المعترض فيه مما يفهم أو لا يفهم" -مردود بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والسلف- قبل أن تعرف الصوفية-، فإن ترك الاعتراض محمود إذا كان المعترض عليه معصوم لا ينطق عن الهوى، وهذا لا يكون إلا للكتاب والسنة، أما ما سواهما، فقد قال تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } (1)، وهؤلاء هم الكبراء -أى الأحبار والرهبان- وإنما اتخذهم النصارى أرباباً من دون الله لما اتبعوهم فى أقوالهم وتركوا الاعتراض عليهم فيما يخالف شرائع الله، ولهذا كان الصحابة يعترض بعضهم على بعض حتى لو كان المعترض عليه من الكبراء، وحوادثهم فى ذلك مشهورة(2).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... التوبة: 31.
(2) ... ومن ذلك اعتراض عمر وغيره على أبى بكر لما أراد حرب مانعى الزكاة حتى تبين لهم بالدليل، واعتراض ابن عباس على من اتبع أبى بكر وعمر فى نهيهم عن متعة الحج، واعتراض أبى عبيدة على عمر لما أراد عدم الدخول إلى الشام لانتشار الطاعون فيها، واعتراض على وعمران على عثمان لنهيه عن متعة الحج، واعتراض ابن مسعود وغيره على عثمان لما أتم الصلاة فى منى، والآثار فى هذا الباب كثيرة.
... قلت: ومنه أيضاً مراجعات الصحابة للنبى - صلى الله عليه وسلم - كما راجعه العباس فى شجر الحرم (فقال: إلا الإذخر، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : إلا الإذخر) متفق عليه، وكما راجعته أم سلمة فى الصلاة بعد العصر وأجابها، وكما راجعه ابن عمر فى الصلاة جالساً، وكما راجعوه فى القدور التى طبخت فيها لحوم الحمر الإنسية، فقال : أهريقوها واكسروها، فقالوا: أو نهريقها ونغسلها ؟ فقال أو ذاك" رواه مسلم (1802) ومثل ذلك كثير جداً وكله صحيح ثابت، ولكن كان ذلك بأدب وطلب للرفق، لاكما تزعم الصوفية: من اعترض انطرد!!(1/31)
وهذا القول إنما هو انسياق مع طقوس الصوفية فى تذليل المريدين لشيوخهم ليتخذوهم أرباباً من دون الله، والله تعالى أعلم.
المبحث الثالث: الاقتداء بأفعال الله والتخلق بصفاته
قال فى (الموافقات) 2/163-169 -بعد أن ذكر سبعة أمثلة من
القرآن-: "إن هذه الأمثلة وما جرى مجراها لم يستفد الحكم فيها من جهة وضع الألفاظ للمعانى، وإنما استفيد من جهة أخرى، وهى جهة الاقتداء بالأفعال".
وقال فى (الموافقات)4/200 -تحت مسألة أقسام العلوم المضافة إلى القرآن-: (وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى فى إنزاله، وخطاب الخلق به، ومعاملته لهم بالرفق والحسنى، من جعله عربياً يدخل تحت أفهامهم، مع أنه المنزه القديم، وكونه يتنزل عليهم بالتقريب والملاطفة والتعليم فى نفس المعاملة به -إلى أن قال- وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال فى (الموافقات) 4/203، 204: (ومن ذلك أشياء ذكرت فى باب الاجتهاد فى الاقتداء بالأفعال والتخلق بالصفات).
قلت: والكلام على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن أصل التخلق بصفات الله والتشبه به مأخوذ أصلاً من الفلاسفة، فإنهم يقولون عن الفلسفة: (إنها التشبه بالإله على قدر الطاقة)، واقتفى أثرهم الغزالى ومن تبعه فى هذا فى محاولة التشبه بالإله، وألف الغزالى كتاب (شرح أسماء الله الحسنى) وضمنه التشبه بالله فى كل اسم من أسمائه، وسماه (التخلق)، حتى فى أسمائه المختصة به بالإجماع كالإله والجبار والمتكبر، وصار مثل هذا الأمر موقعًا لكثير من الصوفية فى الحلول والاتحاد(1).
__________
(1) ... انظر (الصفدية) لشيخ الإسلام 2/332-338، (الفتاوى) 5/465.(1/32)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الفلاسفة ومن ذهب إلى مذهبهم فى هذا(1): (ثم من العجب أن القوم يدعون التوحيد، ويبالغون فى نفى التشبيه، حتى نفوا الصفات، وشنعوا على أهل الكتاب لما جاء من الصفات فى التوارة وغيرها، وأنكروا قوله فى التوراة (إنا سنخلق بشراً على صورتنا يشبهنا)، وهم يدعون أن أحدهم يجعل نفسه شبيها لله، فإن كان هذا اللفظ يحتمل معنى صحيحاً عندهم لإمكان المشابهة من وجه دون وجه، فالله أقدر على أن يفعل ذلك من الواحد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منهم(2)، وإن كان هذا ممتنعاً مطلقا، فما بالهم زعموا أنهم يتشبهون بالله تعالى؟!).
الوجه الثانى: أن الله سبحانه لا يقاس بخلقه، ولا يقاس خلقه به، وليس بين صفات الله وأفعاله وصفات خلقه وأفعالهم مشاكلة ومقاربة حتى يتشبهوا به ويتخلقوا بصفاته، ويقتدوا بأفعاله، فالله سبحانه له الكمال المطلق من كل وجه، وله الصفات العلا، وليس كل ما اتصف به الله يجوز أن يتصف به الخلق، بل هناك صفات لله سبحانه يجب إثباتها له، ويحرم على الخلق أن يتصفوا بها، كالإلهية والكبرياء والجبروت والعظمة والعلو المطلق ونحوها.
ففى صحيح مسلم عن أبى هريرة وأبى سعيد الخدرى رضى الله عنهما أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال -عن الله سبحانه-: (العز إزارى، والكبرياء ردائى، فمن ينازعنى عذبته)(3)، كما أن هناك صفات للخلق هى كمال لهم وينزه الله عن الاتصاف بها كالذل والتواضع والعبودية ونحوها.
__________
(1) ... (الصفدية) 2/336.
(2) ... يعنى أن يخلق بشراً على صورته يشبهه من وجه دون وجه.
(3) ... رواه مسلم (2620).(1/33)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى(1): "فإن من أسمائه وصفاته ما يحمد العبد على الاتصاف به: كالعلم، والرحمة، والحكمة، وغير ذلك، ومنها ما يذم على الاتصاف به: كالإلهية والتجبر، والتكبر، وللعبد من الصفات التى يحمد عليها
الوجه الخامس من النقل:
ما جاء منه فى ذم الرأى المذموم، وهو المبنى على غير أُسّ، والمستند إلى غير أصل من كتاب ولا سنة، لكنه وجه تشريعى فصار نوعاً من الابتداع، بل هو الجنس فيها، فإن جميع البدع إنما هى رأى على غير أصل، ولذلك وصف بوصف الضلال، ففى الصحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعاً، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يُستفتون فيُفتون برأيهم فيَضلون ويُضلون)(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويؤمر بها ما يمنع اتصاف الرب به: كالعبودية، والافتقار، والحاجة، والسؤال، ونحو ذلك، وهو فى كل ذلك كماله فى عبادته لله وحده، وغاية كماله أن يكون الله هو معبوده".
الوجه الثالث: أن ما أسماه الشاطبى (الاقتداء بالأفعال) ويعنى به الاقتداء بأفعال الله سبحانه والتخلق بصفاته لم نؤمر به -مع ما فيه من المفاسد التى أدت إلى وحدة الوجود كما سبق-، وإنما العبد مأمور شرعاً بالاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم -
-فيما لا يختص به- كما قال تعالى: { لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الأخر } (3)، والله تعالى أعلم.
وخرَّج ابن المبارك حديثاً: إن من أشراط الساعة ثلاثاً، وإحداهن: أن يلتمس العلم عند الأصاغر، قيل لابن المبارك: من الأصاغر؟ قال الذين يقولون برأيهم، فأما صغير يروى عن كبير، فليس بصغير.
__________
(1) ... (الصفدية) 2/338.
(2) ... متفق عليه: البخارى (2673) ومسلم (2673).
(3) ... الأحزاب: 21.(1/34)
وقد اختلف العلماءُ فى الرأى المقصود بهذه الأخبار والآثار. فقد قالت طائفة المراد به رأى أهل البدع المخالفين للسنن، لكن فى الاعتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلام لأنهم استعملوا آراءهم فى رد الأحاديث الثابتة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - .
وقالت طائفة إنما الرأى المذموم المعيب؛ الرأى المبتدع وما كان مثله من ضروب البدع، فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأى، وخروج عن الشرع وهذا هو القول الأظهر. إذ الأدلة المتقدمة لا تقتضى بالقصد الأول من البدع نوعاً دون نوع بل ظاهرها تقتضى العموم فى كل بدعة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، كانت من الأصول أو الفروع.
وقالت طائفة وهم -فيما زعم ابن عبد البر(1)- جمهور أهل العلم: الرأى المذكور فى هذه الآثار هو القول فى أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، ورد الفروع والنوازل بعضها إلى بعض قياساً، دون ردها إلى أصولها والنظر فى عللها واعتبارها، فاستعمل فيها الرأى قبل أن تنزل، وفرعت قبل أن تقع، وتكلم فيها قبل أن تكون، بالرأى المضارع للظن، قالوا: لأن فى الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها، ومن كتاب الله تعالى ومعانيه واحتجوا على ذلك بأشياء، منها أن عمر رضى الله عنه لعن من سأل عما لم يكن، وما جاء من النهى عن الأغلوطات(2) -وهى صعاب المسائل- وعن كثرة السؤال، وأنه كره المسائل وعابها، وإن كثيراً من السلف لم يكن يجيب إلا عما نزل من النوازل دون ما لم ينزل.
__________
(1) ... جامع بيان العلم وفضله (2/1054).
(2) ... ضعيف: رواه أبو داود (3656) وأحمد (5/435) وهو فى جامع بيان العلم (2037) وفسره بعضهم: بصعاب المسائل.(1/35)
وهذا القول غير مخالف لما قبله، لأن من قال به قد منع الرأى وإن كان غير مذموم، لأن الإكثار منه ذريعة إلى الرأى المذموم، وهو ترك النظر فى السنن اقتصاراً على الرأى، وإذا كان كذلك اجتمع مع ما قبله، فإن من عادة الشرع أنه إذا نهى عن شىء وشدد فيه منع ما حواليه وما دار به ورتع حول حماه، ألا ترى إلى قوله عليه السلام (الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهة)(1)، وكذلك جاء فى الشرع أصل سد الذرائع، وهو منع الجائز لأنه يجر إلى غير الجائر، وبحسب عظم المفسدة فى الممنوع، يكون اتساع المنع فى الذريعة وشدته.
والحاصل من جميع ما تقدم أن الرأى المذموم ما بنى على الجهل واتباع الهوى من غير أن يرجع إليه، وما كان منه ذريعة إليه وإن كان فى أصله محموداً، وذلك راجع إلى أصل شرعى، فالأول داخل تحت حد البدعة وتتنزل عليه أدلة الذم، والثانى خارج عنه ولا يكون بدعة أبداً.
الوجه السادس من النقل:
يذكر فيه بعض ما فى البدع من الأوصاف المحذورة، والمعانى المذمومة، وأنواع الشؤم، وهو كالشرح لما تقدًّم أولاً، وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم فى أثناء الأدلة، فلنتكلم على ما يسع ذكره بحسب الوقت والحال.
فاعلموا أن البدعة:
__________
(1) ... البخارى (52، 2051) ومسلم (1599) وأبو داود (3329) والترمذى (1205) والنسائى (8/327) وابن ماجة (3984) وأحمد (4/269، 270) والدارمى (2/245) والطبرانى فى الأوسط (2472) وابن حبان (721).(1/36)
لا يقبل معها عبادة من صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا غيرها من القربات، ومُجالس صاحبها تنزع منه العصمة، ويوكل إلى نفسه، والماشى إليه وموقّره معين على هدم الإسلام –فما الظن بصاحبها- وهو ملعون على لسان الشريعة، ويزداد من الله بعبادته بعداً، وهى مظنة إلقاء العداوة والبغضاء، ومانعة من الشفاعة المحمدية، ورافعة للسنن التى تقابلها، وعلى مبتدعها إثم من عمل بها، وليس له توبة، وتلقى عليه الذلة والغضب من الله، ويبعد عن حوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويخاف عليه أن يكون معدوداً فى الكفار الخارجين عن الملَّة، وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا، ويسود وجهه فى الآخرة، ويعذب بنار جهنم، وقد تبرأ منه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ منه المسلمون، ويخاف عليه الفتنة فى الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة.
فأما البدعة التى لا يقبل معها عمل:
فقد روى عن الأوزاعى: أنه قال: "كان بعض أهل العلم يقول: لا يقبل الله من ذى بدعة صلاة ولا صياماً ولا صدقة ولا جهاداً ولا حجّاً ولا عمرة ولا صرفاً ولا عدلاً".
وقال هشام بن حسان: "لا يقبل الله من صاحب بدعة صلاة ولا صياماً ولا زكاة ولا حجاً ولا جهاداً ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقاً ولا صرفاً ولا عدلاً(1).
وهذه الآثار وما كان نحوها –فإن المعنى المقرًّر فيها له فى الشريعة أصل صحيح لا مطعن فيه.
أما أولاً، فإنه قد جاء فى بعضها ما يقتضى عدم القبول.
__________
(1) ... هو عند ابن ماجة مرفوعاً من حديث حذبفة (49) موضوع، وكذلك الضعيفة 1493، وضعيف الترغيب (40).(1/37)
وهو فى الصحيح كبدعة القدرية، حيث قال فيها عبد الله بن عمر: "إذا لقيت أولئك، فأخبرهم أنى برئ منهم، وأنهم براء منى، فوالذى يحلف به عبد الله بن عمر، لو كان لأحدهم مثل أُحد ذهباً، فأنفقه، ما تقبًّله الله منه حتى يؤمن بالقدر"، ثم استشهد بحديث جبريل المذكور فى صحيح مسلم(1).
ومثله حديث الخوارج، وقوله فيه: (يمرقون من الدين كما يَمْرُق السهم من الرميًّة)، بعد قوله: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم) الحديث(2).
وإذا ثبت فى بعضهم هذا لأجل البدعة، فكل مبتدع يخاف عليه مثل مَن ذكره.
وأما ثانياً، فإن كون المبتدع لا يقبل منه عمل:
إما أن يُراد أنه لا يقبل له بإطلاق على أى وجه وقع من وفاق سنة أو خلافها، وإما أن يريد أنه لايُقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما لم يبتدع فيه.
فأما الأول: فيمكن على أحد أوجه ثلاثة:
الأول: أن يكون على ظاهره، من أن كل مبتدع –أى بدعة كانت- فأعماله لا تُقْبَل معها، داخلتها تلك البدعة أم لا، ويشير إليه حديث ابن عمر المذكور آنفاً.
الثانى: أن تكون بدعته أصلاً يتفرًّع عليها سائر الأعمال، كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق، فإن عامة التكليف مبنىُّ عليه.
__________
(1) ... أخرجه مسلم (1/150-160) نووى، وهو أول حديث فى كتاب الإيمان استفتح به مسلمٌ صحيحه بعد المقدمة.
(2) ... أخرجه مسلم (1063، 1064) من حديث جابر ومن حديث أبى سعيد الخدرى وكذلك البخارى (5058، 3610-6163، 6931-7562)، وأبو داود (4596)، والترمذى (2640)، وابن ماجة (2391) وغيرهم.(1/38)
وفى الترمذى عن أبى رافع عن النبى - صلى الله عليه وسلم - : أنه قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيهِ أمرى فيما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى! ما وجدنا فى كتابه الله اتبعناه)(1).
الثالث: أن صاحب البدعة فى الأمور التعبُّدية أو غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى التأويل الذى يُصَيّر اعتقاده فى الشريعة ضعيفاً، وذلك يبطل عليه جميع عمله.
بيان ذلك بأمثلة:
منها: أن يشرك العقل مع الشرع فى التشريع، وإنما يأتى الشرع كاشفاً لما اقتضاه العقل. فياليت شعرى! هل حَكَّمَ هؤلاء فى التعبُّد لله شرعه أم عقولهم؟ بل صار الشرع فى نحلتهم كالتابع المعين لا حاكماً متٌبعاً.
وهذا هو التشريع الذى لم يبق للشرع معه أصالة، فكل ما عمل هذا العامل مبنياً على ما اقتضاه عقله –وإن شرك التشريع-، فعلى حكم الشركة لا على إفراد الشرع.
ومنها: أن المستحسن للبدع يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد، فلا يكون لقوله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم } (2)، معنى يُعتبر به عندهم، ومحسن الظن منهم يتأوَّلها حتى يخرجها عن ظاهرها.
وذلك أن هؤلاء الفرق التى تبتدع العبادات أكثرها ممَّن يكثر الزهد والانقطاع والانفراد عن الخلق، وإلى الاقتداء بهم يجرى أغمار العوام، والذى يلزم الجماعة -وإن كان اتقى خلق الله- لا يعدُّونه إلا من العامة، وأما الخاصة، فهم أهل تلك الزيادات.
__________
(1) ... حديث حسن، رواه الترمذى (2663) وأبو داود (4605) وابن ماجة (13) وبمعناه من حديث المقدام رواه أبو داود (4604) وابن ماجة (12).
(2) ... المائدة: 3.(1/39)
ولذلك تجد كثيراً من المعتزَّين بهم –والمائلين إلى جهتهم، يزدرون بغيرهم ممًّن لم ينتحل مثل ما انتحلوا، ويعُّدونهم من المحجوبين عن أنوارهم، فكل من يعتقد هذا المعنى، يضعف فى يده قانون الشرع الذى ضبطه السلف الصالح، وبَّين حدوده الفقهاء الراسخون فى العلم، إذ ليس هو عنده فى طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مداخل خاصتهم، وعند ذلك لا يبقى لعمل فى أيديهم روح الاعتماد الحقيقى، وهو باب عدم القبول فى تلك الأعمال، وإن كانت بحسب ظاهر الأمر مشروعة، لأن الاعتقاد فيها أفسدها عليهم، فحقيق أن لا يُقبل ممَّن هذا شأنه صرف ولا عدل والعياذ بالله!.
وأما الثانى، وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة، فيظهر أيضاً. وعليه يدلُّ الحديث المتقدم: (كل عمل ليس عليه أمرنا، فهو ردُّ) والجميع من قوله: (كل بدعة ضلالة)(1).
وأما أن صاحب البدعة تُنْزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه:
فقد تقدم نقله، ومعناه ظاهر جدًّا.
فإن الله تعالى بعث إلينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمةً للعالمين –حسبما أخبر فى كتابه-، وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدى سبيلاً، ولا نعرف من مصالحنا الدنيويَّة إلا قليلاً على غير كمال، ولا من مصالحنا الأخرويَّة قليلا ولا كثيراً، بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما فيه، ويطرح هوى غيره فلا يلتفت إليه.
فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخصُّ ويعمُّ حتى بعث الله نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لزوال الريب والالتباس، وارتفاع الخلاف بين الناس.
__________
(1) ... الأول رواه مسلم (1718)، والثانى عند مسلم (867) من حديث جابر وعند الترمذى (2676) وابن ماجة (43) من حديث العرباض، وهو صحيح.(1/40)
فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة والعطايا الجزيلة، وأخذ فى استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلاً، فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه؟! فهو حقيق بالبعد عن الرحمة.
قال الله تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا } بعد قوله { اتقوا الله حق تقاته } (1)، فأشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقاً، وأن ما سوى ذلك تفرقة، لقوله { ولا تفرقوا } ، والفرقة من أخس أوصاف البدعة، لأنه خرج عن حكم الله، وباين جماعة أهل الإسلام.
وأما أن الماشى إليه والموقَّر له معين على هدم الإسلام:
عن هشام بن عروة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (مَن وقًّر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام)(2).
وأيضاً، فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم:
إحداهما: ... التفات الجهَّال والعامة إلى ذلك التوقير، فيعتقدون فى المبتدع أنه أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره، فيؤدى ذلك إلى اتباعه على بدعته، دون اتباع أهل السنة على سنتهم.
والثانية: ... أنه إذا وُقَّر من أجل بدعته، صار ذلك كالحادى المحَّرض له على إنشاء الابتداع فى كل شىء.
وعلى كل حال، فتحيا البدع، وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه.
وعلى ذلك دَّل النقل عن السلف، زيادة إلى صحة الاعتبار(3)، لأن الباطل إذا عمل به، لزم ترك العمل بالحق كما فى العكس، لأن المحلًّ الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين.
وأيضاً، فمن السنة الثابتة ترك البدع، فمن عمل ببدعة واحدة، فقد ترك تلك السنة.
وأما أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة:
__________
(1) ... آل عمران: 102.
(2) ... ضعيف: فى السلسة الضعيفة (1862) رواه الطبرانى فى الكبير، وضعفه الهيثمى فى المجمع (1/188).
(3) ... يقصد أن ذلك دل عليه النقل، ودل عليه الاعتبار والقياس.(1/41)
فلقوله - صلى الله عليه وسلم - : (مَن أحدث حدثاً، أو آوى مُحْدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)(1).
قال أبو مصعب صاحب مالك: "قدم علينا ابن مهدى –يعنى: المدينة-، فصلى ووضع رداءه بين يدى الصف، فلمَّا سلم الإمام، رمقه الناس بأبصارهم، ورمقوا مالكاً، وكان قد صلًّى خلف الإِمام، فلمَّا سلم، قال: من ها هنا من الحرس؟ فجاءه نفسان فقال: خذا صاحب هذا الثوب، فأحبساه، فحُبس. فقيل له: إنه ابن مهدى! فوجه اليه، وقال له: أما خفت الله واتًّقيته أن وضعت ثوبك بين يديك فى الصف، وشغلت المصلين بالنظر اليه، وأحدثت فى مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه، وقد قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : (من أحدث فى مسجدنا حدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)(2) فبكى ابن مهدى، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبداً فى مسجد النبى - صلى الله عليه وسلم - ولا فى غيره".
وهذا غاية فى التوقَّى والتحفظ فى ترك إحداث ما لم يكن، خوفاً من تلك اللعنة، فما ظنك بما سوى وضع الثوب؟!
وأما أنه يزداد من الله بُعداً:
فلما روى عن الحسن: أنه قال: "صاحب البدعة، ما يزداد من الله اجتهاداً وصياماً وصلاة، إلا ازداد من الله بعداً".
__________
(1) ... متفق عليه من حديث على رضى الله عنه ولفظه (المدينة حَرَمٌ فمن أحدث ...)، مسلم (1371)، والبخارى (1870).
(2) ... لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولعله رواية معنى لحديث الصحيفة الذى أخرجه مالك 1/28 وهو فى صحيح مسلم (3-137-139 نووى).(1/42)
وعن أيوب السختيانى، قال: "ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً، إلا ازداد من الله بعداً". ويصحَّح هذا النقل ما أشار إليه الحديث الصحيح فى قوله - صلى الله عليه وسلم - فى الخوارج: (يخرج من ضئضىء هذا قوم تْحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم ... .) إلى أن قال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمَّية)(1).
فبين أولاً اجتهادهم، ثمَّ بيَّن آخراً بُعْدَهم من الله تعالى، وهو بيِّن أيضاً من جهة أنه لا يُقبل منه صرف ولا عدل كما تقدم، فكل عمل يعمله على البدعة، فكما لو لم يعمله.
وقد ثبت النقل (الصحيح الصريح) بأنه لا يقرَّب إلى الله إلا العمل بما شرع، وعلى الوجه الذى شرع –وهو تاركه- وأن البدع تحبط الاعمال –وهو ينتحلها-.
وأما أن البدع مظِنًّة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام:
فلأنها تقتضى التفرُّق شيعاً، وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم، حسبما تقًّدم فى قوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } (2)، وما أشبه ذلك من الآيات فى هذا المعنى.
وقد بيًّن - صلى الله عليه وسلم - أن فساد ذات البَيْن هى الحالقة، وأنها تحلق الدين(3) وجميع هذه الشواهد تدلُّ على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع.
وأول شاهد عليه فى الواقع قصة الخوارج، إذ عادَوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم ويدعون الكفار، كما أخبر عنه الحديث الصحيح(4).
وأما أنها مانعة من شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) ... أخرجه البخارى (3344) ومسلم (1064 نووى) من حديث ابى سعيد الخدرى، وتقدم قريبًا.
(2) ... آل عمران: 105.
(3) ... أخرجه أبو داود (4919)، والترمذى (2509)، من حديث أبى الدرداء، وهو صحيح.
(4) ... رواه مسلم (1064).(1/43)
ففى الصحيح، قال: (أول مَن يُكْسى يوم القيامة إبراهيم، وإنه سيؤتى برجال من أمَّتى، فيؤخذ بهم ذات الشمال ... ) إلى قوله: (فيقال: لم يزالوا مرتدَّين على أعقابهم ... )(1) ففيه أنه لم يذكر لهم شفاعة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما قال: "فأقول لهم: سحقاً، كما قال العبد الصالح".
ويظهر من أوًّل الحديث أن ذلك الارتداد لم يكن ارتداد كفر، لقوله: وإنه سيؤتى برجال من أمَّتى، ولو كانوا مرتَّدين عن الإسلام لما نُسبوا إلى أمَّته، ولأنه عليه السلام أتى بالآية، وفيها: { وإن تغفر لهم فإنَّك أنت العزيز الحكيم } (2)، ولو علم النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم خارجون عن الإسلام جملة، لما ذكرها، لأن من مات على الكفر لا غفران له ألبتة، وإنما يُرجى الغفران لمن لم يخرجه عمله عن الإسلام، لقول الله تعالى { إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (3).
وأما أنها رافعة للسنن التى تقابلها:
فقد تقدَّم الاستشهاد عليه فى أن الموقِّر لصاحبها معينُ على هدم الاسلام.
وأما أن على مبتدعها إثمُ مَن عمل بها إلى يوم القيامة:
فلقوله تعالى: { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } (4).
ولما فى الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (مَن سنَّ سنةَّ سيئة، كان عليه وزرها ووزر مَن عمل بها ... )(5).
وإلى ذلك أشار الحديث الآخر: (ما من نفس تُقتل ظلماً، إلا كان على ابن آدم الاول كِفْلُ منها، لأنه أول من سنًّ القتل)(6).
وأما أن صاحبها ليس له من توبة:
__________
(1) ... أخرجه البخارى (3349)، ومسلم (2860) من حديث ابن عباس.
(2) ... المائدة: 118.
(3) ... النساء: 116.
(4) ... النحل: 25.
(5) ... الحديث رواه مسلم (1017) وغيره.
(6) ... أخرجه البخارى (3335)، ومسلم (1677) من حديث عبد الله بن مسعود.(1/44)
فلما جاء من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة)(1). وهذا النفى يقتضى العموم بإطلاق، ولكنه قد يُحمل على العموم العادىّ، إذ لا يبعد أن يتوب عًّما رأى ويرجع إلى الحق، كما نُقِل عن عبد الله بن الحسن العنبرى، وما نقلوه فى مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علىَّ رضى الله عنه، وفى مناظرة عمر بن عبد العزيز لهم.
ولكن الغالب فى الواقع الإصرار، ومن هنالك قلنا: يبعد أن يتوب بعضهم، لأن الحديث يقتضى العموم بظاهره، وسيأتى بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله [9].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[9] ... توبة المبتدع:
(إن الله احتجز التوبة عن صاحب كلَّ بدعة)(2) وفى الحديث: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقِه)(3).
وسبب بعده عن التوبة: أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس، لأنه أمر مخالف للهوى، وصادُّ عن سبيل الشهوات، فيثقل عليهما جدّاً، لأن الحق ثقيلُ، والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه، وكل بدعة، فللهوى فيها مدخل، لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع، فإن تعلَّقت بحكم الشارع فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل، مع ضميمة أخرى، وهى أن المبتدع لابد له من تعلقُّ بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع، ويدعى أن ما ذكره هو مقصود الشارع، فصار هواه مقصوداً بدليل شرعىًّ فى زعمه، فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعى الهوى مستمسك بحسن ما يتمسَّك به وهو الدليل الشرعى فى الجملة؟!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب عن الحديث الأول:
__________
(1) ... صحيح، السلسلة الصحيحة (1920) رواه الطبرانى فى الأوسط، وانظر المجمع (1/189).
(2) ... السلسلة الصحيحة للألبانى 4/154.
(3) ... البخارى (7562).(1/45)
الجواب الأول: هذا الحديث من نصوص الوعيد التى لا تفسر عند أهل السنة لتبقى هيبة الزجر عن الابتداع، ومذهب أهل السنة أن كلّ ما توعد الله به العبد من العقاب فهو بشرط أن لا يتوب فإن تاب تاب الله عليه(1).
الجواب الثانى: قال أحمد فى تفسير الحديث: لا يوفق ولا ييسر صاحب البدعة"(2).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال ابن تيمية: (بمعنى أنه لا يتوب منها لأنه يحسب أنه على هدى ولو تاب لتاب عليه كما يتوب على الكافر، ومن قال إنه لا يقبل توبة مبتيدع مطلقاً فقد غلط غلطاً منكراً. ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة فى توبة فمعناه ما دام مبتدعاً يراها حسنة لا يتوب منها، كما يرى الكافر أنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيراً ممن كان على بدعة تبين له ضلالها، وتاب الله عليه منها وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله(3).
أما الحديث الثانى:
فإنه خاص بالخوارج ومع ذلك فلا يلزم منه أن التوبة منهم غير ممكنة كما لا يلزم منه أنهم كفار خارجون من الدين على أصح قولىّ العلماء.
[انظر الفتاوى 28/518 – 542 – 548، 3/282 – 285، وإرواء الغليل 8/116 – 119].
ومما يدل على أن توبتهم ممكنة: رجوع أربعة آلاف منهم لما ناظرهم ابن عباس رضى الله عنهما كما فى مسند أحمد 1/86 – 87، ومستدرك الحاكم 1/152 – 154. وانظر كتاب حقيقة البدعة وأحكامها – سعيد بن ناصر الغامدى (2/392 – 402).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأيضاً الواقع يدل على أن المبتدع يمكن أن يتوب:
- توبة آربعة الآلاف من الخوارج لما ناظرهم ابن عباس رضى الله عنهما.
__________
(1) ... انظر الفتاوى 23/345.
(2) ... غذاء الألباب 2/483 للسفارينى.
(3) ... الفتاوى 23/684 – 685.(1/46)
- توبة صبيغ بن عسل العراقى(1).
كتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت توبته فكتب عمر أن يأذن للناس فى مجالسته، ذكره ابن حجر فى الإصابة فى ترجمة صبيغ 2/191.
- توبة نعيم بن حماد بن معاوية.
الإمام الحافظ روى عنه البخارى وأبو داود والترمذى وغيرهم، أول من عرف عنه كتابة المسند، وكان من أعلم الناس بالفرائض، توفى سنة 229هـ(2).
وأما أن المبتدع يلقى عليه الذل فى الدنيا والغضب من الله تعالى:
فلقوله تعالى: { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة فى الحياة الدنيا وكذلك نجزى المفترين } (3)، فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم، من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله، حسبما أخبر فى كتابه فى قوله تعالى: { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله } (4).
فإذاً، كل من ابتدع فى دين الله، فهو ذليل حقير بسب بدعته، وإن ظهر لبادى الرأى فى عزَّه وجَبْريَّته، فهم فى أنفسهم أذلاء.
__________
(1) ... روى الدارمى بسنده (1/66) أن رجلاً يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت، قال: أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه، وقال: وأنا عبد الله عمر، فجعل له ضربًا حتى دمى رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذى كنت أجد فى رأسى. (وفى رواية) أن صبيغ العراقى جعل يسأل عن أشياء من القرآن فى أجناد المسلمين حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر (وفيه أنه ضربه ثلاث مرات، يضربه ثم يتركه حتى يبرأ، ثم يعود فيضربه، فقال: إن كنت تريد أن تقتلنى فاقتلنى قتلا جميلا، وإن كنت تريد أن تداوينى فقد والله برأت ... وفيه أن عمر أمر ألا يجالسه أحد من المسلمين، ثم لما حسنت توبته كتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته.
(2) ... سير أعلام النبلاء 10/595.
(3) ... الأعراف: 152.
(4) ... الأنعام: 140.(1/47)
وأما البعد عن حوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
ففى البخارى عن أسماء عن النبى - صلى الله عليه وسلم - : أنه قال: (أنا على حوضى أنتظر من يَرِدُ علىَّ، فيؤخذ بناس من دونى، فأقول: أمَّتى! فيقال: إنك لا تدرى، مشوا القهقرى)(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روى الذهبى فى السير أن نعيماً كان يقول "أنا كنت جهمياً فلذلك عرفت كلامهم فلما طلبت الحديث عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل"(2).
وأما الخوف عليه من أن يكون كافراً:
فلأن العلماء من السلف الأول وغيرهم اختلفوا فى تكفير كثير من فرقهم، مثل الخوارج والقدرية، وغيرهم. ودل على ذلك ظاهر قوله تعالى: { إنَّ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم فى شىء } (3) وقوله: { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } (4).
وقد حكم العلماء بكفر جملة منهم كالباطنية وسواهم، لأن مذهبهم راجع إلى مذهب الحلولية القائلين بما يشبه قول النصارى فى اللاهوت والناسوت.
والعلماء إذا اختلفوا فى أمر: هل هو كفر أم لا؟ فكل عاقل يربأ بنفسه أن يُنْسب إلى خطة خسف كهذه، بحيث يقال له: إن العلماء اختلفوا: هل أنت كافر أم ضال غير كافر؟ أو يقال: إن جماعة من أهل العلم قالوا بكفرك وأنت حلال الدم.
وأما أنه يُخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله:
فإن مات مصراً على المعصية، فيخاف عليه، لأن المبتدع –مع كونه مصّراً على ما نهى عنه- يزيد على المصرَّ بأنه معارضُ للشريعة بعقله، غير مسلًّم لها فى تحصيل أمره، معتقداً فى المعصية أنها طاعة حيث حًّسن ما قبًّحه الشارع، وفى الطاعة أنها لا تكون طاعة إلا بضميمة نظره فهو قد قبح ما حسنه الشارع، فكان حقيق بالقرب من سوء الخاتمة إلا ما شاء الله.
وأما اسوداد وجهه فى الآخرة:
__________
(1) ... البخارى (7048).
(2) ... سير أعلام النبلاء 10/597.
(3) ... الأنعام: 159.
(4) ... آل عمران: 106.(1/48)
فقد تقدم فى ذلك فى معنى قوله: { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } (1).
وأما البراءة منه:
ففى قوله: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم فى شىء } (2). وقال ابن عمر رضى الله عنه فى أهل القدر: "إذا لقيت أولئك، فأخبرهم أنى برىء منهم وأنهم براء منى".
وعن سفيان الثورى: "من جالس صاحب بدعة، لم يسلم من إحدى ثلاث: إما ان يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع بقلبه شىء يزل به فيدخله النار، وإما أن يقول: والله لا أبالى ما تكلًّموا به، وإنى واثق بنفسى، فمن آمن الله طرفة عين على دينه، سلبه إياه.
وأما أنه يُخشى عليه الفتنة:
فلما حكى عياض عن سفيان بن عينية: أنه قال: "سألت مالكاً عمن أحرم من المدينة وراء الميقات؟ فقال: هذا مخالف لله ورسوله، أخشى عليه الفتنة فى الدنيا والعذاب الأليم فى الآخرة، أما سمعت قوله تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم } (3). وقد أمر النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يُهَلًّ من المواقيت.
فهذه جملة يستدلُ بها على ما بقى، إذ ما تقدم من الآيات والأحاديث فيها ممًّا يتعلق بهذا المعنى كثير، وبسط معانيها طويل، فلنقتصر على ما ذكرنا وبالله التوفيق.
فصل
وبقى مما هو محتاج إلى ذكره فى هذا الموضع شرح معنى عام يتعلق بما تقدَّم، وهو: أن البدع ضلالة، وأن المبتدع ضالٌ ومضلٌ.
والضلالة مذكورة فى كثير من النقل المذكور، ويشير إليها فى الآيات الاختلاف والتفرُّق شيعاً وتفرقُّ الطرق، بخلاف سائر المعاصى، فإنها لم توصف فى الغالب بوصف الضلالة، إلا أن تكون بدعة أو تشبه البدعة، وكذلك الخطأ الواقع فى المشروعات –وهو المعفوُّ عنه- لا يسمى ضلالاً، ولا يُطلق على المخطئ اسم ضال، كما لا يُطلق على المتعَّمد لسائر المعاصى.
__________
(1) ... آل عمران: 106.
(2) ... الأنعام: 159.
(3) ... النور: 63.(1/49)
فصاحب البدعة، لما غلب عليه الهوى مع الجهل بطريق السنة، توهًّم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره، فمضى عليه، فحاد بسببه عن الصراط المستقيم، فهو ضال من حيث ظنَّ أنه راكب للجادَّة، كالمارِّ بالليل على الجادَّة وليس له دليل يهديه، يوشك أن يضلَّ عنها.
فالمبتدع من هذه الأمة، إنما ضلَّ فى أدلَّتها، حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت حكم الله.
وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره، لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه، وأخذ الادلة بالتبع. فإذا انضمَّ إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة، وعدم الاضطلاع بمقاصدها، كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع.
والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعاً ممَّن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعىًّ، فينُزِله على ما وافق عقله وشهوته، وهو أمر ثابت فى الحكمة الأزليَّة التى لا مرد لها، قال تعالى: { يضل به كثيراً ويهدى به كثيراً } (1)، وقال: { كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء } (2).
لكن، إنما ينساق لهم من الأدلة المتشابه منها لا الواضح، والقليل منها كالكثير، وهو أدلُّ الدليل على اتَّباع الهوى، فإن المعظم والجمهور من الأدلَّة إذا دلَّ على أمر بظاهره، فهو الحق، فإن جاء على ما ظاهره الخلاف، فهو النادر والقليل، فكان من حقَّ الظاهر ردُّ القليل إلى الكثير، والمتشابه إلى الواضح.
غير أن الهوى زاغ بمن أراد الله زيغه، فهو فى تيه من حيث يظن أنه على الطريق، بخلاف غير المبتدع، فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أوَّل مطالبه، وأخَّر هواه –إن كان- فجعله بالتبع، فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحاً فى الطلب الذى بحث عنه، فوجد الجادَّة، وما شذ له عن ذلك فإما أن يرده إليه، وإما أن يكله إلى عالمه ولا يتكلف البحث عن تأويله.
__________
(1) ... البقرة: 26.
(2) ... المدثر: 31.(1/50)
وفيصل القضية بينهما قوله تعالى: { فأما الذين فى قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه ... . } إلى قوله: { والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } (1).
فلا يصحُّ أن يسمىَّ مَن هذه حالة مبتدعاً ولا ضالاً، وإن حصل فى الخلاف أو خفى عليه:
أما أنه غير مبتدع، فلأنه أتبَّع الادلَّة، ملقياً إليها حكمة الانقياد، باسطاً يد الافتقار، مؤخراً هواه، ومقدماً لأمر الله.
وأما كونه غير ضالٍّ، فلأنه على الجادَّة سلك، واليها لجأ، فإن خرج عنها يوماً فأخطأ، فلا حرج عليه، بل يكون مأجوراً حسبما بينه الحديث الصحيح: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب، فله أجران)(2)،
وإن خرج متعمَّداً، فليس على أن يجعل خروجه طريقاً مسلوكاً له أو لغيره، وشرعاً يُدان به.
الباب الثالث
فى أن ذم البدع والمُحدثَات عامُّ لا يخص محدثه دون غيرها
ويدخل تحت هذه الترجمة جملة من شبه المبتدعة التى احتجوا بها
فاعلموا –رحمكم الله- أن ما تقَدَّم من الأدلَّة حجة فى عموم الذم من أوجه:
أحدها: ... أنها جاءت مطلقة عامَّة على كثرتها، لم يقع فيها استثناء البتة، ولم يأت فيها شىء مما يقتضى أن منها ما هو هدىً، ولا جاء فيها: كل بدعة ضلالة، إلا كذا وكذا، ... ولا شىءَ من هذه المعانى.
فلو كان هنالك محَدثة يقتضى النظر الشرعى فيها الاستحسان أو أنها لاحقة بالمشروعات، لذُكِرَ ذلك فى آية أو حديث، لكنه لا يوجد، فدلَّ على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التى لا يتخلَّف عن مقتضاها فردٌ من الأفراد.
__________
(1) ... آل عمران: 7.
(2) ... أخرجه البخارى (7352) ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص رضى الله عنه.(1/51)
والثانى: ... أنه قد ثبت فى الأصول العلميَّة أن كل قاعدة كلَّية أو دليل شرعى كلَّى، إذا تكرَّرت فى مواضع كثيرة، وأتى بها شواهد على معان أصوليَّة أو فروعيَّة، ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكرُّرها وإعادة تقرُّرها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم.
والثالث: ... إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمَّها كذلك وتقبيحها والهروب عنها وعمَّن اتَّسم بشىء منها، ولم يقع منهم فى ذلك توقُّف ولا مثنوية، فهو –بحسب الاستقراء- إجماع ثابت، فدلَّ على أن كلَّ بدعة ليست بحق، بل هى من الباطل.
والرابع: ... أن متعقَّل البدعة يقتضى ذلك بنفسه، لأنه من باب مضادَّة الشارع وإطراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة، فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح فى معقول ولا منقول استحسان مشاقَّة الشارع.
[المبتدع آثمٌ مذموم]
ولما ثبت ذمُّها، ثبت ذم صاحبها، لأنها ليست بمذمومة من حيث تصوُّرها فقط، بل من حيث اتَّصف بها المتَّصف، فهو إذاً المذموم على الحقيقة، والذم خاصة التأثيم، فالمبتدع مذموم آثم، وذلك على الإِطلاق والعموم.
ويدل على ذلك أربعة أوجه:
أحدها: ... أن الأدلة المذكورة، إن جاءت فيهم نصّاً، فظاهر، كقوله تعالى: { إن الذين فرّقُوا دينَهُم وكانوا شيعاً لست منهم فى شىءٍ } (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (فَلَيُذَادَنَّ رجالٌ عن حوضى ... )(2) الحديث ... إلى سائر ما نصَّ فيه عليهم، وإن كانت نصّاً فى البدعة، فراجعة المعنى إلى المبتدع من غير إشكال، وإذا رجع الجميع إلى ذمهم، رجع الجميع إلى تأثيهم.
__________
(1) ... الأنعام: 159.
(2) ... رواه مسلم (249) من حديث أبى هريرة، وابن خزيمة (6) والبيهقى (4/78).(1/52)
والثانى: ... أن الشرع قد دل على أنَّ الهوى هو المتَّبَع الأول فى البدع، وهو المقصود السابق فى حقهم، ودليل الشرع كالتبع فى حقهم، ولذلك تجدهم يتأوَّلون كلَّ دليل خالف هواهم، ويتَّبعون كل شبهة وافقت أغراضهم.
والأدلَّة على هذا كثيرة، تشير أو تصَّرح بأن كلَّ مبتدع إنما يتَّبع هواه، وإذا أتبَّع هواه، كان مذموماً وآثماً، والأدلة عليه أيضاً كثيرة: كقوله تعالى: { ومن أضلُّ ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } (1) وما أشبه ذلك، فإذاً، كل مبتدع مذموم آثم.
والثالث: ... أن عامة المبتدعة قائلة بالتحسين والتقبيح (العقلى)، فهو عمدتهم الأولى، وقاعدتهم التى يبنون عليها الشرع، فهو المقدَّم فى نِحَلِهم، بحيث لا يتَّهمون العقل، وقد يتَّهمون الأدلَّة إذا لم توافقهم فى الظاهر، حتى يردُّوا كثيراً من الأدلة الشرعية.
فإذاً، تأثيم من هذه صفته ظاهر، لأن مرجعه إلى اتباع الرأى، وهو اتباع الهوى المذكور آنفاً.
والرابع: ... أن كل راسخ لا يبتدع أبداً، وإنما يقع الابتداع ممَّن لم يتمكَّن من العلم الذى ابتدع فيه، حسبما دلَّ عليه الحديث، ويأتى تقريره بحول الله، فإنما يؤتى الناس من قبِل جُهالهم الذين يحسبون أنهم علماء.
وإذا كان كذلك، فاجتهاد من اجتهد منهىُّ عنه إذ لم يستكمل شروط الاجتهاد، فهو على أصل العموميَّة، ولما كان العامىُّ حراماً عليه النظر فى الأدلة والاستنباط، كان المخضرم الذى بقى عليه كثير من الجهالات مثله فى تحريم الاستنباط والنظر المعمول به، فإذا أقدم على محرَّم عليه، كان آثماً بإطلاق.
وبهذه الأوجه الأخيرة، ظهر وجه تأثيمه، وتبين الفرق بينه وبين المجتهد المخطئ فى اجتهاده.
__________
(1) ... القصص: 50.(1/53)
وحاصل ما ذُكر هنا أن كل مبتدع آثم، ولو فُرِضَ عاملاً بالبدعة المكروهة –إن ثبت فيها كراهة التنزيه-، لأنه إمَّا مستنبطُ لها، فاستنباطه على الترتيب المذكور غير جائز، وإما نائبٌ عن صاحبها، مناضل عنه فيها بما قدر عليه، وذلك يجرى مجرى المستنبط الأول لها، فهو آثم على كل تقدير.
لكن يبقى هنا نظر فى المبتدع وصاحب الهوى، بحيث يتنزل دليل الشرع على مدلول اللفظ فى العرف الذى وقع التخاطب به، إذ يقع الغلط أو التساهل، فيسمَّى مَن ليس بمبتدع مبتدعاً، وبالعكس إن تصور، فلابَّد من فضل اعتناء بهذا المطلب حتى يتَّضح بحول الله، وبالله التوفيق.
ولنفرده فى فصل، فنقول:
فصل
لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون: مجتهداً فيها أو مقلَّداً. والمقلَّد: إما مقلَّد مع الإِقرار بالدليل الذى زعمه المجتهد دليلاً والأخذ فيه بالنظر، وإما مقلَّد له فيه من غير نظر، كالعامىَّ الصرف. فهذه ثلاثة أقسام.
فالقسم الأول على ضربين:
أحدهما: ... أن يصحَّ كونه مجتهداً، فالابتداع منه لا يقع إلا فلتة وبالعَرضَ لا بالذات، وإنما تسمَّى غلطة أو زلَّة، لأن صاحبها لم يقصد اتِّباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الكتاب، أى لم يتبع هواه، ولاجعله عمدة، والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق، أذعن له وأقرَّ به [10].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[10] ... قال د. أحمد عبد العزيز الحليبى فى كتاب الأمة "أصول الحكم على المبتدعة عن شيخ الإسلام ابن تيمية":
الأصل الأول:
الاعتذار لأهل الصلاح والفضل عما وقعوا فيه من بدعة عن اجتهاد، وحمل كلامهم المحتمل على أحسن محمل.
لا ريب أن المجتهد إذا أخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد، يعفى عنه خطؤه، ويثاب، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/54)
وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)(1)، لذا يُعذر كثير من العلماء والعباد، بل والأمراء فيما أحدثوه لنوع اجتهاد، فإن كثيراً من مجتهدى السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرَدْ منها، وإما لرأى رَأوهْ وفى المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل فى قوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسيناَ أو أخطأنا } (2)، وفى الصحيح أن الله قال: { قد فعلت } (3).
وإذا كان الاجتهاد عذراً فى العفو عن الخطأ البدعى، فإن هذا الخطأ لا ينقص من قدر المجتهد، متى كان من أهل القدم فى الصلاح والتقوى، فإنه مع خطئه "قد يكون صدَّيقاً عظيماً، فليس من شرط الصدَّيق أن يكون قوله كله صحيحاً، وعمله كله سنة"(4) ... كما أن فعل أهل الفضل للبدعة ليس دليلاً على صحتها، فإِن الصحة تُعرف من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ... قال رحمه الله مبيناً هذا: (إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين، فقد تركها فى زمان هؤلاء من كان معتقداً لكراهتها، وأنكرها قوم إِن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم، ولو كانوا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دونهم فى الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فتُرد إلى الله ورسوله)(5) ... هذا إذا وقع الخطأ فيما يسوغ فيه الاجتهاد، أما أخطأ مخالفاً "الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة، خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يُعامل بما يُعامل به أهل البدع.
الأصل الثانى:
__________
(1) ... رواه البخارى (7352) ومسلم (1716) وابن عبد البر فى جامع العلم (1662).
(2) ... البقرة: 286.
(3) ... مجموع الفتاوى، 19/191.
(4) ... اقتضاء الصراط المستقيم 2/599.
(5) ... اقتضاء الصراط المستقيم 2/610.(1/55)
عدم تأثيم مجتهد إذا أخطأ فى مسائل أصولية أو فرعية وأولى من ذلك، عدم تكفيره أو تفسيقه.
نسب ابن تيمية هذا الحكم إلى السلف وأئمة الفتوى، كابى حنيفة والشافعى والثورى وداود بن على وغيرهم، أنهم كانوا لا يؤثمون مجتهداً أخطأ فى المسائل الأصولية والفروعية، وذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره، وعلل هذا بأن أبا حنيفة والشافعى وغيرهما كانوا يقبلون شهادة أهل الأهواء، إلا الخَطَابيَّة ويصححون الصلاة خلفهم، والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ولا يُصلى خلفه، وأنهم قالوا: هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين، أنهم لا يكفرون ولا يفسّقون ولا يؤثمون أحداً من المجتهدين المخطئين، لا فى مسألة عملية ولا علمية، قالوا: والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع، من أهل الكلام المعتزلة والجهمية، ومن سلك سبيلهم، وانتقل هذا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول إلى أقوام تكلموا بذلك فى أصول الفقه، ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غَوره(1).
__________
(1) ... منهاج السنة 3/20، ومجموع الفتاوى، 23/346، 9/207.(1/56)
وبين رحمه الله بطلان رأى مَن قال: "إن مسائل الأصول هى العلمية الاعتقادية التى يُطلب فيها العلم والاعتقاد فقط، ومسائل الفروع هى العملية يطلب فيها العمل –من جهة الحكم- فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده، مثل وجوب الصلوات الخمس، والزكاة وصوم شهر رمضان، وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش، وفى المسائل العلمية، مالا يأثم المتنازعون فيه، كتنازع الصحابة: هل رأى محمد ربه؟ وكتنازعهم فى بعض النصوص: هل قاله النبى - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ وما أراد بمعناه؟ وكتنازعهم فى بعض الكلمات، هل هى من القرآن أم لا؟ وكتنازعهم فى بعض معانى القرآن والسنة: هل أراد الله ورسوله كذا وكذا؟ وكتنازع الناس فى دقيق الكلام، كمسألة الجوهر الفرد، وتماثل الأجسام، وبقاء الأعراض، ونحو ذلك، فليس فى هذا تكفير ولا تفسيق(1).
الأصل الثالث
عذر المبتدع لا يقتضى إقراره على ما أظهره من بدعة، ولا إباحة اَّتباعه، بل يجب الإنكار عليه فيما يسوغ إنكاره، مع مراعاة الأدب فى ذلك:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... منهاج السنة 3/21.(1/57)
يرى ابن تيمية أن المجتهد المبتدع لا يُقر على إظهار البدعة والدعوة إليها(1) متى تبينت مخالفتها للكتاب والسنة، بل لا يجوز متابعته فيها "نعم" قد يكون متأولاً فى هذا الشرع، أى الذى ابتدعه، فيُغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهداً الاجتهاد الذى يُعفى معه عن المخطئ، ويُثاب أيضاً على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه فى ذلك، كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل عملاً قد عُلم الصواب فى خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجوراً أو معذوراً، وقد قال سبحانه وتعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } (2)، قال عدى بن حاتم للنبى - صلى الله عليه وسلم - : "يا رسول الله! ما عبدوهم. قال: (ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحّرموا عليهم الحلال فأطاعوهم)(3) فمن أطاع أحداً فى دين لم يأذن به الله، فى تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب، فقد لحقه من هذا الذم نصيب(4).
وإذا كان الاجتهاد يغفر للعالم خطأه، فإن هذا يقتضى التأدب معه، ومراعاة
__________
(1) ... مجموع الفتاوى 11/471.
(2) ... التوبة: 31.
(3) ... حديث حسن، رواه الترمذى (3095) والطبرانى فى الكبير (17/218) والبيهقى (10/116) وابن عبد البر فى جامع بيان العلم (1862)، بألفاظ متقاربة.
(4) ... اقتضاء الصراط المستقيم 2/580.(1/58)
والثانى: ... وأما إن لم يصح بمسبار العلم أنه من المجتهدين، فهو الحرىُّ باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم، إذ قد اجتمع له مع الجهل بقواعد الشرع الهوى الباعث عليه فى الأصل، وهو التَّبعيَّة، إذ قد تَحَصَّل له مرتبة الإمامة والاقتداء، وللنفس فيها من الَّلذَّة ما لا مزيد عليه، ولذلك يعُسرُ خروج حب الرئاسة من القلب إذا انفرد، فكيف إذا انضاف إليه الهوى وانضاف إلى هذين الأمرين دليلُ –فى ظنه- شرعىُّ على صحة ما ذهب إليه؟! فيتمكن الهوى من القلب تمكُّناً لا يمكن فى العادة الانفكاك عنه، وجرى منه مجرى الكَلَب من صاحبه، كما جاء فى حديث الفرق(1)، فهذا النوع ظاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حقه عند إنكار ما أظهره من بدعة وبيان مخالفته للسنة، وفى هذا يقول رحمه الله:
... أنه آثم فى ابتداعه إثم مَن سنَّ سنَّة سيِّئة.
القسم الثانى: (المقلد مع الإقرار بدليل المجتهد)
__________
(1) ... حديث معاوية مرفوعاً "إن أهل الكتابين افترقوا فى دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة –يعنى الأهواء- كلها فى النار إلا واحدة، وهى الجماعة، وإنه سيخرج فى أمتى أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه لا يبقى فيه عرق ولا مفصل إلا دخله" والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لغيركم أحرى أن لا يقوم به. رواه أحمد (4/102 – ح 6490 الرسالة) وحسنه محققوا مسند الرسالة، وأبو داود (4597) وحسنه الألبانى فى السنن وفى الصحيحة (204) ورواه ابن أبى عاصم فى السنة (1، 2، 69) والحاكم (1/218) والطبرانى فى الكبير (19/376) والكَلَب مرض ينتقل للإنسان عن طريق الكلاب، وانظر أحاديث أخر فى افتراق الأمة فى رسالة شحذ الهمة فى تخريج أحاديث افتراق الأمة: جمع وترتيب خالد عبد الكريم.(1/59)
يتنوع أيضاً: وهو الذى لم يستنبط بنفسه، وإنما اتَّبع غيره من المستنبطين، لكن بحيث أقرَّ بالشبهة واستصوبها، وقام بالدعوة بها مقام متبوعه، لانقداحها فى قلبه، فهو مثل الأول، وإن لم يَصِرْ إلى تلك الحال، ولكنه تمكَّن حب المذهب من قلبه حتى عادى عليه ووالى.
القسم الثالث: (المقلد فى البدعة كالعامىّ الصرف)
يتنوَّع أيضاً وهو الذى قلدَّ غيره على البراءة الأصلية، فلا يخلو:
? أن يكون ثمَّ من هو أولى بالتقليد منه، بناء على التسامع الجارى بين الخلق بالنسبة إلى رجوع الجم الغفير إليه فى أمور دينهم من عالم وغيره، وتعظيمهم له بخلاف الغير.
? أو لا يكون ثم من هو أولى منه، لكن ليس فى إقبال الخلق عليه وتعظيمهم له ما يبلغ تلك الرتبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"وإن كان المخطئ المجتهد مغفوراً له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذى دل عليه الكتاب والسنة واجب، وإن كان ذلك مخالفة لقوله وعمله، ومن علم منه الاجتهاد السائغ، فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله له من حقوقه، من ثناء ودعاء وغير ذلك.
فإن كان هناك منتصبون، فتركهم هذا المقلد وقلد غيرهم، فهو آثم إذ لم يرجع إلى مّن أمر بالرجوع إليه، بل تركه ورضى لنفسه بأخسّ الصفقتين، فهو غير معذور، إذ قلَّد دينه من ليس بعارف بالدين فى حكم الظاهر، فعمل بالبدعة وهو يظنُّ أنه على الصراط المستقيم.
وقلماَّ تجد مَنْ هذه صفته، إلا وهو يوالى فيما ارتكب ويعادى بمجرد التقليد.
وإن لم يكن هناك منتصبون إلى هذا المقلَّد الخامل بين الناس، مع أنه قد نصب نفسه منصب المستحقين، ففى تأثيمه نظر، ويحتمل أن يقال فيه: إنه آثم.
ونظيره مسألة أهل الفترات العاملين تبعاً لآبائهم، لأن العلماء يقولون فى حكمهم: إنهم على قسمين:(1/60)
قسم غابت عليه الشريعة، ولم يدر ما يتقَرَّب به إلى الله تعالى، فوقف عن العمل بكل ما يتوهَّمه العقل أنه تقُّرب إلى الله، ورأى ما أهل عصره عاملون به ممَّا ليس لهم مستند إلا استحسانهم، فلم يستفزه ذلك عن الوقوف عنه، وهؤلاء هم الدَّاخلون حقيقة تحت عموم الآية الكريمة { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } (1).
وقسم لابَسَ ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله، والتحريم بالرأى، ووافقهم فى اعتقاد ما اعتقدوه من الباطل، فهؤلاء نصَّ العلماء على أنهم غير معذورين، مشاركون لأهل عصرهم فى المؤاخذة، لأنهم وافقوهم فى العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة، فصاروا من أهلها، فكذلك ما نحن فى الكلام عليه، إذ لا فرق بينهما.
ومن العلماء من يطلق العبارة ويقول: كيفما كان، لا يُعذَّب أحد إلا بعد الرسل وعدم القبول منهم.
وهذا إن ثبت قولاً هكذا، فنظيره فى مسألتنا أن يأتى عالم أعلم من ذلك المنتصب يبَّين السنة من البدعة، فإن راجعه هذا المقلَّد فى أحكام دينه ولم يقتصر على الأول، فقد أخذ بالاحتياط الذى هو شأن العقلاء ورجاء السلامة، وإن اقتصر على الأول، ظهر عناده، لأنه مع هذا الفرض لم يرض بهذا الطارئ، وإذا لم يرضه، كان ذلك لهوى داخله، وتعصُّب جرى فى قلبه مجرى الكَلَب فى صاحبه، وهو إذا بلغ هذا المبلغ، لم يبعد أن يتنصر لمذهب صاحبه، ويحسنه، ويستدل عليه بأقصى ما يقدر عليه فى عموميته، وحكمه قد تقدم فى القسم قبله.
فصلُ
ولنزد هذا الموضوع شيئاً من البيان، فإنه أكيد، لأنه تحقيق مناط الكتاب وما احتوى عليه من المسائل، فنقول وبالله التوفيق:
__________
(1) ... الإسراء: 15.(1/61)
إن لفظ: "أهل الأهواء"، وعبارة: "أهل البدع"، إنما تطلق حقيقة على الذين ابتدعوها، وقَدَّموا فيها شريعة الهوى، بالاستنباط، والنصر لها، والاستدلال على صحَّتها فى زعمهم، كلفظ "أهل السنة" إنما يُطلق على ناصريها، وعلى من استنبط على وفقها والحامين لذِمَارِها(1).
ويرشح ذلك أن قول الله تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } (2)، يشعر بإطلاق اللفظ على من جعل ذلك الفعل الذى هو التفريق، وليس إلا المخترع أو من قام مقامه.
وكذلك قول النبى - صلى الله عليه وسلم - : (حتى إذا لم يَبق عالمٌ أتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم)(3) فأقاموا أنفسهم مقام المستنبط للأحكام الشرعية، المقَتَدى بهِ فيها، بخلاف العوامَّ، فإنهم متبعون لما تقرَّر عند علمائهم، لأنه فرضهم، فليسوا بمتَّبعين للمتشابه حقيقة، ولا هم متبعون للهوى، وإنما يتَّبعون ما يقال لهم كائناً ما كان، فلا يُطلق على العوام لفظ "أهل الأهواء" حتى يخوضوا بأنظارهم فيها، ويُحَسِّنوا بنظرهم ويقبَّحوا.
وعند ذلك يتَّعينُ للفظ "أهل الأهواء" و"أهل البدع" مدلول واحد، وهو: من انتصبَ للابتداع ولترجيحه على غيره، وأما أهل الغفلة عن ذلك، والسالكون سبيل رؤسائهم بمجرَّد التقليد من غير نظر، فلا.
فحقيقة المسألة أنها تحتوى على قسمين: مبتدع ومقتد به.
فالمفتدى به، كأنه لم يدخل فى العبارة بمجرَّد الاقتداء، لأنه فى حكم المتّبِع.
__________
(1) ... الذِمَار: كل ما يلزمك حفظه وحمايته والدفاع عنه، كالحَرمَ والعرض والمال.
(2) ... الأنعام: 159.
(3) ... رواه البخاري (100) ومسلم (2673) والترمذي وابن ماجة والبيهقي والدارمي وابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو.(1/62)
والمبتدع هو المخترع، أو المستدِل على صحة ذلك الاختراع، وسواء علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر فى العلم، أو كان من قبيل الاستدلال العامى، فإن الله سبحانه ذمَّ أقواماً قالوا: { إنَّا وجدنا آباءنا على أمة وإنَّا على آثارهم مهتدون } (1)، فكأنهم استدلوا إلى دليلى جُمْلىّ، وهو الآباء، إذْ كانوا عندهم من أهل العقل، وقد كانوا على هذا الدين، وليس إلا لأنه صواب، فنحن عليه، لأنه لو كان خطأ، لما ذهبوا إليه.
وهو نظير من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومَن يشار إليه بالصلاح، ولا ينظر إلى كونه من أهل الاجتهاد فى الشريعة أو من أهل التقليد، ولا إلى كونه يعمل بعلم أو بجهل. ولكنَّ مثلَ هذا يعد استدلالاً فى الجملة، من حيث جُعِل عمدة فى اتباع الهوى وأطراح ما سواه، فمن أخذ به، فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله، ودخل فى مسمى أهل (الابتداع) إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر فى الحق إن جاءه، ويبحث ويتأنَّى، ويسأل، حتى يتبَّين له الحق فيتبعه، والباطل فيتجنبه.
ولذلك قال تعالى رداً على المحتجين بما تقدم: { قال أَوَلو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } (2)، وفى الآية الأخرى: { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءَنا } (3) فقال تعالى: { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } (4)، وفى الآية الأخرى: { أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير } (5) ... وأمثال ذلك كثير.
__________
(1) ... الزخرف: 22.
(2) ... الزخرف: 24.
(3) ... البقرة: 170.
(4) ... البقرة: 170.
(5) ... لقمان: 21.(1/63)
وعلامة من هذا شأنه أن يردَّ خلاف مذهبه بما قدر عليه من شبهة دليلٍ تفصيلىَّ أو أجمالىًّ، ويتعصب لما هو عليه، غير ملتفت إلى غيره، وهو عين اتباع الهوى، وإذا ظهر اتباع الهوى، فهو المذموم حقاً، وعليه يحصل الإثم، فإنَّ من كان مسترشداً مال إلى الحق حيث وجده ولم يرده، وهو المعتاد فى طالب الحق، ولذلك بادر المحققون إلى اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تبين لهم الحق.
فإن قلنا: إن أهل الفترة معذَّبون على الإطلاق إذا اتبَّعوا من اخترع منهم، فالمتبَّعون للمبتدع إذا لم يجدوا محقّاً مؤاخذون أيضاً.
وإن قلنا: لا يعذَّبون حتى يُبعث لهم الرسول وإن عملوا بالكفر، فهؤلاء لا يؤاخذون ما لم يكن فيه محقُّ، فإذ ذاك يؤاخذون من حيث إنهم معه بين أحد أمرين: إما أن يتبعوه على طريق الحق فيتركوا ما هم عليه، وإما أن لا يتَّبعوه، فلابدَّ من عنادٍ ما وتعصب، فيدخلون إذ ذاك تحت عبارة (أهل الأهواء) فيأثمون(1).
وقانا الله شرَّ التعصُب على غير بصيرة من الحق بفضله ورحمته.
[اختلاف مراتب إثم المبتدع]
إذا ثبت أن المبتدع آثم، فليس الإثم الواقع عليه على رتبة واحدة، بل هو على مراتب مختلفة:
1. ... الاختلاف من جهة كون صاحبها مدَّعياً للاجتهاد أو مقلَّداً:
__________
(1) ... خلاصة كلام المصنف: فى العامى المقلِّد للمبتدع: إن عُرض عليه الحق فرفضه وآثر اتباع وتقليد المبتدع فهو مثله فى الإثم وإطلاق لفظ "أهل الاهواء" وأهل البدع" عليه. وإن كان عامياً لا يعرف إلا شيخه المبتدع ولم يعرض عليه أحدٌ الحق فقلد ذلك المبتدع فهو معذور. (انظر مختصر كتاب الاعتصام لعلوى عبد القادر السّقاف ص50 فى الحاشية).(1/64)
فظاهر، لأن الزيغ فى قلب الناظر فى المتشابهات ابتغاء تأويلها أمكن منه فى قلب المقلِّد –وإن ادَّعى النظر أيضاً-، لأن المقلِّد الناظر لابد من استناده إلى مقلَّده فى بعض الأصول التى يبنى عليها، أو المقلَّد قد انفرد بها دونه، فهو آخذ بحظٍَّ ما لم يأخذ فيه الآخر، إلا أن يكون هذا المقلِدُ ناظراً لنفسه، فحينئذٍ لا يدَّعى رتبة التقليد، فصار فى درجة الأول، وزاد عليه الأول بأنه أول من سنَّ تلك السنة السيئة، فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها(1)، وهذا الثانى قد عمل بها، فيكون على الأول من إثمه ما عيَّنه الحديث الصحيح، فوزرُه أعظم على كل تقدير، والثانى دونه، لأنه إن نظر وعاند الحق واحتج لرأيه، فليس له إلا النظر فى أدلة جملية لا تفصيلية، والفرق بينهما ظاهر، فإن الأدلة التفصيلية أبلغ فى الاحتجاج على عين المسألة من الأدلَّة الجملية، فتكون المبالغة فى الوزر بمقدار المبالغة فى الاستدلال.
2. ... الاختلاف من جهة وقوعها فى الضروريات أو غيرها:
فالإشارة إليه ستأتى عند التكلم على أحكام البدع.
3. ... الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان:
فظاهر أن المسرَّ لها ضرره مقصور عليه، لا يتعداه إلى غيره، فإعلانه بها ذريعة إلى الاقتداء به، فأنضم إلى وزر العمل بها وزر نصبها لمن يقتدى به فيها، والوزر فى ذلك أعظم بلا إشكال.
4. ... الاختلاف من جهة الدعوة إليها وعدمها:
فظاهر أيضاً، لأن غير الداعى –وإن كان عرضة بالاقتداء-، فقد لا يقتدى به، ويختلف الناس فى توفُّر دواعيهم على الاقتداء به، إذ قد يكون خامل الذكر، وقد يكون مشتهراً ولا يُقتَدى به، لشهرة من هو أعظم عند الناس منزلة منه.
فإذا دعا إليها، فمظنة الاقتداء أقوى وأظهر، ولا سيما المبتدع الحسن الفصيح الآخذ بمجامع القلوب.
5. ... الاختلاف من جهة كونه خارجاً على أهل السنة أو غير خارج:
__________
(1) ... تقدم أنه عند مسلم ص85 برقم (1).(1/65)
فلأن غير الخارج لم يزد على الدعوة مفسدة أخرى يترتب عليها إثم، والخارج زاد الخروج على الأئمة –وهو موجب للقتل- والسعى فى الأرض بالفساد، وإثارة الفتن والحروب، إلى حصول العداوة والبغضاء بين أولئك الفرق، فله من الإثم العظيم، ومثاله قصة الخوارج.
وقد لا يخرجون هذا الخروج، بل يقتصرون على الدَّعوة، لكن على وجه أدعى إلى الإجابة، لأن فيه نوعاً من الإكراه والإخافة، فلا هو مجرَّد دعوة، ولا هو شقُّ العصا من كل وجه، وذلك أن يستعين على دعوة بأولى الأمر من الولاة والسلاطين، فإن الاقتداء هنا أقوى بسبب خوف الولاة -فى الإيقاع بالآبى سجناً أو ضرباً أو قتلاً- كما اتفق لبشر المريسى فى زمن المأمون(1).
__________
(1) ... المريسي: المتكلم المناظر، كان بشر من كبار الفقهاء، أخذ عن القاضي أبي يوسف وروى عن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة، ونظر في الكلام فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن ودعا إليه حتى كان عين الجهمية في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم وكفره عدة، ولم يدرك جهم بن صفوان بل تلقف مقالاته من أتباعه. وقال أبو النضر هاشم بن القاسم: كان والد بشر يهودياً قصاراً صباغاً في سويقة نصر. وصنف كتاباً في التوحيد و كتاب الإرجاء، وقال المروذي: سمعت أبا عبد الله وذكر المريسي فقال: كان أبوه يهوديا أي شي تراه يكون، قال أبو عبد الله: ما كان صاحب حجج بل صاحب خطب، وقال أبو بكر الأثرم: سئل أحمد عن الصلاة خلف بشر المريسي، فقال: لاتصل خلفه. وقال قتيبة: بشر المريسي كافر. مات في آخر سنة ثماني عشرة ومئتين وقد قارب الثمانين، فهو بشر الشر، وبشر الحافي بشر الخير، كما أن أحمد بن حنبل هو أحمد السنة، وأحمد بن أبي دواد أحمد البدعة..ومن كفر ببدعة وإن جلت ليس هو مثل الكافر الأصلي، ولا اليهودي والمجوسي، أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر وصام وصلى وحج وزكى، وإن ارتكب العظائم وضل وابتدع كمن عاند الرسول وعبد الوثن ونبذ الشرائع وكفر، ولكن نبرأ إلى الله من البدع وأهلها. (عن سير أعلام النبلاء باختصار 10/199).(1/66)
فهذا الوجه، الوزر فيه أعظم من مجَّرد الدَّعوة من وجهين:
الأول: الإخافة والإكراه بالقتل.
والآخر: كثرة الداخلين فى الدعوة، لأن الإعذار والإنذار الأخروى قد لا يقوم له كثيرٌ من النفوس، بخلاف الدنيوى، ولأجل ذلك شُرعت الحدود والزواجر فى الشرع، و"إن الله يزع بالسلطان مالا يزعه
بالقرآن"(1)، فالمبتدع إذا لم ينتصر بإجابة دعوته بمجَّرد الإعذار والإنذار الذى يعظ به، حاول الانتهاض بأولى الأمر، ليكون ذلك أحرى بالإجابة.
6. ... الاختلاف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية:
فإن الحقيقة أعظم وزراً، لأنها التى باشرها المنتهى بغير واسطة، ولأنها مخالفة محضة وخروج عن السنة ظاهر، كالقول بالقدر، والقول بالحسن والتقبيح، والقول بإنكار خبر الواحد، وإنكار الإجماع، وإنكار تحريم الخمر، والقول بالإمام المعصوم ... وما أشبه ذلك. فإذا فرضت إضافية، فمعنى الإضافية أنها مشروعةٌ من وجهٍ ورأىٌ مجردٌ من وجهٍ، إذ يدخلها من جهة المخترع رأى فى بعض أحوالها، فلم تناف الأدلة من كل وجه.
7. ... الاختلاف من جهة كونها ظاهرة المأخذ أو مشكلة:
فلأن الظاهر عند الإقدام عليها محض مخالفة، فإن كانت مُشْكَلَة، فليست بمحض مخالفة، لإمكان أن لا تكون بدعة، والإقدام على المحتمل أخفض رتبة من الإقدام على الظاهر.
وإن قلنا: إن ترك المتشابه من باب المندوب، وإن مواقعته من باب المكروه، فلا إثم فيها فى الجملة، مالم يقترن بها مايوجبها، كالإصرار عليها، إذ الإصرار على الصغيرة يصيَّرها كبيرة، فكذلك الإصرار على المكروه، قد يصيَّره صغيرة، ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة فى مطلق التأثيم.
__________
(1) ... ذكره ابن كثير في تفسيره عند تفسير سورة الإسراء، قوله تعالى { واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً } ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور عند نفس الآية للخطيب من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكذلك صاحب كنز العمال (14284).(1/67)
والشأن فى البدع –وإن كانت مكروهة- فى الدوام عليها وإظهارها من المقتدى بهم فى مجامع الناس وفى المساجد، فقلما تقع منهم على أصلها من الكراهية إلا ويقترن بها ما يُدخلها فى مطلق التأثيم، من إصرار، أو تعليم، أو إشاعة، أو تعصب لها ... أو ما أشبه ذلك، فلا يكاد يوجد فى البدع –بحسب الوقوع- مكروه لا زائد فيه على الكراهية، والله أعلم.
8. ... الاختلاف بحسب الإِصرار عليها أو عدمه:
فلأن الذنب قد يكون صغيراً فيعظم بالإِصرار عليه، كذلك البدعة تكون صغيرة فتعظم بالإِصرار عليها، فإذا كانت فلتة، فهى أهون منها إذا داوم عليها.
ويلحق بهذا المعنى ما إذا تهاون بها المبتدع وسهَّل أمرها، نظير الذنب إذا تهاون به، فالمتهاون أعظم وزراً من غيره.
9. ... الاختلاف من جهة كونها كفراً وعدمه:
فظاهر أيضاً، لأن ما هو كفر جزاؤه التخليد فى العذاب –عافانا الله- وليس كذلك ما لم يبلغ مبلغه، فبدعة الباطنيَّة والزنادقة ليست كبدعة المعتزلة والمرجئة وأشباههم. ووجوه التفاوت كثيرة، ولظهورها عند العلماء، لم نبسط الكلام عليها، والله المستعان بفضله.
[القيام على أهل البدعة بالحسبة]
وهذا باب كبير فى الفقة تعلق بهم من جهة جنايتهم على الدين، وفسادهم فى الأرض، وخروجهم عن جادَّة الإسلام إلى بُنَّيات الطريق التى نبَّه عليها قول الله تعالى: { وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } (1).
فنقول: إن القيام عليهم: بالتثريب، أو التنكيل، أو الطرد، أو الإبعاد، أو الإنكار، هو بحسب حال البدعة فى نفسها، من كونها عظيمة المفسدة فى الدين أو لا، وكون صاحبها مشتهراً بها أو لا، وداعياً إليها أو لا، ومستظهراً بالاتباع أو لا، وخارجاً عن الناس أو لا، وكونه عاملاً بها على جهة الجهل أو لا.
__________
(1) ... الأنعام: 153.(1/68)
وكل هذه الأقسام له اجتهاد يخصُّه، إذ لم يأت فى الشرع فى البدعة حدٌّ لا يُزاد عليه ولا ينقص منه، كما جاء فى كثير من المعاصى، كالسرقة، والحرابة، والقتل، والقذف، والجراح، والخمر، ... وغير ذلك.
لا جرم أن المجتهدين من الأمة نظروا فيها بحسب النوازل، وحكموا باجتهاد الرأى، تفريعاً على ما تقدمَّ لهم فى بعضها من النص، كما جاء فى الخوارج من الأثر بقتلهم.
فخرج من مجموع ما تكلمَّ فيه العلماء أنواع:
أحدها: الإرشاد، والتعليم، وإقامة الحجة، كمسألة ابن عباس حين ذهب إلى الخوارج، فكلمَّهم، حتى رجع منهم ألفان أو ثلاثة آلاف(1)، ومسألة عمر ابن عبد العزيز مع غيلان، وشبه ذلك.
الثانى: الهجران، وترك الكلام والسلام، حسبما تقدًّم عن جملة من السلف فى هجرانهم لمن تلبَّس ببدعة، وما جاء عن عمر فى قصة صُبيغ(2).
الثالث: كما غرَّب عمر صبيغاً، ويجرى مجراه السجن، وهو:
__________
(1) ... روى الحاكم (2/152) والبيهقي (8/179) وأحمد (1/86) من حديث طويل، وفيه أن ابن عباس واضَعَهُم على كتاب الله ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب. وصححه الألباني في الإرواء (8/111 – ح 2459).
(2) ... الهجر الوارد فى كلام السلف يشمل: ترك الكلام وترك السلام وترك المجالسة والمخاطبة والاستماع وترك المناظرة وترك الدخول عليهم وترك عيادة المبتدعة إذا مرضوا، وشهود جنائزهم إذا ماتوا، وترك الصلاة عليهم والصلاة خلفهم، وترك مبايعتهم ومناكحتهم والبعد عن مجاورتهم وترك توقيرهم وإجلالهم أو ما يؤدى إلى ذلك من بسط الوجه والانشراح برؤيتهم أو تسميتهم وتلقيبهم بأسماء وألقاب التوقير أو طلب المشورة منهم. "انظر حقيقة البدعة وأحكامها تأليف سعيد بن ناصر الغامدى 2/334". وتقدمت الإشارة إلى قصة عمر مع صبيغ [وهذا أيضًا يختلف باختلاف بدعهم].(1/69)
الرابع: كما سجنوا الحلاَّج قبل قتله سنين عدة(1).
الخامس: ذكرهم بما هم عليه، واشاعةُ بدعتهم، كى يُحْذروا، لئلا يغتر بكلامهم، كما جاء عن كثير من السلف فى ذلك.
السادس: القتال إذا ناصبوا المسلمين وخرجوا عليهم، كما قاتل علىّ رضى الله عنه الخوارج(2) وغيره من خلفاء السنة.
__________
(1) ... الحلاَّج: هو الحسين بن منصور بن محمي أبو عبد الله ويقال أبو مغيث الفارسي البيضاوي الصوفي، والبيضاء مدينة ببلاد فارس، وكان جده محمي مجوسياً، وتبرأ منه سائر الصوفية والمشايخ والعلماء لما سترى من سوء سيرته ومروقه، ومنهم من نسبه إلى الحلول ومنهم من نسبه إلى الزندقة وإلى الشعبذة، خرج إلى الجنيد وفارقه، وكان يسمى حلاج الأسرار والمحير والمصطلم، ووقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشايخ الصوفية، فقيل هو ساحر وقيل هو مجنون وقيل هو ذو كرامات، حتى أخذه السلطان. كان يأخذ نفسه بأشياء تخالف الشريعة وطريقة الزهاد، وكان يدعي المحبة لله ويظهر منه ما يخالف دعواه، قلت: ولا ريب أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم علم لمحبة الله لقوله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ، وكان مرتكبا للعظائم، يدعي عند أصحابه الإلهية، ويقول بالحلول، ويظهر التشيع للملوك ومذاهب الصوفية للعامة، وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية حلت فيه، تعالى الله وتقدس عما يقول. وفي سنة إحدى وثلاث مئة أدخل الحلاج بغداد مشهوراً على جمل قبض عليه بالسوس، وحمل إلى الرائشي فبعث به إلى بغداد، فصلب حياً، ونودي عليه هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه. وفي قول أنه صلب وحرق، وكان هلاكه سنة 309، وقد أطال الذهبي في السير من ترجمته جداً (14/313).
(2) ... رواه مسلم (1064) والبخاري، وتقدم ص113 برقم (1).(1/70)
السابع: القتل(1) إن لم يرجعوا مع الاستتابة، وهو قد أظهر بدعته، وأما مَن أسرَّها وكانت كفراً أو ما يرجع إليه، فالقتل بلا استتابة، وهو الثامن، لأنه من باب النفاق، كالزنادقة.
والتاسع: الحكم بكفر مَن دلَّ الدليل على كفره، كما إذا كانت البدعة صريحة فى الكفر، كالإباحية، والقائلين بالحلول، كالباطنية.
والعاشر: وذلك أنه لا يرثهم ورثتهم من المسلمين، ولا يرثون أحداً منهم، ولا يغسلون إذ ماتوا، ولا يُصلىَّ عليهم، ولا يدفنون فى مقابر المسلمين، ما لم يكن مستتراً، فإن المستتر يحكم له بحكم الظاهر، وورثته أعرف بالنسبة إلى الميراث.
الحادى عشر: الأمر بأن لا يُناكَحوا، وهو من ناحية الهجران، وعدم المواصلة.
الثانى عشر: تجريحهم على الجملة، فلا تقبل شهادتهم ولا روايتهم، ولا يكونون والين ولا قضاة. ولا ينصَّبون فى مناصب العدالة من إمامة أو خطابة، إلا أنه قد ثبت عن جملة من السلف رواية جماعة منهم(2)، واختلفوا فى الصلاة خلفهم من باب الأدب ليرجعوا عما هم عليه.
الثالث عشر: ترك عيادة مرضاهم، وهو من باب الزجر والعقوبة.
الرابع عشر: ترك شهود جنائزهم كذلك.
__________
(1) ... القتل: وهذا الحكم لا يكون إلا من والى المسلمين المسلم، وهو حكم تقريرى فى حق أفراد أهل البدع، يحكم به أهل العلم والإيمان، وليس للمحتسب أو العالم الذى لا سلطة له إيقاع هذا الحكم. ولا يحكم بقتل الداعى للبدعة إلا إذا لم يندفع فساده إلا بالقتل، إما إذا اندفع فساده بما دون القتل فلا يقتل. ولايقتل حتى يستتاب ويبين له الحق وكذلك لا يقتل إذا كان فى قتله مفسدة راجحة. انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 28/108-109-499-500. انظر حقيقة البدعة سعيد بن ناصر الغامدى 2/329-330.
(2) ... انظر مقدمة الفتح، هدي الساري، الفصل التاسع: في سياق من طعن فيه من رجال هذا الكتاب، القسم الأول منه، من ضعف بسبب الاعتقاد. وانظر كذلك كتب المصطلح، وهل تقبل رواية المبتدع، وشروط القبول.(1/71)
الخامس عشر: الضرب كما ضرب عمر رضى الله عنه صبيغاً.
[حكم تقسيم البدع إلى حسن وقبيح]
فإن قيل: كيف هذا وقد ثبت فى الشريعة ما يدل على تخصيص تلك العمومات، وتقييد تلك المطلقات، وفرَّع العلماء منها كثيراً من المسائل، وأصلوا أصولاً يحتذى حذوها على وفق ما ثبت نقله، إذ الظواهر تخرج على مقتضى ظهورها بالاجتهاد، وبالحرىَّ إن كان ما يستنبط بالاجتهاد مقيساً على محل التخصيص، فلذلك قسم الناس البدع، ولم يقولوا بذمها على الإطلاق؟!
وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى أوجه:
أحدها: ما فى الصحيح:
من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (من سنًّ سنَّة حسنة، كان له أجرها وأجر مَن عمل بها لا يَنْقُصُ ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سنَّ سنًّة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا يَنْقُصُ ذلك من أوزارهم شيئاً)(1).
وخرَّج الترمذى وصحَّحه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَن دلًّ على خير، فله أجر فاعله)(2).
فهذه الأحاديث صريحة فى أنَّ مَن سنَّ سنًّة خير، فذلك خير. ودل على أنه فيمن ابتدع "مَن سَنَّ" فنسب الإستنانّ إلى المكلَّف دون الشارع، ويدلُّ على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفلً من دمها، لأنه أولُ من سن القتل)(3) فـ "سنَّ" ها هنا على حقيقته.
فكذلك قوله: (مَن سنَّ سنَّة حسنة) أى: من اخترعها من نفسه لكن بشرط أن تكون حسنة، فله من الأجر ما ذكر، فليس المراد: مَن عمل سنة ثابتة.
__________
(1) ... تقدم أنه عند مسلم ص85 برقم (1).
(2) ... أخرجه الترمذى (2671) من حديث أبى مسعود البدرى، وهو فى صحيح مسلم (1893)، وأبو داود (5129)، والبيهقى وابن حبان.
(3) ... رواه البخاري (3335) ومسلم (1677) والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وابن حبان من حديث ابن مسعود.(1/72)
والثانى: أن السلف الصالح رضى الله عنهم –وأعلاهم الصحابة- قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة مما رأوه حسناً وأجمعوا عليه، ولاتجتمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة(1)، وإنما يجتمعون على هدى وما هو حسن.
__________
(1) ... رواه أحمد من حديث أبي بصرة (6/396: وصححه لغيره محققوا مسند الرسالة 45/200) والطبراني في الكبير. ورواه أحمد (5/145 – ح 21293 ط. الرسالة) من جديث أبي ذر، وفيه: "فإن الله لن يجمع أمتي إلا على هُدىً"، وفيه البختري بن عبيد: متروك، وأبوه مجهول، وانظر: مجمع الزوائد (1/177). ورواه الحاكم (1/116، 117) من حديث ابن عمر، وابن عباس، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة من حديث ابن عمر(80) والترمذي (2167: صحيح)، ورواه ابن أبي عاصم من حديث كعب بن عاصم من طريقين (82، 92) [والطريق الثانية عند أبو داود (4253) بنفس سند ابن أبي عاصم ونفس شيخه: محمد بن عوف الطائي، والطبراني في الكبير من حديث أبي مالك الأشعري، وقد قيل أن اسمه كعب بن عاصم]، ورواه ابن أبي عاصم عن أنس (83، 84)، ورواه عن أبي مسعود موقوفاً (85) وجوَّد إسناده الألباني في السنة، وحسَّن الحديث بشواهده، وذكر أن لحديث ابن عمر طريق إسنادها صحيح لأن طرق الحاكم فيها مقال، وانظر الصحيحة 1331. وابن ماجة (3950) من حديث أنس وضعفه البوصيري، وضعفه عموماً النووي، وصحح الحافظ ابن حجر بعض رواياته، ورواه الطبراني في الكبير (17/240) من حديث أبي مسعود موقوفاً، ولكن في رواية أخرى يحتمل سياقها الرفع. ونقل الكتاني في نظم المتناثر عن ابن الهمام في التحرير وغير واحد أنها متواترة معنى، ونص ابن الهمام: ومن الأدلة السمعية أي على أن الإجماع حجة قطعية أحاديث تواتر منها مشترك: لا تجتمع أمتي على الخطأ ونحوه كثير أ. هـ،قال: وأورده في المقاصد في حرف لام الألف، وقال بعد كلام: وبالجملة فهو حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة في المرفوع وغيره.(1/73)
- فقد أجمعوا على جمع القرآن وكَتْبه فى المصاحف، وعلى جمع الناس على المصاحف العثمانية، واطّراح ما سوى ذلك من القراءات التى كانت مستعمله فى زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن إذ ذاك قصرٌ ولا حصرٌ.
- ثم اقتفى الناس أثرهم فى ذلك الرأى الحسن، فجمعوا العلم ودوَّنوه وكتبوه، ومن سُبَّاقهم فى ذلك مالك بن أنس، وقد كانوا من أشدِّهم اتباعاً وأبعدهم من الابتداع.
هذا، وإن كانوا قد نقل عنهم كراهية كَتْب العلم من الحديث وغيره، فإنما هو محمول إما على الخوف من الاتِّكال على الكتب استغناءً به عن الحفظ والتحصيل، وإما على ما كان رأياً دون ما كان نقلاً من كتاب أو سنة.
- ثم اتفق الناس بعد ذلك على تدوين الجميع لما ضعف الأمر، وقل المجتهدون فى التحصيل، فخافوا على الدين الدروس جملة(1).
فكذلك نقول: كل ما كان من المحدَثات له وجه صحيح، فليس بمذموم، بل هو محمود، وصاحبه الذى سنَّه ممدوح، فأين ذمَّها بإطلاق أو على العموم؟!
- ومن ذلك تضمين الصُّنَّاع، وهو محكىُّ عن الخلفاء رضى الله عنهم.
- وقتل الجماعة بالواحد، وهو محكىُّ عن عمر وعلى وابن عباس والمغيرة بن شعبة رضى الله عنهم(2).
__________
(1) ... الدروس: درس: دروساً: عفا، ودرسته الريح. أي خافوا ذهاب الدين ومحوه.
(2) ... رواه البخاري تعليقاً (6896) وقال الحافظ: وهذا الأثر موصول إلى عمر بأصح إسناد. ورواه ابن أبي شيبة (5/429) ومالك، وعبد الرزاق (9/475) والبيهقي (8/41)، وصححه الألباني في الإرواء (7/259 – ح 2201).(1/74)
فإن كان ذلك جائزاً مع أنه مُخَترع، فلم لا يجوز مثله –وقد اجتمعا فى العلة لأن الجميع مصالح معتبرة فى الجملة-؟! وإن لم يكن شىء من ذلك جائزاً، فلم اجتمعوا على جملة منها، وفرَّع غيرهم على بعضها؟! ولا يبقى إلا أن يقال: إنهم يتابعون على ما عمل هؤلاء دون غيره، وإن اجتمعا فى العلة المسوَّغة للقياس، وعند ذلك يصير الاقتصار تحكمًا، وهو باطل، فما أدى إليه مثله –فثبت أن البدع تنقسم.
فالجواب، وبالله التوفيق، أن نقول:
أما الوجه الأول:
فإن قوله - صلى الله عليه وسلم - : (من سنَّ سنة حسنة ... ) الحديث، ليس المراد به الاختراع ألبتَّة، وإلا لزم من ذلك التعارض بين الأدلة القطعية، إن زعم مورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوع به، فإن زعم أنه مظنون، فما تقدَّم من الدليل على ذم البدع مقطوع به، فيلزم التعارض بين القطعى والظنى، والاتفاق من المحققين على تقديم القطعى.
ولكن فيه النظر من وجهين:
أحدهما: أنه يقال: إنه من قبيل المتعارضين، إذ تقدم أولاً أن أدلة الذم تكرر عمومها فى أحاديث كثيرة من غير تخصيص، وإذا تعاضدت أدلَّة العموم من غير تخصيص، لم يقبل بعد ذلك التخصيص.
والثانى: على التنزُّل لفقد التعارض، فليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع، وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية، وذلك من وجهين:(1/75)
أحدهما: ... أن السبب الذى لأجله جاء الحديث هو الصدقة المشروعة، بدليل ما فى الصحيح من حديث جرير بن عبد الله رضى الله عنهما قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابى النمار –أو العباء- متقلدَّى السيوف، عامتهم من مضر –بل كلهم من مضر-فقمص(1) وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رآهم من الفاقة، فدخل، ثم خرج، فأمر بلالاً، فأذن وأقام، فصلَّى، ثم خطب فقال: { ياأيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة ... . } (2)، والآية التى فى سورة الحشر: { اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } (3) "وبعد: تصدق رجل، من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره" حتى قال: "ولو بشق تمرة"، قال: فجاءه رجل من الأنصار بصَّرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلَّل كأنه مذهبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (مَن سنَّ فى الإِسلام سنَّة حسنة، فله أجرها وأجر مَن عمل بها بعده من غير أن يَنْقُص من أجورهم شىء، ومن سنَّ سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن يَنْقُص من أوزارهم شىء).
فتأملوا أين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من سنَّ سنَّة حسنة) و (من سنَّ سنَّة سيئة) تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حتى [جاء](4) بتلك الصرة، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فسَّر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قال (من سنَّ فى الإسلام سنة حسنة ... ) الحديث فدل على أن السنة ههنا مثل ما فعل ذلك الصحابى وهو العمل بما ثبت كونه سنة.
والوجه الثانى من وجهى الجواب.
__________
(1) ... ولفظ صحيح مسلم "فتمعر".
(2) ... النساء: 1.
(3) ... الحشر: 18.
(4) ... زيادة ليست فى الأصل يقتضيها سياق الكلام.(1/76)
أن قوله (مَن سنَّ سنة حسنة) (ومن سنَّ سنَّة سيئة) لا يمكن حمله على الاختراع من أصل، لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع، لان التحسين والتقبيح مختصٌّ بالشرع لا مدخل للعقل فيه، وهو مذهب جماعة أهل السنة، وإنما يقول به المبتدعة –أعنى: التحسين والتقبيح بالعقل-، فلزم أن تكون السنة فى الحديث إما حسنة فى الشرع وإما قبيحة بالشرع، فلا يَصْدُق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة، وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصى التى ثبت بالشرع كونها معاصى، كالقتل المنبه عليه فى حديث ابن آدم، حيث قال عليه السلام: "لأنه أول من سنَّ القتل" وعلى البدع، لأنه قد ثبت ذمها والنهى عنها بالشرع، كما تقدم.
وأما قوله: (من ابتدع بدعة ضلالة) فهو على ظاهره، لأن سبب الحديث لم يقيده بشىء، فلابد من حمله على ظاهر اللفظ، كالعموميات المبتدأة التى لم تثبت لها أسباب.
ويصحُ أن يحمل على نحو ذلك قوله: (ومَن سن سنة سيئة) أى من اخترعها وشمل ما كان منها مخترعاً ابتداء من المعاصى، كالقتل من أحد ابنى آدم، وما كان مخترعاً بحكم الحال، إذ كانت قبل مهملة متناساة، فأثارها عمل هذا العامل.
فقد عاد الحديث –والحمد لله- حجة على أهل البدع من جهة لفظه، وشرح الأحاديث الأخر له. وإنما يبقى النظر فى قوله: (ومن ابتدع بدعة ضلالة) وأن تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهوماً، والأمر فيه قريب، لأن الإضافة فيه لم تفد مفهوماً، وإن قلنا بالمفهوم على رأى طائفة من أهل الأصول، فإن الدليل دل على تعطيله فى هذا الموضع، كما دل دليل تحريم الربا قليله وكثيره على تعطيل المفهوم فى قول الله تعالى: { لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } (1)، ولأن الضلالة لازمة للبدعة بإطلاق، بالأدلة المتقدمة، فلا مفهوم أيضاً.
__________
(1) ... آل عمران: 130.(1/77)
والجواب عن الإشكال الثانى(1): أن جميع ما ذكر من قبيل المصالح المرسلة(2)، لا من قبيل البدعة المحدثة، والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح ومن بعدهم، فهى من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول، وإن كان فيها خلاف بينهم، ولكن لا يعد ذلك قدحاً على ما نحن فيه.
أما جمع المصحف وقصر الناس عليه، فهو على الحقيقة من هذا الباب، إذ نزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شاف كاف، تسهيلاً على العرب المختلفات اللغات، فكانت المصلحة فى ذلك ظاهرة.
إلا أنه عرض في إباحة ذلك بعد زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحٌ لباب الاختلاف في القرآن، حيث اختلفوا في القراءة، فخاف الصحابة رضوان الله عليهم اختلاف الأمة في ينبوع الملة، فقصروا الناس على ما ثبت منها في مصاحف عثمان رضي الله عنه، واطرحوا ما سوى ذلك، علماً بأن ما اطَّرحوه مضمَّن فيما أثبتوه، لأنه من قبيل القراءات التي يؤدى بها القرآن(3).
فحقُّ ما فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأن له أصلاً يشهد له فى الجملة، وهو الأمر بتبليغ الشريعة، وذلك لا خلاف فيه.
والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة، لأنه من قبيل المعقول المعنى، فيصحُّ بأى شىء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها.
وأما ما سوى المصحف، فالأمر فيه أسهل، فقد ثبت فى السنة كتابة العلم:
__________
(1) ... وهو الجواب عن عمل الصحابة رضي الله عنهم بأمور استحسنوها ولم يأت بها كتاب ولا سنة.
(2) ... المصالح المرسلة: هى المعنى الملائم لتصرفات الشرع الذى لم يأت دليل معين باعتباره ولا بإلغائه، وسيأتى مزيد تفصيل فى الباب الثامن.
(3) انظر في مسألة الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، انظر مقدمة تفسير الطبري، وشرح ابن حجر لحديث الأحرف (حديث ابن عباس 4991، وحديث عمر 4992: الفتح 8/642)، والتمهيد لابن عبد البر (8/272، 280) وكذلك كتب علوم القرآن.(1/78)
ففى الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - : (اكتبوا لأبى شاه)(1).
وعن أبى هريرة رضى الله عنه: أنه قال: "ليس أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر حديثاً منى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب وكنت لا اكتب"(2).
وأيضاً فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به إذا تعين لضعف الحفظ وخوف اندراس العلم وإنما كره المتقدمون كتب العلم لأمر آخر لا لكونه بدعة، فكل من سمى كتب العلم بدعة، فإما متجوز، وإما غير عارف بموضع لفظ البدعة، فلا يصح الاستدلال بهذه الأشياء على صحة العمل بالبدع.
وإن تعلق(3) بما ورد من الخلاف فى المصالح المرسلة، وأن البناء عليها غير صحيح عند جماعة الأصوليين، فالحجة عليهم إجماع الصحابة على المصحف والرجوع إليه، وإذا ثبت اعتبارها فى صورة، ثبت اعتبارها مطلقاً ولا يبقى بين المختلفين نزاع إلا فى الفروع.
__________
(1) ... أخرجه البخارى (112-2434) ومسلم (1355) من حديث أبى هريرة.
(2) ... أخرجه البخارى (113).
(3) ... يقصد: إن تعلَّق الخصم وأورد إشكالاً علينا بأن المصالح المرسلة اختلف الأئمة في العمل بها، فجوابه: الاستدلال بإجماع الصحابة.(1/79)
وفى الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - : (فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين، المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور)(1).
__________
(1) ... الحديث صحيح، وتقدم تخريجه ص7 برقم (1)، قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (3/40) قلت: ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم، قال القاري في المرقاة: فعليكم بسنتي: أي بطريقتي الثابتة عني واجباً أو مندوباً، وسنة الخلفاء الراشدين: فإنهم لم يعملوا إلا بسنتي، فالإضافة إليهم: إما لعملهم بها أو لاستنباطهم واختيارهم إياها، انتهى كلام القاري. وقال صاحب سبل السلام: أما حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين.. ومثله حديث: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، أخرجه الترمذي وقال: حسن وأخرجه أحمد وابن ماجه وابن حبان وله طريق فيها مقال إلا أنه يقوي بعضها بعضاً، فإنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم، من جهاد الأعداء وتقوية شعائر الدين ونحوها، فإن الحديث عام لكل خليفة راشد، لا يخص الشيخين، ومعلوم من قواعد الشريعة أنه ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل، فدل أنهم لم يحملوا الحديث على أن ما قالوه وفعلوه حجة، وقد حقق البرماوي الكلام في شرح ألفيته في أصول الفقه، مع أنه قال إنما الحديث الأول يدل على أنه إذا اتفق الخلفاء الأربعة على قول كان حجة لا إذا انفرد واحد منهم، والتحقيق أن الاقتداء ليس هو التقليد بل هو غيره، كما حققناه في شرح نظم الكافل في بحث الإجماع. انتهى كلام صاحب السبل..فإذا عرفت أنه ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم لاح لك أن الاستدلال على كون الأذان الثالث الذي هو من مجتهدات عثمان رضي الله عنه أمراً مسنوناً ليس بتام ... (قلت: قال ذلك الصنعاني في معرض كلامه على صلاة التراويح جماعة).
... ويوجه كلام الشاطبى رحمه الله تعالى فى أن ما أجمع عليه الخلفاء الراشدون، أو قاله أحدهم ولم يعرف له مخالف، فهو لاحق بالسنة وليس ببدعة.(1/80)
فأعطى الحديث –كما ترى- أن ما سَنَّه الخلفاء الراشدون لاحق بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لأن ما سنوه لا يعدو أحد أمرين: إما أن يكون مقصوداً بدليل شرعى، فذلك سنة لا بدعة، وإما بغير دليل –ومعاذ الله من ذلك-، ولكن هذا الحديث دليل على إثباته سنة، إذ قد أثبته كذلك صاحب الشريعة، فدليلهم من الشرع ثابت، فليس ببدعة، ولذلك أردف الأمر باتباعهم بالنهى عن البدع بإطلاق ولو كان عملهم ذلك بدعة، لوقع فى الحديث التدافع.
وبذلك يجاب عن مسألة قتل الجماعة بالواحد، لأنه منقول عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو أحد الخلفاء الراشدين.
(وتضمين الصُّنَّاع) وهو منقول عن الخلفاء الأربعة رضى الله عنهم.
[تقسيم البدع إلى خمسة أقسام والرد عليه]
ومما يورد فى هذا الموضع أن العلماء قسَّموا البدع بأقسام أحكام الشريعة الخمسة، ولم يعدُّوها قسماً واحداً مذموماً، فجعلوا منها ما هو واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحَّرم.
وبسط ذلك القرافىُّ بسطاً شافياً، وأصل ما أتى به من ذلك شيخه عزُ الدين بن عبد السلام، وها أنا آتى به على نصه، فقال:
"اعلم أن الأصحاب –فيما رأيت- متفقون على إنكار البدع، نصَّ على ذلك ابن أبى زيد وغيره، والحق التفصيل وأنها خمسة أقسام:
قسم واجب: ... وهو ما تناولته قواعد الوجوب وأدلته من الشرع، كتدوين القرآن والشرائع، إذا خيف عليها الضياع، فإن التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب إجماعاً، وإهمال ذلك حرام إجماعاً، فمثل هذا النوع لا ينبغى أن يختلف فى وجوبه.
القسم الثانى: المحرم: وهو كل بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلَّته من الشريعة، كالمكوس، والمحدثات من المظالم، والمحدثات المنافية لقواعد الشريعة، كتقديم الجهال على العلماء، وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح لها بطريق التوريث، وجعل المستند فى ذلك كون المنصب كان لأبيه، وهو فى نفسه ليس بأهل.(1/81)
القسم الثالث: من البدع مندوب إليه: وهو ما تناولته قواعد الندب وأدلته، كصلاة التراويح، وإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الامور(1) على خلاف ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة فى نفوس الناس، وكان الناس فى زمن الصحابة رضى الله عنهم معظم تعظيمهم إنما هو بالدين وسبق الهجرة، ثم اختل النظام، وذهب ذلك القرن، وحدث قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور، فتعَّين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح.
... وقد كان عمر بن الخطاب يأكل خبز الشعير والملح، ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم، لعلمه بأن الحالة التى هو عليها لو علمها غيره؛ لهان فى نفوس الناس ولم يحترموه، وتجاسروا عليه بالمخالفة، فاحتاج إلى أن يضع غيره فى صورة أخرى تحفظ النظام.
القسم الرابع: بدعة مكروهة: وهى ما تناولته أدلَّة الكراهة من الشريعة وقواعدها، كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادة.
ولذلك فى الصحيح شاهدُ خرجه مسلم وغيره: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلته بقيام(2).
ومن هذا الباب الزيادة فى المندوبات المحدودات، كما ورد فى التسبيح عقب الفريضة ثلاثاً وثلاثين(3)، بسبب أن الزيادة فيها إظهار الاستظهار على الشارع، وقلة الأدب معه، بل شأن العظماء إذا حددوا شيئاً، وُقِفَ عنده وعُدَّ الخروج عنه قلة أدب.
__________
(1) ... المراد هيأتهم وأحوالهم فى لباسهم ومجالسهم، وهى التى تسمى الآن المظاهر، كما يعلم مما يأتى.
(2) ... رواه مسلم (1176) وابن خزيمة (1176) وابن حبان (3612) والحاكم من حديث أبي هريرة.
(3) ... روى التكبير ثلاثاً وثلاثين مسلم (596، 597) والنسائي (3/75)، والترمذي (3409). وورد في صفته: خمس وعشرين، وورد عشر: انظر تفصيل ذلك في زاد المعاد (1/288).(1/82)
والزيادة فى الواجب أو عليه أشد فى المنع، لأنه يؤدى إلى أن يعتقد أن الواجب هو الأصل والمزيد عليه، ولذلك نهى مالك رضى الله عنه إيصال صيام ستة أيام من شوال، لئلا يعتقد أنها من رمضان(1).
__________
(1) ... عن أبى أيوب الأنصارى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فذلك صيام الدهر) رواه الجماعة (مسلم 1164) إلا البخارى والنسائى ورواه أحمد من حديث جابر، قال الشوكانى فى النيل 4/340: وقد استدل بأحاديث الباب على استحباب صوم ستة أيام من شوال، وإليه ذهب الشافعى وأحمد وداود وغيرهم وبه قالت العترة، وقال أبو حنيفة ومالك يكره صومها واستدل على ذلك بأنه ربما ظن وجوبها وهو باطل لا يليق بعاقل فضلاً عن عالم نصب مثله فى مقابلة السنة الصحيحة الصريحة، وأيضاً يلزم مثل ذلك فى سائر أنواع الصوم المرغب فيه ولا قائل به.
واستدال مالك على الكراهة بما قال فى الموطأ من أنه ما رأى أحداً من أهل العلم يصومها، ولا يخفى أن الناس إذا تركوا العمل بسنة لم يكن تركهم دليلاً ترد به
السنة. أهـ.
قلت: خاف مالك رحمه الله تعالى وصل ستة أيام من شوال برمضان خشية أن يعتقد العامة أنها من رمضان.
وقال القرافى: قال لى الشيخ زكى الدين عبد العظيم المحدث، إن الذى خشى منه مالك قد وقع بالعجم فصاروا يتركون المسحَّرين على عادتهم والبوَّاقين وشعائر رمضان إلى آخر الستة أيام فحينئذ يظهرون شعائر العيد.
قال: وكذلك شاع عند عامة مصر أن الصبح ركعتان إلا فى يوم الجمعة فإنه ثلاث ركعات لمواظبة الإمام على قراءة السجدة يوم الجمعة.
قال: وسد الذرائع متعين فى الدين، وكان مالك رحمه الله شديد المبالغة فى ذلك. "انظر كتاب الاعتصام 1/270".(1/83)
القسم الخامس: البدعة المباحة: وهى ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشريعة، كاتخاذ المناخل للدقيق، ففى الآثار: أول شىء أحدثه الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخاذ المناخل، لأن تليين العيش وإصلاحه من المباحات، فوسائله مباحة. أهـ. ما ذكره القرافى(1) (
__________
(1) ... القرافي: هو أحمد بن ادريس القرافي، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي العلاء إدريس بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن يلين الصنهاجي البهفشيمي البهنسي المصري، الامام العلامة وحيد دهره وفريد عصره، أحد الاعلام المشهورين والائمة المذكرين، انتهت اليه رئاسة الفقه على مذهب مالك رحمه الله تعالى، وجد في طلب العلوم فبلغ الغاية القصوى فهو الامام الحافظ والبحراللافظ،كان اماماً بارعاً في الفقه والأصول والعلوم العقلية، وله معرفة بالتفسير، وأخذ كثيرا من علومه عن الشيخ الإمام العلامة الملقب بسلطان العلماء: عز الدين بن عبد السلام الشافعي، وعن الامام العلامة الشريف الكركي، فلفقده لسان الحال يقول: حلف الزمانُ ليأتين بمثله حنثتْ يمينك يا زمانُ فكفرِ..سارت مصنفاته مسير الشمس: منها كتاب الذخيرة في الفقه من أجلّ كتب المالكية، وكتاب القواعد الذي لم يسبق إلى مثله، وكتاب شرح محصول الإمام فخر الدين الرازي، وكتاب التنقيح في أصوله الفقه وهو مقدمة الذخيرة، وكتاب الإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام، وذكر عن قاضي القضاة تقي الدين بن شكر قال: أجمع الشافعية والمالكية على أن أفضل أهل عصرنا بالديار المصرية ثلاثة: القرافي بمصر القديمة، والشيخ ناصر الدين بن منير بالأسكندرية، والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد بالقاهرة المعزية، وكلهم مالكية خلا الشيخ تقي الدين فانه جمع بين المذهبين وسبب شهرته بالقرافي أنه لما أراد الكاتب أن يثبت اسمه في بيت الدرس، كان حينئذ غائباً فلم يعرف اسمه، وكان إذا جاء للدرس يقبل من جهة القرافة، فكتب القرافي فمرت عليه هذه النسبة، وكان كثيراً ما يتمثل بقول محي الدين المعروف بحافي رأسه: عتبتُ على الدنيا لتقديم جاهلٍ وتأخير ذي علمٍ، فقالت خذِ العُذرا، بنو الجهلِ أبنائي، وكلُّ فضيلةٍ فأبناؤها أبناءُ ضرتي الأُخرى. وتوفى رحمه الله بدير الطين، في جمادى الأخيرة عام أربعة وثمانين وستمائة ودفن بالقرافة. (السير 1/62).(1/84)
مختصراً).
وذكر شيخُه فى "قواعده" فى فصل البدع منها، بعد ما قسم أحكامها إلى خمسة: أن الطريق فى معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت فى قواعد الإيجاب، فهى واجبة .. إلى أن قال: "وللبدع الواجبة أمثلة:
(أحدها) ... الاشتغال بالذى يُفهم به كلام الله تعالى وكلام رسوله، وذلك واجب، لان حفظ الشريعة واجب.
(والثانى) حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة.
(والثالث) تدوين أصول الفقه.
(والرابع) الكلام فى الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم.
ثم قال: "وللبدع المحَّرمة أمثلة: (منها): مذهب القدرية ومذهب الجبرَّية والمرجئة والمجسَّمة، والرد على هؤلاء من البدع الواجبة".
قال: "وللمندوب أمثلة: (منها:) إحداث الربط والمدارس وبناء القناطر، (ومنها:) كل إحسان لم يعهد فى العصر الأول، (ومنها:) صلاة التراويح، (ومنها:) الكلام فى دقائق التصوف والكلام فى الجدل، (ومنها:) جمع المحافل للاستدلال فى المسائل، إن قصد بذلك وجهه تعالى".
قال: "وللمكروه أمثلة: (منها:) زخرفة المساجد، وتزويق المصاحف، وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربى فالأصح أنه من البدع المحرَّمة.
قال: "وللبدع المباحة أمثلة: (منها:) المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر، (ومنها:) التوسع فى اللذيذ من المأكل والمشرب والملابس ولبس الطيالسة وتوسيع الأكمام، وقد اختلف فى بعض ذلك، فجعله بعض العلماء من البدع المكروهة، وجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما بعده، كالاستعاذة والبسملة فى الصلاة" انتهى محصول ما قال.
وهو يصرَّح مع ما قبله بأن البدع تنقسم بأقسام الشريعة، فلا يصح أن تُحمل أدلة ذم البدع على العموم، بل لها مخصَّصات.
والجواب: أن هذا التقسيم أمر مخترع، لا يدل عليه دليل شرعىُّ، بل هو فى نفسه متدافع، لأنَّ من حقيقة البدعة أن لا يدلَّ عليها دليل شرعىُّ، لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده.(1/85)
إذ لو كان هنالك ما يدلُّ من الشرع على وجوبٍ أو ندب أو إباحة، لما كان ثمَّ بدعة، ولكان العمل داخلاً فى عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعاً وبين كون الأدلة تدلُّ على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين.
أما المكروه منها والمحرم، فمسلًّم من جهة كونها بدعاً لا من جهة أخرى، إذ لو دلَّ دليل على منع أمر ما أو كراهته، لم يُثبِت بذلك كونه بدعة، لإمكان أن يكون معصية.
فما ذكره القرافى عن الأصحاب من الاتفاق على إنكار البدع صحيح، وما قسًّمه فيها غير صحيح. ومن العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف ومع معرفته بما يلزمه فى خرق الإجماع!! وكأنه إنما اتبع فى هذا التقسيم شيخه من غير تأمل، فإن ابن عبد السلام ظاهر منه أنه سمى المصالح المرسلة بدعاً، بناءً –والله أعلم- على أنها لم تدخل أعيانها تحت النصوص المعينَّة، وإن كانت تلائم قواعد الشرع –فمن هنالك جعل القواعد هى الدالة على استحسانها- بتسميته لها بلفظ "البدع" وهو من حيث فقدان الدليل المعَّين على المسألة واستحسانها من حيث دخولها تحت القواعد، ولمَّا بنى على اعتماد تلك القواعد، استوت عنده مع الأعمال الداخلة تحت النصوص المعيَّنة، وصار من القائلين بالمصالح المرسلة، وسمَّاها بدعاً فى اللفظ، كما سمًّى عمر رضى الله عنه الجمع فى قيام رمضان فى المسجد بدعة.
أما القرافى، فلا عذر له فى نقل تلك الأقسام على غير مراد شيخه، ولا على مراد الناس، لأنه خالف الكل فى ذلك التقسيم فصار مخالفاً للإجماع.
ثم نقول: [فى الرد على القرافى]
أما قسم الواجب، فقد تقدَّم ما فيه آنفاً، فلا نعيده.(1/86)
وأما قسم التحريم فليس فيه ما هو بدعة هكذا بإطلاق، بل ذلك كله مخالفة للأمر المشروع، فلا يزيد على تحريم أكل المال بالباطل إلا من جهة كونه موضوعاً على وزان الأحكام الشرعية اللازمة؛ كالزكوات المفروضة(1)، والنفقات المقدَّرة، وسيأتى بيان ذلك فى موضعه إن شاء الله تعالى، وقد تقدَّم فى الباب الأول منه طرق. فإذاً، لا يصحُ أن يطلق القول فى هذا القسم بأنه بدعة دون أن يقسم الأمر فى ذلك.
وأما قسم المندوب، فليس من البدع بحال: وتبيين ذلك بالنظر فى الأمثلة التى مثَّل لها بصلاة التراويح فى رمضان جماعة فى المسجد، فقد قام بها النبى - صلى الله عليه وسلم - فى المسجد، واجتمع الناس خلفه(2).
ثم اتَّفق السلف على صحة ذلك وإقراره، والأمة لا تجتمع على ضلالة. وقد نصَّ الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعى.
فإن قيل: قد سماها عمر بدعة وحَسَّنها بقوله: "نعمت البدعة هذه"، وإذا ثبتت بدعة مستحسنة فى الشرع، ثبت مطلق الاستحسان فى البدع.
__________
(1) ... يعني إذا جعلت المكوس وفرضت متكررة ولازمة فقد تشابهت مع الزكاة، وكانت مضاهاة للأحكام الشرعية، فحينئذ لا تكون معصية فقط، بل تدخل تحت مسمَّى البدع لمضاهاتها للشرع وليست منه.
(2) ... ثبت ذلك من عدة روايات، أنه صلى بهم ثلاث ليالٍ: فرواه البخاري (2012) ومسلم (761) وأبو داود (1373) والنسائي (3/202) من حديث عائشة، ورواه أبو داود (1375) والنسائي (3/83) والترمذي (806) من حديث أبي ذر: صحيح، ورواه النسائي (3/203) من حديث النعمان بن بشير: صحيح، وورد أنه صلى بهم ليلة واحدة: رواه البخاري (6113) ومسلم (781) وأبو داود (1447) والنسائي (3/198) من حديث زيد بن ثابت، ورواه مسلم (1104) من حديث أنس.(1/87)
فالجواب: إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال، من حيث تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتفق أن لم تقع فى زمان أبى بكر رضى الله عنه، لا أنها بدعة فى المعنى، فمن سمَّاها بدعة بهذا الاعتبار، فلا مشاحة فى الأسامى، وعند ذلك لا يجوز أن يستدلَّ بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلَّم فيه، لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه.
وذكر القرافى من جملة الأمثلة إقامة صور الأئمة والقضاة ... إلخ ما قال، وليس ذلك من قبيل البدع بسبيل.(1/88)
أما أولاً، فإن التجمُّل بالنسبة إلى ذوى الهيئات والمناصب الرفيعة مطلوب، وقد كان للنبى - صلى الله عليه وسلم - حلة يتجَّمل بها للوفود(1)، ومن العلة فى ذلك ما قاله القرافى من أن ذلك أهيب وأوقع فى النفوس التعظيم فى الصدور، ومثله التجمل للقاء العظماء، كما جاء فى حديث أشج عبد القيس(2).
وأما ثانياً: فإن سلمنا أن لا دليل عليه بخصوصه، فهو من قبيل المصالح المرسلة، وقد مرَّ أنها ثابتة فى الشرع.
وذكر فى قسم المكروه أشياء هى من قبيل البدع فى الجملة.
__________
(1) ... رواه البخاري (5841، 6081) وبوَّب عليه في الأدب: باب من تجمَّل للوفد، ومسلم (2068) وأبو داود (4040) وابن ماجة (3591) عن عبد الله، أن عمر رضي الله عنه رأى حلة سيراء تباع، فقال: يا رسول الله لو ابتعتها فلبستها للوفد إذا أتوك والجمعة، قال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له. والشاهد من الحديث: قال الحافظ في الفتح أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه لبس الحرير، ولم ينكر أصل التجمُّل.
(2) ... رواه أبو داود (5225) من طريق أم أبان بنت الوازع بن زارع عن جدها زارع، وكان في وفد عبد القيس قال: لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله، قال: وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عيبته فلبس ثوبيه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إن فيك خلتين يحبهما الله؛ الحلم والأناة، قال يا رسول الله: أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: بل الله جبلك عليهما، قال: الحمدُ لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله. وحسنه الألباني في السنن دون لفظة (ورجليه)، ورواه البيهقي (7/102) وانظر مجمع الزوائد (9/2، 288، 289) ذكر أنه رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى، وانظر سنن ابن ماجة (4188) والسنة لابن أبى عاصم (190).(1/89)
وذكر فى قسم المباح مسألة المناخل، وليست فى –الحقيقة- من البدع، بل هى من باب التنعُّم، ولا يُقال فيمن تنعَّم بمباح: إنه قد ابتدع، وإنما يرجع ذلك -إذا اعتبر- إلى جهة الإسراف فى المأكول، لأن الإسراف كما يكون فى جهة الكمية، كذلك يكون فى جهة الكيفية، فالمناخل لا تعدو القسمين، فإن كان الإسراف من ماله، فإن كره، وإلا اغتفر، مع أن الأصل الجواز.
ومما يحكيه أهل التذكير من الآثار أن أول ما أحدث الناس أربعة أشياء: المناخل، والشبع، وغسل اليدين بالاشنان بعد الطعام، والأكل على الموائد.
وهذا كله –إن ثبت نقلاً- ليس ببدعة، وإنما يرجع إلى أمر آخر، وإن سلم أنه بدعة، فلا نسلم أنها مباحة، بل هى ضلالة، ومنهىُّ عنها، ولكنا لا نقول بذلك.
فصل
[(1/90)
فى توجيه كلام الإمام عز الدين بن عبد السلام(1)
__________
(1) ... العز بن عبد السلام: هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، الشيخ الإمام العلامة وحيد عصره، سلطان العلماء عز الدين أبو محمد السلمي الدمشقي ثم المصري، ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وتفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر والقاضي جمال الدين بن الحرستاني، وقرأ الأصول على الآمدي، وبرع في المذهب وفاق فيه الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه والأصول والعربية واختلاف أقوال الناس ومآخذهم، حتى قيل إنه بلغ رتبة الاجتهاد، وسمع الحديث من جماعة، روى عنه الدمياطي وخرج له أربعين حديثاً، وابن دقيق العيد وهو الذي لقبه بسلطان العلماء، رحل إلى بغداد سنة سبع وتسعين فأقام بها أشهراً، وكان أماراً بالمعروف نهاءً عن المنكر، وقد ولي الخطابة بدمشق فأزال كثيراً من بدع الخطباء، ولم يلبس سواداً ولا سجع خطبته بل كان يقولها مسترسلاً، واجتنب الثناء على الملوك بل كان يدعو لهم، وأبطل صلاة الرغائب والنصف، فوقع بينه وبين ابن الصلاح بسبب ذلك، ولم يكن يؤذن بين يديه يوم الجمعة إلا مؤذن واحد، ولما سلَّم الصالح إسماعيل قلعة الشقيف وصفد للفرنج نال منه الشيخ على المنبر ولم يدع له، فغضب الملك من ذلك وعزله وسجنه ثم أطلقه، فتوجه إلى مصر فتلقاه صاحب مصر الصالح أيوب وأكرمه وفوض إليه قضاء مصر دون القاهرة والوجه القبلي، مع خطابة جامع مصر، فقام بالمنصب أتم قيام، ثم عزل نفسه من القضاء وعزله السلطان من الخطابة فلزم بيته يعلم الناس ويدرس، وكان علم عصره في العلم جامعاً لفنون متعددة عارفاً بالأصول والفروع والعربية، مضافاً إلى ما جبل عليه من ترك التكلف مع الصلابة في الدين، وحكاياته في قيامه على الظلمة وردعهم كثيرة مشهورة، وله مكاشفات وكرامات رضي الله عنه، توفي بمصر في جمادى الأولى سنة ستين وستمائة وحضر جنازته الخاص والعام السلطان فمن دونه ودفن بالقرافة في آخرها، ولما بلغ السلطان خبر وفاته قال: لم يستقر ملكي إلا الساعة لأنه لو أمر الناس فيما أراد لبادروا إلى امتثال أمره. ومن تصانيفه القواعد الكبرى وهو الكتاب الدال على علو مقدار الرجل، وكتاب الصلاة فيه اختيارات كثيرة اتباعاً للحديث. (طبقات الشافعية 2/109).(1/91)
رحمه الله تعالى]
وأما ما قاله عز الدين، فالكلام فيه على ما تقدَّم:
فأمثلة الواجب منها من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به –كما قال-، فلا يشترط أن يكون معمولاً به فى السلف، ولا أن يكون له أصل فى الشريعة على الخصوص.
ولأنه من باب المصالح المرسلة لا من البدع.
أما هذا الثانى، فقد تقدم.
وأما الأول، فلأنه لو كان ثم من يسير إلى فريضة الحج طيراناً فى الهواء، أو مشياً على الماء، لم يعُدَّ مبتدعاً بمشيه كذلك، لان المقصود إنما هو التوصل إلى مكة لأداء الفرض، وقد حصل على الكمال، فكذلك هذا.
على أن هذه أشياء قد ذمَّها بعض من تقدَّم من المصنفين فى طريقة التصوُف وعدَّها من جملة ما ابتدع الناس، وذلك غير صحيح، ويكفى فى ردَّه إجماع الناس قبله على خلاف ما قال.
وقول عز الدين: "إن الرد على القدرية وكذا (غيرهم) من أهل البدع من البدع الواجبة"، غير جار على الطريق الواضح، ولو سلم، فهو من المصالح المرسلة.
وأما أمثلة البدع المحرمة، فظاهرة.
وأما أمثلة المندوبة، فذكر منها إحداث الربط والمدارس: فإن عنى بالربط ما بُنى من الحصون والقصور قصداً للرباط فيها، فلاشكَّ أن ذلك مشروع بشرعية الرباط(1) ولا بدعة فيه.
__________
(1) ... لقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } ، وروى مسلم (1913) والنسائي (6/39) عن سلمان قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: رباطُ يومٍ وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه وأمن الفُتَّان، وفي الباب: عند البخاري (2892) والترمذي (1664) من حديث سهل، وعند ابن حبان (4624) من حديث فضالة بن عبيد، وعند الترمذي (1667) والدارمي (2/277) من حديث عثمان.(1/92)
وإن عنى بالرُّبط ما بنى لالتزام سكناها قصد الانقطاع إلى العبادة، فإن إحداث الربط التى شأنها أن تُبنى تدُيناً للمنقطعين للعبادة –فى زعم المحدثين-، ويوقف عليها أوقاف يجرى منها على الملازمين لها ما يقوم بهم فى معاشهم من طعام أو لباس وغيرهما، لا يخلو أن يكون لها أصل فى الشريعة أم لا، فإن لم يكن أصل دخلت فى الحكم تحت قاعدة البدع التى هى ضلالات فضلاً عن أن تكون مندوباً إليها، وإن كان لها أصل، فليست ببدعة، فإدخالها تحت جنس البدع غير صحيح.
ثم إن كثيراً ممَّن تكلَّم على هذه المسألة من المصنَِّفين فى التصوف تعلَّقوا بالصُّفََّة التى كانت فى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتمع فيها فقراء المهاجرين.
وقد وصفهم أبو هريرة رضى الله عنه، إذ كان من جملتهم، وهو أعرف الناس بهم، قال فى الصحيح(1): "وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال، ولا على أحد، إذا أتته -يعنى النبى - صلى الله عليه وسلم - صدقة، بعث بها إليهم، ولا يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية، أرسل إليهم، وأصاب منها، وأشركهم فيها.
فالذى حصل: أن القعود فى الصُّفَّة لم يكن مقصوداً لنفسه، ولا بناء الصُّفة للفقراء مقصوداً، بحيث يقال: إن ذلك مندوب إليه لمن قدر عليه، ولا هى رتبة شرعية تطلب، بحيث يقال: إن ترك الاكتساب والخروج عن المال والانقطاع إلى الزوايا يشبه حالة أهل الصُّفة، وهى الرتبة العليا، لأنها تَشَبُّه بأهل صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين وصفهم الله تعالى فى القرآن بقوله: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم ... } (2)، وقوله: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } (3)، فإن ذلك لم يكن على ما زعم هؤلاء، بل كان على ما تقدًّم.
__________
(1) ... رواه البخاري في الرقاق، باب 17، حديث (6452).
(2) ... الأنعام: 52.
(3) ... الكهف: 28.(1/93)
والدليل على ذلك من العمل أن المقصود بالصُّفَّة لم يدم، ولم يثابر أهلها ولا غيرهم على البقاء فيها، ولا عُمَّرت بعد النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان من قصد الشارع ثبوت تلك الحالة، لكانوا هم أحق بفهمها أولاً، ثم بإقامتها والمكث فيها عن كل شغل، وأولى بتجديد معاهدها، لكنهم لم يفعلوا ذلك البتة.
فالتشبه بأهل الصفة إذاً فى إقامة ذلك المعنى واتخاذ الزوايا والرُبط لا يصح، فليفهم الموفَّق هذا الموضع، فإنه مزلةُ قدمٍ لمن لم يأخذ دينه عن السلف الأقدمين والعلماء الراسخين.
ولا يظن العاقل أن القعود عن الكسب ولزوم الربط مباح أو مندوب إليه أو أفضل من غيره، إذ ليس ذلك بصحيح، ولن يأتى آخر هذه الأمة بأهدى ممًّن كان عليه أولها.(1/94)
ويكفى المسكين المغتر بعمل الشيوخ المتأخرين: أن صدور(1) هذه الطائفة –المتسمين بالصوفية- لم يتَّخذوا رباطاً ولا زاوية، ولا بنوا بناء يضاهون به الصُّفَّة للاجتماع على التعبُّد والانقطاع عن أسباب الدنيا، كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، والجُنَيد، وإبراهيم الخواص، والحارث المحاسبى، والشِّبلى(2) ...
__________
(1) ... يعني أوائل المتصوفة.
(2) ... إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر القدوة الإمام العارف سيد الزهاد أبو إسحق العجلي وقيل التميمي الخراساني البلخي نزيل الشام مولده في حدود المئة، قال النسائي: هو ثقة مأمون أحد الزهاد،كان من الأشراف، وكان أبوه كثير المال والخدم والمراكب والجنائب والبزاة، فبينا إبراهيم في الصيد على فرسه يركضه إذا هو بصوت من فوقه: يا إبراهيم ما هذا العبث! { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } ، اتق الله، عليك بالزاد ليوم الفاقة، فنزل عن دابته ورفض الدنيا. أبو نعيم: سمعت سفيان يقول: كان إبراهيم بن أدهم يشبه إبراهيم الخليل، ولوكان في الصحابة لكان رجلاً فاضلاً، قال بشر الحافي: ما أعرف عالماً إلا وقد أكل بدينه، إلا وهيب بن الورد، وإبراهيم بن أدهم، ويوسف بن أسباط، وسلم الخواص. قال شقيق بن إبراهيم: قلت لإبراهيم بن أدهم: تركت خراسان! قال: ما تهنأت بالعيش إلا في الشام، أفر بديني من شاهق إلى شاهق، فمن رآني يقول موسوس، يا شقيق ما نبل عندنا من نبل بالجهاد ولا بالحج، بل كان يعقل ما يدخل بطنه. وتوفي سنة اثنتين وستين ومئة. (السير 7/387).
الجُنَيد: ابن محمد بن الجنيد النهاوندي ثم البغدادي القواريري والده الخزاز، هو شيخ الصوفية، ولد سنة نيف وعشرين ومئتين، وتفقه على أبي ثور وسمع من السري السقطي وصحبه، وصحب أيضا الحارث المحاسبي، وأتقن العلم ثم أقبل على شأنه وتأله وتعبد ونطق بالحكمة. ورزق الذكاء وصواب الجواب،لم ير في زمانه مثله في عفة وعزوف عن الدنيا، قيل لي: إنه قال مرة كنت أفتي في حلقة أبي ثور الكلبي ولي عشرون سنة. أبو نعيم حدثنا علي بن هارون وآخر قالا: سمعنا الجنيد غير مرة يقول: علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به. قال عبدالواحد بن علوان: سمعت الجنيد يقول: علمنا يعني التصوف مشبك بحديث رسول الله. فرحمة الله على الجنيد وأين مثل الجنيد في علمه وحاله. (السير 14/66).
الحارث المحاسبي: الزاهد العارف شيخ الصوفية، أبو عبدالله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي، صاحب التصانيف الزهدية، قال الخطيب: له كتب كثيرة في الزهد وأصول الديانة، والرد على المعتزلة والرافضة، قال الجنيد: خلف له أبوه مالاً كثيراً، فتركه وقال: لا يتوارث أهل ملتين، وكان أبوه واقفياً. وورد أن الإمام أحمد أثنى على حال الحارث من وجه، وحذر منه. قال سعيد بن عمرو البرذعي: شهدت أبا زرعة الرازي وسئل عن المحاسبي وكتبه، فقال: إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر تجد غنية، هل بلغكم أن مالكاً والثوري والأوزاعي صنفوا في الخطرات والوساوس! ما أسرع الناس إلى البدع!. قال ابن الأعرابي: تفقه الحارث وكتب الحديث، وعرف مذاهب النساك، إلا أنه تكلم في مسألة اللفط، ومسألة الإيمان، وقيل هجره أحمد فاختفى مدة، ومات سنة ثلاث وأربعين ومئتين. (السير 12/110).
الشِّبلي: شيخ الطائفة، أبو بكر الشبلي البغدادي، قيل اسمه دلف بن جحدر، وقيل جعفر بن يونس، وقيل جعفر بن دلف، أصله من الشبلية قرية، ومولده بسامراء، حضر الشبلي مجلس بعض الصالحين فتاب، ثم صحب الجنيد وغيره وصار من شأنه ما صار، وكان فقيها عارفا بمذهب مالك وكتب الحديث عن طائفة، وقال الشعر وله ألفاظ وحكم، وحال وتمكن، لكنه كان يحصل له جفاف دماغ وسكر فيقول أشياء يعتذر عنه فيها أو لا تكون قدوة. وسئل، ما علامة العارف؟ قال: صدره مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه مطروح. توفي ببغداد سنة 334هـ عن نيف وثمانين سنة. (السير 15/367).(1/95)
وغيرهم ممَّن سابق فى هذا الميدان.
وإنما محصول هؤلاء أنهم خالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالفوا السلف الصالح، وخالفوا شيوخ الطريقة التى انتسبوا إليها، ولا توفيق إلا بالله.
وأما المدارس، فلا يتعلق بها أمر تعبُّدى يقال فى مثله: بدعة، إلا على فرض أن يكون من السُّنة أن لا يُقرأ العلم إلا بالمساجد، وهذا لا يوجد، بل العلم كان فى الزمان الأول يُبَثُّ بكل مكان، من مسجد، او منزل، أو سفر، أو حضر، أو غير ذلك، حتى فى الأسواق، فإذا أعدَّ أحد من الناس مدرسة يعين بإعدادها الطلبة، فلا يزيد ذلك على إعدادها له منزلاً من منازله، أو حائطاً من حوائطه، أو غير ذلك، فأين مدخل البدعة ها هنا؟!.
وإن قيل: إن البدعة فى تخصيص ذلك الموضع دون غيره، والتخصيص هاهنا ليس بتخصيص تعبدى، وإنما هو تعيين بالحبس.(1/96)
وكذلك ما ذكر من بناء القناطر، فإنه راجع إلى إصلاح الطرق، وإزالة المشقة عن سالكيها، وله أصل فى شعب الإيمان، وهو إماطة الأذى عن الطريق(1)،
__________
(1) ... روى مسلم (35) والبخاري (9) والترمذي (2614) والنسائي (8/110) وابن ماجة (57) وابن حبان (166) والبيهقي (6/532) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. وبعض هذه الروايات "سبعون" وبعضها على الشك بينهما. وقال ابن حبان في صحيحه (1/387): وأما البضع: فهو اسم يقع على أحد أجزاء الأعداد، لأن الحساب بناؤه على ثلاثة أشياء: على الأعداد والفصول والتركيب، فالأعداد من الواحد إلى التسعة، والفصول هي العشرات والمئون والألوف، والتركيب ما عدا ما ذكرنا. وقد تتبعت معنى الخبر مدة، وذلك أن مذهبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم قط إلا بفائدة، ولا من سننه شيء لا يعلم معناه، فجعلت أعد الطاعات من الإيمان، فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئاً كثيراً، فرجعت إلى السنن فعددت كل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، فإذا هي تنقص من البضع والسبعين، فرجعت إلى ما بين الدفتين من كلام ربنا، وتلوته آية آية بالتدبر وعددت كل طاعة عدها الله جل وعلا من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فضممت الكتاب إلى السنن، وأسقطت المعاد منها فإذا كل شيء عده الله جل وعلا من الإيمان في كتابه، وكل طاعة جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان في سننه: تسع وسبعون شعبة، لا يزيد عليها ولا ينقص منها شيء، فعلمت أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخبر: أن الإيمان بضع وسبعون شعبة في الكتاب والسنن، فذكرت هذه المسألة بكمالها بذكر شعبة في كتاب وصف الإيمان وشعبه بما أرجو أن فيها الغنية للمتأمل إذا تأملها.أ.هـ..ومعروف أن للبيهقي كتاب في شعب الإيمان تتبع فيه ما ورد في ذلك، وهو مطبوع متداول، وقد اختصره بعض المشتغلين بالعلم.(1/97)
فلا يصحُّ أن يعد فى البدع بحال.
وقوله: "وكل إحسان لم يعهد فى العصر الأول" فيه تفصيل، فلا يخلو الإحسان المفروض أن يُفهم من الشريعة أنه مقيَّد بقيد تعبُّدى أو لا.
فإن كان مقيَّداً فى أصل التشريع بأمر تعبُّدىً، فلا يُقال: إنه غير بدعة على أى وجه وقع، إلا على أحد ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يخرج أصلاً شرعياً مثل الإحسان المتبع بالمنِّ والأذى والصدقة من المِديان(1) المضروب على يده، وما أشبه ذلك، ويكون إذ ذاك معصية.
والثانى: أن يلتزم على وجه لا يتعدَّى، بحيث يفهم منه الجاهل أنه لا يجوز إلا على ذلك الوجه، فحينئذٍ يكون الالتزام المشار إليه بدعة مذمومة وضلالة، وسيأتى بيان ذلك إن شاء الله، فلا تكون إذاً مستحبة.
والثالث: أن يجرى على رأى من يرى المعقول المعنى وغيره بدعة مذمومة، كمن كره تنخيل الدقيق فى العقيقة(2)، فلا تكون عنده البدعة مباحة ولا مستحبَّة.
وصلاة التراويح تقدم الكلام عليها.
وأما الكلام فى دقائق التصوف، فليس ببدعة بإطلاق، ولا هو ممَّا صحَّ بالدليل بإطلاق، بل الأمر ينقسم.
ولفظ التصُّوف لابدَّ من شرحه أولاً حتى يقع الحكم على أمر مفهوم، لأنه أمر مجمل عند هؤلاء المتأخَّرين، فلنرجع إلى ما قال فيه المتقدَّمون.
وحاصل ما يرجع إليه لفظ التصُوف عندهم معنيان:
أحدهما: التخلُّق بكل خُلُق سَنِىّ، والتجرُّد عن كل خُلُق دَنِىّ.
والآخر: أنه الفناء عن نفسه والبقاء لربه.
__________
(1) ... من الأضداد، وهو الذى يقرض كثيراً ويستقرض كثيراً.
(2) ... لعله يقصد أن العقيقة سنة، والمناخل أمر أُحدث، فلا يستقيم محدث في سنة، ولكن تقدم أن المناخل ليست بدعة بل هي من التنعم.(1/98)
وإذا ثبت هذا، فالتصوف بالمعنى الأول لا بدعة فى الكلام فيه، لأنه إنما يرجع إلى تفقّه ينبنى عليه العمل، وتفصيل آفاته وعوارضه، فلا يُقال فى مثله بدعة، إلا إذا أطلق على فروع الفقه التى لم يؤلف مثلها فى السلف الصالح، أنها بدعة، كفروع أبواب السَّلَم، والإجارات والجراح، ومسائل السهو، والرجوع عن الشهادات، وبيوع الآجال ... وما أشبه ذلك.
وليس من شأن العلماء إطلاق لفظ البدعة على الفروع المستنبطة التى لم تكن فيما سلف، وإن دقت مسائلها، فكذلك لا يطلق على دقائق فروع الأخلاق الظاهرة والباطنة: أنها بدعة، لأن الجميع يرجع إلى أصول شرعية.
وأما بالمعنى الثانى، فهو على أضرب:
أحدها: يرجع إلى العوارض الطارئة على السالكين إذا دخل عليهم نور التوحيد الوجدانى، فيُتَكَلَّم فيها بحسب الوقت والحال، وما يُحتاج إليه فى النازلة الخاصة، رجوعاً إلى الشيخ المربَّى، وما بين له فى تحقيق مناطها بفراسته الصادقة فى السالك بحسبه وبحسب العارض، فيداويه بما يليق به من الوظائف الشرعية والأذكار الشرعية، فقلَّما يطرأ العارض إلا عند الإخلال ببعض الأصول الشرعية التى بنى عليها فى بدايته، فقد قالوا: إنما حُرِموا الوصول بتضييعهم الأصول.
فمثل هذا لا بدعة فيه، لرجوعه إلى أصل شرعىًّ: ففى الصحيح من حديث أبى هريرة: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - جاءه ناس من أصحابه رضى الله عنهم، فقالوا يا رسول الله! إنا نجد فى أنفسنا الشىء يعظم أن نتكلم به –أو الكلام به- ما نحب أن لنا وأنا تكلمنا به. فقال: (أوقد وجدتموه؟) قالوا: نعم. قال: (ذلك صريح الإيمان)(1).
__________
(1) ... أخرجه مسلم (132)، وعنده (133) من حديث ابن مسعود: سئل النبى - صلى الله عليه وسلم - عن الوسوسة قال: تلك محض الإيمان.(1/99)
وعن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: يا رسول الله! إن أحدنا يجد فى نفسه يعرض بالشىء لأن يكون حُمَمة أحب إليه من أن يتكلم به. قال: (الله أكبر، الحمد لله الذى ردَّ كيده إلى الوسوسة)(1).
وفى حديث آخر: (من وجد من ذلك شيئاً، فليقل آمنت بالله)(2).
وعن ابن عباس فى مثله: { إذا وجدت شيئاً من ذلك، فقل: هُوَ الأولُ والآخرُ والظاهرُ والباطنُ وهو بكلِ شىءٍ عَليم(3) } (4) إلى أشباه ذلك، وهو صحيح مليح.
والثانى: يرجع إلى النظر فى الكرامات، وخوارق العادات، وما يتعلق بها مما هو خارق فى الحقيقة أو غير خارق، وما هو منها يرجع إلى أمر
__________
(1) ... أخرجه أبو داود (5122)، وأحمد (1/235، 340) بإسناد صحيح.
(2) ... أخرجه مسلم (134) والبيهقى (6/170)، وانظر أحاديث فى الباب عند البيهقى (6/172)، وابن حبان (1/145 : 149).
(3) ... الحديد: 3.
(4) ... حسن، رواه أبو داود (5110) من قول ابن عباس لمن سأله عن الوسوسة والشك. كما فى الوابل الصيب، ص207.(1/100)
نفسى أو شيطانى، أو ما أشبه ذلك من أحكامها. فهذا النظر ليس ببدعة، كما أنه ليس ببدعة النظر فى المعجزات وشروطها، والفرق بين النبى والمتنبى، وهو من علم الأصول، فحكمه حكمه.
والثالث: ما يرجع إلى النظر فى مدركات النفوس، من العالم الغائب، وأحكام التجريد النفسى، والعلوم المتعلقة بعالم الأرواح، وذوات الملائكة والشياطين، والنفوس الإنسانية والحيوانية ... وما أشبه ذلك.
وهو بلا شك بدعة مذمومة إن وقع النظر فيها والكلام عليه بقصد جعله علمًا ينظر فيه وفناً يشتغل بتحصيله بتعلم أو رياضة، فإنه لم يْعُهد مثله فى السلف الصالح. فلا يكون الكلام فيه مباحاً، فضلاً عن أن يكون مندوباً إليه.
وثمَّ أقسام أُخر، جميعها إما يرجع إلى فقه شرعىً حسن فى الشرع، وإما إلى ابتداع ليس بشرعىًّ وهو قبيح فى الشرع.
وأما الجدال وجمع المحافل للاستدلال على المسائل، فقد مرًّ الكلام فيه.
وأما أمثلة البدع المكروهة، فعد منها: زخرفة المساجد، وتزويق المصاحف، وتلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربى، فإن أراد مجرَّد الفعل من غير اقتران أمر آخر، فغير مسلَّم، وإن أراد مع اقتران قصد التشريع، فصحيح ما قال، إذ البدعة لا تكون بدعة إلاَّ مع اقتران هذا القصد، فإن لم يقترن، فهى منهىُّ عنها غير بدع.
وأما أمثلة البدع المباحة، فعد منها المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر، أما أنها بدع فمسلَّم، وأما أنها مباحة، فممنوع، إذ لا دليل فى الشرع يدلُّ على تخصيص تلك الأوقات بها، بل هى مكروهة، إذ يُخاف بدوامها إلحاقها بالصلوات المذكورة.
وعدَّ ابن عبد السلام من البدع المباحة التوسُع فى الملذوذات، وقد تقدَّم ما فيه. والحاصل من جميع ما ذُكر فيه قد وضح منه أن البدع لا تنقسم إلى ذلك الانقسام، بل هى من قبيل المنهىَّ عنه، إما كراهة، وإما تحريماً، حسبما يأتى إن شاء الله.
فصل(1/1)
ومما يتعلًّق به بعض المتكلَِّفين: أن الصوفية هم المشهورون باتَّباع السنة، المقتدون بأفعال اسلف، المثابرون فى أفعالهم وأقوالهم على الاقتداء التام والفرار عما يخالف ذلك، ولذلك جعلوا طريقتهم مبنية على: أكل الحلال، واتباع السنة، والإخلاص.
وهذا هو الحق، ولكنهم فى كثير من الأمور يستحسنون أشياء، لم تأت فى كتاب ولا سنة، ولا عمل بأمثالها السلف، فيعملون بمقتضاها ويثابرون عليها، ويحكمونها طريقاً لهم مَهيعاً(1) وسنة لا تخلف، بل وربما أوجبوها فى بعض الأحوال، فلولا أن فى ذلك رخصة، لم يصح لهم ما بنوا عليه.
والجواب: أن نقول أولاً: كل ما عمل به المتصوفة المعتبرون فى هذا الشأن لا يخلو: إما أن يكون ممَّا ثبت له أصل فى الشريعة أم لا.
فإن كان له أصل، فهم خلقاء به، كما أن السلف من الصحابة والتابعين خلقاء بذلك. وإن لم يكن له أصل فى الشريعة، فلا عمل عليه، لأن السنة حجة على جميع الأمة، وليس عمل أحد من الأئمة حجة على السنة، لأن السنة معصومة عن الخطأ وصاحبها معصوم، وسائر الأمة لم تثبت لها عصمة، إلا مع إجماعهم خاصة، وإذا اجتمعوا، تضمن اجتماعهم دليلاً شرعياً كما تقدم التنبيه عليه، فالصوفية كغيرهم ممَّن لم تثبت له العصمة، فيجوز عليهم الخطأ والنسيان والمعصية كبيرتها وصغيرتها، فأعمالهم لا تعدو الأمرين.
ولذلك قال العلماء: كل كلام منه مأخوذ أو متروك، إلا ما كان من كلام النبى - صلى الله عليه وسلم - .
الباب الرابع
فى مأخذ أهل البدع بالاستدلال
كل خارج عن السنة مَّمن يدَّعى الدخول فيها والكون من أهلها لابدَّ له من تكلُّف فى الاستدلال بأدلتها على خصومات مسائلهم، وإلا كذَّب أّطراحُها دعواهم.
__________
(1) ... المهيع: الطريق الواسع المنبسط، أو هو الطريق. (انظر اللسان والنهاية).(1/2)
إلا أن هؤلاء –كما يتبيَّن بعد- لم يبلغوا مبلغ الناظرين فيها بإطلاق: إما لعدم الرسوخ فى معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها، وإما لعدم الرسوخ فى العلم بقواعد الأصول التى من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية، وإما للأمرين جميعاً، فبالحرى أن تصير مآخذهم للأدلة مخالفة لمأخذ من تقدَّمهم من المحققَّين للأمرين.
وإذا تقَّرر هذا، فلا بد من التنبيه على تلك المآخذ، لكى تُحْذَر وتتقى، وبالله التوفيق، فنقول:
قال الله سبحانه وتعالى: { فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } (1).
وذلك أن هذه الآية شملت قسمين هما أصل المشى على طريق الصواب أو على طريق الخطأ:
أحدهما: ... الراسخون فى العلم، وهم الثابتو الأقدام فى علم الشريعة، ولما كان ذلك متعذَّراً إلا على من حصَّل الأمرين المتقدمين، لم يكن بد من المعرفة بهما معاً على حسب ما تعطين المُنَّة الإنسانية، وإذ ذاك يطلق عليه (أنه راسخ فى العلم) ومقتضى الآية مدحه، فهو إذاً أهل للهداية والاستنباط.
والقسم الثانى: من ليس براسخ فى العلم، وهو الزائغ، فحصل له من الآية وصفان:
أحدهما: بالنص وهو الزيغ، لقوله تعالى: { فأما الذين فى قلوبهم زيغ } (2)، والزيغ: هو الميل عن الصراط المستقيم، وهو ذم لهم.
والثانى: بالمعنى الذى أعطاه التقسيم، وهو عدم الرسوخ فى العلم.
فصل
إذا ثبت هذا، رجعنا منه إلى معنى آخر، فنقول:
إذا تبين أن للراسخين طريقاً يسلكونها فى اتباع الحق، وأن الزائغين على غير طريقهم، فاحتجنا إلى بيان الطريق التى سلكها هؤلاء لنتجنبها، كما نبَّين الطريق التى سلكها الراسخون لنسلكها، وقد بين ذلك أهل أصول الفقه، وبسطوا القول فيه، ولم يبسطوا القول فى طريق الزائغين، فهل يمكن حصر مآخذها أولا؟
__________
(1) ... آل عمران: 7.
(2) ... آل عمران: 7.(1/3)
فنظرنا فى آية أخرى تتعلق بهم كما تتعلق بالراسخين، وهى قوله تعالى: { وأن هذا صراطى مستقيماً فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } (1)، فأفادت الآية أن طريق الحق واحدة، وأن للباطل طرقاً متعددة لا واحدة، وتعددُّها لم ينحصر بعدد مخصوص.
وهكذا الحديث المفسر للاية، وهو قول ابن مسعود: خطَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً، فقال: (هذا سبيل الله) ثم خط لنا خطوطاً عن يمينه ويساره، وقال (هذه سبل، على كل سبيل منها شيطانً يدعو إليه)(2).
ففى الحديث أنها خطوط متعدَّدة غير محصورة بعدد، فلم يكن لنا سبيل إلى حصر عددها من جهة النقل، ولا لنا أيضاً سبيل إلى حصرها من جهة العقل أو الاستقراء. أما العقل، فإنه لا يقضى بعدد دون آخر، لانه غير راجع إلى أمر محصور، ألا ترى أن الزيغ راجع إلى الجهالات؟ ووجوه الجهل لا تنحصر، فصار طلب حصرها عناء من غير فائدة.
وأما الاستقراء، فغير نافع أيضاً فى هذا المطلب، لأنا لما نظرنا فى طرق البدع من حيث نبتت، وجدناها تزداد على الأيام، ولا يأتى زمان إلا وغريبة من غرائب الاستنباط تحدث، إلى زماننا هذا، وإذا كان كذلك، فيمكن أن يحدث بعد زماننا استدلالات أخر لا عهد لنا بها فيما تقدم، لا سيما عند كثرة الجهل، وقلة العلم، وبعد الناظرين فيه عن درجة الاجتهاد، فلا يمكن إذاً حصرها من هذا الوجه، ولا يقال إنها ترجع إلى مخالفة طريق الحق، فإن وجوه المخالفات لا تنحصر أيضاً، فثبت أن تتبع هذا الوجه عناء، لكنا نذكر من ذلك أوجهاً كلية يُقاس عليها ما سواها.
__________
(1) ... الأنعام: 153.
(2) ... صحيح: رواه الدارمي (1/67) وسعيد بن منصور (5/112) والحاكم (2/261) وأحمد (4142) والبزار (1677) والنسائي في الكبرى (11175)، ورواه من حديث جابر ابن ماجة (11) وابن أبي عاصم (16) وأحمد (3/397) وصححه في السنن، وفيه: مجالد بن سعيد.(1/4)
فمنها: اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوب فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتى لا يقبلها أهل صناعة الحديث فى البناء عليها:
كحديث الاكتحال يوم عاشوراء، وإكرام الديك الأبيض، وأكل الباذنجان بنية، وأن النبى صلى الله علية وسلم تواجد وأهتزَّ عند السماع حتى سقط الرداء عن منكبيه ... وما أشبه ذلك(1).
فإن أمثال هذه الأحاديث –على ما هو معلوم- لا ينبنى عليها حكم، ولا تُجعَل أصلاً فى التشريع أبداً، ومن جعلها كذلك، فهو جاهل أو مخطئ فى نقل العلم، فلم يُنقل الأخذ بشئ منها عمّن يعتمد به فى طريقة العلم ولا طريقة السلوك.
__________
(1) ... وهى موضوعات تجدها مفصلة فى كتب الموضوعات وما اشتهر على ألسنة الناس.
... حديث الاكتحال يوم عاشوراء: موضوع: الضعيفة (642) والجامع (5467) وهو عند البيهقي في الشعب شعب الايمان (3797) من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً: من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً. قال: وجويبر ضعيف، و الضحاك لم يلق ابن عباس.
... وحديث الديك الأبيض: روى البيهقي في الشعب (5176، 5177) من طريق علي اللهبي ثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: أمر رسول - صلى الله عليه وسلم - : باتخاذ الديك الأبيض. قال: هذا بهذا الإسناد منكر، تفرد به اللهبي، وروى فيه بإسناد مرسل و هو به أشبه. وانظر أحاديث أخري في ضعيف الجامع (3024: 3030) والضعيفة (3618).
وأما الباذنجان: فحديث: الباذنجان لما أُكل له. وهذا باطل لا أصل له. قال ابن القيم في زاد المعاد (4/267): الحديث الموضوع المختلق، وهذا الكلام مما يُستقبح نسبته إلى آحاد العقلاء، فضلاً عن الأنبياء. وانظر: المصنوع للقاري واللآلئ المصنوعة للسيوطي وكشف الخفاء للعلجوني والمقاصد الحسنة للسخاوي.
وأما حديث السماع: فحكم عليه الألباني بالوضع في الضعيفة (558)، وانظر حاشية صحيح الترغيب (1/59).(1/5)
وإنما أخذ بعض العلماء بالحديث الحسن، لإلحاقه عند بعض المحدثين بالصحيح، لأن سنده ليس فيه من يعاب بجرحة متفق عليها، وكذلك أخذ من أخذ منهم بالمرسل ليس إلا من حيث ألحق بالصحيح فى أن المتروك ذكره كالمذكور والمُعَدَّل.
ولو كان من شأن أهل الإسلام الذاَّبين عنه الأخذ من الأحاديث بكل ما جاء عن كل من جاء، لم يكن لانتصابهم للتعديل والتجريح معنى، مع أنهم قد أجمعوا على ذلك، ولا كان لطلب الإسناد معنى يتحصَّل فلذلك جعلوا الإسناد من الدين(1).
والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظنِّ أنَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - قالها، فلا يمكن أن يسند إليها حكم، فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب؟ نعم، الحامل على اعتمادها فى الغالب إنما هو ما تقدَّم من الهوى المتبَّع.
وهذا كله على فرض ألا يعارض الحديث أصل من أصول الشريعة، وأما إذا كان له معارض، فأحرى ألا يؤخذ به، لأن الأخذ به هدم لأصل من أصول الشريعة، والإجماع على منعه إذا كان صحيحاً فى الظاهر، وذلك دليل على الوهم من بعض الرواة أو الغلط أو النسيان، فما الظن به إذا لم يصح.
__________
(1) ... في مقدمة صحيح مسلم، باب :باب بيان أن الإسناد من الدين، وذكر بسنده إلى عبد الله بن المبارك يقول: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وبسنده إلى ابن سيرين، قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم. وبسنده إلى محمد بن سيرين، قال: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. (صحيح مسلم مع شرح النووي 1/126، 130).(1/6)
فإن قيل: هذا كله رد على الأئمة الذين اعتمدوا على الاحاديث التى لم تبلغ درجة الصحيح، فإنهم كما نصوا على اشتراط صحة الإسناد، كذلك نصُّوا أيضاً على أن أحاديث الترغيب والترهيب لا يُشترط فى نقلها للاعتماد صحة الإسناد، بل إن كان ذلك، فبها ونعمت، وإلا ، فلا حرج على مَن نقلها(1) وأستند إليها، فقد فعله الأئمة كمالك فى "الموطأ" وابن المبارك فى "رقائقه" وأحمد بن حنبل فى "رقائقه" وسفيان فى "جامع الخير" وغيرهم.
__________
(1) ... ذكر الألباني في مقدمة صحيح الترغيب (ص47 ط. مكتبة المعارف) كلاماً غاية في النفاسة، ومفاده: أن قاعدة العمل بالضعيف في فضائل الأعمال وفي الترغيب والترهيب ليست على إطلاقها، بل مقيدة بقيدين: حديثي: كما شرط ابن حجر: أن يكون الضعف غير شديد، وأن يكون مندرجاً تحت أصل عام، وأن لا يعتقد عند العمل به ثبوته لئلا ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله، وذكر معنى قول العلماء كأحمد وابن الصلاح والمنذري: إذا جاء الحلال والحرام شدّدنا في الأسانيد، وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد، وذكر تأثيم مسلم لمن يروي عن الضعفاء ولا يبين حالهم ولو في الترغيب والترهيب، وأما القيد الفقهي: أن يكون الحديث الضعيف قد ثبتت شرعية العمل بما فيه بغيره بما يصلح أن يكون دليلاً شرعياً. وذكر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك (الفتاوى 18/65-68) وذكر موافقة الشاطبي لذلك في الاعتصام (وهو كلامه ههنا)، فراجع كلام الألباني -رحمه الله- لتقف على هذا الموضوع الهام.(1/7)
فكل ما فى هذا النوع من المنقولات راجع إلى الترغيب والترهيب، وإذا جاز اعتماد مثله، جاز فيما كان نحوه مما يرجع إليه، كصلاة الرغائب، والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وليلة أول جمعة من رجب، وصلاة الإيمان، والأسبوع، وصلاة بر الوالدين، ويوم عاشوراء، وصيام رجب، والسابع والعشرين منه(1) ... وما أشبه ذلك، فإن جميعها راجع إلى الترغيب فى العمل الصالح، فالصلاة على الجملة ثابت أصلها، وكذلك الصيام وقيام الليل، كل ذلك راجع إلى خير نقلت فضيلته على الخصوص.
وإذا ثبت هذا، فكل ما نُقلت فضيلته فى الأحاديث، فهو من باب الترغيب، فلا يلزم فيه شهادة أهل الحديث بصحة الإسناد، بخلاف الأحكام.
فإذاً، هذا الوجه من الاستدلال من طريق الراسخين لا من طريق الذين فى قلوبهم زيغ، حيث فرَّقوا بين أحاديث الأحكام فاشترطوا فيها الصحة، وبين أحاديث الترغيب والترهيب فلم يشترطوا فيها ذلك.
فالجواب: أن ما ذكره علماء الحديث من التساهل فى أحاديث الترغيب والترهيب لا ينتظم فى مسألتنا المفروضة، وبيانه: أن العمل المتكلَّم فيه إما أن يكون منصوصاً على أصله جملة وتفصيلاً، أو لا يكون منصوصاً عليه لا جملة ولا تفصيلاً، أو يكون منصوصاً عليه جملة لا تفصيلاً.
__________
(1) ... قال النووي في المجموع: الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي اثنا عشر ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا يغتر بذكرهما في قوت القلوب وإحياء علوم الدين، ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل.، وانظر مجموع الفتاوى (23/131-133)، وانظر فيما ذكره من هذه الصلوات والصوم: ضعيف الترغيب (622، 623)، والمصنف لعبد الرزاق (7927) وشعب الإيمان (3711، 3713، 3812)، وانظر: رسالة تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب للحافظ ابن حجر، وكتابنا "عقد المرجان في أحكام الصيام ورمضان" صوم رجب.(1/8)
فالأوَّل: لا إشكال فى صحته، كالصَّلوات المفروضات، والنوافل المرتَّبة لأسباب وغير أسباب، وكالصيام المفروض أو المندوب على الوجه المعروف، إذا فُعلِت على الوجه الذى نُصَّ عليه من غير زيادة ولا نقصان، كصيام عاشوراء، أو يوم عرفة، والوتر بعد نوافل الليل، وصلاة الكسوف.
فالنص جاء فى هذه الأشياء صحيحاً على ما شرطوا، فثبت أحكامها من المفروض والسنة والاستحباب، فإذا ورد فى مثلها أحاديث ترغيب فيها وتحذير من ترك الفرض منها، وليست بالغة مبلغ الصحة، ولا هى أيضاً من الضعف بحيث لا يقبلها أحد أو كانت موضوعة لا يصح الاستشهاد بها، فلا بأس بذكرها، والتحذير بها والترغيب، بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح.
والثانى(1): ظاهر أنه غير صحيح، وهو عين البدعة، لأنه لا يرجع إلا لمجَّرد الرأى المبنى على الهوى، وهو أبعد البدع وأفحشها، كالرهبانِية المنفيَّة عن الإسلام، والخصاء لمن خشى العنت، والتعبُّد بالقيام فى الشمس، أو بالصمت من غير كلام أحد، فالترغيب فى مثل هذا لا يصح، إذ لا يوجد فى الشرع، ولا أصل له يرغَّب فى مثله أو يحذَّر من مخالفته.
والثالث: ربما يتوهم أنه كالأول، من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة فى الجملة، فيسهل فى التفصيل نقله من طريقِ غير مشترط الصحة، فمطلق التنقل بالصلاة مشروع، فإذا جاء ترغيبٌ فى صلاة ليلة النصف من شعبان(2)، فقد عضده أصل الترغيب فى صلاة النافلة، وكذلك إذا ثبت أصل صيام، ثبت صيام السابع والعشرين من رجب ... وما أشبه ذلك.
__________
(1) ... وهو غير المنصوص عليه لا جملة ولا تفصيلاً.
(2) ... تقدم ص54 (2) أن الوارد في فضل الصلاة في هذه الليلة لا يصح، وانظر تفصيل ذلك فى كتابنا: "عقد المرجان في أحكام الصيام ورمضان" باب صوم شعبان.(1/9)
وليس كما توهموا، لأن الأصل إذا ثبت فى الجملة لا يلزم إثباته فى التفصيل، فإذا ثبت مطلق الصلاة، لا يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر أو غيرها حتى يُنَصّ عليها على الخصوص، وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام، لا يلزم منه اثبات صوم رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غير ذلك، حتى يُثبتَ بالتفصيل بدليل صحيح، ثم ينظر بعد ذلك فى أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثابت، بالدليل الصحيح.
وليس فيما ذُكر فى السؤال من ذلك، إذ لا ملازمة بين ثبوت التنفل الليلى والنهارى فى الجملة وبين قيام ليلة النصف من شعبان بكذا وكذا ركعة يقرأ فى كل ركعة منها بسورة كذا على الخصوص كذا وكذا مرة، ومثله صيام اليوم الفلانى من الشهر الفلانى، حتى تصير تلك العبادة مقصودة على الخصوص، ليس فى شىء من ذلك ما يقتضيه مطلق شرعية التنفل بالصلاة أو الصيام.
والدَّليل على ذلك أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما يتضمَّن حكماً شرعياً فيه على الخصوص، كما ثبت لعاشوراء –مثلاً- أو لعرفة أو لشعبان مزيَّة على مطلق التنفل بالصيام، فإن ثبت له مزيَّة على الصيام فى مطلق الأيام، فتلك المزيَّة اقتضت مرتبة فى الأحكام أعلى من غيرها، بحيث لا تُفهم من مطلق مشروعية صيام النافلة، لأن مطلق المشروعية يقتضى أن الحسنة فيه بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف فى الجملة، وصيام يوم عاشوراء يقتضى أنه يكفر السنة التى قبله(1)، فهو أمر زائد على مطلق المشروعية، ومساقه يفيد له مزيَّة فى الرتبة، وذلك راجع إلى الحكم.
__________
(1) ... رواه مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعاً (1162) وأصحاب السنن.(1/10)
فإذاً، فهذا الترغيب الخاصُّ يقتضى مرتبةً فى نوع من المندوب خاصةً، فلابَّد من رجوع إثبات الحكم إلى الإحاديث الصحيحة، بناء على قولهم: "إن الأحكام لا تثبت إلا من طريق صحيح"، والبدع المستدل عليها بغير الصحيح لابد فيها من الزيادة على المشروعات، كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفيَّة ما، فيلزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغير الصحيح، وهو ناقض لما أسسه العلماء.
ولا يُقال: إنهم يريدون أحكام الوجوب والتحريم فقط، لأنا نقول: هذا تحكُّم من غير دليل، بل الأحكام خمسة، فكما لا يثبت الوجوب إلا بالصحيح، فكذلك لا يثبت الندبُ والكراهة والإباحة إلا بالصحيح، فإذا ثبت الحكم، فاستسهل أن يثبت فى أحاديث الترغيب والترهيب، ولا عليك، فعلى كل تقدير: كل ما رغب فيه إن ثبت حكمه ومرتبته في المشروعات من طريق صحيح فالترغيب فيه بغير الصحيح مغتفر، وإن لم يثبت إلا من حديث الترغيب فاشترِط الصحة أبداً.
وأصل هذا الغلط عدم فهم كلام المحدَّثين فى الموضعين، وبالله التوفيق.
فصل
ومنها: ضد هذا، وهو ردهم للأحاديث التى جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم، ويدعون أنها مخالفة للمعقول، وغير جارية على مقتضى الدليل، فيجب ردها:(1/11)
كالمنكرين لعذاب القبر، والصراط، والميزان، ورؤية الله عز وجل فى الآخرة، وكذلك حديث الذباب وقتله، وأن فى أحد جناحيه داء وفى الآخر دواء وأنه قدم الذى فيه الداء، وحديث الذى أخذ أخاه بطنه فأمره النبى - صلى الله عليه وسلم - بسقيه العسل(1)
__________
(1) ... أما عذاب القبر: فثبت ذلك متواتراً من نصوص السنة، ورويت أحاديثه عن جمع من الصحابة، فمن بينها: حديث أنس عند البخاري (1338) وحديث ابن عباس في صاحبيّ القبرين عند البخاري (1361) ومسلم وغيرهما، وحديث البراء عند أحمد (4/287) وأبي داود (4753: صحيح)، وهو حديث طويل ونفيس. واستنبطه طائفة من العلماء من قوله تعالى { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } ، وانظر: معارج القبول (2/97).
وأما الصراط: فعند البخاري (6573) باب: الصراط جسر جهنم، ومسلم (182، 183) من حديث أبي هريرة، ومن حديث أبي سعيد. وانظر: معارج القبول (2/186).
وأما الميزان: فثبت في الكتاب في قوله تعالى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } و { والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } و { فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية } . ومن الأحاديث: حديث أنس عند الترمذي (2433: صحيح) وعائشة عند أبي داود (4755: ضعيف)، وحديث آخر عن أبي داود (4799: صحيح). وانظر: معارج القبول (2/183).
وأما الرؤية: ففي الكتاب { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } و { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } و { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } . والأحاديث في الرؤية متواترة، فمنها حديث أبي هريرة عند البخاري (6573) ومسلم (182، 183) ومن حديث أبي سعيد، وعند مسلم من حديث صهيب (181) وأبي موسى (180). وانظر: معارج القبول (1/198).
وأما حديث الذبابة: رواه البخاري (3320) وأبو داود (3839: صحيح) وأحمد وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة، وانظر الصحيحة (38).
وأما حديث العسل: فرواه البخاري (5684) ومسلم (2217) من حديث أبي سعيد.(1/12)
... وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقوله نقل العدول.
وربما قدحوا فى الرواة من الصحابة والتابعين رضى الله تعالى عنهم ومن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم؛ كل ذلك ليردوا به على من خالفهم فى المذهب.
وربما ردُّوا فتاويهم وقبحوها فى أسماع العامة، لينفروا الأمة عن أتباع السنة وأهلها، وذهبت طائفة إلى نفى أخبار الآحاد جملة، والاقتصار على ما استحسنته عقولهم فى فهم القرآن.
ففى هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيتُ عنه، فيقول: لا أدرى، ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه)(1)، وهذا وعيد شديد تضمنه النهى لاحق بمن ارتكب ردَّ السنة.
وربما احتج طائفة من نابتة المبتدعة على رد الأحاديث بأنها إنما تفيد الظن، وقد ذُم الظن فى القرآن، كقوله تعالى { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يُغْنِى من الحَقَّ شيئاً } (2) ... وما جاء فى معناه، حتى أحلوا أشياء مما حرمها الله تعالى على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وليس تحريمها فى القرآن نصاً، وإنما قصدوا من ذلك أن يثبت لهم من أنظار عقولهم ما استحسنوا.
والظن المراد فى الآية وفى الحديث(3) أيضاً غير ما زعموا، وقد وجدنا له محال ثلاثة:
أحدها: الظنُّ فى أصول الدين، فإنه لا يغنى عند العلماء، لاحتماله النقيض عند الظان، بخلاف الظن فى الفروع، فإنه معمول به عند أهل الشريعة، للدليل الدال على عمله، فكان الظن مذموماً إلا ما تعلَّق بالفروع منه، وهذا صحيح ذكره العلماء فى هذا الموضع.
__________
(1) ... صحيح: وتقدم ص87، ص114.
(2) ... النجم: 23.
(3) ... كحديث ابى هريرة فى صحيح البخارى مرفوعاً (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) البخارى (10/484 فتح) ومسلم 2563.(1/13)
والثانى: أن الظن هنا هو ترجيح أحد النقيضين على الآخر من غير دليل مرجَّح، ولا شك أنه مذموم هنا، لأنه من التحكُّم، ولذلك اتبع فى الآية بهوى النفس فى قوله { إن يتبعون إلا الظن ما تهوى الأنفس } (1)، ولذلك أثبت ذمه، بخلاف الظن الذى أثاره دليل، فإنه غير مذموم فى الجملة، لأنه خارج عن اتباع الهوى، ولذلك أثبت وعُمِل بمقتضاه حيث يليق العمل بمثله، كالفروع.
والثالث: أن الظن على ضربين:
ظن يستند إلى أصل قطعى، وهذه هى الظنون المعمول بها فى الشريعة أينما وقعت، لأنها استندت إلى أصل معلوم، فهى من قبيل المعلوم جنسه.
وظن لا يستند إلى قطعى، بل إما مستند إلى غير شىء أصلاً، وهو مذموم –كما تقدم-، وإما مستند إلى ظن مثله، فذلك الظن إن استند أيضاً إلى قطعى، فكالأول، أو إلى ظنى، رجعنا إليه، فلابد أن يستند إلى قطعى، وهو محمود، أو إلى غير شىء، وهو مذموم.
فصلُ
ومنها: تخرُّصُهم على الكلام فى القرآن والسنة العربيين مع العروّ عن علم العربية الذى يُفهم به عن الله ورسوله:
فيفتاتون(2) على الشريعة بما فهموا ويدينون به ويخالفون الراسخين فى العلم، وإنما دخلوا فى ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط، وليسوا كذلك:
فكما حكى عن بعضهم فى قوله سبحانه { ولقد ذرأنا لجهنم } (3)، أى "القينا فيها" كأنه عندهم من قول العرب: ذرته الريح، وذلك لا يجوز، لأن ذرأنا مهموز، وذرته غير مهموز، وكذلك إذا كان من: أذرته الدابة عن ظهرها، لعدم الهمزة، ولكنه رباعى، وذرأنا ثلاثى.
__________
(1) ... النجم: 23.
(2) ... فيفتاتون: أى يختلقون الباطل، وأصلها مهموز وقد يخفف.
(3) ... الأعراف: 179.(1/14)
ويمكن أن يكون من خفي هذا الباب مذهب الخوارج فى زعمهم أن لا تحكيم، استدلالاً بقوله تعالى: { إن الحكم إلا لله } (1)، فإنه مبنى على أن اللفظ ورد بصيغة العموم، فلا يلحقهِ تخصيص، فلذلك أعرضوا عن قول الله تعالى { فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها } (2)، وقوله { يحكم به ذوا عدل منكم } (3).
وإلا، فلو علموا تحقيقاً قاعدة العرب فى أن العموم يُراد به الخصوص، لم يسرعوا إلى الإنكار، ولقالوا فى أنفسهم: لعل هذا العامَّ مخصوص؟ فيتأولون.
وفى الموضع وجه آخر مذكور فى موضع غير هذا.
وكثيراً ما يوقع الجهل بكلام العرب فى مجازٍ لا يرضى بها عاقل، أعاذنا الله من الجهل والعمل به بفضله.
فصل
ومنها: انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التى للعقول فيها مواقف، وطلب الأخذ بها تأويلاً:
وقد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل فى الحقيقة، حتى يتَّبين معناه ويظهر المراد منه، ويشترط فى ذلك أن لا يعارضه أصل قطعى، فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك، أو عارضه قطعى، كظهور تشبيه، فليس بدليل، لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهراً فى نفسه، ودالاً على غيره، وإلا احتيج إلى دليل عليه، فإن دلَّ الدليل على عدم صحته، فأحرى أن لا يكون دليلاً.
ولا يمكن أن تعارض الفروع الجزئية الأصول الكلية، لأن الفروع الجزئية إن لم تقتض عملاً، فهى فى محل التوقُّف، وإن اقتضت عملاً، فالرجوع إلى الأصول هو الصراط المستقيم ومثاله فى ملة الإسلام مذاهب الظاهرية فى إثبات الجوارح للرب –المنزه عن النقائض-، من العين، واليد، والرجل، والوجه، والمحسوسات، والجهة ... وغير ذلك من الثابت
للمحدثات [11].
ومن الأمثلة أيضًا أن جماعة زعموا أن القرآن مخلوق تعلقًا بالمتشابه، والمتشابه الذى تعلقوا به من وجهين: عقلى –فى زعمهم- وسمعى.
__________
(1) ... الأنعام: 57.
(2) ... النساء: 35.
(3) ... المائدة: 95.(1/15)
فالعقلى: أن صفة الكلام من جملة الصفات، وذات الله عندهم بريئة من التركيب جملة، وإثبات صفات الذات قول بتركيب الذات، وهو محال.
وأيضاً، فالكلام لا يُعقل إلا بأصوات وحروف، وكل ذلك من صفات المحدثات، والبارئ منزه عنها.
وبعد هذا الأصل يرجعون إلى تأويل قوله سبحانه: { وكلم الله موسى تكليما } (1)، وأشباهه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[11] ... من كتاب الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام 5، 6:
... ولما كان للشاطبى رحمه الله تعالى جهود فى حرب البدعة، وحرب البدع مما اشتهر به السلفيون، فقد انتشر بين الناس أنه سلفيّ الاعتقاد، حتى بين بعض طلبة العلم(2)، والحقيقة التى تظهر لكل من يقرأ كتابيه هذين الموافقات والاعتصام أنه
وأما السمعى، فنحو قوله تعالى { الله خالق كل شئ } (3)، والقرآن إما أن يكون شيئاً أو لاشىء، ولاشىء عدم، والقرآن ثابت، وإن كان شيئاً، فقد شملته الآية، فهو إذاً مخلوق، وبهذا استدل المريسى على عبد العزيز المكى.
وهاتان الشبهتان أخذ فى التعلق بالمتشابهات، فإنهم قاسوا البارى على البرية، ولم يعقلوا ما وراء ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... النساء: 164.
(2) ... مثل محقق كتاب الاعتصام –سليم هلالى- حيث قال فى (الاعتصام – 1/305) حاشية:
تعليقاً على كلام للشاطبى رحمه الله تعالى فى الصفات: (فمن تتبع عقيدة المصنف رحمه الله من سياق كتابه وجد ما يثلج صدره) مع أن الشاطبى بعد هذه الحاشية بصفحة واحدة فقط (1/307) صرح فيها بموافقة الأشاعرة فى الكلام النفسى!! وله غير هذا فى نفس الكتاب أيضاً كما سيأتى إن شاء الله تعالى، ومثل عثمان بن على بن حسن فى كتابه (منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة) حيث قال (1/414 حاشية (1)): (أما فى كتابه (الاعتصام) فنجده معتصماً بالكتاب والسنة لا يكاد يخرج عنهما) وهذا الكلام فيه ما فيه كما سترى إن شاء الله تعالى.
(3) ... الزمر: 62.(1/16)
أشعرى فى باب الصفات والقدر والإيمان وغيرها، ومرجعه فى أبواب الاعتقاد هى كتب الأشاعرة، كما سيأتى تفصيله إن شاء الله تعالى.
وموقف الشاطبى رحمه الله تعالى من البدع العملية (وهى البدع فى العبادات) فى تحذيره منها وبيان مفاسدها والتشديد على التمسك بالسنة فيها موقف جيد، وعمل مشكور، ولكنه مع ذلك وقع فى بدع الأشاعرة والمتكلمين الاعتقادية فى الصفات والقدر وغيرها.(1/17)
وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف، فبناء على عدم النظر فى الكلام النفسى، وهو مذكور فى الأصول(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولم ينفرد الشاطبى رحمه الله تعالى بهذا الأمر بين العلماء، فقد وقع فيه غيره كأبى بكر الطرطوشى رحمه الله تعالى، فإنه ألف كتاب (الحوادث والبدع) فى التحذير من البدع العملية ومع ذلك فقد وافق الأشاعرة فى أصولهم، وكأبى شامة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) ... جاء في شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، شرح الشيخ محمد خليل هراس، تحقيق علوي السقاف ص150،151: وأما قوله { وكلمَ اللهُ موسى تكليماً } [النساء: 164] وما بعدها من الآيات التي تدل على أن الله قد نادى موسى وكلمه تكليماً، وناجاه حقيقة من وراء حجاب، وبلا واسطة ملك، فهي ترد على الأشاعرة الذين يجعلون الكلام معنى قائماً بالنفس بلا حرف ولا صوت! فيقال لهم: كيف سمع موسى هذا الكلام النفسي؟ فإن قالوا: ألقى الله في قلبه علماً ضرورياً بالمعاني التي يريد أن يكلمه بها، لم يكن لموسى خصوصية في ذلك. وإن قالوا: إن الله خلق كلاماً في الشجرة أو في الهواء، ونحو ذلك، لزم أن تكون الشجرة هي التي قالت لموسى: { إني أنا ربُّك } ... وخلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في هذه المسألة: أن الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، وأن الكلام صفة له قائمة بذاته يتكلم بها بمشيئته وقدرته، فهو لم يزل ولا يزال متكلماً إذا شاء، وما تكلم الله به فهو قائم به ليس مخلوقاً مفصولاً عنه، كما تقول المعتزلة، ولا لازماً لذاته لزوم الحياة لها، كما تقول الأشاعرة، بل هو تابع لمشيئته وقدرته. والله سبحانه نادى موسى بصوت، ونادى آدم وحواء بصوت، ويتكلم بالوحي بصوت، ولكن الحروف والأصوات التي تكلم الله بها صفة له غير مخلوقة، ولا تشبه أصوات المخلوقين وحروفهم، كما أن علم الله القائم بذاته ليس مثل علم عباده، فإن الله لا يماثل المخلوقين في شيء من صفاته. وانظر: معارج القبول (1/158).(1/18)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدمشقى رحمه الله تعالى، فإن له كتاب (الباعث فى إنكار البدع والحوادث) فى البدع العملية وهو أشعريّ المعتقد، والسبب فى ذلك –والله أعلم- أن علماء الكلام لم يتطرقوا لمثل هذه الأمور، لهذا لم يفسدوها بأصولهم فلم تلتبس على من أراد الحق وسعى إليه بخلاف الاعتقادات كالأسماء والصفات والقدر والإيمان وغيرها، فإن المتكلمين أفسدوها بأصولهم المبتدعة وشبهوا على كثير من العلماء الفضلاء فيها فوافقوهم فى أصولهم وبدعهم –عفا الله عن الجميع بمنه وكرمه-.
وقال فى كتابه الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام: ص30:
يظهر جلياً واضحاً من كلام الشاطبى رحمه الله تعالى عند تعرضه لمذهب السلف فى نصوص الصفات ومدحه له وحثه على اتباعه أنه إنما يقصد به مذهب التفويض –تفويض المعنى والكيفية-، وهو أن نصوص الصفات لا تعقل معانيها ولا يفهم منها شىء، بل هى بمنزلة الكلام الأعجمى، لذلك جعل نصوص الصفات من قسم المتشابه الحقيقى(1).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال فى (الموافقات) 3/328 -فى مسألة تسليط التأويل على المتشابه-:
(
__________
(1) ... قسم الشاطبى رحمه الله تعالى المتشابه إلى قسمين:
متشابه حقيقى: وقال فيه: إنه لم يُجعل لنا سبيل إلى فهم معناه ولا نصب –أى الشارع- دليلاً على المراد منه، فإذا نظر المجتهد فى أصول الشريعة وتقصاها وجمع أطرافها لم يجد فيها ما يحكم له معناه ولا ما يدل على مقصوده ومغزاه.
ومتشابه إضافى: وهو الذى حصل بيانه فى الشريعة، ولكن الناظر قصر فى الاجتهاد، فكان التشابه هنا بالنسبة لنظر المجتهد لا إلى وضع الشريعة. انظر (الموافقات) 3/315 وما بعدها.(1/19)
فإن كان –أى المتشابه- من الإضافى(1) فلابد منه –إلى أن قال- وأما إن كان من الحقيقى فغير لازم تأويله ... وأيضاً فإن السلف الصالح والتابعين ومن بعدهم من المقتدين بهم لم يعرضوا لهذه الأشياء ولا تكلموا فيها بما يقتضى تعيين تأويل من غير دليل وهم الأسوة والقدوة). أهـ.
وقال فى (الموافقات) 4/137:
(إن وجد فى الشريعة مجمل أو مبهم المعنى أو ما لا يفهم، فلا يصح أن يكلف بمقتضاه –إلى أن قال- ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد كقوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } (2)، وفى الحديث (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا)(3) وأشباه ذلك، هذا معنى لا يتعلق به تكليف). أهـ.
قلت: والكلام على هذه النصوص من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن ما ذكره من كون نصوص الصفات من المتشابه الحقيقى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... وهو يعنى بهذا نصوص الصفات كما يظهر واضحاً من سياق كلامه كله فراجعه هناك.
(2) ... طه: 5.
(3) ... رواه البخاري (1145، 7494) ومسلم (758) والترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة، وانظر: مختصر العلو للذهبي ص110،116 قال: وأحاديث نزول الباري متواترة، وانظر شرح الواسطية ص164.(1/20)
الذى لا يفهم منه شىء ولا يعقل له معنى، وأن الصحابة والسلف كانوا لا يخوضون فى معانيها وهم جاهلون بهذه المعانى هى عقيدة المفوضة وهى عقيدة الأشاعرة إذا أحالوا لمذهب السلف، وهو المراد بقولهم (مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم)، فمقصودهم بمذهب السلف هنا هو نفس ما ذهب إليه الشاطبى وهو إيمان بهذه النصوص مع الجهل بمعانيها وجعل نصوص الصفات بمنزلة الكلام الأعجمى الذى لا يعقل، ونصوص الأشاعرة فى هذا كثيرة، فمن ذلك ما ذكره الرازى فى كتابه (أساس التقديس) حيث عقد فصولاً فى آخر كتابه هذا مقرراً فيه لعقيدة السلف فقال: (الفصل الرابع فى تقرير مذهب السلف، حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها أن مراد الله منها شىء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض فى تفسيرها).
الوجه الثانى: أن هذا المذهب من أفسد المذاهب وأبعدها عن مذهب السلف، إذ فيه تجهيل لخير الأمة وأنهم كانوا يقرأون مالا يفهمون معناه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى – فى الفتاوى: 5/34. فى أصناف المنحرفين عن مذهب السلف:
(وأما الصنف الثالث وهم أهل التجهيل، فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف، يقولون: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف معانى ما أنزل الله إليه من آيات الصفات ولا جبريل يعرف معانى الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكذلك قولهم فى أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تكلم بها ابتداءً، فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه) أهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
((1/21)
والصنف الثالث: أصحاب التجهيل الذين قالوا: نصوص الصفات ألفاظ لا نعقل معانيها ولا ندرى ما أراد الله ورسوله منها، ولكن نقرأها ونعلم أن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهى عندنا بمنزلة { كهيعص } (1)، و { حم . عسق } (2)، { المص } (3) فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيها تمثيلاً ولا تشبيهاً ولم نعرف معناه وننكر على من تأوله ونكل علمه إلى الله، وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يفهمون معنى قوله { خلقت بيدى } (4)، وقوله { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } (5)، وقوله { الرحمن على العرش استوى } (6)، وأمثال ذلك من نصوص الصفات، وبنوا هذا المذهب على أصلين:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدهما: أن هذه النصوص من المتشابه.
والثانى: أن للمتشابه تأويلاً لا يعلمه إلا الله.
فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأنهم كانوا يقرأون { الرحمن على العرش استوى } و { بل يداهُ مبسوطتان } (7) ويروون (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا( ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما أريت، ولازم قولهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، ثم تناقضوا أقبح تناقض فقالوا: تجرى على ظواهرها وتأويلها بما يخالف الظواهر باطل، ومع ذلك فلها تأويل لا يعلمه إلا الله، فكيف يثبتون لها تأويلاً ويقولون تجرى على ظواهرها، ويقولون الظاهر منها غير مراد، والرب منفرد بعلم تأويلها؟ وهل فى التناقض أقبح من هذا؟
__________
(1) ... مريم: 1.
(2) ... الشورى: 1، 2.
(3) ... الأعراف: 1.
(4) ... ص: 75.
(5) ... الزمر: 67.
(6) ... طه: 5.
(7) ... المائدة: 64.(1/22)
وهؤلاء غلطوا فى المتشابه، وفى جعل هذه النصوص من المتشابه، وفى كون المتشابه لا يعلم معناه إلا الله، فأخطئوا فى المقدمات الثلاث، واضطرهم إلى هذا التخلص من تأويلات المبطلين وتحريفات المعطلين، وسدوا على نفوسهم الباب، وقالوا لا نرضى بالخطأ ولا وصول لنا إلى الصواب، فهؤلاء تركوا المأمور به والتذكر والعقل لمعانى النصوص الذى هو أساس الإيمان وعمود اليقين، وأعرضوا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنه بقلوبهم، وتعبدوا بالألفاظ المجردة التى أنزلت فى ذلك، وظنوا أنها أنزلت للتلاوة والتعبد بها دون تعقل معانيها وتدبرها والتفكر فيها). أهـ.
الوجه الثالث: أن مذهب السلف إنما هو تفويض الكيفية دون المعنى، بمعنى أنهم يفهمون آيات الصفات وأحاديثها ويدركون معناها، فيعلمون معنى الاستواء والنزول والفوقية والوجه والعين والقدم ونحوها، ويفرقون بينها، فيعلمون أن معنى الوجه غير معنى العين، وأن معنى العين غير معنى النزول وهكذا، ولكنهم يفوضون كيفية هذه الصفات إلى الله فلا يعلمونها، وهذا كما ثبت عن الأوزاعى وسفيان ومالك والليث بن سعد وغيرهم من السلف أنهم كانوا يقولون فى نصوص الصفات: (أَمِروها كما جاءت بلا كيف) فهنا التفويض فى الكيف لا فى المعنى، وكما قال ربيعة بن أبى عبد الرحمن ومالك لمن سأل عن الاستواء: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول) ، فذكر هنا أن معنى الاستواء غير مجهول بل هو معلوم، وإنما المجهول هو الكيف.(1/23)
وقد قرر علماء السنة هذا الأمر فى كل زمان ومكان، فقد قال الإمام عثمان ابن سعيد الدرامى رحمه الله تعالى فى رده على بشر المريسى: (أما قولك إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو موجود فى الخلق خطأ، فإنا لا نقول إنه خطأ بل هو عندنا كفر، ونحن لتكييفها وتشبيهها بما هو موجود فى الخلق أشد أنفاً منكم، غير أنا كما لا نشبهها ولا نكيفها لا نكفر بها ولا نكذب بها ولا نبطلها بتأويل
ومدار الغلط فى هذا الفصل إنما هو على حرف واحد، وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها ببعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامّها المرتب على خاصّها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسَّر ببيِّنها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها.
فصل
ومن اتِّباع المتشابهات الأخذ بالمطَلقات قبل النظر فى مقيداتها أو فى العمومات من غير تأمل، هل لها مخصَّصات أم لا؟ وكذلك العكس.
ومنه دعاوى أهل البدع على الأحاديث الصحيحة، مناقضتها للقرآن، أو مناقضة بعضها بعضاً، وفساد معانيها، أو مخالفتها للعقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضلال –إلى أن قال- فكما نحن لا نكيف هذه الصفات لا نكذب بها كتكذيبكم، ولا نفسرها كتفسيركم) أهـ.
وكلام الأئمة فى هذا الباب كثير، وكله متفق على العلم بمعنى الصفة والجهل بكيفيتها، وأن هذا هو تفويض السلف، لا كما يزعم المبتدعة أن السلف كانوا يؤمنون بألفاظ لا يعلمون معانيها، والله تعالى أعلم.(1/24)
وفى الحديث: (مثل أمتى كمطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره؟)(1) قالوا: فهذا يقتضى أنه لم يثبت لأول هذه الأمة فضل على الخصوص دون آخرها ولا العكس.
ثم نقل: (خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)(2)
__________
(1) ... رواه أحمد (3/130، 143) من حديث أنس، وحسَّن إسناده محققوا مسند الرسالة وقالوا: قوي بطرقه وشواهده (19/334) وقال الحافظ في الفتح: حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة. ورواه كذلك الترمذي (2869) وأبو يعلى (3475، 3717) وفيه متروك، ورواه من حديث عمار أحمد (4/319) وابن حبان (2307 موارد) والبزار (1412البحر الزخار). ومن حديث عمران بن الحصين رواه البزار (2075 مختصره) والطبراني في الأوسط (3673)، ومن حديث ابن عمر رواه أبو نعيم في الحلية (2/231). ورواه من حديث عبد الله بن عمرو الطبراني في الكبير (65 الملحق بالجزء 13) وابن عبد البر في التمهيد (20/253)، وفي سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي وهو ضعيف. ورواه من حديث أبي نجيد الطبراني في الأوسط (3660). والحديث أورده الألباني في الصحيحة (2286). وانظر الفتح (7/8) ومجمع الزوائد (10/68).
(2) ... رواه البخاري (6428، 6429) ومسلم (2533، 2534) من حديث عمران بن الحصين ومن حديث ابن مسعود.
أما التوفيق بين هذا الحديث والذي قبله: فقال الحافظ في الفتح (7/8، 9): واقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ محل بحث، وإلى الثاني نحا الجمهور، والأول قول ابن عبد البر، والذي يظهر: أن من قاتل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئاً من ماله بسببه لا يعدله في الفضل أحد بعده كائناً من كان، وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث. واحتج ابن عبد البر بحديث "مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره" وهو حديث حسن له طرق قد يرتقى بها إلى الصحة. وروى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعه "تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: بل منكم"، وهو شاهد لحديث "مثل أمتي مثل المطر"، واحتج ابن عبد البر أيضاً بحديث عمر رفعه "أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني" الحديث أخرجه الطيالسي وغيره، لكن إسناده ضعيف فلا حجة فيه. وروى أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: "قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك. قال: قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" وإسناده حسن، وقد صححه الحاكم. واحتج بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون، أنهم كانوا غرباء في إيمانهم، لكثرة الكفار حينئذ وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به، وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان، كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة رفعه "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" وقد تعقب كلام ابن عبد البر، بأن كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة، وبذلك صرح القرطبي، لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة، فأنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية. نعم والذي ذهب إليه الجمهور: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، لمشاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة، وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فأنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده، لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا للذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده، فظهر فضلهم. ومحصل النزاع: يتمخض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة كما تقدم، فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجهاً، على أن حديث للعامل منهم أجر خمسين منكم لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة، لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضاً فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل، فأما ما فاز به من شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد، فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة، وأما حديث أبي جمعة: فلم تتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم، ورواه بعضهم بلفظ "قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً"؟ الحديث أخرجه الطبراني وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة، وهي توافق حديث أبي ثعلبة، وقد تقدم الجواب عنه والله أعلم. وانظر التمهيد (20/250).(1/25)
فاقتضى أن الأولين أفضل على الإطلاق.
قالوا: فهذا تناقض!
وكذبوا، ليس ثمَّ تناقض ولا اختلاف، وذلك أن التعارض إذا ظهر لبادي الرأى فى المقولات الشرعية: فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلاً وإما أن يمكن:
فإن لم يمكن، فهذا الفرض بين قطعى وظنى، أو بين ظنيين، فأما بين قطعيين، فلا يقع فى الشريعة، ولا يمكن وقوعه، لأن تعارض القطعيين محال.
فإن وقع بين قطعى وظنى، بطل الظنى.
وإن وقع بين ظنيين، فها هنا للعلماء فيه الترجيح، والعمل بالأرجح متعيِّن، وإن أمكن الجمع فقد اتفق النُّظَّار على إعمال وجه الجمع، وإن كان له وجه ضعيف، فإن الجمع أولى عندهم، وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها.
فهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأساً، إما جهلاً به، أو عناداً.
فإذا ثبت هذا، فقوله (خير القرون قرنى) هو الأصل فى الباب، فلا يبلغ أحدنا مبلغ الصحابة رضى الله عنهم، وما سواه يحتمل التأويل على حال أو زمان أو فى بعض الوجوه.
وأما قوله: (فطوبى للغرباء)(1)، لا نصَّ فيه على التفضيل المشار إليه، بل هو دليل على جزاء حسن، ويبقى النظر فى كونه مثل جزاء الصحابة أو دونه أو فوقه محتمل، فليس فى الحديث عليه دليل، فلابد من حمله على محكم الأصل الأول ولا إشكال.
فجميع ما ذكر فى هذا الفصل راجع إلى إسقاط الأحاديث بالرأى المذموم الذى تقدَّم استشهادنا عليه أنه من البدع المحدثات.
فصل
ومنها: تحريف الأدلة عن مواضعها:
بأن يرد الدليل على مناط(2)، فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر، موهماً أن المناطين واحد، وهو من خفيّات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله.
__________
(1) ... صحيح: تقدم أول الكتاب ص20.
(2) ... المناط: من ناط ينوط نوطًا: أى علَّقه، قال ابن فارس: النون والواو والطاء أصل صحيح يدل على تعليق شىء بشىء. أهـ وعند الفقهاء الأصوليين المناط: العلة لأن الحكم لما تعلق بها صار كالشىء المتعلق بغيره.(1/26)
ويغلب على الظنَّ أن من أقرَّ بالإسلام وبأنه يذمُّ تحريف الكلم عن مواضعه، لا يلجأ إليه صراحاً، إلا مع اشتباه يعرض له، أو جهل يصده عن الحق، مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه، فيكون بذلك السبب مبتدعاً.
وبيان ذلك أن الدليل الشرعى إذا اقتضى أمراً فى الجملة مما يتعلَّق بالعبادات مثلاً، فأتى به المكلَّف فى الجملة أيضاً، كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يُعلم من الشارع فيها التوسعة، كان الدليل عاضداً لعلمه من جهتين: من جهَة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به.
فإن أتى المكلف فى ذلك الأمر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو مقارناً لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيّلا أن الكيفية أو الزمان أو المكان مقصود شرعاً من غير أن يدلَّ الدَّليل عليه، كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه.
فإذا ندب الشرع مثلاً إلى ذكر الله، فالتزم قومّ الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوتِ واحد، أو فى وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات، لم يكن فى ندب الشرع ما يدلُّ على هذا التخصيص الملتَزم، بل فيه ما يدلُّ على خلافه، لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعاً شأنها أن تُفْهِم التشريع. وخصوصاً مع من يقتدى به فى مجامع الناس كالمساجد، فإنها إذا ظهرت هذا الإظهار ووضعت فى المساجد كسائر الشعائر التى وضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى المساجد وما أشبهها –كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف-، فُهِمَ منها بلا شك أنها سنن، إذا لم تفهم منها الفرضية، فأحرى أن لا يتناولها الدَّليل المستدل به، فصارت من هذه الجهة بدعًا محدثة بذلك.(1/27)
وعلى ذلك تركُ التزامِ السلف الصالح لتلك الأشياء أو عدم العمل بها، وهم كانوا أحق بها وأهلها لو كانت مشروعة على مقتضى القواعد، لأن الذكر قد نَدَب إليه الشرع ندْباً فى مواضع كثيرة، حتى إنه لم يُطلب فى تكثير عبادة من العبادات ما طلب من التكثير من الذكر، كقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } (1)، وقوله { وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون } (2)، بخلاف سائر العبادات.
__________
(1) ... الأحزاب: 21.
(2) ... الجمعة: 10، وكالحديث الذي رواه الترمذي (3377) عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى. ورواه ابن ماجة (3790) والحاكم وأحمد، صحيح.(1/28)
ومثل هذا: الدُّعاء، فإنه ذكر الله، ومع ذلك، فلم يلتزموا فيه كيفيات، ولا قَّيدوه بأوقات مخصوصة –بحيث يشعر باختصاص التعبُّد بتلك الأوقات- إلا ما عيَّنه الدليل، كالغداة والعشى، ولا أظهروا منه إلا ما نصَّ الشارع على إظهاره، كالذكر فى العيدين وشبهه(1)، وما سوى ذلك، فكانوا مثابرين على إخفائه وسره، ولذلك قال لهم النبى - صلى الله عليه وسلم - حين رفعوا أصواتهم (أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)(2) وأشباهه، فلم يظهروه فى الجماعات.
فكل من خالف هذا الأصل، فقد خالف إطلاق الدَّليل أولاً، لأنه قيَّد فيه بالرأى، وخالف مَن كان أعرف منه بالشريعة –وهم السلف الصالح
رضى الله عنهم-، بل كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يترك العمل وهو يحبُّ أن يعمل به خوفاً أن يعمل به الناس فيفرض عليهم(3).
ومن أمثلة هذا الأصل التزام الدعاء بعد الصلوات بالهيئة الاجتماعية معلناً بها فى الجماعات، وسيأتى بسط ذلك فى بابه إن شاء الله تعالى.
فصل
__________
(1) ... إظهار التكبير في العيدين: انظر مصنف ابن أبي شيبة، باب التكبير إذا خرج إلى العيد: روايات عن عمر وابنه وابن عباس وابن مسعود وعلي وزيد بن ثابت والزهري، قال فى الإرواء (3/121، 122 ح649،650): عند ابن أبى شيبة بسند صحيح عن الزهرى قال: "كان الناس يكبرون فى العيد حين يخرجون من منازلهم حتى يأتوا المصلى، وحتى يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام سكتوا، فإذا كبر كبروا. وصحح أثر ابن عمر عند ابن أبي شيبة والدارقطنى (180) والبيهقى (3/279). وانظر البخاري، العيدين، باب التكبير أيام منى.
(2) ... رواه البخاري (4205) مسلم (2704) وأبو داود (1528) والبيهقي وابن أبي شيبة والنسائي في الكبرى (7679) من حديث أبي موسى الأشعري.
(3) ... هذا نصّ حديث عائشة عند البخاري (1128) ومسلم (718) وأبو داود (1293) وعبد الرزاق (4867) وابن خزيمة (2104) وابن حبان (312) والبيهقي والنسائي في الكبرى.(1/29)
ومنها: بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل –يدَّعون فيها أنها هى المقصود والمراد، لا ما يفهم العربى منها– مسندة عندهم إلى أصل لا يعقل:
وذلك أنهم –فيما ذكر العلماء- قوم أرادوا إبطال الشريعة جملة وتفصيلاً، وإلقاء ذلك فيما بين الناس، لينحل الدين فى أيديهم، فلم يمكنهم إلقاء ذلك صراحاً، فيردُّ ذلك فى وجوههم وتمتدُّ إليهم أيدى الحكام، فصرفوا أعناقهم إلى التحيل على ما قصدوا بأنواع من الحيل، من جملتها صرف الفهم عن الظواهر، إحالة على أن لها بواطن هى المقصودة، وأن الظواهر غير مرادة.
فقالوا: كل ما ورد فى الشرع من الظواهر فى التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية، فهى أمثلة ورموز إلى بواطن.
ولهم من هذا الإفك كثير من الأمور الإلهية وأمور التكليف وأمور الآخرة، وكله حوم على إبطال الشريعة جملة وتفصيلاً، إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية، منكرون للنبوة والشرائع والحشر والنشر والجنة والنار والملائكة، بل هم منكرون للربوبية، وهم المسمون بالباطنية.
ولكن لابدَّ من نكتة مختصرة فى الرد عليهم.
فلا يخلو أن يكون ذلك عندهم:
إما من جهة دعوى بالضرورة، وهو محال، لأن الضرورى هو ما يشترك فيه العقلاء علماً وإدراكاً، وهذا ليس كذلك.
وإما من جهة الإمام المعصوم، فسماعهم منه لتلك التأويلات.
فنقول لمن زعم ذلك: ما الذى دعاك إلى تصديق الإمام المعصوم دون محمد - صلى الله عليه وسلم - مع المعجزة وليس لإمامك معجزة؟! فالقرآن يدل على أن المراد ظاهره، لا ما زعمت.
فإن قال: ظاهر القرآن رموز إلى بواطن فهمها الإمام المعصوم ولم يفهمها الناس فتعلمناها منه. قيل لهم: من أى جهة تعلمتموها منه؟
أبمشاهدة قلبه بالعين؟ أو بسماع منه؟ فلابدَّ من الاستناد إلى السماع بالأذن، فيُقال: فلعل لفظه ظاهر له باطن لم تفهمه ولم يطلعك عليه، فلا يوثق بما فهمت من ظاهر لفظه!(1/30)
فإن قال: صرح بالمعنى وقال: ما ذكرته لا رمز فيه، أو والمراد ظاهره. قيل له: وبماذا عرفت قوله لك: إنه ظاهر، أنه لا رمز فيه، بل أنه كما قال، إذ يمكن أن يكون له باطن لما تفهمه أيضاً، فلا يزال الإمام يصرح باللفظ والمذهب يدعو إلى أن له فيه رمزاً.
ولو فرضنا أن الإمام أنكر الباطن، فلعل تحت إنكاره رمز لم تفهمه أيضاً، حتى لو حلف بالطلاق الظاهر على أنه لم يقصد إلا الظاهر، لاحتمل أن يكون فى طلاقه رمزٌ هو باطنه وليس مقتضى الظاهر.
فإن قال: ذلك يؤدى إلى حسم باب التفهيم. قيل له: فأنتم حسمتموه بالنسبة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فإن القرآن دائر على تقرير الوحدانية، والجنة، والنار، والحشر، والنشر، والأنبياء، والوحى، والملائكة، مؤكداً ذلك كله بالقسم، وأنتم تقولون: إن ظاهره غير مراد، وإن تحته رمزاً! فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - لمصلحة وسرًّ له فى الرمز، جاز بالنسبة إلى معصومكم أن يُظْهِر لكم خلاف ما يضمر لمصلحة وسرٍّ له فيه، وهذا لا محيص لهم عنه.(1/31)
قال أبو حامد(1)
__________
(1) ... الغزالي: الشيخ الإمام البحر، حجة الإسلام أعجوبة الزمان زين الدين، أبو حامد محمد ابن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي الغزالي، صاحب التصانيف والذكاء المفرط، مولده سنة خمسين وأربع مئة. لازم إمام الحرمين فبرع في الفقه في مدة قريبة، ومهر في الكلام والجدل حتى صار عين المناظرين، وأخذ في تأليف الأصول والفقه والكلام والحكمة، وأدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام ومزال الأقدام، ولله سر في خلقه، ألف كتاب الإحياء وكتاب الأربعين، وكتاب القسطاس، وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين، ولو عاش لسبق الكل في ذلك الفن بيسير من الأيام، ومما نقم عليه ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كتاب كيمياء السعادة والعلوم، وشرح بعض الصور والمسائل بحيث لا توافق مراسم الشرع وظواهر ما عليه قواعد الملة، قلت: ما نقمه عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء فله أمثاله في غضون تواليفه، حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع. ومن معجم أبي علي الصدفي تأليف القاضي عياض له قال: والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة والتصانيف العظيمة، غلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم وصار داعية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها، قلت: ما زال العلماء يختلفون، ويتكلم العالم في العالم باجتهاده، وكل منهم معذور مأجور، ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور، وإلى الله ترجع الأمور. قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت، وكشف عوارهم، ووافقهم في مواضع ظناً منه أن ذلك حق أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل..حبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجرب مرد، وسم قتال، ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء، وخيار المخلصين لتلف، فالحذار الحذار من هذه الكتب. وقال أبو عمرو بن الصلاح: فصل: لبيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد: منها قوله في المنطق هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به فلا ثقة له بمعلوم أصلاً، قال: فهذا مردود إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأساً، فأما كتاب المضنون به على غير أهله: فمعاذ الله أن يكون له، شاهدت على نسخة به بخط القاضي كمال الدين محمد بن عبدالله الشهرزوري أنه موضوع على الغزالي، وأنه مخترع من كتاب مقاصد الفلاسفة، وقد نقضه الرجل بكتاب التهافت. أورد المازري أشياء مما نقده على أبي حامد في الإحياء، ثم إن المازري أثنى على أبي حامد في الفقه، وقال: هو بالفقه أعرف منه بأصوله، وأما علم الكلام الذي هو أصول الدين، فإنه صنف فيه وليس بالمتبحر فيها. قال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم كتاباً على بسيط الأرض أكثر كذباً منه. صنف البسط والوسيط والوجيز والخلاصة والإحياء، وألف المستصفى في أصول الفقه والمنخول واللباب، والمنتحل في الجدل وتهافت الفلاسفة، ومحك النظر ومعيار العلم، وشرح الأسماء الحسنى ومشكاة الأنوار، والمنقذ من الضلال. قيل إنه ألف المنخول فرآه أبو المعالي فقال: دفنتني وأنا حي فهلا صبرت، الآن كتابك غطى على كتابي. قلت: الغزالي إمام كبير وما من شرط العالم أنه لا يخطئ. أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علماً نافعاً، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن وفسره الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: من رغب عن سنتي فليس مني. توفي يوم الاثنين رابع عشر جمادى الآخرة سنة خمس وخمس مئة وله خمس وخمسون سنة، ودفن بمقبرة الطابران قصبة بلاد طوس فرحم الله الإمام أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ ولا تقليد في الأصول (السير 9/323).(1/32)
رحمه الله: "ينبغى أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه الفرقة هى أخسّ من رتبة كل فرقة من فرق الضلال، إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه التى هى الباطنية، إذ مذهبها إبطال النظر وتغيير الألفاظ عن موضوعاتها بدعوى الرمز، وكل ما يتصور أن تنطق به ألسنتهم، فإما نظر أو نقل، أما النظر، فقد أبطلوه، وأما النقل، فقد جوَّزوا أن يُراد باللفظ غير موضوعه، فلا يبقى لهم معتَصَم، والتوفيق بيد الله".(1/33)
وذكر ابن العربى فى "العواصم"(1) مأخذاً آخر فى الرد عليهم أسهل من هذا –وقال: "إنهم لا قبل لهم به"-، وهو أن يسلَّط عليهم فى كل ما يدعونه السؤال بـ "لِمَ ؟" خاصة، فكل من وُجِّهت عليه منهم، سُقط فى يده.
وتصُّور المذهب كاف فى ظهور بطلانه، إلا أنه مع ظهور فساده وبُعده عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعاً فاحشة.
فصل
ومنها: رأى قوم تغالوا فى تعظيم شيوخهم، حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه.
فالمقتصد فيهم يزعم أنه لا ولى لله أعظم من فلان، وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور.
__________
(1) ... ابن العربي: الإمام العلامة الحافظ، القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن العربي الأندلسي الإشبيلي المالكي صاحب التصانيف، مولده سنة ثمان وستين وأربع مئة، وكان أبوه أبو محمد من كبار أصحاب أبي محمد بن حزم الظاهري، بخلاف ابنه القاضي أبي بكر فإنه منافر لابن حزم محط عليه بنفس ثائرة، تفقه بالإمام أبي حامد الغزالي، والفقيه أبي بكر الشاشي، والعلامة الأديب أبي زكريا التبريزي وجماعة، صنف كتاب عارضة الأحوذي في شرح جامع أبي عيسى الترمذي، وفسر القرآن المجيد، فأتى بكل بديع، وله كتاب كوكب الحديث والمسلسلات، وكتاب الأصناف في الفقه، وكتاب أمهات المسائل، وكتاب نزهة الناظر. كان القاضي أبو بكر ممن يقال إنه بلغ رتبة الاجتهاد، حدث ببغداد بيسير، وصنف في الحديث والفقه والأصول وعلوم القرآن والأدب والنحو والتواريخ. ولم أنقم على القاضي رحمه الله إلا إقذاعه في ذم ابن حزم واستجهاله له، وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم، وأحفظ بكثير، وقد أصاب في أشياء وأجاد، وزلق في مضايق كغيره من الأئمة، والإنصاف عزيز. قال ابن بشكوال: توفي ابن العربي بفاس في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة (السير 20/197) قلت: وهو صاحب كتاب العواصم من القواصم.(1/34)
ولولا الغلو فى الدين والتكالب على نصر المذهب، والتهالك فى محبة المبتدع، لما وسع ذلك عقل أحد، ولكن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال (لتتبعُن سَنن مَن كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع ... ) الحديث(1).
فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى فى عيسى عليه السلام، حيث قالوا { إن الله هُو المسيحُ ابنُ مريم } (2)، وفى الحديث: (لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله)(3).
ومن تأمل هذه الأصناف، وجد لها من البدع فى فروع الشريعة كثيراً، لأن البدعة إذا دخلت فى الأصل، سهلت مداخلتها الفروع.
فصل
وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا فى أخذ الأعمال إلى المنامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها:
فيقولون: رأينا فلاناً الرجل الصالح، فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا.
ويتفق مثل هذا كثيراً للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبى - صلى الله عليه وسلم - فى النوم، فقال لى كذا، وأمرنى بكذا، فيعمل بها، ويترك بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة فى الشريعة.وهو خطأ، لأن الرؤيا من غير الأنبياء(4) لا يُحكم بها شرعاً على حال، إلا أن تُعرض على ما فى أيدينا من الأحكام الشرعيَّة، فإن سوغتها عُمِل بمقتضاها، وإلا، وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة والنذارة خاصة، وأما استفادة الأحكام، فلا.
__________
(1) ... رواه البخاري (7320) ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد، والترمذي (2180) وابن أبي شيبة (7/479) من حديث أبي واقد الليثي، والحاكم (4/455) من حديث ابن عباس، وأحمد (5/340) والطبراني (6/186) من حديث سهل بن سعد، وانظر مجمع الزوائد (7/261).
(2) ... المائدة: 72.
(3) ... رواه البخاري (6830) والدارمي (2/320) وابن حبان (6239) وعبد الرزاق (5/441) من حديث ابن عباس.
(4) ... أى الرؤيا التى يراها غير النبى.(1/35)
فلو رأى فى النوم قائلاً يقول: إن فلاناً سرق فاقطعه، أو عالم فاسأله، أو اعمل بما يقول لك، أو فلان زنى فحُدَّه ... وما أشبه ذلك، لم يصح له العمل، حتى يقوم له الشاهد فى اليقظة، وإلا، كان عاملاً بغير شريعة، إذ ليس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحىّ.
ولا يقال: إن الرؤيا من أجزاء النبوَّة(1)
__________
(1) ... روى أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة: رواه البخاري (6987) ومسلم (2264) وأبو داود (5018) والترمذي (2271) والدارمي (2/123)، ورواه من حديث أبي هريرة البخاري (6988) ومسلم (2263) والترمذي (2270) وابن ماجة (3894) والحاكم، ومن حديث أبي سعيد البخاري (6989) وابن ماجة (3895)، ومن حديث أبي رزين العقيلي رواه الترمذي (2278) وابن حبان (6050) والحاكم، ومن حديث أنس رواه البخاري (6983) والترمذي (2272) ابن ماجة (3893)، ورواه مسلم (2265) وابن ماجة (3897) من حديث ابن عمر، ورواه البزار (1583 زوائده) من حديث عوف بن مالك، ومن حديث العباس (1582 زوائده)، ومن حديث ابن مسعود (1581) وفي بعض هذه الروايات اختلاف في العدد.
... وقال ابن الأثير في جامع الأصول (2/518) في تفسير الحديث: كان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر الروايات الصحيحة ثلاثاً وستين سنة، وكانت مدة نبوته منها ثلاثاً وعشرين سنة، لأنه بُعث عند استيفائه أربعين سنة، وكان في أول عمره يرى الوحي في المنام، ودام كذلك نصف سنة، ثم رأى المَلَك في اليقظة، فإذا نسبت المدة التي أوحى إليه فيها في النوم – وهي نصف سنه- إلى مدة نبوته –وهي ثلاث وعشرون سنة- كانت نصف جزء من ثلاثة وعشرين جزءاً، وذلك جزء من ستة وأربعين جزءاً.(1/36)
فلا ينبغى أن تهمل، وأيضاً، إن المخبر فى المنام قد يكون النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو قد قال (من رآنى فى النوم، فقد رآنى حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بى)(1)، وإذا كان ... فإخباره له فى النوم كإخباره فى اليقظة، لأنا نقول:
1. إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة، فليست إلينا من كمال الوحى، بل جزء من أجزائه، والجزء لا يقوم مقام الكل فى جميع الوجوه، بل إنما يقوم مقامه فى بعض الوجوه، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة، وفيها كاف.
2. وأيضاً، فإن الرؤيا هى جزء من (أجزاء) النبوة، من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح، وحصول الشروط مما يُنْظَر فيه، فقد تتوفر وقد لا تتوفر.
__________
(1) ... رواه البخاري (6993) ومسلم (2266) والترمذي (2280) وأبو داود (5023) ومالك في الموطأ في الرؤيا من حديث أبي هريرة، وهو عند البخاري من حديث أبي سعيد (6997) ومن حديث أنس (6994)، وعنده (6996) ومسلم (2267) من حديث أبي قتادة، وعند مسلم (2268) من حديث جابر، وعند الترمذي (2276) من حديث ابن مسعود.
وقال الحافظ في الفتح: كان محمد يعني ابن سيرين: إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: صف لي الذي رأيته، فان وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم تره. وسنده صحيح، ووجدت له ما يؤيده: فأخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب حدثني أبي قال: قلت لابن عباس: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قال: صفه لي، قال: ذكرت الحسن بن علي فشبهته به، قال: قد رأيته. وسنده جيد، ويعارضه ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رآني في المنام فقد رآني، فإني أرى في كل صورة. وفي سنده صالح مولى التوأمة، وهو ضعيف لاختلاطه. وانظر الفتح والأقوال الكثيرة التي ذكرها الحافظ في معنى هذه الرؤية. والله أعلم.(1/37)
3. وأيضاً، فهى منقسمة إلى الحلم –وهو من الشيطان-، وإلى حديث النفس(1)، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط، فمتى تتعيَّن الصالحة حتى يحكم بها ونترك غير الصالحة؟!
ويلزم أيضاً على ذلك أن يكون تجديد وحى بحكم بعد النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وهو منهى عنه بالإجماع.
"يحكى أن شريك بن عبد الله القاضى دخل يوماً على المهدى فلما رآه، قال: علىَّ بالسيف والنطع(2).
__________
(1) ... روى مسلم (2263) من حديث أبي هريرة مرفوعاً "والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه"، ورواه البخاري (7017) وأبو داود (5019) والترمذي (2270، 2280)، وفي الباب من حديث أبي قتادة عند مسلم (2261) وأبو داود (5021) والترمذي (2277)، ومن حديث عوف بن مالك عند ابن حبان (6042) وابن أبي شيبة.
(2) ... شريك القاضي: هو شريك بن عبد الله العلامة الحافظ القاضي، أبو عبد الله النخعي، أحد الأعلام على لين ما في حديثه، توقف بعض الأئمة عن الاحتجاج بمفاريده، قال ابن المبارك: شريك أعلم بحديث بلده من الثوري، فذكر هذا لابن معين فقال: ليس يقاس بسفيان أحد لكن شريك أروى منه في بعض المشايخ، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال الجوزجاني: سييء الحفظ مضطرب الحديث مائل، قلت: فيه تشيع خفيف على قاعدة أهل بلده، وكان من كبار الفقهاء، وبينه وبين الإمام أبي حنيفة وقائع، مولده في سنة خمس وتسعين، ولي قضاء الكوفة، مات بالكوفة في أول شهر ذي القعدة سنة سبع عاش اثنتين وثمانين سنة (السير 8/200).
المهدي: الخليفة أبو عبد الله، محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي الهاشمي العباسي، كان جواداً ممداحاً معطاءً محبباً إلى الرعية، قصابا في الزنادقة، باحثاً عنهم، مليح الشكل. ولما مات المنصور قام بأخذ البيعة للمهدي الربيع بن يونس الحاجب، وقيل إنه أثني عليه بالشجاعة، فقال: لم لا أكون شجاعاً! وما خفت أحداً إلا الله تعالى، قال داود بن رشيد: هاجت ريح سوداء، فسمعت سلماً الحاجب يقول: فجعنا أن تكون القيامة، فطلبت المهدي في الإيوان فلم أجده، فإذا هو في بيت ساجد على التراب، يقول: اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، ولا تفجع بنا نبينا، اللهم إن كنت أخذت العامة بذنبي فهذه ناصيتي بيدك، فما أتم كلامه حتى أنجلت. وكان مستهتراً بمولاته الخيزران، وكان غارقاً كنحوه من الملوك في بحر اللذات، واللهو والصيد، ولكنه خائف من الله، معاد لأولى الضلالة حنق عليهم، تملك عشر سنين وشهراً ونصفاً، وعاش ثلاثا وأربعين سنة، ومات بما سبذان في المحرم سنة تسع وستين ومئة، وبويع ابنه الهادي (السير 7/400). والنِّطع: وهو بفتح أو كسر النون، مع فتح أو سكون الطاء، هو القطعة من الجلد المدبوغ يفرش، وقد يجعل عليها الطعام وغيره، وههنا أراد أن يضرب عنقه على هذا النطع المبسوط تحته.(1/38)
قال: ولِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت فى منامى كأنك تطأ بساطى وأنت معرض عنى، فقصصتُ رؤياى على مَن عبَّرها، فقال لى: يُظهر لك طاعة ويُضمر معصية. فقال له شريك: والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام، ولا أن معبرك يُوسف الصديق عليه السلام، فبالأحلام الكاذبة تُضرب أعناق المؤمنين؟ فاستحيى المهدى، وقال: اخرج عنى، ثم صرفه وأبعده".
وأما الرؤيا التى يخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرائى بالحكم، فلابد من النظر فيها أيضاً، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته، فالعمل بما استقر، وإن أخبر بمخالف، فمحال، لأنه عليه السلام لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة فى حياته، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائى النومية، لأن ذلك باطل بالإجماع، فمن رأى شيئاً من ذلك، فلا عمل عليه، وعند ذلك نقول: إن رؤياه غير صحيحة، إذ لو رآه حقاً، لم يخبره بما يخالف الشرع.
لكن يبقى النظر فى معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - (من رآنى فى النوم فقد رآنى) وفيه تأويلان:
أحدهما: ما ذكره ابن رشد(1)،
__________
(1) ... ابن رشد: الإمام العلامة شيخ المالكية قاضي الجماعة بقرطبة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي، قال ابن بشكوال: كان فقيهاً عالماً حافظاً للفقه مقدمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفاً بالفتوى بصيراً بأقوال أئمة المالكية، نافذاً في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العلم والبراعة والفهم، مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت الحسن، والهدي الصالح، ومن تصانيفه: كتاب المقدمات لأوائل كتب المدونة، وكتاب البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل، واختصار المبسوطة، واختصار مشكل الآثار للطحاوي، عاش سبعين سنة، ومات في ذي القعدة سنة عشرين وخمس مئة. قلت: وحفيده هو فيلسوف زمانه، وللقاضي عياض سؤالات لابن رشد مؤلف نفيس (السير 19/501).
ابن رشد الحفيد: العلامة فيلسوف الوقت، أبو الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن شيخ المالكية: أبي الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي، مولده قبل موت جده بشهر سنة عشرين وخمس مئة، عرض الموطأ على أبيه، وبرع في الفقه، وأخذ الطب عن أبي مروان بن حزبول، وكان يفزع إلى فتياه في الطب كما يفزع إلى فتياه في الفقه، مع وفور العربية، وله من التصانيف: بداية المجتهد في الفقه، والكليات في الطب، ومختصر المستصفى في الأصول ومؤلف في العربية، وولي قضاء قرطبة فحمدت سيرته. ولما كان المنصور صاحب المغرب بقرطبة استدعى ابن رشد واحترمه كثيراً، ثم نقم عليه بعد يعني لأجل الفلسفة. ومات محبوساً بداره بمراكش في أواخر سنة أربع، وقال غيره مات في صفر وقيل ربيع الأول سنة خمس (السير 21/307).(1/39)
إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة فى قضية، فلما نام الحاكم، ذكر أنه رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وقال له: تحكم بهذه الشهادة؟! فإنها باطلة؟
فأجاب بأنه لا يحلُّ له أن يترك العمل بتلك الشهادة، لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا، وذلك باطل لا يصح أن يعتقد، إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحى، ومن سواهم، إنما رؤياهم جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.
ثم قال: "وليس معنى قوله: (من رآنى فقد رآنى حقاً): أن كل من رأى فى منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة، بدليل أن الرائى قد يراه مرات على صور مختلفة، ويراه الرائى على صفة وغيره على صفة أخرى، ولا يجوز أن تختلف صور النبى - صلى الله عليه وسلم - ولا صفاته، وإنما معنى الحديث: من رآنى على صورتى التى خُلقتُ عليها، فقد رآنى، إذ لا يتمثل الشيطان بى، إذ لم يقل: من رأى أنه رآنى فقد رآنى، وإنما قال: من رآنى فقد رآنى، وأنى لهذا الرائى الذى رأى أنه رآه على صورة أنه رآه عليها، وإن ظن أنه رآه، ما لم يعلم أن تلك الصورة (صورته) بعينها؟! وهذا ما لا طريق لأحد إلى معرفته".
فهذا ما نقل ابن رشد، وحاصله يرجع إلى أن المرئى قد يكون غير النبى - صلى الله عليه وسلم - وإن اعتقد الرائى أنه هو.
والثانى: يقول علماء التعبير: إن الشيطان قد يأتى النائم فى صورة ما من معارف الرائى وغيرهم، فيشير إلى رجل آخر: هذا فلان النبى، وهذا الملك الفلانى، أو من أشبه هؤلاء ممن لا يتمثل الشيطان به، فيوقع اللبس على الرائى بذلك وله علامة عندهم، وإذا كان كذلك، أمكن أن يكلمه ذلك المشار إليه بالأمر والنهى غير الموافقين للشرع، فيظن الرائى أنه من قبل النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يكون كذلك، فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى.(1/40)
نعم لا يحكم بمجَّرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم، لإمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر على الجملة، فلايستدل بالرؤيا فى الأحكام إلا ضعيف المُنة(1).
نعم يأتى المرئى تأنيساً وبشارة ونذارة خاصة، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً، ولا يبنون عليها أصلاً، وهو الاعتدال(2) فى أخذها، حسبما فُهِمَ من الشرع فيها، والله أعلم.
ومن نظر إلى طرق أهل البدع فى الاستدلال، عرف أنها لا تنضبط، لأنها سيَّالة لا تقف عند حد، وعل كل وجهٍ يصحُّ لكل زائغ وكافر أن يستدل على زيغه وكفره حتى ينسب النحلة التى التزمها إلى الشريعة.
وكذلك يمكن كل من اتبع المتشابهات، أو حرف المناطات، أو حَمَّلَ الآيات مالا تحمله عند السلف الصالح، أو تمسك بالواهية من الأحاديث، أو أخذ الأدلَّة ببادى الرأى، له أن يستدلَّ على كل فعل أو قول أو اعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث لا يجوِّز ذلك أصلاً.
والدَّليل عليه استدلال كل فرقة شهرت بالبدعة على بدعتها بآية أو حديث، من غير توقف –حسبما تقدم ذكره-، وسيأتى له نظائر أيضاً إن شاء الله.
فمن طلب خلاص نفسه، تثبت حتى يتَّضح له الطريق، ومن تساهل، رمته أيدى الهوى فى معاطب لا مخلص له منها إلا ما شاء الله.
الباب الخامس
فى أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما
ولابد قبل النظر فى ذلك من تفسير البدعة الحقيقية والإضافية، فنقول وبالله التوفيق:
__________
(1) ... المُنة: القوة وخصت بقوة القلب والمقصود ضعيف القلب.
(2) ... وهو أوسط الأقوال وأحسنها وأعدلها في حكم الرؤى المنامية، بين من قالوا يعمل بها مطلقاً، ومن أعرض عنها مطلقاً، فهي كما جاء في الحديث: "لم يبق من النبوة إلا المبشرات.. الرؤيا الصالحة" رواه البخاري (6990) وغيره.(1/41)
إن البدعة الحقيقية هى التى لم يدلَّ عليها دليل شرعى، لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا استدلال معتبر عند أهل العلم، لا فى الجملة ولا فى التفصيل، ولذلك سميت بدعة –كما تقدم ذكره-، لأنها شىء مخترع على غير مثال سابق.
وأما البدعة الإضافية، فهى التى لها شائبتان:
إحداهما: لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من تلك الجهة بدعة.
والأخرى: ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية.
أى أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة؛ لأنها مستندة إلى دليل وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة؛ لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل، أو غير مستندة إلى شىء.
والفرق بينهما من جهة المعنى: أن الدَّليل عليها من جهة الأصل قائم، ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها، مع أنها محتاجة إليه، لأن الغالب وقوعها فى التعبُّديات لا فى العادات المحضة، كما سيأتى ذكره إن شاء الله.
ثم نقول بعد هذا:
إن الحقيقية لما كانت أكثر وأعم وأشهر فى الناس ذكراً، وافترقت الفرق، وكان الناس شيعاً وجرى من أمثلتها ما فيه الكفاية، وهى أسبق إلى فهم العلماء، تركنا الكلام فيما يتعلَّق بها من الأحكام.
ومع ذلك، فقلَّما تختصُّ بحكم دون الإضافية، بل هما معاً يشتركان فى أكثر الأحكام التى هى مقصود هذا الكتاب أن تُشرح فيه، بخلاف الإضافية، فإن لها أحكاماً خاصة وشرحاً خاصاً –وهو المقصود فى هذا الباب، إلا أن الإضافية أولاً على ضربين:
أحدهما: يقرب من الحقيقة، حتى تكاد البدعة تعد حقيقة.
والآخر: يبعد منها، حتى يكاد يعدُّ سنةًّ محضة.
ولما انقسمت هذا الإنقسام، صار من الأكيد الكلام على كل قسم على حدِته، فلنعقد فى كل واحدٍ منهما فصولاً بحسب ما يقتضيه، وبالله
التوفيق [12].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[12] ... قال سعد بن ناصر الغامدي فى كتاب حقيقة البدعة وأحكامها، (ج2 ص7 - 9):(1/42)
وقد يقول قائل: هذا هو شأن كل بدعة، إذْ لا دليل عليها ولا أصل لها، فكيف توصف بالبدعة الحقيقية وحدّها بهذا الوصف؟!.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والجواب عن هذا التساؤل: أنه ما من مبتدع في دين الله إلا وهو يتعلق في بدعته بدليل يدَّعي استنادها إليه، ولا يستطيع ترك التعلق بالأدلة، لئلا ينسب إليه مضادة الشريعة أو الخروج عليها صراحة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حتى تثبت صلاحية هذه البدعة للتعبد والتقرب بها، ولا يمكن له ذلك ما لم يساندها بأدلة يزعم أنها تعتمد عليها، والأدلة التي يستدل بها المبتدع على بدعته تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أدلة غير معتبرة، وهي صنفان:
الأول: أدلة غير شرعية فاسدة الأصل والدلالة، ويدخل في هذا الصنف أدلة أهل الأهواء، كالرأي والنظر، والذوق والكشف ونحو ذلك، ومن أمثلة هذا الصنف: التحسين والتقبيح عند المعتزلة، والرؤى والكشوف الشيطانية عند المتصوفة، وعصمة الأئمة عند الرافضة.
الصنف الثاني: أدلة شرعية غير ثابتة، كالأحاديث المتفق على أنها ضعيفة أو موضوعة، أو لا أصل لها، وغير ذلك من أقسام ومسميات الضعيف، فما انبنى على هذا الصنف فهو من البدع الحقيقية، أما إن كان ثبوتها أو ضعفها مختلفاً فيه بين العلماء المعتبرين، فالحديث عنها في البدع الإضافية.
القسم الثاني: أدلة معتبرة شرعاً:
وهذه ينظر في استدلال المبتدع بها، فإن كان له نوع شبهة في استدلاله، كأن يكون للبدعة شائبة تعلق بها الدليل، فهذا من قسم البدع الإضافية، وسيأتي بيانه..
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/43)
وإن كان المستدل بالدليل الشرعي الثابت لا وجه لاستدلاله، لا في نفس الأمر، ولا بحسب الظاهر، لا في الجملة، ولا في التفصيل، وليست هناك شائبة تعلق بين الدليل والبدعة، ولا شبهة اتصال بينهما، فهذا من قسم البدع الحقيقية، ومثال ذلك:
ما رواه مسلم في مقدمة صحيحه عن سفيان [الثوري رحمه الله] قال: سمعت رجلاً سأل جابراً عن قوله: { فلنْ أبرحَ الأرضَ حتى يأذنَ لي أَبي أو يَحكُمَ اللهُ لي وهُو خَيرُ الحَاكِمين } (1) فقال جابر: لم يجيء تأويل هذه، قال سفيان: وكذب. فقلنا لسفيان: وما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة تقول إن علياً في السحاب، فلا تخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي منادٍ من السماء – يريد علياً- أنه ينادي: أخرجوا مع فلان. يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية. وكذب، كانت في إخوة يوسف - صلى الله عليه وسلم - (2).
فصلٌ
__________
(1) ... يوسف: 80.
(2) جابر بن يزيد بن الحارث بن عبد يغوث الجعفي أبو عبد الله: روى عن أبي الطفيل وعكرمة وعطاء وطاوس، وعنه شعبة والثوري والحسن بن حي وشريك، كذبه ابن معين وابن القطان وابن مهدي، وقال عنه أبو حنيفة: ما لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي، وقال عنه الحاكم أبو أحمد: ذاهب الحديث، كان رافضياً سبائياً من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يؤمن برجعة عليّ، وذكر عن الثوري تأويله لقوله تعالى { فلن أبرح الأرض } . مات سنة 128هـ. (انظر ترجمته في تهذيب التهذيب لابن حجر، وتأويله الفاسد الساقط للآية – وليس هو بأشنع ما تخرصت به الرافضة، بل لهم أمثال ذلك وأعظم وأدهى وأمر، وانظر فضائحهم وسوآتهم في كتاب: أصول وتاريخ الفرق الإسلامية جمع وترتيب الشيخ مصطفى بن محمد ص125 : 280- وكذب الجعفي هذا رواه مسلم في مقدمة صحيحه: 1/150 ط. قرطبة مع شرح النووي)، وانظر أصول وتاريخ الفرق الإسلامية (172، 244).(1/44)
قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه: { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } (1).
والرهبانية: بمعنى اعتزال الخلق في السياحة في الجبال، وإطراح الدنيا ولذاتها من النساء وغير ذلك، ومنه لزوم الصوامع والديارات - على ما كان عليه أمر النصارى قبل الإسلام - مع التزام العبادة، وعلى هذا التفسير جماعة من المفسرين.
ويحتمل أن يكون الاستثناء في قوله تعالى: { إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ } متصلاً ومنفصلاً:
فإذا بنينا على الاتصال: فكأنه يقول: ما كتبناها عليهم إلا على هذا الوجه، الذي هو العمل بها ابتغاء رضوان الله، فالمعنى أنها مما كتبت عليهم -أي مما شرعت لهم- لكن بشرط قصد الرضوان. { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } : يريد أنهم تركوا رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو قول طائفة من المفسرين، لأن قصد الرضوان إذا كان شرطاً في العمل بما شرع لهم، فمن حقهم أن يتبعوا ذلك القصد، فإلى أين سار بهم ساروا، وإنما شرع لهم على شرط أنه إذا نُسخ بغيره رجعوا إلى ما أُحكم وتركوا ما نُسخ، وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة، فإذا لم يفعلوا، وأصروا على الأول كان ذلك اتباعاً للهوى لا اتباعاً للمشروع، واتباع المشروع هو الذي يحصل به الرضوان، وقصد الرضوان بذلك.
قال تعالى: { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } ، فالذين آمنوا هم الذين اتبعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله، والفاسقون: هم الخارجون عن الدخول فيها بشرطها إذ لم يؤمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) ... الحديد: 27.(1/45)
إلا أن هذا التقرير يقتضي: أن المشروع لهم يسمى ابتداعاً، وهو خلاف ما دل عليه حَدُّ البدعة.
والجواب: أنه يسمى بدعة من حيث أخلوا بشرط المشروع: إذ شُرط عليهم فلم يقوموا به. وإذا كانت العبادة مشروطة بشرط، فيعمل بها دون شرطها، لم تكن عبادة على وجهها، وصارت بدعة، كالمُخِل قصداً بشرط من شروط الصلاة، مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيرها، فحيث عرف بذلك وعلمه فلم يلتزمه، ودأب على الصلاة دون شرطها، فذلك العمل من قبيل البدع، فيكون ترهُّب النصارى صحيحاً قبل بعث محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما بُعث وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته، فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع، وهو عين البدعة.
وإذا بنينا على أن الاستثناء منقطع -وهو قول فريق من المفسرين- فالمعنى: ما كتبناها عليهم أصلاً، ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، فلم يعملوا بها بشرطها: وهو الإيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذ بعث إلى الناس كافة، وإنما سميت بدعة على هذا الوجه لأمرين:
أحدهما: يرجع إلى أنها بدعة حقيقية -كما تقدم- لأنها داخلة تحت حد البدعة.
والثاني: يرجع إلى أنها بدعة إضافية، لأن ظاهر القرآن دل على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق، بل لأنهم أخلوا بشرطها، فمن لم يخل منهم بشرطها، وعمل بها قبل بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - حصل له فيها أجر، حسبما دل عليه قوله: { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } ، أي أن من عمل بها في وقتها، ثم آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد بعثه وفَّيناه أجره.(1/46)
وإنما قلنا: إنها في هذا الوجه إضافية، لأنها لو كانت حقيقية لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه، لأن هذا حقيقة البدعة، فلم يكن لهم بها أجر، بل كانوا يستحقون العقاب لمخالفتهم لأوامر الله ونواهيه، فدل على أنهم ربما فعلوا ما كانوا جائزاً لهم فعله، فلا تكون بدعتهم حقيقية، لكنه ينظر على أي معنى أُطلق عليها لفظ البدعة، وسيأتي بعدُ بحول الله.
وعلى كل تقدير: فهذا القول لا يتعلق بهذه الأمة منه حكم، لأنه نُسخ في شريعتنا، فلا رهبانية في الإسلام، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (من رغب عن سنتي فليس مني)(1).
__________
(1) تقدم تخريجه ص51، وأنه رواه الشيخان، ونزيد هنا: رواه النسائي في المجتبى (6/60) وفي الكبرى (5324) وابن حبان في المقدمة (14، 317) والبيهقي في السنن (7/77) في النكاح، وفي الشعب (5477) وأحمد (3/241، 259، 285)، كلهم من حديث أنس. ورواه أحمد (6477) وابن خزيمة (197، 2024) من حديث عبد الله بن عمرو. ورواه الدارمي من حديث سعد بن أبي وقاص (2/133). ورواه أحمد (4/409) والطحاوي (1238: 1240) والطبراني في الكبير (2186) عن مجاهد من حديث رجل من الأنصار، والبزار (724 كشف) عن مجاهد عن ابن عباس. ورواه عبد الرزاق (10374) عن سعيد بن المسيب. وعن الحسن مرسلاً (20568).(1/47)
وخرَّج سعيد بن منصور، وإسماعيل القاضي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم، إنما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فإن أناساً من بني إسرائيل ابتدعوا بدعاً -لم يكتبها الله عليهم- ابتغوا بها رضوان الله، فلم يرعَوها حق رعايتها، فعاتبهم الله بتركها فقال: { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ... } الآية(1).
وهذا القول يقرب من قول بعض المفسرين في قوله: { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } يريد أنهم قصروا فيها ولم يدوموا عليها.
قال بعض نقلة التفسير: وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل، وأنه يلزمه أن يرعاه حق رعيه.
وهذا القول محتاج إلى النظر والتأمل، إذا بنينا العمل على وفقه، إذ أكثر العلماء على القول الأول، فإن هذه الملة لا بدعة فيها، ولا تحتمل القول بجواز الابتداع بحال، للقطع بالدليل أن كل بدعة ضلالة -حسبما تقدم- فالأصل أن يتبع الدليل، ولا عمل على خلافه.
ومع ذلك فلا نخلي - بحول الله - قول أبي أمامة رضي الله عنه من نظر صحيح على وفق الدليل الشرعي، وإن كان فيه بعد بالنسبة إلى ظاهر الأمر، وذلك أنه عدَّ عمل عمر رضي الله عنه في جمع الناس في المسجد على قاريء واحد في رمضان بدعة، لقوله حين دخل المسجد وهم يصلون: "نعمت البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل"(2).
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لعبد بن حميد وسعيد بن منصور وابن مردويه وابن نصر، وابن جرير! ولم أجده عنده.
(2) سبق تخريجه وبيان معناه، انظر: ص40، 44، 178.(1/48)
وقد مر أنه إنما سماها بدعة باعتبارٍ ما، وأن قيام الإمام بالناس في المسجد في رمضان سنة، عمل بها صاحب السنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما تركها خوفاً من الافتراض، فلما انقضى زمن الوحي زالت العلة فعاد العمل بها إلى نصابه، إلا أن ذلك لم يتأت لأبي بكر رضي الله عنه زمان خلافته، لمعارضة ما هو أولى بالنظر فيه(1)، وكذلك صدر خلافة عمر رضي الله عنه، حتى تأتَّى النظر فوقع منه، لكنه صار في ظاهر الأمر كأنه أمرٌ لم يجر به عمل من تقدمه دائماً، فسماه بذلك الاسم، لا أنه أمرٌ على خلاف ما ثبت من السنة.
فكأن أبا أمامة رضي الله عنه، اعتبر فيه نظر ترك العمل به فسماه إحداثاً، موافقة لتسمية عمر رضي الله عنه، ثم أمر بالمداومة عليه بناءً على ما فهم من هذه الآية من أن ترك الرعاية هو ترك دوامهم على التزام عمل ليس بمكتوب بل هو مندوب، فلم يوفوا بمقتضى ما التزموه، لأن الأخذ في التطوعات غير اللازمة، ولا السنن الراتبة يقع على وجهين:
__________
(1) أما خشية النبي - صلى الله عليه وسلم - من فرض صلاة النافلة عليهم فتقدم تخريجه ص44، 178.
وأما انشغال أبي بكر رضي الله عنه فبسبب قتاله لمانعي الزكاة، وحربه للمرتدين، وكانت مدة خلافته ليست طويلة فقد بلغت: سنتان وثلاثة أشهر، لأنه تولى الخلافة عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشر من الهجرة، وتوفي لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، للسن الذي توفي فيه صاحبه وحبيبه وخليله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد جمع الله بينهما في التربة كما جمع بينهما في الحياة، فرضي الله عنه وأرضاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(1/49)
أحدهما: أن تؤخذ على أصلها فيما استطاع الإنسان: فتارة ينشط لها وتارة لا ينشط، أو يمكنه تارة بحسب العادة ولا يمكنه أخرى لمزاحمة أشغال ونحوه ... وما أشبه ذلك، كالرجل يكون له اليوم ما يتصدق به فيتصدق، ولا يكون له ذلك غداً، أو يكون له إلا أنه لا ينشط للعطاء، أو يرى إمساكه أصلح في عادته الجارية له ... ... أو غير ذلك من الأمور الطارئة للإنسان.
فهذا الوجه لا حرج على أحد في ترك التطوعات كلها، ولا لوم عليه، إذ لو كان ثَمَّ لوم أو عتب، لم يكن تطوعاً، وهو خلاف الفرض.
والثاني: أن تؤخذ مأخذ الملتزمات: كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبة من عمل صالح في وقت من الأوقات.
فهذا الوجه أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه، لأنه لما نوى الدؤوب عليها في الاستطاعة، أشبهت الواجبات والسنن الراتبة.(1/50)
وهذا المعنى هو المفهوم من قوله - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين بعد العصر، حين صلاهما فسئل عنهما فقال: "يا ابنة أبي أمية،سألتِ عن الركعتين بعد العصر، أتى ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان"(1)، لأنه سئل عن صلاته لهما بعد ما نهى عنهما، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة، فلما فاتتاه صلاهما بعد وقتهما كالقضاء لهما حسبما يقضى الواجب.
فصار إذاً لهذا النوع من التطوع حالة بين حالتين، إلا أنه راجع إلى خيرة المكلَّف بحسب ما فهمنا من الشرع. وإذا كان كذلك، فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضاً الأخذ بالرفق والتيسير، وأن لا يلزم المكلف ما لعله يعجز عنه، أو يحرج بالتزامه، فإن ترك الالتزام إن لم يبلغ مبلغ النذر الذي يكره ابتداءً، فهو يقرب من العهد الذي يجعله الإنسان بينه وبين ربه، والوفاء بالعهد مطلوب في الجملة، فصار الإخلال به مكروهاً.
__________
(1) رواه البخاري (1233، 4370) ومسلم (834) وأبو داود (1273) وابن حبان (1576) والدارمي والبيهقي، وهي: هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومية، أم سلمة أم المؤمنين، وهي بنت عم خالد بن الوليد وأبي جهل بن هشام، كانت من أجمل النساء وأشرفهن نسباً، تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أربع وقيل ثلاث بعد سودة وعائشة، لها أولاد صحابيون: عمر وسلمة وزينب التي كانت في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأكثرت من الرواية عن النبي، وهي تعد من فقهاء الصحابيات، وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين، عمرت حتى بلغها مقتل الحسين الشهيد فوجعت لذلك وغشي عليها وحزنت عليه كثيراً، ولم تلبث بعده إلا يسيراً، ماتت سنة اثنتين وستين رضي الله عنها. (انظر سير أعلام النبلاء).(1/51)
والدليل على صحة الأخذ بالرفق، وأنه الأولى والأحرى - وإن كان الدوام على العمل أيضاً مطلوباً عتيداً - في الكتاب والسنة.
قال الله تعالى في صفة نبيه - صلى الله عليه وسلم - : { عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } (1) وقال تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } (2) وقال: { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً } (3) وسمى الله تعالى الأخذ بالتشديد على النفس اعتداءً فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا } (4).
ومن الأحاديث كثير، كمسألة الوصال، ففي الحديث: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمةً لهم، قالوا: إنك تواصل، قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي، يطعمُني ويسقيني"(5).
ومن ذلك مسألة قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم في رمضان، فإنه تركه مخافة أن يفرض عليهم فيعجزوا عنه، فيقعوا في الإثم والحرج، فكان ذلك رفقاً منه بهم.
__________
(1) ... التوبة: 128.
(2) ... البقرة: 185.
(3) ... النساء: 28.
(4) ... المائدة: 87.
(5) رواه البخاري (1964) ومسلم (1105) والبيهقي من حديث عائشة، ورواه مسلم (1103) عن أبي هريرة نحوه، وفيه: فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم، كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. ورواه البخاري (1965،6851) وابن حبان (3575) وعبد الرزاق (7753) والدارمي والبيهقي كذلك. ورواه البخاري (1961) ومسلم (1104) وابن حبان (3574) والبيهقي من حديث أنس. ورواه البخاري (1962) ومسلم (1102) وأبو داود (2360) من حديث ابن عمر ولكنه مختصر. ورواه البخاري (1963، 1967) وأبو داود (2361) وابن حبان (3577) والدارمي والبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري.(1/52)
قال القاضي أبو الطيب: يحتمل أن يكون الله تعالى أوحى إليه أنه إن واصل هذه الصلاة معهم، فرضت عليهم.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدع العمل، وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيُفرض عليهم"(1).
ومن ذلك حديث الحولاء بنت تويت؛ قالت عائشة رضي الله عنها: "دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي امرأة فقال: من هذه؟ فقلت: امرأة لا تنام تصلي. فقال - صلى الله عليه وسلم - : لا تنام الليل! خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا"(2).
فأعاد لفظ: لا تنام، منكراً عليها -والله أعلم- غير راض فعلها، لما خافه عليها من الكلل والسآمة، أو تعطيل حق آكد.
ونحوه حديث أنس رضي الله عنه قال: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد
-وحبل ممدود بين سارتين- فقال: ما هذا؟ قالوا: حبل لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حلُّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد"(3).
__________
(1) رواه البخاري (1128) ومسلم (718) أبو داود (1293) وابن حبان (313) ومالك في الموطأ، في صلاة الضحى، وأحمد (6/178) والبيهقي (3/50).
(2) رواه مسلم (785) والنسائي (3/218) وابن حبان (359، 2586) وأحمد (6/247) وعبد الرزاق (20566) والطبراني في الكبير (564) والبيهقي (3/17).
(3) رواه البخاري (1150) ومسلم (784) وأبو داود (1312) والنسائي في المجتبى (3/218) وفي الكبرى (1306) وابن ماجة (1371) وابن خزيمة (1180) وابن حبان (2492) وأحمد (3/101) والطبراني في الأوسط (8890)، وانظر الاختلاف في الفتح، هل هي زينب أم المؤمنين، أم أختها حمنة بنت جحش.(1/53)
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أني أصوم أسرد، وأصلي الليل، فإما أرسل إليَّ، وإما لقيته: فقال: ألم أُخبَر أنك تصوم لا تفطر، وتصلي الليل؟ فلا تفعل، فإن لعينك حظاً، ولنفسك حظاً، ولأهلك حظاً، فصم وأفطر وصل ونم ... " الحديث(1).
وعن أنس رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها. فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال الآخر: إني أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: إني أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"(2).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي بجملتها تدل على الأخذ في التسهيل والتيسير، وإنما يتصور ذلك على الوجه الأول من عدم الالتزام، وإن تصور مع الالتزام فعلى جهة ما لا يشق الدوام فيه حسبما نفسره الآن.
فأما إن التزم أحد ذلك التزاماً، فعلى وجهين:
إما على جهة النذر، وذلك مكروه ابتداءً:
__________
(1) رواه البخاري (1975: 1980) ومسلم (1159) والنسائي في المجتبى (4/209: 217) وفي الكبرى (2698) وابن حبان (3638) والبزار (2341، 2346 البحر الزخار) والبيهقي في السنن في الصيام، وفي الشعب (3878) والطبراني في الأوسط (8997) وأحمد.
(2) تقدم قريباً.(1/54)
ألا ترى إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً ينهانا عن النذر، يقول: إنه لا يردُّ شيئاً، وإنما يستخرج به من الشحيح"(1). وإنما ورد هذا الحديث –والله أعلم- تنبيهًا على عادة العرب فى أنها كانت تنذر، إن شفى الله مريضى فعلىَّ صوم كذا، وإن قدم غائبى، أو إن أغنانى الله فعلىَّ صدقة كذا، فيقول لا يغنى من قدر الله شيئًا، بل من قدَّر الله له الصحة، أو المرض، أو الغنى أو الفقر، أو غير ذلك، فالنذر لم يوضع سببًا لذلك، كما وضعت صلة الرحم سببًا فى الزيادة فى العمر مثلاً على الوجه الذى ذكره العلماء، بل النذر وعدمه فى ذلك سواء، ولكن الله يستخرج به من البخيل بشرعية الوفاء به لقوله تعالى: { وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم } (2) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (من نذر أن يطيع الله فليطعه)(3) وبه قال جماعة من العلماء كمالك والشافعى.
ووجه النهي: أنه من باب التشديد على النفس، وهو الذي تقدم الاستشهاد على كراهته.
__________
(1) رواه البخاري (6608، 6692) ومسلم (1639) وأبو داود (3287) والترمذي (2087) والنسائي في المجتبى (7/16) وفي الكبرى (4744) والدارمي (2/185) وعبد الرزاق (15846) والبيهقي في السنن في النذور، وفي الشعب (4350). ورواه الشيخان بنحوه من حديث أبي هريرة.
(2) ... النحل: 91.
(3) ... صحيح أخرجه البخارى فى كتاب "الإيمان" باب "النذور فى الطاعة" (11/حديث (6696) ص:584) ومالك فى الموطأ كتاب "النذور والإيمان" باب "ما لا يجوز من النذور" (2/476) كلاهما من حديث عائشة رضى الله عنها.(1/55)
وإما على جهة الالتزام غير النذري، فكأنه نوع من الوعد، والوفاء بالعهد مطلوب، فكأنه أوجب على نفسه ما لم يوجبه عليه الشرع، فهو تشديد أيضاً، وعليه يأتي ما تقدم من حديث الثلاثة الذين أتوا يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقولهم: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ... إلخ، وقال أحدهم: أما أنا فأفعل كذا ... إلخ.
ونحوه وقع في بعض الروايات: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُخبر أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت"(1)، وليس بمعنى النذر، إذ لو كان كذلك لم يقل له: "صُم من الشهر ثلاثة أيام، صم كذا"، ولقال له: أوفِ بنذرك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"(2).
فأما الالتزام بالمعنى النذري فلا بد من الوفاء به وجوباً لا ندباً -على ما قاله العلماء- وجاء في الكتاب والسنة ما يدل عليه، وهو مذكور في كتب الفقه، فلا نطيل به.
وأما المعنى الثاني، فالأدلة تقتضي الوفاء به في الجملة، ولكن لا تبلغ مبلغ الإيجاب وإن بلغت مبلغ العتاب على الترك -حسبما دلت عليه الأدلة في مأخذ أبي أمامة رضي الله عنه، للقيام في المسجد جماعة- كان ذلك بصورة النوافل الراتبة المقتضية للدوام في القصد الأول، فأمرهم بالدوام حتى لا يكونوا كمن عاهد ثم لم يوفِ بعهده فيصير معاتباً، لكن هذا القسم على وجهين:
__________
(1) تقدم قريباً، وهذه رواية النسائي، وابن حبان (352) وأوسط الطبراني (3859).
(2) رواه البخاري (6696) وأبو داود (3289) والنسائي في المجتبى (7/17) وفي الكبرى (4748) وابن ماجة (2126) والترمذي (1526) والدارمي (2/184) وابن خزيمة (2241) وابن حبان (4389) والبيهقي في السنن (9/231)، وفي الشعب (4349) والطبراني في الأوسط (6364) ومالك في الموطأ في النذور، والشافعي (2/74) وأحمد (6/36) من حديث عائشة.(1/56)
الوجه الأول: أن يكون في نفسه مما لا يطاق، أو مما فيه حرج أو مشقة فادحة، أو يؤدي إلى تضييع ما هو أولى، فهذه هي الرهبانية التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من رغب عن سنتي فليس مني"، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله.
والوجه الثاني: أن لا يكون في الدخول فيه مشقة ولا حرج، ولكنه عند الدوام عليه تلحق بسببه المشقة والحرج، أو تضييع ما هو آكد، فهاهنا أيضاً يقع النهي ابتداءً، وعليه دلت الأدلة المتقدمة. وجاء في بعض روايات مسلم تفسير ذلك، حيث قال: فشدَّدتُ فشُدِّد عليّ، وقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إنك لا تدري لعلك يطول بك عُمُر".
فتأملوا! كيف اعتبر في التزام ما لا يلزم ابتداءً، أن يكون بحيث لا يشق الدوام عليه إلى الموت!.
"قال: فصرتُ إلى الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما كبرت ودِدت أنني قبلت رخصةَ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - "(1).
وعلى ذلك المعنى ينبغي أن يُحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة رضي الله عنه: "كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: ويطيق أحد ذلك؟، ثم قال في صوم يوم وإفطار يوم: وددت أني طُوِّقت ذلك"(2) فمعناه -والله أعلم- وددت أني طوقت الدوام عليه، وإلا فقد كان يواصل الصيام ويقول: "إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي ـ يطعمني ويسقيني".
__________
(1) هذا والذي قبله جزء من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم تخريجه قريباً.
(2) رواه مسلم (1162) وابن خزيمة (2111) وأبو داود (2425) وابن ماجة (1713).(1/57)
وفي الصحيح: "كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم"(1).
فصل
إذا ثبت هذا، فالدخول في عمل على نية الالتزام له: إن كان في المعتاد بحيث إذا داوم عليه أورث مللاً، ينبغي أن يعتقد أن هذا الالتزام مكروه ابتداءً، إذ هو مؤد إلى أمور جميعها منهي عنه:
أحدها: أن الله ورسوله أهدى في هذا الدين التسهيل والتيسير: وهذا الملتزم يشبه من لم يقبل هديته، وذلك يضاهي ردَّها على مهديها، وهو غير لائق بالمملوك مع سيده، فكيف يليق بالعبد مع ربه؟!.
والثاني: خوف التقصير أو العجز عن القيام بما هو أولى وآكد في الشرع: وقال - صلى الله عليه وسلم - إخباراً عن داود عليه السلام: "إنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يَفِرّ إذا لاقى"(2)، تنبيهاً على أنه لم يضعفه الصيام عن لقاء العدو فيفر ويترك الجهاد في مواطن تكبده بسبب ضعفه.
وقيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنك لتقل الصوم! فقال: إنه يشغلني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب إليَّ منه.
ولذلك كره مالك إحياء الليل كله، وقال: لعله يصبح مغلوباً، وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة، ثم قال: لا بأس به ما لم يضر بصلاة الصبح.
__________
(1) رواه من حديث عائشة: البخاري (1969) ومسلم (1156) وأبو داود (2434) وابن ماجة (1710) والنسائي (4/199) وفي الكبرى (2487) وابن خزيمة (1163) وابن حبان (3637) وعبد الرزاق (7859) وابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي. ورواه من حديث ابن عباس: البخاري (1971) أبو داود (2430: صحيح) وابن ماجة (1711) والنسائي (4/199) وفي الكبرى (2655) وابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي. ورواه البخاري (1972) من حديث أنس.
(2) وهو من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم قريباً.(1/58)
وقد جاء في صيام يوم عرفة "أنه يكفر سنتين"(1)، ثم إن الإفطار فيه للحاج أفضل، لأنه قوة على الوقوف والدعاء، ولابن وهب في ذلك حكاية، وقد جاء في الحديث: "إن لأهلك عليك حقاً، ولزوَّارك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً"(2)، فإذا انقطع إلى عبادة لا تلزمه في الأصل، فربما أخل بشيء من هذه الحقوق. وهذا الحديث قد جمع التنبيه على حق الأهل بالوطء والاستمتاع، وما يرجع إليه، والضيف بالخدمة والتأنيس والمؤاكلة وغيرها، والولد يالقيام عليهم بالاكتساب والخدمة، والنفس بترك إدخال المشقات عليها، وحق الرب سبحانه بجميع ما تقدم، وبوظائف أخر، فرائض ونوافل آكد مما هو فيه، والواجب أن يعطى لكل ذى حق حقه.
والثالث: خوف كراهية النفس لذلك العمل الملتزم: لأنه قد فرض من جنس ما يشق الدوام عليه، فتدخل المشقة بحيث لا يقرب من وقت العمل إلا والنفس تشمئز منه، وتود لو لم تعمل، أو تتمنى لو لم تلتزم.
__________
(1) رواه من حديث أبي قتادة: مسلم (1162) والترمذي (749) والنسائي في الكبرى (2806) وابن ماجة (1730) وابن خزيمة (2087) وعبد الرزاق (7828) والبيهقي وابن ابي شيبة والحاكم. وانظر ما قاله ابن حبان في التقوِّي للدعاء لهذا اليوم للحاج (8/369).
(2) وهو من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم قريباً عند الشيخين وغيرهما، وجاء مثل هذا القدر الذي ذكره المصنف من حديث سلمان مع أبي الدرداء: رواه البخاري (1968) والترمذي (2413) وابن خزيمة (2144) من حديث أبي جحيفة. وقد روي من قصة عثمان بن مظغون: رواه أبو داود (1369: صحيح) من حديث عائشة، وابن حبان (316) من حديث أبي موسى، والدارمي (2/133) من حديث سعد بن أبي وقاص.(1/59)
خرَّج مسلم عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه ومعاذاً إلى اليمن، فقال: "بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تختلفا"(1).
وعنه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا"(2)، وعن بريدة الأسلمي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي، فقال: من هذا؟ فقلت: هذا فلان، فذكرت من عبادته وصلاته، فقال: إن خير دينِكم أيسرُه"(3).
__________
(1) رواه البخاري (3038) ومسلم (1733) وابن حبان (5373) وأبو عوانة (6559) وعبد الرزاق (5959) من طريق أبي بردة: وهو ابن أبي موسى الأشعري، روى عن أبيه، ورواه الدارمي (1/73) من حديث ابن عمر: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذاً وأبا موسى إلى اليمن...
(2) رواه مسلم (1732) من حديث أبي موسى، ورواه بنحوه هو (1734) والبخاري (69) والنسائي في الكبرى (5890) من حديث أنس، ونحوه عند ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس.
(3) ضعيف الإسناد: فيه رجاء بن أبي رجاء مجهول الحال، رواه أحمد (4/338) والبخاري في كتابه الأدب المفرد (341)، وحسنه الألباني في تخريج الأدب المفرد، وكذلك في الصحيحة (1635)، وضعفه محققوا مسند الرسالة (31/313 – ح 18976) لجهالة رجاء، وقالوا: وقوله: "إن خير دينكم أيسره" حسن لغيره. يعني لشواهده. وعند أحمد شاهد لهذه الجملة من حديث أبي قتادة عن الأعرابي (3/479) وصحح إسناده ابن حجر في الفتح: الإيمان، باب الدين يسر، وعند الطبراني في الصغير (1068) من حديث أنس. وكرر هذه الجملة مرتين في الأدب وعند أحمد، وعنده: فأثنيت عليه خيراً، فقال: اسكت لا تسمعه فتهلكه، ثم ذكر الحديث. وعند البخاري: فأخذت أطريه..، والحديث رواه أيضاً الطبراني في الكبير (20/ح 705 )، ورواه من طريق أخرى (18/ح 573)، وانظر: مجمع الزوائد (1/61، 3/308).(1/60)
وهذا يشعر بعدم الرضا بتلك الحالة، وإنما ذلك مخافة الكراهية للعمل، وكراهية العمل مظنة للترك الذي هو مكروه لمن ألزم نفسه، لأجل نقض العهد.
وهو الوجه الرابع: وهو الذي دل عليه قول الله تعالى: { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } على التفسير المذكور.
والخامس: الخوف من الدخول تحت الغلو في الدين: فإن الغلو هو المبالغة في الأمر، ومجاوزة الحد فيه إلى حيز الإسراف، قال الله عز وجل: { يا أهلَ الكتابِ لا تَغْلوا في دينِكم } (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، غداة العقبة: اجمع لي حصيات من حصى الحذف، فلما وضعتهن في يده قال: بأمثال هؤلاء، بأمثال هؤلاء، إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"(2).
__________
(1) ... المائدة: 77.
(2) صحيح: رواه النسائي (5/268) وابن ماجة (3029) وأحمد (1/215) وابن حبان (3871) والبيهقي (5/127) والحاكم (1/446) وابن خزيمة (2867) وأبو يعلى (2427) والطبراني في الكبير (12747)، ورواه في الأوسط (2210) من حديث ابن عباس عن الفضل.(1/61)
والأدلة في هذا المعنى كثيرة، جميعها راجع إلى أنه لا حرج في الدين، والحرج كما ينطلق(1) على الحرج الحالي -كالشروع في عبادة شاقة في نفسها- كذلك ينطلق على الحرج المآلي إذ كان الحرج لازماً مع الدوام، كقصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وغير ذلك - مما تقدم - مع أن الدوام مطلوب حسبما اقتضاه قول أبي أمامة رضي الله عنه في قوله تعالى: { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل"(2) فلذلك "كان - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل عملاً أثبته"(3)، حتى قضى ركعتى ما بين الظهر والعصر بعد العصر(4).
فالحاصل أن هذا القسم، الذي هو مظنة للمشقة عند الدوام، مطلوب الترك لعلة أكثرية، ففهم عند تقريره أنها إذا فقدت، زال طلب الترك، وإذا ارتفع طلب الترك، رجع إلى أصل العمل، وهو طلب الفعل.
فالداخل فيه على التزام شرطه، داخل في مكروه ابتداءً من وجه، لإمكان عدم الوفاء بالشرط، وفي المندوب إليه حملاً على ظاهر العزيمة على الوفاء، فمن حيث الندب: أمره الشارع بالوفاء، ومن حيث الكراهية: كره له أن يدخل فيه.
__________
(1) ... كذا فى الأصل، ولعلها: "يطلق" أو "ينطبق".
(2) رواه مسلم (783) وأبو داود (1368) وابن حبان (2444) والنسائي (3/222) وفي الكبرى (838)، ورواه البخاري (6097) والترمذي (2856) وابن خزيمة (1283) كلهم من حديث عائشة، وفي بعض هذه الروايات: أحب العمل إلى الله، وفي بعضها: إلى رسول الله، وفي بعضها الجمع بين دوام العمل وإن قل وبين إثباته. ورواه النسائي (3/222) وفي الكبرى (1359) من حديث أم سلمة، ورواه ابن ماجة (4240) من حديث أبي هريرة.
(3) انظر تخريجه في الذي قبله.
(4) تقدم تخريجه قريباً.(1/62)
وحين صارت الكراهة هي المقدمة، كان دخوله في العمل لقصد القربة يشبه الدخول فيه بغير أمر، فأشبه المبتدع الداخل في عبادة غير مأمور بها، فقد يستسهل بهذا الاعتبار إطلاق البدعة عليها كما استسهله أبو أمامة رضي الله عنه.
ومن حيث كان العمل مأموراً به ابتداءً قبل النظر في المآل، أو مع قطع النظر عن المشقة، أو مع اعتقاد الوفاء بالشرط، أشبه صاحبه من دخل في نافلة قصداً للتعبد بها، وذلك صحيح جارٍ على مقتضى أدلة الندب، ولذلك أُمر بعد الدخول فيه بالوفاء، كان نذراً، أو التزاماً بالقلب غير نذر، ولو كان بدعة داخلة في حد البدعة، لم يؤمر بالوفاء، ولكان عمله باطلاً.
وأيضاً فإذا كان الداخل مأموراً بالدوام، لزم من ذلك أن يكون الدخول طاعة بل لا بد، لأن المباح -فضلاً عن المكروه والمحرم- لا يؤمر بالدوام عليه، ولا نظير لذلك في الشريعة، وعليه يدل قوله - صلى الله عليه وسلم - : "من نذر أن يطيع الله فليطعه"(1)، ولأن الله مدح من أوفى بنذره في قوله سبحانه: { يُوفونَ بالنَّذْرِ } (2) في معرض المدح وترتب الجزاء الحسن.
وفي آية الحديد: { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرَهم } (3)، ولا يكون الأجر إلا على مطلوب شرعاً.
فتأملوا هذا المعنى! فهو الذي يجري عليه عمل السلف الصالح رضي الله عنهم بمقتضى الأدلة، وبه يرتفع إشكال التعارض الظاهر لبادي الرأي، حتى تنتظم الآيات والأحاديث وسِيَر من تقدم، والحمد لله.
غير أنه يبقى بعدها إشكالان قويَّان، وبالنظر في الجواب عنهما ينتظم معنى المسألة على تمامه، فنعقد في كل إشكال فصلاً.
فصل
( الإشكال الأول:
إن ما تقدم من الأدلة على كراهية الالتزامات التي يشق دوامها معارض بما دل على خلافه:
__________
(1) تقدم تخريجه في هذا الباب.
(2) ... الإنسان: 7.
(3) ... الحديد: 27.(1/63)
فقد "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم حتى تورمت قدماه، فيقال له: أو ليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً".
"ويظل اليوم الطويل في الحر الشديد صائماً".
"وكان - صلى الله عليه وسلم - يواصل الصيام ويبيت عند ربه يطعمه ويسقيه"(1) ونحو ذلك من اجتهاده في عبادة ربه، وفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة، ونحن مأمورون بالتأسي به.
فإن أبيتم هذا الدليل بسبب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصاً بهذه القضية، ولذلك كان ربه يطعمه ويسقيه، وكان يطيق من العمل ما لا تطيقه أمته، فما قولكم فيما ثبت من ذلك عن الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين العارفين بتلك الأدلة التي استدللتم بها على الكراهية؟
حتى أن بعضهم قعد من رجليه من كثرة التبتل، وصارت جبهة بعضهم كركبة البعير من كثرة السجود.
__________
(1) أما قيامه - صلى الله عليه وسلم - : فرواه من حديث المغيرة: البخاري (4836) ومسلم (2819) والترمذي (412) والنسائي (3/219) وفي الكبرى (1325) وابن ماجة (1419) وابن خزيمة (1182) وابن حبان (311) وعبد الرزاق (4746) والبيهقي. ومن حديث عائشة: رواه البخاري (4837) ومسلم (2820). وذكر الهيثمي في المجمع (2/271) أنه رواه عن أنس أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط، وعن ابن مسعود في الأوسط، وعن أبي هريرة البزار، وعن النعمان بن بشير الأوسط، وعن أبي جحيفة الطبراني في الكبير. ورواه كذلك ابن ماجة (1420) وابن خزيمة (1184) عن أبي هريرة.
وأما صيامه في الحر الشديد: فرواه من حديث أبي الدرداء: مسلم (1122) وأبو داود (2409) وابن ماجة (1663) والطحاوي (2/68) والبيهقي (4/245) وأحمد (5/194).
وأما وصاله: فتقدم في نفس الباب.(1/64)
وجاء عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله(1).
وكم من رجل صلى الصبح بوضوء العشاء، كذا كذا سنة، وسرد الصيام كذا وكذا سنة، وكانوا هم العارفين بالسنة لا يميلون عنها لحظة.
وروي عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهما كانا يواصلان الصيام(2).
وأجاز مالك -وهو إمام في الاقتداء - صيام الدهر، يعني إذا أفطر أيام العيد.
__________
(1) رواه عبد الرزاق (5952) والبيهقي في السنن في الصلاة، باب: الوتر بركعة، وفي الشعب (2183)، كما رواه في السنن والشعب (2184) عن تميم الداري. ورواه ابن أبي الدنيا في "التهجد" عن سعيد بن جبير (198- 205).
(2) نقل الحافظ في الفتح (4/240): روى أبي شيبة [قي باب: من رخص في الوصال للصائم] بإسناد صحيح عنه [عبد الله بن الزبير] أنه كان يواصل خمسة عشر يوماً، وذهب إليه من الصحابة أيضا أخت أبي سعيد [روى ذلك عنها ابن أبي شيبة]، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي نعم، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم بن زيد التيمي، وأبو الجوزاء كما نقله أبو نعيم في ترجمته في الحلية وغيرهم، رواه الطبري وغيره. وأشار الترمذي إلى مواصلة عبد الله بن الزبير، دون أن يسوق سنده، وذلك عقب حديث الوصال (778).(1/65)
وعن انس بن مالك رضي الله عنه، أن امرأة مسروق قالت: كانت يصلي حتى تورمت قدماه، فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه(1).
والآثار في هذا المعنى كثيرة عن الأولين، وهي تدل على الأخذ بما هو شاق في الدوام، ولم يعدهم أحد بذلك مخالفين للسنة، بل عدوهم من السابقين، جعلنا الله منهم.
__________
(1) ... هو: مسروق بن الأجدع: الإمام القدوة العلم، أبو عائشة الوادعي الهمداني الكوفي، حدث عن جمع من الصحابة، أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه من المخضرمين من كبار التابعين، قال أبو بكر الخطيب: سمي بذلك لأنه سرق صغيراً ثم وُجِد. قال أحمد بن حنبل: قال ابن عيينة: بقي مسروق بعد علقمة لا يفضل عليه أحد، وقال يحيى بن معين: مسروق ثقة لا يسأل عن مثله، وسأل عثمان بن سعيد يحيى عن مسروق وعروة في عائشة فلم يخير. وقال علي بن المديني: ما أقدم على مسروق أحداً من أصحاب عبد الله صلى خلف أبي بكر ولقي عمراً وعلياً، ولم يرو عن عثمان شيئاً. وقال العجلي: تابعي ثقة كان أحد أصحاب عبد الله الذين يقرئون ويفتون، وكان يصلي حتى ترم قدماه. وعن الشعبي قال: غشي على مسروق في يوم صائف، وكانت عائشة قد تبنته، فسمى بنته عائشة، وكان لايعصي ابنته شيئاً، قال: فنزلت إليه فقالت: يا أبتاه أفطر واشرب، قال: ما أردت بي يا بنية؟ قالت: الرفق، قال: يا بنية إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. قال أبو نعيم: مات سنة اثنتين وستين، وقال يحيى بن بكير وابن سعد وابن نمير: مات سنة ثلاث وستين. (انظر السير 4/63 وقد ذكر قصة امرأته وبكاءها لحاله عند صلاته).(1/66)
وأيضاً فإن النهي ليس عن العبادة المطلوبة، بل هو عن الغلوّ فيها، غلواً يُدخل المشقة على العامل، فإذا فرضنا من فقدت في حقه تلك العلة، فلا ينتهض النهي في حقه، كما إذا قال الشارع: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"(1)، وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الحجج، اطرد النهي مع كل مشوّش، وانتفى عند انتفائه، حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير، الذي لا يمنع من استيفاء الحجج، وهذا صحيح جارٍ على الأصول.
وحال من فقدت في حقه العلة، حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة، فإن الخوف سوطٌ سائق، والرجاء حادٍ قائد، والمحبة سبيل حامل، فالخائف إن وجد المشقة، فالخوف مما هو أشق يحمله على الصبر على ما هو أهون، وإن كان العمل شاقاً، والراجي يعمل وإن وجد المشقة، لأن رجاء الراحة التامة يحمله على الصبر على بعض التعب، والمُحب يعمل ببذل المجهود شوقاً إلى المحبوب، فيسهل عليه الصعب، ويقرب عليه البعيد، فيوهن القُوى، ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة، ولا قام بشكر النعمة، ويَعصرُ الأنفاسَ ولا يرى أنه قضى نَهمَته.
وإذا كان كذلك صح الجمع بين الأدلة، وجاز الدخول في العمل التزاماً مع الإيغال فيه: إما مطلقاً، وإما مع ظن انتفاء العلة، وإن دخلت المشقة فيما بعد، إذا صح من العامل الدوام على العمل، ويكون ذلك جارياً على مقتضى الأدلة وعمل السلف الصالح.
والجواب: أن ما تقدم من أدلة النهي صحيح صريح، وما نقل عن الأولين يحتمل ثلاثة أوجه:
__________
(1) رواه من حديث أبي بكرة: البخاري (7158) ومسلم (1717) وأبو داود (3588) الترمذي (1334) والنسائي (8/237) وفي الكبرى (5983) وابن ماجة (2316) وابن حبان (5063) والشافعي (1/378) والبيهقي (10/105) وأحمد (5/36) وابن أبي شيبة. ورواه أبو يعلى (كما في مجمع الزوائد 4/197) من حديث أم سلمة.(1/67)
أحدها: أن يُحمل على أنهم إنما عملوا على التوسط، الذي هو مظنة الدوام، فلم يلزموا أنفسهم بما لعله يدخل عليهم المشقة حتى يتركوا بسببه ما هو أولى، أو يتركوا العمل، أو يبغضوه لثقله على أنفسهم، بل التزموا ما كان على النفوس سهلاً في حقهم، فإنما طلبوا اليسر لا العسر، وهو الذي كان حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحال من تقدم النقل عنه من المتقدمين، بناء على أنهم إنما عملوا بمحض السنة والطريقة العامة لجميع المكلفين. وهذه طريقة الطبري في الجواب.
وما تقدم في السؤال مما يظهر منه خلاف ذلك، فقضايا أحوال يمكن حملها على وجه صحيح، إذا ثبت أن العامل ممن يقتدى به.
والثاني: يحتمل أن يكونوا عملوا على المبالغة فيما استطاعوا، لكن لا على جهة الالتزام، لا بنذر ولا غيره، وقد يدخل الإنسان في أعمال يشق الدوام عليها ولا يشق في الحال، فيغتنم نشاطه في حالة خاصة، غير ناظر فيها فيما يأتي، ويكون جارياً فيه على أصل رفع الحرج، حتى إذا لم يستطعه تركه ولا حرج عليه، لأن المندوب لا حرج في تركه في الجملة.
ويشعر بهذا المعنى ما في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها، قالت:
"كان رسول الله يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان"(1) الحديث.
ولا يعترض على هذا المأخذ بقوله - صلى الله عليه وسلم - :
"أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل"، "وإنه كان عمله دائماً"(2)، لأنه محمول على العمل الذي يشق فيه الدوام .
__________
(1) تقدم تخريجه في نفس الباب.
(2) تقدم تخريجه في نفس الباب.(1/68)
وأما ما نقل عنهم من إدارة صلاة الصبح بوضوء العشاء وقيام جميع الليل، وصيام الدهر ... ... ونحوه، فيحتمل أن يكون على الشرط المذكور، وهو أن لا يلتزم ذلك، وإنما يدخل في العمل حالاً يغتنم نشاطه، فإذا أتى زمان آخر وجد فيه النشاط أيضاً -وإذا لم يخل بما هو أولى- عمل كذلك، فيتفق أن يدوم له هذا النشاط زماناً طويلاً، وفي كل حالة هو في فسحه الترك، لكنه ينتهز الفرصة مع الأوقات، فلا بعد في أن يصحبه النشاط إلى آخر العمر، فيظنه الظان التزاماً وليس بالتزام.
وهذا صحيح، ولا سيما مع سائق الخوف أو حادي الرجاء أو حامل المحبة، وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة"(1)، فلذلك قام - صلى الله عليه وسلم - حتى تورمت قدماه، وامتثل أمر ربه في قوله تعالى: { قُمِ الليلَ إلا قَليلاً } (2) الآية .
__________
(1) حديث: "حُبب إلىّ من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني الصلاة". رواه من حديث أنس النسائي في المجتبى (7/61) وفي الكبرى (8887) وعبد الرزاق (7939) والحاكم (2/160) وأحمد (3/128، 285) وأبو يعلى (3530) والطبراني في الأوسط (5199) والصغير (741) والبيهقي (7/78) وصححه الألباني في السنن، وقال في تخريج المشكاة (5261) زيادة "ثلاث" لا أصل لها في طرق الحديث، وهي مخلة بالمعنى كما لا يخفى [لأنها تجعل حب الصلاة من أمور الدنيا] وسبقه إلى ذلك القول العراقي في أماليه والحافظ ابن حجر في تخريج الكشاف، وقد سبق هؤلاء ابنُ القيم في الزاد (1/145). وجزؤه الأخير رواه الطبراني في الكبير من حديث المغيرة بن شعبة (20/420) وصححه في صحيح الجامع (3093) – وضعفه السيوطي- وانظر الصحيحة ( 1805)، ورواه ابن سعد (1/398) من حديث عائشة دون ذكر الصلاة، وسنده ضعيف.
(2) ... المزمل: 2.(1/69)
والثالث: أن دخول المشقة وعدمه على المكلف في الدوام أو غيره ليس أمراً منضبطاً، بل هو إضافي مختلف بحسب اختلاف الناس في قوة أجسامهم، أو في قوة عزائمهم، أو في قوة يقينهم، أو نحو ذلك من أوصاف أجسامهم أو أنفاسهم، فقد يختلف العمل الواحد بالنسبة إلى رجلين، لأن أحدهما أقوى جسماً، أو أقوى عزيمة أو يقيناً بالموعد، والمشقة قد تضعف بالنسبة إلى قوة هذه الأمور وأشباهها، وتقوى مع ضعفها.
فنحن نقول: كل عمل يشق الدوام على مثله بالنسبة إلى زيد فهو منهي عنه، ولا يشق على عمرو فلا ينهى عنه.
فنحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقاً عليهم، وإن كان ما هو أقل منه شاقاً علينا، فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجةً لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه، إلا بشرط أن يمتد مناط المسألة فيما بيننا وبينهم، وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله.
وليس كلامنا في هذا لمشاهدة الجميع، فإن التوسط والأخذ بالرفق هو الأولى والأحرى بالجميع، وهو الذي دلت عليه الأدلة، دون الإيغال الذي لا يسهل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم، إلا على القليل النادر منهم.
والشاهد لصحة هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"(1) يريد - صلى الله عليه وسلم - : أنه لا يشق عليه الوصال، ولا يمنعه عن قضاء حق الله وحقوق الخلق(2).
__________
(1) تقدم أول الباب.
(2) لكن لا ينفي هذا أنه يطعمه ربه ويسقيه حال صيامه، لأنه هكذا قال وقوله الصدق، ولا يخدش ذلك في صومه أبداً، لأن هذا طعام لا كسائر الطعام، فهو طعام خاص من الله تعالى لنبيه وصفيه - صلى الله عليه وسلم - ، فلا يأخذ أحكام طعام الدنيا. وبنحو ذلك نقل الحافظ في الفتح (4/244) عن بعض العلماء، ونقل عن الجمهور أن ذلك ليس على الحقيقة.(1/70)
فعلى هذا: من رزق أنموذجاً مما أعطيه - صلى الله عليه وسلم - ، فصار يوغل في العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه فلا حرج.
وأما رده - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن عمرو، فيمكن أن يكون شهد بأنه لا يطيق الدوام، ولذلك وقع له ما كان متوقعاً، حتى قال: "ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "(1)، ويكون عمل ابن الزبير وابن عمر وغيرهما في الوصال جارياً على انهم أعطوا حظاً مما أعطيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا بناء على أصل مذكور في كتاب الموافقات والحمد لله.
وإذا كان كذلك لم يكن في العمل المنقول عن السلف مخالفة لما سبق.
فصل
لكن يبقى النظر في تعليل النهي، وأنه يُقتضي انتفاؤه عند انتفاء العلة، وما ذكروه فيه صحيح في الجملة، وفيه في التفصيل نظر، وذلك أن العلة راجعة إلى أمرين: أحدهما: الخوف من الانقطاع والترك إذا التزم فيما يشق فيه الدوام، والآخر: الخوف من التقصير فيما هو آكد من حق الله وحقوق الخلق.
__________
(1) تقدم تخريجه أول الباب من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.(1/71)
أما الأول: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أصَّل فيه أصلاً راجعاً إلى قاعدة معلومة لا مظنونة، وهي بيان أن العمل المورث للحرج عند الدوام منفي عن الشريعة، كما أن أصل الحرج منفي عنها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بُعِث بالحنيفية السمحة(1)، ولا سماح مع دخول الحرج. فكل من ألزم نفسه ما يلقى فيه الحرج فقد يخرج عن الاعتدال في حق نفسه، وصار إدخاله للحرج على نفسه من تلقاء نفسه، لا من الشارع.
لكن لقائل أن يقول: إن النهي هاهنا معلق بالرفق الراجع إلى العامل.
وإذا روعي حظ النفس، فقد صار الأمر في الإيغال إلى العامل، فله أن لا يمكنها من حظها، وأن يستعملها فيما قد يشق عليها بالدوام -بناءً على القاعدة المؤصلة في أصول الموافقات في إسقاط الحظوظ، فلا يكون إذاً منهياً- على ذلك التقدير.
والجواب: أن حظوظ النفس بالنسبة إلى الطلب بها قد يقال: إنه من حقوق الله على العباد، وقد يقال: إنه من حقوق العباد، فلا ينهض ما قلتم، إذ ليس للمكلف خيرة فيه.
__________
(1) صحيح لغيره: رواه البخاري في الأدب المفرد (287) من حديث ابن عباس، وانظر الصحيحة (881)، ورواه أحمد (2107) والطبراني في الكبير (11572). ورواه من حديث عائشة: أحمد (6/116) وسنده حسن. ورواه من حديث أبي أمامة: أحمد (5/266) وإسناده ضعيف، والطبراني في الكبير (7883). ورواه من حديث ابن عمر: البيهقي في الشعب (2791) والطبراني في الأوسط (798). ورواه من حديث رجل: عبد الرزاق (238). ورواه من حديث جابر: الخطيب البغدادي في تاريخه (7/209). ورواه من حديث أبي بن كعب بلفظ: الحنفية المسلمة لا اليهودية ولا النصرانية ... وأن النبي أقرأه ذلك على أنه قرآن: الترمذي (3793) والحاكم (2/224) وأحمد (5/131) ولكن ضعفه الألباني في السنن، بينما حسن إسناده محققوا مسند الرسالة لأجل عاصم بن بهدلة (35/130) وصححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي.(1/72)
فكما أنه متعبد بالرفق بغيره، كذلك هو مكلف بالرفق بنفسه، ودل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إن لنفسك عليك حقاً) إلى آخر الحديث.
ويدل عليه أنه لا يحل للإنسان أن يبيح لنفسه ولا لغيره دمه، ولا قطع طرف من أطرافه، ولا إيلامه بشيء من الآلام، ومن فعل ذلك أثِم واستحق العقاب، وهو ظاهر.
وإن قلنا: إنه من حق العبد، وراجع إلى خيرته، فليس ذلك على الإطلاق، إذ قد تبين في الأصول أن حقوق العباد ليست مجردة من حق الله.
وأما الثاني: فإن الحقوق المتعلقة بالمكلف على أصناف كثيرة، وأحكامها تختلف حسبما تعطيه أصول الأدلة.
ومن المعلوم أنه إذا تعارض على المكلف حقان، ولم يمكن الجمع بينهما، فلا بد من تقديم ما هو آكد في مقتضى الدليل، فلو تعارض على المكلف واجب ومندوب لقدَّم الواجب على المندوب، وصار المندوب في ذلك الوقت غير مندوب، بل صار واجب الترك عقلاً أو شرعاً، من باب ما لا يتم الواجب إلا به، وإذا صار واجب الترك، فكيف يصير العامل به إذ ذاك متعبِّداً لله به؟!.
ويدخل فيه ما في حديث سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما(1)، إذ كان التزام قيام الليل مانعاً له من أداء حقوق الزوجة، من الاستمتاع الواجب عليه في الجملة، وكذلك التزام صيام النهار.
ومثله لو كان التزام صلاة الضحى أو غيرها من النوافل مخلاً بقيامه على مريضه، المشرف، أو القيام على إعانة أهله بالقوت، أو ما أشبه ذلك.
فالحاصل أن كل من ألزم نفسه شيئاً يشق عليه، فلم يأت طريق البر على حدِّه.
فصل
( إذا ثبت ما تقدم وَرَدَ الإشكالُ الثاني:
وهو أن التزام النوافل التي يشق التزامها مخالفة للدليل، وإذا خالفت، فالمتعبد بها -على ذلك التقدير- متعبد بما لم يشرع وهو عين البدعة، فإما أن تنتظمها أدلة ذم البدعة أو لا:
__________
(1) تقدم تخريجه في الباب في الحاشية، وأنه رواه البخاري وغيره، وقصة أبي الدرداء أشبه بقصة عبد الله بن عمرو، وقد وجِّها توجيهاً مماثلاً.(1/73)
فإن انتظمتها أدلة الذم، فهو غير صحيح لأمرين:
أحدهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كرِه لعبد الله بن عمرو ما كرِه، وقال له: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال له - صلى الله عليه وسلم - : "لا أفضل من ذلك" تركه بعدُ على التزامه(1)، ولولا أن عبد الله فهم منه بعد نهيه الإقرار عليه لما التزمه ودوام عليه، حتى قال: ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وكذلك ما ثبت عن غيره من وصال الصيام وأشباهه.
وإذا كان كذلك،لم يمكن أن يقال: إنها بدعة!.
الثاني: أن العامل بها دائماً بشرط الوفاء، إن التزم الشرط فأداها على وجهها، فلقد حصل مقصود الشارع، فارتفع النهي إذاً، فلا مخالفة للدليل، فلا ابتداع إذاً.
وإن لم يلتزم أداءها: فإن كان باختيار فلا إشكال في المخالفة المذكورة.
وإن كان لعارض مرض أو غيره من الأعذار: فلا نسلم أنه مخالف، كما لا يكون مخالفاً في الواجب إذا عارضه فيه عارض، كالصيام للمريض والحج لغير المستطيع، فلا ابتداع إذاً.
__________
(1) لم يتركه - صلى الله عليه وسلم - على التزامه الأول، بل تركه -بعد أن راجعه عبد الله أكثر من مرة في الصيام- تركه على التزام صوم يوم ويوم. يدل على ذلك رواية مسلم (1159) "لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي من أهلي ومالي" ونحو ذلك عند البخاري في باب: في كم يقرأ القرآن، ولكن بشأن قراءة القرآن لا الصيام. إذن فالمقصود من تأسفه وقوله: ليتني هو ما أرشده إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من صوم ثلاثة أيام كل شهر، فذلك أيسر عليه وأخف في الدوام، ولكنه كان يقول: إني أطيق أفضل من ذلك، فما زال يطلب من النبي المزيد حتى بلغ إلى صوم داود عليه السلام.(1/74)
وأما إن لم تنتظمها أدلة الذم: فقد ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهي عنه، بل هو مما يتعبد به، وليس من قبيل المصالح المرسلة، ولا غيرها مما له أصل على الجملة، وحيئنذ يشمل هذا الأصل كل ملتزَم تعبدي كان له أصل أم لا؟، لكن فحيث يكون له أصل على الجملة لا على التفصيل، كتخصيص ليلة مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقيام فيها، ويومه بالصيام أو بركعات مخصوصة، وقيام ليلة أول جمعة من رجب، وليلة النصف من شعبان، والتزام الدعاء جهراً بآثار الصلوات مع انتصاب الإمام(1)، وما أشبه ذلك مما له أصل جليّ، وعند ذلك ينخرم كل ما تقدم تأصيله.
والجواب:
عن الأول: أن الإقرار صحيح، ولا يمتنع أن يجتمع مع النهي الإرشاد لأمر خارجي، فإن النهي لم يكن لأجل خلل في نفس العبادة، ولا في ركن من أركانها، وإنما كان لأجل الخوف من أمر متوقع، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: إن النهي عن الوصال إنما كان رحمة للأمة. وقد واصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن تبعه في الوصال كالمنكِّل بهم(2)، ولو كان منهياً عنه بالنسبة إليهم لما فعل.
__________
(1) تقدم أن ذلك لم يثبت ص54 رقم (2)، ص203 رقم (2). والمقصود من الدعاء: هو الجماعي مع الإمام إثر المكتوبات.
(2) تقدم في نفس الباب.(1/75)
فانظر كيف اجتمع في الشيء الواحد كونه عبادةً ومنهياً عنه، لكن باعتبارين، ونظيره في الفقهيات: ما يقوله جماعة من المحققين في البيع بعد نداء الجمعة، فإنه نُهى عنه لا من جهة كونه بيعاً، بل من جهة كونه مانعاً من حضور الجمعة، فيجيزون البيع بعد الوقوع، ويجعلونه فاسداً وإن وجد التصريح بالنهي فيه، للعلم بأن النهي ليس براجع إلى نفس البيع، بل إلى أمر يجاوره(1).
فالأمر بالعبادة شيء وكون المكلف يوفي بها أو لا شيء آخر، فإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عمرو رضي الله عنهما على ما التزم دليل صحة ما التزم، ونهيه إياه ابتداء لا يدل على الفساد، وإلا لزم التدافع، وهو محال.
__________
(1) لقوله تعالى في سورة الجمعة { وذروا البيع } ، وذكر النووي في المجموع أن البيع يحرم على من عليه الجمعة، وأن من ساعده ممن لا تلزمه يأثم أيضاً، ولكن البيع صحيح لأن النهي لا يختص بالعقد فلا يمنع من صحته، كالصلاة في الأرض المغصوبة، وذكر أن هذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وقال أحمد وداود في رواية لا يصح البيع. والمسألة طويلة الذيل، وهي مبنية على أمر، وهو: هل النهي يقتضي الفساد؟، والصواب أن في المسألة تفصيل، من حيث انفكاك الجهة، فراجع أقوال أهل العلم فيها، انظر: حاشية المعتمد للشيخ مصطفى بن محمد، كتاب البيوع ص27: 32، الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي (2/1283)، الشرح الممتع للعثيمين (8/203: 205)، معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة لمحمد حسين الجيزاوي (ص415)، مجموع فتاوى ابن تيمية (29/281: 293).(1/76)
إلا أن هاهنا نظراً آخر: وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صار في هذه المسائل كالمرشد للمكلف، وكالمتبرع بالنصيحة عند وجود مظنة الاستنصاح، فلما اتكل المكلف على اجتهاده دون نصيحة الناصح، الأعرف بعوارض النفوس، صار كالمتبع لرأيه مع وجود النص، وإن كان بتأويل، فإن سمي في اللفظ بدعة فبهذا الاعتبار، وإلا فهو متبع للدليل المنصوص من صاحب النصيحة، وهو الدال على الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة.
ومن هنا قيل فيها: إنها بدعة إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أن الدليل فيها مرجوح بالنسبة لمن يشق عليه الدوام عليها، وراجح بالنسبة إلى من وفَّى بشرطها -ولذلك وفَّى بها عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بعد ما ضعف(1)، وإن دخل عليه فيها بعض الحرج حتى تمنى قبول الرخصة- بخلاف البدعة الحقيقية، فإن الدليل عليها مفقود حقيقة، فضلاً عن أن يكون مرجوحاً.
فهذه المسألة تشبه مسألة خطأ المجتهد، فالقول فيهما متقارب، وسيأتي الكلام فيهما إن شاء الله تعالى.
وأما قول السائل في الإشكال: إن التزم الشرط فأدى العبادة على وجهها... إلى آخره، فصحيح، إلا قوله: فإن تركها لعارض فلا حرج كالمريض. فإن ما نحن فيه ليس كذلك، بل ثم قسم آخر، وهو أن يتركها بسبب تسبب هو فيه.
__________
(1) ذكر ذلك مسلم والبخاري، كما في التخريجات السابقة: أنه كان إذا ضعف يفطر ويحسب الأيام التي أفطرها ويقضيها.(1/77)
وأما قوله: ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهي عنه، فليس كما قال، وذلك أن المندوب هو من حيث هو مندوب يشبه الواجب من جهة مطلق الأمر، ويشبه المباح من جهة رفع الحرج على التارك، فهو واسطة بين الطرفين لا يتخلى إلى واحد منهما، إلا أن قواعد الشرع شرطت فى ناحية العمل شرطًا، كما شرطت فى ناحية تركه شرطًا، فشرط العمل به أن لا يدخل به مدخلاً يؤدى إلى الحرج يؤدى إلى انخرام الندب فيه رأسًا، أو انخرام ما هو أولى منه، وما وراء هذا موكول إلى خيرة المكلف، فإن دخل فيه فلا يخلو أن يدخل فيه على قصد انخرام الشرط أو لا، فإن كان كذلك، فهو القسم الذى يأتى إن شاء الله، وحاصله أن الشارع طالبه برفع الحرج، وهو يطالب نفسه بوضعه، وإدخاله على نفسه وتكليفها ما لا يستطاع، مع زيادة الإخلال بكثير من الواجبات والسنن، التي هي أولى مما دخل فيه، ومعلوم أن هذه بدعة مذمومة.
وإن دخل على غير ذلك القصد، فلا يخلو أن يُجرِي المندوب على مجراه أو لا:
فإن أجراه كذلك بأن يفعل منه ما استطاع إذا وجد نشاطاً، ولم يعارضه ما هو أولى مما دخل فيه، فهو محض السنة التي لا مقال فيها، لاجتماع الأدلة على صحة ذلك العمل، إذ قد أُمِر فهو غير تارك، ونهى عن الإيغال وإدخال الحرج فهو متحرز، فلا إشكال في صحته، وهو كان شأن السلف الأول ومن بعدهم.
وإن لم يجره على مجراه، ولكنه أدخل فيه رأي الالتزام والدوام، فذلك الرأي مكروه ابتداءً.
لكن فُهِم من الشرع: أن الوفاء -إن حصل- فهو -إن شاء الله- كفارة النهي، فلا يصدق عليه في هذا القسم معنى البدعة، لأن الله تعالى مدح الموفين بالنذر والموفين بعهدهم إذا عاهدوا(1)، وإن لم يحصل الوفاء تمحَّض وجه النهي، وربما أثِم في الالتزام النذري.
__________
(1) في قوله تعالى { يوفون بالنذر } [الإنسان:7]، وقوله جل شأنه { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } [البقرة:177].(1/78)
ولأجل احتمال عدم الوفاء أطلق عليه لفظ البدعة، لا لأجل أنه عمل بلا دليل عليه، بل الدليل عليه قائم.
ولذلك إذا التزم الإنسان بعض المندوبات، التي يعلم أو يظن أن الدوام فيها لا يوقع في حرج أصلاً -وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة المنبه عليها- لم يقع في نهي، بل في محض المندوبات،كالنوافل الرواتب مع الصلوات، والتسبيح والتحميد والتكبير في آثارها، والذكر اللساني الملتزم بالعشي والإبكار، وما أشبه ذلك مما لا يخل بما هو أولى، ولا يدخل حرجاً بنفس العمل به ولا بالدوام عليه.
وفي هذا القسم جاء التحريض على الدوام صريحاً، ومنه كان جمع عمر رضي الله عنه الناس في رمضان في المسجد، ومضى عليه الناس، لأنه كان أولاً سنة ثابتة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم إنه أقام للناس بما كانوا قادرين عليه ومحبين فيه، وفي شهر واحد من السنة لا دائماً، وموكولاً إلى اختيارهم، لأنه قال: والتي ينامون عنها أفضل(1).
وعلى هذا المعنى جرى كلام أبي أمامة رضي الله عنه مستشهداً بالآية حيث قال: أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم. إنما معناه ما ذكرناه، ولأجله قال: فدوموا عليه(2). ولو كان بدعة على الحقيقة لنهى عنه، ومن هذه الجهة أجرينا الكلام على ما نهى - صلى الله عليه وسلم - عنه من التعبد المخوف الحرج في المآل، واستسهلنا وضع ذلك في قسم البدع الإضافية، تنبيهاً على وجهها ووضعها في الشرع مواضعها، حتى لا يغتر بها مغتر فيأخذها على غير وجهها، ويحتج بها على العمل بالبدعة الحقيقية قياساً عليها، ولا يدري ما عليه في ذلك، وإنما تجشمنا إطلاق اللفظ هنا، وكان ينبغي أن لا يُفعل لولا الضرورة، وبالله التوفيق.
فصل
__________
(1) تقدم ص40 رقم (3)، ص44 رقم (2)، ص178.
(2) تقدم تخريجه أول الباب.(1/79)
قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلَّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين . وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } (1).
روي في سبب نزول هذه الآية أخبار جملتها تدور على معنى واحد، وهو تحريم ما أحل الله من الطيبات تديُّناً أو شبه التديُّن، والله نهى عن ذلك وجعله اعتداءً، والله لا يحب المعتدين.
ثم قرر الإباحة تقريراً زائدة على ما تقرر بقوله: { وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً } ، ثم أمرهم بالتقوى، وذلك مشعر بأن تحريم ما أحلّ الله خارج عن درجة التقوى.
وفي الصحيح عن عبد الله قال: "كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؟ فنهانا عن ذلك، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل"(2)، -يعني ، والله أعلم، نكاح المتعة المنسوخ- ثم قرأ ابن مسعود: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } .
وفي الصحيح: "ردَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التبتل على عثمان بن مظعون، ولو أذن له لاختصينا"(3).
وهذا كله واضح في أن جميع هذه الأشياء تحريمٌ لما هو حلال في الشرع، وإهمال لما قصد الشارع إعماله - وإن كان بقصد سلوك طريق الآخرة(4) - لأنه نوع من الرهبانية في الإسلام.
__________
(1) ... المائدة: 87 – 88.
(2) ... رواه البخاري (4615) ومسلم (1404) والبيهقي (7/79) وابن أبي شيبة (3/454) وابن حبان (4141) والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/24).
(3) ... رواه البخاري (5073) ومسلم (1402) والترمذي (1083) والنسائي (6/58) وفي الكبرى (5323) وابن ماجة (1848) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(4) ... لأنهم رضي الله عنهم كان قصدهم من ذلك الانقطاع لأمور الآخرة من العبادة والطاعة.(1/80)
وإلى منع تحريم الحلال ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم، إلا أنه إذا كان التحريم غير محلوف عليه فلا كفارة، وإن كان محلوفاً عليه ففيه الكفارة، ويعمل الحالف بما أحل الله له(1).
وعلى ذلك جرت الفُتيا في الإسلام: إن كل من حرم على نفسه شيئاً مما أحل الله له فليس ذلك التحريم بشيء، فليأكل إن كان مأكولاً، وليشرب إن كان مشروباً، وليلبس إن كان ملبوساً، وليملك إن كان مملوكاً. وكأنه إجماع منهم منقول عن مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم.
واختلفوا في الزوجة: ومذهب مالك أن التحريم طلاق كالطلاق الثلاث(2)، وما سوى ذلك فهو باطل، لأن القرآن شهد بكونه اعتداء، حتى إنه إن حرَّم على نفسه وطء أمةِ غيره قاصداً به العتق فوطؤها حلال، وكذلك سائر الأشياء: من اللباس والمسكن والصمت والاستظلال والاستضحاء، وقد تقدم الحديث في الناذر للصوم قائماً في الشمس ساكتاً، فإنه تحريم للجلوس والكلام والاستظلال، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالجلوس والتكلم والاستظلال(3).
قال مالك: أمره ليتم ما كان له فيه طاعة، ويترك ما كان عليه فيه معصية.
فتأملوا كيف جعل مالك ترك الحلال معصية! وهو مقتضى الآية في قوله تعالى: { ولا تعتدوا } الآية.
فصل
ويتعلق بهذا الموضع مسائل:
1. إحداها: أن تحريم الحلال وما أشبه ذلك يتصور في أوجه:
__________
(1) ... روى البخاري (4911) وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في الحرام يكفِّر، وقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
(2) ... اختلفت أقوال العلماء في حكم من حرَّم امرأته عليه، حتى بلغها القرطبي ثمانية عشر قولاً، وقال ابن حجر: وزاد غيره عليها. (انظر نيل الأوطار 7/57).
(3) ... رواه البخاري (6704) وابن خزيمة (2241) والدارقطني (4/161) وأبو داود (3300) وابن ماجة (2136) وابن حبان (4385) وعبد الرزاق (15821) من حديث ابن عباس.(1/81)
الأول: التحريم الحقيقي، وهو الواقع من الكفار، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي(1)، وجميع ما ذكر الله تعالى تحريمه عن الكفار بالرأي المحض.
ومنه قوله تعالى: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } (2) وما أشبهه من التحريم الواقع في الإسلام رأياً مجرداً.
الثاني: أن يكون مجرد ترك لا لغرض، بل لأن النفس تكرهه بطبعها، أو لا تذكره حتى تستعمله، أو لا تجد ثمنه، أو تشتغل بما هو آكد، وما أشبه ذلك.
ومنه ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأكل الضَّب لقوله فيه: "إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه"(3)، ولا يسمى مثل هذا تحريماً، لأن التحريم يستلزم القصد إليه، وهذا ليس كذلك.
الثالث: أن يمتنع لنذره التحريم، أو ما يجري مجرى النذر من العزيمة القاطعة للعذر، كتحريم النوم على الفراش سنة، وتحريم الضرع، وتحريم الادخار لغد، وتحريم الليِّن من الطعام واللباس، وتحريم الوطء والاستلذاذ بالنساء في الجملة، وما أشبه ذلك.
__________
(1) ... روى البخاري بسنده (4623) عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة: التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. قال: وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب. والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل، ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت، وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي.
(2) ... النحل: 116.
(3) ... رواه البخاري (2575) ومسلم (1945 وما بعده) وأبو داود (3794) والنسائي (7/197) وفي الكبرى (6653) وابن ماجة (3241) وابن حبان (5263) والبيهقي (9/323) والدارمي من حديث ابن عباس عن خالد بن الوليد.(1/82)
الرابع: أن يحلف على بعض الحلال أن لا يفعله، ومثله قد يسمى تحريماً.
2. المسألة الثانية: أن الآية التي نحن بصددها ينظر فيها على أي معنى يطلق التحريم من تلك المعاني:
أما الأول: فلا مدخل له هاهنا، لأن التحريم تشريع كالتحليل، والتشريع ليس إلا لصاحب الشرع،
وأما التحريم بالمعنى الثاني: فلا حرج فيه في الجملة، لأن بواعث النفوس على الشيء أو صوارفها عنه لا تنضبط بقانون معلوم.
وأما التحريم بالمعنى الثالث والرابع: فيحتمل أن يدخل في عبارة التحريم، فيكون قوله تعالى: { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } قد شمل التحريم بالنذر، والتحريم باليمين، والدليل على ذلك ذكر الكفارة بعدها بقوله تعالى: { فكفارته إطعام عشرة مساكين } إلخ.
3. والمسألة الثالثة: أن هذه الآية يشكل معناها مع قوله تعالى: { كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تُنَزل التوراة } الآية(1)، فإن الله أخبر عن نبي من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أنه حرَّم على نفسه حلالاً، ففيه دليل لجواز مثله.
__________
(1) ... آل عمران: 93.(1/83)
والجواب: أنه لا دليل في الآية، لأن ما تقدَّم يقرر أن لا تحريم في الإسلام، فيبقى ما كان شرعاً لغيرنا منفياً عن شرعنا كما تقرر في الأصول(1).
__________
(1) ... هذه مسألة أصولية مختلف فيها، ففي المسودة لآل تيمية: مسألة: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بنسخه فى أصح الروايتين، وبها قال الشافعى وأكثر أصحابه، وبها قالت الحنفية والمالكية، والثانية: لا يكون شرعاً لنا إلا بدليل واختارها أبو الخطاب وبه قالت المعتزلة والأشعرية، وعن الشافعية كالمذهبين، واختار الأول أبو زيد فيما كان مذكوراً فى القرآن، ثم القائلون بكونه شرعاً لنا منهم من خصه بملة إبراهيم، وهو قول بعض الشافعية، ومنهم من خص ذلك بشريعة موسى، ومنهم من خصه بعيسى لأن شرعه آخر الشرائع قبله، وعندنا أنه لا يختص بذلك بل كان متعبداً بكل ما ثبت شرعاً لأى نبى كان إلى أن يعلم نسخه، وهذا مذهب المالكية. ورجح الشوكاني قول الجمهور: أنه شرع لنا ما لم ينسخ، وبشرط أن يثبت من طريق شرعنا كأن يثبت في القرآن أو ينص عليه رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أو صحابي أسلم من أهل الكتاب، لأن كتب أهل الكتاب اعتراها كثير من التحريف كما هو معلوم (انظر: إرشاد الفحول). ونقل النووي في روضة الطالبين (10/205) أن الأصح عند الشافعية أنه ليس بشرع لنا حتى وإن لم ينسخ. وذكر ابن حجر في الفتح أنه يشترط أن يثبت عن طريق شرعنا على سبيل التقرير والمدح والثناء مع عدم النسخ، لا أن يثبت فحسب.(1/84)
4. والمسألة الرابعة: أن نقول: مما يسأل عنه قوله تعالى: { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } الآية(1)، فإن فيها إخباراً بأنه عليه الصلاة والسلام حرَّم على نفسه ما أحله الله، وقد نزل عليه: { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا } ، ومثل هذا يجلُّ مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مقتضى الظاهر فيه، وأن يكون منهياً عنه ابتداءً ثم يأتيه، حتى يقال له فيه: لِمَ تفعل؟ فلا بد من النظر في هذه المصارف.
__________
(1) ... التحريم: 1.(1/85)
والجواب: أن آية التحريم إن كانت هي السابقة على آية العقود(1)، فظاهر أنها مختصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، إذ لو أريد الأمة - على قول من قال من الأصوليين - لقال: (لم تحرمون ما أحل الله لكم) ؟ كما قال: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } (2)، وهو بيِّن لأن سورة التحريم قبل آية الأحزاب، لذلك لما آلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من نسائه شهراً بسبب هذه القصة(3) نزل عليه في سورة الأحزاب: { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن } (4) إلخ. وأيضاً فيحتمل أن يكون التحريم يمعنى الحلف على أن لا يفعل، والحلف إذا وقع فصاحبه مخير بين أن يترك المحلوف عليه، وبين أن يفعله ويُكفِّر. وقد جاء في آية التحريم: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } (5) فدل على أنه كان يميناً حلف - صلى الله عليه وسلم - بها.
وأما إن فرضنا أن آية العقود هي السابقة على آية التحريم، فيحتمل وجهين كالأول:
أحدهما: أن يكون التحريم في سورة التحريم بمعنى الحلف.
__________
(1) ... يقصد بآية التحريم قوله تعالى { يا أيها النبي لِمَ تحرم ما أحل الله لك } ، وبآية العقود: آية سورة المائدة { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } .
(2) ... الطلاق: 1.
(3) ... تقدم حديث الإيلاء قريباً، وأما سبب آية التحريم: فروت عائشة أن السبب تحريمه للعسل الذي كان يشربه عند زينب: رواه البخاري (4912) ومسلم (1474) وأبو داود (3714) والنسائي (7/13، 71) وفي الكبرى (4737). وروى أنس أن السبب تحريم أمته: رواه النسائي (7/71) وصحح إسناده الحافظ في الفتح، وقال أن يشهد له ما رواه الطبري مرسلاً من حديث زيد بن أسلم.
(4) ... الأحزاب: 28.
(5) ... التحريم: 2.(1/86)
والثاني: أن تكون آية العقود غير متناولة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا } لا تدخل فيه، بناءً على قول من قال بذلك من الأصوليين، وعند ذلك لا يبقى في القضية ما ينظر فيه، ولا يكون للمحتج بالآية متعلق، والله أعلم.
إذا ثبت هذا، فكل من عمل على هذا القصد فعمله غير صحيح، لأنه عاملٌ أما بغير شريعة، لأنه لم يتبع أدلتها، وإما عامل بشرع منسوخ، والعمل بالمنسوخ مع العلم بالناسخ باطلٌ بلا خلاف، لأن الترهب والامتناع من اللذات والنساء وغير ذلك: إن كان مشروعاً ففيما قبل هذه الشريعة من الشرائع، وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"(1) وهو معنى البدعة.
فإن قيل: فقد تقدم من نقل ابن العربي في الرهبانية: أنها السياحة واتخاذ الصوامع للعزلة - قال - وذلك مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان.
وقد بسط الغزالي هذا الفصل في الإحياء عند ذكر العزلة، وذكر في كتاب آداب النكاح من ذلك ما فيه كفاية.
وحاصله أن ذلك مشروع، بل هو الأولى عند عروض العوارض، وعندما يصير النكاح ومخالطة الناس وبالاً على الإنسان، ومؤدياً إلى اكتساب الحرام والدخول فيما لا يجوز، كما جاء في الصحيح من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن)(2)، وسائر ما جاء في هذا المعنى.
__________
(1) ... تقدم ص254.
(2) ... رواه البخاري (19) والنسائي (8/123) وفي الكبرى (11767) وأبو داود (4267) وابن ماجة (3980) وابن حبان (5958) وابن أبي شيبة (7/448) وأحمد (3/30) من حديث أبي سعيد الخدري. ورواه الحاكم (4/458) بنحوه من حديث عبادة بن الصامت. وشعف: بفتحتين، جمع شعفة: وهي رؤوس الجبال.(1/87)
وأيضاً فإن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } (1) والتبتل -على ما قاله زيد بن أسلم- رفض الدنيا، من قولهم: بتلت الحبل بتلاً إذا قطعته، ومعناه انقطع من كل شيء إلا منه.
وقال الحسن وغيره: بتِّل إليه نفسك واجتهد(2). وقال ابن زيد: تفرغ لعبادته. هذا إلى ما جاء عن السلف الصالح من الانقطاع إلى عبادة الله ورفض أسباب الدنيا، والتخلي عن الحواضر إلى البوادي، واتخاذ الخلوات في الجبال والبراري، حتى إن بعض الجبال الشامية قد خصها الله بالأولياء والمنقطعين إلى لبنان ونحوه، فما وجه ذلك؟
فالجواب: أن الرهبانية إن كانت بالمعنى المقرر في شرائع الأُوَل فلا نسلم أنها في شرعنا، لما تقدم من الأدلة على نسخها، كانت لعارض أو لغير عارض، إذ لا رهبانية في الإسلام، وقد ردَّ - صلى الله عليه وسلم - التبتل حسبما تقدم.
وإن كانت بمعنى الانقطاع إلى الله حسبما شرع، وعلى حد ما انقطع إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المخاطَب بقوله: { وتبتل إليه تبتيلاً } فهذا هو الذي نحن في تقريره، وأنه السنة المتبعة والهدي الصالح والصراط المستقيم.
وليس في كلام زيد بن أسلم وغيره في معنى التبتل ما يناقض هذا المعنى، لأن رفض الدنيا ليس بمعنى طرح اتخاذها جملة وترك الاستمتاع بها، بل بمعنى ترك الشغل بها عما كلف الإنسان به من الوظائف الشرعية.
__________
(1) ... المزمِّل: 8.
(2) ... عن مجاهد: تفسير الطبري (29/133).(1/88)
وإذا تقرر هذا، فالفرار من العوارض بالسياحة واتخاذ الصوامع وسكنى الجبال والكهوف، إن كان على شرط أن لا يحرموا ما أحل الله من الأمور التي حرمها الرهبان، بل على حد ما كانوا عليه في الحواضر ومجامع الناس: لا يشددون على أنفسهم بمقدار ما يشق عليهم، فلا إشكال في صحة هذه الرهبانية، غير أنها لا تسمى رهبانية إلا بنوع من المجاز، أو النقل العرفي الذي لم يجرِ عليه معتاد اللغة، فلا تدخل في مقتضى قوله تعالى: { ورهبانيةً ابتدعوها } لا في الاسم ولا في المعنى.
وإن كان على التزام ما التزمه الرهبان، فلا نسلم أنه في هذه الشريعة مندوب إليه ولا مباح، بل هو مما لا يجوز، لأنه كالشرع بغير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلا ينتظمه معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : "من رغب عن سنتي فليس مني".
وأما ما ذكره الغزالي وغيره من تفضيله العزلة على المخالطة ، وترجيح العزبة على اتخاذ أهل عند اعتوار العوارض، فذلك يستمد من أصل آخر لا من هنا.
وبيانه أن المطلوبات الشرعية لا تخلو أن يكون المكلف قادراً على الامتثال فيها مع سلامته عند العمل بها من وقوعه في منهي عنه أو لا، فإن كان قادراً في مجاري العادات بحيث لا يعارضه مكروه أو محرم، فلا إشكال في كون الطلب متوجهاً عليه بقدر استطاعته، على حد ما كان السلف الصالح عليه قبل وقوع الفتن.
فإذا كانت العزلة مؤدية إلى السلامة فهي الأولى في أزمنة الفتن، والفتن لا تختص بفتن الحروب فقط فهي جارية في الجاه والمال وغيرهما من مكتسبات الدنيا، وضابطها ما صدَّ عن طاعة الله، ومثل هذا ما يجري بين المندوب والمكروه، وبين المكروهين.
وإن كانت العزلة مؤدية إلى ترك الجُمُعات والجماعات، والتعاون على الطاعات وأشباه ذلك فإنها[موقعة في المحرم من جهة و] أيضاً سلامة من جهة أخرى، ويقع التوازن بين المأمورات والمنهيات، وكذلك النكاح إذا أدى إلى العمل بالمعاصي ولم يكن في تركه معصية كان تركه أولى.(1/89)
فلا إشكال إذاً على هذا التقرير في كلام الغزالي ولا غيره ممن سلك مسلكه، لأنهم بنوا على أصل قطعي في الشرع، محكم لا ينسخه شيء وليس من مسألتنا بسبيل.
والحاصل: أن مضمون هذا الفصل يقتضي أن العمل على الرهبانية المنفية في الآية بدعة من البدع الحقيقية لا الإضافية، لردّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها أصلاً وفرعاً.
ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفاً أن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلاً - وإن كان قد ثبت أيضاً في الأصول الفقهية على وجه من البرهان أبلغ - فلنبن عليه فنقول:
قد فهم قوم من السلف الصالح وأهل الانقطاع إلى الله ممن ثبتت ولايتهم أنهم كانوا يشددون على أنفسهم، ويلزمون غيرهم الشدة أيضاً والتزام الحرج ديدناً في سلوك طريق الآخرة، وعدوا من لم يدخل تحت هذا الالتزام مقصراً مطروداً ومحروماً، وربما فهموا ذلك من بعض الإطلاقات الشرعية، فرشحوا بذلك ما التزموه، فأفضى الأمر بهم إلى الخروج عن السنة إلى البدعة الحقيقية أو الإضافية.
- فمن ذلك: أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة، أحدهما سهل والآخر صعب، وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حد واحد، فيأخذ بعض المتشددين بالطريق الأصعب الذي يشق على المكلف مثله، ويترك الطريق الأسهل بناء على التشديد على النفس:(1/90)
كالذي يجد للطهارة ماءين: سخناً وبارداً فيتحرى البارد الشاق استعماله، ويترك الآخر، فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه، وخالف دليل رفع الحرج من غير معنى زائد، فالشارع لم يرض بشرعية مثله، وقد قال الله تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } (1) فصار متبعاً لهواه، ولا حجة له في قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء عند الكريهات" الحديث(2)، من حيث كان الإسباغ مع كراهية النفس سبباً لمحو الخطايا ورفع الدرجات، ففيه دليل على أن للإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس، ولا يكون إلا بتحري إدخال الكراهية عليها، لأنا نقول: لا دليل في الحديث على ما قلتم، وإنما فيه أن الإسباغ مع وجود الكراهية، ففيه أمر زائد، كالرجل يجد ماء بارداً في زمان الشتاء ولا يجده سخناً، فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ، وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه، بل في الأدلة المتقدمة ما يدل على أنه مرفوع عن العباد، ولو سلم أن الحديث يقتضيه لكانت أدلة رفع الحرج تعارضه وهي قطعية وخبر الواحد ظني، فلا تعارض بينهما للاتفاق على تقديم القطعي.
ومثل الحديث قول الله تعالى: { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة } الآية(3).
- ومن ذلك: الاقتصار من المأكول على أخشنه وأفظعه لمجرد التشديد لا لغرض سواه، فهو من النمط المذكور فوقه، لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكليف، وهو أيضاً مخالف لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن لنفسك عليك حقاً"(4).
__________
(1) ... النساء: 29.
(2) ... رواه مسلم (251) والترمذي (51) وابن خزيمة (5) وابن حبان (1038) والبيهقي (3/62) من حديث أبي هريرة. ورواه ابن حيان (1039) من حديث جابر.
(3) ... التوبة: 120.
(4) ... تقدم من حديث عبد الله بن عمرو ص261.(1/91)
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكل الطيِّب إذا وجده(1).
وكان يحب الحلواء والعسل(2).
ويعجبه لحم الذراع(3)، ويستعذَب له الماء(4)، فأين التشديد من هذا؟!.
ولا يدخل الاستعمال المباح في قوله تعالى: { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } (5) لأن المراد به الإسراف الخارج عن حد المباح، بدليل ما تقدم.
فإذاً الاقتصار على البشيع في المأكل من غير عذر تنطُّع، وقد مرَّ ما فيه قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية.
__________
(1) ... فكان يأكل لحم الضأن والماعز والإبل، ويتتبع الدباء، ويأكل الثريد، والأقط مع التمر والسمن، والمرق ... إلخ. وكل ذلك في الصحيح.
(2) ... رواه البخاري (5614) ومسلم (1474) وأبو داود (3715) من حديث عائشة، وهو رواية لحديث تحريم العسل المتقدم.
(3) ... رواه البخاري (3340) ومسلم (149) والترمذي (1837) وابن ماجة (3307) والنسائي في الكبرى (6660) من حديث أبي هريرة. ورواه الترمذي من حديث عائشة (1838).
(4) ... صحيح: رواه أبو داود (3735) وابن حبان (5332) وأحمد (6/100) من حديث عائشة. وعند مسلم (2038) والترمذي (2369) قصة الرجل الذي أضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وخرج يستعذب لأهله الماء.
(5) ... الأحقاف: 20. و في حديث الإيلاء: قال عمر: فقلت ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالساً ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا. الحديث، رواه البخاري (4913) ومسلم (1469) والترمذي (3318) من حديث ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم. وانظر لزاماً تفسير القرطبي للآية، وتفسيره لقوله تعالى { قل من حرَّم زينةَ الله التي أخرجَ لعباده والطيباتِ من الرزق } [الأعراف: 32]، وتفسير ابن كثير، وفتح الباري (9/8) أول النكاح. ...(1/92)
- ومن ذلك: الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة، فإنه من قبيل التشديد والتنطُّع المذموم، وفيه أيضاً من قصد الشهرة ما فيه.
وكل ما جاء عن المتقدمين من الامتناع عن بعض المتناولات ليس من هذه الجهة، وإنما امتنعوا منه لعارض شرعي يشهد الدليل باعتباره، كالامتناع من التوسع لضيق الحال في يده، أو لأن المتناول ذريعة إلى ما يكره أو يمنع، أو لأن في المتناول وجه شبهة تفطَّن إليه التارك ولم يتفطن إليه غيره ممن علم بامتناعه. وقضايا الأحوال لا تعارض الأدلة بمجردها، لاحتمالها في أنفسها.
- ومن ذلك: الاقتصار في الأفعال والأحوال على ما يخالف محبة النفوس وحملها على ذلك في كل شيء من غير استثناء، فهو من قبيل التشديد، ألا ترى أن الشارع أباح أشياء مما فيه قضاء نهمة النفس وتمتعها واستلذاذها؟ فلو كانت مخالفتها بِراً لشرع، ولندب الناس إلى تركه، فلم يكن مباحاً، بل مندوب الترك أو مكروه الفعل.
فمن يأتي متعبداً بزعمه بخلاف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسير والأسباب الموصلة إلى محبته، فيأخذ بالأشق والأصعب، ويجعله هو السلم الموصل والطريق الأخص، هل هذا كله إلا غاية في الجهالة، ولف في تيه الضلالة؟ عافانا الله من ذلك بفضله.
فإذا سمعتم بحكاية تقتضي تشديداً على هذا السبيل، أو يظهر منها تنطُّع أو تكلُّف فإما أن يكون صاحبها ممن يعتبر كالسلف الصالح، أو من غيرهم ممن لا يعرف ولا ثبت اعتباره عند أهل الحل والعقد من العلماء، فإن كان الأول فلا بد أن يكون على خلاف ما ظهر لبادي الرأي، كما تقدم، إن كان الثاني فلا حجة فيه، وإنما الحجة في المقتدين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فهذه خمسة في التشديد في سلوك طريق الآخرة يقاس عليها ما سواها.
فصل [في البدع الإضافية]
قد يكون أصل العمل مشروعاً ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب الذرائع ، ولكن على غير الوجه الذي فرغنا من ذكره.(1/93)
وبيانه أن العمل يكون مندوباً إليه - مثلاً - فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية، فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن بأس، ويجري مجراه إذا دام عليه في خاصيته غير مظهر له دائماً، بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم، فهذا صحيح لا إشكال فيه.
وأصله ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإخفاء النوافل والعمل بها في البيوت، وقوله: "أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة"(1) فاقتصر في الإظهار على المكتوبات - كما ترى - وإن كان ذلك في مسجده عليه السلام أو في المسجد الحرام أو في مسجد بيت المقدس، حتى قالوا: إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد الثلاثة بما اقتضاه ظاهر الحديث.
وجرى مجرى الفرائض في الإظهار السنن، كالعيدين والخسوف والاستسقاء وشبه ذلك، فبقي ما سوى ذلك حكمة الإخفاء.
فإذا اجتمع في النافلة أن تلتزم التزام السنن الرواتب، إما دائماً وإما في أوقات محدودة وعلى وجه محدود، وأقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض، أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب فذلك ابتداع.
والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا مجموعاً، وإن أتى مطلقاً من غير تلك التقييدات، فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع، فكيف إذا عارضه الدليل، وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلاً؟.
__________
(1) ... رواه من حديث زيد ابن ثابت البخاري (7290) ومسلم (781) والترمذي (450) والنسائي (3/197) وفي الكبرى (1291) وابن خزيمة (1203) وابن حبان (2491) والبيهقي (3/109) وابن أبي شيبة.(1/94)
ووجه دخول الابتداع هنا: أن كل ما واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة، إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعاً، ثم يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها ومن لا علم عنده أنها سنة، وهذا فساد عظيم، لأن اعتقاد ما ليس بسنة سنة، والعمل بها على حد العمل بالسنة نحو من تبديل الشريعة، كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض، أو بما ليس بفرض أنه فرض، ثم عمل وفق اعتقاده فإنه فاسد، فهب العمل في الأصل صحيحاً، فإخراجه عن بابه اعتقاداً وعملاً، من باب إفساد الأحكام الشرعية.
ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سنناً قصداً، لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض كالأضحية وغيرها [13].
ولأجله أيضاً نهى أكثرهم عن اتباع الآثار(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[13] ... قال د. سعيد بن ناصر الغامدي في "حقيقة البدعة وأحكامها" (ج2 ص20 – 25):
وأصل هذا المعنى فيما رواه البيهقي بسند صحيح، عن أبي سَرِيحة الغفاري، وهو حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: ما أدركت أبا بكر، أو رأيت أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما- كانا لا يضحيان كراهية أن يقتدى بهما.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي البيهقي أيضاً عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: إني لأدع الأضحى وإني لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليّ(2).
__________
(1) ... سيأتي قريباً من فعل عمر رضي الله عنه.
(2) ... فعل أبي بكر وعمر: صحيح: رواه البيهقي (9/265). وقول أبي مسعود: صحيح: رواه البيهقي (9/265): الإرواء 4/355. ...(1/95)
وهذا فهم من الصحابة -رضوان الله عليهم- لأحكام الشريعة، وأن كل عمل له حكمه الذي شرعه الله، فانتقاله إلى حكم أعلى منه، أو أدنى منه لا يكون إلا بأمر الشارع، وعلى هذا الاعتبار يعد هذا الانتقال غير المشروع من البدع الإضافية التي تكاد تعد سنة محضة.
والسبب في اعتبار هذا العمل وأمثاله من البدع الإضافية، التي تكاد تعد سنة محضة هو أن العامل له يخرج العمل عن بابه الذي وضعه الشرع فيه، ويضع له خاصية ليست مشروعة له ... وهذا زيادة على الشرع وتقييد بلا دليل، حتى مع افتراض أن العمل في ذاته صحيحاً فإخراجه عن بابه اعتقاداً وعملاً من باب إفساد الأحكام الشرعية، ومن باب التزود على الشرع والتقديم بين يدي الله ورسوله.
وجميع هذا الذي ينهي عنه من باب سدّ الذرائع الموصولة إلى البدع، وله شواهد وأدلة من فعل السلف -رضوان الله عليهم-، فمن ذلك نهيهم عن اتباع الآثار:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/96)
كما أخرج بن وضاح(1) بسنده عن المعرور بن سويد قال: خرجنا حجاجاً مع عمر بن الخطاب، فعرض لنا في بعض الطريق مسجد فابتدره الناس يصلون فيه، قال عمر: ما شأنهم؟ فقالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال عمر: "أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم باتباعهم مثل هذا،حتى أحدثوها بيعاً، فمن عرضت له فيه صلاة فليصل، ومن لم تغرض له فيه صلاة فليمض.
وخرَّج ابن وضاح أيضاً بطريقين أن عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-... أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة(2).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) ... ابن وضاح: الإمام الحافظ محدث الأندلس مع بقي: أبو عبد الله محمد بن وضاح بن بزيع المرواني، مولى صاحب الأندلس عبدالرحمن بن معاوية الداخل، ولد سنة تسع وتسعين ومئة. ارتحل إلى العراق والشام ومصر وجمع فأوعى. قال ابن حزم كان يواصل أربعة أيام، وقال ابن الفرضي كان عالماً بالحديث بصيراً بطرقه وعلله، كثير الحكاية عن العباد، ورعاً زاهداً صبوراً على نشر العلم، متعففاً. نفع الله أهل الأندلس به، وكان ابن الحباب يعظمه ويصف عقله وفضله ولا يقدم عليه أحداً غير أنه ينكر رده لكثير من الحديث، قال ابن الفرضي: كان كثيراً ما يقول ليس هذا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء ويكون ثابتاً من كلامه. قال: وله خطأ كثير محفوظ عنه، ويغلط ويصحف ولا علم له بالعربية ولا بالفقه. توفي ابن وضاح في المحرم سنة سبع وثمانين ومئتين. (السير 13/445).
(2) ... نهي عمر عن الصلاة مكان النبي: رواه ابن أبي شيبة (2/151)، وقطعه للشجرة التي بويع عندها: رواه ابن أبي شيبة (2/150)، وشكَّك الألباني في " تحذير الساجد" ص137 في صحة هذه القصة، وذكر الحافظ في الفتح (7/513) أن هذه القصة عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر.. ، ونافع لم يدرك عمر فهو منقطع.(1/97)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن هذا الباب كراهة سفيان الثوري ومالك تخصيص سورة الإخلاص بالقراءة دون غيرها في الصلاة، ففي البدع لابن وضاح: أن سفيان سئل عن رجل يكثر قراءة { قل هو الله أحد } ،لا يقرأ غيرها كما يقرأها فكرهه، وقال: إنما أنتم متبعون فاتبعوا الأولين، ولم يبلغنا عنهم نحو هذا، وإنما أنزل القرآن ليقرأ ولا يخص شيء دون شيء.
وفيه عن مالك: أنه سئل عن قراءة { قل هو الله أحد } مراراً في كل ركعة فكره ذلك، وقال هذا من محدثات الأمور التي أحدثوها.
ولا يعارض هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سلوه لأي شيء يصنع ذلك"، فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"أخبروه أن الله يحبه"(1).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ففي هذا الحديث دليل الجواز لا دليل المشروعية هذا أولاً، ثم إن كلام مالك وسفيان منصب على من يقرأها ويخصها بالقراءة دون غيرها، أو يكررها في ركعة واحدة، وكل هذا وإن كان أصله مشروعاً بمثل حديث مسلم وغيره، إلا أنه بهذا الالتزام والتخصيص والمداومة يصبح له حكماً آخر ويصير ذريعة إلى اتخاذ العمل غير المسنون وغير المشروع سنة مشروعة.
__________
(1) ... رواه البخاري (7375) ومسلم (813) وابن حبان (793) والنسائي في الكبرى (1065) من حديث عائشة.
ورواه البخاري بنحوه (774) وابن حبان (792) والدارمي من حديث أنس. ...(1/98)
وهذه الأمثلة التي سبق ذكرها تعتبر بلا شك من الأمور الجائزة أو المندوب إليها، ولكنها تخرج من هذا الحيز بأي نوع من التخصيص غير الشرعي، إلى أن تصبح بدعة أو ذريعة إلى البدعة، وسبب اعتبارها إضافية أنها في أصلها لها دليل قاطع على جوازها أو مشروعيتها، وأنها مخالطة لأعمال مشروعة ولم تصبح وصفاً لازماً لها، وإنما صارت كالسبب الموضوع لاعتقاد البدعة أو للعمل بها على غير السنة أو لتصبح ذريعة إلى البدعة.
وهذا هو وجه تسميتها بدعة إضافية ، ووجه تصنيفها في القسم الثاني من أقسام الإضافية.
بيد أنه لابد من التنبيه على مسألة سد الذرائع هذه، وأنها ليست على إطلاقها فيبدع بأي عمل يظن أو يتوهم أنه يؤدي إلى بدعة ، أو يحكم على كل ذريعة إلى بدعة بأنها من قسم البدع الإضافية وذلك للاعتبارات التالية:
1. أن سد الذرائع أو ترك سدها محل اجتهاد المجتهد .فقد يرى من لا يذهب
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى سد الذريعة في المسألة الفلانية أن العمل عنده مشروع ويكون لصاحبه أجره، أو يرى أنها –أصلاً- ليست بذريعة حتى يجب سدها:وقد يذهب من يراها ذريعة ويوجب سد الذرائع أن هذا العمل ممنوع، وأن صاحبه ملوم على فعله. وعلى هذا فلابد من اعتبار الحكم على العمل بالبدعية أو عدمها من هذا الباب لاسيما في مسألة سد الذرائع هذه.
2. يصح أن يكون العمل مشروعاً أو جائزاً من جهة نفسه ومنهياً عنه من جهة ما يؤدي إليه من مفاسد، أو من جهة مآله.
كقوله تعالى: { ولا تَسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عَدواً بغير علم } (1).
وهناك أحكام فقهيه عديدة علل العلماء فيها الأمر أو النهي بالتذرع وعليه فإدخال ذريعة البدعة في حكم البدعة من السائغ المقبول شرعاً، وإن كان الأمر المتذرع به مشروعاً أو جائزاً من جهة نفسه.
__________
(1) ... الأنعام: 108.(1/99)
3. تختلف الذرائع في أحكامها باختلاف منازل المتذرع إليه وأصل هذا المعنى في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه. قالوا:يا رسول الله هل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه"(1).
فهذه أمور جائزة أو مندوب إليها، ولكنهم كرهوا فعلها خوفاً من البدعة لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها، وهذا شأن السنة، وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك.
فإن قيل: كيف صارت هذه الأشياء من البدع الإضافية ؟ والظاهر منها أنها بدع حقيقية! لأن تلك الأشياء إذا عمل بها على اعتقاد أنها سنة فهي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فجعل سب الرجل لوالدي غيره بمنزلة سبه لوالديه نفسه، حتى ترجمه عنها بقوله: "أن يسب الرجل والديه".
فعدّ ذلك من أكبر الكبائر، مع أنه لا يمكن أن يقصد الرجل والديه بالسب، ولكن سبه لوالدي الآخر صار ذريعة لسب والديه فعد ساباً لهما.
ففي هذا الحديث عدة فوائد:
منها اعتبار سد الذرائع، ومنها أن حكم ذريعة الشيء يختلف باختلاف ما توصل إليه، وكذلك ذرائع البدع يكون حكمها بحسب ما توصل إليه، فإن كانت توصل إلى بدعة كبيرة فالوسيلة كذلك، وإن كانت توصل إلى بدعة صغيرة فالوسيلة كذلك.
وعليه فلا يعتبر كل ما جاء من باب سد الذرائع في مسألة البدعة من البدع الإضافية التي تقترب من السنة المحضة، بل قد تكون إضافية مقتربة من الحقيقة، وقد تكون حقيقية بحتة، وإنما جاء ما ذكر سلفاً عند القسم الثاني من الإضافية من باب التمثيل. أ.هـ.
حقيقية، إذ لم يضعها صاحب السنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الوجه، فصارت مثل ما إذا صلى الظهر على أنها غير واجبة واعتقدها عبادة فإنها بدعة من غير إشكال.
__________
(1) ... رواه البخاري (5973) وابن حبان (411) وأبو داود (5141) وأحمد (2/164، 216) من حديث عبد الله بن عمرو.(1/100)
هذا إذا نظرنا إليها بمآلها، وإذا نظرنا إليها أولاً فهي مشروعة من غير نسبة إلى بدعة أًصلاً.
فالجواب: أن السؤال صحيح، إلا أن لوضعها أولاً نظرين:
أحدهما: من حيث هي مشروعة فلا كلام فيها.
والثاني: من حيث صارت كالسبب الموضوع لاعتقاد البدعة أو للعمل بها على غير السنة، فهي من هذا الوجه غير مشروعة، لأن وضع الأسباب للشارع لا للمكلف والشارع لم يضع الصلاة في مسجد قباء أو بيت المقدس -مثلاً- سبباً لأن تتخذ سنة فوضع المكلف لها كذلك رأي غير مستند إلى الشرع، فكان ابتداعاً.
وهذا معنى كونها بدعة إضافية، أما إذا استقر السبب وظهر عنه مسببه الذي هو اعتقاد العمل سنة، والعمل على وفقه، فذلك بدعة حقيقية لا إضافية.
وإذا ثبت في الأمور المشروعة أنها قد تعد بدعاً بالإضافة، فما ظنك بالبدع الحقيقية، فإنها قد تجتمع فيها أن تكون حقيقية وإضافية معاً، لكن من جهتين.
فإذاً بدعة (أصبح ولله الحمد) في نداء الصبح ظاهرة، ثم لما عمل بها في المساجد والجماعات مواظباً عليها لا تترك كما لا تترك الواجبات وما أشبهها، كان تشريعاً أولاً يلزمه أن يعتقد فيه الوجوب أو السنة، وهذا ابتداع ثان إضافي، ثم إذا اعتقد فيها ثانياً السنية أو الفرضية صارت بدعة من ثلاثة أوجه.
ومثله يلزم في كل بدعة أظهرت والتزمت، وأما إذا خفيت واختص بها صاحبها فالأمر عليه أخف، فيا لله ويا للمسلمين! ماذا يجني المبتدع على نفسه مما لا يكون في حسابه؟ وقانا الله شرور أنفسنا بفضله.
[سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما]
[وقول القائل:] بأن الترك لا يوجب حكماً في المتروك إلا جواز الترك، غير جارٍ على أصول الشرع الثابتة.
وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسألة أو تركه لأمر ما على ضربين:
أحدهما: أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه ، ولا موجب يقرر لأجله، ولا وقع سبب تقريره.(1/101)
كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين، وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخصوص مما هو معقول المعنى، كتضمين الصنَّاع، ومسألة الحرام والجد مع الأخوة، وعَول الفرائض، ومنه جمع المصحف ثم تدوين الشرائع(1)، وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه عليه السلام إلى تقريره، للتقديم كلياته التي تستنبط بها منها، وإذا لم تقع أسباب الحكم فيها ولا الفتوى بها منه عليه الصلاة والسلام، فلم يذكر لها حكم مخصوص.
__________
(1) ... التضمين من الضمان، وهو التزام بتعويض عن ضرر للغير، والصُّنَّاع: الأجراء، كالخياط يعطى القماش ليصنعه ثوباً.
ومسألة الحرام: وهي تحريم الرجل زوجته، وتقدمت. والجد مع الأخوة: هذا في الميراث، فمن العلماء من جعله كالأب فلم يورث الأخوة في وجوده، ومنهم من أشرك الأخوة معه في الميراث. وأما العَوْل: فهو زيادة سهام الورثة عن أصل المسألة، كاجتماع زوج وأخت وأم، فالجمهور على القول بالعول، وذهب ابن عباس وغيره إلى تقديم الأولى فالأولى ولا عول. وجمع المصحف: كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكتوباً في الرقاع واللخاف والأكتاف والجريد غير مجموع في كتاب واحد لأنه لم يحتج إلى ذلك لأنه كان محفوظاً في الصدور. وجمعه أبو بكر الصديق بمشورة عمر، ثم جمعه الجمع الثاني عثمان بن عفان بمحضر من الصحابة على حرف واحد، وعمل منه نسخاً أرسلها إلى الأمصار وهو المعروف بالمصحف الإمام. وأما تدوين الشرائع: فمثل كتابة الأحاديث في الصحاح والمسانيد والسنن، وتدوين العلوم الشرعية مثل مصطلح الحديث وأصول الفقه والتفسير ونحو ذلك.(1/102)
فهذا الضرب إذا حدثت أسبابه فلا بد من النظر فيه، وإجرائه على أصوله إن كان من العاديات، أو من العبادات التي لا يمكن الاقتصار فيها على ما سمع، كمسائل السهو والنسيان في إجزاء العبادات. ولا إشكال في هذا الضرب، لأن أصول الشرع عتيدة وأسباب تلك الأحكام لم تكن في زمان الوحي، فالسكوت عنها على الخصوص ليس بحكم يقتضي جواز الترك أو غير ذلك، بل إذا عرضت النوازل روجع بها أصولها فوجدت فيها ولا يجدها من ليس بمجتهد، وإنما يجدها المجتهدون الموصوفون في علم أصول الفقه.
والضرب الثاني: أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمراً ما من الأمور، وموجبه المقتضى له قائم، وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت، إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينتقص منه، لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجوداً، ثم لم يشرع ولا نبه على السبطا كان صريحاً في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة ومخالفة لقصد الشارع، إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه.(1/103)
ولذلك مثال فيما نقل عن مالك بن أنس(1)
__________
(1) ... الإمام مالك بن أنس: هو شيخ الإسلام حجة الأمة إمام دار الهجرة: أبو عبد الله مالك ابن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الحميري ثم الأصبحي المدني حليف ابن تيم من قريش، فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة، مولد مالك على الأصح في سنة ثلاث وتسعين عام موت أنس خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، طلب العلم وهو حدث بعيد موت القاسم وسالم، فأخذ عن نافع وسعيد المقبري وعامر بن عبد الله ابن الزبير وابن المنكدر والزهري وعبدالله بن دينار وخلق. وعن أبي صالح عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليضربن الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة" وقد رواه النسائي [في الكبرى 4291، ورواه الترمذي 2680، وابن حبان 3736: ضعيف: الضعيفة/ 4833]. قلت: كان عالم المدينة في زمانه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه: زيد بن ثابت وعائشة، ثم ابن عمر ثم سعيد بن المسيب، ثم الزهري، ثم عبيد الله بن عمر، ثم مالك. وعن ابن عيينة قال: مالك عالم أهل الحجاز وهو حجة زمانة. وقال الشافعي: -وصدق وبر- إذا ذكر العلماء فمالك النجم. ابن وهب عن مالك قال دخلت على المنصور وكان يدخل عليه الهاشميون فيقبلون يده ورجله عصمني الله من ذلك. قال يونس سمعت الشافعي يقول: مالك وابن عيينه القرينان، ولولا مالك وابن عيينه لذهب علم الحجاز. عن شعبه قال قدمت المدينة بعد موت نافع بسنة ولمالك بن أنس حلقه. أيوب قال: لقد كان لمالك حلقة في حياة نافع. محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم من صاحبكم، يريد أبا حنيفة ومالكاً، وما كان لصاحبكم أن يتكلم، وما كان لصاحبنا أن يسكت، فغضبت وقلت: نشدتك الله! من أعلم بالسنة مالك أو صاحبكم؟ فقال: مالك، لكن صاحبنا أقيس..فقلت: نعم ومالك أعلم بكتاب الله وناسخه ومنسوخه وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي حنيفة، ومن كان أعلم بالكتاب والسنة كان أولى بالكلام.
قال الهيثم بن جميل: سمعت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فأجاب في اثنتين وثلاثين منها بـ لا أدري. ابن سعد: حدثنا الواقدي قال: ما دعي مالك وشوور وسمع منه وقبل قوله حسد وبغوة بكل شيء، فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به إليه وكثروا عليه عنده، وقالوا لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت ابن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز عنده، قال فغضب جعفر فدعا بمالك فاحتج عليه بما رفع إليه عنه، فأمر بتجريده وضربه بالسياط، وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه وارتكب منه أمر عظيم. فوالله ما زال مالك بعد في رفعه وعلو. قلت: هذا ثمرة المحنة المحمودة أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا ويعفو الله عن كثير، ومن يرد الله به خيراً يصيب منه. فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظ واستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه، فالله حكمٌ مقسط، ثم يحمد الله على سلامة دينه ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له. عن ابن وهب سئل مالك عن الداعي يقول يا سيدي، فقال: يعجبني دعاء الأنبياء: ربنا ربنا.
قال مالك: أكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم - لجدله. الشافعي يقول: كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال: أما إني على بينة من ديني، وأما أنت فشاكّ اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه.
حدثنا جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك فجاءه رجل فقال يا أبا عبد الله: { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء، ثم رفع رأسه ورمى بالعود وقال: الكيف منه غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة، وأمر به فأخرج.
وقال إسماعيل بن أبي أويس: مرض مالك، فسألت بعض أهلنا عما قال عند الموت؟ قالوا: تشهد ثم قال { لله الأمر من قبل ومن بعد } ، وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة. (السير: 8/48).(1/104)
في سماع أشهب وابن نافع، هو غاية فيما نحن فيه:
وذلك أن مذهبه في سجود الشكر الكراهية وأنه ليس بمشروع، وعليه بنى كلامه.
قال في العتبية: وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكراً ؟ فقال لا يفعل هذا مما مضى من أمر الناس، قيل له: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه – فيما يذكرون – سجد يوم اليمامة شكراً لله(1).
__________
(1) ... عن أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا أتاه أمر يسره أو بشر به خر ساجدًا شكرًا لله تعالى" رواه الخمسة إلا النسائي (أبو داود 2774، والترمذي 1578 وابن ماجة 1394 وأحمد 5/45 والبيهقي 2/370: حسن لشواهده: الإرواء 2/226، وإن كان في سنده مقال).
وعن عبد الرحمن بن عوف رواه أحمد (1/191 والحاكم 1/550 والبيهقي 2/371: وصححه أحمد شاكر، وقال الألباني: له علتان ولكنه حسن بطريقيه).
قال الشوكاني في النيل (3/128): وفي الباب عن أنس عند ابن ماجة (1392) بنحو حديث أبي بكرة، وفي سنده ضعف واضطراب (قال الألباني: لا بأس به في الشواهد، وفيه ابن لهيعة)، وعن جابر عند ابن حبان في الضعفاء، وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص (رواه أبو داود 2775 وفي سنده مجهول)، قال البيهقي: في الباب عن جابر وابن عمر وأنس وجرير وأبي جحيفة. قال المنذري: وقد جاء حديث سجدة الشكر من حديث البراء بإسناد صحيح (البيهقي 2/369 وسنده ضعيف) ومن حديث كعب بن مالك (رواه البخاري 4418 ومسلم 2769 وابن ماجة 1393من فعل كعب لما أتاه البشير بتوبة الله عليه، قال: فخررت ساجداً) وغير ذلك. (ورواه أحمد 1/107 من فعل علي لما وجد ذا الثدية في قتلى النهروان. وعبد الرزاق 5962، والبيهقي 2/371بأسانيد فيها مقال وقد يعضد بعضها بعضاً، وحسنه الألباني. ورواه البيهقي 2/371 من فعل أبي بكر لما فتح اليمامة. وفيه راوٍ لم يسم).
وهذه الأحاديث تدل على مشروعية سجود الشكر، وإلى ذلك ذهبت العترة وأحمد والشافعي، وقال مالك، وهو مروي عن أبي حنيفة أنه يكره، إذ لم يؤثر عنه - صلى الله عليه وسلم - مع تواتر النعم عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي رواية عن أبي حنيفة أنه مباح لأنه لم يؤثر. وإنكار ورود سجود الشكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مثل هذين الإمامين مع وروده عنه صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الطرق التي ذكرها المصنف وذكرناها من الغرائب.
وقال الألباني في الإرواء (2/230): وبالجملة، فلا يشك عاقل في مشروعية سجود الشكر بعد الوقوف على هذه الأحاديث، ولاسيما وقد جرى العمل عليها من السلف الصالح رضي الله عنهم.(1/105)
أفسمعت ذلك؟ قال: ما سمعت ذلك، وأنا أرى أنهم قد كذبوا على أبي بكر. وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول: هذا شيء لم تسمعه مني، قد فتح الله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسلمين بعده، أفسمعت أن أحداً منهم فعل مثل هذا ؟ إذ ما قد كان في الناس وجرى على أيديهم سمع عنهم فيه شيء، فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر، لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم، فهل سمعت أن أحداً منهم سجد ؟ فهذا إجماع، وإذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه، تمام الرواية.
وقد ظهر من العادات الجارية فيما نحن فيه، أن ترك الأولين لأمر ما من غير أن يعينوا فيه وجهاً مع احتماله في الأدلة الجملية، ووجود المظنة، دليل على أن ذلك الأمر لا يعمل به، وأنه إجماع منهم على تركه.
قال ابن رشد في شرح مسألة العتبية: الوجه في ذلك أنه لم يرد مما شرع في الدين - يعني سجود الشكر - فرضاً ولا نفلاً، إذ لم يأمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا فعله، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الأمور.
قال: واستدلاله على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده، بأن ذلك لو كان لنقل صحيح، إذ يصح أن تتوفر الدواعي على ترك نقل شريعة من شرائع الدين، وقد أمر بالتبليغ.(1/106)
قال: وهذا أصل من الأصول، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجود الزكاة فيها، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "فيما سقت السماء والعيون والبَعْل العُشر، وفيما سُقِي بالنضحِ نصف العُشر"(1).
لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها. فكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها. ثم حكي خلاف الشافعي والكلام عليه.
والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة، ولا توجيه أنها بدعة على الإطلاق.
فصل
__________
(1) ... رواه البخاري (1483) والترمذي (640) وأبو داود (1596) والنسائي (5/41) وابن ماجة (1817) وابن حبان (3287) وابن خزيمة (2307) والبيهقي (4/130) والدارقطني (2/129) من حديث ابن عمر. ورواه من حديث جابر مسلم (981) وأبو داود (1597) والنسائي (5/41) وابن خزيمة (2309) والدارقطني (2/130). ورواه من حديث معاذ ابن ماجة (1818) والبيهقي (4/131). ورواه من حديث أبي هريرة الترمذي (639) وابن ماجة (1816).
وأما أنه لا زكاة في الخضر والبقول: فالجمهور على ذلك، لحديث موسى بن طلحة عن معاذ مرفوعاً أنه إنما أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر، رواه الدارقطني (201) والحاكم (1/401) والبيهقي (4/128) وإن كانت أعلت بالإرسال، لكن صححها الألباني من باب الوجادة، وفي بعض الأحاديث التصريح بأنه لا زكاة في الخضر. وذهب أبو حنيفة وغيره إلى أن في الخضر الزكاة لعموم الحديث ولعموم الكتاب { وآتوا حقه يوم حصاده } . وانظر نيل الأوطار (4/203) والإرواء (ح 801) ومصنف ابن أبي شيبة (2/372).(1/107)
ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه، أم غير بدعة فيعمل به؟ فإنا إذا اختبرناه بالأحكام الشرعية وجدناه من المشتبهات التي قد ندبنا إلى تركها حذراً من الوقوع في المحظور(1)، والمحظور هنا هو العمل بالبدعة، فإذاً العامل به لا يقطع أنه عمل ببدعة، كما أنه لا يقطع أنه عمل بسنة، فصار من جهة هذا التردد غير عامل ببدعة حقيقية، ولا يقال أيضاً: إنه خارج عن العمل بها جملة.
__________
(1) ... بقصد حديث النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول -وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه- : "إنَّ الحلال بيِّن، وإنَّ الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" رواه مسلم (1599) والبخاري (52، 2051) وأبو داود (3329) والترمذي (1205) والنسائي (8/327) وفي الكبرى (3/239) وابن ماجة (3984) وأحمد (4/269) وابن حبان (721) والبيهقي (5/264) وفي الشُّعب (5740) والطحاوي في مشكل الآثار (750) والدارمي (2/245) والطبراني في الأوسط (2427، 2285). وروى نحوه من حديث ابن عمر الطبراني في الأوسط (2889)، ورواه هو (1756) وأبو يعلى (1653) من حديث عمار بن ياسر. ورواه الخطيب في التاريخ (9/70) من حديث جابر. ورواه الطبراني في الكبير (10824) من حديث ابن عباس. ورواه النسائي في الكبرى: وقال: جيد (3/468) والبيهقي (10/115) من قول ابن مسعود: وفي الأسانيد كلها مقال عدا حديث النعمان، وانظر مجمع الزوائد (4/73، 10/5293) وشرح ابن رجب الحنبلي للحديث في "جامع العلوم والحكم" الحديث السادس.(1/108)
وبيان ذلك أن النهي الوارد في المشتبهات إنما هو حماية أن يقع في ذلك الممنوع الواقع فيه الاشتباه، فإذا اختلطت الميتة بالذكية نهيناه عن الإقدام، فإن أقدم أمكن عندنا أن يكون آكلاً للميتة في الاشتباه، فالنهي الأخف إذاً منصرف نحو الميتة في الاشتباه، كما انصرف إليها النهي الأشد في التحقق.
وكذلك اختلاط الرضيعة بالأجنبية: النهي في الاشتباه منصرف إلى الرضيعة كما انصرف إليها في التحقق، وكذلك سائر المشتبهات إنما ينصرف نهي الإقدام على المشتبه إلى خصوص الممنوع المشتبه، فإذاً الفعل الدائر بين كونه سنة أو بدعة إذا نهي عنه في باب الاشتباه نهي عن البدعة في الجملة، فمن أقدم على منهي عنه في باب البدعة، لأنه محتمل أن يكون بدعة في نفس الأمر، فصار من هذا الوجه كالعامل بالبدعة المنهي عنها، وقد مر أن البدعة الإضافية هي الواقعة ذات وجهين.
فلذلك قيل: إن هذا القسم من قبيل البدع الإضافية، ولهذا النوع أمثلة:
أحدها: إذا تعارضت الأدلة على المجتهد في أن العمل الفلاني مشروع يتعبد به، أو غير مشروع فلا يتعبد به، ولم يتبين جمع بين الدليلين، أو إسقاط أحدهما بنسخ أو ترجيح أو غيرهما، فقد ثبت في الأصول أن فرضه التوقف، فلو عمل بمقتضى دليل التشريع من غير مرجح لكان عاملاً بمتشابه، لإمكان صحة الدليل بعدم المشروعية، فالصواب الوقوف عن الحكم رأساً، وهو الفرض في حقه.
والثاني: إذا تعارضت الأقوال على المقلد في المسألة بعينها، فقال بعض العلماء: يكون العمل بدعة، وقال بعضهم: ليس ببدعة، ولم يتبين له الأرجح من العَالِمَيْن بأعلمية أو غيرها، فحقه الوقوف والسؤال عنهما، حتى يتبين له الأرجح فيميل إلى تقليده دون الآخرة، فإن أقدم على تقليد أحدهما من غير مرجح كان حكمه حكم المجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح، فالمثالان في المعنى واحد.(1/109)
والثالث: أنه ثبت في الصحاح عن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بأشياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ففي البخاري عن أبي جُحيفة رضي الله عنه قال: "خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به " الحديث، وفيه: كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه(1).
وعن المسور رضي الله عنه في حديث الحديبية: (وما انتخم النبي - صلى الله عليه وسلم - نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده)(2)،
__________
(1) ... رواه البخاري (178، 3553) ومسلم (503) والبيهقي (2/270).
(2) ... رواه البخاري (2731، 2732) والنسائي (1/45) وابن حبان (4872) والبيهقي (9/220) وعبد الرزاق (5/336).
تنبيه: قال الحافظ في الفتح (5/392): هذه الرواية بالنسبة إلى مروان [بن الحكم] مرسلة، لأنه لا صحبة له، وأما المسور [بن مخرمة] فهي بالنسبة إليه أيضا مرسلة، لأنه لم يحضر القصة، وقد تقدم في أول الشروط من طريق أخرى عن الزهري عن عروة أنه سمع المسور ومروان يخبران عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر بعض هذا الحديث (2711، 2712) وقد سمع مسور ومروان من جماعة من الصحابة شهدوا هذه القصة: كعمر وعثمان وعلي والمغيرة وأم سلمة وسهل بن حنيف وغيرهم.أ.هـ. وعليه فالحديث متصل وليس بمرسل، غايته أنه مرسل صحابي أخذه عن صحابي آخر، وقد تبيَّن من رواية البخاري له أول الشروط أنه أخذه عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فثبت اتصاله، ولأجل ذلك صححه الألباني في الإرواء (ح20). ولكن هذا الحديث من الأحاديث الطوال، وبعض فقراته –غير محل الشاهد- مرسلة من طريق الزهري، لكن مجمل الحديث متصل كما بينت.(1/110)
وخرَّج غيره من ذلك كثيراً، في التبرك بشعره وثوبه وغيرهما(1)،
__________
(1) ... أما التبرك بشعره: فرواه من حديث أنس مسلم (1305) قال لما رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة ونحر نسكه وحلق، ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فقال احلق فحلقه، فأعطاه أبا طلحة فقال أقسمه بين الناس. ورواه الترمذي (912) وأبو داود (1981) والنسائي في الكبرى (4116) وابن خزيمة (2928) وابن حبان (1371) والبيهقي (5/134، 7/67).
وكذلك ورد التبرك بعرقه: فروى البخاري (6281) ومسلم (2332) عن أنس: "أن أم سليم كانت تبسط للنبي - صلى الله عليه وسلم - نطعا فيقيل عندها على ذلك النطع، قال: فإذا نام النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذت من عرقه وشعره فجمعته في قارورة، ثم جمعته في سك، قال فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى إلي أن يجعل في حنوطه من ذلك السك، قال: فجعل في حنوطه". ورواه البيهقي (2/421) وابن خزيمة (385) وابن حبان (6305) وفي روايات للحديث أنها كانت تخلط عرقه بطيب كان عندها، وانظر كذلك مجمع الزوائد (3/21).
وأما التبرك بثوبه: فروى أحمد ومسلم (2069) من حديث أسماء:".. فقالت: هذه جبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخرجت إلىَّ جبة طيالسة كسروانية لها لبنة ديباج، وفرجيها مكفوفين بالديباج، فقالت هذه كانت عند عائشة حتى قبضت، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها". وعند البخاري (1277) وابن ماجة (3555) من حديث سهل عن المرأة التي نسجت بردة للنبي فأخذها رجل لتكون كفنه فكانت كفنه.(1/111)
حتى أنه مسَّ بإصبعه أحدهم بيده فلم يحلق ذلك الشعر الذي مسَّه عليه السلام حتى مات(1).
وبالغ بعضهم في ذلك حتى شرب دم حجامته(2)، إلى أشياء كهذا كثيرة.
فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعاً في حق من ثبتت ولايته واتباعه لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يتبرك بفضل وضوئه، ويتدلك بنخامته، ويستشفى بآثاره كلها، ويرجى فيها نحو مما كان في آثار المتبوع الأعظم - صلى الله عليه وسلم - (3).
إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه، مشكل في تنزيله، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فهو كان خليفته، ولم يفعل به شيء من ذلك، ولا عمر رضي الله عنهما، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان ثم عليّ ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو إذاً إجماع منهم على ترك تلك الأشياء كلها.
وبقى النظر في وجه ترك ما تركوا منه، ويحتمل وجهين:
__________
(1) ... كأبي محذورة المؤذن: فروى أبو داود (500 : صحيح) عنه صفة الأذان، وفيه: "فكان أبو محذورة لا يجز ناصيته ولا يفرقها لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح عليها". ورواه ابن خزيمة (385) والبيهقي (1/418) وعبد الرزاق (1/459).
(2) ... شرب دمه الشريف وبوله: فعله ابن الزبير، ومالك بن سنان والد أبي سعبد الخدري، وسفينة الصحابي، وشرب بوله وقع لمولاة له: انظر: مجمع الزوائد (8/270) والبيهقي في السنن (1/99، 7/67) باب: تركه الإنكار على من شرب بوله ودمه. ...
(3) ... ما ظنه ظاهراً ليس بظاهر!.(1/112)
أحدهما: أن يعتقدوا فيه الاختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير، لأنه عليه السلام كان نوراً كله في ظاهره وباطنه، فمن التمس منه نوراً وجده على أي جهة التمسه، بخلاف غيره من الأمة - وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله - لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبته، ولا يقاربه فصار هذا النوع مختصاً به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع، وإحلال بضع الواهبة نفسها له، وعدم وجوب القَسم عليه للزوجات وشبه ذلك(1).
فعلى هذا المأخذ: لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة.
الثاني: أن لا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع خوفاً من أن يجعل ذلك سنة - كما تقدم ذكره في اتباع الآثار والنهي عن ذلك - أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد، بل تتجاوز فيه الحدود، وتبالغ بجهلها في التماس البركة، حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد، فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس فيه، وهذا التبرك هو أصل العبادة، ولأجله قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية - حسبما ذكره أهل السير - فخاف عمر رضي الله عنه أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تعبد من دون الله(2)، فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم.
__________
(1) ... لقوله تعالى { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكِحَها خالصة لك من دون المؤمنين } [الأحزاب: 50]، وقوله تعالى { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } [الأحزاب: 51] وانظر تفسير ابن كثير وتفسير الطبري.
(2) ... تقدم تخريجه قريباً.(1/113)
وقد خرَّج ابن وهب في جامعه من حديث يونس ين يزيد، عن ابن شهاب قال: حدثني رجل من الأنصار "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم، فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم: لِمَ تفعلون هذا ؟ قالوا: نلتمس الطهور والبركة بذلك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كان منكم يحب أن يحبه الله ورسوله: فليصدق الحديث، وليؤد الأمانة ولا يؤذِ جاره"(1). فإن صح هذا النقل فهو مشعر بأن الأولى تركه(2)،
__________
(1) ... ذكر مثله الألباني في "التوسل أحكامه وأنواعه" ص144، آخر الكتاب وذهب إلى ما ذهب إليه الشاطبي، وحسنه لغيره في صحيح النرغيب (3/122- ح 2928)، والصحيحة (2998) وهو عند عبد الرزاق (19748) ومن طريقه البيهقي في الشعب (1533)، ورواه الطبراني في الأوسط، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (266).
(2) ... وتابع الشيخ سليم هلالي في تحقيقه للاعتصام الشاطبي على ذلك تبعاً لشيخه الألباني رحمه الله، فقال: وهو الحق الذي ندين الله به، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره والتمسح بها، وذلك لغرض مهم، وبخاصة في تلك المناسبات، وهو إرهاب كفار قريش، وإظهار مدى تعلُّق المسلمين بنبيهم وحبهم له، وتفانيهم في خدمته وتعظيمه، وقد ظهرت حكمة ذلك في غزوة الحديبية، فإن مندوب المشركين (سهيل بن عمرو) لما حدثهم بما رأى من ذلك، هابوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وخافوا قتال المسلمين. أهـ.
قلت: ذهب إلى مثل ذلك الألباني في مختصر البخاري (2/233)، ولكن يشكل على هذا الاتجاه ما تقدم قريباً من توزيعه - صلى الله عليه وسلم - لشعره على المسلمين عام حجة الوداع، وفيه فائدتان: أنه فعل ذلك بنفسه، ولم يفعله المسلمون به، وأنه في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - . والحديث على فرض ثبوته لا يقوى على صرف الأحاديث الكثيرة التي وردت في التبرك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وخاصة وقد فعلها أصحابه من بعده مما كان في أيديهم من آثاره الشريفة بأبي هو وأمي.
ولكن أعود وأقول مثل ما قال الشيخ الألباني رحمه الله في "التوسل": ونحن نعلم أن آثاره - صلى الله عليه وسلم - من ثياب أو شعر قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين، وإذا كان الأمر كذلك، فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمراً غير ذي موضوع في زماننا هذا، فيكون أمراً نظرياً محضاً، فلا ينبغي إطالة الأمر فيه.أ.هـ.(1/114)
وأن يتحرى ما هو الآكد والأحرى من وظائف التكليف، ولا يلزم الإنسان في خاصة نفسه، ولم يثبت من ذلك كله إلا ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها، أو دعاء الرجل لغيره على وجه سيأتي بحول الله.
فقد صارت المسألة من أصلها دائرة بين أمرين: أن تكون مشروعة، وأن تكون بدعة، فدخلت تحت حكم المتشابه، والله أعلم.
فصل
ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية:
أن يكون أصل العبادة مشروعاً، إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل توهماً أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل، وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي، أو يطلق تقييدها، وبالجملة فتخرج عن حدها الذي حدّ لها.
ومثال ذلك أن يقال: إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشارع بوقت دون وقت، ولا حدّ فيه زماناً دون زمان، ما عدا ما نهي عن صيامه على الخصوص كالعيدين، وندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء بقول(1)، فإذا خص منه يوماً من الجمعة بعينه، أو أياماً من الشهر بأعيانها - لا من جهة ما عينه الشارع -فلا شك أنه رأي محض بغير دليل، ضاهى به تخصيص الشارع أياماً بأعيانها دون غيرها، فصار التخصيص من المكلف بدعة، إذ هي تشريع بغير مستند.
ومن ذلك: تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصاً، كتخصيص اليوم بكذا وكذا من الركعات، أو بصدقة كذا وكذا، أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة، أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط، كان تشريعاً زائداً.
ولا حجة له في أن يقول: إن هذا الزمان ثبت فضله على غيره فيحسن فيه إيقاع العبادات!
__________
(1) ... انظر أدلة ذلك كله في كتابنا: "عقد المرجان في أحكام رمضان".(1/115)
لأنا نقول: هذا الحسن هل ثبت له أصل أم لا ؟ فإن ثبت فهو مسألتنا كما ثبت الفضل في قيام ليالي رمضان، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام الأثنين والخميس(1)، فإن لم يثبت فما مستندك فيه؟ العقل لا يحسن ولا يقبح ولا شرع يستند إليه؟ فلم يبق إلا أنه ابتداع في التخصيص، كإحداث الخطب وتحري ختم القرآن في بعض ليالي رمضان.
ومن ذلك: التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه، فإنه من باب وضع الحكمة غير موضعها، فسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها - وهو الغالب - وهو فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق، وإلى العمل بالباطل، وإما لا يفهم منها شيئاً وهو أسلم، ولكن المحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون، بل صار في التحدث بها كالعابث بنعمة الله.
ثم إن ألقاها لمن لا يعقلها في معرض الانتفاع بعد تعقلها كان من باب التكليف بما لا يطاق.
وقد قالوا في العالم الرباني: إنه الذي يربي بصغار العلم قبل كباره(2).
__________
(1) ... انظر أدلة ذلك كله في كتابنا: "عقد المرجان في أحكام رمضان".
(2) ... ذكر ذلك البغوي في تفسير الآية 79 من سورة آل عمران.
وقال الطبري: وأولى الأقوال عندي بالصواب في الربانيين: أنهم جمع رباني، وأن الرباني المنسوب إلى الربان، الذي يرب الناس، وهو الذي يصلح أمورهم، و يربها، ويقوم بها، فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، كان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين يرب أمور الناس، بتعليمه إياهم الخير، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكان كذلك الحكيم التقي لله، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وليه المقسطون من المصلحين أمور الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاح عاجلهم وآجلهم، وعائدة النفع عليهم في دينهم، ودنياهم، كانوا جميعاً يستحقون أن [يكونوا] ممن دخل في قوله عز وجل: { ولكن كونوا ربانيين } . فالربانيون إذاً، هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد: وهم فوق الأحبار، لأن الأحبار هم العلماء، و الرباني الجامع إلى العلم والفقه، البصر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دنياهم ودينهم.(1/116)
وهذه الجملة شاهدها في الحديث الصحيح مشهور، وقد ترجم على ذلك البخاري فقال: (باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا)، ثم أسند عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله" ؟. ثم ذكر حديث معاذ الذي أخبر به عند موته تأثماً، وإنما لم يذكره إلا عند موته لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن له في ذلك لما خشي من تنزيله غير منزلته، وعلمه معاذاً لأنه من أهله(1).
وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(2). قال ابن وهب: وذلك أن يتأولوه غير تأويله ويحملوه على غير وجهه.
وخرَّج شعبة عن كثير بن مرة الحضرمي أنه قال: "إن عليك في عملك حقاً كما أن عليك في مالك حقاً، لا تحدث بالعلم غير أهله فتجهل، ولا تمنع العلم أهله فتأثم، ولا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك، ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك"(3).
وقد ذكر العلماء هذا المعنى في كتبهم وبسطوه بسطاً شافياً والحمد لله.
وإنما نبهنا عليه لأن كثيراً ممن لا يقدر قدر هذا الموضع يزل فيه فيحدث الناس بما لا تبلغه عقولهم، وهو على خلاف الشرع، وما كان عليه سلف هذه الأمة.
ومن ذلك أيضاً: جميع ما تقدم في فضل السُّنة، التي يكون العمل بها ذريعة إلى البدعة، من حيث إنها عمل بها ولم يعمل بها سلف هذه الأمة.
__________
(1) ... حديث علي رواه البخاري في العلم (127)، وحديث معاذ –وهو حق الله على العباد، وحق العباد على الله- رواه من حديث أنس (129) ومسلم (30، 32).
(2) ... رواه مسلم في مقدمة صحيحه: باب: النهي عن الحديث بكل ما سمع.
(3) ... رواه البيهقي في الشعب (1765) والدارمي (1/105) وابن عبد البر في جامع العلم (708) وقال محققه الشيخ الفاضل أبو الأشبال: لا بأس به، له شواهد كثيرة بنحوه تشهد له.(1/117)
ومنه: تكرار السورة الواحدة في التلاوة أو في الركعة الواحدة(1)، فإن التلاوة لم تشرع على ذلك الوجه، ولا أن يخصّ من القرآن شيئاً دون شيء لا في صلاة ولا في غيرها - فصار المخصص لها عاملاً برأيه في التعبد لله.
ومن ذلك: قراءة القرآن بهيئة الاجتماع عشية عرفة في المسجد للدعاء تشبهاً بأهل عرفة(2).
__________
(1) ... أما تكرار السورة الواحدة على الركعتين فثابت من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث رجل من جهينة: أنه قرأ سورة الزلزلة في ركعتي الصبح. رواه أبو داود (816: حسن)، وروى الطبري وعبد الرزاق (5882) وصححه ابن حجر أن عمر قرأ بالنجم وسجد ثم قام فقرأ الزلزلة. ومن حديث أبي ذر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بآية حتى أصبح، يرددها، والآية: { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } [المائدة: 118] رواه ابن أبي شيبة (2/224) والنسائي (2/177) وابن ماجة (1350: حسن).
(2) ... فى المغنى (3/295): سئل أحمد عن التعريف فى الأمصار، قال: أرجو أن لا يكون به بأس، قد فعله غير واحد ... قال أحمد : لا بأس به إنما هو دعاء وذكر لله، فقيل له: تفعله أنت ؟ قال: أما أنا فلا، وروى عن يحيى بن معين أنه حضر مع الناس عشية
عرفه. أهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: فأما قصد الرجل مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف العلماء فيه: ففعله ابن عباس وعمرو بن حريث من الصحابة وطائفة من البصريين والمدنيين، ورخص فيه أحمد وإن كان لا يستحبه، وكرهه طائفة من الكوفيين: كإبراهيم النخعى وأبي حنيفة ومالك وغيرهم، ومن كرهه قال: هو من البدع، ومن رخص فيه قال: فعله ابن عباس بالبصرة حين كان خليفة لعلي عليها ولم ينكر عليه، وما يفعل في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة، لكن ما يزاد على ذلك من رفع الأصوات في المساجد وأنواع الخطب والأشعار الباطلة مكروه في هذا اليوم وغيره. أهـ. (نقلاً عن المعتمد في فقه الإمام أحمد: العيدين).(1/118)
[ومن ذلك:] نقل الأذان يوم الجمعة من المنار وجعله قدام الإمام:
ففي سماع ابن القاسم، وسئل عن القرى التي لا يكون فيها إمام إذا صلى بهم رجل منهم الجمعة أيخطب بهم؟ قال: نعم! لا تكون الجمعة إلا بخطبة، فقيل له: أفيؤذن قدامه ؟ قال: لا، واحتج على ذلك بفعل أهل المدينة.
قال ابن رشد: الأذان بين يدي الإمام في الجمعة مكروه لأنه محدث.
قال: وأول من أحدثه هشام بن عبد الملك، وإنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس وخرج فرقى المنبر، فإذا رآه المؤذن -وكانوا ثلاثة - قاموا فأذنوا في المشرفة واحداً بعد واحد(1)
__________
(1) ... روى البخاري في الصحيح، كتاب الجمعة: باب المؤذن الواحد يوم الجمعة (حديث 913):
يسنده عن السائب بن يزيد: "أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي الله عنه - حين كثر أهل المدينة - ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذن غير واحد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام يعني على المنبر".
قال الحافظ شارحاً (2/459): وهو ظاهر في إرادة نفي تأذين اثنين معاً، والمراد أن الذي كان يؤذن هو الذي كان يقيم، وعرف بهذا الرد على ما ذكر ابن حبيب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رقي المنبر وجلس أذن المؤذنون، وكانوا ثلاثة واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام فخطب، فإنه دعوى تحتاج لدليل، ولم يرد ذلك صريحاً من طريق متصلة يثبت مثلها. ثم وجدته في مختصر البويطي عن الشافعي.أ.هـ. وقوله: الثالث: بحساب الأذان والإقامة اثنان، وأذان الزوراء ثالثاً. وفعل عثمان رضي الله عنه رواه البخاري (912) وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وأحمد والطبراني في الكبير.(1/119)
كما يؤذن في غير الجمعة، فإذا فرغوا أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته، ثم تلاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فزاده عثمان رضي الله عنه لما كثر الناس أذاناً بالزوراء عند زوال الشمس، ويؤذن الناس فيه بذلك أن الصلاة قد حضرت، وترك الأذان في المشرفة بعد جلوسه على المنبر على ما كان عليه، فاستمر الأمر على ذلك إلى زمان هشام، فنقل الأذان الذي كان بالزوراء إلى المشرفة، ونقل الأذان الذي كان بالمشرفة بين يديه، وأمرهم أن يؤذنوا صفاً، وتلاه على ذلك من بعده من الخلفاء إلى زماننا هذا.
قال ابن رشد: وهو بدعة، قال: والذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون بعده هو السنة.
وذكر ابن حبيب ما كان فعله عليه السلام وفعل الخلفاء بعده كما ذكر ابن رشد، وكأنه نقله من كتابه.
فصار إذاً نقل هشام الأذان المشروع في المنار إلى ما بين يديه بدعة في ذلك المشروع.
فإن قيل: فكذلك أذان الزوراء محدث أيضاً، بل هو محدث من أصله غير منقول من موضعه، فالذي يقال هنا يقال مثله في أذان هشام، بل هو أخف منه.
فالجواب: أن أذان الزوراء وضع هنالك على أصله: من الإعلام بوقت الصلاة، وجعله بذلك الموضع لأنه لم يكن ليسمع إذا وضع بالمسجد كما كان في زمان من قبله، فصارت كائنة أخرى لم تكن فيما تقدم، فاجتهد لها كسائر مسائل الاجتهاد، وحين كان مقصوداً الأذان الإعلام فهو باق كما كان، فليس وضعه هنالك بمناف، إذ لم تخترع فيه أقاويل محدثة، ولا ثبت أن الأذان بالمنار أو في سطح المسجد تعبد غير معقول المعنى، فهو الملائم من أقسام المناسب، بخلاف نقله من المنار إلى ما بين يدي الإمام، فإنه قد أخرج بذلك أولاً عن أصله من الإعلام، إذ لم يشرع لأهل المسجد إعلام بالصلاة إلا بالإقامة، وأذان جمع الصلاتين موقوف على محله، ثم أذانهم على صوت واحد زيادة في الكيفية.(1/120)
ومن ذلك: الأذان والإقامة في العيدين، فقد نقل ابن عبد البر اتفاق الفقهاء على أن لا أذان ولا إقامة فيهما، ولا في شيء من الصلوات المسنونات والنوافل، وإنما الأذان للمكتوبات، وعلى هذا مضى عمل الخلفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وجماعة الصحابة رضي الله عنهم، وعلماء التابعين، وفقهاء الأمصار(1).
وأول من أحدث الأذان والإقامة في العيدين - فيما ذكر ابن حبيب - هشام بن عبد الملك: أراد أن يُؤْذِن الناس بالأذان بمجيء الإمام، ثم بدأ بالخطبة قبل الصلاة، كما بدأ بها مروان، ثم أمر بالإقامة بعد فراغه من الخطبة ليؤذن الناس بفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة لبعدهم عنه. (قال): ولم يرد مروان وهشام إلا الاجتهاد فيما رأيا، إلا أنه لا يجوز اجتهاد في خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(قال): وقد حدثني ابن الماجشون أنه سمع مالكاً يقول:
"من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، لأن الله يقول: { اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلامَ ديناً } (2)، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً".
ولقائل أن يقول: إن الأذان هنا نظير أذان الزوراء لعثمان رضي الله عنه، فما تقدم فيه من التوجيه الاجتهادي جارٍ هنا، ولا يكون بسبب ذلك مخالفاً للسنة، لأن قصة هشام نازلة لا عهد بها فيما تقدم، لأن الأذان إعلام بمجيء الإمام لخفاء مجيئه عن الناس لبعدهم عنه، ثم الإقامة للإعلام بالصلاة، إذ لولاها لم يعرفوا دخوله في الصلاة، فصار ذلك أمراً لا بد منه كأذان الزوراء.
__________
(1) ... التمهيد لابن عبد البر 24/239.
(2) ... المائدة: 3.(1/121)
والجواب: أن مجيء الإمام لم يشرع فيه الأذان وإن خفي على بعض الناس لبعده بكثرة الناس، فكذلك لا يشرع فيما بعد، لأن العلة كانت موجودة ثم لم تشرع، إذ لا يصح أن تكون العلة غير مؤثرة في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده ثم تصير مؤثرة، وأيضاً فإحداث الأذان والإقامة انبنى على إحداث تقديم الخطبة على الصلاة، وما انبنى على المحدث محدث، ولأنه لما لم يشرع في النوافل أذان ولا إقامة على حال فهمنا من الشرع التفرقة بين النفل والفرض، لئلا تكون النوافل كالفرائض في الدعاء إليها، فكان إحداث الدعاء إلى النوافل لم يصادف محلاً، وبهذه الأوجه الثلاثة يحصل الفرق بين أذان الزوراء وبين ما نحن فيه، فلا يصح أن يقاس أحدهما على الآخر، والأمثلة في هذا المعنى كثيرة.
وهذا كله إن فرضنا أصل العبادة مشروعاً، فإن كان أصلها غير مشروع فهي بدعة حقيقية مركبة.
فصل
فإن قيل: فالبدع الإضافية هل يعتد بها عبادات، حتى تكون من تلك الجهة متقرباً بها إلى الله تعالى، أم لا تكون كذلك؟
فإن كان الأول: فلا تأثير إذاً لكونها بدعة، ولا فائدة في ذكره، إذ لا يخلو من أحد الأمرين:
إما أن لا يعتبر بجهة الابتداع في العبادة المفروضة، فتقع مشروعة يثاب عليها، فتصير جهة الابتداع مغتفرة، فلا على المبتدع فيها أن يبتدع.
وإما أن يعتبر بجهة الابتداع، فقد صار للابتداع أثر في ترتب الثواب، فلا يصح أن يكون منفياً عنه بإطلاق، وهو خلاف ما تقرر من عموم الذم فيه.
وإن كان الثاني: فقد اتحدت البدعة الإضافية مع الحقيقية بالتقسيم الذي انبنى عليه الباب الذي نحن في شرحه ولا فائدة فيه.
فالجواب: أن حاصل البدعة الإضافية أنها لا تنحاز إلى جانب مخصوص في الجملة، بل ينحاز بها الأصلان - أصل السنة وأصل البدعة- لكن من وجهين.
وإذا كان كذلك اقتضى النظر السابق للذهن أن يثاب العامل بها من جهة ما هو مشروع، ويعاتب من جهة ما هو غير مشروع.(1/122)
إلا أن هذا النظر لا يتحصل لأنه مجمل.
والذي ينبغي أن يقال في جهة البدعة في العمل: لا يخلو أن تنفرد أو تلتصق، وإن التصقت، فلا تخلو أن تصير وصفاً للمشروع غير منفك، إما بالقصد أو بالوضع الشرعي أو العادي، أو لا تصير وصفاً، وإن لم تصر وصفاً، فإما أن يكون وضعها إلى أن تصير وصفاً أو لاً.
فهذه أربعة أقسام لا بد من بيانها في تحصيل هذا المطلوب بحول الله.
فأما القسم الأول: وهو أن تنفرد البدعة عن العمل المشروع فالكلام فيه ظاهر مما تقدم، إلا أنه إن كان وضعه على جهة التعبد فبدعة حقيقية، وإلا فهو فعل من جملة الأفعال العادية لا مدخل له فيما نحن فيه، فالعبادة سالمة والعمل العادي خارج من كل وجه.
مثاله: الرجل يريد القيام إلى الصلاة فيتنحنح مثلاً أو يتمخط، أو يمشي خطوات، أو يفعل شيئاً ولا يقصد بذا وجهاً راجعاً إلى الصلاة، وإنما يفعل ذلك عادة أو تقززاً، فمثل هذا لا حرج فيه في نفسه ولا بالنسبة إلى الصلاة، وهو من جملة العادات الجائزة، إلا أنه يشترط فيه أيضاً أن لا يكون بحيث يُفهم منه الانضمام إلى الصلاة عملاً أو قصداً، فإنه إذ ذاك يصير بدعة. وسيأتي بيانه إن شاء الله.
وكذلك أيضاً، إذا فرضنا أنه فعل فعلاً بقصد التقرب مما لم يشرع أصلاً، ثم قام بعده إلى الصلاة المشروعة، ولم يقصد فعله لأجل الصلاة، ولا كان مظنة لأن يُفهم منه انضمامه إليها، فلا يقدح في الصلاة، وإنما يرجع الذم فيه إلى العمل به على الانفراد.
ومثله: لو أراد القيام إلى العبادة، ففعل عبادة مشروعة من غير قصد الانضمام، ولا جعله عرضة لقصد انضمامه، فتلك العبادتان على أصالتهما.(1/123)
وكقول الرجل عند الذبح أو العتق: "اللهم منك وإليك"(1). على غير التزام ولا قصد الانضمام، وكقراءة القرآن في الطواف لا بقصد الطواف ولا على الالتزام.
فكل عبادة هنا منفردة عن صاحبتها، فلا حرج فيها.
وعلى ذلك نقول: لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزاً، لأنه على الشرط المذكور، إذ لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام، ولا كونه سنة تقام في الجماعات ويعلن به في المساجد، كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب"(2)، وكما أنه دعا أيضاً في غير أعقاب الصلوات على هيئة الاجتماع، لكن في الفرط وفي بعض الأحايين كسائر المستحبات التي لا يتربص بها وقتاً بعينه وكيفية بعينها.
وخرَّج الطبري عن أبي سعيد مولى أسيد ... قال: "كان عمر رضي الله عنه إذا صلى العشاء أخرج الناس من المسجد، فتخلف ليلة مع قوم يذكرون الله، فأتى عليهم فعرفهم، فألقى درته وجلس معهم، فجعل يقول: يا فلان ! ادع الله لنا، يا فلان ! ادع الله لنا، حتى صار الدعاء إلى غير، فكانوا يقولون: عمر فظٌ غليظٌ !، فلم أرَ أحداً من الناس تلك الساعة أرقّ من عمر رضي الله عنه لا ثكلى ولا أحداً".
__________
(1) ... رواه من حديث جابر أبو داود (2795) وابن ماجة (3121: ضعيف) والبيهقي (9/287)، ورواه من حديث أبي سعيد أبو يعلى والطبراني في الأوسط وفي إسناده الحجاج بن أرطاة مدلس كما في مجمع الزوائد (4/22)، ونقل النووي في شرح مسلم كراهية هذه اللفظة وأنها بدعة عن مالك.
(2) ... هذا في الاستسقاء يوم الجمعة: رواه البخاري (1016) ومسلم (897) وأبو داود (1174) والنسائي (3/159) وابن خزيمة (1423) وابن حبان (2858).(1/124)
وعن سلم العلوي قال : "قال رجل لأنس رضي الله عنه يوماً: يا أبا حمزة ! لو دعوت لنا بدعوات ...فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة - قال - فأعادها مراراً ثلاثاً. فقال: يا أبا حمزة ! لو دعوت؟ ... فقال مثل ذلك لا يزيد عليه".
فإذا كان الأمر على هذا فلا إنكار فيه، حتى إذا دخل فيه أمر زائد صار الدعاء فيه بتلك الزيادة مخالفاً للسنة، فقد جاء في دعاء الإنسان لغيره الكراهية عن السلف، لا على حكم الأصالة بل بسبب ما ينضم إليه من الأمور المخرجة عن الأصل.
ولنذكره هنا لاجتماع أطراف المسألة في التشبيه(1) على الدعاء بهيئة الاجتماع بآثار الصلوات في الجماعات دائماً.
فخرج الطبري عن مدرك بن عمران، قال: "كتب رجل إلى عمر رضي الله عنه: فادع الله لي، فكتب إليه عمر: إني لست بنبي، ولكن إذا أقيمت الصلاة فاستغفر الله لذنبك".
فإباية عمر رضي الله عنه في هذا الموضع ليس من جهة أصل الدعاء، ولكن من جهة أخرى، وإلا تعارض كلامه مع ما تقدم، فكأنه فهم من السائل أمراً زائداً على الدعاء، فلذلك قال: "لست بنبي". ويدلك على هذا ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه "أنه لما قدم الشام أتاه رجل فقال: استغفر لي، فقال: غفر الله لك. ثم أتاه آخر فقال: استغفر لي، فقال: لا غفر الله لك ولا لذاك، أنبي أنا ؟!".
فهذا أوضح في أنه فهم من السائل أمراً زائداً، وهو أن يعتقد فيه أنه مثل النبي، أو أنه وسيلة إلى أن يعتقد ذلك، أو يعتقد أنه سنة تلزم، أو يجري في الناس مجرى السنن الملتزمة.
__________
(1) ... في نسخة: التنبيه.(1/125)
ونحوه عن زيد بن وهب "أن رجلاً قال لحذيفة رضي الله عنه: استغفر لي، فقال: لا غفر الله لك. ثم قال: هذا يذهب إلى نسائه فيقول استغفر لي حذيفة، أترضين أن أدعو الله أن تكن مثل حذيفة؟". فدل هذا على أنه وقع في قلبه أمر زائد يكون الدعاء له ذريعة حتى يخرج عن أصله، لقوله بعد ما دعا على الرجل: هذا يذهب إلى نسائه فيقول كذا، أي: فيأتي نساؤه لمثلها، ويشتهر الأمر حتى يتخذ سنة، ويعتقد في حذيفة ما لا يحبه هو لنفسه، وذلك يخرج المشروع عن كونه مشروعاً، ويؤدي إلى التشيع واعتقاد أكثر مما يحتاج إليه.
وروى منصور عن إبراهيم قال: "كانوا يجتمعون فيتذاكرون فلا يقول بعضهم لبعض: استغفر لنا".
فتأملوا يا أولي الألباب ما ذكره العلماء من هذه الضمائم المنضمة إلى الدعاء، حتى كرهوا الدعاء إذا انضم إليه ما لم يكن عليه سلف الأمة، فقس بعقلك ماذا كانوا يقولون في دعائنا اليوم بآثار الصلاة، بل في كثير من المواطن.
وهذه الآثار من تخريج الطبري في تهذيب الآثار له.
وأما القسم الثاني: وهو أن يصير العمل العادي أو غيره كالوصف للعمل المشروع، إلا أن الدليل على أن العمل المشروع لم يتصف في الشرع بذلك الوصف: فظاهر الأمر انقلاب العمل المشروع غير مشروع.
ويبين ذلك من الأدلة عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ"(1) وهذا العمل عند اتصافه بالوصف المذكور عمل ليس عليه أمره عليه الصلاة والسلام، فهو إذاً ردٌّ، كصلاة الفرض – مثلاً- إذا صلاها القادر الصحيح قاعداً أو سبَّح في موضع القراءة، أو قرأ فى موضع التسبيح، وما أشبه ذلك.
__________
(1) ... تقدم تخريجه ص84 رقم (1).(1/126)
وقد "نهى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر، ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها"(1)، فبالغ كثير من العلماء في تعميم النهي، حتى عدوا صلاة الفرض في ذلك الوقت داخلاً تحت النهي، فباشر النهيُ الصلاةَ لأجل اتصافها بأنها واقعة في زمان مخصوص، كما اعتبر فيها الزمان باتفاق في الفرض، فلا تصلى الظهر قبل الزوال، ولا المغرب قبل الغروب.
"ونهى عليه الصلاة والسلام عن صيام الفطر والأضحى"(2)، والاتفاق على بطلان الحج في غير أشهر الحج.
فكل من تعبد لله تعالى بشيء من هذه العبادات الواقعة في غير أزمانها، تعبد ببدعة حقيقية لا إضافية، فلا جهة لها إلى المشروع، بل غلبت عليها جهة الابتداع، فلا ثواب فيها على ذلك التقدير.
فلو فرضنا قائلاً يقول بصحة الصلاة الواقعة في وقت الكراهية، أو صحة الصوم الواقع يوم العيد، فعلى فرض أن النهي راجع إلى أمر لم يصر للعبادة كالوصف، بل الأمر منفكٌ منفرد، حسبما تبين بحول الله.
__________
(1) ... النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر: رواه من حديث أبي سعيد البخاري (586) ومسلم (827) وابن ماجة (1249). ومن حديث ابن عباس رواه البخاري (581) وابن خزيمة (2146) وابن ماجة (1250) والدارمي. ومن حديث أبي هريرة البخاري (584) وابن ماجة (1248). وحديث النهي عن الصلاة عند الشروق والغروب: رواه من حديث ابن عمر البخاري (582) ومسلم (828). ورواه من حديث عقبة بن عامر الجهني مسلم (831) والدارمي.
(2) ... رواه مسلم (1137) والبخاري (1990) والترمذي (771) وأبو داود (2416) وابن ماجة من حديث ابن عمر. ورواه مسلم (1138) والبخاري (1993) وابن حبان (3598) من حديث أبي هريرة. ورواه مسلم (827) والبخاري (1991، 1995) وابن حبان (3599) وأبو داود (2417) وابن ماجة من حديث أبي سعيد. ورواه مسلم (1139) والبخاري (1994) من حديث ابن عمر. ورواه مسلم (1140) من حديث عائشة.(1/127)
وعلى هذا الترتيب ينبغي أن تجري العبادات المشروعة إذا خُصت بأزمان مخصوصة بالرأي المجرد، من حيث فهمنا أن للزمان تلبساً بالأعمال على الجملة، فصيرورة ذلك الزائد وصفاً فيه مخرج له عن أصله، وذلك أن الصفة مع الموصوف من حيث هي صفة له لا تفارقه هي من جملته.
وذلك لأنا نقول: إن الصفة هي عين الموصوف إذا كانت لازمة له حقيقةً أو اعتباراً، ولو فرضنا ارتفاعها عنه لارتفع الموصوف من حيث هو موصوف بها، كارتفاع الإنسان بارتفاع الناطق أو الضاحك(1)، فإذا كانت الصفة الزائدة على المشروع على هذه النسبة، صار المجموع منهما غير مشروع، فارتفع اعتبار المشروع الأصلي.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد، فإن تلك الهيئة زائدة على مشروعية القراءة، وكذلك الجهر الذي اعتاده أرباب الزوايا.
وربما لطف اعتبار الصفة فيشك في بطلان المشروعية.
كما وقع في العتبية عن مالك في مسألة الاعتماد في الصلاة لا يحرك رجليه، وأن أول من أحدثه رجل قد عرف - قال - وقد كان مساء (أي يساء الثناء عليه) فقيل له: أفعيب ؟ قال: قد عيب عليه ذلك، وهذا مكروه من الفعل، ولم يذكر فيها أن الصلاة باطلة وذلك لضعف وصف الاعتماد أن يؤثر في الصلاة ، ولطفه بالنسبة إلى كمال هيئتها.
وهكذا ينبغي أن يكون النظر في المسألة بالنسبة إلى اتصاف العمل بما يؤثر فيه أو لا يؤثر فيه، فإذا غلب الوصف على العمل كان أقرب إلى الفساد، وإذا لم يغلب لم يكن أقرب وبقي في حكم النظر، فيدخل هاهنا نظر الاحتياط للعبادة إذا صار العمل في الاعتبار من المتشابهات.
واعلموا أنه حيث قلنا: إن العمل الزائد على المشروع يصير وصفاً لها أو كالوصف، فإنما يعتبر بأحد أمور ثلاثة: إما بالقصد، وإما بالعادة، وإما بالشرع.
أما بالقصد: فظاهر، بل هو أصل التشريع في المشروعات بالزيادة أو النقصان.
__________
(1) ... يقال أن الإنسان حيوان ناطق ضاحك.(1/128)
أما بالعادة: فكالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان، فإن بينه وبين الذكر المشروع بوناً بعيداً، إذ هما كالمتضادين عادة.
وكالذي حكى ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه، قال: "مر عبد الله برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول: سبحوا عشراً وهللوا عشراً، فقال عبد الله: إنكم لأهدى من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أو أضل".
وفي رواية عنه أن رجلاً كان يجمع الناس فيقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله - قال - فيقول القوم، ويقول: رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله، قال: فيقول القوم، قال: فمر بهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال لهم: "هديتم لما لم يهد نبيكم ! وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة"(1).
فهذه أمور أخرجت الذكر [عن وصفه] المشروع، كالذي تقدم من النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، أوالصلوات المفروضة إذا صليت قبل أوقاتها، فإنا قد فهمنا من الشرع القصد إلى النهي عنها، والمنهي عنه لا يكون متعبداً به، وكذلك صيام يوم العيد.
__________
(1) ... نحوه عند الطبراني في الكبير، وفيه مجالد بن سعيد، وحديث آخر نحوه منقطع وفيه عطاء ابن السائب مختلط: مجمع الزوائد (1/181) وانظر: سنن الدارمي (1/68). وانظر صحيح الترغيب للألباني رحمه الله، حديث (60).(1/129)
وخرَّج ابن وضاح من حديث أبان بن أبي عباس، قال: لقيت طلحة بن عبيد الله الخزاعي، فقلت له: قوم من إخوانك من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد من المسلمين، يجتمعون في بيت هذا يوماً وفي بيت هذا يوماً، ويجتمعون يوم النيروز والمهرجان ويصومونها، فقال طلحة: بدعة من أشد البدع ، والله لهم أشد تعظيماً للنيروز والمهرجان من عبادتهم(1)، ثم استيقظ أنس بن مالك رضي الله عنه فرقيت إليه وسألته كما سألت طلحة، فرد عليَّ مثل قول طلحة ،كأنهما كان على ميعاد.
فجعل صوم تلك الأيام من تعظيم ما تعظمه المجوس، وذاك القصد لو كان أفسد للعبادة، فكذلك ما كان نحوه.
وعن يونس بن عبيد أن رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد! ما ترى في مجلسنا هذا؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد، نجتمع في بيت هذا يوماً، وفي بيت هذا يوماً، فنقرأ كتاب الله وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين ؟ قال: فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي.
والنقل في هذا المعنى كثير.
فلو لم يبلغ العمل الزائد ذلك المبلغ كان أخف. وانفرد العمل بحكمه، والعمل المشروع بحكمه.
كما حكى ابن وضاح عن عبد الرحمن أبي بكرة، قال: كنت جالساً عند الأسود بن سريع، وكان مجلسه في مؤخر المسجد الجامع، فافتتح سورة بني إسرائيل حتى بلغ: { وكبره تكبيراً } (2) فرفع أصواتهم الذين كانوا حوله جلوساً، فجاء مجالد بن مسعود متوكئاً على عصاه، فلما رآه القوم قالوا: مرحباً اجلس، قال: ما كنت لأجلس إليكم، وإن كان مجلسكم حسناً، ولكنكم صنعتم قِبَلي شيئاً أنكره المسلمون، فإياكم وما أنكر المسلمون.
فتحسينه المجلس كان لقراءة القرآن، وأما رفع الصوت فكان خارجاً عن ذلك، فلم ينضم إلى العمل الحسن، حتى إذا انضم إليه صار المجموع غير مشروع.
__________
(1) ... في نسخة: من عيدهم.
(2) ... سورة بني إسرائيل هي سورة الإسراء، وهذا جزء من الآية الأخيرة: 111.(1/1)
ويشبه هذا ما في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون جميعاً فيقرؤون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك، وأنكر أن يكون من عمل الناس.
وسئل ابن القاسم أيضاً عن نحو ذلك فحكى الكراهية عن مالك، ونهى عنها ورآها بدعة.
وقال في رواية أخرى عن مالك: وسُئل عن القراءة بالمسجد، فقال: لم يكن بالأمر القديم، وإنما هو شيء أحدث، ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، والقرآن حسن.
قال ابن رشد: يريد التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كله سنة، مثل ما بجامع قرطبة إثر صلاة الصبح. قال: فرأى ذلك بدعة.
فقوله في الرواية: والقرآن حسن: يحتمل أن يقال: إنه يعني أن تلك الزيادة من الاجتماع وجعله في المسجد منفصل لا يقدح في حسن قراءة القرآن، ويحتمل -وهو الظاهر - أنه يقول: قراءة القرآن حسن على غير ذلك الوجه، لا على هذا الوجه، بدليل قوله في موضع آخر: ما يعجبني أن يقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد، لا في الأسواق والطرق، فيريد أنه لا يقرأ إلا على النحو الذي كان يقرؤه السلف، وذلك يدل على أن قراءة الإدارة مكروهة عنده فلا تفعل أصلاً، وتحرز بقوله: والقرآن حسن من توهم أنه يكره قراءة القرآن مطلقاً، فلا يكون في كلام مالك دليل على انفكاك الاجتماع من القراءة والله أعلم.(1/2)
وأما القسم الثالث: وهو أن يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد فيه أنه من أوصافها أوجزء منها، فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهي عن الذرائع، وهو إن كان في الجملة متفقاً عليه، ففيه في التفصيل نزاع بين العلماء(1)،
__________
(1) ... جاء في إرشاد الفحول للشوكاني: سد الذرائع: الذريعة هي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويتوصل بها الى فعل المحظور. قال الباجي: ذهب مالك الى المنع من الذرائع، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز منعها (وذكر الأدلة) قال القرطبي: سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه، وخالفه أكثر الناس تأصيلاً، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلاً، ثم قرر موضع الخلاف (وذكر أن ما يفضي إلى الوقوع في المحظور على أنواع)، قال القرافي: لم ينفرد بذلك بل كل أحد يقول بها، ولا خصوصية للمالكية بها إلا من حيث زيادتهم فيها، قال: فإن من الذرائع ما هو معتبر بالاجماع: كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين والقاء السم في طعامهم وسب الاصنام..، ومنها ما هو ملغي إجماعاً: كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر. ومنها ما هو مختلف فيه كبيوع الآجال، فنحن لا نغتفر الذريعة فيها، وخالفنا غيرنا في أصل القضية: أنا قلنا بسد الذرائع اكثر من غيرنا لا أنها خاصة بنا. [والأدلة] تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة، وهذا أمر مجمع عليه، وإنما النزاع في ذريعة خاصة وهو بيوع الآجال ونحوها، فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع، وان قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها فينبغي أن تكون حجتهم القياس، وحينئذ فليذكروا الجامع حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق. (بتصرف واختصار)..(1/3)
إذ ليس كل ما هو ذريعة إلى ممنوع يمنع، بدليل الخلاف الواقع في بيوع الآجال، وما كان نحوها، غير أن أبا بكر الطرطوشي يحكي الاتفاق في هذا النوع استقراءً من مسائل وقعت للعلماء منعوها سداً للذريعة، وإذا ثبت الخلاف في بعض التفاصيل، لم ينكر أن يقول به قائل في بعض ما نحن فيه، ولنمثله أولاً ثم نتكلم على حكمه بحول الله.
فمن ذلك: ما جاء في الحديث من: "نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين"(1). ووجه ذلك عند العلماء مخافة أن يعد ذلك من جملة رمضان.
ومنه: ما ثبت عن عثمان رضي الله عنه أنه كان لا يقصر في السفر، فيقال له: ألست قصرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقول: "بلى! ولكني إمام الناس، فينظر إليَّ الأعرابُ وأهلُ البادية أصلي ركعتين، فيقول: هكذا فرضت"(2)، فالقصر في السفر سنة أو واجب، ومع ذلك تركه خوف أن يتذَّرع به لأمر حادث في الدين غير مشروع.
__________
(1) ... روى النهي من حديث أبي هريرة: البخاري (1914) ومسلم (1082) وأبو داود (2335) والترمذي (684) والنسائي (4/149) وابن ماجة (1650) وابن حبان (3592) والبيهقي (4/210). ورواه من حديث حذيفة: أبو داود (2326) وابن خزيمة (1911). ورواه أبو داود (2327) من حديث ابن عباس.
(2) ... الثابت عن عثمان رضي الله عنه أنه كان يقصر الصلاة صدراً من خلافته ثم أتم متأولاً، وتأولت عائشة كذلك فأتمت: انظر صحيح البخاري (1082)، لكن لم يثبت إتمام عثمان على إطلاقه، بل في منى خاصة، وذكر الحافظ في الفتح (2/665) روايات لإتمام عثمان في منى عند البيهقي والطحاوي، وقال: من طرق يقوي بعضها بعضاً. وقال ابن القيم في الزاد (1/447) في بحث نفيس في القصر (ما مفاده): أن الاحتجاج بالأعراب كان الأولى أن يحتج به النبي - صلى الله عليه وسلم - في عام حجة الوداع، والاحتجاج بأن عثمان هو الخليفة وكل الديار داره، بأن النبي أولى بذلك.(1/4)
وقال حذيفة بن أسيد: "شهدت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة".
ونحو ذلك: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إني لأترك أضحيتي - وإني لمن أيسركم- مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة"(1).
وكثير من هذا عن السلف الصالح.
وقد كره مالك إتباع رمضان بست من شوال(2)، ووافقه أبو حنيفة فقال: لا أستحبها، مع ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح، وأخبر مالك عن غيره ممن يقتدى به أنهم كانوا لا يصومونها ويخافون بدعتها.
ومنه: ما تقدم في اتباع الآثار، كمجيء قباء(3) ونحو ذلك.
وبالجملة: فكل عمل أصله ثابت شرعاً إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة، فتركه مطلوب في الجملة أيضاً، من باب سد الذرائع.
ولذلك كره مالك دعاء التوجه بعد الإحرام وقبل القراءة(4)، وكره غسل اليد قبل الطعام، وأنكر على من جعل ثوبه في المسجد أمامه في الصف(5).
ولنرجع إلى ما كنا فيه:
__________
(1) ... تقدم هذان الأثران قريباً في نفس الباب.
(2) ... تقدم ذلك ص173 رقم (1).
(3) ... تقدم زجر عمر عن اتباع آثار الأنبياء في نفس الباب.
وأما قباء: فروى البخاري (1193، 1194) ومسلم (1399) عن ابن عمر قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً فيصلي فيه ركعتين". وفي رواية "كل سبت"، وانظر أحاديث في فضل مسجد قباء عند ابن أبي شيبة في المصنف (2/49).
(4) ... عند الشوكاني في "النيل"، باب: ذكر الاستفتاح بين التكبير والقراءة (2/206): وذكر فيه حديث أبي هريرة الذي رواه الجماعة إلا الترمذي (اللهم باعد بيني وبين خطاياي..)، وحديث علي (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض..) رواه أحمد ومسلم، وأحاديث أخرى. وقال: والحديث يدل على مشروعية الدعاء بين التكبير والقراءة، وخالف في ذلك مالك في المشهور عنه، والأحاديث ترد عليه.
(5) ... تقدمت هذه القصة مفصلة ص118.(1/5)
فاعلموا أنه إن ذهب مجتهد إلى عدم سد الذريعة في غير محل النص مما يتضمنه هذا الباب، فلا شك أن العمل الواقع عنده مشروع ويكون لصاحبه أجره.
ومن ذهب إلى سدها -ويظهر ذلك من كثير من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم- فلا شك أن ذلك العمل ممنوع، ومنعه يقتضي بظاهره أنه ملوم عليه، وموجب للذم، إلا أن يذهب إلى أن النهي فيه راجع إلى أمر مجاور، فهو محل نظر واشتباه، ربما يتوهم فيه انفكاك الأمرين، بحيث يصح أن يكون العمل مأموراً به من جهة نفسه، ومنهياً عنه من جهة مآله.
ولنا فيه مسلكان:
أحدهما: التمسك بمجرد النهي في أصل المسألة، كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } (1)، وقوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم } (2) وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام: "نهى عن أن يجمع بين المتفرق، ويفرق المجتمع، خشية الصدقة"(3).
و" نهى عن بيع السلف"(4)، وعلَّله العلماء بالربا المتذرع إليه في ضمن السلف.
__________
(1) ... البقرة: 104.
(2) ... الأنعام: 108.
(3) ... رواه من حديث أنس: البخاري (1450) وأبو داود (1567) والنسائي (5/21) وابن خزيمة (2262) وابن حبان (3266). والمعنى كما قال الشوكاني في "النيل": قال في الفتح: قال مالك في الموطأ: معنى هذا: أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت فيها الزكاة، فيجمعونها حتى لا يجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة، أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاة، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد منهما إلا شاة واحدة.
(4) ... روى أبو داود (3504: حسن) والترمذي (1234) والنسائي (7/288) وفي الكبرى (3204) وابن حبان (4321) من طريق عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا يحل سلف وبيع، ولاشرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك".(1/6)
ونهى عن الخلوة بالأجنبيات، وعن سفر المرأة مع غير ذي محرم.
وأمر النساء بالاحتجاب عن أبصار الرجال، والرجال بغض الأبصار(1).
إلى أشباه ذلك مما عللوا الأمر فيه والنهي بالتذرع لا بغيره(2).
والنهي أصله أن يقع على المنهي عنه وإن كان معللاً، وصرفه إلى أمر مجاور خلاف أصل الدليل، فلا يعدل عن الأصل إلا بدليل.
__________
(1) ... أما النهي عن الخلوة: فرواه البخاري (3006) ومسلم (1341) من حديث ابن عباس. ومعناه من حديث عقبة بن عامر: رواه البخاري (5232) ومسلم (2172) والترمذي (1171). ومن حديث جابر وابن عمر عند الترمذي (1172، 2165).
وأما النهي عن السفر: فورد من حديث ابن عباس المتقدم آنفاً. وأما الأمر بالاحتجاب: ففي قوله تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } [إلى آخر الآية 31 من سورة النور]، وقوله تعالى { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } [الأحزاب: 59] وورد من حديث أم سلمة، وأمر النبي لها وميمونة بالاحتجاب من ابن أم مكتوم (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه!) رواه أبو داود (4112) والترمذي (2778) وابن حبان (5575) ولكن سنده ضعيف. وأما الأمر بغض النظر: فرواه مسلم (2121) من حديث أبي سعيد في حق الطريق. ورواه أبو داود (2148) من حديث جرير في نظر الفجأة، ومن حديث بريدة (2149). وحديث أبي هريرة المتفق عليه: البخاري (6243) ومسلم (2657) "وزنا العينين النظر"، وقبل ذلك قوله تعالى: { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } [النور: 30-31].
(2) ... يعني أن النهي عن تلك الأمور لأجل كونها ذريعة ووسيلة للمحرم.(1/7)
فكل عبادة نهى عنها فليست بعبادة، إذ لو كانت عبادة لم ينه عنها، فالعامل بها عامل بغير مشروع، فإذا اعتقد فيها التعبد مع هذا النهي كان مبتدعاً بها.
لا يقال: إن نفس التعليل يشعر بالمجاورة، وإن الذي نهي عنه غير الذي أمربه، وانفكاكهما متصور، لأنا نقول: قد تقرر أن المجاور إذا صار كالوصف اللازم انتهض النهي عن الجملة لا عن نفس الوصف بانفراده، وهو مبين في القسم الثاني.
المسلك الثاني: ما دل في بعض مسائل الذرائع على أن الذرائع في الحكم بمنزلة المتذرع إليه، ومنه ما ثبت في الصحيح من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه ، قالوا : يا رسول الله !وهل يسب الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه "(1) ، فجعل سب الرجل لوالدي غيره بمنزلة سبه لوالديه نفسه، حتى ترجم عنها بقوله: "أن يسب الرجل والديه" ولم يقل: أن يسب الرجل والدي من يسب والديه، أو نحو ذلك، وهو غاية في معنى ما نحن فيه.
__________
(1) ... تقدم تخريجه في نفس الباب. ومن فوائد الحديث: اعتبار سد الذرائع، وحكم ذريعة الشيء يختلف باختلاف ما توصل إليه.(1/8)
ومثله حديث عائشة رضي الله عنها مع أم ولد زيد بن أرقم رضي الله عنه، وقولها: "أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب"(1).
__________
(1) ... قصة هذا الحديث: روى عبد الرزاق في المصنف (14812) من طريق أبي إسحاق [السبيعي] عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمان مئة إلى أجل، ثم اشتريتها منه بست مئة، فنقدته الست مئة، وكتبت عليه ثمان مئة. فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت وبئس والله ما اشتري، أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب. فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذت رأس مالي، ورددت عليه الفضل؟ قالت: من جاءه موعظة من ربه فانتهى. الآية، أو قالت: إن تبتم فلكم رؤوس أموالكم. الآية. ورواه البيهقي (5/330) والدارقطني (3/52) وابن حزم في المحلى (7/29، 9/49) ولم يصححه وأعله بعلل، وأعل الدارقطني طريقاً من طرقه بالجهالة..وعند الشوكاني في "النيل"(5/317): باب أن من باع سلعة بنسيئة لا يشتريها بأقل مما باعها: وذكر الحديث وقال: الحديث في إسناده الغالية بنت أيفع، وقد روي عن الشافعي أنه لا يصح، وقرر كلامه ابن كثير في إرشاده، وفيه دليل على أنه لا يجوز لمن باع شيئا بثمن نسيئة أن يشتريه من المشتري بدون ذلك الثمن نقداً قبل قبض الثمن الأول، أما إذا كان المقصود التحيل لأخذ النقد في الحال ورد أكثر منه بعد أيام، فلا شك أن ذلك من الربا المحرم الذي لا ينفع في تحليله الحيل الباطلة، وسيأتي الخلاف في بيع العينة في الباب الذي بعد هذا، والصورة المذكورة هي صورة بيع العينة، وليس في حديث الباب ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن هذا البيع، ولكن تصريح عائشة بأن مثل هذا الفعل موجب لبطلان الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أنها قد علمت تحريم ذلك بنص من الشارع، إما على جهة العموم كالأحاديث القاضية بتحريم الربا الشامل لمثل هذه الصورة، أو على جهة الخصوص كحديث العينة الآتي، ولا ينبغي أن يظن بها أنها قالت هذه المقالة من دون أن تعلم بدليل يدل على التحريم، لأن مخالفة الصحابي لرأي صحابي آخر لا يكون من الموجبات للإحباط. وانظر للمزيد: تهذيب السنن لابن القيم، وزاد المعاد (3/373)، والمحلى لابن حزم، وتفسير القرطبي لهذا الجزء من الآية.(1/9)
وإنما يكون هذا الوعيد فيمن فعل ما لا يحل له .. لا ممن فعل كبيرة، حتى نزعت آخراً بالآية: { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } (1)، وهي نازلة في غير العمل بالربا، فعدت العمل بما يتذرع به إلى الربا بمنزلة العمل بالربا، مع أنا نقطع أن زيد بن أرقم وأم ولده لم يقصدوا قصد الربا، كما لا يمكن ذا عقل أن يقصد والديه بالسب.
وإذا ثبت هذا المعنى في بعض الذرائع ثبت في الجميع، إذ لا فرق فيما لم يُدَّعَ مما لم ينص عليه، إلا ألزم الخصم مثله في المنصوص عليه. فلا عبادة أو مباحاً يتصور فيه أن يكون ذريعة إلى غير جائز، إلا وهو غير عبادة ولا مباح.
لكن هذا القسم إنما يكون النهي [فيه] بحسب ما يصير وسيلة إليه في مراتب النهي، فإن كانت البدعة من قبيل الكبائر، فالوسيلة كذلك، أو من قبيل الصغائر فهي كذلك، والكلام في هذه المسألة يتسع، ولكن هذه الإشارة كافية فيها، وبالله التوفيق(2).
وبه يتم الجزء الأول من تهذيب الاعتصام
ويليه بعون الله الجزء الثاني، وأوله:
الباب السادس: في أحكام البدع، وأنها ليست على رتبة واحدة.
الباب السادس
فى أحكام البدع، وأنها ليست على رتبة واحدة
__________
(1) ... البقرة: 275.
(2) ... قلت: أما القسم الرابع: فلم يذكره الشاطبي رحمه الله تعالى، وهو أن لا يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد فيه أنه من أوصافها أو جزء منها.
فالأمر فيه واضح وهو قريب من الأول، إذا انفرد بالعمل المشروع عن البدعة: فالعبادة سالمة، والعمل العادي خارج من كل وجه.
وعليه فلا يعتبر كل ما جاء في سد الذرائع في مسألة البدعة من البدعة الإضافية التي تقترب من السنة المحضة، بل قد تكون إضافية تقترب من الحقيقية، وقد تكون حقيقية بحتة. (حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي 2/25).(1/10)
اعلم أنَّا إذا بنينا على أن البدع منقسمة إلى الأحكام الخمسة، فلا إشكال فى اختلاف رتبها، لكنا لا نبسط القول فى هذا التقسيم، فقد تقدَّم أنه غير صحيح(1)، فلا فائدة فى التفريع على ما لا يصح.
فإذا خرج عن هذا التقسيم ثلاثة أقسام: قسم الوجوب، وقسم الندب، وقسم الإباحة، انحصر النظر فيما بقى(2)، وهو الذى ثبت من التقسيم، غير أنه ورد النهى عنها على وجه واحد، ونسبته إلى الضلالة واحدة فى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار)(3).
فيقع السؤال: هل لها حكم واحد أم لا؟ فنقول:
ثبت فى الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة، نخرج عنها الثلاثة، فيبقى حكم الكراهية وحكم التحريم، فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين، فمنها بدعة محرمة، ومنها بدعة مكروهة، وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات، لا تعدو الكراهة والتحريم، فالبدع كذلك، هذا وجه.
ووجه ثان: أن البدع إذا تُؤمِّل معقولها، وجدت رتبها متفاوته:
فمنها ما هو كفر صراح، كبدعة الجاهلية التى نبَّه عليها القرآن، كقوله تعالى: { وجعلوا لله ممَّا ذَرَأ منَ الحَرْث والأنْعام نَصيباً فَقَالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ... } الآية(4)، وقوله تعالى: { وقالوا مَا فى بُطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } (5)، وقوله تعالى: { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } (6)، وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الدين ذريعة لحفظ النفس والمال، وما أشبه ذلك مما لا يشك أنه كفر صراح.
__________
(1) ... راجع الباب الثالث ص170.
(2) ... وهو الكراهة والتحريم.
(3) ... الأنعام: 136.
(4) ... الأنعام: 136.
(5) ... الأنعام: 139.
(6) ... المائدة: 193.(1/11)
ومنها ما هو من المعاصى التى ليست بكفر أو يختلف، هل هى كفر أم لا؟ كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة(1).
ومنها ما هو معصية، ويتفق عليها، ليست بكفر، كبدعة التبتُّل، والصيام قائماً فى الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع.
ومنها ما هو مكروه، كما يقول مالك فى إتباع رمضان بست من شوال(2)، قراءة القرآن بالإدارة، والاجتماع للدعاء عشية عرفة، وذكر السلاطين فى خطبة الجمعة -على ما قاله ابن عبد السلام الشافعى- ... وما أشبه ذلك.
فمعلوم أن هذه البدع ليست فى رتبة واحدة، فلا يصحُّ مع هذا أن يُقال: أنها على حكم واحد، هو الكراهة فقط، أو التحريم فقط.
وجه ثالث: أن المعاصى منها صغائر ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعة فى الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات، فإن كانت فى الضروريات، فهى أعظم الكبائر، وإن وقعت فى التحسينيات، فهى أدنى رتبة بلا إشكال، وإن وقعت فى الحاجيات، فمتوسطة بين الرتبتين.
وأيضاً، فإن الضروريات إذا تؤملت، وجدت على مراتب فى التأكيد وعدمه:
فليست مرتبة النفس كمرتبة الدِّين، ولذلك تستصغر حرمة النفس فى جنب حرمة الدين، فيبيح الكفر الدم، والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف فى الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين [14].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[14] ... قال الشاطبى فى الموافقات (ج2، 17-23):
تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها فى الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والثانى: أن تكون حاجية.
والثالث: أن تكون تحسينية.
__________
(1) ... انظر المزيد عن هذه الفرق فى كتابنا: أصول وتاريخ الفرق الإسلامية.
(2) ... تقدم توضيح ذلك ص 173، 174.(1/12)
فأما الضرورية، فمعناها أنها لابد منها فى قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفى الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين.
والحفظ لها يكون بأمرين:
أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
والثانى: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.
فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود، كالإيمان والنطق بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وما أشبه ذلك.
والعادات راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضاً، كتناول المأكولات، والمشروبات، والملبوسات، والمسكونات، وما أشبه ذلك.
والمعاملات راجعة إلى حفظ النسل والمال من جانب الوجود، وإلى حفظ النفس والعقل أيضاً، لكن بواسطة العادات.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والجنايات – ويجمعها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر – ترجع إلى حفظ الجميع من جانب العدم.
ومجموع الضروريات خمسة، وهى حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا: إنها مراعاة فى كل ملة.
وأما الحاجيات، فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدى فى الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُراعَ دخل على المكلفين –على الجملة- الحرجُ والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادى المتوقع فى المصالح الحكومية.
وهى جارية فى العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات: ففى العبادات كالرخص المخففة بالنسبة إلى لحوق المشقة بالمرض والسفر، وفى العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال، مأكلاً ومشرباً وملبساً ومسكناً ومركباً، وما أشبه ذلك.(1/13)
وفى المعاملات، كالقراض، والمساقاه، والسَّلَم، وإلقاء التوابع فى العقد على المتبوعات، كثمرة الشجر، ومال العبد.
وفى الجنايات، كالحكم باللوث، والتدمية، والقسامة، وضرب الدية على العاقلة، وتضمين الصناع، وما أشبه ذلك.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما التحسينات، فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنسات التى تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق.
وهى جارية فيما جرت فيه الأولَيان:
ففى العبادات، كإزالة النجاسة –وبالجملة الطهارات كلها-، وستر العورة، وأخذ الزينة، والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات، وأشباه ذلك.
وفى العادات، كآداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجاسات والمشارب المستخبثات، والإسراف والإقتار فى المتناولات.
وفى المعاملات، كالمنع من بيع النجاسات، وفضل الماء و الكلأ، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة، وسلب المرأة منصب الإمامة، وإنكاح نفسها، وطلب العتق وتوابعه من الكتابة والتدبير، وما أشبهها.
وفى الجنايات، كمنع قتل الحر بالعبد، أو قتل النساء والصبيان والرهبان فى الجهاد.
وقليل الأمثلة يدل على ما سواها مما هو فى معناها، فهذه الأمور راجعة إلى محاسن زائدة على أصل المصالح الضرورية والحاجية، إذ ليس فقدانُها بِمُخلَّ بأمر ضرورى ولا حاجى، وإنما جرت مجرى التَّحسين والتَّزيين.
ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس، ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص، فالقتل بخلاف العقل والمال ... وكذلك سائر ما بقى(1).
__________
(1) ... يعنى أن مرتبة النفس تأتى بعد مرتبة الدين كما تقدم، ومرتبة النفس أعلى من العقل والمال، ألا ترى أن التعدى على النفس يبيح القصاص، وأما التعدى على العقل ففيه الدية، والتعدى على المال فيه القطع بشرطه.(1/14)
وإذا نظرت فى مرتبة النفس، تباينت المراتب، فليس قطع العضو كالذبح، ولا الخدش كقطع العضو، وهذا كله محل بيانه الأصول.
وإذا كان كذلك، فالبدع من جملة المعاصى، وقد ثبت التفاوت فى المعاصى، فكذلك يتصور مثله فى البدع، فمنها ما يقع فى الضروريات (أى أنه إخلال بها)، ومنها ما يقع فى رتبة الحاجيات، ومنها ما يقع فى رتبة التحسينيات.
وما يقع فى رتبة الضروريات، منه ما يقع فى: الدين، أو النفس، أو النسل، أو العقل، أو المال:
فمثال وقوعه فى الدين:
ما تقدم من اختراع الكفار وتغييرهم ملة إبراهيم عليه السلام، من نحو قوله تعالى: { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } (1).
وحاصل ما فى هذه الآية تحريم ما أحل الله على نية التقرب به إليه، مع كونه حلالاً بحكم الشريعة المتقدمة.
ولقد همَّ بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحرموا على أنفسهم ما أحلَّ الله، وإنما كان قصدهم بذلك الانقطاع إلى الله عن الدنيا وأسبابها وشواغلها، فرد ذلك عليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله عز وجل: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } (2).
ومثال ما يقع فى النفس:
ما ذكر من نحل الهند فى تعذيبها أنفسها بأنواع العذاب الشنيع والتمثيل الفظيع، والقتل بالأصناف التى تفزع منها القلوب وتقشعرُّ منها الجلود، كل ذلك على جهة استعجال الموت لنيل الدرجات العلى –فى زعمهم- والفوز بالنعيم الأكمل بعد الخروج عن هذه الدار العاجلة، ومبنى ذلك على أصول لهم فاسدة اعتقدوها وبنوا عليها أعمالهم.
__________
(1) ... المائدة: 103.
(2) ... المائدة: 87.(1/15)
ويجرى مجرى إتلاف النفس إتلاف بعضها، كقطع عضو من الأعضاء، أو تعطيل منفعة من منافعه بقصد التقرب إلى الله بذلك، فهو من جملة البدع، وعليه يدل الحديث، حيث قال: رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التبتُّل على عثمان بن مظعون، ولو أذن له، لاختصينا(1)، فالخصاء بقصد التبتَل وترك الاشتغال بملابسة النساء واكتساب الأهل والولد مردود مذموم، وصاحبه معتد غير محبوب عند الله، حسبما نبَّه قوله تعالى: { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } (2)، وكذلك فقء العين، لئلا ينظر إلى ما لا يحل له!!
ومثال ما يقع فى النسل:
ما ذكر من أنكحة الجاهلية التى كانت معهودة فيها ومعمولاً بها ومتخذه فيها كالدين المنتسب والملة الجارية التى لا عهد بها فى شريعة إبراهيم عليه السلام ولا غيره، بل كانت من جملة ما اخترعوا وابتدعوا.
ومثال ما يقع فى العقل:
أن الشريعة بيَّنت أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع فى دينه على ألسنة أنبيائه ورسله، ولذلك قال تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } (3)، وقال تعالى: { فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول } (4)، وقال: { إن الحكم إلا لله } (5) ... وأشباه ذلك من الآيات والأحاديث.
فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال فى التشريع، وأنه محسَّن ومقبَّح، فابتدعوا فى دين الله ما ليس فيه.
ومثال ما يقع فى المال:
__________
(1) ... رواه البخاري (5073) ومسلم (1402) والترمذي (1083) والنسائي (6/58) وفي الكبرى، وابن ماجة (1848) والدارمي (2/133) وابن حبان (4027) والبيهقي (7/79) وعبد الرزاق (10375) من حديث سعد بن أبي وقاص، وتقدم ص292.
(2) ... المائدة: 87.
(3) ... الإسراء: 15.
(4) ... النساء: 59.
(5) ... الأنعام: 57.(1/16)
أن الكفار قالوا: { إنما البيع مثل الربا } (1)، فإنهم لما استحلوا العمل به، احتجوا بقياس فاسد، فقالوا: إذا فسخ العشرة التى اشترى بها إلى شهر فى خمسة عشر إلى شهرين، فهو كما لو باع بخمسة عشر إلى شهرين، فأكذبهم الله تعالى، وردَّ عليهم، فقال: { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } (2)، أى: ليس البيع مثل الربا.
فهذه محدثة أخذوا بها مستندين إلى رأى فاسد، فكان من جملة المحدثات، كسائر ما أحدثوا فى البيوع الجارية بينهم، المبنية على الخطر والغرر.
[كل بدعة ضلالة]
إذا تقرر أن البدع ليست فى الذم ولا فى النهى على رتبة واحدة، وأن منها ما هو مكروه كما أن منها ما هو محرم، فوصف الضلالة لازم لها، وشامل لأنواعها، لما ثبت من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (كل بدعة ضلالة)(3).
لكن يبقى ها هنا إشكال(4)، وهو أن الضلالة ضد الهدى، لقوله تعالى: { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } (5)، وقوله: { ومن يضلل الله فما له من هاد } (6)، { ومن يهد الله فما له من مضل } (3) ... وأشباه ذلك مما قوبل فيه بين الهدى والضلال، فإنه يقتضى أنهما ضدان، وليس بينهما واسطة تعتبر فى الشرع، فدل على أن البدع المكروهة خروج عن الهدى.
__________
(1) ... البقرة: 275.
(2) ... البقرة: 16.
(3) ... تقدم تخريجه ص42.
(4) ... هذا هو الإشكال الأول.
(5) ... غافر: 33.
(6) ... الزمر: 37.(1/17)
ونظيره فى المخالفات (التى ليست ببدع) المكروهة من الأفعال، كالالتفات اليسير فى الصلاة من غير حاجة، والصلاة وهو يدافعه الأخبثان ... وما أشبه ذلك(1).
ونظيره فى الحديث: (نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يحرم علينا)(2).
__________
(1) ... حديث الالتفات رواه البخاري (571) عن عائشة قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد" والترمذي (590) وأبو داود (910) والنسائي (3/8) وابن خزيمة (484) وابن حبان (2287) والبيهقي (2/281) وعبد الرزاق (3275)، وفي الباب عند الترمذي من حديث أنس، وعند أبي داود والنسائي من حديث أبي ذر، ومن حديث الحارث الأشعري عند الترمذي والنسائي وأحمد.
وحديث: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) رواه من حديث عائشة مسلم (560) وأبو داود (89) وابن خزيمة (933) وابن حبان (2073) والبيهقي (3/73) والحاكم. وفي الباب من حديث أبي هريرة عند ابن حبان والحاكم، وعند أبي داود من حديث عبد الله بن أرقم ومن حديث ثوبان.
(2) ... رواه البخاري (1278) ومسلم (938) وعبد الرزاق (6288) والبيهقي (4/77) وابن أبي شيبة (2/482) من حديث أم عطية، ولفظه: "ولم يُعزَم علينا".(1/18)
فالمرتكب للمكروه لا يصح أن يُقال فيه مخالف ولا عاص، مع أن الطاعة ضدها المعصية، وفاعل المندوب مطيع، لأنه فاعل ما أُمر به، فإذا اعتبرت الضد، لزم أن يكون فاعل المكروه عاصياً، لأنه فاعل ما نهى عنه، لكن ذلك غير صحيح، إذ لا يطلق عليه عاص، فكذلك لا يكون فاعل البدعة المكروهة ضالاً، وإلا فلا فرق بين اعتبار الضد فى الطاعة واعتباره فى الهدى، فكما يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة، فكذلك يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية، وإلا فلا يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة، كما لا يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية، إلا أنه قد تقدم عموم لفظ الضلالة لكل بدعة، فليعم لفظ المعصية كل فعل مكروه، لكن هذا باطل، فما لزم عنه كذلك.
والجواب: أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ثابت –كما تقدم بسطه-، وما التزمتم فى الفعل المكروه غير لازم:
أما أولاً: فإنه لا يلزم فى الأفعال أن تجرى على الضدية المذكورة إلا بعد استقراء الشرع، ولما استقرينا موارد الأحكام الشرعية، وجدنا للطاعة والمعصية واسطة متفقاً عليها أو كالمتفق عليها، وهى المباح، وحقيقته أنه ليس بطاعة من حيث هو مباح، فالأمر والنهى ضدان بينهما واسطة لا يتعلق بها أمر ولا نهى، وإنما يتعلق بها التخيير.
وإذا تأملنا المكروه –حسبما قرره الأصوليون-، وجدناه ذا طرفين: طرف من حيث هو منهى عنه، فيستوى مع المحرم فى مطلق النهى، فربما يتوهم أن مخالفة نهى الكراهية معصية من حيث اشترك مع المحرم فى مطلق المخالفة.
غير أنه يصد عن هذا الإطلاق الطرف الآخر، وهو أن يعتبر من حيث لا يترتب على فاعله ذم شرعى ولا إثم ولا عقاب، فخالف المحرم من هذا الوجه، وشارك المباح فيه، لأن المباح لا ذم على فاعله ولا إثم ولا عقاب، فتحاملوا أن يطلقوا على ما هذا شأنه عبارة المعصية.(1/19)
وإذا ثبت هذا، وجدنا بين الطاعة والمعصية واسطة لا يصح أن ينسب إليها المكروه من البدع، وقد قال الله تعالى: { فماذا بعد الحق إلا الضلال } (1)، فليس إلا الحق وهو هدى، والضلال وهو باطل، فالبدع المكروهة ضلال.
وأما ثانياً: فإن إثبات قسم الكراهة فى البدع على الحقيقة مما ينظر فيه، فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض البدع، وإنما حقيقة المسألة أن البدع ليست على رتبة واحدة فى الذم، كما تقدم بيانه، وأما تعيين الكراهة التى معناها نفى إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة، فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع، ولامن كلام الأئمة على الخصوص.
أما الشرع، ففيه ما يدل على خلاف ذلك، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد على من قال: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: أما أنا فلا أنكح النساء ... إلى آخر ما قالوا، فرد عليهم ذلك عليه السلام، وقال: (من رغب عن سنتى، فليس منى)(2).
وهذه العبارة أشد شىء فى الإنكار، ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر.
وكذلك ما فى الحديث: أنه عليه السلام رأى رجلاً قائماً فى الشمس، فقال: (ما بال هذا؟). قالوا: نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (مره، فليجلس وليتكلم، وليستظل وليتم صومه)(3).
__________
(1) ... يونس: 32.
(2) ... تقدم تخريجه ص51، 254.
(3) ... تقدم تخريجه ص293.(1/20)
قال مالك: أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة، ويترك ما كان عليه فيه معصية. وقد مر ما روى الزبير بن بكار، واتاه رجل، فقال: يا ابا عبد الله! من أين أحرم؟ قال: من ذى الحليفة، من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال: إنى أريد أن أحرم من المسجد. فقال: لا تفعل. قال: إنى أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل، فإنى أخشى عليك الفتنة. قال وأى فتنة فى هذا؟ إنما هى أميال أزيدها! قال: وأى فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ إنى سمعت الله تعالى يقول: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } (1).
فأنت ترى أنه خشى عليه الفتنة فى الإحرام من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه، وهو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموضع قبره، لكنه أبعد من الميقات، فهو زيادة فى التعبد قصداً لرضى الله ورسوله، فبين أن ما استسهله من ذلك الأمر اليسير فى بادى الرأى يخاف على صاحبه الفتنة فى الدنيا والعذاب فى الآخرة، واستدل بالآية.
فكل ما كان مثل ذلك، داخل –عند مالك- فى معنى الآية، فأين كراهية التنزيه فى هذه الأمور التى يظهر بأول النظر أنها سهلة ويسيرة؟!
وقصة صُبيغ العراقى ظاهرة فى هذا المعنى، فحكى ابن وهب، قال: حدثنا مالك بن أنس، قال: جعل صبيغ يطوف بكتاب الله معه، ويقول: من يتفقه يفقهه الله، من يتعلم يعلمه الله، فأخذه عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فضربه بالجريد الرطب، ثم سجنه، حتى إذا خف الذى به، أخرجه، فضربه، فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلى، فأجهز على، وإلا، فقد شفيتنى شفاك الله، فخلاه عمر(2).
__________
(1) ... النور: 63.
(2) ... تقدمت قصته ص125.(1/21)
وهذا الضرب إنما كان لسؤاله عن أمور من القرآن لا ينبنى عليها عمل، وربما نقل عنه أنه كان يسأل عن { السابحات سبحاً } (1)، و { المرسلات عرفاً } (2) ... وأشباه ذلك، والضرب إنما يكون لجناية أربت على كراهية التنزيه، إذ لا يستباح دم امرئ مسلم ولا عرضه بمكروه كراهية تنزيه، ووجه ضربه إياه خوف الابتداع فى الدين أن يشتغل منه بما لا ينبنى عليه عمل، وأن يكون ذلك ذريعة، لئلا يُبحث عن المتشابهات القرآنية.
والشواهد فى هذا المعنى كثيرة، وهى تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين، { وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم } (3).
وأما كلام العلماء، فإنهم –وإن أطلقوا الكراهية فى الأمور المنهى عنها- لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط، وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبيلين، فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع، وأشباه ذلك.
وأما المتقدمون من السلف، فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نصَّ فيه صريحاً أن يقولوا: هذا حلال، وهذا حرام، ويتحامون هذه العبارة، خوفاً مما فى الآية من قوله: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } (4)، وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى، فإذا وجدت فى كلامهم فى البدعة أو غيرها: أكره هذا، ولا أحب هذا، وهذا مكروه ... وما أشبه ذلك، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط، فإنه إذا دلَّ الدليل فى جميع البدع على أنها ضلالة، فمن أين يعدُّ فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه؟! اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل فى الشرع، ولكن يعارضه أمر آخر معتبر فى الشرع، فيكره لأجله، لا لأنه بدعة مكروهة، على تفصيل يذكر فى موضعه.
__________
(1) ... النازعات: 3.
(2) ... المرسلات: 1.
(3) ... النازعات: 3.
(4) ... النحل: 116.(1/22)
وأما ثالثاً: فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة –دقت أو جلت-، وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة، وبيان ذلك من أوجه:
أحدها: أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة، متكلا على العفو اللازم فيه، ورفع الحرج الثابت فى الشريعة، فهو إلى الطمع فى رحمة الله أقرب.
وأيضاً، فليس عقده الإيمانى بمتزحزح، لأنه يعتقد المكروه مكروهاً كما يعتقد الحرام حراماً، وإن ارتكبه، فهو يخاف الله ويرجوه، والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان.
فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى فى حقه من الفعل، وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه، ويود لو لم يفعل.
وأيضاً، فلا يزال –إذا تذكر- منكسر القلب، طامعاً فى الإقلاع، سواء عليه أخذ فى أسباب الإقلاع أم لا.
ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال، فإنه يعد ما دخل فيه حسناً، بل يراه أولى مما حد له الشارع، فأين مع هذا خوفه أو رجاؤه وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلاً، ونحلته أولى بالاتباع.
والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس.
[هل فى البدع صغائر وكبائر]
إذا ثبت هذا، انتقلنا منه إلى معنى آخر، وهو أن المحرم ينقسم فى الشرع إلى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرة، حسبما تبين فى علم الأصول الدينية، فكذلك يُقال فى البدع المحرمة: إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة، اعتباراً بتفاوت درجاتها –كما تقدم- وهذا على القول بأن المعاصى تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة.
ولقد اختلفوا فى الفرق بينهما على أوجه، وجميع ما قالوه لعله لا يوفى بذلك المقصود على الكمال، فلنترك التفريع عليه.(1/23)
وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر فى كتاب "الموافقات": أن الكبائر منحصرة فى الإخلال بالضروريات المعتبرة فى كل ملة، وهى: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، وكل ما نص عليه راجع إليها، وما لم ينص عليه جرت فى الاعتبار والنظر مجراها، وهو الذى يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو فى معناه.
فكذلك نقول فى كبائر البدع: ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات، فهو كبيرة، ومالا، فهى صغيرة، وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب، فكما انحصرت كبائر المعاصى أحسن انحصار –حسبما أشير إليه فى ذلك الكتاب-، كذلك تنحصر كبائر البدع أيضاً.
وعند ذلك يعترض فى المسألة إشكال عظيم(1) على أهل البدع، يعسر التخلص منه فى إثبات الصغائر فيها، وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما أصلاً وإما فرعاً، وإذا كانت بكليتها إخلالاً بالدين، فهى إذاً إخلال بأول الضروريات، وهو الدين، وقد أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة، وقال فى الفرق: (كلها فى النار إلا واحدة)(2)، وهذا وعيد أيضاً للجميع على التفصيل.
__________
(1) ... هذا هو الإشكال الثانى.
(2) ... تقدم تخريجه ص22، وقد وردت هذه الرواية من حديث معاوية عند أحمد (4/102) وأبو داود (4597) وابن أبي عاصم في السنة والدارمي والحاكم والطبراني، ورواها من حديث أنس أحمد (3/120) وابن ماجة (3993) والطبراني في الأوسط والصغير وابن أبي عاصم وأبو يعلى، ورواها من حديث أبي أمامة أحمد والطبراني، ورواها من حديث عبد الله بن سلام عبد الرزاق والآجرى ... انظر تفصيل تخريجه مطولاً في "شخذ الهمة بتخريج أحاديث افتراق الأمة".(1/24)
هذا، وإن تفاوتت مراتبها فى الإخلال بالدين، فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر، كما أن القواعد الخمس أركان الدين، وهى متفاوته فى الترتيب، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان، وكذلك سائرها مع الإخلال، فكل منها كبيرة، فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة.
ويجاب عنه: بأن هذا النظر يدل على ما ذكر، ففى النظر ما يدل من جهة أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه:
أحدها: أنا نقول: الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال، ولكنها على مراتب، أدناها لا يسمى كبيرة، فالقتل كبيرة، وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة دونها، وقطع عضو واحد كبيرة دونها ... وهلم جرا إلى أن تنتهى إلى اللطمة، ثم إلى أقل خدش يتصور، فلا يصح أن يقال فى مثله كبيرة.
فالصغائر فى البدع ثابتة، كما أنها فى المعاصى ثابتة.
والثانى: أن البدع تنقسم إلى ما هى كلية فى الشريعة وإلى جزئية، ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كلياً فى الشريعة، كبدعة التحسين والتقبيح العقليين، وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصاراً على القرآن، وبدعة الخوارج فى قولهم: لا حكم إلا الله ... وما أشبه ذلك من البدع التى لا تختص فرعاً من فروع الشريعة دون فرع، بل تجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية، أو يكون الخلل الواقع جزئياً، إنما يأتى فى بعض الفروع دون بعض، كبدعة التثويب بالصلاة الذى قال فيه مالك: التثويب ضلال(1)، وبدعة الأذان والإقامة فى العيدين، وبدعة الاعتماد فى الصلاة على إحدى الرجلين ... وما أشبه ذلك، فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلاً لها.
__________
(1) ... يعنى به النداء للصلاة بعد الأذان كقولهم: الصلاة يا عباد الله !(1/25)
فالقسم الأول، إذا وعد من الكبائر، اتضح مغزاه، وأمكن أن يكون منحصراً داخلاً تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة، ويكون الوعيد الآتى فى الكتاب والسنة مخصوصاً به لا عاماً فيه وفى غيره، ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو الذى لا ينحصر إلى ذلك العدد، فلا قطع على أن جميعها من واحد، وقد ظهر وجه انقسامها.
والثالث: أن المعاصى قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر، ولا شك أن البدع من جملة المعاصى –على مقتضى الأدلة المتقدمة-، ونوع من أنواعها، فأقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضاً.
(فإن) قيل(1): إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقاً، وإنما يدلُّ ذلك على أنها تتفاضل، فمنها ثقيل وأثقل، ومنها خفيف وأخف، والخفة هل تنتهى إلى حدَّ تعدُّ البدعة فيه من قبيل اللمم؟ هذا فيه نظر.
وقد ظهر معنى الكبيرة والصغيرة فى المعاصى غير البدع، وأما فى البدع، فثبت لها أمران:
أحدهما: أنها مضادة للشارع ومراغمة له، حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة، لا نصب المكتفى بما حُدَّ له.
والثانى: أن كل بدعة –وإن قلًّت- تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع، فيكن قادحاً فى المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا فى نفس الشريعة عامداً، لكفر، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير –قلَّ أو كثر- كفر، فلا فرق بين ما قلَّ منه وما كثر، فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأى غالط رآه أو ألحقه بالمشروع، إذا لم تكفره، لم يكن فى حكمه فرق بين ما قلَّ منه وما كثر، لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل ولا بكثير.
ويعضد هذا النظر عموم الأدلة فى ذم البدع من غير استثناء فى الفرق بين بدعة جزئية وبدعة كلية.
وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثانى.
__________
(1) ... هذا هو الإشكال الثالث.(1/26)
وأما الثالث، فلا حجة فيه، لأن قوله عليه السلام: (كل بدعة ضلالة)، وما تقدم من كلام السلف، يدل على عموم الذم فيها.
وظهر أنها مع المعاصى لا تنقسم ذلك الانقسام، بل إنما ينقسم ما سواها من المعاصى، واعتبر بما تقدَّم ذكره فى الباب الثانى؛ يتبَّين لك عدم الفرق فيها.
وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير أن يقال: كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه، فإذا نسب بعضها إلى بعض، تفاوتت رتبتها، فيكون منها صغار وكبار، إما باعتبار أن بعضها أشد عقاباً من بعض، فالأشد عقاباً أكبر مما دونه، وإما باعتبار فوت المطلوب فى المفسدة، فكما انقسمت الطاعة باتباع السنة إلى الفاضل والأفضل لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل، انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل، والصغر والكبر، من باب النسب والإضافات، فقد يكون الشىء كبيراً فى نفسه، لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه.
وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين، لكن فى انقسام المعاصى إلى الكبائر والصغائر، فقال: المرضِى عندنا أن كل ذنب كبيرة وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله، ولذلك يقال: معصية الله أكبر من معصية العباد قولاً مطلقاً، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه، فإذا نسب بعضها إلى بعض، تفاوتت رتبها. ثم ذكر معنى ما تقدَّم.
ولم يوافقه غيره على ما قاله، وإن كان له وجه فى النظر، وقعت الإشارة إليه فى كتاب "الموافقات".
ولكن الظاهر يأبى ذلك –حسبما ذكره غيره من العلماء-، والظواهر فى البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها –حسبما تقدَّم-، فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات، كما صار اعتقاد نفى كراهية التنزيه عنها من الواضحات.(1/27)
فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل، ويعط من الإنصاف حقه، ولا ينظر إلى خفة الأمر فى ا لبدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت، بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة، ورميها لها بالنقص والاستدراك، وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها، بخلاف سائر المعاصى، فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها، بل صاحب المعصية متنصَّل منها، مقرَُ لله بمخالفته لحكمها.
وحاصل المعصية أنها مخالفة فى فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة، والبدعة حاصلها مخالفة فى اعتقاد كمال الشريعة، فإذاً يصح أن يكون فى البدع ما هو صغيرة.
فالجواب: أن ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق فى تشقيق هذه المسألة:
وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالماً بكونها بدعة، وأن يكون غير عالم بذلك.
وغير العالم بكونها بدعة على ضربين، وهما: المجتهد فى استنباطها وتشريعها، والمقلد له فيها.
وعلى كل تقدير، فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه كقوله: هى بدعة، ولكنها مستحسنة، أو يقول: إنها بدعة، ولكنى رأيت فلاناً الفاضل يعمل بها.
وإذا كان كذلك، فقول مالك: من أحدث فى هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، إنما (هو) إلزام للخصم على عادة أهل النظر، كأنه يقول: يلزمك فى هذا القول كذا، لأنه يقول: قصدت إليه قصداً، لأنه لا يقصد إلى ذلك مسلم(1).
ولازم المذهب: هل هو مذهب أم لا، رأى المحققين: أن لازم المذهب ليس بمذهب.
ثم إن البدع على ضربين: كلية وجزئية:
فأما الكلية، فهى السائرة فيما لا ينحصر من فروع الشريعة، ومثالها بدع الفرق الثلاث والسبعين، فإنها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات وأما الجزئية، فهى الواقعة فى الفروع الجزئية.
__________
(1) ... انظر كتاب الموافقات فى الحكم على المبتدع.(1/28)
ولا يتحقَّق دخول هذا الضرب من البدع تحت الوعيد بالنار، وإن دخلت تحت الوصف بالضلال، كما لا يتحقّق ذلك فى سرقة لقمة، أو التطفيف بحبة، وإن كان داخلاً تحت وصف السرقة، بل المتحقق دخول عظائمها وكلياتها، كالنصاب فى السرقة، فعلى هذا، إذا اجتمع فى البدعة وصفان: كونها جزئية، وكونها بالتأويل، صح أن تكون صغيرة، والله أعلم.
ومثاله: مسألة من نذر أن يصوم قائماً لا يجلس وضاحياً لا يستظل، ومن حرم على نفسه شيئاً مما أحلَّ الله من النوم أو لذيذ الطعام أو النساء أو الأكل بالنهار ... وما أشبه ذلك مما تقدَّم ذكره ويأتى.
غير أن الكلية والجزئية قد تكون ظاهرة وقد تكون خفية، كما أن التأويل قد يقرب مأخذه وقد يبعد، فيقع الإشكال فى كثير من أمثلة هذا الفصل، فيعد كبيرة ما هو من الصغائر، وبالعكس، فيوكل النظر فيه إلى الاجتهاد.
وإذا قلنا: إن من البدع ما يكون صغيرة، فذلك بشروط:
(أحدها): أن لا يداوم عليها، فإن الصغيرة من المعاصى لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه، لأن ذلك ناشئ على الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يصيَّرها كبيرة، ولذلك قالوا: لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار(1)،
__________
(1) ... رواه البيهقي في شعب الإيمان موقوفاً من حديث ابن عباس (7268). وضعفه الألباني في الجامع (6308) وفي الضعيفة (4810).
وجاء في كشف الخفاء للعلجوني: رواه أبو الشيخ والديلمي عن ابن عباس رفعه وكذا العسكري عنه في الأمثال بسند ضعيف، لا سيما ورواه ابن المنذر في تفسيره عن ابن عباس من قوله، والبيهقي عن ابن عباس موقوفاً، وله شاهد عند البغوي، ومن جهة الديلمي عن أنس مرفوعا،ورواه إسحاق بن بشر في المبتدأ عن عائشة لكن حديثه منكر، وأخرجه الطبراني عن أبي هريرة. وزاد في آخره فطوبى لمن وجد في كتابه استغفارا كثيرا، لكن في إسناده بشر بن عبيد الفارسي متروك، ورواه الثعلبي وابن شاهين في الترغيب عن أبي هريرة.
قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء رحمهم الله: والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة، وروى عن عمر وابن عباس وغيرهما رضى الله عنهم: لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار، معناه: أن الكبيرة تمحى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار. قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام فى حد الإصرار: هو أن تتكرر منه الصغيرة تكراراً يشعر بقلة مبالاته بدينه، إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك، قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: المصر من تلبس من أضداد التوبة باسم العزم على المعاودة أو باستدامة الفعل، بحيث يدخل به ذنبه فى حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيراً عظيماً، وليس لزمان ذلك وعدده حصر، والله أعلم.(1/29)
فكذلك البدعة من غير فرق.
إلا أن المعاصى من شأنها فى الواقع أنها قد يُصرُّ عليها وقد لا يُصرُّ عليها، وعلى ذلك ينبنى طرح الشهادة وسخطه الشاهد بها أو عدمه، بخلاف البدعة، فإن شأنها فى المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها، وأن تقوم على تاركها القيامة.
(والشرط الثانى): أن لا يدعو إليها، فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة، ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها، فيكون إثم ذلك كله عليه، فإنه الذى أثارها فربما تُساوى الصغيرة –من هذه الوجه- الكبيرة أو تُربى عليها.
فمن حق المبتدع إذا ابتُلى بالبدعة أن يقتصر على نفسه، ولا يحمل مع وزره وزر غيره.
(الشرط الثالث): أن لا تفعل فى المواضع التى هى مجتمعات الناس، أو المواضع التى تُقام فيها السنن وتظهر فيها أعلام الشريعة.
فأما إظهارها فى المجتمعات ممن يُقتدى به أو ممَّن يحسن به الظن، فذلك من أضرَّ الأشياء على سنة الإسلام، فإنها لا تعدو أمرين:
إما أن يقتدى بصاحبها فيها، فإن العوام أتباع كل ناعق، لا سيما البدع التى وكل الشيطان بتحسينها للناس.
وأما اتخاذها فى المواضع التى تُقام فيها السنن، فهو كالدعاء إليها بالتصريح، لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية يوهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر، فكأن المظهر لها يقول: هذه سنة، فاتبعوها.
(والشرط الرابع): أن لا يستصغرها ولا يستحقرها –وإن فرضناها صغيرة-، فإن ذلك استهانة بها، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب.
فإذا تحصًّلت هذه الشروط، فإن ذاك يُرجى أن تكون صغيرتها صغيرة، فإن تخلف شرط منها أو أكثر، صارت كبيرة، أو خيف أن تصير كبيرة، كما أن المعاصى كذلك، والله أعلم.
الباب السابع
فى الابتداع هل يدخل فى الأمور العادية
أم يختص بالأمور العبادية
قد تقدم فى حد البدعة ما يقتضى الخلاف فيه: هل يدخل فى الأمور العادية أم لا؟
أما العبادية، فلا إشكال فى دخوله فيها، وهى عامة الباب.(1/30)
وأما العادية: فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها.
- وأمثلتها ظاهرة مما تقدَّم فى تقسيم البدع، كالمكوس، والمحدثة من المظالم، وإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة، واتخاذ المناخل، وغسل اليد بالأشنان، ولبس الطيالس، وتوسيع الأكمام ... وأشباه ذلك من الأمور التى لم تكن فى الزمن الفاضل والسلف الصالح، فإنها أمور جرت فى الناس، وكثر العمل بها، وشاعت وذاعت، فلحقت بالبدع، وصارت كالعبادات المخترعة الجارية فى الأمة، وهذا من الأدلة الدالة على ما قلنا، وإليه مال القرافى وشيخه ابن عبد السلام وذهب إليه بعض السلف.
- وأيضاً، فإن تصور فى العبادات وقوع الابتداع، وقع فى العادات، لأنه لافرق بينهما، فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية، فكلاهما مشروع من قبل الشارع، فكما تقع المخالفة بالابتداع فى أحدهما، تقع فى الآخر.
- ووجه ثالث: وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون فى آخر الزمان هى خارجة عن سنته، فتدخل فيما تقدم تمثيله، لأنها من جنس
واحد.
ففى الصحيح عن عبد الله (رضى الله عنه)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إنكم سترون بعدى أثرة وأموراً تنكرونها) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: (أدوا إليهم حقهم، وسلوا حقكم)(1).
وعن أبى موسى رضى الله عنه، قال: قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : (إن بين يدى لأياماً، ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج)، والهرج: القتل(2).
__________
(1) ... رواه البخاري (3603) ومسلم (1843) وابن حبان (4587) والبيهقي (8/157).
(2) ... رواه من حديث أبي موسى وعبد الله بن مسعود البخاري (7062) ومسلم (2672) وابن ماجة (4050، 4051)، ورواه مسلم عقبه من حديث أبي هريرة، وكذلك البخاري (85) وابن حبان (6711) وأبو داود (4255) وابن ماجة (4047).(1/31)
فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه يكون فى هذه الأمة بعده إنما هو –فى الحقيقة- تبديل الأعمال التى كانوا أحق بالعمل بها، فلما عوضوا منها غيرها، وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعاً، كان من جملة الحوادث الطارئة على نحو ما بين فى العبادات.
والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع الأولون.
أما ما تقدَّم عن القرافى وشيخه، فقد مرَّ الجواب عنه(1)، فإنه معاص فى الجملة، ومخالفات للمشروع، كالمكوس، والمظالم، وتقديم الجهال على العلماء ... وغير ذلك.
والمباح منها كالمناخل، إن فرض مباحاً –كما قالوا-، فإنما إباحته بدليل شرعى، فلا ابتداع فيه، وإن فرض مكروهاً –كما أشار إليه محمد بن أسلم، فوجه الكراهية عنده كونها عدت من المحادثات، إذ أول ما أحدث بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المناخل، أو كما قال، فأخذ بظاهر اللفظ مَن أخذ به، كمحمد بن أسلم.
وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذى أشار إلى كراهيته قوله تعالى { أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا } (2)، لا من جهه أنه بدعة.
وقولهم: كما يتصور ذلك فى العبادات يتصور فى العادات، مسلَّم، وليس كلامنا فى الجواز العقلى، وإنما الكلام فى الوقوع، وفيه النزاع.
وأما ما احتجُّوا به من الأحاديث، فليس فيها على المسألة دليل واحد، إذ لم ينصُّ على أنها بدع أو محدثات أو ما يشير إلى ذلك المعنى.
وأيضاً إن عدوُّ كل محدث العادات بدعة، فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التى لا عهد بها فى الزمان الأول بدعاً، وهذا شنيع، فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والاسم، أفيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متَّبعين لهم؟ هذا من المستنكر جداً.
__________
(1) ... تقدم ص170 وما بعدها.
(2) ... الأحقاف: 20.(1/32)
نعم، لابدَّ من المحافظة فى العوائد المختلفة على الحدود الشرعية والقوانين الجارية على مقتضى الكتاب والسنة.
وأيضاً، فقد يكون التزام الزى الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تبعاً ومشقة، لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال، والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دلَّ الشرع على جوازه ولم يكن ثمَّ معارض.
وإنما جعل الشارع ما تقدم فى الأحاديث المذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها وفحشها (بالنسبة) إلى متقدم الزمان، فإن الخير كان أظهر، والشر كان أخفى وأقل، بخلاف آخر الزمان، فإن الأمر فيه على العكس، والشر فيه أظهر، والخير أخفى وأقل.
وأما كون تلك الأشياء بدعاً، فغير مفهوم على الطريقتين فى حد البدعة، فراجع النظر فيها، تجده كذلك.
والصواب فى المسألة طريقة أخرى، وهى تجمع شتات النظرين، وتحقق المقصود فى الطريقتين، وهو الذى بنى عليه ترجمة هذا الباب، فلنفرده فى فصل على حدته، والله الموفق للصواب.
أفعال المكلَّفين –بحسب النظر الشرعى فيها- على ضربين:
أحدهما: أن تكون من قبيل التعبُّدات.
والثانى: أن تكون من قبيل العادات.
فأما الأول، فلا نظر فيه ها هنا.
وأما الثانى –وهو العادى-، فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها، فمنهم من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعباديات، فكما أنا مأمورون فى العبادات بأن لا نحدث فيها، فكذلك العاديات.
وعلى هذا الترتيب، يكون قسم العاديات داخلاً فى قسم العباديات، فدخول الابتداع فيه ظاهر، والأكثرون على خلاف هذا.(1/33)
وعليه نبنى الكلام، فنقول: ثبت فى الأصول الشرعية أنه لابدَّ فى كل عادىَّ من شائبة التعبُّد، لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهى عنه، فهو المراد بالتعبُّدى، وما عقل معنها وعرفت مصلحته أو مفسدته على التفصيل، فهو المراد بالعادى، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبُّدى، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادى، لأن أحكامها معقولة المعنى، ومع أنها معقولة المعنى، لابد فيها من التعبد، إذ هى مقيدة بأمور شرعية لا خِيَرة للمكلًّف فيها.
وإذا كان كذلك، فقد ظهر اشتراك القسمين فى معنى التعبد، فإن جاء الابتداع فى الأمور العادية من ذلك الوجه، صح دخوله فى العاديات كالعباديات، وإلا فلا.
وهذه هى النكتة التى يدور عليها حكم الباب، ويتبيَّن ذلك بالأمثلة:
فمما أتى به القرافى وضع المكوس فى معاملات الناس، فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتاً ما، أو فى حالة ما، لنيل حطام الدنيا، على هيئة غصب الغاصب، وسرقة السارق، وقطع القاطع للطريق ... وما أشبه ذلك، أو يكون على قصد وضعه على الناس، كالدِّين الموضوع، والأمر المحتوم عليهم دائماً، أو فى أوقات محدودة، وعلى كيفيات مضروبة، بحيث تضاهى التشريع الدائم الذى يُحمَل عليه العامة، ويؤخذون به، وتوجه على الممتنع منه العقوبة، كما فى أخذ زكاة المواشى والحرث وما اشبه ذلك.
فأما الثانى، فظاهر أنه بدعة، إذ هو تشريع زائد، وإلزام للمكلفين يضاهى إلزامهم الزكاة المفروضة والديات المضروبة والغرامات المحكوم بها فى أموال الغصاب المعتدين، بل صار فى حقهم كالعبادات المفروضة واللوازم المحتومة ... أو ما أشبه ذلك، فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك، لأنه شرع مستدرك، وسنن فى التكليف مهيع(1).
__________
(1) ... مَهْيَعٌ: واضحٌ أو بينٌ أو واسع.(1/34)
فتصير المكوس –على هذا الفرض- لها نظران: نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم، ونظر من جهة كونها اختراعاً لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف، فاجتمع فيها نهيان: نهى عن المعصية ونهى عن البدعة.
وكذلك تقديم الجُهَّال على العلماء، وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح بطريق التوريث، هو من قبيل ما تقدم، فإن جعل الجاهل فى موضع العالم، حتى يصير مفتياً فى الدين، ومعمولاً بقوله فى الأموال والدماء والأبضاع وغيرها، محرم فى الدين، وكون ذلك يتخذ ديدناً، حتى يصير الابن مستحقاً لرتبة الأب –وإن لم يبلغ رتبة الأب فى ذلك المنصب- بطريق الوراثة أو غير ذلك، بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس، كالشرع الذى لا يخالف، بدعة بلا إشكال، زيادة إلى القول بالرأى غير الجارى على العلم، وهو بدعة، أو سبب البدعة، كما سيأتى تفسيره إن شاء الله، وهو الذى بينه النبى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (حتى إذا لم يبق عالم، أتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)(1)، وإنما ضلوا لأنهم أفتوا بالرأى، إذ ليس عندهم علم.
وأما إقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمر على خلاف ما كان عليه السلف، فقد تقدم أن البدعة لا تتصور هنا، وذلك صحيح.
__________
(1) ... رواه من حديث عبد الله بن عمرو البخاري (100) ومسلم (2673) والترمذي (2652) والنسائي في الكبرى (5907) وابن ماجة (52) والدارمي (1/77) والبيهقي (10/116) وابن أبي شيبة (7/505).(1/35)
وأما وجهة النظر فى أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع فى العادات على ما أريد تحقيقه، فنقول: إن مدارك تلك الأحاديث على بضع عشرة خصلة يمكن ردها إلى أصول –هى كلها أو غالبها بدع-، وهى: قلة العلم، وظهور الجهل، والشح، وقبض الأمانة، وتحليل الدماء، والزنا، والحرير، والغناء، والربا، والخمر، وكون المغنم دولاً، والزكاة مغرماً، وارتفاع الأصوات فى المساجد، وتقديم الأحداث، ولعن آخر الأمة أولها، وخروج الدجالين، ومفارقة الجماعة.
أما قلة العلم وظهور الجهل: ذلك أن الناس لابد لهم من قائد يقودهم فلابد أن يحملهم على رأيه فى الدين، لأن الفرض أنه جاهل، فيضلهم عن الصراط المستقيم، كما أنه ضال عنه، وهذا عين الابتداع، لأنه التشريع بغير أصل من كتاب ولا سنة.
وأما الشح، فإنه مقدمة لبدعة الاحتيال على تحليل الحرام، وذلك أن الناس يشحون بأموالهم حتى صار الموسر لا يسمح بما فى يديه فيضطر المعسر إلى أن يدخل فى المعاملات التى ظاهرها الجواز وباطنها المنع، كالربا والسلف الذى يجر النفع. فإذا كان كذلك، فالحرىُّ أن يصير ذلك ابتداع فى الدين، وأن يجعل من أشراط الساعة.
فإن قيل: هذا انتجاع من مكان بعيد، وتكلف لا دليل عليه.(1/36)
فالجواب: أنه لولا أن ذلك مفهوم من الشرع، لما قيل به، فقد روى أحمد فى "مسنده" من حديث ابن عمر (رضى الله عنهما)، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد فى سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم)(1).
__________
(1) ... (صحيح بمجموع طرقه): رواه أحمد (2/28، 42، 84) وأبو داود (3462) والبيهقي (5/316)، وقال الشوكاني في نيل الأوطار: الحديث أخرجه أيضا الطبراني وابن القطان وصححه، قال الحافظ في بلوغ المرام: ورجاله ثقات، وقال في التلخيص: وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً، لأن الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني، فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر انتهى. وقال المنذري في مختصر السنن ما لفظه: في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني نزيل مصر: لا يحتج بحديثه، وفيه أيضا عطاء الخراساني وفيه مقال. انتهى. قال الذهبي في الميزان: إن هذا الحديث من مناكيره.
وقد ورد النهي عن العينة من طرق عقد لها البيهقي في سننه باباً ساق فيه جميع ما ورد في ذلك، وذكر علله، وقال: روي حديث العينة من وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال: وروي عن ابن عمر موقوفاً أنه كره ذلك. قال ابن كثير: وروي من وجه ضعيف أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً، ويعضده حديث عائشة (حديث أم ولد زيد بن أرقم) وهذه الطرق يشد بعضها بعضاً.
قوله: بالعينة: بكسر العين المهملة ثم ياء تحتية ساكنة ثم نون، قال الجوهري: العينة بالكسر السلف. وقال في القاموس: وعين أخذ بالعينة بالكسر أي السلف، أو أعطى بها، قال: والتاجر باع سلعته بثمن إلى أجل ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن انتهى. قال الرافعي: وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل، ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر.
وصحح الحديث الألباني بمجموع طرقه: انظر: الصحيحة/ 11.(1/37)
فتأمل كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس، فأشعر بأن التبايع بالعينة يكون عند الشح بالأموال، وهو معقول فى نفسه، فإن الرجل لا يتبايع أبداً هذا التبايع وهو يجد من يسلفه أو من يعينه فى حاجته، إلا أن يكون سفيهاً لا عقل له. فقد صار الشح إذاً سبباً فى دخول هذه المفاسد فى البيوع.
فإن قيل: كلامنا فى البدعة لأن هذه الأشياء بيوع فاسدة، فصارت من باب آخر لا كلام لنا فيه.
فالجواب: أن مدخل البدعة ها هنا من باب الاحتيال الذى أجازه بعض الناس، فقد عدة العلماء من البدع المحدثات، حتى قال ابن المبارك فى كتاب وضع فى الحيل: من وضع هذا، فهو كافر، ومن سمع به فرضى به، فهو كافر، ومن حمله من كورة إلى كورة، فهو كافر، ومن كان عنده فرضى به، فهو كافر، وذلك أنه وقع فيه الاحتيالات بأشياء منكرة، حتى احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتدَّ !!.(1/38)
وإنما وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم فى أن يحتالوا للحرام حتى يصير حلالاً، وللواجب حتى يكون غير واجب، وما أشبه ذلك من الأمور الخارجة عن نظام الدين، كما أجازوا نكاح المحلل(1)، وهو احتيال على ردة المطلقة ثلاثاً لمن طلقها، وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالهبة المستعارة (2) ... وأشباه ذلك، فقد ظهر وجه الإشارة فى الأحاديث المتقدمة المذكورة فيها الشح، وأنها تتضمن ابتداعاً كما تتضمن معاصى جملة.
وأما قبض الأمانة، فعبارة عن شياع الخيانة، وهى من سمات أهل النفاق، ولكن قد صار فى الناس بعض أنواعها تشريعاً، وحكيت عن قوم ممن ينتمى إلى العلم، فإن أهل الحيل المشار إليهم إنما بنوا فى بيع العينة على إخفاء ما لو أظهروه لكان البيع فاسداً، فأخفوه لتظهر صحته.
__________
(1) ... وردت عدة أحاديث في المحلل: منها حديث ابن مسعود: "لعن رسول الله المحلل والمحلل له". رواه أحمد (1/448) والترمذي (1120) والدارمي (2/158) والنسائي (6/149) والبيهقي (7/208) وسنده صحيح. وروى أحمد والبيهقي (7/208) نحوه من حديث أبي هريرة وسنده حسن، ورواه أحمد وأبو داود (2076) والترمذي (1119) وابن ماجة (1935) من حديث على وسنده ضعيف. ومن حديث عقبة بن عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له". رواه ابن ماجة (1936) والحاكم (2/199) والبيهقي (7/208) وسنده حسن. وانظر: زاد المعاد (5/100) ومصنف عبد الرزاق (6/265).
(2) ... سيأتي قريباً بيان المصنف للهبة المستعارة.(1/39)
وكذلك يهب ماله عند رأس الحول، قائلاً بلسان حاله أو مقاله: أنا غير محتاج إلى هذا المال، وأنت أحوج إليه منى، ثم يهبه، فإذا جاء الحول الآخر، قال الموهوب له للواهب مثل المقالة الأولى، والجميع فى الحالين –بل فى الحولين- فى تصريف المال سواء، أليس هذا خلاف الأمانة؟ والتكليف من أصله أمانه فيما بين العبد وربه، فالعمل بخلافه خيانة.
وأما تحليل الدماء والربا والحرير والغناء والخمر، فخرَّج أبو داود وأحمد وغيرهما عن أبى املك الأشعرى رضى الله عنه: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ليشربن ناس من أمتى الخمر يسمُّونها بغير اسمها).
زاد ابن ماجة: (يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير)(1).
وخرجه البخارى عن أبى عامر أو أبى مالك الأشعرى، قال فيه: (لكونن من أمتى أقوام يستحلُّون الخز والحرير والخمر والمعازف، ولنزلن أقوام إلى جنب علم، تروح عليهم سارحة لهم، يأتيهم رجل لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)(2).
__________
(1) ... رواه ابن ماجة (4020) وأبو داود (3688) وأحمد (5/342) والبيهقي (8/295)، والحديث صحيح.
(2) ... رواه البخاري (5590) معلقاً بصيغة الجزم عن هشام بن عمار، وذكر الحافظ في الفتح أنه وصله من طريق هشام بن عمار: الطبراني في الكبير وأبو نعيم في مستخرجه والإسماعيلي كذلك. هذا وقد رد ابن حزم هذا الحديث في المحلى (9/59) وأعله بالانقطاع، ورد الألباني على تعليل ابن حزم في الصحيحة/ 91 وصحح الحديث. تنبيه: بعض روايات الحديث (الحر) بالمهملتين: يعني الفرج، وهو الأشهر، وبعضها (الخز) بالمعجمتين: وهو الإبرَيسم: نوع من الحرير.(1/40)
وهذا نص فى أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانو متأولين فيها، حيث زعموا أن الشراب الذى شربوه ليس هو الخمر، وإنما له اسم آخر، إما النبيذ أو غيره، وإنما الخمر عصير العنب النئ، وهذا رأى طائفة من الكوفيين، وقد ثبت أن (كل مسكر خمر)(1).
قال بعضهم: وإنما أتى على هؤلاء، حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته. قال: وهذه بعينها شبهة اليهود فى استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت فى الشباك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة، حيث قالوا: ليس هذا بصيد ولا عمل يوم السبت.
فإذا كان هؤلاء المذكورون فى الحديث إنما شربوا الخمر استحلالاً لها، لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير عصير العنب النيئ، فشبهتهم فى استحلال الحرير والمعازف أظهر، وليس فى هذا النوع من دلائل التحريم ما فى الخمر، فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون، إنما فُعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذى استحلوا به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته فى تحريم هذه الأشياء.
__________
(1) ... رواه من حديث ابن عمر مسلم (2003) الترمذي (1861) وأبو داود (3979) والنسائي (8/297) وابن ماجة (3390) وابن حبان (5366) والدارقطني (4/248) والبيهقي (8/388).
تنبيه: كونهم يسمونها بغير اسمها ليس دليلاً على أنهم متأولون، بل قد يكون فيه دليل على أنهم مخادعون مضللون يسمونها بغير اسمها حتى لا يقال أنهم يشربون الخمر، فتغييرهم للاسم حيلة مكشوفة كحيلة اليهود في الصيد يوم السبت، كما ذكر المصنف بعد ذلك، والله أعلم.(1/41)
قالوا: ويشبه –والله أعلم- أن يراد بذلك ظهور استحلال نكاح المحلل ونحو ذلك مما يوجب استحلال الفروج المحرمة(1)، فإن الأمة لم يستحل أحد منها الزنا الصريح، ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل، فإن هذا لم يزل معمولاً فى الناس، ثم لفظ الاستحلال إنما يستعمل فى الأصل فيمن اعتقد الشىء حلالاً، والواقع كذلك، فإن هذا الملك العضوض الذى كان بعد الملك والجبرية قد كان فى أواخر عصر التابعين، فى تلك الأزمان صار فى أولى الأمر من يفتى بنكاح المحلل ونحوه، ولم يكن قبل ذلك من يفتى به أصلاً.
ويؤيد ذلك أنه فى حديث ابن مسعود رضى الله عنه المشهور: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له(2).
وروى أحمد عن ابن مسعود رضى الله عنه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما ظهر فى قوم الربا والزنا، إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله)(3).
فهذا يشعر بأن التحليل من الزنا كما يشعر أن العينة من الربا.
وقد جاء عن ابن عباس (رضى الله عنهما) موقوفاً ومرفوعاً، قال: (يأتى على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء بخمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت بالهدية، والقتل بالرهبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع).
فإن الثلاثة المذكورة أولاً قد سبقت.
__________
(1) ... ومن ذلك استحلالهم الفرج الحرام بدعوى ما يسمى بالزواج العرفي، وما هو إلا زنى مقنَّع.
(2) ... رواه النسائي (6/149) وفي الكبرى (5536) ورواه عبد الرزاق من طريق الأعمش عنه (8/315) وصححه الألباني في السنن.
(3) ... (حسن) الجامع/5510، رواه أحمد (1/402) وأبو يعلى بإسناد جيد كما في مجمع الزوائد (4/118) ومن طريقه ابن حبان (4410).(1/42)
وأما كون الزكاة مغرماً، فالمغرم ما يلزم أداؤه من الديون والغرامات، كان الولاة يلزمونها الناس بشىء معلوم من غير نظر إلى قلة مال الزكاة أو كثرته أو قصوره عن النصاب أو عدم قصوره، بل يأخذونهم بها على كل حال إلى الموت، وكون هذا بدعة ظاهر.
وأما ارتفاع الأصوات فى المساجد، فناشئ عن بدعة الجدال فى الدين، فإنه غير مشروع فى الأصل، فقد جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال فى الدين، وهو الكلام فيما لم يؤذن فى الكلام فيه، كالكلام فى المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما(1)، وكمتشابهات القرآن، ولأجل ذلك جاء فى الحديث عن عائشة رضى الله عنها: أنها قالت: "تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: { هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } (2)، قال: "فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم"(3).
والكلام فى ذم الجدال كثير، فإذا كان مذموماً، فمن جعله محموداً وعده من العلوم النافعة بإطلاق، فقد ابتدع فى الدين، ولما كان اتباع الهوى أصل الابتداع، لم يعدم صاحب الجدال أن يمارى ويطلب الغلبة، وذلك مظنة رفع الأصوات.
فإن قيل: عددت رفع الأصوات من فروع الجدال وخواصه، وليس كذلك، فرفع الأصوات قد يكون فى العلم، ولذلك كره رفع الأصوات فى المسجد، وإن كان فى العلم أو فى غير العلم.
قال ابن القاسم فى "المبسوط": رأيت مالكاً يعيب على أصحابه رفع أصواتهم فى المسجد.
وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين:
إحداهما: أنه يحبُّ أن ينزه المسجد عن مثل هذا، لأنه مم أمر بتعظيمه وتوقيره.
__________
(1) ... يقصد صفات الباري جل وعلا، وينظر لزاماً ما تقدم من التنبيه على عقيدة الشاطبي رحمه الله ص91.
(2) ... آل عمران: 7.
(3) ... رواه من حديث عائشة مسلم (2665) والترمذي (2994) والدارمي (1/55) وابن حبان (73).(1/43)
والثانية: أنه مبنى للصلاة، وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار(1)، فإن يُلزم ذلك فى موضعها المتخذ لها أولى.
فإذا كان كذلك، فمن أين يدل ذم رفع الصوت فى المسجد على الجدل المنهى عنه؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن رفع الصوت من خواص الجدال المذموم، أعنى: فى أكثر الأمر دون الفلتات.
وأيضاً، لم يكثر الكلام جداً فى نوع من أنواع العلم فى الزمان المتقدم، إلا فى علم الكلام، وإلى غرضه تصوبت سهام النقد والذم، فهو إذاً هو.
والثانى: أنا لو سلمنا أن مجرد رفع الأصوات يدل على ما قلنا، لكان أيضاً من البدع، إذا عُدَّ كأنه من الجائز فى جميع أنواع العلم، فصار معمولاً به.
وأما تقديم الأحداث على غيرهم، فمن قبيل ما تقدم من كثرة الجهال وقلة العلم.
فإذاً، تقديم الأحدث على غيرهم، من باب تقديم الجهال على غيرهم، ولذلك قال فيهم: "سفهاء الأحلام"، وقال (يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم..) إلى آخره، وهو منزل على الحديث الآخر فى الخوارج: (إن من ضئضىء هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم)(2) إلى آخر الحديث، يعنى: أنهم لم يتفقهوا فيه، فهو فى ألسنتهم لا فى قلوبهم.
__________
(1) ... رواه من حديث أبي هريرة البخاري (636) ومسلم (602) والترمذي (327) وأبو داود (572) والنسائي (2/114) وابن ماجة (775) وابن خزيمة (1646) وابن حبان (2145) وابن أبي شيبة (2/138) والبيهقي (1/407)، ورواه أبو داود (539) وغيره بنحوه من حديث أبي قتادة.
(2) ... رواه من حديث علي مسلم (1066) والبخاري (3611) والنسائي (7/119) وأبو داود (4767) وابن حبان (6739) وعبد الرزاق (10/157)، ورواه من حديث ابن مسعود الترمذي (2188) وابن ماجة (168)، وانظر ما تقدم من تخريج ص113، 119.(1/44)
وأما لعن آخر هذه الأمة أولها، فظاهر مما ذكر العلماء عن بعض الفرق الضالة، فإن الكاملية من الشيعة كفرت الصحابة رضى الله عنهم، حين لم يصرفوا الخلافة إلى على رضى الله عنه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكَفَّرت عليا رضى الله عنه حين لم يأخذ بحقه فيها.
وأما بعث الدجالين، فقد كان ذلك جملة: منهم من تقدم فى زمان بنى العباس وغيرهم.
وأما مفارقة الجماعة، فبدعتها ظاهرة، ولذلك يجازى بالمِيتة الجاهلية(1)، وقد ظهر فى الخوارج وغيرهم ممن سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم.
فهذه أيضاً من جملة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث وباقى الخصال المذكورة عائد إلى نحو آخر، ككثرة النساء وقلة الرجال، وتطاول الناس فى البنيان، وتقارب الزمان.
فالحاصل أن أكثر الحوادث التى أخبر بها النبى - صلى الله عليه وسلم - من أنها تقع وتظهر وتنتشر فى الأمة أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع، لكن من جهة التعبد لا من جهة كونها عادية، وهو الفرق بين المعصية التى هى بدعة والمعصية التى هى ليست ببدعة.
وإن العاديات من حيث هى عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يُتعبد بها أو توضع وضع التعبد تداخلها البدعة، وحصل بذلك اتفاق القولين، وصار المذهبان مذهباً واحداً، وبالله التوفيق.
__________
(1) ... رواه البخاري (7053) ولفظه: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية". ومسلم (1849)، وروى نحوه الترمذي (2863) من حديث الحارث الأشعري، وأبو داود من حديث أبي ذر (4758).(1/45)
فإن قيل: أما الابتداع بمعنى أنه نوع من التشريع على وجه التعبد فى العاديات من حيث هو توقيت معلوم معقول، فإيجابه أو إجازته بالرأى -كما تقدم من أمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجة عن الجادة– فظاهر، ومن ذلك القول بالتحسين والتقبيح العقلى، والقول بترك العمل بخبر الواحد ... وما أشبه ذلك، فالقول بأنه بدعة قد تبين وجهه واتضح مغزاه، وإنما يبقى وجه آخر يشبهه وليس به، وهو أن المعاصى والمنكرات والمكروهات قد تظهر وتفشو ويجرى العمل بها بين الناس على وجه لا يقع لها إنكار من خاص ولا عام، فما كان منها هذا شأنه، هل يعد مثله بدعة أم لا؟
فالجواب: أن مثل هذه المسألة لها نظران:
أحدهما: نظر من حيث وقوعها عملاً واعتقاداً فى الأصل، فلا شك أنها مخالفة لا بدعة، إذ ليس من شرط كون الممنوع والمكروه غير بدعة ألا ينشرها ولا يظهرها، إنه ليس من شرط أن تنشر، ولا تزول المخالفة ظهرت أو لا، واشتهرت أم لا، وكلك دوام العمل أو عدم دوامه، لا يؤثر فى واحدة منهما، والمبتدع قد يقلع عن بدعته، والمخالف قد يدوم على مخالفته إلى الموت، عياذاَ بالله.
والثانى: نظر من جهة ما يقترن بها من خارج، فالقرائن قد تقترن، فتكون سبباً فى مفسدة حالية، وفى مفسدة مآلية، كلاهما راجع إلى اعتقاد البدعة.
أما الحالية، فبأمرين:
الأول: أن يعمل بها الخواص من الناس عموماً، وخاصة العلماء خصوصاً، وتظهر من جهتهم، وهذه مفسدة فى الإسلام، ينشأ عنها عادة من جهة العوام استسهالها واستجازتها، لأن العالم المنتصب مفتياً للناس بعمله كما هو مفت بقوله، فإذا نظر الناس إليه وهو يعمل بأمر هو مُخالفة، حصل فى اعتقادهم جوازه، ويقولون: لو كان ممنوعاً أو مكروهاً، لامتنع منه العالم.(1/46)
هذا، وإن نص على منعه أو كراهته، فإن عمله معارض لقوله، فإما أن يقول العامى: إن العالم خالف بذلك، ويجوز عليه مثل ذلك، وهم عقلاء الناس، وهم الأقلون، وإما أن يقول: إنه وجد فيه رخصة، فإنه لو كان كما قال، لم يعمل به، فيرجح بين قوله وفعله، والفعل أغلب من القول فى جهة التأسى، كما تبين فى كتاب "الموافقات"، فيعمل العامى بعمل العالم، تحسيناً للظن به، فيعتقده جائزاً، وهؤلاء هم الأكثرون.
فقد صار عمل العالم عند العامى حجة، كما كان قوله حجة على الإطلاق والعموم فى الفتيا، فاجتمع على العامى العمل مع اعتقاد الجواز بشبهة دليل، وهذا عين البدعة.
وأصل جميع ذلك سكوت الخواص عن البيان، أو العمل به على الغفلة.
ومن هنا تُستشنَع زلة العالم، فقد قالوا: ثلاث تهدم الدين: زلة العالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة ضالون(1).
وكل ذلك عائد وباله على العالم، وزلله المذكور عند العلماء يحتمل وجهيين:
أحدهما: زللُه فى النظر، حتى يفتى بما خالف الكتاب والسنة فيتابع عليه، وذلك الفتيا بالقول.
والثانى: زللُه فى العمل بالمخالفات، فيتابع عليها أيضاً على التأويل المذكور، وهو فى الاعتبار قائم مقام الفتيا بالقول، إذ قد علم أنه متبع ومنظور إليه، وهو مع ذلك يظهر بعمله ما ينهى عنه الشارع، فكأنه مفتٍ به، على ما تقرر فى الأصول.
والثانى من قسمى المفسدة الحالية: أن يعمل بها العوام، وتشيع فيهم وتظهر، فلا ينكرها الخواص، ولا يرفعون لها رؤوسهم، وهم قادرون على الإنكار، فلم يفعلوا.
فالعامى من شأنه إذا رأى أمراً يجهل حكمه يعمل العامل به فلا يُنكَر عليه، اعتقد أنه جائز، وأنه حسن، أو أنه مشروع، بخلاف ما إذا أُنْكِر عليه، فإنه يعتقد أنه عيب، أو أنه غير مشروع، أو أنه ليس من فعل المسلمين.
__________
(1) ... تقدم تخريجه: ص93.(1/47)
فإذا عدم الإنكار ممن شأنه الإنكار، مع ظهور العمل وانتشاره، وعدم خوف المنكر، ووجود القدرة عليه، فلم يفعل، دل عند العوام على أنه فعل جائز لا حرج فيه، فنشأ فيه هذا الاعتقاد الفاسد بتأويل يقنع بمثله من كان من العوام، فصارت المخالفة بدعة، كما فى القسم الأول.
وقد ثبت فى الأصول أن العالم فى الناس قائم مقام النبى - صلى الله عليه وسلم - ، والعلماء ورثة الأنبياء(1).
فكما أن النبى - صلى الله عليه وسلم - يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره، كذلك وارثه يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره.
واعتبر ذلك ببعض ما أحدث فى المساجد من الأمور المنهى عنها، فلم ينكرها العلماء، أو عملوا بها، فصارت بعدُ سنناً ومشروعات، كزيادتهم مع الأذان: "أصبح ولله الحمد"، و"الوضوء للصلاة"، وتأهبوا، ودعاء المؤذنين بالليل فى الصوامع.
ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن، ذكر النووى(2) أنها من البدع القبيحة، وأنها ضلالة فاحشة، جمع فيها أنواع من القبائح.
منها: إضاعة المال فى غير وجهه.
ومنها: إظهار شعائر المجوس.
ومنها: اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة.
ومنها: تقديم دخول عرفة قبل وقته المشروع. أهـ
وقد ذكر الطرطوشى فى إيقاد المساجد فى رمضان بعض هذه الأمور، وذكر أيضاً قبائح سواها.
__________
(1) ... (صحيح) رواه أبو داود (3641) والترمذي (2682) وابن ماجة (223) وابن حبان (88) والدارمي (1/) من حديث أبي الدرداء، ورواه البزار بنحوه عنه كما في مجمع الزوائد (1/98)، وذكره البخاري جزءاً من ترجمة باب (10) من كتاب العلم.
(2) ... قال النووي في المجموع في الحج (8/111): فرع: من البدع القبيحة ما اعتاده بعض العوام في هذه الأزمان من إيقاد الشمع بجبل عرفة ليلة التاسع أو غيرها، ويستصحبون الشمع من بلدانهم لذلك ويعتنون به، وهذه ضلالة فاحشة جمعوا فيها أنواعاً من القبائح.(1/48)
فأين هذا كله من إنكار مالك لتنحنح المؤذن أو ضربه الباب ليعلم بالفجر أو وضع الرداء، وهو أقرب مراماً وأيسر خطباً من أن تنشأ (منه) بدع محدثات، يعتقدها العوام سنناً، بسبب سكوت العلماء والخواص عن الإنكار، وبسبب عملهم بها؟!.
وأما المفسدة المآلية: فهى على فرض أن يكون الناس عاملين بحكم المخالفة، وأنها قد ينشأ الصغير على رؤيتها وظهورها، أو يدخل فى الإسلام أحد ممن يراها شائعة ذائعة، فيعتقدوها جائزة أو مشروعة، لأن المخالفة إذا فشا فى الناس فعلها من غير إنكار، لم يكن عند الجاهل بها فرق بينها وبين سائر المباحات أو الطاعات.
ولم يزل العلماء من السلف الصالح ومن بعدهم يتحفظون من أمثال هذه الأشياء، حتى كانوا يتركون السنن خوفاً من اعتقاد العوام أمراً هو أشد من ترك السنن، وأولى من أن يتركوا المباحات أن لا يعتقد فيها أمراً ليس بمشروع.
فقد ذكروا أن عثمان رضى الله عنه كان لا يقصر فى السفر، فيقال له: أليس قد قصرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقول: بلى، ولكنى إمام الناس، فينظر إلى الأعراب وأهل البادية أصلى ركعتين، فيقولون: هكذا فرضت(1).
قال الطرطوشى: تأملوا رحمكم الله! فإن فى القصر قولين لأهل الإسلام: منهم من يقول: فريضة، ومن أتم فإنما يتُّم ويعيد أبداً، ومنهم من يقول: سنة، يعيد من أتم فى الوقت، ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة، لما خاف من سؤ العاقبة: أن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان.
وكان الصحابة (رضى الله عنهم) لا يضحون، يعنى أنهم لا يلتزمون ذلك(2).
قال الطرطوشى: والقول فى هذا كالذى قبله، وإن لأهل الإسلام قولين فى الأضحية: أحدهما سنة، والثانية واجبة، ثم اقتحمت الصحابة ترك السنة، حذراً من أن يضع الناس الأمر على غير وجهه، فيعتقدونها فريضة.
__________
(1) ... تقدَّم تخريجه ص357.
(2) ... تقدَّم تخريجه ص310.(1/49)
قال مالك فى "الموطأ" فى صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: إنه لم ير أحداً من أهل العلم والفقه يصومها.
قال: ولم يبلغنى ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته، وأن يلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس منه لو(1/50)
رأوا فى ذلك رخصة من أهل العلم، ورأوهم يقولون ذلك(1).
فكلام مالك هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم، بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه، لكنه لم ير العمل عليه، وإن كان مستحباً فى الأصل، لئلا يكون ذريعة لما قال: كما فعل الصحابة (رضى الله عنهم) فى الأضحية، وعثمان فى الإتمام فى السفر(2).
وحكى الماوردى ما هو أغرب من هذا، وإن كان هو الأصل فذكر أن الناس كانوا إذا صلوا فى الصحن من جامع البصرة أو الكوفة ورفعوا من السجود، مسحوا جباههم من التراب، لأنه كان مفروشاً بالتراب، فأمر زياد بإلقاء الحصى فى صحن المسجد، وقال: لست آمن أن يطول الزمان، فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة فى الصلاة!
وهذا فى مباح، فكيف به فى المكروه أو الممنوع؟!
ولقد بلغنى فى هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام أنه قال فى الخمر: ليست بحرام، ولا عيب فيها، وإنما العيب أن يفعل بها ما لا يصلح، كالقتل وشبهه.
وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ فى الإسلام، كان كفراً، كأنه إنكار لما علم من دين الأمة ضرورة.
وسبب ذلك ترك الإنكار من الولاة على شاربها، والتخلية بينهم وبين اقتنائها، وشهرته بتجارة أهل الذمة فيها، وأشباه ذلك.
ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل فى اعتقاد المعتقد مشروعاً، وليس بمشروع.
وهذا الحال متوقع أو واقع، فقد حكى القرافى عن العجم ما يقتضى أن ستة الأيام من شوال ملحقة عندهم برمضان، لإبقائهم حالة رمضان الخاصة كما هى إلى تمام الستة الأيام، وكذلك وقع عندنا مثله، وقد مر فى الباب الأول.
وجميع هذا منوط بمن يترك الإنكار من العلماء أو غيرهم، أو من يعمل ببعضها بمرأى من الناس أو فى مواقعهم، فإنهم الأصل فى انتشار هذه الاعتقادات فى المعاصى أو غيرها.
أقسام نشوء البدع
وإذا تقرر هذا، فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه:
(
__________
(1) ... تقدَّم بيان ذلك ص173، 358.
(2) ... انظر ما تقدم ص357.(1/1)
أحدها): وهو أظهر الأقسام أن يخترعها المبتدع.
(والثانى): أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة(1)، فيفهمها الجاهل مشروعة.
(والثالث): أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار، وهو قادر عليه، فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة.
(والرابع): من باب الذرائع، وهى أن يكون العمل فى أصله معروفاً، إلا أنه يتبدل الاعتقاد فيه مع طول العهد بالذكرى(2).
إلا أن هذه الأقسام ليست على وزن واحد، ولا يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ، بل هى فى القرب والبعد على تفاوت:
فالأول هو الحقيق باسم البدعة، فإنها تؤخذ علة بالنص عليها.
ويليه القسم الثانى، فإن العمل يشبهه التنصيص بالقول، بل قد يكون أبلغ منه فى مواضع –كما تبين فى الأصول-، غير أنه لا ينزل ها هنا من كل وجه منزلة الدليل، إذ العالم قد يعمل وينص على قبح عمله، ولذلك قالوا: لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سله يصدقك.
وقال الخليل بن أحمد أو غيره:
اعمل بعلمى ولا تنظر إلى عملى ( ... ينفعك علمى ولا يضررك تقصيرى
ويليه القسم الثالث، فإن ترك الإنكار –مع أن رتبة المنكر رتبة من يعد ذلك منه إقراراً- يقتضى أن الفعل غير منكر، ولكن يتنزل منزلة ما قبله، لأن الصوارف للقدرة كثيرة، قد يكون الترك لعذر بخلاف الفعل، فإنه لا عذر فى فعل الإنسان بالمخالفة مع علمه بكونها مخالفة.
ويليه القسم الرابع، لأن المحظور الحالى فيما تقدم غير واقع فيه بالعرض، فلا تبلغ المفسدة المتوقعة أن تعدى رتبة الوقعة أصلاً، فلذلك كانت من باب الذرائع، فهى إذاً لم تبلغ أن تكون فى الحال بدعة، فلا تدخل بهذا النظر تحت حقيقة البدعة.
وأما القسم الثانى والثالث، فالمخالفة فيه بالذات، والبدعة من خارج، إلا أنها لازمة لزوماً عادياً، ولزوم الثانى أقوى من لزوم الثالث، والله أعلم.
الباب الثامن
فى الفرق بين البدع والمصالح المرسلة
__________
(1) ... يعنى معصية.
(2) ... كمثال قصر الصلاة، وصوم السبت بعد رمضان، انظر ص357، 358.(1/2)
والاستحسان [(]
هذا الباب يُضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيراً من الناس عدُّوا أكثر المصالح المرسلة بدعاً، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه (من) اختراع العبادات.
وقوم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة، فقالوا: إن منها ما هو واجب ومندوب، وعدوا من الواجب كتب المصحف وغيره، ومن المندوب الاجتماع فى قيام رمضان على قارئ واحد(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(] ... المصلحة المرسلة:
تعريفها: المصلحة المرسلة أى المطلقة، وفى الاصطلاح: المصلحة التى لم يشرع الشارع حكماً لتحقيقها ولم يدل دليل شرعى على اعتبارها أو إلغائها.
ومثالها: المصلحة التى شرع لأجلها الصحابة اتخاذ السجون، أو ضرب النقود أو إبقاء الأرض الزراعية التى فتحوها فى أيدى أهليها ووضع الخراج عليها(2)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو غير ذلك من المصالح التى اقتضتها الضرورات أو الحاجات أو التحسينات، ولم تشرع أحكام لها ولم يشهد شاهد شرعى باعتبارها أو إلغائها.
(ص84 أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف)
__________
(1) ... تقدَّم من فعل عمر ص40.
(2) ... وقريب من ذلك ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع يهود خيبر، فروى البخاري (2331) عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى خيبرَ اليهود، على أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما خرج منها. (ورواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي والدارمي والبيهقي والدارقطني والطبراني).
وقال ابن القيم في الزاد (5/292): فالصواب الذي لا شك فيه: أنها فتحت عنوة، والإمام مخير فى أرض العنوة بين قسمها ووقفها، أو قسم بعضها ووقف البعض، وقد فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأنواع الثلاثة، فقسم قريظة والنضير، ولم يقسم مكة، وقسم شطر خيبر، وترك شطرها.(1/3)
حجية المصالح:
فريق من العلماء أخذ بالمصالح المرسلة وأعتبرها حجة شرعية ومصدراً من مصادر التشريع، وأشهر من عرف عنه هذا الاتجاه الإمام مالك ثم أحمد بن حنبل، وفريق آخر من العلماء أنكر حجية المصالح المرسلة ومن هؤلاء الظاهرية فهم ينكرون القياس فمن الأولى أن ينكروا المصالح المرسلة، وقد نسب إلى الشافعية والحنفية القول بإنكار المصالح المرسلة ولكننا نجد فى فقههم اجتهادات قامت على أساس المصلحة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبين هذين من قال بالمصلحة بشروط تجعلها من قبيل الضرورات التى لا يختلف العلماء فى الأخذ بها، كالغزالى فقد أخذ بالمصلحة بشرط أن تكون ضرورية قطعية كلية.
(من كتاب الوجيز فى أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان بتصرف)
قال ابن القيم: من المسلمين من فرطوا فى رعاية المصالح المرسلة، فجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدُّوا على أنفسهم طرقاً صحيحة من طرق الحق والعدل.
ومنهم من أفرطوا فسوغوا ما ينافى شرع الله فأحدثوا شراً طويلاً وفساداً عريضاً.
أدلة القائلين بالمصالح المرسلة:
1. أن الشريعة ما وضعت إلا لتحقيق مصالح العباد، دلت على ذلك نصوص الشريعة وأحكامها المختلفة، فالأخذ بالمصلحة المرسلة يتفق وطبيعة الشريعة والأساس التى قامت عليها والغرض الذى جاءت من أجله.
2. إن مصالح الناس ووسائلهم إلى هذه المصالح تتغير باختلاف الظروف والأحوال والأزمان ولا يمكن حصرها مقدماً، ولا لزوم لهذا الحصر ما دام الشارع قد دل على رعايته للمصلحة، فإذا لم يعتبر منها إلا ما جاء الدليل الخاص باعتباره نكون قد ضيقنا واسعاً وفوتنا على الخلق مصالح كثيرة وهذا لا يتفق مع عموم الشرعية وبقائها فيكون المصير إليه غير صحيح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(1/4)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3. أن المجتهدين من الصحابة ومن جاء بعدهم، جروا فى اجتهادهم على رعاية المصلحة وبناء الأحكام عليها من غير إنكار على واحد منهم مما يدل على صحة هذا الأصل وصواب هذا الاتجاه فيكون إجماعا.
فمن المسائل التى جرى فيها المجتهدون من سلفنا الصالح على أساس المصلحة:
1. جمع صحف القرآن فى مصحف واحد، ... واتفاق الصحابة على ذلك.
2. جمع المسلمين على مصحف واحد، ولم يخالف فى المسألة إلا عبد الله بن مسعود.
3. تضمين الصُّنَّاع ما يهلك تحت أيديهم من أموال الناس إلا إذا كان الهلاك بقوة قاهرة مع أن أيديهم يد أمانة ولكن اقتضت المصلحة هذا الحكم لئلا يتهاونوا فى حفظ أموال الناس، وفى هذا يقول علىّ رضى الله عنه "لا يصلح الناس إلا ذلك"(1)
__________
(1) ... رواه عن علي ابنُ أبي شيبة في المصنف (4/360) وروى نحوه عن عمر، وقال البيهقي في السنن في الإجارة (6/122): باب ما جاء في تضمين الأجراء: فيما أجاز لي أبو عبد الله الحافظ روايته عنه عن أبي العباس الأصم، أنبأ الربيع بن سليمان عن الشافعي قال: قد ذهب إلى تضمين القصار شريح، فضمن قصاراً احترق بيته، فقال تضمنني وقد احترق بيتي؟! فقال شريح: أرأيت لو احترق بيته كنت تترك له أجرك. أخبرنا بهذا عنه ابن عيينة. قال الشافعي: وقد روى من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله: أن علي بن أبي طالب ضمن الغسال والصباغ، وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك. أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا قال ذلك، قال: ويروى عن عمر تضمين بعض الصناع من وجه أضعف من هذا، ولم نعلم واحداً منهما يثبت. قال: وقد روي عن علي من وجه آخر أنه كان لا يضمن أحداً من الأجراء من وجه لا يثبت مثله. وثابت عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: لا ضمان على صانع ولا على أجير.
وقال أبو محمد ابن حزم في المحلى (8/201): مسألة: ولا ضمان على أجير مشترك أو غير مشترك، ولا على صانع، إلا ما ثبت أنه تعدى فيه أو أضاعه، والقول في كل ذلك -ما لم تقم عليه بينة - قوله مع يمينه، فإن قامت عليه بينة بالتعدي أو الإضاعة ضمن، وله في كل ذلك الأجرة ... (فراجعه فإنه بحث المسألة بحثاً دقيقاً وذكر الأدلة).(1/5)
وهو قول الخلفاء الراشدين.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
4. قتل الجماعة بالواحد، وهو منقول عن عمر رضى الله عنه(1) وهو مذهب مالك والشافعى.
5. إقامة إمام للمسلمين مقلد عند فقد المجتهد، مع نقل الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تكون إلا لمن نال رتبة الاجتهاد، ولكن حيث فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس، وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين، والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم فلابد من إمامة الأمثل ممَّن ليس بمجتهد لأنَّا بين أمرين: إما أن يترك الناس فوضى وهو عين الفساد، وإما أن يقدموه فيزول الفساد به، وهو نظر فصلى يشهد له وضع أصل الإمامة، والإجماع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنما ينعقد على فرض أن يخلو الزمان عن مجتهد، فصار مثل هذه المسألة مما لا نص عليه فصح الاعتماد فيه على المصلحة.
6. إذا خلا بيت المال وزادت حاجة الجند فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم فى الحال.
شروط العمل بالمصلحة المرسلة:
ذكر المالكية، وهم أكثر الفقهاء أخذاً بالمصالح المرسلة –شروطاً لابد من توافرها فى المصلحة المرسلة لإمكان الاستناد إليها والاعتماد عليها، وهذه الشروط هى:
أولاً: الملائمة، أى أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشرع فلا تخالف أصلاً من أصوله ولا تتنافى دليلاً من أدلة أحكامه بل تكون من جنس المصالح التى قصد الشارع تحصيلها أو قريبة منها ليست غريبة عنها.
ثانياً: أن تكون معقولة بذاتها، بحيث لو عرضت على العقول السليمة لتلقتها بالقبول.
ثالثاً: أن يكون الأخذ بها لحفظ ضرورى أو لرفع حرج، لأن الله تعالى يقول { وما جعل عليكم فى الدين من حرج } (2).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) ... تقدَّم ص162.
(2) ... الحج: 78.(1/6)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول د. عبد الكريم زيدان: وهذه الشروط فى الواقع ضوابط للمصلحة المرسلة تبعدها عن مزالق الهوى ونزوات النفوس، ولكن ينبغى أن يضاف إليها شرطان آخران هما:
1. أن تكون المصلحة التى تترتب على تشريع الأحكام مصلحة حقيقية لا وهمية.
2. وأن تكون المصلحة عامة لا خاصة، أى أن موضع الحكم لمصلحة عموم الناس لا لمصلحة فرد معين أو فئة معينة.
(انظر الوجيز فى أصول الفقه، د. زيدان)
الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة:
البدعة هى طريقة فى الدين مخترعة تضاهى الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة فى التقرب إلى الله تعالى، فهى ظاهرة فى التعبدات، وعامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل.
والمصالح المرسلة عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على المناسبات المعقولة، إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها فى التعبدات ولا فيما جرى مجراها، فحاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضرورى أو رفع حرج لازم فى الدين.
ومن ذلك تعرف أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لأن البدع تكون فى التعبدات ومن شأنها أن تكون غير معقولة المعنى، بخلاف المصالح فإنها إنما تكون فى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معقول المعنى.
وهناك فرق آخر: وهو أن البدع تكون فى المقاصد بخلاف المصالح فإنها تكون فى الوسائل ولذا أرجعها بعضهم إلى قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).(1/7)
فهى تدور حول حفظ الكليات الخمس (الدين/ النفس/النسل/المال/العقل) وإنما اعتبرنا المصلحة فى المعاملات ونحوها، دون العبادات وشبهها لان العبادات حق للشارع خاص به ولا يمكن معرفة حقه كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً إلا من جهته، فيأتى به العبد على ما رسم له، ولأن غلام إحدنا لا يعد مطيعاً خادماً له إلا إذا امتثل ما رسم سيده وفعل ما يعلم أنه يرضيه فكذلك ها هنا، ولذلك لما تعبدت الفلاسفة بعقولهم، ورفضوا الشرائع أسخطوا الله عز وجل وضلوا واختلفوا، بخلاف حقوق المكلفين، فإنها أحكام سياسية شرعية وضعت لمصالحهم وكانت هى المعتبرة وكان عليها المعول.
(مختصر من كتاب فى أصول البدع والسنة محمد أحمد العدوى)
يقول د. عبد الكريم زيدان فى كتابه الوجيز ص238:
لا خلاف بين العلماء فى أن العبادات لا يجرى فيها العمل بالمصالح المرسلة لأن أمور العبادة سبيلها التوقيف، فلا مجال فيها للاجتهاد، والرأى والزيادة عليها ابتداع فى الدين، والابتداع مذموم، فكل بدعة ضلالة وكل ضلاله وصاحبها فى النار. أهـ
وأيضاً، فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذى لا يشهد له أصل معين، فليس له على هذا شاهد شرعى على الخصوص، ولكونه مناسباً بحيث إذا عُرض على العقول تلقته بالقبول، وهذا بعينه موجود فى البدع المستحسنة، فإنها راجعة إلى أمور فى الدين مصلحية –فى زعم واضعيها- فى الشرع على الخصوص.
وإذا ثبت هذا، فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقاً، فاعتبار البدع المستحسنة حقُّ، لأنهما يجديان من واد واحد، وإن لم يكن اعتبار البدع حقاً، لم يصح اعتبار المصالح المرسلة.
وأيضاً فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقاً عليه، بل قد اختلف فيه أهل الأصول.
وكذلك القول فى الاستحسان، فإنه راجع إلى الحكم بغير دليل، والنافى له لا يعد الاستحسان سبباً، فلا يعتبر فى الأحكام البتة، فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها.(1/8)
فلما كان هذا الموضع مذلة قدم لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته، كان الحق المتعين النظر فى مناط الغلط الواقع لهؤلاء، حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع فى ورد ولا صدر، بحول الله، والله الموفق.
فنقول: المعنى المناسب الذى يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام:
(أحدها): أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال فى صحته، ولا خلاف فى إعماله، وإلا كان مناقضة للشريعة، كشريعة القصاص حفظاً للنفوس والأطراف وغيرها.
(والثانى): ما شهد الشرع برده، فلا سبيل إلى قبوله، باتفاق المسلمين.
(الثالث): ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه، فهذا على وجهين:
أحدهما: أن لا يرد نص على وفق ذلك المعنى، كتعليل منع القتل للميراث، بالمعاملة بنقيض المقصود على تقدير أن لم يرد نص على وفقه، فإن هذه العلة لا عهد بها فى تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد له جنس معتبر، فلا يصح التعليل بها، ولا بناء الحكم عليها باتفاق، ومثل هذا تشريع من القائل به، فلا يمكن قبوله.
والثانى: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشرع فى الجملة بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل، المسمى بالمصالح المرسلة، ولابد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله.
ولنقتصر على عدة أمثلة:
أحدها: أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتفقوا على جمع المصحف، وليس ثم نص على جمعه وكتبه أيضاً، بل قد قال بعضهم: كيف نفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟(1/9)
فروى عن زيد بن ثابت (رضى الله عنه)، قال: أرسل إلى أبو بكر (رضى الله عنه) مقتل (أهل) اليمامة، وإذا عنده عمر (رضى الله عنه)، قال أبو بكر: (إن عمر أتانى فقال) إن القتل قد استحرّ بقراء القرآن يوم اليمامة، وإنى أخشى أن يستحر القتل بالقراء فى المواطن كلها(1)، فيذهب قرآن كثير، وإنى أرى أن تأمر بجمع القرآن.
قال: فقلت له: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال لى: هو
-والله- خير. فلم يزل عمر يراجعنى فى ذلك حتى شرح الله صدرى له، ورأيت فيه الذى رأى عمر.
قال زيد: فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتتبع القرآن فاجمعه.
قال زيد: فوالله، لو كلفونى نقل جبل من الجبال، كان أثقل على من ذلك. فقلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم يزل يراجعنى فى ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدرى للذى شرح صدورهما له، فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب(2) واللخاف(3) ومن صدور الرجال(4).
فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة.
ولم يرد نص عن النبى - صلى الله عليه وسلم - بما صنعوا من ذلك، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعاً، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة، والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف فى أصلها الذى هو القرآن، وقد علم النهى عن الاختلاف فى ذلك بما لا مزيد عليه.
__________
(1) ... وذلك أن قُراء القرآن كانوا أهل شجاعة وإقدام، فكانوا دائمًا يسارعون لإعلاء كلمة الله تعالى طلبًا لما وعد الله تعالى من الأجر العظيم.
(2) ... العسب: جمع عسيب وهو سعف النخل.
(3) ... اللخاف: حجارة بيضاء رقيقة.
(4) ... رواه البخاري (4679) والترمذي (3103) وابن حبان (4506) والبيهقي (2/40) والنسائي في الكبرى (7995).(1/10)
وإذا استقام هذا الأصل، فاحمل عليه كَتْب العلم من السنن وغيرها إذا خيف عليها الاندراس، زيادة على ما جاء فى الأحاديث من الأمر بكَتْب العلم(1).
وأنا ارجوا أن يكون كتب هذا الكتاب الذى وضعت يدى فيه من هذا القبيل، لأنى رأيت باب البدع فى كلام العلماء مُغْفَلاً جداً، إلا من النقل الجلى، كما نقل ابن وضاح، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يشفى الغليل بالتفقه فيه كما ينبغى، فلم أجد على شدة بحثى عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشى، وهو يسير فى جنب ما يحتاج إليه فيه، وإلا ما وضع الناس فى الفرق الثنتين والسبعين، وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه فأخذت نفسى بالعناء فيه، عسى أن ينتفع به واضعه وقارئه وناشره وكاتبه والمنتفع به وجميع المسلمين، إنه ولى ذلك ومسديه بسعة رحمته.
المثال الثانى: أن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصُناع.
قال على رضى الله عنه: لا يصلح الناس إلا ذاك.
ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصُّنَّاع، وهم يغيبون عن الأمتعة فى غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم، لأفضى ذلك إلى أحد أمرين: إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك، بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين. هذا معنى قوله: "لا يصلح الناس إلا ذاك".
ولا يُقال: إن هذا نوع من الفساد، وهو تضمين البريء، إذ لعله ما أفسد ولا فرط، فالتضمين مع ذلك كان نوعاً من الفساد!
__________
(1) ... مثل حديث (اكتبوا لأبى شاه) وهو متفق عليه وتقدم ص168.(1/11)
لأنا نقول: إذا تقابلت المصلحة والمضرة، فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت، ووقع التلف من الصناع من غير تسبب ولا تفريط بعيد، والغالب الفوت، فوت الأموال، وأنها لا تستند إلى التلف السماوى، بل ترجع إلى صنع العباد على المباشرة والتفريط"، وفى الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)(1)
__________
(1) ... صحيح: روي من حديث جمع من الصحابة رضي الله عنهم: فمن حديث عبادة، وابن عباس، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وجابر بن عبد الله، وعائشة، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة: فحديث عبادة: رواه ابن ماجة (2340) وأحمد (5/326) والبيهقي (6/156) وفيه جهالة وانقطاع وفضيل بن سليمان النُّميري: لين الحديث. وحديث ابن عباس: روياه أيضاً (2341)، (1/313) وفيه جابر الجعفي: واهٍ جداً، ورواه من طريق داود بن الحصين الدارقطني (4/228) والطبراني في الكبير (3/127) وسنده لا بأس به في الشواهد، ويتقوَّى بطريق ابن أبي شيبة من طريق سماك. وحديث أبي سعيد: رواه الدارقطني (3/77، 4/228) والحاكم (2/57) والبيهقي (6/69) وتفرد به عثمان بن محمد، وهو ضعيف، ولكنه توبع، ورواه مالك (الأقضية: باب26) بسند مرسل صحيح. وحديث أبي هريرة: رواه الدارقطني (4/228) وفيه ضعيف. وحديث جابر: رواه الطبراني في الأوسط (5793)، وفيه عنعنة ابن إسحاق. وحديث عائشة: رواه الدارقطني (4/227)، وفيه الواقدي، وهو متروك، ورواه الطبراني في الأوسط (270، 1037) بسند واهٍ جداً. وحديث ثعلبة: رواه الطبراني في الكبير (1378)، وفيه إسحاق بن إبراهيم الصوَّاف: لين الحديث. وحديث أبي لبابة: رواه أبو داود في المراسيل (407) وهو منقطع. ثم قال الألباني: ...فإذا ضم بعضها إلى بعض تقوى الحديث بها، وارتقى إلى درجة الصحيح إن شاء الله تعالى، والحديث حسنه النووي في الأربعين، وجزم مالكٌ بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم (كناب المكاتب: باب 11)، واحتج به محمد بن الحسن في مناظرته للإمام الشافعي (واستدل به الإمام أحمد، كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب في جامع العلوم 2/210)، وللحديث شاهد من طريق لؤلؤة عن أبي صِرْمَة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ضار، أضر الله به، ومن شاقّ شقّ الله عليه"، رواه أبو داود (3635) وابن ماجة (2342) والترمذي (1940)، والبيهقي وأحمد (3/453)، ولؤلؤة: قال عنها الذهبي: مجهولة لا تعرف، وقال عنها ابن حجر: مقبولة (حديث أبي صرمة: حسنه الألباني في سنن الترمذي): الإرواء (3/408: 414 –ح896). وإنما أطلت في تخريجه -كما فعل الشيخُ الألبانيُ رحمه الله- لِعظم شأن هذا الحديث، ولدخوله تحت كثير من أبواب الفقه، وانظر شرحه عند الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: حديث رقم 32.(1/12)
وتشهد له الأصول من حيث الجملة، فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - نهى (عن) أن يبيع حاضر لباد، وقال (دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض)، وقال: (لا تلقوا الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع (إلى) الأسواق)(1) وهو من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فتضمين الصناع من ذلك القبيل.
المثال الثالث: أنَّا إذا قررنا إماماً مطاعاً مفتقراً إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال عن المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام –إذا كان عدلاً- أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم فى الحال، إلى أن يظهر مال بيت المال.
وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين، لاتساع مال بيت المال فى زمانهم، بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام، بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار.
__________
(1) ... الذي ذكره الشاطبي ثلاث روايات، وبعض هذه الروايات داخل في بعض: فمن حديث أبي هريرة: رواه البخاري (2150) ومسلم (1515) والترمذي (1222) وأبو داود (3439) وابن ماجة (2175، 2178)، ومن حديث ابن عمر: البخاري (2139، 2165) ومسلم (1517) وأبو داود (3436) وابن ماجة (2179) وابن حبان (4962) والبيهقي (5/346)، ومن حديث ابن عباس: البخاري (2158) ومسلم (1521) وابن ماجة (2177) والبيهقي (5/346)، ومن حديث جابر: مسلم (1522) والترمذي (1223) وأبو داود (3442) وابن ماجة (2176) وابن حبان (4963) والبيهقي (5/346)، ومن حديث أنس: البخاري (2161) ومسلم (1523) وأبو داود (3440) والبيهقي (5/346)، ومن حديث أبي سعيد: ابن حبان (4967)، ومن حديث طلحة بن عبيد الله: أبو داود (3441)، ومن حديث ابن مسعود: ابن ماجة (2180)، وانظر كذلك: مصنف عبد الرزاق (8/200)، وابن أبي شيبة (4/346)، والنسائي في السنن (7/256) وفي الكبرى (3/276).(1/13)
وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام، وإيقاع التصرف فى أخذ المال، وإعطائه على الوجه المشروع.
المثال الرابع: أنه يجوز قتل الجماعة بالواحد، والمستند فيه المصلحة المرسلة، إذ لا نص على عين المسألة، ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب (رضى الله عنه)، وهو مذهب مالك والشافعى.
ووجه المصلحة أن (دم) القتيل معصوم، وقد قتل عمداً، فإهداره داع إلى خرم أصل القصاص، واتخاذ الاستعانة والاشتراك ذريعة إلى السعى بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه.
وليس أصله قتل المنفرد، فإنه قاتل تحقيقاً، والمشترك ليس بقاتل تحقيقاً.
فإن قيل: هذا أمر بديع فى الشرع، وهو قتل غير القاتل.
قلنا: ليس كذلك، بل لم يقتل إلا القاتل، وهم الجماعة من حيث الاجتماع عند مالك والشافعى، فهو مضاف إليهم تحقيقاً إضافته إلى الشخص الواحد، وإنما التعيين فى تنزيل الأشخاص منزلة الشخص الواحد، وقد دعت إليه المصلحة، فلم يكن مبتدعاً، مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع فى حقن الدماء.
وعليه يجرى -عند مالك-: قطع الأيدى باليد الواحدة، وقطع الأيدى فى النصاب الواجب.
المثال الخامس: إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى فى علوم الشرع، كما أنهم اتفقوا أيضاً –أو كادوا أن يتفقوا- على أن القضاء بين الناس لا يحصل إلى لمن رقى (فى) رتبة الاجتهاد، وهذا صحيح على الجملة، ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس، وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم، فلابد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد، لأنا بين أمرين، إما أن يُترك الناس فوضى، وهو عين الفساد والهرج، وإما أن يقدموه، فيزول الفساد بته، ولا يبقى إلا فوت الاجتهاد، والتقليد كاف بحسبه.
وإذا ثبت هذا، فهو نظر مصلحى يشهد له وضع أصل الإمامة، وهو مقطوع به بحيث لا يفتقر فى صحته وملائمته إلى شاهد.(1/14)
فهذه أمثلة توضح لك الوجه العملى فى المصالح المرسلة، وتبين لك اعتبار أمور:
(أحدها): الملاءمة لمقاصد الشرع، بحيث لا تنافى أصلاً من أصوله، ولا دليلاً من دلائله.
(والثانى): أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل معناه وجرى على ذوق المناسبات المعقولة التى إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها فى التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية، لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل، كالوضوء والصلاة، والصيام فى زمان مخصوص دون غيره، والحج .. ونحو ذلك.
(والثالث): أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضرورى ورفع حرج لازم فى الدين، وأيضاً، مرجعها إلى حفظ الضرورى من باب ما لم يتم الواجب إلا به ... فهى إذاً من الوسائل لا من المقاصد، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد.
إذا تقررت هذه الشروط، علم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة: لأن موضوع المصالح المرسلة ما عُقل معناه على التفصيل، والتعبدات من حقيقتها أن لا يعقل معناها على التفصيل.
وقد مر أن العادات إذا دخل فيها الابتداع، فإنما يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق.
وأيضاً، فإن البدع فى عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع، بل إنما تتصور على أحد وجهين:
إما مناقضة لمقصوده، كما تقدم فى مسألة المفتى للملك بصيام شهرين متتابعين(1).
__________
(1) ... ذكر الشاطبي في الاعتصام:
ومثال ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين. فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل له إلى الصوم والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيداً غير محصورين؟ فقال لهم: لو قلت له عليك إعتاق رقبة لا ستحقر ذلك وأعتق عبيداً مراراً، فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين. فهذا المعنى مناسب، لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام. وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائلين: قائل بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق على الصيام، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به، على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا، لكنه على صريح الفقه.
قال يحيى بن بكير: حنث الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة، فسأل مالكاً فقال: صيام ثلاثة أيام. واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة.
حكى ابن بشكوال: أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء وشاورهم في مسألة نزلت به، فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائمه ووطئها في رمضان، فأفتوا بالإطعام، و إسحاق بن إبراهيم ساكت، فقال له أمير المؤمنين: ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه؟ فقال له: لا أقول بقولهم، وأقول بالصيام. فقيل له: أليس مذهب مالك الإطعام؟ فقال لهم: تحفظون مذهب مالك، إلا أنكم تريدون مصانعة أمير المؤمنين، إنما أمر بالإطعام لمن له مال، وأمير المؤمنين لا مال له، إنما هو مال بيت المسلمين، فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه. أهـ. وهذا صحيح.
نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان، فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته، فقال يحيى بن يحيى: يكفِّر ذلك صيام شهرين متتابعين، فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده، فقالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام؟ فقال لهم: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود.
فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله، وكان كلامه على ظاهره، كان مخالفاً للإجماع.(1/15)
وإما مسكوتاً عنها فيه، كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده على تقدير عدم النص به، وقد تقدم نقل الإجماع على إطراح القسمين وعدم اعتبارهما.
ولا يقال: إن المسكوت عنه يلحق بالمأذون فيه، إذ يلزم من ذلك خرق الإجماع، لعدم الملاءمة، ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات فى أن المسكوت عنه كالمأذون فيه –إن قيل بذلك-، فهى تفارقها، إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا أصل لها، لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرح به، بخلاف العادات، والفرق بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات فى الجملة وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إلى الله تعالى، وقد أشير إلى هذا المعنى فى كتاب "الموافقات" وإلى هذا.
فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضرورى من باب الوسائل أو إلى التخفيف، فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة فى المندوبات، لأن البدع من باب المقاصد، لأنها متعبد بها بالفرض، ولأنها زيادة فى التكليف، وهو مضاد للتخفيف.
فحصل من هذا كله: أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغى باتفاق العلماء، وحسبك به متعلقاً، والله الموفق.
وبذلك كله يُعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئاً من التعبدات إلى آراء العباد، فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده، والزيادة عليه بدعة، كما أن النقصان منه بدعة.
فصلٌ
فى الفرق بين البدع والاستحسان
وأما الاستحسان، فلأن لأهل البدع أيضاً تعلقاً به، فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسِن، وهو إما العقل أو الشرع.
أما الشرع، فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما، لأن الأدلة اقتضت ذلك، فلا فائدة لتسميته استحساناً، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال.
فلم يبق إلا العقل هو المستحسن:
فإن كان بدليل، فلا فائدة لهذه التسمية، لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها.
وإن كان بغير دليل، فذلك هو البدعة التى تستحسن.(1/16)
ويشهد (لذلك) قول من قال فى الاستحسان: أنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، ويميل إليه برأيه.
قالوا: وهو عند هؤلاء من جنس ما يستحسن فى العوائد، وتميل إليه الطباع، فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد فى الشرع ما ينافى هذا الكلام ما بين أن ثم من التعبدات ما لا يكون عليه دليل، وهو الذى يسمى بالبدعة.
وأيضاً، فقد يجرى على التأويل الثانى للأصوليين فى الاستحسان، وهو أن المراد به: دليل ينقدح فى نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره.
وهذا التأويل، يساعده لبعده، لأنه يبعد فى مجارى العادات أن يبتدع أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له، بل عامة البدع لابد لصاحبها من متعلق دليل شرعى، لكن قد يمكنه إظهاره، وقد لا يمكنه –وهو الأغلب- فهذا مما يحتجون به.
وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التى استدل بها أهل التأويل الأولون، وقد أتوا بثلاثة أدلة:
(أحدها): قول الله سبحانه { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } (1)، وقوله تعالى: { الله نزل أحسن الحديث } (2)، وقوله: { فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } (3)، هو ما تستحسنه عقولهم.
(
__________
(1) ... الزمر: 55.
(2) ... الزمر: 23.
(3) ... الزمر: 18(1/17)
والثانى): قوله عليه السلام )ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن)(1)، وإنما يعنى بذلك ما رأوه بعقولهم، وإلا، لو كان حسنه بالدليل الشرعى، لم يكن من حسن ما يرون، إذ لا مجال للعقول فى التشريع على ما زعمتم، فلم يكن للحديث فائدة، فدل على أن المراد ما رواه برأيهم.
(والثالث): أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل، ولا سبب لذلك، إلا أن المشاحة فى مثله قبيحة فى العادة، فاستحسن الناس تركه، مع أنا نقطع أن الإجارة المجهولة أو مدة الاستئجار أو مقدار المشترى إذا جهل، فإنه ممنوع، وقد استحسنت إجارته مع مخالفة الدليل، فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليلاً.
فأنت ترى أن هذا الموضع مذلة قدم أيضاً لمن أراد أن يبتدع، فله أن يقول: إن استحسنت كذا وكذا، فغيرى من العلماء قد استحسن، وإذا كان كذلك، فلا (بد) من فضل اعتناء بهذا الفصل، حتى لا يغتر به جاهل أو زاعم أنه عالم، وبالله التوفيق.
فنقول: إن الاستحسان يراه معتبراً فى الأحكام مالك وأبو حنيفة، بخلاف الشافعى، فإنه منكر له جداً، حتى قال: "من استحسن فقد شَرَّع".
والذى يستقرئ من مذهبهما أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين، هكذا قال ابن العربى.
ويشعر بذلك تفسير الكرخى (للاستحسان): أنه العدول عن الحكم فى المسألة بحكم نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى.
__________
(1) ... حسن: رواه أحمد (1/379) والبزار (130) والطبراني في الأوسط (3602) والكبير (8583) والحاكم في المستدرك (3/78) في معرفة الصحابة وصححه، وهو من قول ابن مسعود موقوفاً. وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تخريج المسند (3600) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/177): رجاله موثقون. ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/855 – ح 1618) وحسَّن إسناده محققُه الشيخ أبو الأشبال حفظه الله. وأما المرفوع منه فلا يصح، وانظر السلسلة الضعيفة للألباني (533).(1/18)
وقال بعض الحنفية: إنه القياس الذى يجب العمل به، وكأنه نوع من العمل بأقوى القياسين، وهو يظهر من استقراء مسائلهم فى الاستحسان بحسب النوازل الفقهية.
بل قد جاء عن مالك أن الاستحسان تسعة أعشار العلم.
وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذى تقدم قبل، وأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله، أو أنه دليل ينقدح فى نفس المجتهد بعقله، أو أنه دليل ينقدح فى نفس المجتهد تعسر عبارته عنه، فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم.
وإذا كان هذا معناه عن مالك وأبى حنيفة، فليس بخارج عن الأدلة البتة، لأن الأدلة يقيِّد بعضها (بعضا) ويخصِّص بعضها بعضا، كما فى الأدلة السُّنية مع القرآنية، ولا يرد الشافعى مثل هذا أصلا، فلا حجة فى تسميته استحساناً لمبتدع على حال.
ولابد من الإتيان بأمثلة تبين المقصود بحول الله، ونقتصر على أمثلة:
(أحدهما): أن يعدل بالمسألة عن نظائرها بدليل الكتاب، كقوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و(تزكيهم) بها } (1) فظاهر اللفظ العموم فى جميع ما يتمول به، وهو مخصوص فى الشرع بالأموال الزكوية خاصة، فلو قال قائل: مالى صدقة، فظاهر لفظه يعم كل ماله، ولكنا نحمله على مال الزكاة، لكونه ثبت الحمل عليه فى الكتاب.
قال العلماء: وكأن هذا يرجع على تخصيص العموم بعادة فهم خطاب القرآن.
__________
(1) ... التوبة: 103.(1/19)
الثانى: أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف، فإنه رد الأيمان إلى العرف، مع أن اللغة تقتضى فى ألفاظها غير ما يقتضيه العرف، كقوله: والله لا دخلت مع فلان بيتا فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتا فى اللغة، والمسجد يسمى بيتاً(1)، فيحنث على ذلك، إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه، فخرج بالعرف على مقتضى اللفظ، فلا يحنث.
__________
(1) ... عند الهيثمي في المجمع (2/8) عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من بنى بيتاً يعبد الله فيه من مال حلال بنى الله له بيتاً في الجنة من در وياقوت. رواه الطبراني فى الأوسط والبزار خلا قوله من در وياقوت. وفيه سليمان بن داود اليمامى وهو ضعيف. قلت: عند مسلم (533) والبخاري وابن ماجة وابن حبان والبيهقي حديث: عبيد الله الخولاني يذكر أنه سمع عثمان بن عفان عند قول الناس فيه حين بنى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم: إنكم قد أكثرتم، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: من بنى مسجداً لله تعالى، قال بكير حسبت أنه قال: يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتاً في الجنة، ويدل على ذلك قوله تعالى: { فى بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ... } [النور: 36، 37].(1/20)
الثالث: ترك مقتضى الدليل فى اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق، فقد أجازوا التفاضل اليسير فى المراطلة الكثيرة، وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعاً للآخر، وأجازوا بدل الدراهم الناقص بالوازن لنزارة ما بينهما، والأصل المنع فى الجميع، لما فى الحديث من أن (الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلا بمثل سواء بسواء، وأن من زاد أو ازداد، فقد أربى)(1) ووجه ذلك أن التافه فى حكم العدم، ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض فى الغالب، وأن المشاحة فى اليسير قد تؤدى إلى الحرج والمشقة، وهما مرفوعان عن المكلف.
الرابع: أنهم قالوا: إن من جملة أنواع الاستحسان مراعاة خلاف العلماء، وهو أصل فى مذهب مالك ينبنى عليه مسائل كثيرة.
(منها): أن الماء اليسير، إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة، ولم تغير أحد أوصافه: أنه لا يتوضأ به، بل يتيمم ويتركه، فإن توضأ به وصلى، أعاد ما دام فى الوقت، ولم يعد بعد الوقت، وإنما قال: "يعيد فى الوقت"، مراعاة لقول من يقول: إنه طاهر مطهر، ويروى جواز الوضوء به ابتداء، وكان قياس هذا القول أن يعيد أبداً، إذ لم يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلى التيمم.
(ومنها): قولهم فى النكاح الفاسد الذى يجب فسخه: إن لم يتفق على فساده، فيفسخ بطلاق، ويكون فيه الميراث، ويلزم فيه الطلاق على حدة فى النكاح الصحيح، فإن اتفق العلماء على فساده، فسخ بغير طلاق، ولا يكون فيه ميراث، ولا يلزم فيه طلاق.
(
__________
(1) ... رواه من حديث أبي سعيد: البخاري (2176) ومسلم (1584) والترمذي (1241) وابن حبان (5016) والنسائي (7/277)، ومن حديث عبادة بن الصامت: مسلم (1587) والترمذي (1240) وابن حبان (5015) والنسائي (7/274) وابن ماجة (5/18، 2254)، ومن حديث عمر: البخاري (2170) ومسلم (1586) وأبو داود (3284) وابن ماجة (2253)، ومن حديث أبي بكرة: البخاري (2175) والنسائي (7/281)، ومن حديث أبي هريرة: النسائي (7/278).(1/21)
ومنها): مسألة من نسى تكبيرة الإحرام وكبر للركوع وكان مع الإمام، (عليه) أن يتمادى، لقول من قال: إن ذلك يجزئه، فإذا سلم الإمام، أعاد هذا المأموم.
وهذا المعنى كثير جداً فى المذهب، ووجهه أنه راعى دليل المخالف فى بعض الأحوال، لأنه ترجح عنده، ولم يترجح عنده فى بعضها، فلم يراعه.
فصلٌ
(رد حجج المبتدعة فى الاستحسان)
فإذا تقرر هذا، فلنرجع إلى ما احتجوا به أولاً:
فأما من حد الاستحسان بأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه، فكأن هؤلاء يرون هذا النوع من جملة أدلة الأحكام، ولكن لم يقع مثل هذا، ولم يعرف التعبد به، لا بضرورة، ولا بنظر، ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون، فلا يجوز إسناده لحكم الله لأنه ابتداء تشريع من جهة العقل.
وأيضاً، فإنا نعلم أن الصحابة رضى الله عنهم حصروا نظرهم فى الوقائع التى لا نصوص فيها فى الاستنباط والرد إلى ما فهموه من الأصول الثابتة، ولم يقل أحد منهم قط: إنى حكمت فى هذا بكذا، لأن طبعى مال إليه، أو لأنه يوافق محبتى ورضائى، ولو قال ذلك، لاشتد عليه النكير، وقيل له: من أين لك أن تحكم على عباد الله بمحض ميل النفس وهو القلب؟! هذا مقطوع ببطلانه.
بل كانوا ينتظرون ويعترض بعضهم بعضاً على مأخذ بعض، وينحصرون إلى ضوابط الشرع.
وأيضاً، فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان، لم يكن للمناظرة فائدة، لأن الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم فى الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك، ولا يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضاً: لم كان هذا الماء (أشهى) عندك من الآخر؟ والشريعة ليست كذلك.(1/22)
على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحداً، ولا يفاتحون عالماً ولا غيره فيما يتبعون، خوفاً من الفضيحة أن لا يجدوا مستنداً شرعياً، وإنما شأنهم إذا وجدوا عالماً أو لقوه أن يصانعوا، وإذا وجدوا جاهلاً عامياً، ألقوا عليه فى الشريعة الطاهرة إشكالات، حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم، ويلبسوا دينهم، فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس، ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئاً فشيئاً، وذموا أهل العلم بأنهم أهل الدنيا المكبّون عليها، وأن هذه الطائفة هم أهل الله وخاصته، وربما أورودا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون إليهم، حتى يهووا بهم فى نار جهنم، وأما أن يأتوا الأمر من بابه، ويناظروا عليه العلماء الراسخين، فلا.
وأما الحد الثانى(1)، فقد رد بأنه، لو فتح هذا الباب، لبطلت الحجج، وادعى كل من شاء ما شاء، واكتفى بمجرد القول، فألجأ الخصم على الإبطال، وهذا يجر فساداً لا خفاء به، وإن سلم، فذلك الدليل، إن كان فاسداً، فلا عبرة به، وإن كان صحيحاً، فهو راجع إلى الأدلة الشرعية، فلا ضرر فيه.
__________
(1) ... وهو قولهم: دليل فى نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره.(1/23)
وأما الدليل الأول، فلا متعلق به، فإن أحسن الاتباع إلينا اتباع الأدلة الشرعية، وخصوصاً القرآن، فإن الله (تعالى) يقول: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابهاً } وجاء فى صحيح الحديث –خرجه مسلم-: أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال فى خطبته: (أما بعد، فأحسن الحديث كتاب الله)(1)، فيفتقر أصحاب الدليل أن يبينوا أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا، فضلاً عن أن يقول من أحسنه.
وقوله (تعالى): { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } الآية، يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولا، وحينئذ ينظر على كونه أحسن القول كما تقدم، وهذا كله فاسد.
ثم إنا نعارض هذا الاستحسان بأن عقولنا تميل إلى إبطاله، وأنه ليس بحجة، وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع.
وأيضاً، فيلزم عليه استحسان العوام ومن ليس من أهل النظر إذا فرض أن الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهو الطباع، وذلك محال، للعلم بأن ذلك مضاد للشريعة، فضلاً عن أن يكون من أدلتها.
وأما الدليل الثانى، فلا حجة فيه من أوجه:
(أحدهما): أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون بجملتهم حسنا، فهو حسن، والأمة لا تجتمع على باطل، فاجتماعهم على حسن شىء يدل على حسنه شرعاً، لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعياً، فالحديث دليل عليكم لا لكم.
(والثانى): أنه خبر واحد فى مسألة قطعية، فلا يسمع.
(
__________
(1) ... رواه ابن ماجة في المقدمة (46) وابن أبي عاصم في السنة (25) ولكنه ضعيف. ورواه البخاري (7277) من قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وروى النسائي (3/58) بسند صحيح عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته بعد التشهد: أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم. وراجع ص42 من هذا التهذيب.(1/24)
والثالث): أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم، فيلزم عليه استحسان العوام، وهو باطل بإجماع. لا يقال: إن المراد استحسان أهل الاجتهاد، لأنا نقول: هذا ترك للظاهر، فيبطل الاستدلال.
ثم إنه لا فائدة فى اشتراط الاجتهاد، لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر فى الأدلة، فأى حاجة إلى اشتراط الاجتهاد؟
فإن قيل: إنما يشترط حذراً من مخالفة الأدلة، فإن العامى لا يعرفها.
قيل: بل المراد استحسان ينشأ عن الأدلة، بدليل أن الصحابة (رضى الله عنهم) قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة وفهم مقاصد الشرع.
فالحاصل أن تعلق المبتدعة بمثل هذه الأمور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم البتة، لكن ربما يتعلقون فى آحاد بدعتهم بآحاد شبه ستذكر فى مواضعها إن شاء الله، ومنها ما قد مضى.
فصلٌ
ردُ شبهة استفتاء القلب
فإن قيل: أفليس فى الأحاديث ما يدل على الرجوع إلى ما يقع فى القلب ويحيك فى النفس، وإن لم يكن ثم دليل صريح على حكم من أحكام الشرع ولا غير صريح؟
فقد جاء فى الصحيح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)(1).
__________
(1) ... صحيح: رواه من حديث الحسن بن علي: أحمد (1/200) والترمذي (2518) والبيهقي (5/335) وابن خزيمة (2348) وابن حبان (722) والنسائي في السنن (8/327) وفي الكبرى (5220) والحاكم (2/13).(1/25)
وخرج مسلم عن النواس بن سمعان (رضى الله عنه)؟ قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم؟ فقال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك فى صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه)(1).
وعن أبى أمامة (رضى الله عنه)، قال: قال رجل: (يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: إذا سرتك حسناتك وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن، قال يا رسول الله فما الإثم؟ قال: إذا حاك شىء فى صدرك، فدعه)(2).
وعن أنس بن مالك (رضى الله عنه)، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (دع ما يريبك إلى مالا يريبك)(3).
وعن وابصة رضى الله عنه، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البر والإثم، فقال: (يا وابصة! استفت قلبك، واستفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك فى النفس وتردد فى الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)(4).
__________
(1) ... رواه مسلم (2553) وأحمد (4/182) والترمذي (2389) والدارمي (2/322) والبخاري في الأدب المفرد (295، 302) وابن حبان (397) والحاكم (2/14) والبيهقي (10/192) وفي الشُّعب (7994) وابن أبي شيبة (5/212). وفي الباب أحاديث أخرى: منها حديث أبي ثعلبة الخشني عند أحمد (4/194) والطبراني في الكبير (ج22 – ح 585) وهو في صحيح الجامع (2878)، ومن حديث واثلة بن الأسقع: رواه الطبراني في الكبير (ج22 – ح 193) وأبو يعلى (7492) وفيه متروك. وانظر الحديث في جامع العلوم والحكم: الحديث السابع والعشرون.
(2) ... صحيح: رواه أحمد (5/252، 253) وابن حبان (176) والحاكم (2/13) والبيهقي في الشُّعب (7994)، وانظر الصحيحة (549).
(3) ... رواه أحمد (3/153) من حديث أنس ورجاله ثقات: انظر الإرواء (7/155)، وله شاهد من حديث ابن عمر عند الطبراني في الصغير ولكن فيه ضعيف.
(4) ... إسناده ضعيف: رواه أحمد (4/227، 228) والدارمي (2/245) وأبو يعلى (1586) والطبراني في الكبير (ج 22 – ح 403).(1/26)
فهذه أدلة ظهر من معناها الرجوع فى جملة من الأحكام الشرعية على ما يقع بالقلب وينجس بالنفس ويعرض بالخاطر، وأنه إذا اطمأنت النفس إليه، فالإقدام عليه صحيح، وإذا توقفت أو ارتابت، فالأقدام عليه محظور، وهو عين ما وقع إنكاره من الرجوع إلى الاستحسان الذى يقع بالقلب ويميل إليه الخاطر، وإن لم يكن ثم دليل شرعى، فإنه لو كان هنالك دليل شرعى أو كان هذا التقرير مقيداً بالأدلة الشرعية، لم يحل به على ما فى النفوس، ولا على ما يقع بالقلوب، مع أنه عندكم عبث وغير مفيد، كمن يحيل بالأحكام الشرعية على الأمور الوفاقية، أو الأفعال التى لا ارتباط بينها وبين شرعية الأحكام، فدل ذلك على أن لاستحسان العقول وميل النفوس أثراً فى شرعية الأحكام، وهو المطلوب.
فصلٌ
ثم يبقى إشكال على كل من اختار استفتاء القلب مطلقًا أو بقيد، وهو الذى رآه الطبرى، وذلك أن حاصل الأمر يقتضى أن فتاوى القلوب وما اطمأنت إليه النفوس معتبر فى الأحكام الشرعية، وهو التشريع بعينه، فإن طمأنينة النفس وسكون القلب مجرداً عن الدليل إما أن تكون معتبرة أو غير معتبرة شرعاً، فإن لم تكن معتبرة، فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار، وقد تقدم أنها معتبرة بتلك الأدلة، وإن كانت معتبرة، فقد صار ثم قسم ثالث غير الكتاب والسنة.
وإن قيل: إنها تعتبر فى الإحجام دون الإقدام، لم تخرج تلك عن الإشكال الأول، لأن كل واحد من الإقدام والإحجام فعل لابد أن يتعلق به حكم شرعى، وهو الجواز وعدمه، وقد علق ذلك بطمأنينة النفس أو عدم طمأنينتها، فإن كان ذلك عن دليل، فهو ذلك الأول بعينه، باق على كل تقدير.
والجواب: أن الكلام الأول صحيح، وإنما النظر فى تحقيقه. فاعلم أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين: نظر فى دليل الحكم، ونظر فى مناطه:(1/27)
فأما النظر فى دليل الحكم، (فـ)لا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما من إجماع أو قياس أو غيرهما، ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس ولا نفى ريب القلب، إلا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلاً أو غير دليل، ولا يقول أحد (غير ذلك) إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل (عليها) أو يستقبحون كذلك من غير دليل إلا طمأنينة النفس أن الأمر كما زعموا، وهو مخالف لإجماع المسلمين(1).
وأما النظر فى مناط الحكم، فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتاً بدليل شرعى فقط، بل يثبت بدليل غير شرعى أو بغير دليل، فلا يشترط (فيه) بلوغ درجة الاجتهاد، بل لا يشترط فيه العلم، فضلاً عن درجة الاجتهاد، ألا ترى أن العامى إذا سأل عن الفعل الذى ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلى: هل تبطل به الصلاة أم لا؟ فقال العالم: إن كان يسيراً، فمغتفر، وإن كان كثيراً، فمبطل، لم يعتقد فى اليسير إلى أن يحققه له العالم، بل العاقل يفرق بين الفعل اليسير والكثير، فقد انبنى ها هنا الحكم –وهو البطلان أو عدمه- على ما يقع بنفس العامى، وليس واحداً من الكتاب أو السنة، لنه ليس ما وقع بقلبه دليلاً على حكم، وإنما هو تحقيق مناط الحكم، فإذا تحقق له المناط بأى وجه تحقق، فهو المطلوب، فيقع عليه الحكم بدليله الشرعى.
وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور فى الطهارة، وفرقنا بين اليسير والكثير فى التفريق الحاصل أثناء الطهارة، فقد يكتفى العامى بذلك حسبما يشهد قلبه فى اليسير أو الكثير، فتبطل طهارته أو تصح بناء على ذلك الواقع فى القلب، لأنه نظر فى مناط الحكم.
__________
(1) ... وانظر كلام الحافظ ابن حجر فى الفتح حول هذه المسألة (1/267).(1/28)
فإذا ثبت هذا، فمن ملك لحم شاه ذكية، حل له أكله، لأن حِلِّيَته ظاهرة عنده إذا حصل له شرط الحلية، لتحقق مناطها بالنسبة إليه، أو ملك لحم شاه ميتة، لم يحل له أكله، لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحلية، فتحقق مناطها بالنسبة إليه، وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه واطمأنت إليه نفسه، لا بحسب الأمر فى نفسه، ألا ترى أن اللحم قد يكون واحداً بعينه، فيعتقد واحد حليته بناء على ما تحقق له من مناطها بحسبه، ويعتقد آخر تحريمه بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه، فيأكل أحدهما حلالاً، ويجب على الآخر الاجتناب، لأنه حرام.
ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعى، لم يصح هذا المثال، وكان محالاً، لأن أدلة الشرع لا تناقض أبداً، فإذا فرضنا لحماً أشكل على المالك تحقيق مناطه، لم ينصرف إلى إحدى الجهتين، كاختلاط الميتة بالذكية، واختلاط الزوجة بالأجنبية.
فها هنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة، وهذا المناط محتاج إلى دليل شرعى يبين حكمه، وهى تلك الأحاديث المتقدمة، كقوله: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، وقوله (البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك فى صدرك)، كأنه يقول: إذا اعتبرنا باصطلاحنا ما تحققت مناطه فى الحِلية أو الحرمة، فالحكم فيه من الشرع بين، وما أشكل عليك تحقيقه، فاتركه، وإياك والتلبس به، وهو معنى قوله –إن صح-: (استفت قلبك وإن أفتوك) فإن تحقيقك لمناط مسألتك أخص بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك.
ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط ولم يشكل على غيرك، لأنه لم يعرض له ما عرض لك.
وليس المراد بقوله: (وإن أفتوك)،أى: إن نقلوا إليك الحكم الشرعى، فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك، فإن هذا باطل، وتقول على التشريع الحق، وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط.(1/29)
فقد ظهر معنى المسألة، وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل القلب كما أورده السائل المُستَشْكِل، وهو تحقيق بالغ، والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات.
الباب التاسع
فى السبب الذى لأجله افترقت فرق المبتدعة
عن جماعة المسلمين
فاعلموا رحمكم الله أن الآيات الدالة على ذم البدعة وكثيراً من الأحاديث: أشعرت بوصف لأهل البدعة، وهو الفرقة الحاصلة، حتى يكونوا بسببها شيعاً متفرقة، لا ينتظم شملهم الإسلام، وإن كانوا من أهله، وحكم لهم بحكمه.
ألا ترى أن قوله تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم فى شىء } (1)، وقوله تعالى { ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } (2)، وقوله: { وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } (3) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وصف التفرق؟
وفى الحديث: (وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة)(4).
والتفرق ناشئ عن الاختلاف فى المذاهب والآراء إن جعلنا التفرق معناه بالأبدان، وهو الحقيقة، وإن جعلنا معنى التفرق فى المذاهب، فهو الاختلاف، كقوله: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } (5).
فلابد من النظر فى هذا الاختلاف، ما سببه؟
وله سببان:
أحدهما: لا كسب للعباد فيه، وهو الراجع إلى سابق القدر.
والآخر: هو الكسبى، وهو المقصود بالكلام عليه فى هذا الباب، إلا أن نجعل السبب الأول مقدمة، فإن فيها معنى أصيلا يجب التثبت له على من أراد التفقه فى البدع.
__________
(1) ... الأنعام: 159.
(2) ... الروم: 31، 32.
(3) ... الأنعام: 153.
(4) ... تقدَّم ص22، 383.
(5) ... آل عمران: 105.(1/30)
قال الله تعالى: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } (1)، فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبداً، مع أنه لو أراد أن يجعلهم متفقين، لكان على ذلك (قديراً)، لكن سبق العلم القديم أنه إنما خلقهم للاختلاف، وهو قول جماعة من المفسرين فى الآية، وأن قوله: { ولذلك خلقهم } ، معناه: وللاختلاف خلقهم، وهو مروى عن مالك بن أنس ونحوه عن الحسن.
وليس المراد ها هنا الاختلاف فى الصور، كالحسن والقبيح، ولا فى الألوان، كالأحمر والأسود، ولا فى أصل الخلقة، كالتام الخلق والناقص الخلق، ولا فى الخُلق: كالشجاع والجبان، ولا فيما أشبه ذلك من الأوصاف التى هم مختلفون فيها.
وإنما المراد اختلاف آخر، وهو الاختلاف الذى بعث الله النبيين ليحكموا فيه بين المختلفين، كما قال تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه ... } (2)، وذلك الاختلاف فى الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى فى الآخرة والدنيا.
هذا هو المراد من الآيات التى ذُكر فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق: أن هذا الاختلاف الواقع بينهم على أوجه:
أحدها: الاختلاف فى أصل النِّحلة:
وهو قول جماعة من المفسرين، منهم عطاء، قال: { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } (3)، قال: اليهود والنصارى والمجوس والحنيفية، وهم الذين رحم ربك: الحنيفية. خرجه ابن وهب(4)، وهو الذى يظهر لبادى الرأى(5) فى الآية المذكورة.
__________
(1) ... هود: 118، 119.
(2) ... البقرة: 213.
(3) ... هود: 119.
(4) ... رواه الطبري بإسناده في التفسير.
(5) ... انظر الصفحة التاسعة من الباب العاشر.(1/31)
وأصل هذا الاختلاف هو فى التوحيد والتوجه للواحد الحق سبحانه، فإن الناس فى عامة الأمر لم يختلفوا فى أن لهم مدبراً يدبرهم وخالقاً أوجدهم، إلا أنهم اختلفوا فى تعيينه على آراء مختلفة، من قائل بالاثنين، وبالخمسة، أو بالطبيعة، أو بالدهر، أو بالكواكب ... إلى أن قالوا بالآدميين والشجر والحجارة وما ينحتونه بأيديهم، ومنهم من أقر بواجب الوجود الحق، لكن على آراء مختلفة أيضاً.
إلى أن بعث الله الأنبياء مبينين لأممهم حق ما اختلفوا (فيه) من باطله، فعرفوا بالحق على ما ينبغى، ونزهوا رب الأرباب عما لا يليق بجلاله، من نسبة الشركاء والأنداد، وإضافة الصاحبة والأولاد، فأقر بذلك من أقر به، وهم الداخلون تحت مقتضى قوله: { إلا من رحم ربك } ، وأنكر من أنكر، فصار إلى مقتضى قوله: { وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } (1).
وإنما دخل الأولون تحت وصف الرحمة، لأنهم خرجوا عن وصف الاختلاف إلى وصف الوفاق والألفة، وهو قوله: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } (2)، وهو منقول عن جماعة من المفسرين.
وبقى الآخرون على وصف الاختلاف، إذ خالفوا الحق الصريح ونبذوا الدين الصحيح.
(والثانى): ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثانى لا بالقصد الأول، فإن الله تعالى حكيم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة فى إمكان الاختلاف، لكن فى الفروع دون الأصول، وفى الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف.
__________
(1) ... هود: 119.
(2) ... آل عمران: 103.(1/32)
يعنى: أنه فى مسائل الاجتهاد التى لا نص فيها بقطع العذر، بل لهم فيه أعظم العذر، مع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع، أتى فيه بأصل يُرجع إليه، وهو قول الله تعالى: { فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول } (1)، فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله، وذلك رده إلى كتابه، وإلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك رده إليه إذا كان حيا، وإلى سنته بعد موته، وكذلك فعل العلماء رضى الله عنهم.
إلا أن لقائل أن يقول: هل هم داخلون تحت قوله تعالى: { ولا يزالون مختلفين } (2).
والجواب: أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه:
(أحدها): أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة، لقوله: { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } ، فإنه اقتضت قسمين: أهل الاختلاف، ومرحومين، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف، وإلا كان قسم الشىء قسيماً له، ولم يستقم معنى الاستثناء.
(والثانى): أنه قال فيها: { ولا يزالون مختلفين } ، فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم، حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت، وأهل الرحمة مبرؤون من ذلك، لأن وصف الرحمة ينافى الثبوت على المخالفة، بل إن خالف أحدهم فى مسألة، فإنما يخالف فيها تحرياً لقصد الشارع فيها، حتى إذا تبين له الخطأ فيها، راجع نفسه، وتلافى أمره، فخلافه فى المسألة بالعرض لا بالقصد الأول، فلم يكن وصف الاختلاف لازماً ولا ثابتاً، فكان التعبير عنه بالفعل الذى يقتضى العلاج والانقطاع أليق فى الموضع.
(
__________
(1) ... النساء: 95.
(2) ... هود: 119.(1/33)
والثالث): أنا نقطع بأن الخلاف فى مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة، وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضى الله عنهم، بحيث لا يصح إدخالهم فى قسم المختلفين بوجه، فلو كان المخالف منهم فى بعض المسائل معدوداً من أهل الاختلاف –ولو بوجه ما-، لم يصح إطلاق القول فى حقه: إنه من أهل الرحمة، وذلك باطل بإجماع أهل السنة.
(والرابع): أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة فى الفروع ضرباً من ضروب الرحمة، وإذا كان من جملة الرحمة، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجاً من قسم أهل الرحمة.
وبين هذين الطريقين واسطة أدنى من الرتبة الأولى وأعلى من الرتبة الثانية، وهى أن يقع الاتفاق فى أصل الدين، ويقع الاختلاف فى بعض قواعده الكلية، وهو المؤدى إلى التفرق شيعاً.
فيمكن أن تكون الآية تنتظم هذا القسم من الاختلاف، ولذلك صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن أمته تفترق على بضع وسبعين فرقة، وأخبر أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع(1)، وشمل ذلك الاختلاف الواقع فى الأمم قبلنا.
ويرشحه وصف أهل البدع بالضلالة وإيعادهم بالنار وذلك بعيد من تمام الرحمة.
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين فى الآية أهل البدع، وأن من رحم ربك أهل السنة.
ولكن لهذا الكتاب أصل يرجع إلى سابق القدر لا مطلقاً، بل مع إنزال القرآن محتمل العبارة للتأويل، وهذا مما لابد من بسطه.
فاعلموا أن الاختلاف فى بعض القواعد الكلية لا يقع فى العادة الجارية بين المتبحرين فى علم الشريعة، الخائضين فى لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها، والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثانى على ذلك، وإنما وقع اختلافهم فى القسم المفروغ منه آنفاً.
بل كان خلاف على الوصف المذكور وقع بعد ذلك، فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق.
(
__________
(1) ... تقدَّم تخريجهما: ص22، 142، 237، 383.(1/34)
أحدها): أن يعتقد الإنسان فى نفسه أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد فى الدين –ولم يبلغ تلك الدرجة-، فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً، وخلافه خلافاً:
ولكن تارة يكون ذلك (فى) جزئى وفرع من الفروع، وتارة يكون فى كلى وأصل من أصول الدين –كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية-، فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة فى هدم كلياتها، حتى يصير منها إلى ما ظهر له بادى رأيه، من غير إحاطة بمعانيها، ولا رسوخ فى فهم مقاصدها.
وهذا هو المبتدع، وعليه نبه الحديث الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، (فأفتوا) بغير علم، فضلوا وأضلوا)(1).
قال بعض العلماء: تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم، أفتى من ليس بعالم، فيؤتى الناس من قبله، وقد صرف هذا المعنى تصريفاً، فقيل: ما خان أمين قط، ولكنه ائتمن غير أمين، فخان. قال: ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط، ولكنه استفتى من ليس بعالم، فَضَلَّ وأضل.
قال مالك بن أنس: بكى ربيعة يوماً بكاء شديداً، فقيل له: أمصيبة نزلت بك؟ فقال: لا! ولكن استفتى من لا علم عنده.
والثانى من أسباب الخلاف: اتباع الهوى:
ولذلك سمى أهل البدع أهل الأهواء(2)، لأنهم اتبعوا أهواءهم، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك.
__________
(1) ... تقدَّم: ص108، 399.
(2) ... تسميتهم بأهل الأهواء تسمية سُنية، فقد جاء في الحديث: (تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه). تقدَّم: ص142.(1/35)
وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح، ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم ويدخل فى غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم، أو طلباً للرياسة، فلابد أن يميل مع الناس بهواهم، ويتأول عليهم فيما أرادوا حسبما ذكره العلماء ونقله الثقات من مصاحبى السلاطين.
فالأولون ردوا كثيراً من الأحاديث الصحيحة بعقولهم، وأساءوا الظن بما صح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة، حتى ردوا كثيراً من أمور الآخرة وأحوالها، من الصراط، والميزان، وحشر الأجساد، والنعيم والعذاب الجسميين، وأنكروا رؤية البارى ... وأشباه ذلك، بل صيروا العقل شارعاً جاء الشرع أو لا، بل إن جاء، فهو كاشف لمقتضى ما حَكَم به العقل ... إلى غير ذلك من الشناعات(1).
والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البنيات، وإن كانت مخالفة لطلب الشريعة، حرصاً على أن يغلب عدوه، أو يفيد وليه، أو يجر إلى نفسه (نفعاً).
والثالث من أسباب الخلاف: التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق.
وهو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشباه ذلك، وهو التقليد المذموم، فإن الله ذم بذلك فى كتابه، كقوله: { إنا وجدنا آباءنا على أمة ... } (2)، ثم قال: { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } (3).
وليس من هذا القبيل عمل أهل المدينة، وما أشبه ذلك، لأنه دليل ثابت عند جماعة من العلماء على وجه ليس مما نحن فيه(4).
__________
(1) ... وهم المعتزلة: انظر تفصيل عقائدهم في كتابنا: تاريخ وأصول الفرق الإسلامية.
(2) ... الزخرف: 23.
(3) ... الزخرف: 24.
(4) ... عمل أهل المدينة:
قال الشوكاني في إرشاد الفحول: البحث الثامن: إجماع أهل المدينة على انفرادهم ليس بحجة عند الجمهور: لأنهم بعض الأمة، وقال مالك: إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم. قال الشافعي في كتاب قال بعض أصحابنا إنه حجة، وما سمعت أحد ذكر قوله إلا عابه، وأن ذلك عندي معيب، وقال الجرجاني: إنما أراد مالك الفقهاء السبعة وحدهم. والمشهور عنه الأول. وقال الباجي: إنما أراد ذلك بحجية إجماع أهل المدينة فيما كان طريقه النقل المستفيض كالصاع والمد والأذان والإقامة وعدم وجوب الزكاة في الخضروات مما تقتضي العادة بأن يكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم، فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء. وقيل يرجح نقلهم عن نقل غيرهم. قال الشافعي: إذا وجدت متقدمي أهل المدينة على شيء فلا يدخل في قلبك شك أنه الحق، وكلما جاءك شيء غير ذلك فلا تلتفت إليه ولا تعبأ به. وقال القاضي عبد الوهاب: إجماع أهل المدينة على ضربين نقلي واستدلالي: فالأول: على ثلاثة أضرب: منه نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صلى الله عليه وسلم إما قول أو فعل أو إقرار، فالأول كنقلهم الصاع والمد والأذان والإقامة والأوقات والأجناس ونحوهن، والثاني: نقلهم المتصل كعهدة الرقيق وغير ذلك كتركهم أخذ الزكاة من الخضروات، مع أنها كانت تزرع بالمدينة، قال وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا المصير إليه، وترك الأخبار والمقاييس به لا اختلاف بين أصحابنا فيه. والثاني: إجماعهم من طريق الاستدلال: فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس بإجماع ولا بمرجح، ثانيها: أنه مرجح، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، ثالثها: أنه حجة ولم يحرم خلافه، قال أبي العباس القرطبي: أما الضرب الأول فينبغي أن لا يختلف فيه لأنه من باب النقل المتواتر، ولا فرق بين القول والفعل والإقرار، كل ذلك نقل محصل للعلم القطعي فإنهم عدد كثير وجم غفير تحيل العادة عليهم التواطؤ على خلاف الصدق، وهو أولى من أخبار الآحاد والأقيسة والظواهر، ثم قال: والنوع الاستدلالي: إن عارضه خبر، فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا، وقد صار جماعة إلى أنه أولى من الخبر بناء منهم على أنه إجماع وليس بصحيح، لأن المشهود له بالعصمة إجماع كل الأمة لا بعضها. وإجماع أهل الحرمين مكة والمدينة، وأهل المصرين (البصرة والكوفة) ليس بحجة لأنهم بعض الأمة، قال القاضي: وإنما خصوا هذه المواضع بحجية إجماع أهلها لاعتقادهم تخصيص الإجماع بالصحابة، وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة.(أ.هـ. مختصراً).(1/36)
وهذا الوجه هو الذى مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة (إذا اتفق أن) ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء، فيراه يعمل عملاً، فيظنه عبادة، فيقتدى به، كائناً ما كان ذلك العمل، موافقاً للشرع أو مخالفاً، ويحتج به على من يرشده، فيقول: كان الشيخ فلان من الأولياء، وكان يفعله، وهو أولى أن يُقتدى به من علماء أهل الظاهر، فهو فى الحقيقة راجع إلى تقليد من حسن ظنه فيه أخطأ أو أصاب، كالذين قلدوا آباءهم سواء، وإنما قصارى هؤلاء أن يقولوا: إن آباءنا أو شيوخنا لم يكونوا ينتحلون مثل هذه الأمور سدى، وما هى إلا مقصودة بالدلائل والبراهين، مع أنهم يرون أن لا دليل عليها، ولا برهان يقود إلى القول بها.
فصلٌ
هذه الأسباب الثلاثة راجعة فى التحصيل إلى وجه واحد، وهو: الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ فى العلم.
فإن قيل: فرضت الاختلاف المتكلم فيه فى واسطة بين طرفين، فكان من الواجب أن تردد النظر فيه عليهما، فلم تفعل، بل رددته إلى الطرف الأول فى الذم والضلال، ولم تعتبره بجانب الاختلاف الذى لا يضير، وهو الاختلاف فى الفروع.(1/37)
فالجواب عن ذلك: أن كون ذلك القسم واسطة بين الطرفين لا يحتاج إلى بيانه إلا من الجهة التى ذكرنا، أما الجهة الأخرى، فإن ذكرهم فى هذه الأمة وإدخالهم فيها أوضح أن هذا الاختلاف لم يلحقهم بالقسم الأول، وإلا، فلو كان ملحقاً لهم به، لم يقع فى الأمة اختلاف ولا فرقة، ولا أخبر الشارع به، ولا نبه السلف الصالح عليه، فكما أنه لو فرضنا اتفاق الخلق على الملة بعد (أن) كانوا مفارقين لها، لم نقل: اتفقت الأمة بعد اختلافها، كذلك لا نقول: اختلفت الأمة أو افترقت الأمة بعد اتفاقها، أو خرج بعضهم إلى الكفر بعد الإسلام، وإنما يُقال: افترقت وتفترق الأمة إذا كان الافتراق واقعاً فيها مع بقاء اسم الأمة هذا هو الحقيقة، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، ثم قال: (وتتمارى فى الفوق –وفى رواية: فينظر الرامى إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه، فيتمارى فى الفوقه-: هل علق بها من الدم شيء)(1)، والتمارى فى الفوق فيه، هل فيه فرث ودم أم لا؟ شك بحسب التمثيل: هل خرجوا من الإسلام حقيقة؟ وهذه العبارة لا يعبر بها عمن خرج من الإسلام بالارتداد مثلاً.
وقد اختلفت الأمة فى تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذى يقوى فى النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم:
__________
(1) ... تقدَّم: ص113، 119، 409.(1/38)
ألا ترى إلى صنع علىّ رضى الله عنه فى الخوارج؟ وكونه عاملهم فى قتالهم معاملة أهل الإسلام، على مقتضى قول الله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ... } (1)، فإنه لما اجتمعت الحرورية، وفارقت الجماعة، لم يهيجهم على، ولا قاتلهم، ولو كانوا بخروجهم مرتدين، لم يتركهم، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (من بدل دينه فاقتلوه)(2)، ولأن أبا بكر رضى الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم، فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين.
وأيضاً، فحين ظهر معبد الجهنى وغيره من أهل القدر، لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران، ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض، لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين.
وعمر بن عبد العزيز أيضاً لما خرج فى زمانه الحريرية بالموصل، أمر بالكف عنهم على حد ما أمر به على رضى الله عنه، ولم يعاملهم معاملة المرتدين.
__________
(1) ... الحجرات: 9.
(2) ... رواه من حديث ابن عباس: البخاري (3017) والترمذي (1458) وأبو داود (4351) والنسائي (7/104) وفي الكبرى، وابن ماجة (2535) وابن حبان (4475) والحاكم (3/538) وابن أبي شيبة (5/563) وعبد الرزاق (10/168)، وبمعناه من حديث معاذ عند البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود.(1/39)
ومن جهة المعنى، إنا وإن قلنا: إنهم متبعون للهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه، ولو فرضنا أنهم كذلك، لكانوا كفاراً، إذ لا يتأتى ذلك من أحد فى الشريعة إلا مع رد محكماتها عناداً، وهو كفر، وأما من صدق بالشريعة ومن جاء بها وبلغ فيها مبلغاً يظن به أنه متبع للدليل بمثله، لايقال فيه: إنه صاحب هوى بإطلاق، بل هو متبع للشرع فى نظره، لكن بحيث يمازجه الهوى فى مطالبه، من جهة إدخال الشبه فى المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات، فشارك أهل الهوى فى دخول الهوى فى نحلته، وشارك أهل الحق فى أنه لايقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة.
وأيضاً، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجملة فى مطلب واحد، وهو الانتساب إلى الشريعة، ومن أشد مسائل الخلاف –مثلاً- مسألة إثبات الصفات، حيث نفاها من نفاها، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين، وجدنا كل واحد منهما حائماً حول حمى التنزيه ونفى النقائص وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، وإنما وقع اختلافهم فى الطريق، وذلك لا يخل بهذا القصد فى الطرفين معاً، فحصل فى هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع فى الفروع.
وأيضاً، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم، فيرجع إلى الوفاق، لظهوره عنده، كما رجع من الحريرية الخارجين على علىّ رضى الله عنه ألفان(1)، وإن كان الغالب عدم الرجوع، كما تقدم فى أن المبتدع ليس له توبة.
فصلٌ [مسائل حديث الافتراق]
صحَّ من حديث أبى هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتتفرق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة)(2).
فإذا تقرر هذا، تصدى النظر فى الحديث فى مسائل:
1- إحداها: فى حقيقة هذا الافتراق
__________
(1) ... تقدَّم: ص156.
(2) ... تقدم تخريجه: ص 22، 142، 383.(1/40)
وهو يحتمل أن يكون افتراقاً على ما يعطيه مقتضى اللفظ، ويحتمل أن يكون مع زيادة قيد لا يقتضيه اللفظ بإطلاقه، ولكن يحتمله، كما كان لفظ الرقبة بمطلقها ولا يشعر بكونها مؤمنة أو غير مؤمنة، لكن اللفظ يقبله.
فلا يصح أن يُراد مطلق الافتراق، بحيث يطلق صور لفظ الاختلاف على معنى واحد، لأنه يلزم أن يكون المختلفون فى مسائل الفروع داخلين تحت إطلاق اللفظ، وذلك باطل بالإجماع.
وإنما يُراد افتراق مقيد، وإن لم يكن فى الحديث نص عليه، ففى الآيات ما يدل عليه: قوله تعالى: { ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون } (1)، وقوله تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم فى شىء } (2)، وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على التفرق الذى صاروا به شيعاً، ومعنى "صاروا شيعاً"، أى جماعات بعضهم قد فارق البعض، ليسوا على تألف ولا تعاضد وتناصر، بل على ضد ذلك، فإن الإسلام واحد، وأمره واحد، فاقتضى أن يكون حكمه على الائتلاف التام لا على الاختلاف.
وأما إذا تعلق كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى، فلابد من التفرق، وهو معنى قوله تعالى: (وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)(3).
وإذا ثبت هذا، نُزل عليه لفظ الحديث، واستقام معناه، والله أعلم.
2- المسألة الثانية
أن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقعٍ فى العداوة والبغضاء، فإما أن يكون راجعاً إلى أمر هو معصية غير بدعة، وإما أن يرجع إلى أمر هو بدعة، كما افترق الخوارج من الأمة ببدعهم التى بنوا عليها فى الفرقة، وكالمهدى المغربى الخارج عن الأمة نصراً للحق فى زعمه، فابتدع أموراً سياسية وغيرها خرج بها عن السنة، كما تقدمت الإشارة إليه قبل، وهذا هو الذى تشير إليه الآيات المتقدمة والأحاديث، لمطابقتها لمعنى الحديث.
وإما أن يراد المعنيان معاً.
__________
(1) ... الروم: 31:32.
(2) ... الأنعام: 159.
(3) ... الأنعام: 153.(1/41)
فأما الأول، فلا أعلم قائلاً به –وإن كان ممكناً فى نفسه-، إذ لم أر أحداً خص هذه بما إذا افترقت الأمة بسبب أمر دنياوى لا بسبب بدعة، وليس ثم دليل على التخصيص، لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : (من فارق الجماعة قيد شبر ... ) الحديث، لا يدل على الحصر، وكذلك (إذا بويع الخليفتان، فاقتلوا الآخر منهما)(1).
وأما الثالث، وهو أن يراد المعنيان معاً، فذلك أيضاً ممكن، إذ الفُرقة المنبه عليها قد تحصل بسبب أمر دنياوى لا مدخل فيها للبدع، وإنما هى معاص ومخالفات كسائر المعاصى.
وإلى هذا المعنى يرشد قول الطبرى فى تفسير الجماعة –حسبما يأتى بحول الله-.
ويعضده حديث الترمذى: (ليأتين على أمتى من يصنع ذلك)(2)، فجعل الغاية فى اتباعهم ما هو معصية كما ترى.
__________
(1) ... حديث: من فارق: تقدم تخريجه: ص 410.
وحديث: إذا بويع: رواه من حديث أبي سعيد مسلمٌ (1853) والبيهقي (8/144)، ومن حديث أبي هريرة البزارُ، ومن حديث ابن الزبير الطبرانيُ كما في مجمع الزوائد (5/198).
(2) ... رواه الترمذي (2641) عن عبد الرحمن بن زياد الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن
عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله ؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي". قال أبو عيسى: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. ورواه محمد بن نصر المروزي في السنة ص59، وأبو نعيم في الحلية (9/424) والحاكم (1/129) وضعفه، والآجري في الشريعة، وحسنه الألباني في السنن، وضعفه محققوا مسند الرسالة (19/242) بعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي. وسيأتي تناول المصنف لهذه الرواية من حديث الافتراق فى المسألة التاسعة.(1/42)
وكذلك فى الحديث الآخر: (لتتبعن سنن من كان قبلكم –إلى قوله- حتى لو دخلوا جحر خرب، لأتبعتموهم)(1)، فجعل الغاية ما ليس ببدعة.
وفى "معجم البغوى" عن جابر (رضى الله عنه): أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال لكعب بن عجرة (رضى الله عنه): (أعاذك الله يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء). قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: (أمراء يكونون بعدى، لا يهتدون بهديى، ولا يستنون بسنتى، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا منى، ولست منهم، ولا يردون على الحوض، ومن لم يصدقهم على كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك منى، وأنا منهم، وسيردون على الحوض ... ) الحديث(2).
وكل من لا يهتدى بهديه ولا يستن بسنته، فإما إلى بدعة أو معصية، فلا اختصاص بأحدهما.
غير أن الأكثر فى نقل أرباب الكلام وغيرهم أن الفرقة المذكورة إنما هى بسبب الابتداع فى الشرع على الخصوص، وعلى ذلك حمل الحديث من تكلم عليه من العلماء، ولم يعدوا منها المفترقين بسبب المعاصى التى ليست ببدع، وعلى ذلك يقع التفريع إن شاء الله.
3- المسألة الثالثة
أن هذه الفرق تحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا، فهم قد فارقوا أهل الإسلام بإطلاق، وليس ذلك إلا الكفر، إذ ليس بين المنزلتين منزلة ثالثة تتصور.
ويدل على هذا الاحتمال ظواهر من القرآن والسنة:
__________
(1) ... تقدم تخريجه: ص 22، 237.
(2) ... صحيح: رواه أحمد (3/321) وابن حبان (4514) والحاكم (3/479، 4/422) وعبد الرزاق (20719) والبيهقي في الشعب (5761). ورواه من حديث كعب بن عجرة الترمذي (614) والنسائي (7/160) وفي الكبرى (7830) والحاكم (1/78) وابن حبان (285) والطبراني في الكبير (19/212)، ومن حديث خباب ابن حبان (284)، ومن حديث أبي سعيد ابن حبان (286). ومن حديث جابر بن سمرة الحاكم (4/126). وانظر في الباب: مجمع الزوائد (5/247) من حديث ابن عمر عند أحمد والبزار، ومن حديث النعمان بن بشير عند أحمد.(1/43)
كقوله تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم فى شىء } (1)، وهى آية نزلت –عند المفسرين- فى أهل البدع، ويوضحه من قرأ: { إن الذين فارقوا دينهم } (2)، والمفارقة للدين بحسب الظاهر إنما هى الخروج عنه.
وقوله: { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ... } (3)، وهى عند العلماء منزلة فى أهل القبلة، وهم أهل البدع، وهذا كالنص ... إلى غير ذلك من الآيات.
__________
(1) ... الأنعام: 159.
(2) ... جاء في تفسير الآية عند الطبري: اختلف القراء في قراءة قوله (فرقوا) فروي (بسنده) أن عليا رضي الله عنه قرأ (إن الذين فارقوا دينهم)، (وبسنده) قال حمزة الزيات: قرأها علي رضي الله عنه (فارقوا دينهم)، (وبسنده) عن قتادة (فارقوا دينهم). وكأن عليا ذهب بقوله (فارقوا دينهم) خرجوا فارتدوا عنه من المفارقة. وقرأ ذلك عبد الله بن مسعود (وبسنده) ثنا أبو إسحاق أن عبد الله كان يقرؤها (فرقوا دينهم) وعلى هذه القراءة، أعني قراءة عبد الله قراء المدينة والبصرة وعامة قراء الكوفيين، وكأن عبد الله تأول بقراءته ذلك كذلك: أن دين الله واحد وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة، ففرق ذلك اليهود والنصارى فتهوَّد قوم وتنصَّر آخرون، فجعلوه شيعاً متفرقة. والصواب من القول في ذلك: أن يقال إنهما قراءتان معروفتان، قد قرأت بكل واحدة منهما أئمة من القراء، وهما متفقتا المعنى غير مختلفتيه، وذلك أن كل ضال فلدينه مفارق، وقد فرق الأحزاب دين الله الذي ارتضاه لعباده، فتهود بعض وتنصر آخرون وتمجس بعض وذلك هو التفريق بعينه، ومصير أهله شيعاً متفرقين غير مجتمعين، فهم لدين الله الحق مفارقون وله مفرقون، فبأي ذلك قرأ القارىء فهو للحق مصيب، غير أني أختار القراءة بالذي عليه عظم القراء وذلك تشديد الراء من فرقوا.
(3) ... آل عمران: 106.(1/44)
وأما الحديث، فقوله - صلى الله عليه وسلم - (لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)(1) وهذا نص فى كفر من قيل ذلك فيه. وقوله - صلى الله عليه وسلم - فى الخوارج: (دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله، فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى رصافه، فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى نضيه، فلا يوجد فيه شىء –وهو القدح- ثم ينظر إلى قذذه، فلا يوجد فيه شىء من الفرث والدم)(2).
فانظر إلى قوله: (من الفرث والدم)، فهو الشاهد على أنهم دخلوا فى الإسلام، فلا يتعلق بهم منه شىء.
__________
(1) ... رواه من حديث جرير البخاري (121) ومسلم (65) وابن حبان (5940) وابن ماجة (3942)، ومن حديث ابن عمر البخاري (4403) ومسلم (66) وابن حبان (187) وأبو داود (4686) والنسائي (7/126) وابن ماجة (3943). ومن حديث ابن عباس البخاري (1739) والترمذي (2193). ورواه الطبراني من حديث أبي سعيد، وأحمد من حديث أبو حرة الرقاشي عن عمه، وروي من حديث عدد من الصحابة فانظر: مجمع الزوائد (1/156، 3/266، 270، 273، 283، 6/283، 7/244).
(2) ... تقدم تخريجه: ص 113، 119، 409.(1/45)
إلى غير ذلك من الأحاديث التى ظاهرها الخروج من الإسلام جملة.
ولا يقولن أحد: هذه الأحاديث إنما هى فى قوم بأعيانهم، فلا حجة فيها على غيرهم، لأن العلماء استدلوا بها على جميع أهل الأهواء، كما استدلوا بالآيات.
ويحتمل أن لا يكونوا خارجين عن الإسلام جملة، وإن كانوا قد خرجوا عن جملة من شرائعه وأصوله، ويدل على ذلك جميع ما تقدم فيما قبل هذا الفصل، فلا فائدة من الإعادة.
ويحتمل وجهاً ثالثاً، وهو أن يكون منهم من فارق الإسلام، لكون مقالته كفر، وتؤدى معنى الكفر الصريح، ومنهم من لا يفارقه، بل انسحب عليه حكم الإسلام، وإن عظم مقاله وشنع مذهبه، لكنه لم يبلغ به مبلغ الخروج إلى الكفر المحض والتبديل الصريح.
ويدل على ذلك الدليل، بحسب كل نازلة وبحسب كل بدعة، إذ لا يشك فى أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر، كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زُلفى، ومنها ما ليس بكفر، كالقول بالجهة(1) عند جماعة، وإنكار الإجماع، وإنكار القياس ... وما أشبه ذلك.
وإذا تقرر نقل الخلاف، فلنرجع إلى ما يقتضيه الحديث الذى نحن بصدد شرحه من هذه المقالات(2).
أما ما صح منه، فلا دليل [فيه] على شىء، لأنه ليس فيه إلا تعديد الفرق خاصة.
__________
(1) ... يقصد بذلك نفى العلو وهى عقيدة الأشاعرة خلاف أهل السنة الذين يثبتون علو الذات لله سبحانه ويقصدون بالجهة العلو لا الجهة المخلوقة كما هو موضح فى موضعه.
(2) ... يقصد به حديث افتراق الأمة.(1/1)
وأما على رواية من قال فى حديثه: "كلها فى النار إلا واحدة"، فإنما يقتضى إنفاذ الوعيد ظاهراً، ويبقى الخلود وعدمه مسكوتاً عنه، فلا دليل فيه على شىء مما أردنا، إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاه المؤمنين كما يتعلق بالكفار على الجملة، وإن تباينا فى التخليد وعدمه(1).
4- المسألة الرابعة
أن هذه الأقوال المذكورة آنفاً مبنية على أن الفرق المذكورة فى الحديث هى المبتدعة فى قواعد العقائد على الخصوص، كالجبرية، والقدرية، والمرجئة، وغيرها، وهو مما ينظر فيه، فإن إشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص، وهو رأى الطرطوشى.
وفى حديث الخوارج ما يدل عليه، فإنه ذمهم بعد أن ذكر أعمالهم، وقال فى جملة ما ذمهم به: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"، فذمهم بترك التدبر والأخذ بظواهر المتشابهات، كما قالوا: حَكَّم (الرجال) فى دين الله، والله يقول: { إن الحُكم إلا للهِ } (2).
__________
(1) ... قال ابن تيمية فى الفتاوى 7/218: ومن قال: إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضى الله عنهم، بل وبإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضًا ببعض المقالات.
(2) ... قال ذلك الخوارج لعلي بن أبي طالب –وهو الخليفة آنذاك- لما ارتضى أن يحكم الصحابة والمسلمون فيما وقع من الخلاف مع معاوية رضي الله عن الصحابة أجمعين، وقبح الخوارج المتطاولين، فرد عليهم بقوله: كلمة حق أريد بها باطل.
"فإن عليا لما كاتب معاوية وحكم الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وأنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله واسم سماك به الله، ثم انطلقت فحكمت في دين الله، ولا حكم إلا لله، فلما أن بلغ علياً ما عتبوا عليه وفارقوه عليه، أمر فأذن مؤذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين رجل إلا رجلاً قد حمل القرآن، فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين يديه، فجعل يصكه بيده، ويقول: أيها المصحف حدث الناس! فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه؟ إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما } فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علىّ أن كاتبت معاوية كتبت علي بن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحدييية حين صالح قومه قريشاً، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال: كيف تكتب؟ قال: أكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب، فكتب، فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك، فكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشاً، يقول الله تعالى في كتابه { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } فبعث إليهم عبد الله بن عباس فخرجت معه حتى إذا توسطت عسكرهم ... ..فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب فيهم ابن الكواء حتى أدخلهم على علي الكوفة" ... (عن البداية والنهاية لابن كثير: أحداث سنة: سبع وثلاثين).(1/2)
وقال أيضاً: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)(1)، فذمهم بعكس ما عليه الشرع، لأن الشريعة جاءت بقتل الكفار والكف عن المسلمين، وكلا الأمرين غير مخصوص بالعقائد(2).
فدل على أن الأمر على العموم لا على الخصوص واستدل الطرطوشى على أن البدع لا تختص بالعقائد بما جاء عن الصحابة والتابعين وسائر العلماء فى تسميتهم الأقوال والأفعال بدعاً إذا خالفت الشريعة، ثم أتى بآثار كثيرة: كالذى رواه مالك عن عمه أبى سهيل عن أبيه: أنه قال: ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة. يعنى بالناس: الصحابة، وذلك أنه أنكر أكثر أفعال عصره، ورآها مخالفة لأفعال الصحابة.
وفى البخارى عن أم الدرداء، قالت: دخل أبو الدرداء مغضباً، فقلت له: مالك؟ فقال: والله ما أعرف منهم من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعاً(3).
وذكر جملة من أقاويلهم فى هذا المعنى مما يدل على أن مخالفة السنة فى الأفعال قد ظهرت.
__________
(1) ... تقدم تخريجه ص113، 119، 409.
(2) ... قد يدخل ذلك في باب العقائد، خاصة وأنهم اعتقدوا كفر عليّ وجماعة من الصحابة، ومن ثَم استحلوا دماءهم، حتى قال قائلهم يمدح ابن ملجم قاتل عليّ: (وهو عمران بن حطان) فقال فيه:
يا ضربة من تقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
وقد رد عليه بعض العلماء في أبياته بأبيات على قافيتها ووزنها:
بل ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا
إني لأذكره يوما فأحسبه أشقى البرية عند الله ميزانا
فهم في اعتقادهم الباطل يتقربون إلى الله بقتل مثل هؤلاء الأخيار، عياذاً بالله من الخذلان.
(3) ... رواه البخاري مسنداً عن أبي الدرداء (650)، كتاب الأذان، باب: فضل صلاة الفجر في جماعة.(1/3)
وفى مسلم: قال مجاهد: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر مستند إلى حجرة عائشة، وإذا أناس فى المسجد يصلون الضحى، فقلنا: ما هذه الصلاة؟ فقال: بدعة(1).
قال الطرطوشى: محمله عندنا على أحد وجهين: إما أنهم يصلونها جماعة، وإما أفذاذاَ على هيئة النوافل فى أعقاب الفرائض.
وذكر أشياء من البدع القولية مما نص العلماء على أنها بدع، فصح أن البدع لا تختص بالعقائد.
وقد تقررت هذه المسألة فى كتاب "الموافقات" بنوع آخر من التقرير.
نعم، ثَم معنى آخر ينبغى أن يذكر هنا، وهى:
5- المسألة الخامسة
وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية فى معنى كلى فى الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا فى جزئى من الجزئيات، إذ الجزئى والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة فى الأمور الكلية، لأن الكليات نصٌّ من الجزئيات غير قليل(2)، وشأنها فى الغالب أن لا تختص بمحل دون محل، ولا بباب دون باب.
واعتبر ذلك بمسألة التحسين العقلى، فإن المخالفة فيها أنشأت بين المخالفين خلافاً فى الفروع لا تنحصر، ما بين فروع عقائد وفروع أعمال.
ويجرى مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة، عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً.
6- المسألة السادسة
أنا إذا قلنا بأن هذه الفرق كفار –على قول من قال به-: أو ينقسمون إلى كافر وغيره، فكيف يعدون من الأمة؟
__________
(1) ... رواه البخاري (1775) ومسلم (1255) وابن خزيمة (3070) وابن حبان (3945)، ورواه ابن أبي شيبة (2/172) وزاد فيه: ونعمت البدعة. وانظر فتح الباري (3/63).
(2) ... يقصد أن الكليات يندرج تحتها ويتفرع منها عدد كثير من الجزئيات. وضرب مثلاً للاختلاف فى الكليات بالاختلاف فى مسألة التحسين والتقبيح العقلى عند المعتزلة.(1/4)
وظاهر الحديث يقتضى أن ذلك الافتراق إنما هو مع كونهم من الأمة، وإلا، فلو خرجوا من الأمة إلى الكفر، لم يعدوا منها البتة، كما تبين.
وكذلك الظاهر فى فرق اليهود والنصارى: أن التفرق فيهم حاصل مع كونهم هوداً ونصارى؟
فيقال: فى الجواب عن هذا السؤال: إنه يحتمل أمرين:
(أحدهما): أنا نأخذ الحديث على ظاهره فى كون هذه الفرق من الأمة، ومن أهل القبلة.
ومن قيل بكفره منهم:
فإما أن يسلم فيهم هذا القول، فلا يجعلهم من الأمة أصلاً، ولا أنهم مما يعدون فى الفرق، وإنما نعد منهم من لا تخرجه بدعته إلى كفر.
والاحتمال الثانى: أن نعدهم من الأمة على طريقة لعلها تتمشى فى الموضع، وذلك أن كل فرقة تدعى الشريعة، وأنها على صوابها، وتناصب العداوة من نسبتها إلى الخروج عنها.
وبذلك يخالفون من خرج عن الإسلام، لأن المرتد، إذا نسبته إلى الارتداد، أقر به، ورضيه، بخلاف هؤلاء الفرق، فإنهم مدعون الموالفة للشارع، والرسوخ فى اتباع شريعة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنما وقعت العداوة بينهم وبين أهل السنة بسبب ادعاء بعضهم على بعض الخروج عن السنة.
ولا علينا أقلنا: إنهم خرجوا ببدعتهم عن الأمة أولاً، إذ أثبتنا لهم وصف الانحياش إليها؟
7- المسألة السابعة
فى تعيين هذه الفرق، وهى مسألة –كما قال الطرطوشى- طاشت فيها أحلام الخلق، فكثير ممن تقدم وتأخر من العلماء عيَّنوها، لكن فى الطوائف التى خالفت فى مسائل العقائد:
فمنهم من عد أصولها ثمانية، فقال: كبار الفرق الإسلامية ثمانية: المعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، والنجارية، والجبرية، والمشبهة، والناجية.
(ثم قال بعد أن عدد الفرق): فالجميع اثنتان وسبعون فرقة، فإذا أضيفت الفرقة الناجية إلى عدد الفرق صار الجميع ثلاثاً وسبعين فرقة.(1/5)
وهذا التعديد بحسب ما أعطته المنة فى تكليف المطابقة للحديث الصحيح، لا على القطع بأنه المراد، إذ ليس على ذلك دليل شرعى، ولا دل العقل أيضاً على انحصار ما ذكروه فى تلك العدة من غير زيادة ولا نقصان، كما أنه لا دليل على اختصاص تلك البدع بالعقائد.
وقال جماعة من العلماء: أصول البدع أربعة، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وهم: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة.
قال يوسف بن أسباط: ثم تشبعت كل فرقة ثمان عشرة فرقة، فتلك ثنتان وسبعون فرقة، والثالثة والسبعون هى الناجية.
وهذا التقدير نحو من الأول ويَرِد عليه من الإشكال ما وَرَدَ على الأول.
فشرح ذلك الشيخ أبو بكر الطرطوشى رحمه الله شرحاً يقرب الأمر، فقال: لم يُرد علماؤنا بهذا التقدير: أن أصل كل بدعة من هذه الأربع تفرقت وتشعبت على مقتضى أصل البدع حتى حصلت تلك العدة، فإن ذلك لعله لم يدخل فى الوجود إلى الآن.
فإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد بتفرق أمته أصول العقائد التى تجرى مجرى الأجناس للأنواع، والمعاقد للفروع، لعلهم –والعلم عند الله- ما بلغوا هذا العدد إلى الآن، غير أن الزمان باق والتكليف قائم والخطرات متوقعة، وهل قرن أو عصر يخلو إلا وتحدث فيه البدع؟!
وإن كان أراد بالتفرق كل بدعة حدثت فى دين الإسلام مما لا يلائم أصول الإسلام ولا تقبلها قواعده، من غير التفات إلى التقسيم الذى ذكرنا، كانت البدع أنواعاً لأجناس، أو كانت متغايرة الأصول والمبانى.
فهذا هو الذى أراده عليه السلام –والعلم عند الله-، فقد وجد من ذلك عدد كثير من اثنتين وسبعين.
ووجه صحيح الحديث على هذا أن يخرج من الحساب غلاة أهل البدع، ولا يعدون من الأمة ولا فى أهل القبلة.
هذا ما قال الطرطوشى رحمه الله تعالى، وهو حسن من التقرير، غير أنه يبقى للنظر فى كلامه مجالان.
((1/6)
أحدهما): أن ما اختار من أنه ليس المراد الأجناس، فإن كان مراده مجرد أعيان البدع، وقد ارتضى اعتبار البدع القولية والعملية، فمشكل، لأنا إذا اعتبرنا كل بدعة دقت أو جلت، فكل من ابتدع بدعة كيف كانت لزم أن يكون هو ومن تابعه عليها فرقة، فلا تقف فى مئة ولا مئتين، فضلاً عن وقوعها فى اثنتين وسبعين، فإن البدع –كما قال- لا تزال تحدث مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة.
(والثانى): أن حاصل كلامه أن هذه الفرق لم تتعين بعد، بخلاف القول المتقدم، وهو أصح فى النظر، لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل، والعقل لا يقتضيه.
فالأولى ما قاله من عدم التعيين، وإن سلمنا (أن) الدليل قام له على ذلك، فلا ينبغى التعيين.
أما أولاً: فإن الشريعة قد فهمنا منها أنها تشير إلى أوصافهم من غير تصريح ليحذر منها، ويبقى الأمر فى تعيين الداخلين فى مقتضى الحديث مرجأ، وإنما ورد التعيين فى النادر، كما قال - صلى الله عليه وسلم - فى الخوارج: (إن من ضئضىء هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ... ) الحديث(1)، مع أنه عليه السلام لم يعرف أنهم ممن شملهم حديث الفرق.
وأما ثانياً: فلأن عدم التعيين هو الذى ينبغى أن يلتزم، ليكون ستراً على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا فى الدنيا بها فى الغالب(2).
__________
(1) ... تقدم ص113، 119، 409.
(2) ... هذا التعليل فيه نظر ظاهر، وإلا لاكتفى النبى - صلى الله عليه وسلم - بما قاله من أحاديث فى اتباع سنن أهل الكتاب قبلنا شبرًا بشبر ...، ولم يحتج إلى تحديد عدد معين (73 فرقة) فما الفائدة إذن من تحديد ذلك العدد بعينه، وأيضًا فما قاله النبى - صلى الله عليه وسلم - حق وصدق وهو لا محالة واقع فى دنيا الناس، ويؤيد ذلك قيام علماء أجلاء بالكتابة فى أصول هذه الفرق استنادًا إلى هذا الحديث، والله أعلم.(1/7)
وأمرنا بالستر على المذنبين ما لم تبد لنا صفحة الخلاف، ليس كما ذكر عن بنى إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ليلاً، أصبح وعلى بابه معصيته مكتوبة(1)، وأيضاً، فللستر حكمة أخرى، وهى أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة، لكان فى ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التى أمر الله ورسوله بها، حيث قال: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } (2)، وقال: { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } (3)، وقال: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } (4).
وفى الحديث: (لا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً)(5).
__________
(1) ... في مجمع الزوائد (7/11): عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب أصبح على بابه مكتوب: أذنبت كذا وكذا، وكفارته كذا من العمل، فلعله أن يتكاثره أن يعمله، قال ابن مسعود: ما أحب أن الله عز وجل أعطانا ذلك مكان هذه الآية { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، إلا أن ابن سيرين ما أظنه سمع من ابن مسعود والله أعلم. وانظر نحو ذلك عند ابن حبان (387). وانظر: ضعيف الجامع (4150) والسلسلة الضعيفة (4083).
(2) ... آل عمران: 103.
(3) ... الأنفال: 1.
(4) ... آل عمران: 105.
(5) ... رواه من حديث أبي هريرة: مسلم (2564) وأحمد (2/277، 360) وابن ماجة (3933) والبيهقي (6/92)، ورواه كذلك البخاري (5143) ومسلم (2563) وابن حبان (5687)، ومن حديث أنس رواه البخاري (6065) ومسلم (2559) وأبو داود (4910) والترمذي (1935) وابن حبان (5660)، ومن حديث أبي بكر الصديق رواه أحمد (1/3، 5، 34) وابن ماجة (3849) وأبو يعلى (121).(1/8)
وأمر - صلى الله عليه وسلم - بإصلاح ذات البين، وأخبر أن فساد ذات البين هى الحالقة التى تحلق الدين(1).
فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة، لزم من ذلك أن يكون منهياً عنه، إلا أن تكون البدعة فاحشة جداً، كبدعة الخوارج، وذكرهم بعلامتهم، حتى يعرفوا، ويلحق بذلك ما هو مثله فى الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد، وما عدا ذلك، فالسكوت عنه أولى.
فمن هنا لا ينبغى للراسخ فى العلم أن يقول: هؤلاء الفرق هم بنو فلان وبنون فلان! وإن كان يعرف بعلامتهم بحسب اجتهاده، اللهم إلا فى موطنين:
(أحدهما): حيث نبه الشرع على تعيينهم، كالخوارج، فإنه ظهر من استقراءه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق، ويجرى مجراهم من سلك سبيلهم، فإن أقرب الناس إليهم شيعة المهدى المغربى.
وقد جاء فى القدرية حديث خرجه أبو داود عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا، فلا تعودوهم، وإن ماتوا، فلا تشهدوهم)(2).
وجاء فى المرجئة والجهمية شىء لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا تعويل عليه.
(والثانى): حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها فى قلوب العوام ومن لا علم عنده، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس، وهم من شياطين الإنس، فلابد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشواهد على أنهم منهم، كما اشتهر عن عمرو بن عبيد وغيره.
__________
(1) ... صحيح: رواه من حديث أبي هريرة الترمذي (2508)، ورواه من حديث أبي الدرداء (2509) وأبو داود (4919) وابن حبان (5090)، ورواه الترمذي (2510) من حديث الزبير.
(2) ... صحيح: من حديث ابن عمر رواه أبو داود (4691) والبيهقي (10/203) والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد (7/205) والحاكم (1/85)، ورواه أبو داود (4692) من حديث حذيفة، ورواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس (مجمع 7/205).(1/9)
فإذا فقد الأمران، فلا ينبغى أن يُذكروا ولا أن يعيَّنوا وإن وجدوا، لأن ذلك أول مثير للشر وإلقاء العداوة والبغضاء، ومتى حصل باليد منهم أحد، ذاكره برفق، ولم ير أنه خارج من السنة، بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعى، وأن الصواب الموافق للسنة كذا وكذا، فإن فعل ذلك من غير تعصب ولا إظهار غلبة، فهو أنجح وأنفع، وبهذه الطريقة دُعى الخلق أولاً إلى الله تعالى، حتى (إذا) عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة، قوبلوا بحسب ذلك.
قال الغزالى فى بعض كتبه: أكثر الجهالات إنما رسخت فى قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق، أظهروا الحق فى معرض التحدى والإدلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعى المعاندة والمخالفة، ورسخت فى قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التى نطقوا بها فى الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء، لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقراً فى قلب مجنون، فضلاً عن قلب عاقل.
هذا ما قال، وهو الحق الذى تشهد له العوائد الجارية، فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك، والله أعلم.
8- المسألة الثامنة
أنه لما تبين أنهم لا يتعينون، فلهم خواص وعلامات يعرفون بها، وهى على قسمين: علامات إجمالية، وعلامات تفصيلية.
فأما العلامات الإجمالية، فثلاثة:
(إحداها): الفرقة التى نبَّه عليها قوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } (1).
وهذا التفريق –كما تقدم- إنما هو الذى يصير الفرقة الواحدة فرقاً والشيعة الواحدة شيعاً.
__________
(1) ... آل عمران: 105.(1/10)
قال بعض العلماء: كل مسألة حدثت فى الإسلام، واختلف فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة، علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة حدثت، طرأت، فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة، علمنا أنها ليست من أمر الدين فى شىء، وأنها التى عنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتفسير الآية.
قال: فيجب على كل ذى عقل ودين أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى: { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً } (1)، فإذا اختلفوا وتقاطعوا، كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى.
والخاصية الثانية: هى التى نبه عليها قوله تعالى: { فأما الذين فى قُلوبهم زيغ فيتبعون ... } (2)، فبينت الآية أن أهل الزيغ يتبعون متشابهات القرآن، وجعلوا ممن شأنه أن يتبع المتشابه لا المحكم.
ومعنى المتشابه: ما أشكل معناه، ولم يبين مغزاه، كان من المتشابه الحقيقى -كالمجمل من الألفاظ، وما يظهر من التشبيه- أم من المتشابه الإضافى، وهو مما يحتاج فى بيان معناه الحقيقى إلى دليل خارجى، وإن كان فى نفسه ظاهر المعنى لبادى الرأى.
كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله: { إن الحكم إلا لله } (3)، فإن ظاهر الآية صحيح على الجملة، وأما على التفصيل، فمحتاج إلى البيان، وهو ما تقدم ذكره لابن عباس رضى الله عنه، لأنه بين أن الحكم لله، تارة بغير تحكيم، وتارة بتحكيم، لأنه إذا أمرنا بالتحكيم(4)، فالحكم به حكم لله.
__________
(1) ... آل عمران: 103.
(2) ... آل عمران: 7.
(3) ... يوسف: 40.
(4) ... فى الصلح بين الزوجين، وفى الصيد يصيبه المُحْرِم..(1/11)
والخاصية الثالثة: اتباع الهوى، وهو الذى نبه عليه قوله تعالى: { فأما الذين فى قلوبهم زيغ } (1)،والزيغ هو الميل عن الحق اتباعاً للهوى، وكذلك قوله: { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } (2)، وقوله: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم ... } (3).
وليس فى حديث الفرق ما يدل على هذه الخاصية(4)، ولا على التى قبلها، إلا أن هذه الخاصية راجعة فى المعرفة بها إلى كل أحد فى خاصة نفسه، لأن اتباع الهوى أمر باطن، فلا يعرفه غير صاحبه إذا لم يغالط نفسه، إلا أن يكون عليها دليل خارجى.
وقد مر أن أصل حدوث الفرق إنما هو الجهل بمواقع السنة، وهو الذى نبه عليه الحديث بقوله: (اتخذ الناس رؤساء جهالاً)(5).
فكل أحد عالم بنفسه: هل بلغ فى العلم مبلغ المفتين أم لا؟ وعالم (إذا) راجع النظر فيما سئل عنه: هل هو قائل بعلم واضح من غير إشكال؟ أم بغير علم؟ أم هو على شك فيه؟ والعالم إذا لم يشهد له العلماء، فهو فى الحكم باق على الأصل من عدم العلم، حتى يشهد فيه غيره، ويعلم هو من نفسه ما شهد له به، وإلا، فهو على يقين من عدم العلم، أو على شك، فاختيار الإقدام فى هاتين الحالتين على الإحجام لا يكون إلا باتباع الهوى، إذ كان ينبغى له أن يستفتى فى نفسه غيره ولم يفعل، وكان من حقه أن لا يقدم إلا أن يقدمه غيره ولم يفعل هذا.
وأما الخاصية الثانية: فراجعة إلى العلماء الراسخين فى العلم، لأن معرفة المحكم والمتشابه راجع إليهم، فهم يعرفونها ويعرفون أهلها بمعرفتهم، فهم المرجوع إليهم فى بيان من هو متبع للمحكم فيقلد فى الدين، ومن هو متبع المتشابه فلا يقلد أصلاً.
__________
(1) ... آل عمران: 7.
(2) ... القصص: 50.
(3) ... الجاثية: 23.
(4) ... خاصية اتباع الهوى وردت من حديث معاوية –وقد تقدم- وفيه (تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ...).
(5) ... تقدم ص108، 146، 399.(1/12)
ولكن له علامة ظاهرة أيضاً، نبه عليها الحديث الذى فُسرت الآية به، قال فيه: (إذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم)(1)، خرجه القاضى إسماعيل بن إسحاق، وقد تقدم أول الكتاب.
فجعل من شأن المتبع للمتشابه أنه يجادل فيه ويقيم النزاع على الإيمان، وسبب ذلك أن الزائغ المتبع لما تشابه من الدليل لا يزال فى ريب وشك، إذ المتشابه لا يعطى بياناً شافياً، ولا يقف منه متبعه على حقيقة، فاتباع الهوى يلجئه إلى التمسك به، والنظر فيه لا يتخلص له، فهو على شك أبداً، وبذلك يفارق الراسخ فى العلم، لأن جداله إن افتقر إليه، فهو فى مواقع الإشكال العارض طلباً لإزالته، فسرعان ما يزول إذا بين له موضع النظر.
وأما ذو الزيغ، فإن هواه لا يخليه إلى طرح المتشابه، فلا يزال فى جدال عليه وطلب لتأويله.
وشأن هذا الجدال أنه شاغل عن ذكر الله وعن الصلاة، كالنرد والشطرنج، ونحوهما.
وقد نقل عن حماد بن زيد: أنه قال: جلس عمرو بن عبيد وشبيب بن شيبة ليلة يتخاصمان إلى طلوع الفجر. قال: فلما صلوا، جعل عمرو يقول: هيه أبا معمر!. فإذا رأيتهم أحداً شأنه أبداً الجدال فى المسائل مع كل أحد من أهل العلم، ثم لا يرجع ولا يرعوى، فاعلموا أنه زائغ القلب متبع للمتشابه فاحذروه.
__________
(1) ... تقدم تخريجه ص80، 407.(1/13)
وأما ما يرجع للأول، فعامة لجميع العقلاء من أهل الإسلام، لأن التواصل والتقاطع معروف عند الناس كلهم، وبمعرفته يعرف أهله، وهو الذى نبه عليه حديث الفرق، إذا أشار إلى الافتراق شيعاً بقوله: وستفترق هذه الأمة على كذا"، ولكن هذا الافتراق إنما يعرف بعد الملابسة والمداخلة، وأما قبل ذلك، فلا يعرفه كل أحد، فله علامات تتضمن الدلالة على التفرق، أولاً مفاتحة الكلام، وذلك إلقاء المخالف لمن لقيه ذم المتقدمين ممن اشتهر علمهم وصلاحهم واقتداء الخلف بهم، ويختص بالمدح من لم يثبت له ذلك من شاذ مخالف له، وما أشبه ذلك(1).
وأصل هذه العلامة فى الاعتبار تكفير الخوارج -لعنهم الله- الصحابة الكرام رضى الله عنهم، فإنهم ذموا من مدحه الله ورسوله واتفق السلف الصالح على مدحهم والثناء عليهم، ومدحوا من اتفق السلف الصالح على ذمه، كعبد الرحمن بن ملجم قاتل على رضى الله عنه، وصوبوا قتله إياه(2).
فإذا رأيت من يجرى على هذا الطريق، فهو من الفرق المخالفة، وبالله التوفيق.
روى عن إسماعيل بن علية، قال: حدثنى اليسع، قال: تكلم واصل بن عطاء يوماً –يعنى: المعتزلى-، فقال عمرو بن عبيد: ألا تسمعون؟ ما كلام الحسن وابن سيرين –عندما تسمعون- إلا خرقة حيض ملقاة.
وروى أن زعيماً من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام على الفقه(3)، فكان يقول: إن علم الشافعى وأبى حنيفة جملته لا يخرج من سراويل امرأة.
__________
(1) ... ينتبه إلى أن هذه العلامة فاشية الآن فى عصرنا.
(2) ... تقدم ما قاله متخرصهم من الشعر فى مدحه، والرد عليه فى المسألة الرابعة.
(3) ... يعنى تفضيل علم الكلام –بزعمه- على علم الفقه.(1/14)
وأما العلامة التفصيلية فى كل فرقة، فقد نبه عليها وأشير إلى جملة منها فى الكتاب والسنة، وفى ظنى أن من تأملها فى كتاب الله، وجدها منبهاً عليها ومشاراً إليها، ولولا أنا فهمنا من الشرع الستر عليها، لكان فى الكلام فى تعيينها مجال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعى، وقد كنا هممنا بذلك فى ماضي الزمان، فغلبنا عليه، ما دلنا على أن الأولى خلاف ذلك.
فأنت ترى أن الحديث الذى تعرضنا لشرحه لم يعيِّن فى الرواية الصحيحة واحدة منها، لهذا المعنى المذكور –والله أعلم-، وإنما نبه عليها فى الجملة، لتحذر مظانها، وعين فى الحديث المحتاج إليه منها، وهى الفرقة الناجية، ليتحراها المكلف، وسكت عن ذلك فى الرواية الصحيحة، لأن ذكرها فى الجملة يفيد الأمة الخوف من الوقوع فيها، وذكر فى الرواية الأخرى فرقة من الفرق الهالكة، لأنها –كما قال- أشد الفرق فتنة على الأمة، وبيان كونها أشد فتنة من غيرها سيأتى آخراً إن شاء الله.
9- المسألة التاسعة
أن الرواية الصحيحة فى الحديث أن افتراق اليهود كافتراق النصارى على إحدى وسبعين.
وأثبت فى الترمذى فى الرواية الغريبة لبنى إسرائيل الثنتين والسبعين، لأنه لم يذكر فى الحديث افتراق النصارى، وذلك –والله أعلم- لأجل أنه إنما أجرى فى الحديث ذكر بنى إسرائيل فقط، لأنه ذكر فيه عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ليأتين على أمتى ما أتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية، لكان فى أمتى من يصنع ذلك، وإن بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفرق أمتى ... ) الحديث(1).
وثبت فى بعض كتب الكلام فى نقل الحديث أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين وأن النصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، ووفقت سائر الروايات فى افتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة.
__________
(1) ... تقدم تخريجه في المسألة الثانية.(1/15)
وإن بنينا على إعمال الروايات، فيمكن أن تكون رواية الإحدى والسبعين وقت أعلم بذلك، ثم أعلم بزيادة فرقة: إما أنها كانت فيهم ولم يعلم بها النبى - صلى الله عليه وسلم - إلا فى وقت آخر، وإما أن تكون جملة الفرق فى الملتين ذلك المقدار، فأخبر به، ثم حدثت الثانية والسبعون فيهما، فأخبر بذلك عليه السلام.
وعلى الجملة، فيمكن أن يكون الاختلاف بحسب التعريف بها أو الحدوث، والله أعلم بحقيقة الأمر.
10- المسألة العاشرة
هذه الأمة ظهر أن فيها فرقة زائدة على الفرق الأخرى –اليهود والنصارى-، فالثنتان والسبعون من الهالكين المتوعدين بالنار، والواحدة فى الجنة.
فإذا انقسمت هذه الأمة بحسب هذا الافتراق قسمين: قسم فى النار، وقسم فى الجنة، ولم يبين ذلك فى فرق اليهود ولا فى فرق النصارى، إذ لم يبين الحديث أى تقسيم لهذه الأمة، فيبقى النظر: هل فى اليهود والنصارى فرقة ناجية أم لا؟ وينبنى على ذلك نظر أن هل زادت هذه الأمة فرقة هالكة أم لا؟
وهذا النظر وإن كان لا ينبنى عليه عمل ولكنه من تمام الكلام فى الحديث، فظاهر النقل فى مواضع من الشريعة أن كل طائفة من اليهود والنصارى لابد أن وجد فيها من آمن بكتابه وعمل بسنته:
كقوله: { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } (1)، ففيه إشارة إلى أن منهم من لم يفسق.
وقال تعالى: { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } (2).
وقال تعالى: { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } (3).
وقال: { منهم أمة مقتصدة } (4)، وهذا كالنصِّ.
__________
(1) ... الحديد: 16.
(2) ... الحديد: 27.
(3) ... الأعراف: 159.
(4) ... المائدة: 66.(1/16)
وفى الحديث الصحيح عن أبى موسى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: (أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بى، فله أجران)(1)، فهذا يدل بإشارته على العمل بما جاء به نبيه.
وإذا ثبت أن فى اليهود والنصارى فرقة ناجية، لزم من ذلك أن يكون فى هذه الأمة فرقة هالكة زائدة، على رواية الثنتين والسبعين، أو فرقتين، بناء على رواية الإحدى والسبعين، فيكون لها نوع من التفرق لم يكن لمن تقدم من أهل الكتاب، لأن الحديث المتقدم أثبت أن هذه الأمة تبعت من قبلها من أهل الكتابين فى أعيان مخالفتها، فثبت أنها تبعتها فى أمثال بدعتها. وهذه هى:
11- المسألة الحادية عشرة
فإن الحديث الصحيح قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا فى جحر ضب خرب، لاتبعتموهم). قلنا يا رسول الله! اليهود والنصارى. قال: (فمن؟)(2)، زيادة إلى حديث الترمذى الغريب(3)، فدل ضرب المثال فى التعيين على أن الإتباع فى أعيان أفعالهم.
__________
(1) ... رواه البخاري (97) ومسلم (154) والدارمي (2/154) وابن حبان (227) والبيهقي (7/127) وابن ماجة (1956).
(2) ... تقدم تخريجه ص22، 237.
(3) ... وهو المذكور فى المسألة التاسعة.(1/17)
وفى الصحيح عن أبى واقد الليثى، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: "ذات أنواط:. فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال لهم النبى - صلى الله عليه وسلم - : (الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلية، لتركبن سنن من كان قبلكم)(1).
وصار حديث الفرق بهذا التفسير صادقاً على أمثال البدع التى تقدمت لليهود والنصارى، وأن هذه الأمة تبتدع فى دين الله مثل تلك البدع وتزيد عليها ببدعة لم تتقدمها فيها واحدة من الطائفتين، ولكن هذه البدعة الزائدة إنما تعرف بعد معرفة البدع الأخر، وقد مر أن ذلك لا يعرف، أو لا يسوغ التعريف به وإن عرف، فكذلك لا تتعين البدعة الزائدة، والله أعلم.
وفى الحديث أيضاً عن أبى هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتى بما أخذ القرون من قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع). فقال رجل: يا رسول الله! كما فعلت فارس والروم؟ قال: (وهل الناس إلا أولئك)(2).
وهو بمعنى الأول، إلا أنه ليس فيه ضرب مثل، فقوله: (حتى تأخذ أمتى بما أخذ القرون من قبلها)، يدل على أنها تأخذ بمثل ما أخذوا به، إلا أنه لا يتعين فى الاتباع لهم أعيان بدعهم، بل قد تتبعها فى أعيانها وتتبعها فى أشباهها.
فالذى يدل على الأول قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم ... ) الحديث، فإنه قال فيه: (حتى لو دخلوا فى جحر ضب خرب، لاتبعتموهم).
__________
(1) ... صحيح: رواه من حديث أبي واقد الليثي: الترمذي (2181) وأحمد (5/218) والسنة لابن أبي عاصم (76) وابن حبان (6702) والنسائي في الكبرى (11185) وابن أبي شيبة (7/479). ورواه الطبراني من حديث عمرو بن عوف وفي سنده كثير بن عبد الله كما في مجمع الزوائد (7/24).
(2) ... رواه البخاري (7319).(1/18)
والذى يدل على الثانى قوله: فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط. فقال - صلى الله عليه وسلم - : (هذا كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلها ... ) الحديث، فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الالهة من دون الله، لا أنه هو بنفسه، فلذلك لا يلزم فى الاعتبار بالمنصوص عليه أن يكون ما لم ينص علية مثله من كل وجه، والله أعلم.
12- المسألة الثانية عشرة
أنه عليه السلام أخبر أنها كلها فى النار، وهذا وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة أو ذنبا عظيماً، إذ قد تقرر فى الأصول أن ما يتوعد الشرع عليه، فخصوصيته كبيرة، إذ لم يقل: (كلها فى النار)، إلا من جهة الوصف الذى افترقت بسببه عن السواد الأعظم وعن جماعته، وليس ذلك إلا للبدعة المفرقة.
إلا أنه ينظر فى هذا الوعيد، هل هو أبدى أم لا؟ وإذا قلنا: إنه غير أبدى: هل هو نافذ أم فى المشيئة.
أما المطلب الأول، فينبنى على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام أو ليست مخرجة، والخلاف فى الخوارج وغيرهم من المخالفين فى العقائد موجود، وقد تقدم ذكره قبل هذه.
فحيث نقول: بالتكفير، لزم منه تأبيد التحريم على القاعدة: "إن الكفر والشرك لا يغفره الله سبحانه".
وإذا قلنا بعدم التكفير، فيحتمل –على مذهب أهل السنة- أمرين:
أحدهما: نفوذ الوعيد من غير غفران، ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث وقوله هنا: (كلها فى النار)، أى: مستقرة ثابتة فيها.
فإن قيل: ليس إنفاذ الوعيد بمذهب أهل السنة.(1/19)
قيل: بلى، قد قال به طائفة منهم فى بعض الكبائر فى مشية الله تعالى، لكن دلهم الدليل فى خصوص كبائر على أنها خارجة عن ذلك الحكم، ولابد من ذلك، فإن المتبع هو الدليل، فكما دلهم على أن أهل الكبائر على الجملة فى المشيئة، كذلك دلهم على تخصيص ذلك العموم الذى فى قوله تعالى: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (1)، فإن الله تعالى قال: { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم ... } (2).
قال ابن رشد: ومن شروط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التبعات إليهم.
وهذا مما لا سبيل إلى القاتل إليه، إلا بأن يدرك المقتول حياً، فيعفو عنه بطيب نفسه.
وأولى من هذه العبارة أن نقول: ومن شرط خروجه من تباعة القتل مع التوبة استدراك ما فات على المجنى عليه: إما بالتحلل منه، وإما ببذل القيمة له، وهو أمر لا يمكن بعد موت المقتول، فكذلك لا يمكن فى صاحب البدعة من جهة الأدلة، فراجع ما تقدم فى الباب الثانى، تجد فيه كثيراً من التهديد والوعيد المخوف جداً.
قال مالك رحمه الله عليه: إن العبد لو ارتكب جميع الكبائر بعد أن لا يشرك بالله شيئاً، وجبت له أرفع المنازل، لأن كل ذنب بين العبد وربه هو منه على رجاء، وصاحب البدعة ليس هو منها على رجاء، إنما يهوى به فى نار جهنم. فهذا منه نص فى إنفاذ الوعيد.
والثانى: أن يكون مقيداً بأن يشاء الله تعالى إصلائهم فى النار، وإنما حمل قوله: (كلها فى النار)، أى: هى ممن يستحق النار، كما قالت الطائفة الأخرى فى قوله: (فجزاؤه جهنم خالداً فيها } (3)، أى: ذلك جزاؤه إن جازاه، فإن عفا عنه، فله العفو إن شاء الله، لقوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (4)، فكما ذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل فى المشيئة –وإن لم يكن الاستدراك كذلك-، يصح أن يُقال هنا بمثله.
13- المسألة الثالثة عشرة
__________
(1) ... النساء: 48.
(2) ... النساء: 93.
(3) ... النساء: 93.
(4) ... النساء: 48.(1/20)
أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : (إلا واحدة)، قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف، إذ لو كان للحق فِرَق أيضاً، لم يقل: (إلا واحدة)، ولأن الاختلاف منفى عن الشريعة بإطلاق، لأنها الحاكمة بين المختلفين، لقوله تعالى: { فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول } (1)، إذ رد التنازع إلى الشريعة، فلو كانت الشريعة تقتضى الخلاف لم يكن فى الرد إليها فائدة.
وقوله: (فى شىء) نكرة فى سياق الشرط، فهى صيغة من صيغ العموم، فتنتظم كل تنازع على العموم، فالرد فيها لا يكون إلا أمر واحد، فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقاً.
وقال تعالى: { وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } (2)، وهو نص فيما نحن فيه، فإن السبيل الوحيد لا يقتضى الافتراق (الواحد)، بخلاف السبل المختلفة.
14- المسألة الرابعة عشرة
أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يعيِّن من الفرق إلا فرقة واحدة، وإنما تعرض لعدها خاصة، وأشار إلى الفرقة الناجية حين سئل عنها، وإنما وقع ذلك كذلك، ولم يكن الأمر بالعكس، لأمور:
أحدها: أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد فى البيان بالنسبة إلى تعبُّد المكلف والأحق بالذِكر، إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذا عينت الواحدة.
وأيضاً، فلو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة، لم يكن بد من بيانها.
والثانى: أن ذلك أوجز، لأنه إذا ذكرت نحلة الفرقة الناجية، علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناج، وحصل التعيين بالاجتهاد.
والثالث: أن ذلك أحرى بالستر، كما تقدم بيانه فى مسألة الفرق، ولو فسرت، لناقض ذلك قصد الستر، ففسر ما يحتاج إليه، وترك ما لا يحتاج إليه، إلا من جهة المخالفة، فالعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال الستر، والحمد لله.
__________
(1) ... النساء: 59.
(2) ... الأنعام: 153.(1/21)
فبين النبى - صلى الله عليه وسلم - (ما أنا عليه وأصحابى)، ووقع ذلك جواباً للسؤال الذى سألوه، فإذ قالوا: من هى يا رسول الله؟ فأجاب بأن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه - صلى الله عليه وسلم - وأوصاف اصحابه، وكان ذلك معلوماً عندهم، غير خفى، فاكتفوا به، وربما يحتاج إلى تفسيره بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان.
هذا هو الوصف الذى كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهو معنى ما جاء فى الرواية الأخرى من قوله: (وهى الجماعة)(1).
إلا أن فى لفظ الجماعة معنى تراه بعدُ إن شاء الله.
ثم إن فى هذا التعريف نظراً لابد من الكلام عليه فيه، وذلك أن كل داخل تحت ترجمة الإسلام، من سنى أو مبتدع مدع أنه هو الذى نال رتبة النجاة ودخل فى غمار تلك الفرقة، إذ لايدعى خلاف ذلك إلا من خلف ربقة الإسلام، وانحاز إلى فئة الكفر، كاليهود والنصارى، وفى معناهم من دخل بظاهره فى الإسلام وهو معتقد غيره كالمنافقين، وأما من لم يرض لنفسه إلا بوصف الإسلام، وقاتل سائر الملل على هذه الملة، فلا يمكن أن يرضى لنفسه بأخس مراتبها –وهو مدع أحسنها- وهو المعلم، فلو علم المبتدع أنه مبتدع، لم يبق على تلك الحالة، ولم يصاحب أهلها، فضلاً عن أن يتخذها ديناً يدين به الله، وهو أمر مركوز فى الفطرة، لا يخالف فيه عاقل.
__________
(1) ... أما رواية (ما أنا عليه وأصحابي): فرواها من حديث عبد الله بن عمرو: الترمذي (2641) والحاكم (1/219) وضعفها، والطبراني في الصغير: انظر مجمع الزوائد (1/189)، وانظر ما تقدم من تخريجه في المسألة الثانية.
وأما رواية (وهي الجماعة) فرواها ابن ماجة (3992): صحيح، من حديث عوف بن مالك، والطبراني في الكبير (18/70 - 129) والسنة لابن أبي عاصم (63)، وعبد الرزاق (10/156) ، وأبو يعلى كما في مجمع الزوائد (6/226)، وانظر الصحيحة (204، 1492).(1/22)
فإذا كان كذلك، فكل فرقة تنازع صاحبتها فى فرقة النجاة، ألا ترى أن المبتدع آخذ أبداً فى تحسين حالته شرعاً وتقبيح حالة غيره؟ فالظاهرى يدعى أنه هو المتبع للسنة، والغاش يدعى أنه الذى فهم الشريعة، وصاحب نفى الصفات يدعى أنه الموحد، والقائل باستقلال العبد يدعى أنه صاحب العدل، وكذلك سمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد، والمشبه يدعى أنه المثبت لذات البارى وصفاته، لأن نفى التشبيه عنده نفى محض، وهو العدم ... وكذلك كل طائفة من الطوائف التى ثبت لها اتباع الشريعة أو لم يثبت لها.
وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو السنية على الخصوص، فكل طائفة تتعلق بذلك أيضاً.(1/23)
فالخوارج تحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر الله)، وفى رواية: (لا يضرهم خلاف من خالفهم)(1)،
__________
(1) ... الحديث له روايات كثيرة عن جمع من الصحابة، ولولا الإطالة لذكرت متونها، فرواه من حديث ثوبان: مسلم (1920) والترمذي (2229) وابن ماجة (10) والحاكم (4/449) والبيهقي (9/226)، ومن حديث المغيرة: البخاري (7311) ومسلم (1921)، ومن حديث سمرة: مسلم (1922)، ومن حديث جابر: مسلم (1923) وابن حبان (6819)، ومن حديث معاوية: البخاري (7312) ومسلم (1037) وابن ماجة (9)، ومن حديث عقبة بن عامر: مسلم (1924) وابن حبان (6836)، ومن حديث سعد بن أبي وقاص: مسلم (1925)، ومن حديث عمران بن حصين: أبو داود (2484) والحاكم (4/450)، ومن حديث معاوية بن قرة عن أبيه: الترمذي (2192) وابن ماجة (6) وابن حبان (61)، ومن حديث أبي هريرة: ابن ماجة (7) والبزار (كما في مجمع الزوائد 7/288)، ومن حديث أبي أمامة: عبد الله بن الإمام أحمد والطبراني (كما في مجمع الزوائد)، ومن حديث عمر: الحاكم (4/449) والطبراني في الكبير والصغير (كما في المجمع)، ومن حديث مرة البهزي (كما في المجمع)..(1/24)
و(من قتل منهم دون ماله فهو شهيد)(1).
__________
(1) ... رواه من حديث عبد الله بن عمرو: البخاري (2480) ومسلم (141) وأبو داود (4771) والنسائي (7/114) والترمذي (1419) وابن أبي شيبة (5/468) والبيهقي (3/265) وعبد الرزاق (10/113)، ومن حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل (أحد العشرة المبشرين بالجنة): الترمذي (1418، 1421) وأبو داود (4772) والنسائي (7/115) وابن ماجة (2580) وابن أبي شيبة (5/468) والبيهقي (3/265) وابن حبان (3194)، ومن حديث أبي هريرة: مسلم (140) والنسائي (7/114)، ومن حديث ابن عمر: ابن ماجة (2581) وابن أبي شيبة (5/469)، ومن حديث قابوس بن مخارق عن أبيه: ابن أبي شيبة (5/469) وعبد الرزاق (10/116)، ومن حديث بريدة: النسائي (7/116)، ومن حديث عبد الله بن الزبير: الحاكم (3/639)، وانظر في الباب عند الهيثمي في المجمع (6/244) من حديث سعد وجابر وابن مسعود وأنس.(1/25)
والقاعد يحتج بقوله: (عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة)(1)، و(من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)(2)، وقوله: (كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل)(3).
__________
(1) ... رواه من حديث ابن عباس: الترمذي (2166)، ومن حديث عرفجة ابن حبان (4577)، ومن حديث ابن عمر: الترمذي (2167) وقد تقدم تخريجه ص160 ضمن حديث "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة".
(2) ... صحيح: رواه الترمذي (2863) وابن خزيمة (1895) والحاكم (1/117) والبيهقي (8/157) من حديث الحارث الأشعري، وأبو داود (4758) والحاكم (1/117) من حديث أبي ذر، والحاكم (1/77) من حديث ابن عمر، وابن أبي شيبة (6/170) من قول عليّ موقوفاً.
(3) ... رواه من حديث خباب: أحمد (5/110) والطبراني في الكبير(3630، 3631)، وفيه رجل لم يسم ولكن يشهد له حديث جندب بن سفيان عند الطبراني في الكبير وإسناده جيد كما قال الألباني في الإرواء، ورواه ابن أبي شيبة (7/485) من حديث ابن مسعود، ومن حديث خباب (7/555)، وانظر: مجمع الزوائد (7/294، 302، 303)، وفي الباب عند مسلم (2887) والحاكم من حديث أبي بكرة، وعند أبي داود (4261) وابن ماجة (3958) والحاكم (2/157) من حديث أبي ذر: صحيح: الإرواء (2451)، ومن حديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد (1/185) وأبو داود (4257): صحيح، ومن حديث خالد بن عرفطه عنده (5/292) والحاكم (3/281) والطبراني في الكبير (4096) وفيه علي بن زيد بن جدعان سيء الحفظ.
(
فائدة): جاء في فتح الباري (13/34) في الفتن، في شرح حديث أبي هريرة: ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم.. : وفيه التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وان شرها يكون بحسب التعلق بها، والمراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يعلم المحق من المبطل. قال الطبري: اختلف السلف فحمل ذلك بعضهم على العموم، وهم من قعد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقاً كسعد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأبي بكرة في آخرين، وتمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها، ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة: بلزوم البيوت، وقالت طائفة: بل بالتحول عن بلد الفتن أصلاً، ثم اختلفوا فمنهم من قال: إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قتل، ومنهم من قال: بل يدافع عن نفسه وعن ماله وعن أهله، وهو معذور إن قتل أو قتل، وقال آخرون: إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها، ونصبت الحرب وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطىء ونصر المصيب، وهذا قول الجمهور، وفصَّل آخرون فقالوا: كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة، فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب وغيرها على ذلك، وهو قول الأوزاعي، قال الطبري: والصواب: أن يقال إن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المخطىء أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها، وذهب آخرون: إلى أن الأحاديث وردت في حق ناس مخصوصين وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك، وقيل إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان حيث يحصل التحقق أن المقاتلة إنما هي في طلب الملك، وقد وقع في حديث بن مسعود الذي أشرت اليه قلت يا رسول الله ومتى ذلك قال أيام الهرج قلت ومتى قال حين لا يأمن الرجل جليسه[رواه أبو داود 4258 وأحمد].(1/26)
والمرجئى يحتج بقوله: (من قال لا إله إلا الله مخلصاً، فهوى فى الجنة وإن زنى وإن سرق)(1).
والمخالف له محتج بقوله: (لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن)(2).
والقدرى يحتج بقوله تعالى: { فطرت الله التى فطر الناس عليها } (3)، وبحديث: (كل مولود يولد على الفطرة ... )(4).
__________
(1) ... رواه من حديث أبي ذر: البخاري (1237) ومسلم (94) والترمذي (2644) وابن حبان (169) والنسائي في الكبرى (6/276)، ورواه أحمد والطبراني والبزار من حديث أبي الدرداء، ورواه أحمد والطبراني من حديث سلمة بن نعيم الأشجعي، كما في مجمع الزوائد (1/16، 17 – 7/118).
(2) ... رواه من حديث أبي هريرة: البخاري (2475) ومسلم (57) والترمذي (2625) والدارمي (2/115) وأبو داود (4689) والنسائي (8/64) وابن ماجة (3936) وابن حبان (186)، ورواه النسائي (8/63) من حديث ابن عباس، ورواه أحمد والطبراني من حديث ابن أبي أوفي، وروياه من حديث ابن عمر، ورواه أحمد والبزار من حديث عائشة، والطبراني من حديث عبد الله بن مغفل، ورواه في الأوسط والبزار من حديث أبي سعيد، ورواه في الأوسط من حديث علي كما في مجمع الزوائد (1/100).
(3) ... الروم: 30.
(4) ... رواه من حديث أبي هريرة: مسلم (57) والبخاري (1385) والترمذي (2138) وأبو داود (4714) وابن حبان (128)، ومن حديث جابر عند أحمد (3/353) وإسناد أحمد ضعيف، وانظر مجمع الزوائد (7/218).
ثم روى أبو داود (4715) عقب هذا الحديث بسنده: ... أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت مالكاً قيل له: إن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث! قال مالك: احتج عليهم بآخره، قالوا: أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين.
قال ابن القيم: سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله، بل مما ابتدأ الناس إحداثه، فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام، ولا حاجة لذلك لأن الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإسلام، ولا يلزم من حملها على ذلك موافقة مذهب القدرية، لأن قوله: فأبواه يهودانه الخ محمول على أن ذلك يقع بتقدير الله تعالى، ومن ثم احتج عليهم مالك بقوله في آخر الحديث: الله أعلم بما كانوا عاملين.
وقال ابن القيم: ليس المراد بقوله: يولد على الفطرة، أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين، لأن الله يقول { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك، لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلاً بحيث يخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما انه يولد على محبة ما يلائم بدنه من إرتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثم شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في تأويل الرؤيا والله أعلم. (عن فتح الباري 3/293، 294 وعون العبود 12/321).(1/27)
والمفوض يحتج بقوله تعالى: { ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها } (1)، وفى الحديث: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له)(2).
والرافضة تحتج بقوله عليه السلام: (ليردن الحوض أقوم ثم لتخلفن دونى، فأقول: يا رب! أصحابى! فيقال: إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)(3).
__________
(1) ... الشمس: 7، 8.
(2) ... رواه من حديث علي: البخاري (4949) ومسلم (2647) والترمذي (2136) وأبو داود (4709) وابن ماجة (78)، ورواه مسلم من حديث جابر (2648) ومن حديث عمران بن الحصين (2649) والبخاري (7551)، ورواه الترمذي (2135، 3111) من حديث ابن عمر، وابن ماجة من حديث سراقة (91) ومن حديث أبي حميد الساعدي (4142)، وذكر في مجمع الزوائد (7/187، 188، 189) أنه رواه الطبراني من حديث عبد الله بن بسر، وفي الأوسط من حديث أبي هريرة، وفيهما من حديث أبي أمامة، وعقد في المجمع للحديث باباً: كل ميسَّر لما خلق له (7/194).
(3) ... رواه بلفظ المصنف: البخاري (3349) والنسائي (4/117) والترمذي (2423) من حديث ابن عباس، ورواه بلفظ: (لا تدري ما أحدثوا بعدك) من حديث ابن عباس: البخاري (4625) مسلم (2860) وابن حبان (7347)، ومن حديث أنس: مسلم (2304)، ومن حديث أبي هريرة: مسلم (247) وابن خزيمة (6)، ومن حديث ابن مسعود: مسلم (2297) وابن ماجة (3057)، ومن حديث أم سلمة: مسلم (2295). وانظر ما تقدم ص120.(1/28)
ويحتجون فى تقديم علىّ (بـ): (أنت منى بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبى بعدى)(1)، و(من كنت مولاه، فعلى مولاه)(2).
ومخالفوهم يحتجون فى تقديم أبى بكر وعمر بقوله: (اقتدوا باللذين من بعدى: أبى بكر وعمر)(3)، و(يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)(4).
إلى أشباه ذلك، مما يرجع إلى معناه.
والجميع محومون فى زعمهم على الانتظام فى سلك الفرقة الناجية، وإذا كان كذلك، أشكل على المبتدع فى النظر ما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا يمكن أن يكون مذهبهم مقتضى هذه الظواهر، فإنها متدافعة متناقضة، وإنما يمكن الجميع فيها إذا جُعل بعضها أصلاً، فيرد البعض الآخر إلى ذلك الأصل بالتأويل.
__________
(1) ... رواه من حديث سعد بن أبي وقاص: البخاري (4416) ومسلم (2404) والترمذي (3724) (3730) وابن حبان (6643) والنسائي في الكبرى (5/124) وابن ماجة (115، 121) والحاكم (3/108)، ومن حديث جابر رواه الترمذي (3730)، ومن حديث علي رواه الحاكم (2/337).
(2) ... صحيح: رواه من حديث زيد بن أرقم: الترمذي (3713) وابن حبان (6931) والنسائي في الكبرى (5/45) والحاكم (3/109)، ومن حديث بريدة: والنسائي في الكبرى (5/45) والحاكم (3/110)، ومن حديث سعد بن أبي وقاص: والنسائي في الكبرى (5/108) وابن ماجة (121)، وقد عقد لهذا المتن باباً في مجمع الزوائد (9/103: 108).
(3) ... صحيح: رواه من حديث حذيفة: الترمذي (3662) والحاكم (3/75) والطبراني كما في المجمع (9/53)، ورواه من حديث ابن مسعود: الترمذي (3805: صحيح) والحاكم (3/76).
(4) ... رواه البخاري من حديث عائشة (5666)، وأبو داود (4660) والحاكم (3/641) من حديث عبد الله بن زمعة، ورواه من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر: الحاكم (3/474) والطبراني كما في مجمع الزوائد (5/181).(1/29)
وكذلك فعل كل واحدة من تلك الفرق، تستمسك ببعض تلك الأدلة، وترد ما سواها إليها، أو تهمل اعتبارها بالترجيح، إن كان الموضع من الظنيات التى يسوغ فيها الترجيح، أو تدعى أن أصلها الذى ترجع إليه قطعى، والمعارض له ظنى، فلا يتعارضان.
وإنما كانت طريقة الصحابة ظاهرة فى الأزمنة المتقدمة، أما وقد استقرت مآخذ الخلاف، فمحال.
وهذا الموضع مما يتضمنه قول الله تعالى: { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } (1).
فتأملوا –رحمكم الله- كيف صار الاتفاق محالاً فى العادة، ليصدق العقل بصحة ما أخبر الله به.
والحاصل أن تعيين هذه الفرقة الناجية فى مثل زماننا صعب، ومع ذلك، فلابد من النظر فيه، وهو نكتة هذا الكتاب، فليقع به فضل اعتناء بحسب ما هيأه الله، وبالله التوفيق.
ولما كان ذلك يقتضى كلاماً كثيراً، أرجأنا القول فيه إلى باب آخر، وذكره فيه على حدته، إذ ليس هذا موضع ذكره، والله المستعان.
15- المسألة الخامسة عشرة
أنه قال عليه السلام: (كلُّها فى النار إلا واحدة)، وحتم ذلك، وقد تقدم أنه لا يعد من الفرق إلا المخالف فى أمر كلى وقاعدة عامة، ولم ينتظم الحديث –على الخصوص- إلا أهل البدع المخالفين للقواعد، وأما من ابتدع فى الدين، لكنه لم يبتدع ما يقتضى أمراً كلياً، أو يخرم أصلاً من الشرع عاماً، فلا دخول له فى النص المذكور، فينظر فى حكمه: هل يلحق بمن ذكر أم لا؟
والذى يظهر فى المسألة أحد أمرين:
إما أن نقول: إن الحديث لم يتعرض لتلك الواسطة بلفظ ولا معنى، إلا أن ذلك يؤخذ من عموم الأدلة المتقدمة، كقوله: (كل بدعة ضلالة)(2) ... وما أشبه ذلك.
وإما أن نقول: إن الحديث، وإن لم يكن فى لفظه دلالة، ففى معناه ما يدل على قصده فى الجملة، وبيان أنه تعرض لذكر الطرفين الواضحين.
__________
(1) ... هود: 118.
(2) ... تقدم تخريجه: ص42.(1/30)
أحدهما: طرف السلامة والنجاة من غير داخلة شبهة ولا إلمام بدعة، وهو قوله: (ما أنا عليه وأصحابى)(1).
والثانى: طرف الإغراق فى البدعة، وهو الذى تكون فيه البدعة كلية، أو تخدم أصلاً كلياً، جرياً على عادة الله فى كتابه العزيز، لأنه تعالى لما ذكر أهل الخير وأهل الشر، ذكر كل فريق منهم بأعلى ما يحمل من خير أو شر، ليبقى المؤمن فيها بين الطرفين خائفاً راجياً، إذ جُعل التنبيه بالطرفين الواضحين، فإن الخير على مراتب بعضها أعلى من بعض، والشر على مراتب بعضها أشد من بعض، فإذا ذكر أهل الخير الذين فى أعلى الدرجات، خاف أهل الخير الذين دونهم أن لا يلحقوا بهم، أو رجوا أن يلحقوا بهم، وإذا ذكر أهل الشر فى أشد المراتب، خاف أهل الشر الذين دونهم أن يلحقوا بهم، أو رجوا أن لا يلحقوا بهم.
وهذا المعنى معلوم بالاستقراء، وذلك الاستقراء –إذا تم- يدل على قصد الشارع إلى ذلك المعنى.
ويشهد لما تقدم من أن هذا المعنى مقصود: استشهاد عمر بن الخطاب رضى الله عنه بمثله، إذ رأى بعض أصحابه وقد اشترى لحماً بدرهم: أين تذهب بكم هذه الآية: { أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } ؟!
والآية إنما نزلت فى الكفار، لقوله: { ويوم يُعرض الذين كفروا على النار أذهبتم } الآية إلى أن قال: { فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون فى الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } (2).
ولم يمنعه رضى الله عنه إنزالها فى الكفار من الاستشهاد بها فى مواضع، اعتباراً بما تقدم، وهو أصل شرعى تبين فى كتاب "الموافقات".
__________
(1) ... تقدم تخريجه: انظر المسألة الرابعة عشرة.
(2) ... الأحقاف: 20.(1/31)
فالحاصل أن من عدا الفرق من المبتدعة الابتداع الجزئى لا يبلغ مبلغ أهل البدع فى الكليات فى الذم والتصريح بالوعيد بالنار، ولكنهم اشتركوا فى المعنى المقتضى للذم والوعيد، كما اشترك فى اللفظ صاحب اللحم –حين تناول بعض الطيبات على وجه فيه كراهية ما فى اجتهاد عمر- مع من أذهب طيباته فى حياته الدنيا من الكفار، وإن كان بينهما ما بينهما من البون البعيد، والقرب والبعد من العارف المذموم بحسب ما يظهر من الأدلة للمجتهد، وقد تقدم بسط ذلك فى بابه، والحمد لله.
16- المسألة السادسة عشرة
أن رواية من روى فى تفسير الفرقة الناجية: "وهى الجماعة"(1)، محتاجة إلى التفسير، لأنه إن كان معناه بيناً من جهة تفسير الرواية الأخرى، وهى قوله: (ما أنا عليه وأصحابى)(2)، فمعنى لفظ "الجماعة، من حيث المراد به فى إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير.
فقد جاء فى أحاديث كثيرة، منها الحديث الذى نحن فى تفسيره، ومنها ما صح عن ابن عباس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ، قال (من رأى من أميره شيئاً يكرهه، فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شيئاً، فمات، مات ميتة جاهليه)(3).
وصح من حديث حذيفة: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)(4).
وفى الترمذى عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله لا يجمع أمتى على ضلالة، ويد الله مع الجماعة ومن شذَّ شذَّ إلى النار)(5).
__________
(1) ... تقدم تخريجه: انظر المسألة الرابعة عشرة.
(2) ... تقدم تخريجه: انظر المسألة الرابعة عشرة.
(3) ... رواه البخاري (7054) ومسلم (1849) والدارمي، وانظر أحاديث في الباب في مجمع الزوائد (5/218) وما بعدها. وانظر ما تقدم ص410.
(4) ... تقدم تخريجه: ص186.
(5) ... صحيح: رواه الترمذي (2167) من حديث ابن عمر، وروى قبله (2166) من حديث ابن عباس "يد الله مع الجماعة" فقط. وانظر ما تقدم ص160، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (ح 1390).(1/32)
وخرج أبو داود عن أبى ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)(1).
فاختلف الناس فى معنى الجماعة المرادة فى هذه الأحاديث على خمسة أقوال:
أحدها: أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصارى وابن مسعود. فروى أنه لما قتل عثمان، سئل أبو مسعود الأنصارى عن الفتنة، فقال: عليك بالجماعة، فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، واصبر حتى يستريح أو يستراح من فاجر. وقال: إياك والفرقة، فإن الفرقة هى الضلالة.
وقال ابن مسعود: عليكم بالسمع والطاعة، فإنها حبل الله الذى أمر به ثم قبض يده وقال: إن الذين تكرهون فى الجماعة خير من الذين تحبون فى الفرقة(2).
فعلى هذا القول يدخل فى الجماعة مجتهدوا الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون فى حكمهم، لأنهم تابعون لهم، ومقتدون بهم، فكل من خرج عن جماعتهم، فهم الذين شذوا، وهم نهبة الشيطان، ويدخل فى هؤلاء جميع أهل البدع، لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة، لم يدخلوا فى سوادهم بحال.
والثانى: أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين، فمن خرج مما عليه علماء الأمة، مات ميتة جاهلية، لأن جماعة الله العلماء، جعلهم حجة على العالمين، وهم المعنيون بقوله عليه السلام: (إن الله لن يجمع أمتى على ضلالة)، وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها، وإليها تفزع من النوازل، وهى تبع لها، فمعنى قوله: (لن تجتمع أمتى): لن يجتمع علماء أمتى على ضلالة.
__________
(1) ... صحيح: رواه أبو داود (4758) والحاكم (1/117) وأحمد، ورواه الحاكم (1/117) من حديث ابن عمر، وانظر ما تقدم في المسألة الرابعة عشرة و ص410.
(2) ... رواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/474 ط. الرشد) وابن عبد البر في التمهيد (21/273)، وعزاه الهيثمي في المجمع للطبراني (7/328).(1/33)
وممن قال بهذا عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهوية وجماعة من السلف، وهو رأى الأصوليين.
قيل لعبد الله بن المبارك: من الجماعة الذين ينبغى أن يُقتدى بهم؟ قال: أبو بكر وعمر ... فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين ابن واقد. فقيل: هؤلاء ماتوا، فمن الأحياء؟ قال: أبو حمزة السكرى(1).
فعلى هذا القول، لا مدخل فى هذا السؤال لمن ليس بعالم مجتهد، لأنه داخل فى أهل التقليد، فمن عمل منهم بما يخالفهم، فهو صاحب الميتة الجاهلية.
ولا يدخل فيها أيضاً أحد من المبتدعين، لأن العالم أولاً لا يبتدع، وإنما يبدع من ادعى لنفسه العلم وليس كذلك، ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله، وهذا بناء على القول بأن المبتدع لا يُقتدى به فى الإجماع، وإن قيل بالاعتداد بهم فيه، ففى غير المسألة التى ابتدع فيها، لأنهم فى نفس البدعة مخالفون للإجماع، فعلى كل تقدير لا يدخلون فى السواد الأعظم رأساً.
والثالث: أن الجماعة هى الصحابة على الخصوص، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين، وأرسلوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك.
__________
(1) ... ذكر ذلك عنه الترمذى فى السنن (4/466).(1/34)
قالوا: وممن قالوا بهذا القول عمر بن عبد العزيز، فروى ابن وهب عن مالك، قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها، من اهتدى بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. فقال مالك: فأعجبنى عزم عمر على ذلك(1).
فأهل البدع إذاً غير داخلين فى الجماعة، قطعاً على هذا القول.
والرابع: أن الجماعة هى جماعة أهل الإسلام، إذا أجمعوا على أمر، فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم، وهم الذين ضمن الله لنبيه عليه السلام ألا يجمعهم على ضلالة، فإن وقع بينهم اختلاف، فواجب تعرف الصواب فيما اختلفوا فيه.
وكأن هذا القول يرجع إلى الثانى، وهو يقتضى أيضاً ما يقتضيه، أو يرجع إلى القول الأول، وهو الأظهر، وفيه من المعنى ما فى الأول من أنه لابد من كون المجتهدين فيهم، وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلاً، فهم –إذاً- الفرقة الناجية.
والخامس: ما اختاره الطبرى الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، فأمر عليه السلام بلزومه، ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم.
__________
(1) ... أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (ح 2326)، وقال محققه الشيخ الزهيري: رجاله ثقات غير أنه منقطع بين مالك وعمر، ورواه الآجري في الشريعة (48، 65، 306)، ثم ذكر له شاهداً موصولاً وإن كان فيه ضعيف. وذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/651) وابن القيم في حاشية سنن أبي داود (13/45).(1/35)
وحاصله أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة، وذلك ظاهر فى أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكورة فى الأحاديث المذكورة، كالخوارج ومن جرى مجراهم.
فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع، وأنهم المرادون بالأحاديث، فلنأخذ ذلك أصلاً، ويبنى عليه معنى آخر، وهى:
17- المسألة السابعة عشرة
وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد، سواء ضموا إليهم العوام أم لا، فإن لم يضموا إليهم، فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم، فمن شذ عنهم فمات، فميتته جاهلية، وإن ضموا إليهم العوام، فبحكم التبع، لأنهم غير عارفين بالشريعة، فلابد من رجوعهم فى دينهم إلى العلماء، فإنهم لو تمالؤوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم، لكانوا هم الغالب والسواد الأعظم فى ظاهر الأمة، لقلة العلماء وكثرة الجهال، فلا يقول أحد: إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب، وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون فى الحديث، بل الأمر بالعكس، وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا، والعوام هم المفارقون للجماعة إن خالفوا، فإن وافقوا، فهو الواجب عليهم.
وعلى هذا، لو فرضنا خُلُو الزمان عن مجتهد، لم يكن اتباع العوام لأمثالهم، ولا عد سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه فى الحديث الذى من خالفه فميتته جاهلية، بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين، فالذى يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذى يلزم أهل الزمان المفروض الخالى عن المجتهدين.
وأيضاً، فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له: محض ضلالة، ورمى فى عماية، وهو مقتضى الحديث الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ... )(1).
__________
(1) ... تقدم تخريجه: ص108، 146، 399.(1/36)
وروى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسى، قال: سمعت إسحاق بن راهوية –وذكر فى الحديث رفعه إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ، قال: (إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة، فإذا رأيتهم الاختلاف، فعليكم بالسواد الأعظم)(1). فقال رجل: يا أبا يعقوب! من السواد الأعظم؟ – فقال: محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعه.
ثم قال: سأل رجل ابن المبارك: من السواد الأعظم؟ قال: أبو حمزة السكرى. ثم قال إسحاق: فى ذلك الزمان يعنى: أبا حمزة، وفى زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه.
ثم قال إسحاق: لو سألت الجهال عن السواد الأعظم؟ قالوا: جماعة الناس! ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبى - صلى الله عليه وسلم - وطريقه، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة.
ثم قال إسحاق: لم أسمع عالماً منذ خمسين سنة كان أشد تمسكاً بأثر النبى - صلى الله عليه وسلم - من محمد بن أسلم.
فانظر فى حكايته، تتبين غلط من ظن أن الجماعة هى جماعة الناس، وإن لم يكن فيهم عالم، وهو وهم العوام، لا فهم العلماء، فليثبت الموفق فى هذه المزلة قدمه، لئلا يضل عن سواء السبيل، ولا توفيق إلا بالله [15].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[15] ... جاء فى كتاب: دراسات حول الجماعة والجماعات، تأليف د. عبد الحميد هنداوى، الطبعة الأولى:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (20/164) الفتاوى:
"ليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعوا إلى طريقته، ويوالى ويعادى عليها غير النبى - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ينصب لهم كلاماً يوالى عليه ويعادى غير كلام الله ورسوله، وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع ...".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) ... رواه ابن ماجة (3950) من حديث أنس وضعفه البوصيري والألباني في السنن دون الجملة الأولى منه فهي صحيحة –كما تقدم ص160 والمسألة الخامسة عشرة- وانظر الضعيفة (2896) والجامع (1848).(1/37)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدُّ الجماعة(1)
"1. الأقوال الواردة عن السلف فى معنى الجماعة، ترجع عند التحقيق إلى قولين اثنين:
القول الأول: أن الجماعة هم الذين فى طاعة من اجتمعوا على تأميره، وهو الإمام الموافق للكتاب والسنة وهذا هو المعنى الحسى للجماعة.
القول الثانى: أن الجماعة هم من كان على ما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، سواء وجد الإمام أم لم يوجد، وهذا هو المعنى العلمى أو الروحى للجماعة.
2. الإمامة، هى: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعى فى مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها ... فهى فى الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع فى حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
ومن خلال هذا التعريف نتبين أن الإمام الذى تجب طاعته على عموم المسلمين هو القادر على حمل الكافة على اتباعه على مقتضى النظر الشرعى، وهذا لا يكون إلا باجتماع أهل الحل والعقد على بيعة إمام معين، أو استخلاف إمام سابق له، أو تَغَلّب إمام على الخلافة وحمل الكافة على طاعته على مقتضى الشرع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3. من خلال النظر فى واقع المسلمين اليوم ليس لهم جماعة بالمعنى الحسى للجماعة، وذلك لعدم اجتماعهم على إمام موافق للشرع قد اجتمعت عليه بيعة أهل الحل والعقد، ولا يوجد كذلك إمام مستخلف، ولا متغلب على الخلافة يحمل الكافة على مقتضى الشرع.
ومن ثم فليس للمسلمين اليوم جماعة ولا إمام بالمعنى الحسى للجماعة.
4. الجماعات الإسلامية المعاصرة –باستثناء الجماعات الشاذة المخالفة لأصول أهل السنة والجماعة كالتكفير مثلاً– يتحقق فيها وصف ملازمة جماعة المسلمين بالمعنى العلمى، وذلك لملازمتهم فى الجملة أصول أهل السنة والجماعة فى العقيدة والمنهج كذلك.
__________
(1) ... ص51 من كتاب د. هنداوى.(1/38)
وبهذا لا يمكن وصف هذه الجماعات بالفِرق بالمعنى الاصطلاحى لهذه الكلمة، فهم ليسوا من فرق الضلالة لأن فرق الضلالة قد خالفت أصول أهل السنة والجماعة، أما الجماعات المعاصرة فهى ملازمة لها متمسكة بها.
5. الجماعات الإسلامية المعاصرة رغم تحقيقها لمعنى الجماعة بالمعنى العلمى إلا أنها قد فشلت فى تحقيق الجماعة بالمعنى الحسى، لعدم اجتماعهم على متبوع مطاع يحمل الكافة على مقتضى النظر الشرعى.
6. الجماعات الإسلامية المعاصرة وإن لم يكونوا فِرقاً بالمعنى الاصطلاحى للفرق إلا أنهم قد صاروا فرقاً من الناحية العلمية والسياسية، فهم كما قال
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشاطبى "جماعات بعضهم قد فارق البعض، ليسوا على تآلف ولا تعاضد ولا تناصر، بل على ضد ذلك).
7. لزوم الجماعة بالمعنى العلمى فى واقعنا المعاصر لا يشترط له الدخول فى جماعة من الجماعات الحالية، وإنما يتحقق ذلك بلزوم ما أجمع عليه أهل العلم، ولزوم ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فى العقيدة والمنهج، ويكون ذلك بمتابعة علماء أهل السنة والجماعة بغير تحيّز ولا تعصّب لجماعة بعينها.
8. لزوم الجماعة بالمعنى الحسى فى واقعنا المعاصر يكون بلزوم ما أجمع عليه أهل الحل والعقد فى الأمة، أو لزوم ما اتفق عليه جمهورهم وسوادهم الأعظم دون تحزيب فريق من الأمة على رأى أو خطة أو اجتهاد يفارقون بها السواد الأعظم من جماعة المسلمين.
9. من الأصول المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة أن الاختلاف فى الرأى ينبغى ألا يؤدى إلى تنازع فى العمل.(1/39)
وهذا يعنى أنه لا مانع من أن يكون لكل جماعة من هذه الجماعات رأيها الخاص بها فيما تراه لإصلاح الأمة وتغيرها، ولكن ينبغى من الناحية العملية أن يسود موقف عملى واحد فيما كان الاختلاف فيه من قبيل التضاد، أما ما كان من قبيل اختلاف التنوع فينبغى أن يقر كل فريق للآخر بما معه من الصواب، وأن يتم توزيع الأدوار على جميع الطوائف على سبيل التعاون والتعاضد والتآلف والتناسق والتناصر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
10. ليس معنى ذلك أن يتوقف العمل حتى يتم اجتماع الأمة، ولكن يمكن تنفيذ ذلك فى حدود المستطاع، وصورة ذلك إنما تتحقق بلزوم كل جماعة القدر المتفق عليه بين جمهور أهل الحل والعقد فى الأمة، ووقوفها عند هذا القدر المتفق عليه دون تجاوزه للأمور المختلف عليها بين أهل الحل والعقد فى الأمة، وإلا فلتحتفظ هذه الجماعة لنفسها برؤيتها الخاصة بها وتلازم من الناحية العملية ما عليه جمهور المسلمين وسوادهم الأعظم، وما اختلفوا فيه لا يجوز لأحد أن يحزب عليه الأمة ويجمعها على مفارقة السواد الأعظم برأى رآه أو اجتهاد رجحه.
وبالتالى يكون موقف المسلم من الجماعات الإسلامية المعاصرة هو:(1/40)
لزومهم جميعاً فيما اتفقوا عليه سواء من ناحية الاعتقاد والمنهج -أى ما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وهذا هو المعنى العلمى للجماعة- أو لزومهم من ناحية ما اجتمع عليه رأيهم من العمل والرأى وخطط المواجهة للجاهلية، فيلزمهم جميعاً فيما اتفقوا فيه، ويعتزلهم جميعاً فيما اختلفوا فيه، لأن لزوم بعضهم دون بعض فيما لم تتفق عليه كلمة الأمة –حتى لو كان الرأى الذى سيلزمه هو الصواب- إنما هو تفريق لكلمة الأمة وتكثير لسواد المفارق، وإنما الواجب هو لزوم ما اجتمع عليه رأى السواد الأعظم من أهل الحل والعقد فى الأمة، دون رأى فريق منها، حتى ولو كان ذلك صواباً، لأن قاعدة العمل الجماعى عند أهل السنة والجماعة تقول: "إن ما تكرهون فى الجماعة خير مما تحبون فى الفرقة".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبالتالى نستطيع أن نلخص موقف المسلم من الجماعات الإسلامية المعاصرة الملازمة لأصول أهل السنة والجماعة وهو:
1. موالاة الجميع ومحبتهم بقدر ما لديهم من أصول أهل السنة والجماعة.
2. لزوم الجميع فيما اتفقوا فيه من الأصول أو العمل.
3. النصح لهم بترك التعصب والتحزب على ما لم تجتمع عليه كلمة الأمة.
4. اعتزال الجميع فيما اختلفوا فيه من الرأى والعمل".
معنى الجماعة(1)
"ويقول ابن تيمية: (الجماعة هى الاجتماع) وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين(2).
والجماعة بالمعنى اللغوى تدل على نوعى الاجتماع:
1. الاجتماع الحسى: وهو اجتماع الأبدان كاجتماع الناس فى المسجد أو بعرفة أو بـ (جمع) وهى (مزدلفة) أثناء الحج، أو اجتماعهم فى المعركة على قائد واحد ولواء واحد.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) ... ص29 من كتاب د. هنداوى.
(2) ... مجموع الفتاوى (3/157).(1/41)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2. الاجتماع المعنوى: وهو اجتماع الأفكار والأفهام بحيث تتلاقى فلا تكون متضادة متعارضة، ومن ذلك قولهم أجمع أمره أى: جعله جميعاً بعد ما كان متفرقاً، وأجمع العلماء على كذا، إذا اتفقوا عليه واجتمع عليه رأيهم.
ثانياً: المعنى الشرعى للجماعة:
ورد فى تفسير كلمة الجماعة –بالمعنى الشرعى- عدة أقوال عن السلف الصالح، وقد حصرها الطبرى فى أربعة أقوال ذكرها عنه ابن حجر فى كتابه "فتح البارى"(1) عند شرحه لحديث حذيفة بن اليمان –رضى الله عنه- والذى فيه الأمر بلزوم الجماعة، وحاصلها:
قال قوم: الجماعة هى السواد الأعظم.
وقال قوم: المراد بالجماعة الصحابة دون من بعدهم.
وقال قوم: المراد بهم أهل العلم، لأن الله جعلهم حجة على الخلق، والناس تبع لهم فى أمر الدين.
قال الطبرى: "والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين فى طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث عن بيعته خرج عن الجماعة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما الشاطبى فذكر الأربعة التى ذكرها الطبرى وزاد عليها: أن الجماعة هى جماعة أهل الإسلام، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم).
وقد زاد البعض تعريفات أُخر للجماعة، هى:
السادس:
أن "الجماعة تعنى الفريق من الناس الذى يجتمع على شىء ما (غير الإمامة العظمى) كجماعة المصلين فى المسجد أو المجتمعين على طعام أو سفر أو طلب علم.
وهذا القول يرجع إلى المعنى اللغوى للجماعة كما سبق بيانه.
السابع:
الجماعة تعنى جماعة أهل الحل والعقد، وممن قال بهذا القول الإمام ابن بطال كما ذكر الحافظ فى الفتح (13/329).
الثامن:
__________
(1) ... الفتح (13/40، 41).(1/42)
الجماعة هم أهل المنعة والشوكة حيثما كانوا، وممن قال بهذا القول الإمام السرخسى فى شرح السير الكبير (1/393)، والإمام ابن تيمية فى منهاج السنة (1/141).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والحق أن هذه الأقوال الثمانية السابقة جميعاً ترجع عند التحقيق إلى قولين اثنين.
الأول: أن الجماعة كما قال الطبرى: "هم الذين فى طاعة من اجتمعوا على تأميره".
الثانى: أن الجماعة هم الملازمون لما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
أما القول الأول –أى قول الطبرى- فهو:
يوافق قول من قال إنهم هم أهل الحل والعقد، وقول من قال إنهم هم أهل المنعة والشوكة، وقول من قال إنهم هم السواد الأعظم فى وجه، وقول من قال إنهم أهل الإسلام إذا اجتمعوا على شىء فى وجه كذلك.
والنصوص الدالة على هذا القول –أى قول الطبرى- كثيرة وسوف ترد فى موضعها، ونذكر هنا منها:
1. عن ابن عباس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية)(1).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2. وعن عرفجة من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (من أتاكم وأَمْرَكم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)(2).
أما القول الثانى: وهو أن الجماعة:
__________
(1) ... تقدم تخريجه: ص 410، والمسألة السادسة عشرة.
(2) ... رواه مسلم (1852) وأحمد (4/261) وأبو داود (4762) والنسائي (7/93) وابن ماجة (4577).(1/43)
هم الملازمون لما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فهذا يوافق قول من قال: إن الجماعة هم الصحابة، ومن قال إنهم أهل العلم، ومن قال إنهم هم السواد الأعظم فى أحد الوجهين، ومن قال إنهم هم أهل الإسلام إذا اجتمعوا على شىء فى أحد الوجهين كذلك، وسيأتى بيانه.
والنصوص الدالة على وجوب لزوم الجماعة بهذا المعنى كثيرة جداً، منها:
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموُتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحب الله جميعاً ولا تفرقوا } (1).
وقوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . وأما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذين ابيضت وجوههم ففى رحمة الله هم فيها خالدون } (2).
وعن عبد الله بن مسعود –رضى الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزانى، والمارق من الدين التارك للجماعة)(3).
وثبت عن النبى - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة) قيل: من هى يا رسول الله؟ قال (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابى) ، وفى بعض الروايات: (هى الجماعة)(4).
__________
(1) ... آل عمران: 102.
(2) ... آل عمران: 105 – 107.
(3) ... رواه مسلم (1676) وأحمد (1/382) وأبو داود (4352) والنسائي (7/90) والترمذي (1402) وابن ماجة (2534) وابن حبان (4408).
(4) ... تقدم تخريجه في المسألة الرابعة عشرة.(1/44)
وقال أبو شامة: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف كثيراً، لأن الحق الذى كانت عليه الجماعة الأولى من النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضى الله عنهم، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم(1).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبهذا تنتهى هذه الأقوال كلها إلى قولين اثنين فى معنى الجماعة، وهذا هو ما يوافق التحقيق اللغوى لمعنى الجماعة كذلك".
"هذا(2)، وإذا كنت قد نقلت آنفاً كلام كل من الطبرى والشاطبى فى أن الجماعة الواجب لزومها هم أهل العلم، ولما كانت الطائفة الظاهرة هم خيرة الجماعة ولباب الفرقة الناجية، لذا فقد تواترت أقوال العلماء فى وصفهم بأنهم هم أهل العلم وحملة حديث النبى - صلى الله عليه وسلم - والمتبعون لهديه وسنته.
فقد بوب البخارى فى صحيحه: "باب قول النبى - صلى الله عليه وسلم - : (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق) وهم أهل العلم"(3).
كما بوب كذلك باباً آخر بيَّن فيه أن الجماعة هم أهل العلم فقال: "باب { وكذلك جعلناكم أُمة وسطاً } وما أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم"(4).
فظهر بذلك أن الجماعة لديه –أى البخارى- هم أهل العلم، وأن الطائفة المنصورة هم أولى الناس بهذا الوصف، ولذلك قال الإمام أحمد عن الطائفة: (إن لم يكونوا أهل الحديث، فلا أدرى من هم).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... الباعث لأبى شامة ص52.
(2) ... ص 67 من كتاب د. هنداوى.
(3) ... البخاري في الصحيح: باب (10) من كتاب الاعتصام، وتقدم تخريج الحديث في المسألة الرابعة عشرة.
(4) ... البخاري في الصحيح: باب (19) من كتاب الاعتصام.(1/45)
ومما يؤيد هذا كلام الإمام النووى(1) فى صفة هذه الطائفة إذ يقول: (يحتمل أن تكون هذه الطائفة جماعة من أنواع المؤمنين ممن يقيم أمر الله تعالى من مجاهد ومحدث وفقيه وزاهد وآمر بالمعروف وغير ذلك ولا يلزم اجتماعهم فى مكان واحد، بل يجوز أن يكونوا متفرقين، ثم قال: ويجوز اجتماعهم فى قطر واحد أو افتراقهم فى أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا فى البلد الواحد وأن يكونوا فى بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولاً فأول إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلدة واحدة، فإذا انقرضوا جاء أمر الله).
وبهذا يتضح لنا وجه تفسير الإمام أحمد وأئمة السلف للطائفة بأنهم هم أهل الحديث أو أهل العلم، وذلك لأن سائر طوائف الأمة من مجاهدين وعباد وزهاد ودعاة وغيرهم إن لم يكونوا متابعين لأهل العلم مؤتمرين بأمرهم، فهم خارجون عن الجماعة كما بين ذلك الإمام الشاطبى وغيره، وقد سبق نقل بعضه.
[مسألة]: هل هذه الجماعات الإسلامية الحالية فِرق؟ وما هو حد الفِرق؟
لابد من تحديد ذلك حتى يترتب عليه القول باعتزالها أو لزومها".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فقد(2) حده الشاطبى –رحمه الله- فى الاعتصام، بقوله:
(وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية فى معنى كلى فى الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا فى جزء من الجزئيات ...).
"وإذا(3) ما قررنا أن هذه الجماعات ملازمة لأصول أهل السنة والجماعة غير مخالفة لهم فى أصل من أصول الدين ولا قاعدة من قواعده الكلية كما ذكر الشاطبى فى حد الفرقة، أقول إذا ما قررنا ذلك بقى أن نسأل فنقول:
__________
(1) ... صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإمارة حديث (1920)، ونقله عنه الحافظ في الفتح (1/198).
(2) ... ص 162 من كتاب د. هنداوى.
(3) ... ص 169 من كتاب د. هنداوى.(1/46)
ولكن نجد أن كل جماعة من هذه الجماعات تنكر على أختها كثيراً من المخالفات الجزئية، فهل يدخلها ذلك فى حد الفرقة من جهة أخرى وهى إنشاء جزئيات كثيرة مخترعة فى الدين، كما ذكر الشاطبى ذلك أيضاً فى حد الفرقة؟"
"والحق(1) أن كل ما خالفت فيه أغلب هذه الفرق لا يرقى إلى درجة الكلى، ولا أظن أن بينها خلافاً فى الجزئيات يزيد على ما كان بين المذاهب الأربعة.
ولكن! قد حدثت الفُرقة رغم ذلك بين هذه الفِرق، ويصدق على أغلبها إن لم أقل جميعها معنى الفُرقة من الناحية العملية، وذلك لأمر واحد! ألا وهو فقدان آصرة التآلف والتآخى بين هذه الجماعات جميعاً، وإلا لو وجدت هذه الآصرة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لاجتمعت هذه الطوائف فى جماعة واحدة، ولتم النصر حينئذ للمسلمين.
فمن زعم أن فرقته لا تفرق بين المسلمين ولا تقطع آصرة التآلف والتآخى بينهم، فقل له أنت أعلم بذلك، ولن نكذبك فى ادعائك، ولكن الفصل فى ذلك هو السلوك العملى بين هذه الجماعات أو هذه الطوائف فلتدعِ كل فرقة ما تدعى، فالحق أن مسلكهم فى نهاية الأمر هو مسلك الفرق مع بعضها البعض، وهذا لا يرجع إلى شىء فى الحقيقة إلا لاشتراك هذه الجماعات جميعاً فى بدعة واحدة خالفوا بها جماعة أهل السنة ألا وهى بدعة التحزب على ما لم تجتمع عليه الكلمة أو يتفق عليه جمهور أهل الحل والعقد من المسلمين.
وإن كان هذا لا يجعلنا نحيف عليهم فنصفهم بوصف الفرق بمعناها الاصطلاحى، بمعنى أن نجعلهم من الثلاث وسبعين فرقة التى أخبر النبى - صلى الله عليه وسلم - عنها أنها فى النار".
__________
(1) ... ص 180 من كتاب د. هنداوى.(1/47)
"والحقيقة(1) أن ملاك الأمر فى هذا الباب، وهو العمدة فى التفريق بين البدعة والاجتهاد الخطأ، هو أن ينظر إلى منهج الاستدلال والنظر الذى يسلكه القائل بهذه البدعة أو المتلبس بها، فإن كان منهجه هو منهج أهل السنة والجماعة، خاصة وإن كان موافقاً لهم فى الغالب ملازماً لجماعتهم مثنياً على طريقتهم، فليعلم أنه ما قصد إلى البدعة قصداً، بل إنما وقع فيها خطأ، فمثل هذا حقه العفو، إذ إن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العصمة منتفية عن العباد إلا من عصمَ اللهُ من أنبيائه ورسله".
"وإن(2) كنا لا نخالف ابتداء فى أن ما آل إليه حال هذه الجماعات من الفرقة والتعصب والولاء والبراء على الحزب والجماعة قد بلغ حداً خطيراً يلحقهم به قدر كبير من الذم، ويجعل لهم نصيباً من الوعيد الذى توعد الله به المفترقين فى دينهم أحزاباً وشيعاً".
ثم قال د. عبد الحميد هنداوى(3):
"قد عرضت حديث حذيفة بن اليمان بأغلب رواياته وقد رجعت فيه إلى شروح العلماء لهذا الحديث قديماً وحديثاً، وحاصله أنهم اتفقوا على أن معنى الحديث هو كما قال الطبرى".
"فقد(4) جعلت هذه الجماعات اجتهاداتهم أصولاً يوالون عليها ويعادون عليها ويفرقون بها جماعة المسلمين، فاختلفوا فى دين الله وشاق بعضهم بعضاً، ويا ليتهم إذ اختلفوا ردوه إلى الكتاب والسنة، ولكنهم ردوه إلى الحزب والشيخ وما عليه جماعتهم من أصول وأفكار متوارثة، فاتسع الشقاق، وطال الجدال بلا طائل، وذلك لأن كلاً يتعصب لما عليه الحزب أو الطائفة، ولا يقبل حكماً إلا لشيخه،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... ص 194 من كتاب د. هنداوى.
(2) ... ص 212 من كتاب د. هنداوى.
(3) ... ص 257 من كتاب د. هنداوى.
(4) ... ص 164 من كتاب د. هنداوى.(1/48)
من ثم نتبين من قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (فاعتزل تلك الفرق كلها)(1) ومن كلام الشراح أن الأمر بالاعتزال فى هذا الحديث شمل تلك الجماعات المتفرقة فيما بينها، فينصرف الأمر بالاعتزال إلى اعتزال ما اختلفوا فيه وتفرقوا، وما أحدثوه من بدعة العصبية الحزبية، والولاء والبراء على الحزب والشيخ والجماعة وأفكارها وأصولها.
وليس معنى القول بوجوب اعتزال تلك الجماعات لما دب بين صفوفها من عصبية وشحناء ولما تسببه من تفريق جماعة المسلمين الأم، ليس معنى ذلك أن هذه الجماعات فرق ضالة خارجة على جماعة المسلمين، وإن كان الحديث قد سماها بالفرق على سبيل الزجر والتوبيخ على ما أحدثوا من تفريق الكلمة، وتفتيت الصف.
وقد بينا أن تسمية تلك الجماعات بالفرق لا يمكن حمله على المعنى الاصطلاحى للفرق وإنما يجوز تسميتها بذلك باعتبار الفرق العملية الحاصلة بين تلك الجماعات والتى يترتب على أثرها حكم الاعتزال، لأنه لا يلزم لوجوب الاعتزال حصول الفرقة بمعناها الاصطلاحى –السابق بيانه فى الجزء الأول من البحث-".
"فاقتضى(2) ميزان العدل فيهم ألا يحكم لهم بأنهم هم جماعة المسلمين التى لا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) ... تقدم تخريجه ص85.
(2) ... ص 267 من كتاب د. هنداوى.(1/49)
تشوبها شائبة الفرقة، ولا أن يحكم عليهم بأنهم فرق ضالة خارجة عن الصراط وعن جماعة المسلمين، بل الحق والعدل فيهم أنهم طوائف من جماعة المسلمين قد شابهت الفرق فى أهم سماتها وصفاتها السلوكية والعملية، فحق بذلك أن يكون لها نصيب من الجماعة، ونصيب من الفرقة، فيكون لها من الوعد بالنجاة فى الآخرة، والنصر والتمكين فى الدنيا بقدر ما أخذت به من معانى الجماعة، ويكون لها من وعيد الفرق بالخزى فى الدنيا والعذاب فى الآخرة بقدر ما شابهت فيه هذه الفرق من السمات والصفات، إلا أن يكون بعض هذا الافتراق والشقاق راجعاً إلى خطأ فى الاجتهاد، فيرفع ذلك عن صاحبه العذاب الأخروى وإن كان النصر والتمكين فى الدنيا لا يتحقق إلا بالوحدة والاجتماع لأن هذه هى سنن النصر الكونية والشرعية.
قال تعالى: { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } (1).
يقول ابن تيمية –رحمه الله- فى كتاب "الاستقامة"، فى معرض بيانه أن بعض هذا الافتراق قد يعذر صاحبه لخطئه فى الاجتهاد ولتصوره أن المخالف مبتدع وأن الواجب الشرعى فى حقه هو اعتزاله ومفارقته يقول: "ثم إن من مسائل الخلاف ما يتضمن أن اعتقاد أحدهما يوجب عليه بُغض الآخر ولعنه أو تفسيقه أو تكفيره أو قتاله. فإذا فعل ذلك مجتهداً مخطئاً كان خطؤه مغفوراً له، وكان ذلك فى حق الآخر محنة فى حقه وفتنة وبلاء ابتلاه الله به.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه حال البغاة المتأولين مع أهل العدل، سواء كان ذلك بين أهل اليد والقتال من الأمراء ونحوهم، أو بين أهل اللسان والعلم من العلماء والعُبَّاد ونحوهم، وبين من يجمع الأمرين.
ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغى، لا لمجرد الاجتهاد".
سؤال: كيف يكون الالتزام بالجماعة مع اعتزال تلك الجماعات؟
__________
(1) ... الأنفال: 46.(1/50)
"أما(1) صورة لزوم الجماعة مع اعتزال تلك الجماعات فإنما تتمثل فى لزوم ما اجتمعت عليه كلمة علماء الأمة المجتهدين وأهل الحل والعقد فيهم ممن يلازمون أصول أهل السنة والجماعة سواء من هذه الجماعات أو من غيرهم ممن لا يتعصبون لجماعة أصلاً سوى الجماعة الأم التى كان عليها النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ويكون المجتمعون على هذا القدر والملازمون له دون التعصب لجماعة أو حزب بعينه هم جماعة المسلمين وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
ولا يعنى ذلك أن يعتزل المسلمون تلك الجماعات ثم ينشئون جماعة جديدة تخالفهم وتفارقهم فهذا لا نقول به ومن ثم لا مانع من الاجتماع مع أى أحد من المسلمين فيما تجتمع فيه الكلمة ولا تترتب عليه فتنة ولا يكون فيه اختلاف كالاجتماع على الصلاة والصيام والحج وتلاوة القرآن والعلم والدعوة وسائر
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعمال البر والتقوى التى يتفق علماء المسلمين على استحسان التعاون عليها فى واقعنا المعاصر.
ومن ثم فنحن نفرق بين صورة الاعتزال بالنسبة لإخواننا الذين دب بينهم داء الفرقة والاختلاف، وبين اعتزالنا لدعاة الضلالة كالعلمانية وطواغيت الحكم بغير ما أنزل الله وأعوانهم وحاشيتهم الموالين لهم، وكذلك سدنة الأوثان من القبوريين، وغيرهم من الفرق الضالة المخالفة لأصول الإسلام كالشيعة والخوارج وغيرهم فهؤلاء ينبغى على المسلم أن يعتزلهم اعتزالاً تاماً، أما اعتزال إخواننا إنما هو فى الشر فقط وفيما اختلفوا وتفرقت فيه كلمتهم دون ما اجتمعوا عليه فاعتزالنا لهم فى شرهم وتفريقهم لا ينفى رابطة الولاء بيننا وبينهم فى العقيدة الواحدة، وبذلك لا يكون لأحد حجة علينا:
__________
(1) ... ص 277 من كتاب د. هنداوى.(1/51)
إذ لا يستطيع أحد أن يلزمنا باتباعه فى شىء مما خالف فيه السواد الأعظم من علماء المسلمين إذ ليس قول شيخه وإمامه بأولى من قول غيره طالما أن الجميع ملازم لأصول أهل السنة والجماعة، وطالما أن المسألة هى فى دائرة مسائل الخلاف وما يسوغ فيه الاجتهاد.
أما القول بأن الواجب هو البحث عن أى هذه الجماعات أقرب إلى الصواب ثم لزومها بعد ذلك: فالجواب عن ذلك: أنه طالما أننا قد اتفقنا أن هذه الجماعات جميعاً هى على أصول أهل السنة والجماعة، فلا شك أن الحق المتيقن هو ما اجتمعت عليه كلمتهم دون ما اختلفوا فيه، أما ما اختلفوا فيه فلا نستطيع القطع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمن هو على الصواب منهم فى ذلك، غير أننا نقطع أن علماء هذه الجماعات وأئمتهم إنما هم بشر يصيبون ويخطئون، ولذا فإن الصواب ليس فى التزام جماعة واحدة منها نقطع بأن لديها الصواب والخطأ، وإنما يكون فى تحرى الحق فيتبع عند أى الناس كان، وترك الباطل فلا نلتزم به عند أى الناس كان، وبذلك تكون صورة لزوم الجماعة أو الطائفة المنصورة فى هذا الزمان تتمثل فى لزوم ما اجتمعت عليه كلمة علماء المسلمين المجتهدين الملازمين لأصول أهل السنة والجماعة وما اتفق عليه جمهور أهل الحل والعقد فيهم، وملازمة كل مسلم يلتزم بهذه الأصول والتعاون معه فيما اجتمعت عليه الكلمة دون التزام بحزب معين".
"وحقاً(1): (لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه)(2)،
__________
(1) ... ص 280 من كتاب د. هنداوى.
(2) ... رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقى (ذكر ابن كثير فى البداية والنهاية فصل فى عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه الكريمة على أحياء العرب ج3، وقال: هذا حديث غريب جداً كتبناه لما فيه من دلائل النبوة [لأن الحديث طويل وبه أمور من دلائل النبوة]).
... وذكره المتقى الهندى فى كنز العمال عن علىّ (5612)، وعن ابن عباس عند الديلمى (28886)، وقال العقيلى: ليس لهذا الحديث بطوله وألفاظه أصل ولا يروى من وجه يثبت إلا شىء يروى فى مغازى الواقدى وغيره مرسل.
... وذكره (35684) عن ابن عباس عن علىّ وعزاه لابن اسحاق فى المبتدئ، والعقيلى وأبو نعيم والبيهقى فى دلائل النبوة.(1/52)
ولا تدعى جماعة ما، ولا يُسلم لها إن هى ادعت –أنها أحاطت بدين الله من جميع جوانبه،
18- المسألة الثامنة عشرة
فى بيان معنى رواية أبى داوود، وهى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (وإنه سيخرج فى أمتى أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)(1).
وذلك أن معنى هذه الرواية: أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بما سيكون فى أمته من هذه الأهواء التى افترقوا فيها إلى تلك الفرق، وأنه يكون فيهم أقوام تُدخل تلك الأهواء قلوبهم، حتى لا يمكن فى العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها، على حد ما يداخل داء الكَلَب جسم صاحبه، فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا عرق ولا مفصل ولا غيرهما، إلا دخله ذلك الداء، وهو جريان لا يقبل العلاج، ولا ينفع فيه الدواء، فكذلك صاحب الهوى، إذا دخل قلبه، وأشرب حبه، لا تعمل فيه الموعظة، ولا يقبل البرهان، ولا يكترث بمن خالفه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بل لا يحيط بدين الله من جميع جوانبه إلا الأمة مجتمعة، فثبت أن هذه الجماعات مجتمعة لا مفترقة هى التى تقوم بدين الله وحينئذ تكون جديرة بوصف الجماعة والفرقة الناجية والطائفة الظاهرة التى أخبر النبى - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تزال قائمة بدين الله إلى يوم القيامة"(2).
واعتبر ذلك بـ المتقدمين من أهل الأهواء، كمعبد الجهنى وعمرو بن عبيد وسواهما، فإنهم كانوا –حيث لقُوا- مطرودين من كل جهة، محجوبين عن كل لسان، مبعدين عند كل مسلم، ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تمادياً على ضلالهم، ومداومة على ما هم عليه، { ومن يُرد الله فتنتهُ فلن تملك له من الله شيئاً } (3).
__________
(1) ... تقدم تخريجه: ص22، 142، 383.
(2) ... تقدم تخريجه في المسألة الرابعة عشرة.
(3) ... المائدة: 41.(1/53)
وحاصل ما عولوا عليه تحكيم العقول المجردة، فشركوها مع الشرع فى التحسين والتقبيح، ثم قصروا أفعال الله على ما ظهر لهم ووجهوا عليها أحكام العقل، فقالوا: يجب على الله كذا! ولا يجوز أن يفعل كذا! فجعلوه محكوماً عليه كسائر المكلفين، ومنهم من لم يبلغ هذا المقدار، بل استحسن شيئاً يفعله، واستقبح آخر، وألحقها بالمشروعات.
ولكن الجميع بقوا على تحكيم العقول، ولو وقفوا هنالك، لكانت الداهية على عظمها أيسر، ولكنهم تجاوزوا هذه الحدود كلها، إلى أن نصبوا المحاربة لله ورسوله، باعتراضهم على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وادعائهم عليهما من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول وفساد النظم ما هم له أهل.
فأهل الأهواء إذا استحكمت فيهم أهواؤهم، لم يبالوا بشىء، ولم يعدوا خلاف أنظارهم شيئاً، ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف فى موارد الإشكال (وهو شأن المعتبرين من أهل العقول)، وهؤلاء صنف من أصناف من اتبع هواه، ولم يعبأ بعذل العاذل فيه، ثم هناك أصناف أخر، تجمعهم مع هؤلاء إشراب الهوى فى قلوبهم، حتى يبالوا بغير ما هو عليه.
فإذا تقرر معنى الرواية بالتمثيل، صرنا منه إلى معنى آخر، وهى:
19- المسألة التاسعة عشرة
أن قوله: "تتجارى بهم تلك الأهواء"، فيه الإشارة بـ "تلك"، فلا تكون إشارة إلى غير مذكور، ولا محالاً بها على غير معلوم، بل لابد لها من متقدم ترجع إليه، وليس إلا الأحوال التى كانت السبب فى الافتراق، فجاءت الزيادة فى الحديث مبينة أنها الأهواء، وذلك قوله: تتجارى بهم تلك الأهواء"، فدل على أن كل خارج عما هو عليه وأصحابه إنما خرج باتباع الهوى لا بالشرع، وقد مر بيان هذا المعنى قبلُ، فلا نعيده.
20- المسألة العشرون
أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : (وإنه سيخرج من أمتى أقوام ... )، على وصف كذا، يحتمل أمرين:(1/54)
أحدهما: أن يريد أن كل من دخل من أمته فى هوى من تلك الأهواء، ورآها، وذهب إليها، فإن هواه يجرى فيه مجرى الكلب بصاحبه، فلا يرجع أبداً عن هواه، ولا يتوب من بدعته.
والثانى: أن يريد أن من أمته من يكون عند دخوله فى البدعة مشرب القلب بها، فلا يمكنه التوبة، ومنهم من لا يكون كذلك، فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها.
والذى يدل على صحة الأول هو النقل المقتضى الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : (يمرقون من الدين ... ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه)(1)، وقوله: (إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة)(2) ... وما أشبه ذلك.
ويشهد له الواقع، فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه، فلما يخرج عنها أو يتوب منها، بل هو يزداد بضلالتها بصيرة.
ويدل على صحة الثانى أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلاً، لأن العقل يُجَوِّز ذلك.
والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملاً ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها، كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم ابن عباس رضى الله عنهما(3).
وهذا الثانى هو الظاهر، لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق، من غير إشعار بإشراب أو عدمه، ثم بين أن فى أمته المفترقين عن الجماعة من يُشرب تلك الأهواء، فدل أن فيهم من لا يشربها، وإن كان من أهلها.
__________
(1) ... تقدم تخريجه: ص112، 118، 409، ورواه البخاري (7562).
(2) ... تقدم تخريجه: ص122.
(3) ... تقدم تخريجه: ص125، 156. وفي المسألة الرابعة عشرة.(1/55)
ويبعد أن يريد أن فى مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء، إذ كان يكون فى الكلام نوع من التداخل الذى لا فائدة فيه، فإذا بين أن المعنى أنه يخرج فى الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى، استقام الكلام واتسق، وعند ذلك يُتصور الانقسام، وذلك بأن يكون فى الفرقة من يتجارى به الهوى كتجارى الكلب ومن لا يتجارى به ذلك المقدار، لأنه يصح أن يختلف التجارى، فمنه ما يكون فى الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد، ومنه ما لا يكون كذلك.
فمن القسم الأول الخوارج، بشهادة الصادق المصدوق (رسول الله) - صلى الله عليه وسلم - ، حيث قال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)(1).
ومن القسم الثانى أهل التحسين والتقبيح على الجملة، إذ لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم.
ومنه ما ذهب إليه الظاهرية –على رأى من عدها من البدع- وما أشبه ذلك.
وذلك أنه يقول: من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية، فلا يخلو صاحبها من تجاريها فى قلبه وإشرابها له، لكن على قدرها، وبذلك أيضاً تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له، لكن التجارى المشبه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة، إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعة من البدع ذلك الإشراب، وبين من لم يبلغ ممن هو معدود فى الفرق، فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التى هى نتيجة العداوة والبغضاء.
وسبب التفريق بينهما –والله أعلم- أمران:
إما أن يقال: إن الذى أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته، فيظهر بسببها المعاداة، والذى لم يشربها لا يدعو إليها، ولا ينتصب للدعاء إليها.
21- المسألة الحادية والعشرون
أن هذا الإشراب المشار إليه، هل يختص ببعض البدع دون بعض؟ أم لا يختص؟
وذلك أنه يمكن أن بعض البدع من شأنها أن تُشرب قلب صاحبها جداً، ومنها ما لا يكون كذلك، فالبدعة الفلانية مثلاً من شأنه أن تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكلب بصاحبه، والبدعة الفلانية ليست كذلك.
__________
(1) ... تقدم تخريجه: الصفحة السابقة.(1/56)
ويمكن أن يتجارى ذلك فى كل بدعة على العموم، فيكون من أهلها من تجارت به كما يتجارى الكلب بصاحبه، كعمرو بن عبيد، ومنهم من لم يبلغ به الحال إلى هذا النحو، كجملة من علماء المسلمين، كالفارسى النحوى، وابن جنى(1).
__________
(1) ... أبو علي الفارسي: إمام النحو: أبو علي الحسن بن احمد بن عبد الغفار الفارسي الفسوي صاحب التصانيف، حدث بجزء من حديث إسحاق بن راهويه، قدم بغداد شاباً وتخرج بالزجاج وبمبرمان وأبي بكرالسراج وسكن طرابلس مدة ثم حلب، واتصل بسيف الدولة وتخرج به أئمة، وكان الملك عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي في النحو، ومن تلامذته أبو الفتح بن جني، ومصنفاته كثيرة نافعة وكان فيه اعتزال، عاش تسعاً وثمانين سنة، مات ببغداد في ربيع الأول سنة سبع وسبعين وثلاث مئة، وله كتاب الحجة في علل القراءات وكتابا الايضاح والتكملة (سير أعلام النبلاء مختصراً 16/379).
ابن جني: إمام العربية، أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي صاحب التصانيف، كان أبوه مملوكاً رومياً لسليمان بن فهد الموصلي، وله ترجمة طويلة في تاريخ الأدباء لياقوت، لزم أبا علي الفارسي دهراً وسافر معه حتى برع وصنف، وسكن بغداد وتخرج به الكبار، وله سر الصناعة واللمع والتصريف والتلقين في النحو، والتعاقب والخصائص والمقصور والممدود وما يذكر ويؤنث، وإعراب الحماسة والمحتسب في الشواذ، وله نظم جيد، خدم عضد الدولة وابنه، وقرأ على المتنبي ديوانه وشرحه، توفي في صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاث مئة، ولد قبل الثلاثين وثلاث مئة وكان أعور (سير أعلام النبلاء مختصراً 17/17).(1/57)
ويشهد لهذا التفسير استقراء أحوال الخلق من انقسامها إلى الأعلى والأدنى والأوسط، كالعلم والجهل، والشجاعة والجبن، والعدل والجور، والجود والبخل، والغنى والفقر، والعز والذل، وغير ذلك من الأحوال والأوصاف، فإنها تتردد ما بين الطرفين: فعالم فى أعلى درجات العلم، وآخر فى أدنى درجاته، وجاهل كذلك، وشجاع كذلك ... إلى سائرها، فكذلك سقوط البدع بالنفوس.
إلا أن فى ذكر النبى - صلى الله عليه وسلم - لها فائدة أخرى، وهى التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابها، وهى:
22- المسألة الثانية والعشرون
وبيان ذلك أن داء الكَلَب فيه ما يشبه العدوى، فإن أصل الكلب واقع بالكلب، ثم إذا عض ذلك الكلبُ أحداً، صار مثله، ولم يقدر على الانفصال منه فى الغالب إلا بالهلكة.
فكذلك المبتدع، إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله، فقلما يسلم من غائلته، بل إما أن يقع معه فى مذهبه ويصير من شيعته، وإما أن يثبت فى قلبه شكاً يطمع فى الانفصال عنه فلا يقدر.
وقد أتى فى الآثار ما يدل على هذا المعنى، فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالمتهم وكلام مكالمهم، وأغلظوا فى ذلك، وقد تقدم منه فى الباب الثانى آثار جمة.
ومن ذلك ما روى عن ابن مسعود، قال: من أحب أن يكرم دينه، فليعتزل مخالطة الشيطان ومجالسة أصحاب الأهواء، فإن مجالستهم ألصق من الجرب.
وعن حماد بن زيد، قال: لقينى سعيد بن جبير، فقال: ألم أرك مع طلق؟ قلت: بلى! فما له؟ قال: لا تجالسه، فإنه مرجئ.
وعن محمد بن واسع، قال: رأيت صفوان بن محرز وقرب منه شيبة، فرأهما يتجادلان، فرأيته قائماً ينفض ثيابه ويقول: إنما أنتم جُرب.
وعن الأوزاعى، قال: لا تكلموا صاحب بدعة من جدل، فيورث قلوبكم من فتنته.
فهذه آثار تنبهك على ما تقدمت إشارة الحديث إليه إن كان مقصوداً، والله أعلم.
تأثير كلام صاحب البدعة فى القلوب معلوم، وثم معنى آخر قد يكون من فوائد تنبيه الحديث بمثال داء الكلب، وهى:
23- المسألة الثالثة والعشرون(1/58)
وهو التنبيه على السبب فى بُعد صاحب البدعة عن التوبة، إذ كان مثل المعاصى الواقعة بأعمال العباد قولاً أو فعلاً أو اعتقاداً كمثل الأمراض النازلة بجسمه أو روحه، فأدوية الأمراض البدنية معلومة، وأدوية الأمراض العملية التوبة والأعمال الصالحة، وكما أن من الأمراض البدنية ما يمكن فيه التداوى ومنه ما لا يمكن فيه التداوى أو يعسر، كذلك الكَلَب الذى فى أمراض الأعمال، فمنها ما يمكن فيه التوبة عادة، ومنها ما لا يمكن.
فالمعاصى كلها –غير البدع- يمكن فيها التوبة من أعلاها –وهى الكبائر- إلى أدناها –وهى اللمم-، والبدع أخبرنا فيها إخبارين كلاهما يفيد أن لا توبة منها:
الإخبار الأول: ما تقدم فى ذم البدع من أن المبتدع لا توبه له، من غير تخصيص(1).
والآخر: ما نحن فى تفسيره، وهو تشبيه البدع بما لا نجح فيه من الأمراض، كالكَلَب، فأفاد أن لا نجح من ذنب البدع فى الجملة من غير اقتضاء عموم، بل اقتضى أن عدم التوبة مخصوص بمن تجارى به الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه، وقد مر أن من أولئك من يتجارى به الهوى على ذلك الوجه، وتبين الشاهد عليه، ونشأ من ذلك معنى زائد هو من فوائد الحديث، وهى:
24- المسألة الرابعة والعشرون
وهو أن من تلك الفرق من لا يشُرب هوى البدعة ذلك الإشراب، فإذاً يمكن فيه التوبة، وإذا أمكن فى أهل الفرق، أمكن فيمن خرج عنهم، وهم أهل البدع الجزئية.
فإما أن يرجح ما تقدم من الأخبار على هذا الحديث، لأن هذه الرواية فى إسنادها شىء(2)، وأعلى ما يجرى فى الحسان، وفى الأحاديث الأخر ما هو صحيح، كقوله: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون كما لا يعود السهم على فوقه)(3)، وما أشبه.
__________
(1) ... تقدم قريبًا.
(2) ... يعنى رواية (أقوام تتجارى بهم الأهواء كما ...) فإن فيها أزهر بن عبد الله الهوزنى كان ناصبيًا.
(3) ... تقدم قريبًا.(1/59)
وإما أن يجمع بينهما، فتجعل النقل الأول عمدة فى عموم قبول التوبة، ويكون هذا الإخبار أمراً آخر زائداً على ذلك، إذ لا يتنافيان، بسبب أن من شأن البدع مصاحبة الهوى، وغلبة الهوى للإنسان فى الشىء المفعول أو المتروك له أبداً أثر فيه، والبدع كلها تصاحب الهوى، ولذلك سُمى أصحابها أهل الأهواء، فوقعت التسمية بها، وهو الغالب عليهم، إذ العمل المبتدع إنما نشأ عن الهوى مع شبهة دليل، لا عن الدليل بالعرض، فصار هوى يصاحبه دليل شرعى فى الظاهر، فكان أجرى فى البدع من القلب موقع السويداء، فأشرب حبه، ثم إنه يتفاوت، إذ ليس فى رتبة واحدة، ولكنه تشريع كله، فاستحق صاحبه أن لا توبه له، عافانا الله من النار بفضله ومنه.
وإما أن يعمل هذا الحديث مع الأحاديث الأول –على فرض العمل به-، ونقول: إن ما تقدم من الأخبار عامة، وهذا يفيد الخصوص كما تفيده، أو يفيد معنى يفهم منه الخصوص، وهو الإشراب فى أعلى المراتب، مسوقاً مساق التبغيض، لقوله: (وإنه سيخرج فى أمتى أقوام ... ) إلى آخره، فدل أن ثم أقواماً أخر لا تتجارى بهم تلك الأهواء على ما قال، بل هى أدنى من ذلك، وقد لا تتجارى بهم ذلك.
وهذا التفسير بحسب ما أعطاه الموضع، وتمام المسألة قد مر فى الباب الثانى، والحمد لله، لكن على وجه لا يكون فى الأحاديث كلها تخصيص، وبالله التوفيق.
25- المسألة الخامسة والعشرون(1/60)
أنه جاء فى بعض روايات الحديث(1): (أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم، فيحلون الحرام ويحرمون الحلال)(2)، فجعل أعظم تلك الفرق فتنة على الأمة أهل القياس، ولا كل قياس، بل القياس على غير أصل، فإن أهل القياس متفقون على أنه على غير أصل لا يصح، وإنما يكون على أصل من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع معتبر، فإذا لم يكن للقياس أصل –وهو القياس الفاسد-، فهو الذى لا يصح أن يوضع فى الدين، فإنه يؤدى إلى مخالفة الشرع، وأن يصير الحلال بالشرع حراماً بذلك القياس، والحرام حلالاً، فإن الرأى من حيث هو رأى لا ينضبط إلى قانون شرعى إذا لم يكن له أصل شرعى، فإن العقول تستحسن ما لا يُستحسن شرعاً، وتستقبح ما لا يُستقبح شرعاً، وإذا كان كذلك، صار القياس على غير أصل فتنة على الناس.
__________
(1) ... يعنى حديث افتراق الأمة.
(2) ... رواه من حديث عوف بن مالك الأشجعي: الطبراني في الكبير (18/50-90) وقال في مجمع الزوائد (1/179): رجاله رجال الصحيح! وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: قلت: نعيم بن حماد ضعفه بعضهم واتهم بهذا الحديث. ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1673، 1996، 1997) وقال: هذا عند أهل العلم بالحديث حديث غير صحيح، حملوا فيه على نعيم بن حماد، وقال أحمد بن حنبل ويحى بن معين: حديث عوف هذا لا أصل له، وأما ما روي عن السلف في ذم القياس فهو عندنا قياس على غير أصل أو قياس يرد به أصل. وقال محقق جامع بيان العلم الشيخ أبو الأشبال الزهيري –حفظه الله-: لا يصح. والحديث رواه البزار (122 مختصره) والحاكم (3/631) وانظر تخريجه موسعاً في شحذ الهمة بتخريج حديث افتراق الأمة.(1/61)
ثم أخبر فى الحديث أن المعملين لهذا القياس أضر على الناس من سائر أهل الفرق وأشد فتنة، وبيانه أن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التى تردها واستفاضت، وأهل الأهواء مقموعون فى الأمر الغالب عند الخاصة والعامة، بخلاف الفتيا، فإن أدلتها من الكتاب والسنة لا يعرفها إلا الأفراد، ولا يميز ضعيفها من قويها إلا الخاصة، وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير.
وقد جاء مثل معناه محفوظاً من حديث ابن مسعود: أنه قال: "ليس عام إلا والذى بعده شر منه، لا أقول: عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيهدم الإسلام ويثلم"(1).
وهذا الذى فى حديث ابن مسعود موجود فى الحديث الصحيح، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - : (ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال، يُستفتون، فيفتون برأيهم، فيضلون ويُضلون)(2).
وقد تقدم فى ذم الرأى آثار مشهورة عن الصحابة رضى الله عنهم والتابعين، تبين فيها أن الأخذ بالرأى يحل الحرام ويحرم الحلال(3).
__________
(1) ... رواه الدارمي (1/64) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (ح 2008) وضعفه محققه بمجالد بن سعيد، وعزاه الهيثمي في المجمع (1/180) لكبير الطبراني.
(2) ... تقدم تخريجه مراراً، انظر ص108، 146، 399، ورواية الشاطبي نقلها عن ابن عبد البر من جامع بيان العلم (ح 1994).
(3) ... عقد ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/1037) باباً: ما جاء في ذم القول في دين الله تعالى بالرأي والظن والقياس على غير أصل، وعيب الإكثار من المسائل دون اعتبار. وأورد تحته آثاراً كثيرة عن عمر وابن عباس وابن مسعود وابن سيرين وسفيان وعروة وابن المبارك والشافعي وابن شهاب ومسروق والشعبي، وبعضها صحيح فانظرها إن شئت. وانظر مجمع الزوائد (1/179).(1/62)
ومعلوم أن هذه الآثار الذامة للرأى لا يمكن أن يكون المقصود بها ذم الاجتهاد على الأصول فى نازلة لم توجد فى كتاب ولا سنة ولا إجماع ممن يعرف الأشباه والنظائر، ويفهم معانى الأحكام، فيقيس قياس تشبيه وتعليل، قياساً لم يعارضه ما هو أولى منه، فإن هذا ليس فيه تحليل وتحريم ولا العكس، وإنما القياس الهادم للإسلام ما عارض الكتاب والسنة، او ما عليه سلف الأمة، أو معانيها المعتبرة.
ثم إن مخالفة هذه الأصول على قسمين:
أحدهما: أن يخالف أصلاً مخالفة ظاهرة من غير استمساك بأصل آخر، فهذا لا يقع من مفت مشهور، إلا إذا كان الأصل لم يبلغه، كما وقع لكثير من الأئمة، حيث لم يبلغهم بعض السنن، فخالفوها خطأ، وأما الأصول المشهورة، فلا يخالفها مسلم خلافاً ظاهراً، من غير معارضة بأصل آخر، فضلاً عن أن يخالفها بعض المشهورين بالفتيا.
والثانى: أن يخالف الأصل بنوع من التأويل هو فيه مخطئ، بأن يضع الاسم على غير مواضعه، أو على بعض مواضعه، أو يراعى فيه مجرد اللفظ دون اعتبار المقصود، أو غير ذلك من أنواع التأويل.
والدليل على أن هذا هو المراد بالحديث وما فى معناه: أن تحليل الشىء إذا كان مشهوراً، فحرمة بغير تأويل، أو التحريم مشهوراً، فحلله بغير تأويل، كان كفراً وعناداً، ومثل هذا لا تتخذه الأمة رأساً قط، إلا أن تكون الأمة قد كفرت، والأمة لا تكفر أبداً، وإذا بعث الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين، لم يبق حينئذ من يسأل عن حرام أو حلال.
وإذا كان التحليل أو التحريم غير مشهور، فخالفه مخالف لم يبلغه دليله، فمثل هذا لم يزل موجوداً من لدن زمان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم هذا إنما يكون فى آحاد المسائل، فلا تضل الأمة، ولا ينهدم الإسلام، ولا يقال لهذا: إنه محدث عند قبض العلماء.(1/63)
فظهر أن المراد إنما هو استحلال المحرمات الظاهرة أو المعلومة عنده بنوع تأويل، وهذا بين فى المبتدعة الذين تركوا معظم الكتاب والذى تضافرت عليه أدلته، وتواطأت على معناه شواهده، وأخذوا فى اتباع بعض المتشابهات وترك أم الكتاب، فإذا، هذا –كما قال الله تعالى- زيغ وميل عن الصراط المستقيم.
فإن تقدموا أئمة يفتون ويقتدى بأقوالهم وأعمالهم، سكنت إليهم الدهماء، ظناً أنهم بالغوا لهم فى الاحتياط على الدين، وهم يضلونهم بغير علم، ولا شىء أعظم على الإنسان من داهية تقع به من حيث لا يحتسب، فإنه لو علم طريقها، لتوقاها ما استطاع، فإذا جاءته على غرة، فهى أدهى وأعظم على من وقعت به، وهو ظاهر، فكذلك البدعة إذا جاءت العامى من طريق الفتيا، لأنه يستند فى دينه إلى من ظهر فى رتبة أهل العلم، فيضل من حيث يطلب الهداية: اللهم اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم.
26- المسألة السادسة والعشرون(1/64)
أن ها هنا نظراً لفظياً فى الحديثين هو من تمام الكلام فيه، وذلك أنه لما أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن جميع الفرق فى النار إلا فرقة واحدة، وهى الجماعة(1) المفسرة فى الحديث الآخر، فجاء فى الرواية الأخرى السؤال عنها سؤال التعيين، فقالوا: من هى يا رسول الله؟ فأصل الجواب أن يقال: أنا وأصحابى ومن عمل مثل عملنا ... أو ما أشبه ذلك مما يعطى تعيين الفرقة: إما بالإشارة إليها، أو بوصف من أوصافها، إلا أن ذلك لم يقع، وإنما وقع فى الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف، فلذلك أتى بالتى تقتضى بظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها، والمراد هنا الأوصاف التى هو عليها - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضى الله عنهم، فلم يطابق السؤال الجواب فى اللفظ، والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى، لأنهم لما سألوا عن تعيين الفرقة الناجية، بين لهم الوصف الذى به صارت ناجية، فقال: (ما أنا عليه وأصحابى)(2).
ومما جاء غير مطابق فى الظاهر، وهو فى المعنى مطابق: قول الله تعالى: { قل أؤنبئكم بخير من ذلكُم } (3)، فإن هذا الكلام معناه: هل أخبركم بما هو أفضل من متاع الدنيا؟ فكأنه قيل: نعم! أخبرنا، فقال الله تعالى: { للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ... } (4)، أى: للذين اتقوا استقر لهم عند ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ... الآية، فأعطى مضمون الكلام معنى الجواب على غير لفظه، وهذا التقرير على قول جماعة من المفسرين.
__________
(1) ... تقدم تخريجه في المسألة الرابعة عشرة.
(2) ... تقدم تخريجه في المسألة الرابعة عشرة.
(3) ... آل عمران: 15.
(4) ... آل عمران: 15.(1/65)
وقال تعالى: { مثل الجنة التى وُعد المتقون. فيها أنهار ... } (1)، فقوله: { مثل الجنة } يقتضى المثل لا المُمثل، كما قال تعالى: { مثلهم كمثل الذى استوقد ناراً } (2)، ولأنه كلما كان المقصود الممثل، جاء به بعينه.
ويمكن أن يقال: إن النبى - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الفرق وذكر أن فيها فرقة ناجية، كان الأولى السؤال عن أعمال الفرقة الناجية، لا عن نفس الفرقة، لأن التعريف فيها من حيث هى لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التى نجت بها، فالمقدم فى الاعتبار هو العمل لا العامل، فلو سألوا: ما وصفها؟ أو ما عملها؟ أو ما أشبه ذلك، لكان أشد مطابقة فى اللفظ والمعنى، فلما فهم - صلى الله عليه وسلم - منهم ما قصدوا، أجابهم على ذلك.
ونقول: لما تركوا السؤال عما كان الأولى فى حقهم، أتى به جواباً عن سؤالهم، حرصاً منه - صلى الله عليه وسلم - على تعليمهم ما ينبغى لهم تعلمه والسؤال عنه.
ويمكن أن يُقال: إن ما سألوا عنه لا يتعين، إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر إذا كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير.
ومن شأن هذا السؤال التعيين وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضى التعيين، وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع، وهو ما كان عليه هو وأصحابه.
وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم، وهو بالنسبة إلى السائل معين، لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأى عين، فلم يحتج إلى أكثر من ذلك، لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر، فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم، فليس مثلهم، ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود، والله أعلم.
الباب العاشر
فى بيان معنى الصراط المستقيم الذى انحرفت عنه سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان
__________
(1) ... محمد: 15.
(2) ... البقرة: 17.(1/66)
قد تقدم قبل هذا أن كل فرقة وكل طائفة تدعى أنها على الصراط المستقيم، وأن ما سواها منحرف عن الجادة وراكب بُنيات(1) الطريق، فوقع بينهم الاختلاف إذاً فى تعيينه وبيانه، حتى أشكلت المسألة على كل من نظر فيها، فتحرير النظر حتى تتضح الفرقة الناجية التى كان عليه النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أغمض المسائل. (هذا وجه).
ووجه ثانى: أن الطريق المستقيم لو تعيَّن بالنسبة إلى من بعد الصحابة، لم يقع اختلاف أصلاً، لأن الاختلاف مع تعيين محله محال، والفرض أن الخلاف ليس بقصد العناد، لأنه على ذلك الوجه مُخرج عن الإسلام، وكلامنا فى الفرق.
ووجه ثالث: أنه قد تقدم أن البدع لا تقع من راسخ فى العلم، وإنما تقع ممن لم يبلغ مبلغ أهل الشريعة المتصرفين فى أدلتها، والشهادة بأن فلاناً راسخ فى العلم وفلاناً غير راسخ فى غاية الصعوبة، فإن كل من خالف وانحاز إلى فرقة يزعم أنه الراسخ، وغير قاصر النظر، فإن فرض على ذلك المطلب علامة، وقع النزاع إما فى العلامة وإما فى مناطها.
ومثال ذلك: أن علامة الخروج من الجماعة الفُرقة المنبه عليها بقوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } (2)، والفرقة –بشهادة الجميع- حقيقية وإضافية، فكل طائفة تزعم أنها هى الجماعة، ومن سواها مفارق للجماعة.
ومن العلامات: اتباع ما تشابه من الأدلة، وكل طائفة ترمى صاحبتها بذلك، وأنها هى التى اتبعت أم الكتاب دون الأخرى، فتجعل دليلها عمدة، وترد إليه سائر المواضع بالتأويل، على عكس الأخرى.
__________
(1) ... بُنيات الطريق: هى الطرق الصغار تتشعَّب من الجادَّة وهى النُّزهات (عن لسان العرب).
(2) ... آل عمران: 105.(1/67)
ومنها: اتباع الهوى الذى ترمى به كل فرقة صاحبتها وتبرئ نفسها منه، فلا يمكن فى الظاهر مع هذا أن يتفقوا على مناط هذه العلامات، وإذا لم يتفقوا عليها، لم يمكن ضبطهم بها بحيث يشير إليهم بتلك العلامات، وأنهم فى التحصيل متفقون عليها، وبذلك صارت علامات، فكيف يمكن مع اختلافهم فى المناط الضبط بالعلامات.
ووجه رابع: وهو ما تقدم من فهمنا من مقاصد الشرع فى الستر على هذه الأمة(1)، وإن حصل التعيين بالاجتهاد، فالاجتهاد لا يقتضى الاتفاق على محمله.
ووجه خامس: وهو ما تقدم تقريره فى قوله سبحانه وتعالى: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ... } (2)، يشعر فى هذا المطلوب أن الخلاف لا يرتفع(3)، مع ما يعضده من الحديث الذى فرغنا من بيانه، وهو حديث الفرق، إذ الآية لا تشعر بخصوص مواضع الخلاف، لإمكان أن يبقى الخلاف فى الأديان دون دين الإسلام، لكن الحديث بيَّن أنه واقع فى الأمة أيضاً، فانتظمته الآية بلا إشكال.
فإذا تقرر هذا، ظهر به أن التعيين للفرقة الناجية بالنسبة إليها اجتهادى لا ينقطع الخلاف فيه، وإن ادعى فيه القطع دون الظن، فهو نظرى لا ضرورى، ولكنا مع ذلك نسلك فى المسألة –بحول الله- مسلكاً وسطاً يذعن إلى قبوله عقلُ المنصف، ويقر بصحته العالمُ بكليات الشريعة وجزئياتها، والله الموفق للصواب.
فنقول: لابد من تقديم مقدمة قبل الشروع فى المطلوب، وذلك أن الإحداث فى الشريعة إنما يقع: إما من جهة الجهل، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل، وإما من جهة اتباع الهوى فى طلب الحق، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة، وقد مَرَّ فى ذلك ما يؤخذ منه شواهد المسألة، إلا أن الجهات الثلاث قد تنفرد وقد تجتمع، فإذا اجتمعت، فتارة تجتمع منها اثنتان، وتارة تجتمع الثلاث:
__________
(1) ... راجع ص491.
(2) ... هود: 118.
(3) ... راجع ص464.(1/68)
فأما جهة الجهل، فتارة تتعلق بالأدوات التى بها تفهم المقاصد، وتارة تتعلق بالمقاصد.
وأما جهة تحسين الظن [بالعقل]، فتارة يشرك [العقل] فى التشريع مع الشرع، وتارة يقدم عليه، وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد.
وأما جهة اتباع الهوى، فمن شأنه أن يغلب الفهم حتى يغلب صاحب الأدلة، أو يستند إلى غير دليل، وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد.
فالجميع أربعة أنواع، وهى: الجهل بأدوات الفهم، والجهل بالمقاصد، وتحسين الظن بالعقل، واتباع الهوى.
فلنتكلم على كل واحد منها، وبالله التوفيق.
[فصلٌ]: النوع الأول [الجهل بأدوات الفهم]
إن الله عز وجل أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه، بمعنى أنه جارٍ فى ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب، قال الله تعالى: { إنا جعلناه قرآنا عربياً } (1)، وقال تعالى: { قرآناً عربياً غَيرَ ذى عِوَجٍ } (2).
وكان المُنزل عليه القرآن عربياً أفصح من نطق بالضاد، وهو محمد ابن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان الذين بُعث فيهم عرباً أيضاً، فجرى الخطاب به على معتداهم فى لسانهم، فليس فيه شىء من الألفاظ والمعانى إلا وهو جار على ما اعتادوه، ولم يداخله شىء، بل نفى عنه أن يكون فيه شىء أعجمى:
فقال تعالى: { ولقد نعلمُ أنهم يقولونَ إنما يُعلمه بشر لسانُ الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مُبين } (3).
وإذا كان كذلك، فلا يفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذى نزل عليه، وهو أعتبار الفاظها ومعانيها وأساليبها(4).
فعلى الناظر فى الشريعة والمتكلم فيها أصولاً وفروعاً أمران:
أحدهما: أن لا يتكلم فى شىء من ذلك حتى يكون عربياً، أو كالعربى، فى كونه عارفاً بلسان العرب.
__________
(1) ... الزخرف: 30.
(2) ... الزمر: 23.
(3) ... النحل: 103.
(4) ... يعنى اعتبار ألفاظ ومعانى وأساليب لغة العرب التى بها نزل القرآن.(1/69)
والأمر الثانى: أنه إذا أُشكل عليه فى الكتاب أو فى السنة لفظ أو معنى، فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية، فقد يكون إماماً فيها، ولكنه يخفى عليه الأمر فى بعض الأوقات، فالأولى فى حقه الاحتياط، إذ قد يذهب على العربى المحض بعض المعانى الخاصة، حتى يَسأل عنها ... وقد نُقل من هذا عن الصحابة –وهم العرب- فكيف بغيرهم؟!
نقل عن ابن عباس رضى الله عنهما: أنه قال: كنت لا أدرى ما { فاطر السماوات والأرض } (1)، حتى أتانى أعرابيان يختصمان فى بئر، فقال أحدهما: أنا فطرُتها، أى: ابتدأتها(2).
روى عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما: أنه قال: قلنا يا رسول الله! من خير الناس؟ قال: (ذو القلب المهموم، واللسان الصادق). قلنا: قد عرفنا اللسان الصادق، فما ذو القلب المهموم؟ قال: (هو التقى النقى، الذى لا إثم فيه ولا حسد)(3). قلنا: فمن على أثره؟ قال: (الذى ينسى الدنيا ويحب الآخرة). قلنا: ما نعرف هذا فينا إلا رافعاً مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قلنا: فمن على أثره؟ قال: (مؤمن فى خلق حسن). قلنا: أما هذا، فإنه فينا.
فالواجب السؤال كما سألوا، فيكون على ما كانوا عليه، وإلا زلَّ فقال فى الشريعة برأيه لا بلسانها.
ولنذكر لذلك أمثلة:
(
__________
(1) ... يوسف: 101.
(2) ... تفسير الطبرى، الآية 14 من سورة الأنعام، وابن كثير: أول سورة فاطر.
(3) ... إلى هنا: صحيح: أخرجه ابن ماجه (4216) وأنظر الصحيحة (948). والحديث بطوله رواه البيهقى فى شعب الإيمان (4800، 6604).(1/70)
أحدها): قول جابر الجعفى فى قوله تعالى: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لى أبى } (1): أن تأويل هذه الآية لم يجىء بعد، وكذب، فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة، فإنها تقول: إن علياً فى السحاب، فلا يخرج مع من خرج من ولده، حتى يُنادي عَلىٌّ من السماء: اخرجوا مع فلان، فهذا معنى قوله تعالى: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لى أبى } ، عند جابر، حسبما فسره سفيان من قوله: لم يجىء بعد.
قال سفيان: وكذب، بل هذه الآية كانت فى إخوة يوسف.
وقع ذلك فى مقدمة كتاب مسلم(2)، ومن كان ذا عقل، فلا يرتاب فى أن سياق القرآن دال على ما قال سفيان، وأن ما قاله جابر لا ينساق.
(الثانى): قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم، وأما الشحم، فحلال، لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم(3)، ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم ايضاً –بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على اللحم-، لم يقل ما قال.
(
__________
(1) ... يوسف: 80.
(2) ... تقدم ذلك ص250 وانظر تفصيل هذا الاعتقاد الضال المضل للرافضة فى كتاب: "أصول وتاريخ الفرق الإسلامية" للشيخ مصطفى بن محمد بن مصطفى ص244.
(3) ... هو قول الظاهرية، وقال به ابن حزم كما فى المحلى، ورد عليه ابن كثير كما فى تفسير سورة المائدة { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } الآية وقال: واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية فى جمودهم ههنا، وتعسفهم فى الاحتاج بقوله { فإنه رجس أو فسقاً } ، أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير، وهذا بعيد من حيث اللغة، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه، والأظهر أن اللحم يضم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطرد.(1/71)
الثالث): قول من زعم أن لله سبحانه وتعالى جَنْباً، مستدلاً بقوله: { أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت فى جنب الله ! } (1)، وهذا لا معنى للجَنْبِ فيه، لا حقيقة، ولا مجازاً، لأن العرب تقول: هذا الأمر يصغر فى جنب هذا، أى: يصغر بالإضافة إلى الآخر، فكذلك الآية معناها: { يا حسرتا على ما فرطت فى جنب الله } ، أى: فيما بينى وبين الله، إذ أضفت تفريطى إلى أمره لى ونهيه إياى(2).
فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ فى العربية فى كلام الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأن ذلك يؤدى إلى تحريف الكلم عن مواضعه.
والصحابة رضوان الله عليهم براء من ذلك، لأنهم عرب، لم يحتاجوا فى فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تَعَلُّم، ثم من جاء بعدهم ممن ليس بعربى اللسان، تَكَلَّف ذلك حتى علمه، وحينئذ دخل القوم فى فهم الشريعة وتنزيلها على ما ينبغى فيها، كسلمان الفارسى وغيره، فكل من اقتدى بهم فى تنزيل الكتاب والسنة على العربية –إن أراد أن يكون من أهل الاجتهاد، فهو إن شاء الله داخل فى سوادهم الأعظم، كائن على ما كانوا عليه، فانتظم فى سلك الناجية.
[فصلٌ]: النوع الثانى [الجهل بمقاصد الشريعة]
__________
(1) ... الزمر: 5.
(2) ... يقول ابن تيمية رحمه الله: لا يُعرف عالم مشهور عند المسلمين ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين أثبتوا لله جنباً نظير جنب الإنسان، والتفريط ليس فى شىء من صفات الله عز وجل، والإنسان إذا قال فلان فرط فى جنب فلان لا يريد أن التفريط وقع فى شىء من نفس ذلك الشخص، بل يريد أنه فرط فى جهته أو حقه فكيف يظن أن ظاهره فى حق الله أن التفريط كان فى ذاته. انتهى مختصراً (الجواب الصحيح 3/145، 146).(1/72)
إن الله تعالى أنزل الشريعة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها تبيانُ كل شىء يحتاج إليه الخلق، فى تكاليفهم التى أمروا بها، وتعبداتهم التى طوقوها فى أعناقهم، ولم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كمل الدين، بشهادة الله تعالى بذلك، حيث قال تعالى: { اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتى ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً } (1)، فكل من زعم أنه بقى من الدين شىء لم يكمل بعد، فقد كذب بقوله: { اليوم أكملت لكم دينكم } .
فعلى الناظر فى الشريعة أمران:
(أحدهما): أن ينظر إليها بعين الكمال(2) لا بعين النقصان، ويعتبرها اعتباراً كلياً فى العبادات والعادات، ولا يخرج عنها البتة، لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمى فى عماية، كيف وقد ثبت كمالها وتمامها؟! فالزائد والناقص فى جهتها هو المبتدع بإطلاق، والمنحرف عن الجادة إلى بنيات الطرق.
(
__________
(1) ... المائدة: 3.
(2) ... معنى هذا: أن ينظر إلى الشريعة نظرة الجازم أنها كاملة -لا نقص فيها ولا اعوجاج- لأن قول الله حق وصدق، وينبنى على ذلك أنها صالحة دائماً لدين الناس ودنياهم. ومعنى هذا أيضاً: أن يعتبر وأن يعمل بالشريعة كلها على كمالها، ولا يعتبر بآحادها وبعض أدلتها دون البعض، ولا يضرب بعضها ببعض لأنها جميعها متفقة خارجة من مشكاة واحدة فلا تعارض فيها ولا تناقض. ومن ذلك ألا يعتبرها شريعة عبادات فحسب، بل هى شاملة للعبادات والمعاملات.(1/73)
والثانى): أن يوقن بأنه لا تضاد بين آيات القرآن، ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع جار على مَهيَع(1) واحد، ومنتظم إلى معنى واحد، فإذا أداه بادى الرأى(2) إلى ظاهر اختلاف، فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف، لأن الله قد شهد له أن لا اختلاف فيه(3)، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع، أو المُسَلِّم من غير اعتراض، فإن كان الموضع مما يتعلق به حكم عملىّ، التمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين، أو يبقى باحثاً إلى الموت، ولا عليه من ذلك، فإذا اتضح له المغزى، وتبينت له الواضحة، فلابد (له) من أن يجعلها حاكمة فى كل ما يعرض له من النظر فيها، ويضعها نصب عينيه فى كل مطلب دينى، كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله عليهم.
فأما الأمر الأول(4)، فهو الذى أغفله المبتدعون، فدخل عليهم بسبب ذلك الاستدراك على الشرع، وإليه مال كل من كان يكذب على النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فيقال له فى ذلك، ويُحَذَّر ما فى الكذب عليه من الوعيد، فيقول: لم أكذب عليه، وإنما كذبت له.
وحكى عن محمد بن سعيد المعروف بالأردنى: أنه قال: إذا كان الكلام حسناً، لم أر بأساً أن أجعل له إسناداً! فلذلك كان يحدث بالموضوعات، وقد قتل فى الزندقة وصلب، وقد تقدم لهذا القسم أمثلة كثيرة.
__________
(1) ... مَهيَع: أى طريق واضح.
(2) ... بادى الرأى: قال النووى فى شرح مسلم عند شرح حديث الخضر (2380): بادِئ بالهمز وتركه، فمن همز معناه أول الرأى وابتداؤه، أى من غير فكر، ومن لم يهمز فمعناه. ظهر له رأى -من البدء- وهو ظهور رأى لم يكن. وانظر تفسير الآية 27 من سورة هود: { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى } .
(3) ... كقوله تعالى: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا } النساء: 82، ويدل على ذلك أيضًا آيات كثيرة فى القرآن العظيم: 42: فصلت، 64: النحل،
213: البقرة.
(4) ... وهو النظر إلى الشريعة بعين الكمال.(1/74)
وأما الأمر الثانى: فإن قوماً أغفلوه أيضاً، ولم يمعنوا النظر، حتى اختلف عليهم الفهم فى القرآن والسنة، فأحالوا بالاختلاف عليها تحسيناً للظن بالنظر الأول، وهذا هو الذى عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حال الخوارج، حيث قال: (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم)(1)، فوصفهم بعدم الفهم للقرآن، وعند ذلك خرجوا على أهل الإسلام، إذ قالوا: لا حكم إلا لله، وقد حكم الرجال فى دين الله! حتى بين لهم حبر القرآن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما معنى قوله تعالى: { إن الحكم إلا لله } (2) على وجه أذعن بسببه منهم ألفان –أو من رجع منهم إلى الحق- وتمادى الباقون على ما كانوا عليه، اعتماداً –والله أعلم- على قول من قال منهم: لا تناظروه ولا تخاصموه فإنه من الذين قال الله فيهم: { بل هم قومٌ خصمون } (3).
فتأملوا رحمكم الله كيف كان فهمهم فى القرآن، ثم لم يزل هذا الإشكال يعترى أقواماً حتى اختلفت عليهم الآيات والأحاديث، وتدافعت على أفهامهم، فجعجعوا به قبل إمعان النظر.
[فصلٌ]: النوع الثالث [تحسين الظن بالله]
إن الله جعل للعقول فى إدراكها حداً تنتهى إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى الإدراك فى كل مطلوب، ولو كانت كذلك، لاستوت مع البارى تعالى فى إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون إذ لو كان كيف كان يكون؟ فمعلومات الله لا تتناهى، ومعلومات العبد متناهية، والمتناهى لا يساوى ما لا يتناهى.
ووجه آخر: وهو أن العقل لما ثبت أنه قاصر الادراك فى علمه بما أدعى علمه، لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التى زعم أنه أدركها، لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه، وعلى حال دون حال.
__________
(1) ... تقدم مراراً: انظر ص112، 118، 411، 473.
(2) ... يوسف: 40، 76.
(3) ... الزخرف: 58، وانظر ما تقدم ص 156، 475.(1/75)
فالإنسان –وإن زعم فى الأمر أنه أدركه وقتله علماً- لا يأتى عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن يعقل، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك، كل أحد يشاهد (ذلك) من نفسه عياناً، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم، ولا بذات دون صفة، ولا فعل دون حكم، فكيف يصح دعوى الاستقلال فى الأحكام الشرعية وهى نوع من أنواع ما يتعلق به علم العبد؟لا سبيل له إلى دعوى الاستقلال ألبتة، حتى يستظهر فى مسألته بالشرع –إن كانت شرعية-، لأن أوصاف الشارع لا تختلف فيها ألبتة، ولا قصور ولا نقص، بل مباديها موضوعة على وفق الغايات، وهى معنى الحكمة.
فالحاصل من مجموع ما تقدم: أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء فى السنن بأرائهم، علموا معناه أو جهلوه، جرى لهم على معهودهم أو لا، وهو المطلوب من نقله، وَلْيَعْتَبِر فيه من قدم الناقص -وهو العقل- على الكامل -وهو الشرع-.
ورحم الله الربيع بن خثيم(1)
__________
(1) ... الربيع بن خُثَيم بن عائذ بن عبد الله الثورى أبو زيد الكوفى: ثقة عابد مخضرم من الثانية، قال له ابن مسعود: لو رآك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبك، مات سنة إحدى، وقيل ثلاث وستين (تقريب التهذيب لابن حجر). روى البيهقى فى شعب الإيمان (7563): ذُكر رجل عند الربيع بن خيثم، فقال: ما أنا عن نفسى براضى فاتفرغ منها إلى ذم غيرها، إن العباد خافوا الله على ذنوب غيرهم، وأمِنوه على ذنوب أنفسهم!. وروى (9308): كان الربيع بن خيثم إذا وجد قلبه قسوة أتى فنزل صديق له قد مات فى الليل فنادى: يا فلان بن فلان يا فلان بن فلان، ثم يقول: ليت شعرى! ما فعلت وما فُعل بك، ثم يبكى حتى تسيل دموعه، فيعرف ذلك فيه إلى مثلها. وذكر له ابن قدامة المقدسى فى كتاب التوابين قضيته مع المرأة التى أرادت فتنته، فهداها الله عز وجل وصارت من العابدات.
(
تنبيه): كثير من الكتب ذكرت أن اسمه (الربيع بن خيثم) بتقديم الياء، وأخرى بتقديم الثاء، فالله أعلم.(1/76)
حيث يقول: يا عبد الله، ما علمك الله فى كتابه من علم، فاحمد الله، وما استأثر عليك به من علم، فكله إلى عالمه، لا تتكلف، فإن الله يقول لنبيه: { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ... } إلى آخرها(1).
[فصلٌ]: النوع الرابع [اتباع الهوى]
إن الشريعة موضوعة لإخراج المُكَلَّف عن داعية هواه، حتى يكون عبداً لله، فاعلموا أن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق، كبيرِهم وصغيرِهم، مطيعِهم وعاصيِهم، برِهم وفاجرِهم، لم يختص (بـ) الحجة بها أحداً دون أحد، وكذلك سائر الشرائع، إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التى تنزل فيهم تلك الشريعة، حتى إن (حملة) الشريعة المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها.
فأنت ترى أن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - مخاطب بها فى جميع أحواله وتقلباته، مما اختص به دون أمته، أو كان عاماً له ولأمته، كقوله تعالى: { ياأيها النبى لم تحرم ما أحل اللهُ لك تبتغى مرضاة أزواجك واللهُ غفورُ رحيم } (2).
فالشريعة هى الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلفين، وهى الطريق الموصل والهادى الأعظم.
ألا ترى إلى قوله تعالى: { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوارً نهدى به من نشاء من عبادنا } (3)، فهو - صلى الله عليه وسلم - أول من هداه الله بالكتاب والإيمان، ثم من اتبعه فيه، والكتاب هو الهادى، والوحى المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدى، والخلق مهتدون بالجميع.
__________
(1) ... ص: 86.
(2) ... الطلاق: 1.
(3) ... القلم: 4.(1/77)
وإذا كان كذلك، فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم، ومناراً يهتدون بها إلى الحق، وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها، والعمل بها، قولاً واعتقاداً وعملا، لا بحسب عقولهم فقط، ولا بحسب شرفهم فى قومهم فقط، لأن الله تعالى إنما أثبت الشرف بالتقوى لا غيرها، لقوله تعالى: { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } (1)، فمن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة، فهو أولى بالشرف والكرم، ومن كان دون ذلك، لم يمكن أن يبلغ فى الشرف مبلغ الأعلى فى اتباعها، فالشرف إذاً إنما هو بحسب المبالغة فى تحكيم الشريعة.
ثم نقول بعد هذا: إن الله سبحانه شرف أهل العلم، ورفع أقدارهم، وعظم مقدارهم، ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
بل قد اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله، وأنهم المستحقون لشرف المنازل، وهو مما لا ينازع فيه عاقل.
واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم وأعظمها أجراً عند الله يوم القيامة، وأيضاً فإن علوم الشريعة منها ما يجرى مجرى الوسائل بالنسبة إلى السعادة الأخروية، ومنها ما يجرى مجرى المقاصد، والذى يجرى منها مجرى المقاصد أعلى مما ليس كذلك –بلا نزاع بين العقلاء أيضاً-، كعلم العربية بالنسبة إلى علم الفقة، فإنه كالوسيلة، فعلم الفقه أعلى.
__________
(1) ... الحجرات: 13.(1/78)
وإذا ثبت هذا، فأهل العلم أشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع، وإنما وقع الثناء فى الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أخرى، ودل على ذلك وقوع الثناء عليهم مقيداً بالاتصاف به(1)، فهو إذاً العلة فى الثناء، ولولا ذلك الاتصاف، لم يكن لهم مزية على غيرهم.
ولذلك، إذا وقع النزاع فى مسألة شرعية، وجب ردها إلى الشريعة، حيث يثبت الحق فيها(2)، لقوله تعالى: { فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول } (3).
فإذاً، المكلف بأحكامها لا يخلو من أحد أمور ثلاثة:
(أحدها): أن يكون مجتهداً فيها، فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها، لأن اجتهاده فى الأمور التى ليست دلالتها واضحة إنما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع والأولى بأدلة الشريعة، دون ما ظهر لغيره من المجتهدين، فيجب عليه اتباع ما هو الأقرب.
(والثانى): أن يكون مقلداً صرفاً خلياً من العلم الحاكم جملة، فلا بد له من قائد يقوده، وحاكم يحكم عليه، وعالم يقتدى به، ومعلوم أنه لا يقتدى به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم، والدليل على ذلك أنه لو علم أو غلب على ظنه أنه ليس من أهل ذلك العلم، لم يحِّل له اتباعه ولا الانقياد لحكمه، بل لا يصح أن يخطر بخاطر العامى ولا غيره تقليد الغير فى أمر مع علمه بأنه ليس من أهل ذلك الأمر، كما أنه لا يمكن أن يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب، إلا أن يكون فاقد العقل.
(
__________
(1) ... من ذلك قوله تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } وقوله { هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون } وقوله { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط } وأحاديث النبى - صلى الله عليه وسلم - كثيرة منها قوله (إن العلماء ورثة الأنبياء) وتقدم تخريجه.
(3) ... النساء: 59.(1/79)
والثالث): أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين، لكنه يفهم الدليل وموقعه، ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المُعتبره فى تحقيق المناط ونحوه، فلا يخلو: إما أن يعتبر ترجيحه أو نظره أو لا:
فإن اعتبرناه، صار مثل المجتهد فى ذلك الوجه، والمجتهد إنما هو تابع للعلم الحاكم، ناظر نحوه، متوجه شطره، فالذى يشبهه كذلك.
وإن لم نعتبره، فلابد من رجوعه إلى درجة العامى، والعامى إنما اتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم، فكذلك من نزل منزلته.
فعلى كل تقدير، لا يُتبع أحدً من العلماء، إلا من حيث هو متوجهً نحو الشريعة، قائمً بحجتها، حاكم بأحكامها جملة وتفصيلاً، وإنه متى وجد متوجهاً غير تلك الوجهة فى جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع، لم يكن حاكماً، ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة.
فيجب إذاً على الناظر فى هذا الموضع أمران إذا كان غير مجتهد.
(أحدهما): أن لا يتبع العالم إلا من جهة ما هو عالم بالعلم المحتاج إليه.
(والأمر الثانى): أن لا يصمم على تقليد من تبيَّن له فى تقليده الخطأ شرعاً، وذلك أن العامى ومن جرى مجراه قد يكون متبعاً لبعض العلماء: إما لكونه أرجح من غيره (عند) أهل قطره، وإما لأنه هو الذى اعتمده أهل قطره فى التفقه فى مذهبه دون مذهب غيره.
وعلى كل تقدير، فإذا تبيَّن له فى بعض مسائل متنوعة الخطأ والخروج عن صوب العلم الحاكم، فلا يتعصَّب لمتبوعه بالتمادى على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه، لأن تعصبه يؤدى إلى مخالفة الشرع أولاً، ثم إلى مخالفة متبوعه.
أما خلافه للشرع، فبالعرض.
وأما خلافه لمتبوعه، فلخروجه عن شرط الاتباع، لأن كل عالم يصرح –أو يعرض- بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا
بغيرها، فإذا ظهر أنه حاكم بخلاف الشريعة، خرج عن شرط متبوعه بالتصميم على تقليده.(1/80)
فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعى المطلوب شرعاً ضلال، وما توفيقى إلا بالله، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره.
ثم نقول: إن هذا مذهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم، علم ذلك علماً يقيناً.
ألا ترى أصحاب السقيفة لما تنازعوا فى الإمارة حتى قال بعض الأنصار: "منا أمير ومنكم أمير"، فأتى الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الأئمة من قريش(1)، أذعنوا لطاعة الله ورسوله، ولم يعبؤوا برأى من رأى غير ذلك، لعلمهم بأن الحق هو المقدم على آراء الرجال.
إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضاً لا يعرف دون وسائلهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاء على طريقه.
تم بحمد الله ومَنِّهِ وكرمه تهذيب كتاب الاعتصام للشاطبى رحمه الله تعالى
نسأل الله العصمة والهداية
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى بن محمد بن مصطفى
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ذو القعدة 1423 هـ
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حلوان - القاهرة
أسئلة على كتاب الاعتصام للشاطبى
1. أ. عرِّف البدعة لغة.
ب. اذكر معنى كل من المشتقات الآتية:
(البَدْع- البِدْع- الابتداع- المبتدَع- المبتدِع- التَّبَدُّع- اُلمبَدَّع).
جـ. وضح الترابط بين الاستعمالات اللغوية والاستعمالات الشرعية للبدعة وأيهما أعم؟
__________
(1) ... أصحاب السقيفة هم الذين اجتهدوا بعد وفاة النبى - صلى الله عليه وسلم - لاختيار خليفة للمؤمنين، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير ... والحديث رواه البخارى (3668) والنسائى (4/11) من حديث عائشة، والسقيفة هنا هى سقيفة بنى ساعدة. وبهذا يتم تخريج أحاديث تهذيب الاعتصام للشاطبى رحمه الله.
... ... نسأل الله الاعتصام بحبله، والعصمة من كل سوء فى الدنيا والآخرة، فما لنا من دون الله من عاصم.
... ... ... ... ... ... ... ... وكتبه .. أبو عبد الرحمن خالد بن عبد الكريم(1/81)
2. ... أ. ما معنى (البدعة) اصطلاحاً؟ مع ذكر خلاف العلماء فى تحديد معناها وبيان كل مع الاستدلال.
... ب. ما الفرق بين البدعة والمعصية؟ مع بيان الحد الفاصل بينهما ممثلاً لذلك.
... جـ. إذا كان الأصل فى العقود والشروط والمعاملات العفو حتى يحرمها الله تعالى، فكيف تدخلها البدع.
3. ... متى تدخل التروك فى حد البدعة ومتى لا تدخل؟ مع التمثيل. وهل تدخل البدع أيضاً فى العقائد والأقوال؟
4. أذكر بعض الأدلة العقلية والنقلية على ذم البدع وسوء منقلب أهلها.
5. ... على الرغم من جهود الشاطبى فى التحذير من البدع والتى كان للصوفية فيها النصيب الأكبر. إلا أنه تأثر ببعض آرائهم.
أ. اذكر بعض مظاهر تأثره بالصوفية. ورد ناصر بن حمد الفهد عليه فيها.
ب. وما الذى يجب علينا تجاه كلام العلماء صحيحاً كان أم لا؟ مبيناً كيف أخطأت طائفتان فى هذا المقام؟
6. ... جاءت أخبار وآثار بذم الرأى الشرعى المذموم وهو المبنى على غير أصل من كتاب ولا سنة. وهذا هو الابتداع. اختلف العلماء فى هذا الرى. ما الذى يقصد به؟ وضح ذلك.
7. ... اذكر بعض ما فى البدع من الأوصاف المحذورة والمعانى المذمومة. مع الاستدلال ما أمكن.
8. ... هل تقبل توبة المبتدع؟
9. ... توصف البدع فى غالب النصوص بأنها ضلالة. بخلاف سائر المعاصى فإنها لا توصف فى الغالب بهذا الوصف. إلا أن تكون بدعة أو تشبه البدعة. لم؟
10. لم كانت الأدلة على ذم البدع عامة لا تختص ببدعة دون أخرى. ولم كان كل مبتدع آثم مذموم؟
11. يطلق اسم المبتدع على ثلاثة أقسام. اذكرها موضحاً هل يلحق الإثم بجميعهم؟
12. اذكر الأصول الثلاثة للحكم على المبتدعة. كما قال بها شيخ الإسلام ابن تيمية.
13. هل يعتبر العامى المقلد آثماً أم معذوراً؟
14. هل تختلف مراتب تأثيم المبتدعين؟ وضح.
15. لم يأت فى الشرع حد (عقوبة) للبدعة لا يزاد عليها ولا ينقص. فكيف اجتهد علماء الأمة المجتهدون فى الحكم على المبتدعين؟(1/82)
16. قسَّم البعض البدع إلى حسنة وقبيحة. أذكر أدلتهم. ثم أذكر الرد عليهم.
17. قسَّم بعض العلماء -كالقرافى وشيخه العز بن عبد السلام- البدع على أقسام الشريعة الخمسة ولم يعدوها قسماً واحداً مذموماً.
أ. اذكر تقسيمهم هذا وتمثيلهم لكل قسم.
ب. اذكر رد الشاطبى عليهما. ...
18. احتج كثير من المصنفين فى التصوف بالصُّفَّة التى كانت فى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتمع فيها فقراء المهاجرين على جواز إقامة الرُّبط والتزام سكناها للانقطاع للعبادة. فما الفرق بين أهل الصفة وبين المتصوفة المنقطعين للعبادة؟.
19. قد يحتج البعض بمداومة بعض العلماء المشهورين بإتباع السنة على بعض الأعمال التى لم تأت فى كتاب ولا سنة بل قد يوجبونها. فما الرد عليهم؟
20. يستدل الملتزم بالسنة والخارج عنها بنصوص الكتاب والسنة. وضح ذلك فى ضوء قول الله تعالى: { فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } .
21. طريق الحق واحد أما الباطل فطرقه متعددة. وهى لا تنحصر نقلاً ولا عقلاً ولا استقراءاً. لم؟
22. إن كانت طرق المبطلين فى الاستدلال على بعضهم لا تنحصر. لكن هناك أوجه (سمات) كلية. يقاس عليها ما سواها. ومنها:
1. اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوبة. ...
2. ردهم للأحاديث التى جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ويدعون أنها مخالفة للمعقول.
3. تخرصهم على الكلام فى القرآن والسنة العربيين مع عدم إتقانهم العربية التى يُفهم بها عن الله ورسوله. ...
4. انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التى للعقول فيها مواقف وطلب الأخذ بها تأويلاً.
5. تحريف الأدلة عن مواضعها. ...
6. بناء الظواهر الشرعية على تأويلات لا تُعقل.
7. المغالاة فى تعظيم شيوخهم حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه. ...(1/83)
8. الاستناد إلى المنامات فى الإقبال على العمل أو الإعراض عنه. ...
- أشرح كل وجه من هذه الأوجه مع ذكر أمثلة له. والرد عليه.
23. برغم أن الشاطبى –رحمه الله- حذر من البدع العملية وبيَّن مفاسدها إلا أنه وقع فى بدع الأشاعرة والمتكلمين الاعتقادية.
أ. بين لماذا وقع فيها؟
ب. وضح كيف تأثر بهم؟
جـ. وما الرد عليه؟ ...
24. كيف الجمع بين قول النبى - صلى الله عليه وسلم - : (مثل أمتى كمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره؟) وبين قوله: (خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)؟
25. ما معنى البدعة الحقيقية؟ وما معنى البدعة الإضافية وما أقسامها؟ وما الفرق بينهما فى المعنى؟
26. إذا كانت البدعة الحقيقية هى التى لا دليل عليها ولا أصل لها. فكيف توصف الإضافية أحياناً بأنها تعد حقيقية مع أن لها متعلق من الأدلة؟ ...
27. قال الله تعالى: { وجعلنا فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم. إلا ابتغاء رضوان الله. فما رعوها حق رعايتها. فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم. وكثير منهم فاسقون } .
أ. ما معنى (الرهبانية)؟ ...
ب. الاستثناء فى الآية قد يكون متصلاً أو منفصلاً. وعليه ينبنى تحديد نوع بدعة الرهبانية. وضح. ...
جـ. مع أن هذا الحكم لا يتعلق بشريعتنا لكن قد يكون له شبه فى الإسلام. وضح مع الاستدلال. وبيان ترجيح الشاطبى.
د. ما هى الأدلة على أن الأخذ بالرفق أولى وأحرى مع أن المداومة على العمل مطلوب أيضاً؟
28. ... الدخول فى التطوعات والنوافل قد يكون على أنها غير لازمة أو على أنها لازمة. والالتزام بها قد يكون على جهة الالتزام النذرى أو الالتزام غير النذرى . اشرح مع الاستدلال.
29. أ. متى يكون الدخول فى النوافل والتطوعات على وجه الالتزام مكروهاً ؟ وما وجه
... الشبه بينه وبين الابتداع ؟(1/84)
ب. كيف نجمع بين الأدلة على كراهية التزام النوافل التى يشق دوامها وبين الأدلة على مداومة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والسلف الصالح على أعمال شاقة ؟
جـ. النهى عن الدخول فى النوافل على قصد الإلزام يدور مع علته –وهى المشقة- وجوداً وعدماً . وهذه العلة راجعة إلى أمرين . ما هما ؟
د. إذا كان التزام النوافل التى يشق التزامها مخالف للدليل . والمتعبد بها متعبد بما لم يشرع . فهل تشملها أدلة ذم البدعة أم لا ؟
30. قال الله تعالى: { يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباًً واتقوا الله الذى أنتم به مؤمنون } .
... أ. علام تدل هذه الآية ؟ وما سبب نزولها ؟
... ب. لتحريم الحلال صور عدة . اذكرها . وأيها يندرج تحت هذه الآية.
جـ. هل يشكل معنى هذه الآية مع قول الله تعالى { كل الطعام كان حلاً لبنى إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } ؟
د. قال الله تعالى { يا أيها النبى لم تحرم ما أحل الله لك } . فكيف يأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - ما هو منهياً عنه فى قوله تعالى: { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ؟
31. استحب بعض العلماء –كابن العربى والغزالى- العزلة. نقل عن ابن العربى فى الرهبانية: أنها السياحة واتخاذ الصوامع للعزلة. قال: وذلك مندوب إليه فى ديننا عند فساد الزمان. مع أن الرهبانية المذكورة فى الآية بدعة ردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنهيه عن التبتل. فكيف الجمع بينهما ؟
32. قد يكون للمكلف طريقان فى سلوكه للآخرة. أحدهما سهل والآخر صعب . فيسلك الطريق الصعب زاعماً أن ذلك كان من أحوال السلف . ويلزم نفسه الشدة ويلزم غيره أيضاً ويفضى به ذلك إلى الخروج عن السنة إلى البدعة . اذكر أمثلة لذلك موضحاً الفهم الصحيح لأحوال السلف.
33. أ. كيف يكون العمل أصله مشروع ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة من باب(1/85)
... الذرائع ؟
... ب. ولم كان السلف الصالح يتركون سنناً قصداً ؟ مع التمثيل لذلك.
جـ. وهل يعتبر كل ما جاء من باب سد الذرائع فى مسألة البدع من البدع الإضافية التى تقترب من السنة المحضة ؟
34. هل إعطاء حكم لمسألة ما سكت عنها الشارع الحكيم يعد ابتداعا ؟ مع ذكر أمثلة.
35. أ. لم كان العمل المشتبه فيه –سنة هو أم بدعة- من البدع الإضافية ؟ وما حكمه ؟
... ب. اذكر أمثلة هذا القسم من البدع الإضافية.
36. هل يجوز التبرك بآثار أحد سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ولم لم يفعل الصحابة ذلك؟ هل لاعتقاد أن ذلك خاص بالنبى - صلى الله عليه وسلم - ؟ أم أنهم تركوه من باب سد الذرائع إلى البدع ؟
37. هناك من البدع الإضافية التى تقرب من الحقيقية اشرح مع ذكر أمثلة.
38. هل يعتد بالبدع الإضافية كعبادات من حيث كون أصلها مشروع.
39. أ. هل البدع كلها لها حكم واحد أم لا؟ اشرح مع التمثيل؟
ب. إذا تقرر أن البدع منها مكروه ومنها محرم. لكن هناك إشكال وهو أن وصف الضلالة يلازمها. لقول النبى - صلى الله عليه وسلم - : (كل بدعة ضلالة). فكيف يكون هناك بدعة مكروهة وفاعل المكروه لا يُعاقب ولا يُضلل؟
جـ. إذا تقرر أن البدع ليست على رتبة واحدة بل منها الكبائر ومنها الصغائر. فإذا كانت الكبائر هى ما يخل بالضروريات. فهناك إشكال وهو أن البدع كلها تخل بأول الضروريات وهو الدين. كيف الرد على هذا الإشكال؟
د. إذا كانت النصوص قد جاءت بتقسيم المعاصى إلى صغائر وكبائر ولم تأت بتقسيم البدع كذلك. فكيف يصح تقسيم البدع إلى صغائر وكبائر؟
... ... وما هو ضابط البدعة الصغير؟ وما هى شروطها؟
40. اختلف العلماء فى دخول البدع فى الأمور العادية أيضاً كالعبادية. اذكر وجهة نظر كل فريق مع التمثيل.
ثم اذكر كيف جمع الشاطبى بين الرأيين مع التمثيل أيضاً.(1/86)
41. إذا دخلت البدع فى الأمور العادية من الجهة التشريعية فيها ثم ظهرت وفشت وجرى العمل بها بين الناس دون إنكار من العامة ولا من الخاصة. فهل تعد فى هذه الحالة بدعة؟ وما هى أسباب نشوء البدع؟
42. احتج أهل البدع بالمصالح المرسلة على جواز الابتداع.
أ. ما هى المصلحة المرسلة؟
ب. وهل هى من الأصول المتفق عليها؟ اذكر خلاف العلماء فيها. وأدلة القائلين بها.
جـ. اذكر أمثلة جرى فيها المجتهدون من السلف الصالح على أساس المصلحة.
د. ما هى شروط العمل بالمصالح المرسلة؟
هـ. ما الفرق بين البدع والمصالح المرسلة؟
43. احتج أيضاً أهل البدع بالاستحسان على جواز الابتداع.
أ. ما هو تعريفى الاستحسان عندهم؟ وما هى أدلتهم على ذلك؟
ب. ما هو تعريف الاستحسان عند أهل السنة؟ مع ذكر أمثلة له.
جـ. ما هو رد الشاطبى على من وضع الحدين وعلى أدلتهم؟
44. استدل المبتدعة بقول النبى - صلى الله عليه وسلم - : (البر حسن الخلق والإثم ما حاك فى صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) على جواز الرجوع إلى ما يقع فى القلب ويحيك فى النفس وإن لم يكن ثمَّ دليل صريح على حكم من الأحكام الشرعية ولا غير صريح. فما الرد على تلك الشبهة؟
45. قال الله تعالى: { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم }
أ. فما سبب هذا الاختلاف؟
ب. وفيم يكون الاختلاف؟ وما هى الأوجه التى يقع عليها؟
جـ. ولم ألحق الشاطبى المختلفين فى أصول الدين وقواعده بالقسم الأول فى الذم والضلال ولم يلحقهم بالمختلفين فى الفروع؟
د. ما أسباب وقوع الاختلاف المذموم المؤدى إلى الابتداع؟
هـ. هل إجماع أهل المدينة يعد حجة؟
46. صح من حديث أبى هريرة –رضى الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتتفرق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة).
أ. هل الافتراق يراد به مطلق الافتراق أم يراد به افتراقاً مقيداً؟(1/87)
ب. هل يكون الافتراق بسبب البدع فقط أم بسبب المعاصى أيضاً؟
جـ. هل كل هذه الفرق خارجة عن الملة؟
د. هل هذه الفرق المذكورة هى المبتدعة فى العقائد فقط أم فى العمليات أيضاً؟ وهل هى المبتدعة فى الكليات فقط أم فى الجزئيات أيضاً؟
هـ. إذا كانت بعض هذه الفرق كافرة. فكيف يعدون من الأمة؟
و. هل يجوز تعيين هذه الفرق؟
ز. إذا كان لا يمكن تعيين هذه الفرق. فما خصائصهم وعلاماتهم التى يُعرفون بها؟
47. هل فى اليهود والنصارى فرقة ناجية أم لا؟ وعليه فهل تزيد عليهم أمتنا بفرقة هالكة أم لا؟ ولم؟
48. أ. هلى الوعيد فى قول النبى - صلى الله عليه وسلم - : (كلها فى النار) أبدى أم لا؟ وإذا كان غير أبدى هل هو نافذ أم فى المشيئة؟
ب. علام يدل قول النبى - صلى الله عليه وسلم - : (إلا واحدة)؟
جـ. لم عين النبى - صلى الله عليه وسلم - الفرقة الناجية مع أنه لم يعين الفرق لأخرى؟ ولم أُشكل على المبتدعين فى النظر ما كان عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؟
د. هل ينتظم الوعيد (كلها فى النار إلا واحدة) المبتدعين فى أمور جزئية كما ينتظم المبتدعين فى الأمور الكلية والقواعد العامة؟
هـ. رُوى فى تفسير الفرقة الناجية: (وهى الجماعة)، اذكر أقوال العلماء فى معنى الجماعة.
و. كيف الرد على من أخطأ فظن أن الجماعة هى جماعة الناس أى العوام وإن لم يكن فيهم عالم؟
49. أ. الأقوال الواردة عن السلف فى معنى الجماعة ترجع إلى قولين ما هما؟ وما معنى الإمامة؟ ومن هو الإمام الذى تجب طاعاته؟
ب. ما معنى لزوم الجماعة بالمعنى العلمى؟ وما معنى لزومها بالمعنى الحسى؟ وهل حقق المسلمون هذين المعنيين فى واقعنا المعاصر؟
جـ. من أصول أهل السنة والجماعة أن الاختلاف فى الرأى ينبغى ألا يؤدى إلى تنازع فى العمل. اشرح. وهل معنى ذلك أن يتوقف العمل حتى يتم اجتماع الأمة؟ وما هو موقف المسلم من الجماعات الإسلامية المعاصرة؟
د. ما معنى الجماعة لغة وشرعاً؟ مع لاستدلال.(1/88)
هـ. هل الجماعات الإسلامية الحالية فرق؟ وما هو حد الفرق؟
و. كيف يكون الالتزام بالجماعة مع اعتزال تلك الجماعات؟
50. أ. ما معنى قول النبى - صلى الله عليه وسلم - : (وإنه سيخرج فى أمتى أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله).
ب. وعلام تدل الإشارة بتلك؟
جـ. هل كل من دخل فى بدعة من تلك الأهواء يجرى هواه فيه مجرى الكلب بصاحبه أم أن ذلك يختص بمن دخل فى البدعة مشرب القلب بها؟
د. هل هذا الإشراب يختص ببعض البدع دون بعض؟ أم لا يختص؟
هـ. وإذا كانت البدع تتفاوت درجاتها فى إشراب القلوب لها فما هى الفوائد المستفادة من تشبيه النبى - صلى الله عليه وسلم - لها كلها بداء الكلب؟
51. قال النبى - صلى الله عليه وسلم - فى بعض روايات الحديث:
(أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال)
ما القياس المراد فى الحديث؟ وما هو القياس الجائز؟
وما هما قسما الاجتهاد المخالف للأصول؟
52. لما سئل النبى - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة الناجية قال: (ما أنا عليه وأصحابى) فلم يعين الموصوف بل بين الوصف. لم؟
53. لما كان تعيين الفرقة الناجية أمر اجتهادى لا ينقطع الخلاف فيه وإن أدعى فيه القطع دون الظن فهو نظرى لا ضرورى؟
54. ما الأسباب التى من أجلها يقع الإحداث فى الشريعة؟
55. قال الشاطبى رحمه الله:
إن الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن راعيه هواه حتى يكون عبداً لله. اشرح هذه الفقرة؟
فهرس
... الصفحة
مقدمة التهذيب ... ت
مقدمة هامة ... 1
هذا الدين يقوم على أصلين: عبادة الله وحده، وعبادته بما شرع ... 1
نصوص الكتاب على تجريد متابعة النبى - صلى الله عليه وسلم - ... 2
نصوص السنة ... 4
التزام الصحابة والتابعين والأئمة بالاتباع ... 7
كتب كثير من العلماء فى البدع ... 10
كتاب الاعتصام لا مثيل له فى بابه ... 11
ترجمة المؤلف ... 14
عن الكتاب وأبوابه ... 16
خطبة الشاطبى ... 19(1/89)
الغربة الأولى والثانية ... 20
اتباع السنة ومخالفة ما اعتاده الناس ... 24
معاداة العوام والمبتدعة لدعاة السنة ... 24
( الباب الأول: فى تعريف البدع وبيان معناها ... 29
( حاشية من كتاب حقيقة البدع وأحكامها ... 29
بيان معانى ودلالات لفظ (بدعة) وما اشتق فيها ... 35
تعري البدعة وحدِّها ... 39
( حاشية عبد الله بن عبد العزيز التويجرى (البدعة اصطلاحاً) ... 39
شرح ألفاظ الحدّ ... 47
( حاشية الغامدى: البدعة التى تفعل بقصد القربة ... 49
ترجيح الشاطبى بدخول البدع فى العادات والمعاملات ... 60
البدعة التركية ... 63
قد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً أو غيره ... 63
... الصفحة
هل ترك المشروع أو المباح تقرباً يعد بدعة ... 64
مثال لترك المشروع أو المباح تديناً ... 65
( حاشية: البدعة أيضاً تكون فى العقائد والأقوال والأعمال ... 67
( الباب الثانى: ذم البدع وسوء منقلب أصحابها ... 69
- من جهة النظر ... 69
العقول غير مستقلة بمصالحها استجلاباً، أو مفاسدها استدفاعاً ... 69
( حاشية الشاطبى فى الموافقات: مصالح العباد لا يعرفها حق معرفتها
إلا خالقها ... 70
المصالح الدنيوية لا يتخلص كونها مصالح محضة، وكذلك المفاسد ... 71
لا يغترن أحد بأحوال الفلاسفة المدعين لإدراك الأحوال الأخروية بمجرد
العقل قبل النظر فى الشرع ... 72
الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان ... 74
المبتدع معاند للشرع مشاق له ... 75
المبتدع نزل نفسه منزلة المضاهى للشارع ... 76
المبتدع متبع للهوى ...
- من جهة النقل ... 80
ما جاء فى الكتاب من ذم الابتداع ... 80
ما جاء فى الأحاديث ... 83
ما جاء عن السلف الصالح والتابعين ... 85
ما جاء فى ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين ... 88
( حاشية ناصر بن حمد الفهد من كتابه الإعلام بمخالفات الموافقات
والاعتصام ... 91
طائفتان مخطئتان: الأولى: من إذا رأوا صدق العالم أحبوه وقبلوا جميع
أقواله بلا تمحيص ... 93
والثانية: من إذا رأوا زلة لعالم قاموا بالضرب على أقواله كلها حقها
وباطلها ... 94(1/90)
تأثر الشاطبى بالصوفية ... 96
ملامح من تأثره بالصوفية: العمل رغبة فى الجنة وخوفاً من النار ... 97
شطحات التصوف ... 101
... الصفحة
الاقتداء بأفعال الله والتخلق بصفاته مأخوذ من الفلاسفة ... 105
ذم الرأى المذموم المبنى على غير أس ... 108
فى البدع أوصاف محذورة ومعانى مذمومة ... 111
البدعة التى لا يقبل معها عمل ... 111
صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه ... 115
الماشى إلى المبتدع والموقر له معين على هدم الإسلام ... 116
صاحب البدعة ملعون على لسان الشريعة ... 118
ويزداد من الله بعداً ... 119
البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام ... 119
البدع مانعة لشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ... 120
البدع رافعة للسنن التى تقابلها ... 121
- صاحبها ليس له توبة ... 122
( حاشية: توبة المبتدع ... 122
المبتدع يلقى عليه الذل فى الدنيا والغضب من الله تعالى ... 126
والبعد عن حوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ... 126
ويخاف على صاحبها سوء الخاتمة ... 127
واسوداد وجهه فى الآخرة ... 128
والبراءة منه ... 128
ويخشى عليه الفتنة ... 128
البدعة ضلالة، والمبتدع ضال مضل ... 129
الفرق بين المبتدع والعاصى ... 129
( الباب الثالث: ذم البدع والمحدثات عام، وذكر شبه المبتدعة التى احتجوا بها ... 133
المبتدع آثم مذموم ... 134
المجتهد فى البدع والمقلد ... 137
( حاشية: أصول الحكم على المبتدعة ... 137
اختلاف مراتب المبتدع فى الإثم ... 149
القيام على أهل البدعة بالحسبة ... 155
إرشادهم، هجرانهم، تغريبهم، سجنهم ... 156
ذكرهم بما هو فيهم والتحذير منهم، قتالهم، قتلهم ... 157
... الصفحة
ترك مناكحتهم وعيادتهم وشهود جنائزهم ... 158
حكم تقسيم البدع إلى حسن وقبيح ... 159
شبه من قالوا بهذا التقسيم ... 159
الجواب عن هذه الشبهات ... 163
حديث "من سن سنة حسنة.." ... 163
الجواب عما ذكروه من المصالح المرسلة ... 166
تقسيم العز بن عبد السلام والقرافى البدع إلى أقسام خمسة ... 170
الرد على القرافى فى الواجب والمحرم ... 178(1/91)
الرد على القرافى فى المندوب ...
حديث عمر: "نعمت البدعة هذه.." ... 178
الرد على القرافى فى المكروه والمباح ... 180
الرد على العز بن عبد السلام ... 181
الاحتجاج بعمل الصوفية والرد على ذلك ... 194
( الباب الرابع: مأخذ أهل البدع بالاستدلال ... 197
منها: اعتمادهم على الأحاديث الواهية ... 200
ومنها: ردّهم للأحاديث الصحيحة ... 208
ومنها: تخرصهم على الكلام فى القرآن والسنة مع العرو عن علم العربية ... 211
ومنها: انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى المتشابهات ... 213
( حاشية: عقيدة الشاطبى فى الصفات ... 214
من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر فى مقيداتها ... 223
ومنها: تحريف الأدلة عن مواضعها ... 228
ومنها: بناء الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل ... 231
ومنها: الغلو فى تعظيم الشيوخ ... 237
وأضعف هؤلاء حجة من استندوا إلى المنامات ... 238
معنى حديث: "من رآنى فى النوم فقد رآنى حقا.." ... 239
( الباب الخامس: فى أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما ... 247
تعريف البدعة الحقيقية والبدعة الإضافية والفرق بينهما ... 247
البدعة الإضافية على ضربين: ما يقرب من الحقيقة، وما يبعد عنها ... 248
( حاشية: فى البدعة الإضافية ... 248
... الصفحة
بيان قوله تعالى { ورهبانية ابتدعوها } ... 251
الأخذ بالتطوعات غير اللازمة ولا السنن الراتبة يقع على وجهين ... 256
الأخذ بالرفعة والتسهيل وأنه الأولى والأخرى ... 258
الالتزام النذرى وغير النذرى ... 261
الالتزام بما ليس فيه مشقة ولا حرج فى الحال ولكن فى المآل من مكروه
ابتداءً، لأنه مؤد إلى أمور جميعها منهى عنها ... 264
إشكالان قويان ... 272
الإشكال الأول: المعارضة بقيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى تفطرت قدماه ... 272
وفعل بعض الصحابة والسلف ... 273
الجواب عن ذلك: يحتمل ثلاثة أوجه ... 276
النظر فى تعليل النهى، وأنه يقتضى انتفاءه عند انتفاء العلة ... 281
حظوظ النفس قد يقال: إنها من حقوق الله على العباد ... 282(1/92)
الإشكال الثانى: التزام النوافل التى يشق التزامها مخالفة للدليل والمتعبد
بها -على ذلك- متعبد بما لم يشرع ... 283
الجواب ... 286
فصل: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ... } ... 291
فصل: ويتعلق بهذا الموضوع مسائل ... 294
قول بعض العلماء بأن الرهبانية مندوب إليها ... 299
أمثلة للخروج عن السنة إلى البدعة الحقيقية أو الإضافية ... 303
فصل: فى البدع الإضافية ... 307
( حاشية: د. سعيد بن ناصر الغامدى فى "حقيقة البدعة وأحكامها" ... 309
فإن قيل: كيف صارت هذه الأشياء من البدع الإضافية ... 315
الجواب ... 316
سكوت الشارع عن الحكم فى مسألة ما ... 317
فصل: ويمكن أن يدخل فى البدع الإضافية ... ... 325
أمثلة لهذا النوع ... 327
بقى النظر فى وجه ترك ما تركوا منه، ويحتمل وجهين ... 331
فصل: ومن البدع الإضافية التى تقرب من الحقيقة ... 334
فصل: البدع الإضافية، هل يعتد بها عبادات ؟ ... 343
... الصفحة
وبالجملة، فكل عمل أصله ثابت شرعًا ... 358
ولنرجع إلى ما كنا فيه ... 359
( الباب السادس: فى أحكام البدع، وأنها ليست على رتبة واحدة ... 365
( حاشية الشاطبى فى الموافقات: مقاصد الشريعة ... 367
الإشكال الأول: هل البدع المكروهة لا يعاقب فاعلها ولا يضلل ... 375
الإشكال الثانى: هل فى البدع صغائر وكبائر ... 383
الإشكال الثالث: هل يصح تقسيم البدع إلى صغائر وكبائر ... 385
ضابط البدعة الصغيرة ... 388
شروط البدعة الصغيرة ... 389
( الباب السابع: فى الابتداع هل يدخل فى الأمور العادية أم يختص
بالأمور العبادية ... 393
خلاف العلماء فى وقوع البدع فى الأمور العادية ... 393
رد الشاطبى والجمع بين الرأيين ... 395
إذا ظهرت المعاصى وفشا العمل بها هل تكون بدعة ... 411
أسباب نشوء البدع ... 418
( الباب الثامن: فى الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان ... 421
( حاشية: تعريف المصلحة المرسلة ... 421
حجية المصلحة المرسلة ... 422
أدلة القائلين بها ... 423
شروط العمل بالمصلحة المرسلة ... 426
الفرق بين البدع والمصلحة المرسلة ... 427(1/93)
حجة القائلين بالمصالح المرسلة والرد عليهم ... 429
أمثلة على المصالح المرسلة ... 430
الفرق بين البدع والاستحسان ... 441
تعريف الاستحسان عند أهل البدع وأدلتهم ... 441
تعريف الاستحسان عند أهل السنة ... 444
أمثلة الاستحسان ... 444
رد الشاطبى على المبتدعة فى الاستحسان ... 448
رد شبهة استفتاء القلب ... 452
... الصفحة
( الباب التاسع: فى السبب الذى لأجله افترقت فرق المبتدعة
عن جماعة المسلمين ... 459
سبب الاختلاف ... 460
فيما يكون الاختلاف ... 460
الأوجه التى يقع عليها الاختلاف ... 461
أسباب وقوع الاختلاف المؤدى إلى الابتداع ... 466
هل إجماع أهل المدينة حجة ... 468
الرد على إلحاق الشاطبى المختلفين فى أصول الدين بالقسم الأول
فى الذم والضلال ... 470
مسائل حديث الافتراق ... 474
المسألة الأولى: حقيقة هذا الافتراق ... 474
المسألة الثانية: الافتراق كان بسبب البدع فقط أم المعاصى أيضاً ... 475
المسألة الثالثة: هل كل هذه الفرق خارجة عن الملة ... 478
المسألة الرابعة: هل هذه الفرق هى المبتدعة فى العقائد فقط
أم العمليات أيضأً ... 482
المسألة الخامسة: هل هذه الفرق هى المبتدعة فى الكليات فقط
أم فى الجزئيات أيضاً ... 486
المسألة السادسة: إذا كانت بعض هذه الفرق كافرة كيف يعدون من الأمة ... 487
المسألة السابعة: تعيين هذه الفرق ... 488
المسألة الثامنة: علامات وخصائص هذه الفرق ... 495
المسألة التاسعة: الاختلاف فى الروايات فى عدد فرق اليهود والنصارى ... 501
المسألة العاشرة: هل فى اليهود والنصارى فرقة ناجية أم لا ... 503
المسألة الحادية عشر: اتباع اليهود والنصارى يكون فى أعيان البدع
وكذلك أمثالها ... 505
المسألة الثانية عشر: هل الوعيد أبدى أم لا، وهل نافذ أم فى المشيئة ... 507
المسألة الثالثة عشر: معنى قوله صلى الله عليه وسلم (إلا واحدة) ... 509
المسألة الرابعة عشر: أسباب تعيين الفرقة الناجية ... 510
المسألة الخامسة عشر: هل الوعيد ينتظم المبتدع فى أمور جزئية ... 521(1/94)
المسألة السادسة عشر: المراد بالجماعة ... 523
... الصفحة
المسألة السابعة عشر: الرد على من ظن الجماعة هى العوام
وإن لم يكن فيهم عالم ... 528
( حاشية: من كتاب دراسات حول الجماعة والجماعات ... 530
المسألة الثامنة عشر: بيان معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - "وإنه سيخرج
فى أمتى أقوام تجارى..." ... 551
المسألة التاسعة عشر: علام تدل الإشارة بتلك فى الحديث ... 553
المسألة العشرون: هل كل من دخل فى بدعة يجرى هواه فيه
مجرى الكلب بصاحبه ... 553
المسألة الحادية والعشرون: هل يختص الإشراب ببعض البدع دون بعض ... 556
المسألة الثانية والعشرون: الفوائد المستفادة من تشبيه النبى - صلى الله عليه وسلم - لها
كلها بداء الكلب ... 558
المسألة الثالثة والعشرون: سبب بعد صاحب البدعة عن التوبة ... 559
المسألة الرابعة والعشرون: فى إمكان توبة المبتدع ... 560
المسألة الخامسة والعشرون: القياس الجائز والقياس الغير جائز ... 562
المسألة السادسة والعشرون: لم عين النبى - صلى الله عليه وسلم - الوصف ولم يعين
الموصوف فى تعيين الفرقة الناجية ... 566
( الباب العاشر: فى بيان معنى الصراط المستقيم الذى انحرفت عنه
سبل أهل الابتداع فضلت عن الهدى بعد البيان ... 571
تعيين الفرقة الناجية نظرى لا ضرورى ... 571
أسباب وقوع الإحداث فى الشريعة ... 573
النوع الأول: الجهل بأدوات الفهم ... 574
النوع الثانى: الجهل بالمقاصد ... 579
النوع الثالث: تحسين الظن بالعقل ... 582
النوع الرابع: اتباع الهوى ... 584
( أسئلة على كتاب الاعتصام للشاطبى ... 591(1/95)