شرح تجريد التوحيد للمقريزي
لفضيلة الشيخ العلامة : سليمان بن ناصر العلوان " حفظه الله "
تفريغ :
أحد طلبة العلم بجدة
مراجعة وتصحيح /
أبو عبد الله ، أبو المهند
- كتب بالكمبيوتر على نفقة بعض المحسنين فجزاهم الله خيراً -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
فهذا شرح لفضيلة الشيخ العلامة / سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله ، على تجريد التوحيد المفيد للإمام المقريزي ، وكان أحد الإخوة الفضلاء من طلبة العلم بجدة قد فرغه بخط يده وأوصله إلينا الأخ الفاضل / أبو سليمان ولكن هذا التفريغ كان فيه نقص قليل وسقط وأخطاء إملائية ليست بالكثيرة ، فتبرع بعض المحسنين بتكلفة كتابته بالكمبيوتر ، وقمنا بعد ذلك بمراجعته وإعادة سماعه وتصحيح الخطأ ، وإكمال السقط ، وبذلنا فيه جهداً ، وكنا نرى أن لا نخرجه حتى يأذن لنا الشيخ حفظه الله ، وقد فرغنا من مراجعته صبيحة يوم الأحد 15 / 3 / 1429هـ في الساعة 6.23 ، ولكن بعد إلحاح كبير من الإخوة وفقهم الله رأينا أن نخرجه لتعم الفائدة ، وقد رأينا أعمال أخرجت للشيخ لم يبذل فيها مثل ما بذلنا ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،،
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا ،،،
إخوانكم /
أبو عبد الله و أبو المهند
قال الشيخ سليمان العلوان - حفظه الله -
((1/1)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين : هذا كتاب تجريد التوحيد المفيد للعلامة أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي يُكنى بأبي العباس وقيل : بأبي محمد البعلبكي الأصل و قد ولد بمصر بعد الستين وسبعمائة بِسُنَيّات وقد قيل أنه ولد سنة ستٍ وستين وسبعمائة ، تمذهب على الفقه الحنفي ثم تحول عنه إلى الفقه الشافعي وقد ذكر عنه الحافظ ابن حجر - رحمه الله - بأنه كان إماماً بارعاً متقناً ضابطاً ديناً وقد محباً لأهل السنة والجماعة وقد كان يميل إلى الحديث والعمل به حتى نسب إلى أهل الظاهر وقد أثنى عليه غير واحدٍ من أهل العلم ويمكن مراجعة ذلك في التراجم. فلا نطيل الحديث عنه ففي أوائل الكتاب ترجمةٌ كافيةٌ له وقد توفي سنة خمسٍ وأربعين وثمانمائة .)
[ وها نحن نورد لك ترجمة موجزة للإمام المقريزي من مقدمة الكتاب بتحقيق الشيخ / علي العمران ].
ترجمة موجزة للإمام المقريزي (1)
اسمه ونسبه :-
أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تميم المقريزي ، تقي الدين أبو العباس ، وقيل أبو محمد البعلبكي الأصل ، المصري المولد والوفاة ؛ الحنفي الشافعي .
مولده :
قال الحافظ ابن حجر : إنه رأى بخط المقريزي ما يدل على أن سنة ولادته هي سنة ست وستين وسبعمائة . ( 766 ) .
نشأته وطلبه للعلم :
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : (( نشأ نشأةً حسنة . وحفظ كتاباً في مذهب أبي حنيفة تبعاً لجدّه لأمِّه الشيخ شمس الدين ابن الصائغ الأديب المشهور ، ثم لما ترعرع وجاوز العشرين ، ومات أبوه سنة ست وثمانين تحول شافعياً ، وسمع الكثير من مشائخ وقته ، كالبرهان الأمدي ، والبلقيني ، والهيثمي والزين العراقي . وتفقه وبرع ، ونظر في عدة فنون ، وأولع بالتاريخ فجمع منه شيئاً كثيراً )) .
من صفاته وأخلاقه :
__________
(1) هذه الترجمة لم يذكرها الشيخ فقط ذكر ما بين الأقواس في البداية وإنما ذكرناها للفائدة .(1/2)
عرض عليه قضاء دمشق مراراً في أوائل الدولة الناصرية ، فامتنع من قبوله ، كان منقطعاً في داره ، ملازماً للعبادة والخلوة ، قلَّ أن يتردد إلى أحدٍ إلا لضرورة .
من ثناء العلماء عليه :
قال الحافظ ابن حجر : (( كان إماماً بارعاً مفتياً متقناً ضابطاً ديناً خيَّراً ، محباً لأهل السنة ، يميل إلى الحديث والعمل به ، حتى نسب إلى أهل الظاهر ، حسن الصحبة حلوة المحاضرة )) ، وقال ابن تغري بردي : (( الشيخ الإمام العالم البارع عمدة المؤرخين ، وعين المحدثين ... )) , وبالجملة فثناء العلماء عليه كثير يضيق المقام عن استيفائه .
وفاته :
توفي في يوم الخميس سادس عشر شهر رمضان سنة خمس وأربعين وثمانمائة . عن نحو ثمانين سنة رحمه الله تعالى .
- - -
يعتبر كتاب تجريد التوحيد المفيد من أنفع الكتب وأفضلها في توحيد الإلهية وقد قال غير واحد بأنه أول كتاب أفرد في توحيد الإلهية (1) . والكتب المؤلفة في توحيد الأسماء والصفات كثيرة جداً . بينما الكتب المؤلفة المفردة في توحيد الإلهية كثرت في تصانيف المتأخرين ، بينما لا تراها في تصانيف المتقدمين إلا قليلاً . وأقصد الإفراد وإلا فلا يخلو كتاب من كتب أئمة السلف من تقريرٍ بتوحيد الإلهية .
فإن توحيد الإلهية هو الأصل الذي أرسلت به الرسل ، وأنزلت من أجله الكتب ، ومن أجله جُرِدت سيوف الجهاد ، وفيه افترقت الناس إلى شقي وسعيد وما أرسل الله رسولاً ولا بعث نبياً إلا لتقرير هذا التوحيد . قال تعالى : { أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ، والعبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .
__________
(1) وقد ذكر هذا الشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله - كما نقله عنه الشيخ : علي العمران في تحقيقه لتجريد التوحيد المفيد .(1/3)
قوله : { واجتنبوا الطاغوت } أي : ابتعدوا واتركوا واكفروا بالطاغوت والطاغوت : مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد .
والطواغيت كثيرون . وصفة الكفر بالطاغوت كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: ( أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وأن تتركها وأن تبغضها وأن تكفر أهلها وأن وتعاديهم ) .
فلا يستقيم إسلام عبدٍ حتى يكفر بالطاغوت كما هو صريحُ القرآنِ وصحيح الإمام مسلم .
ففي صحيح الإمام مسلم من طريق الفزاري عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حَرُمَ مالهُ ودمهُ وحسابهُ على الله عز وجل ) .
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في مسائل كتاب التوحيد ( وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال بل ولا معرفة معناها مع لفظها بل ولا الإقرار بذلك بل ولا كونه لا يدعوا إلا الله وحده لا شريك له بل لا يحرم دمه ولا ماله حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله ، فإن شك أو توقف لم يحرم دمه ولا ماله فيا لها من مسائل ما أعظمها ، وأجلها ، ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع ) .
المؤلف رحمه الله تعالى : [ استقى معظم معلومات هذا الكتاب من كتب الإمامين العالمين : شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى وقد أبدع المؤلف رحمه في ترتيب هذا الكتاب وتنسيقه وتأليفه .وقد لقي الكتاب قبولاً في أوساط العلماء منذ أن كُتبَ إلى عصرنا هذا ].(1/4)
وقد تم اختيار هذا الكتاب لتدريسه من أجل أهمية هذا الباب ، ومن أجل العناية بتوحيد الإلهية واقتداءً بأنبياء الله ورُسُلِه ، والجادة المتبوعة عند أتباعهم ، ولِمَا نراه في هذا العصر من كثرة الانحرافات في هذا الجانب ، ومن قِلة الاعتناء بتوحيد الإلهية ومن التقليل من شأنه حيث ظهر الشرك بألوانه ، وتنوعت البدع .وفشت المنكرات فعظم الخطب .
وهذا كله ناتج عن الإعراض عن هذا التوحيد ، وعن معرفته والعناية بحقوقه ومكمِّلاته ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يُشِيد بهذا الأمر في مبدأ دعوته ولا غرابه في ذلك ولكن وفي آخر حياته تنبيهً وإعلاماً على أهمية هذا الأمر وأن الإنسان مهما بلغ من العلم فإنه بحاجه إلى هذا توحيد الإلهية . ولا يتصور الإنسان أنه إذا لم يعبد قبراً ولا وثناً فقد وحَّد الله حق التوحيد كما يتصوره أغبياءُ العالم ممن يقول : ( نحن بخير مادامت القبور غير معبودة في بلادنا ) .
فيه ما هو شر من كفر القبور من تأليه غير الله ، وتعظيم المخلوقين بلون آخر ، وطاعة الأحبار والرهبان ، فيما حرم الله ، وفي استحلال ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله وفي الحكم بغير ما أنزل الله ، وفي التولي لأعداء الله وفي إسلام بلاد المسلمين لليهود والنصارى ، وفي التخلي عن نصرة المسلمين مع القدرة على ذلك ، بل وإسلام أبناء المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين ليفتنوهم عن دينهم فيهودوهم أو ينصروهم وفي غير ذلك مما هو قد يكون هو كفر أكبر أو دون ذلك .
- - -
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين ، وعلى آله
((1/5)
1) استفتح المؤلف رحمه الله تعالى كتابه بالبسملة ، اقتداءً بكتاب الله الكريم وتأسياً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بكاتباته ومراسلاته . ففي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عُبَيد الله بن عبد الله ابن عتبه عن ابن عباس رضي الله عنهما في الكتاب الذي كتبه رسول - صلى الله عليه وسلم - ودفعه دحية - رضي الله عنه - إلى عظيم الروم وفيه : ( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم أسلم تسلم ... إلى آخر الحديث ) .
الشاهد قوله ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . حيث استفتح هذا المكتوب بالبسملة إعلاماً بسنيتها .
تشرع كتابة البسملة في كل مكتوب سواء كان شعراً أو غيره ما لم يَشُبْ الشعر غزلُ ماجن أو غلوٌ أو شيء من المحرمات ، فإذا كان الشعر في نصرةِ أهل الإسلام وفي نظم كتب الفقه والعقيدة ونحو ذلك فلا بأس أن تكتب بسم الله الرحمن الرحيم في أوله .
ويستدل بعض المؤلفين في هذا الباب بحديث ( كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع ) وهذا الخبر ضعيف بالاتفاق وقد رواه الخطيب في الجامع والسُبكي في طبقات الشافعية وفي إسناده ابن الجَنَدي وهو ضعيف الحديث ، وفي الخبر اضطراب أيضاً . والمحفوظ في هذا الخبر حديث : ( كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ بالحمد ) . على إرساله وهو المحفوظ ، أما الأول فهو منكرٌ جدا ولا يصح .(1/6)
المؤلف رحمه الله تعالى ابتدأ بالبسملة والحمدلة ، وقد جمع بينهما ولا بأس على الصحيح في الجمع بينهما ما لم يُتخذ ذلك عادة ، و الأولى الاستفتاح بهذا تارة وبهذا تارة وإذا اجمع بينهما فلا بأس والمكتب يختلف عن المنطوق ، والسنة في المنطوق البُداءة بالحمدلة هكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتح خُطَبَه كما في صحيح الإمام مسلم حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله وفي حديث عاصم ابن كُلَيب عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كُل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليدِ الجَذْمًاء ) رواه أبو عيسى الترمذي وأبو داودٍ وفي صحته اختلاف ولو اقتصر في المكتوب على البسملة لكان مصيباً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة كان يَقْتَصِرُ عليها وإذا ثنى بالحمدلة ففي حديث أبي إسحاق السَبيعي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : ( كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا خطبة الحاجة كما يعلمنا السورة من القرآن (( إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله )) وفي رواية (( وأشهد أن محمداً عبده ورسوله )) رواه أهل السنن وغيرهم وإسناده صحيح.
وصحبه أجمعين(( وبعد )) (( فهذا كتاب جَمُّ الفوائد )) (( بديع الفرائد )) (( ينتفع به )) (( من أراد اللهَ والدارَ الآخرةَ )) .
(1) وفي بعض النسخ [ أما بعد ] ، أي مهما يكن من شيء بعد ، ويجب الإتيان بالفاء بعد أما بعد على رأي أكثر النحوين .
وأجاز جماعة البداءه بدون الفاء ، والإتيان بالفاء أحسن .
(2) فقد وافق الوصف الموصوف ، فمن تأمل في الكتاب وقَرَأًه ودَرَسَه علم كثرة فوائده وغزارة علمه ولاسيما أنه يتحدث عن التوحيد الذي أُرسلت به الرسل .
((1/7)
3) وإبداعهُ يتمثل في كثرة المعلومات وبتنوعها وبحسن العرض والأداء وبالبداءة بما يحتاجه المسلم ولا يستغني عنه طرفة عنه كما أنه رحمه الله قسم التوحيد إلى أعمال جوارح و أعمال قلوب ، والمسلم بحاجة إلى الأمرين ، فإن اعتقد بقلبه ولم يعمل بجوارحه لم يُحكم بإسلامه ، وإذا عَمِلَ بجوارحه ولم يعتقد بقلبهِ فهو منافقٌ خالص .
(4) أي ينتفع بالكتاب .
(5) الله نصبٌ ، والدار الآخرة : عطف على لفظ الجلالة ، فلا ينتفع بالكتاب إلا من قصد بعمله وجه الله وأراد بقراءته وقراءة أمثاله الدار الآخرة ، لا يريد بذلك لا عرضاً من عروض الدنيا ولا متاعاً زائلا ، يقصد بذلك أن يُخرج نفسه من ظلمات الجهل إلى النور ، وأن يعرف التوحيد الذي أرسلت به الرسل ، فإن الرسل ما أرسلوا بتوحيد الربوبية فإن المشركين كانوا مقرين به .
على وجود فئآم من أبناء هذا العصر يكفرون بتوحيد الربوبية كما أنه وجد في المشركين الذين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من يكفرون ببعض نوعيات توحيد الربوبية كالذين قالوا : ( مطرنا بنوء كذا وكذا ) فهذا كفرٌ بتوحيد الربوبية . كما أن هناك طوائف من المشركين وغيرهم يكفرون بتوحيد الأسماء والصفات وحينئذٍ لابد أن نقرر كل أنواع التوحيد وتكون العناية بتوحيد الإلهية لأنه يستلزم الإيمان بتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ، إذ لا يُعقل رب معبود لا يتصف بصفات الكمال من السمع والبصر والإرادة والعلم والقدرة والحياة والرحمة والغضب والفرح ونحو ذلك من صفات الله جل وعلا التي يجب إثباتها إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل لأن الله جل وعلا { ليس كمثله شيء } لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله { وهو السميع البصير } وهذه الآية ردٌ على المعطلة والممثلة فقوله جل وعلا : { ليس كمثله شيء } ردٌ على الممثلة وقوله { وهو السميع البصير } ردٌ على المعطلة .
(((1/8)
سميته )) (( كتابَ )) (( تجريد التوحيد المفيد )) (( واللهَ أسألُ العون على العمل به)) .
وقد شرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى هذه الآية في مجلد ، ذكر ذلك غيرُ واحدٍ ممن ترجم لأبي العباس - رحمه الله - والموجود في كلامه من المطبوع شيء كثير في تفسير هذه الآية وفي توضيح معناها وكثرة ما فيها من الفوائد وبديع الفرائد .
(1) أي سميت هذا الكتاب .
(2) كتاب على النصب ويجوز على الحكاية .
(3) تجريد التوحيد المفيد ، التوحيد لِمَن يُجَرد ؟ لا نجرد التوحيد إلا لله ، فلا نصرف شيء منه للمخلوقين ، فإن من عبد المخلوق كأن يسجد له أو يطيعه دون الله ، أو ينذر له أو يذبح له فهذا مشرك ولا عَرَف التوحيد .
فإن التوحيد مصدر وحَدَ يُوحدُ توحيداً فهو موحد ، ولا يسمى العبدُ موحداً إلا إذا أفرد الله بأفعاله .
فلواحدٍ كن واحداً في واحدٍ ... أعني سبيل الحق والإيمان
(4) الله : لفظ الجلالة نصب ، أسألُ : فعل مضارع .
أسأل الله العون على العمل به ، أي على العمل بما في هذا الكتاب ، لما فيه من أدلة الكتاب والسنة ، على ملاحظات يسيره ذكرها المؤلف سوف يأتي إن شاء الله التنبيه عليها .
لكن في الجملة هذا الكتاب نافعٌ ومفيد ومن أنفع الكتب في هذا الجانب .
- - -
(( اعلم أن الله سبحانه هو ربُ كل شيء ومالكه وإلهه )) (( فالرب مصدر رب يَرب ربا )) (( فهو رابٌ فمعنى قوله تعالى : { رب العالمين } (( رابُّ العالمين )) (( فإن الرب سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد لعباده القائم بتربيتهم وإصلاحهم )) المتكفل بصلاحهم من خلق ورزق وعافية وإصلاح دين ودنيا .
(1) اعلم : من العلم وهو الاعتقاد الجازم بعد تصور الشيء على حقيقته .
(2) رب كل شيء هذا من توحيد الربوبية ، فلا بد من الاعتقاد بأن الله رب كل شيء ومن اعتقد أن مع الله إلهٌ آخر فهو مشرك .
(3) ومالكه ، قال تعالى : { لله ملك السموات والأرض ألا له الخلق والأمر } .
((1/9)
4) والإله هو : الذي تألهه القلوب محبتاً وتعظيماً وإجلالاً ، يُقال : أله يأله بالفتح فيهما إلاهةً إذا عبَد يعبد عبادةً وفي معنى قوله جل علا : { الحمد لله رب العالمين } ، رب العالمين : قيل الرب هنا بمعنى المالك ، كما يقال : فلان رب الدابة ماذا يعنى هذا ؟ يعني بأنه المالك ، فلان رب الدابة أي مالك الدابة .ويطلق الرب بالمعنى الذي ذكره المؤلف رحمه تعالى بمعنى (( مربي العالمين )) .
(5) الرب إذا عُرف بالألف واللام وإذا أطلق فلا يطلق إلا على الله جل وعلا ، فلا يجوز أن تقول (( الرب زيد )) إنما يطلق الرب مضافا ، يقال : رب الدابة ، رب الدار ، رب المتاع ، حيث يقيد يتضح المقصود من الإطلاق . فلا يكون في الإطلاق لبْسٌ حمايةً لمقام التوحيد .
(6) وقوله : (( يَرُبُ )) بضم الرَاء . فمعنى قوله تعالى { إ_رب العالمين } . قيل الرب بمعنى : المالك كما سبق . وقيل الرب بمعنى : الإله . وقيل الرب : هو الخالق الموجد لعبادة القائم بتربيتهم وإصلاحهم.
ولا مانع أن يشمل اللفظ كل هذه المعاني فإن اللفظ الواحد يشتملُ على عدة معاني فيحمل على جميعها فهي متلازمة ومترابطة وأخيتها إلى مقام واحد هو معرفة الرب وتوحيده دون غيره .
والإلهية تقدم أن الإله هو الذي تألهه القلوب محبةً وتعظيماً وإجلالاً مصدر أله يأله إلاهةً بالفتح فيهما إي أله يأله: إذا عبد يعبد عبادةً فلا بد أن تعبد الله وهذا توحيد الإلهية وتوحيد الإلهية هو إفراد الله بأفعال العباد .
فإن قال قائل من أين أخذنا توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ؟ كما قال ذلك بعض متأخري المعتزلة والأشاعرة ؟(1/10)
فالجواب : هذا كله مأخوذٌ من القرآن الكريم ، وفي فاتحة الكتاب التي استفتح الله جل بها كتابة جميع أنواع التوحيد . قوله تعالى : { الحمد لله رب العالمين } إذا قلنا هنا الرب بمعنى المربي أو المالك فهذا توحيد الربوبية ، وإذا قلنا الرب بمعنى المعبود فهذا توحيد الإلهية ، قوله : { الرحمن الرحيم } هذا توحيد الأسماء والصفات ، قال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } فهاتان آيتان من كتاب الله جل وعلا اشتملنا على جميع أنواع التوحيد . والحقيقة أن القرآن كله من فاتحته إلى خاتمته يقرر هذا الأصل ويقرر التوحيد بأنواعه .
- - -
(( والإلهية كون العباد يتخذونه سبحانه محبوباً ومألوهاً )) (( ويفردونه بالحب والخوف والرجاء .. )) .
(1) لأن العبادة لا تصح إلا مع الحب والتأله كما قال ابن القيم رحمه الله :-
وعبادة الرحمن غايةُ حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادةِ دائرٌ ... مادار حتى قامت القطبان
ومدارهُ بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطانِ
(2) المؤلف رحمه الله لم يقصد بذلك الحصر . بل قصد التنبيه إلى مهمات من توحيد العبادة التي يجب إفراد الله جل وعلا بها قوله فتفرد الله بالحب فلا تسوي به وبين خلقه ، وغيرُ الله يُحَبُ تبعاً لمحبة الله ، فنحن نحب الله ونحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لكن نحب الرسول تبعاً لمحبة الله نحب أولياء الله نحب الصالحين من المؤمنين تبعاً لمحبة الله ، فإن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى ملة إبراهيم ومن أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان في حديث يحيى بن حارث الذماري عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامه في سنن أبي داود ،والقاسم بن عبد الرحمن فيه كلام لأهل العلم رحمهم الله.
((1/11)
3) قوله (( والخوف )) فلا تخاف إلا الله ولا ترجوا إلا الله ، فقد يخاف الإنسان من المخلوق كأن يخاف أن يبطشَ به أو يخاف من السبع وهذا لا يناقض التوحيد ولا يخل بالتوحيد ، إلا إذا خاف المخلوق بقلبه ووجل منه أعظم من وجله من ربه ، وهذا مراتب فمن ذلك ما يناقض التوحيد ومن ذلك ما يناقض كمال التوحيد الواجب ومن ذلك ما يناقض كمال التوحيد المستحب .
(4) قوله (( الرجاء )) { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً }
- - -
(( والإخبات والتوبة والنذر .... )) .
(1) قوله الإخبات ، هو الخشوع ، يجب الخشوع لله وإفراد الله عز وجل بذلك قال تعالى : { قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون } والخشوع قيل : يكون بالجوارح ويكون بالقلب بخلاف الخشية: فإنها من أعمال القلوب ، وسوف يأتي إن شاء الله ذكر ذلك كله مفصلاً بأدلته وما يتعلق بذلك .
(2) قوله : { والتوبة } فلا تتوب للمخلوق كما تفعلهُ الصوفيه حين يتوب المُريد بين يدي شيخه يحلقُ رأسهُ بين يدي شيخه توبةً له فإن قال قائل كما جاء في البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت : ( أتوب لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ) فالتوبة هنا : بمعنى الرجوع أي أرجع إلى أمر الله وأرجع إلى أمررسوله - صلى الله عليه وسلم - .
(3) قوله : { النذر } والنذر: هو إلزام المكلف نفسه بعبادة لم يوجبها عليه الشارع . وفي صحيح البخاري من حديث القاسم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( من نذر أن يطيعَ الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيَ الله فلا يعصه ) .
فإذا نذر نذر طاعة يجب عليه الوفاء بذلك ، وإذا نذر نذر معصية فلا يجب الوفاء بذلك إجماعاً بل لا يجوز الوفاء بذلك اتفاقا فهل يكفر عن يمينه ؟
قولان لأهل العلم ، أصحهما : الكفارة كما في حديث عقبة في صحيح الإمام مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كفارة النذر كفارةُ يممن ) .(1/12)
فمن نذر للأولياء ونذر للأموات كأن يقول : للبدوي أو لعلي أو للحسن أو للحسين أو لفلان عليَّ نذر أنذر له ولأجله فهذا مشركٌ شركاً أكبر ، لأن النذر عبادة وصرف العبادة للمخلوق شرك ، قال تعالى : { يوفون بالنذر } أثنى الله عليهم بالوفاء بالنذر ، وقوله : { وليوفوا نذورهم } قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من نذر أن يطع الله فليطعه ) وهذا العبد الذي لا يعرف ربه ولا يعرف التوحيد ولا يعرف ما أرسلت به الرسل ينذر للأموات والغائبين ويقول للبدوي عليَّ نذر ما يقول لله علىَّ نذر ، أو يقول لعلي عليَّ نذر أو للحسن علىَّ نذر هذا شرك أكبر . ولو قال للنبي علىَّ نذر لكان مشركٌ شركً أكبر فلا فرق .
فلا يتصور الإنسان أنه إذا نذر للأولياء أو للصالحين أو للأنبياء أو المقربين صار مباحاً ، وإذا نذر للأشرار والمشركين صار محرماً فلا فرق بين أن تنذر أو تعبد الأنبياء والمرسلين أو أن تعبد الأشرار والمشركين .
قال تعالى : { ومن يدعوا مع الله آله آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } سماهم الله جل وعلا كافرين .
(( والطاعة والطلب والتوكل ونحو هذه الأشياء ، فإن التوحيد حقيقته : أن ترى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع الالتفات عن الأسباب والوسائط ، فلا ترى الخير والشر إلا منه تعالى )) .
(1) والطاعة والطلب ونحو هذه الأشياء أي كلها يجب صرفها لله ويجب إفراد الله جل وعلا بها ، فقد قال الله جل وعلا عن بعض أنبيائه ورسوله { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين } وقال { ولا تدعوا من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } وقوله : { فاستقم كما أمرت } بهذا أمرنا الله جل وعلا .
إذا انقطعت أطماع عبدٍ عن الورى ... تعلق بالرب الكريم رجاءهُ
فأصبحَ حراً عزةً وقناعةً ... على وجهه أنواره وضياِءهُ
وإن علقت في الخلق أطماع نفسه ... تباعد ما يرجوا وطال عناءهُ(1/13)
فلا ترجوا إلا الله في الخطب وحده ... ولو صح في خل الصفاء صفاءهُ
فيجب التعلق بالله ورؤية الأمور كلها من الله وهذه الرؤية تقطع الالتفات بالقلب عن الأسباب والوسائط ، لكن لا مانع من فعل الأسباب بالجوارح ولكن القلب متعلق بالله جل وعلا وفي أشياء من الأسباب لا يجوز فعلها أصلاً ، كما لو قال شخص أريد أن أتخذ صاحب القبر واسطة بيني وبين الله أو أريد أن أتخذ محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - واسطة بيني وبين الله لأنه لم يعص الله قط ، وهذا مقرب عند ربه واصطفاه الله جل وعلا على أنبيائه ورسله ، فأنا أريد أن أجعله واسطة فأسأله إغاثة اللهفات وإزالة الكربات وتفريج الملمات ، أو أريد أن أجعله أن يشفع لي عند ربه جل وعلا ، فأقول يا رسول الله أشفع لي عند ربك فأنا لا أسأله مباشره ، ولكن أقول يا رسول الله أشفع لي عند ربك ، فإذا قال يا رسول الله اشفع لي أو يا رسول الله اغفر لي أو يا رسول الله ارحمني أو يا رسول الله أُريد كشف الكروب وإزالة الخطوب فهذا مشركٌ شركاً أكبر بالإجماع .
وإذا قال أنا لا أسأل الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن أريد أن يقربني إلى الرب وأن يشفع لي عند الرب ، فلا أقول يا رسول الله اشفع لي ، ولكن أقول : يا رسول الله أشفع لي عند ربك ، ويا رسول الله سَلْ الله لي المغفرة ، أو سَلْ الله لي الشفاء . فبعض أهل العلم قال : هذا ليس بالشرك الأكبر بل هو من البدع العظيمة ، ولا يصل إلى حد الشرك الأكبر ، لأنه لم يسأل الميت ولكن أعتقد أن هذا الميت حيٌّ في قبره ، فأراد منه أن يسأل الله ولم يسأله .
وهذا رأى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ذكره في المجلد الأول من الفتاوى .(1/14)
القول الثاني : انه شركٌ أكبر فإنه لا فرق بين كون المرء يسأل الميت ويطلب الحاجة منه أو يطلب منه أن يقضي حاجته عند ربه ، قال تعالى : { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم } وقوله : { ولا تدعوا من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } هل ينفع ؟ لا يستطيع النفع . هل يضر؟ لا يستطيع أن يملك ضرك: { فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } أي المشركين .
وظاهر هذه الآية وما قبلها تفيد أن سؤال الأموات شركٌ أكبر ولو قال أنا ما أطلب منه ، ولكن أطلب منه أن يشفع لي عند ربه ، أو يسأل الله لي قضاء الحاجات وتفريج الملمات ، ولو قلنا بأنه ليس بشرك أكبر ، فهو من البدع العظيمة ومن الشرك الذي لا ينزل عن الشرك الأصغر . ويجب إنكاره والتغليظ فيه وإعلام الناس بما أوجب الله عليهم وتحذيرهم عما نهاهم الله عنه فلا ينبغي الجهل بذلك .
قول المؤلف : ( فلا ترى الخير والشر إلا منه تعالى ): أي أن الخير والشر مخلوقان لله جل وعلاء ومن الله جل وعلا الشر لا يأتي في كلام الله ولا في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي إضافة الشر وحده لله ، لا يأتي إضافة الشر وحده إلى الله في كلام الله ولا في كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
بل لا يرد ذكر الشر إلا على أحد ثلاثة وجوه ، كما أفاد بذلك شيخ الإسلام وغيره من أكابر المحققين نقول :
أولاً : دخوله في عموم المخلوقات كما قال تعالى : { الله خالق كل شيء } .
ثانيا : إضافته إلى السبب كقوله تعالى : { من شر ما خلق } .
ثالثاً : أن يحذف فاعله كقوله تعالى: { وأنا لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } .
ولا يمكن أن ترى في أسماء الله الحسنى اسماً يتضمن الشر إنما يرد هذا في مفعولات الله تعالى لا في أسمائه ولا في صفاته وحينئذٍ يتضح معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والشر ليس إليك ) ، أي لا يدخل لا في أسمائك ولا في صفاتك .(1/15)
ومن ظن أن معنى قوله : - صلى الله عليه وسلم - : ( والشر ليس إليك ) أي ليس من مخلوقاته ، فقد غلط غلطاً بيناً ، لأن بعض الطوائف تقول : إن الشر غير مخلوق لله ، وهذا ظلال عظيم .
فإن قال قائل : جاء في أسماء الله المنتقم ويتضمن الشر !!
فنقول : إن المنتقم ليس اسما من أسماء الله ، ومن جعل المنتقم اسماً من أسماء الله فقد غلط ، وإن قالته بعض الطوائف .
فإن المنتقم لم يرد في كتاب الله إلا على وجه الإثبات ، قال جل وعلا : { عزيزُ ذو انتقام } لم يرد اسماً ولا يصح جعله اسماً كما ذكر ذلك أكابر المحققين .
وأسماء الله تحتها صفات ، وتحتها معاني .
أسمائه أو صاف مدحٍ كلها ... مشتقةٌ قدْ حملت لمعانِ
إياك والإلحاد فيها إنه ... كفرٌ معاذَ اللهِ من كفرانِ
وحقيقةُ الإلحاد فيها ... الميل بالإشراك والتعطيل والنكرانِ
الخلاصة أن المنتقم ليس أسماً في أسماء الله ولا يصح جعله اسمٌ من اسما الله .
- - -
( وهذا المقام يثمر التوكل وترك شكاية الخلق وترك لومهم)( والرضا عن الله تعالى والتسليم لحكمه )
(1) قوله : { وهذا المقام } أي مقام التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة ، أن ترى الأمر كلها من الله رؤية تقطع الالتفات عن الأسباب والوسائط .
(2) قوله { يثمر التوكل } أي التوكل على الله والاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه ، فلا يلتفت إلى المخلوقين لا يمنةً ولا يسره . قال ابن عقيل رحمه الله : ( أنا ما أقيس إيماني عند الازدحام عند أبواب المساجد ولا في الحج (( لبيك اللهم لبيك )) انظر إيماني وأقيسه أين يفزع قلبي عند حدوث النكبات والشدائد ) .فإن بعض الناس حين تُلِمُ به ملمة ، وحين تحدث له مصيبة يفزع قلبه إلى المخلوقين ، ولا يلتفت إلى الله جل وعلا ولا يفزع إلى الله جل وعلا .(1/16)
قال تعالى : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } وإبراهيم - عليه السلام - حين أُلقي في النار قال : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) لم يلتفت إلى المخلوقين ، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قيل له : ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) أي كافينا الله { ونعم الوكيل } هو الذي نفوض إليه أمرنا وهو الذي يستطيع تخليصنا من عدونا . ولو اجتمع الجن والإنس على نفع الرجل ، ولم يرد الله نفعه ما استطاعوا ، وعلى الإضرار به ولم يرد الله ضره ، ما استطاعوا ذلك وفي حديث حنش الصنعاني عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( يا غلام إني أعلمك كلمات أحفظ الله يحفظك أحفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وأعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف )) رواه أبو عيسى وقال: هذا حديث حسن صحيح هذا المقام اسمه التوكل .
(3) وترك الشكاية للخلق وترك لومهم لأن القلب معلق بالله ويعلم أن الخلق لا يستطيعون جلب نفع لم يرده الله ولا يستطيعون دفع شيء عنه لم يرده الله جل وعلا الأمر بيد الله: { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا وهو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فنحن نفعل الأسباب الموجودة شرعاً التي أذن الله جل وعلا بها بجوارحنا ونتوكل على الله جل وعلا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ترك الأسباب بالكلية قدح في مقام التوحيد والاعتماد على الأسباب دون الله شرك في التوحيد .
((1/17)
4) والرضا عن الله تعالى لأن من عرف التوحيد وعرف حقيقته وآمن بالقضاء خيره وشره أعطاه هذا قوة إيمان وقوة توكل على الله جل وعلا ورضا عن الله جل وعلا لأن بعض الناس غير راض عن الله ويعترض على أقدار الله وإن لم يعترض بلسانه اعترض بلسان حاله فهو دائماً يتسخط لماذا أنا فقير ؟ لماذا أنا أبتلى بالمصائب ؟ لماذا أنا كذا ؟ لماذا فلان الذي يعصي الله تسخر له الدنيا وتهيأ له الأسباب وأنا الذي أطيع الله تغلق أمامي الدنيا وتكثر مصائبي ونحو ذلك هذا من ضعف الإيمان ما أعطى الله فلان الدنيا وهو يحبه ما دام عاصياً له فإن الله يعطي الإيمان من يحب ويعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، والدنيا ليست معياراً على محبة الله للعبد ولا على بغضه ، وينبغي أن نعرف ذلك وأن نرضى عن الله ( رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ) لا ينبغي أن نقول هذا باللسان ولا نعقل هذا بحقيقة قلوبنا واعتقادنا ، بل نكون راضين عن الله في كل الحالات ونعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطائنا لم يكن ليصيبنا ، وأن ما أصابنا هو رفعة في درجاتنا وتكفير من سيئاتنا . ( فإن أول ما خلق الله القلم قال له أكتب ، قال ما أكتب ؟ قال أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ) رواه أحمد وغيره بسند قوي .
- - -
(( وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أن الربوبية منه تعالى لعباده والتألَّه من عباده له سبحانه )) والتأله من عباده له سبحانه .
(1) أي الرضا عن الله والتسليم لحكمه .
((1/18)
2) الربوبية منه بأن الله جل وعلا خلقهم وأوجدهم وخلق السموات والأرض قال تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيءٍ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون * بل أتينهم بالحق وإنهم لكاذبون * ما اتخذ الله ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ سبحن الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعلى عما يشركون } .
فالربوبية منه تعالى ، ونحن بدورنا أن نفرد الله بالعبادة . قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي ما أوجدت الجن والإنس إلا ليعبدون ، فقدم الجن على الإنس لأنهم قبل الإنس . قوله : { إلا ليعبدون } إلا ليوحدون كما قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة وقيل : إلا لآمرهم وأنهاهم ، وأعظم أمر يأمر الله جلا وعلا به هو التوحيد ولهذا في القرآن أول أمر بالتوحيد . قال تعالى : { يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم } أي وحدوا ربكم ولأهمية التوحيد صار أول أمر في القرآن الأمر بالتوحيد ، وأول نهي في القرآن هو النهي عن الشرك في قوله : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } الند هو النظير والمثيل والشبيه .
- - -
(( كما أن الرحمة هي الوُصْلَة بينهم وبينه عز وجل )) .
((1/19)
1) إذا أطاعوه رحمهم ، وإذا خالفوا أمره انتقم وعاقبهم قال جل وعلا : { نَبِّئْ عبادي أنِّي أنا الغفور الرحيم } أي لِمنْ أطاعني { وأن عذابي هو العذاب الأليم } لِمنْ عصاني ، وفي صحيح البخاري من حديث فُليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول - صلى الله عليه وسلم - : (( كل أمتي ( مرحومون ) يدخلون الجنة إلا من أبى ؟ )) قالوا يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال : (( من أطاعني دخل الجنة )) أي استحق رحمة الله ورحمهم قال تعالى : { إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين } قال : ومن عصاني فقد أبى )) استحق العذاب . والوصلة: هي كل شيء اتصل بشيء فما بينهما وصله
- - -
(( واعلم أن أنفس الأعمال وأجلها قدراً توحيد الله تعالى )) .
(1) قوله : ( واعلم ) تنبيهاً لأهمية ما سوف يأتي .
(2) قوله : ( أن أنفس الأعمال ) النفيس من كل شيء أشرفه وأعظمه وأفضله . والأعمال جمع عمل .
(3) قوله : ( وأجلها قدراً ) أجلها عطفٌ على أنفس .
(4) قوله : ( توحيد الله تعالى ) فالتوحيد هو أهم المهمات وآكد الواجبات وهو أول دعوة الرسل . وأول ما يدخل به العبد في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا فالتوحيد هو أول أمر وآخره والتوحيد هو أعدل العدل ، والتوحيد مصدر وحَّد يوحد توحيداً فهو موحد لله تعالى .
وقد اختلفت عبارات الأئمة في تعريف التوحيد :
قال صاحب المنازل : (( التوحيد تنزيه الله عن المحُدَث )) وهذا ليس بشيء ، ولا يدل هذا على التوحيد الذي بُعثت به الرسل وأنزلت من أجله الكتب ومن أجله شرع الجهاد وافترق الناس به إلى شقي وإلى سعيد .
فإن تنزيه الله عن المحدثات هو نوع من أنواع توحيد الربوبية الذي أقر به كثيرٌ من المشركين ، فالتوحيد الذي ذكره صاحب المنازل ليس هو التوحيد الذي بعثت به الرسل . وحينئذٍ يصبح هذا التعريف غير صحيح .(1/20)
وقال الجُنَيد : (( التوحيد إفراد القديم عن المحُدَث )) وهذا تعريفٌ يحتاج إلى زيادة شرح وتوضيح . فإن هذا الإفراد نوعان ، لأنه يقول إفراد القديم عن المحدث وهذا الإفراد نوعان :
النوع الأول : إفرادٌ في الاعتقاد بحيث يثبت أسماء الله وصفاته ولا يشبّه ولا يمثل ، فإن تمثيل صفات الله بصفات خلقه قدحٌ وطعنٌ في هذا الإفراد .
النوع الثاني : إفراد القديم من المحدث في العبادة من التأله والحب والخضوع والإنابة والتوكل والخوف والنذر والذبح ونحو ذلك .
وبهذا التفصيل يكون المعنى واضحا ، غير أن اللفظ قد لا يعيه البعض وبما أن التوحيد هو الذي أرسلت به الرسل وأنزلت من أجله الكتب ينبغي أن يكون تعريفه واضحاً لكل أحد .
فإن الحاجة كلما اشتدت في معرفة شيء وكلما دعت إليه الضرورة واستجابت له الفطرة ينبغي أن يكون واضحاً لا لبس فيه .
التوحيد : هو إفراد الله بالعبادة ، قال تعالى : { أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره } وقوله: { أن اعبدوا الله } أي وحدوا الله قوله: { مالكم من إله غيره } هذا هو التوحيد ، وقال تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } أي وحدوا ربكم . وقال تعالى: { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } قوله : { أن اعبدوا الله } أي أفردوه بالعبادة والعبادة : هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة )) هذا تعريف شيخ الإسلام وجماعة من أهل العلم لمعنى العبادة .
وقد قيل إن التوحيد ثلاثة أنواع :
النوع الأول : توحيد الإلهية : وهو الأصل الذي أرسلت به الرسل وأنزلت من أجله الكتب ، وهو إفراد الله بالعبادة.
النوع الثاني : توحيد الربوبية : وهو إفراد الله وتوحيده بأفعاله من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير ونحو ذلك .
النوع الثالث : توحيد الأسماء والصفات : لأن لله أسماء وصفات يجب الإيمان بها وإثباتها ، ويحرم تحريفها والإلحاد بها قال تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } .(1/21)
هذه الأنواع للتوحيد هي المشهورة بين أهل السنة والجماعة ، وهي أنواع لا لبس فيها ، دل عليها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بينما ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله وغيره أن التوحيد نوعان :
النوع الأول : توحيد في المعرفة والإثبات .
النوع الثاني : توحيد في الطلب والقصد .
فأدخل الأقسام والأنواع الثلاثة السابقة في قسمين وجعلها في قسمين .
- - -
(( غير أن التوحيد له قشران )) .
(1) القشر في اللغة : هو غشاء الشيء ، فهنا قال بأن التوحيد قشران ، وبما أنه قشر وهو غشاء إذاً نفهم من أن توحيداً وراء ذلك لفظ العبارة أن توحيداً وراء ذلك أكمل مما ذكر لأنه عَبر هنا بالقشر ولا يمكن يعبّر إلا بمعنى تدل عليه اللغة .
قوله: ( غير أن التوحيد له قشران ) هذا الكلام كله لأبي حامد الغزالي في الإحياء في أوائله ، قد رجعت إليه فإذا المؤلف قد نقله بحروفه ، قد تصرف في بعض العبارات تصرفاً يسيراً لا يخل بالمعنى ، ولم أرى هذه العبارة لأحد من الأئمة السابقين ولا استقاها أحدٌ من الأئمة المحققين أمثال ابن تيمية وابن القيم عليهما رحمه الله لأن المؤلف حين قال إن التوحيد له قشران جعل القشر الأول هو القول باللسان ، والقشر الثاني هو اعتقاد القلب وجعل شيء وراء ذلك وفوقه هو اللباب ، وإن كان قصدُ المؤلف واضحاً والمعنى الذي يريد أن يوصله إلى أفهام الناس هو معنى واضح ، إلا أن في قوله نظراً ، لأننا حين نرجع معنى القشر في اللغة هو غشاء الشيء نجد أن عقيدة القلب ليست من الغشاء بخلاف لفظ اللسان هذا الأمر الأول . والأمر الثاني : أن الأصل الذي دعت إليه الرسل هو ما سماه المؤلف بالقشرة ، وذلك أن تقول بلسانك لا إله إلا الله ، لأن ما سماه المؤلف بلباب التوحيد يدخل ضمناً ومعناً في القشر .(1/22)
ويرد في عبارات بعض المتأخرين تقسيم الدين إلى قشور ولباب وتاره يقولون عن القشور بما قال عنه هنا المؤلف ، شيء مهم وشيءٌ أهم ، وتاره يعبرون عن القشور بالشيء التافه الذي لا قيمة له ، أو لا ينبغي الالتفات إليه وصرف الهمة إليه ، مع الأمر قد يكون جاء في كتاب الله أو في سنة رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - .
والتوحيد أكبر من ذلك وكل شيء جاء عن الله أو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب تعظيمه وتكريمه وتشريفه وإجلاله .
التوحيد يكون بالقلب واللسان وعمل الجوارح ، إذا أختل شيء من ذلك اختلالاً كلياً فلا يحكم للمرء بالإسلام ، فلو لفظ واعتقد ولم يعمل لكان هذا كافراً ، لأنه تارك لجنس العمل مطلقاً وهذا كافر باتفاق أهل السنة خلافاً لغلاة الجهمية والمرجئة وأتباعهم في هذا العصر ممن لا يُكَفِر بترك جنس العمل فليهنه إتّباع الجهمية . وإذا قال بلسانه وعمل بجوارحه ولم يعتقد بقلبه فهو لم يدخل في الإسلام ، هذا منافق خالص .
- - -
الأول : أن تقول بلسانك لا إله إلا الله .
(1) قوله ( الأول ) أي القشر الأول .
(2) قوله ( أن تقول بلسانك لا إله إلا الله ) وهذا هو الذي دعت إليه الرسل غير أن الرسل حين يدعون لمعنى لا إله إلا الله لا يريدون من البشرية أن تلفظ بها دون عمل ، فإن الغير كانوا يعرفون المعنى ، وأن المرء لأنهم عرب ، وكل نبي يخاطب قومه بلغتهم فهم يعرفون خطابه ويعرفون المراد من كلامه : وما دعا نبي قومه إلى هذه الكلمة فاستشكلوا حقيقتها ولا معناها ولا ذُكر عن أحدٍ قط أنه قال نعتقد هذه الكلمة دون أن نعمل أو نلفظ دون أن نعتقد ، هذا لم يقع في كلامهم أبدا .(1/23)
ولا أدل من ذلك ما جاء في الصحيحين من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة . أتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عبد الله ابن أبي أمية وأبو جهل . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) فقال له قرناء السوء : أترغب عن ملة عبد المطلب ، وهم في الجاهلية وهم في وحل الشرك والوثنية يعرفون أن أبا طالب إذا قال : لا إله إلا الله فإن هذا يعني أن يتبرأ عن ملة عبد المطلب .
لأن لا إله إلا الله تناقض ملة عبد المطلب ، فهم يفهمون الخطاب ويفهمون المقصود ، فأعاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعادا . يوضح هذا أيضاً ما جاء في مسند الإمام أحمد رحمه الله من طريق شيبان النحوي عن أشعث ابن أبي الشعثاء عن رجل من بني مالك قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوق ذي المجاز يتخللها ويقول : ( يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) وإذا رجل يتبعه ويقول يا أيها الناس : لا تسمعوا لهذا الصابئ وهو أبو لهب هذا الرجل . النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخاطب الأمم والشعوب بهذه الكلمة وتلقائياً يفهمون المقصود من معناها ما قال يا محمد هذه الكلمة هل تعني ترك عبادة الأوثان ؟ وهل هذه الكلمة تعني إفراد الله بالحكم ؟ وهل هذه الكلمة تعني إفراد الله بالحب والخضوع والرهبة والعبادة ؟ يعلمون تلقائياً أن هذه الكلمة بما وضعت له تقضي إفراد الله بالعبادة .
وقوله : { لا إله } إله : اسم جنس دخلت عليها لا فتنفي كل ما تعنيه سوى الله جل وعلا .(1/24)
قوله : { لا إله إلا الله } الاسم الشريف بدل من الخبر المحذوف المقدر بحق ، أي لا إله حقٌ إلا الله ، خلافاً لمن قال بأن الخبر المقدر المحذوف تقديره (( لنا )) لأن عبّاد القبور لهم إله وهي الآلهة ، أو من قال لا إله موجود ، لأن الآلهه الموجودة كثيرة ، قال تعالى : { أربابٌ متفرقون أإله مع الله } لا بد أن نقدر الخبر المحذوف بحق . ولو قال قائل: لا إله موجود حق إلا الله لكان مصيباً المهم أن يأتي بالحق .
قال تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل } كل شيء يعبد من دون الله فهو من الباطل .
ولهذا نقول من محاسن التوحيد إفراد الله بالعبادة ، حيث أن العبد لا يعبد إلا الله .
ووسائل الشرك كثيرة ، لكن من أعظمها أن العبد يكون ذليلاً للمخلوق ، التوحيد يخرجك من ذل العبودية للبشر إلى الذل لله الواحد القهار . وهذا الذل لا يكفي وحده حتى تضيف إليه الحب ، ذلٌ مع حب فهما ركنا العبودية . فالمؤلف جعل القشر الأول: أن تقول بلسانك لا إله إلا الله وهذه الكلمة تحتها معاني تحتها جمل تحتها أشياء كثيرة لا غنى للموحد عنها
- - -
(( ويسمى هذا القول توحيداً )) ((وهو مناقض التثليث الذي تعتقده النصارى )) .
((1/25)
1) قوله: (( ويسمى هذا القول توحيداً )) لأنه يدخل به في الإسلام لكن لابد أن يضيف إلى ذلك الشهادة بأن محمداً رسول الله فإن النصراني يقول لا إله إلا الله واليهودي يقول: لا إله الله لكنهما لا يشهدان بأن محمداً رسول الله . كل الرسل جاءت بلا إله إلا الله ، وكل أمة تؤمن برسولها ، فيقول لا إله إلا الله اليهودي في وقت موسى رسول الله ، وفي وقت عيسى لا إله إلا الله عيسى رسول الله ، بعد بعثه نبينا محمداً لو قال شخصٌ لا إله إلا الله عيسى رسول الله أولا إله إلا الله أو أشهد بأنه لا إله إلا الله وأن عيسى رسول الله أو موسى رسول الله ، لكان هذا مرتداً عن الدين أو غير داخل في الإسلام فإن قالها قبل أن يدخل في الإسلام نقول إن هذه الجملة لا تدخلك في الإسلام ، وإن قالها بعد الدخول في الإسلام نحكم عليه بالردة ، فيستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل . لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس في البخاري قال: ( من بدل دينه فقتلوه ) فإذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله دخل في الإسلام ، وحينئذٍ يجب عليه أن يؤدي ما أمر الله به وأن يجتنب ما نهى الله عنه .
(2) فإن النصارى يقولون بأن الله ثالث ثلاثه ، حيث جعلوا المسيح إله وأمه إله .
الإلهة عند النصارى ثلاثة : الله وعيسى وأمه ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيرا . قال تعالى: { وقالت اليهود عزيزٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يُضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } فهذا شرك لا يغفره الله إلا بالتوبة قال تعالى: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } .(1/26)
فالمؤلف جعل هذه الكلمة تناقض التثليث الذي تعتقده النصارى وهي أكبر من ذلك ، وأرى أن في عبارة المؤلف نقصاً فإن هذه الجملة أكبر من ذلك ، فإن هذه الكلمة تنفي الشرك من أصله ، لا شرك اليهود ولا شرك النصارى ولا شرك قريش و لا غيرهم ، تقتضي إفراد الله بالعبادة .
وهذا التوحيد الذي سماه المؤلف مناقض للتثليث هو مناقض أيضاً لشرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الشر إلى الظلمة وحوادث الخير إلى النور ، فإن الحوادث خيرها وشرها يجب إسنادها إلى الله جل وعلا فالله خالقها قال تعالى: { الله خالق كل شيء } إسناد الخير إلى النور والشر إلى الظلمة هذا توحيد المجوس .
هذه الكلمة براءة من توحيد النصارى وبراءة من توحيد المجوس وبراءة من توحيد المشركين الذين يقولون (( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه ومالك )) .
- - -
(( وهذا التوحيد يصدر أيضاً من المنافق الذي يخالف سره جهره )) .
(1) أي باعتبار بأن المنافق يلفظ بلسانه ما لا يعتقد بقلبه ، وقد عرف المؤلف المنافق الذي يخالف سره جهره .
ولكن هذه الكلمة لا تطلق حقيقة على من قالها إلا من اعتقدها وما دلت عليه لأن الأصل فيمن لفظ بها أنه يعتقد ما دلت عليه ما لم يتبين خلاف ذلك .
ومن هنا حرص أهل العلم على ذكر أركان وشروط لهذه الكلمة وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله سبعة شروط لهذه الكلمة يمكن تداخل بعضها ، وفي بعضها تفصيل أيضاً ليس على الإطلاق لكن أذكر قوله(1/27)
الشرط الأول : العلم . بمعناها وما دلت عليها من النفي والإثبات لأن الله جل وعلا يقول: (( فاعلم أنه لا إله إلا الله )) فإن الإنسان إذا قال لا إله إلا الله وهو لا يعلم معناها ولا يعلم البراءة من الشرك ولا من المشركين ولا يتبرأ من عبدة القبور ولا عبدة الأوثان ولا يعرف أن الله وحده لا شريك له لا يعرفه لا بتوحيد الإلهية ولا بتوحيد الربوبية ولا بتوحيد الأسماء والصفات ، إذاً أي معنى قال ؟ ما استفدنا شياً من مجرد اللفظ الذي لا يجعل عقيدة ومعنى ، هو أكبر من الدنيا وما فيها .
الشرط الثاني : اليقين .
الشرط الثالث: الصدق .
الشرط الرابع : الإخلاص .
الشرط الخامس : المحبة .
الشرط السادس : الانقياد .
الشرط السابع : القبول .
وزاد بعض أهل العلم شرطاً ثامناً : وهو الكفر بما يعبد من دون الله جل وعلا ، مع أنه يمكن إضافة ذلك إلى القبول . فإن من قبل هذه الكلمة تبرأ من غيرها ، فإذا قلت " لا إله " تقتضي هذه الكلمة بما وضعت فيه البراءة من كل معبود سوى الله يدل على ذلك الحديث السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال لعمه : ( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ) عرفها أبو جهل وهو على الكفر وابن أبي أمية ، أن هذه الكلمة براءة من كل معبود سوى الله جل وعلا .
- - -
(( والقشر الثاني : أن لا يكون في القلب مخالفة ، ولا إنكار لمفهوم هذا القول بل يشتمل القلب على اعتقاد ذلك . والتصديق به ، وهذا توحيد عامة الناس )) .
((1/28)
1) تقدم أن القشر في اللغة : هو غشاء الشيء ، ولا أرى كما سبق تسمية هذا التوحيد قشراً ، لأنه هو الأصل الذي أرسلت به الرسل ، لأن اللباب الذي ذكره المؤلف يعود في الأصل إلى ما سماه قشراً ، لأن اللباب في نظره أن يرى الأمور كلها من الله ثم يقطع الالتفات عن الوسائط ، وهل الكلمة إلا هي دالة ومؤكدة لهذا المعنى بدليل النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كل الرسل يدعون لهذه الكلمة ، فهي دالة بحقيقتها إلى الالتجاء إلى الله والاعتصام به ، مع أن في قوله يقطع الالتفات عن الوسائط إجمالاً سوف أفسر هذا الإجمال إن شاء الله حين نمر به .
(2) بحيث يقول لا إله إلا الله بلسانه وفي القلب التجاء إلى أصحاب القبور والأوثان والإلهية أو اعتقاد أن للكون خالقين أو أن هناك مدبراً مع الله ونحو ذلك .
(3) بحيث يقول بلسانه ويعتقد بقلبه خلاف ما دلت عليه هذه الكلمة ، فهو بقلبه منكر لهذه الكلمة ويعتقد أن مع الله آلهة أخرى ، أو يعتقد عقيدة التثليث أو عقيدة المجوس فهو يقولها إذاً ليُعصم دمه وماله أو ليفسد على المسلمين دينهم فإن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وهم شرٌ من المشركين واليهود والنصارى فهولاء يقولون : لا إله إلا الله ويتسترون باسم الإسلام وقد يشهدون أن محمداً رسول الله لكن في خلَّجات قلوبهم واعتقاداتهم لا يعتقدون هذه الكلمة ولا ما دلت عليه ولا يعتقدون صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا ما جاء به فهولاء منافقون خُلَّص فهم دخلوا في الإسلام لمآرب وأغراض ، إما لإفساد دين المسلمين أو لتشكيكهم أو لكي تعصمدمائهم وأموالهم أو لكي ليبقوا في بلادهم هذا في وقت عز المسلمين .
أما إذا اختلط الحابل بالنابل فالله المستعان ، المنافق الآن يعزز ويكرم !! والمؤمن يتستر بدينه .
(4) أي أن حقيقة هذا القشر أن يشتمل القلب على اعتقاد هذه الكلمة والتصديق والمعرفة . وقد سمى المؤلف هذا القشر هو توحيد عامة الناس .(1/29)
تقدم أن العبد يدخل في الإسلام بالنطق بالشهادتين ، ويبرأ من النفاق باعتقاد ما دلتا عليه ، فإذا قال بلسانه ولم يعتقد بقلبه فهو منافق شرٌ من الكافر ولكنه في الظاهر في عداد المسلمين ما لم يتبين خلاف ذلك .
ولو اعتقد بقلبه ولم يلفظ بلسانه لم يدخل في الإسلام ، فإذا قال بلسانه واعتقد بقلبه فهذا هو الموحد وليس هناك شيء وراء ذلك لأن التوحيد يتفاوت ، كما أن توحيد الأنبياء والمرسلين يتفاوت أيضاً .
فإن أولي العزم من الرسل أعظم توحيداً لله من غيرهم ، والرسل أعظم من الأنبياء ، وأولى العزم من الرسل أعظم من غيرهم ، أولو العزم خمسة على حسب الترتيب الزمني نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتمهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضلهم وأعظمهم توحيداً ، لأن التفاضل إنما يكون بحسب التوحيد وكل ما كان الإنسان أقوى توحيداً كان أقرب إلى الله جل وعلا ، والأنبياء أعظم توحيداً من عامة الناس . إذاً مراتب :
الرسل أعظم الناس توحيداً فهم أعظم من الأنبياء والأنبياء أعظم من عامة الناس ، وبعد ذلك الناس يتفاوتون في التوحيد ، فتوحيد أبي بكر أعظم من غيره وتوحيد عمر أعظم ممن جاء بعده .
- - -
ولباب التوحيد : أن يرى الأمور كلها من الله تعالى ، ثم يقطع الالتفات عن الوسائط ، وأن يعبده سبحانه عباده يفرده بها ، ولا يعبد غيره .
(1) اللباب في اللغة : هو الخالص . يقول المؤلف عن هذا اللباب بأن يرى الأمور كلها من الله تعالى ثم يقطع الالتفات عن الوسائط وأن يعبده سبحانه عبادة يفرده بها ولا يعبد غيره قوله: (( وأن يعبده عبادة يفرده بها ولا يعبد غيره )) هذا من معنى لا إله أعاد هذا المعنى الذي جعله هو اللباب إلى القشر الأول . وقوله (( أن يرى الأمور كلها من الله )) هذا يعود إلى القشر الثاني وهو عقيدة القلب إلا الله .
((1/30)
2) وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيما نقله عنه ابن القيم رحمه الله تعالى في المدارج قال: (( كمال التوحيد هو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا )) وهذا من معاني لا إله إلا الله .
وقول المؤلف : (( ثم يقطع الالتفات عن الوسائط )) في كلامه إجمال وتعميم وهو لا يقصد بذلك إسقاطَ الأسباب ، لأن هذا ليس من التوحيد في شيء وإن كان كلام طوائف من المتصوفة يقتضي ذلك ، فالمتصوفة يجعلون إسقاط الأسباب الظاهرة من أجلِّ معاني التوحيد ، وهذا في حقيقته جهل في التوحيد وجهل فيما أرسلت به الرسل .
فيحمل قول المؤلف : (( ثم يقطع الالتفات عن الوسائط )) التي تؤدي إلى التعلق بالمخلوقين ، على أن التعلق بالمخلوق ليس كفراً على الإطلاق فبعض التعلق كفر أكبر وشرك أكبر ، وبعض التعلق شرك أصغر وبعض التعلق من المعاصي فَجَعْلُ هذا هو اللباب فيه نظر .
فإنا نعلم أن دعوة الأنبياء والمرسلين مشتملة على الدعوة إلى لا إله إلا الله دون هذه الرموز ودون هذه العبارات التي فيها نوع تعمق وتقعر . وترد كثيراً في ألفاظ الصوفية ، لأني كما قلت لكم إن الكلام كله الآن للغزالي ، والغزالي عنده تأثر بالصوفية .
لأن من معاني لا إله إلا الله في تطبيقها والعمل بمقتضاها أن يرى الأمور كلها من الله ، هذا من معاني لا إله إلا الله فإذا اختل شيء من ذلك نقص توحيد وبكماله يكمل التوحيد ، فلا معنى لجعل هذا هو اللباب الخالص للتوحيد ثم إنه يجعل هذا هو توحيد خاصة الخاصة ، والأول وما قبله هو توحيد العامة وما قبله هو الذي يدخل به العبد في الإسلام ، وفي الجملة هذا شبيه بقول صاحب المنازل حين قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام فقال :-
القسم الأول : هو توحيد العامة الذي يصح بالشواهد أي بالأدلة والبراهين .
التوحيد الثاني : هو توحيد الخاصة وهو الذي يجب أو يثبت بالحقائق .(1/31)
التوحيد الثالث : هو توحيد القائلين بالقِدَم وهو توحيد خاصة الخاصة . وهو الذي يشخص إليه أهل الرياضة وأرباب الأحوال وإليه قصد أهل التعظيم وعليه تصطلم الإشارات ثم لم ينطق عنه لسان أي لم يمكن يعبر عنه لسان بعبارة جامعة ولم تشر إليه عبارة .
وقد زعم صاحب المنازل: أنه ألاح منه لائحة أي أن الله جل وعلا ألاح منه لائحة من أسرار طائفة من أهل صفوته ، فإن هذا التوحيد الذي هو لخاصة الخاصة ألاح الله منه لائحة أي أعطى الله جل وعلا منه طائفة من صفوة خلقه ، وإلا فعامه الناس لا يعرفون هذا التوحيد . وهذا جهل عظيم بالتوحيد ، وقوله عن التوحيد الذي يصح بالشواهد والأدلة والآيات والبراهين هو توحيد العامة ، هذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل كما أشار إلى هذا الإمام ابن القيم- رحمه الله - في المجلد الثالث من مدارج السالكين .
قوله عن توحيد خاصة الخاصة هذا هو توحيد المتكلمين وإن كان تعريف الغزالي للتوحيد أوضح من تعريف صاحب المنازل . وتعريف المؤلف مستقى من تعريف الغزالي ، غير أن هذه التقسيمات مما تباعد في بعض الأحايين من معرفة وفهم التوحيد على حقيقته لأن التوحيد كما قلت لكم لما كانت الحاجة إليه داعية ، وهو الذي جاءت به الرسل ينبغي أن يكون المعنى واضحا فكل شيء تحتاجه الأمة يكون معناه أوضح من غيره . التوحيد واضح .
فتقسيم التوحيد إلى قشرين : قشر باللسان وقشر بالقلب ثم جعل لباباً وإخراج اللباب عن القشر هذا غير صحيح كما سبق .
- - -
ويخرج عن هذا التوحيد اتباع الهوى فكل من اتبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده قال تعالى: { أفرءيت من اتخذ إلهه هواه } .
(1) أي إلى ما يناقضه أو إلى ما ينافي كماله الواجب ، والمؤلف عمم العبارة وكان الأولى به التفصيل .
((1/32)
2) درجات فمنهم المشركون ، ومنهم أهل البدع وهم قسمان : بدعة تصل إلى الشرك الأصغر وبدعة دون ذلك ، ومنهم أهل المعاصي وهم صنفان : أصحاب الكبائر وأصحاب الصغائر ، وكل هؤلاء أهل أهواء أصحاب القسم الأول المشركون كفار ، والقسم الثاني أهل البدع ليسو بكفار بالاتفاق إلا إذا كانت البدعة بدعة كبرى تخرج صاحبها من الإسلام وأصحاب الكبائر لا يُكَفَرون اتفاقا .
فإن الإنسان يتبع هواه في معصية أو في بدعة لا تخرجه من الإسلام فيبقى يحمل اسم التوحيد في الجملة ولا يحمل اسم التوحيد الخالص .
(3) في هذا الإطلاق نظر ، لأن ليس كل من يهوى شيئاً يعبده واستدلاله بالآية { أفرءيت من اتخذ إلهه هواه } يقال : إن معنى الآية على الصحيح أن الله جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه ، ولم يجعل ما يهواه يعبده . ففرق بين العبارتين .
والمؤلف أخطأ في عبارته حين قال: فكل من اتبع هواه فقد اتخذ هواه معبوداً . بل يقال: كل من اتخذ معبوداً فهو ما يهواه فنقول حينئذٍ في معنى قوله تعالى : { أفرءيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } إن معنى هذه الآية أي أن المخلوق جعل المعبود الذي يعبده هو ما يهواه ، ولم يجعل ما يهوى معبوداً ، حينئذٍ يتضح غلط المؤلف في تعميمه العبارة .
- - -
وإذا تأملت عرفت أن عابد الصنم لم يعبده إنما عبد هواه ، وهو ميل نفسه إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل ، وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى .
(1) أي فيما سبق تقريره وذكره .
والهوى : هو ميل النفس إلى المألوفات فحين ألف دين آبائه مال إليه والميل هذا هو الهوى ويمكن توضيح كلام المؤلف ، لأن المؤلف رحمه الله يجمل في هذه القضايا الكبيرة .
((1/33)
2) فيقال في قوله : (( وإذا تأملت عرفت أن عابد الصنم لم يعبده إنما عبد هواه )) يقال لأنه لا يعبد الوثن أو الصنم أو المخلوق إلا باعتقاده أنه يجلب له فائدة تعود عليه بنفع أو دفع ضر . فهو في حقيقة الأمر عابدٌ لمصلحته بحيث هو على أتم استعداد لعبادة أي مخلوق يحصل له منه نفع ، وبالتالي هو عابدٌ للهوى ، فكل شيء يهواه يفعله دون مراعاة لأمر الله ولا لنهيه .
(3) إلا أن ميل النفس منه ما هو شرك أكبر ، ومنه ما هو شرك أصغر ومنه ما هو من الكبائر ، ومنه ما هو من الصغائر ، ومنه ما هو من المباحات ، فإن ميل النفس إلى المال إذا لم يشغله عن طاعة الله ، وميل النفس إلى الزوجات هذا من المباحات . بل هذا من سنن الأنبياء والمرسلين وهذا ميل نفس ، وإذا مالت النفس إلى المرأة الصالحة الجميلة هل يعتبر إذا مال إليها عبدها ؟
كلا إذا لم تصده عن طاعة الله فهذا من الأمور الطيبة ، وهذا من الأمور الصالحة التي تعينه على عبادة ربه لأن (( الدنيا متاع وخير متاعها الزوجة الصالحة )) والمرأة الصالحة من سعادة العبد في هذه الحياة وفي هذه الدنيا فإن ليس كل شيء يهواه الإنسان يعبده ، فإن الإنسان قد يهوى المباحات وقد يهوى المكروهات فيكون فعله مكروها ، وقد يهوى الكبائر فيكون فعله كبيره وقد يهوى الشرك فيكون مشركاً إذا فعل ذلك .
- - -
(( ويخرج عن هذا التوحيد السخط على الخلق ))
(1) السخط: أي الغضب وهذا الكلام مُجْمَل ويحتاج إلى شرح وتقيد .
فإن السخط على الخلق منه ما هو محمود ، ومنه ما هو مذموم ، ومنه ما هو مباح والمحمود منه المستحب ومنه الواجب ، والمذموم منه المكروه ومنه المحرم . ومن أراد فهم هذا فلينظر في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يتعامل مع الخلق فكان يغضب في موطن الغضب ويدع ذلك حين لا حاجة إليه ، والغضب والسخط على الخلق في غير موطنه لا يُخرج عن التوحيد على الإطلاق كما عمم العبارة المؤلف .(1/34)
فمن الغضب والسخط على الخلق ما ينافي التوحيد بالكلية ، ومن السخط على الخلق ما ينافي كماله الواجب منه ما ينافي كماله المستحب ، والمؤلف رحمه الله جعل السخط على الخلق من المخرجات عن هذا التوحيد دون تفصيل وكان الأولى بمثله أن يفصل ولا يعمم وأن يقيد ولا يُطلق ولا سيما في هذه المقامات الكبيرة ، مقامات التحدث عن توحيد الإلهية وعن نواقض هذا التوحيد ، فإن بعض الناس يتقيد بظواهر كلام العلماء ويجعل من التوحيد ما ليس توحيداً ، ومن النواقض ما ليس ناقضاً وإذا ثبت أنه من النواقض . ففيه تفصيل لا يمكن الأخذ بالإطلاق ولا الأخذ بالعموم ، فإذا قيل السخط على الخلق من المخرجات عن هذا التوحيد ، كانت هذه العبارة في الجملة محل نظر . لأننا نعلم أن بعض السخط على الخلق هو من التوحيد وليس من مخرجاته ، والمؤلف رحمه الله ما أشار إلى نوعِيَّه هذا السخط ، فلهذا أقول :
النوع الأول : أن يسخط على الخلق كلهم بما في ذلك الأنبياء والمرسلون وهذا ليس بمؤمن أياً كانت دوافعه وأهدافه ونيته .
النوع الثاني : أن يسخط على الخلق حيث لم يقوموا بخدمته ولم يقوموا على رعايته فهذا لا يليق بالمؤمن وإن كان له حق ينبغي القيام به لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً فإذا سخط عليهم وهو في غنى عنهم عن عدم القيام بخدمته ، هذا من الخطأ ولكن ليس من نواقض التوحيد .
النوع الثالث : أن يسخط على الخلق حيث تنتشر البدع والمنكرات والجهالات ولا منكر لها ، فهذا السخط من مقامات التوحيد ، حيث يغضب لما يغضب الله ويسخط لما يسخط الله ، فالمؤمن الذي يرضى بما يرضاه الله ويرضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسخط بما يسخط الله ويسخط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/35)
وهناك أمور مباحة من أنواع السخط كأن يسخط على شريكه أو على ابنه حيث لم يؤدي الأمر على الوجه المطلوب أعني الأمور الدنيوية فهذا السخط مباح ، فلا يمكن للعبد أن يتقرب به إلى الله . وإذا وُجِدَ من الشخص فهذا لا ينافي التوحيد ولا كماله الواجب ولا كما له المستحب .
ومن المحتمل أن المؤلف رحمه الله يقصد بقوله : (( السخط على الخلق )) بعدم القيام بحقه ورعايته والالتفات إليه وتعظيمه ونحو ذلك .
ومن كمال التوحيد أن يتخلى عن ذلك ولكن لا يخرج به ذلك عن التوحيد ولكن لو سخط على الخلق حيث لم يعظموه كما يعظمون الله فهذا ينافي التوحيد بالكلية .
وكما أن المؤلف أجْمَلَ في قوله (( السخط على الخلق )) أجمل في قوله (( ويخرج عن هذا التوحيد )) فهناك أشياء تنافي التوحيد المطلق وهناك أشياء تنافي مطلق التوحيد ،فينبغي نفهم الفرق بين الأمرين ، كما أن هناك أشياء تنافي الإيمان وهناك أشياء تنافي كمال الإيمان الواجب وهناك أشياء تنافي كمال الإيمان المستحب .
- - -
والالتفات إليهم
(1) أي ويخرج عن هذا التوحيد الالتفات إلى الخلق ، ولعله يعني بذلك الاعتماد عليهم بالقلب والتعلق بهم ، فإن التعلق بغير الله أعظم مفسد للدين وللقلب ، وأعظم الناس خذلانا المتعلقون بغير الله المؤملون ما سواه . وهذا التعلق يوجب له الضرر ولابد ، عكس ما أمَّله ، وما تعلق قلب بغير الله إلا عُذِبَّ به ولا بد .
وحقيقة تجريد التوحيد أن تعلق قلبك بالله ولا تلتفت إلى غيره ولا تأمل سوى الله ولا تتوكل على غير الله ولا ترجوا إلا الله وحده وهذا من أعظم مقامات التوحيد . حيث يتعلق القلب بالله لا يتعلق بغيره ، فإن التعلق بغيره مضر ولا بد سواء تعلق بالغير في طلب مال أو جلب نفع أو دفع ضر أو غير ذلك .(1/36)
تأمل فيما ذكر الله جل وعلا عن الأنبياء والمرسلين من كمال التعلق بالله جل وعلا تأمل في حال الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم حين دعا قومه إلى التوحيد ضاقوا به ذرعا وجمعوا عددهم وعُدَدهم وأجمعوا على الكيد له وجمعوا الحطب بُرهةً من الزمن ليوقدوه ويقذفوا به خليل الرحمن فحين أوقدوا النار وقذفوا بها إبراهيم ولا يمكن الوصول إليها من قرب لتأجج نارها وعظمتها رجعوا باعتبار أنه قد احترق .
إبراهيم حين ألقي في النار لم يلجأ إلى مساومتهم ولم يلجأ إلى الاستنصار بأبيه ولا بقومه ولا بقبيلته وعشيرته وهي قادرة على نصرته ولم يلجأ إلى جبريل والأثر المشهور (( أن جبريل أعترض له في الهواء فقال : ألك حاجة قال : أما إليك فلا )) هذا الأثر لا أصل له والصوفية يحتجون به على ترك الأسباب مع أنه يمكن أن يحتج به على تعلق إبراهيم بالله ولكن لا أصل له .
إبراهيم حين ألقي في النار لم يذكر الله عنه سوى أنه قال: (( حسبنا الله ونعم الوكيل )) علق قلبه بالله ، كما في البخاري من حديث ابن عباس وقال : (( حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل )) وهذه حقيقة التوحيد أن لا تعلق قلبك بغير الله ولو وُجدَت الشدائد فإن الله يجعل لعبده المخلص المؤمن المتعلق به من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أنت حين تستنجد بغير الله ممن تحبه ويحبك هو سوف يسعى في نصرتك بلا شك لأنه يحبك وأنت تؤمل فيه خيراً .
هل يمكن أن تتصور أو تعتقد أن تلجأ إلى الله فيخذلك وتلجأ إلى المخلوق فينصرك هذا لا يمكن أن يقع أبداً .(1/37)
إذاً إذا لجأ المخلوق إلى المخلوق وهو قادر على نصرته فسوف ينصره فكيف لو فوض أمره إلى الله والله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء فحينئذٍ ينصر عبده ويخزي عدوه لكن هذا يتطلب من المخلوق أن يوحد الله حق التوحيد وأن يؤدي أمره وأن يجتنب نهيه فلا يلتفت إلى الخلق . فأعظم شيء يحول بينك وبين الله هو التعلق بالمخلوقين ومن تعلق بشيء دون الله وُكِلَ إليه ولا بد .
وبعض التعلق كفر أكبر كالتعلق بالأوثان والأصنام والأحجار والتعلق بالصور بحيث تصده عن الله وقد يعبدها دون الله . فهذا يُعذّب بها في الحياة الدنيا وسوف يجد في الآخرة ما هو أشد وأنكى قال تعالى: { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } لا تستعجب أن يوجد من يعبد الصورة فهناك من يتخيل الشيطان ويعبده دون الله ، وهناك من يعبد الأشجار والأحجار ، وهناك من يعبد الصور دون الله ويعشق صور النساء والمردان ويؤلهها ويخضع لها ويستعد للتنازل عن كل شيء دون هذه الصور ، هذا التعلق بغير الله نتج من خلو القلب عن محبة الله كما قيل :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا
إذ لو صادف قلباً معموراً بالتقوى معموراً بالإيمان لأوقفه مكانه ولما استطاع أن ينفذ إلى قلبه لأن هذا القلب معمور بالتقوى والقلب المعمور بالتقوى لا يمكن أن يمتزج بغيره من عشق الصور أو عشق المردان أو التعلق بغير الله ونحو ذلك .
الله جل وعلا يقول: { وعلى فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } قدَّم هنا المعمول على العامل لإفادة الحصر وأتى بعد ذلك بالشرطية { إن كنتم مؤمنين } فمعنى هذا إن كنتم مؤمنين موحدين فلا تتوكلوا على غير الله . فإن توكلتم على غيره فقد خذلتم وصرتم من المشركين .(1/38)
والتوكل على غير الله مراتب : منه ما هو كفر أكبر ومنه ما هو دون ذلك وكمال التوحيد وكمال الإخلاص أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله جل وعلا وحينئذٍ لا يبالي بأذية البشر ولا يسخط على البشر حين يتعرضون له بالأذى أوحين يتخلفون عن خدمته بما يجب عليهم لأنه يعلم أن هذا من الله جل وعلا : { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون } .
- - -
(( فإن من يرى الكل من الله كيف يسخط على غيره ))
(1) وهذا فيه إجمال كما سبق قد تقدم إيضاحه وأحسن ما يحمل عليه كلام المؤلف أي فإن من يرى الخير والشر من الله (( الكل )) يحمل على الخير والشر من الله جل وعلا ، وتقدم أن الخير والشر مخلوقان من الله جل وعلا ، وأن الشر لا يدخل في أسماء الله ولا في صفاته وإنما يدخل في أفعاله .
وتقدم الحديث على المنتقم وأنه ليس اسما من أسماء الله جل وعلا .
فإن من يرى الكل من الله الخير والشر من الله كيف يسخط على غيره حين يتعرضون من بالأذى أو يتخلفون عن طاعته ولو فيما أوجب الله عليهم لأن كمال التعلق بالله عدم الالتفات والاعتماد على المخلوقين .
إذا انقطعت أطماع عبدٍ عن الورى ... تعلق بالرب الكريم رجاءه
فأصبح حراً عزةً وقناعةً ... على وجهه أنواره وضياءه
وإن عَلُقتْ بالخلق أطماع نفسه ... تباعد ما يرجوا وطال عناءه
فلا ترجوا إلا الله في الخطب وحده ... ولو صح في خل الصفاء صفاءه
- - -
أو يأمل سواه ؟ وهذا التوحيد مقام الصديقين .
(1) المُأمل هو الله جل وعلا { هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير } ، { بل الله مولاكم } الله جل وعلا هو المؤمل ، { حسبنا الله ونعم الوكيل } أي نعم الموكل والمفوض إليه أمرنا فإن طلب الأمل من المخلوقين والاعتماد عليهم من العوائق عن الله جل وعلا .
(2) فإن المؤلف رحمه الله تعالى : قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام :
التوحيد باللسان والتوحيد بالقلب .(1/39)
التوحيد باللسان : هو الذي يدخل به إلى الإسلام حين يقول (( لا إله إلا الله )) وهذا الذي سماه المؤلف مناقض للتوحيد وتقدم مناقشته في ذلك .
التوحيد الثاني : أن لا يكون في القلب مخالفة ولا إنكار لمفهوم هذا القول وسمى هذا التوحيد هو توحيد عامة الناس ، وهذا التوحيد هو الذي جاءت به الرسل.
والتوحيد الذي سماه توحيد الصديقين ، ومقام الصديقين هو ما أجمل المؤلف ولم يفصل فيه .
وتقدم أن من قال لا إله إلا الله وشهد أن محمداً رسول الله فقد أتى بمطلق التوحيد ووراء ذلك مكملات لهذا المقام . وأن الناس يتفاوتون في التوحيد . ويتفاوتون في تحقيق مقام لا إله إلا الله .
خلافاً لأهل الإرجاء الذين يقولون : إن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان ، أو الذين يقولون : إن إيمان أفسق الناس كإيمان جبريل وميكائيل ، فأهل السنة والجماعة يقولون : الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان ، وأن التوحيد هو التوحيد ولكن الناس يتفاضلون في تحقيقه والقيام بحقه وأن الرسل أكمل من الأنبياء توحيداً والأنبياء أكمل من عامة الناس والناس فيما بعد ذلك يتفاوتون في التوحيد وفي تحقيقه .
التوحيد: هو لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله ولكن التفاضل يقع فيما يقع في القلوب من الإيمان بالله والإيمان برسول الله وحب الله وحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعمل بما جاء عن الله وتحقيق ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
- - -
ولا ريب أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون .
(1) أراد أن يقرر بهذا أن ما تقدم ذكره هو توحيد الإلهية .(1/40)
لأنه لا داعي أن نقرر توحيد الربوبية ، لأن هذا أقر به المشركون والخصومة بين الرسل وبين أممهم كانت في توحيد الإلهية ولم يكن في توحيد الربوبية وإن وجد عن أناس ينكرون توحيد الربوبية كما قال فرعون : { أنا ربكم الأعلى } فهو ينازع في توحيد الربوبية ولكنه في الجملة يعلمون أن الله هو رب كل شيء ومالكه وخالقه وأنه المحي المميت ، وقد قيل إن فرعون كان مقراً بذلك ولكنه يكابر ، يعلم أنه ليس بخالق ، من الذي أوجده ؟ هل هو أوجد نفسه ؟ فيقين أنه يعلم أن له رباً ولكنه مستكبر ، كما قال الله عنه وعن أمثاله: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا } . إذاً كانوا مستيقنين بأن الله رب كل شيء وخالقه بدليل أن فرعون حين أدركه الغرق أدعى الإيمان بالله حين لا ينفعه الإيمان ، وقد قيل في قول الله جل وعلا { ويذرك وآلِهتك } قيل: وإلاهتك فإن فرعون كان يعبد عجلاً في السر فهو يعلم أنه ليس بإله . وهو حقيقة يعتقد ليس بإله بدليل كيف يُقَتَّل بعض أصحابه وأتباعه ولا يستطيع إحياءهم ولا الدفاع عنهم هل هذا إله !!
والمؤلف رحمه الله تعالى حين تحدث عن توحيد الإلهية عبَّر عنه بعبارات عامة بينما تقدم أن جماعة من أهل العلم قالوا عن أقسام التوحيد بأنه توحيد ربوبية وتوحيد إلهية وتوحيد الأسماء والصفات . ووضحوا كل قسم وكان هذا التقسيم واضحاً جليَّاً .
بينما المؤلف رحمه الله تعالى : أجمل بعض أنواع توحيد الإلهية مع أنه سوف يأتي إن شاء الله أنه يفضِّل في بعض القضايا ويشير إلى أدلتها وإلى الحديث عنها .
فإن هذا الكتاب مُؤلف في توحيد الإلهية خاصة .(1/41)
وقوله: (( ولا ريب أن هذا التوحيد لم ينكره المشركون )) ما هو توحيد الربوبية: هو إفراد الله جل وعلا بأفعاله . وتوحيد الإلهية : هو إفراد الله بأفعالك . توحيد الربوبية : هو الاعتقاد بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت وهذا لم ينكره المشركون ، وإن وجدت جزئيات قد وجد خلل في اعتقادها كالذين يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا هذا كفر بالربوبية . كما في الصحيحين عن حديث زيد بن خالد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( حين صلى الفجر على إثر سماء كانت من الليل . قال: هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟! قلنا : الله ورسوله أعلم قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فهذا كافر بي مؤمن بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فهذا مؤمن بي كافر بالكوكب )) .
فمن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فله حالتان :
الحالة الأولى: أن يعتقد أن النوء مؤثر دون الله وفيه من يعتقد ذلك وهذا كفر أكبر بالاتفاق .
الحالة الثانية : أن يقول مطرنا بنوء كذا وكذا أي بسبب هذا النوء وهو يعتقد أن إنزال المطر من قِبَل الله ، ولكن يجعل هذا سبب في نزول المطر فهذا لا يصل إلى الشرك الأكبر ، غير أنه جعل سبباً ما ليس بسبب فصار شركاً أصغر .
- - -
بل أقروا بأنه سبحانه وحده خالقهم وخالق السموات والأرض ، والقائم بمصالح العالم كله ، وإنما أنكروا توحيد الإلهية والمحبة .
(1) أقر المشركون بأن الله خالقهم وخالق السموات والأرض وأن الله جلا وعلا هو القائم بمصالح العالم كله أي هو المدبر للكون وهو الرازق للبشرية وهو المحي والمميت وهو الحكم الذي يجب التحاكم إليه وإلى شرعه وإن كانوا لا يطبقون هذا في دنيا الواقع .
((1/42)
2) حيث يعبدون مع الله غيره ويحبون الأنداد كحب الله أو أشد كما قال الله تعالى عنهم : { تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين } وهم لم يسووهم في خلق ولا رزق ولا إحياء ولا إماتة وإنما سووهم في المحبة والتعظيم .
- - -
كما قد حكى الله تعالى عنهم .
(1) قوله : (( قد حكى الله عنهم )) هذا يكثر في كلام أهل السنة والجماعة كما أشار إلي هذا البخاري في صحيحة قال: كما حكى الله عن يعقوب كما يرد هذا في كلام ابن تيمية وكلام ابن القيم وليس هذا من مذهب الأشاعرة في شيء ، الذين يجعلون القرآن حكايةً عن كلام الله ، لأنه حين يقول المؤلف وغيره (( وقد حكى الله عنهم )) أي تكلم الله حكاية عنهم فالله هو المتكلم ففيه إثبات صفة الكلام لله ولكن فيما يخبره عنهم أما الأشاعرة فلا يثبتون صفة الكلام لله جل وعلا . بل يجعلون القرآن حكاية وهذا يؤول إلى القول بخلق القرآن كما صرح بذلك طوائف من الأشاعرة حيث يقولون بأن القرآن مخلوق ، يريدون بذلك نفي صفة الكلام عن الله ، إذ لو قالوا: بأن القرآن هو كلام الله لأثبتوا صفة الكلام ولكن حين قالوا بأن القرآن حكاية عن كلام الله ، قالوا بأن الله لم يتكلم . حينئذٍ نفوا صفة الكلام عن الله ووصفوا الله بالخرس تعالى الله عن قولهم علواً كبيرا .
وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات صفة الكلام لله جل وعلا ومن نفي صفةً عن الله بعد إقامة الحجة عليه وإزالة الشبهة فهو كافر ، لأن الله جل وعلا أثبت صفة الكلام له وهذا من الأدلة القطعية ومنكرها كافر ، قال تعالى : { وكلم الله موسى تكليما } ، { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } { منهم من كلم الله } والأدلة على هذا كثيرة .(1/43)
يبقى الحديث عن قضية أخرى حينئذٍ لِمَ لم يكفر أهل السنة والجماعة الأشاعرة وهم يقولون بنفي صفة الكلام عن الله ، ونفي صفة الغضب عن الله ونفي صفة الرضا عن الله ، ونفي صفة المحبة عن الله ، ويقولون بأن القرآن حكاية عن كلام الله وهذا يعني أن القرآن مخلوق ؟
فالجواب: أن أهل السنة مختلفون في كفر الأشاعرة . خلافاً لمن ذكر من المتأخرين بأن أهل السنة لا يكفرون الأشاعرة فهذا النقل مغلوط . صحيحٌ أن أكثر أهل السنة والجماعة لا يكفرون الأشاعرة لكن هناك طوائف تكفر الأشاعرة لأمور :
الأمر الأول : أنهم لا يثبتون علو الله على خلقه وهذا كفر لأن النقل والعقل يثبتان ذلك . والأدلة في هذا قطعية .
وحين حكى ابن القيم مقالات العلماء في كفر من أنكر علوا الله على خلقه قال فيما بعد يحكى قول النعمان وجماعة قال :
وكذلك النعمان قال وبعده ... يعقوب والألفاظ للنعمان
من لم يقرَّ بعرشه سبحانه ... فوق السماء وفوق كل مكان
ويقرَّ بأن الله فوق العرش لا ... تخفى عليه هو اجس الأذهان
فهو الذي لا شك في تكفيره ... لله درك من إمام زمان
وينكرون أخبار الآحاد وهذا في الجملة كفر ، ويلحدون في كثير أسمائه وصفاته ، ويقولون عن القرآن بأنه مخلوق ، ولا يثبتون صفة الكلام لله , ولهم غير ذلك مما يُكَفَرون به .
الذين لم يقولوا بتكفيرهم قالوا: لأن لهم شبهةً أقوى من شبهة غيرهم وتأويلا ، فلا يُكفرون إلا بعد مناظرتهم وإقامة الحجة عليهم والبيان لهم .
فإن قال قائل : لماذا لا نكفرهم في الجملة ولا نحكم على أعيانهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم ؟
نقول: لأنهم مراتب متفاوتة ، فبعض الأشاعرة ينكر علو الله على خلقه وطوائف من الأشاعرة تثبت علو الله على خلقه وفيه طوائف لا يصرحون بإنكار العلو فيقولون نثبت العلو في الجملة ثم يفوضون .(1/44)
فالسبب وجود شبه لهم امتنعت طوائف من أهل العلم عن تكفيرهم لكن لو ناقشنا أشعرياً وقال أنا لا أثبت علو الله على خلقه وأقول بأن القرآن مخلوق وأقول بأن الله لم يتكلم وأقمنا الحجة عليه وأزلنا عنه الشبهة ، ولم يبقى له شبهة ولا تأويل سائغ فحينئذٍ يكفر بذلك لأن أهل السنة في الجملة يقولون بكفر من أنكر العلو والأشاعرة ينكرون العلو . ويقولون بكفر من قال القرآن مخلوق ، كما هو قول الجهمية والأشاعرة تقول بذلك ، ويقولون بكفر من أنكر أخبار الآحاد وجملة والأشاعرة تقول بذلك ويقولون بكفر من أنكر أو نفى صفة عن الله كما قاله أحمد ومالك وجماعة والأشاعرة ينفون عشرات الصفات عن الله جل وعلا ، ولكن لهم تأويل باعتبار أنها أخبار الآحاد وباعتبار أنها يستلزم كذا ويقتضي كذا فلهذا توقف جماعات بل أكثر أهل السنة عن تكفيرهم .
- - -
في قوله { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداد يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله } . فلما سووا غيره به في هذا التوحيد كانوا مشركين ، كما قال الله تعالى: { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } أي يسوون غيره به ....
(1) المؤلف رحمه الله ذكر هذه الآية ليبين أن شرك المشركين كان في إنكار توحيد التعظيم والمحبة .
قوله: { يحبونهم } قيل: يحبونهم أي يحبون أندادهم وأوثانهم كما يحبون الله فحينئذٍ يكون قد أثبت الله جل وعلا لهم محبة فتكون محبة الله ثابتة لهم لكن في هذه المحبة شركاً .
القول الثاني : يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون ربهم هذا التقدير الثاني لهذه الآية .
وقد رجح شيخ الإسلام وطوائف من المحققين القول الأول لأنهم إنما ذُموا حين سوَّوا محبة الأوثان والأنداد والمخلوقين بمحبة الله جل وعلا .
(2) قوله: { والذين آمنوا أشد حباً لله } في تفسيرها قولان لأهل العلم أيضاً:(1/45)
القول الأول: والذين آمنوا أشد حباً لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها دون الله تعالى . القول الثاني : والذين آمنوا أشد حباً لله من محبة المشركين للأنداد لله .
(3) ولا يعني هذا أنهم لو أثبتوا التعظيم لله والمحبة صاروا مؤمنين مخلصين لله ، لأنهم كانوا يتحاكمون لغير شرع الله ، وكانوا بنذرون لغير الله ، وكانوا يذبحون لغير الله ، وكانوا ينكرون الرحمن ويقولون وما الرحمن كما قال الله تعالى عنهم: { وهم يكفرون بالرحمن } ولكن ملخص شركهم كان في هذا الجانب الذي لو آمنوا به وأقروا به لأدَّى بهم الأمر إلى الإيمان بغيره .
فإن العبد الآن حين يعظم الله ويحب الله ولكنه لا يحكم بشرع الله ، أو لكنه ينذر لغير الله أو لكنه يذبح لغير الله أو يعبد قبراً أو وثناً فإنه مشرك ولا ينفعه دعواه المحبة لله جل وعلا .
(4) الشاهد من سياق الآية قوله تعالى: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } .
(5) وقد قال ابن جرير وغيره في تفسير قوله جل وعلا : (يعدلون ) أي يجعلون له شريكاً في عبادتهم إياه فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثان ، وقال مجاهد: ( يعدلون ) أي يشركون .
وهذه الآية تأتي على جميع الكفار والمشركين من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وغيرهم من طوائف الكفر فكلهم قد عدلوا بالله غيره غير أن الكفر يتنوَّع في هذه الطوائف المنحرفة فبعض الطوائف يكون كفرهم بعدم الإيمان بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعض الطوائف يكون كفرهم بعبادة القبور والأوثان وبعض الطوائف يكون كفرهم بالتثليث وبعض الطوائف يكون كفرهم بعادة الهوى والشيطان وبعض الطوائف يكون كفرهم بتحكيم غير شرع الله .(1/46)
وقال الله تعالى { وهم برهم يعدلون } . وقد علم الله سبحانه وتعالى عبادة كيف مباينة الشرك في توحيد الألهية ، وأنه تعالى حقيق بإفراده ولياً وحكماً وربا ، فقال الله تعالى: { قل أغير الله اتخذ ولياً فاطر السموات والأرض } وقال { أفغير الله أبتغي حكما } قال { قل إغير الله أبغي } .
(1) أي في المحبة والتعظيم على القول الصحيح وهو اختيار الشيخين ابن تيمية وابن القيم عليهما رحمه الله .
ويمكن إضافة بعض الأدلة في هذا المقام فيقال: وقال الله تعالى : { تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين } وهذه الآية أصرح مما ذكر المؤلف من الآيات السابقة ، لأن الأمر المقطوع به أنهم لم يسووهم بالله في خلق ولا رزق ولا إحياء ولا إماتة وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم .
(2) فالشرك يناقض التوحيد وأنه تعالى حقيق بإفراده ولياً الولي ضد العدو , الولي في اللغة: ضد العدو، فإذا قيل فلان وليك بمعنى أنه ليس بعدوك وهو الناصر ، الولي هو الناصر ، ويقال الولي المتولي للشيء .
كما يقال: فلان ولي المرأة الفلانية ، أي المتولي لأمرها .
(3) أي والله حقيق بإفراده ولياً وحكماً فلا تتحاكم لغير الله فإن التحاكم إلى غير الله كفر بالربوبية وكفر بالإلهية وكفر بالأسماء والصفات أيضاً . إذ لو أثبتوا هذا الاسم لله أي أن الله هو الحكم لتحاكموا إليه حينئذٍ كفروا بجميع أنواع التوحيد .
(4) أي نصيراً ومعيناً .
((1/47)
5) ابتغي الابتغاء بمعنى الطلب ابتغي بمعنى أطلب : (( أفغير الله ابتغي حكماً )) أي قاضياً يحكم بيني وبينكم ، فليس لأحد أن يتعدى حكم الله أو يتجاوزه لأنه لا حكم أعدل من حكم الله جل وعلا قال تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } وقال تعالى: { إن الحكم إلا لله } أي ما الحكم إلا لله حصر . فالتحاكم لغير الله كفر بالله جل وعلا وإذا قلنا بأن التحاكم لغير الله كفرٌ ، أي المراد التشريع . بحيث الذين يستبدلون شرع الله بغيره . فيلغون حكم قطع اليد والحكم على السارق والحكم على الزاني ويعتاضون عن ذلك بأنظمة إما بعقوبة ماليه أو بسجن أو بغير ذلك ، فإن بعض المنحرفين عن شرع الله لا يقيمون الحدود حين التراضي ولو باستكمال الشهود فلو شهد أربعة على هذا الزاني المحصن أن الميل في المكحلة ، ما أقاموا الحد ، حيث يقولون للمرأة: أأنت راضية ؟ فإن كانت راضية سقط الحد ، فيجعلون الرضا علامة على سقوط وتغيير شرع الله ، فيعاقبون هذا الرجل بعقوبة مالية ، إذا كانت المرأة رافضة تتقاضى عقوبة مالية ، وإذا كانت موافقة يكون الأمر فقط مع الزاني لا مع المزني بها ، يعتاضون عن ذلك بالسجن .
والأمر أكبر من ذلك حين يتحاكمون إلى أنظمة ومواثيق هيئة الأمم لإبطال الجهاد وإبطال شرع الله بالكلية ، كما هو واقع كثير من المجتمعات الجاهلية في هذا العصر فإن الله جل وعلا يقول : { إن الحكم إلا لله } وهذا المُشرع يقول الحكم لي : يُشرع للناس في الضحى وينسخ في المساء فلا يتحاكمون إلى شرع الله لا في الأعراض ولا في الأموال ولا في الشؤون الإدارية ولا في غيرها . والله جل وعلا يقول : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما } والله جل وعلا يقول { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } الكفر هنا عُرِّف بالألف واللام : فلا يحتمل حينئذٍ إلا الأكبر .(1/48)
وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن عباس في قوله الله جل وعلا : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : هي كفر . أي أن الآية على إطلاقها .
فإن الحاكم بغير شرع الله كافر بترك الحكم بما أنزل الله ، وكافر بالتشريع ، وكافر بالحكم بهذا التشريع ، وكفره بتوحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات حيث يعتاض عن شرع الله بالقوانين الوضعية وآراء اليهود والنصارى .
ويمكن أن نقسم الحكم بغير ما أنزل الله إلى مراتب :
المرتبة الأولى: أن يعتقد أن حكم القانون أفضل من حكم الله ، أو أن يجحد حكم الله ، هذا كافر بالإجماع حتى المرجئة يوافقون على هذا الكفر ولكنَّ حصر الكفر بهذا هو مذهب غلاة الجهمية والمرجئة.
المرتبة الثانية : أن يستحل ذلك وهذا كسابقه كفر حتى عند المرجئة وكفر بالإجماع .
المرتبة الثالثة : أن يقاتل على هذا الأمر ، أن يحكم بغير شرع الله ويقاتل على هذا الأمر فهذا كفر أكبر ، ويوافق على هذا الكفر بعض طوائف أهل الإرجاء ، لأن القتال يقولون علامة على الاستحلال .
المرتبة الرابعة : أن يحكم بغير شرع الله مع اعتقاده أن شرع الله أفضل وأن حكم الله أفضل ولكن لشهوة غلبته فحينئذٍ نحَّى شرع الله إما موافقةً لداعي الهوى والشيطان أو موافقة لأنظمة ومواثيق هيئة الأمم الجاهلية أو لغير ذلك وحينئذٍ يلغي شرع الله يعطل الجهاد ويلغي العقوبات المترتبة على السارق والزاني ويلغي التحاكم إلى الشرع في الشؤون الإدارية والاقتصادية ، فيجعلون التحاكم إلى الغرف التجارية وشبهها ويلغون التحاكم في شؤون العمل والعمال إلى شرع الله ويجعلون التحاكم إلى نظام العمل والعمال وهو نظام جاهلي في أكثر مواده .(1/49)
هذا كفر أكبر بإجماع أهل العلم كما نقل الإجماع على ذلك إسحاق والإمام ابن حزم والحافظ ابن كثير رحمه الله في المجلد الثالث من البداية والنهاية في ترجمة جنكيز خان لعموم قول الله جل وعلا: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .
والمروي عن ابن عباس (( كفر دون كفر )) هذا لا يصح عنه رواه الحاكم في المستدرك من طريق هشام بن حُجير عن طاووس عن ابن عباس . وهشام ابن حجير ضعيف ضَّعفه ابن أحمد ويحيى وطوائف ، وقد خُولف في الإسناد فرواه عبد الله بن طاووس عن أبيه في غير ما رواه هشام . وعبد الله بن طاووس أوثق من هشام فرواية هشام منكرة لا يحتج بها . على أنه لو صح هذا الأثر قد نزله جماعة من أهل العلم على قضايا خاصة ليست من قضايا التشريع وليست في قضايا الاستبدال ، إنما هي في بعض قضايا الترك بدافع الهوى لا في قضايا التشريع لأن التشريع بحد ذاته كفر .
وهذا النوع ينازع فيه كثير من المتأخرين ويقولون: كفر دون كفر ويجعلون هذا القول أي أنه كفر من أقوال الخوارج ويحامون عن الحكام المشرعين ويعذِّرون عنهم بما لا يعذِّرون عن أهل العلم وحماة التوحيد ، ولهذا أسباب منها : الأمر الأول: قد يكون الدافع هو الهوى والشياطين .
الأمر الثاني : قد يكون الدافع هو الجهل بحقيقة المسألة وعدم تصورها على الوجه الأكمل .
الأمر الثالث : قد يكون الدافع هو الإرجاء فإن بعض الطوائف المنحرفة عن شرع الله لا تكفر في ترك جنس العمل مطلقاً . وهذا هو مذهب غلاة الجهمية والمرجئة .
الأمر الرابع : قد يكون الدافع هو التأويل . أي أنهم متأولون في هذه القضية هذا الذي بلغ ووصل إليه علمهم واجتهادهم ، فحينئذٍ يعذرون بذلك إذا كان عن محض اجتهاد وعن محض تأويل ، ولكن ليس لهم حق رمي الآخرين بمذهب الخوارج وهم معتصمون بكتاب الله وبالإجماع المنقول عن أكابر أهل العلم.(1/50)
والحديث عن هذه القضية يطول ذكره . وقد قال الله جل وعلا عن المؤمنين وعن المنافقين ، قال تعالى عن المنافقين: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } الله جل وعلا نفى الإيمان عمن دُعِي إلى التحاكم إلى شرع الله فأبى يوضح ذلك قوله: { وإذا دعو إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } ، وبينما قال الله جل وعلا عن المؤمنين: { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } حين نفى الله جل وعلا الفلاح عن المنافقين الذين يتحاكمون لغير شرعه ويأبون التحاكم إلى شرع الله أثبت الفلاح لمن سمعوا داعي الله يدعو إلى الإيمان والتوحيد والتحاكم
فقالوا (( سمعنا وأطعنا )) فلا يضربون لشرع الله جل وعلا الأمثال .
فلا وليَّ ولا حَكَم ولا رَبَّ إلا الله ، الذي من عدل به غيره فقد أشرك في ألوهيته ولو وحد ربوبيته .
(1) أي فمن حكم بغير شرع الله فقد أشرك بالله جل وعلا ولهذا قال الله جل وعلا : { ولا يشرك في حكمه أحدا } هذا يؤيد كلام المؤلف أن من عدل به غيره بالتحاكم لغير شرعه فقد أشرك في الإلهية لأن الله قال: { ولا يشرك في حكمه أحدا } سمى الحاكم والمشرك بحكم الله مشركاً وأي شرك أعظم من شرك المُشَرِّعين في هذا العصر ، حين يبطلون شرع الله ولا يكتفون بذلك يعتاضون عن ذلك بآراء اليهود والنصارى والعلمانيين ولا يكتفون بذلك يُحَكِّمون هذا الشرع في المجتمعات الإسلامية ولا يكتفون بذلك ، يحمون هذه القوانين ولا يكتفون بذلك يبطشون ويقتلون لمن ناصحهم أو تعرض لقوانينهم وأنظمتهم الجاهلية .
- - -
فتوحيد الربوبية هو الذي اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها .
((1/51)
1) والإيمان بتوحيد الربوبية فرض وجحده وإنكاره كفر بالإجماع غير أن الرسل والكتب السماوية لن تأتي لدعوة الناس لهذا فقد كان الناس مقرين بأن الله هو الخالق الرازق المدبر وأنه هو المحي والمميت وأنه القادر على كل شيء ، فالرسل جاءت بتوحيد الإلهية الذي هو إفراد الله بالعبادة ولم يأتي عن نبي قط أنه دعا الناس إلى الإيمان بأن الله هو الخالق ، وإنما يحتج الله جل وعلا على العباد بأنه هو الخالق الرازق والمدبر على أن يفردوه بالعبادة ، فلهذا اجتمعت الخلائق كلها مؤمنها وكافرها إنسها وجنها ذكرها وأنثاها في توحيد الربوبية . وقوله تعالى: { الحمد لله رب العالمين } قيل الرب هنا بمعنى المالك وقيل الرب هنا بمعنى مربي العالمين وقيل بمعنى الخالق وهذه الأمور كلها من توحيد الربوبية وقيل بمعنى المعبود : { الحمد لله رب العالمين } أي معبود العالمين وهذا توحيد الإلهية .
توحيد الربوبية ليس هو الأصل الذي يدخل به العبد في الإسلام ، فلو آمن بتوحيد الربوبية وجعل مع الله إله آخر لكان بذلك كافراً بالإجماع كما أنه لو آمن بتوحيد الإلهية وأفرد الله بالعبادة غير أنه جحد توحيد الربوبية لكان كافراً بالاتفاق ، بيد أن توحيد الإلهية يستلزم توحيد الربوبية كما أن توحيد الربوبية يتضمن توحيد الإلهية ، وكذلك لو آمن بتوحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وكفر بالأسماء والصفات لم يكن بذلك مسلماً فلو أفرد الله بالعبادة وخصَّه بالذكر واعتقد أن الله هو الخالق الرازق المدبر ولم يعبد مع الله إله آخر غير أنه قال لا أثبت صفات الله جل وعلا ولا أسمائه لكان بهذا كافراً .(1/52)
قال تعالى عن المشركين : { وهم يكفرون بالرحمن } عن المشركين ولهذا قال مالك وغيره من أزال صفة عن الله فقد كفر ، أي من جحد صفة من صفات الله وأنكرها فهو كافر ، فالجهمية ينكرون ، علو الله ، على خلقه وهذه الصفة جاءت الأدلة النقلية بتقريرها والأدلة العقلية على الإيمان بها ، وهم لا يتوقفون عند إنكار علو الله على خلقه فهم ينكرون استواء الله على العرش ولا يثبتون لله جل وعلا الصفات مطلقا بل يحرفونها فهم قد عطلوا الله جل وعلا عن أسمائه وصفاته .
كما أن هناك طوائف أخرى تمثل صفات الله بصفات المخلوقين ، وقد قال نعيم بن حماد الخزاعي وغيره (( من شبه الله بخلقه فقد كفر )) ونظم هذا الإمام ابن القيم رحمه الله في النونية :
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا ... إن المشبهِ عابدُ الأوثانِ
كلا ولا نخليه من أوصافه ... إن المعطلَ عابدُ البهتانِ
من شبه الرحمن العظيم بخلقه ... فهو الشبيه لمشرك نصراني
أو عطل الرحمن عن أوصافه ... فهو الكفور وليس ذا الإيمانِ
فلا بد من الإيمان بتوحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات . إن اختل شيء من ذلك لم يكن الرجل مسلماً.
- - -
وتوحيد الإلهية مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين .
(1) لأن المشركين قد آمنوا بتوحيد الربوبية في الجملة ، ومفرق الطرق بين الرسل وأتباعهم وبين أعدائهم هو في توحيد الإلهية ، فإن الأنبياء كلهم جاءوا بتوحيد الإلهية ودعوا الناس إلى ذلك ولم يذكر الله في القرآن عن نبي من الأنبياء أنه جعل يقرر من خلق السموات والأرض أو من أنزل المطر أو من أنبت النبات ، وإنما يحتجون عليهم بهذا التوحيد على وجوب الإيمان بالله وأن من فعل هذا فيجب الإيمان به ، قال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ، { أن اعبدوا الله } أي أفردوا الله جل وعلا بالعبادة وخصوه بذلك .(1/53)
فلو عَبَدَوا الله وعبدوا معه غيره لم يكونوا مؤمنين ، كما قال الله جل وعلا عن طوائف من المشركين { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } قيل: إن الإيمان في هذه الآية هو مجرد التصديق { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } أي وما يصدق أكثرهم بالله إلا ويشركون بعد ذلك لأنه لا يجتمع الإيمان والكفر الأكبر في آنٍ واحد ، إذاً لا يمكن أن يكون الإيمان هو الإيمان الشرعي لأن هذا الإيمان هو الإيمان اللغوي كما في قوله تعالى: { وما أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق لنا بدليل أنهم يقولون في تلبيتهم: (( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك )) ، وقيل: إن الإيمان في قوله تعالى : { وما يؤمن أكثرهم } هو الإيمان الشرعي ولكن حين يؤمنون يكفرون بعد ذلك فلا يستقر الإيمان في قلوبهم ، ولهذا لا يجتمع إيمان وكفر أكبر .(1/54)
لا يمكن هذا أبدا ، لا يمكن فلان فيه إيمان ومؤمن بالله وموحد لله ولكنه عنده شرك أكبر ، هذا لا يمكن أبداً ، ولا يجتمع في قلب العبد إيمان مطلق وكفر أكبر ، يجتمع في العبد إيمان بالله وشرك أصغر لكن هذا الإيمان يكون ناقصاً ، وعلى حسب وجود الشرك في قلبه ينقص الإيمان غير أن الشرك الأكبر يذهب الإيمان بالكلية ، لأن الشرك الأكبر يوجب الخلود في النار ، غير أنه قد يجتمع توحيد الربوبية وكفر أكبر كما اجتمع هذا في المشركين قال تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون الله } يعتقدون بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء ويعتقدون بأن الله هو محي الموتى وأنه على كل شيء قدير ، وأنه هو المعبود الحق لكن يشركون معه غيره بدليل أنهم إذا أصابتهم نكبه أو وقعوا في شده لجئوا إلى الله مخلصين له الدين ، كما قال تعالى: { وإذا غشيهم موجٌ كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } الله جل وعلا أخبر أنهم إذا غشيهم موج من البحر وإذا غشيتهم الظلمات وإذا ماجت بهم البحار وإذا وقعوا في الملمات والشدائد دعوا الله مخلصين له الدين في هذا دليل أنهم يعلمون أن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل ولكنهم يعتقدون إما كَذِبَ الرسل ، من أسباب كفرهم أنهم يعتقدون كذب الرسل ، وأن الله ما بعث إليهم بشراً يدعوهم إلى الله ، وأنا لا نعلم صدقه وأنه يفترى على الله الكذب ، أو أنهم يقولون: هذه وسائط مع الله كما قال عنهم: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } غير أن هذا التوحيد لا يدخلهم في الإسلام ولا ينفعهم ولا يخلصهم من عذاب الله جل وعلا وإن كانوا يعتقدون بأن الله هو المعبود الحق ولكن يعبدون معه غيره .
فإن قال قائل: لو كانوا فعلاً يعلمون أن الله هو المعبود الحق لماذا يعبدون معه غيره ؟(1/55)
فنقول إذاً ما الجواب: أنهم يخلصون لله في زمن الشدة لو لم يكن هذا الاعتقاد مستقر في نفوسهم ما أخلصوا لله في زمن الشدة ، لأنهم ما جاءتهم رسل في زمن الشدة بالذات : ثم دعوهم إلى الله فآمنوا ثم تغيروا فيما بعد ، لكن هذا كان مستقراً في نفوسهم ومستقراً في قلوبهم ، ولكن الذي يمنعهم من إفراد الله بالعبادة هي أمور:
الأمر الأول: اعتقاد كَذِبَ الرسل وهذا لا ينفعهم وليس عذراً لهم بل هم كفار لا شك في ذلك .
الأمر الثاني: الأطماع الدنيوية .
الأمر الثالث : الحسد كما صنعت يهود لأنهم يعملون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الحق وأنه رسول من قِبَلِ الله ويعلمون ما هم عليه من الباطل ولكن لا يمنعهم من الانقياد سوى الحسد فقط .(1/56)
ومن ذلك أيضاً حب الرياسة ، ومن ذلك أيضاً المكابرة والإعراض كما قال الله عنهم { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } إذاً لا يمكن أن نجد رجلاً بلغته دعوة الرسل وأنزلت عليه الكتب وقرأها أن يكون معتقداً بأن الآلهة هي التي تنفع وتضر وهي المعبودة حقا دون الله جل وعلا بل يجعلون لله نصيبا وللآلهة نصيبا . وهذا واضح من كتاب الله ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن اتفاقات أهل العلم المنقولة في هذا الباب . وسيأتي إن شاء الله زيادة توضح لهذا القضية فقد قال الله تعالى: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا } قال تعالى: { فلما جاءتهم رسلنا بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم } أي أن الله لما بعث رسله وأنزل كتبه وتلقت البشرية هذه الدعوات ، منهم من تلقاها بالقبول ومنهم من عارضها ، منهم من عارض بالعلم { فرحوا بما عندهم من العلم } وهذا العلم لو كان علماً نافعاً لدلهَّم على الحق ولأرشدهم إلى الإذعان بما جاءت به الرسل ، فإن ما جاءت به الرسل يوافق العقول السليمة ، فلهذا لا يصح وصف المشرك بالعاقل ولا وصف الضال بالعقل إذ لو كان هذا فعلا عاقلاً لوحد الله وأفرده وآمن بالله ، فإن حقيقة العقل الإيمان بما جاءت به الرسل ، ولهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا الحكم سماه أبا جهل ، لو كان عنده شيء من الحكمة وشيء من العقل لآمن بالله وأي فرق بين الإيمان بالله وعبادة الآلهة ، وأي مماثلة بين الأمرين فدل هذا أنهم ليس بعقَّال أصلاً كما قال الله جل وعلا { بل هم أضل سبيلا } أي من البهائم ولا يمكن وصف المشرك بالعقل أبداً .(1/57)
عقل معيشي يمكن وصفه بالعقل المعيشي ؟ أما وصفه بالعقل المطلق فهذا لا يصح حتى العاصي بحسب عصيانه للرب بنقص عقله ، لأنه لا يمكن يوصف رجل بالعقل ووفرة العقل وكمال العقل وهو يعلم أن هذا الطريق غلط ومع ذلك يفعل ، فلا يعصي العبد ربه إلا لنقص في العقل فلو رأينا رجلاً يقتحم النار هل يمكن وصفه بالعقل كلٌ منا يتفق أو تتفق آرائنا مع آراء غيرنا أن الإنسان حين يرى ماء ويرى نار وينغمس في النار أن هذا يوصف بالجنون ، كذلك الذي يسلك طريق أصحاب السعير لا يمكن أن يوصف بالعقل وكل بحسبه فالذي يقتحم طريق أهل السعير بالكفر والشرك والإعراض عن الله فهذا ليس فيه شيء من العقل . والذي يؤمن بالله ويوحده غير أنه يعصي الله في الليل والنهار فبحسب عصيانه ينقص عقله ، إذاً أكمل الناس عقلاً أكثرهم توحيداً .
- - -
ولهذا كانت كلمة الإسلام لا إله إلا الله ، فلو قال لا رب إلا الله لما أجزأه عند المحققين .
(1) وهي كلمة الإخلاص وهي العلامة والكلمة الفارقة بين المؤمنين وبين المشركين ، ومن أجل هذه الكلمة أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وافترق الناس فيها إلى شقي وإلى سعيد (( فلا إله )) لا: نافية للجنس ، إله: اسمها ، إلا: أداة حصر ، الاسم الشريف هو أعرف المعارف بدل من الخبر المحذوف المقدر بحق كما قال الله تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل } .
((1/58)
2) وجه ذلك لأن الرب يطلق على معنى الخالق الموجد لعبادة وعلى معنى المالك المربي لعبادة وهذا لم يجحده المشركون ولم ينكروه ، فإذا قيل: لا رب إلا الله فذلك في معنى لا خالق إلا الله وهذا توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون . بخلاف قول القائل لا إله إلا الله ففيه إبطال لدين المشركين وعباداتهم الشركية وفيه إفراد الله بالعبادة ، فمن قال لا إله إلا الله أي لا موجود إلا الله فقد غلط ، ويعتقد حذاق المتكلمين كما يعترف به حذاقهم في مصنفاتهم وكتبهم أن المرء منهم إذا قال لا موجود إلا الله أو أنه لا صانع إلا الله فقد أثبت غاية التوحيد والمتكلمون يعتبرون هذا هو العالم وفي الحقيقة هو الجاهل الذي لا يفهم شيئاً مما جاءت به الرسل .
وقد غلا بعض جهلة العباد الذين يعتقدون في التوحيد أنه هو توحيد الربوبية وفي معنى كلمة الإخلاص أنه لا موجود إلا الله فقالوا : لا هوَ إلا هوَ ، ومنهم من يقول : لا وجود إلا لله أو لا موجود إلا الله ويجعلون هذا غاية التوحيد الذي نزل به القرآن وجاءت به الرسل . بل فيه طوائف من الاتحادية يقولون :أن لا هو إلا هو . ولا موجود إلا الله أحسن من لا إله إلا الله وهذا في الحقيقة مذهب الاتحادية الفراعنة وقد وقفت على مصنف لهؤلاء الجهال يقولون فيه (( لا إله إلا الله )) ذِكرُ العابدين و (( الله الله )) ذِكرُ العارفين .و (( هوَ هوَ )) ذِكرُ المحققين فجعل كلمة الإخلاص التي جاءت به الرسل وأنزلت من أجلها الكتب هذا من ذكر العابدين ، وجعل ذكر المحققين (( هو هو )) الذي هو ذكر الصوفية والملاحدة والمعرضين عما جاءت به الرسل ، ولهذا ترى طوائف من المنحرفين عن شرع الله ومن المنحرفين عما جاءت به الرسل يرددون في ذكرهم (( هوَ هوَ )) ومنهم من يقول (( إلا هو هو )) فإذا سألته قال أخشى أن أموت على النفي دون الإثبات وهذا جهل محض .(1/59)
وذكر هذا القول عن هؤلاء الجهلة الأغبياء المعرضين عما جاءت به الرسل كافٍ عن ردِّه ، فإن مثل هذا مناقضة لما أجمع عليه المسلمون ، ولما اتفق عليه عقلاء البشرية ، فلو أن أمراء ًموحداً مخلصاً لله قال (( لا إله )) ثم توفي لم يضره ذلك ، على أن الله جل وعلا يوفق عبده المؤمن الموحد على أن يتم كلمة الإخلاص ، فإن من مات على لا إله إلا الله دخل الجنة كما في سنن أبي داود من حديث صالح ابن أبي عَريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ) إذن لا بد من قول لا إله إلا الله ولا يصح قول لا رب إلا الله وكل الرسل يفتتحون دعوتهم (( أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره )) وليس في القرآن آية بخلاف هذا المعنى ، فالقرآن كله من فاتحته إلى خاتمته في تقرير توحيد الإلهية { الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * } هذا في توحيد الإلهية ، في خاتمة القرآن { قل أعوذ برب االفلق * } وبعد ذلك { قل أعوذ برب الناس * } هذا خلاصة توحيد الإلهية .
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في التحفة العراقية عن بعض السلف أن الله جل وعلا جمع علم الأولين والآخرين في القرآن بالنسبة للتوحيد ، وجمع الله جل وعلا علم القرآن في فاتحة الكتاب وجمع الله جل وعلا ذلك في قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين * } .(1/60)
توضيح هذا أنه لا يمكن أن يخرج شيء عن هذه العبودية ولا يصح شيء إلا في هذه العبودية فلا يصح توحيد الربوبية ولا توحيد الأسماء والصفات إلا بتوحيد الإلهية كما سبق تقرير ذلك فجماع الأمر { إياك نعبد وإياك نستعين * } على أنه لا يتصور وجود شخص يفرد الله بالعبادة ويخلص له فلا يؤمن بتوحيد الربوبية ، قد يوجد من يوحد الله ولكن يحرِّف بعض الأسماء والصفات يؤمن بالأسماء والصفات بالجملة ، ولكن يحرِّف بدافع أنه لو أثبتنا له الأسماء والصفات لشبهنا الخالق بالمخلوق فأتي من قبل جهله في هذه القضية فألحد في أسماء الله وصفاته ، على أن هذا ناتج من ضعف الإيمان بتوحيد الإلهية . فإن حقيقة الإيمان تقتضي الإيمان بكل ما جاء عن الله على مراد الله وبكل ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
تأمل في الصحابة ، بل تأمل في الأعراب الذين يؤمنون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمل في الأعاجم الذين يؤمنون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ترى في شيء من عباراتهم ولا من كلامهم استنكاراً للأسماء والصفات ولا لغير ذلك ، لأن الإيمان إذا دخل القلوب وإذا خالطت بشاشته القلوب آمن بكل ما جاء به عن الله فلا ينحرف لا في توحيد الربوبية ولا في توحيد الأسماء والصفات إنما يأتي الانحراف إما من ضعف التصديق أو من ضعف الإيمان أو من ضعف التوحيد فلهذا نستطيع أن نحكم على الجهمية وعلى الأشاعرة أن هذا الإعراض عن توحيد الأسماء والصفات ناتج من ضعف التوحيد في قلوبهم ومن ضعف توحيد الإلهية في نفوسهم ومن قلة التصديق بما جاءت به الرسل .(1/61)
إذ إن الأعرابي الذي يؤمن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤمن بذلك ويتلقى هذا دون أي إشكال والأعاجم الذين لا يعون اللغة العربية يؤمنون بهذه الأمور دون أي إشكال بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة ، ولا ذكر عن أحدٍ يستشكل ما معنى يا رسول الله (( الحي القيوم )) ما معنى (( وهو العلي العظيم )) ما هو العلو ؟ علو قدر ، علو شرف ولكن لا نؤمن بعلو الذات ... ، ما كان يقع هذا في قلوبهم لسلامة فطرهم . يأتي الانحراف من انحراف الفطرة ، والحديث السابق صحيح جاء من رواية الحميري عن ابن زياد عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من قرأ آية الكرسي دبر كلا صلاة لا يمنعه دخول الجنة إلا الموت ) حديث صحيح رواه النسائي في عمل اليوم والليلة صححه ابن حبان وابن عبد الهادي وجماعة من أهل العلم .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأصحابه في (( قل هو الله أحد )) إنها تعدل ثلث القرآن ) وهذا متواتر عن رسول - صلى الله عليه وسلم - ( والرجل أيضاً كما جاء عنه في الصحيحين الذي يقرأ قل هو الله أحد بعد الفاتحة وسورة ) قال إنها صفة الرحمن ولا ذكر عن أحدٍ استنكار شيء من ذلك كانوا مؤمنين مقرين مُسَلِّمين بما جاء عن الله .
إنما يتأتى الانحراف عما تقدم أو بسبب ما تقدم من أشياء تؤدي بهم إلى الانحراف والإعراض عما جاءت به الرسل وكلٌ بحسبه ، منهم من يخرجه ذلك عن الإسلام ومنهم من يوقعه في البدع العظيمة والذميمة ومنهم من يوقعه في الانحراف ، ولهذا أكابر أئمة السلف يكفرون الجهمية القائلين بنفي علو الله على خلقه وبنفي صفة الكلام عن الله و بدعوى أن القرآن مخلوق والذين لا يثبتون لله صفة الرحمن ولا صفة المحبة ولا صفة الغضب ولا صفة الرضا، أئمة أهل السنة يكفرونهم لذلك أشار إلى هذه القضية الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في نونيته فقال :(1/62)
ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عنهم ... بل قد حكاه قبله الطبراني
وكما بين هذا أهل السنة كما تراه في كتاب اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ، وفي الإبانة لابن بطه وفي كتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري وفي كتاب السنة للخلال ، وفي كتاب الشريعة للآجري ، وفي مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم على الجميع رحمة الله تعالى .
وقد تقدم الحديث أيضاً عن الأشاعرة وأنهم ينكرون علو الله على خلقه يقولون عن القرآن بأنه حكاية وينفون صفة الكلام عن الله ولا يثبتون الرحمة ولا الغضب ولا الرضا ويثبتون لله سبع صفات لا غير . ولا أدري ما هو الدليل الذي دلهم على إثبات السبع ودلهم على نفي ماعدا السبع ؟! فهذا دليل على مكابرتهم لما جاءت به الرسل وعلى تهافت وضحالة عقولهم ، حيث يثبتون لله سبع صفات يقولون دل الدليل على ذلك طيب الدليل الذي دل على إثبات السبع هو ا الذي دل على إثبات ما عداها
حين يدل الدليل على إثبات الحياة لله جل وعلا كما يقرون بذلك ، الدليل الذي دل على إثبات الحياة هو بعينه الدليل الذي دل على إثبات صفة الرحمة (( الرحمن الرحيم )) فالدليل الذي دل على هذا هو الذي دل على هذا . ولكن يثبتون هذا وينكرون هذا ، فهذا دليل على فساد أصولهم التي يسيرون عليها وذلك أنهم يقدِّمون العقل على النقل ولا يقرِّون بأخبار الآحاد ، .. نرجع لما قصد بالذات .
- - -
فتوحيد الألوهية هو المطلوب من العباد
((1/63)
1) ليس معنى كلامه أن توحيد الربوبية غير مطلوب ، بل الإيمان به شرط في الدخول في الإسلام ، لكن الأصل أن العبد مؤمن به ولم ينازع في ذلك إذاً نرجع إلى المطلوب الذي ينازع فيه بعض أراذل البشرية أو أكثر البشرية الذي هو توحيد الإلهية إذاً هو المطلوب بالذات ، لأن هذا لم ينكروه ، ولكن حين نأتي نناقش الملاحدة والدهرية الذين لا يثبتون وجود الله جل وعلا فلا بأس حينئذٍ أن نناقشهم بالإيمان بالله ، إذ لا يمكن أن نناقشهم بإفراد الله بالعبادة وهم لا يقرون بهذا الذي يجب إفراده بالعبادة ، إذاً من الواجب علينا أن نقنع هؤلاء بوجود الله ، ففيه طوائف لا تقر بوجود الله ، وفيه طوائف تجعل عين المخلوقات هو عين وجود الله أو عين الله ، ومن الطوائف من يجعلون للكون خالقين ، خالق النور وخالق الظلمة كالثانوية وغيرهم .
إذاً نحن في هذه الحالة يستوجب علينا أن نقنع ونناظر هؤلاء وأن نجادل هؤلاء بالتي هي أحسن لنجعلهم يقرون بوجود الله . فإن أقروا بوجود الله فلا يمكن أن الله جعل وعلا الذي هو الموجود في اعتقادهم أن يُخلي العبادة من رسول مرسل ومن عبادته ، لأن الرسل جاءت بهذا فإذا أقر بالله أقر بالرسول وإذا أقرّ بالرسل ، آمن بالقرآن الذي جاءت به الرسل ، إذاً يستوجب علينا إذا رأينا هؤلاء أن نُخضِّعهم وأن نناظرهم وأن نجادلهم بهذا التوحيد . فلا يمكن لنا أن نناقش شخصاً لا يؤمن بوجود الله فنقول يجب عليك أن تفرد الله بالعبادة الصحيح أن يقول لو أقررت بوجود الله لأقررت بالعبادة . إذاً يتطلب منا الأمر أن نجادلهم بإثبات وجود الله جل وعلا .
وهل يعقل أن هذه البشرية أوجدت بغير موجد؟! لولا قلوبٌ حساكل وعقول مريضه ، لكن يوجد بما أنه يوجد لا بد أن نخرج هؤلاء ثم بعد ذلك ننتقل معهم إلى توحيد الإلهية .(1/64)
فإذا أردنا أن نناظر أناس يكفرون بتوحيد الإلهية ويقرون بتوحيد الربوبية حينئذٍ يستوجب علينا هذا الأمر الذي جاءت به الرسل كذلك نرى فيه طوائف من المجتمعات من يقر بالله ويؤمن بالله ويعتقد أن الله هو المعبود حقا ولكن يجعل معه إله آخر يظن أن هذا يُقربه إلى الله ، وأن هذا يحبه الله كما يوجد هذا في طوائف كثيرة في العالم الإسلامي . حيث أنهم يعبدون الله يصلون ويصومون ويزكون ويدعون
الله جل وعلا ويسجدون لله وينذرون لله ويذبحون لله ولكن يجعلون معه إله آخر يقولون لا إله إلا الله ويشهدون أن محمداً رسول الله ويؤمنون بما جاء في الكتاب ويقرون بما جاءت به الرسل ، ولكن زين لهم الشيطان سوء أعمالهم ولهذا أسباب منها: علماء السوء ، ودعاة الضلالة الذين يلبسون على هؤلاء دينهم كما قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله } فهؤلاء يصدُّونهم عما جاءت به الرسل ، فإن هؤلاء أعني علماء ضلالة قاعدون على كل صراط مستقيم وهم من أسباب انحراف طوائف من البشرية يُفسِّرون لهم القرآن على غير تفسيره يقولون إن الله جعل وعلا يقول: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } ويقولون عن هذه الوسيلة: بأنها هي التقرب إلى الله عن طريق الأولياء والصالحين ، وترى هذا كثيراً في مؤلفات عبّاد القبور وعبّاد الأوثان وعبّاد البشر ، يفسرون الوسيلة بالتقرب إلى المخلوق فيقولون ما نعبد المخلوق لذاته ، إنما نعبده لأنه ولي من أولياء الله ، فهذا يقربنا إلى الله ، إذ لا يمكن أن ندعو الله بدون واسطة لأننا نحن أحقر أن نسأل الله بدون واسطة .(1/65)
وقد يدعون من ليس ولياً كالبدوي مثلاً ، يقال أن البدوي هذا الذي يُعبد الآن من دون الله ، ويخلص له بعض الناس ما لا يخلص لله ، وإذا أراد أن يجتهد في الدعاء أو يجتهد في اليمين قال: " والبدوي " هذا البدوي تعرفون حكايته أوقصته يقال أنه أعرابي جلف بال في المسجد وكان بعض الناس يعتقد أن من بال في المسجد ولم يصبه شيء أنه ولي من أولياء الله ، يتصورون أن الولي يجوز أن يبول في المسجد ، فهنا جهلوا أن الولي لا يبول في المسجد لا ولي ولا غيره ، لا يجوز أن يبول في المسجد ، فهم يعتقدون أن الرجل إذا بال في المسجد ولم تصبه العقوبة ، ونحن نقول لو كان ولياً ما بال في المسجد ، ولو بال هذا الولي في المسجد لكان آثما كان عاصياً لله وعاصياً للرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بعد ذلك عبدوه من دون الله وقيل غير ذلك في حكايات كثيرة ذكرت في هذا البدوي وسواء كان البدوي ولي أو أعرابي جلفاً أو طاغوتاً أو غير ذلك لا تصح عبادته .
لو أن شخصاً عبد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وآخر عبد البدوي لم يكن في كفرهما فرق لِلَّهِ لم يكن لأحد أن يقول إن الذي عبد البدوي أعظم كفراً أقول الذي عبد هذا والذي عبد هذا كلاهما مخلدان في النار لِلَّهِ لا فرق بين من يعبد محمداً وبين من يعبد إبراهيم وبين من يعبد الأشجار والأحجار أو يعبد البدوي . لا فرق بين ذلك ، فلا يتصور الإنسان أن الذي عَبَد الأولياء والصالحين صار شركه أعظم بكثير ممن عبد الأنبياء والصالحين فلا فرق بين ذلك . فلو أن رجلاً قال والبدوي لصار مشركاً ، ولو رجل قال ومحمداً يريد القسم لكان مشركاً فلا وجه للتفريق ، (( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا تحلفوا بآبائكم ) فينبغي فهم هذا ووعيه وضبطه .
- - -(1/66)
ولهذا كان أصل الله الإله كما هو قول سيبويه وهو الصحيح وهو قول جمهور أصحابه إلا من شذ منهم وبهذا الاعتبار الذي قررنا به الإله وأنه المحبوب لاجتماع صفات الكمال فيه .
(1) وقد تقدم أن الإله هو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال والإله هو الذي تألهه القلوب محبةً وتعظماً وإجلالاً وعبادةً ، يقال أله يأله إذا عَبَدَ يَعْبد ، والإله إذا عّرف بالألف واللام لا ينقدح الذهن إلا إلى الله جل وعلا وإذا قيل إله بالتنكير يدخل فيه الآلهة وغيرها ، وإذا قيل الإله عرّف بالألف واللام فالذي استقر عليه الأمر أن هذا لا يطلق إلا على الله جل وعلا ولهذا يجوز التسمي بعبد الإله عند طوائف من أهل العلم . وقد قرأت لبعض المتأخرين لا يرى التسمي بعبد الإله لأن الإله ليس اسما من أسماء الله جل وعلا والله جل وعلا يقول: { وإلهكم إله واحد } ولا سيّما أنه استقر إذا عُرِّف بالألف واللام لا يطلق إلا على الله جل وعلا فإذا قيل: الإله إذاً هو المألوه المعبود بحق فهو من صفات الله جل وعلا بل الإله من أخص صفات الله جل وعلا لأنه هو الذي تألهه القلوب محبةً وتعظيماً وإجلالاً وكما فسر غير واحد من أهل العلم الله بالإله وهذا واضح ولذلك لا أرى أي مانعاً من التسمية بعبد الإله لأن الذهن لا ينقدح إلا إلى الله والاشتراك يقع في التنكير { أإله مع الله } التنكير ، وإذا عرف بالألف واللام فقيل: الآلهة (( أجعل الآلة إلها واحداً )) فلا يقال الإله ولا يطلق الإله إلا على الله فإذا أردت أن تعبّر عن الآلهة تقول: إله .
(2) وهذا الكلام بحروفه موجود في بدائع الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في المجلد الثاني فهو الذي ذكر هذا الكلام وما بعده وبيَّن أن أصل الله هو الإله وأن الإله هو الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال .
((1/67)
3) أي الحب مع الذل ، ما هي أركان العبودية ؟ للعبودية أركان من جهة نقول: إذ أركان العبودية: الحب والخوف والرجاء ومن جهة أخرى نقول: إن أركان العبودية الحب مع الذل لأن الإنسان قد يكون ذليلاً لشخص لكن لا يحبه يبغضه وقد يكون محباً لشخص لكن لا يكون ذليلاً له ، فإذا اجتمع الحب مع الذل فلا يجوز صرفه إلا لله الواحد القهار .
وعبادة الرحمن غايةُ حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادةِ دائرٌ ... مادار حتى قامت القطبان
ومدارهُ بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطانِ
- - -
كان الله هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا وهو الذي ينكره المشركين .
ويحتج الرب سبحانه عليهم بتوحيدهم ربوبيته على توحيد ألوهيته ، كما قال الله تعالى: { قل الحمدُ لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خيرٌ أما يشركون * أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلهٌ مع الله بل هم قومٌ يعدلون } .
(1) الاسم الشريف اسم كان ، هو الاسم ضمير فصل ، والاسم خبر ويجوز أن تقول كان الله هو الاسم تجعل هو مبتدأ والاسم خبر هو والجملة في محل نصب خبر كان ، تقول كان الله هو الاسم أو هو الاسم .
((1/68)
2) مع أنهم يقولون (( الله )) ولكنهم لا يفهمون حقيقة اللفظ وما وضع له ، ومن فهم منهم وعقل يكابر في ذلك لأنه تقدم مِرَاراً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والحديث في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عاد عمه أبا طالب وقد حضرته الوفاة قال: ( يا عم قل لا إلا إله الله كلمه أحاج لك بها عند الله قال له عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل أترغب عن ملة عبد المطلب ) ، فهموا أن معنى هذه الكلمة تقتضي الإتيان على بنيان الشرك من أصله وأنه لا قرار مع الشرك ، لا قرار مع وجود هذه الكلمة للشرك ، فهي تقتضي إفراد الله ونفي عبادة ما عداه ، ولكنهم يكابرون في ذلك ويجادلون بالباطل { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } .
(3) وهذا كثير في القرآن وذلك أن الله جل وعلا يحتج على المشركين بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية ، ولهذا قال: غير واحد من أهل العلم ذكر ذلك ابن القيم في المدارج ، وذكر ذلك غيره قال: فإن أول ما يتعلق به القلب يتعلق بتوحيد الربوبية ثم يرتقي إلى توحيد الإلهية ، ولهذا يدعو الله جل وعلا عبادة في كتابة إلى هذا النوع من التوحيد ، أو بهذا النوع من التوحيد إلى النوع الآخر الذي هو المقصود الأعظم ويحتج عليهم بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية تأمل في قوله الله { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فأنى يؤفكون } أي فأنى يصرفون عن عبادة الله وهم مقرون بأن الله هو الخالق الرازق وهذا عجب .
(4) تأمل في قوله الله تعالى: { قل الحمدُ لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون } احتج الله عليهم بتوحيد الربوبية .
((1/69)
5) (( يعدلون )) أي يشركون ، ما معنى قوله تعالى: { أإله مع الله } ؟ الصحيح في معنى هذه الآية أي أإله مع الله يفعل كفعله ، فإذا لم يكن معه إله يفعل كفعله أي يخلق كخلقه ، ويوجد كإيجاده ، ويصنع كصنعه وينزل من السماء ماء ، وبينت به حدائق ذات بهجة كيف تعبدون معه آلةً أخرى ؟
قوله: { بل هم قومٌ يعدلون } أي يشركون هذا دليل على فساد عقولهم وحساكل قلوبهم نسأل الله العفو والعافية .
ومن قال في معنى الآية أي (( أإله مع الله )) أي هل مع الله آله آخر من غير تقييد بالفعل فلم يأتي بشيء ولم يأتي بكبير علم ، بل أتى بما يُقربه المشركون ، ولا أقام الحجة على أحد ، فلو كان المعنى على ما زعم هذا القائل (( أإله مع الله )) أي هل مع الله إله آخر دون أن يُقَيِّد هذا بالفعل ، يفعل كفعله فما أتى بشيء ، هم مُسَلِّمُونَ هم مقرون بهذا ، إذاً لو قال هل مع الله إله آخر يفعل كفعله لكان حينئذٍ مصيباً .
وبعض حذاق المتكلمين يقول على قوله تعالى: { أإله مع الله } يقول : أي أإلهه مع الله ؟ وهل يوجد إله مع الله ؟! وهو يعلم علم اليقين أن المعبودات دون الله كثيرة { أأربابٌ متفرقون خير أم الله الواحد القهار } { أجعل الآلهة إله واحد } قد كانوا مقرين أو كانوا يعبدون الآلهية .
فحينئذٍ تفسَّر هذه الآية { أإله مع الله } هل يوجد إله مع الله بدون قيد فهذا لم يأتي بشيء ولم يأتي بالتوحيد الحق فالآلهة كثيرة { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل } والمعبودات دون الله كثيرة ، ومن لا يعبد الله أكثر ممن يعبد الله وهذا من المسلمات ، لكن عبادات غير الله تختلف ، فيه من يعبد القبور وفي من يعبد القباب ، وفيه من يعبد الأوثان ، وفيه من يعبد المادة وفيه من لا يعبد شيء فيه من الطوائف اليهودية ، فيه من الطوائف النصرانية ، فيه من الطوائف الملحدة ، فيه من الثانوية ، فيه من يعبد الله ويعبد معه غيره .(1/70)
فأهل التوحيد في أهل الشرك كالشعرة البيضاء في الجلد الأسود أو كالشعرة السوداء في الجلد الأبيض . التوحيد عزيز الذي يعرفه قليل .
إذاً الصحيح في قوله تعالى: { أإله مع الله } أي يفعل كفعله ، أي هل هناك إله يخلق كخلق الله ، لا يوجد ، إذا كان لا يوجد بإقرار المشركين : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } إذا كيف تعبدون معه غيره ؟!
وهذا دليل عقلي واضح ، لو كانوا يعقلون ، إذاً لا عقول لهم ، إذ من آتاه الله عقلاً كان عليه أن يميز بين الحق وبين الباطل .
وما تغني الآلهة عن أصحابها ؟! شخص يعبد البدوي ، شخص يعبد القبور ، شخص يعبد الأوثان ، ماذا تغني عنه شيئاً ؟! .
شخص يشرك بحكم الله ويحكم بغير شرع الله ، يعتاض عن شرع الله وعن حكم الله { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } فَيُحَكِّمُ في البشرية آراء اليهود وآراء النصارى وآراء العلمانيين وحثالة عقول البشرية ؟!
لو كان هذا عنده ذرة من العقل كما يوصف الآن في الإعلام وفي غيره فلان بالعاقل ويحكم بالطاغوت ، هذا فلان الجاهل وليس بالعاقل ، لو كان هذا عاقلاً ، لأطاع الله ، وحين أطاع الشيطان عُلِمَ أنه سفيه .
وإذا كان يحكم بغير شرع الله ولو كان يعتقد أن شرع الله أفضل لكان مشركاً بالله ، لأن هذا الاعتقاد لا ينفعه ولا يخلصه من عذاب السعير ، العبرة بالعمل لم ينفع المشركين اعتقادهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر حين عبدوا غير الله ، والذي يحكم بغير شرع الله كالذي يحكم بالقوانين كالذي يعبد القبور والأوثان ، لا فرق بينهما في الكفر والردة عن الإسلام .(1/71)
إذ قال لنا شخص أنا لا أعتقد ؟ نقول: يقول المشرك أنا لا أعتقد أن فلاناً ينفع ويضر لكنه واسطة أجعله واسطة ، وأي فرق بين هذا وهذا ، والله جل وعلا يقول: { ولا يشرك في حكمه أحدا } ، { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وقد تقدم أن الحكم بغير شرع الله كفر بالإلهية وكفر بالربوبية وكفر بالأسماء والصفات .
وجه كونه كفراً بالربوبية: أن هذا من توحيد الربوبية ، وجه كونه كفراً بتوحيد الإلهية : أنه يجب إفراد الله بالحكم ، ووجه كونه كفراً بالأسماء والصفات أن من أسماء الله الحكم ، فالله هو الحَكم وإليه الحُكم { إن الحكم إلا لله } وقد كفر بهذا الاسم العظيم . فهذا دليل على أنه كافر بجميع أنواع التوحيد وأنه أخس شركاً من المشرك وأعظم كفراً .
ولاسيما حين يفرضون هذه الأنظمة على البشرية المظلومة ويحكمونهم بغير شرع الله جل وعلا ، الله جل علا يقول : { إن الحكم إلا لله } وهؤلاء يقولون: إن الحكم إلا لنا ، يحكمون في الصباح ويشرعون في الصباح وينسخون في المساء ، وماذا يعني هذا !! هذا منازعة لله في ربوبيته وألوهيته وتوحيد الأسماء والصفات . وأعظم من ذلك أنهم يفرضون هذه الأنظمة على البشرية .
لأنه لو حكم بغير شرع الله لكان كافراً . إذا استبدل يعني استبدل غير شرع الله صار هذا كفراً آخر ، وإذا فرض صار مُشرع مع الله جل وعلا فاجتمعت فيه جميع أوصاف الكفر ، { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } كافرون بترك الشرع وكافرون باستبدال الشرع وكافرون بالحكم بالشرع المنسوخ ، ومن لم يوافقهم على ذلك فمصيره السجن أو القتل ولكن لا ضرر على العبد في ذلك لأن الإنسان ما خُلق إلا لإفراد الله بالعبادة ومواجهة هذه الانحرافات في المجتمع فإذا قُتل من أجل دينه صار شهيداً وأجره على الله .
من رام نيل العز فليصطبر على ... لقاء المنايا واقتحام المضايقِ
فإن تكن الأيام رنقن مشربي ... وثلمن حدي بالخطوب الطوارقِ(1/72)
فما غيرتني محنةٌ عن خليقتي ... و لا حولتني خدعةٌ عن طرائقي
لكنني باقٍ على ما يسرني ... ويغضب أعدائي ويرضي أصادقي
- - -
وكلما ذكر تعالى من آياته جملة من الجمل قال عقيبها { أإلاهٌ مع الله } فأبان سبحانه وتعالى بذلك أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات توحيد الإلهية لا الربوبية " على أن منهم من أشرك في ربوبيته كما يأتي بعد ذلك إن شاء الله تعالى وبالجملة فهو تعالى يحتج على منكري الإلهية بإثباتهم الربوبية .
(1) عقيبها بالياء أي بعدها . والأكثر يقال عقبة بالباء الموحدة بعد القاف بدون الياء بعد القاف ، وجوز بعضهم عقيبه بالباء بمعنى بعده قال عقبها وهذا الأكثر بدون الياء أي بعده .
(2) وكما وضحت ذلك فيما قبل حين كانوا يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وهذا كفر بتوحيد الربوبية ، وكما تقدم أنهم يجحدون بعض أسماء الله وصفاته كما قال تعالى: { وهم يكفرون بالرحمن } .
- - -
والملك هو الآمر الناهي .
(1) الملك اسم من أسماء الله تعالى كما قال تعالى: { الملك القدوس } وكما قال تعالى: { فتعالى الله الملك الحق } وكما قال تعالى: { ملك يوم الدين } وقد قُرِء { مالك يوم الدين } وقُرِءَ { ملِكِ يوم الدين } ، ملك جاءت في سنن أبي داود في كتاب صلاة الاستسقاء من طريق يونس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خطب الناس للاستسقاء ، قال أبو داود رحمه الله تعالى عقب هذا الخبر وهذا حديث غريب إسناده جيد ، وأهل المدينة يقرءون { ملِكِ يوم الدين } وإن هذا الحديث حجةٌ لهم .
وهذه القراءة هي قراءةُ ابن كثير ونافع ، وأبي عمرو ، وابن عامر ، وحمزة .بينما قرأ عاصم والكسائي { ماَلِك يوم الدين } .
والملك أبلغ من المالك فكل مَلِكٍ مالك ، وليس كل مالك ملكا .(1/73)
الملك قال عنه المؤلف رحمه الله تعالى: (( الملك هو الآمر الناهي )) فإن الله جل وعلا هو الملك وله المُلك والخلق كلهم تحت تصرفه وقهره ، الله جلا وعلا يأمر العباد بما ينفعهم وينهاهم عما يضرهم .
(2) قوله (( الآمر )) أعظم أمر هو الأمر بالتوحيد ومن هنا كان أول أمر في القرآن هو الأمر بالتوحيد كما قال تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } والعبادة هنا بمعنى التوحيد ، اعبدوا: أي وحدوا ربكم.
(3) قوله (( الناهي )) أعظم نهي هو النهي عن الشرك ، فإن الشرك يخالف الفِطر ويخالف الشرائع ، ويخالف ما جاءت به الرسل ، وهنا كان أول نهي في القرآن هو النهي عن الشرك ، قال تعالى: { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } الأنداد من هم ؟!
الأنداد هم النظراء ، المثلاء ، الشبهاء والشركاء .
الشرك الأكبر هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله ، الشرك الأكبر صاحبه مخلد في النار ، قال تعالى: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } .
وقال تعالى: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } وقال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
وقد تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من مات وهو يدعوا من دون الله نداً دخل النار ) جاء من حديث ابن مسعود ومن حديث جابر وفي أحاديث كثيرة .
وأعظم ذنب عصي الله جل وعلا به هو الشرك ، فلا يجتمع شرك أكبر مع التوحيد ، كما لا يجتمع الضب والحوت ، حين تضع الضب في مكان الحوت يهلك الضب ، وحين تضع الحوت في مكان الضب يهلك الحوت فالحوت لا يعيش إلا في الماء ، والضب لا يعيش إلا خارجه . فلا يجتمعان أبداً ، لا بد أن يبقى أحدهما .(1/74)
النوع الثاني من أنواع الشرك: هو الشرك الأصغر ، وأحسن ما قيل في تعريفه: هو ما سماه الشارع شركاً ولم يصل إلى الأكبر وقد قيل في تعريفه: ما كان وسيلة إلى الأكبر ، ويمكن جمع التعريفين فيقال: الشرك الأصغر: ما سماه الشارع شركاً ولم يصل إلى الأكبر ، أو كان وسيلة إليه .
الشرك الأصغر من حيث العموم أكبر من الكبائر ، ومن حيث الأفراد فيه تفصيل صاحب الشرك الأصغر لا يخلد في النار ، لكنه معرض للوعيد ، فلا يخلد في النار إلا أصحاب الشرك الأكبر والكفر المخرج عن الملة فاليهود والنصارى والمشركون والدهريون والكفار مخلدون في النار .
أما الشرك الأصغر فصاحبه لا يخلد في النار ، وقد قيل: إنه لابد من عذابه فإنه لا يُغفر له من أول وهلة ، كما هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وذهب الجمهور إلى أنه داخل في قوله الله جلا وعلا: { ويغفر مادون ذلك لمن يشاء } ، وهذا هو الأصح ، لأنه إذا ثبت دخوله في قوله الله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يُشرك به } ، فليس ثَمَّ دليل في إخراجه ، فنحن لا ندخله أولاً في هذا الآية لأنها في سياق الشرك الأكبر ، فحينئذٍ يبقى داخلاً في قوله تعالى: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } لأن الله حكم على المشرك بالخلود في النار .
وهذا من الأمر المقطوع به ، ولم يرد لفظ الشرك في القرآن ، إلا ويراد به الأكبر ، وإنما جاء ذكر الشرك الأصغر في السنة والمتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وذكر بعض أهل العلم نوعاً ثالثاً لأنواع الشرك فقال الشرك الخفي والصحيح أن الشرك نوعان: أكبر وأصغر ، والخفي منه ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر ، فإن بعض أنواع الشرك الخفي كفر أكبر لا نزاع فيه .
- - -
الذي لا يخلق خلقاً بمقتضى ربوبيته ويتركهم سدىً معطلين لا يؤمرون ولا ينهون ، ولا يثابون ولا يعاقبون .فإن الملك هو الآمر الناهي ، المعطي المانع ، الضار النافع ، المثيب المعاقب .
((1/75)
1) يدل على هذا قوله تعالى: { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } أي لا يؤمر ولا ينهى ، فالله ينزه عن ذلك أن يخلق الخلق سدى معطلين عن التكليف ، قال تعالى: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } ، { ومن يدعوا مع الله إله آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } ، { وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين } .
ومن مقتضى اسمه الحكيم وصفه الحكمة لله جل وعلا أن يأمر العباد وأن ينهاهم ، وأن يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين ، فلا يمكن أن يُخلي الله جل وعلا أمةً من الأمم ولا جيلاً من الأجيال من رسول يبلغهم رسالات ربه فيأمرهم وينهاهم وبعد ذلك يحصل الثواب والعقاب ، قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي إلا ليوحدون ، وقيل: إلا لآمرهم وأنهاهم كما هو قول طائفة من التابعين ومن جاء بعدهم .
ولا تنافي بينه وبين الذي قبله ، فإنه من الأمر الأمر بالتوحيد ومن النهي النهي عن الشرك .
(2) وهذا من لوازم اسم الله الملك ، وحين قال الله جلا وعلا { ملِكِ يوم الدين } أي يوم الجزاء والحساب ، عُلِمَ من ذلك وجود ثواب وعقاب .
فقوله تعالى: { ملك يوم الدين } هذه الكلمة الواحدة ، وعلى القراءة الأخرى: { مالك يوم الدين } فيها جميع أنواع التوحيد ، ولكن هذا يحتاج منا إلى تأمل في معاني القرآن ، وتأمل في هذه الكلمات العظيمة والجمل الكبيرة ، حين نقول مَلِك ونقول بأن الملك هو الآمر الناهي إذاً هذا لا بد من توحيد الربوبية ، إذا لا يمكن أن نقول اسم بلا مسمى فهذا كفرٌ اتفاقا .
وحين نقول بأن معنى الملك هو الآمر الناهي فهذا في توحيد الإلهية حيث يؤمرون بالتكاليف وينهون عما نهاهم الله عنه .(1/76)
وحين نقول (( يوم الدين )) وهو يوم الجزاء والحساب فهذا فيه توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية معاً ، حيث أن الله جل وعلا حين قال مالك يوم الجزاء والحساب إذاً فيه جنة ونار فيه ثواب وعقاب ، وعلى أي أساس الجنة والنار ؟! على ما أمروا به من قبل ، ونهوا عنه من قبل وتوحيد الأسماء والصفات الملك فهذه الجمل اليسيرة فيها جميع أنواع التوحيد ، هي فيها التوحيد كله لمن تأمل .
- - -
ولذلك جاءت الإستعاذة في سورة الناس وسورة الفلق بالأسماء الحسنى الثلاثة: ( الرب والمك والإله ) .
(1) يجوز الرب بالرفع ، والرب بالكسر ، الرب كما قال الإمام أو العالم عبد الرحمن ابن إسحاق الزجَّاجِ في كتابه (( اشتقاق أسماء الله الحسنى )) قال: الرب المصلح للشيء ومصدر الرب الربوبية ، وكل من ملك شيئاً فهو ربه ، يقال: هذا رب الدار وهذا رب الضيعة أي هذا مالك الدار وهذا مالك الضيعة ، وكما يقال: هذا رب الدابة وهذا رب السيارة ، وهذا رب كذا أي مالك كذا ، فالرب هنا بمعنى المالك . لكن يقول المؤلف ولا يقال الرب معرفاً بالألف واللام مطلقاً إلا الله عز وجل لأنه مالك كل شيء ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم .
فإذا عرف الرب بالألف واللام فلا يجوز إطلاقه إلا على الله جل وعلا ، وقد قال ابن الأثير أيضاً: ولا يطلق غير مضاف إلا على الله تعالى ، وإذا أطلق على غيره أُضيف . وقال نحو ذلك أكابر أهل العلم .(1/77)
فهم متفقون على أن الرب إذا عُرِّف بالألف واللام لا يجوز إطلاقه إلا على الله ، فلا يجوز أن تقول: الرب زيد أو الرب صالح وتقول أنا أقصد كذا وكذا ، لأنه عُرِّف بالألف واللام فلا يصدق إلا على الله جل وعلا ، إنما يطلق على المخلوق مضافاً كرب الدار ، رب الدابة ، رب الضيعة ، وقد دعا الأنبياء عليهم السلام ربهم وتضرعوا إليه بهذا الاسم العظيم فقد قال الله جل وعلا عن آدم وحواء { ربنا ظلمنا أنفسنا } ، وقال الله تعالى عن نوح: { ربِّ اغفر لي ولوالدي } وقال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل: { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } . والقرآن مليء بمثل ذلك تأمل في أدعية الأنبياء والمرسلين المذكورة في القرآن ، أو فيما ذكر الله عنهم في القرآن تجد هذا واضحاً بيِّناً .
(2) قوله: { والملك } أي جاءت الاستعاذة بالأسماء الحسنى الثلاثه الرب والملك . تقدم قوله تعالى: { الملك القدوس } وكذلك قوله: { فتعالى الله الملك الحق } ، وقراءة الجمهور (( مَلِكِ يوم الدين )) وهي أبلغ من (( مالِكِ يوم الدين )) .
(3) قوله: (( والإله )) كما قال أهل اللغة الزمخشري وغيره: الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس ، يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غَلَبَ على المعبود بحق ، فالإله إذا عُرِّف بالألف واللام لا يصح إطلاقه إلا على الله جل وعلا ، وقد تقدم عن سيبويه وأكابر أصحابه أن أصل الله الإله وأن الإله هو الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال ، وأن الإله هو الذي تأله القلوب محبةً وتعظيماً ، وخوفاً ورجاء ، وإذا نُكِّر جاز إطلاقه على الله وعلى غيره كما قال الله تعالى: { أجعل الآلهة إلهاً واحدا } وكما قال تعالى: { أإله مع الله } عُلِمَ أن الآلهة كثيرة ، لكن ليس إله مع الله يفعل كفعله ، ويخلق كخلقه ، ويرزق كرزقه ، ليس إله مع الله يستحق العبادة ، فعبادة ما دونه(1/78)
باطله { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير } قال تعالى: { وإلهكم إلهٌ واحد } والآلهة المعبودة بالباطل كثيرة جداً.
- - -
فإنه لما قال: { قل أعوذ برب الناس } كان فيه إثبات أنه خالقهم وفاطرهم .
فبقي أن يقال: لما خلقهم هل كلفهم ، وأمرهم ونهاهم ؟ .
(1) الفاطر هو المبدي ، أي الذي ابتدأ الشيء على غير مثال سابق .
الخلق يطلق على معنى الإيجاد وعلى معنى التقدير ، فقوله: { وما خلقت الجن والإنس } الخلق هنا بمعنى الإيجاد بالاتفاق وقوله تعالى: { تبارك الله أحسن الخالقين } أي أحسن المقدِّرين فقوله: { قل أعوذ برب الناس } فيها جميع أنواع التوحيد أيضاً ، أعوذ: استعاذة هذا التوحيد الإلهية .(( برب الناس )) فيها توحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصفات .لأن الرب من صفات الله جل وعلا ، ورب الناس أي خالقهم وموجدهم ، إذاً هذا فيه توحيد الربوبية .
(2) يقال هذا أمرٌ ضروري أن الله جل وعلا ما ترك عبادة سدى معطلين { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } ، { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } ، إذ لا بد من الأمر والنهي { وما خلقت } ، ما هنا نافيه { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي إلا للعبادة ولتوحيد الله ولمحبته وتعظيمه وخوفه ورجاءه .
إله يخلق ويرزق ، ويحيى ويميت ، ينفع ويضر ، ويثيب ويعاقب ، ألا يستحق أن يعبد !! { وهو اللطيف الخبير } حريٌ بالمرء أن يفرد الله بالعبادة ، وهو المستفيد من ذلك ، الله غني عنك { يا أيها الناس أنت الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } لا تتصور أنك بالشرك تضر الله ، أنت حصب جهنم .(1/79)
إن أفردت الله بالعبادة نفعت نفسك ، إن أشركت مع الله إله آخر فالله جل وعلا وعدك ووعد أمثالك من المشركين المتنكبين عن الصراط المستقيم المعرضين عما جاءت به الرسل جهنم وبئس المصير ، إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ، هذا ملعون في الدنيا والآخرة ، { إن الله لعن الكافرين وأعدَّ لهم سعيرا * خالدين فيها أبد لا يجدون ولياً ولا نصيرا * يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا } .
- - -
قيل نعم فجاء { ملك الناس } فأثبت الخلق والأمر . { ألا له الخلق والأمر } . فلما قيل ذلك ، قيل: فإذا كان رباً موجداً وملكاً مكلفا فهل يحب ويرغب إليه ، ويكون التوجه إليه غاية الخلق والأمر ؟
(1) من أين أخذنا من { ملك الناس } الخلق والأمر ؟!
قوله : { ملك الناس } إذاً فيه إثبات الخلق لوجود الناس ، إذاً فيه أناس مخلوقون .
وقد تقدم أن من معاني الملك الآمر الناهي يفسر ذلك قوله: { ألا له الخلق والأمر } .
(2) قوله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } " له ": أي لله " الخلق " وهذا عام في كل المخلوقات ، ويشمل أفعال العباد ، " والأمر " قال تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه .
والأمر قسمان: أمر كوني قدري ، والآخر أمر شرعي ديني .
وفي قوله: { ألا له الخلق والأمر } في هذه الآية مئات الفوائد أذكر بعضها:(1/80)
فيه إثبات توحيد الربوبية ، وفيه إثبات توحيد الإلهية ، وفيه الرد على القدرية ، وفيه الرد على المجوس ، وفيها التفريق بين الخلق والأمر ، فيها الرد على الجهمية وسائر الطوائف المنحرفة التي لا تفرق بين الخلق والأمر فتجعل كلام الله مخلوقاً تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ، فإن الله فرق بين الخلق وبين الأمر فالخلق خلق ، والأمر أمر ، وفيه أيضاً إثبات صفة الكلام لله جل وعلا ، قال تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول } وقال الله تعالى: { وكلم الله موسى تكليماً } ، { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ، { منهم من كلم الله } ، { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه الله } .
(3) أي الجواب: فإذا كان رباً موجداً وملك مكلفاً فيجب أن يحب وأن يرغب إليه فقد جبلت النفوس ، على حب من أحسن إليها ، إلا أهل الكفران فلا يشكرون المعروف ، ولا يضعون صنائع المعروف مواضعهاً ، حين يصنع المخلوق إليك معروفاً يسيراً لا يساوي نعمةً من نِعَم الله عليك ، تثني عليه وتمدحه وتحاول أن تكافئه . الله جل وعلا الذي أعطاك سمع وأعطاك بصر والقوة وأوجدك من العدم وأعطاك الإرادة والعقل والقدرة ومع هذا تعصي الله وتستعمل هذه المخلوقات لمعاصي الله ، الله جل وعلا حين خلقك وأوجدك لتعبده ، وأنت ما شكرت الله جل وعلا بل كفرته حين صرفت هذه الجوارح إلى عبادة القبور والأوثان وطاعة المخلوقين دون الله جل وعلا . إذاً الذي يعتقد بأن الله هو الرب الموجد يجب عليه أن يحبه وأن يفرده بالعبادة وإلا ما شكر الله بل كفره.
- - -
قيل { إله الناس } أي مألوهم ، ومحبوبهم ، الذي لا يتوجه العبد المخلوق المكلف العابد إلا له ، فجاءت الإلهية خاتمة وغاية ، وما قبلها كالتوطئة لها .
(1) أي هنا تفسيريه هنا ، ويجوز أن تقول أي هو مألوههم ومحبوبهم فيكون مألوههم خبر لمبتدأ محذوف ، ومألوههم تفسيرية كما سبق وهذا واضح إعرابه .
((1/81)
2) ومن لم يوحد الله ويفرده بالعبادة فليس الله بإلهه ، وإن كان في الحقيقة لا إله له إلا الله ، لكنه ترك الإله الحق وعبد معه غيره ، فلم يكن الله في الحقيقة إلهه لو كان الله إلهه لعبده وأفرده بالعبادة ، وإن كان في حقيقة الأمر لا إله للعباد إلا الله جل وعلا والحقيقة أن الذي يعبد غير الله إنما يعبد لا شيء (( يعبد من لا ينفعه ولا يضره )) المعنى لا يجلب له نفعاً ولا يدفع عنه ضراً .
وإلا فهو يضره حيث يورثه لظى { النار مأواكم وبئس المصير } ، أو يعبد الهوى أو يعبد لا شيء كالدهرين وأمثالهم ، إذاً لا بد أن نوحد الله وأن نعبده .
في القلوب فاقه لا يمكن سدها إلا بإفراد الله بالعبادة ، ما من قلب من قلوب العباد كلهم إلا وفيه فاقة ، هذه الفاقة لا يمكن سدها إلا بتوحيد الله ، وإفراده بالعبادة ، فإذا وحد العبد ربه وأفرده بالعبادة سد هذه الفاقة وكلٌ بحسبه . فالناس يتفاوتون في سد هذه الفاقة فمن الناس لا يبقي شعبة لغير الله جل وعلا ، ومن الناس لله تارة ولغيره تارة . فالناس يتفاوتون في التوحيد والاعتقاد وصدق اللجوء إلى الله والاعتماد عليه وتوحيده .
- - -
وهاتان السورتان أعظم عوذةٍ في القرآن ، وجاءت الإستعاذة بهما وقت الحاجة إلى ذلك .
(1) أي { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } .
((1/82)
2) ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ألم تر آيات أنزلت الليلة لم يُرى مثلهن قط (( قل أعوذ برب الفلق ))(( قل أعوذ برب الناس )) ) وهذا الخبر جاء في صحيح الإمام مسلم من طريق جرير عن بَيَان عن قيس ابن أبي حازم عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ألم ترى آيات أنزلت الليلة لم يُرى مثلهن قط ) ، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث ، والمعوذات { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } و { قل هو الله أحد } وهذا الحديث متفق على صحته من طريق ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها .
(3) فالاستعاذة بهاتين السورتين مشروعة دبر كل صلاة ، مشروعة في الصباح والمساء ، مشروعة حين يشتكي عند النوم ، وبعض العلماء يرى مشروعية قراءة المعوذتين و(( قل هو الله أحد )) عند النوم مطلقاً ولو لم يشتكي ، فهاتان السورتان المسميتان بالمعوذتين حيث يستعيذ بهما العبد من شر شياطين الإنس والجن. قال تعالى: { قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق } أي من شر كل ذي شر من العباد ، { قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس * } من الجنةِ: الجن ، الناس كما هو معروف .
والاستعاذة مشروعة في مئات المواطن ، فإن العبد حين يدخل الخلاء ، ماذا يقول ، كما في الصحيحين من حديث قتادة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) ، والاستعاذة مشروعة في حالات متعددة .(1/83)
إذاً هذا يتطلب منا إلى أن ندرس السنة ، وأن نقرأ الكتب المؤلفة في الأذكار لنصل من خلالها إلى معرفة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومن أنفع هذه الكتب: كتاب الأذكار للإمام النووي . مع مراعاة التنبه لبعض الأحاديث الضعيفة التي يُوردها ، فإنه يورد بعض الأحاديث الضعيفة ، ويقول يعمل بالفضائل أو بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال وفي هذا نظر .
ويطالع بعد ذلك كتاب الوابل الصيب للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وهو أنفع وأكثر فائدة من كتاب الأذكار النووي إلا أن كتاب الأذكار للنووي أشمل وأكثر أحاديث وأكمل معلومات وكتاب ابن القيم أكثر تحقيقاً وأعمق علماً وأقوى أسلوباً ، وأحسن طرحاً ، فرحم الله الجميع .
- - -
وهو حين سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وخُيّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله .
(1) أي الاستعاذة: وهو يتحدث الآن عن الاستعاذة ؛ والذي سَحَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو لبيد بن الأعصم ، وقصة سحره جاءت في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وقد أنكر كثير من المتكلمين سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقابلوه بالتكذيب ، وقالوا: إنه لا يجوز أن يُسحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه ذلك يكون تصديقاً لقول الكفار { إن تتبعون إلا رجلاً مسحورا } قالوا: وهذا كما قال فرعون لموسى: { وإني لأظنك يا موسى مسحورا } .
والجواب عن ذلك بوجوه :(1/84)
الوجه الأول: أن الحديث في سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابتاً قد تلقاه أهل العلم بالقبول وقابلوه بالتسليم وقد خرّجه الشيخان في صحيحيهما من طرق كثيرة ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها . الوجه الثاني: أن سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يؤثر على تبليغ الرسالة ، وهذا من الأمر المتفق عليه بين أهل العلم كما قال الله تعالى: { إن هو إلا وحيٌ يوحى } . الوجه الثالث: أن قوله تعالى: { إن تتبعون إلا رجلاً مسحورا } ، يقولون ذلك على وجه الاستهزاء والتهكم ، وعلى وجه صد الناس عن إتباع الحق ، والتلبيس عليهم ، ولا شك أن كلامهم كذب ، لأن كون الإنسان يُسحر في لحظة من اللحظات لا يعني أنه مسحوراً على وجه الإطلاق ، ولا سيما أن سحر - صلى الله عليه وسلم - يختلف عن سحر غيره ، حين سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هذا على وجه الابتلاء والامتحان وهذا لا يؤثر على عقله ولا على التبليغ ولا على الرسالة لأن الله جل وعلا يقول: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين } وهذا لا يمكن أن يقع بخلل في التبليغ ، بخلاف سحر غيره فإنه ليس بمعصوم قد يهذي بما لا يدري وقد يقول ما لا يعتقد فإنه ليس بمعصوم .
الوجه الرابع: أن السحر أنواع ، ومجرد سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط أنه كان يخيل إليه يفعل الشيء ولا يفعله .
ولهذا لم يشعر بسحره كثيرون من الناس ولم يستفض هذا الأمر ، فعُلم أن هذا الأمر وقع على وجه الابتلاء والامتحان ، كما كُسِرت رباعيته وشج وجهه ، كما سقط عن الفرس وتألم من جراء ذلك وكما قال سعد بن وقاص للنبي - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أشد بلاء ؟ قال: ( الأنبياء فالأمثل فالأمثل ، ويتبلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلاءه وإلا خفف عنه الابتلاء ) والحديث رواه أبو عيسى وقال هذا حديث حسن صحيح .
- - -
وأقام على ذلك أربعين يوماً .
((1/85)
1) أي وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مسحوراً أربعين يوماً ، جاء هذا في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي كما أشار ذلك الحافظ ابن حجر ، وفي صحة هذه اللفظة نظر .
فقد جاء الخبر في الصحيحين من طُرق ، عن هشام بن عروة ، رواه عيسى بن يونس ، ورواه أبو شامة ، ورواه ابن نمير ، ولم يذكر واحد منهم أربعين يوماً ، وكذلك لم يذكر واحد منهم ستة أشهر كما ذكر ذلك وهيب في روايته عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، جاء هذا في مسند الإمام أحمد وصحح هذه الرواية الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري ، وفي ذلك نظر .
فلو دام سحره ستة أشهر ، لاستفاض الأمر ولتواتر ولجاء نقله عن جمعٍ عظيم من الصحابة ، فحين تفردت به النقل عائشة لقربها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتفرد بالنقل عن عائشة عروة وتفرد بالنقل عن عروة هشام ، عُلِمَ أن الأمر مادام كثيراً ، وإنما كانت فترته قصيرة ، الله أعلم بتحديدها .
- - -
كما في الصحيح .
وكانت عقد السحر إحدى عشرة عقدة ، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية ، فانحلت بكل آية عقدة .
(1) إن كان يقصد كما في صحيح البخاري أو صحيح مسلم فهذا غلط ، فليس هذا في الصحيح . وإن كان يقصد كما في الصحيح أن الضمير يعود على السحر لا على الأيام فنقول كما في الصحيحين وإن كان يقصد كما في الصحيح أي في الحديث الصحيح ففيه نظر الحديث ليس بصحيح في تحديد الأيام . الروايات شاذة .
(2) جاء هذا عند البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن عباس وجاء ذلك أيضاً عند ابن سعد في الطبقات ولا يصح من ذلك شيء .
((1/86)
3) وفي ذلك نظر ، ففي الحديث السابق حديث جرير عن بيان المخرج في صحيح الإمام مسلم عن قيس بن أبي حازم عن عقبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ألم ترى آيات أنزلت الليلة لم يرى مثلهن قط ) ، { قل أعوذ برب الفلق } ، { قل أعوذ برب الناس } . وليس في شيء من طرق هذا الحديث تقييد ذلك بالسحر ، أو ربط ذلك بوقوع السحر والحديث الوارد حديث ابن عباس المتعلق بقضية أن الله حين أنزل هذه الآيات انحلت بكل آية عقدة هذا غير صحيح ولم يثبت في ذلك خبر يمكن الاعتماد عليه .
- - -
وتعلقت الإستعاذة في أوائل القرآن باسمه : (( الإله )) .
(1) تقدم أن الاستعاذة بالله جل وعلا عبادة من أجل العبادات ، وأن صرف هذه العبادة لغير الله جل وعلا شرك كأن يقول: (( أعوذ بعزيز هذا الوادي )) كفعل المشركين ، أو يقول: (( أعوذ بالنبي من شر الشيطان الرجيم )) أو يقول: (( أعوذ بالبدوي )) أو (( بعلي )) أو (( بالحسن )) أو (( بالحسين )) من كذا وكذا ، العياذ هو الطلب من الله جل وعلا ، إذا قال العبد : أعوذ بالله أي التجأ إلى الله في أن يعصمني من كذا وكذا .
فالعياذ طلب لدفع المكروه ، بخلاف اللياذ فإنه طلب للمحبوب يقول المؤلف: (( الاستعاذة في أوائل القرآن باسمه الإله )) .
تقدم عن أكثر أهل اللغة أن الله أصله الإله الذي تألهه القلوب محبة وتعظيما وإجلالاً ، يقال: أله يأله إلهةً أي عبد يعبد عبادةً . وتقدم أيضاً أن الإله إذا عُرِّف بالألف واللام فلا يصح إطلاقه إلا على الله ، فإنه كان يطلق على الإله بحق وبغير حق ، ثم أُطلق على الإله الحق بخلاف المُنَكَّر ، كما إذا قيل إله ، فإنه يطلق على الحق وعلى الباطل .
والمؤلف رحمه الله تعالى يشير إلى استفتاح سورة القرآن بالاستعاذة كما قال تعالى: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } أي إذا أردت قراءة القرآن على رأي أكثر أهل العلم . وهذه الاستعاذة مستحبة عند جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة .(1/87)
وقيل في قوله تعالى: { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } إي إذا شرعت في القراءة فاستعذ ، وهذا منقول عن طائفة من الصحابة والتابعين وبعض أهل العلم والصحيح القول الأول . كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } أي إذا أردتم القيام ، ومثل قوله تعالى: { إذ قلتم فاعدلوا } أي قبل أن تقولوا يجب عليكم العدل وإذا تلفظتم يكون الكلام بعدل . { فإذا قرأت القرآن } أي إذا أردت قراءه القرآن ، ونظيره على الصحيح ما جاء في الصحيحين وغيرهما حديث شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( كان إذا دخل الخلاء قال: (( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث )) ) أي إذا أراد أن يدخل الخلاء ولهذا نظائر .وقال بعض أهل العلم أيضاً: بأن الاستعاذة واجبة بينما حكى الطبري وغيره الإجماع على السنية ، وهذا الأظهر فإن الأمر في قول الله جل وعلا { فاستعذ بالله } للاستحباب للأدلة الدالة على ذلك وهي كثيرة .
إذا تستحب الاستعاذة في بداية السور وفي أوساطها ، يستعيذ في بداية السور ثم يُبسمل وفي الأوساط يقتصر على الاستعاذة .
وهي لجوءٌ إلى الله جل وعلا كي يعصمه من الشيطان الرجيم ، كي لا يشغل باله ولا يشوش على أفكاره .
- - -
وهو المعبود وحده ، لإجتماع صفات الكمال فيه ، ومناجاة العبد لهذا (( الإله )) الكامل ذي الأسماء الحسنى .
(1) وقد تقدم تقرير ذلك .
(2) دليل الأسماء قوله تعالى: { ولله الأسماء الحسنى } والعلماء متفقون على إثبات الأسماء بل والمسلمون متفقون على إثبات الأسماء لكنَّ هذا الإثبات يختلف عن طائفة إلى طائفة .
فالمعتزلة تقول: نثبت اسم الله العليم ، نثبت اسم الله السميع لكن يقولون عليم بلا علم ، سميع بلا سمع .(1/88)
أهل السنة والجماعة أتباع الرسل يقولون نثبت الأسماء ونثبت معانيها ، فإن إثبات الاسم بلا معنى لا فائدة منه تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا ، فإذا قيل ولله المثل الأعلى هذا زيد وهو اسم بلا شخص قيل هذا ضربٌ من الجنون .
فإذا كنا نسمي الله جل وعلا بالسميع ، البصير ، العليم ، الحكيم ، الرحيم ، الرحمن العزيز الكريم ، ونقول هذه أسماء غير دالة على معاني فهذا في الحقيقة يؤول إلى تعطيل الله جل وعلا أو هو تعطيل الله جل وعلا عن صفات الكمال ونعوت الجلال .
وأهل السنة والجماعة كما يثبتون لله الأسماء إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل ، يثبتون لله جل وعلا الصفات وأن الله جل وعلا يرحم ويغضب ويفرح ، ويحب ويرضى .
- - -
والصفات العليا ، المرغوب إليه ، في أن يعيذ عبده الذي يناجيه بكلامه من الشيطان الحائل بينه وبين مناجاة ربه ، ثم انسحب التعلق باسم (( الإله )) في جيمع المواطن الذي يقال فيها (( أعوذ بالله من الشيطان الرحيم )) .
(1) جاء ذكر الصفات في حديث ( إنها صفة الرحمن ) والحديث متفق على صحته ، وفي حديث ابن عباس الأثر الذي رواه عبد الرزاق بسند صحيح حين سمع حديثاً في الصفات .
وقد أنكر أبو محمد رحمه الله ، أي الإمام ابن حزم ، ورود لفظ الصفات في الكتاب أو السنة ، وهذا خلاف الإجماع المتفق عليه بين أهل السنة ، وهذا الإجماع مستمد من الكتاب والسنة وأقاويل الصحابة - رضي الله عنهم - .
والإمام ابن حزم لا يقصد من وراء ذلك إلا تعظيم الكتاب والسنة ولو ثبت عنده شيء من ذلك لَمَا عارضه ، وإن كان الشيء قد يثبت عنده فيتأوله على خلاف وجهه بدافع نصرة مذهب أهل الحديث ، ونصرة الحق ، ونحو ذلك ، وإنما نعتبر الرجل بأصوله التي ينتمي إليها ، وقد عُلِمَ عن أبي محمد رحمه الله تعظيم الكتاب والسنة وانتمائه إلى ذلك ، وإن زل قدمه في مواضع من الأسماء والصفات عفا الله عنه .
((1/89)
2) المرغوب إلى الإله الحق: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير } .
(3) فإن العبد حين يستعيذ بالله جل وعلا فإنه يرغب إلى الله ، ويطلب من الله ويفزع ويلجأ إلى الله في أن يعيذه من الشيطان الرجيم ، لكي يناجي ربه دون أن يحول بينهما حائل ، والاستعاذه تدفع الشيطان فإن الشيطان ينخنس حين يسمع ذكر ويبتعد ويهرب .
(4) وقد جاءت الاستعاذة عند دخول الخلاء والحديث في الصحيحين وجاءت عند الجماع والحديث متفق عليه ، وجاءت الاستعاذة في مواطن كتعدده بلغت مبلغ التواتر ، بل لا يكاد يخلوا أمر من الأمور إلا وقد جاء فيه ذكر من الأذكار ، وهذا من كمال الشريعة وشمولها ، وكل موضع على حسبه وما يناسبه ، لكن الاستعاذة جاءت في أكثر المواضع .(1/90)
فإن العبد حين يخرج من بيته يقول: (( بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله )) وهذا جاء عند أبي داود وغيره من رواية ابنُ جريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا خرج الرجل من بيته فقال: (( بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله )) يُقال له: (( قد كُفيت ووقيت وهُديت )) ) لأنه تعلق بالله جل وعلا وفوَّض أمره إلى الله جل وعلا ، ومن فوض أمره إلى الله جل وعلا كفاه كل شيء ، فتتنحى له الشياطين فيقول شيطان آخر: كيف لكم برجل قد كُفِي ووقي وهُدي ، ثم إذا ذهب إلى المسجد وأراد أن يدخل ذكر الله فلا يزال العبد يتقلب في هذا الذكر ، ليكون على وجه الدوام معصوماً من الشيطان الرجيم ، حتى يرجع ، فإذا دخل بيته ذكر الله أيضاً كما في صحيح الإمام مسلم من حديث ابن جريج عن أبي الزبير المكي عن جابر ابن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا دخل الرجل بيته فذكر الله قال الشيطان (( لا مبيت لكم )) وإذا دخل بيته ولم يذكر الله قال الشيطان: (( أدركتم المبيت )) وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: (( أدركتم الميت والعشاء )) ) .
والذكر تارةً يكون واجباً وتارةً يكون مستحباً وتارةً يتعلَّق بوصف يكون مكروهاً أو محرماً ، لا لذاته ، ولكن لتعلقه بالوصف الذي قام به ، فالذكر يكون واجباً إذا أدخلنا بذلك القرآن فإنه أصل الذكر قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة وهي ذكر .
وإذا قلنا المراد بالذكر التسبيح والاستعاذة ونحو ذلك ، فالذكر في الركوع واجب ، والذكر في السجود واجب .(1/91)
وعلى الوجه الأول قراءة القرآن في الركوع منهيٌ عنها ، قيل نهى تحريم ، وقيل نهي تنزيه ، وهكذا الأمر في السجود وتارة يكون الذكر مستحباً كقراءة السورة بعد الفاتحة ، وكالتسبيح في الركوع فيما زاد على الواجب ، وكالتسبيح المطلق سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذا كله مستحب .
وتارة يكون مكروهاً ، كذكر الله عند قضاء الحاجة ، فهنا الذكر لم يكره لذاته لكن لأنه تعلَّق بالوصف .
وقد يكون الذكر محرماً كقراءة القرآن في الركوع وكقراءة القرآن في السجود على قول من قال بالتحريم ، وقيل النهي للتنزيه .
وكما لو اشتغل بذكر الله عن قراءة الفاتحة في الصلاة السرية ، لأنه وَضَع الذكر في غير موضعه .
وقد يكون الذكر مبتدعا ، كما لو زاد على المشروع في الأذكار الواردة دبر كل صلاة ، فهو ذكر ويقصد به التعظيم لكنه حين وضع الذكر في غير موضعه صار مبتدعاً .
والمقصود توضيح معنى الاستعاذة وأنه لا يصح صرفها إلا إلى الله .
- - -
لأن اسم الله تعالى هو الغاية للأسماء ، ولهذا كان كل اسم بعده لا يتعرف إلا به ، فنقول: الله هو السلام ، المؤمن ، المهيمن .
فالجلالة تعرِّف غيرها ، وغيرها لا يعرفها .
(1) وهو دال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا .
(2) تقول الله هو السميع ، العليم ، الحكيم ، الكريم ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر .
ولكن لا يصح أن تقول الكريم العزيز هو الله ، الأسماء الأخرى تتعرف بالله واسم الله لا يتعرف بها ، تقول الله الكريم ، ولا تقول الكريم الله إلا باعتبار معنى آخر .
(3) ما هو السلام ؟ هو السالم من كل عيب ومن كل نقص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله .
(4) الذي يؤمِّن عبده من الظلم ، { ولا يظلم ربك أحدا } .
(5) الشاهد على خلقه بأعمالهم ، فهو بمعنى الرقيب الذي هو الشاهد على خلقه بأعمالهم .
((1/92)
6) حيث لا يقال الله اسم الرحمن الرحيم ، قد يقال الله هو الكريم بمعنى الوصف وهذا اسم ثاني من أسماء الله جل وعلا فنصف الله جل وعلا ونسمي الله جل وعلا بالكريم ، فلا يقال الله اسم الرحمن الرحيم ، فدل هذا على أن هذا الاسم أي الله هو الأصل في أسماء الله سبحانه ، وسائر الأسماء تضاف إليه فيقال الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، كلها من أسماء الله تعالى .
ولهذا لا ترى هذا الاسم العظيم أُطلق على غير الله جل وعلا ويمكن أن نُقَسِّم الأسماء إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول: قسم لا يصح إطلاقه إلا على الله ، كاسم الله وكالخالق ونحو ذلك .
القسم الثاني : قسم مشترك يصح إطلاقه على الله ويصح إطلاقه على المخلوق كالحكم .
الحكم: اسم من أسماء الله جل وعلا ويصح إطلاقه على المخلوق فإن بعض الصحابة تَسَمَّى باسم الحَكَم كالحَكَم بن عَمْرو الغفاري ولم يغير النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمه .
فإن قيل في الحديث المشهور الذي رواه أحمد وغيره ( في الرجل الذي يتسمى بأبي الحكم ، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ما أحسن هذا )) حين قال له : (( إن قومي إذا اختلفوا في شيء فحكمت لهم فرضي كلا الفريقين )) قال: (( فما أحسن هذا )) فما لك من الولد ...) الحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أنت أبو شريح )
الجواب: أن الرجل حين لوحظ فيه الوصف ، وأطلق عليه على معنى الوصف فكان يسمونه بالحكم ، لكونه يُرضى بحكمه ولاحظوا الوصف منعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك .
وحين لم يُلاحظ ذلك في الحكم بن عمرو الغفاري لم يغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حكيم أيضاً من أسماء الله جل وعلا والمخلوق يسمى بحكيم .
القسم الثالث: الذي لا يصح إطلاقه إلا على المخلوق دون الله جل وعلا ، لأن الإجماع منعقد أن أسماء الله توقيفية ، فلا يصح تسمية الله باسم لم يسمي به نفسه ولم يثبت في السنة الصحيحة .(1/93)
والصحيح أن القياس لا يصح في الأسماء والصفات ، وبعض المتكلمين يُدخل القياس في الأسماء والصفات ، وفي هذا نظر .
فإن هذا الباب باب توقيفي المقصود توضيحه ، أن هذا الاسم الله لا يصح التسمي به ، ولا ترى هذا الاسم العظيم مطلقاً على غير الله .
حتى العرب الأُول الذين كانوا يعبدون الآلهة كانوا يسمون الأوثان آلهة ، ولا ترى في كلامهم شيئاً أنهم يسمونها (( الله )) حتى فرعون ما قال أنا الله . قال: { أنا ربكم الأعلى } قال { ما علمت لكم من إله غيري } .
يطلق الإله ولا يطلق لفظ الله .
- - -
والذين أشركوا به تعالى في الربوبية منهم من أثبت معه خالقاً آخر إن لم يقولوا إنه مكافئٌ له وهم المشركون ومن ضاهاهم من القدربة .
(1) حيث أثبتوا خالقاً للخير وخالقاً للشر ، ولكنهم لا يقولون بالتكافؤ .
(2) الذين يجعلون العباد هم الخالقين لأفعالهم خيرها وشرها لازم هذا القول أنهم هم الخالقون لأنفسهم ، لأن العبد إذا قَدِر على أن يخلق فعل نفسه فمن لازمه أنه يخلق نفسه ، وهذا هو إشراك في الربوبية كما يوضحه المؤلف رحمه الله .
وحينئذٍ قبل أن نذكر كلام المؤلف نقول:
نفاة القدر نوعان :
الطائفة الأولى: الذين أخرجوا أفعال العباد عن خلق الله تعالى وتقديره وهم الذين سماهم السلف مجوس هذه الأمة .
وفي الباب أحاديث مرفوعة ولا يصح منها شيء . وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذه المسألة حين يشير المؤلف رحمه الله تعالى إلى الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب .(1/94)
الطائفة الثانية : طائفة نفت تقدير الشر دون الخير ، فجعلوا الخير من الله دون الشر فإنه من العبد وهذا في الحقيقة نفي بأن يكون الله وحده هو المتفرد بالتصرف والخلق ، وهذا المذهب الخبيث راجع إلى مذهب المجوس القائلين بوجود خالقين خالق للخير وخالق للشر ، فإن من جعل العباد خالقين لأفعالهم فلا شك في كفره ، وأنه مثبت لخالق مع الله ، ومن جعل الخير من الله دون الشر فهذا لم يُثبت التصرف المطلق لله جل وعلا ، حيث يتصرف الله جل وعلا في شيء دون شيء وهذا كفرٌ أيضاً وهذا كفرٌ بالربوبية .
وقد تقدمت الإشارة مراراً إلى أن بعض المشركين الأوائل قد يكفرون ببعض توحيد الربوبية ، كما في حديث زيد بن خالد في الصحيحين حين قالوا: ( مطرنا بنوء كذا وكذا ) فإن من قال مطرنا بنوء كذا وكذا وزعم أن المطر نازل بسبب النوء دون الله جل وعلا فهذا كافرٌ بالربوبية ، وهذا كفرٌ أكبر ، ومن جعله سبباً مع الله فهذا شرك أصغر .
- - -
وربوبيته سبحانه للعالم الربوبية الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوالهم ، لأنها تقتضي ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال .
(1) معنى كلامه أن الربوبية التي هي مقتضية لإيجاد العالم وخلقهم والتصرف فيهم تبطل قول القدرية المجوسية بنوعيهم .
الطائفة الأولى: تثبت خالقاً للخير دون الشر ، أو التي تنسب الخير إلى الله دون الشر ، فهذا يعني عدم إيمانهم بالربوبية المطلقة الشاملة لأن من آمن بالربوبية الشاملة المطلقة لم يقل بأن للمخلوق قُدْرَهً على خلق فعله ، ولم يقل بأن الخير من الله دون الشر ، فهذا يناقض هذا ولا يمكن أن يجتمعا أبداً.(1/95)
فلا يمكن أن يجتمع إيمان بالربوبية إيماناً مطلقا مع قول القدرية فحينئذٍ نستطيع أن نقول أن القدرية كفار ببعض توحيد الربوبية على القول على الطائفة الأولى وعلى الطائفة الثانية أيضاً ، وقد سبق الحديث أيضاً مراراً أن الرسل ما جاءت إلا بتوحيد الإلهية ، لأن أممهم كانوا مؤمنين ومقرين بتوحيد الربوبية ، وأنه لا مانع من تقرير توحيد الربوبية ، بل من الضروري أن نقرر للملاحدة والدهرين والثانوية وهذه الطوائف التي قد لا تُقرُّ بوجود الله أو تقرُّ بوجود الله وتثبت مع الله خالقاً آخر .
النقاش مع هؤلاء في توحيد الربوبية ثم ننتقل معهم إلى توحيد الإلهية .
- - -
وحقيقة قول القدرية المجوسية: أنه تعالى ليس رباً لأفعال الحيوان ولا تتناولها ربوبيته ، إذ كيف بتناول مالا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه وشرك الأمم كله نوعان .
(1) وهذا لازم قولهم .
(2) قصده بأفعال الحيوان أفعال العباد .
(3) لأن أفعال العباد لو كانت داخله تحت مشيئة الله وقدرته وتصرفه لكان هو الموجد والخالق لها ، فمقتضى كلامهم أن أفعال العباد لا تدخل تحت قهره ولا تصرفه ، لأنهم هم الذين يخلقون أفعال أنفسهم ، وحتى على الطائفة الأخرى التي تنسب لله الخير دون الشر ، لو كانت داخله تحت قدرته وتصرفه لكان ما هو دون العباد .
وقد تقدم أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( والشر ليس إليك ) أنه ليس المعنى أن الشر ليس مخلوقاً لك .
فإن الشر مخلوق لله بالإجماع لا نزاع ، وإنما المعنى الشر لا يدخل لا في أسمائك ولا في صفاتك .
وقد تقدم نسبة هذا ، إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة من أكابر المحققين .
(4) " شرك " مبتدأ وساق الابتداء بالنكرة لأنها أضيفت إلى معرفة ، و " نوعان " خبر المبتدأ
تقدم أن الشرك بالله أعظم ذنب عصي الله به ، والشرك الأكبر : هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله .(1/96)
وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق منصور عن أبي وائل عن عَمْرو بن شرحبيل عن عبد الله قال سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم عند الله ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ) .
والند: هو النظير والمثيل والشبيه .
فمن جعل لله نداً من خلقه فيما يستحقه الله جل وعلا من الإلهية أو الربوبية فقد كفر بإجماع المسلمين ، وقد نقل الإجماع غير واحد بل هذا إجماع ضروري دل عليه الكتاب ، بل دل عليه كل كتاب والسنة .
- - -
شرك في الإلهية ، وشرك في الربوبية فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الاشراك . وهو شرك عباد الأصنام ، وعباد الملائكة ، وعباد الجن .
(1) فإن شرك الأمم يرجع إلى أمرين إلى التشريك في الإلهية ، والتشريك في الربوبية .
وقد تقدم أيضا أن بعض المشركين ينكر بعض أسماء الله جل وعلا كما قال تعالى: { وهم يكفرون بالرحمن } والكفر بالرحمن كفرٌ أكبر ، وهذا كفرٌ بتوحيد الأسماء والصفات .
(2) تنسيق المؤلف هذا يسمى عند أهل البلاغة من اللف والنشر المرتَّب منه قوله تعالى: { فمنهم شقي وسعيد * فأما الذين شقوا } هذا لف ونشر مرتب . فيه نوع آخر من البلاغة يسمى لف ونشر غير مرتب ، ومن قوله تعالى: { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه * فأما الذين اسودت وجوههم } هذا لف ونشر يسمى غير مرتب . وهذه أساليب بلاغية تستعمل كلٌ في موطنه .
(3) الشيطان قد تلاعب بالمشركين كل قوم على قدر عقولهم ، منهم من تلاعب به وأغواه وجعله يعبد الشيطان يتمثل الشيطان أمامه فيعبده ، ومنهم من يعبد الجن وهذه العبادة قد تكون بالاستعاذة بهم ، وقد تكون يتَخَيْلهِم ، وقد تكون بطاعتهم دون الله جل وعلا .
فلا يتصور الإنسان أنه إذا أُطلقت العبادة أنه يسجد لهم ، فإذا لم يسجد لهم لم يكن عابداً لهم .(1/97)
فإن بعض الناس حين جهل مقام التوحيد ، وشأن التوحيد يتخيل العبادة بعبادة الأوثان فحين لا توجد القبور في بلد ، يشيدون بمقام التوحيد ، ولو وُجد وثنيات أخرى وهذا يَنْتُج عن الجهل بمقام التوحيد .
فإن نواقض الإسلام كثيرة وليست محصورة في عبادة القبور والأوثان ، التولي لأعداء الله ومظاهرة المشركين على المسلمين هذه ردة ، من نواقض الإسلام وهي موجودةٌ في كثير من البلاد .
السحر كفرٌ أكبر في أصح قولي العلماء وهو موجود بكثرة .
تحكيم غير شرع الله وإحلال القوانين الوضعية محل الشرع ، و استقطاب آراء اليهود والنصارى والحكم فيها بين الناس ، وتعطيل الحكم بما أنزل الله بل البطش بمن دعا إلى التحاكم إلى شرع الله هذا كفر أكبر
ومنهم من أغواه الشيطان أيضاً بعبادة الملائكة ، الشيطان يتعامل مع الناس على قدره عقولهم ، فهؤلاء أغواهم بعبادة الشياطين ، وهؤلاء أغواهم بعبادة الجن ، وهؤلاء أغواهم بعبادة الملائكة وهؤلاء أغواهم بعبادة الأشجار والأحجار ، وهؤلاء أغواهم بعبادة الشمس والقمر .
فالشيطان يتعامل مع هؤلاء على قَدْر عقولهم ، لكن (( ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتكلون )) .
إلا أن أهل التوحيد في أهل الإشراك كالشعرة البيضاء في الجلد الأسود ، قال الله جل وعلا { وقليل من عبادي الشكر } ، قال تعالى: { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } .
فأهل التوحيد في كل زمن وفي كل جيل منذ ظهور الشرك أقل من أهل الإشراك ، فأهل التوحيد منذ ظهور الشرك أقل بكثير من أهل الإشراك والكثرة لأهل الإشراك والكفرة الفجرة ، وكذلك أهل السنة أقل من أهل البدعة ، وأهل الحق أقل من أهل الضلال .
حينئذٍ لا ينظر الإنسان إلى الهالك كيف هلك ، ولكن ينظر إلى الناجي كيف نجا .
- - -(1/98)
وعباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات ، الذين قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده . وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامنه لهم قرب وكرامة ، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته .
والكتب الإلهية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وترده وتقبِّحُ أهله وتنص على أنهم أعداء الله تعالى وجميع الرسل صلوات الله عليهم متفقون على ذلك من أولهم إلى آخرهم وما أهلك الله تعالى من أهلك من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله .
(1) (( ويشفعوا )) الواو حرف عطف على ليقربونا ، ولهذا نصب الفعل بعدها ، وهذا معنى الواسطة في اصطلاح المشركين فهم لا يقصدون - أي فإن المشركين - لا يقصدون بضرورة الواسطة بين الله وبين عبادة بإرسال الرسل ، لأن الله جل وعلا ما أخلى أمة ولا جيلاً من رسول { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
إنما يعنون بالواسطة الضرورية هي جعل المخلوق واسطة في جلب المنافع ودفع المضار ، من جلب الرزق والنصر ، ودفع الأذى وهذا شرك بالاتفاق .
قال الله تعالى عن حال المشركين: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربنا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } كفار صيغة مبالغة أي شديد الكفر .
فأخبر الله جل وعلا أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم إغاثة اللهفات وإزالة الكربات ، وتفريج الملمات ويطلب منهم المدد والرزق ، والولد والإنجاب ، ويطلب منهم النصر ودفع الكروب ، فإنه مشرك بالله وهذا الشرك من النوع الأكبر باتفاق أهل العلم لا نزاع بينهم في ذلك . وقد قال الله جل وعلا أيضاً : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } وكل من جعل بينه وبين الله وسائط كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فإنه مشرك كما تقدم .
- - -(1/99)
وأصله الشرك في محبة الله تعالى .
(1) فإنهم لم يكونوا مشركين في إيجاد خالق مع الله يرزق ويخلق ويدبر إنما كانوا مشركين حيث يحبون الأنداد والآلهة كما يحبون الله ويعبدونها دون الله ويعظِّمونها كما يعظمون الله .
وهذا كما تقدم مراراً مناقض لما جاءت به الرسل ، ومنافٍ للفطر السليمة ، وأي عقل عند هؤلاء حين يسوُّون التراب برب الأرض والسماء ، ويسوُّون الفقير بالغني المطلق ، والمملوك بالمالك ، والمخلوق بالخالق ، هذا دليلٌ على فساد عقولهم وتغير فطرهم .
وقد تقدم أيضاً أن من جعل لله نداً من خلقه فيما يستحقه الله عز وجل من الإلهية والربوبية أنه كافر بإجماع الأمة . وأنه مخلد في النار ، وأنه ملعون في الدنيا والآخرة ، وقد نقل الإجماع على هذا غير واحد من أهل العلم وتراه مبسوطاً في المجلد الأول من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، وهذا أمرٌ واضح لا يكابر فيه أحد .
الشرك تقدم مراراً أنه أعظم الظلم ، أعظم ظُلم ظَلَمَ العبد به نفسه هو إشراكه بربه ، وأعظم ذنب عُصي الله به هو الشرك ، وهو الذنب الذي لا يغفره الله جل وعلا إلا بالتوبة ، فلو أن العبد قام الليل كله وصام النهار كله وأنفق كل ماله ، وحج كل عام ، وصام كل عام ، وأدى زكاة ماله وهو مقيم على عبادة القبور والأوثان ، مقيم على النذر لغير الله مقيم على الذبح لغير الله لم ينفعه كل ما تقدم .
فإن الشرك يحبط الأعمال كما أن الحدث ينقض الوضوء ويفسد الصلاة ، فلا يجتمع إيمان وشرك أكبر أبداً ، فهذا يُزِيلُ هذا أو هذا يطرد هذا .
وأي عقل عند المشركين وهم يعبدون معه غيره ، الله الذي خلقهم وأوجدهم ورزقهم وهو الذي يحييهم ويميتهم ثم يحييهم . ومع هذا لا يعبدون هذا ، يعبدون الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا .(1/100)
ولله المثل الأعلى لو أن المرء له عبد مملوك يعمل له بكرةً وعشيا وما يكتسبه من آثار العمل يبذله لغير سيده ماذا يصنع به السيد؟! إما أن يحرقه وإما أن يبطش به .
أنا سيدك وتعمل عندي ، وأنا الذي أنفق عليك أكلاً وشرباً ، وغذاءً وكسوةً ، وتعمل لي وتبذل المال لغيري !! هذا يستحق البطش ، وكل عاقل يستقبح هذا العمل ، وكل شخص يستقبح هذا العمل لأنه ظلم عظيم وفساد في العقل والتصور .
كيف لا يعقلون أن الله خلقهم ، ورزقهم ، وأوجدهم ، وأحياهم وسوف يميتهم ثم يحييهم ، ومع هذا يأكلون رزقه ويشركون به !! يسكنون أرضه ويعبدون فيها غير الله هذا ظلم عظيم .
- - -
قال تعالى: { ومِنْ النَاسِ مَنْ يَّتخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله والَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لله } فأخبر سبحانه : أنه من أحب مع الله شيئاً غيره كما يحبه ، فقد اتخذ ندّاً من دونه ، وهذا على أصح القولين في الآية : أنهم يحبونهم كما يحبون الله ، وهذا هو العِدْلُ المذكور في قوله تعالى: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } .
(1) أراد المؤلف رحمه الله تعالى بهذه الآية أن يبيّن أن شرك هؤلاء واقع في المحبة والتعظيم وأنه ليس بالتشريك بالله في الخلق ولا الرزق ولا الأحياء ولا الإماتة .
وقوله جل وعلا { يحبونهم كحب الله } تقدم أن فيها قولين:
القول الأول: يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون ربهم وهذا قول أكثر المفسرين .
القول الثاني: يحبون الأنداد كما يحبون الله وحينئذٍ تكون محبة الله ثابتة لهم ولكنهم يسوون الأوثان بمحبة الله وهذا القول هو الأظهر وهو قول الزجاج واستظهره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم .
وقوله تعالى: { والذين آمنوا أشد حباً لله } هذا الآية .
فيها أيضاً قولان ، وهما مركَّبان على القولين في الآية السابقة :
الأول: والذين آمنوا أشد حباً لله من أصحاب الأنداد لأندادهم ، ومن أهل الأوثان لأوثانهم .(1/101)
الثاني : والذين آمنوا أشد حباً لله من المشركين به ، فالمؤمن يُخلِصُ المحبة لله ، والمشرك لله نصيب من هذه المحبة وللأنداد نصيب أكبر .
(2) فتكون محبة الله لهم ثابتة ولكن فيها شرك ، وهذا الشرك مما لا يغفره الله إلا بالتوبة .
(3) العدل: أي المثل ، قيل العدل هو الإشراك ، أي يشركون به كما قاله مجاهد وغيره قال تعالى: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } .
(4) أي يشركون ، وقال غير واحد يعدلون أي في المحبة والعظيم .
- - -
والمعنى على أصح القولين : أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة .
(1) والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه: (( الجواب الكافي )) قال هاهنا أربعة أنواع في الحب ، يجب التفريق بينها وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينها .
الأول: محبة الله ، وهذه لا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه ، فإن المشركين يحبون الله وكذلك اليهود والنصارى عُباد الصليب يحبون الله فهذه المحبة غير كافية في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه ، فلا بد أن يضيف إلى ذلك أموراً أخرى .
لأننا نعلم أن المشركين يحبون الله ، وأن اليهود ، يحبون الله وأن النصارى يحبون الله ، وأن هذا غير نافع لهم ، إذاً الذي يوضح هذا النوع الثاني من أنواع الحب .
النوع الثاني: محبة ما يحبه الله وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر حينئذٍ إذا حب ما يحبه الله ، فإن أعظم شيء يحبه الله ما هو ؟! هو التوحيد وهو إفراده وتعظيمه والتأله له ، وأعظم شيء يبغضه الشرك .(1/102)
إذاً هذه المحبة حقاً هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه عن الكفر ، وهي العلامة الفاصلة في التفريق بين المسلمين وبين المشركين ، فإن المشركين لا يحبون ما أحب الله ، لو أحبوا ما أحب الله لما عبدوا معه غيره ، وكل يدعي هذا المحبة ، وكلٌ يقول أنا أحب الله وأحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أنا أحب الله ، وأحب أولياء الله وهو مقيم على شركه وضلاله .
أتحب أعداء الحبيب وتدَّعي ... حباً له ما ذاك في إمكانِ
وكذا تعادي جاهداً أحبابه ... أين المحبة يا أخا الشيطانِ
حقيقة المحبة أن تحب ما يحب الله ، وأن تبغض ما يبغضه الله ، الله جل وعلا أرسل الرسل وأنزل الكتب في إيضاح وبيان توحيد الإلهية ، الذي هو معنى لا إله إلا الله ، فمن أحب الله حقاً فليوحد الله ، ومن أحب الله حقاً فليتبع وليؤمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليتبع هديه وسنته ، { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحبكم الله } .
اليهود والنصارى يقولون (( نحن أبناء الله وأحباءه )) .
هذه الآية تسمى { قل إن كنتم تحبون الله } بآية المحنة وآية المحبة .
آية المحنه: أي هي المحك ، وهي الاختبار الحقيقي لأولياء الله ولأعدائه ، كذلك تبغض ما يبغضه الله فلا تعبد قبراً ولا وثناً ولا تنذر له ، ولا تجعل بينك وبين الله وسائط كالوسائط التي تكون بين الملوك
والحجاب ولا تنذر إلا لله ، ولا تذبح إلا لله ، ولا تتوكل إلا على الله ، ولا تستعين إلا بالله ، ولا تحكم إلا بشرع الله ، { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت } أي وكل الرسل أُمِرُ لهذا { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا } .(1/103)
لا بد من توحيد الله ولا بد من البراءة مما يعبد من دون الله ، وفي صحيح الإمام مسلم من حديث الفزاري عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل ) إذا الذي يدَّعي محبة الله ولو صلى ، وصام ، وزكى وحج ، وهو يعبد غير الله وينذر لغير الله ويسأل الأموات والغائبين إزالة الكروب وتفريج الهموم فهذا كاذب في دعواه ، فإن المحب لما يحب مطيع ، لا يتخلف عن طاعته ، ولا يتخلف عن امتثال أمره ، وهذه المحبة تعظيم في قلب العبد ، وتقل ، والناس يتفاوتون في ذلك ، وعلى حسب تفاوتهم يزداد إيمان هذا وينقص إيمان هذا .
وقد تقدم أن أكمل الناس إيماناً بالله ، وتوحيداً لله هم الرسل ثم يليهم الأنبياء ثم يليهم أتباعهم وأتباع نبينا - صلى الله عليه وسلم - أعظم إتِّبَاعاً وتوحيداً من أتباع الأنبياء قبلهم ، فأبو بكر أفضل رجل بعد الأنبياء والمرسلين وهكذا الصحابة على حسب منازلهم . فإن أتباع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من أتباع غيره ، فقد شرفوا بشرف نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
الله الله في توحيد الله ، وفي الدعوة إلى التوحيد ، ولاسيما في هذا العصر الذي ظهرت فيه معالم الشرك ، وبُنِيَت القباب على القبور ، وعُبَد الأولياء والصالحون ، بل عُبِدَ المشركون وعَبدة الأوثان من دون الله جل وعلا .
النوع الثالث: الحَب لله وفيه ، وهي من لوازم محبه ما يحبه الله جل وعلا بحيث تحب زيداً لله وفي الله ، لا تحبه من أجل أطماع دنيويه ، لا تحبه إلا الله (( أن يحب المرء لا يحب إلا الله )) ، فإن أحب الرجل لمصلحة دنيوية أو لجماله أو لغير ذلك عُذب بقدر ذلك ولا بُدَ ، وكلٌ بحسبه على قدر ما تصرف شيء من الحب لغير الله يكون عذابك بهذا ولابد .
فما في الأرض أشقى من محبٍ ... وإن وجد الهوى حلو المذاقِ(1/104)
نحن نحب أولياء الله من أجل حبهم لله ، ونبغض أعداء الله من أجل عداوتهم لله أو لشرعه أو لأوليائه ، وكلٌ بحسبه ، ولهذا أوثق عُرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله قال تعالى: { لا تجدوا قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } والآن ترى كثيراً من الناس يسارعون في محبة ومولاة اليهود والنصارى ويتولونهم دون الله ، ويرفعون أعلامهم ويعظمون أوامرهم ، ويتحاشون غضهم ومخالفة أمرهم من أجل مصالح دنيوية لا يعود أمرها بنفع لا على الإسلام ولا على المسلمين ، مصالح دنيويّه لذواتهم وحواشيهم ، من كان الناس عنده سواء فلا لعلته دواء ، الذي لا يفرق بين أولياء الله وبين أعداء الله فهذا لا يعرف الإيمان ولا يعرف التوحيد ، وهذا كالذي يريد أن يجمع بين الماء والنار ، والضب والحوت في مكان واحد .
وفي سنن أبي داود من طريق يحيى بن حارث الذماري عن القاسم بن أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحب في الله وأبغض في الله ، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ) وفي البخاري وغيره يقول - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا فرط بين هؤلاء وهؤلاء ) . إذاً لا بد من التمايز والتباين بين المؤمنين وبين الكافرين ، هؤلاء أعداء لله وأعداء لرسول الله ، وأعداء للإسلام ولأهل الإسلام ، وأعداء للإنسانية ولهذا في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تبدؤوا واليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه ) .(1/105)
بعض الناس يُقال فيه مرض حين يَقْدِم عليه عدو لله قد تلطخت يده بدماء المسلمين يستقبله بالبِشرى والتهاني والهدايا ويعظمه وينتدب أناساً يستقبلونه ويعظمونه ، وحين يطلب منه ولي من أولياء الله جلسة لفترة ساعة أو نصف ساعة لعلاج أمور المسلمين يرفض ، أو يولي غيره يعتذر عنه .
هذا من عدم التمييز بين المؤمنين والكافرين ، ومن ضعف التوحيد في القلوب والجهل بذلك ، حقيقة معرفة لا إله إلا الله أن نحب أولياء وأن نعظمهم وأن نناصرهم { المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } أنصار بعض أما المنافقون { بعضهم من بعض } .
من الضروري أن نحب هؤلاء وأن نعظمهم ، وأن نحترمهم ، وبعض الناس حين يدخل عليه ولي لله وهو جالس على كرسيه يمد إليه أطراف الأصابع وهو جالس ، وحين يأتي عدوٌ لله يستقبله عند الباب ، وهذا كثير في أصحاب المناصب والرياسات الذين لا يعرفون شيئاً من عقيدتهم ، ولا من دينهم ، ولا من معاني لا إله إلا الله . يعبدون المادة لها يوالون وعليها يعادون نسأل الله السلامة والعافية .
النوع الرابع: المحبة مع الله ، وهي المحبة الشركية وهي تسوية المخلوق بالله في هذه المحبة .
قال ابن القيم : وبقي قسم خامس: ليست مما نحن فيه وهي المحبة الطبيعية وهي ميل الإنسان إلى ما يلائمه أو ما يلائم طبعة كمحبة العطشان للماء ، والجائع للطعام ونحو ذلك .
بالتفريق بين هذه الأنواع يفقه العبد التوحيد ، ويعرف كيف يُوحِّد ربه كيف يبتعد عن ما يغضب الله ويغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } القلب السليم هذا هو قلب الموحد وهو القلب أيضاً الذي لا غل فيه ، ولا غش ولا حسد ولا بغي ولا عدوان ولا رياء . ولكن الذي يدخل به في الإسلام هو التوحيد والبراءة من الشرك وما دون ذلك مراتب .
- - -
وكذلك قول المشركين في النار لأصنامهم { تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين } .
((1/106)
1) ما قبل هذه الآية يوضح المعنى أكثر ، قال تعالى: { وبرزت الجحيم للغاوين * وقيل هم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون * وجنود إبليس أجمعون * قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفي ظلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما أضلنا إلا المجرمون * } فهم الذين يلبسون الحق بالباطل: { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا ءآتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا * } ، { اتخذوا احبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } . وقوله تعالى: { اتخذوا احبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ما قالوا هم يخلقون ولا يرزقون ولا يحيون ولا يميتون ، أطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال فسماهم الله مشركين { أرباباً من دون الله } ، { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } وقوله تعالى في الآية السابقة { وما المسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا ... } أي في الحب والتعظيم والطاعة .
فمن أنواع الشرك الأكبر طاعة الأحبار والرهبان في تحليل الحرام ، وتحريم الحلال كفعل المشرعين في هذا العصر وأتباعهم .
- - -
ومعلوم قطعاً أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونه ربهم وخالقهم فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مُقرين بأن الله تعالى وحده هو ربهم وخالقهم وأن الأرض ومن فيها له وحده ، وأنه رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ، وأنه سبحانه هو الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه .
(1) أي قوله تعالى: { إذ نسويكم برب العالمين } .
((1/107)
2) حينئذٍ نفهم غلط المتكلمين الذين يعتقدون أنهم إذا فسروا وقالوا عن معنى (( لا إله إلا الله )) لا يخلق ولا يرزق إلا الله أنهم قد أثبتوا غاية التوحيد ، إذا قالوا لا إله وقدروا الخبر المحذوف بأنه موجود ، لا إله موجود إلا الله فقد أتوا بالمعنى الذي جاءت به الرسل ويسمون هذا التوحيد هو توحيد خاصة الخاصة ، أن يثبتوا أن الله هو الخالق الرازق المدبر !!
أما أن الله هو المعبود الذي تألهه القلوب وأنه هو الإله الحق الذي تألهه القلوب محبةً وتعظيماً ورجاءً وخوفاً ومحبة هذا لا يعرفون شيئاً منه ؟!
وقد يسمون هذا توحيد العامة بل قد لا يسمون هذا ولا توحيد العامة ، ولذلك يقعون في الشرك .
والشرك الآن قائم في كثير من الأرض بأسباب علماء السوء ودعاة الضلالة والجهل بالتوحيد والعقيدة وعدم العناية بهذا المعنى الصحيح لمعنى لا إله إلا الله .
فإن بعض الناس لا تكون دراسته ولا تعاليمه إلا على منهج الأشاعرة . إذا قرأ الإنسان وحفظ الجوهرة فقد حاز قصب التوحيد ، وما علم أنه قد حاز الجهل كله والضلال العظيم .
وهذا يستدعي من العلماء وطلبة العلم إلى مضاعفة الجهود في دعوة الناس إلى معنى لا إله إلا الله ، وتوضيح المعنى الحق وأنه لا إله حق إلا الله قال تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل } ولهذا تكرر هذا المعنى في القرآن كثيراً ، بل القرآن كله من فاتحته إلى خاتمته في تقرير هذا المعنى الحق . ومع هذا وُجد من يعارض ويجهل على القلوب غشاوة نسأل الله السلامة والعافية .
ونسأل الله الثبات على التوحيد والعقيدة وعلى معنى لا إله إلا الله قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .(1/108)
ولهذا المؤلف رحمه الله تعالى أطال في تقرير هذه المعاني , ولهذا يتكرر شيء كثير من هذا الكلام لكن المصلحة داعية لهذا ، لأن هذا هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل ، ولو أن عباد القبور وعباد الأوثان تمعَّنوا في هذه المعاني الكبيرة وتدبروا القرآن لأعرضوا وعلموا وعرفوا أن عبادة المقبورين وعبادة الأموات وسؤالهم دون الله أن هذا من أعظم الضلال ومن أقبح الظلم ومن أعظم الشرك . ولكنهم لا يعون ولا يعقلون ولا يفهمون والله جل وعلا قال: { بل هم أضل سبيلا } أي من البهائم ، لأن العاقل حقا هو الذي يستطيع أن يميز بين الحق وبين الباطل ولو لم تنزل كتب ، ولو لم تُرسل رسل ، فطرةً مستقرةً ، الإنسان مفطور أن لا يعبد حجراً ولا وثناً ، يعبد الله جل وعلا هو الذي خلقه أوجده .
الحجر والشجر وكل شيء ما خلقك ولا رزقك ولا نفعك ، حينئذٍ كيف يعبده ؟ وأنزلت الكتب وجاءت الرسل ومع هذا يخالفون الكتب والرسل والفطر .
- - -
وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبينه تعالى في المحبة والعبادة ، فمن أحب غير الله تعالى ، خافه ورجاه وذل له كما يحب الله ويخافه ويرجوه : فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله .
(1) إي أنهم يسوون غير الله تعالى بالله في المحبة والعبادة وقد تقدم تقسيم الحب وتقسيمه واضح وجلي يوضح لك ما كان لله وما كان لغيره .
(2) تقدم عندنا أن الصحيح أن الشرك نوعان لا ثالث لهما ، وأن الشرك الخفي الذي جعله بعض العلماء قسماً ثالثاً منه ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر ، وأن الشرك الأكبر مراتب وأن الشرك الأصغر مراتب .(1/109)
والشرك الأكبر كله بسائر أنواعه لا يغفره الله جل وعلا إلا بالتوبة ، وهو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله ، قال الله جل وعلا: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } وقال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } أي مادون الشرك يغفر الله جل وعلا لمن يشاء من عباده منهم من قد يعذبه ومنهم من قد يغفر له من أول وهلة ، والذي يعذبه لا يخلَّد في النار ، لأنه لا يخلَّد في النار إلا الكفرة ، المشركون ، اليهود ، النصارى هؤلاء مخلدون في النار .
- - -
فكيف بمن كان غير الله أقرب عنده منه ، وأحب إليه وأخوف عنده وهو في مرضاته أشد سعياً منه في مرضاة الله ؟
(1) كما هو واقع من كثير من أغبياء العالم ، الذين حين يقع في مُلِمَِّةٍ أو شده يرى أن البدوي أقرب منه إلى الله ، فلذلك إن كان في آخر ساعة من الليل انتظر الصباح حتى يذهب ويتوسد قبر البدوي ليسأله إغاثة اللهفات وتفريج الكروب وهذا والعياذ بالله شرك أكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة .
(2) ولذلك بعض الأغبياء إذا قيل له احلف بالله كاذباً لم يبالي ويقول والله العظيم كذا وكذا وهو كاذب ، وإذا قيل له احلف بالبدوي كاذباً أو احلف بعلي كاذباً لم يستطيع خشية أن يصيبه البدوي أو غيره بسوء .
(3) وهذا واضح في كثير من عباد القبور وعباد الأوثان ، وحينئذٍ ينبغي للإنسان أن يكثر من دعاء لله جل وعلا بالثبات أن يثبته الله على التوحيد وعلى العقيدة ويسأل الله السلامة والعافية وأن يعرف فضل الله عليه ، حيث جعله من أهل التوحيد ما جعله من أهل الإشراك المخلدين في النار ، ولكن أهم شيء الثبات: { فاستقم كما أُمرت } : { اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ولهذا قال لبيد:
الحمد لله إن لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى:(1/110)
والله ما خوفي الذنوب فإنها ... لعلى سبيل العفو والغفرانِ
لكنما أخشى انسلاخ القلب عن ... تحكيم هذا الوحي والقرآنِ
ورضاً بآراء الرجال وخرصها ... لا كان ذاك بمنة المنانِ
- - -
فإذا كان المسوي بين الله وبين غيره في ذلك مشركاً فما الظن بهذا ؟
فعياذاً بالله من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام كانسلاخ الحية من قشرها !
(1) يقصد بهذا ، الذي كان غير الله أقرب عنده منه وأحب إليه وأخوف عنده وهو في مرضاته أشد سعياً منه في مرضاة الله .
(2) وهذا يستدعي منا أن نضاعف الجهود في التأمل في التوحيد ، ولا نقول كما تقوله العامة وبعض المتمعلمة نحن نعرف التوحيد فلا داعي لتعلمه ، الإنسان بحاجة إلى التوحيد إلى أن يفارق الحياة حتى يوافي الله جل وعلا بهذا التوحيد ، الذي عليه الفوز والنجاة أو يترتب عليه عقاب وعذاب إذا كان مخالفاً لذلك .
ولا يسأم الإنسان من تقريره ولكن يراعي مصالح الناس من تقرير التوحيد لأن التوحيد ليس محصوراً كما تقدم تقريره مراراً في عبادة القبور والأوثان ، فيه شرك محبة فيه شرك تعظيم فيه شرك تسوية فيه شرك طاعة ، فيه شرك تحكيم قوانين ، هذه أمور موجودة في المجتمع لأنه لابد من الحديث عنها ومضاعفة الجهود حولها .
وكذلك يستدعي أن نتعرف على نواقض الإسلام لكني نحذرها ونبتعد عنها ، فالإنسان يتعرف على هذه الأمور لئلا يقع فيها لينذر غيره ومن بلغ ليحصل البيان .(1/111)
كل مسلم مأمور يتعلم التوحيد وتعلم ما يناقضه ، ومأمور بدعوة الناس إلى التوحيد الحق وإلى ذلك ، قال تعالى: { هل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } وقوله: { ادعوا إلى الله } قيل: ادعوا لله ، وقيل ادعوا إلى طريق الله . أي الطريق الحق . وهو التوحيد وكلٌ بحسبه ، العلماء وطلبة العلم هؤلاء في المرتبة العليا في بيان هذا المقام وفي توضيحه ، ودعوة الناس إليه ، والناس مراتب في ذلك حتى المرأة في بيتها مأمورة توضحه لأبنائها وبناتها وجيرانها ومن ترتبط به ، التوحيد ليس محصوراً في الرجال دون النساء ، التوحيد مطلوب من كل العالمين مطلوب من جميع الخلق أن يوحدوا الله { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قيل: إلا ليوحدون ، وقيل: إلا لآمرهم وأنهاهم .
- - -
وهو يظن أنه مسلم موحد فهذا أحد أنواع الشرك .
والأدلة الدالة على أنه تعالى يجب أن يكون وحده هو المألوه تبطل هذا الشرك ، وتدحض حُجج أهله .
(1) وأنا قُلت أن الإنسان لو فَقُه معنى الاسم الشريف (( الله )) لاستدعى ذلك أن يستقبح الشرك ، وأن يوحد الله جل وعلا ، فالله أصله الإله ، والإله ما هو نرجع إلى معاجم اللغة ، نرجع إلى كتب العلماء ، نرجع إلى لغة العرب ما هو الإله ؟ هو الذي تألهه القلوب محبةً وتعظيماً ، فلو أحب الله وعظمه حق التعظيم ، لاستدعى ذلك إلى أن يبتعد عن تعظيم غير الله ، وعن الإشراك به .
وهذا يستدعي أيضاً التأمل والتدبر ، فإن هذه المعاني قد تَمُرُّ على عباد القبور لكن يمرون عليها كمرورهم بوادي مُحَسر حين يقفلون ويرجعون من المزدلفة ، أو أعظم وأسرع فلا يعون ولا يتدبرون .
نحن حين نتدبر القرآن نجد فيه كل شيء:
فتدبر القرآن إن رمت الهدى ... فالعلم تحت تدبر القرآنِ
ولكن كما قال الشاعر :-
ومن العجائب والعجائبُ جمةٌ ... قرب الشفاء وما إليه وصول
يقرأ القرآن ويشرك بالله !!
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ ... والماء فوق ظهورها محمول(1/112)
أما قوله (( والأدلة الدالة على أنه يجب أن يكون وحده هو المألوه تبطل هذا الشرك )) بل القرآن كله يبطل هذا الشرك من أوله إلى آخره من فاتحته إلى خاتمته .
{ الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين } هذه الآية تأتي على الشرك من أصله ، وخاتمة القرآن قال تعالى: { قل أعوذ برب الفلق } وبعد ذلك { قل أعوذ برب الناس } وهؤلاء يقولون أعوذ بالبدوي ، وأعوذ بعبد القادر الجيلاني، وأعوذ بزينب ، أعوذ بعلي ، أعوذ بالحسن ، أعوذ بالحسين ، أعوذ برسول الله من الأموات ، وهذا شرك أكبر ، والقرآن كله يوضح هذا .
(2) أي أهل الإشراك .
- - -
وهي أكثر من أن يحيط بها إلا الله تعالى ، بل كل ما خلقه الله تعالى ، فهو آية شاهدة بتوحيده ، وكذلك كل ما أمر به ، فخلقه وأمره وما فطر عليه عبادة وركبه فيهم من العقول: شاهد بأنه الله لا إله إلا هو ، وأن كل معبود سواه باطل . وأنه هو الله الحق المبين تقدس وتعالى:
وواعجباً كيف يُعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كل تحريكةٍ ... وتسكينةٍ أبداً شاهد
وفي كل شيء له آيةٌ ... تدل على أنه واحدُ(2)
(1) { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل } .
(2) وهذا الأبيات تنسب لابن المعتز ، وقيل لأبي العتاهية .
ومما يُذْكر أيضاً وينسب لأبي نواس:
تأمل في رياض الأرض وانظر ... إلى آثار ما مصنع المليكُ
عيونٌ من لجينٍ شاخصاتٌ ... بأحداقٍ هي الذهبُ السبيكُ
على قُضُبِ الزبرجدِ شاهداتٌ ... بأن الله ليس له شريكُ
أي لا في خلقه ولا في رزقه ولا في عبادته ، كما أنه ليس له شريك يخلق ويرزق . إذاً ينبغي أن لا يكون له شريك في العبادة وهذا واضح فليتأمل العبد هذا المقام فإنه مقام عظيم .
- - -
والنوع الثاني من الشرك ، الشرك به تعالى في الربوبية .
(1) تقدم أن شرك الأمم نوعان: شرك في الإلهية وشرك في الربوبية .(1/113)
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بإجمال ما جاء في توحيد الإلهية ثم ثنى بتوحيد الربوبية ، وسوف يرجع المؤلف رحمه الله تعالى مرة أخرى إلى الحديث عن توحيد الإلهية لأنه هو المقصود الأعظم لدعوة الرسل ، ولأنه هو المقصود أيضاً في تأليف هذا الكتاب .
قوله (( والنوع الثاني من الشرك )) تقدم أن الشرك بمعنى الكفر عند طائفة من أهل العلم ، لقول الله جل وعلا: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } قالوا : بأن الكفر داخل في هذه وإلا الآية فيقتضي بأن الكفر دون الشرك ، واستدلوا أيضاً بأدلة من الكتاب والسنة ومن حيث النظر .
والقول الثاني: أن كل شرك كفر ، وليس كل كفرٍ شركاً ، وذلك لقوله تعالى: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } فالعطف هنا يقتضي المغايرة ، لأن الله جل وعلا قال: { من أهل الكتاب والمشركين } فأهل الكتاب كفار وهم اليهود والنصارى ، عطف الله جل وعلا المشركين على أهل الكتاب فالعطف عندهم يقتضي المغايرة . قالوا فهذا دليل على مغايرة الشرك عن الكفر لأن الشرك هو تسوية غير الله بالله هو من خصائص الله ، قالوا: وأما الكفر فهو الديانة بديانة أخرى أو ترك الدين بالكلية حيث لا يعبد معه غيره . ولا يلزم من هذا أن يكون الشرك أعظم من الكفر ، فقد يكون الكفر أعظم من الشرك ، فالذي يدين بدبن بالإسلام ويعبد مع الله إله آخر هذا مشرك لكنه أخف كفراً ممن ليس له دين أصلاً ، لا يعبد الله أصلاً وأخف كفراً ممن لا يعترف بوجود الله ولا بوحدانية الله ، ولا يشهد بالكتب المنزلة ولا بإرسال الرسل ولا يُقر بهذا أصلاً ، هذا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، ولكنه قد يجهل ويريد أن بين الله وسائط كما بين الملوك وحجابهم وكلاهما كافران .(1/114)
وهذا التفريق بين الشرك وبين الكفر لا يترتب عليه حكم في الآخرة ، لأن العلماء مجمعون على أن الكفار مخلدون في النار وعلى أن المشركين مخلدون في النار ، وحتى بالنسبة لأحكام الدنيا كالنكاح ونحو ذلك ، لا يترتب عليه حكم بالنسبة للمرتد .
فلو أن مسلماً ارتد لليهودية أو للنصرانية كالمسلم إذا ارتد بالشرك لكن يختلفان بأنه يجوز نكاح الكتابية ولا يجوز نكاح المشركة ، نكاح الكتابية جائز بالاتفاق لأن أهل الكتاب لهم دين في الجملة ، وإن كان أهل الكتاب يحرفون الكتب ويحرفون ما جاءت به الرسل والمشركون لا كتاب لهم .
- - -
كشرك من جعل معه خالقاً آخر ، كالمجوس وغيرهم ، الذين يقولون: بأن للعالم رَبَّين أحدهما ، خالق الخير ، ويقولون له بلسان الفارسية ، (( يزدان )) والآخر: خالق الشر ، ويقولون له المجوس بلسانهم (( أهرمن )) .
(1) الشرك في الربوبية معلوم الامتناع بإجماع الناس كلهم وذلك باعتبار إثبات خالقين متماثلين في كل شيء وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن هناك خالقاً خلق بعض العالم ، وقالت الفلاسفة الدهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس وأثبتوا أموراً محدثة بدون إحداث الله لها .
وقد رد الله جل وعلا على هؤلاء فقال: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } تأمل في قول الله جل وعلا { وما كان معه من إله } إله نكرة سُبقت بمن وبالنفي وهذا يفيد العموم ، أي ما كان مع الله إله يخلق أو يرزق أو يحيي أو يُميت وهذا رد على الفلاسفة الدهرية وعلى الثانوية وعلى المجوس وعلى غيرهم الذين يثبتون مع الله خالقاً آخر ، إذ يجعلون للعالم خالقين ، خالقاً للنور وخالقاً للظلمة ، ولكن ليس هناك أحدٌ في العالم يجعل خالقين مثماثلين في كل شيء .
(2) يجوز أن تقول أحَدُهما ويجوز أن تقول أحدَهما .
(3) وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن لهؤلاء في الظلمة قولين:(1/115)
القول الأول: أنها محدثة وحينئذٍ تكون مخلوقه فالمخلوق كيف يخلق ؟!
القول الثاني: أنها قديمة ولكنها لم تفعل إلا الشر ، إذ لم يقل أحد من الثانوية وهؤلاء المجوس بأن الظلمة تخلق الخير والشر . صحيح أنهم مشركون بقولهم بأن للعالم خالقين لكنهم يقولون بأن الظلمة محدثة .
وطائفة أخرى تقول: بأن الظلمة قديمة مع الله جل وعلا لكنها لا تفعل إلا الشر ، فحينئذٍ تكون ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور ، إذ النور أتم بإجماع الناس .
- - -
وكالفلاسفة ومن تبعهم الذين يقولون بأنه لم يصدر عنه إلا واحد بسيط .
(1) لأنهم يقولون بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ، وهؤلاء متناقضون حيث يقولون إن الواحد البسيط لا يمتنع أن يصدر عنه ما هو مختلف في صفاته وأقداره .
وهذا تناقض فاسد ، لأن صدور المختلفات عما لا يصدر عنه إلا واحد بلا واسطة جمع بين النقيضين وهذا ضلال عظيم، فليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء لا واحد ولا غيره إلا الله جل وعلا .
فقولهم: بأنه لم يصدر عنه إلا واحد بسيط ، هذا جهل وضلال لأننا نعلم أنه صدر عنه أكثر من واحد .
ونعلم أيضاً أنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء لا واحد ولا اثنان ولا ثلاثة ولا أربعة إلا الله ، أما غير الله فلا يصدر عنه شيء لا واحد ولا اثنان وهذا القول يرجع إلى إيجاد خالق مع الله .
وقد تقدم أنهم يقولون ، إن الواحد البسيط لا يمتنع أن يصدر عنه ما هو مختلف في صفاته وأقداره وهذا ينافي قولهم بأنه لم يصدر عنه إلا واحد ، ففي كلامهم تناقض واضطراب .
وهذا التناقض عند المتكلمين يطلعك على ضلالهم وحدثهم في هذا الباب وغيره ، وأنهم يتكلمون بالتخييل والتمثيل معرضين عما جاءت به الرسل .
وقد اعترف عقلائهم بفساد هذا المسلك وضلال هذا المذهب وقد قال بعض المتكلمين :
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذىً ووبالُ(1/116)
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعن فيه قيل وقالوا
وقال آخر :
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أرى إلا واضعاً كف حائرٍ ... على ذقنٍ أو قارعاً سن نادمِ
وقال آخر (( يا ليتني أموت على عقيدة إحدى عجائز نيسابور )) ، لأن العجوز تموت على أصل الفطرة وهؤلاء خارجون عما جاءت به الرسل ومتناقضون في أقوالهم وأفعالهم ، فلكل واحد منهم طريقة في إثبات الصانع في إثبات الخالق ، ثم يتناقضون في هذه الطريقة بحيث يصلون إلى نتيجة تؤدي إلى الاضطراب في الأصل الأول الذي يصدرون عنه ، على رعونة هذه الطريقة وصعوبتها وأشبه ما تكون بالألغاز ، التي قد لا يفهمها الكثير بخلاف ما جاءت به الرسل ، فإنه واضح جلي لا لبس فيه يفهمه العام كما يفهمه الخاص ، لأن حاجة الأمة إليه ضرورية ، لا حياة للناس بدون ما جاءت إليه الرسل . أما علوم هؤلاء المتكلمين فالجهل بها علم والعلم بها جهل وضلال وانحراف ، إلا بدافع الرد عليهم وبيان تناقضهم واضطرابهم .
- - -
وأن مصدر المخلوقات كلها عن العقول والنفوس ، وأن مصدر هذا العالم عن العقل الفعَّال ، فهو رب كل ما تحته ومدبره .
(1) أي بدون خلق الله إياها ، لأنهم يجعلون مع الله خالقاً آخر .
(2) وهذا قول الملاحدة القائلين بِقِدم العالم وأبديته ، وأنه قديم مع الله لم يسبق له عَدَم ، بل لم يزل ولا يزال ، ويقولون عن الحوادث بأنها مستندة إلى أسباب اقتضت إيجادها أي إيجاد هذه الحوادث . الأسباب اقتضت إيجاد هذه الحوادث وهي ما يعبرون عنه بالعقول والنفوس ، ويقولون بأن العالم كله مفعول لشيء يسمونه العقل ويجعلونه هو رب الكائنات .(1/117)
العقل عندهم هذا هو العقل الأول حتى ينتهي الأمر إلى عشرة عقول؟! يجعلونه هو رب الكائنات ومبدع السماوات والأرض ، لكنه لازم للواجب بنفسه ، ومعلول له ، ثم يذكرون بعض اللوازم لهذا العقل الأول حتى ينتهي إلى العقل العاشر الذي يفيض عنه العلم والنبوة وعنه صَدَرَ القرآن ، لأن القرآن عندهم لا شك أنه مخلوق ، وأن الله لا يوصف بالكلام أصلاً ويقولون عن هذه العقول هي الملائكة ، وقد يقول طائفة منهم بأن العقل الفعَّال هو جبريل ، ولكنَّ هذا الفيض الذي يفيضه جبريل على حسب اصطلاحهم وزعمهم لا يحصل لكل أحد بل بحسب استعداد القوابل فعندهم هناك من فيه استعداد لتقبل هذا الفيض ، وهناك من ليس عنده استعداد لتقبل هذا الفيض هذا يرجع أيضاً إلى أن النبوة عندهم مكتسبة ، لأنها تصدر عن هذا العقل الفعال ، وهذا الاكتساب لا يقولون بأنه يحصل لكل أحد ، بل يحصل لفئة عندها قابلية وتحرم الفئة الأخرى لعدم القابلية .
وهذه العلوم كلها علوم ضلال ، ولولا أن المؤلف رحمه الله تعالى أشار إليها للرد على الفلاسفة وبيان مذاهبهم ما تعرضنا لها ، إذ لا يستفيد منها طالب العلم إلا على وجه الرد عليهم وبيان ضلالهم وتناقضهم ، وكي يحمد الله أيضاً على هذه النعمة وكي يعلم أنهم على ضلال بسبب هذه التناقضات والألغاز التي لا يفهمها الحاذق من حذاق أهل العلم ، فلذلك دعوة الرسل جاءت واضحة جليَّه لا لبس فيها ولا غموض ولا ألغاز ولا غير ذلك يفهمها كل أحد لأن الحق من قبل الله عز وجل وضرورة أن يفهمه كل أحد العامي يسمع دعوة الرسل يفهمها طالب العلم يفهم ناهيك عن العلماء قال تعالى: { أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره } .(1/118)
التعرف على الخالق ليس بهذه الطرق ، والأحاجي والألغاز والتمثيل والتخييل ، نعرف الله جل وعلا بأفعاله ، الله جل وعلا فطر العباد على معرفته كما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( كل مولود يولد على الفطرة ) ونعرف الله جل وعلا بما تعرف به إلينا من مخلوقاته وأفعاله ، فهذا هو الإله الحق الذي يجب على جميع الناس عبادته وإفراده بالعبادة .
وأنا أعجب من هؤلاء المتكلمين كيف لم يهتدوا إلى الصواب بسبب تناقضهم واضطراباتهم حيث يقررون المسألة ويذكرون لها أصولاً وفي النهاية ينقض آخرها أولها ، فهم يعلمون ها التناقض ، يعلمون وأنه باطل لم يأتي به كتاب ولا سنة .
صحيح أن بعض الحذاق منهم رجع عن هذه الضلالات ولكن بقي مجموعة منهم على هذا الضلال وعلى هذا الانحراف ، وهم متفاوتون في الضلال بعضهم أشد من بعض ولكن هذا جزاء كلّ من أعرض عن كتاب الله وعن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكل من أعرض عن الكتاب وعن السنة فمصيره إلى هذا الانحراف وإلى هذا الضلال .
ولهذا يقول الرازي: (( لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات { الرحمن على العرش استوى } و { إليه يصعد الكلم الطيب } وأقرأ في النفي { ليس كمثله شيء } ، { ولا يحيطون به علما } ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي )) ليس المعنى أن الإنسان يبحث ليجرب ، من عوفي فليحمد الله جل وعلا .
- - -
وهذا شر من شرك عباد الأصنام والمجوس والنصارى ، وهو أخبث شرك في العالم ، إذ يتضمن من التعطيل وجحد إلهيته سبحانه وربوبيته ، واستناد الخلق إلى غيره سبحانه مالم يتضمنه شرك أمة من الأمم وشرك القدرية مختصر من هذا . وبابٌ يُدخل منه إليه
((1/119)
1) أي كلام الفلاسفة أن مصدر هذا العالم عن العقل الفعال ، وقد تقدم عن الذين يقولون بأن هذه العقول هي الملائكة ، وطائفة تقول العقل الفعال هو جبريل وهذا شرٌ من شرك عباد الأصنام والمجوس والنصارى .
لماذا صار هذا شراً من شرك عباد الأصنام والمجوس والنصارى ؟!
لأن هؤلاء يثبتون خالقاً واحداً ، وهؤلاء يثبتون خالقين ، ومع ذلك يقعون في شرك عبّاد الأصنام والقبور ، وبعضهم لا يعرف رباً فيعبد المادة والحياة كالملاحدة الذين لا يدينون بدين .
(2) لأنه يتضمن أمرين:-
الأمر الأول: تضمنه للتعطيل وجحد إلهية الله سبحانه وتعالى وربوبيته وكل واحد من هذه التضمنات كفر مستقل .
الأمر الثاني: أنه يقتضي إسناد الخلق إلى غير الله جل وعلا وهذا راجع إلى شيء من الكفر بتوحيد الربوبية ، وشرك الأمم الذين بعثت إليهم الرسل ونزلت عليهم الكتب لم يتضمن أكثره شيئاً من هذا .
(3) إلى ماذا يرجع هذا ؟! إلى شرك وإلى كفر الفلاسفة ، فإن المجوس يقولون بإثبات خالقين يرجع هذا إلى المجوس وكفر الفلاسفة شبيه بكفر المجوس وشرك القدرية مختصر من شرك المجوس فإن المجوس يقولون بإثبات خالقين ، خالق النور وخالق الظلمة .
ويسندون حوادث الخير إلى النور ، وحوادث الشر إلى الظلمة .
والقدرية طائفتان :
الطائفة الأولى: الذين أخرجوا أفعال العباد عن خلق الله وتقديره وهذا كفرٌ وردة عن الدين ، لأن هذا إثبات خالق مع الله ، ومن أثبت خالقاً مع الله فلا يشك مسلم من ردته .
الطائفة الثانية: طائفة نفت تقدير الشر دون الخير ، فجعلت الخير من الله دون الشر ، وهذا راجع أيضاً إلى مذهب المجوس .
ولابن تيمية رحمه الله كلام جميل ذكره رحمه الله تعالى في الفتاوى حول هؤلاء القدرية الخائضين في هذا المقام بالضلال المتكلمين فيه بغير علم قال: (( إن أهل الضلال الخائضين في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق ، مجوسية ومشركية وإبليسية .(1/120)
الفرقة الأولى المجوسية: الذين كذبوا بقدر الله ، وإن آمنوا بأمره ونهيه فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته .
الفرقة الثانية المشركية: الذين أقروا بالقضاء والقدر وأنكروا الأمر والنهي قال الله جل وعلا: { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } فمن أحتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء .
الفرقة الثالثة الإبليسية: الذين أقروا بالأمرين ولكن جعلوا هذا متناقضاً من الرب ، وطعنوا في حكمته وعدله تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً .
وأهل السنة والجماعة والفرقة الناجية يؤمنون بالقدر خيره وشره ، وذلك من مقتضى ما جاء في الكتاب وتواترت به النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والإيمان بالقدر هو الإيمان بأن الله تعالى عليم بما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً . وأن الله جل وعلا كتب ذلك في اللوح المحفوظ ، ويؤمنون أيضاً بقدرته ومشيئته النافذة الشاملة .
- - -
ولهذا شبههم الصحابة - رضي الله عنهم - بالمجوس ، كما ثبت عن ابن عمر و ابن عباس - رضي الله عنهم - .
وقد روى أهل السنن فيهم ذلك مرفوعا أنهم مجوس هذه الأمة ، وكثيراً ما يجتمع الشركان في العبد .
(1) قوله ( قد روى أهل السنن ) الصحيح أنه لم يروي هذا الحديث كل أهل السنن .
وإنما رواه أبو داود من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر وفيه انقطاع ، سلمة ابن دينار لم يسمع من ابن عمر .
قال علي بن المديني لم يسمع سلمة من أحد من الصحابة إلا جندبا ، والحديث أيضاً رواه أحمد من طريق عمر بن عبد الله مولى غفره عن ابن عمر مرفوعاً وفيه ضعف ، قال ابن معين عن عمر بأنه ضعيف وقد رجح الدارقطني رحمه الله تعالى في العلل وقفه على ابن عمر .
ورواه ابن ماجة أيضاً من حديث جابر وفيه لين .(1/121)
والآثار الواردة بأن القدرية مجوس هذه الأمة لا يثبت في رفع شيء منها حديث ، وقد صحت عن الصحابة - رضي الله عنهم - . وهي موجودة في دواوين أهل الإسلام المشهورة .
ووجه المشابهة بين القدر به والمجوس ، أن المجوس أثبتوا خالقين خالقاً للشر وخالقاً للخير . والقدرية قالوا: بأن أفعال العباد خارجه عن خلق الله وعن تقديره ، وطائفة أخرى قالت . كما تقدم أن الخير من الله دون الشر ، وهذا مطابق لما تُقَرره المجوس .
(2) يقصد بالشركين شرك في الإلهية وشرك في الربوبية .
وقد تقدم أن بعض المشركين الذين يقرون بأن الله هو الخالق والرازق المدبر يقعون في بعض شرك الربوبية كنسبة المطر إلى الأنواء . وتقدم أن الحكم بغير ما أنزل الله شرك في الربوبية ، وكشرك هؤلاء المجوس وكشرك الفلاسفة وكشرك القدرية هذا كله شرك في الربوبية .
وقد يقع هذا الشرك مع الشرك الآخر الشرك في الإلهية كما وقع من المشركين حيث ينسبون نسبة المطر إلى الأنواء ويحكمون بغير شرع الله ومع هذا يعبدون القبور والأوثان ويدعونهم دون الله جل وعلا .
- - -
وينفرد أحدهما عن الآخر ، والقرآن الكريم ، بل الكتب المنزلة من عند الله تعالى كلها مصرحة بالرد على أهل هذا الإشراك ، كقوله: { إياك نعبد }
(1) وهذا واضح أي لا ترابط بين القولين ، لا يلزم أنه إذا أشرك في هذا أشرك في هذا ، ينفرد أحدهما عن الآخر ، فإن كفار قريش كانوا مقرين في الجملة بتوحيد الربوبية ، وإذا وُجد شرك في توحيد الربوبية فهو يسير في جانب ما آمنوا به ولكنهم كانوا مشركين بتوحيد الإلهية ، ولهذا حين بُعث إليهم نبينا - صلى الله عليه وسلم - ما دعاهم إلى توحيد الربوبية دعاهم إلى توحيد الإلهية وحين يذعنون لتوحيد الإلهية فإنه يقتضي هذا الإيمان بتوحيد الربوبية .
((1/122)
2) وهذا واضح: فإن القرآن كله من أوله إلى آخره يقرر التوحيد ويبين شرك المشركين ويبين فساد عقولهم وانحراف مناهجهم ، بل الكتب كلها المنزلة من عند الله جل وعلا تقرر هذا الأصل ، وتُّبَيِّنه لأن الله جل وعلا يقول: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي منذ خلق البرية ، كيف يخلقهم لعبادته ولا يوضِّح لهم هذا المقصد الأكبر ؟!
هذا محال ، ولا يمكن أن يقع ؟!
فإن الله جل وعلا حين خلقهم لغاية وهي العبادة أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب يوضحون لهم هذا المقام حتى لا يحتجوا فيما بعد ، أنه لم يأتيهم رسل ، ولكن هذا دليل على فساد عقولهم ، قال تعالى: { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } .
(3) تقدم أن طائفة من العلماء قالوا: بأن الله جل وعلا جمع علم الأولين - أي في الاعتقاد -والآخرين في القرآن ، وجمع الله علم القرآن في فاتحه الكتاب ، وجمع الله جل وعلا علم فاتحة الكتاب في قوله تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } ، { إياك نعبد } لماذا قدم المعمول على العامل ؟ الجواب: لإفادة الحصر ، أي فلا تعبد إلا الله لكن ينبغي لنا أن نفهم العبادة ، تقدم توضيحها وهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .
الذين يقول: { إياك نعبد } في كل صلاة وهو يذبح لغير الله أو ينذر لغير الله إما إنه لم يفهم حقيقة العبادة وإلا أنه مستكبر عن العبادة ومعارض لما جاءت به الرسل أو أنه جاهل .
فـ { إياك نعبد } تقتضي أن الإنسان يفرد الله بالعبادة لا يعبد معه إلهاً آخر ، ويتوجه إلى الله جل وعلا بأفعاله وأقواله وإراداته .
فإن بعض الناس يوحد الله بالأفعال لكن يشرك في الأقوال ، وطائفة توحد الله في الأفعال والأقوال وتشرك في الإرادات .
فشرك النية والإرادة والقصد بحر لا ساحل له فمن أراد بعمله غير وجه الله فقد أشرك به ، وهذا الشرك قد يكون شركاً أكبر وقد يكون شركاً أصغر .(1/123)
لكن نلفظ دائماً بالإسلام ، ما هو الإسلام ؟! نحن نعلم أن الناس يقولون أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويدافعون عن الإسلام . ولكنهم لا يفهمون الإسلام .
الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد ، والذي فهم الإسلام وعرف معنى الإسلام كيف يعبد معه غيره ؟! كيف يستنجد بالأولياء والصالحين ؟! كيف يسألهم إغاثة اللهفات وإزالة الكربات ؟! كيف يدعوهم دون الله جل وعلا ؟! كيف يطلب منهم المدد ؟! كيف يفزع إليهم ؟! كيف يخاف من الأموات والغائبين ؟! كيف يتوكل على الأولياء والصالحين ؟! كيف يعبد القبور ؟! كيف يطوف حول القبور ؟!
الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة ، والبراءة من الشرك وأهله .
ومن استسلم لله وعبد معه غيره صار مشركاً ، وهو وفي الحقيقة لم يستسلم حقيقة الاستسلام ، ومن ترك عبادة الله مع علمه بما أوجب الله عليه فهذا مستكبر كإبليس { إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } إبليس كان عنده أعلم بالله ويصدق بذلك ويعلم بوجود الجنة والنار الله جل وعلا ذكر عنه قال: { فبعزتك لأغوينهم أجمعين } يقسم بعزة الله ، و تعلمون بمعنى العزة ؟! العزة تقتضي أن الله جل وعلا لا يرام جنابه ، كما قال ابن القيم في معاني العزة وهي ثلاث معاني:-
وهو العزيز فلن يرام جنابه ... أنّى يرام جناب ذو السلطانِ
وهو العزيز القاهر الغلاب لم ... يغلبه شيءٌ هذه صفتانِ
وهو العزيز بقوةٍ هي وصفه ... فالعز حينئذٍ ثلاث معاني
وإبليس يقول: { فبعزتك } إذاً لم يكن كفره عن عدم تصديق أو عن عدم علم ، كان كفره عن إعراض واستكبار كما قال تعالى: { والذين كفروا عما انذروا معرضون } فلا يخلِّص العبد من عذاب الله مجرد العلم أو مجرد التصديق ، الله جل وعلا يقول عن آل فرعون { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا } .
- - -(1/124)
فإنه ينفي شرك المحبة والإلهية ، وقوله: { وإياك نستعين } فإنه ينفي شرك الخلق والربوبية ، فتضمنت هذه الآية تجريد التوحيد لرب العالمين في العبادة .
(1) تقتضي إفراد الله جل وعلا بكل شيء ، تقدم أن الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وتعظيماً وإجلالاً ، هو المألوه أي هو المعبود ، قال تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير } .
(2) { إياك نعبد } في توحيد الإلهية و { إياك نستعين } في توحيد الربوبية وفاتحة الكتاب تضمنت جميع أنواع التوحيد .
نحن الآن عرفنا توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية من فاتحة الكتاب ، وتوحيد الأسماء والصفات ، من قوله: { الرحمن الرحيم } .
والمسلم يؤمن بكل ما جاء عن الله تعالى وبكل ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه حقيقة الانقياد قال تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصي الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا } .
(3) هذا لِمَن عَقِلَ وفهم ، وإلا فنحن نعلم أن مئات الآلاف من العالم الإسلامي يقرؤون هذه الآية ويرددونها في اليوم أكثر من أربعين مرة وهم يعبدون معه غيره ، ويشركون معه إلهاً آخر بدعوى الواسطة وبدعوى الشفاعة ، وبدعوى أنهم أفضل منا واقرب ، وأن الله لا يمكن سؤاله بدون واسطة وهذا معظم شرك المشركين { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ، إذاً لِمَنْ عَقَلَ وفهم عن الله أمره ، وإلا مجرد القراءة بدون فهم لا ينفع .
بل بعض المشركين الذين وافوا الله جل وعلا بالشرك وهم حصب جنهم لها واردون أفهم لمعنى ( لا إله إلا الله ) من بعض المنسوبين والمحسوبين إلى الإسلام .(1/125)
والدليل على هذا ما جاء في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: ( لما حضرت أبا طالب الوفاة أتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا عم قل ( لا إله إلا الله ) كلمة أحاج لك بها عند الله فقال قرناء السوء: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟!
عرفا أن معنى ( لا إله إلا الله ) يبطل ما عليه عبد المطلب ، ما هو الذي عليه عبد المطلب ؟! هو عبادة القبور والأوثان والاستنجاد بها والفزع إليها وسؤالها دون الله جل وعلا . وبعض الناس يقولون: ( لا إله إلا الله) ويسأل غير الله يسأل البدوي ، يسأل علي بن أبي طالب ، يسأل عبد القادر الجيلاني ، يسأل زينب ، يسأل غير ذلك إذاً هؤلاء المشركون أعرف منهم بمعناها ، فإنهم يعرفون إذا قال: ( لا إله إلا الله ) يتبرأ من ملة عبد المطلب ، وهؤلاء يقولون: ( لا إله إلا الله ) ولا يتبرؤون من ملة عبد المطلب ، يصلون ويصومون ويزكون ويتولون أعداء الله ويستنجدون بهم ويحكمون بغير شرع الله جل وعلا ، مشركون أعرف من بعض المسلمين بعض المشركين أعرف بعض المسلمين بمعنى لا إله إلا الله ، وهذا واضح من هذا الدليل ، فإن بعض الناس يقول لا إله إلا الله ويعبد غير الله . إذاً لا تنفعه لا إله إلا الله .
وتقدم مراراً أن الحديث يكون عن النوع لا عن العين وهذا واضح .
- - -
وأنه لا يجوز إشراك غيره معه ، لا في الأفعال ، ولا في الألفاظ .
(1) قوله ( لا في الأفعال ) كالسجود لغيره وكالطواف لغيره وكالذبح لغيره ونحو ذلك .
(2) كالحلف بغيره ، بدعاء غيره أيضاً ،كالذي يقول: يا رسول الله اغفر لي ما حكمة ؟! هذا مشركٌ الشرك الأكبر .(1/126)
وقد تقدم مراراً أنه لا فرق بين من دعا البدوي دون الله ومن دعا رسول الله لأن بعض الناس يلبس عليه الشيطان ويغويه ويضله عن سواء السبيل ، ويقول: هناك فرق بين دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين دعاء البدوي ؟! تجعلون الذي دعا الرسول كالذي دعا البدوي ؟!
نقول: نجل ما هو أعظم من ذلك ، الذي دعا الأشجار والأحجار كالذي دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
ولا فرق فإن من دعا الأشجار والأحجار فإنه مشرك شركاً أكبر ، ومن دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه مشرك شركاً أكبر ، ومن دعا البدوي فإنه مشرك شركاً أكبر ، لا فرق .
لا يقال: هذا أخف عذاباً من هذا ، لأنه سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فالذي يقول يا رسول الله اغفر لي كالذي يعبد الحجر وكالذي يقول يا بدوي اغفر لي ، كله شرك أكبر ، والذي يطوف حول قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كالذي يطوف حول قبر البدوي لا فرق بين ذلك كله شرك أكبر والذي يقول والنبي كالذي يقول والبدوي ، لا فرق بين هذا ولا هذا .
وقد تقدم أن بعض أنواع الحلف بغير الله يصل إلى الشرك الأكبر ، كما لو قيل للرجل: احلف بالله كاذباً ، يحلف بالله كاذباً ولا يبالي ، وإذا قيل له احلف بالبدوي كاذباً يمتنع ولا يحلف بالبدوي إلا إذا كان صادقا لأنه يعتقد أنه إذا حلف بالبدوي كاذباً أصابه البدوي بسوء ويقطع عنه الرزق ، ويقطع عنه
الإنجاب ، ويقطع عنه باب التوفيق ولا يوفق ، هذا حتى شرك في الربوبية إذا كان يعتقد أن البدوي يستطيع يمنع عنه الرزق هذا مشرك بشرك الربوبية الذي لا يغفره الله جل وعلا كالإلهية .
- - -
ولا في الإرادات .
(1) كما تقدم تقريره ، إذاً من الضروري أن نعرف الإسلام ، وأن نتأمل في معنى الإسلام ، { يا أيها الذين اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } .
فمن الضروري أن ندعو الناس إلى تأمل القرآن ، وإلى تأمل أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي ذلك بيان واضح.(1/127)
وأنا اعتقد أن بعض الشرك يقع بسبب سوء الفَهم للقرآن ، فإن بعض الناس حين يجهل القرآن يقع في الشرك ، لأن بعض الناس يشرك ويقصد تعظيم الله .
إذاً لو فُهم القرآن وفهم ما جاءت به الرسل وفهم معنى قوله جلا وعلا: { إياك نعبد وإياك نستعين } وفهم معنى قوله تعالى: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ... } وقوله { ولا تدعوا مع الله إله آخر } وفهم معنى قوله الله جلا وعلا { ومن يدعوا مع الله إله آخر لا برهان له به فإنها حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } ، لأدى به هذا إلى الابتعاد عن عبادة القبور . والإقبال على عبادة الله وحده لا شريك له وهذا يستدعي منا أن نجتهد في دعوة الناس ، وفي توجيههم ، وفي إعلامهم وفي دعوتهم إلى الرجوع إلى القرآن وإلى السنة .
- - -
فالشرك به في الأفعال .
(1) تقدم أن الشرك به يكون بالاعتقاد ، ويكون بالجحود ويكون بالاستخفاف ويكون بالإعراض والإباء والاستكبار ، وكما أن الشرك يكون في هذه الأمور يكون في الأفعال كالسجود للأصنام وكالطواف حول القبور وقوله: (( فالشرك به الأفعال )) أي الأكبر .(1/128)
وقد تقدم أن الشرك الأكبر هو تسوية غير الله بالله فما هو من خصائص الله ، وكل شيء ثبت أنه عبادة فصرفه لغير الله شرك أكبر ، ولا وجه لربط ذلك ، بالجحود أو التكذيب أو الاعتقاد أو الاستخفاف أو العناد ، فالكفر يكون بالقول ويكون بالفعل ويكون بالاعتقاد وحصر الكفر بالأخير ليس له وجه وقد عُرف هذا عن غلاة الجهمية والمرجئة . وقد اتفق أهل السنة القائلون بأن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . أن السجود للأصنام كفر أكبر سواء اعتقد أن الأصنام تنفع أو لم يعتقد، وأن الطواف حول القبور على وجه التعبد شرك أكبر ، وأن سب الله وسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سباً صريحاً كفر أكبر دون ربط ذلك بالتكذيب أو الاستخفاف أو الاعتقاد ، فمجرد هذا القول كفر أكبر ما لم يكن جاهلاً أو مكرهاً .
أهل الأرجاء ينكرون وجود شيء اسمه كفر الأفعال ، فلا يكفر بالفعل عند المرجئة سواء سجد للصنم أو طاف حول القبر حتى يعتقد وهذا باطل باتفاق أهل السنة والجماعة .
وأهل الأرجاء أيضاً يقولون لا يكفر بترك جنس العمل مطلقاً ، وهذا باطل بإجماع أهل العلم كما نقل الإجماع الإمام الآجري في الشريعة ، والإمام ابن بطه في الإبانة ، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان .
- - -
كالسجود لغيره سبحانه ، والطواف بغير البيت المحرم ، وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره .
(1) السجود لغيره كفر قال تعالى: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال تعالى: { ومن يدعوا مع الله إله آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } وقال تعالى: { ولا تدعوا من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين } دون ربط ذلك بالاعتقاد مجرد السجود للولي أو للقبر الفلاني أو للصنم هذا كفر أكبر .
((1/129)
2) كما لو طاف بقبر البدوي أو بقبر عبد القادر الجيلاني أو بقبر زينب أو بقبر الحسن أو قبر الحسين أو طاف حول قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كله كفر أكبر .
وأهل السنة مجمعون على التكفير بهذه الأفعال خلاف غلاة الجهمية والمرجئة .
(3) لأن حلق الرأس أنواع:
النوع الأول: حلقه عبودية لله ، كحلقه في مناسك الحج والعمرة ، هذا حلق واجب أمر الله جل وعلا به .
النوع الثاني: حلقه على وجه التشبه بالخوارج ، وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الخوارج ، وذكر من سيماهم حلق الرأس قال: (( سيماهم التحليق )) ، أي يحلقون روؤسهم ، والذي يحلق رأسه تشبهاً بالخوارج فهذا مبتدع ، وفعله محرم .
النوع الثالث: حلق مباح، كأن يحلقه تأذياً بالشعر أو عدم قدرة على النظافة أو تبرداً هذا حلقٌ مباح .
النوع الرابع: حلق كفر وشرك كأن يحلقه بين يدي شيخه توبة له وخضوعاً وعبودية ، وهذا الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله تعالى بقوله: (( وحلق الرأس عبودية وخضوعاً لغيره )) وهذا موجود عند غلاة الصوفية .
- - -
وتقببيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه تعالى في الأرض .
(1) ورد عند الإمام ابن عدي في الكامل ، والخطيب في تاريخ بغداد ، عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ) وهذا في إسناده إسحاق بن بشر الكاهلي وهو متهم بالوضع . وقد أحسن ابن العربي حين قال: هذا حديث باطل فلا يلتفت إليه. وقد أورده ابن الجوزي في العلل المتناهية .
وقد جاء هذا الخبر موقوفاً عند ابن قتيبة من طريق إبراهيم الخوزي عن عطاء عن ابن عباس ، وإبراهيم الخوزي متروك الحديث قاله الإمام أحمد وغيره ، فالخبر لا يصح مطلقاً لا مرفوعاً ولا موقوفاً .(1/130)
وقد فسر جماعة من أهل العلم معنى قوله: (( هو يمينه )) بأن المراد منه أنه محل الاستلام والتقبيل ، وتارة يكون التفسير فرعاً على التصحيح وتارة يكون لبيان المشكل حتى لا يتوهمه جاهل أو آخر يعتقد صحته على خلاف وجهه الصحيح ، كما تعتقد الحلولية في هذا الحديث .
وعلى كُلٍ نحن نقول بأن الخير لا يصح لا موقوفاً ولا مرفوعاً ، وأن تقبيل الأحجار محرم بإتفاق أهل العلم ، وأن السجود لها كفر ، والله جل وعلا لم يشرع لعبادة تقبيل شيء من الأحجار سوى الحجر الأسود .
فنحن نقبله طاعة لله وإتباعاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والأمر كما قال عمر - رضي الله عنه - ، والحديث في الصحيحين: ( والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ـ أي لا تجلب لي ضراً ولا تجلب لي نفعاً ـ ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك ) .
والتقبيل حينئذٍ يجلب نفع الحسنات ، ولكن ليس في تقبيله الاستناد على جلب النفع أو دفع الضر ، باعتبار معنى آخر كما يتصوره عُباد القبور وعُباد الأوثان ، حيث يقبلون الأحجار أو حتى الحجر الأسود ، فيعتقدون فيه أنه يجلب لهم نفعاً غير الحسنات أو يدفع عنهم ضراً ، ولهذا تراهم يقبلون كل الأحجار ، يعتقدون أن أحجار الكعبة تجلب نفعاً وتدفع ضراً .
ونحن نقبل الحجر الأسود إتباعاً لشرع الله واقتفاء لأثر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونعتقد أنه يجلب لنا الحسنات ، وأن استلام الركنين الحجر الأسود والركن اليماني يحطان الخطايا حطا ، كما جاء في مسند أحمد بسند قوي .
- - -
أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها .
(1) وهذه فتنةٌ عمت فأعمت ورزية بلغت في هذا العصر مبلغها فترى كثيراً من المنتسبين للإسلام يطوفون حول القبور ويقبلونها ، رجاء بركتها ويسجدون لها ، والكيِّس منهم من يعتقد أن الدعاء مستجاب عند قبر الولي .(1/131)
الطواف حول القبور تقدم ، والسجود للقبور تقدم ، وعبادة القبور كل هذا كفر أكبر .
أما تحري الدعاء عند قبور الصالحين فهذا بدعة ، يقولون: (( قبر فلان الترياق المجرب )) ، وقد يخيل إليهم الشيطان أن الدعاء عند القبر مستجاب ، وقد يفتنون فيستجاب حقيقةً إذا دعوا عند هذا القبر .
ولا يعني أن هذا مشروع أو أن هذا مباح أو أن هذا ليس ببدعة ، هذا بدعة ووسيلة من وسائل الشرك .
- - -
وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى لله فيها ، فكيف من اتخذ القبور أوثاناً تعبد من دون الله تعالى ، فهذا لم يعلم معنى قول الله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } .
(1) وهم اليهود والنصارى ، أي لعن اليهود والنصارى كما في الحديث الآتي إن شاء الله تحذيراً للأمة أن تفعل مع نبيها وصالحي الأمة مثل فعل اليهود والنصارى مع صالحيهم ، فإن هذا الفعل محرمٌ ووسيلةٌ من وسائل الشرك فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد فكيف بمن اتخذ القبور أوثاناً تعبد من دون الله .
(2) وهذا مخالفة صريحة لما جاءت به الرسل ، بل هذا مناقض لما جاء في الكتاب والسنة والفطر الصحيحة السليمة . وما بعث الله نبيا ولا أرسل رسولاً إلا وكانت مهمته دعوة الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة وخلع عبادة الأوثان والأنداد .
(3) وهؤلاء يقرؤون القرآن ولا يفهمون ولا يعون ما أُريد به منهم ، الله جل وعلا يقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وهم يقرؤون هذه السورة ليلاً ونهاراً ولا يعون المراد منها .
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ } قُدِم المعمول على العامل بقصد الحصر المَعمول: { إِيَّاكَ } العامل: { نَعْبُدُ } ..
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعِين } أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك . وهم يعبدون معه إله آخر ولكن الشيطان يخيِّل إليهم أن هذا ليس هو العبادة .(1/132)
فَيُقَال: وأي فرق بين ما تفعلونه وبين ما أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم - على كفار قريش ؟!!
لا فرق بين الأمرين بل قد يكون هذا الكفر شراً مما كان عليه الأمر من قبل .
فإن المشركين من قريش يلجئون إلى الله جل وعلا في الشدة ، ويعلمون أن الله جل وعلا هو الذي ينجي من ظلمات البر والبحر فيتركون عبادة الأوثان في الشدة ، بينما هؤلاء يستغيثون بالأموات والغائبين ، ويطوفون حول القبور في الرخاء والشدة ، بل قد يلجئون إلى هذه الأمور في الشدة أعظم مما عليه المشركون من لجوؤهم لله ، يلجئون في الشدة إلى الأوثان ، والمشركون يلجئون إلى الله في الشدة ، فشرك هؤلاء أغلظ من شرك المشركين بهذا الاعتقاد .
- - -
وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( لعَن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) .
(1) صوابه وفي الصحيحين ، من حديث الزهري عن عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عباس - رضي الله عنه - قالا: لَمَّا نُزل برسول الله طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو ذلك: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) . ورواه البخاري ومسلم أيضاً من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .
(2) وقد صرح أكثر أهل العلم بتحريم اتخاذ القبور مساجد ، وبتحريم بناء المساجد على القبور لما في ذلك من الغلو والتدرج إلى الوقوع في الشرك .
وقالت طائفة: بكراهية ذلك وهذه الكراهية محمولة على التحريم فإن الأحاديث متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريمه لذلك ، والظن بأهل العلم أنهم لا يكرهون ما حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا كان باعتبار كراهية التحريم ، ولا يخالفون ما تواترت به النصوص .(1/133)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لعن اليهود والنصارى لأنهم غيَّروا ما جاءت به رسلهم وبدلوا ولبَّسوا على الناس ونحن نعلم أن نبي اليهود هو موسى - عليه السلام - وأنه ما جاء به بمثل هذه الأباطيل وأنه كان ينهاهم ويزجرهم عن ذلك لكن هؤلاء غيروا وبدلوا وحرفوا .
ونحن نعلم أيضاً أن عيسى - عليه السلام - ينهى عن ذلك أشد النهي لأن دين الأنبياء واحد وهذا من أصول التوحيد ، لكن أتباعه الذين أتوا فيما بعد غيَّروا وبدَّلوا واتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد .
على أن نبي النصارى لم يمت أصلا إنما رفعه الله إليه عيسى قال تعالى: { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليَّ } .
وسوف ينزل في آخر الزمان ، ويقتل المسيح الدجال ، ويضع الجزية ويقاتل ، ويكسر الصليب ، والحديث متفق على صحته .
- - -
وفيه عنه أيضا ، ( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد ) .
(1) أي يعني بذلك في صحيح البخاري ، وهذا الخبر رواه البخاري معلقا دون (( آخره أيضاً )) .
ورواه مسلم من طريق شعبة عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص عن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ) ورواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن ابن مسعود باللفظ الذي ذكره المؤلف: (( إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد )) . وقد حسن إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الذهبي .
(2) الشاهد من هذا الحديث: (( والذين يتخذون القبور مساجد )) فهذا دليل على تحريم اتخاذ القبور مساجد ، وأنه لا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر فأيهما طرأ على الآخر وجب إزالته ولهذا تحرم الصلاة في مسجد فيه قبر .
واختلف الفقهاء فيمن صلى ، هل تبطل صلاته ويجب عليه الإعادة أم تصح مع الإثم ، قولان للفقهاء .(1/134)
القول الأول: أن الصلاة باطلة ويجب عليه إعادتها أبدا ، وهذا مذهب الإمام أحمد وأبي محمد ابن حزم عليهما رحمه الله .
القول الثاني: ذهب الإمام الشافعي ومالك وطائفة من أهل العلم بل هو قول الجمهور إلى صحة الصلاة ، قالت طائفة بالكراهية وقالت طائفة مع التحريم وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تصح مع التحريم .
ولكن ينبغي للإنسان وإن قلنا بالقول الأول أو القول الثاني أن لا يصلي أصلاً ، لأن النزاع في صحة الصلاة وليس في ابتداء الصلاة .
فهم لا يجوزِّون ابتداء أن تصلي في مسجد فيه قبر ، لكن لو صليت هل تصح أم لا تصح قولان ، لكن ابتداء لا تصلي أصلاً ولا تدخل هذا المسجد ، ولو صليت وحدك ، فصلاتك وحدك أولى من صلاتك في مسجد فيه قبر ولو مع جماعة .
السبب في ذلك: حماية لمقام التوحيد ، ولأن الإنسان إذا صلى في مسجد فيه قبر قد يكون ذلك ذريعة إلى تعظيم هذا القبر ، ولأن الذين يضعون القبور في المساجد يعتقدون أن الصلاة في هذا المسجد أولى من الصلاة في غيره ، وأنها قد تقبل في هذا المسجد مالا تقبل في غير ، وأن الدعاء مستجاب لأن هذا المسجد فيه هذا الولي .
ولهذا نحن نرى كثرة القبور في العالم الإسلامي ، ولا سيما في البلاد الإفريقية ، ترى في بعض البلاد المحسوبة والمنسوبة للإسلام آلاف القبور الموجودة في المساجد تعظيماً لها ، فإذا تُوْفي من يظنونه وليا وضعوا على قبره قبة ، وبنوا عليه مسجدا وجعلوه مزاراً ومطافاً أعظم من الطواف حول البيت العتيق ، والذي يتعرض لهذا الولي يلاقي من البطش الشيء الكثير أو ما لا يمكن وصفه .
وترى الآلاف من الجهلة والطوام يطوفون حول هذا القبر ويصلون لهذا القبر ، وله ينذرون وعليه يسجدون يرجون نفع هذا الولي وبركته .(1/135)
فواجب أهل العلم والدين بيان التوحيد ، وبيان ما جاءت به الرسل فإن هذا العمل مناقض لما أرسلت به الرسل وما نزلت به الكتب ، وهذا العمل باطل ، والله جل وعلا أرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان التوحيد وبيان ما هو موافق للفطر والعقول السليمة وهؤلاء خالفوا ما جاءت به الرسل وخالفوا الفطر ، وخالفوا العقول الصحيحة .
وأي عقل عند رجل يعبد القبور ، لو كان هذا عاقلاً يزعم أنه ينجب له ولدا ، طيب أطلب منه أن يمد يده ليعطيك مالاً ، أطلب من هذا الولي الذي تعبده وتطوف حول قبره وتصلي له وله تنذر أن يمد يده وأن يعطيك مالاً ، لو كنت تزعم أنه يقدر على ذلك وأنه عنده قدرة على هبة الأولاد والرزق وجلب النفع ودفع الضر وأنت فقير الآن وتبذل له مالاً ؟!! لو كان هذا غنياً دون الله ما احتاج إلى مالك !!!
فهؤلاء الآن خالفوا ما جاءت به الرسل وخالفوا العقول أيضاً ، اطلب من هذا الولي واطلب منه ريالاً واحد أو فلساً وانظر هل يستطيع أن يجلب لك هذا الدراهم أم لا ؟!!
قال تعالى: { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } يعني الرب جل وعلا نفسه بذلك لكن هؤلاء مُتبرٌ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون .
- - -
وفيه أيضاً عنه - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) .
((1/136)
1) هذا الخبر من أفراد مسلم دون البخاري ، رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى من طريق زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن جندب قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس يقول: ( إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لْاتخذت أبا بكر خليلا ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك ) .
الشاهد من سياق الحديث قوله: (( ألا وإن من كان قبلكم )) أي من اليهود والنصارى والمنحرفين عما جاءت به رسلهم .
(( كانوا يتخذون القبور مساجد )) أي أنهم يدعون الله عند هذه القبور ويصلون عند هذه القبور ، ويعظِّمون هذه القبور ، ولا يُشرَط أن يبنوا على هذه القبور . فكل من تحرى العبادة عند قبر الولي أو عند قبر الرجل الصالح أو عند قبر النبي فقد اتخذه مسجداً سواء بني عليه مسجداً أو لم يبنى ، وإذا بني على القبر مسجداً فالأمر أعظم وأعظم لأنه ما بنى مسجداً إلا لأنه يعظمه ويُألههِّ دون الله .
بناء المساجد على القبور بحد ذاته ليس شركاً وليس كفراً ناقلاً عن الملة ولكن غالب من يبنى المساجد على القبور أو يبنى القباب على القبور يعبدها دون الله . وهذا هو واقع الكثير في العالم الإسلامي ممن يتخذ القبور في المساجد أو يبني المساجد على القبور أو يضع القباب على القبور .
ولكن ينبغي التنبه أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كانوا يتخذون القبور مساجد ) لا يعني هذا أنهم يبنون على القبر مسجداً ، قد يبنون وقد لا يبنون ، فإذا اتخذوه معبوداً دون الله فقد اتخذوه مسجداً .
قوله: (( ألا فلا تتخذوا )) ، لا ناهية هنا ولهذا جُزمَ الفعل بعدها لعظيم الأمر .(1/137)
قوله: (( ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي وقال ذلك قبل أن يموت بخمس تنبيهاً لمقام التوحيد وتعظيماً لشأنه ففيه الرد على بعض الجهال كالذي يعتقد عدم التنبيه على قضايا التوحيد وعلى التحذير من الشرك في بلد يعج فيه الصالحون والأخيار .
فنحن نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبه أعظم مجتمع وأطهر مجتمع وأعظم مجتمع يعرف رَبَه ومع ذلك ينبههم على أمر التوحيد كي يعلموه من يأتي بعدهم وكي يتداوله الخلف عن السلف ، ومع هذا التنبيه العظيم وُجد من يتخذ القبور مساجد ، فكيف لو لم ينبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟! فكيف تضع هذه الأمة مع وجود هذا التنبيه العظيم وُجد من يخالف نهيه ويرتكب ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - إذاً نحن بحاجة إلى التنبيه ، قضايا التوحيد ولاسيما هذه المسألة ، فإن القباب التي حول القبور في العالم الإسلامي كثيرةٌ جداً .
- - -
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان عنه - صلى الله عليه وسلم - : ( لعن الله زُوَّاراتِ القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) .
(1) الحديث الذي فيه ( والمتخذين عليها المساجد والسرج ) جاء بلفظ ( لعن الله زائرات القبور ) والحديث الذي فيه (( لعن الله زوارات القبور )) جاء بغير الزيادة ( والمتخذين عليها المساجد والسرج ) .
هذا الحديث: ( لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج ) رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه . من طريق محمد بن جُحادة عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأبو صالح هو باذان قال عنه الإمام مسلم (( أبو صالح اتقى الناس حديثه ولا يثبت له سماع من ابن عباس )) .
والشطر الأول: (( لعن الله زائرات القبور )) له شواهد سوف يأتي .(1/138)
والشطر الثاني: ((والمتخذين عليها المساجد والسرج )) قوله (( والمتخذين عليها المساجد )) هذه اللفظة متواترة ، تواترت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم اتخاذ القبور على المساجد والعكس .
قوله: (( والسرج )) الاتفاق قائم على تحريم إيقاد المقابر وجعل السرج عليها .
ولكن قالت طائفة: بالتحريم و قالت طائفة: بالكراهية ولم يرخص أحدٌ بالجواز مطلقاً .
إنما رخص طائفة أهل العلم للحاجة والضرورة وهذا واضح من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل الصحابة ، كأن نريد أن ندفن الرجل ليلاً فلا مانع من أن نستصعب سراجاً لدلالة الطريق دون تنوير كل المقبرة . وإنما نُنَوِّر ما نحتاج إليه دون فتح المجال لتنوير كل المقبرة قوله: ( لعن الله زائرات القبور ) ، روى الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى عن قتيبة ابن سعيد قال حدثنا أبو عوانة عن عمر ابن أبي سلمه عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لعن زوارات القبور ) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح .
ورواه ابن حبان في الصحيح بلفظ (( لعن الله زائرات القبور )) .
وأهل العلم مختلفون في حكم زيارة النساء للقبور على ثلاثة أقوال:
القول الأول: التحريم ،، لحديث أبي هريرة ولحديث أم عطية في الصحيحين (( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يُعزم علينا )) .
قالوا: إذا كانت المرأة منهية عن اتباع الجنائز فلأن تنهى عن زيارة المقابر من باب أولى .
قولها: (( ولم يعزم علينا )) أجابوا عنه بوجهين:
الوجه الأول: أن هذا ظنها .
الوجه الثاني : (( ولم يعزم علينا )) أي :لم تُأكَّد النهي علينا .
القول الثاني: الكراهية دون التحريم ، وهذه رواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى
القول الثالث : الجواز بدون كراهة ، إذا أُمنت الفتنة فإذا لم تؤمن الفتنة مُنع مطلقاً ، وهذا هو قول الجمهور .(1/139)
والقول الأول: أقوى وهو تحريم زيارة النساء للمقابر مطلقاً وهو اختيار الشيخين ابن تميمة وابن القيم رحمهما الله تعالى وينبغي التنبه لما قاله الجمهور ، حيث جوزوا زيارة النساء للمقابر قالوا: إذا أُمنت الفتنة ، والآن الفتنة ما أُمنت على بعض الرجال فكيف على النساء ، فنحن نرى كثيراً من الرجال والأغبياء في كثير من العالم الإسلامي يطوفون حول القبور ويعظمون القبور ، وإذا ذهبوا للمقابر جلسوا يدعون يعتقدون أن الدعاء مستجاب عند هذا القبر .
ترى بعض الأغبياء والجهلة يقرأ بعض سور من القرآن عند هذا القبر ولاسيما قراءة سورة يس ، ولا يصح في (( يس )) حديث صحيح ولا يثبت في (( يس )) حديث ، كل الأحاديث الواردة في (( يس )) ضعيفة مطلقاً بدون استثناء ، كل حديث ورد في فضل يس أو في قراءة (( يس )) عند الاحتضار أو في غير ذلك كلها ضعيفة لا يصح فيها حديث فكيف بقراءتها عند القبور .
قراءة القرآن عند المقابر من البدع ، هذه عبادة ، والأصل في العبادة البطلان والتحريم حتى يثبت دليل ، فإذا لم يثبت دليل فالأصل البطلان .
وفي الصحيحين من حديث القاسم بن محمد عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .
البدعة هي الإحداث في الدين بدون دليل ، وأيُّ دليل عندهم حين يقرؤون القرآن عند المقابر .
نحن نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبورا ) فنحن نعلم إذا قرأنا القرآن في البيت ما اتخذنا البيت قبراً ، فَعُلِمَ النهي عن قراءة القرآن في المقابر فينبغي التنبه لهذه القضية .
وإنما يجوز تلاوة بعض الآيات تبعاً للوعظ عند القبر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وعظ عند القبر في حديث علي ، والحديث في الصحيحين ، تلا بعض الآيات (( وأما من أعطى وأتقى )) إلى آخر الآيات ، وبَوَّب على هذا البخاري قال: باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله .(1/140)
والموعظة عند القبر مشروعة في بعض الأحيان للعالم الذي ينظر لقوله ويستمع لرأيه ويجلسون وينصتون ، أما الاستمرار في ذلك والمداومة على الوعظ عند القبر فلا دليل عليه .
لأننا نعلم علم اليقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مراراً المقابر مُتَّبِعاً لجنازة فلان والآخر والثاني والثالث . والعاشر ولم يعظ عند القبر ، فوعظ تارة وترك تارة ، ففعله سنة وتركه سنة .
وكذلك لأهل العلم والفضل الذين ينظر لقولهم ليس لآحاد الناس الذي لا يلتفت إليه أحد ، الناس يتحدثون وهذا قائم وهذا جالس وهذا في شغل آخر ولا يلتفتون لرأيه ، إنما إذا وعظ العالم الذي ينظر لقوله كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل حينئذٍ ينصتون له ويستمعون لرأيه ويجلسون ويستفيدون من ذلك .
وبعض أهل العلم ما يرى الوعظ عند القبر مطلقاً . يقول: لأن الصحابة ما فعلوا ذلك ، وفعلاً لم ينقل عن صحابي قط أنه كان يعظ عند القبر
- - -
وقال - صلى الله عليه وسلم - ( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) .
(1) هذا الحديث رواه مالك في الموطأ ، والمؤلف رحمه الله لم يخرجه وابن سعد في الطبقات من طريق زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعطاء بن يسار تابعي وليس بصحابي فالحديث مرسل صحيح .
ورواه ابن عجلان عن زيد بن أسلم مرسلا ، ولم يذكر عطاء والأول اصح ، وللحديث شاهد رواه الإمام أحمد والحميدي في مسنده من طريق حمزة بن المغيرة الكوفي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) .
وحمزة بن المغيرة قال عنه ابن معين ليس به بأس ، والحديث إسناده جيد .(1/141)
والحديث يدل على ما دلت عليه الأحاديث السابقة أنه لا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر ، فأيهما طرأ على الآخر وجب إزالته وهدمه ، ومن ذلك القباب المبنية على القبور يجب هدمها ، وهي بالهدم أولى من مسجد الضرار .
هنا مسألة ، إذا لم نتمكن من إزالة المسجد وقد بنى المسجد على القبر وتمكنا من إزالة القبر ، هل لابد أن نزيل المسجد أو يجوز حينئذٍ أن نزيل القبر ؟
الصحيح من أقاويل العلماء أنه يجوز حينئذٍ إزالة القبر وإبقاء المسجد كما اختار ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لأنه هو الذي أمكن بذلك ، بشرط أن لا يفتتن بهذا المسجد بحيث يعتقد أنه سبق أن صار فيه قبر ولي ، فحينئذٍ الصلاة فيه أفضل من غيره ، فحينئذٍ يحرم إزالة القبر بل يجب إزالة المسجد وإذا خُشيت الفتنة بهذا وهذاً وجب إزالتهما معاً ، حسماً لمادة الشرك والإحداث في الدين .
أما إذا لم يحصل شيء من ذلك وأمكن إزالة القبر وقد بُني المسجد على القبر فإننا حينئذٍ نزيل القبر ونبقي المسجد .
- - -
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله ) .
(1) هذا الخبر متفق على صحته ، قال الإمام البخاري رحمه الله ، حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا يحيى عن هشام قال أخبرني أبي عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة فيها تصاوير فذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الحديث . ورواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد عن هشام بمثله والحديث يدل على تحريم الصور ، ويدل على تحريم بناء المساجد على القبور .(1/142)
ونستفيد من ذلك أن تحريم بناء المساجد على القبور متواتر وقد قيل إن أول من بنى المساجد على القبور ووضع القباب على القبور ، وأشهر هذا الأمر هم العُبيديون في مصر بحدود سنة ثلاثمائة واثنتين وستين ، ومنهم انتشر الشرك في البلاد الإسلامية وعمت البدع وإلى زماننا هذا ونحن نرى آثار العبيدين الذين ينتسبون إلى فاطمة ظلماً وزوراً ، فلم يثبت لهم نسب ، بل هم روافض أعداء لله وأعداء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكانوا عُباداً للقبور وعباداً للأوثان .
قوله: (( أولئك شرار الخلق عند الله )) .
لأن هؤلاء جمعوا بين أمرين عظيمين التعلق بالصور والتماثيل وبناء المساجد على القبور وتعظيمها دون الله وتأليهها من دون الله والله جل وعلا يقول: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } .
- - -
والناس في هذا الباب ـ أعني زيارة القبور ـ ثلاثة أقسام .
(1) وضح معنى قوله في هذا الباب قال: أعني زيارة القبور .
(2) قوله: ثلاثة خبر للناس .
شرع المؤلف رحمه الله تعالى في بيان أحوال الناس بالنسبة لزيارة القبور واقتصر رحمه الله تعالى على ثلاثة أنواع :-
النوع الأول: الذين يزورون المؤتى فيدعون لهم .
النوع الثاني: كالذين يزورون الموتى يدعون بهم كأن يقول للميت: ادع الله لي .
النوع الثالث: الذين يزورون الموتى فيدعونهم ، حيث يقولون يا فلان اغفر لي وارحمني وارزقني مالاً ونحو ذلك .
والمؤلف رحمه الله تعالى لم يذكر القسم الرابع: وهو زيارة الموتى للدعاء عندهم ، لأن بعض الجهلة يعتقد أن الدعاء عند القبر الفلاني أولى من الدعاء بعيداً عنهم .(1/143)
وهذه الأقسام التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى هي موجودة في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في المجلد الأول وموجودة أيضاً في زاد المعاد لابن القيم في المجلد الأول ، وموجودة أيضاً في إغاثة اللهفان للإمام ابن القيم نقلاً عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى غاير بين هذه الأقسام جعل بعضها شركاً أكبر وبعضها بدعة وبعضها مشروعاً ، وإليكم التفصيل .
- - -
ـ قوم يزورون الموتى فيدعون لهم وهذه هي الزيارة الشرعية .
ـ وقوم يزورونهم يدعون بهم وهؤلاء هم المشركون ، وجهلة العوام والطغام من غلاتهم .
(1) ومن الضروري أن نعرف المقصود من هذه الزيارة .
المقصد الأول: تذكر الآخرة والاتعاظ . المقصد الثاني: الإحسان إلى الميت بالدعاء والاستغفار له .
المقصد الثالث : إحسان الزائر إلى نفسه بإتباع السنة لأن زيارة المقابر على الوجه المشروع سنة ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى ذلك وأمر أمته أن يزوروا القبور ، ونهاهم أن يقولوا هجرا ، أي قولاً سيئا يتنافى ما جاء به ديننا .
ومن وجه آخر نقول إن زيارة القبور على ثلاثة أنواع:-
النوع الأول: زيارة محرمة ، كالزيارة المتضمنة لمحرم من نياحة ونحوها ، أو متضمنة لبدعة ، أو شرك فهذه الزيارة لا ينازع مسلم في النهي عنها .
النوع الثاني: المباحة ، كزيارة القريب وإن كان كافراً ، للرقة عليه لا للدعاء له كفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين زار قبر أمه وبكى ، والحديث في صحيح الإمام مسلم .
النوع الثالث: المشروعة ، وذلك للدعاء لهم والاستغفار ولكن لا يجوز شد الرحل لهذا الغرض للحديث المشهور المروي في الصحيحين من طريق سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى ) .(1/144)
وجاء في الصحيحين أيضاً من طريق عبد الملك بن عمير عن قَزَعَةَ مولى زياد عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو حديث أبي هريرة .
(2) أي يزورون الأموات .
(3) في بعض النسخ في الألوهية والمحبة وفي بعض النسخ هؤلاء هم المشركون وجهلة العوام والطوام من غلاتهم .
قوله (( يدعون بهم )) كأن يقول للميت ادعُ الله لي أو ادعُ لنا ربك وهذا محرم بإجماع المسلمين .
وقد جعله جماعة من العلماء شركاً أكبر لقوله تعالى: { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم } . ولقوله تعالى عن المشركين: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ولقوله تعالى: { ومن يدع مع الله إله آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } ، وغير ذلك من الأدلة العامة .
وكون هذا شرك أكبر هو ظاهر كلام المؤلف هنا .
بينما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في المجلد الأول من الفتاوى وفي مواضع من مؤلفاته بأن هذا من البدع المحرمة بالإجماع ولم يجعله يصل إلى الشرك الأكبر لأنه لم يدع نفس الميت ولا طلب منه الفعل .
وذكر هذا صاحب كتاب (( صيانة الإنسان )) وقد ذكر هذا في مواضع من كتابه ، وذكر أن هذا النوع من البدع التي لا تصل إلى حد الشرك الأكبر , وذكر هذا الإمام العالم أو عالم نجد عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل شيخ في مواضع من مؤلفاته من ذلك الرسائل والمسائل ، وأشار إلى ذلك غير واحد من أكابر المحققين .
- - -
ـ وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم .
((1/145)
1) كأن يقول يا رسول الله اغفر لي وارحمني ، أو أُرزقني ولداً أو مالاً أو اجبرني أو يقول ذلك لميت من الأموات سواء كان ولياً أو غيره ، يذهب للميت فيقول: يا فلان اغفر لي ، يا فلان ارحمني يا فلان أنا في حسبك وفي كفايتك ، يا فلان ارزقني ولداً يا فلان اشف مريضي هذا شرك أكبر بإجماع المسلمين .
وهؤلاء حين يدعون الأموات يعتقدون أنهم يجلبون النفع ويدفعون الضر .
وقد يستدل بعض أغبيائهم وجهلتهم بحديث قد اختلقوه وهو مشهور في مصنفات عباد القبور والأوثان وهو: (( إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور )) أو بالآخر (( لو حَسَّن أحدكم ظنه بحجر لنفعه ذلك )) وهذان الخبران كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد وُضعا لإحياء دين المشركين وملة عَمْرُو بن لُحي وبطلان هذا مما يُعلم بالضرورة من دين المسلمين .
- - -
وقد قال النبي: - صلى الله عليه وسلم - ( اللهم لا تجعل قبر يوثناً يُعبد ) .
وهؤلاء هم المشركون في الربوبية . وقد حمى النبي - صلى الله عليه وسلم - التوحيد أعظم حماية تحقيقاً لقوله تعالى: { إياك نعبد } .
(1) قد تقدم تخريج الحديث ، والحديث عنه .
(2) يشركون في الربوبية وفي الإلهية أيضاً .
(3) من قوله (( حمى )) إلى ما سيأتي إن شاء الله تعالى من كلام المؤلف (( وأما الشرك في الإرادات والنيات إلخ ...) هذا كله منقول بحروفه من الجواب الكافي للإمام ابن القيم رحمه الله .
قوله: (( وقد حمى النبي - صلى الله عليه وسلم - جانب التوحيد )) .(1/146)
وذلك عما يشوبه من الأقوال والأفعال التي تنافي التوحيد أو تُضعفه ، والأدلة على ذلك متواترة من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عَبْدٌ ، فقولوا: عبد الله ورسوله ) وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه من طريق الزهري عن عُبيد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إطرائه والإطراء هو مجاوزة الحد ، لئلا يؤول بهم هذا الأمر إلى ما هو أعظم من الإطراء .
فإن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله كما قال تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إله وحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } . يحلون لهم الحرام فيستحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه والأحاديث في حماية مقام التوحيد كثيرة وعظيمة .
وقد ذكر المؤلف رحمه الله تعالى طرفاً من ذلك ، لأن حماية مقام التوحيد هو من تحقيق قوله تعالى: { إياك نعبد وإيَّاك نستعين } . فمن تحقيق التوحيد الابتعاد عما يشوبُ التوحيد من الأقوال والأفعال ، سواء كانت هذه الأقوال تنافي التوحيد بالكلية أو تنافي كماله الواجب ، فيبتعد عن الشرك قليله وكثيرة ويبتعد عن البدع صغيرها وكبيرها ، ويبتعد عن كبائر الإثم ، وهناك مرتبة عُليا (( أن يدع ما لا بأس به حذاً مما به بأس )) .
والناس يتفاوتون في تحقيق مقام التوحيد ، فالناس ليس على مرتبة واحدة ، الناس يتفاوتون في ذلك ، كما أن الإيمان يزيد وينقص ، يزيد بالطاعة وينقص بالمَعصية .(1/147)
والناس بتفاوتون في الإيمان ، إيمان آحاد الناس كإيمان أبي بكر ؟! وإيمان بكر كإيمان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟! لا يستوون . أكمل الناس إيماناً وتوحيداً من المخلوقين هو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل أولي العزم بالإجماع ، ولا يعني هذا أنه إذا قيل هذا أكمل إيماناً من هذا أن الآخر فيه نقص في إيماناً أو فيه طعن في إيمانه هذا غلط . لكن الناس يتفاوتون تقول هؤلاء مؤمنون ، وبعضهم أقوى إيماناً من بعض .
وفي عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان قولٌ وعمل ، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح ، يزيد وينقص خلافاً لغلاة الجهمية والمرجئة الذين يقولون: بأن الإيمان مجرد التصديق ، أو الذين يقولون بأن الإيمان مجرد المعرفة أو الذين يقولون: بأن الإيمان قول باللسان واعتقاد دون العمل بالأركان ، أو الذين يقولون: قول واعتقاد وعمل لكن لا يزيد ولا ينقص فإذا انتفى بعض الإيمان انتفى كله كالخوارج والمعتزلة .
- - -
حتى نهى عن الصلاة في هذين الوقتين لكونها ذريعة إلى التشبه بعُبَّاد الشمس الذين يسجدون لها في
هاتين الحالتين وسد الذريعة بأن منع من الصلاة بعد العصر والصبح .
(1) أي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) أي قبل طلوع الشمس وقبل غروبها .
(3) أي الصلاة في هذا الوقت .
(4) وقد جاء في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تحرَّوا بصلاتكم طلوع الشمس ، ولا غروبها ، فإنها تطع بين قَرْني شيطان ) .(1/148)
وفي صحيح الإمام مسلم من طريق عكرمة بن عمار قال حدثنا شداد بن عَبْدِ الله ويحيى ابن أبي كثير عن أبي أمامه عن عَمْرو بن عبسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ( صلي صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس ، ـ حتى تطلع الشمس حتى ترتفع ـ فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذٍ يسجد لها الكفار ) . الحديث ، وذكر في صلاة العصر كما ذكر في صلاة الصبح .
(5) الذريعة ، ما هي الذريعة ؟
الذريعة: ما كانت وسيلة وطريقاً إلى الشيء . فإذا حرَّم الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً حرَّم الطرق والوسائل الموصلة والمفضية إلى هذا الشيء تحقيقاً للتحريم ، ومنعاً من القرب من ذلك المحرم لئلا يلابسه وبواقعه .
فلو أُبيحت الوسائل والطرق المفضية إلى المحرم لكان هذا مغرياً للنفوس في مواقعة المحرمات ، وهذا ينافي التحريم ويناقضه .
والمتأمل في أحكام الشريعة وأسرارها وغاياتها ومقاصدها يرى أن هذا الأمر لا يتناقض ، وأنه موجود في هذا الشرع لكماله ، فلا ترى محرماً ، إلا ونُهيت الطرق الموصلة إليه .
الله جل وعلا حرَّم الزنا هل أباح وسائله ؟! حرم وسائله كالنظر ، الله جل وعلا حرم ربا النسيئة هل أباح وسائله ؟! لا ، حرم وسائله كربا المفضل .
قوله: (( وسد الذريعة بأن منع من الصلاة بعد العصر والصبح )) ، النهي عن الصلاة في هذين الوقتين جاء في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - والخبر في الصحيحين ، وفي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - والخبر في الصحيحين ، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو في البخاري وغيره .(1/149)
ولكن يُستثنى من ذلك ذوات الأسباب يجوز صلاة تحية المسجد في هذين الوقتين ، ويجوز صلاة ماله سبب في هذين الوقتين كصلاة الكسوف وقضاء الفوائت وركعتي الوضوء وصلاة الاستخارة إذا كان يفوت وقتها وركعتي القدوم من سفر ونحو ذلك ، وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ورواية عن أحمد رحمه الله تعالى واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى وجماعة من أهل العلم . لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في هذين الوقتين لكون ذلك ذريعة إلى التشبه بعباد الشمس ، وإذا فعلهما الإنسان لسبب زال هذا المحذور ، وفي الباب أحاديث كثيرة تدل على الجواز .
وذهب بعض الفقهاء إلى منع ذوات الأسباب في هذين الوقتين كأبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد رحمهم الله وهؤلاء جوَّزوا بعض الصور كقضاء الفوائت ، وأجاز الإمام أحمد صلاة الكسوف دون تحية المسجد ، وقد اختلفوا في مسائل متعددة .
فيه قول ثالث: أنه يجوز الصلاة بعد الفجر وبعد العصر ولا ينهى إلا عند الطلوع وعند الغروب كما هو مذهب طائفة من الصحابة وأهل الظاهر .
فيه قول رابع: يحرم بعد الفجر ويجوز بعد العصر حتى تصفر الشمس والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سد الذريعة بأن منع من الصلاة أي فيما ليس له سبب بعد العصر والصبح .
- - -
لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما للشمس .
(1) ونحن منهيون عن التشبه بالمشركين ، النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من تشبَّه بقوم فهو منهم ) رواه الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من تشبَّه بقوم فهو منهم ) .(1/150)
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الاقتضاء: إسناده جيد ، وظاهره يقتضي كفر التشبه بهم ، وأقل أحواله التحريم. لأجل الابتعاد عن مشابهة الكفار فيما هو من خصائصهم أو بما جاء النص به ، ولو فعله بعض المسلمين فإن النهي باقٍ لا يتغير ولا يتبدل .
إذا ورد الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه نهى عن كذا وكذا وفعله بعض المسلمين لا يتغير الحكم ، إنما قال جماعة من أهل العلم كمالك وغيره من الأكابر ، إذا اشتهر بين المسلمين زال التشبه ، مقصوده بذلك إذا لم يكن هذا مبنيٌ على دليل ، إنما بُنِيَ على واقعهم وعلى إلحاق النظير بنظيره أيضاً ليس مقصود مالك فسقة المسلمين إنما استفاض واشتهر بين خيارهم وعدولهم .
- - -
وأما السجود لغير الله فقال عليه الصلاة: والسلام (( لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلا لله )) .
(1) تقدم الحديث عن السجود لغير الله ، وأن السجود للأشخاص أو للقبور على وجه التعظيم أنه شرك أكبر { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وكل عبادة ثبتت بدليل شرعي فصرف هذه العبادة لغير الله فهذا شرك أكبر ، قال تعالى: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } وقال تعالى: { إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } أي ما دون الشرك ، وأما الشرك فهو غير داخل في المغفرة ، فهذه الآية فيها رد على الخوارج وردٌ على غلاة المرجئة { إنَّ الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك } أي من الكبائر ، قوله: { ويغفر ما دون ذلك } ردٌ على الخوارج والمعتزلة قوله: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فيه أنُاس لا يغفر لهم هذا ردٌ على المرجئة وغلاة الجهمية .
(2) هذا الخبر رواه ابن حبان بنحوه وذلك في صحيحه من طريق أبي أسامة قال حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/151)
ورواه الترمذي من طريق النظر بن شُمَيل عن محمد بن عمرو بلفظ ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه محمد بن عمرو صدوق ، إذا تفرد بأصل لم يوافقه غيره ففي حديثه نظر ، وقد وثقه جماعة ، وصحح له الترمذي وابن حبان وجماعة .
ولكن لهذا الحديث شواهد تدل على أن له أصلا ، وأن محمد بن عمرو قد ضبطه ، من شواهده حديث معاذ عند أحمد وفيه ضعف ، وحديث قيس بن سعد عند أبي داود ، وحديث عائشة عند أحمد وابن ماجه ، وحديث أنس عند أحمد والنسائي في عِشْرَة النساء ، فهذه الشواهد يقوي بعضها بعضاً وتدل على أن للحديث أصلا .
- - -
ولا ينبغي في كلام الله ورسوله إنما يستعمل للذي هو في غاية الامتناع كقوله تعالى : { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } ، وقوله تعالى: { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } وقوله تعالى: { وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم } وقوله تعالى: { ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } .
(1) ترد لفظه ينبغي ولا ينبغي في عُرفنا لما يحسن تركه أو لما لا يحسن فعله ، لكن في اصطلاح الشرع لما يمتنع في غاية الامتناع أو للذي هو في غاية الامتناع .
إذا قيل: لا ينبغي . فهو أعظم وأبلغ من اللفظ الصادر من لفظ التحريم ، فلا ينبغي حمل ألفاظ الشرع على اصطلاحات الفقهاء والمتأخرين أو على أعراف الناس .
ينبغي أن نرجع للفظ المعروف شرعاً وقد أشار إلى هذه القضية المؤلف رحمه الله في قوله .
وأنا قلت فيما سبق إن من قول المؤلف: (( قد حمى النبي - صلى الله عليه وسلم - جانب التوحيد )) إلى الآن والكلام كله للإمام ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي .
((1/152)
2) كقوله تعالى أي نظير قول الله تعالى ، لأن النظير يعرف بنظيره، فإذا قيل هذا الكلام مجرداً ، قيل ما دليله قيل هاك الدليل حتى تعرف أن لفظه لا ينبغي لم ترد في كلام الله ولا في كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا لما هو يمتنع غاية الامتناع .
(3) أي هذا يمتنع غاية الامتناع ولا يمكن وجوده .
(4) أي هذا يمتنع في حق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - غاية الامتناع .
(5) وهذا كله لما يمتنع غاية الامتناع .
- - -
ومن الشرك بالله تعالى المباين لقوله تعالى : { إيَّاكَ نعْبُدُ } ، الشرك به في اللفظ ، كالحلف بغيره كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من حلف بغير الله فقد أشرك ) صححه الحاكم وابن حبان .
(1) كل شرك فهو يباين قول الله جل وعلا: { إيَّاكَ نعْبُدُ } ولكن هذه المباينة قد تكون كليه وقد تكون دون ذلك ، لأن هذه المباينة إما أن يكون العمل شركاً أكبر فهذا ينافي التوحيد بالكلية وإما أن يكون شركاً أصغر فهذا يناقض شيئاً من التوحيد فهو أقل من الشرك الأكبر ، ولكن صاحبه معرضٌ للوعيد فينافي كمال التوحيد الواجب .
(2) تقدم الشرك في الفعل يحدثنا المؤلف هنا عن الشرك في اللفظ .
(3) كالحلف بالبدوي أو عبد القادر الجيلاني أو الحلف بعلي بن أبي طالب أو بالحسن أو بالحسين أو بالست زينب أو الحلف بمن هو أجل وأعظم من هؤلاء كالحلف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كله شرك لا فرق بين رجل يحلف بالبدوي ولا بين رجل يحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
الجهلة والأغبياء يتصورون أنه إذا حلفوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - صار أمرهم أخف ممن حلف بغيره ، يقولون: هذا نبي وقد يقولون عن مثل هذا الكلام هذا تنقص لرسول - صلى الله عليه وسلم - .(1/153)
فنقول لهم: إن الذي حكم بأن هذا العمل هو شرك هو من تشركون به صلوات الله وسلامه عليه ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) فلا يجوز الحلف بأحدٍ غير الله ، الحلف عبادة ، وصرف العبادة لغير الله شرك غير أن هذا الشرك من الشرك الأصغر إذا كان في اللفظ ، وإذا اقترن به من التعظيم ونحو ذلك قد يصل إلى الأكبر كما تقدم توضح ذلك فيما سبق .
(4) الفاء رابطة لجواب الشرط .
(5) ورواه الترمذي أيضاً كلهم من طريق الحسن بن عُبيد الله عن سعد بن عبيدة عن ابن عمر .
- - -
قال: ابن حبان أخبرنا الحسن بن سفيان ثنا عبد الله بن عمر الجعفي ثنا عبد الرحيم بن سليمان عن الحسن بن عبيد الله النخعي عن سعد بن عبيدة قال: كنت عند ابن عمر رضي الله عنهما فحلف رجلٌ بالكعبة فقال: ابن عمر رضي الله عنهما : ويحك لا تفعل إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( من حلف بغير الله تعالى فقد أشرك )) .
(1) والحديث رواته ثقات ، وأخشى أن يكون هذا الحديث مختصراً مما جاء في الصحيحين من طريق الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن ابن عمر أدرك عمر ابن الخطاب في ركب ويحلف بأبيه فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله ـ هذا حصر ـ أو ليصمت ) .
فلا يجوز الحلف بأحدٍ من البشر ، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت .
ويحتمل أن يكون هذا محفوظاً والأول حديثٌ آخر ، وأخشى أن يكون الأول مختصراً من هذا الحديث المتفق على صحته .
وقد رواه أيضاً مالك ، في الموطأ عن نافع عن ابن عمر بنحوه ورواه البخاري في صحيحه من طريق الإمام مالك .(1/154)
تأمل في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ) فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجود السبب لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الحلف بالآباء لا يجوز ، ثم بين حكماً عاماً وتشريعاً لكل الأمة لئلا يظن ظانٌ إن النهي مقصور على الحلف بالآباء قال: (( فمن كان حالفاً فليحف بالله )) ولم يقل ورسوله: ( فمن كان حالفاً فليحف بالله أو ليصمت ) فإن الحلف بغير الله شرك .
- - -
36
ومن الإشراك قول القائل لأحدٍ من الناس: ما شاء الله وشئت كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه قال له رجل (( ما شاء الله وشئت )) قال (( أجعلت لله ندا ؟ قل ما شاء الله وحده )) .
هذا مع أن الله سبحانه قد أثبت للعبد مشيئة كقوله تعالى: { لمن شاء منكم أن يستقيم } . فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك .
(1) في نسخة المؤلف (( أجعلتني لله ندا )) والصحيح في هذا الخبر واللفظ في المسند (( أجعلتني لله عِدلا قل ما شاء الله وحد )) نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قوله (( ما شاء الله وشئت )) لأن المعطوف بالواو يكون مساوياً للمعطوف عليه .
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن طريق الأجلح بن عبد الله عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس ورواته ثقات .
وفي الأجلح بن عبد الله خلاف ، وقد وثقه ابن معين والعجلي ، وقال أبو حاتم ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به .
وقال يحيى القطان: في نفسي منه شيء .
وقال النسائي: ضعيف ليس بذلك .
وتوسط فيه ابن عدي رحمه الله فقال: له أحاديث صالحة يروي عنه الكوفيون وغيرهم ، ولم أجد له حديثاً منكراً مجاوزاً للحد لا إسناداً ولا متناً ، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق .
وقد صحح هذا الحديث غير واحدٍ من أهل العلم .(1/155)
نحن نعلم أن النهي فيما سبق لأجل وجود الواو ، فلو قال: ما شاء الله ثم شئت لكان هذا جائزاً ، لكن لماَّ أتى بالواو المفيدة للعطف والمساواة جاء النهي عن ذلك .
(2) لكن مشيئة المخلوق تابعة لمشيئة الله ليس له مشيئة مستقلة .
(3) بل نهى غير واحدٍ من أهل العلم لو قال: توكلت على الله ثم عليك ، لأن التوكل عمل قلبي لا ينفع فيه الإتيان بثم هذا قول طائفة من المحققين ، فكيف لو إذا أتى بالواو فإن المنع من باب أولى والمنع من قول: توكلت على الله وعليك أولى من المنع من قول ما شاء الله وشئت بوجود مشيئة للعبد ولأن التوكل عمل قلبي لا ينقسم .
- - -
وأنا في حسب الله وحَسَبك ، ومالي إلا الله وأنت ، وهذا من الله ومنك ، وهذا من بركات الله وبركاتك . والله لي في السماء وأنت لي الأرض .
(1) أي أنا في كفاية الله وكفايتك .
(2) أي ثم منك لو قال هذا لكان جائزاً .
(3) لأنه أتى بالواو ، ولو قال هذا من بركاتك دون عطفٍ ، يعني لم يقل هذا من بركات الله وبركاتك ، قال هذا من بركاتك فقط لكان هذا جائزاً ، والدليل على ذلك أن أُسيد بن حضير قال: (( ما هي بأول بركاتكم يا آل أبي بكرٍ )) هذا الحديث متفق على صحته . ففيه أن المخلوق له بركة ، فلذلك لو قال هذا من بركتك يا فلان جاز ، لكن لو قال هذا من بركات الله وبركاتك مُنع لماذا ؟ لأن أتى بالواو المفيدة للمساواة فهذا يمتنع ، لكن لو أتى بها مفردة لكان هذا جائزاً ، فينبغي التفريق ومراعاة الألفاظ في ذلك .
ويمكن أن نقول تنقسم الألفاظ من حيث الصحة والفساد إلى أقسام:
القسم الأول: اللفظ الفاسد شرعاً من كل وجه ، كالحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو الحلف بأي مخلوق فهذا يمنع منه صاحبه ولو كان قصد صاحبه سليماً فلا عبرة بالمقاصد حينئذٍ .(1/156)
اللفظ الفاسد يجب النهي عنه وزجره عن ذلك كما لو حلف شخص وقال: ( بأمي وأبي ) يقصد الحلف بذلك وجب النهي عنه ولو قال أنا قصدي كذا وقصدي كذا يجب النهي عن ذلك ، ولو حلف شخص بالأمانة وجب النهي عن ذلك .
القسم الثاني: اللفظ السليم شرعاً فهذا يُقَرون عليه ولا وجه لمن نهى عن ذلك مورداً احتمال أنه قد يقصد به كذا ويقصد به كذا فما دام أنه سليم شرعاً وجاء ذكره في الكتاب والسنة فلا وجه للنهي عن ذلك .
القسم الثالث: اللفظ المتردد بينهما ، المحتمل للصحة والفساد فهذا يُراعي فيه كيفية الاستخدام .
وقد يُقال: إذا كان يوصل إلى المحرم في الغالب فإنه يُمنع منه وإلا فلا ، وينبغي التفصيل في هذه القضية مع مراعاة المقاصد في الألفاظ المحتملة .
- - -
وازن بين هذه الألفاظ الصادرة من غالب الناس اليوم وبين ما نهى عنه من: ما شاء الله وشئت ثم انظر أيها أفحش ؟! يتبين لك أن قائلها أولى بالبعد من { إياك نعبد } وبالجواب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لقائل تلك الكلمة وأنه إذا كان قد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نداً فهذا قد جعل من لا يدانيه لله نداً .
(1) وهي قولهم أنا متوكل على الله وعليك ، وأنا في حسب الله وحسبك ، ومالي إلا الله وأنت وهذا من الله ومنك . وهذا من بركات الله وبركاتك ، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض .
((1/157)
2) لأن الرجل حين قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - (( ما شاء الله وشئت )) فقال (( أجعلتني لله عدلاً )) مع أن قول الرجل ليس كفراً أكبر لكن قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أجعلتني لله عدلا )) لأنه فسر الشيء بما يؤول إليه . قارن بين ذلك وبين قول الناس اليوم توكلت على الله وعليك ، إذا كان هذا في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ممتنع فكيف بحق من لا يدانيه فهذا من تحقيق التوحيد وحماية جناب التوحيد ويجب على العبد إذا رأى مثل هذه الألفاظ أن ينكرها ولا يقل الإنسان إن الناس ما يقصدون . ؟ ولو لم يقصدوا قد يقول قائل الذي يحلف بالنبي لم يقصد والذي يحلف بالبدوي لا يقصد والذي يحلف بعبد القادر الجيلاني لا يقصد ولا يؤثر هذا يجب النهي عن اللفظ الفاسد باتفاق العلماء .
- - -
وبالجملة فالعبادة المذكورة في قوله: { إياك نعبد } هي السجود والتوكل ، والإنابة ، والتقوى ، والخشية ، والتوبة والنذور ، والحلف والتسبيح ، والتكبير ، والتهليل ، والتحميد ، والاستغفار ، وحلق الرأس خضوعاً وتعبداً ، والدعاء كل ذلك محض حق لله تعالى ، وفي مسند الإمام أحمد ( أن رجلاً أتي به للنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أذنب ذنباً ، فلما وقف بين يديه قال اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( عرف الحق لأهله )) ) وخرجه الحاكم من حديث الحسن عن الأسود بن سَريع وقال حديث صحيح .
(1) تقدم أن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة وتقدم أن ركني العبادة الحب مع الذل والخضوع .
وعبادة الرحمن غايةُ حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائرٌ ... ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان
((1/158)
2) وهذا على وجه التمثيل لا على وجه الحصر ، فإن الركوع للمخلوق بمنزله السجود ، فلو أن مخلوقاً ركع لمخلوق تعظيماً له كما لو سجد له ، لا فرق بين هذا ولا هذا ، وكذلك الذبح لو ذبح للجن متقرب إليهم كأن يجلبوا له النفع أو يدفعوا عنه الضر لكان هذا مشركاً كما لو سجد للأوثان وللأصنام . فنفهم من هذا أن المؤلف ما قصد الحصر .
(3) هذا الحديث رواه الإمام أحمد والحاكم من طريق محمد بن مصعب قال حدثنا سَلاَّم بن مسكين والمبارك بن فضالة عن الحسن البصري عن الأسود بن سريع (( صحابي جليل )) .
محمد بن مصعب الراوي عن ابن مسكين المبارك هو القُرقُساني قال عنه الإمام أحمد لا بأس به ، وقال ابن معين ليس بشيء . وقال النسائي: ضعيف وقال ابن خراش: منكر الحديث هذه العلة الأولى .
العلة الثانية : قال على بن المديني وابن منده والبزار لم يسمع الحسن البصري من الأسود بن سريع ، ولكن جاء في التاريخ الكبير للبخاري ما يدل على سماع الحسن من الأسود في الجملة . ولهذا أثبت بعض أهل العلم سماعه وهذا الحديث يدل على ما دلت عليه الأحاديث السابقة التوبة إلى الله جل وعلا وإلى أحد من المخلوقين .
وقد تقدم أن طوائف من الصوفية يحلقون روؤسهم عند مشايخهم وعظمائهم وزعمائهم توبة بين أيديهم توبة لهم وهذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة .
- - -
وأما الشرك في الإرادات والنيات ، فذلك البحر الذي لا ساحل له وقل من ينجو منه فمن نوى بعمله غير وجه الله تعالى فلم يقم بحقيقة قوله { إياك نعبد } .
(1) النيات: جمع نية ، تطلق على القصد وعلى عزم القلب على أمر من الأمور ، فإن كانت لغير الله فهذا شرك ينافي الإخلاص الذي هو تجريد القصد طاعةً للمعبود بحق .
((1/159)
2) وذلك لحب كثير من النفوس على حب الظهور ، والتصنُّع للناس والتحلي بما ليس فيهما ، والتطلع إلى ثناء الناس وتعظيمهم له ، فإن النفوس متى ما تطلَّعت لمثَل هذه الأغراض الدنيئة اكتسبت الرياء ، وحاولت صرف الناس إلى هذه الذات الضعيفة ولو عن طريق التصنُّعِ لهم ومراءاتهم والعمل من أجلهم نسأل الله السلامة والعافية .
(3) لأن تحقيق العبادة يمنع من الرياء ، كما أن تحقيق الاستعانة يمنع من الإعجاب ، ولاسيما إذا علم العبد أن مصير الرياء إلى النار أكسبه ذلك نُفْرَةً عن الرياء وبعداً عنه ، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى من طريق ابن جريح قال حدثني يونس بن يوسف عن سليمان بن يسار قال تفرق الناس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال له نافلوا له أهل الشام أيها الشيخ حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو هريرة - رضي الله عنه - نعم ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه ، رجل استشهد فأُتي به ، ـ أي قُتل في سبيل الله في الظاهر ـ فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال الله له: كذبت ولكنك قاتلت لئن يقال جريء فقد قيل . ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار ... )) . الحديث بطوله وفيه الرجل الذي تعلم العلم وقرأ القرآن ليقال هو قارئ فألقى في النار والثالث الرجل الذي أعطاه الله من أصناف المال فأنفقها لَيَقَال هو جواد فألقى في النار .
ففي هذا دليل على أن الرياء حابط ، وأن عمل المُرائي غير مقبول . ويضاف إلى ذلك العقاب فإنه يعاقب على ذلك لأن هؤلاء الثلاثة عُقِبوا على هذه الأعمال .
ويمكن أن نقول: بأن العمل لغير الله له حالات :(1/160)
الحالة الأولى: أن تكون أعماله مراداً بها مُرَاءة المخلوقين فهذا شرك ، ولا يصدر هذا من مسلم أصلاً حيث لا يعمل لله إنما يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويتصدق ويقرأ ؟! من أجل الناس هذا لا يصدر من مسلم .
الحالة الثانية: أن يعمل لله ثم يعرض له الرياء في أثناء العمل فإن دفعه فلا إشكال في هذا ، وإن استرسل معه فقد قال جماعة: يكون حكمه كحكم قطع النية في أثناء الصلاة ، فإن كانت العبادة لا يصح آخرها إلا بصحة أولها لزم حينئذٍ الإعادة وإلا فلا .
وقالت طائفة من أهل العلم يجازى على أصل نيته ، هذا في العبادة التي يرتبط آخرها بأولها . فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة فإنه يجازي على الإخلاص وتنقطع النية الصالحة بوجود الرياء .
الحالة الثالثة: عكس هذه المسألة وذلك أن تكون نيته لغير الله ثم يعرض له الإخلاص والعمل لله .
الحالة الرابعة: مشاركة الرياء من أصل العمل إلى نهايته فهذا العمل حابط ، فقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي مولاهم عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري ـ أي صار العمل كله رياء وسمعة ـ تركته وشركه ) .
هذا دليل على حبوط هذا العمل وأن الله جل وعلا لا يقبل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحد } وقال تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } .(1/161)
وقاعدة الرياء في العبادات مغايرة لقضية التشريك في العبادات فإن بعض الناس يخلط بين الأمرين ولا سواء، كأن يفعل عبادة لله من أجل تحصيل عبادة أخرى من ذلك ما رواه الشيخان عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) .
فالأمر بالصيام هنا لأجل حفظ الفرج ولأجل حفظ المرء من الوقوع والولوغ في المعاصي .
الحالة الثانية: أن يكون الباعث على العبادة ابتغاء ما عند الله والمنفعة الدنيوية فهذا مباح ، فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس في الصحيحين (( من أحب أن يبسط له في رزقُه وينسئ له في أثره فليصل رحمه )) ولكن الثواب لا يكون إلا على قدر النية الصالحة ولكن لو كانت إرادة العبد مقصورة على الدنيا دون الله والدار الآخرة كأن يجاهد من أجل المغنم أو لا يتعلم إلا من أجل الوظيفة فهذا مأزور غير مأجور .
- - -
فإن { إياك نعبد } هي الحنيفية .
(1) معنى قوله تعالى : { إياك نعبد } أي نفردك وحدك بالعبادة ، فإن تقديم المعمول على العامل يفيد الحصر ، وهو إثبات الحكم المذكور ونفيه عما عداه فكأنه يقول: نعبدك ولا نعبد غيرك .
{ وإياك نستعين } نستعين بك ولا نستعين بغيرك ، فالمرائي لم يحقق قوله تعالى: { إياك نعبد } والمعجب بعمله لم يحقق قوله تعالى { وإيَّاك نستعين } .
فإن تحقيق العبد للعبودية تُباعده عن الرياء ، وتحقيقه للإستعانة تباعده عن الإعجاب .
فإن قيل ما الفرق بين الرياء والإعجاب ؟!
فالجواب: أن الرياء من باب الإشراك بالخلق والعجب من باب الإشراك بالنفس ، فمن حقق قوله: { إياك نعبد } خرج عن الرياء ومن حقق قوله: { إياك نستعين } خرج عن الإعجاب .
- - -(1/162)
ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم ، ولا يقبل من أحدٍ غيرها ، وهي حقيقة الإسلام { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرةِ من الخاسرين } فاستمسك بهذا الأصل ورد ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليه تحقق معنى الكلمة الإلهية .
فإن قيل المشرك إنما قصد تعظيم جناب الله تعالى وإنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك ، فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجانب الربوبية ، وإنما قصد تعظيمه وقال { إياك نعبد } وإنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه وتدخل بي عليه ، فهو الغاية ، وهذه وسائل .
(1) قوله: (( ورد ما أخرجه )) أي ما أحدثه وما ابتدعه أهل الابتداع والشرك تحقق معنى الكلمة الإلهية ، وعلى قدر تحقيق العبد لهذه الكلمة العظيمة يسلم له دينه من الابتداع ومن الشرك ، فإن حقيقة العبادة أن تبرأ من كل بدعة ومن كل شرك وأن تبتعد عن ذلك .
فإن العبادة لا تصلح إلا بأمرين:
الأمر الأول: هو معنى لا إله إلا الله وهو إفراد الله بالعبادة والإخلاص له .
الأمر الثاني: هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله ، والمتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد يحقق العبد الإخلاص لله ولكنه يبتدع ، فالعمل حينئذٍ مردود ، قال تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } أخلصه وأصوبه ، فالخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السنة .
وقد يرائي العبد ويكون العمل صواباًَ ، أي هذا العمل موافق للسنة ولكن صاحبه ما أراد به الله ولا الدار الآخرة فيكون عمله مردوداً فإن الله جل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً صواباً ، والخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السنة .
(2) وهذا كله من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أورده في الجواب الكافي ، ثم أورد الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عدة أسئلة وأجاب عليها من قوله (( فلم كان هذا القدر موجباً لسخط الله ...إلى آخره )) .(1/163)
تقدم تقرير معنى الواسطة في اصطلاح المشركين فهم لا يقصدون بضرورة الواسطة بين الله وبين عباده بإرسال الرسل ، وإنما يرمون إلى شيء آخر ويعنون بالواسطة الضرورية هي جعل المخلوق العاجز الفقير واسطة في جلب المنافع ودفع المضار ، فيدعون الأموات ويسألونهم قضاء الحاجات وكشف الملمات يقولون هذه الواسطة التي أمر الله بها وهذه الوسيلة التي أمرنا بتطبيقها وهذا من أعظم أنواع الشرك ، وهذا الشرك هو المذكور في القرآن عن المشركين حيث أثبت المشركون وسائط بين الله وبين خلقه كالوسائط التي تكون بين الملوك وبين الرعية ، بحيث يكونون هم الذين يرفعون إلى الله حوائج خلقه وهذا من الشرك الأكبر الذي لا ينازع فيه مسلم ، وهذا الذي لا يغفره الله جل وعلا إلا بالتوبة قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، وهذا الموجب للخلود في النار قال تعالى: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } وهو الذي ذكره الله عن المشركين الذين أخبر الله عنهم أنهم حصب جهنم ، كما قال تعالى: { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفا إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } كفار صيغة مبالغة أي شديد الكفر ، شديد الطغيان ، شديد البعد عن شرع الله ، وعن الفطر السليمة .
فإن الشرك ينافي الفطر وينافي العقول أيضاً ، فإن العقل السليم يدل على قبح هذا الشرك ، كيف يعبد الأحجار والأشجار دون الله جل وعلا ؟! كيف يبعد مخلوق مثله ؟! كيف يعبد من لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عن صاحبه شيئا .
- - -(1/164)
فلم كان هذا القدر موجباً لسخط الله تعالى وغضبه ، ومخلداً في النار وموجباً لسفك دماء أصحابه واستباحة حريمهم وأموالهم ؟! وهل يجوز في العقل أن يشرع الله تعالى لعباده التقرب إليه بالشفعاء والوسائط فيكون تحريم هذا إنما استفيد بالشرع فقط ؟ أم ذلك قبيح في الشرع ، والعقل يمتنع أن تأتي به شريعة من الشرائع ؟ .
(1) الذي عليه أهل السنة والجماعة أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة ثابت بالعقل والسمع والأدلة من الكتاب والسنة شاهدةٌ بذلك ومصرحة ، والشرك قبيح بالعقل والسمع ، والأدلة كتاباً وسنةً صريحةٌ في ذلك ، لكن العقاب لا يتم على ترك التوحيد إلا إذا حين يأتي الشرع وتقوم الحجة ، والدليل على ذلك قوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } . إذا جاءت الرسل فقد قامت الحجة على الناس فمن امتثل فقد وحَّد الله جل وعلا وأفرده بالعبادة ، فإن أبى واستكبر وعبد الأوثان والقبور وطاف حولها مع الله أو دون الله جل وعلا فهذا مشرك لأنه كابر بما جاءت به الرسل .
ولا يشترط في كفر هؤلاء أن يعتقدوا أو يجحدوا شرع الله ، مجرد الفعل هو الكفر ، مجرد أن يرتكب المرء ناقض من النواقض فإنه يكون بهذا العمل . قد كفر ، بصرف النظر عن اعتقاده أو جحوده أو تكذيبه ونحو ذلك .
فلو أن شخصاً سب الله أو سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنا ما أقصد ، لكن يعلم أن السب حرام ويعلم أن هذا السب واقع على الله وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذا كافر ، ولو قال: أنا ما أقصد كذا أو أقول كذا أو لا أعتقد أو لا أجحد ، ولا يشترط في كفر هذا أن يعتقد حل هذا العمل ، فلو لم يعتقد حل هذا العمل ، لأنه يعلم أن هذا حرام فهذا كفر ، كما لو طاف حول القبر متقرباً لصاحب هذا القبر متعبداً له فهذا كفر بصرف النظر عن اعتقاده ، كما أن المشرك مشرك ولو قال اعتقد أن الشر باطل هل ينفعه ؟! ما ينفعه .(1/165)
كذلك من نحَّى شرع الله واعتاض عن شرع الله بالقوانين الوضعية وحكم بين الناس بآراء اليهود والنصارى ، وأقام هذه القوانين مقام الشرع ، وغيَّر كل الشرع ، وفرض القوانين على الناس ، نقول هذا كافر مشرك ، وإن قال أنا أعتقد أن شرع الله أفضل ، كما أن المشرك حين يقول أنا أعتقد أن الشرك باطل ولكن أعبد القبر وأتقرب إليه لا ينفعه هذا الاعتقاد ولا ينفعه هذا القول .
هذا لا ينفعه أن يعتقد أن حكم الله أفضل من حكم المخلوق ، ما دام يحكم بغير شرع الله ويفرض هذه الأنظمة والقوانين على البشر الله جل وعلا يقول: { إن الحكم إلا لله } أي ما الحكم إلا لله لِلَّهِ { ولا يشرك في حكمه أحدا } { ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون } والكفر إذا عُرف بالألف واللام لا يحتمل إلا الأكبر ، والأثر الوارد عن ابن عباس (( كفر دون كفر )) ضعيف قد تقدم تضعيفه مراراً ، وأن هشام بن حُجَير تفرد به عن طاووس عن ابن عباس .
وهشام ضعَّفه أحمد ويحيى وجماعة ، وقد خولف فيه أيضاً ، خالفه عبد الله بن طاووس وهو أوثق منه ، فروى هذا عن أبيه عن ابن عباس قال (( هي به كفر )) .
المقصود أن الشرك والكفر لا يشترط فيه اعتقاد المرء ، قد يمنع من تكفيره ما نع كالجهل والتأويل هذا بابٌ آخر .
أما اشتراط الاعتقاد في التكفير أو الاستحلال أو الجحد فهذا من مذاهب غلاة المرجئة والجهمية .
- - -
وما السر في كونه لا يغفر من بين سائر الذنوب ؟ كما قال تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما } .
قلنا الشرك شركان شرك متعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وشرك في عبادته ومعاملته ، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه وتعالى لا شريك له في ذاته ولا في صفاته .
(1) ثم أورد سؤلاً .
(2) وكل نوع تحته أنواع .
((1/166)
3) هذا جواب عن الأسئلة الواردة في كلام المؤلف رحمه الله تعالى في قوله: (( شرك متعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته )) كالتعطيل أي تعطيل أسماء الله ، وتعطيل صفاته وتعطيل المصنوع عن صانعه وتعطيل الصانع عن كماله الثابت له ونحو ذلك .
(4) كالذبح للأموات والغائبين والنذر لهم ، والطواف حول القبور والسجود للقبور ، ودعاء أصحاب القبور فهذا شرك في العبادة .
(5) لا ينفعه هذا الإعتقاد ، فإن الإنسان لو أثبت الأسماء والصفات وكفر بتوحيد الإلهية كان هذا كافر فلابد ، ولا توحيد للعبد حتى يُقر ويعمل بتوحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات .
وقد تقدم أن هذه الأنواع واردة في سورة الفاتحة .
- - -
فأما الشرك الثاني: فهو الذي فرغنا من الكلام فيه وأشرنا إليه الآن وسنشبع الكلام فيه إن شاء الله تعالى .
وأما الشرك الأول: فهو نوعان أحدهما شرك التعطيل . وهو أقبح أنواع الشرك ، كشرك فرعون في قوله: { وما رب العالمين } وقال لهامان { ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً } .
(1) وهو شرك العبادة
(2) أي فيما بعد ، لأنه هو الأصل الذي أرسلت به الرسل ، فلذلك تقدم الحديث عنه وسوف يأتي إن شاء الله الحديث عنه أيضاً مرةً أخرى .
ونتحدث الآن عن الشرك المتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفات وأفعاله .
(3) لأن المشرك الذي جعل بينه وبين الله وسائط حين يُقر بصفات الله ولا يجدها خير من المعطل الجاحد لصفات الله ، وفي كلٍ شرٌ وشرك .
لا يعني هذا أنه غير مشرك الكل مشركون الكل خارجون عن الدين لكن الذي جعل بينه وبين الله وسائط يعظم بذلك أو قاصداً بذلك تعظيم ربه ، هذا خيرٌ من المشرك النافي لصفات الله جل وعلا الجاحد لكماله ، والكل مشركون .
(4) فهو معطل ، والتعطيل أنواع
(5) الصرح ما هو ؟! الصرح هو القصر العالي الشاهق .
(6) { أسباب السموات } أي طرق السماوات وأبوابها .
((1/167)
7) لم يصنع فرعون هذا ؟! إلا لأن موسى كان يدعوه إلى أن الله في السماء ، ففيه أن الله جلا وعلا فوق سماواته مستوى على عرشه ، وهذا مما أجمع عليه المسلمون .
والسمع والعقل والفطرة يدلان على أن الله جل وعلا فوق سماواته فهذا مما فطر الله جل وعلا عليه عبادة ولا يخالف في ذلك إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته . والأنبياء متفقون على ذلك ، وإلا ما معنى قول فرعون { فأطلع إلى إله موسى } ؟!
يريد بذلك أن يَّطلع إلى إله موسى أو يبني له صرحاً هامان كي ينكر أن الله جل وعلا في السماء . فدل هذا على أن موسى يدعوه إلى الخوف من الله الذي هو في السماء . وهذا واضحٌ جدا ولا يكابر فيه إلا قلبٌ أغلف .
وقد أجمع المسلمون إجماعاً ضرورياً على أن الله جل وعلا فوق سماواته ، قد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على كفر من أنكر أن يكون فوق سماواته مستوى على عرشه ، لأن الله جل وعلا في سبعة مواضع يقول: { ثم استوى على العرش } وفي سورة طه { الرحمن على العرش استوى } وقال: { ثم استوى على العرش الرحمن } ، وهذا الاستواء حقيقي ، قال ابن القيم في النونية :
وكذلك النعمان قال وبعده ... يعقوب والألفاظ للنعمان
من لم يقر بعرشه سبحانه ... فوق السماء وفوق كل مكان
ويُقرَّ بأن الله فوق العرش لا ... تخفى عليه هواجس الأذهان
فهو الذي لا شك في تكفيره ... لله درك من إمام زمان
لأنه مكذبٌ للكتاب ، مكذب للسنة ، جاحدٌ للإجماع المنعقد الصحيح في هذا ، مكابر فيما فطر الله عليه عباده ، هذه الأمور كلها واضحة في هذا الباب .
فالذي ينكر علو الله على خلقه من هو إمامه ؟!
إمامة فرعون فهو الذي قال لهامان { ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى } .
- - -
والشرك والتعطيل متلازمان ، فكل مشرك معطل ، وكل معطل مشرك .
(1) أي ومشبه في آنٍ واحد ، فلأنه قد عطل الله عما يستحق وشبهه بالمخلوق حين يسجد لغيره وينذر لغيره ويذبح لغيره .
((1/168)
2) لأنه أشرك مع الله إله آخر وشبهه بالمعدومات والجمادات التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن صاحبها شيئاً .
- - -
لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق سبحانه وصفاته ، ولكنه مُعطل حق التوحيد .
وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل ، وهو ثلاثة أقسام :-
أحدهما: تعطيل المصنوع عن صانعه .
الثاني: تعطيل الصانع عن كماله الثابت له .
الثالث: تعطيل معاملته عما يحب على العبد من حقيقة التوحيد ومن هذا شرك أهل الوحدة ، ومنه شرك الملاحدة القائلين يقدم العالم وأبديته ، وأن الحوادث بأسرها مستندة إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها ، يسمونها العقول والنفوس .
(1) أي الذي هو عبادة القبور .
(2) الذي هو جحد صفات الله أو إنكار وجود الله جل وعلا .
لأننا نرى كثيراً من المشركين الذين يعبدون القبور والأوثان هم مقرون بالخالق سبحانه وصفاته ولكنه معطل حق التوحيد . وهل هذا التوحيد الذي أقر به يدخله في الإسلام ؟ لا يدخله في الإسلام .
(3) فلم يقم بحقيقة العبودية لله الواحد القهار .
(4) أهل الوحدة: هم القائلون بأن الوجود واحد ، ويجعلون وجود الخالق هو عين وجود المخلوقات ، فكل ما يتصف به المخلوق من حُسن أو قُبْح فإنما هو المتصف به عندهم هو عين الخالق .
ومن كلامهم: ليس إلا الله ، وعلى هذا عباد الأشجار والأوثان لم يعبدوا غير الله عندهم تعالى الله عن قولهم علواً كبيرا .
وقد ذُكر عن المنتمين لهذا المذهب القول بأن عُبَّاد العجل مصيبون إذا كان لا ثمَّ إلا الله ، فإن عباد العجل مصيبون على اصطلاحهم يقولون ، وأن موسى أنكر على هارون ، إنكاره عليهم عباده العجل .
وذكر عن جماعة عن هؤلاء القول: بأن فرعون من كبار المحققين ، وأنه مصيب في دعواه الربوبية ، هذا مذهب غلاة أهل الوجود .
(5) وأنه لم يكن هذا العالم معدوماً أصلاً ، بل لم يزل ولا يزال ، وهذا كفر أيضاً .
((1/169)
6) وقد تقدم الحديث عن قول الفلاسفة بأن العالم كله مفعول لشيء يسمونه العقل الأول ، ويجعلونه هو رب الكائنات ومبدع السموات والأرض ولكنه لازم للواجب بنفسه ومعلول له . والعقول والنفوس عندهم هي الملائكة ولا يجعلونهم بمرتبة واحدة ، وهذا كله كفر .
- - -
ومنه شرك معطله الأسماء والصفات كالجهمية .
(1) الجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان ، وقد أخذ بدعته وهي تعطيل الأسماء والصفات من الجعد بن درهم .
ومن جميل ما نُقل عن الإمام حماد بن زيد رحمه الله تعالى في قوله عن الجهمية ، قال: (( مثل الجهمية مثل رجل قيل له: في دارك نخلة قال: نعم ، قيل له: فلها خُوص ؟! قال: لا ، قيل له: فلها سعف ؟! قال: لا قيل: فلها كرب ، قال: لا ، قيل: فلها جذع ؟! قال لا ، قيل له: فلها أصل ؟! قال: لا ، قيل له : لا نخلة في دارك )) .
هؤلاء الجهمية قيل ألكم رب ؟! قالوا: نعم ، قيل له يد ؟! قالوا: لا قيل: يرضى ويغضب ؟! قالوا: لا ، قيل فلا رب لكم ، لأن الرب الذي ليس في العلو ولم يستوي على عرشه ولا يرضى ولا يغضب ولا يرحم ولا يحب وليس له شيء من الصفات هذا ليس برب .
ولهذا عتب إبراهيم على أبيه حين قال: (( يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا )) عابه لأنه لم يقل آزر وأنت ربك لا يسمع ولا يبصر . فإن المشركين كانوا مقرين بذلك ولذلك لم يحتج على إبراهيم بذلك (( لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا )) .
الله يسمع ويبصر ويغني عن صاحبه شيئاً ، أما هؤلاء الذين يعبدون رباً لا يسمع ولا يبصر هذا ليس برب ، والرب لم يتصف بصفات السلبية .
الله له صفات الكمال ونعوت الجلال ، وكل صفة وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - يجب علينا إثبات هذه الصفة .إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل ، لأن الله جل وعلا: { ليس كمثله شيء } لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله . { وهو السميع البصير } .
{(1/170)
ليس كمثله شيء } ردٌ على الممثلة ، { وهو السميع البصير } ردٌ على المعطلة .
ودعوى أن إثبات صفات يستلزم إثبات صفات المخلوقين هذا باطل ، فما وجه إثبات إذاً سبع صفات ، فما وجه إثبات الحياة والقدرة إذاً يلزم من إثبات الحياة أن تكون حياة الله كحياة فلان ؟!
وكما يريدون ويثبتون صفة الحياة والقدرة فنلزمهم بإثباتهما إثبات ما عداهما من الأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة وما يقتضه إثبات هذا هو ما يقتضيه إثبات الآخر ، وما يستلزم هذا هو يستلزم للآخر ، وينبغي التنبه لذلك .
- - -
والقرامطة ، وغلاة المعتزلة .
(1) القرامطة حركة باطنية تنسب إلى حمدان بن الأشعث ، يلقب بقرمط ، وحقيقة هذا المذهب الإلحاد ، ولا يؤمنون بالمعاد والعقاب ولا بالجنة ولا بالنار .
وقد دخلوا مكة سنة ثلاثمائة وسبعة عشر ، واقتلعوا الحجر الأسود وقتلوا المسلمين ، ولم يسترد منهم إلا سنة ثلاثمائة وتسعة وثلاثين .
ولهم معتقدات وأفكار كفرية يطول ذكرها والحديث عنها في هذا المقام .
(2) وأما المعتزلة فقد بدء فكرهم في البصرة على يد واصل بن عطاء ، وقصته في اعتزال مجلس الحسن البصري مشهورة ويعتمد هذا المذهب على أصول خمسة تدور عليها عقائدهم:-
الأصل الأول: التوحيد ، وهو في حقيقته تعطيل أسماء الله وصفاته والقول بخلق القرآن ونفي الرؤية في الآخرة ، هذا هو توحيد المعتزلة .
إذا قيل التوحيد عند المعتزلة فالمقصود من ذلك نفي الأسماء والصفات عن الله والقول بخلق القرآن ، وأن الله لا يُرى في الآخرة هذا توحيد المعتزلة .
الأصل الثاني: العدل ، العدل محمود ، لكن ما هو العدل ؟!
العدل كلٌ يحبه ، الله أثنى على العدل ، وأمر بالعدل ، والفطر تحب العدل ، لكن ما هو العدل عند المعتزلة ؟!
العدل عند المعتزلة يقصدون به نفي القدر وأن العباد خالقون لأفعالهم .(1/171)
والله جل وعلا يقول: { الله خالق كل شيء } وقال { والله خلقكم وما تعملون } لكن هؤلاء من الصم البكم الذين لا يعقلون ، وهذا واضح .
الأصل الثالث: إنفاذ الوعد والوعيد
الأصل الرابع: القول بمنزلة بين المنزلتين لأصحاب الكبائر ، هم يرون تخليد أصحاب الكبائر في النار .
الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويقصدون به الخروج على السلطان الجائر ، وينكرون شرط القرشية في الإمامة فهذه هي الأصول الخمسة للمعتزلة .
- - -
النوع الثاني شرك التمثيل .
(1) تقدم أن الشرك شركان النوع الأول : شرك متعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله ، النوع الثاني : شرك متعلق في عبادته ومعاملته ، وإن كان صاحب هذا النوع يعتقد أنه سبحانه وتعالى لا شريك له في ذاته ولا في صفاته والنوع الأول من هذين النوعين الشرك المتعلق بذات المعبود شركان النوع الأول : شرك التعطيل كقول فرعون حين قال : { أنا ربكم الأعلى } وقد تقدم أن هذا النوع أقبح أنواع الشرك وهذا ثلاثة أقسام : النوع الأول : تعطيل المصنوع عن صانعه . النوع الثاني: تعطيل الصانع عن كماله الثابت له . النوع الثالث: تعطيل معاملته عما يحب على العبد من حقيقة التوحيد.
والنوع الثاني : شرك التمثيل .
إذاً هذان النوعان ـ شرك التعطيل وشرك التمثيل ـ من نوعي الشرك الأول الذي قلنا بأنه متعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله .
قوله: (( التمثيل )) ما هو التمثيل ؟!
التمثيل: ذكر مماثل للشيء ، والله جل وعلا نفى عن نفسه المماثل فقال: { ليس كمثله شيء } والكاف أُتي بها هنا في قوله: { ليس كمثله } للتأكيد { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } .
فقوله جل وعلا { ليس كمثله شيء } ردٌ على الممثلة .
وقوله { وهو السميع البصير } ردٌ على المعطلة قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا ... إن المشبه عابدُ الأوثانِ
كلا ولا نخليه من أوصافه ... إن المعطل عابدُالبهتانِ(1/172)
من شبه الرحمن العظيم بخلقه ... فهو الشبيه لمشرك نصرانِ
أو عطل الرحمن عن أوصافه ... فهو الكفور وليس ذا الإيمانِ
- - -
وهو شرك من جعل معه تعالى إلها آخر ، كالنصارى في المسيح ، واليهود في عزيز .
(1) حيث يقولون إن الله ثالث ثلاثة ، الله والمسيح وأمه .
(2) حيث يقولون بأن العزيز هو ابن الله ، العزيز قيل عنه: بأنه نبي وهذا المشهور عند الأكثر ، وأنه نبي من أنبياء بني إسرائيل كانت فترته بين داوود وسليمان وبين زكريا ويحيى .
وقد قيل: إنه لم يكن يحفظ في بني إسرائيل أولما لم يبقى في بني إسرائيل من يحفظ التوراة ألهمه الله حفظها فسردها على بني إسرائيل ، وقيل: إنه ليس بنبي لأن النبوة لا تثبت إلا بدليل إما من الكتاب أو السنة أو ما أخذ منها كالإجماع قالوا: بل كان عبداً صالحاً حكيماً .
الله جل وعلا ذكر شرك هؤلاء في مواضع من القرآن ، أي الذين جعلوا معه إلهاً آخر ، كاليهود والنصارى فقال تعالى: { وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون }
معنى قاتلهم هنا : أي لعنهم .
أنى يؤفكون : أي أينما وجدوا وحيث ما حلوا .
فهذا نوع من أنواع شرك التمثيل ، وهذا النوع هو أعظم نوع نُقل في إثبات شريك مع الله جل وعلا .
- - -
والمجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور ، وحوادث الشر إلى الظلمة ، وشرك القدرية المجوسية مختصر منه وهؤلاء أكثر مشركي العالم ، وهم طوائف جمة .
(1) ومع عظمة هذا الشرك وغلظ شركهم وعظيم فعلهم وكبير قولهم إلا أنهم لا يثبتون لله شريكاً مساوياً له من كل وجهه بل لا يوجد أحد من المشركين على عظيم أقوالهم وكبير أفعالهم من يثبت لله عز وجل مساوياً له من كل وجه في كل الصفات .
حتى القائلون من المجوس بوجود إلهين إله النور وإله للظلمة قد اختلفوا في الظلمة ، هل هي محدثة مخلوقة ؟! أم هي قديمة ؟! وذلك على قولين :-(1/173)
القول الأول: بأنها محدثة مخلوقة .
القول الثاني: بأنها قديمة ، لكنها لم تفعل إلا الشر ، فحينئذٍ هي ناقصة عن النور ، لأن إله النور عندهم أعظم من إله الظلمة فعلى عظيم شركهم لم يجعلوا إله مع الله مساوياً له في كل الصفات والأفعال ، وإن كان كفرهم من أعظم أنواع الكفر ومن أغلظ ألوان الشرك .
غير أنه لا يوجد أحدٌ في الناس من يثبت إله مع الله من كل وجه نحن الآن نتحدَّث عن شرك التمثيل والمؤلف رحمه الله تعالى مثَّل الآن بثلاثة أنواع: شرك النصارى وشرك اليهود وشرك المجوس .
(2) يعود الضمير الهاء إلى من ؟ مختصر من شرك المجوس ، حيث تقول القدرية: بأن الخير من الله دون الشر ، وهذا راجعٌ إلى قول المجوس بأن للعالم خالقين خالق للنور وخالق للظلمة .
هؤلاء لا فرق شرك القدرية لا فرق بينه وبين شرك المجوس الذين يقولون بأن الخير من الله والشر ليس منه .
وهناك طائفة من القدرية: النوع الثاني من القدرية: من يخرجون أفعال العباد عن خلق الله وتقديره .
(3) يحتمل أن يعود الضمير في قوله: (( وهؤلاء )) أي إلى القدرية ولكنه غير مراد قطعاً ، قوله (( وهؤلاء أكثر مشركي العالم )) أي الواقعون في شرك التمثيل أكثر مشركي العالم .
(4) وهم طوائف متنوعة تختلف عباداتهم وأهوائهم ومقاصدهم وإن كانت النتيجة واحدة وهي الشرك بالله جل وعلا .
- - -
منهم من يعبد أجزاء سماوية ، ومنهم من يعبد أجزاء أرضية .
(1) دون الله ، أو مع الله لا يتغير الحكم .
(2) وأعظم من ذلك ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الفتاوى في المجلد الرابع ، أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام ، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام ، وأقام الأدلة على حُسن ذلك ومنفعته ورغب فيه .
وقال الشيخ رحمه الله تعالى وهذه ردة عن الإسلام بإتفاق المسلمين ، وإن كان قد يكون تاب من ذلك وعاد إلى الإسلام .(1/174)
وقد استدل بقول شيخ الإسلام (( وهذه ردة )) ، بعض المتأخرين على تكفير الرازي وإصدار الحكم عليه بعينه وفي هذا نظر .
فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أبعد الناس عن تكفير المعين الجاهل أو المتأول حتى تقوم عليه الحجة ، وقد صرح بذلك في مواضع من كتبه ، وصرح أيضاً في مواضع بإسلام الرازي ولكنه ذمه على اشتغاله بعلوم المتكلمين وبالفلسفة التي لا يجني صاحبها منها شيئاً .
بل الرازي هو القائل:
نهاية إقدام العقول عِقَال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ، ولا تُروي غليلاً ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أَقرأُ في الإثبات { الرحمن على العرش استوى } ، { إليه يصعد الكلم الطيب } وأَقرأُ في النفي { ليس كمثله شيء } ، { ولا يحيطون به علما } ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي )) .
وحينئذٍ نقول يجب رد كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى الصريح إلى كلامه المحتمل فيزول الإشكال لأن تكفير النوع غير تكفير العين وهذا متفق عليه بين أهل السنة بخلاف الخوارج والمعتزلة ، الذين لا يفرِّقون بين النوعين .
ولا يعني هذا أيضاً أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لا يكفر المعين مطلقاً ، فهذا باطل أيضاً ، فالذي يعمل مكفراً أو يقوله وتقوم عليه الحجة فهذا كافر على التعيين فلا إفراط في هذا الباب ولا تفريط .
لأن بعض المتأخرين يغلو في التكفير حتى آل بهم الأمر إلى تكفير جماعة من العلماء بسبب التأويل ، أمثال الإمام النووي والإمام العز بن عبد السلام ، والحافظ الذهبي ، والحافظ ابن حجر بسبب ما وقع لهم من بعض الأخطاء في المسائل العلمية والمسائل العملية .(1/175)
وقد جاء في البخاري من طريق الإمام مالك رحمه الله تعالى عن ابن دينار عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) ورواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى من طريق عُبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر .
وقد جاء في الصحيحين أيضاً ، واللفظ للبخاري عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لا يرم رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ) .
ومن شأن أهل العلم والورع عدم التعجل في إصدار الأحكام حتى تثبت الحجة التي من خالفها كان كافراً تارة ، أو فاسقاً تارةً أخرى أو مبتدعاً أما التعجل بإصدار الأحكام على كل من وقع في مكفر ثم سحب هذا على تكفير العلماء والأئمة بسبب الأخطاء فهذا ضلال .
وأقبح منه وأعظم جرماً تكفير من يعذر هؤلاء الأئمة ففيه فئة من المحسوبين على أهل العلم يكفرون من يعذر هؤلاء الأئمة فمن لم يجاريهم في تكفيرهم كفروه وهذا ضلال عظيم ، وهذه نزعة من نزعات الخوارج والمعتزلة .
وقد كان أئمة السلف يكفرون مقالات الجهمية ، وكان كثير منهم بما فيهم الإمام أحمد يتورع ويبتعد عن تكفير أعيانهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المجلد الثالث في الفتاوى ، وذكر ذلك في المنهاج ، وذكر ذلك في درء تعارض العقل والنقل .
فكيف يمن يكفر أهل السنة بعدم تكفير الجهمية أو أصحاب المقالات والأخطاء الكفرية علمية أو عملية فلا يعرفون العذر بالتأويل ، لا يفرقون بين النوع والعين ، ويُخَيَّل إليهم أن ما جاء عن السلف بأن من قال كذا فقد كفر ، أو أجمع العلماء على من فعل كذا فقد كفر ، أن هذا يصدق على العين من كل وجه .(1/176)
صحيح أن هناك مسائل لا يعذر أحد في الجهل فيها كسب الله أو سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - سباً صريحاً ، لأن الجهل لا يتصور في هذه المسائل لا يمكن تصور الجهل أو عذر من سب الله أو سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،قد يقع خطأ في اللسان فيعذر فيه ، فهذا واضح كالرجل الذي (( قال: أنت عبدي وأنا ربك )) ، أما يقول : أنا جاهل بسب الله أو سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذا لا يمكن تصوره أصلاً .
ولو تُصوِّر لكان لبحث قضية العذر بالجهل مجال آخر، لكن يتصور هذا لمن طاف حول القبور، أو سجد للقبور أو دعا غير الله جلا وعلا، أو كفر بالمسائل العملية ، كمقالات الجهمية وبعض مقالات الفلاسفة والقرامطة ونحو ذلك .
ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده أكبر الآلهة .
(1) أي أن الآلهة المعبودة كثيرة عندهم ، ولكن من يعبُده هو أكبر الآلهة ففيه من يعبد البدوي ويعبد الله ؟! ويعبد عبد القادر الجيلاني ويعبد القبر الفلاني ، كل هذه معبودات عندهم .
ولهذا لما قيل لبعضهم من يتصرف في الكون ؟! قال: سبعة !!! قيل من تعده لرغبتك ورهبتك وما أكبرهم قال: البدوي ، جعله أكبر من الله تعالى الله عن شركه علواً كبيراً .
فهؤلاء يجعلون معبوداتهم أكبر الآلهة .
- - -
ومنهم يزعم أنه إله من جملة الآلهة . ومنهم من يزعم أنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه أقبل عليه واعتنى به . ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يقربه إلى الأعلى الفوقاني .
(1) أي المعبود دون الله جل وعلا ، أو مع الله ، وهذا بسبب سوء فهمهم لمعنى لا إله إلا الله ، لا إله براءة من كل معبود سوى الله لكن لا يفهمون لا إله إلا الله .
وقد يكون هذا الجهل ناتجاً عن إعراض ، إذا كان الجهل ناتجاً عن إعراض فلا يعذر أحد ، لأن الجهل نوعان:-(1/177)
النوع الأول: الذي يكون منشئ جهله الإعراض عما جاءت به الرسل والإعراض عما جاء في الكتاب والسنة فلا يرفع بذلك رأسا ، ولا يصغي لحجج الله ولا لبيناته ، ويشتغل بدنياه عن البحث عن الحقيقة فهذا لا يعذر ، هذا كافر . قال الله تعالى جل وعلا: { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } . وقال الله جل وعلا : { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } . وقال الله تعالى: { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } .
النوع الثاني: الذي منشئ جهلة هو عدم العلم ، أو التأويل و نحو ذلك فهذا هو الذي يعذر مع التغليط عليه في تفريطه ، أو في جهله .
لأننا نلاحظ كثيراً من الناس ، إذا أراد أن يُتاجر أو يبيع أو يشتري عرف مداخل ذلك والمخارج ، وإذا أراد أن يعبد الله لا يفهم من ذلك شيئاً ، وينبغي التغليظ في هذه القضية لأن هذا أصل الدين .
(2) تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا ، بعض الناس يزعم أنه إذا خص هذا القبر أو خص هذا المعبود دون الله بالعبادة وتبتل إليه تبتيلا أقبل عليه الميت واعتنى به ورزقه .
(3) لأنه يزعم لا يمكن عبادة الفوقاني بدون واسطة فيتقرب إلى الأدنى كي يقربه الأدنى إلى الأعلى ، وهذا شرك مشركي قريش حين يتقربون إلى الأموات بدعائهم وسؤالهم وطلب الشفاعة منهم ، يقولون { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } أي شديد الكفر .
- - -
والفوقاني إلى يقربه إلى من هو فوقه ، حتى تقربه تلك الآلهة إلى لله سبحانه وتعالى ، فتارة تكثر الواسائط وتارة تقل .
(1) كل واحد يقرب الثاني إلى من هو فوقه .
((1/178)
2) ويمكن أن يقال: من أسباب ضلال هؤلاء ، ولا أقول هو السبب الحقيقي ، لا أقول السبب الرئيسي فهو من أسباب ضلال هؤلاء ، وبعدهم عما جاءت به الرسل ومخالفتهم للفطرة هو: الجهل بحقيقة دعوة الرسل والتقليد للآباء قال تعالى: { إنا وجدنا آباءنا على أمة } والهوى وراء ذلك ، وقد قال أبو تمام :
وعبادة الأهواء في تطويفها ... بالدين فوق عبادة الأصنام
وكثير من هؤلاء لا يعتمد في معرفة دينه على الكتاب ولا على السنة ، بل ولا على العقل الصحيح وما تُوصل إليه الفطرة .
ويعتمدون في ذلك على ما يسمعه من الحكايات والخوارق وأكثرها كذب محض ، وما صح من ذلك لم يكن حجةً على شركه ولا على كفره والشياطين تضل هؤلاء وغيرهم بمثل هذه الحكايات والخوارق الشيطانية .
الفهم لحقيقة دعوة الرسل ، هو وأعظم المنجيات من هذه الضلالات والانحرافات ، الفهم لمعنى لا إله إلا الله هو أعظم شيء يخلِّص من الشرك ويقرب إلى الله جل وعلا .
هم يقرؤون القرآن { إياك نعبد } ولكن يعبدون معه غيره ، ما فهموا القرآن ، قال تعالى: { إياك نعبد } تقديم المعمول على العامل ماذا يفيد ؟!
يفيد الحصر ، أي لا نعبد غيرك ولا نستعين إلا بك ، فالعبادة تباعد العبد عن الرياء مطلقا وعن الشرك مطلقا ، والاستعانة تباعد عن الإعجاب بالأعمال مطلقا ، حينئذٍ يكون الدين كله لله .
الله جل وعلا يقول: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } هذه هي الغاية من خلق الجن والإنس ، ففرطوا في هذه الغاية وعبدوا معه غيره .
قوله: { إلا ليعبدون } أي إلا لآمرهم وأنهاهم وأعظم أمرٍ أَمر الله به هو التوحيد ، ولهذا كان أول أمر بالقرآن هو الأمر بالتوحيد { يا أيها الناس أعبدوا ربكم } وأعظم نهي نهى الله عنه هو النهي عن الشرك ولهذا كان أول نهي في القرآن هو النهي عن الشرك { فلا تجعلوا الله أنداداً وأنتم تعلمون } قوله: (( أنداداً )) أي في نفي المثيل عن الله جل وعلا بأي وجه من الوجوه .
- - -(1/179)
فإذا عرفت هذه الطوائف وعرفت اشتداد نكير الرسول - صلى الله عليه وسلم - على من أشرك به تعالى في الأفعال والأقوال والإرادات كما تقدم ذكره! انفتح لك باب الجواب عن السؤال فنقول: اعلم أن حقيقة الشرك تشبيه الخالق بالمخلوق وتشبه المخلوق بالخالق أما الأول فإن المشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية
(1) أي وهذه الانحرافات وهذه الشركيات .
(2) لأن المؤلف رحمه الله أورد سؤالاً فيما سبق حين قال: ( فلما كان هذه القدر موجباً لسخط الله تعالى وغضبه ومخلداً في النار وموجباً لسفك دماء أصحابه واستباحت حريمهم وأموالهم ، وهل يجوز في العقل أن يشرع الله جل وعلا التقرب إليه بالشفعاء والوسائط فيكون تحريم هذا إنما استفيد بالشرع فقط أم ذلك قبيح بالشرع والعقل يمتنع أن تأتي به شريعة من الشرائع ... ) وقد تقدم أن الشرك قبيح بالشرع والعقل والفطرة ويمتنع أن تأتي به شريعة من الشرائع ، ثم قال: ( وما السر في كونه لا يغفر من بين سائر الذنوب كما قال تعالى: { إن لا يغفر أن يشرك به ونغفر ما دون ذلك لمن يشاء } المؤلف حين قدّم هذه المقدمة قال: ( انفتح لك باب الجواب عن هذا السؤال ) .
(3) تقدم أن تعريف الشرك هو: تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله وأن ضابط الشرك الأكبر: هو كل عبادة يتقرب بها العبد لغير الله جل وعلا على وجه التقرب والتعبد لهذا الغير فإن هذا شرك أكبر فمن حقيقة الشرك تشبيه الخالق بالمخلوق وتشبّه المخلوق بالخالق كي يتعاظم ويتكبر عن عبادة الله وهذا الأمر مراتب (( تشبه المخلوق بالخالق مراتب )): منه الكفر الأكبر ومنه الأصغر ومنه الكبائر وفي صحيح الإمام مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي مولاهم عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني بشيء منهما ألقيته في النار ) ورواه ابن ماجه وغيره .
((1/180)
4) إذا نذر له فقد شبهه بالخالق ، إذا توكل عليه دون الله فقد شبهه بالخالق ، إذا ذبح له شبهه بالخالق ، إذا طاف على قبره شبهه بالخالق ، إذا سجد له شبهه بالخالق ، إذا جعله بين الله واسطة فقد شبهه بالخالق ، إذا سأله الشفاعة فقد شبهه بالخالق ، إذا سأله التوبة فقد شبهه بالخالق ، إذا عطل الله أيضاً عن أسماءه وعن صفاته فقد شبه الله بالمعدومات ، وهذا تابع أيضاً لشرك التمثيل .
- - -
( وهي التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع ) فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى وسوّى بين التراب ورب الأرباب فأي فجور وذنب أعظم من هذا .
(1) الضُر بالضم: المرض والضَر بالفتح: مقابل النفع .
(2) أي رجا المخلوق بجلب المنافع ودفع المضار وسأل الأموات ومن لا يقدر على ذلك من هذه الأمور .
(3) وبعض المتأخرين لا يرى إطلاق هذه الصفة (( رب الأرباب )) ولكن الصحيح أنه لا مانع من ذلك جاءت في كلام الأكابر أمثال الإمام ابن القيم وابن عبد الهادي وجماعة من علماء نجد والله جل وعلا قال: { أأرباب متفرقون خير } رب هؤلاء هو الله جل وعلا والمؤلف رحمه الله ذكرها هنا وقد نقلها عن ابن القيم في الجواب الكافي لن الكلام هنا لا يزال تابعاً لكلام ابن القيم في الجواب الكافي بتصرف بسير إما بتقديم أو تأخير أو إيضاح يسير أو بترتيب أيضاً .
((1/181)
4) ويزاد على ذلك ويقال: وأي مخالفة لما جاءت به الرسل وللفطرة أعظم من هذا وهذا مناقضة صريحة لما جاءت به الرسل ولما نزلت به الكتب ، الله جل وعلا في القرآن في مواضع يقول: { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعائكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خير } ومع هذا يعبدون معه غيره والله جل وعلا يقول: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } والله جل وعلا يقول: { والذين اتخذوا من دونه ما يملكون من قطمير } والله جل وعلا يقول عن المشركين: { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون } والله جل وعلا يقول: { ومن يدع مع الله إله آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } . مع كل هذه الأدلة الصريحة ، والقرآن كله من فاتحته إلى خاتمته يقرر هذا الأصل ومع هذا يشركون به أو معه إله آخر ، الفاتحة كلها في التوحيد وفيها جميع أنواع التوحيد الإلهية والربوبية وتوحيد الأسماء والصفات { الحمد لله رب العالمين } هذا توحيد الإلهية { رب العالمين } توحيد الربوبية { الرحمن الرحيم } توحيد الأسماء والصفات الفاتحة فيها أنواع التوحيد ، الله جل وعلا افتتح كتابه بالتوحيد ، وختم كتابه بالتوحيد { قل أعوذ برب الفلق } { قل أعوذ برب الناس } الاستعاذة عبادة وهؤلاء صرفوا العبادة لغير الله جل وعلا ، ولهذا أقول: أعظم بيان يجب بيانه للناس في هذا العصر هو بيان التوحيد ولاسيما في المجتمعات التي يكثر فيها الجهل وتكثر فيها عبادة القبور والاستعانة بالأولياء والصالحين والطواف حول قبورهم والاستنجاد بهم والبيان للصوفية الذين يزعمون أن الأولياء يتصرفون في الكون أو يعلمون الغيب كما تزعمه الرافضة أيضاً في أوليائهم وتارةً في شياطينهم .(1/182)
واعلم أن من خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده عقلاً وشرعاً وفطرة فمن جعل ذلك لغيره فقد شبه الغير بمن لا شبيه له ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم: أخبر من كتب على نفسه الرحمة أنه لا يغفره أبداً .
(1) أي الكمال المطلق لله جل وعلا من جميع الوجوه فلا نقص في ذلك في أي وجه من الوجوه لن الله جل وعلا لا شبيه له ولا نظير له بأي وجه من الوجوه .
(2) ونحن نعلم أن التوحيد دل عليه السمع والعقل والفطرة كما أن الشرك دل على بطلانه وعلى قبحه الشرع والعقل والفطرة .
(3) قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } لا: نافيه ، والنفي أبلغ من النهي لأن النفي يتضمن النهي وزيادة ، يتضمن النهي عن الشرك ويقتضي عدم مغفرة من أشرك معه إله آخر ولهذا أخبر الله جل وعلا عن المشركين أنهم حصب جهنم ، وأنهم أصحاب السعير وأنهم الظالمون ، وأنهم في جهنم خالدون { تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون } أي: عابسون وقال تعال: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } .
- - -
ومن خصائص الإلهية: العبودية التي لا تقوم إلا على ساقي الحب والذل فمن أعطاهما لغيره فقد شبهه بالله سبحانه وتعالى في خالص حقه وقبح هذا مستقر في العقول والفطر .
((1/183)
1) أي ومن خصائص توحيد الألوهية الذي هو: إفراد الله بأفعال العباد . وتقدم أن الاله هو المألوه المعبود الذي تألهه القلوب محبةً وإجلالاً وتعظيماً وأنه هو المستحق للعبادة لا إله غيره ولا رب سواه والعبودية هي الغاية المحبوبة لله المرضية له التي خلق الخلق لها كما قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } قيل أي: إلا ليوحدون كما هو قول ابن عباس وطائفة من المفسرين وقيل: إلا لآمرهم وأنهاهم ، ولا تنافي بين الأمرين. فإن أعظم أمر هو الأمر بالتوحيد وأعظم نهي النهي عن الشرك ولهذا الرسل يفتتحون دعوتهم لقومهم بـ { أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وهذا تقتضي إفراد الله بالعبادة والنهي عن الإشراك به ، وقد تقدم أن التوحيد يعرف حسنه بالسمع والعقل والفطرة .
وأن الشرك يعرف قبحه بالسمع والعقل والفطرة ، وسوف يأتي إن شاء الله مزيد من ذلك ما هي العبادة ؟
العبادة كما عرفها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب العبودية: اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ، فمن صرف شيئاً من هذه العبادة لغير الله فقد أشرك ، وأصل معنى العبادة: الذل يقال: هذا طريق معبَّد أي: مذلل والعبادة المأمور بها لا تقوم إلا على أمرين أشار إليها المؤلف رحمه الله تعالى وهما:
الذل والحب ولا يكفي أحدهما عن الآخر فإن الإنسان قد يخضع ويذل لآخر مع بغضه له ، وقد يحب شخصاً ولا يخضع له فهذا وذاك ليس عابدين له ، فالشخص يحب ولده ولا يذل له ، ويذل لآخر مكرهاً أو طمعاً في شيء ولا يحبه ، فمن جمع بينهما لغير الله أي جمع الحب والذل لغير الله فقد شبه المخلوق بالخالق وهذا من أعظم أنواع الشرك المنافية لما جاءت به الرسل ونزلت من أجله الكتب فإن العبد حين يكون ذليلاً للمخلوق محباً للمخلوق هذا من أعظم المناقضة لما جاءت به الرسل .
((1/184)
2) أي الشرك وقد جاءت الأدلة مقرره لما استقر في الفطر وإن كانت الشياطين قد اجتالت كثيراً من العباد ، فعبدوا غير الله جل وعلا ، والقول بأن الشرك معلوم بالسمع والعقل والفطرة هذا هو قول أهل السنة والجماعة الذين يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين خلافاً للأشاعرة ، فحينئذٍ نقول بأن حسن التوحيد معلوم بالسمع والعقل والفطرة وقبح الشرك معلوم بالسمع والعقل والفطرة وكثيراً ما يقول الله جل وعلا عقب تقرير ذلك { أفلا تعقلون } { أفلا تذكرون } وقد نفى الله جل وعلا العقل عن أهل الشرك وأخبر عن المشركين أنهم يعترفون بذلك وهم في السعير كما قال الله عنهم: { وقالوا لو كما نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } .
- - -
لكن لما غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق واجتالتهم عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً كما روى ذلك عن الله أعرف الخلق به وبخلقه عموا عن قبح الشرك حتى ظنوه حسناً ومن خصائص الألوهية السجود فمن سجد لغيره فقد شبهه به .
(1) وهذا قد جاء في صحيح الإمام مسلم من طريق عاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ذات يوم في خطبته: (( إلا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا كل مالٍ نحلته عبداً حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللته لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ..... الحديث .))(1/185)
وحينئذٍ عمي المشركون عن قبح هذا الشرك وظنوه حسناً فإن من زين له سؤ عمله يظن القبيح حسناً ، والحسن قبيحاً ، وأي عقل عند المشركين وهم ينادون الأموات والغائبين ويطوفون حول القبور وينذرون للأموات والغائبين ويذبحون لهم وهم لا يسمعون { ولو سمعوا ما استجابوا لهم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } زيادةً على هذا أنهم يلاحظون هذا أمراً حسياً معقولاً أنهم لا يجلبون لهم نفعاً ولا يدفعون عنهم ضراً ، فما أغنت آلهتهم عنهم حين هزموا في معارك كثيرة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركون حين صادموا هذه الدعوة وهم يعبدون غير الله ماذا أغنت عنهم آلهتهم ، وقد كسر النبي - صلى الله عليه وسلم - شوكتهم وأراهم ضعفهم فهم يَدَعون ما يسمع ويبصر ويغني عن صاحبه شيئاً إلى ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عن صاحبه شيئاً ، هم يعلمون أن الميت لا يعطيهم مالاً فلا يغني الفقير ولا ينصر الضعيف ومع هذا يدعونهم من دون الله ويرجونهم خوفاً وطمعاً فهذا دليل على فساد عقولهم وأي عقل عند من يدعو غير الله جل وعلا ولهذا نعلم أن قبح الشرك مستقر في العقول والفطر وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة ولا غير أهل السنة ممن آتاه الله عقلاً ويميّز به هذا وذاك .
((1/186)
2) فإذا تقرب العبد لغير الله بالسجود له أو بالطواف على القبر فقد أشرك بالله وشبه المخلوق بالخالق وقد تقدم أن السجود قد يكون على وجه التحية فيكون محرماً بالاتفاق وقد يكون على وجه العبادة فيكون كفراً بالاجماع وتقدم القول: كل عبادة ثبتت بدليل صحيح فصرفها لغير الله على وجه التعبد شرك أكبر هذا في الأمور المحتملة ليس في كل أمر ، فإن الأمور الصريحة التي لا تحتمل أمرين لا يصح هذا القيد ( على وجه التعبد ) فإن هذا باطل فإن المرء لو سجد لصنم لكان مرتداً عن الدين دون تقييد ذلك بدعوى التعبد له لأن هذا لا يحتمل أمرين هذا يقال في القاعدة السابقة على الوجوه المحتملة وأيضاً أجمع العلماء أن ما ثبت أنه عبادة وفُعل لغير الله على وجه التعبد أنه شرك أكبر هذا لا نزاع فيه ولكن لا يعني هذا أن ما لم يفعل على وجه التعبد لا يكون شركاً أكبر حينئذٍ نقول ويمكن جعله ضابطاً للشرك الأكبر : إن كل من صرف شيئاً من أنواع العبادات المأمور بها لغير الله سواء كانت من جنس الأقوال أو الأفعال أو الأعتقادات فإنه مشرك بالله تعالى { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } فاحذر من هذا الشرك فإنه أعظم ذنب عصي الله به وقد جاء في الصحيحين في طريق منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبل عن عبد الله ابن مسعود قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم عند الله قال: ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ) وقد تقدم أن الشرك مغاير للكفر عند طائفة من أهل العلم فكل مشرك كافر وليس كل كافر مشركاً وقالت كائفة أخرى: بعدم المغايرة وأنهما مترادفان .
والقول بالتغاير قول قوي جداً فإن من سب الله أو سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو أنكر البعث فإن كافر ومن دعا غير الله أو سجد للصنم أو طاف على القبور أو ذبح لغير الله أو نذر لغير الله فإنه مشرك .(1/187)
يدل على هذا قوله تعالى: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } .
الله جل وعلا غاير بين الكفر وبين الشرك ، يدل على هذا أيضاً الآية التي بعدها { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم } .
الله جل وعلا غاير بين الكفر وبين الشرك ، لأن الشرك مأخوذ من التسوية وقد تقدم أن الشرك هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله ، وكلاهما في النار ، لا فرق في النتيجة وفي النهاية ، المشرك مخلد في النار والكافر مخلد في النار .
لكن يسمى من سب الله أو سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - سباً صريحاً يسمى هذا كافراً ، ومن دعا غير الله يسمى مشركاً ، ولذلك يسمى اليهود والنصارى كفاراً .
- - -
00
00
00
00
00
ومنها التوكل ، فمن توكل على غيره فقد شبهه به ، ومنها التوبة فمن تاب لغيره فقد شبهه به .
(1) التوكل: عمل القلب ، ولا يصح توكل العبد مادام فيه علائق الشرك ومتى ما التفت العبد إلى غير الله نقص بذلك الالتفات توكله على الله ، وقد يزول بالكلية بقدر التفاته على الغير أو بقدر التفاته إلى الغير وقد اتفق العلماء على أن من توكل على الأموات في رجاء المطلوب من رزق ونحوه أنه مشرك الشرك الأكبر وقد تجتمع في العبد وصف الشرك والكفر في آن واحد .
(2) التوبة تأتي بمعنى الرجوع وهذه تكون لله ولغيره ، ومنه قول عائشة رضي الله عنها كما في البخاري وفي غيره ( أتوب إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ) حين قالت: (( ماذا أذنبت )) .
وأما التوبة بمعنى العبادة وهي المقصودة في هذا الباب فصرفها لغير الله شرك أكبر كأن يأتي الشخص إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره فيقول يا رسول الله أتوب إليك ، أو تب عليَّ فهذا شرك أكبر ، ولا يلزم من ذلك أن يتوب إلى الميت فلو قال: يا فلان يخاطب أحد الأحياء ، تُبْ عليَّ بمعنى العبادة فإنه مشرك بالله جل وعلا ، وحينئذٍ يشبه المخلوق بالخالق .
- - -(1/188)
ومنها: الحلف باسمه تعظيماً فمن حلف بغيره فقد شبهه به .
(1) تقدم أن هذا الكلام كله من كلام الإمام ابن القيم في الجواب الكافي ولا يزال الكلام تابعاً للإمام ابن القيم في الجواب الكافي ، وإن كان المؤلف رحمه الله تعالى قد يُغاير في موضع دون موضع أو يزيد بعض الألفاظ اليسيرة أو ينقص بعض الألفاظ اليسيرة ، لكن الكلام لم يتغير كله للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى .
قوله: (( ومنها الحلف باسمه تعظيماً فمن حلف بغيره فقد شبهه به )) تقدم الكلام عن الحلف بغير الله جل وعلا ، وذكر النصوص في ذلك ، وأن من حلف بغير الله فقد أشرك بالله جل وعلا ، وأن منه الشرك الأكبر ومنه الأصغر .
فالحلف بغير الله كالحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو الولي حياً أو ميتاً من الشرك بالألفاظ وهو شرك أصغر ، وإذا كان الحالف يحلف بالمخلوق تعظيماً مثل تعظيم الله أو يعتقد التسوية فإنه مشركٌ الشرك الأكبر وهو الذي أراده ابن القيم رحمه الله تعالى هنا حين قال: (( ومنها الحلف باسمه تعظيما )) .
وهناك فرق بين الشرك باللفظ ، والشرك على وجه التعظيم .
الشرك باللفظ شرك أصغر والشرك على وجه التعظيم شرك أكبر ، فلذلك لا يصح إطلاق القول بأن الحلف بالنبي أو الحلف بالبدوي شرك أصغر ، لأنه إذا قيل للرجل احلف بالله كاذباً حلف بالله كاذباً وإذا قيل: احلف بالبدوي كاذباً لا يستطيع ، ولا يمكن أن يحلف بالبدوي كاذباً فهذا مشرك الشرك الأكبر لأنه معظم للمخلوق أعظم هذا ما شبهه هذا عظم المخلوق أعظم من تعظيم الخالق ، لأنه تجرأ على أن يحلف بالله كاذباً ولم يتجرأ على أن يحلف بالمخلوق كاذباً فهذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله جل وعلا إلا بالتوبة .(1/189)
ومن القواعد المهمة في باب الأحكام الشرعية أن من الأقوال والأفعال ما هو صريح الدلالة على الكفر ، وهذه القاعدة تصلح لهذه المسألة ولما قبلها كما تقدم في السجود أن من الأقوال والأفعال ما هو صريح الدلالة على الكفر . فحينئذٍ يكفر المرء بذلك .
فإن من قال أو فعل ما هو كُفر كَفَر بذلك ، فإذا سب الإنسان الله جل وعلا أو سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - سباً صريحاً فإنه كافر بذلك ، لا يشترط بذلك الجحد أو نسأله عن الاعتقاد أو ماذا تقصد ، بل تقدم أن سب الله عز وجل وسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتصور فيه الجهل ، وأن السب الصريح لا يتصور فيه ولا التأويل فيكفر بذلك مطلقاً وهذا من الأشياء الصريحة .
وكذلك من الأشياء الصريحة التي يكفر بها المرء إلقاء المصحف في القاذورات فهذا مرتد عن الدين ، هذا من الشيء الصريح الذي لا نزاع فيه ، ولا يشترط أن يقصد بذلك أشياء أخرى .
فالكفر تختلف أنواعه ، ولكن يكفر بشيء واحد منها فقد يكفر الإعتقاد وقد يكفر بالجحد ، وقد يكفر بالاستحلال ، وقد يكفر بالفعل ، وقد يكفر بالترك ، وقد يكفر بمجموع هذه الأمور أو ببعضها .
فمن الكفر بالأقوال سب الله عز وجل أو سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكالحلف بالمخلوق تعظيماً له ، ومن الكفر بالأفعال السجود للأصنام والطواف على القبور ومن الكفر بالاعتقادات من اعتقد أن حكم غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن من حكمه ، ومن الكفر بالجحد كأن يجحد أمراً مجمعاً عليه ومن الكفر بالاستحلال أن يستحل أمراً متفقاً عليه ، ومن الكفر بالترك كترك الصلاة ، لأن ترك الصلاة بالكلية كفر بالإجماع ، لا نزاع في ذلك ، كما نقل الإجماع الإمام عبد الله بن شقيق ونقل الإجماع المَروَزِي ، ونقل الإجماع إسحاق ، ونقل الإجماع الإمام ابن حزم وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله تعالى ، والإجماع مجزى ، صحيح في هذه القضية أن الصحابة ليس بينهم خلاف في كفر تارك الصلاة .(1/190)
فقول أهل الإرجاء أو قول غلاة المرجئة ، لأن المرجئة أقسام غلاة وغير غلاة ، لأن بعض المرجئة وهم غير الغلاة يقولون يكفر بهذه الأمور لكن ليست مكفرة بذاتها ، ولكن لأنها دلالات على عدم التصديق لكن غلاة المرجئة يقولون: لا يكفر إلا بالجحد .
وهذا ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، والإجماع منعقد على خلاف هذا القول الشاذ الذي لا يدل عليه لا كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عقل . الأدلة كلها دالة على خلاف هذا القول الباطل ، هذا النوع الأول من الألفاظ والأقوال الصريحة .
النوع الثاني: منه ما هو محتمل الدلالة فلابد حينئذٍ من تبيِّن من قصد الفاعل ، لكن ينبغي التنبه ليس هذا مطَّرداً من كل مسألة من ذلك السجود كما تقدم فقد يسجد لغير الله تعبَّداً فيخرج عن الإسلام .
وقد يسجد تحية فيكون آثماً بالاتفاق ولكن لو سجد للصنم متجهاً لغير القبلة لكان كافراً مرتداً ، لأن هذا غير محتمل ، فهناك فرق بين أن يسجد للصنم ، الصنم لا يمكن أن يسجد للصنم تحية هذا كفر غير محتمل ، لكن السجود للرجل الكبير قد يتصور أن يسجد تحية فهذا يختلف عن هذا .
فإن هذا السجود ـ أي السجود للصنم ـ على هذا الوجه غير محتمل وهذا لا إشكال فيه .
ومن المحتمل أيضاً إلقاء المصحف في النار ، تقدم أن إلقاء المصحف في القاذورات كفر بالإجماع وهذا كفر غير محتمل .
من الكفر المحتمل أن يلقي المصحف في النار فهذا محتمل ، يحتمل أنه مستخف بالمصحف قرينة ذلك أن يكون غلاف المصحف جيداً .
فماذا يعني أن يلقيه في النار ، هذا مستخف .(1/191)
النوع الثاني: أن يكون المصحف قد بليت أوراقه وأراد أن يحرِّقه فقد يحتمل هذا بناء على أن عثمان - رضي الله عنه - أمر بتحريق وحرَّق المصاحف . فقد يكون عندي مصحف قد بَليت أوراقه فأردت أن أضعه في النار إذاً لا يمكن التكفير بِأَن من ألقى المصاحف في النار فنقول هذا مستهين بالمصحف ، فقد يريد أن يحرقه لئلا يمتهن ولئلا يُداس في الأرض ، ولئلا تطأه الأقدام وقرينة ذلك أن يكون المصحف قد بليت أوراقه فهذا لا يكفر بإجماع المسلمين .
ولكن ينبغي التنبه والتركيز على قضية ما كان محتمل وبين ما لم يكن محتملاً .
لأن بعض الناس يقول كل عبادة ثبتت لله جل وعلا فصرفها لغير الله على وجه التعبد شرك أكبر ، وماعدا ذلك شرك أصغر وهذا باطل ، لأن هذا صحيح أنه شرك أكبر ، لكن لا يعني أن ما لم يُفعل على وجه التعبد يكون شركاً أصغر .
فإن الإنسان لو أُستأجر على أن يسجد لهذا الصنم فسجد طمعاً في المنصب والمال ، طبعاً ما عبد الصنم عبادةً يقصر التعبد له ألا يكفر بذلك ؟! يكون مرتداً بهذا العمل .
فإذا أتى المسؤول وأمر من تحتِ يده أن يسجد لهذا الصنم على أن يُعَينه على المرتبة الفلانية ... ؟! أو على أن يصرف له معاشه فنقول في هذه الحالة: مشرك الشرك الأكبر ، ولو قال أنا ما عبدت الصنم .
- - -
ومنها الذبح له : فمن ذبح لغيره فقد شبهه به .
(1) فإذا ذبح العبد لحي أو ميت متقرباً له فإنه مشرك ومشبه للمخلوق بالخالق ، فإن الذبح لله قربة وصرف هذه القربة لغير الله شرك أكبر قال تعالى: { فصلي لربك و انحر } وقال تعالى: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له } .(1/192)
إذاً عُلِمَ أن من نسك لغير الله فقد أشرك به ، وفي حديث علي - رضي الله عنه - في صحيح الإمام مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لعن الله من ذبح لغير الله ) غير أن صيغة اللعن لا تدل على أن الذبح كفر وإنما نأخذ الكفر من الأدلة الأخرى المتقررة في هذا الباب .
ومن قال أن الذبح لغير الله على وجه التقرب غير شرك أكبر فقد غلط بل هو شرك أكبر ناقل عن الملة .
- - -
ومنها حلق الرأس إلى غير ذلك .هذا في جانب التشبيه وأمافي جانب التشبه فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه ورجائه ومخافته فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبتية وهو حقيق بأن يهينه الله غاية الهوان ، ويجعله كالذر تحت أقدام خلقِهِ .
(1) تقدم أن ابن القيم رحمه الله تعالى قيَّد حلق الرأس بالخضوع والتعبد ، وذلك لأن حلق الرأس له حالات:-
الحالة الأولى: أن يحلقه تعبداً لله كأن يحلقه بعد النسك فهذا الحلق عبادة لله وهو واجب من واجبات الحج والعمرة .
الحالة الثانية: أن يحلق رأسه على وجه التبرد وإزالة القاذورات ونحو ذلك ، فهذا مباح .
الحالة الثالثة: أن يحلق رأسه تشبهاً بالخوارج فهذا محرم لأنه من سيما الخوارج التحليق .
الحالة الرابعة: أن يحلق رأسه توبةً لشيخه ومريده فهذا مشرك الشرك الأكبر .
إذاً يُقيد هذا النوع فيقال: (( حلق رأس على وجه الخضوع والتعبد هو الشرك الأكبر )) .
(2) تقدم قول ابن القيم رحمه الله تعالى بأن حقيقة الشرك تشبيه الخالق بالمخلوق وتشبيه المخلوق بالخالق .
وحين ذكر المؤلف رحمه الله تعالى بعض جوانب التشبيه ، شرع الآن يتحدث في جوانب التشبه .
(3) كما جاء هذا مصرحاً به في جامع أبي عيسى وصححه الترمذي والتعاظم والتكبر مراتب ، منه ما هو كفر أكبر ومنه ما هو أصغر ، ومنه ما هو من كبائر الذنوب .
لكن الذي يبتغي أن نعلمه أن من جعل لله نداً من خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية فإنه كافر بإتفاق أهل العلم .(1/193)
وقد أشار إلى هذه القضية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع من الفتاوى .
- - -
وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( يقول الله عز وجل: العظمة إزاري والكبرياء ردائي ، فمن نازعني في واحدٍ منهما عذبته ) .
(1) هذا الحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى من طريق عمر بن حفص بن غياث عن أبيه عن الأعمش قال: حدثنا أبو إسحاق عن أبي مسلم الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( العز إزاره والكبرياء ردائه فمن ينازعني عذبته ) هذا لفظه في صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى والحديث جاء في مسند الإمام أحمد وغيره من طريق سفيان عن عطاء ابن السائب عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قال الله تعالى: ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما أدخلته جهنم ) .
وجاء هذا الخبر بألفاظ أخرى ، قد رواه أبو داود أيضاً ، وابن ماجه والطيالسي وجماعة .
فالتعاظم المؤدي إلى محاوله استعباد الناس وإطرائه ومخافته ورجائه فهذا من الشرك .
والتكبر الذي لا يقتضي منازعة الله جل وعلا في ألوهيته ولا ربوبيته هذا محرم ، وحقيق بأن يهينه الله جل وعلا غاية الهوان ويذله وأن يخفضه حين أراد أن يرفع نفسه و يتكبر حقٌ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه الله .
من هذه القبيل حبه أن يتمثل الناس له قياماً ، يحب أن يقوم له الناس لا على وجه التعبد ولكن على وجه الإكرام فهذا محرم .(1/194)
وقد جاء في صحيح الإمام مسلم (1) عن معاوية وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار )) أما إذا أحب أن يتمثل له الناس قياماً على وجه التعظيم والتكبر والخوف والرجاء فهذا شرك بالله جل وعلا .
- - -
وإذا كان المصور الذي يصنع الصور بيده من أشد الناس عذاباً يوم القيامة لتشبهه بالله في مجرد الصنعة ، فما الظن بالمتشبه بالله في الربوبية والإلهية ؟ .
كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون يقال لهم: أحيوا ما خلقتم ) وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( يقول الله عز وجل: ومن أظلم من ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة فليخلقوا شغيرة ) فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منها .
(1) هذا إذا لم يقصد مساواة المخلوق بالخالق ، إذا كان مجرد تصوير فهذا ملعون فاعلة ، وقد توعده الله جل وعلا بالنار وأنه من أشد الناس عذاباً ، وأنه يقال له يوم القيامة ، أحيوا ما خلقتم .
(2) وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من طريق ابن فضيل وسوف يشير إليه المؤلف رحمه الله تعالى عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ـ أي لا أحد أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ـ فليخلوا ذرة فليخلقوا حبة فليخلقوا شعيرة ) فنبه بهذه الأمور اليسيرة على ما هو أعظم منها .
__________
(1) هذا الحديث لم أجده في مسلم وإنما وجدته في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي ومصنف ابن أبي شيبة وغيرهم ولعله سبق لسان من الشيخ حفظه الله تعالى .(1/195)
ومن صنع هذه التصاوير لتعبد من دون الله أو لتعظم دون الله فإنه مشرك بالله جل وعلا ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون ) بهذا اللفظ جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الذين يصنعون الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم: أحيوا ما خلقتم ) .
والمؤلف رحمه الله تعالى جمع حديثين في سياق واحد .
- - -
وكذلك من تشبه به تعالى في الاسم الذي لا ينبغي إلا له كملك الملوك ، وحاكم الحكام ، وقاضي القضاة ، ونحوه .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( إن أخنع الأسماء عند الله رجلٌ تسمى بشاهان شاه ملك الملوك لا مالك إلا الله ) وفي لفظ ( أغيظ رجل عند الله رجلٌ تسمى ملك الأملاك ) .
وبالجملة فالتشبيه والتشبه هو حقيقة الشرك ، ولذلك كان من ظن أنه إذا تقرب إلى غيره بعبادة ما يقربه ذلك الغير إليه تعالى فإنه يخطئ لكونه شبهه به
(1) لأنه قد جاء في الصحيحين من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن أخنع أسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله ) .
فمجرد التسمِّي عظيم عند الله ، وإذا كان يقصد بذلك التعاظم والتكبر فإنه منازع لله جل وعلا في ربوبيته وعظمته .
(2) وقد تقدم أن هذا مراتب ، فإن مجرد التشبه باللفظ لا يعني أن الأمر شرك أكبر ، فقد يكون الأمر شركاً أكبر وقد يكون أصغر ، وقد تكون كبيرة من الكبائر ، لأن الأمر يفسَّر بما يؤول إليه .
فإننا نعلم أن التكبر قد يكون من الكبائر ، وقد يكون من الكفر الأكبر كأن يتكبر عن شرع الله ، كأن يستكبر عن الانقياد ونحو ذلك وقد يجتمع في العبد وصف هذا وهذا .
((1/196)
3) وهذا كما تقدم أنه معلوم بالسمع والعقل ، مَنْ مِن عبَّاد القبور يذكر لنا أن هذا الميت وهبة ولداً ؟! أو أنه رزقه ؟! أو مد يده أعطاه ريالاً واحداً ؟! من يثبت هذا ؟! الميت لا يرزق ولا يحي ولا يميت ولا يجلب نفعاً ولا يدفع ضراً .
ولهذا عباد القبور مشركون من وجوهٍ كثيرة ، فإنهم يعتقدون النفع والضر . في هذا الميت ومجرد هذا كفر ولو لم يفعله ، فكيف إذا فعله ؟!! على أنه لا يصح ربط تكفير عباد القبور والذين يطوفون حول القبور والذين يدعون غير الله بأنهم يعتقدون جلب المنافع ودفع المضار ، مجرد الفعل كفرٌ .
فإن من قال أو فعل ما هو كُفر ، كَفَرَ بالإنفاق ، ولا يشترط في ذلك أن يقصد العبد أن يكون كافراً ، فإن هذا لا يشاؤوه أحدٌ إلا ما شاء الله كما وضح هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في الصارم المسلول في حكم شاتم الرسول .
- - -
وأخذ ما لا ينبغي أن يكون إلا له ، فأشرك معه سبحانه فيه غيره ، فبخسه سبحانه حقه ، فهذا قبيح عقلاً وشرعاً . ولذلك لم يشرع ، ولم يغفره فاعلمه .
(1) لأن الله قال: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } هذه الآية فيها فوائد ، فيها ردٌ على كثير من الطوائف المنحرفة والضالة .
فقوله جل وعلا: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } في هذا دليل على أن الشرك لا يغفر ولو كان العبد يصلي ويصوم ويزكي ويحج .
وقد تقدم أن الحكم بغير شرع الله أنه من الشرك لقوله تعالى: { ولا يُشرك في حكمه أحدا } ، فهو داخل في هذه الآية ، من الشرك الذي لا يغفر ، فالذي يحكم بغير شرع الله بالقوانين الوضعية كالذي يعبد قبراً أو وثناً لا فرق بينهما .
وتعذير بعض الناس عن هؤلاء المشرعين بأنهم لا يعتقدون أن هذه القوانين أفضل من شرع الله .
نقول كقول المشرك إذا قال: أنا أعتقد أن الشرك باطل ، ولا أفضل هذا الشرك على عبادة الله ، هل ينفعه ؟ لِلَّهِ لا ينفعه ولا يغني عنه شيئاً .(1/197)
الله قال : { ولا يشرك في حكمه أحدا } ويقول: { إن الحكم إلا لله } صَرْفُ الحكم لغير الله شرك ، ويقول: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الكافرون } وقد تقدم تقرير ذلك مراراً ، وأن القوانين الوضعية الموجودة في عالمنا الحاضر كلها من الشرك الأكبر قوله: { ويغفر ما دون ذلك } فيها ردٌ على الخوارج ، بخلاف الخوارج الذين يقولون إن أصحاب الكبائر مخلدون في النار قوله: { لمن يشاء } فيه ردٌ على المرجئة أيضاً ، والمرجئة طوائف كما تقدم الحديث عن بعضهم ، لكن غالب مرجئة هذا العصر غلاة .يقولون: لا يكفر العبد إلا بالاستحلال أو بالاعتقاد ، إذا قال العبد : إن سب الله وسب رسوله كفر ، وإن الطواف حول القبور كفر وإن السجود للأصنام كفر ، لأن هذا دلالة على عدم التصديق . نقول هذا من المرجئة . وإذا قال : إن سب الله وسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكفر ما لم يستحل . فنقول هذا من غلاة المرجئة .
- - -
واعلم أن الذي ظن أن الرب سبحانه لا يسمع له ، أولا يستجيب له إلا بواسطة تُطلعه على ذلك ، أو تسأل ذلك منه فقد ظن بالله ظن السوء .
(1) قوله: (( اعلم )) فعل أمر ، من العلم وهو حكم الذهن الجازم المطابق للواقع .
والعلم بمثل هذه الأمور من الواجبات ، كي يعيَ عن الله أمره ويجتنب نهيه ، ولأن الجهل بذلك يوقعه بما حرم الله ، ويؤدي به إلى أن يدع ما أمر الله به .
والظن يطلق على معاني:
يطلق على اليقين كقوله تعالى: { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } أي يستيقنون أنهم ملاقوا ربهم ، ويصلح إطلاق اليقين هنا على معنى العلم ، أي يعلمون علم اليقين أنهم ملاقوا ربهم .
ويطلق الظن على تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر .(1/198)
ويأتي بمعنى الشك وهو التردد في الشيء كالذي يظن أي يشك أن الرب لا يسمع له أو يستيقن أن الرب لا يسمع له . فهذا قد ظن بالله ظن السوء ، وهذا الظن كفر لأنه إنكار لسمع الله . وإنكار لقدرة الله ، بل هذا الظن يتضمن ثلاث مفاسد :
المفسدة الأولى: نفي صفات الكمال المطلق عن الله .
المفسدة الثانية: أنه يناقض أسماء الله وصفاته .
المفسدة الثالثة: أنه تنقص لمقام الألوهية والربوبية .
وكذلك من ظن أن الله جل وعلا لا يستجيب له: أي إذا دعاه أو لا يجازيه على أعماله إذا عبده إلا بواسطة تُطْلعه على ذلك أو تقربه زلفى إلى الله ، فإذا أراد أن يدعو جعل بينه وبين الله واسطة تطلعه على ذلك وإذا أراد أن يعبد الله عبد غيره ليكون زلفى إلى الله ، فهذا قد ظن بالله ظن السوء ، وهذا شرك بالله رب العالمين .
وكل مشرك مسيء للظن برب العالمين ، وليس كل مسيء للظن مشركاً .
- - -
فإنه إن ظن أنه لا يعلم ، أولا يسمع إلا بإعلام غيره له وإسماعه فذلك نفي لعلم الله ولسمعه وكمال إدراكه ، وكفى بذلك ذنبا .
(1) سواء كان الظن هنا بمعنى اليقين ، أو بمعنى التردد .
(2) فإن هذا الذنب تكذيب لله رب العالمين ، فإن الله جل وعلا يقول: { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم } في هذه الآية إثبات صفة السمع لله جل وعلا ، وأن الله يسمع السر وما أخفى ، ويسمع دبيب النمل . كما أن علمه محيط بكل شيء ، ويعلم الكليات والجزئيات وهذا مما أجمع عليه المسلمون ، فهذا مستقر في الفطر التي لم تجتالها الشياطين ، وقال تعالى أيضاً : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } سمعهم وهو فوق سماواته مستوٍ على عرشه { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } ، وقال تعالى: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع يصير } قد: حرف تحقيق هنا .(1/199)
وقوله { قد سمع } فيه إثبات صفه السمع لله جل وعلا ، وبعدها { والله يسمع تحاوركما } وهذا مما اتفق عليه أهل العلم .
خلافاً للمعتزلة فإنهم يقولون: إن الله عليم بلا علم ، سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر ، وهذا باطل ولا يصح تصوره في العقل ، لأنه لا يمكن أن يقال إن الله سميع بلا سمع ، ولا عليم بلا علم ، فكيف كان عليم إذا كان بلا علم ولا رحيم بلا رحمة ، ولا بصير بلا بصر ، هذا لا يمكن أن يقال به .
والكتاب والسنة يردان هذا القول أي يبيِّنان بطلانه .
فإن الله جل وعلا سميع ويسمع ، بصير ويبصر ، عليم ويعلم وعلمه أحاط بكل شيء .
وهو العليم أحاط علماً بالذي ... في الكون من سرٍ ومن إعلان
وبكلِ شيءٍ علمه سبحانه ... فهو العليم وليس ذا نسيان
وقال تعالى: { لا يضل ربي ولا ينسى } .
- - -
وإن ظن أنه يسمع ويرى ولكن يحتاج إلى من يُلَيِّنُهُ ويُعَطِّفُهُ عليهم فقد أساء الظن بأفضال ربه وبره وإحسانه وسعة جوده ، وبالجملة فأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به ولهذا يتوعدهم في كتابه على إساءة الظن به أعظم وعيد ، كما قال تعالى: { الظانين بالله ظن السوء عليهم دائِرةُ السوء .
(1) كأحوال الملوك ونحوهم ، فإنهم بحاجة إلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة ، لأنهم لا يعلمون عواقب الأمور ، ولأنهم قد تخفى عليهم الحِكَم والمصالح لأنهم ينسون ويجهلون ويعتريهم ما يعتري سائر البشر .فالذي يظن أن الله لا يسمع أو أنه يسمع ويرى ولكنه يحتاج إلى من يُليِّنُه فقد شبه المخلوق بالخالق ، وهذا يقتضي نفي كمال القدرة عن الله تعالى ، ويقتضي أيضاً عدم غناه المطلق عن كل أحد ، وهذا باطل شرعاً وعقلاً وفطرةً . وهذا أيضاً كما أشار إليه المؤلف في قوله (( فقد أساء الظن بأفضال ربه وبره وإحسانه وسعة جوده )) .
(2) وفوق هذا كما تقدم يقتضي نفي كمال القدرة عن الله ، ويقتضي أن الله يشرع الأمور ويقدرها بدون حكمه .(1/200)
فإن من معاني أسماء الله الحكيم الذي يعلم بواطن الأمور وظواهرها ، وعواقبها ، فلا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء .
(3) ولو قيل: فإن من أعظم الذنوب عند الله لأنه قد تقدم أن كل مشرك مسيء للظن بالله ، وأن إساءة الظن لا تستلزم الشرك .
فقد يسيء الظن بالله بأنه لا ينصر أولياءه ولا يعلي كلمته فحينئذٍ لم يكن مشركاً وإن كان هذا كفراً ، وهذا على القول الصحيح بالتفريق بين الشرك وبين الكفر ، فكل مشرك كافر وليس كل كافر مشركاً لقوله تعالى: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } فالكفر كسب الله وكسب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكإنكار المعاد . والشرك كأن يدعو مع الله إله آخر ، وكأن يسجد للصنم ، وكأن يذبح للصنم ، وكأن يطوف على القبور ولكن بالجملة فمن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به .
(4) قبل هذه الآية الله جل وعلا يقول: { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء } فكل مشرك وكل منافق قد ظن بالله ظن السوء وقوله: { الظانين بالله ظن السوء } لأنهم يتهمون الله جل وعلا في حكمه وشرعه ، ويظنون أن الله لن ينصر رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين فوعدهم الله بقوله: { عليهم دائرة السوء } أي بالعذاب والهلاك .
- - -
وغضب الله عليهم ولعنهم وأُعدَّ لهم جهنَّم وساءت مصيرا } .
وقال تعالى عن خليله إبراهيم - عليه السلام - : { أئِفكاً آلهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين } .
((1/201)
1) فيه إثبات صفة الغضب لله جل وعلا ، وأهل السنة الجماعة كما يثبتون لله صفة الرحمة يثبتون لله صفة الغضب ، إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بها تعطيل ، لأن الله جل شأنه وعز سلطانه { ليس كمثله شيء } لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله { وهو السميع البصير } { ليس كمثله شيء } رد على الممثلة { وهو السميع البصير } ردٌ على المعطلة الذين يقولون إذا أثبتنا لله الرحمة وأثبتنا لله الغضب فقد شبهنا المخلوق بالخالق ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً .
وهذا في الحقيقة يقتضي التشبيه ، هم فروا الآن من التشبيه ووقعوا في التشبيه ، ظنوا أن صفات الله تشابه وتماثل صفات المخلوق ففروا من هذا فوقعوا فيما فروا منه .
ولهذا قيل المعطل يعبد عدماً ، والمشبه يعبد وثناً .
يقول ابن القيم رحمه الله في ذكر عقيدة أهل السنة الجماعة .
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا ... إن المشبه عابد الأوثانِ
كلا ولا نخليه من أوصافه ... إن المعطل عابد البهتانِ
من شبه الرحمن العظيم بخلقه ... فهو الشبيه بمشرك نصرانِ
أو عطل الرحمن عن أوصافه ... فهو الكفور وليس ذا الإيمانِ
(2) أي لعن الظانين بالله ظن السوء .
(3) ( أئفكاً ) : الهمزة هنا للاستفهام الإنكاري التوبيخي ، لأن الهمزة قد تأتي للتقرير { ألم نشرح لك صدرك } الهمزة هنا للتقرير.
والإفك في اللغة: هو الكذب والباطل ، وقيل الإفك: أسوءُ الكذب .
والمعنى أتعبدون آلهة من دون الله من أجل الإفك .
فقدم المفعول من أجله على المفعول به { فما ظنكم برب العالمين } .
- - -
أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا عبدتم معه غيره ، وظننتم أنه يحتاج في الاطلاع على ضرورات عباده لمن يكون بابا ًللحوائج إليه ونحو ذلك ؟.
((1/202)
1) وضح الله جل وعلا جزاء هؤلاء المشركين في مواضع من القرآن { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنّة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } ، فإن الإنسان لو كان يصلي ويصوم ويزكي ويحج ويعبد معه غيره ذهبت أعماله أدراج الرياح .
فإن هذا الشرك يحبط الأعمال كالحدث يبطل الصلاة ، لا تصح الصلاة بالحدث ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) والحديث في الصحيحين ، كذلك الشرك يبطل الأعمال .
فإن الشرك يناقض أصل الإيمان ، يناقض ما جاءت به الرسل وما نزلت من أجله الكتب .
فإن الذي يدخل به العبد في الإسلام أشياء كثيرة ، لا بد من النطق بالشهادتين ، لا بد من اعتقاد أركان الإيمان ، لا بد من العمل بأركان الإسلام ، لكن الذي يخرج به العبد من الإسلام لا يشترط أن تكون شعب متعددة .
شيءٌ واحد يفعله الإنسان يخرج به من الإسلام، ولو لم يقصد الكفر، لأن قصد الكفر لا يكاد يريده أحد .
إذ لا يتصور شخص يقول أريد أن أكفر إلا الملاحدة الزنادقة والذين لا يؤمنون بالله أصلاً .
قال تعالى: { قل أبا الله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } . ما قصدوا الكفر ، لكن قصدوا الاستهزاء ، وقصدوا الفعل .
ففرق بين قصد الفعل وبين قصد الكفر .
وقصد الفعل هو الكفر إذا كان الفعل مما يكفر به الشخص وكل من قال أو فعل ما هو كفرٌ صريح كفر بذلك ، وإن لم يقصد أن يكون كافراً ، إذ لا يشاء هذا أحدٌ من العالمين .
وبعض الناس يتصور أن الرجل إذا نطق بالشهادتين لا يمكن تكفيره ولو عبد مع الله إله آخر وهذا باطل بالكتاب والسنة والإجماع ، الأصل في النطق بالشهادتين أن تستلزم البراءة من كل معبود سوى الله ، لكن بعض الناس ينطق بالشهادتين ولا يفهم ما دلتا عليه من إبطال الشرك .
فلا إله: تقتضي البراءة من كل معبود سوى الله .
لا إله: نافياً جميع ما يعبد من دون الله .(1/203)
لكن يقول لا إله إلا الله ويعبد البدوي ، يقول لا إله إلا الله ويطوف حول قبر عبد القادر الجيلاني ، يقول لا إله إلا الله وإذا ألمت به ملمة قال يا علي أو يا حسن أو يا حسين وهذا كله من الشرك الأكبر
الذي لا يغفره الله جل وعلا إلا بالتوبة قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } .
ولهذا ذكر الله جل وعلا مثلاً في القرآن مطابقاً لحال المشركين المتعلقين بغيره فقال: { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور * حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكانٍ سحيق } .
- - -
وهذا بخلاف الملوك فإنهم محتاجون إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم وضعفهم وقصور علمهم عن إدراك حوائج المضطرين .
(1) الملوك محتاجون للوسائط لأسباب :-
السبب الأول: عدم الكمال المطلق .
السبب الثاني: عدم الإحاطة ببواطن الأمور وظواهرها ، بل لا يمكن للمخلوق أن يحيط ولا بظواهر الأمور ناهيك عن بواطن الأمور .
السبب الثالث: العجز والضعف .
السبب الرابع: قصور العلم عن إدارك حوائج المضطرين .
وأشياء كثيرة المستلزمة للضعف البشري .
- - -
فأما من لا يشغله سمعٌ عن سمع ،وسبقت رحمته غضبه ، وكتب على نفسه الرحمة ، فما تصنع الوسائط عنده ؟.
فمن اتخذ واسطة بينه وبين الله تعالى فقد ظن به أقبح ظن ومستحيل أن يشرعه لعباده بل ذلك يمتنع في العقول والفطر .
(1) مليارات البشر يسألون الله جل وعلا في آن واحد لا يشغله سمع عن سمع ولا تختلف عليه الأصوات ، ولا تشتبه عليه ، يعلم سؤال هذا ودعاء هذا دون أن يفلته شيء ، قال تعالى: { وسع كرسيه السموات والأرض } { ولا يحيطون بشيء من علمه } وقال تعالى: { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } .
(2) الحديث في ذلك في الصحيحين ، وهذا مما اتفق عليه أهل العلم مثل السمع والرحمة والغضب .
((1/204)
3) قال تعالى: { إن رحمة الله قريب من المحسنين } ، ورحمة الله جل وعلا لا تنال الكفرة والمشركين بحيث يكونون من الناجين ، هذا لا يقول به مسلم فإن المشرك مخلد في النار .
(4) إذا كانت هذه عظمة الله ، وهذه قدرة الله ، إذا كان هذا سمع الله ، وهذه رحمة الله ، فما تصنع الوسائط عنده ؟!!
وأيضاً إذا عرفنا عجز المخلوق ، وضعف المخلوق ، وفقر المخلوق ، وعدم قدرة المخلوق ، فكيف نلجأ إلى المخلوق ونَدعُ ربَّ المخلوق ؟!
الله جل وعلا قال: { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } وقال: { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } .
فالله هو الذي يرزق ، وهو الذي يُعز ، وهو الذي يُذل ، وهو الذي يُغني ، وهو الذي يُفْقر ، وهو الذي ينفع ، وهو الذي يضر . وأما المخلوق فلا يستطيع أن يجلب لنفسه نفعاً ناهيك عن أن ينفعك ولا يستطيع أن يجلب لغيره ضراً ناهيك عن أن يدفع ذلك عن نفسه .
(5) لأنه ظن أن الله لا يسمع ولا يرى ولا يبصر ، وأنه محتاج إلى غيره ، وظن أن ليس له الكمال القدرة من حيث الإطلاق ، وغير ذلك من اللوازم التي تستلزم سوء الظن بالله جل وعلا .
(6) ثم أكَّد المؤلف رحمه الله تعالى على مسألة مهمة فقال: واعلم .
- - -
واعلم أن الخضوع والتأله الذي يجعله العبد لتلك الوسائط قبيح في نفسه كما قررناه لاسيما إذا كان المجعول له ذلك عبداً للملك العظيم الرحيم القريب المجيب ومملوكاً له كما قال تعالى: { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم .
(1) تقدم أن الخضوع بمعنى الذل ، التأله هو العبادة . وتقدم الحديث عن الذل والحب ، وأنهما لا يجتمعان إلا لله الواحد القهار .
فإن العبد قد يذل لمخلوق لكن لا يحبه ، وقد يحبه ولكن لا يذل له . فمن جمعهما لغير الله فقد شبه المخلوق بالخالق .
(2) وقد تقدم قبح الشرك عقلاً وفطرةً .
((1/205)
3) هذه الأمثال المذكورة في القرآن لا يعقلها إلا العالمون ، كما قال تعالى: في سورة العنكبوت { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } وقد كان بعض السلف يبكي إذا قرأ مثلاً ولم يفهمه ويقول لست من العالمِين .
وقد ذكر الله في القرآن بضعةً وأربعين مثلا ، والمقصود من هذه الأمثال تأكيد معنى أو بيان غاية ، وتقريب الشيء من الشيء والمعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر أو غير ذلك .
والناس يتفاوتون في معرفة الأمثال والمقصد من المثل ، وفوائد المثل ، على حسب علومهم وفهومهم وإيمانهم ، وعنايتهم بهذا الشيء ، فإن العبد إذا جعل من نفسه عناية بهذا العلم تحصل له شيء كثير عظيم ولاسيما الأمثال في القرآن .
وللإمام ابن القيم شرح على الأمثال في القرآن وهو مطبوع في كتاب مستقل (( الأمثال في القرآن )) وابن القيم ما ألفه كتاباً مستقلاً ولكن استخرج فيما بعد ووضع في كتاب مستقل ، فحريٌ بطالب العلم أن يقرأ هذا الكتاب وأن يتأمل فيه ، وأن ينظر فيه ليعقل عن الله أمره .
- - -
هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء ، في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } أي إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه في رزقه فكيف تجلعون لي من عبيدي شركاء فيما أنا منفرد به ، وهو الإلهية التي لا تنبغي لغيري ، ولا تصلح لسواي ، فمن زعم ذلك فما قدرني حق قدري ولا عظمني حق تعظيمي .
وبالجملة فما قدر الله حق قدره من عبد معه من ظن أنه يوصل إليه قال تعالى: { يا أيها الناس ضرب مَثلٌ فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً.... } الآية .
(1) أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم فأنتم وهم في ذلك سواء .
(2) قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى وغيره :
أي تخافون أن يشاركوكم في أموالكم ويقاسموكم ، كما يخاف الحر شريكه الحر في المال يكون بينهما أن يتفرد فيه بأمر دونه .(1/206)
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أن هذا دليلُ قياس ، احتج الله جل وعلا به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم حجةً يعرفون صحتها من نفوسهم ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم .
(3) فاستمعوا له: أي انصتوا وتفَهَّموا ، كي تعقلوا عن الله أمره وتتقون فيما بعد .
(4) وهذه المثل عظيم ، وهو من أعظم الأمثلة الواردة في القرآن لقطع عروق الشرك ، فحقيق على كل إنسان أن يتأمل هذا المثل ، ويتدبره ، ويعيه ويعرف معناه فإنه مبطل لكل شرك .
فالآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق ذباب واحد ولا تقدر على مقاومته لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب ونحوه .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعلى عن هذا المثل وقال:
وهذا المثل من أبلغ من ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك ، وتجهل أهله وتقبيح عقولهم والشهادة على أن الشياطين تتلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكره .
قوله ( ضعف الطالب والمطلوب ) :-
الطالب: هو الصنم ، والمطلوب: الذباب وهذا قول ابن عباس وطائفة من المفسرين ، وقيل الطالب : العابد ، والمطلوب: الصنم ونحوه .
والصحيح أن اللفظ يتناول هذا وذاك ، فعاجزٌ متعلق بعاجز ، ففيه تسوية بين العابد والمعبود الباطل ، أو بدون حق في الضعف والعجز ولهذا قال جل وعلا { ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز } .
- - -
إلى أن قال: { ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز } .
وقال تعالى: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه .
(1) أي لأن من قدر الله حق قدره لم يعبد معه غيره ، ولم يتوكل إلا عليه ولم يدعوا سواه .
تقدم أن حقيقة العبادة هي فعل الأوامر واجتناب النواهي ، أو على قول شيخ الإسلام أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .
(2) { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته }(1/207)
حق: نصب بالنصب على أنه نائب مفعول مطلق .
والأرض: الواو هنا للحال ، الأرض: مبتدأ والخبر قبضته .
(3) قوله: { والأرض جميعاً قبضته } : فيه إثبات اليد لله جل وعلا ، ولله يدان وكلتا يدي ربي يمين كما قال تعالى: { بل يداه مبسوطتان } ولا يصح تفسير اليد بالنعمة ، فإن نعم الله متعددة قال تعالى: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } حينما قال الله جل وعلا: { بل يداه مبسوطتان } لا يمكن تفسير اليد أو اليدين هنا بالنعمة .
فإثبات اليدين لله جل وعلا مما أجمع عليه الصحابة والتابعون وأهل السنة ، وقد جاء في الصحيحين من طريق الزهري عن سعيد ابن المسيَّب عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( يقبض الله تبارك وتعالى الأرض ـ أي يوم القيامة ـ ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض ) .
- - -
سبحانه (1) وتعالى عما يشركون } (2) .
فما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل .
(1) قال الله تعالى جل وعلا { سبحانه } : سبح الله جل وعلا نفسه عما يقوله ويفعله المشركون .
(2) وتقدم أن الشرك يكون بالألفاظ ، ويكون بالأفعال ، وقد يكون بالترك كترك الصلاة ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى ذلك شركاً ، وهذا ظاهر القرآن ، قال تعالى: { وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين } . وفي صحيح الإمام مسلم من حديث ابن جريح عن أبي الزبير الملكي عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة ) .
والكفر إذا عُرف بالألف واللام سواء كان هذا في كلام الله أو كلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالمقصود به الأكبر ، ولا يصح حمل ذلك على الأصغر إلا بنص صريح في ذلك .
وقد تقدم أيضاً أنه لا يشترط في فعل الشرك الاستحلال ، فإن الاستحلال كفر ولو لم يفعل شيئاً ، فإن العبد إذا استحل محرماً مجمعاً عليه كفر ، ولو لم يفعل هذا المحرم .(1/208)
أما الشرك فبمجرد الفعل يكفر العبد بذلك ، ما لم يمنع من ذلك مانع الإكراه أو التأويل الذي له وجه في اللغة والعلم أو الجهل المعتبر .
فليس كل جهل معتبرا .
- - -
واعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال والبدع وجدت أصل ضلالهم راجعاً إلى شيئين .
أحدهما: ظنهم بالله ظن السوء .
الثاني: أنهم لم يقدروا الرب حق قدره (1) .
(1) المؤلف رحمه الله تعالى يرى أن الانحراف القائم في كثير من أهل الضلال والبدع يرجع إلى أمرين :
الأمر الأول: ظنهم بالله ظن السوء .
وقد تقدم أن الظن يطلق على اليقين كقوله تعالى: { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } ويطلق على تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر ، ويأتي بمعنى الشك وهو التردد في الشيء وقد قال تعالى: { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } قد كان ظن هؤلاء أنهم يتهمون الله جل وعلا في حكمه ويظنون بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أن يقتلوا وأن تذهب دولتهم ولا يكون لهم أثر .
وأهل العلم يختلفون في تقعيد أسباب الضلال: وقد يقال بأن هذه الأمور نسبية ، قد يكون من أسباب الضلال عند القدرية كذا وكذا ، ولكن يكون من أسباب الضلال عند الأشاعرة كذا وكذا مغايراً لأسباب الضلال الموجودة عند القدرية .
ولكن في الجملة أسباب الضلال عند كل طائفة لا تختلف طائفة عن أخرى ، هي عدة أمور:
الأمر الأول: قلة الفهم لكلام الله عز وجل وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
الأمر الثاني: تعظيم الرأي ، وتعظيم العقل حيث يعطى فوق قدراته وفوق طاقته كما صنعت المعتزلة والأشاعرة حين قدموا العقل على النقل .
ونحن نعلم أن العقول تتفاوت يتفاوت إدراكُها ، يتفاوت تنظيرها بتفاوت فهمها ، ولو لم تتفاوت العقول ما اختلف البشر .(1/209)
الأمر الثالث: الهوى ، فإنه يصد عن الحق ، وهو من أعظم أسباب الضلال و الانحراف في الأمور العقدية وغيرها .
وهذه الأمور تقل عند أُناس وتكثر عند آخرين ، ولا يمكن تطبيقها على كل فرد ، أو إتهام كل فرد منحرف بمثل هذه الأمور ، لكن هي في الجملة من أسباب الضلال والانحراف .
وقد يرجع ضلال هؤلاء وانحرافهم إلى الأمرين اللذين ذكرهما المؤلف الأول: ظنهم بالله ظن السوء ، فمقلٌ من ذلك ومستكثر .
الثاني: أنهم لم يقدروا الله حق قدره كما قال الله جل وعلا: { ما قدروا الله حق قدره إن الله لقويٌ عزيز } , وكما قال تعالى: { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطوياتٌ بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } .
- - -
قلم يقدره حق قدره من ظن أنه لم يرسل رسولاً ، ولا أنزل كتاباً ، بل ترك الخلق سدىً وخلقهم عبثا
(1) فإن هذا طعن في حكمة الله عز وجل وفي قدرته وهذا جهل بأسماء الله وصفاته وآثارها ، وهذا جهل بالتاريخ قال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
ولقد بعثنا: أي أرسلنا وأوجدنا .
في كل أمة: أي في كل طائفة وجماعة .
رسولا: والرسول: بشر أُوحي إليه بشرع جديد وأُمر بتبليغه .
أن اعبدوا الله: أي يأمرهم بعبادة الله ، ويأمرهم باجتناب الطاغوت .
والعبادة: هي اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .
وقد قيل في معنى قوله تعالى: { أن اعبدوا الله } أي وحدوا الله ، والفطر تتجاوب مع التوحيد .
وحينئذٍ لا يمكن أن يُخْلِي الله جل وعلا الأرض من رسول يدعوهم إلى الله ويحذرهم من بطش الله وعقابه وانتقامه ممن عصاه وخالف أمره وقال تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } .
فمن ظن أن الله جل وعلا لم يرسل رسولا فقد ظن بالله ظن السوء ، ومن ظن أن الله جل وعلا ما أنزل كتاباً على الرسول فقد ظن بالله ظن السوء .(1/210)
وبالجملة من اعتقد أنَّ الله ترك الخلق سدى وخلقهم عبثاً فقد ظن بالله ظن السوء ، وقد توعد الله جل وعلا هؤلاء بقوله: { عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } وهؤلاء لم يؤمنوا بالله ولم يؤمنوا بما جاء عن الله وقد قال تعالى: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } .
أفحسبتم: معشر الجن والإنس .
أنما خلقناكم: أي أوجدناكم حين لم تكونوا شيئا ، أوجدناكم وجعلنا لكم السمع والإبصار والأفئدة ، لم نوجدكم عبثا .
أفحسبتم أيضاً أنكم إلينا لا ترجعون ، كلا بل خلقناكم لحكمه وأوجدناكم لغاية ، قال تعالى: { وما خلت الجن والإنس إلا ليعبدون } . أي إلا ليوحدون ، وقيل: إلا لآمرهم وأنهاهم وهذا قول مجاهد وطائفة من المفسرين ، والقول الأول هو قول ابن عباس وطائفة من المفسرين ، ولا تنافي بين القولين .
وقال تعالى: { أيحسب الإنسان أن يُترك سدى } أي لا يؤمر ولا ينهى فمن ظن بالله ذلك فقد ظن بالله ظن السوء .
فالله جل وعلا ما ترك خلقه سدى وما خلقهم عبثا ، خلقهم ليعبدوه فمن اتبع رضوان الله وأطاع الله وأمتثل ما جاءت به الرسل ومات على ذلك فقد فاز فوزاً عظيماً .
ومن تنكب عن الصراط المستقيم وأغواه الشيطان وأضله واتبع هواه وآثر دنياه على دينه فقد ضل ضلالاً مبينا .
وبعد ذلك يحصل الجزاء والحساب فمن أطاع فله الجنة ومن عصى فله النار .
وقد جاء في صحيح الإمام البخاري رحمه الله من طريق فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: يا رسول الله ومن يأبى ، قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى ) .
- - -
ولا قدره حق قدره من نفى عموم قدرته ، وتعلقها بأفعال عباده من طاعاتهم ومعاصيهم ، وأخرجها عن خلقه وقدرته .
((1/211)
1) وذلك كالقدرية الذين يخرجون أفعال العباد عن خلق الله وتقديره وهؤلاء نفاة القدر شر القدرية . وفيهم من نفى تقدير الشر دون الخير فقالوا عن الخير بأنه من الله وعن الشر بأنه من العبد .
وهذا نفيٌ لأَنَ يكون الله هو المتفرد بالتصرف والخلق .
وقد تقدم أن هذا المذهب الخبيث راجعٌ إلى مذهب المجوس القائلين بوجود خالقين، خالق للخير وخالق للشر .
والقدرية منهم من يقول بأن العبد يخلق فعل نفسه ، ومنهم من يقول بأن: الخير من الله والشر ليس منه ، ومن قال ذلك فقد ظن بالله ظن السوء ولا قدر الله حق قدره ، وهم يقرءون القرآن ، ويقرءون قول الله جل وعلا: { ما قدر الله حق قدره إن الله لقويٌ عزيز } ويقرءون قول الله جل وعلا: { وما قدر الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } ولكن هذا أمرٌ نظري ولا يطبقونه عملياً في واقعهم ، وفي عقائدهم وفي أعمالهم وفي سلوكهم ، وقد يعتقدون أنهم على الحق وأنهم على الصواب .
فلا تظن أن أهل البدع والضلال لا يستدلون بأدلة ، ومن ظن ذلك فقد أخطأ .
فما من صاحب بدعة ولا صاحب باطل إلا وله منزع من دليل ، وهذا المنزع قد يكون ناتجاً عن شبهه ، وقد يكون ناتجاً عن هوى ، وقد يكون ناتجاً عن أشياء أخرى .
فحين جاءت الرسل بالدلالات والبينات والحجج والواضحة التي يؤمن على مثلها البشر ، انتدب لمعارضتهم بعض أغبياء العالم وفرحوا بما عندهم من العلم ، كما أخبر الله جل وعلا بذلك عنهم فهؤلاء يستدلون بأدلة ولهم شبه ، وكما قال جل وعلا: { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } .
ما يأتي صاحب بدعة ببدعة إلا في القرآن ما يبطلها ويبيِّن عوارها ، المقصود التنبيه على أن صاحب الباطل قد يأتي بدليل ، وحينئذٍ لا يتصور المرء أنه على الحق ، أو أنَّ لقوله حظاً من النظر .(1/212)
فهذه أقوال فاسدة دل الشرع والعقل على فسادها . وهذا يقتضي نفي قدرة الله جل وعلا فإذا كان الخير مخلوقاً لله والشر غير مخلوق يقتضي نفي قدرة الله على ذلك ، وهذا يقتضي أيضاً إيجاد خالق مع الله إذا كان الشر غير مخلوق لله والعبد يخلق فعل نفسه فهذا يقتضي إيجاد خالق مع الله كما تزعمه الثانوية والمجوس حيث يثبتون خالقين خالقاً للنور وخالقاً للظلمة .
وليس هناك طائفة من الطوائف ولا فرد من الأفراد يقول بأن خالق الظلمة مساوي لخالق النور ، بل يفضِّلون خالق النور ويقدمونه وهم مشركون في هذا حيث جعلوا مع الله خالقاً آخر .
قال تعالى: { ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عمَّا يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون } .
جعله الله جل وعلا شركا وهذا واضح وأدلته كثيرة ولا ينازع فيه مسلم .
- - -
ولا قدر الله حق قدره أضداد هؤلاء الذين قالوا: إنه يعاقب عبده على ما لم يفعله بل يعاقبه على فعله هو سبحانه .
(1) وهذا ضلال وانحراف ، وقد دل السمع والعقل على فساده ، فقد قال تعالى : { وما ظلمناهم } وقال تعالى: { ولا يظلم ربك أحدا } . وقال تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } .
وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم ، يقول الله تعالى: ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ) فالله جل وعلا حرَّم الظلم على نفسه ، ونهى العباد عن التظالم فيما بينهم فمن قال (( بأن الله يعاقب العبد على ما لم يفعله )) فقد وصف ربه بالظلم ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
ومن ذلك أيضاً من قال: بأن الله جل وعلا يعاقبه على فعله سبحانه .
((1/213)
2) وهذا يوجد في كثير من طوائف الجبرية حيث يسلبون العبد اختياره وقدرته ، ويجعلونه مجبوراً على حركاته من جنس حركات الجمادات فيجعلونه يفعل ما يفعل من المعاصي بدون إرادة ، ويعذبه الله على ذلك تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً .
ومن هؤلاء من يقول بأن العبد ليس بفاعل حقيقة ولكنه كاسب فيجعلون الكسب مقدوراً للعبد ، ويثبتون له قدرة لا تأثير لها على المقدور ، وهذا كلام متناقض لا يمكن قبوله عقلاً .
وأول من حُفِظ عنه هذا الرأي المتناقض ، والقول بأن العبد مجبور ، وأنه لا فعل له أصلاً وليس بقادر هو الجهم بن صفوان .
- - -
وإذا استحال في العقول أن يجبر السيد عبده على فعل ثم يعاقبه عليه ، فكيف يصدر هذا من أعدل العادلين ؟
وقول هؤلاء شرٌ من أشباه المجوس القدرية الأذلين ، ولا قدره حق قدره من نفى رحمته
(1) فقوله: (( وإذا استحال في العقول )) لم يقل بأنه استحال في دنيا الواقع ، ولفظ المحال هو ما لا يقبله العقل ولا يصح في الشرع .
وقد عبر المؤلف رحمه الله تعالى باستحالته في العقول ، لأنه يوجد شيء من هذا في دنيا الواقع من الجبابرة والظلمة والطغاة والمجرمين لكن المؤلف قال استحال في العقول وهذا تعبيرٌ جيد ، والخطاب لأصحاب العقول السليمة .
أما أصحاب العقول المارجة التي لا تعي شيء من ذلك فهم أهلٌ للتناقضات ، وأهلٌ للانحرافات ، وأهلٌ للتجاوزات ولبئس الخطاب مع هؤلاء . ولقد أجاد المؤلف في هذا حين قال: (( وقول هؤلاء شرٌ من أشباه المجوس القدرية الأذلين )) .
(3) فإن الله جل وعلا قد أثبت لنفسه الرحمة ، فمن نفى عن الله ما أثبته لنفسه فقد ألحد وكابر ، وجادل بما تواترت أدلته . فإن الله هو أرحم الراحمين .
ومن ذلك من فسر الرحمة بإرادة الأنعام ونحو ذلك كصنيع الأشاعرة والمؤولة الضالين .
والذي اتفق عليه الصحابة والتابعون أنهم يثبتون لله جل وعلا صفة الرحمة ، ويذكرون بعد ذلك لوازمها وآثارها .(1/214)
فمن فسر الرحمة بإرادة الإنعام قبل أن يثبت الصفة وجعل اللازم هو المعنى المقصود من الصفة فقد قال مالا علم له بن ، ومن هؤلاء من قال: بأن الرحمة رقة القلب وهذه لا تكون إلا في المخلوق ، فحين نثبت الرحمة لرب العالمين فقد شبهنا المخلوق بالخالق وهذا ضربٌ آخر من ضروب الانحراف .
وسبب ضلالهم وانحرافهم في هذا الباب هو أنهم ما قدروا الله حق قدره ، حيث جعلوه كسائر خلقه . وربنا يقول: { ليس كمثله شيء } لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله { وهو السميع البصير } . فهم شبهوا أولاً ثم عطلوا ثانياً ثم شبهوا ثالثاً ، أصل ضلالهم من التشبيه ثم عطلوا حيث سلبوا الصفة ثم بعد ذلك شبهوا أي شبهوا الله جل وعلا الجمادات وبالمعدومات .
الله جل وعلا يقول: { الرحمن الرحيم } ومن غرائب فهم هؤلاء وعجائب أمرهم أنهم يثبتون لله حياة ، ويقولون أن هذه الحياة ليست كحياة المخلوق ونجيبهم على ذلك . فنقول: ما هو الدليل الذي دلكم على إثبات صفة الحياة ؟! وحين يجيبون.
فنقول: أن الدليل الذي دلكم على إثبات صفة الحياة هو الدليل الذي دل على إثبات صفة الرحمة .
فمن قال أن هذه الحياة ليست كحياة المخلوق ، فيقال وهذه رحمة ليست كرحمة المخلوق ، ومن الذي قال: بأن هذه الرحمة هي كرحمة المخلوق ، وقال بأن هذه الحياة ليست كحياة المخلوق هذا باطل لا يقوله عاقل .
فنثبت لله جل وعلا الحياة والقدرة ، ونثبت الرحمة والمحبة ، إثباتاً بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل .
لسنا نشبِّه وصفه بصفاتنا ... إن المشبِّه عابدُ الأوثانِ
كلا ولا نخليه من أوصافه ... إن المعطِّل عابدُ البهتانِ
من شبِّه الرحمن العظيم بخلقه ... فهو الشبيه لمشركٍ نصرانِ
أو عطَّل الرحمن عن أوصافه ... فهو الكفور وليس ذا الإيمانِ
- - -
ومحبته ورضاه
(1) فإن الجهمية ينفون محبة الله ، ويقولون: بأن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يكلم موسى تكليما .(1/215)
زعم ذلك إمامهم الجعد بن درهم ، وحين اشتهرت مقالته في الآفاق ، انتدب لرد كيده وضلاله أئمة الهدى ومصابيح الدجى فبيَّنوا هذا الضلال وهذا الانحراف ، وحين لم يجدي فيه هذا الأمر وكابر فيما دلت عليه الأدلة السمعية وتجاوبت معه الفطر ، قام عليه خالد القسري ، وقام في الناس خطيبا وقال:
(( يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم ، فإنه زعم أن الله ما اتخذ إبراهيم خليلاً ولا كلم موسى تكليماً )) وإلى هذا المعنى أشار ابن القيم رحمه الله في نونيته بقوله:
وقد ضحى بجعد خالد الـ ... قسري يوم ذبائح القربانِ
إذ قال إبراهيم ليس خليله ... كلا ولا موسى الكليم الدانِ
شكر الضحية كل صاحب سنةٍ ... لله درك من أخي قربانِ
وأسانيد قتل خالد القسري للجعد بن درهم فيها جهالة ، غير أن هذه الحكاية مشهورة ، وقد رواها بالإسناد الإمام الدرامي رحمه الله في الرد على الجهمية ، وهو قريب العهد من ذلك ، وتارة الشهرة والاستفاضة وتلقي الحفاظ لمثل هذه الأمور مغني عن الأسانيد .
والمقصود البيان لأن من نفى رحمه الله ومحبته ورضاه وغضبه فإنه ما قدر الله حق قدره .
والطريق الصحيح في هذا الباب: أن نثبت لله ما أثبته لنفسه ، الله جلا وعلا أثبت لنفسه الرحمة ، قال { الرحمن الرحيم } ، وأثبت الله جل وعلا لنفسه المحبة { يحبهم ويحبونه } وقال { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ، وأثبت الله جل وعلا لنفسه الرضا فقال { ورضوانٌ من الله أكبر } وقال: { رضي الله عنهم ورضوا عنه } ، أثبت الله جل وعلا لنفسه الغضب فقال: { غضب الله عليه } وقال: { غير المغضوب عليهم } ، من الذي غضب عليهم ؟! هو الله جل وعلا .
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إنَّ رحمته سبقت غضبه ) .
- - -
وغضبه ، وحكمته مطلقا وحقيقة فعله ، ولم يجعل له فعلاً اختيارياً ، بل أفعاله مفعولاته منفصلة عنه
((1/216)
1) فهذا ما قدر الله حق قدره بل ضل سواء السبيل .
وأفعال الله نوعان: لازمٌ ومعتدي .
فاللازم: مثل الاستواء والنزول ونحو ذلك ، والمتعدي مثل: الخلق ونحو ذلك . وكلاهما حاصل بمشيئة الله وقدرته وهي قائمة به وهو متصف بها .
وقد قالت الجهمية وطوائف من المعتزلة والأشاعرة والمتكلمين بأن الخلق هو نفس المخلوق ، وليس لله صنع ولا خلق إلا المخلوقات نفسها . وهذا باطل دل الشرع والعقل على فساده .
فالخلق غير المخلوق ، فخلق الله للسماوات والأرض وغيرهما فعلٌ له غير المخلوق ، والأفعال قائمة بالله تعالى ، فنثبت لله جل وعلا فعلاً اختيارياً ، ونقول: بأن الخلق غير المخلوق ومن سوَّى بينهما فما قدر الله جل وعلا حق قدره .
قال الله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } ، فقد فرَّق الله جل وعلا بين خلقه وأمره ، والفعل غير المفعول ، والخلق غير المخلوق ، هذا الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون ، واتفق عليه أهل السنة والجماعة .
والأدلة على هذا كثيرة وكما تقدم حتى العقل دل على هذا . والعقل فيه حاسة تميز ، فهو يميِّز بين الحق والباطل .
فمن قال بأن الله جل وعلا ليس له فعل اختياري ، بل أفعاله ومفعولاته منفصلة عنه فقد جهل جهلاً عظيماً ، ونفى قدرة الله جل وعلا ومشيئته ، وقال ودان بما دانت به الجهمية وغلاة المعتزلة والأشاعرة .
- - -
ولا قدره حق قدره من جعل له صاحبة وولداً أو جعله يَحِلَ في مخلوقات أو جعله عين هذا الوجود . ولا قدره حق قدره من قال: إنه رفع أعداء رسوله وأهل بيته ، وجعل فيهم الملك ، ووضع أولياء رسوله وأهل بيته ، وهذا يتضمن غاية القدح في الرب ، تعالى الله عن قول الرافضة .
(1) الصاحبة : الزوجة قال جل وعلا { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد }
((1/217)
2) كقول الاتحادية وقول أهل وحدة الوجود فمن قال ذلك فما قدر الله حق قدره فإن الله جل وعلا فوق سماواته مستوٍ على عرشه قال تعالى { وسع كرسيه السماوات والأرض و لا يؤوده حفظهما } أي لا يثقله قال تعالى { وهو العلي العظيم } فلله جميع أنواع العلو علو الذات وعلو القدر وعلو الشرف .
(3) قوله: (( أهل )) يحتمل النصب ، ويحتمل الخفض عطفاً على رسوله ولكل منهما وجه صحيح .
(4) الله جل وعلا يرفع أولياءه ، ويخفض أعداءه هذا الذي دلت عليه الأدلة كتاباً وسنة ، وهذا الذي يقتضيه النظر والعقل الصحيح ، فإنه يستحيل في العقول أن يرفع السيد عبده العاصي ويقربه بدون حاجةٍ إليه , وأن يُبْعِدَ عبده المطيع وهو بحاجة إليه ونحو ذلك ؟! فالعاقل يقرِّب من كان تحت أمره وتحت سيطرته ويطيعه ولا يعصيه ، ويباعد من كان يتخلف عن أمره إذا بعثه في حاجة لم يمتثل أو تأخر ، هذا حريٌ بالإبعاد عند أصحاب العقول .
فما قدر الله حق قدره من قال بأن الله جل وعلا يرفع أعداء رسوله ويجعل فيهم الملك . و يضع أولياء رسوله فهذا غاية التنقص بالله رب العالمين ، قال الله جل وعلا: { أفنجعل المسلمين كالمجرمين * مالكم كيف تحكمون } ، أفلا تعقلون ، فإن العقل دل على فساد هذا ومعاذ الله أن يسوِّي ربنا جل وعلا بين المسلمين والمجرمين .
فإن الله جل وعلا يرفع أولياءه ويخفض أعداءه .
- - -
وهذا مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين إنه أرسل ملكاً ظالماً فادعى النبوة وكذب على الله ومكث زمناً طويلاً يقول أمرني بكذا ونهاني عن كذا ويستبيح دماء أنبياء الله وأولياءه وأحبابه والرب تعلى يظهره ويؤيده ويقيم الأدلة والمعجزات على صدقه ويقبل بقلوب الخلق وأجسادهم إليه ويقيم دولته على الظهور والزيادة ويذل أعداءه أكثر من ثمان مئة عام .
فوازن بين قول هؤلاء وقول إخوانهم من الرافضة تجد القولين سواء .(1/218)
ولا قدره حق قدره من زعم أنه لا يحيى الموتى ، ولا يبعث من في القبور ، ليبين لعباده الذي كانوا فيه يختلفون ، ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين .
(1) ومشابهة الرافضة لليهود لا تقتصر على هذا الموضع ، ولا على هذا التشابه ، فالأمر أكبر من ذلك ، وأوجه التشابه كثيرة جداً .
ولا عجب في ذلك فالمذهب الرافضي أو الدين الرافضي قد وضعه اليهود ومن أوجه التشابه أن الرافضة يضاهون اليهود الذين قذفوا مريم بنت عمران بالفاحشة بقذف عائشة أم المؤمنين المبرأة في كتاب الله ومن ذلك اليهود ينسبون الندم والحزن إلى الله وأن الله لا يعلم ما سيؤول إليه الأمر ، والرافضة ينسبون البدء لله وهو عقيدة من عقائدهم وهذا يقتضي نسبة الجهل لله تعالى .
وأوجه التشابه بين هذا المذهب الملعون وبين قول اليهود واضح .
(2) قال تعالى: { أولم يرى الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم } الآيات .
وقال تعالى: في الرد على المشككين في البعث { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم } .
هذه أدلة عقلية وسمعية بأن الله جل وعلا يُحيي الموتى ويبعث من في القبور ، ومن قال بأن الله لا يحي الموتى أو لا يبعث من في القبور فقد ظن السوء ، وكفر بقوله ، قال تعالى: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئن بما علمتم وذلك على الله يسير } .
تأمل في قول الله جل وعلا { أولم يرى الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يُحي العظام وهي رميم } ، إذاً من الذي أحياك ؟! ومن الذي أوجدك(1/219)
قال الله جل وعلا: { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجلٍ مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم } .
الله جل وعلا يخاطب عباده بذلك ويكلمهم بما يعقلون وبما يعون ، وبما يشاهدونه في أنفسهم قال تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } .
- - -
وبالجملة فهذا بابٌ واسع
(1) وهو باب عظيم حريٌ بطالب العلم أن يتأمله وأن ينظر فيه :
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجياً
، ومن آمن بالله ، وتأمل في هذا الباب ازداد إيمانه وعظم يقينه وتقرب لربه جل وعلا بما أمكن ، فإن الله جل وعلا حَكمٌ عدل ، فالله أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعدل العادين قال تعالى: { ولا يظلم ربك أحدا } والفطر تتجاوب مع من كان أرحم الراحمين وأعدل العادلين ، فقد جُبلت النفوس على حب من أحسن إليها ، وأيٌ أحسان أعظم من كونه خلقك ورزقك ، وجعلك سميعاً بصيرا ، وأرسل إليك رسولاً ، وأنزل إليك كتاباً ووعدك بالإثابة إن طلعت ، وتوعدك بالعقاب إن عصيت . أي عدلٍ أعظم من هذا .
- - -
والمقصود: أن كل من عبد مع الله غيره فإنه عبد شيطاناً ، قال تعالى: { ألم اعهد إليكم بابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عبدو مبين }
(1) فقوله: { أن لا تعبدوا الشيطان } قيل بمعنى: أن لا تطيعوا الشيطان فالعبادة هنا بمعنى الطاعة كما قال تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له } .
{ اتخذوا أحبارهم } بحيث يطيعونهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال ويتابعونهم على ذلك . : { ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم ... } وقد أمرهم الله جل وعلا بطاعته وتوحيده فاجتالتهم الشياطين عن ذلك فأطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال .(1/220)
وقال تعالى: { قل يا أيها الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .
وقد فسرت هذه الآية { أن لا تعبدوا إلا الشيطان } بأن العبادة حقيقية وقد شهد على ذلك الواقع .
فمنذ بضعة أعوام وُجِد في بعض البلاد العربية ، وذكرت ذلك الصحف ، ونشر عبر وسائل الإعلام أن هناك ، جماعات يعبدون الشيطان حقيقة فيتصورونه ويتمثلونه ويعبدونه .
فهذا يبين لنا أن الآية تشمل النوعين .
فقوله: { أن لا تعبدوا الشيطان } بمعنى أن لا تطيعوا الشيطان وبمعنى أن لا تعبدوه بحيث تستجيبون لأمره وتركعون له وتسجدون وتذبحون له ، وتنذرون له وتتخيلونه وتتصورونه وتجعلونه إلهاً دون الله أو مع الله .
(2) قال تعالى: { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } .
- - -
فما عبد أحدٌ أحداً من بني آدم كائناً من كان إلا وقعت عبادته للشيطان فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه ، ويسمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له ، وإشراكه مع الله تعالى ، وذلك غاية رضى الشيطان ولهذا قال تعالى: { ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس } أي من إغوائهم وإضلالهم وقال { وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعضٍ وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إنَّ ربك حكيم عليم } .
فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله ، وأنه لا يُغفر بغير التوبة منه ، وأنه موجب للخلود في العذاب العظيم .
(1) يعني الجن وأوليائهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا .
(2) قال الحسن: وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس .
(3) قيل الموت .
((1/221)
4) أي مأواكم ، فيه إثبات صفة القول الله جل وعلا وهذا اتفق عليه أهل السنة والجماعة ، خلافاً للجهمية ومن وافقهم . وفيه إثبات البعث والجزاء ، وفيه إثبات الجنة والنار .
(5) وقد تقدم أن الشرك الأكبر ، هو: تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله ، وأنه يخالف الفطر ، ويخالف العقول ، وأن الله جل وعلا لا يغفره إلا بالتوبة قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن شرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء } وأن من لقي الله به فإنه مخلدٌ في النار ، قال تعالى: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنَّة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } .
- - -
وأنه ليس تحريمه وقبحه لمجرد النهي عنه فقط بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله .
(1) وهذا الأمر تقدم تقريره مراراً ، وأن الفطرة والعقول قد دلت على قبح الشرك حيث يعبد حجراً لا يجلب له نفعاً ولا يدفع عنه ضراً .
الله جل وعلا آتاك السمع ، وآتاك البصر ، وأعطاك العقل لتميز وتقارن بين المنافع والمضار ، وأرسل إليك الرسل ، وأمرت الرسل بطاعة الله وتوحيده وحينئذٍ تعرض عن هذا ؟! وتستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى فتعبد غير الله وتعبد الأشجار والأحجار ، وتفزع إلى الأولياء والغائبين والأموات .
الله جل وعلا أمرك بعبادته وهو السميع البصير ، فعبدت من لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ، وهذه مكابرة عظيمة ومخالفة كبيرة للفطر والعقول ، فحريٌ بمثل هذا الذي عبد غير الله أن يصلى نار جهنم ، وأن يخلَّد فيها، حيث كابر في الأدلة العقلية ، وكابر في الأدلة السمعية ، وكابر في الفطر ، وكابر فيما دلت عليه العقول ، واستجاب لداعي الشيطان والهوى ، فقبح الشرك ليس لمجرد النهي عنه فقط .
(2) لو قال المؤلف بل يمتنع على الله أن يشرع عبادة إلهٍ غيره .
((1/222)
3) تقدم أن المستحيل: ما يمتنع عقلاً وشرعاً ، والشرك يمتنع عقلاً وشرعاً والله جل وعلا لم يشرع لعبادة ذلك ، وهذا لا يمكن أن يقع البتة ، لأن هذا مخالف للفطر ، ولا يعني كلام المؤلف أن هذا يمتنع عن قدرة الله فهذا لا يقوله أحدٌ من البشر ، ولكن حيث أن الله أعلمنا أنه يأمر بالتوحيد ، وأن الفطر تتجاوب مع ذلك ، وأعلمنا بأنه ينهى عن الشرك وأن الفطرة تستقبح هذا ، فحينئذٍ يمتنع أن الله جل وعلا يشرع لعباده عبادة إله غيره ، وعبر المؤلف رحمه الله تعالى بأنه (( يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع عبادة إله غيره ، كما يستحيل عليه ما يناقض أو صاف كماله ونعوت جلاله )) .
- - -
واعلم أن الناس
(1) قوله: (( واعلم )) من العلم ، وهذا أمر، والأمر في كلام الله للوجوب والأمر في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - للوجوب ، والأمر في كلام عامة الناس للالتماس والطلب . وفي المراقي قال:
وافعل لدى الأكثر للوجوب ... وقيل للندب أو المطلوب
وقيل للوجوب أمر الرب ... وأمر من أرسله للندب
إلا أن المؤلف رحمه الله تعالى لا يطلب طلباً دنيوياً ، ولا يطلب في قضاء حوائجه ، إنما يأمر بأمر يتعلق بأصول الدين ، يأمر بأمر دل عليه كتاب الله ودلت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ودل عليه العقل الصحيح .
فمن علم هذه المسائل فهم التوحيد ، وفهم معاني القرآن وأدرك شيئاً كثيراً مما أُمر الله به .
العلم هو: إدراك الشيء على ما هو عليه .
وهذا الفصل الذي ذكره المؤلف رحمه الله تعالى هو موجود بحروفه مع تصرف يسير في مدارج السالكين للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وقد تقدم أن المؤلف لخص هذا الكتاب من كلام الإمام ابن القيم في الجواب الكافي ومدارج السالكين وغيرهما ، وزاد على ذلك شيئاً يسيرا ، فهذا الكتاب ملخص من كُتب الإمام ابن القيم .(1/223)
وقد تقدم الحديث عن فوائد الكتاب وأنه من الكتب المهمة المستقلة في توضيح توحيد العبادة ، وأنه من أوائل ما كُتب في هذا الباب ، وتقدم أيضاً أن المؤلف رحمه الله استفاد كثيراً من كلام من سبقه ، فما لم ينقله عن ابن القيم نقله عن غيره ، وهذه طريقة الأئمة يستفيدون ممن سبقهم .
تقدم الاستدراك عليه في بعض المسائل .
(2) أي عامة الناس ويدخل فيهم الجن فإنهم مخاطبون ، مؤمنهم في الجنة وكافرهم في النار ، وقد قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .
- - -
في عبادة الله والاستعانة به .
(1) العبادة تطلق على التوحيد وتطلق على الدين ، ومن أجمع ما قيل في تعريف العبادة أنها اسم جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .
وأركان العبادة اثنان:
الركن الأول: غاية الحب الركن الثاني: الذل
وعبادة الرحمن غايةُ حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائرٌ ... ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان
ومن وجه آخر يقال أركان العبادة ثلاثة: الحب والخوف والرجاء .
فمن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري ، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهذا مرجئ ، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد .
وشروط العبادة اثنان :
الشرط الأول: الإخلاص لله رب العالمين ، والإخلاص هو إرادة وجه الله ، قال تعالى: { إنما نطعمكم لوجه الله } ، وقال تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } .
الشرط الثاني: المتابعة ، فمن أخلص لله ولم يتابع نبيه - صلى الله عليه وسلم - فعمله مردود ، ومن تابع نبيه ظاهراً ولم يخلص لله رب العالمين فعمله باطل .
((1/224)
2) الاستعانة تقتضي كمال الذل لله تعالى ، وتفويض الأمر إليه قال تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر ، وكون العبادة قدمت على الاستعانة فهذا من باب تقديم الغايات على الوسائل ، وقد يكون من باب أن الاستعانة جزء من العبادة من غير عكس ، فجاء التخصيص بعد التعميم .
- - -
على أربعة أقسام :-
أجلها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها و يوفقهم للقيام بها نهاية مقصودهم ، ولهذا كان أفضل مايسأل الرب تعالى: الإعانة على مرضاته
(1) أي أن الناس في عبادة الله والاستعانة به ينقسمون إلى أربعة أقسام بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بأولها .
(2) تقدم تعريف العبادة والاستعانة .
(3) لأن الله جل وعلا ما خلق الخلق من قلة فيستكثر بهم ، ولا من ضعف فيستنصر بهم ، ولا من وحشة فيستأنس بهم ، إنما خلقهم لغاية وهذه الغاية هي أكبر من الدنيا وما فيها وهي عبادته وتوحيده وإخلاص العمل له ، كما تقدم في آية الذاريات { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .
قال ابن عباس أي يوحدون ، وقال مجاهد وغيره إلا لآمرهم وأنهاهم .
والناس يتفاوتون في تحقيق منزلة هذه العبودية وتحقيق مقاماتها ويتفاوتون في ذلك تفاوتاً كبيراً ، وذلك على حسب ما يقوم بقلوبهم وتباشره جوارحهم ، ولكنَّ إفراد الله بالعبادة شرطٌ للإسلام . فمن أفرد الله بالعبادة فهو المسلم ، ومن عبد معه غيره كأن يطوف على القبور ، أو يدعو الله تارة والبدوي تارة أخرى فهذا ليس بمسلم وإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
((1/225)
4) نهاية: خبر ، لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، والله جل وعلا هو الذي يوفق العبد ويعينه على القيام بهذه العبودية العظيمة ، فلا يستغني العبد عن ربه طرفة عين ، فهو يعبد الله جل وعلا ويسأله الإعانة وهذا صريح قوله تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } فكل عابد لله مستعين به ، وليس كل مستعين بالله عابداً له . قد تقدم قبل قليل أن الغايات قدمت في هذه الآية على الوسائل .
(5) الإعانة: نصب على أنه خبر كان لأن من أحب العبادة ولم يعمل لم يجدي عنه ذلك شيئاً ، فكان من الضروري أن يسأل الله الإعانة وحينها قد يوفق فيجاب ، وقد يحرم لأسباب ولكن حريٌ بمن طرق الباب وسأل الله بصدق ولجأ إلى مولاه وتضرع بين يديه أن يلهمه رشده وأن يعينه على عبادته وأن يوفقه لخيري الدنيا والآخرة ، قال تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم } أي من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، قال تعالى: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } المغضوب عليهم: هم اليهود ومن صفاتهم يعلمون ولا يعملون . الضالين: النصارى ومن صفاتهم يعملون ولا يعلمون فهم يعبدون الله على جهل .
- - -
وهو الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل فقال: ( يا معاذ ، والله أني أحبك فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) .
(1) أي علمه سؤال الرب الإعانة على مرضاته .
(2) وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي ، والحاكم وصححه ، وابن حبان وصححه من طُرق . عن المقرئ قال حدثنا حيوة بن شريح قال سمعت عقبة بن مسلم التُجيببي يقول حدثني أبو عبد الرحمن الحُبُلي عن الصُنابحي عن معاذ بن جبل وهذا إسنادٌ صحيح .
قوله: (( يا معاذ والله إني أحبك )) فيه جواز الحلف على الأمور المهمة ، بل يؤخذ من هذا مشروعية الحلف على الأمور المهمة ، وفيه جواز الحلف من غير استحلاف .(1/226)
قوله: (( إني أحبك )): فيه أن من أحب أخاه فليعلمه وليقل له أخوه أحبك الله الذي أحببتني فيه .
قوله: (( فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة )) أي فلا تترك أن تقول في دبر كل صلاة ، يحتمل هذا أحد معنيين:
المعنى الأول: أن يقول بعد السلام ، فيطلق الدبر على ما بعد الشيء وهذا قول طائفة من فقهاء الشافعية والحنابلة وغيرهم .
المعنى الثاني: أن دبر الشيء هو آخر جزء منه ، فإن دبر الحيوان آخر جزء منه ولم يفارقه ، وحينئذٍ يقول هذا الدعاء بعد التشهد قبل السلام ، وهذا اختيار أبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والصواب هو القول الثاني في المسألة .
قوله: (( كل صلاة )) : يشمل الفرض و النفل .
قوله: (( اللهم أعني على ذكرك )) سأل الله الإعانة على مرضاته ، والذكر أعم من التسبيح والتهليل .
قوله: (( وشكرك )): قال تعالى: { لئن شكرتم لأزيدنكم } .
قوله: (( وحسن عبادتك )) وإحسان العبادة أن يضع العبادة مواضعها ، وأن يقوم بشروطها وأركانها وواجباتها ، وأن يخلص في ذلك لله رب العالمين .
فإذا وضع العبادة في غير موضعها فإنها غير مقبولة ، كما لو أنشأ تطوعاً بدون سبب في أوقات النهي ، فإن هذا العمل مردود ، وكما لو أراد أن يصوم في يومي العيدين فإن هذا العمل مردود لأنه وضع العبادة في غير موضعها .
وحين يضع العبادة في موضعها لا بد أن يقوم بشروطها وأركانها لو أراد أن يصلي في مثل هذا الوقت وهو غير وقت نهي ولكن يصلي بدون وضوء نقول إن صلاته باطلة ، أو صلى لغير القبلة فإن صلاته باطلة ، ولو عمل بذا وذاك ولكن قام مقام رياء وسمعة كأن يقال فلانٌ عابد ، فلان مديم للركوع والسجود والطاعة لله فعمله مردود لأنه غير مخلص لله أراد أن يُقال وقد قيل .(1/227)
وهذا أحد الثلاثة الذين أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ، والحديث في صحيح الإمام مسلم ، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - . ومن قرأ القرآن ليقال هو قارئ ، وعلَّم ليقال هو عالم ، ومن قاتل ليقال هو شجاع ، ومن بذل المال ليقال هو سخي .
- - -
فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته تعالى .
(1) وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في المدارج عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: قال: (( تأملت انفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ثم رأيته في فاتحه الكتاب { إياك نعبد وإياك نستعين } ))
وقد تقدم أن تقديم المعمول على العامل يفيد الحصر ، وأن أفضل ما يُسأل الرب تعالى الإعانة على مرضاته لأن العبادة غاية مراد المؤمنين والطلب من الرب أن يعينهم عليها ويوفقهم على القيام بها نهاية مقصودهم . قال تعالى: { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } كثير من الناس قد يقوم بالعبادة ولكن لا يواصل ، وأحب العمل إلى الله أدومه ومن ألح على الله جلا وعلا بذلك فلازم العبادة وثابر عليها فهو في هذه الحالات يسأل الله جل وعلا الإعانة ، ويلح على الله جل وعلا بقوله: (( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )) ، فحريٌ أن يوفقه الله جل وعلا حتى يوافي الرب جل وعلا وهو على ذلك.
- - -
ويقابل هؤلاء القسم الثاني: المعرضون عن عبادته والاستعانة به فلا عبادة لهم ولا استعانة ، بل إن سأله تعالى ـ أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته .
(1) وهؤلاء المعرضون يتفاوتون في هذا الإعراض ، ففيهم الكفار وفيهم من هو دون ذلك .(1/228)
فمن أعرض عن العبادة بالكلية فلا ريب أنه كافر قال تعالى: { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها } وقال تعالى في الآية الأخرى: { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } وقال تعالى: { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } ، عما أنذروا: أي عما جاءتهم به الرسل ونزلت به الكتب ، معرضون بقلوبهم وأسماعهم فلا يصغون لنصح الناصحين ، ولا لتعليم المعلمين .
وقد تقدم أن العبادة: (( اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه )) ويشمل هذا أركان الإيمان ، ويشمل هذا أركان الإسلام ، ويشمل هذا كل الطاعات .
وقد تقدم في الدروس الماضية [نقل] إجماع المسلمين على كفر تارك جنس العمل ، لأن هذا معرض عن عبادته و الاستعانة به .
وقد حكى الإمام الشافعي رحمه الله إجماع الصحابة والتابعين وبعدهم من أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ونية فلا يجزى واحد دون الآخر . حيث إذا تَرَك جنس القول أو ترك جنس العمل فإنه يعتبر كافراً .
قوله : (( بل إن سأله تعالى أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته )) حيث يستخدمون الدين ولا يخدمون الدين وينبغي أن نفرق بين من يخدم هذا الدين يعمل لهذا الدين ، وبين من يستخدم هذا الدين لمصالحه وحظوظه .
فكثير من فجار عصرنا من الحكام وأشباههم يستخدمون هذا الدين لحظوظهم وشهواتهم ولا يعملون لهذا الدين ولا يخدمون هذا الدين ، فإن جاء ما يخالف رغباتهم وشهواتهم اعتذروا عن العمل بذلك بالمصلحة والحكمة وغير ذلك ، ويسمون هذا إصلاحاً وأن السياسة لا تسير إلا بمثل هذه الأمور ، قال تعالى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } .
والسياسة التي لا تبنى على كتاب الله وعلى سنة رسول - صلى الله عليه وسلم - الله فليست بسياسة .
- - -(1/229)
والله سبحانه وتعالى يسأله من في السماوات والأرض ، ويسأله أولياؤه وأعداؤه فيمد هؤلاء وهؤلاء وأبغض خلقه إليه إبليس ومع هذا أجاب سؤاله وقضى حاجته ومتعه بها .
(1) كما قال تعالى: { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا } أي منقوصا قاله قتادة وغيره ، وقال الحسن وغيره أي ممنوعا .
(2) وذلك حين قال: { ربي فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين } ، استجاب الله جل وعلا دعاءه وأعطاه طلبه وقضى حاجته ولكن لا يعني هذا أن من قُضيت حاجته وأجيب دعاؤه أنه على عمل صالح ، كلا ، فإن الله جل وعلا بين في محكم كتابه أنه يمد هؤلاء وهؤلاء وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما من مسلم يدعو بدعاء ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها يدخرها له إلى يوم يلقاه قالوا: (( إذاً نكثر )) قال: (( الله أكثر )) .
فإن قيل ما الجمع بين قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من مسلم يدعو بدعاء ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم ) وبين قول المؤلف (( وأبغض خلقه إليه إبليس ومع هذا أجاب سؤاله وقضى له حاجته ؟!))
فالجواب:
أن إبليس سأل الإنظار وهذا ليس حراماً ، فمن سأل الله أمراً مباح فأجيب لا يعني أن هذا فيه خيرٌ له وتوفيق وسداد ، فقد يكون هذا عوناً على معصيته . وتركاً لطاعته وزيادةً في غيه .
فلا تنافي بين قوله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن الله جل وعلا أجاب إبليس فمن دعا الله بإثم لا يستجاب دعاؤه ولكن قد يلح على الله في أمرٍ مباح فيستجيب الله جل وعلا له ذلك ، ولا يكون هذا سبباً للخير ولا زيادة في الطاعة .
- - -(1/230)
ولكن لما لم تكن عوناً على مرضاته كانت زيادةً في شقوته وبعده ، وهكذا كل من سأله تعالى واستعان به على ما لم يكن عوناً له على طاعته كان سؤاله مبعداً له عن الله .
(1) كمن سأل الله الرزق والمال والثروة فاستجاب الله له ذلك فاستعان بهذا المال الذي مَنَّ الله عليه به في الصد عن سبيل الله وفي قتل الأبرياء ، وفي انتهاك الأعراض ، وفي مساندة أئمة الكفر على دعاة الإصلاح والمسلمين ، أو ما هو دون ذلك ، كأن يستخدمه في المعاصي والمنكرات ، أو أن يبذل هذا المال فيما حرم الله عليه وأن يكون عوناً لأهل المعاصي على معاصيهم وحفظاً لمعاقلهم المحرمة ، كأن يبذله في دعم الأغاني ودعم الأندية الرياضية وما يتعلق بذلك وحينئذٍ إذا ألح العبد على ربه جل وعلا وسأل الله تعالى مالاً أو رزقاً أن يُقيده ، وأن يسأله رزقاً حلالاً يستعين به على طاعة الله ، وإذا ما قُدِّر له هذا المال لا يسخط ولا يجزع ، فلربما قد دفع عنه مكروهاً .
- - -
فليتدبر العاقل هذا ، وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليست لكرامته عليه بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه ، ويكون منعه منها حماية له وصيانة .
(1) فقد يجيب الله جل وعلا الكافر حين يدعوه فتنةً واختباراً .
(2) فيسأله الله المال فيكون هذا هو سبب هلاكه ، فيسأل الله جل وعلا شيئاً فيكون في هذا عطبه .
(3) ومن تأمل في الآيات والأحاديث الواردة في القدر عَلِمَ هذه الأسرار العظيمة وفهم هذا الباب فهماً عميقاً . قال - صلى الله عليه وسلم - : ( فما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ) . قال تعالى: { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير } أي من قبل أن نخلقها .
وقال تعالى: { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } .(1/231)
وليس معنى هذا الاستسلام للقدر ، فالمؤمن الذي يدفع القدر بالقدر ، يدفع حرارة الشمس بإتقاءها ، ويدفع برودة الشتاء بإتقاءها ، ويدفع الموت بالاتقاء عنه ، ويدفع النار بالابتعاد عنها ، يدفع السقوط من مكانٍ عالي بالتحرز ، يدفع القدر بالقدر .
أما الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي فهذا ضلال عظيم
عند مراد الله تفنى كميتٍ ... وعند مراد النفس تسجي وتلحمُ
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضاء ... ظهيراً على الرحمن بالجبر تزعمُ
- - -
والمعصوم من عصمه الله والإنسان على نفسه بصيرة
وعلامة هذا أنك ترى من صانه الله من ذلك وهو يجهل حقيقة الأمر إذا رآه سبحانه يقضي حوائج غيره يسيء ظنه به تعالى وقلبه محشو بذلك وهو لا يشعر ، وأمارة ذلك حمله على الأقدار وعتابه في الباطن لها .
(1) ومن كان بالله أعرف كان عن هذه الأمور أبعد ، ومن أعرض عن ذكر الله وعن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتوشتة أسباب الضلالة وحلت في داره، فأورثته لظى وعاش في عناء، والإنسان على نفسه بصيرة.
(2) فإنه إذا سأل الله فصانه الله جل وعلا عن ذلك ولم يستجيب دعائه وسأل الله قضاء حوائجه فما استجيب له فإنه يعترض على القدر ويسيء الظن بالله جل وعلا ، ولاسيما إذا رأى غيره قد قُضيت حاجته وما علم أن الله جل وعلا منعها عنه لحكمه وأجاب هذا لحكمة .
ومن فهم معنى اسم الله الحكيم أدرك شيئاً من ذلك ، فالحكيم هو الذي يضع الأمور مواضعها ، وهو الذي يعلم السر وما أخفى ، وقد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما من مسلم يدعوا بدعاء ليس فيه أثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تُعجل له دعوته وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها وإما أن يدخرها له إلى يوم يلقاه قالوا: إذاً نكثر ـ أي نكثر من الدعاء ـ قال: (( الله أكثر )) )) أي كلما أكثرتم من دعائه كلما استجاب لكم ربكم والدعاء هو العبادة .(1/232)
وقد روى أهل السنن من حديث ذر عن يُسيع الحضرمي ويقال الكندي عن النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الدعاء هو العبادة ) وقرأ { وقال ربكم أدعوني أستجب لكم } .
وأنت تسأل الله جل وعلا في عبادة عظيمة ولكن احذر استبطاء الإجابة فتتحسر فتدع الدعاء .
واعلم أن الله جل وعلا حين لا يجيبك قد ادِّخر لك خيراً عظيماً ما لم تسأل إثماً أو قطيعة رحم ، كما تقدم في الأمور الثلاثة .
ورد في الحديث الآخر (( الدعاء مخ العبادة )) رواه أحمد وغيره وفي إسناد عبد الله بن لهيعة وهو سيء الحفظ .
و ( الدعاء هو العبادة ) أعم وأشمل معنى .
- - -
ولقد كشف الله تعالى هذا المعنى غاية الكشف في قوله تعالى: { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا } .
(1) أي ولقد بين الله هذا المعنى غاية البيان
(2) قوله: { إذا ما ابتلاه } : الـ(ما) هنا ، صلة تسمى عند النحاة زائدة ، وليس معنى الزائد عند النحاة الذي لا قيمة له ولا فائدة من وجوده كما يتصوره ذلك بعضهم ، فهذا غلط لا يقوله أحدٌ من النحاة ولا من غيرهم .
ودائماً تعرب (( ما )) بعد (( إذا )) بالصلة أي زائد .
يا طالب العلم خذ فائده ... ما بعد إذا زائده
قوله: { فقدر عليه رزقه } : أي ضيق عليه رزقه ، كقوله تعالى { وظن أن لن نقدر عليه } بمعنى أن تضيق عليه .
وتقدم أن هذا الكلام كله للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، في مدارج السالكين وقد نقله عن ابن القيم رحمه الله وهذا الكلام موجود في مدارج السالكين في المجلد الأول .
- - -
أي: ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته ، فقد أكرمته ، وماذاك لكرامته عليّ ، ولكنه ابتلاء مني وامتحان له أيشكرني فأعطيه فوق ذلك ، أم يكفرني فأسلبه إياه وأحوله عنه لغيره ؟ .
((1/233)
1) فحينئذٍ حين نرى ثرياً غنياً منعماً، لا يعني هذا أنه حبيبٌ إلى الله قد يكون هذا أبعض العباد إلى الله .
فنحن نعلم أن أثرياء العالم هم من اليهود وهم أعداء الله , ولكنه ابتلاء من الله جلا وعلا وامتحان .
(2) وقد جاء في الصحيحين من طريق همام قال حدثنا إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة قال حدثني عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرصَ وأقرعَ وأعمى ، فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتى الأبرص ، فقال: أي شيء أحب إليك ؟! قال: لون حسن وجلد حسن ، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به ، قال: فمسحه فذهب عنه قذره فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً . قال: فأي المال أحب إليك ؟! قال: الإبل أو البقر (( شك إسحاق )) ، فأعطي ناقةً عُشَراء ، وقال: بارك الله لك فيها .
قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك ؟! قال: شعر حسن ويذهب عني الذي قذرني الناس به ، فمسحه فذهب عنه قذره وأُعطي شعراً حسناً ، فقال: أي المال أحب إليك ؟! قال: البقر أو الإبل ، فأعطي بقرةً حاملاً ، قال بارك الله لك فيها .
قال: فأتى الأعمى ، فقال: أي شيء أحب إليك ؟! قال: أن يرد الله إليّ بصري فأبصر به الناس ، فمسحه فرد الله إليه بصره ، قال: فأي المال أحب إليك ، قال: الغنم فأعطي شاةً والداً فأُنتج هذان ، وولَّدَ هذا ، فكان لهذا وادٍ من الإبل ولهذا وادٍ من البقر ، ولهذا وادٍ من الغنم ) .(1/234)
الشاهد: (( ثم إن الله جل وعلا أراد أن يبتليهم ، فبعث الله جل وعلا إليهم مَلَكاً ، فأتى الأبرص في صورته وهيئته ـ أي صورة الأبرص حين كان به البرص ، وفي هيئته من الفقر والذلة ونحو ذلك ـ فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيراً أتَبَلَّغ به في سفري ، فقال: الحقوق كثيرة ، فقال: كأني أعرفك ، ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيراً فأغناك الله ، فتنكَّر أيضاً لذلك ، فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر ، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت .
وأتى الأقرع في صورته وهيئته فقال له مثل ما قال للأبرص ، فرد عليه مثل مارد عليه الأبرص ، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت .
ثم أتى الأعمى ،فقال: قد انقطعت بي الحبال ، فلا بلاغ لي ، إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ، شاةً أتبلَّغ بها في سفري قال: خذ ما شئت ودع ما شئت ، فو الله لا أجهدك على شيء أخذته لله ، قال: أمسك عليك مالك فإنما ابتليتم ، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك )) .
هذا معنى قول المؤلف في تفسير الآية حين قال الله جل وعلا: { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن } .
أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته ، فقد أكرمته ، وما ذاك لكرامته عليّ ، ولكنه ابتلاء مني وامتحان له أيشكرني فأعطيه فوق ذلك ، أم يكفرني فأسلبه إياه وأحوله عنه لغيره .
- - -
وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه ، وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذاك من هوانه عليَّ ولكنه ابتلاء وامتحان مني له أيصبر فأعطيه أضعاف ما فاته ؟ أم يتسخط فيكون حظه السخط .(1/235)
وبالجملة فأخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره ، فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته ، ويقتِّر على المؤمن لا لهوانه عليه ، وإنما يكرم سبحانه من يكرم من عباده بأن يوفقه لمعرفته ومحبته وعبادته واستعانته ، فغاية سعادة الأبد في عبادة الله والاستعانة به عليها.
(1) وفي هذا المعنى جاء الحديث المشهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب ) .
رواه الحاكم ورواته ثقات ، وقد أُعل بالوقف ، وهذا قول الإمام الدار قطني رحمه الله في كتابه العلل . فقد صحح وقفه على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - .
(2) فهذا هي الكرامة الحقيقة ، وهذه هي السعادة الأبدية ، فالأصول التي تبنى عليها السعادة هي ثلاثة لكل واحدٍ منها ضد:
الأول: التوحيد وضده الشرك .
الثاني: السنة وضدها البدعة .
الثالث: الطاعة وضدها المعصية .
(3) وهذه السعادة الدنيوية والأخروية جمعت في آية واحد { إياك نعبد وإياك نستعين } .
وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في المدارج (( وسر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين وعليهما مدار العبودية والتوحيد ، حتى قيل: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب جمع معاينها في التوراة والإنجيل والقرآن ، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن وجمع معاني القرآن في المفصل ، وجمع معاني المفصل في الفاتحة في { إياك نعبد وإياك نستعين } )) .
وهذا اجتهاد منه رحمه الله ، ولم يثبت في الأدلة الصحيحة عدد الكتب وبعض هذا الكلام استنباط ، والمقصود بيان ما تضمنته هاتان الكلمتان من عظيم المعاني وكبير الفوائد ، وقد دلت الآية على أصول السعادة كما تقدم توضيحها .
- - -
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة وهؤلاء نوعان أحدهما أهل القدر .
((1/236)
1) تقدم قول المؤلف رحمه الله تعالى: اعلم أن الناس في عبادة الله تعالى والاستعانة به على أربعة أقسام ، وذكر القسم الأول وهم أهل العبادة والاستعانة بالله عليها ، وذكر ما يقابل هذا القسم وهم: المعرضون عن عبادته والاستعانة به ، شرع الآن يتحدث عن القسم الثالث: وهم من له نوع عبادة بلا استعانة .
تقدم أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .
وتقدم الحديث عن الاستعانة في قوله تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } وأن الاستعانة جزء من العبادة ، وتقديم العبادة على الاستعانة من باب تقديم الغايات على الوسائل .
هذا القسم من الناس لهم نوع عبادة ولا يلزم من ذلك أن تتمثل فيهم العبادة في كل جوانبهم ، لأن من تمثلت فيه العبادة في كل جوانبه واستقام على العبادة باطناً وظاهراً أدَّى به هذا الأمر إلى الاستعانة بالله فهؤلاء فيهم شيء من العبادة على خلل في جوانب أخرى ، فمن هذه الحيثية صار فيهم شيء من العبادة بلا استعانة ، وهذا كثير في بعض الطوائف المنحرفة ، فقد أضلهم الشيطان في جوانب من توحيد الربوبية ومن توحيد الإلهية ومن توحيد الأسماء والصفات وفي كثير من شؤون الحياة .
(2) الذين لهم نوع عبادة بلا استعانة .
(3) الإيمان بالقدر ركن من أركان الدين ، فلا إيمان لمن لا لم يؤمن بالقدر خيره وشره .
والقدر قال عنه الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (( هو قدرة الرحمن )) ومعنى قدرة الرحمن أي لا يمنع من قدر الله شيء . وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في نونيته:-
وحقيقة القدر الذي حار الورى ... في شأنه هو قدرة الرحمن
واستحسن ابن عقيل ذا من أحمدٍ ... لما حكاه عن الرضا الرباني
وقال الإمام شفى القلوبَ بلفظةٍ ... ذات اختصار وهي ذات بيانِ
ظل في باب القدر طوائف كثيرون من الجهمية ، والقدرية والجبرية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم .(1/237)
فلهم أقوال في باب القدر غريبة ، وأقوال يلعن بعضها بعضاً وينقض آخرها أولها ، والطائفة المسماة بالقدرية نسبة إلى أمرين مشهور عنهما في هذا الباب :
أحدهما: أن الخير من الله دون الشر . والثاني: أن العبادة يخلقون أفعالهم .
ولهم أقوال كثيرة في هذا الباب ، والمؤلف رحمه الله تعالى أشار إلى ضرب من القدرية لهم نوع عبادة بلا استعانة .
- - -
القائلون بأنه سبحانه وتعالى قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف ، وأنه لم يبق في مقدروه إعانة له على الفعل ، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق ، وإرسال الرسول وتمكينه من الفعل ، فلم يبق بعدها إعانة مقدورة يسأله إياها .
(1) وتتمةُ هذا الكلام من المدارج ضروريٌ ذكرها هاهنا ، توضيحاً للمعنى وتفسيراً للمذكور ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (( بل قد ساوى ـ إشارة إلى قول هؤلاء ـ بين أولياءه وأعدائه في الإعانة ، فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء ، ولكن أولياءه اختاروا لأنفسهم الإيمان ، وأعدائه اختاروا لأنفسهم الكفر ، من غير أن يكون الله سبحانه قد وفَّق هؤلاء بتوفيق زائد أوجب لهم الإيمان ، وخذل هؤلاء بأمر آخر أوجب لهم الكفر ، وطريق السلامة من هؤلاء هو معرفة القدر على ما جاء في الكتاب والسنة بلا إفراط ولا تفريط تفهمه فهماً دقيقاً ، وتتعرف عليه معرفةً تأصيليةً بلا وكس ولا شطط ، فقد خاض في هذا الباب أناس يظنون المعرفة فضلوا سواء السبيل .
فالقدر يؤمن به ولا يحتج به ، فمن لم يؤمن بالقدر شابه المجوس ومن احتج به شابه المشركين ، ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولاً لقُبل من إبليس وغيره من المتمردين ، ولو كان حجة للعباد لم يُعذَّب أحد من الخلق ، ولم تقطع يد سارق ولا أقيم حد على ذي جريمة .(1/238)
ومن الأمور التي بفهمها ومعرفتها يحصل التخلُّص من مذاهب القدرية المنحرفين هو الإيمان بما جاءت به الرسل وفهم ذلك ، ومن ذلك دراسة تاريخ الأنبياء والمرسلين ، ولاسيما إمامهم وخاتمهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فمن نظر في سيرته وقرأ التاريخ العظيم الوارد عنه فإنه يسهل عليه حينئذٍ فهم هذا الباب ومعرفته .
ومن نظر في هذا الباب بقراءة كتب المتكلمين والمنحرفين وكتب الذين يشكون في ربهم ولا يعرفونه معرفةً تامة فإنه لا ريب أنه يتخبط .
وقد اعترف عقلائهم بذلك ، وقال أحدهم: (( يا ليتني أموت على عقيدة إحدى عجائز نيسابور )) حيث أن العجائز الأصل فيهن أنهنَّ على الفطرة ، وهذا خاض في علم الكلام وأراد التخلص منه فلم يستطع وعلقت به الشبه ، والانحرافات و احتوشته أسباب الضلالة ، وجعل يُنَظِّر لأصحابه ومن تحت يده نظريات إبليسيه فضل سواء السبيل فجهل ربه ، و قسا قلبه ولكنه في نهاية المطاف اعترف بذلك .
الطرق كلها مغلقة إلا الطريق الذي كانت عليه الرسل وعليه إتباعهم .
وقد قال الرازي: ((
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشه من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } وأقرأ في النفي { ليس كمثله شيء } ، { ولا يحيطون به علما } ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ))
وقال الآخر الشهرستاني:
لقد تأملت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالمِ
فلم أرى إلا واضعاً كف حائر ... على ذقنٍ أوقارعاً سن نادمٍ
ومن الأدلة الدالة على نقض مذاهب أهل القدر في هذا العقل .(1/239)
العقل الذي خلقه الله لنا ، والناس يتفاضلون بتفاضل وتكامل عقولهم ، فمن لا عقل له لا قيمة له ، صفاء العقل ينتج منه قوة العلم ، الثبات في مواطن الحق ، القوة ، والإقدام ، الشجاعة ، التمييز .
وهذا هو المراد ، التمييز بين الحق والباطل .
ولا يعني هذا تقديس العقل كما تصنعه المعتزلة والأشاعرة ، حيث يقدمونه على النقل مَعَاذ الله ، فالنقل مقدمٌ على العقل ، ولكن العقل هو الذي يميِّز بين الحق وبين الباطل ، فمن كان عقله سليماً كان صفاء الحق أظهر له من غيره ، وكان إداراكه للحق أكثر من إدراك غيره ، وفهمه أعمق من فهم غيره .
فالعقل نميِّز به بين الحق وبين الباطل ، فمن أتاه الله عقلاً عَلِمَ من خلاله فساد مذاهب أهل القدر ، وعَلِمَ تناقضهم .
فكونهم يقولون بأن الخير من الله دون الشر هذا فاسد بالنقل والعقل وكونهم يقولون بأن العبد يخلق فعل نفسه هذا باطل عقلاً وشرعاً .
وقد كان أئمة السلف يسمون القدرية مجوس هذه الأمة ، وقد وردت في ذلك أحاديث مرفوعة إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يصح من المرفوع شيء ، وجاءت موقوفة على جمع من الصحابة ، تقدم بيانها والحديث عنها .
ووجه مشابهة القدرية للمجوس ، أن المجوس يثبتون خالقين خالق للنور وخالق للظلمة ولا يسوون بينهما ، فيقدمون خالق النور على خالق الظلمة ، فخالق النور هو الله جل وعلا ، وحينئذٍ جعلوا مع الله خالقاً آخر وهما لا يستويان في نظرهم ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً . قال تعال: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } .(1/240)
والقدرية يقولون: إن الخير من الله والشر من غيره ، فهذا وجه التشابه بينهم وبين المجوس ، ولا فرق بين المذهبين ألبته . قال تعالى: { الله خالق كل شيء } الله جل وعلا خلق الخير وخلق الشر ، والقدر كما تقدم يؤمن به ولا يحتج به ، فمن لم يؤمن بالقدر شابه المجوس ، ومن احتج بالقدر شابه المشركين .
ومن ثمرات الإيمان بالقدر :-
1- أنه طريق التخلص من شرك المجوس ، وأنه يزيد في الإيمان ويكتسب في ذلك قوةً وثباتاً وشجاعةً وإقداماً على الحق ، لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطئه لم يكن ليصيبه .
2- والقدرة على مواجهة الصعاب والابتعاد عن الجزع.
3- اكتساب التوكل واليقين ، ومن كان إيمانه بالقدر خيره وشره أتم كان توكله ويقينه أكمل .
4- الإخلاص لله رب العالمين لأنه يعلم ما قُدِّر له سوف يأتيه ، وأن التطلع إلى مدح الآخرين لا يجدي ولا يغني عن صاحبه شيئا .
5- أنه طريق التخلص من أمراض القلوب من الحسد وغيره.
6- عدم اليأس من مواجهة الصعاب والإيمان بانتصار الحق ولو تكالب عليه الأعداء ، فإن وعد الله حق ، ومهما تمهدت سُبل الضلال ومهما قويت شوكته وعلت أصوات أهله ، فإن الحق سوف ينتصر وسوف يكسر شوكة أهل الباطل ، وسوف يذل أهل الفساد ويرغم أنوفهم .
7- إحسان الظن بالله جل وعلا وقوة الرجاء وفيه غير ذلك .
- - -
وهؤلاء مخذولون ، موكولون إلى أنفسهم ، مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (( الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن آمن بالله وكذَّب بقدره نقض تكذيبه توحيد )) .
(1) ولو كان لهم نصيب وحظ من العبادة ، لأن العبادة التي لا تؤدي إلى التعلق بالله وإلى الاستعانة به وإلى تفويض الأمر إليه فهي عبادة ناقصة ، والناس يتفاوتون في هذا الباب ، كما هم يتفاوتون في خلقهم ورزقهم وإخلاف أشكالهم وتباين طبائعهم ، واختلاف بشراتهم وألوانهم .
((1/241)
2) فمن آمن بالله: أي صدق بالله ، وآمن بوحدانيته وربوبيته وكذِّب بقدرة فهذا التكذيب ينقض الإيمان بالله ، وينقض التوحيد المسبق ، قال تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } .
وقول عبد الله بن عباس (( الإيمان بالقدر نظام التوحيد ... )) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة ، والآجري واللالكائي وابن بطه في الإبانة ، وغيرهم من طريق سفيان الثوري عن عمر بن محمد رجل من ولد عمر بن الخطاب عن رجل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهذا إسناد فيه إبهام ولا يصح .
وقد صح عند أبي داوود وابن ماجه وأحمد وغيرهما من طريق أبي سنان عن وهب ابن خالد عن ابن الديلمي فيما يرويه عن ابن مسعود وأُبي بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لو أنفقت مِثل أحدٍ ذهباً في سبيل الله ما قبله الله تعالى منك حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ) وهذه حقيقة الإيمان بالقدر خيره وشره .
وقد تقدم أن القدر قدرة الله بمعنى لا يمنع من قدر الله شيء ، قال تعالى: { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } ، كلما زاد إيمان العبد بالقدر كلما زاد تعلقه بالله جل وعلا ، وتظهر ثمرات الإيمان بالقدر ، ويُقدم على الحق ويناصر الحق بقدر الإمكان ، ولا يؤثر الدنيا ولا المنصب ولا الجاه على الحق لأنه مؤمن بالقدر ، وأنه ما قُدر له سوف يأتيه .
ولكن حين يضعف الإيمان بالقدر ، يُقدِّم الدنيا على نصرة الحق قال تعالى: { وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل نبرأها إن ذلك على الله يسير } أي نخلقها { وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم } والقرآن كله من أوله إلى آخره يقرر هذا المعنى ، وهذا توحيد الرسل ، وهذا كله مذكور في قول الله جل وعلا: { إياك نعبد وإياك نستعين } أي لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك .(1/242)
فالعبادة متعلقة بتوحيد الإلهية والاستعانة متعلقة بتوحيد الربوبية وسيأتي إن شاء الله بعد قليل الحديث عن الأسباب ، وأن مباشرة الأسباب لا تنافي التوكل ، يتوكل العبد على ربه جل وعلا يفعل الأسباب المؤدية إلى الغرض ، والمؤدية إلى المطلوب .
احذر الحذر الحذر أن تعتمد على الأسباب فإن الاعتماد على الأسباب يقدح في التوحيد ، وترك الأسباب بالكلية يقدح في التوحيد .
التعلق بالأسباب ضربٌ من الشرك ، لأنه تعلق بغير الله جل وعلا وحقيقة التوحيد أن تفوض أمرك إلى الله ، وأن تعتمد على الله وأن تتوكل على الله مع مباشرة الأسباب ومزاولتها بالجوارح دون القلب .
- - -
النوع الثاني: من لهم عبادة وأوراد لكم حظهم ناقص من التوكل والإستعانة ، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر ، وأنها بدون المقدور كالموات الذي لاتأثير له ، بل كالعدم الذي لا وجود له ، وأن القدر كالروح المحرك لها ، والمعول على المحرك الأول ، فلم تنفذ بصائرهم من السبب إلى المسبب ، ومن الآلة للفاعل ، فقل نصيبهم من الإستعانة .
وهؤلاء لهم نصيب من التصرف بحسب استعانتهم وتوكلهم ونصيب من الضعف والخذلان بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم ، ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانة لأزاله .
(1) هذا القسم من الناس لهم عبادة وأوراد لهم عبادة وأذكار ، لهم حظ من العبادة وحظ من الذكر ، ولكن هذا الحظ فيه نقص . وهذا النقص بسبب نقص التوكل والاستعانة ، فلم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر ، وأنها بدون المقدور كالعدم الذي لا وجود له .
((1/243)
2) والمؤلف رحمه الله في هذه الجملة أسقط كلمةً مهمةً في هذا السياق جعلت المعنى يتغير ويصبح محل نظر ، المؤلف يقول (( ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه لأزاله )) ولفظ الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في المدارج: (( ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه كان مأموراً بإزالته لأزاله )) والفرق بين المعنيين واضح وظاهر .
فالمؤلف رحمه الله تعالى حذف لفظه (( كان مأموراً بإزالته )) ، والإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ذكرها ، وبدونها يتغير المعنى بل ويفسد ، لأن ليس من التوكل على الله في شيء أن يحاول إزالة ما لا يمكن إزالته إلا إذا كان مأموراً بإزالته ، أو مما يمكن في دنيا الواقع إزالته .
فابن القيم يقول: (( وكان مأموراً بإزالته )) أي: مما يجوز إزالته ، ومما يساعد على ذلك الأمر الواقع .
قال الناظم:
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار
وهذا القيد (( وكان مأموراً بإزالته )) أهمله المؤلف وهو ضروري في صحة المعنى ويحتمل قول ابن القيم رحمه الله تعالى: (( وكان مأموراً بإزالته )) معنى آخر ، وأن المأمور يقصد به المشروع ، وهذا يشمل غير معنى أيضاً .
- - -
فإن قيل: ما حقيقة الاستعانة عملا ؟ . قلنا هي التي يعبر عنها بالتوكل وهي حالة للقلب تنشأ عن معرفة الله تعالى . وتفرده بالخلق والأمر والتدبير والضر والنفع ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فتوجب اعتماداً عليه وتفويضاً إليه وثقةً به .
(1) لفظ ابن القيم رحمه الله في المدارج (( فإن قلت ما معنى التوكل والاستعانة )) .
((1/244)
2) سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن التوكل فقال: (( التوكل عمل القلب )) وقد قال العلماء بأن التوكل لا ينقسم إلى أقسام لأنه عمل القلب ، فلا يصح التوكل إلا على الله جل وعلا ، ولا يصح أن تقول للمخلوق (( توكلت عليك )) بل تقول: (( وكَّلْتُك )) لأن التوكل هو التفويض والاعتماد وهذا على وجه الإطلاق لا يصح إلا لله الواحد القهار . قال تعالى: { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } وقال تعالى: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وقال تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت } .
وقد منع غير واحد من العلماء أن تقول: (( توكلت على الله ثم عليك )) لأن التوكل عمل القلب ولا يصح في هذا الباب الإتيان بـ(( ثم )) المقتضية للترتيب والتراخي .
ولا بأس أن تقول (( ما شاء الله ثم شئت )) ، والمشيئة تختلف عن التوكل لأن التوكل عمل القلب ولا يصح إلا الله ، وفيه من أجاز هذه المسألة وأجاز أن تقول: (( توكلت على الله ثم عليك )) وهذا فيه نظر ، لأن التوكل عمل القلب ، فلا يصح التوكل على المخلوق ، فلا يصرف التوكل إلا لرب العالمين ، وهذا من الخصائص التي لا يَشْرَكه فيها المخلوق ولو أتى بـ(( ثم )) .
وعلى أقل تقدير في هذا الباب فالأحوط الامتناع عن هذه اللفظة والابتعاد عنها تحقيقاً لمقام التوحيد ، وتأدباً واستبراءً للسان والقلب مما يؤثر عليهما من الألفاظ التي قد تكون غير مقصودة للمتكلم والمتحدث ، ولكن مراعاة ذلك أمرٌ مطلوب ، والتأدب بالألفاظ أمرٌ مطلوب .
- - -
فتصير نسبة العبد إليه تعالى كنسبة الطفل إلى أبويه فيما ينوبه من رغبته ورهبته ، فلو دهمه ما عسى أن يدهمه من الآفات لم يلتجئ إلى غيرهما . فإن كان العبد مع هذا الاعتماد من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة .
(1) وأعظم التوكل هو التوكل في الهداية ، وتجريد التوحيد ، ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتوكل في جلب الرزق ، وجهاد أهل الباطل .(1/245)
وحقيقة التوكل وسره هو اعتماد القلب على الله تعالى وحده لا شريك له ولا يضره فعل الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها كما لا ينفعه قوله توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إلى ما سواه . والناس يتفاوتون في هذا الباب .
والمهم في هذا الباب أن يجتهد المسلم في الوصول إلى أعلى المقامات وأسمى المطالب ، فكلما عَلت درجته في هذا الباب كلما ازداد قربك من رب العالمين ، وعظم ثوابك وعلت مرتبتك ، وعظم قدرك , والاجتهاد في أعمال الجوارح دليل إلى الوصول إلى المطلوب .
فلا يتصور المرء أنه بمجرد هذا يصل إلى أعلى المقامات دون عمل الجوارح من التقرب إلى الله جل وعلا بالواجبات وترك المحرمات ومن فعل الطاعات .
وقد جاء في الحديث القدسي رواه البخاري وغيره من طريق خالد بن مخلد القطواني عن سليمان بن بلال عن شريك عن عطاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلىَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي عليها ، ولئن سألني لأعطينَّه ولئن استعاذ بي لأعيذنه ... ) الحديث
إذاً لا نصل إلى هذه المرتبة إلا بالتوكل على الله والاستعانة به وإخلاص العبادة له ، وإعمال الجوارح بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وحينئذٍ تدرك إرجاء كثير من الناس حين يقول التقوى هاهنا وهو ملازم لفعل المنكرات والمعاصي ، أيُّ تقوى هاهنا ؟! .
فإن التقوى الحقيقية تمنع وتقي من فعل المعاصي وتأمر بفعل الطاعات حين قال بعض العلماء المتأخرين إن الناس كَثير فيهم الإرجاء . استدرك عليه آخرون وقالوا: هذا ليس بصحيح ، لأن الإرجاء فرقة كسائر الفرق بالنسبة لأهل السنة أقل كفرق الأشاعرة وهذا فيه نظر .(1/246)
الصواب: الكلام الأول هو الصواب ، لأن الإرجاء موجود حتى عند كثير من العامة ، فحين يلازمون المعاصي ويدعون بعض الطاعات ويقول: التقوى هاهنا ؟! كأنهم يشيرون إلى أن الإيمان هو مجرد اعتقاد وهذا غلط وعلى أقل تقدير يكون الغلط لفظياً ، وهذا يعتبر إرجاء لفظياً ، وعلى أقل تقدير نجعله بمنزلة إرجاء الفقهاء ، إذاً في العامة شيء من الإرجاء على هذا الاعتبار .
وأمرٌ آخر: حين يفعل المعاصي ويحتج بالتقوى بأنها في القلب هذا هو مذهب المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب ، كأنه يقول: لا يضر هذا العمل ، ولا تضر هذه المعصية لأن التقوى هاهنا ؟! مادام فيه تقوى هاهنا فإن هذا الذنب لا يضر ، طيب أي تقوى هاهنا ؟! فإن حقيقة التقوى أن تفعل المأمور وتجتنب المحظور ، أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله ، هذه حقيقة التقوى . ومنه نعرف أن كثير من العامة فيهم إرجاء .
وهذا الإرجاء في عصرنا موجود في كثير من المحسوبين على العلم محسوبين على التصنيف ، محسوبين على الأمة الإسلامية ، وفيهم من هم محسوب على السلف وهم يعرِّفون الإيمان بأنه قول وعمل ، قول القلب واللسان وعمل بالقلب واللسان والجوارح ويقعون في الإرجاء . حيث يقولون: أن مجرد الفعل لا يكفر به الإنسان ، فلو ألقى المصحف في القاذورات فلا يكفر لمجرد الفعل ، لأن هذا دلالة على التكذيب أو على الجحد أو على الاستحلال . حين يعبد الصنم يقولون لا يكفر ، من عبد صنماً أو سجد لغير الله أو حكم بغير شرع الله وأبطل شرع الله ونحَّاه واعتاض عنه بالقوانين الوضعية فلا يكفر حتى يستحل ؟؟؟
سبحان الله ، لو استحل لكفر ولو لم يفعل ، فمجرد الفعل كفر وهذا ضربٌ من الإرجاء ، يقولون: إن الفعل ليس هو مجرد الكفر لأنه دلالة على كذا أو دلالة على كذا .(1/247)
الله جل وعلا قال: { قل أبِالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون قد كفرتم } مجرد القول هو الكفر ، ومناط الكفر هو القول ، قال تعالى: { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } مجرد القول هو الكفر ، ومناط الكفر هو القول دون ربطه بالاستحلال أو بالجحد أو بعقيدة القلب أو بغير ذلك .
صحيح أن هذه الأفعال دالة على فساد القلب ، وملازمة له لكن ليست هي مناط التكفير ، والقلوب لعلام الغيوب فمجرد القول ومجرد الفعل هو الكفر .فحين يأتي من يعِّرف الإيمان بالتعريف السابق ، وهو تعريف أهل السنة ويقول إذا عبد صنماً أو ألقى المصحف في القاذورات لا يكفر لأن هذا دليل على كذا أو دليل على كذا هذا إرجاء وحين يقول: بأنه لا يكفر تارك جنس العمل مطلقاً هذا إرجاء آخر وهم يقولون هذا بكثرة وحين يقولون: لا يكفر أحد بأعمال الجوارح هذا إرجاء أيضاً بل هذا مذهب غلاة المرجئة هذا مذهب الجهمية فإنهم يقولون: لا يكفر أحد بعمل حتى يجحد أو يستحل والحديث عن هذه القضية يطول ذكره .
- - -
{ ومن يتقِ الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } أي كافيه .
(1) قوله: { ومن يتق الله } التقوى: فعل المأمور واجتناب المحظور { ومن يتقِ الله } فعل الشرط ، { يجعل له مخرجا } قال ابن عباس: (( ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة )) ولكن لا يتأتَّى جواب الشرط إلا بتأتِّي فعل الشرط .
فإذا وجدت التقوى جعل الله له من كل هم فرجا ، وإذا لم توجد التقوى وضعف أثرها فإنه يتخلف الجواب أو يتخلف شيء منه، أو يضعف أثره .
قوله: { ويرزقه من حيث لا يحتسب } :
ويرزقه: عطف على يجعل، هذا جواب الشرط وهذا لا يتحقق إلا بتحقق فعل الشرط.(1/248)
قوله: { ويرزقه من حيث لا يحتسب } أي من حيث لا يرجو ولا يأمل ، وقيل من حيث لا يدري والمعنى قريب مما قبله ، فالرزق من عند الله قال تعالى: { وفي السماء رزقكم وما توعدون } وقال تعالى: { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } فلا تبحث عن الرزق عند المخلوقين .
إذا انقطعت أطماع عبدٍ عن الورى ... تعلق بالرب الكريم رجاؤه
فأصبح حراً عزةً وقناعةً ... على وجهه أنواره وضياءه
وإن علقت بالخلق أطماع نفسه ... تباعد ما يرجو وطال عناءه
فلا ترجوا إلا الله في الخطب وحده ... ولو صح في خل الصفا صفاءه
- - -
القسم الرابع: من له استعانة بلاعبادة ، وتلك حالة من شهد تفرد الله بالضر والنفع ، ولم يدر ما يحبه ويرضاه فتوكل عليه في حظوضه فأسعفه بها . وهذا لا عاقبة له سواء كانت أموالاً أو رياسات أو جاهاً عند الخلق ، أو نحو ذلك ، فذلك حظه من دنياه وآخرته .
(1) وهذا هو القسم الأخير من الأقسام التي أشار إليها المؤلف في قوله: (( وأعلم أن الناس في عبادة الله والاستعانة به على أربعة أقسام )) .
(2) وقد تقدم أن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس ، وأن الاستعانة جزء من العبادة . من غير عكس .
والاستعانة تكون من المخلص ، ومن غير المخلص ، وصاحب الشهوات قد يستعين به على ذلك وهذا لا يقربه من الله .
وحقيقة الاستعانة أن تستعين بالله ثقةً به واعتماداً عليه ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا استعنت فاستعن بالله ) رواه الترمذي وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وإسناده صحيح .
(3) ويحتمل قراءة هذه الكلمة (( ولم يَدُر )) وحينئذٍ من الضروري أن نضيف لفظه (( مع )) فتصبح العبارة (( ولم يَدُر مع ما يحبه (( أي الله )) ويرضاه )) .(1/249)
وهذه اللفظ هو الموجود في مدارج السالكين (( ولم يَدُر مع ما يحبه الله ويرضاه )) ويستقيم قول المؤلف (( ولم يَدْرِ ما يحبه الله ويرضاه )) أي ولم يعرف ما يحبه الله ويرضاه ، ولم يصغي لذلك ولم يبالي بهذا الأمر فله استعانة بلا عبادة فلا يبحث عما يرضي الله فيعمل ، ولا يبحث عما يغضب الله فينتهي .
(4) أي أن الله جلا وعلا أعطاه ذلك بسبب استعانته كما تقدم في قوله تعالى: { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا } أي ممنوعاً .
ولا تقول هذه الأمور لا تستلزم الإسلام ، كونه يشهد تفرد الله بالضر والنفع هذه الأمور لا تستلزم الإسلام ولا تستلزم محبه الله ولا رضاه .
من الضروري يحقق مقام العبودية من إفراده بالعبادة ، والعمل بمقتضى ذلك ، فلو أقَرّ لله بأنه النافع الضار ، وأنه المستحق للعبادة ولم يعمل لم يكن مسلماً .
فلو عبد الصنم وقال: أنا أعرف أن عبادة الأصنام شرك ، وأعرف أن هذا لا يضر ولا ينفع ولكن لحظِّ من حظوظ الدنيا عند الوزير الفلاني والملك الفلاني فنقول إن هذا لا يعفيه من كفره ، كذلك الذي يحكم بغير شرع الله ويبطل شرع الله ، ويضع موضع ذلك القوانين الوضعية ويحكم بآراء اليهود والنصارى وبآراء العلمانيين ويرفض الحكم بشرع الله ويبطش بمن طالبه بذلك ، فلا ينفعه حينئذٍ أن يقول: أنا اعتقد أن حكم الله أحسن من حكم الطاغوت .
إذا كنت تعتقد أن حكم الله أحسن من حكم الطاغوت لماذا تحكم بغير شرع الله ؟ كالذي يقول أنا اعتقد أن عبادة الأصنام باطلة ويعبد الأصنام ، لا فرق بين هذا وهذا .
فالله جل وعلا سمى هذا مشركاً وسمى هذا مشركاً ، فقال تعالى { ولا يشرك في حكمه أحداً } سماه الله جل وعلا مشركاً ، { ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون } الكفر إذا عُرِّف بالألف واللام فلا يحتمل إلا الأكبر .
ولا يغني عن هؤلاء ترقيع أتباعهم لهم بأن هذا كفر دون كفر أو غير ذلك من شبه هؤلاء .
- - -(1/250)
واعلم أن العبد لا يكون متحققاً بعبادة الله تعالى إلا بأصلين أحدهما متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - . والثاني: إخلاص العبودية . والناس في هذين الأصلين أربعة أقسام:
(1) ولا يكفي أحدهما دون الآخر، ويطلق عليهما بعض العلماء شرطين ويُعبَّر عن ذلك بشروط العبادة، والشرط: هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود .
الأصل الأول: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، والمؤلف رحمه الله تعالى نقل هذا الأصل من مدارج السالكين ، وجاء في المدارج حين تحدث عن هذين الأصلين البدء بمتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتثنية بإخلاص العبودية ، بينما جاء في كلام الأئمة الآخرين تقديم الإخلاص على المتابعة وهذا هو الأصل .
قوله: (( أحدهما ، متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - )) :
وهذا معني شهادة أن محمداً رسول الله ، طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما عنه نهى وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع قال تعالى: { إن هو إلا وحيٌ يوحى } .
فالعبادة لا تسمى عبادة حتى يتوفر فيهما شرطان أساسيان ، مهما كان حجم العبادة ومهما وجَدَ العابد في ذلك من التعب .
الشرط الأول: المتابعة .
الشرط الثاني: الإخلاص لله جل وعلا .
والإخلاص لله: هو إفراده بالعبودية وإرادة وجهه ، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، وهذا معنى { إياك نعبد وإياك نستعين } .
أي لا نعبد إلا إياك ، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر .
فإذا أتى بأحد هذين الأمرين لم يأتي بالعبودية الحقيقية .
فلابد أن يضيف إلى الإخلاص المتابعة ، إخلاص بدون متابعة أو متابعة بدون إخلاص غير مقبول .
نرجع إن شاء الله تعالى إلى الحديث عن هذين الأصلين لأن المؤلف رحمه الله فرَّع عليها .
((1/251)
2) أي مؤمنهم وكافرهم ، والجن مخاطبون بالدين ورسولنا هو رسولهم وديننا هو دينهم قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، ومؤمنهم في الجنة وكافرهم في النار ، قال تعالى: { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فألئك تحرَّوا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } .
- - -
1- أهل الإخلاص والمتابعة ، فأعمالهم كلها لله وأقوالهم ، ومنعهم وإعطاؤهم وحبهم وبغضهم كل ذلك لله تعالى ، لا يريدون من العباد جزاءً ولا شكوراً، عَدُّوا الناس كأصحاب القبور لا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ، فإنه لايعامل أحداً من الخلق إلا لجهله بالله ، وجهله بالخلق.
(1) جمعوا بين الإخلاص والمتابعة ، وهؤلاء هم أهل الله وحزبه وأولياءه وهم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية .
(2) قال تعالى: { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكور }
فلا يعطون إلا لله ولا يمنعون إلا لله ، ولا يتصدقون إلا لله ، ولا يصلّون و لا يصومون إلا لله ، ولا يَدَعون الأشياء رهبةً من الخلق أو خوفاً من ذمهِّم ، فإن فعلوا فإنما يفعلون ذلك لله ، وإن تركوا فإنما يتركون ذلك لله ، قال تعالى: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * قولٌ معروف ومغفرة خيرٌ من صدقة يتبعها أذى } والأذى ينتج هذا من قلة الإخلاص ، فمن كان مخلصاً لله لم يُدلي بمعروفة على الآخرين ، ومن كان مرائياً ومحباً لمدح الناس ولثنائهم فهذا الذي يدلي بمعروفة على الآخرين لأنه ما بذل إلا جلباً لمدحهم ، فحين يُقَصِّرون في مدحه ويُقَصِّرون في خدمته ويُقَصِّرون في الثناء عليه فحينئذٍ يظهر ذلك على فلتات لسانه وعلى تصرفاته لأنه ما فعل لله ، ولا بذل لله ولا أعطى لله ولا منع لله إنما أعطى ليثنى عليه بذلك وليكتسب ثناءً ومدحاً من المخلوقين .
((1/252)
3) بحيث لا يملكون ضراً ولا نفعاً ، اليأس من الناس هو الذي يؤدي إلى قطع العلائق بهم ، ومن كان بالله أعرف كان إليه أقرب وإلى الإخلاص أقرب أيضاً ، ومن عرف الله وعرف المخلوق لم يلتفت إلى المخلوقين أصلاً ، وبذل جهده واستفرغ طاقته في إفراد الله جل وعلا بالعبودية .
(4) فمن صلَّى مراءةً للمخلوقين أو تصدق طلباً لمدحهم فإنه جاهل بالله وجاهل بالله وجاهل بحقيقة المخلوق . فإن هذا المخلوق لا يجلب لك نفعاً ولا يدفع عنك ضراً ، ويمدحك في هذا اليوم ويذمك في الغد ، إذاً كيف تتصنَّع لهذا المخلوق وتعمل لهذا المخلوق ، وكذلك من عرف الله جل وعلا وأن بيده الضر والنفع لم يلتفت إلى غيره .
- - -
والإخلاص هو العمل الذي لا يتقبل الله من عاملٍ عملاً صواباً عارياً منه وهو الذي ألزم عباده به إلى الموت .
(1) والإخلاص هو إرادة وجه الله ولا يقبل الله من عامل عملاً إلا به فعمل بدون إخلاص مردود على صاحبه، وإخلاص بدون متابعة مردود على صاحبه .
والإخلاص عزيز وهو شاق على كثير من النفوس ، فإن النفوس تحب المدح وتحب الثناء وتحب العلو في الأرض ، ولا يكسر جماح هذه التطلعات إلا الإخلاص ، والإخلاص ينتج عن التقوى وعن الخوف من رب العالمين ، فمن خاف عقابه أخلص له ، ومن رجا ثوابه أخلص له أما الذي لا يخاف عقاباً ولا يرجوا ثواباً فإنه يبحث عن رضا المخلوقين ويتطلع إلى مدحهم وإلى ثنائهم فيرضيهم بلعنة رب العالمين ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ومن أرضى الله بسخط الناس وهذا لا يتأتَّى إلا عن إخلاص وعن صدق مع الله جل وعلا وعن تقوى في القلب فإن الله جل وعلا يرضى عنه ويرضي عنه الناس ، و لا يمكن للعالمين أن يطبقوا على مدح رجل واحد ولا على ذم رجلٍ واحد .(1/253)
تأمل في حال الرسل فلهم معارضون ولهم أعداء مناوئون ، تأمل في حال أتباعهم حتى بعض المنتسبين إلى الإسلام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعترضون على بعض أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعترضون على سنته .
تأمل في الخارجي الذي يقول: (( اعدل يا محمد فإنك لم تعدل )) والآخر الذي يقول: (( أن كان ابن عمتك ... )) وغير ذلك من الأدلة فَرِضَا المخلوق غاية لا تدرك ، فعلى العبد حينئذٍ أن يسعى في طاعة الله وفيما يرضي الله وحينئذٍ يحبه كل مؤمن صادق ولا يبغضه إلا ناقص الإيمان أو من كان في قلبه مرضٌ أو نفاق أو غير ذلك .
(2) أي الإخلاص هو الذي ألزم الله جل وعلا به عباده إلى الموت فلا يمكن أن تخلص تارة وترائي تارةً أخرى ، فإنه يقبل حينئذٍ إخلاصك وتُعاقب على الرياء ، والنفس تحتاج إلى مجاهدة وإلى مصابرة وإلى مثابرة ، فإن الرياء قد يطرأ على النفس وحينئذٍ يجب عليه دفعة ويجب عليه مجاهدة الهوى وذلك بالعلم والإيمان .
العلم حين يُفكرِّ المرء وينظر في ثناء المخلوقين ، لنفترض أنه أُثني عليه ومُدح ماذا استفاد ؟! ما استفاد شيئاً ، ولو استفاد في الوقت الحاضر ، لكن فيما بعد ماذا استفاد ؟ لا يستفيد شيئاً .
زيادةً على ذلك يتأمل بعلمه وبما آتاه الله جل وعلا من العقل ما هي الفائدة المرجوَّة من وراء هذا ؟! وبعد ذلك يتأمل في الحساب والعقاب وما يترتب على ذلك من الثواب ومن الجزاء ... بينما لو أخلص لله وعَمِلَ لله لتتابعت الألسن على مدحه ، علاوةً على ذلك فيه ثواب عظيم وأجرٌ عظيم ، ومن أحب أن يمدح لا يمدح ومن أخلص لله مدح ، وحقٌ على الله أن لا يرتفع شيء من أمر الدنيا إلا وضعه الله . ومن هنا كان أئمة السلف كانوا يحرصون على الإخلاص ولا يراؤون الناس بأعمالهم لأن الرياء نوع من النفاق ، قال تعالى: { يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً } وفي الأدلة الثابتة عن الصحابة أروع الأمثلة في هذا الباب .(1/254)
وتأمل هذا في حال أئمة التابعين ومن جاء بعدهم إلى يومنا هذا من المخلصين الورعين .
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ورد عنه أنه قال: (( وددت أن الخلق أطاعوا الله وأن لحمي قد قُرِّضَ بالمقاريض )) .
ويُروى عن الإمام الشافعي أنه قال: (( وددت أن الناس أخذوا عني هذا العلم ولم ينسب إليَّ منه شيء )) .
وفي صحيح الإمام مسلم أن حصين بن عبد الرحمن قال: (( أما إنِّي لم أكن في صلاة ولكني لُدِغت )) ، حين قيل له: (( أيكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحة ؟! )) . قال حصين بن عبد الرحمن: (( أنا أما إني لم أكن في صلاة )) نفى عن نفسه توهم العبادة لئلا يُمدح بما ليس فيه .
تأمل في حال عبد الله بن المبارك حين وُضع مالٌ كثير لمن قتل رئيس وقائد الكفار فتلثَّم عبد الله بن المبارك وقتله ولم يعلم به أحد سوى من رآه وناشده الله أن يكتم عليه ولم يُعلم بذلك حتى مات .
وتأمل في حال عبد الله بن المبارك حين فقد أحد طلبته فسأل عنه ، فقيل: إنه محبوس في دين ، فذهب إلى غريمه وقضى عنه دينه وناشده أن يكتم عليه ولا يخبر بذلك أحد ، وكان المال أكثر من عشر آلاف درهم ، وحين خرج فسأل عنه عبد الله ، قال: أين أنت ؟! قال: كنت محبوساً في دين فأتى رجل صالح فقضى ذلك عني ، قال: ألا تدلنا عليه لنكافئه ونجازئه ، قال: لا أعرفه .
يراعون الإخلاص في مثل هذه الأمور ، وهذه الجوانب الكبيرة التي هي أكبر من الدنيا وما فيها ، لأنهم يعلمون أن العمل لا يقبل إلا بالإخلاص وأن الرياء والمدح والثناء يذهب ولا يبقى ، قال تعالى: { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين } .
- - -
قال تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسنُ عملا }
(1) قال الفضيل بن عياض : (( أخلصه وأصوبه )) فسئل عن ذلك فقال: الخالص ما كان لله ، والصواب ما كان على السنة .(1/255)
فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، فلا يقبل العمل إلا إذا كان خالصاً صواباً .
وتأمل في السر في قول الله جل وعلا: { أحسن عملا } ولم يَقُلْ أكثر عملاً ، فإن الكثير بدون إخلاص لا ينتفع به صاحبه .
تأمل في حال الخوارج فإنهم أكثر من الصحابة قياماً وأكثر صياماً وأكثر اجتهاداً ، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ) وهذا الحديث متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه الشيخان وغيرهما لكن ماذا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية )) افتقدوا أمر مهم وهو المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في هديه وسيرته وطريقته عوضاً عن أن يقتلوا أهل الأوثان قتلوا أهل الإسلام إذاً الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإخلاص وبما في الجوارح من المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الله جل وعلا غني عن العبد وعن شركه جاء هذا في صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى: (( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه )) .
الله جل وعلا قال: (( أحسن عملاً )) ولم يقل أكثر عملاً ، لأن الحُسن غير الكثرة ، الحسن: هو الإتقان والقيام بالشيء على الوجه المطلوب أما لو قال: ليبلوكم أيكم أكثر عملاً ، فقد يكون كثيراً ولكنه لا خير فيه ولا بركه .
- - -
وقال { إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } ، وأحسن العمل أخلصه وأصوبه فالخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على وفق سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا هو العمل الصالح المذكور في قوله تعالى: { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحا } .
(1) لنبلوهم: أي ليختبرهم .(1/256)
الإحسان: هو القيام بالشيء على الوجه المطلوب .
وفيه أن الأعمال من مسمى الإيمان ، وفيه أنه لا يصح الإسلام إلا بالعمل ، قد تقدم تعريف الإيمان بأنه قول وعمل قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح .
(2) وأيضاً هو المذكور في قول الله جل وعلا { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } . ويؤخذ من هذا أيضاً اشتراط العمل وقد أجمع المسلمون على أن تارك جنس العمل كافر .
ومن هنا أجمع الصحابة على كفر تارك الصلاة ، حكى إجماعهم عبد الله بن شَقيق العُقيلي وإسحاق وابن حزم وغيرهم .
- - -
وهو العمل الحسن في قوله تعالى: { ومن أحسنُ ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } .
(1) قوله: { ومن أحسنُ ديناً } أي لا أحد أحسن ، ديناً: أي عقيدةً ومَنْهجاً ، ممن: أي من الذي ، أسلم وجهه: أي انقاد واستسلم لأوامر الله وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فالانقياد شرط لقبول العمل ، قال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما } ، إذاً الإنقياد شرط لقبول العمل .
وقوله: { ممن أسلم وجهه لله } يؤخذ منه أيضاً شرطية الإخلاص في قبول العمل .
وقوله: { وهو محسن } أي في عمله .
وقوله { أسلم وجهه لله } هذا الخالص ، قوله: { وهو محسن } هذا الصواب ، القرآن العظيم فيه معاني عظيمة ، وفيه فوائد كثيرة وهو كله يدل على الإخلاص ، كله يدل على التوحيد ، المهم أن نُولي القرآن عناية في التأمل والتدبر ، والتفكر والنظر في عظمته محاولة استنباط واستخراج المعاني والفوائد من ألفاظه وكنوره .(1/257)
وقد أفاد الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الفوائد حين تحدث على قول الله جل وعلا: { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } ، أفاد أن هجران القرآن أنواع بخلاف ما يتخيَّله الكثير بأن من قرأ حروفه فقد أدى واجبه ، ومن أهمل قراءة حروفه فهذا هو الذي هجر القرآن حق الهجر .
هجران القرآن أنواع:-
النوع الأول: هجران تلاوته .
النوع الثاني: هجران العمل به ، وهجران العمل به أعظم من هجران تلاوته ، فكم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنهُ ، يقرأ ألا لعنة الله على الظالمين الكاذبين وهو يكذب ويظلم ويفتري الكذب على الله وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
النوع الثالث: هجران التحاكم إليه .
النوع الرابع: هجران التشافي به ، وفيه غير ذلك .
- - -
وهو الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ( كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ) .
(1) أي: والعمل الصالح المشهور الذي يكون على وفق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
(2) وهذا الخبر رواه الإمام مسلم في صحيحه من طريق عبد الله بن جعفر الزهري عن سعد بن إبراهيم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) .وجاء في الصحيحين من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .
والبدعة: هي الإحداث في الدين بدون دليل ، ويقال: هي عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه .
ومن القواعد في هذا الباب: كل أمر انعقد سببه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في عهد الصحابة ولم يفعلوه مع إمكانية فعله فعمله بدعة ، سواء كان وسيلة أو غاية .
فإن قيل يلزم من هذا أن تكون وسائل الدعوة توقيفية ، فيقال:
إن وسائل الدعوة نوعان:(1/258)
1- نوع توقيفي . 2- نوع غير توقيفي .
فمن أطلق القول فقال بأن وسائل الدعوة توقيفية فقد غلط ، ومن أطلق القول فقال: إن وسائل الدعوة غير توقيفية فقط غلط .
والصواب في هذا التفصيل فيقال:-
النوع الأول: إذا كانت هذه الوسيلة وجد سببها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ووجد مقتضاها فلم يفعلها مع القدرة على فعلها وتركها فحينئذ يجب تركها والعمل بهذه الوسيلة يعتبر بدعة ، لأنه إحداث في الدين بدون دليل .
النوع الثاني: أن تكون هذه الوسيلة لم يقم مقتضاها ولم يرد سببها فحينئذ لا تكون هذه الوسيلة توقيفية كمكبرات الصوت والأشرطة الدينية وغير ذلك .
وقد يرد سببها ويقوم مقتضاها ولا يمكن فعلها يدخل في ذلك الأشرطة الدينية ومكبرات الصوت وغير ذلك .
إذاً العمل المبتدع مردود على صاحبه .
مسألة ، فهل يثاب المبتدع على بدعته ؟
أطلق القول في ذلك جماعة من العلماء فقالت طائفة: بأن المبتدع لا يثاب بدعته .
وقرأت كلاماً لبعض المتأخرين فقال: بأن المبتدع يثاب على بدعته .
والصواب: لا هذا ولا ذاك ، الصواب التفصيل في هذه القضية فيقال: إن العمل لا يثاب عليه أحد لأنه عمل مبتدع ، والبدعة لا يثاب عليها صاحبها ولكن قد يُثاب ، وهذا الثواب يكون على الاجتهاد لا على البدعة ولكن هل هذا يتأتى في حق كل أحد ؟
الجواب: لا ، لأنه لا بد أن يكون اجتهاده ناتجاً عن استقرار للأدلة وعن بذل الوسع لأن الاجتهاد هو بذل الوسع ، أما إذا كان عن إعراض عن الشرع وإعراض عن الأدلة ومصادمة للنصوص فهذا مأزور غير مأجور ، واجتهاده باطل ويُرد عليه اجتهاده ، لأن هذا ليس أهلاً للاجتهاد .
يثاب على الاجتهاد من كان أهلاً للاجتهاد واستفرغ وسعه وطاقته في الوصول إلى الحق فهذا الذي يَقْدر عليه فيثاب على هذا الاجتهاد ولا يثاب على هذه البدعة .
- - -
وكل عمل بلا متابعة فإنه لا يزيد عامله إلا بعداً من الله ، فإن الله تعالى إنما يُعبد بأمره لا بالأهواء والآراء .
((1/259)
1) وهذا كلام جميل ولا خلاف فيه بين أهل العلم ، فالله جل وعلا يُعبد بما شرع في كتابه أو على ألسُن رسله ، فالعبادة يشترط فيها شرطان:
الشرط الأول: الإخلاص .
الشرط الثاني: المتابعة .
ولا يمكن التمثيل ببدعة أو بدعتين المهم أن نفهم القواعد .
فقد نمثل ببدعة المولد النبوي ، وهذه بدعة ، ونفهم وجه كونها بدعة باعتبار أنها إحداث في الدين بدون دليل وباعتبار أن هذا انعقد سببه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد الصحابة - رضي الله عنهم - فلم يفعلوه ، وهل أنتم أحب للنبي - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر أو من عمر أو من عثمان أو من علي - رضي الله عنهم - أو من بقية الصحابة - رضي الله عنهم - حتى تحدثوا هذا الأمر .
ونفهم أن هذا الأمر أحدثه الفاطميون بحدود عام ثلاثمائه واثنتين وستين ، وقد نتقن هذه القضية ونضبط أولها وآخرها .
لكن يرد علينا محدثات أخرى كيف نفهمها ؟ وكيف نعيها ؟ وكيف نتعامل معها ؟!
إذاً من الضروري أن نطبِّق وأن نفهم القواعد في هذا الباب حتى نستطيع أن نحكم على كل مسألة بأنها بدعة أو غير بدعة .
- - -
2- الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة ، وهؤلاء شرار الخلق . وهم المتزينون بأعمال الخير يراءون بها الناس ، وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف عن الصراط المستقيم من المنتسبين إلى الفقه والعلم والفقر والعبادة ، فإنهم يرتكبون البدع والضلال والرياء والسمعة ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .
(1) هؤلاء هم المنافقون وهؤلاء هم شر البرية ، لا يخلصون أعمالهم لرب العالمين ولا يقومون بالعمل في الظاهر على الوجه المطلوب فقد يصلُّون على غير طهارة ، وقد يتظاهرون للناس بالصيام وهم لا يصومون وقد يجاهدون ويقاتلون على غير سُنة وعلى غير طريقة مراءاة للناس وجلباً لمدحهم وصرف الأنظار إليهم .
((1/260)
2) وهذا يقِل في الحقيقة في أهل العلم ، لأنه قد يُوجد في أهل العلم من له إخلاص بلا متابعة أو متابعة مع ضعف في الإخلاص أما من لا إخلاص له ولا متابعة فهو قليل جداً في المنسوبين إلى الفقه والعلم ، لأن العلم يجرهم إلى الإخلاص ويؤول بهم إلى الصدق مع الله جل وعلا ، لكن هذا يكثر في أهل النفاق وفي أهل الجهل وفي المعرضين عما جاءت به الرسل ، قال تعالى: { يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً } .
- - -
وفي أضراب هؤلاء نزل قوله تعالى: { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفارةٍ من العذاب ولهم عذابٌ أليم } .
3- الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله لكنها على غير متابعة الأمر ، كجهال العباد ، والمنتسبين إلى الزهد والفقر ، وكل من عَبَدَ الله على غير مراده .
(1) وقد جاء في الصحيحين بيان سبب نزول هذه الآية ففيهما من طريق ابن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر قال حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - :(( أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج رسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذ قَدِمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت { لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا .... } الآية .
وقد جاء في الصحيحين أيضاً رأي ابن عباس رضي الله عنهما يخالف هذا وعلى كلٍ من توفر فيه هذان الأمران لا إخلاص له ولا متابعة أو يتخلفُ عن العمل ويعتذر بالكذب ، ويحب أن يُحمد بما لم يفعل فلا ريب أن له حظاً كبيراً من هذه الآية ، وأن هذه الخصلة هي من خصال المنافقين الذين ذمهم الله جل وعلا في سورة براءة .
(2) أي له إخلاص ولكنه لا يتابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
((1/261)
3) وهذا يكثر في أُناس ويقل في آخرين ، وقد يكون هذا صادراً عن اجتهاد وعن متابعة لمشايخهم وعلمائهم ، وقد يكون صادراً عن إعراض وعن ضلال وعن اكتساب الأموال بهذه الطريقة المبتدعة المخترعة ، فلا يلزم من كل عمل أن يكون صاحبه غير مخلص ، فقد يكون مخلصاً لله وقد يكون غير مخلص .
والمؤلف يتحدث عن من هو مخلص في أعماله ، غير أن هذا العمل على غير سنة ، فهذا العمل مردود على صاحبه كما تقدم في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها .
- - -
والشأن ليس في عبادة الله فقط ، بل في عبادة الله كما أراد الله ، ومنهم من يمكث في خلوته تاركاً للجمعة ويرى ذلك قربة ، ويرى مواصلة صوم النهار بالليل قربةً . وأن صيام يوم الفطر قربة ، وأمثال ذلك .
(1) وفي هذا قال بعض العلماء: خلق الله جل وعلا أقواماً لطاعته وناره وهم المراءون بأعمالهم حيث يعملون وإلى النار ، وخلق الله أقواماً لطاعته وجنته وهؤلاء الرسل وأتباعهم إلى يوم الدين ، وخلق الله أقواماً لا لطاعته ولناره وهذا كإبليس وأشباهه ، وخلق الله أقواماً لا لطاعته ولجنته وهؤلاء أطفال المسلمين والذين أسلموا وقتلوا قبل أن يعملوا كالأصيرم واسمه عمرو بن ثابت حين شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قُتل فدخل الجنة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : ( عَمِلَ قليلاً وأُجِر كثيرا ) الحديث رواه أحمد وغيره بسند جيد .
((1/262)
2) لأن بعض هؤلاء يرى أنه إذا وَصَلَ إلى مرتبة سقطت عنه التكاليف وهؤلاء غلاة الصوفية ، ويتأولون قول الله جل وعلا: { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أي حتى يحصل لك من العلم ما تسقط عنك به التكاليف ، وهذا من أعظم أنواع التحريف لكلام الله وهذا خروج عن الشريعة ، وتحلل منها ، ومن اعتقد أنه يسعه الخروج عن شريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو مرتد بإجماع المسلمين ، ومن ترك الجمعة تقرباً لله فهذا مبتدع ضال .
(3) فهو مبتدع ضال ، ومن رأى أن صيام يوم الفطر قربه فهو مبتدع ضال خارج عما أجمع عليه المسلمون ، فمثل هذا يجب إعلامه فإن رجع عن غيِّة وضلاله وإلا وجب تعزيزه وضربه حتى يفيء إلى الحق ويرجع إلى السنة فليس كل مجتهد مصيباً ، قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : (( كم من مريد للحق لم يصبه )) رواه الدارمي وغيره بسند قوي .
الثلاثة الذين أتوا إلى بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - واضح جداً إخلاصهم لله جل وعلا في ذلك حين سألوا عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأُخبروا بعمله فكأنَّهم تقالّوه وقالوا: أيننا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلا داعي أن يعمل كثيراً ، قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء ، ظن أن ترك الزواج قربة لله جل وعلا ومن جميل كلام الإمام أحمد رحمه الله: (( من دعاك إلى غير الزواج فقد دعاك إلى غير الإسلام )) وقال رحمه الله تعالى: (( ليست العزوبة من الإسلام في شيء )) وقال الآخر: (( أما أنا فأقوم الليل ولا أنام )) وفي رواية (( لا آكل اللحم )) .(1/263)
فحين أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أُخبر بخبر هؤلاء الثلاثة وذهب إليهم في أماكنهم قال تعالى: { وعجلت إليك ربي لترضى } مبادرة في إنكار المنكر وخشية أن ينتشر مثل هذا الفكر الساذج ، بادر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هؤلاء في أماكنهم ، وقال: أنتم الذين قُلتم كذا وكذا وكذا .
فيه التثبيت حين سألهم عن قولهم ، وخشية أن يكون فُهم قولهم على خلاف ما أرادوا قال: (( أنتم الذين قلتم كذا وكذا وكذا )) وهذا هو المطلوب حين يبلغك عن رجل لا تذهب إليه وتبادره بالإنكار تأكَّد قبل ذلك ، قد يكون فُهم قوله على وجه غير الحق ، أو زيد في كلامه ، أو أن هذا مكذوب عليه قال: (( أنتم الذين قلتم كذا وكذا وكذا )) قالوا: نعم ، قال: أما أنا فأصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وأتزوج النساء )) وفي رواية: (( وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني )) هذا حديث متفق على صحته .
فالإخلاص لا يأتي بدون المتابعة ، وليس الشأن في كثرة العبادة كما تقدم قال تعالى: { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } .
وتقدم الحديث عن الخوارج (( تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ، غير أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية )) إذاً لا مقارنة بين عمل الخوارج وبين عمل الصحابة ، لكن هؤلاء على غير سنة وعلى غير هدى من الله .
المهم أن يقوم المرء بالواجب وبما أوجب الله عليه ، ويجتهد في أداء السنن المشروعة متابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .(1/264)
فلو أن امرأ أراد أن يحيي أو أن يقوم يصلي ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس نقول هذه العبادة جميلة ولكنه وضعها في غير موضعها فصار في هذا العمل مبتدعاً خارجاً عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما لو أراد أن يتطوع بعد العصر إلى غروب الشمس فنقول هذا العمل مبتدع وخلاف سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يشفع في ذلك إخلاصهم . فإن الإخلاص لا يكفي وحده فلابد أن تضيف إلى الإخلاص المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمتابعة وحدها لا تكفي فلابد أن تضيف إلى المتابعة الإخلاص لا تريد رياءً ولا سمعةً ولا جزاءً ولا شكوراً ، ولا مدحاً من الخلق .
- - -
4- الضرب الرابع: من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله تعالى ، كطاعات المرائين وكالرجل يقاتل رياء وسمعة وحمية وشجاعة .
(1) هؤلاء يعملون أعمالاً موافقة للشرع يقصدون بذلك مراءة المخلوقين وهذه المُراءة أنواع:-
إذا كانت واقعة في كل الأعمال في الواجبات والسنن ونحو ذلك فهذا لا يصدر إلا من منافق خالص وهذا في الدرك الأسفل من النار . فمن كان يصلي الفرائض مراءةً للمخلوقين ولا يؤدي فرضاً إلا مراءةً للمخلوقين فهذا كفر ونفاقٌ أكبر .
ومن كان يخلص في الواجبات ويرائي في بعض المستحبات ، يخلص تارة ويرائي تارة فهذا له إخلاصه وعليه وزره غير أن العمل إذا كان مرتبطاً أوله بآخره فإنه يبطل بالمراءاة .
فإذا أنشاء الصلاة مراءةً للمخلوقين ثم أخلص بعد الركعة الأولى فإن هذه الصلاة باطلة ولا تصح ، ولكن إذا قرأ القرآن لله رب العالمين ثم طرأ عليه بعد ذلك شيء من الرياء فرائى المخلوقين فله أجر إخلاصه وعليه وزر رياءه ، وإذا أنشاء القراءة مراءة للمخلوقين ثم ندم بعد ذلك وقرأ إخلاصاً لله فعليه وزر الرياء وله إخلاص ما عمل .
(2) فهذا يقاتل في سبيل الشيطان ولا أجر له على ذلك لأنه ما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا .
- - -(1/265)
وللمغنم ، ويحج ليقال ، ويقرأ ليقال ، ويَعْلَمُ ويُعَلِّم ليقال .
(1) القتال للمغنم فيه تفصيل:
إذا كان لا يقاتل إلا من أجل المغنم فقط فهذا لا أجر له ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) حين سُئل الرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل ليُرى مكانه ، أي ذلك في سبيل الله ؟! أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواب جامع فقال: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) متفق على صحته من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - .
وأما من قاتل لأجل الله جل وعلا ومن أجل المغنم فهذا ينقص ثوابه ولا يبطل بالكلية وعليه يُحمل الحديث المشهور الذي رواه مسلم من طريق أبي عبد الرحمن الحُبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما من غازية تغزوا في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم وبقي لهم الثلث ، وإن قاتلوا ولم يغنموا تم لهم أجرهم ) فهذا محمول على من قاتل وله قصد في المغنم لأن التشريك في ذلك لا بأس به ولكنه يُنَقِّص الثواب .
وأما من قاتل لتكون كلمة الله هي العُليا ونال بعد ذلك شيئاً من الغنيمة فلا ينقص أجره أبداً ، هذا الصحيح في هذه المسألة الخلافية .
(2) يحج ليقال يحج كل عام فهذا لا أجر له لأنه لم يرد بحجة ابتغاء مرضاة الله إنما أراد بحجة ليقال فلان يحج في كل عام ويعتمر في العام أربع مرارا ، قال تعالى: { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيما } ومن لم يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فعليه وزر عظيم وذنب كبير .
(3) يقرأ القرآن ويعلم الناس ليقال هو عالم هو حافظ هو واعظ هو بليغ .
(4) أي يتعلم ويُعلم ليقال فلان يطلب العلم ، لا يدع حلق الذكر ، يلازم العلماء ليثنى عليه بذلك .
- - -(1/266)
فهذا أعمال صالحة لكنها غير مقبولة ، قال تعالى: { وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } . فلم يؤمر الناس إلا بالعبادة على المتابعة والإخلاص فيها ، والقائم بهما هم أهل { إياك نعبد وإياك نسعين } .
(1) والشرك في الإرادات والنيات هو البحر الذي لا ساحل له ، وكل عامل يريد بعمله غير وجه الله ورضوانه فإنه مشرك ، وأهل الرياء يتفاوتون في هذا الإشراك فمُقلٌ ومستكثر ، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قال الله تعالى: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ) .
وجاء في صحيح الإمام مسلم من طريق سليمان بن يسار قال تفرق الناس عن أبي هريرة - رضي الله عنه - فقال له نافل أهل الشام أيها الشيخ حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: نعم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( إنَّ أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرَّفه نعمه فعرفها فقال: فما عملت فيها ، قال: قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يُقال جريء فقد قيل ، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار ) هذه عبادة أعظم العبادات ، الجهاد في سبيل الله عبادة من أجل وأعظم العبادات ، هذا قاتل في الظاهر لإعلاء كلمة الله ولكن الله جل وعلا يميِّز ويحصِّل ما في الصدور ، كما قال تعالى: { يوم تبلى السرائر } وكما قال تعالى: { وحصِّل ما في الصدور } تبيَّن فيما بعد أنه قاتل ليقال هو جريء .
أتى به ربنا جل وعلا فعرفه أولاً بالنعم فعرفها ، قال: فما عملت فيها ، قال: قاتلت فيك حتى قُتلت ، قال: كذبت ولكنك قاتلت ليقال هو جريء فقد قيل في الدنيا ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار ، هذه عبادة من أعظم العبادات ولكنه حين صرفها لغير الله وفي غير مرضاته أُلقي في جهنم .(1/267)
والرجل الآخر: رجل عمله من أعظم الأعمال وعبادته من أعظم العبادات وقربته من أعظم القرب تعلَّم العلم وعلمه وقرأ القرآن ، فأتي به ، فعرَّفه نعمه فعرفها ، قال فما عملت فيها ؟!
قال: تعلمت العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن ، قال: كذبت ولكنَّك تعلمت العلم ليقال: عالم ، وقرأت القرآن ليقال قارئ )) .
يعظ ويرشد ، ويعلِّم ليقال: هو عالم هو بليغ ويتظاهر أمام الناس بالبلاغة والفصاحة وسياق الأحاديث ، والحديث عن العلم بطلاقه ، وقد يكون حَضَّر قبل ذلك ، يعظ ويحاضر ليقال هو طليق هو جرئ ، قد ينطق بالحق ويتكلم بالحق ليقال فلان ما شاء الله عليه ، قال كلمة الحق وذلك ليمدح ويثنى عليه بذلك .
لازم سارية من سواري المسجد يعلِّم القرآن ليقال هو لا يتخلف عن تعليم الناس ويثنى عليه بذلك ويمدح في ذلك .
هذه أعمال تكون يوم القيامة هباءً منثوراً ، قال تعالى: { وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورا } فلا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه .
الرجل الثالث: (( هو رجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال ، فأُتي به فعرَّفه نعمه فعرفها ، قال: فما عملت فيها ، قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم أُلقي في النار )) .
وهذا الضرب قد لا ينفقون إلا أمام الناس ، إذا أتيت إلى الغني تسأله صدقةً لوجه الله ، تعرض عليه مشروعاً خيرياً لم ينفق ولم يبذل ، وإن بذل بذل شيئاً يسيراً ، لا يستحق الذكر ، وإذا أتيته تسأله أمام الناس وأمام الملأ ، أمام المسئولين ، أمام الأمراء ، أمام الوزراء أمام الأكابر في نظره قال: كم تريد ... ؟! وكتب شيكاً بمبلغ مليون أو مليوني ريال أو أكثر ليقال تبرع فلان ابن فلان بمبلغ وقدره كذا وكذا قد قيل ثم ماذا ؟!(1/268)
خسرت الدنيا والآخرة ؟ خسرت المال الذي كان بالإمكان أن تنفقه في غير ذلك ، وخسرت الآخرة بالرياء والسمعة فقد قيل ثم ماذا ؟!
يسحب على وجهه ويُلقى في النار .
الناس لم يؤمروا إلا بالعبادة مع المتابعة والإخلاص فيها والقائمون بذلك هم أهل { إياك نعبد وإياك نسعين } .
- - -
ثم أهل مقام { إياك نعبد } لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربعة طرق ، وهم في ذلك أربعة أصناف .
(1) تقدم الحديث عن هذه المقامات ، وأن الناس في عبادة الله تعالى والاستعانة به على أربعة أقسام وأجل هذه الأقسام وأفضلها أهل العبادة والاستعانة بالله عليها ، فإن الله جل وعلا يقول: { إياك نعبد وإياك نستعين } ومنزله العبد عنَّد ربه بقدر ما يحقق معنى هاتين الكلمتين ، فإن الناس يتفاوتون في تحقيق مقام هاتين الكلمتين كتفاوتهم أو أعظم في خلقهم وأشكالهم ونحو ذلك .
(2) وهذه الطرق قد تكون منهجاً لفئة وطائفة ، وقد يكون منهجاً لفئة معينة ، وقد يكون التطبيق فردياً ، فلا يمكن نسبة هذا إلى فئة وإلى جماعة ، ولكن يُعرف عن أشخاص وعن فئام تتباعد أقطارهم وتتباين غاياتهم ومرامهم .
وهذه الطرق في بعضها انحراف وابتعاد عن السنة وفي بعضها صواب فيه شيء من الدخن ، وفي شيء منها حق محض ، وفي شيء منها محل اجتهاد وتفصيل فليس كل من عَبَد الله وآثر رضاه على غيره صار مصيباً من كل وجه ، فإن الشيطان لا يضره بأيهما ظفر من الإنسان بإفراط أو تفريط ، والشيطان يفتح للعبد أبواباً كثيرة من أبواب الخير ليدرك بذلك باباً واحداً من أبواب الشر يفسد عليه ما سبق .
والحرص على الخير والحرص على العبادة ليس هو هذا نهاية الأمر وليس هذا هو الدين كله ، فكم من مريد للخير لم يصبه .(1/269)
والأمة بحاجة إلى أناس يحبون الخير ويؤثرونه ويقدمونه على شهواتهم وعلى أهوائهم وفي نفس الوقت يتقيدون بقيود الشرع وبضوابطه ، وينطلقون من العلم الذي يميزون به بين الحق وبين الباطل فهؤلاء هم غرة المسلمين وهم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية وهم يتفاوتون في تطبيق هذا المنهج المبني على العلم والعمل .
لأن العلم بدون عمل لا ينفع ، والعمل بدون علم لا ينفع ، وأنت تقول في كل صلاة: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .
والمغضوب عليهم هم اليهود معهم علم ولم يعملوا به ، والضالين النصارى يعبدون الله على جهل ، فأنت في كل صلاة تسأل الله أن يجنِّبك طريق هاتين الملتين الضالتين .
وقد قال بعض السلف: (( من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى )) .
والأصل في عَالِم المسلمين أن تتمثل فيه حقيقة الإسلام وحقيقة التقوى ، تتمثل فيه حقيقة العلم والدعوة والعمل ، فلا يجاري أهل الأهواء في شهواتهم ولا أهل الفساد في فسادهم وإن ناله بسبب هذا أذى وضرر ، فهذا سَرَعَان ما يزول .
وإذا عَلِمَ أن هذه هي سنة الله جل وعلا في عباده هان عليه الأمر ، فقد أوذي نبينا - صلى الله عليه وسلم - وحبس في شعب أبي طالب ثلاث سنين ، وأُخرج من مكة وذهب إلى المدينة، وقبل ذلك ذهب حين ذهب إلى الطائف، قذفه أهل الطائف بالحجارة وحين أراد أن يرجع إلى مكة لم يستطع إلا حين دخل في جوار المطعم بن عدي وقد جاء في حديث حماد بن سلمه عن ثابت البناني عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لقد أوذيت في الله وما يُؤْذى أحد وأخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت عليّ ثلاث ما بين يوم وليلة وما لي ولعيالي طعام إلا ما يواري إبط بلال ) رواه الإمام أحمد وغيره بسند صحيح .
وهؤلاء حقاً هم أهل مقام { إياك نعبد وإياك نستعين } وفي بعض أهل مقام { إياك نعبد } انحراف بسبب الغلو في التطبيق والمجاوزة في العمل .(1/270)
وهذا لا يعني كما سبق تقريره مراراً عدم إخلاصٍ في ذلك ، فإنه لا يكفي الإخلاص وحده حتى يضاف إلى ذلك المتابعة لأن الله جل وعلا يقول: { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } بلا إفراط ولا تفريط .
- - -
الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها: أشقها على النفوس وأصعبها .
(1) أي عند هذه الطبقة بأن أنفع العبادات وأفضلها هو أشقها على النفوس وأصعبها ، وهذا من جهلهم يظنون أن المشقة مطلوبة لذاتها ، وأن البحث عنها مطلب شرعي يُقَرِّب إلى الله ويرفع الدرجات ويُعلي المقامات وهذا شطط في القول وانحراف في التطبيق وسوء فهم للشرع .
هؤلاء أوتوا العمل فقط وليس لهم نصيب من العلم فأغواهم الشيطان وأضلهم وأعمى بصائرهم فكانوا يبحثون عن المشقة بدعوى أن المشقة أبعد الأشياء عن الهوى ، وأن هذا الأمر هو حقيقة التعبد وقد يستدلون بأن الأجر على قدر المشقة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: ( إنما أجرك على قدر نصبك ) .
وهذا ضلال وانحراف ، لأن الأجر على قدر المشقة في تطبيق السنة فإن المرء قد يريد يطبق السنة المشروعة ، فيناله بتطبيقها مشقة فيؤجر على ذلك ، أو يريد أن يعمل عملاً واجباً كأن يحج فتناله مشقة في الحج أو يصوم صياماً مستحباً أو صياماً واجباً ويصيبه في ذلك عطش وجوع فيؤجر على ذلك وهذا الذي أصابه عطش وجوع أكثر أجراً ممن لم يصبه شيء من ذلك .(1/271)
وأما كون الإنسان يبحث عن المشقة بذاتها فهذا ابتداع في الدين وضلال وغلو في التطبيق وشطط صوفي، ولذلك الذي أوتي العلم والعمل أوتي العلم والإيمان هو أفضل وأرفع درجة من الذي أوتي الإيمان دون العلم ، والعلم هو الذي يقوده إلى الإيمان وهو الذي يُبَصر بمواطن الزلل ، ومن ثَمَّ صار العلم أفضل مطلوب ونفل العلم أفضل من نفل الصلاة والصيام والحج والعمرة ، قال تعالى: { يرفع الله الذين أمنوا منكم والذين أُتوا العلم درجات } يرفعهم في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخرة بالأجر العظيم وقال تعالى: { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } وليس سواء عالم وجهول .
فالعلماء هم ورثة الأنبياء وهذا ليس لكل علم ، إنما هو للعلم الموروث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يورث الخشية ويورث التقوى .
وأما العلم الذي يورث البلادة ويورث الغفلة أو التكسب بالعلم والبحث عن المناصب والوظائف بالعلم فهذا ضلال وانحراف ، وهذا يُورث قسوةً في القلوب وبعداً عن الله ، الله جل وعلا يقول: { إنما يخشى الله من عبادة العلماء } .
ولله در بشرٍ الحافي حين قال: (( لأن أطلب الدنيا بدف ومزمار أحب إليّ من أن أطلبها بالدين )) .
- - -
قالوا لأنه أبعد الأشياء من هواها ، وهو حقيقة التعبد .
((1/272)
1) فهم يعللون بذلك وهذا فيه نظر ، بل هذا هو الذي يقرب من الهوى ، والهوى مراتب ، ولولا أن نفوسهم تهوي هذا الأمر ما ركنوا إليه وسارعوا إلى فعله ، فإن النفس تارة تهوى شيئاً فتصيره ديناً تهوى الزهد فتصيره ديناً تهوى الإفراط فتصيره ديناً ، والمعيار في ذلك الكتاب والسنة بلا إفراد ولا تفريط والناس يتعاملون مع الآخرين بظواهرهم ويوم القيامة تبلى السرائر ، قال تعالى: { يوم تبلى السرائر } أي تختبر وتميز ، وقال تعالى: { وحصل ما في الصدور } أي مُيز ، وحينئذٍ يستبين ما كان لله وما كان لغيره ، ما كان للنفس لحظوظها وشهواتها وبين ما كان لله ، (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) .
(2) وهذا فيه نظر ، لأن العبادة لا تسمى عبادة إلا بشرطين أو أصلين :
الأمر الأول: الإخلاص لله جل وعلا .
الأمر الثاني: متابعة السنة إذا اختل واحدٌ من أحد هذين الأمرين فلا تسمى عبادة ، بل هذا ضرب من الجهل وضرب من الانحراف وهذا من حيث التطبيق .
ولا ينفي هذا أن يكون ما قاموا به هو مشروع في الجملة ، فإن الصلاة مشروعة في الجملة ولا إشكال في هذا ولا خلاف ، ولكن حين يضعون الصلاة في غير موضعها نقول أن العمل هذا في هذا الموطن غير مشروع .
كما لو شرع يتطوع في أوقات النهي بدون سبب فنقول أن الصلاة مشروعة ولكنك وضعت هذه الصلاة في غير موضعها فهذا العمل مبتدع وهذا الصنيع خروج عن سنة سيد الأولين والآخرين .
وقد جاء عن سعيد بن المسيب بسند صحيح عند البيهقي وغيره: (( أنه رأى رجلاً يكثر من الصلاة بعد طلوع الفجر فزجره سعيد عن ذلك وخوفه بالله جل وعلا فقال الرجل: أيعذبني الله على الصلاة ؟! قال: لا يعذبك على الصلاة ولكن يعذبك على مخالفة السنة )) .
وقد تواتر النقل عن الصحابة والتابعين وتتابعت كلماتهم في ذلك يقولون: (( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم )) .
- - -(1/273)
والأجر على قدر المشقة ، ورووا حديثاً ليس له أصل: (( أفضل الأعمال أحمزها )) أي أصعبها وأشقها .
(1) وهؤلاء المنحرفون عن الصراط المستقيم يرون حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( أفضل الأعمال أحمزها ) أي أصعبها وأشقها .
يقال: حَمُزَ الرجل: من باب ظَرُفَ أي أشتد .
وهذا الأثر لا أصل له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أشار إلى ذلك المؤلف في قوله: (( ليس له أصل )) وهذا قول ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين حيث أن هذا الفصل وكثير من الفصول المتقدمة مأخوذة من مدارج السالكين .
وهؤلاء يبتدعون في الدين ويكذبون على الرسول الأمين ترويجاً لبدعهم وتأييداً لضلالاتهم وانحرافهم ، ولو أنهم احتجوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة ( الأجر على قدر المشقة ) لكان هذا أخف أمراً فيبقى الحوار معهم في فهم النص غير أن هؤلاء لا يعرفون شيئاً من الأحاديث الصحيحة وليست هذه بضاعتهم فهم يروون الأحاديث الموضوعة ويبنون عليها الأحكام الشرعية كما صنع ذلك غلاة الصوفية حين يرون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من حج ولم يزرني فقد جفاني ) وهذا خبر موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأدلة الصحيحة تخالف هذا وتناقضه .
وكما صنع ذلك عباد القبور حين يروون حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( لو حسَّنَ أحدكم ظنه بحجر لنفعه ذلك ) وهذا الأثر مروي في الكتب الموضوعة وجاء في كتب غلاة الصوفية بدعوى التعلق بالله وحسن التوكل ونحو ذلك ، وهذا شرك برب العالمين .
عمر - رضي الله عنه - يقول للحجر الأسود الذي نزل من الجنة (( والله إني لأعلم إنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك )) والحديث متفق على صحته .
- - -(1/274)
وهؤلاء هم أرباب المجاهدات والجور على النفوس ، قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك ، إذا طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الراحة ، فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق .
(1) مجاهدات لكن على غير السنة ، والجور على النفوس حيث يأخذون النفس بما لا تشتهي ولا تريد بدعوى أن هذا أبعد عن الهوى وأن هذا الأمر هو حقيقة التعبد ، وأن أفضل العبادات وأقربها إلى الله هو أشقها على النفوس وأصعبها .
(2) وهذا فيه نظر ، بل يصبحون فيما بعد كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى .
(3) في بعض النسخ (( إذا طبعها )) والموجود في مدارج السالكين (( إذ طبعها )) وهذا أصح .
(4) وهؤلاء استطاعوا مجانبة الكسل والتخلص من هوة الإخلاد إلى الدنيا وإيثارها على الآخرة غير أنهم وقعوا في الشطح الصوفي والإيغال في التطبيق والإفراط في القول والعمل وهذا غاية الشيطان ومراده .
- - -
والصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات وأنفعها التجرد والزهد في الدنيا والتقلل منها غاية الإمكان ، واطراح الإهتمام بها وعدم الإكتراث لما هو منها .
(1) وهؤلاء قد يحتجون بأحاديث فقد جاء في البخاري قال حدثنا علي بن المديني قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطوفاوي عن سليمان الأعمش قال حدثني مجاهد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بمنكبي وقال: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك )) .
وجاء في البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لو كان لي مثلُ أحدٍ ذهباً ما يسرني أن لا يمر عليَّ ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لِدَين ) .
أَرْصُدُه: بفتح الهمزة وسكون الراء .(1/275)
فهؤلاء يحتجون ببعض النصوص العامة على الزهد في الدنيا والتقلل منها ويدعون ما وراء ذلك ، وهذا ضرب آخر من ضروب الانحراف .
وكثيراً ما أقرر لكم ما هي الأسباب التي أدت بالخوارج إلى الانحراف ، وهي الأسباب التي أدت بالمرجئة إلى الانحراف ، وما هي الأسباب التي أدت بالمعتزلة إلى الانحراف وما هي الأسباب التي أدت بالأشاعرة إلى الانحراف وبالجملة ما هي أسباب الانحراف في كل طائفة ، أطلقت على هذا في مواضع متعددة ، وتحدثت عن ذلك في شرح صحيح البخاري وغيره .
وملخص ذلك أن بعض الطوائف وبعض الأفراد ، وحتى بعض المنسوبين إلى السنة يتناول بعض الأحاديث ويدع ماعدا ذلك ، فيرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مجموعة من الأحاديث فيتناول حديثين أو ثلاثة ويهجر البقية فيتناول الشرع من حيز واحد ولا يحاول الجمع بين هذا وذاك ليصل إلى نتيجة إيجابية ، وهذا ضرب من الانحراف .
وهذا الانحراف قد يقع فيه بعض المنسوبين إلى السنة كما وقع فيه جماعات من أصحاب المذاهب الأخرى ، وحين نضع هذه القاعدة في الميزان فإننا نستطيع أن نضرب مثلاً في ذلك .
في قضية كشف المرأة لوجهها وفي قضية صلاة الجماعة وغير ذلك ، وإن كان لا يمكن مقارنة هذه المسائل بقضايا التصوف والمعتزلة والأشاعرة ونحو ذلك ، لكن لبيان التطبيق العملي والفهم الصحيح للنصوص يأتي بعض الناس فيأخذ بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ) وهذا حديث متفق على صحته . وفي رواية ( بخمس وعشرين درجة ) وقد جاء الخبر من حديث ابن عمر ومن حديث أبي هريرة ومن حديث جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - .(1/276)
قال بعض الأئمة السابقين بأن صلاة الجماعة مستحبة وهؤلاء أهل علم وأهل اجتهاد وقد يعذرون ما لا يعذر من جاء بعدهم ، لكن ما عذر من جاء من المتأخرين حين قال بهذا القول وهجر أكثر من ثلاثين نصاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجوب صلاة الجماعة فأخذ بهذا المشتبه وترك الأحاديث الصحيحة الصريحة كحديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر برجل فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم ) والأحاديث الأخرى الصحيحة الصريحة في هذا الباب .
حين نأتي إلى قضية كشف المرأة وجهها فنرى بعض طلبة العلم وبعض المشايخ يأخذون بحديث وقد يكون ضعيفاً ، وقد يأخذ بحديث ثاني وحديث ثالث ولكن يدعون عشرات الأحاديث الواردة في هذا الباب ويدعون الأصل في هذه القضية .
والأصل أن المرأة عورة كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عند الترمذي بسند صحيح: (( المرأة عورة )) فيخرقون هذا الأصل بناءً على ما ترجح لديهم من الأدلة ، وفيهم من هو من أهل العلم ومن أهل الاجتهاد وفيهم من هو دخيل على هذا العلم فيستغل اجتهادات الأئمة ليشبع رغبته وشهوته ككثير من الصحفيين والعلمانيين وغير ذلك ويحتج بالعلماء ، أهل الاجتهاد في هذه القضية ليروج بدعته وضلالته وهو لا يريد الحق أصلاً في هذه القضية وإلا لَوُفق للصواب في أشياء كثيرة .
فيأخذون بحديث ورواية: (( سفعاء الخدين )) يقولون هذا دليل على كشف المرأة وجهها ، وهذه رواية جاءت في صحيح الإمام مسلم من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر .
بينما الحديث رواه الإمام مسلم من طريق ابن جريح عن عطاء عن جابر بدون لفظه (( سفعاء الخدين )) (( امرأة من سطة الناس )) .(1/277)
وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى أيهما أرجح في عطاء ابن جريج أم عبد الملك ؟! فقال: ابن جريج إذاً رواية عبد الملك شاذة والحديث الذي جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس بدون هذه اللفظة .
وعلى فرض صحتها فيه أحاديث أخرى تفيد وجوب تغطية المرأة وجهها فلماذا نأخذ ببعض الأحاديث وندع مئات الأحاديث ؟!!
المنهج الصحيح في التعامل في مثل هذه القضايا محاولة الجمع بين النصوص وعدم الأخذ بحديث وترك أحاديث ، فحينئذٍ يكون الإنسان ميَّالاً وفيه ميل للزهد يأتي فيحفظ كل الأحاديث الواردة في الزهد ، ولو أن الناس أطبقوا على منهجه الذي هو يتصور أن هذا هو الدين لضاعت الأمة بأسرها ، فهو يفهم حديثاً ولا يربطه بواقع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بواقع الصحابة - رضي الله عنهم - .
الذي علمنا الزهد وعلمنا الورع أليس هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟! هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يركن في المسجد ولا يخرج منه أصلاً ؟! ولا يختلط بالناس ولا يحتك بهم ولا يقيم الجهاد ولا يُعلم الناس ولا يقوم على ذوي الحاجات من الفقراء والمساكين .
الزهد حق ولكن ما هو حد الزهد ؟!
الورع دين ولكن ما هو حد الورع ؟!
فربط هذه الأحاديث بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا هو المطلوب ، ربط هذه الأحاديث بتعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المطلوب .(1/278)
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أزهد الناس وكان يبحث عن المال وينفقه في مرضاه الله جل وعلا كما تقدم من الحديث (( أرصده لدين )) (( وجعَل رزقي تحت ظل رحمي )) كما يقوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان ابن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( بعثت بالسيف حتى يُعْبَدَ الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي ) رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى بسند لا بأس به وقد قال عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الاقتضاء إسناده جيد .
ومع هذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم على حاجات الناس وكان يخالط الناس ويعلم الناس ويرشد الناس ويحلم على الناس وكان يصل أقاربه وأرحامه وإن كانوا مشركين كما جاء هذا في البخاري وغيره .
وكان يجاهد ويقيم علم الجهاد ويقاتل أعداء الله ليكون الدين كله لله والمنهزمون في هذا العصر يقولون إن الجهاد في الشريعة جهاد دفع لا جهاد طلب وهذا انحراف عظيم ويكاد يطبق كثيرٌ ، أو معظم الإعلاميين والصحفيين في هذا العصر على أن الجهاد جهاد دفع لا جهاد طلب لأسباب:
إما لجهلهم وهذا الكثير على هؤلاء ، ومع هذا يتحدثون عن الدين كما يتحدث ابن تيميه وكما يتحدث الإمام أحمد وكما يتحدث الأكابر من أهل العلم ، فيقوم الإعلامي في القنوات الفضائية وعبر الصحف فيتحدث عن الدين وأن الإسلام لا يأمر بالجهاد ولا يقاتل الأعداء إنما يدافع عن النفس وهذا هو الدين وهذا هو الشرع . وهو من أجهل الناس بأحكام دينه .
والأمة مجمعة على جهاد الطلب كما هي مجمعة على جهاد الدفع . ما معنى قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } وما معنى قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون } .(1/279)
ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ) .
تأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي سيرة الصحابة ، في سيرة التابعين ، كانوا يجاهدون جهاد طلب ليكون الدين كله لله .
قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه في مسلم: ( إذا لقيتم عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال فأيتهن ما أجابوا فأقبل منهم أو كف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام إن هم أجابوا فأقبل منهم وكف عنهم ... ) ثم أمره بعد ذلك أن يدعوهم ، إن أجابوا فبها ونعمت لهم ما للمسلين وعليهم ما على المسلمين ، فإن لم يجيبوا أمرهم أن يدعوهم إلى الجزية { حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون } إن امتنعوا عن ذلك قوتلوا حتى يكون الدين كله لله )) .
هذا ضرب من صور الانهزامية الموجودة في عصرنا ، ولو سكت الجاهل لسقط كثير من الخلاف ، ولو حاول أن يتعلم لَمَا ضَل وأَضَل ، وربنا يقول: { ولا تقولوا لِمَا تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } .
وأي كذب أعظم من كون الإنسان يتحدث يقول الشرع لا يأمر بجهاد الطلب وهو مشروع بالكتاب والسنة والإجماع ومن نسب هذا القول إلى ابن تيميه فقط غلط ، إنما هو كلام مُجْمل ذكره في الفتاوى فهمه بعض المتأخرين على ما يريد ، ولم يقرن هذا الكلام بكلام ابن تيميه في المواضع الأخرى الصريحة ، وحتى لو زل في هذه المسألة ابن تيمية أو من هو أجل منه فلا سمع ولا طاعة .
هذا كتاب الله وهذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا الإجماع المنعقد في عصر الصحابة وعصر التابعين ، وهذا جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا جهاد الصحابة ما هو ؟! وهذا جهاد التابعين ما هو !!
والمقصود التنبيه على ضلال هؤلاء المنحرفين في هذا الباب ، الذين يستدلون ببعض الأحاديث ويدعون الأحاديث الأخرى .(1/280)
يأتون إلى أحاديث الزهد فيقولون الدين كله زهد .
ويقولون إن أفضل العبادات وأنفعها التجرد والزهد في الدنيا والتقلل منها غاية الإمكان واطراح الاهتمام بها وعدم الاكتراث لما هو منها .
ويَدَعون العلم ويهملون العلم وقد ينعون على أهل العلم ويقولون: هذا ليس زمن العلم هذا زمن التمسك يتمسكون بجهلهم وينحرفون عن الصراط المستقيم .
والتنبيه أيضاً على القضية الأخرى التي أشرت إليها فيما سبق أن الإنسان إذا أعترضت عنده النصوص يحاول أن يجمع بينها على قدر إلا مكان ويستعين بأهل العلم ومثل هذه الأمور لا يوفق لها إلا العلماء الراسخون { وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } فمن أخذ بحديث دون الأحاديث الأخرى فقد ضل سواء السبيل من الضروري أن تنظر في هذا الحديث وتقرن بينه وبين الأحاديث الأخرى حتى يحصل في ذلك إصلاح المجتمع ولأن بعض الناس ينسب إلى الإسلام أنه لا يعين على العلم ولا يعين على التعلم وهذا انحراف آخر ورب آخر من أنواع الانحراف يصورون الإسلام في نظر الآخرين بأنه إسلام فقط مجرد الزهد ومجرد العبادة ولا يعنى بالأشياء الأخرى ولا الإحداث ولا الإبداع ولا مجارات الآخرين في الإبداعات ولا غير ذلك وهذا غلط وضرب أيضاً في الانحراف فمقل ومستكثر .
- - -
ثم هؤلاء قسمان فعوامهم ظنوا أن هذا غاية فشمروا إليه وعملوا عليه وقالوا هو أفضل من درجة العلم والعبادة . ورأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها .
(1) أي ليس هذا الأمر وسيلة جعلوه غاية .
(2) أي أن الزهد في الدنيا والتقلل منها وإطراح الاهتمام بهاوعدم الإكتراث لها هو درجة أعظم من درجة العلم والعبادة وهؤلاء يرون الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها .
ما هو سبب الأنحراف ؟
واضح هو قلة علمهم فإن اللجؤ إلى الزهد واللجؤ إلى العبادة بدون علم يؤدي إلى مثل هذا الأنحراف وأكثر وحينئذٍ نعرف أهمية العلم في حياتنا ومجتمعنا .(1/281)
ومن جميل ما قاله الإمام مالك وغيره (( إن قوماً ابتغوا العبادة وأضاعوا العلم فخرجوا على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأسيافهم )) .
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (( ما يفسده الجاهل أكثر مما يصلحه )) .
وكما تقدم يتمثل هذا ويتكون عند هذه الشخصية فيجعل هذا هو الدين ، وقد تقدم أنهم يستدلون بأدلة ، وأشرت إلى بعض أدلتهم ولكنهم يفهمونها على ما يريدون وعلى حسب ما يعتقدون ، فهم يعتقدون ثم يستدلون وهذا الاستدلال يضعونه في غير موضعه بسبب جهلهم .
- - -
وخواصهم رأوا هذا مقصوداً لغيره ، وأن المقصود به عكوف القلب على الله تعالى ، والاستغراق في محبته ،والإنابة إليه ، والتوكل عليه حقيقة التوكل والاشتغال بمرضاته ، فرأوا أفضل العبادات دوام ذكره بالقلب واللسان .
(1) أي ليس بغاية ولكنه مقصود لغيره .
(2) أي المقصود من الزهد ليعكف القلب على الله جل وعلا .
(3) وهذا جميل لو أنهم يضمون إلى ذلك العلم ، يضمون إلى ذلك تقديم الواجبات على هذه الجمعية التي يعتقدونها صواباً ، ويضمون إلى ذلك جهاد أعداء الله جل وعلا ، ويضمون إلى ذلك إرشاد الأمة والنأي بها عن مزالق الضلال والانحراف ، ولكلٍ مَشْرَبه وطريقته ، { ولكلٍ وجهة هو موليها } .
وقد لا يتأهل لهذا المنصب العظيم كل شخص ، فلمثل هذا أهل العلم ، ولكن هؤلاء يجب ربطهم بالعلم على قدر طاقتهم وعلى حسب إمكانياتهم ، حيث تكون عباداتهم وخلواتهم موافقة للشريعة لا وكس فيها ولا شطط .
ولأن هؤلاء يشوهون صورة الإسلام في نظر الآخرين ولاسيما أن بعضهم يدعوا إلى هذا وأن هذا هو الإسلام ، ولهذا أصبح الإسلام في نظر كثير من الناس هو مجرد التعبد والخلوات ففصلوا الدين عن السياسة وفرح بذلك العلمانيون وقد يحتجون بمثل أقاويل هؤلاء الجهال على علمانيتهم .(1/282)
فإذا رأى العالم يتحدث عن السياسة يتحدث عن الجهاد يتحدث عن الاقتصاد قالوا: هذا ليس من شأنك وليس هذا عُشه ، اشتغل بالعلم والتعليم واشتغل بتفقيه الناس بأمور الحيض وبأمور الصلاة وأمور الصيام ولا تشتغل بما لا يعنيك ، لهذا أُناس متخصصون .
فهم يعزلون الدين عن السياسة ، وهذه عَلْمَنه قد تكون مبطنه وقد تكون صريحة ، يدعوا إليها كثير من العصرانين المنحرفين وأصحاب الفكر الاعتزالي الجديد الذين أخذوا أسوأ ما في المذاهب الأخرى وأسوأ ما في الحضارة الجديدة ، فضموا هذا إلى هذا ولم يحاولوا أن يطوِّروا أنفسهم فيأخذوا أحسن ما قيل عن المتأخرين وأحسن ما هو جديد في عصرنا فهم جمعوا أسوأ ما قيل في القديم وأسوأ ما هو موجود في عصرنا نسأل الله السلامة والعافية .
العلم يدعوا إلى العمل ، والدين دين سياسة دين اقتصاد ، دين علم دين عبادة ولا يمكن عزل هذا عن هذا ، ونحن نقول دائماً ونقرر بأن الملل كلها والشرائع اتفقت على الكليات الخمس منها الدين ، العرض ، النسل ، العقل ، المال ، هذه الضروريات اتفقت عليها الرسل ، فأين العلمانيون عن ذلك ؟! وأين المتحدثون عن السياسة عن ذلك ، ثم ماذا نصنع على اصطلاح هؤلاء ؟! بالصحفيين وبالسياسيين الذين يسمونهم سياسيين وهم يتحدثون عن الإسلام بالانهزامية الحقيقية ويجارون الغرب في كل شيء .
فحين يتحدث الغرب عن الإرهاب يقولون الإسلام يحارب الإرهاب ولا يذكرون مسمى الإرهاب ، ولا حدود الإرهاب هذا غير صحيح .
الإسلام لا يحارب إرهاباً ، ما هو الدليل على أن الإسلام يحارب الإرهاب لكنهم يتخيلون أشياء في عقولهم المكتثة بالضلال المنحرفة بعلوم الغرب ثم يحاربون أشياء وهمية لا حقيقة لها في دنيا الواقع .
لم يأتي ذكر الإرهاب لا في الكتاب ولا في السنة إلا في موضع واحد على وجه المدح قال تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } .(1/283)
كيف تقولون بأن الإسلام يحارب الإرهاب ؟!
أنا أعرف وأعي ماذا يقصدون وماذا يعنون ؟! يعنون بذلك بعض الأشياء التي قد تكون في نظري مخالفة الإسلام ، لكن كيف تعمِّمون ؟!
خصصوا حتى يحصل النقاش والحوار على هذا التخصيص وحتى يُنظر في هذا الأمر ، هل يوافق الشرع أولا يوافق الشرع ؟
غير أن هؤلاء يتباكون على الغرب حين ضُرب ، نسأل الله السلامة والعافية .
- - -
ثم هؤلاء قسمان ، فالعارفون إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فرقهم وأذهب جمعيتهم .
(1) ولفظ العارف لم يكن مستعملاً في عصر الصحابة والتابعين وإنما شاع استعماله حين كثُر المتصوفة في العالم الإسلامي وتلقى ذلك عنهم بعض العلماء ، ولا مشاحة في الحقيقة في الاصطلاح وفي صياغة اللفظ حتى يُفهم المعنى فنميز بين ما هو حق وبين ما هو باطل ، وإن كنت أرى الابتعاد عن هذا اللفظ حيث ما يقال عن العالم أو عن الزاهد بأنه عارف ، لأن للصوفية مغزى حول هذا اللفظ ولاسيما أن الله جل وعلا أغنانا بلغتنا وبالاصطلاحات الشرعية الموجودة في عصر الصحابة وعصر السلف نتعامل بها أولى من التعامل بالألفاظ الصوفية .
قوله: (( ثم هؤلاء قسمان ))
يشير إلى خواصهم ، فالخواص فيهم عارفون وفيهم منحرفون .
(2) لأن لهؤلاء رصيداً من العلم وهذا الرصيد أدى بهم إلى تقديم الأمر والنهي على الجمعية الوهمية ، وقد تكون هذه الجمعية حقيقية جمعية شرعية حيث يخلوا بربه ويجمع قلبه وينيب إلى الله جل وعلا ، ولكن من الضروري أن تكون هذه الجمعية منضبطة ضمن الضوابط الشرعية بلا إفراط ولا تفريط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( هلك المتنطعون ) الحديث رواه مسلم أي الغالون المتعمقون في الأشياء .
وحينئذٍ لا ننكر الجمعية مطلقاً ولا نجوِّزها مطلقاً حتى نضبطها بضوابط الشرع .(1/284)
هذه الألفاظ مجملة يُقصد بها تارة المعنى الباطل وتارة يقصد بها المعنى الحق ، فمعاذ الله أن ننكر إنكاراً كلياً فننكر ونكذب ما لم نحيط به علماً ومعاذ الله أن نجوِّز ذلك تجويزاً كلياً فنوافق هؤلاء المنحرفين في ضلالهم وشطحاتهم .
- - -
والمنحرفون منهم يقولون المقصود من القلب جمعيته ، فإذا جاء ما يعرفه عن الله لم يلتفت إليه ويقولون :
يطالب بالأوراد من هو غافل ... فكيف بقلب كل أوقاته وِردُ
(1) وسبب انحرافهم الجهل وتقليد الأعمى ، فهم جُهال ويقلدون مشايخهم فأدى بهم هذا إلى الانحراف ، والتقليد دائماً ما يكون هو سبباً من أسباب الانحراف .
(2) وهؤلاء يتواجدون الآن في عالمنا الحاضر ، ويتواجدون في بعض البلاد فمقل ومستكثر .
هؤلاء في الجملة ومن حيث الناحية النظرية يدعون إلى التمسك بالكتاب والسنة لكن حين يأتي التطبيق العملي يقولون: فلان يعنون شيخهم وعارفهم ، لأنهم يسمونه العارف ، هو أعلم منك بالكتاب وأعلم منك بالسنة .
طيب أين الدعوى السابقة إلى الكتاب والسنة ؟! هي دعوى نظرية ومثل هذا كثير حتى في بعض المنسوبين إلى السنة ، يقول الواجب إتباع الكتاب والسنة ، حين تناقشه وتباحثه عن مسألة فقهية يحتج لك بقول فلان وفلان بأنه أعلم منك ، فرجع الأمر إلى هذا الشيخ ، فقد احتج عليه أيضاً بمن هو أعلم من شيخه ماذا يقول ؟!
إن احتج عليك بالإمام الشافعي فاحتج عليه بمن هو أعلم الإمام الشافعي إن احتج عليك بالإمام أحمد فاحتج عليه بمن هو أعلم من الإمام أحمد حتى يصل الأمر إلى التابعين حتى الأمر إلى الصحابة حتى يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
حينئذٍ تنقطع حجة كل من احتج عليك بالتقليد ، النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ) رواه أهل السنن بسند صحيح .(1/285)
لكن هذا المنهج هو منهج صحيح قد يوجد فيه بعض الانحرافات التطبيقية عند الذي يدعون إلى التمسك بالكتاب والسنة لأن الشيطان كما تقدم لا يضر بأيهما ظفر ، بإفراط أو تفريط ، هذا آل به الأمر إلى تقليد العلماء والمشايخ وترك الكتاب والسنة وهذا آل به الذي يعتصم بالكتاب والسنة إلى أن يفهم من الكتاب والسنة على فهمه دون النظر إلى فهم الصحابة والتابعين وهذا ضربٌ آخر من الانحراف ، وموجود في واقعنا الآن .
إذاً نريد التوسط ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، نتمسك بالكتاب والسنة على فهم السلف الصالح دون تقليدهم ، بمعنى أن نجعل العالم بمنزلة الدليل الموصل إلى المطلوب فإذا وصل إليه تستغني عنه بالذهاب إلى ذلك دون تقليده .
فالواحد من هؤلاء لا يقوم إلى الصلاة حين يُنادى بها محتجاً بأنه في جمعيته ولأنه إذا قام من جمعيته إلى الصلاة تفرقت جمعيته فلا يستطيع معاودتها فيما بعد .
ويزعم الواحد من هؤلاء بأنه إذا بقي على جمعيته أفضل من قيامه إلى الصلاة يفرق هذه الجمعية ، وهذا انحراف عظيم وهؤلاء يدعون الواجبات بسبب هذه الجمعية ويدعون الفرائض التي أوجبها الله بسبب هذه الجمعية وهؤلاء بهذا الاعتبار فسقة ومبتدعة حيث يدعون ما أوجب الله من أجل التمشي مع شهواتهم وهذا من الهوى المذموم .
وعبادة الأهواء في تطويفها ... بالدين فوق عبادة الأصنام
- - -
ثم هؤلاء قسمان:
منهم يترك الواجبات والفرائض لجمعيته ، ومنهم من يقوم بها ويترك السنن والنوافل وتعلم العلم النافع لجمعَّيته .
(1) يشير إلى المنحرفين .
(2) القسم الأول: وهذا حرام بإجماع المسلمين وسبب هذا الانحراف كما سبق الجهل والتقليد الأعمى والجهل بمسمى الدين ، وهذا يدعونا إلى وجوب ربط الناس بالعلم وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدي الصحابة .
(3) يقوم بالواجبات والفرائض .
(4) يدع السنن الرواتب والنوافل المطلقة .
((1/286)
5) حيث إذا فرغ من أداء الواجب ترك الراتبة وذهب يشتغل بهذه الجمعية ، وهذا ضرب من الانحراف أيضاً هل فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا ؟ هل فعله الصحابة ؟
النبي - صلى الله عليه وسلم - حثنا على النوافل وحثنا على الرواتب وحثنا على قيام الليل تأمل في هدية - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي أربعاً قبل الظهر ويصلي ركعتين بعد الظهر ويتطوع تطوعاً مطلقاً ، أربعاً قبل العصر كما في حديث أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي - رضي الله عنه - قال: (( كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي أربعاً قبل العصر )) وهذا إسناده جيد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث الأمة على أداء ركعتين قبل صلاة المغرب قال: ( صلوا قبل المغرب ، صلوا قبل المغرب ثم قال في الثالثة لمن شاء ) كراهية أن يتخذها الناس سنة ، وهذا الحديث رواه البخاري في صحيحه ورواه غيره أيضاً ، ثم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين بعد المغرب ويصلي ركعتين بعد العشاء ، ويصلي ركعتين قبل صلاة الفجر من حديث أم حبيبة في صحيح الإمام مسلم يقول - صلى الله عليه وسلم - : ( من حافظ على ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة بُني له بهنَّ بيتٌ في الجنة ) والأحاديث في مثل هذا كثيرة جداً .
وهؤلاء يتعامون عن مثل هذه النصوص ، مجرد أن يفرغ المرء من أداء الفرض الذي أوجبه الله جل وعلا عليه يذهب يقول إذاً أشتغل بجمعيتي فإذاً من الضروري أن نحاج هؤلاء بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لنرد هؤلاء إلى رشدهم ، قال تعالى: { فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل إنما يضل عليها ولا تزروا وازرة أخرى } ، ولا تنظر إلى الهالك كيف هلك ولكن انظر إلى الناجي كيف نجا .(1/287)
وقد جاء في حديث محمد بن عمرو عن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة وسوف تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ) .
وجاء في حديث عبد الرحمن بن زياد الأفريقي حين سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الفرقة قال: (( هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي )) وهذه الرواية ضعيفة ولكن معناها صحيح .
وجاء في حديث معاوية عند أبي داود وغيره قبل من هم يا رسول الله قال (( الجماعة ))
إذاً الانحراف أمر ضروري وسوف يقع في هذه الأمة والاختلاف واقع { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } وكما تقدم سوف تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة ، من هم ؟! هم الجماعة .
وقد ذكر لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين لنا المخرج في حديث العرباض بن سارية (( إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) .
- - -
والحق: أن الجمعية حظ القلب ، وإجابة داعي الله حق الرب ، فمن آثر حق نفسه على حق ربه فليس من العبادة في شيء .
(1) وهذا في الجملة كلام جيد ، فقوله: (( والحق )) أي والصواب في هذه القضية قوله: (( أن الجمعية حظ القلب )) وهذا ليس على إطلاقه ، لأن حظ القلب لا ينهى عنه مطلقاً لأنه قد يكون مربوطاً بحق من حقوق الله جل وعلا فالجمعية قد يجتمع فيها ثلاثة أمور:-
1- حظ القلب .
2- وحظ النفس
3- وحظ الرب(1/288)
إذاً كانت مقيدة بما سبق بحيث لا يؤدي إلى ترك واجبات ولا إلى ترك سُنن ونوافل ولا يؤدي إلى ترك العلم ، لأن العلم ضروري في هذه الأمة ، ولا قوام للبلاد ولا للعباد إلا بالعلم قال تعالى: { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } وقد تواترت الأدلة في العلم .
والعلم منه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية ومنه ما هو مستحب وفي صحيح الإمام مسلم من حديث أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنَّة ) .
ومما يروى عن الإمام الشافعي أنه قال:-
اصبر على مُر الجفا من معلم ... فإن رسوب العلم في نفراته
ومن لم يذق مُر التعلم ساعةً ... تجرع ذل الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه ... فكبر عليه أربعاً لوفاته
وذات الفتى والله بالعلم والتقى ... إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
إذاً قول المؤلف: (( والحق أن الجمعية حظ القلب )) هذا صواب في الجملة لكن يقيد ذلك ، فيه أيضاً شيء من حظ النفس ومن حظ الرب جل وعلا .
قوله: (( وإجابة داعي الله حق الرب )) بحيث التقيد بالأوامر والنواهي ، هذا حق الرب ، فإذا أُضيف هذا إلى ما سبق وقيدت الجمعية بإجابة داعي الله فلا إشكال في هذا الأمر .
لكن المؤلف أراد أن يوصل معلومة مهمة قال: (( فمن آثر حق نفسه )) ولو كان حق النفس متعلقاً بحق من حقوق الله .
قوله: (( على حق ربه )) الذي هو الأصل الأمر والنهي .(1/289)
قوله: (( فليس من العبادة في شيء )) على واقع هؤلاء المنحرفين ، لكن حين يُقال بأنه لا مانع من الجمعية المقيدة بالأوامر والنواهي المقيدة بأداء السنن والرواتب المقيدة بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، المقيدة بما كان عليه الصحابة حينئذٍ يصبح المعنى صحيحاً وسليماً ، ولا إشكال فيه ، غير أن المؤلف رحمه الله تعالى تكلم عن واقع معين وعن تقرير علمي عن طائفة موجودة في دنيا الواقع يبين مالها وما عليها
قوله:(( فليس من العبادة في شيء )) تقدم أن العبادة لا تسمى عبادة حتى يتوفر فيها أمران أساسيان: الإخلاص والإتباع .
والعبادة دون أتباع ليست عبادة ، قد تكون صلاة لكن حين تضعها في غير موضعها وتؤديها على غير الوجه الذي كان يؤديه النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تسمى في الحقيقة عبادة وإن كانت في أصلها عبادة .
- - -
الصنف الثالث: رأوا أن أفضل العباداتِ ما كان فيه نفع متعدٍ ، فرأوه أفضل من النفع القاصر ، فرأوا خدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالجاه والمال والنفع أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم - ( الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ) . قالوا: وعمل العابد قاصر على نفسه وعمل النّفّاع متعدٍّ إلى الغير ، فأين أحدهما من الآخر ؟ ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب .
(1) النفع المتعدي في الجملة أفضل من النفع القاصر ، وهؤلاء يعممون هذا الحكم .
(2) وهذا الخبر رواه أبو يعلى في مسنده والبزار وغيرهما من طريق يوسف بن عطية قال حدثنا ثابت عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ، وهذا إسنادٌ ضعيفٌ جداً ويوسف بن عطية متروك الحديث وقد حكي الاتفاق على ضعف هذا الخبر ، وهذا الصواب ، فإنه لا خلاف بين أهل الحديث في نكارة هذا الخبر .(1/290)
ولكن لا ريب أن النفع المعتدي أمره عظيم وشأنه كبير ، وقد قالت خديجة رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين أخبرها عن الوحي وما لقي وقال: ( لقد خشيت على نفسي ) قالت: خديجة رضي الله عنها : ( كلا والله ما يخزيك الله أبداً ) والسبب أن الله لا يخزيه أبد عللت فقال: (( إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرئ الضيف وتعين على نوائب الحق )) وهذا متفق على صحته .
(3) وهذا التعميم فيه نظر ، فإن بعض العبادات التي يقتصر فيها المرء على نفسه أفضل من العبادات المتعدية ، وهؤلاء عمموا القول بأن النفع المتعدي أفضل مطلقاً من النفع القاصر ، ولم يراعوا بعض العبادات التي يقتصر فيها المرء على نفسه كالصيام والصلاة وغير ذلك ، فإنها أفضل بكثير من بعض النفع المتعدي ولاسيما أن بعض هذه الأمور أركان .
(4) وذلك لأن النفع متعدٍ ، ونفع العالم متعدي إلى الآخرين فكان فضله على العابد الذي نفعه قاصر كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب .
وهذا جزء من حديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من طريق عاصم بن رجاء بن حيوه عن داود بن جميل عن كثير بن قيس عن أبي الدرداء وهذا إسنادٌ ضعيف وفيه اختلاف .
ولكن لا ريب أن العالم أفضل من العابد ، وهذا ليس لكل عالم ، إنما هو للعالم العامل الذي جمع مع العلم العبادة .
فأضاف على عبادة العابد شيئاً آخر وهو العلم العلم بالله ؟ العلم بأسمائه وصفاته والعلم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعلم إذا لم بصاحبه خشية في القلب تدفعه إلى قول الحق ، تدفعه إلى نفع الآخرين فهذا ليس بعلم . فإن العلم المؤدي إلى خيانة الله وخيانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخيانة الأمة والاكتساب بهذا العلم المناصب والرياسات فهذا ليس بعلم وهو إلى الضر أقرب منه إلى النفع .
قال تعالى: { إنَّما يخشى الله من عبادة العلماء } .(1/291)
إنما: أداة حصر تثبت الموجود وتنفي المفقود ، وإذا حصر الفعل بإنما يجب تقديم المفعول على الفاعل: { إنّما يخشى اللهَ } بالنصب ، والفاعل هو العلماء .
والمعنى: إنما يخشاه حق الخشية هم العلماء العاملون ، العلماء الذين ورثوا ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم - وهؤلاء الذين يجب عليه من البيان مثل ما وجب على الأنبياء .
- - -
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - : ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمُر النعم ) .
(1) وهذا الخبر متفق على صحته من حديث سهل بن سعد الساعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر ، وقد وقعت في السنة السابعة : ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) فيه إثبات صفة المحبة لله جل وعلا (( يفتح الله على يديه )) هذا علم من أعلام النبوة ، (( فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجوا أن يعطاها )) لأن الذين يعطي هذه الراية قد وُصف بوصف عظيم وكبير يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله .
وليس الشأن أن تُحِبْ إنما الشأن أن تُحَبْ ، فقال: (( أين علي بن أبي طالب )) فيه الإيمان بالقدر حيث حصلت لمن لم يسعى ولم ينالها من سعي وبذل جهده في تحصيلها .
فقالوا: هو يشكي عينيه ، فدعا به فبصق بعينيه ودعا له وبرأ كأن لم يكن به وجع ، فيه إثبات معجزات الأنبياء ودلائل النبوة (( وأعطاه الراية )) فيه حمل الألوية لإقامة الجهاد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يغزوهم بعد الدعوة وهذا هو جهاد طلب وليس هذا جهاد دفع .(1/292)
والأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جهاد الطلب متواتر فإن أمة الإسلام يدعون أمة الكفر إلى الإسلام فإن أجابوا فلهم مالنا وعليهم ما علينا ، إن امتنعوا وجب علينا ، أن ندعوهم إلى دفع الجزية ويجب عليهم الرضوخ لذلك ، فإن امتنعوا وجب علينا قتالهم ليكون الدين كله لله قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } الفتنة: الشرك والكفر .
فما دام سلطان غير سلطان الله يعبد في الأرض فالجهاد قائم ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ) والحديث متفق على صحته ، وقد احتج به الإمام أحمد رحمه الله تعالى على أن الجهاد قائم إلى أن تقوم الساعة ولا ينقطع الجهاد أبداً إلا حين العجز عن تطبيقه والعمل بمقتضاه .
وفي هذه الفترة يجب الإعداد للتأهب إلى قتال العدو قال تعالى: { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } .
ترهبون أي تخيفون ، فإخافة الكفار مطلب من مطالب الشريعة .
وما يرد في الصحف الخضراء والإعلام المرئي والمسموع من كون الإسلام لا يأمر بالقتال ابتداءً فهذه انهزامية أمام الإعلام الغربي وجهل بالدين ، فمثل هؤلاء يجب عليهم السكوت وعدم الخوض فيما لا يعنيهم ، وهؤلاء يتحدثون عن الإسلام وهم لا يمثلون الإسلام ولا في ظواهرهم ، ويتحدثون عن الإسلام كما يتحدث عنه أكابر أئمة الاجتهاد في كل عصر ، فيقولون: أحل الله كذا وحرم كذا ، وما أحل الله كذا ولا حرم كذا وقد قال تعالى: { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } والجهاد من النفع المتعدي .(1/293)
قوله: (( حتى تنزل بساحتهم ثم أدعوهم إلى الإسلام )) فيه الدعوة قبل القتال (( وأخبرهم بما يجب من حق الله تعالى فيه فو الله )) هذا هو الشاهد من سياق الحديث ، وهذا هو الشاهد لقول هؤلاء بأن النفع المتعدي أفضل من القاصر ، وهذا في بعض صورة صحيح ولكن ليس على إطلاقه ، وسيأتي إن الله أن الأفضل أن كل شيء بحسبه لأن لكل شيء وظيفته قوله: (( فو الله )) فيه جواز الحلف من غير استحلاف وفيه مشروعية الحلف لتأكيد الأمور المهمة . (( لئن يهدي الله بك رجلاً واحدا )) أي من الكفار ويدخل في ذلك هداية الفاسق والمنحرف وكلٌ بحسبه وكلٌ له أجره . (( خير لك من حُمُر النعم )) مَثَّلَ بِحُمُر النعم لأنها كانت أنفس أموال العرب ، وإلا فذرة من ذرات الآخرة خير من الدنيا وما فيها .
- - -
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجر من تبعه من غير أن ينقص من أجورههم شئيا ) ، وقال: ( إن الله وملائكته يصلون معلمي الخير ) . وقال: ( إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها ) .
(1) هذا الخبر رواه مسلم في صحيحه من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجود من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلاله كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ) .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من دعا إلى هدى ) فيه أن النفع المتعدي أعظم من النفع القاصر لأن الدعوة من النفع المتعدي ، قال تعالى: { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } أي لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله .
((1/294)
2) وهذا الأجر والثواب لم يرد في العبَّاد ، وهذا الخبر رواه الترمذي رحمه الله من طريق سلمة بن رجاء قال حدثنا الوليد بن جميل قال حدثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا خبر لا يصح فيه عدة علل ، وقد قال الإمام أبو حاتم رحمه الله تعالى الوليد يروي مناكير عن القاسم ، والقاسم مختلفٌ فيه .
(3) هذا الحديث رواه الترمذي رحمه الله تعالى من طريق محمد بن يزيد الواسطي قال حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوه عن قيس بن كثير ويقال كثير بن قيس ـ عن أبي الدرداء وأعله الترمذي بالانقطاع ، ورواه أبو داود وابن حبان وجماعة من طريق عاصم بن رجاء عن داود بن جميل عن كثير بن قيس عن الدرداء وفي داود بن جميل وكثير بن قيس كلام والخبر ضعيف قد جاء في إسناده اضطراب ، والأحاديث في فضل العلماء كثيرة قد كتب العلماء في ذلك مؤلفات متعددة وأبرزوا من خلالها فضائل العلم وفضائل العلماء وأهمية العلم وأهمية العلماء وبينوا في هذه الكتب صفات العالم الذي جاء الفضل فيه وذكروا آداب المتعلم فحري بطالب العلم أن ينظر فيها وأن يقرأها ومن أمثل هذه الكتب كتاب الجامع للخطيب البغدادي وكتاب جامع بيان العلم وفضله للإمام ابن عبد البر ، وينظر أوائل كتاب مفتاح دار السعادة للإمام ابن القيم فقد أطال الحديث عن العلم وعن العلماء وعن فضلهم وجلالة قدرهم وبيان فنزلتهم والعلم تقدم أنه ليس لأي العلم إنما للعلم الموروث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا الفضل ليس لكل عالم إنما هو للعالم الذي يبلغ ما ائتمنه الله عليه ولا يخون الأمانة ولا الرسالة التي أمر بتبليغها فإذا كتم العلم واعتاض عن الدين بالدنيا وصار بوقاً للظلمة وجعل الفتوى حسب الطلب وصيِّر العلم خادماً للسياسة فهذا إلى الإجرام أقرب منه إلى التقوى والعلم ، ومن جميل ما ذكره الشيخ عبد العزيز الجرجاني رحمه الله تعالى أنه قال:(1/295)
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وما زلت منحازاً بعرضي جانباً ... من الذم أعتد الصيانة مغنما
إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما
وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل أهل الأرض أرضاهم منعما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيرته لي سلَّما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأُخدما
أأشقى به غرساً وأجنيه ذلةً ... إذاً فإتباع الجهل كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أذلوه جهاراً ودنسوا ... مُحَيَّاهُ بالأطماع حتى تجهَّما
وهذه الأبيات توجد في معجم الأدباء لياقوت الحموي رحمه الله .
- - -
قالوا: وصاحب العبادة إذا مات انقطع عمله ، وصاحب النفع لا ينقطع عمله مادام نفعه الذي تسبب فيه .
(1) جاء في صحيح الإمام مسلم رحمه الله من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقةٍ جارية وعلمٍ ينتفع فيه وولدٍ صالح يدعو له ) ، فهذا دليل أن العلم النافع يبقى أجره وثوابه بعد وفاته .
وبالجملة فالعلم أفضل من العبادة ، فعالم عابد أفضل من عابد جاهل وهذا بإجماع المسلمين ولا خلاف بينهم في ذلك ، ولكن ينبغي أن نتعرف على صفات العالم ، أذكر جملةً من صفات العالم:-
الصفة الأولى: أن تتمثل فيه حقيقة العلم من المعرفة والإدراك والفهم ، والناس يتفاوتون في العلم ، منهم المتخصص في علم من العلوم ، ومنهم من الذي له إدراك في أكثر العلوم الشرعية .
الصفة الثانية: أن يعمل بعلمه على قدر استطاعته ، فعلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر ، وقد قال بعض السلف: (( من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عُبادنا ففيه شبه من النصارى )) .(1/296)
الصفة الثالثة: أن يدعو إلى هذا الحق الذي يحمله وإلى هذا العلم الذي يحفظه ، فإن الدعوة إلى الله جل وعلا وهي مهمة الرسل وأتباعهم إلى يوم الدين .
الصفة الرابعة: أنهم يخُشون ربهم سراً وعلانية فلا يقولون على الله غير الحق ولا يتحدثون بالباطل ، إن عجز أحدهم عن قول الحق وخاف على نفسه سكت ولم ينطق بالباطل .
ومن صفات هؤلاء العلماء: الذين جاء الثناء عليهم في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقرن الله جل وعلا شهادتهم بشهادة الملائكة وشهادة الملائكة بشهادته جل وعلا ، أنهم لا يخونون الله ولا يخونون الرسول ولا يخونون أماناتهم بل يبذلون جهدهم وطاقتهم في حماية هذا الدين في الذب عن أهله ويحملون هذا العلم ويذبون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين .
ومن صفات هؤلاء العلماء: أنهم لا يحسدون أحداً على ما آتاهم الله من فضله ولا يراءون الناس بأعمالهم ولا يحبون أن يحمدوا عالم يفعلوا .
ومن صفات هؤلاء العلماء: أنهم يتحدثون بالحق وقت الحاجة ويرون أن المهمة في هذه الأوقات أكبر من غيرها .
ومن صفات هؤلاء العلماء: أنهم يبلغون العلم إلى من لا يعلمه .
ومن صفات هؤلاء العلماء: أنهم لا يكتمون الحق وهم يعلمون .
ومن صفات هؤلاء العلماء: أنهم يتواضعون لربهم فالتواضع سمة من سماتهم .
ومن صفات هؤلاء العلماء: أنهم لا ينافسون الناس على دنياهم ، ولا يبيعون ذمتهم للسلاطين ولا لغيرهم من أجل دنيا فانية ، فإن العالم يجره علمه إلى أن يعلم أن القليل يكفيه للتزود إلى الآخرة وليس بحاجة إلى الملايين إلا إذا اكتسبها بحق وأنفقها في مرضاة الله فحينئذٍ يجمع بين العلم والعمل كما صنع ذلك عبد الرحمن بن عوف وجماعة من الصحابة .
ومن صفات العلماء: أنهم لا يعتدون على الأبرياء ولا يستعلون بمناصبهم على الآخرين .
ومن صفات العلماء: أنهم يواجهون الانحرافات في المجتمع بعزيمة الصادقين وتحمل المتقين .(1/297)
ومن صفات هؤلاء العلماء: أنهم لا يداهنون في دين الله ولا يخلطون بين المداهنة وبين المداراة .
ومن صفات هؤلاء العلماء: أنهم لا يبررون جرائم أهل الطغيان ويجعلون من المفسدين في الأرض مصلحين ودعاةً ناصحين .
ومن صفات هؤلاء العلماء: أنهم يصلحون بواطنهم وظواهرهم .
هذا هو العالم الذي تتطلع إليه الأنظار وتعقد عليه الآمال ، وهذا هو العالم الذي يستحق أن يقتدى به وينظر لقوله وفعله فحين يتحدث عن المسائل الشرعية يتحدث عنها بتدين وصلاح وتقوى لرب العالمين وينظر ما يرضي الله وما يرضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
- - -
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بُعثوا بالإحسان إلى الخلق ، وهدايتهم ، ونفعهم في معاشهم ومعادهم ، لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع ، ولهذا أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على أولئك النفر الذين همّوا بالإنقطاع والتعبد وترك مخالطة الناس . ورأى هؤلاء أن التفرغ لنفع الخلق أفضل من الجمعية على الله بدون ذلك
(1) يريد بهذا الكلام أن يذكر حُجج أصحاب الصنف الثالث الذين يفضلون النفع المتعدي على النفع القاصر .
قوله: (( والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بُعثوا بالإحسان إلى الخلق )) وهذا لا خلاف فيه ، وقد تقدم قول خديجة رضي الله عنها حين قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( كلا والله ما يخزيك الله أبد إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرئ الضيف وتعين على نوائب الحق ) متفق على صحته .
(2) قال تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم } أي بدعوتهم وتوجيههم وتوعيتهم وبذل النصح لهم ، وفي حديث تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : ( الدين النصيحة ، قلنا لمن ، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه مسلم في صحيحه .
(3) وهذا صريح الكتاب وصريح الأحاديث ، فالأنبياء يبذلون جهدهم في نفع الناس وجلب ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم .
((1/298)
4) أي لم يكن هذا هو هُجَيرَهم ولم يكن هذا هو سبيلهم ولا دعوتهم .
(5) وهذا الخبر جاء في الصحيحين ، رواه البخاري من طريق محمد بن جعفر قال أخبرنا حميد بن أبي حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال جاء ثلاثة رهطٍ إلى بُيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجدوه فسألوا عن عبادته فأخبروا فكأنهم تقالوها ، فقالوا: أيُنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فقال بعضهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر: أما أنا فلا أتزوج النساء ، وقال أحدهم: أما أنا فأقوم ولا أنام ، وحين أُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبر هؤلاء ذهب إليهم في أماكنهم وقال:(( أنتم الذين قلتم كذا وكذا قالوا: نعم ،قال: أما أنا فأتزوج النساء ،وأصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، ومن رغب عن سنتي فليس مني )) .
وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه من طريق حماد بن سلمه عن ثابت البناني عن أنس - رضي الله عنه - وفيه: (( قال بعضهم: أنا لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم: أنا لا آكل اللحم ، وقال بعضهم لا أنام على فراش )) .
وهذا دليل إنما أتى به المؤلف رحمه الله تعالى ليبين أن الانقطاع عن الخلق والتعبد وإيثار الخلوات ليس محموداً ، فإن هؤلاء حين اعتاضوا عن المباحات وعن الطيبات في الخلوات أنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن قد يقال بأن هؤلاء أعرضوا عن المباحات تعبداً لله وهذا ابتداع ، بخلاف من أعرض عن المباحات اشتغال بما هو أنفع فهذا شيء آخر وهذا له حكم .
ويقال أيضاً : بأنه قد يشتغل المرء بالعبادات القاصرة دون النفع المتعدي ودون أن يقع في الانحراف أو أن يحرم ما أحل الله أو يدع المباحات تعبداً لله بذلك كما صنع هؤلاء ، فصنيع هؤلاء الرهط يختلف تماماً عمن اقتصر على المباحات دون النفع المتعدي .(1/299)
وهذا الحديث محله فيمن لم يتزوج ولم يأكل اللحم وأعرض عن الطيبات وأوغل في بعض العبادات كأن يصوم ولا يفطر ، ويقوم ولا ينام تعبداً لله جل وعلا بذلك ، فهذا هو الانحراف عما جاءت به الرسل وهذا هو الشطح الصوفي المنهي عنه ، أما حين يشتغل المرء بالعبادات القاصرة ويعرض عن العبادات المتعدية فلا يمكن الاحتجاج عليه بهذا الخبر .
قال أصحاب هذا القول: أي الذين لا يزال الحديث والكلام لمن يرى أن النفع المتعدي أفضل من النفع القاصر وهذا في الجملة جيد ولكن ليس على إطلاقه فكل شيء في وقته أفضل ولا يمكن أن يقال بأن النفع المتعدي أفضل من النفع القاصر من كل وجه هذا غلط كما أنه لا يمكن أن يقال بأن النفع القاصر أفضل من النفع المتعدي من كل وجه هذا غلط .
- - -
قالوا: ومن ذلك العلم والتعليم ونحو هذه الأمور الفاضلة .
الصنف الرابع : قالوا أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب سبحانه واشتغال كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته ، فأفضل العبادات في وقت الجهاد ، الجهاد ، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار ، بل من ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن .
(1) العلم من النفع المتعدي والتعليم من النفع المتعدي فإن الأمة بحاجة إلى علماء بحاجة إلى معلمين يبصرون الناس ويعلمونهم الحلال والحرام ويرشدونهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم .
(2) وهؤلاء يفصِّلون في هذه القضية ولا يقولون بقول أصحاب القول الأول بأن أفضل العبادات وأنفعها أشقها فهذا غلط لأن المشقة غير مقصودة لذاتها ولا يقولون بقول أصحاب الصنف الثاني: بأن أفضل العبادات وأنفعها التجرد والزهد في الدنيا ، ولا يقولون بقول الصنف الثالث: بأن أفضل العبادات ما كان فيه نفع متعدٍ ويطلقون القول دون تفصيل ، أصحاب القول الرابع يفصلون في هذه القضية .
((1/300)
3) والدليل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب عبادات وحث على أداء الفضائل فحث على الذكر وحث على الجهاد وحث على الصلاة ، وحث على الصيام وحث على صلة الأرحام ، وحث على البر ، وحث على الإحسان وهذه الأمور لا يمكن أن نحملها على التعارض ولا يمكن أن نقول بأن هذا أفضل من هذا مطلقاً . فالحل الصحيح والقول الذي تدل عليه الأدلة النقلية والعقلية أن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب وأداء كل عبادة على وجهها وعلى وظيفتها ، فإن اشتغال كل وقت بما هو مقتضى ذلك وبما هو وظيفته هذا أفضل الأعمال .
(4) ففي حالة الخوف يجوز ترك إتمام الصلاة وفي حالة الخوف يجوز قصر الصلاة في أصح قولي العلماء .
قال بعض العلماء: في صلاة الخوف بأن الصلاة لا تقصر إلا في السفر .
وقال بعض العلماء: بأنه يجوز قصر الصلاة في الحضر ، وهذا الذي تدل عليه الأدلة كحديث ابن عباس رضي الله عنهما في مسلم حين فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ركعة واحدة ، حمله الإمام أحمد رحمه الله تعالى على ما إذا التقى الجيشان ولم يستطع أن يؤدي الصلاة فإنه حينئذٍ يصليها قصراً .
إذاً أفضل العبادات في وقت الجهاد هو الجهاد وإن آل إلى ترك كثير من المتسحبات .
الجهاد نوعان: جهاد طلب وجهاد دفع ، وقد تقدم الحديث عن ذلك ، وجهاد الدفع نوعان منه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية ، فإذا داهم العدو بلاد المسلمين وجب على المسلمين مناهضة هذا العدو ومقاومته ، فإن قامت الكفاية بهؤلاء فهذا هو المطلوب وإن لم تقم الكفاية فيجب على من حولهم من المسلمين مناصرتهم ويصبح الجهاد في حقهم فرض عين فإن قامت بهم الكفاية وإلا وجب على من ورائهم وهذا إجماع من أهل العلم حكاه البغوي والقرطبي وغيرهما لأن الله جل وعلا قال: { وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر } وقال تعالى: { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من النساء والرجال والولدان ... } الآية .(1/301)
والجهاد يكون باللسان ويكون باللسان ويكون بالمال ويكو بالنفس في سُنن أبي داود والنسائي من طريق جماد بن سلمه عن حميد الطويل عن أنس قال - صلى الله عليه وسلم - : ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) وهذا على قدر طاقة كل واحدٍ منا .
ونحن الآن في وقت جهاد ، في وقت قتال الأمريكان الحربيين لبلاد المسلمين بحاجة إلى تقرير هذه المسائل ومعرفتها والحديث عنها وبحاجة إلى دعم إخواننا بأموالنا وأنفسنا على قدر طاقتنا والتخلف عن مناصرة المسلمين وصمة عار علينا معاشر المسلمين والحدود المصطنعة الحدود الجغرافية الوهمية لا تحول بيننا وبين مناصرة إخواننا المسلمين فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( المسلم أخو المسلم ) وجاء في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) والمتخلف عن مناصرة المسلمين متخلف عن أداء فرض عظيم من الفروض .
أما حين يُناصر بعض المنسوبين للمسلمين أعداء الله لقتال المسلمين فهذه ردة عن الإسلام ، فكل دولة وكل فرد قاتل مع الأمريكان ضد إخواننا المسلمين في أفغانستان أو في الشيشان فإنه مرتد عن هذا الإسلام وكافر بالله العلي العظيم لأن الله جل وعلا يقول: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } ذكر ذلك الإمام ابن جرير في تفسيره على هذه الآية ، وذكر ذلك الإمام ابن حزم وقال لا يختلف في ذلك اثنان ، وذكر ذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في نواقض الإسلام العشرة قال في أحدها: مظاهرة المشركين على المسلمين ، ولا عذر لأحد في ذلك .(1/302)
ودعوى الإكراه في ذلك غير صحيحة ، لأنه ليس من الإكراه أن تبقى نفسك على حساب غيرك ، وليس من الإكراه أن تبقى على منصبك في ذهاب دولة إسلامية ، الله جل وعلا يقول: { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } وهؤلاء يتجاوبون مع الكفار قبل أن يقع الإكراه عليهم ، يتجاوبون مع الكفار في التحالف معهم في تعطيل شعائر الإسلام وفي قتال المسلمين تحت غطاء الإرهاب ، ما هو هذا الإرهاب ؟!
لا نعرف إرهاب في العالم إلا إرهاب الأمريكان الذين يقتلون أبناء المسلمين ويستولون على ديارهم .
نعلم ضربهم للسودان وحصارهم لليبيا والآن يدعمون الروس لقتال الشيشان والحصار على العراق وقتل الأبرياء في فلسطين ودعم المجرم شارون في الاستيلاء على بلاد المسلمين أليس هذا إرهاباً ؟!
حين ضُرب حفنة من إخوان القردة والخنازير في أمريكا تحدث الإعلام عن الإرهاب وعن حكم قتل الأبرياء ومن قبل لا يعرفون حكم قتل الأبرياء ؟
ولا يعرفون الإرهاب ويتحدثون عن الإرهاب من منطلق كفري ويتحدثون عن قتل الأبرياء في الدفاع عن إخوانهم ، أما حين يأتي الحديث عن القتال في فلسطين والقتال في الشيشان والقتال في كشمير والقتال في الدول الإسلامية فهم لا يعرفون شيء من ذلك .
فالإرهاب تقدم الحديث عنه مراراً وأنه لفظ مجمل ولم يرد في الكتاب ولا في السنة إلا على وجه المدح .
قال تعالى: { ترهبون به عدوا الله وعدوكم } لفظ مجمل يحتاج إلى تفصيل ، منه ما هو حق ومنه ما هو باطل ، فقتال المسلمين تحت غطاء محاربة الإرهاب هذا لا يقبله عاقل ناهيك عن مسلم .(1/303)
فالله الله في مناصرة المسلمين ، كلٌ على حسبه وكلٌ بقدر طاقته ولا يجوز التخلف عن ذلك فهؤلاء يريدون إسلامنا ، يريدون ديارنا ، حين ظهرت جبهات القتال في العالم الإسلامي في كشمير وفي الفلبين وفي الشيشان وفي أفغانستان هذا أزعج العالم الغربي وخشوا من إتحاد هؤلاء وتكوين دولة إسلامية حقيقية تحكم بشرع الله وتحمي أبناء المسلمين فأعدوا العدة لتفريق هؤلاء ولقتلهم قبل أن تضرب أمريكا، فحين ضربت أمريكا اتكأوا على غطاء قتل الإرهابيين والدفاع عن أوطاننا . وإلا فهم من قبل يتحدثون عن ذلك منذ أن حطمت الأصنام في أفغانستان وهم يتجهون بأنظارهم وتفكيرهم وسياستهم في كيفية القضاء على هذه الدولة التي أخذت تحمي أبناء المسلمين وتظهر شعائر الإسلام وتحكم بشرع الله جل وعلا فخشوا من هذا الإسلام الحقيقي ، لأنهم يعرفون الإسلام الذي يوجد في البلاد الأخرى ، إسلام وهمي .
صحيح أن الأفراد يمثلون الإسلام في قطاع كبير في العالم الإسلامي ولكن الحكومات لا تمثل الإسلام ، يحكمون بغير شرع الله ، ينطوون تحت أنظمة وألوية هيئة الأمم ، يلغون الجهاد ، يحاربون الإسلام في الداخل في منع الدعاة والمصلحين من تبليغ الدين من الدعوة من الخطابة ومن غير ذلك ، فيه أنظمة كنظام العمل والعمال ونظام البلديات ونظام الوزارات ونظام الشُرطَ هذه أنظمة غربية لا تمت للإسلام بصلة . فحين ظهرت هذه الدولة التي تطبق شرع الله جل وعلا خافوا منها ، والمقصود من ذلك الحديث عن الجهاد والقتال مع المجاهدين على قدر الإمكان وعلى الأقل مناصرتهم بالمال .
- - -
والأفضل في وقت حضور الضيف: القيام بحقه والاشتغال به .
والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والذكر والدعاء .
والأفضل في وقت الأذان: ترك ما هو فيه من الأوراد والاشتغال بإجابة المؤذن .
((1/304)
1) ففي هذا الوقت الاشتغال بالضيف أفضل من الاشتغال بالذكر وأفضل من الاشتغال بغيره ، ففي هذا الوقت أفضل من الاشتغال ما لم تتزاحم الواجبات فيقدم أفضلها وأهمها .
وقد جاء في الصحيحين من طريق أبي الأحوص عن أبي حَصَين عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) .
(2) وقد جاء في البخاري ومسلم عن طريق مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة وأبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له ) .
فالإشتغال في وقت السحر بالصلاة والدعاء أفضل من الاشتغال بغيره بما لم يحين وقته .
والسحر: يطلق على ما بعد منتصف الليل ، وربنا جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ، فحري بالمسلم في هذا الوقت أن يكون قائماً مصلياً يجمع بين الصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء ، فالصلاة فيها قراءة وفيها ذكر وفيها دعاء ، قال الله جل وعلا: { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون } .
(3) والدليل على هذا ما جاء في الصحيحين من طريق مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن ) وهذا على وجه الاستحباب عند الجمهور وقال جماعة بأنه واجب والسنة أن تقول مِثَل ما يقول المؤذن فإذا فرغ المؤذن من الجملة تتابعه بعد ذلك إلا في الحيعلتين ، في الصحيح أن تقول: (( لا حول ولا قوة إلا بالله )) لحديث عمر في صحيح الإمام مسلم فيحمل المطلق على المقيد كما قال في المراقي:
وحمل مطلقٍ على ذاك وجب ... إنْ فيهما اتحد حكمٌ والسبب
وقال بعض العلماء: يقول هذا تارة ويقول هذا تارة .(1/305)
وإذا فرغ المؤذن من آذانه يستحب أن تقول: (( اللهم رب هذا الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وأبعثه مقاماً محموداً الذي وعدته )) فقد جاء في البخاري قال: حدثنا علي بن عياش قال حدثنا: شعيب ابن أبي حمزة عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وأبعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة )) .
- - -
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والاجتهاد في إيقاعها على أكمل الوجوه .
(1) لا يزال الحديث عن الصنف الرابع الذين يقولون أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب سبحانه وتعالى وإشغال كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت وبما هو مقتضى وظيفته ، وقد تقدم الحديث عن أفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد ، وأن الأفضل في وقت حضور الضيف القيام بحقه ، وأن الأفضل في وقت السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والذكر والدعاء ، وأن الأفضل في وقت الأذان ترك ما هو فيه من الأوراد والاشتغال بإجابة المؤذن ومتابعته .
قوله: (( والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد و الاجتهاد في إيقاعها على أكمل الوجوه )) .
وقد قال أبو الدرداء - رضي الله عنه - : (( من فقه الرجل أن يقبل على صلاته وقلبه فارغ )) رواه البخاري في صحيحه معلقاً والإسناد صحيح .(1/306)
وقوله: (( الاجتهاد في إيقاعها على أكمل الوجوه )) أي بأداء أركانها وواجباتها ونحو ذلك ، ففي هذا الوقت يفرِّغ قلبه ويسخر جهده ويبذل طاقته في أداء هذه العبادة العينية على أكمل الوجوه ، فإن الصلاة فرض عين وأدائها في المسجد واجب فتفريغ النفس لأداء هذه الواجبات أفضل العبادات في هذا المقام فإن الصلاة هي أفضل العبادات البدنية ، كما أن التقرب لله بالذبح هو أفضل العبادات المالية ، وقد قرن الله عز وجل بينهما في مواضع كقوله تعالى: { قل إن صلاتي ونسكي } وكقوله تعالى: { فصل لربك وانحر } وغير ذلك من الأدلة .
- - -
والمبادرة إليها في أول الوقت ، والخروج إلى المسجد وإنْ بَعُدَ .
(1) وقد جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال سُأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أي العمل أفضل؟ ) قال: ( الصلاة لوقتها ... ) الحديث .
وقد اختلف العلماء في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( الصلاة لوقتها )) فقيل المعنى أداء الصلاة في الوقت سواءٌ كان في أوله أو في أوسطه أو في آخره ، المقصود أن تؤدي الصلاة في الوقت فلا تؤخرها إلى آخر وقتها أو بحيث يخرج وقتها قال تعالى: { فويلٌ للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون } أي يأخرونها عن وقتها .
وقال طائفة من العلماء: الصلاة لوقتها أي في أول وقتها واستدلوا بأدلة:
الدليل الأول: ما جاء عند الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الصلاة في أول وقتها ) غير أن هذه الرواية ضعيفة شاذة لا يمكن الاعتماد عليها .(1/307)
واستدلوا أيضاً : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر وشرع وندب إلى الإبراد ، واستدلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالإبراد في شدة الحر فَعلم من هذا أنه لو لم يكن فيه حرَّ أن المبادرة إلى أداء الصلاة في أول وقتها أفضل ، واستدلوا أيضاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبادر بصلاة المغرب ، وإذا أخر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما صلاة المغرب إلى أن تشتبك النجوم نحر بدنه تكفيراً لهذا العمل ، واستدلوا أيضاً بعمل الصحابة - رضي الله عنهم - حيث كانوا يبادرون بأداء صلاة الظهر وبأداء صلاة العصر والمغرب والفجر في أول وقتها ، بخلاف العشاء فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرها إلى شطر الليل وقال: ( إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي ) .
والصحيح في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الصلاة لوقتها ) أي أداء الصلاة في الوقت ونأخذ أفضلية أول الوقت من الأدلة الأخرى .
(2) أي أن هذا من أفضل العبادات حيث لا يؤدي الصلاة في البيت فإن الله عز وجل يقول: { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - همَّ بتحريق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة والحديث متفق على صحته قال أبو هريرة - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم ) .
وقد جاء في رواية مسند الإمام أحمد رحمه الله (( لولا ما فيها من النساء والذرية )) وهذا الرواية ضعيفة شاذة لا تصح .
ويستحب الخروج إلى المسجد في أول الوقت ليؤدي الراتبة ويشتغل بقراءة القرآن حتى تقام الصلاة ، ولأن هذا أدعى إلى حضور القلب وادعى إلى الخشوع .(1/308)
قوله: (( وإن بَعُدَ )) جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم ممشى ) . وجاء في صحيح مسلم من طريق عدي بن ثابت عن أبي حازم الأشجعي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( منْ تطهر في بيته ثم مشى إلى بيتٍ من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه أحدهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجه ) .
- - -
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج: المبادرة إلى مساعدته بالجاه والمال والبدن ، والأفضل في السفر: مساعدة المحتاج وإعانة الرفقة ، وإيثار ذلك على الأوراد والخلوة .
(1) وهذا هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد تقدم قول خديجة رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ) متفق على صحته فالمبادرة إلى مساعدة المحتاجين بالجاه والمال والبدن صفة من صفات الأنبياء والمرسلين .
وقد جاء في صحيح مسلم من طريق أبي معاوية محمد خازم الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من نفس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ) .
والمبادرة إلى قضاء حوائج العباد منه ما هو واجب ومنه ما هو مستحب ، وهذا الواجب نوعان منه ما هو عيني ومنه ما هو كفائي .
((1/309)
2) والأفضل في السفر مساعدة المحتاج فمن عزم على السفر شُرع لك مساعدته وتسهيل مهمته فإن كان غازياً فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( من جهز غازياً فقد غزى ) وإن كان حاجاً أو معتمراً فالدَّال على الخير له مثل أجر فاعله ، وإن كان ابن سبيل قد انقطعت به الحبال فلا بلاغ له اليوم في الوصول إلى بلدة والذهاب إلى أهله وعشرته إلا بالله ثم بك فحينئذٍ تجب مساعدته يعتبر هذا واجباً ويجوز بذل الزكاة في هذه الصورة ومن ذلك إعانة الأصحاب في تسهيل مهمتهم وقضاء نهمتهم ، ويشرع إيثار ذلك على الأوراد والخلوة لأن هذا ليس وقته فهذا الوقت وقت مساعدة ووقت إيثار قال تعالى: { يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } أي: حاجة .
- - -
والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب ، والهمة على تدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك .
(1) وذلك حتى يحصل ضبطه وفهمه ووعيه ومعرفة أوامره ونواهيه وحين يحصل انتفاع القلب قال تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً } وقال تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فتدبر القرآن إن رمت الهدى ... فالعلم تحت تدبر القرآن
وتدبر القرآن منه ما هو واجب ومنه ما هو سنة مؤكدة ، والفائدة من تدبر القرآن فهم المعاني وخشية الرب والانتفاع ومعرفة الأوامر والنواهي وحصول الفهم وانتفاع القلب فجمعية القلب وقت قراءة القرآن من أفضل العبادات وأعظم القُرب فهذه العبادة من أسمى المطالب وأعظم المقامات فإن العبد إذا جاءه كتاب من سلطان يأمره بأمر أو من عالم له قدره في قلبه تمعن في هذا الكتاب وقرأه قراءة تدبر وتفهم ألفاظه وتفهم معانية ، ولعله يعيده ثانية وثالثة و رابعة ولعله يقرأه على الآخرين إن كان فيه مدح له وثناء أو إيجاد منصب وغير ذلك .(1/310)
وقراءة كلام الرب جل وعلا بالتأمل والتدبر والنظر في الأوامر والنواهي أولى من قراءة كتاب السلطان بهذه الطريقة ، ولو أن العبد فرغ قلبه حين قراءة القرآن لحصل له من الإيمان أضعاف أضعاف ما هو عليه , فإن القرآن شفاء لما في الصدور ونور وهدى ورحمة قال تعالى: { ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيراً منهم فاسقون } .
وقد تقدمت الإشارة إلى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تعداد معاني هجر القرآن حين تحدث على قوله الله جل وعلا: { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } قال هجر القرآن أنواع فذكر: هجر تلاوته وهجر تدبره وهجر العمل به وهجر التحاكم إليه وهجر التشافي به ، فإذا قرأه ولم يتدبره فقد وقع في هجر التدبر ، وإذا قرأه وتدبره ولم يتحاكم إليه رفع في هجر التحاكم إليه ، وإذا فعل كل هذه الأمور ولم يتشافى به وقع في هجر التشافي بالقرآن .
والكثير يعتقد أن هجر القرآن هو هجر تلاوته وهذا غلط ، هو ضرب من الهجر وليس هو الهجر كله .
- - -
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر .
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لاسيما التكبير والتهليل والتحميد ، وهو أفضل من الجهاد غير المتعين .
(1) فإن الاجتهاد في هذا الوقت بالدعاء والذكر أفضل من قضاء حوائج الآخرين ومن قراءة القرآن ومن الاشتغال بأمرٍ يمكن تأخيره عن هذا الوقت لأنه جاء في صحيح مسلم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً يدعو حتى غربت الشمس ) .
فالدعاء في هذا الوقت من أفضل القُرب وأفضل الأعمال .(1/311)
وقد جاء في الموطأ من رواية مالك عن زياد ابن أبي زياد عن طلحة بن عُبيد الله بن كريز أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة ، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ) وهذا حديث مرسل ولا يصح إلا مرسلاً ، وله شاهد عند الترمذي من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولا يصح أيضاً .
(2) وقد جاء في البخاري من طريق شعبة عن سليمان عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من العمل في هذه (( أي العشر )) ، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟! قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) وظاهر الأحاديث والأدلة أن العمل في أيام عشر ذي الحجة أفضل من العمل في العشر الأواخر من رمضان ، وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء على أقوال:
القول الأول: هذا القول بأن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من العمل في العشر الأواخر من رمضان. القول الثاني: أن العمل في العشر الأواخر من رمضان أفضل .
القول الثالث: التفصيل وهو أن العمل في ليالي العشر من رمضان أفضل من العمل في ليالي العشر من ذي الحجة والعمل في نهار عشر ذي الحجة أفضل من العمل في نهار العشر الأواخر من رمضان وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وهذا فيه نظر أيضاً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من العمل في هذه ) ، فإن قال قائل في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر ، وقد قال تعالى: { ليلة القدر خير من ألف شهر } أي خير من عبادة ثلاثة وثمانين عاماً وبضعة أشهر فكيف تفضلون عشر ذي الحجة على العشر الأواخر من رمضان وفي ذلك ليلة القدر ؟(1/312)
فالجواب: أن هذا هو مقتضى النصوص ، وما جاء من تفضيل ليلة القدر فيقال عن ذلك إن ليالي العشر من ذي الحجة والنهار أفضل من ليالي العشر والنهار من الأواخر من رمضان وليلة القدر فيمن وافقها هي أفضل من أيام عشر ذي الحجة فالتفضيل واقع على من وافق ليلة القدر لأن التفضيل جاء بخصوصها ، ما جاء التفضيل بعموم الليالي ، وهذا قاله جماعة من أهل العلم وهو الصواب في هذه القضية وحينئذٍ الأفضل في أيام عشر ذي الحجة أو أن أيام عشر ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر من رمضان ومن وافق ليلة القدر فإن هذه الليلة هي أفضل من عشر ذي الحجة وقول المؤلف: (( لاسيما التكبير والتهليل والتحميد )) : الروايات الواردة في الإكثار فيهن من التكبير والتهليل والتحميد لا يصح منها شيء وحديث أبي هريرة وفيه يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر هذا رواه الترمذي وغيره وفي صحته نظر ، هذا الخبر ضعيف ولا يصح ، والمحفوظ في الباب حديث ابن عباس المتقدم .
قوله: (( وهو أفضل من الجهاد غير المتعين )) لأن الجهاد المتعين كالدفاع عن الأوطان والدفاع عن الأعراض والدفاع عن الأموال والدفاع عن أراضي المسلمين وعن حرماتهم من الواجبات العينية المجمع عليها وهي أفضل من المستحبات بالاتفاق وهذه الواجبات تتفاوت مراتبها ، ثم إن الحديث أثار إلى مسألة مهمة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ( إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بذلك بشيء ) وفيه أن الجهاد غير المتعين إذا خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء أنه أفضل من العمل في العشر وهذا صريح الخبر .
- - -
والأفضل في العشر الأواخر من رمضان لزوم المساجد والخلوة فيها مع الاعتكاف والإعراض عن مخالطة الناس والاشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء
((1/313)
1) فقد ذهب الإمام مالك ووافقه على ذلك أكثر الأئمة أن الاشتغال في العشر الأواخر والاعتكاف والخلوة والإقبال على قراءة القرآن أفضل من تعليم الناس ومن مخالطتهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في كان في العشر الأواخر من رمضان يعتكف وكان يخلو بربه وكان يكثر من تلاوة القرآن والإجتهاد في العبادة ولم يكن يذهب إلى القيام بخدمات الناس والاشتغال بمخالطتهم ونحو ذلك لكن لا مانع في هذه الحالة من جاء يستفتي يفتى ومن جاء يطلب إعانة ويستطيع أن يعينه بحيث يرسل غيره وينيب الآخرين فليفعل ذلك ويجتهد في ذلك لكن لا يجعل هذا هو همه وغايته لأن هذا يشغل عن قراءة القرآن وعن العبادة لكن ما جاء يطلب لزم إعانته وتسهيل مهمته والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان أفضل من العمرة وذلك لوجوه :-
الوجه الأول: أن هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الوجه الثاني: أن هذا هو هدي الصحابة وزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الوجه الثالث: أن هذا أكثر مشقه ، والأجر على قدر المشقة لأن المشقة غير مطلوبة لذاتها ولكن إذا كان يعمل عملاً هذا وضعه وفيه مشقة فهو أفضل من غيره .
الوجه الرابع: أن قوله - صلى الله عليه وسلم - ( عمرة في رمضان تعدل حجة ) والحديث في الصحيحين لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً وإنما قاله للمرأة التي فاتها الحج فقال لها: (( إن عمرة في رمضان تعدل حجة )) فكان هذا دليلاً على أن من فاته الحج وكان حريصاً على أداءه فإنه يعتمر في رمضان فتعدل عمرته حجة ولا يمكن أن نأخذ منه مشروعية العمرة في رمضان مطلقا ، أو أن العمرة في رمضان تعدل حجة مطلقاً وذلك لأمور:(1/314)
الأمر الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رمضان الأمر الثاني: أن الصحابة لم يفهموا من هذا الخبر العموم وإلا لبادروا إلى العمل ، وفهم الصحابة للنصوص ، من الضروري أن نتعامل معه في الدلالة والتطبيق ونحو ذلك ، حيث ننظر فهم الصحابة وعملهم بالأدلة لأنهم حين لم يطبقوا هذا كأنهم فهموا الخصوصية في من فاته الحج .
الأمر الثالث: أنه لو قيل بأن العمرة في رمضان مشروعة كما هو قول طائفة من العلماء كالبخاري وجماعة بناءً على الأخذ بعموم هذا الخبر وأنه لا يختص بالمرأة فيقال أن الاعتكاف في العشر أفضل من العمرة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم الاعتكاف على العمرة والعمرة في رمضان فيها ثلاثة مذاهب لأهل العلم: المذهب الأول: أنها كبقية الشهور وهذا قول طائفة من فقهاء الشافعية وغيرهم .
المذهب الثاني: أن العمرة في رمضان مشروعة وفيها فضل خاص وأنها تعدل حجة للحديث المتفق على صحته المتقدم وهذا قول الجمهور .
المذهب الثالث: أن العمرة في رمضان مشروعة لمن فاته الحج ، وإلى هذا أشار ابن تيميه رحمه الله قال في الفتاوى ولم يكن قوله صريحاً في هذه المسألة وفي الجملة فالأفضل في العشر الأواخر من رمضان الاعتكاف في المساجد قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلت العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وشده مئزره .
- - -
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته : عبادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلواتك وجمعتك .
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذى الناس لك ، أداء و(3) الصبر مع خلطتك لهم .
((1/315)
1) وهذا لا إشكال فيه لأن الخلوة والجمعية تقدم التفصيل فيها والضوابط الشرعية في ذلك حين يُقال باستحبابها فإنه يُقال في عيادة المسلم بالإيجاب وقد جاء في الصحيحين من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( حق المسلم على المسلم خمس .... ) ومنها عيادة المريض وإتباع الجنائز ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - حق المسلم على المسلم هذا على الوجوب ويحتمل أنه على الأعيان ، ويحتمل أنه على الكفاية ، وقد يقال بالتفصيل: فإن كان أخوك المسلم ممن له حق عليك ويتطلع إلى زيارتك وإلى رؤيتك ويأنس بذلك وقد تكون زيارتك سبباً لشفاءه وإدخال السرور عليه وعلى أهله فتكون عيادته من فروض الأعيان وإلا فيقال بالوجوب الكفائي إذا قام بعيادته وزيارته بعض ... المسلمين سقط هذا الإيجاب عن الآخرين والمسلم أخو المسلم ، يُشرع له عيادته وزيارته وحضور جنازته وتشييعه ويُقدم ذلك على الخلوة وغيرها وحين تتعارض الواجبات يُقدم الأهم فالأهم .
(2) إذا لم تؤثر عليه الخلطة ، وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا } ، وقال تعالى: { واصبر وما صبرك إلا بالله } ، وقال تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا } وقال تعالى: { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسين } .(1/316)
ففي وقت نزول النوازل وتكالب الأعداء وخذلان الأصدقاء فأداء واجب الصبر أفضل من أداء كثير من الواجبات الأخرى لأن هذا يبعث على العمل ويبعث على الثبات ويبعث على زيادة اليقين وزيادة الإيمان بالله جل وعلا قال تعالى: عن المؤمنين يوم الأحزاب: { ولما رأى المؤمنين الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا وتسليما } إيماناً وتصديقاً وثباتاً وتسليماً لأوامر الله وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف من إذا أصيب أعطى الدنية في دنيه وقَّبِلَ المساومات على عقيدته وفكره ومنهجه ، تأمل في حال السحرة حين كانوا سحرة أول النهار وبعد ذلك آمنوا بالله وأذعنوا لأوامر الله وقالوا آمنا برب هارون وموسى فوعدهم فرعون بالقتل قالوا: { لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فأقضي ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } ما هي ساعات ودقائق فتعاين ما تسمع ، إذاً حين يحصل لك أذى وامتحان واختبار فمن الضروري أن تصبر فإن وعد الله حق { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يؤمنون } قيل للشافعي رحمه الله الرجل يبتلى قبل أن يمكن أو يمكن ؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى . وقال تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } والحق لا بد له من ابتلاء واختبار وامتحان { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } .
والحق منصور وممتحن فلا ... تعجب فهذي سنة الرحمن(1/317)
وقد أُوذي النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذات الله وحبس في الشعب ثلاثة أعوام وجاء في حديث حماد بن سلمه بن ثابت عن أنس - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لقد أُوذيت في الله وما يُؤذى أحد وأُخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت عليَّ ثلاث ما بين يوم وليلة وما لي ولعيالي طعام إلا ما يواري إبط بلال ) رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح .
- - -
والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم .
(1) هذا لفظ حديث رواه الترمذي وغيره من طريق شعبة عن سليمان الأعمش عن يحيى بن وثاب عن شيخ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله .
قال الذهبي كان شعبة يرى أن هذا الشيخ هو ابن عمر رضي الله عنهما ، وقد جاء مصرحاً به عند ابن ماجه والطبراني وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٌ خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا ولكن قل قَدَّر الله أو قَدر الله وما شاء فعل ) .
- - -
وخلطتهم في الخير وأفضل من عزلتهم فيه ، وعزلتهم في الشر خير من خلطتهم فيه ، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله وقلله فخلطتهم خير من اعتزالهم .
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق ، والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المقيد ، فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص ونزل عن عبادته فهو يعبد الله تعالى على وجه واحد ، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبدٍ بعينه يؤثره على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاه الله تعالى .
((1/318)
1) لأن المخالطة في الخير والتوجيه والتوعية أفضل من العزلة لأن الناس بحاجة إلى من يُوَجِّههم ويعلمهم ويرشدهم فلو أن الأفاضل والعلماء وطلبة العلم والدعاة والمصلحين اعتزلوا الناس فمن للناس ؟ من لتوجيهم ؟ من لتعليمهم ؟ فإيثار العزلة على المخالطة من كل وجه هذا غلط وإيثار المخالطة على العزلة من كل وجه هذا غلط فيه تفصيل خلطتهم في الخير أفضل من عزلتهم فيه وعزلتهم في الشر خير من خلطتهم فيه .
(2) قد تقدم شرح هذه الأصناف .
فالصنف الأول: الذين عندهم أنفع العبادات وأفضلها هي الأشق والأصعب .
الصنف الثاني: الذين يقولون بأن أفضل العبادات وأنفعها التجرد والزهد .
الصنف الثالث: الذين يرون أن أفضل العبادات ما كان فيه نفع متعدٍ .
الصنف الرابع: هو ما جاء في هذا التفصيل ، وهذا التفصيل هو أصح ما قيل في المسألة ، وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق الذين يُؤدون العبادات على أكمل الوجوه وعلى حسب ما تقتضيه الحاجة وعلى حسب ما يقتضيه الشرع وتقتضيه الأدلة الثابتة الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: ( والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المطلق ) حيث يعبدون الله جل وعلا تعبداً مطلقاً يعبدونه في هذا الباب دون غيره من الأبواب وحين ترتاح نفوسهم لباب ولوجه من الوجوه يفضلونه على غيره ، قد تقدم الحديث عن ذلك.
(3) وهذا واضح من طريقتهم ومن تأمل هذا الباب رأى أن هذا هو واقع القوم وأن هذا هو الواقع فإن من رأى أن هذا الباب أنفع من غيره بحيث إذا فارقه رأى أنه قد نقص لأنه يفضل هذا الباب على الآخر بدون دليل وعلى حساب الأدلة الأخرى وهذا ضربٌ من الجهل .
((1/319)
4) وحينئذٍ فلا يزال متنقلاً في منازل العبادة كلما رُفعت له منزلة عَمل على سيره إليها فيكثر من ذكر الله ومن الصلاة ومن العبادة وإذا جاء وقت بر الوالدين بر بوالديه ، وإذا جاء وقت صلة الأرحام وَصِلَ أرحامه ، وإذا جاء وقت الجهاد جاهد في سبيل الله جل وعلا مع أداء فروض الأعيان وأداء الواجبات الأخرى ، إذا كان الوقت ليس فيه قتال أو فيه جهاد أشتغل بقراءة القرآن وفي الذكر وفي العبادة المطلقة
وهكذا يتقلب ولا يزال متنقلاً في منازل العبودية وهذا معنى قوله تعالى: { إياك نعبد } أي على الوجه الذي يرضيك { إياك نستعين } وهذا كلما رُفعت له منزله عمل على سيره إليها .
- - -
إن رأيت العلماء رأيته معهم ، وكذلك في الذاكرين والمتصدقين ، و أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله ، فهذا هو الغذاء الجامع للسائر إلى الله في كل طريق والوافد عليه مع كل فريق .
واستحضر هنا حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - بحضوره هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكيناً ؟ قال أبو بكر: أنا قال: (( هل منكم أحد أصبح اليوم صائما ؟ قال أبو بكر: أنا . قال هل منكم أحد عاد اليوم مريضاً قال أبو بكر: أنا . قال هل منكم أحد تبع اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر: أنا ... )) الحديث . هذا الحديث روي عن طريق عبد الغني بن أبي عقيل ثنا يغنم بن سالم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً في جماعة من أصحابه فقال من صام اليوم ؟ قال أبو بكر: أنا قال: من تصدق اليوم ؟ قال أبو بكر: أنا ، قال: من عاد اليوم مريضاً ؟ قال: أبو بكر: أنا ، قال: فمن شهد اليوم جنازة ؟ قال: أبو بكر: أنا . قال: وجبت لك )) يعني الجنة .
(1) يجالس العلماء ويخالطهم ويحضر مجالسهم ليستفيد من علومهم وفهومهم .
(2) أي لا تفقده في مكان يرضي الله ويرضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تراه في الذاكرين والمتصدقين .
((1/320)
3) والمعنى من هذا الباب أنه إذا أراد أن يقرأ القرآن وأراد أن يؤدي العبادة يجمع قلبه على ذلك وليس المعنى على الطريقة الصوفية حيث يجتمع فئام من الناس من أجل هذا الغرض وهذا لا أصل له .
(4) وحرّىٌ بمثل هذا السائر أن يُوفق لأنه أدى العبادات على الوجه المطلوب ، من عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة ، (( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة )) ، رواه الترمذي وغيره من حديث ابن عباس وإسناده صحيح .
(5) هذا الخبر رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى قال في صحيحه من طريق مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم الأشجعي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، فهذا الحديث يسمى حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال هذا في كل مرة يقول أبو بكر الصديق: أنا ، وفي آخر الحديث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ) والمؤلف رحمه الله تعالى أغفل عزوه إلى مسلم واشتغل بذكر بعض الطرق الواهية .
(6) وهذا الطريق موجود في التمهيد للإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى .
(7) وهذا الإسناد متروك قال الإمام ابن حبان رحمه الله تعالى: يغنم بن سالم كان يضع الحديث على أنس
وقال ابن يونس حَدَّث عن أنس فكذب ، وجزم بضعفه أبو حاتم وابن عدي وجماعة .
فلو وقف المؤلف على حديث أبي هريرة في مسلم لاستغنى به عن هذا الطريق الواهي وعن الاشتغال بذكر بعض الطرق الواهية .(1/321)
ويغنم بن سالم وإن تُكلم فيه لكن تابعه سلمة بن وردان . وله أصل صحيح من حديث مالك عن محمد بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة : يا عبد الله هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة نودي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد نُودي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دُعى من باب الريان ، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : يا رسول الله ما على من يدعى من هذه الأبواب ضرورة ، فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها ؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم ) .
(1) ويجاب عن هذا من وجوه ، الوجه الأول: أن يغنم بن سالم فيه كلام عظيم وليس الكلام في يغنم من حيث سوء الحفظ أو أن الخلاف فيه يسير الكلام فيه عظيم فهو متهم بالوضع بل قال ابن حبان رحمه الله: كان يضع الحديث على أنس .
قوله: أيضاً (( لكن تابعة سلمة بن وردان )) وهو الوجه الثاني: سلمة أيضاً فيه كلام فلا تغني متابعته . الوجه الثالث: أن متابعة سلمة جاءت في مسند أحمد رحمه الله تعالى وجعل القائل (( أنا )) هو عمر - رضي الله عنه - ولم يجعله أبا بكر ولهذا ذكر هذا الخبر في مسند أحمد في فضائل عمر وهذا غلط من سلمه بن وردان وقد أخطأ فيه لأن الصواب أنه أبو بكر جاء صريحاً في مسلم من حديث أبي هريرة ، وقد تقدم ، وسلمة لا يحتج بخبره إذا تفرد فكيف إذا خالف .
(2) قوله: (( من أنفق زوجين )) والمراد بذلك إنفاق شيئين من أي صنف من أصناف المال من نوع واحد ، ويأتي إن شاء الله زيادة بيان على هذه المسألة .
قوله: (( في سبيل الله )) قيل المراد الجهاد ، وقيل ما هو أعم منه أي في طلب ثواب الله وهذا الأقرب .
((1/322)
3) في هذا دليل على تعدد أبواب الجنة وهي ثمانية جاء هذا صريحاً في حديث عمر في صحيح الإمام مسلم ، وفي هذا دليل على فضل أبي بكر ، وفيه ردٌ على الرافضة ، وفيه الإيمان بالقدر ، وفيه أن الأعمال من مسمى الإيمان وفيه الرد على القدرية والجبرية ، وفيه غير ذلك من الفوائد .
- - -
هكذا رواه عن مالك موصولاً مسنداً يحيى بن يحيى ومعن بن عيسى وعبد الله بن المبارك ، ورواه يحيى بن بكير وعبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن حُميد مرسلاً (1)، وليس هو عند القعنبي مرسلاً ولا مسنداً (2) . ومعنى قوله: (( من أنفق زوجين )) يعني شيئين من نوع واحد نحو درهمين أو دينارين أو فرسين أو قميصين (3)، وكذلك من صلى ركعتين (4)، أو مشى في سبيل الله تعالى خطوتين (5)، أو صام يومين ونحو ذلك (6) .
(1) والخبر ثابت محفوظ من حديث مالك ، رواه البخاري وغيره ، وقد ثبت من حديث غير فقد رواه شعيب عند البخاري عن الزهري فهذه متابعة لمالك على رفعه .
ورواه يونس وصالح ومعمر عن الزهري روى ذلك عنهم مسلم في صحيحه وجاء الخبر في الصحيحين من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - الحديث
(2) وهذا الكلام الذي ذكره المؤلف منقول من التمهيد للإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى وقد أشار إلى نحو هذا القول الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى .
(3) قوله: (( من أنفق درهمين أو دينارين أو فرسين أو قميصين )) هذا واضح هذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أنفق زوجين في سبيل الله )) والمراد من ذلك إنفاق شيئين من أي صنف من أصناف المال من نوع واحد .
(4) ففيه نظر لأن الصلاة لا تؤدي إلا بهذه الطريقة والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يتطوع بركعة واحدة وإنما جاء جواز هذا في الوتر . (( الوتر ركعة من آخر الليل )) . رواه مسلم في صحيحه .
((1/323)
5) لو مشى في سبيل الله خطوتين ولم يصل إلى الغاية لم يكن هذا هو المطلوب إنما هذا مقصود إلى وسيلة إلى غاية ، والمقصود من ذلك أن يُؤدي الغاية ولكن إذا مشى خطوة أجر عليها ، إذا مشى خطوة أخرى أجر عليها ، وكذلك الذي يخطوا خطوة إلى المسجد فيرفع بها درجة وتحط بها عنه خطيئة لكن ليس المعنى من قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أنفق زوجين )) لأن هذا لا يسمى أيضاً إنفاقاً إنما هذه عبادة ووسيلة إلى غاية
(6) وهذا فيه نظر ولو كان هذا هو المقصود لطبقه الصحابة والتابعون وأهل العلم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أفضل الصيام صيام داود ، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) متفق على صحته .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم تقول عائشة رضي الله عنها حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وهذا صحيح أيضاً ، إذا لا يشرع أن يصوم يومين متتابعين بقصد تطبيق معنى من أنفق زوجين ، ولكن لو صام يومين متتابعين بقصد التعبد لله جل وعلا بذلك فهذا أمراً مشروع ، إنما ينهى عن ذلك صيام يومي العيدين فيحرم صومهما بإجماع المسلمين وكذلك على الصحيح وهو قول الجمهور ينهى عن صيام أيام التشريق للحاج وغيره على أصح قولي العلماء .
وإنما أراد ـ والله أعلم ـ أقل التكرار ، وأقل وجوه المداومة على العمل من أعمال البر ، لأن الاثنين أقل الجمع (1).
فهذا كالغيث (2) أين وقع نفع (3) ، صحب الله بلا خلق (4) ، وصحب الخلق بلا نفس (5) ، إذا كان مع الله عزل الخلائق مع البين ، وتخلى عنهم (6) وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها ، فما أغربه بين الناس لِلَّهِ وما أشد وحشته منهم لِلَّهِ وما أعظم أُنسه بالله وفرحه به ، وطمأنينته وسكونه إليه (7).
(1) هذا من حيث الناحية الشرعية ، ومن حيث الناحية اللغوية فأقل الجمع ثلاثة .
(2) أي المتصف بالأوصاف المتقدمة فإنه يدور مع الأمر حيث دار ويدور معه حيث استقلت مضاربه فهذا كالغيث .
((1/324)
3) كلما كان المرء مخلصاً ومطبقاً للسنة كلما عظم نفعه لأنه مع الإخلاص والمتابعة يحصل في ذلك الإقتداء أكثر وأكثر ويحصل بذلك الانتفاع أكثر وأكثر .
(4) وهذه منزلة الإحسان ، وهي أعظم منازل العبودية حيث يقوم بالعبودية عن معرفة وانقطاع عن الخلق وتعلق برب العالمين .
(5) لأن النفس معلقة بالله جل وعلا .
(6) وهذا كله منقول من قوله (( فهذا كالغيث )) من مدارج السالكين المجلد الأول ولكن المؤلف رحمه الله فصل بين كلام ابن القيم السابق في الصنف الرابع بذكر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وذكر حديث أنس ، ثم أتبعه بشيء من التخريج ثم أتبعه بتفسير معنى قوله: (( من أنفق زوجين )) وهذا كله من كلام الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى في التمهيد ولكن فيه شيء من التصرف .
(7) كلما عظم توحيد المرء وكلما أزداد يقينه وتعلقه بالله جل وعلا ، كلما عظمت عبوديته وتعلقه بالله وحينها إذا كان مع الخلق فهو بلا نفس .
وحينئذٍ تشتد غربته وتشتد وحشته ، فالمسلم غريب بين الكفار والسني غريب بين أهل البدع ، والمتمسك بالدين غريب بين أهل المعاصي وهذه الغربة مراتب متفاوتة ، ولا يعني هذا الانقطاع عن الخلق بل يجب التوجيه والتوعية وبذل الجهد في إصلاح الآخرين ولاسيما في مثل هذه الأزمان الذي اشتدت فيه غربة الدين ، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( بدء الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ) .(1/325)
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( بدء الإسلام غريباً ) فالناس كانوا لا يعرفون التوحيد ولا يعرفون ما جاءت به الرسل ، فلذلك لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من قومه عداوة عظيمة ، وحين ذهب إلى الطائف أوذي وضرب بالحجارة ، وحين أراد أن يرجع إلى مكة لم يرجع حتى دخل في جوار المطعم بن عدي إلى أن هاجر من مكة إلى المدينة وبدأ الناس بعد ذلك يدخلون في دين الله أفواجا ، وهذا الدين حين ظهر وتم سوف يكون غريباً في كثير من المجتمعات ولكن ولله الحمد والمنَّة لا تزال طائفة على الحق منصورين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى ، ففي هذه الغربة التي خفيت فيها معالم الحق واندرست معالم التوحيد من الضروري أن نواجه هذه الانحرافات بعزيمة الصادقين وتحمل المتقين ببيان الحق لأن الله أمر بذلك قال تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أُتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } ومن الضروري أن ينالك شيء من الأذى من جراء بيان الحق ونحو ذلك فعليك بالتحمل فما خُلق المرء للحياة قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .
من رام نيل العز فليصطبر على ... لقاء المنايا واقتحام المضايق
فإن تكن الأيام رنقن مشربي ... وثلمن حدي بالخطوب الطوارق
فما غيرتني محنة عن خليقتي ... ولا حولتني خدعة عن طرائقي
لكنني باقٍ على ما يسرني ... ويغضب أعدائي ويرضي أصادقي
المهم أن تكون في هذا المقام وحين تقوم هذا المقام مخلصاً لله جل وعلا لا تريد لا رياء ولا سمعه ولا مدحاً من الآخرين وأن تكون في ذلك مقتفياً ومتبعاً آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن جميل كلام سفيان رحمه الله تعالى أنه قال : (( إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل )) .
- - -
واعلم أن الناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرق أربعة ، وهم في ذلك أربعة أصناف (1).
((1/326)
1) الاختلاف أمرٌ كوني قدري فقد قال تعالى: { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنه من يعش منك فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة ) الحديث رواه أهل السنن وغيرهم من حديث العرباض بن سارية وإسناده جيد .
وقد جاء في حديث محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وسوف تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار ) في رواية عبد الرحمن بن زياد حين سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - من هم قال: ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) وهذه الرواية شاذة . وعبد الرحمن بن زياد ضعيف الحديث .
وفي رواية معاوية عند أبي داود وغيره (( هم الجماعة )) والسند صحيح ، والجماعة هم من كان على مثل ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه الصحابة .
وقد طعن في هذا الخبر كثير من المتأخرين لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كلها في النار ) فهؤلاء اعتقدوا أن المقصود التخليد في النار وحين أنكروا هذا الخبر وكذَّبوا بما لم يحيطوا به علماً ، وهذا خطأ من وجوه:
الوجه الأول: أنه لا يصح تضعيف الأحاديث الصحيحة بمثل هذه الطرق .
الوجه الثاني: أن من جهل شيئاً لا ينبغي أن يجعل جهله حجةً على علم غيره .
الوجه الثالث: أن هذا الخبر صحيح ، وقد صححه الأكابر من الحفاظ ومعناه يتوافق مع المعاني الأخرى في كتاب الله وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/327)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كلها في النار إلا واحدة ) ليس معنى هذا أنها مخلدة في النار ، في هذا الحديث بيان وإشارة إلى أن هذه الفرق منحرفة عن الصراط المستقيم ، وأهل البدع الذين لا تخرجهم بدعتهم عن الإسلام مثل أهل الكبائر لا يخلدون في النار وهذا بإجماع أهل السنة والجماعة وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إلا واحدة ) هؤلاء أهل الحق وهم أهل السنة وهم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية هداهم الله جل وعلا لما اختلف فيه هؤلاء عرفوا الحق واتبعوه وعرفوا الباطل واجتنبوه .
الناس في باب منفعة العبادة والحكمة والتعليل مراتب كلهم على ضلال وانحراف إلا طائفة واحدة وهم أهل السنة الذين يؤمنون بالقدر خيره وشره ولا يحتجون به على فعل المعاصي ويعتقدون بأن الله جل وعلا خلق الأشياء لحكمة ومنفعة وإن جهل ذلك بعض الناس ، فجهل هؤلاء ليس حجة على علم الآخرين قال تعالى: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } ، وقال تعالى: { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } .
وهؤلاء حين جهلوا هذا الباب كذبوا به وكابروا في المنقولات والمعقولات وهذا الباب قد دل عليه النقل والعقل فلا داعي للمكابرة .
- - -
الصنف الأول: نفاة الحِكَم والتعليل ، الذين يردون الأمر إلى نفس المشيئة وصرف الإرادة (1) ، فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن يكون سبباً لسعادة في معاش ولا معاد ولا سبباً لنجاة ، وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة (2) .
(1) وهؤلاء يقولون ليس في الكون معصية ألبته إذ الفاعل مطيعٌ للإرادة موافق للمراد ، وقد قال أحدهم (( إن كنت قد عصيت أمره فقد أطعت إرادته ، ومطيع الإرادة غير ملوم )) وهو في الحقيقة غير مذموم .(1/328)
وقد زعم أهل هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحدة ، فمحبته هي نفس مشيئته ، وعليه فكل ما في الكون فقد أراده وشاءه ، وكل ما شاءه فقد أحبه ، ولذلك هؤلاء يحبون ما يبغضه الله ويبغضه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا المذهب مردود بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم والعقل الصحيح يستبين فساد هذا المذهب لأننا نعلم أن الله جل وعلا أراد كفر إبليس ولم يحبَّه ، فجعل المحبة مرادفه وملازمة للمشيئة هذا من أعظم أنواع الضلال والانحراف ، والمشيئة نوعان والله جل وعلا لا يحب إلا ما أمر به وشرع لعباده ويحب أن ينتهي العباد عما نهاهم عنه ، فجعل الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه واحدة هذا كفر بالله جل وعلا لأن هذا يقتضي أن يحب الله جل وعلا الكفر والضلال وهذا يقتضي التسوية بين الحق وبين الباطل ويقتضي التسوية بين التوحيد وبين الشرك .
(2) وهؤلاء هم الجبرية فهؤلاء يزعمون أن القيام بهذه الأمور ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن يكون هذا سبباً لسعادةٍ في معاش ولا معاد لأنهم لا يفرقون بين الخلق ولا بين الأمر ولا فرق عندهم في نفس الأمر بين المأمور والمحظور .
وهؤلاء يؤدون الأوامر وهم يعتقدون أنها ليست بسبب للنجاة من النار إنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة ، وحين نعرف أصول هذا المذهب لا نستغرب صدور مثل هذه الأقوال من جماعات منهم وهم يتناقضون في تقرير هذه الأصول وتتباين آراءهم وتختلف عقولهم ويورد كل واحد منهم على الآخر ما ينقض أصله ، أقوال يلعن بعضها بعضاً ، وأقوال يفسق بعضها بعضا ويضلل بعضها الآخر .(1/329)
ونحن نعلم من دين الإسلام بالضرورة أن كل قول يخالف كتاب الله ويخالف سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بل يخالف ما جاءت الرسل فإنه يُعلم فساده بالسمع والعقل ، فإن الفطرة تتجاوب مع ما جاء به الشرع وتستنكر ما نهى عنه الشرع وحين نتحدث عن التوحيد نقول عنه بأن الفطرة تتجاوب معه ولا يمنع من هذا أن يكون الشرع قد جاء به والقرآن كله من أوله إلى آخره يقرر التوحيد ويبين فضله وجزاء أهله ، والفطر تتجاوب مع هذا الحق كما أن الفطر بما وضع فيها لا تتجاوب مع الشرك والظلم فإن الشرك مستنكر بالشرع والعقل والفطرة ، فقد فطر العباد على قبح الشرك وعلى مضرته . ...
وأصحاب هذا المذهب يكابرون في هذه الأمور لسببين:- هؤلاء يسوون بين الشرك والتوحيد والباطل والحق ، وسبب هذا أمران :-
الأمر الأول: الجهل بما جاءت به الرسل ونزلت فيه الكتب .
الأمر الثاني: تغير الفطر وهذا يرجع إلى أسباب:
السبب الأول: التقليد الأعمى حيث يقلدون علمائهم بدون دليل وهم يرون التناقضات في أقوالهم غير أنهم يسيئون الظن بعلومهم ثقة بمشايخهم .
السبب الثاني: عدم البحث عن الحقيقة .
السبب الثالث: الغلو في مشايخهم وعلمائهم ، فإن الغلو هو الذي أوقع كثير من الناس في الشرك الأكبر وفي البدع والضلالات والانحرافات .
- - -
كما قالوا في الخلق:لم يخلق لغاية (1) ، ولا لعلة هي المقصودة به (2) ، ولا لحكمه تعود إليه منه (3) ، وليس في المخلوقات أسباب تكون مقتضيات لمسبباتها ، وليس في النار سبب للإحراق (4) ، ولا في الماء قوة الإغراق ولا التبريد .
((1/330)
1) هذه الأمور مكابرة للمعقولات ، فقولهم بأن الله لم يخلق لغاية هذا مردود بنص القرآن ، قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، فالغاية من خلق الجن والإنس هي العبادة ، والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ، والعبادة لا تسمى عبادة إلا بأمرين: الإخلاص والمتابعة ، ومن وجه آخر لا تسمى عبادة إلا إذا توفر فيها أصلان الحب والذل .
وعبادة الرحمن غايةُ حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادةِ دائرً ... مادار حتى قامت القطبان
ومدارهُ بالأمر أُمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطانِ
(2) وهذا باطل أيضاً وبطلانه يعلم بالشرع والعقل ، والمصيبة أن هؤلاء يجعلون جهلهم حجة على علم غيرهم يكابرون في المعقولات والمحسوسات قال تعالى: { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } قال غير واحد من المفسرين: أي لا يؤمر ولا ينهى .
(3) وهذا باطل أيضاً فإن الله جل وعلا خلق لغاية ولعلة مقصوده وخلق لحكمه قد نعلمها وقد نجهلها فإن المخلوقات كثيرة جداً .
نحن نعلم أن الله خلق الإنس والجن لعبادته ، وقد خلق الله جل وعلا الحيوانات وخلق الطيور على اختلاف أشكالها واختلاف مسمياتها وهي تُقَدَّر بالآلاف وما خلق ربنا جل وعلا هذا عبثا ، ولا خلق ذلك سدى ، خلق الله جل وعلا هذه الدواب وهذه الطيور وهذه الحشرات وهذه المخلوقات العظيمة التي نعلم بعضها ونجهل كثيراً منها في البر والبحر خلقها ورزقها وذلك لحكمه وغاية .
(4) وهذا باطل حيث يقولون ليس في النار سبب للإحراق وحكاية مثل هذا تغني عن رده لأن هذا مكابرة في المعقولات ، ضع يدك في النار وانظر هل يحصل ألم لليد أم لا ؟ وهل يحصل إحراق للورق حين تضعه في النار أم لا ؟ فهذه مكابرة في المعقولات ، وكثير من المتكلمين يكابرون في الأمور العقلية والمصيبة أنهم يزعمون أنهم أهل العقل وما عندهم من الحجج ما يستطيعون مجاراة أهل الحق به .(1/331)
ما عندهم عند التناظر حجة ... أنى بها لمقلدٍ حيران
لا يفزعون إلى الدليل وإنما ... في العجز مفزعهم إلى السلطان
والمصيبة أن هؤلاء يقدمون العقل على النقل ، وهم يأتون بأمور عقلية يضحك منها صبيان أهل التوحيد حيث يقولون ليس في النار سبب للإحراق ولا في الماء قوة الإغراق ولا التبريد ، ويقولون ليس في الأدوية قوة الدواء ولا في العين قوة الإبصار ، ولا في الأذن قوة السماع ولا في الأنف قوة الشم وعندهم أن الرب لم يفعل شيئاً بشيء ولا شيئاً لشيء ، فليس في أفعاله باء السببية ولا لام التعليل ، والوارد من ذلك يحمل على باء المصاحبة ولام العاقبة .
- - -
وهكذا الأمر عندهم سواء لا فرق بين الخلق والأمر (1) ، ولا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور (2) .
(1) وهذه مكابرة ومناقضة لما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ، الله جل وعلا فرَّق بين الخلق وبين الأمر قال تعالى: { ألا له الخلق والأمر } وقال تعالى: { إنما أُمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ، وحينها لا يفرِّق هؤلاء بين الفعل والفاعل ولا بين الفعل والمفعول وفي نفس الأمر لا يفرقون بين المأمور والمحظور .
(2) والسبب في ذلك أن الأفعال في نظرهم لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح فهؤلاء لا يفرقون بين الحسن والقبيح ولذلك لا يفرقون بين الأمر والنهي فهل يستويان ؟ العقل والسمع والفطر تتجاوب مع التفريق بين الأمر وبين النهي فلا يأمر الله جل وعلا بشيء إلا وفيه مصلحة ومصلحته تقضي على المفسدة ، وإن وجد مفسدة فهي نزر يسير ، ولا ينهي الله جل وعلا عن شيء إلا ومفسدته تفضي على مصلحته .(1/332)
قد يكون في بعض الأوامر وفي بعض النواهي شيء من المصالح لكن لا يمكن مقارنة ما نهى الله عنه بما يستحسنونه ويفعلونه قال رافع بن خديج - رضي الله عنه - (( نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمرٍ كان لنا نافعاً وطواعية الله ورسوله أنفع لنا )) هذا الخبر رواه مسلم في صحيحه ، في بعض الأوامر بل في كثير من الأوامر مصلحةٌ محققهٌ لا مفسدة فيها البتة من ذلك التوحيد ، العدل وغير ذلك هذه مصالح لا مفسدةً فيها البتة ، وفي بعض المنهيات مفسدة لا مصلحة فيها البتة كالشرك والظلم ونحو ذلك .
الخمر ماذا قال الله عنه ؟ قال الله جل وعلا عنه: { يسألونك عن الخمر والميسرِ قُلْ فيهما أثمٌ كبير ومنافع للناس } لكن هذه المنافع هل هي دينية ؟ لِلَّهِ كلا بل هي دنيوية باعتبار التكسب والتجارة وإلا فهو مفسدةٌ محضة ، الخمر ما خامر العقل والخمر يفسد العقول ، إذاً الأصل في هذا أن نقول ما أمر الله به فمصلحته راجحة على مفسدته ، وما نهى الله عنه فمفسدته راجحة على مصلحته وإنْ خُيَّل لبعض الجهال والأغبياء أن المصلحة تقتضي فعل كذا وكذا فمعاذ الله أن يكون عقل آحاد الناس أصوب مما جاء به الكتاب وجاءت به الأدلة السمعية .
وقد تقدم أن هؤلاء يكابرون في المحسوسات التي لا يجهلها الأطفال .
- - -
ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا من غير أن يقوم بالمأمور صفة تقتضي حسنه و لا بالمنهي عنه صفة تقتضي قبحه ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة (2) ، وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها ولا يتنعمون بها (3) .
(1) من غير أن يقوم الأمر بالتوحيد صفة تقتضي حسن التوحيد ، ومحاسن التوحيد ولا بالمنهي عنه صفة تقتضي قبحه من غير أن يقوم بالنهي عن الشرك صفة تقتضي قبح الشرك .(1/333)
والأفعال في نظرهم لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والبر والفجور والعدل والظلم وهذا القول فاسد ، يُعلم بطلانه بالكتاب والسنة والفطرة فالشرك يعلم بطلانه بالنقل والعقل ، والتوحيد يعلم فضله وخيره بالنقل والعقل ، ومن سوَّى بين الشرك والتوحيد فلا عقل له وهو أجهل العباد وأضلهم .
(2) وهذا الكلام كله منقول من مدارج السالكين .
فقوله: (( ولهذا الأصل لوازم وفروع كثيرة )) هذه اللوازم والفروع الكثيرة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة وفي طريق الهجرتين ، يَحْسُنْ في حق طالب العلم مراجعتها والنظر فيها فهمها .
(3) السبب أنهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذتها ولا يتنعمون بها لأنهم يؤدونها بدون محبة فقد تقدم قولهم في الباب ، بأن القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن يكون سبباً لسعادةٍ في معاش ولا معاد ولا سبباً لنجاة إنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة والذي لا يؤدي العبادة محبة لله وامتثالاً لأمره واجتناباً لنهيه ويصاحب ذلك الذل فإنه لا يجد لذة العبادة حتى يلج الجمل في سم الخياط .
- - -
ولهذا يسمون الصلاة والصيام والزكاة والحج والتوحيد والإخلاص ونحو ذلك تكاليف أي كلفوا بها (1) ، ولو سمى مدعي محبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمره به: تكليفاً لم يعد محباً له (2) . وأول من صدرت عنه هذه المقالة: (( الجعد بن درهم )) (3) .
(1) لأنها في اعتقادهم أنها ليست سبباً لا لجنة ولا لنار ولا سبباً للسعادة فلا يؤديها العبد محبة لله ، ولا ريب أن هذه الأمور أمر الله جل وعلا بها ولكن نحن حين نمتثل أمر الله جل وعلا محبةً لله فنحب الله من كل قلوبنا ومحبة للعبادة لأن الله يحبها فلا نحب مجرد العبادة دون محبة الله فهذا ضلال وانحراف فنحب الله ونحب أمره ونعتقد أن الله لا يأمر بشيء إلا وفيه مصلحة ومنفعة ولا شُرِع هذا الأمر إلا لحكمه وغاية .
((1/334)
2) باعتبار أن أحدهم يقول إني أفعله بكُلْفه ومشقة ولهذا ينكر كثير من هؤلاء محبة العبد لربه لأن لا يؤدي الأمر إلا لمجرد محض الأمر والمشيئة فلا يؤدون الأوامر محبة لله جل وعلا فلهذا ينكر كثير من هؤلاء محبة العبد لربه، وزعموا أنه يحب ثوابه وما يخلقه له من النعيم وهذا إنكار للأدلة النقلية والعقلية والفطرة.
قال تعالى: { يحبهم ويحبونه } ، وفي حديث سهل بن سعد في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) .
(3) حيث زعم أن الله جل وعلا لم يتخذ إبراهيم خليلاً أي أنكر الخلة وأنكر المحبة ولم يكلم موسى تكليماً ، وقد ضحَّى به خالد القسري حين بلغه هذا القول الخبيث الذي يناقض ما جاءت به الرسل وما نزلت به الكتب ، وقال: يا أيها الناس ضحَّوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكلم موسى تكليماً ، وشكر الضحية كلُ سُني قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالدُ الـ ... قسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله ... كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنةٍ ... لله درك من أخي قربانِ
وقد تقدم الحديث عن إسناد هذه الحكاية وأن العلماء تلقوا هذا الحكاية بالقبول وقابلوها بالتسليم ورواها الإمام الدارمي رحمه الله تعالى في الرد على الجهمية والسند فيه نظر ، والعهد بهذه القصة قريب بالنسبة لإسناد الدرامي وأسانيد أئمة الإسلام فمثل هذا غير بعيد .
فإن إقامة تعزيرات على أهل البدع والمنحرفين الذين يشوشون على الناس عقائدهم وأفكارهم أمر مطلوب شرعاً كما صنع عمر بن الخطاب مع صبيغ فإن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - جَلَد صبيغاً ، والنبي - صلى الله عليه وسلم -(1/335)
يقول في مانع الزكاة: ( إنا آخذوها وشطر ماله عزْمةً من عزْمات ربنا ) ولهذا يقاتل ما نع الزكاة مع أن الضرر قد لا يتجاوزه ويتجاوز نفراً يسيراً ، فكيف بهذا المبتدع الذي يتجاوز ضرره الآلاف من البشر ، وقد ذهب الإمام مالك وأحمد في رواية عنهما أن المبتدع يُقتل أن المبتدع إذا ثبتت عليه البدعة ويدعوا إليها فإن يقتل تخلصاً من بدعته وشره وحفظاً لعقائد المسلمين وأفكارهم أما إذا لم يدعوا إلى بدعته فهذا له حكم آخر ، لكن يجب مناصحته وتوجيهه ودعوته ، وطبعاً الذي يقيم الحدود هو السلطان فليس لآحاد في الناس أن يقيم الحد دون السلطان لما يسببه هذا من الفوضى في المجتمع ولما يسببه هذا الأمر من دعوى الابتداع في كل شخص فهذا يقيم الحد وهذا يقيم الحد فيحصل فوضى وفساد عظيم لا تُحمد عقباه .
- - -
الصنف الثاني: القدرية النفاة ، الذين يثبتون نوعا من الحكمة والتعليل لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه ، بل يرجع لمحض مصلحة المخلوق ومنفعته (1) .
(1) لأهل الكلام في علة الخلق وحكمه مذاهب ثلاثة:-
المذهب الأول: منهم من نفى الحكمة وزعموا أن هذا يفضي إلى الحاجة ، تأمل كيف قالوا وكيف نفوا الحكمة لأن هذا في تصورهم واعتقادهم أنه يفضي إلى الحاجة .
وتأمل في حال المشبهة حين عطَّلوا أسماء الله وصفاته بدعوى أن هذا يفضي إلى التشبيه فهم عطلوا أولاً ثم شبهوا ثانياً حيث شبهوا الله جل وعلا بالجمادات والمعدومات الله عز وجل يقول: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ، ليس كمثله شيء رد على الممثلة ، { وهو السميع البصير } رداً على المعطلة ، المعطلة يعتقدون أن من أثبت لله الأسماء والصفات فقد شبهوا المخلوق بالخالق فأدى بهم إلى التعطيل، والمشبه يقولون يدٌ كيدي وقدمٌ كقدمي فيكيفون خشية التعطيل لكنهم في الحقيقة أنهم عطلوا .
لسنا نشبه وصفه بصفاتنا ... إن المشبِّه عابدُ الأوثانِ
كلا ولا نُخلِيه من أوصافِهِ ... إن المعطِّل عابدُ البهتانِ(1/336)
من شبَّه الرحمنَ العظيمَ بخلقِهِ ... فهو الشبيهُ لمشركٍ نصرانِ
أو عطَّل الرحمنَ عن أوصافِهِ ... فهو الكفورُ وليس ذا الإيمانِ
المذهب الثاني: يقولون إن الله يخلق ويأمر لحكمه ولكن تعود إلى العباد وهو نفعهم والإحسان إليهم ، فلم يخلق ولم يأمر إلا لذلك ، وهذا مذهب المعتزلة وآخرين من أهل البدع والضلال .
المذهب الثالث: مذهب من أثبت حكمةً تعود إلى الرب بحسب علمه فقالوا خلقهم ليعبدوه وليحمدوه وليثنوا عليه ، فمن وُجد ذلك منه وهم المؤمنون فهم خلقه ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقاً لله .
وأهل السنة متفقون على أن الله خلق لحكمة ومصلحة والعباد فاعلون حقيقة والله خالقهم وخالق أفعالهم ، وأهل السنة متفقون أيضاً على الإيمان بالقدر خيره وشره ، ومتفقون أيضاً على أن الفعل غير المفعول فحركات العباد واعتقاداتهم أفعالٌ لهم حقيقة وهي مفعولة لله ومخلوقة له .
وهذا كله على الحقيقة لا على وجه المجاز ، والذي قام بالرب علمه وقدرته ومشيئته والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم .
- - -
فعندهم (1) أن العبادات شرعت أثماناً لما يناله العباد من الثواب والنعيم ، وأنها بمنزلة استيفاء الأجير أجره (2) .
(1) فعندهم أي القدرية النفاة الذين يثبتون نوعاً من الحكمة والتعليل لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه .
((1/337)
2) ينبغي أن نتصور هذا القول على حقيقة حتى نعلم فساده وسيأتي إن شاء الله تعالى الرد على هذا القول الفاسد ، هؤلاء يقولون إن العبادات شرعت ولم تشرع لغير ذلك شُرعت أثماناً لما يناله العبد من الثواب والنعيم ، وأن هذه الأعمال بمنزلة استيفاء الأجير أجره لا فرق بين هذا وذاك وقد يستدلون بأدلة كما تقدم أن أهل الباطل يأتون بحجج وبيِّنات ولكن سَرَعان ما تذوب هذه الحجج أما الحق وسَرَعان ما تضمحل وتبطل قال تعالى: { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } قال تعالى: { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا } فلا يأتي صاحب باطل بباطل إلا وفي القرآن ما يبطله وينقضه ويبين فساده وعواره .
- - -
قالوا: ولهذا يجعلها سبحانه عوضاً كقوله: { ونودوا أنْ تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } (1) { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } { إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب } (2) ، وفي الصحيح إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها (3) ، قالوا: وقد سماها جزاءً وأجراً وثواباً لأنه شيء يثوب إلى العامل من عمله ، أي: يرجع إليه ، قالوا: ويدل عليه الموازنة فلولا تعلق الثواب بالأعمال عوضاً عليها لم يكن للموازنة معنى (4) .
(1) فهم يجعلون الباء باء المعاوضة ولا يجعلون الباء باء السببية كما تقدم لا يقولون بباء السببية ويقرون بأن الباء باء المعاوضة مع أن باء المعاوضة منفيِّة بنص الحديث المتفق على صحته (( لن يدخل الجنة أحدٌ منكم بعمله )) وقد تقدم مراراً التأكيد على قضيه مهمة وهي أن أهل البدع يأخذون بدليل ويعرضون عن الأدلة الأخرى ولا يحاولون الجمع بين الأدلة المتعارضة في نظرهم يستقلّون بدليل ويعرضون عن الأدلة الأخرى ويجعلون هذا الدليل حجة على الأدلة الأخرى .
(2) هذا كلام الله وهو حق لكن الشأن في الفهم .
((1/338)
3) يستدلون ما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي ذر الغفاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما يروي عن ربه جل وعلا ( إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ) .
قال تعالى: { في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحد } .
(4) وقد تقدم أنهم يستقلّون بدليل ويعرضون عن الأدلة الأخرى ، الموازنة حق لكن ما هو الدليل على أن الموازنة منبعثة وناتجة من كون الجنة عوضاً عن العمل ، أنى لهم بذلك ؟ بل دون هذا خرط القتاد ، فحين نثبت الموازنة وحين نثبت الجزاء والأجر والثواب فلا يعني هذا طبعاً هذه الأشياء ، الله أمر بها والعمل العبد مأمور به والأعمال الصالحة من الإيمان وتارك جنس العمل كافر كما تقدم تقريره مراراً ، وذكر الله جل وعلا في مواضع من كتابه بأن العمل سبب لدخول الجنة وليس عوضاً ، هذا كله يجب أن نؤمن به لكن النزاع مع هؤلاء أنهم يجعلون الجنة عوضاً عن العمل ويقولون العبادة شرعت أثماناً لما يناله العبد من الثواب وأنها بمنزلة استيفاء الأجير أجره وهذا هو الباطل في كلامهم وسيأتي إن شاء الله تعالى الرد عليهم .
- - -
وهاتان الطائفتان (1) متقابلتان (2) ، فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطاً بالجزاء ألبتة وجوَّزت أن يعذِّب الله من أفنى عُمَره في الطاعة ويُنعِّم من أفنى عمره في مخالفته ، وكلاهما سواء بالنسبة إليه ، والكل راجع إلى محض المشيئة (3) والقدرية أوجبت عليه سبحانه رعاية المصالح ، وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال (4)، وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنقيص باحتمال مِنَّةِ الصدقة عليه بلا ثمن (5)، فجعلوا تفضله سبحانه على عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد ، وأن إعطاء ما يعطيه أجرةً على عمله أحب إلى العبد من أن يعطيه فضلاً منه بلا عمل ولم يجعلوا للأعمال تأثيراً في الجزاء ألبتة
(1) أي الجبرية والقدرية .
((1/339)
2) أقوال يلعن بعضها بعضاً ، ولكن لا يعني هذا أن كل كلامهم باطل ، ففي كلام الجبرية في الرد على القدرية كلام حق ، وفي كلام القدرية في الرد على الجبرية حق ، وفي كثير من كلامهم باطل ، فنحن نقبل الحق الذي مع هؤلاء والحق الذي مع هؤلاء ونرد الباطل الذي مع هؤلاء والذي مع هؤلاء ، ونأتي بالحق الذي دلت عليه الكتب ودل عليه القرآن ودلت عليه السنة ، فلا يعني هذا أننا حين نقيِّم الجبرية من الطوائف المبتدعة والقدرية من الطوائف المبتدعة أنهم لا يصدر عنهم إلا باطل ، كما أنه لا يعني أن الرجل حين ينتسب إلى السنة لا يصدر عنه إلا حق ، الأصل في أصول أهل السنة والجماعة حق لا تتعارض ، ولكن التعارض ينتج من الفهوم ومن التطبيق ، وقد يكون في المنتسب لأهل السنة شيء من الباطل وشيء من الهوى وشيء من التجاوز لما أمر الله جل وعلا به ، فلا يعني هذا أن الرجل حين ينتسب إلى السنة أن نقبل كل ما عنده فقد يكون في كلامه باطل لكن السنة حق ، فالبطلان أتى من تطبيق هذا على دنيا الواقع بسبب ضعف الحديث أو عدم القدرة على إيصال المعلومات إلى الآخرين أو بسبب الفهم الخاطئ أو بغير ذلك من الأشياء التي يستدل بها على بطلان القول ولأن أهل السنة يعتقدون أن لا عصمة لعلمائهم ولا لمشايخهم بخلاف الرافضة الذين يدَّعون العصمة لأئمتهم .
(3) وقد تقدم قولهم أنه لا يفرقون بين الأمر والنهي ولا بين الخلق ولا بين الأمر ولا يعتقدون كما تقدم في قولهم بأن النار سبب للإحراق ولا في الماء قوة للإغراق في كلامهم باطل كثير يخالف المنقولات والمعقولات .
(4) فالجنة عوضاً عن العمل وليس العمل سبباً لدخول الجنة .
(5) قاسوا المخلوق على الخالق .(1/340)
والطائفتان منحرفتان (1) .عن الصراط المستقيم ، وهو: (2) أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب (3) ، والأعمال الصالحات من توفيق الله تعالى وفضله ، وليست قَدْراً لجزائه وثوابه (4) ، بل غايتها إذا وقعت على أكمل الوجوه (5) ، أن تكون شكراً على أحد الأجزاء القليلة من نعمة سبحانه .
فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً لهم من أعمالهم (6) .
(1) أي الجبرية والقدرية ولا بأس بأن يقال الجَبَرية بالفتح إذا قرنت بالقدرية تخفيفاً على اللسان ، وإلا فالأصل الجَبْرية بالسكون .
(2) أي الصراط المستقيم .
(3) أو العقاب أيضاً إلا إذا قيِّدت الأعمال بالصلاح وتوفرت فيها الشروط وانتفت الموانع .
(4) لأنه لو وضعت نعمة من نعم الله في مقابلة عمل العبد طول حياته دون أن يفتر ودون أن يقصر لما ساوى عمله نزراً يسيراً من هذه النعمة .
(5) أي إذا وقعت العبادة على أكمل الوجوه على ما نحن فيه من التقصير والتفريط .
(6) وهذا جزء من حديث رواه أبو داود وغيره من طريق سفيان عن أبي سنان عن وهب بن خالد عن ابن الديلمي عن أُبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنده جيد ، وقد سلكت الجبرية في هذا الخبر مسلكاً غريباً حيث قالوا: كل ممكن عدلٌ والظلم هو الممتنع لذاته فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لكان متصرفاً في ملكه والظلم تصرف القادر في غير ملكه وذلك مستحيل عليه سبحانه وزعموا أنه لما كان الأمر راجعاً إلى محض المشيئة لم تكن الأعمال سبباً للنجاة فكانت رحمته للعبادة هي المستقلة بنجاتهم فكانت رحمته خيراً من أعمالهم ، وهؤلاء يراعون جانب الملك ويعطِّلون جانب الحمد وهذا بخلاف القدرية حيث عطَّلوا جانب التوحيد وزعموا العدل والحِكَم أي الحكمة فأنكروا هذا الخبر وقابلوه بالتكذيب .(1/341)
وقد هدى الله أهل السنة للحق لما اختلف فيه هؤلاء فقال ابن القيم رحمه الله تعالى في بيان الحق في هذه المسالة قال رحمه الله تعالى: (( المقصود أن من حقه سبحانه على كل أحد من عبيده أن يرضى به رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وأن يكون حبه كله لله وبغضه في الله ، وقوله لله وتركه لله وأن يذكره ولا ينساه ويطيعه ولا يعصيه ويشكره ولا يكفره وإذا قام بذلك كله كانت نعم الله عليه أكثر من عمله بل ذلك نفسه من نعم الله عليه حيث وفقه له ويسره وأعانه عليه، وجعله من أهله، واختصه به على غيره، فهو يستدعى شكراً آخر عليه ولا سبيل له إلى القيام بما يجب لله من الشكر أبداً فنعم الله تطالبه بالشكر وأعماله لا تقابلها ، هذا إذا قام بالشكر على الوجه المطلوب وقام بالعبادة على الوجه الذي يرضي الله ويرضي رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - والعبد لا بد له من التقصير ، فنعم الله تعالى تطالب بالشكر وأعماله(1/342)
وذنوبه وغفلته وتقصيره قد تستنفذ عمله فديوان النعم وديوان الذنوب يستنفذان طاعاته كلها هذا وأعماله العبد مستحقه عليه بمقتضى كونه عبداً مملوكاً مستعملاً فيما يأمره به سيده ، فنفسه مملوكه وأعماله مستحقة بموجب العبودية فليس له شيء من أعماله كما أنه ليس له ذرة من نفسه فلا هو مالك لنفسه ولا صفاته ولا أعماله ولا لما بيده من المال في الحقيقة بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه لمالكه أعظم استحقاقاً من سيد اشترى عبداً بخالص ماله ثم قال أعمل وأدى إليَّ فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء فلو عمل هذا العبد من الأعمال ما عمل فإنه كله مستحق عليه لسيده وحق من حقوقه عليه ، فكيف بالمنعم المالك على الحقيقة الذي لا تعد نعمة وحقوقه على عبده ولا يمكن أن تقابلها طاعاته بوجه من الوجوه ، فلو عذبه سبحانه لعذبه وهو غير ظالم له وإذا رحمه فرحمته خير له من أعماله ولم تكن أعماله ثمناً لرحمته ألبته ، فلولا فضل الله ورحمته ومغفرته ما هنأ أحد عيش ألبته ولا عرف أحدٌ خالقه ولا ذكره ولا آمن به ولا أطاعه ... )) إلى آخر كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى .
- - -
وتأمل قوله تعالى: { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ) (1) تجد الآية تدل على أن الجنان بالأعمال ، والحديث ينفي دخول الجنة بالأعمال ، ولا تنافي بينهما (2).
(1) قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله ) هذا الحديث متفق على صحته من حديث أبي هريرة
(2)
إذا تعارض نص لفظٍ واردٍ ... والعقل حتى ليس يلتقيان
فالعقل إما فاسدٌ ويظنه الرائي ... صحيحاً وهو ذو بطلان
أو أن ذاك النص ليس ثابتٍ ... ما قاله المعصوم بالبرهان
لا يمكن لنص صحيح من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعارض كتاب الله جل وعلا إلا في أحد أمور:(1/343)
أن يكون النص غير ثابت إذاً لا حجة في هذا النص حيث نجعله معارضاً للقرآن أو أن هذا النص ثابت فحينئذٍ نتهم العقل وأن هذا العقل فاسد ويظنه الرأي صحيحاً وهو ذو بطلان ، وإذا تعارض فيما يظهر للشخص وطالب العلم آية من كلام الله وحديث من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا بد أن هناك جمعاً بينهما يدل عليه العقل والنقل ، وإنما يتأتى التعارض في تصور بعض الناس لا في حقيقة الشيء لأن الله جل وعلا يقول عن السنة { إن هو إلا وحي يوحى } الذي يقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يفعله { إن هو إلا وحي يوحى } فلا يمكن أن يكون هناك تعارض بين الكتاب والسنة ولا يكون هناك تعارض بين أدلة الكتاب ، وقد قال غير واحد من الأكابر منهم ابن خزيمة وغيره: (( لا تأتوني بنصين متعارض ـ أي في الظاهر ـ إلا واستطعت أن أؤُلف بينهما )) وقد صنف العلماء ومصنفات في اختلاف علوم الحديث الأحاديث المتعارضة في الظاهر فكيف بدعوى تعارض القرآن والسنة أو بتعارض القرآن بعضه مع بعض وإنما ينتج التعارض والاضطراب في الفهوم لا في حقائق الأمور .
فقوله: (( ولا تنافي بينهما )): وهذا واضح فلا تنافي بينهما وإن وجد تنافي فهذا لفساد العقول وفساد التصور وقد تقدم شيء من الإشارة إلى أسباب فساد العقول وأسباب التصور .
- - -
لأن توارد النفي والإثبات ليس على محل واحد (1) ، فالمنفيُّ باء الثمنية (2) واستحقاق الجنة بمجرد الأعمال رداً على القدرية المجوسية التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداءً متضمن لتكرير المنة (3) .
(1) لم يرد النفي والإثبات في مكان واحد حتى يصبح بينهما تنافي وتعارض هذا يحمل على وجه وهذا ويحمل على وجه فيزول حينئذٍ التعارض .
(2) قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لن يدخل الجنة أحدٌ منكم بعمله ) بعمله المنفي هنا باءً الثمنية فلا يمكن أن تكون الجنة ثمناً للعمل كما تزعمه الطوائف المنحرفة كما تقدم تقرير قولهم .
((1/344)
3) والسبب في قولهم أنهم يقيسون الخالق على المخلوق والباء المثبتة التي وردت في القرآن هي باء السببية ، فالعمل سبب لدخول الجنة فقوله تعالى: { جزاءً بما كانوا يعملون } أي بسبب أعمالهم فلو تخلَّف عن العمل لم يدخل الجنة وإذا دخل الجنة فهو بسبب عمله وليس في الجنة عوضاً عن عمله كما أن الثمن والثواب عوض عن المال هذا لا يمكن أن يقال به ألبته .
- - -
والباء المثبتة التي وردت في القرآن هي باء السببية ، رداً على القدرية الجبرية الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال وجزائها (1) ولا هي أسباب لها ، وإنما غايتها أن تكون أمارة .
والسنة النبوية هي أن عموم مشيئة الله وقدرته لا تنافي ربط الأسباب بالمسببات وارتباطها بها (2) .
وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعاً من الحق (3) .
(1) القدرية طوائف كثيرون منهم من يقول إن الخير من الله دون الشر ، ومنهم من يقول بأن العبد يخلق فعل نفسه ، وهم يختلفون في باب الأسماء والصفات ويختلفون في باب التعليل والحكمة ومنهم من لا يثبت التعليل والحكمة ومنهم من يثبت التعليل والحكمة ثم يُقرِّر أصلاً آخر في هذا الباب ، وانبعثت منه القدرية الجبرية فهم طوائف كثيرون ، كما تقدم أقوال يلعنُ بعضها بعضاً .
(2) وقد جاء في المدارج سياق قول أهل السنة في هذا الباب ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (( وهم الفرقة الوسط المثبتون لعموم مشيئة الله وقدرته وخلقه العباد وأعمالهم ولحكمته التامة المتضمنة ربط الأسباب بمسبابتها وانعقادها بها شرعاً وقدراً وترتيبها عليها عاجلاً وآجلاً وهذا كله يؤمن به أهل السنة والجماعة ولا يُخرجون عن أفعال الله ولا عن شرعة حِكَمَهَا ومصالحها فهم يؤمنون بما يلي:
الأمر الأول: يؤمنون بالقدر خيره وشره غير أنهم لا يحتجون بالقدر على المعاصي .
عند مراد الله تفنى كميتٍ ... وعند مراد النفس تُسجي وتُلحِمُ
وعند خلاف الأمر تحتجُ بالقضا ... ظهيراً على الرحمن بالجبر تزعمُ(1/345)
ويؤمنون أيضاً بأن أفعال العباد مخلوقة لله ، ويؤمنون أيضاً بأن الخلق غير المخلوق ، يؤمنون أيضاً بأن الله خالق أفعال العباد والعباد لهم قدرة وإرادة ومشيئة ومشيئة المخلوق تابعة لمشيئة الله ، قال تعالى: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } ، ويؤمنون أيضاً بعموم مشيئة الله وقدرته ، ويؤمنون أيضاً بحكمتها التامة المتضمنة لربط الأسباب بالمسببات وانعقادها بها شرعاً وقدراً .
(3) قد تقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحده ) تقدم أن هذه الواحدة هي الجماعة ، وتقدم أن هذا الخبر صحيح وقد صححه الترمذي وغيره من أهل العلم .
فقوله: (( وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعاً من الحق )) أي لم تترك الحق بالكلية فحينئذٍ لا نرفض كل شيء تقرره هذه الطوائف المنحرفة .
ولا يعني هذا أننا نبحث في كتبهم عن ما عندهم من الحق فهذا شيء وما أقرره شيء آخر ، ففي كتب أهل السنة غنى عن كتب أهل البدع ونحن مكتفون بكلام ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وبكلام أهل السنة عما جاء في كتب أهل البدع وأهل الضلال فإنهم لم يستفيدوا من كتبهم ، وقد اعترف بذلك عقلائهم وتواتر النقل عنهم بأن هذه العلوم لا تُسمن ولا تُغني عن صاحبها شيئاً ، وإنها مَزَلة أقدام مَضَلة أفهام قال الرازي :
(( نهاية إِقدام العقول عِقَال ... وأكثُر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تُروي غليلاً ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات { الرحمن على العرش استوى } ، { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } ، أقرأ في النفي: { ليس كمثله شيء } { ولا يحيطون به علما } ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي )) .
وقال الشهرستاني:(1/346)
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيّرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أرى إلا واضعاً كف حائرٍ ... على ذَقَنٍ أو قارعاً سن نادمٍ
وقال أحدهم: (( يا ليتني أموت على عقائد إحدى عجائز نيسابور )) أي على الفطرة ، تغيرت فطرهم ، ولذلك لا يرتقي علم الكلام أحد فيفلح ، إذاً ما يرد في كلام القدرية والجبرية ليس كله باطلاً ففيه حق وفيه باطل .
- - -
فإنها ارتكبت لأجله من نوعاً الباطل (1) . بل أنواعاً فهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه .
(1) أهل السنة حين يردون الباطل لا يردونه بباطل ، يردونه بحق فلا نرد الباطل بباطل معاذ الله ، كصنيع المنهزمين في مجال الفكر وفي مجال الإعتقاد وفي مجال السياسة من النماذج في هذا الوقت الحاضر في الانهزامية أمام الحضارة الغربية وأمام الإعلام الغربي حين تحدث الإعلام الغربي عن المسلمين بأنهم إرهابيون وأنهم يقتِّلون الأبرياء وأنهم يسطون على البلاد الأخرى ، انهزم أمام هذا الكلام المجمل الذي فيه حق وباطل بعض المحسوبين على الإسلام فقال إن الإسلام لا يهاجم أحداً وليس عنده جهاد طلب ، الجهاد كله في الإسلام جهاد دفع ؟!
انهزامية ومخالفة لما أجمع عليه المسلمين ومخالفة للكتاب والسنة ومخالفة للتاريخ الثابت المتمثل في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حياة الصحابة كلهم .
آخر غزوة غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي غزوة تبوك وكانت طلباً وليست دفاعاً ، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وهكذا غزوات الصحابة - رضي الله عنهم - ، إذاً لا ننهزم لا في أفكارنا ولا في عقائدنا ولا في أعمالنا ولا في سلوكنا ولا في تصرفاتنا ولا في سياساتنا ولا نتنصَّل عما جاء به الشرع .(1/347)
فحين توصف بالمجسم لا تنفي التجسيم مطلقاً فإن أهل البدع يصفون أهل السنة بالتجسيم فلا ترتكب شططاً كصنيع هؤلاء تقول: لا لسنا مجسمين ، وهم يعتقدون أن المجسم هو الذي يثبت الأسماء والصفات فحينئذٍ تقع في الباطل ، فصِّل في قضية التجسيم ، ما هو التجسيم ؟ ومن هو المجسم ؟ ومتى يطلق على الرجل بأنه مجسم ؟ وهل يُعتبر إثبات الأسماء والصفات تجسماً ؟
وحين توصف بالمعطل من قبل أهل البدع ، فصل في مسألة التعطيل .
وحين توصف بالخارجي وهم يقصدون بالخارجي الذي يكفر المرتدين ، فصل في هذه القضية ، لا تتنكر لهذا الوصف الذي يقصدون به إنكار الحق .
وحين توصف بأنك رافضي لأنك تحب آل البيت فلا تتنكر لفضل أهل البيت .
وحين توصف بأنك ناصبي لأنك لا تغلوا في آل البيت فلا تتنكر عن هذا الوصف وفصِّل وبيِّن المقصود بالناصبي .
فالتفصيل في مقام الجدال هو الطريق الأسلم لحل القضية .
فحين يقال عنك بأنك إرهابي ؟ لا تقل الإسلام يحارب الإرهاب كذبت ، الإسلام لم يحارب الإرهاب.
الله جل وعلا قال: { ترهبون به عدوا الله وعدوكم } ولكن ما هو المقصود بالإرهاب ؟ وما هي ماهية الإرهاب ؟ وما هي حدود الإرهاب ؟ ثم ننتقل إلى نقطة أخرى ومسألة مهمة من هو المرهب ؟ وما حدود إرهابه ؟ وما هي الدوافع وراء الإرهاب ؟ فليس المقصود الحديث عن هذه القضية من كل وجه المقصود الحديث عن الانهزامية .
فإن أهل السنة لا يرتكبون الباطل حين يردون الباطل بل يردون الباطل بالسنة والجهل بالعلم والبدعة بالسنة والشرك بالتوحيد ، فكل طائفة من الطوائف المنحرفة فعلت نوعاً من الحق ارتكبت لأجله نوعاً من الباطل بل أنواعاً فهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه قال تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } .
فسل ربك الهداية واسأله التثبيت ، نسأل الله جل وعلا الهداية والثبات على الحق إلى الممات .
- - -(1/348)
الصنف الثالث: الذين زعموا أن فائدة العبادة رياضة النفوس واستعدادها لفيض العلوم المعارف عليها (1)
(1) الصنف الثالث وهو ما قبل الأخير وهم الذين زعموا أن فائدة العبادة رياضة النفوس تقدم أن العبادة المأمور بها هي التي تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ، وأن العبادة لا تسمى عبادة إلا بتوفر شروطها وأركانها .
والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة .
ولابد أن يتوفر في العبادة أصلان ، الأصل الأول: الإخلاص لله جل وعلا . الأصل الثاني: متابعة السنة ، وبدون هذين الأمرين أو أحدهما لا يقبل العمل ، والعبادة المأمور بها هي التي تضمنت معنى الذل ومعنى الحب ، حيث يؤدي العبادة محبةً لله جل وعلا وذلاً وانكساراً بين يديه ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان
فإن العبد قد يحب شخصاً ولا يكون ذليلاً له ، وقد يكون ذليلاً له ولا يحبه فلا يجتمع هذان الأمران إلا في عبادة الله وإفراده بالتوحيد ، فإذا صُرف الذل والمحبة لغير الله أصبح العبد مشركاً موحداً للمخلوق دون رب العالمين .
فيه طوائف من أهل البدع من الصوفية وغيرهم يزعمون أن فائدة العبادة هي رياضة النفوس فيؤدون العبادة لهذا المعنى ويقومون بها بحثاً عن رياضة النفوس واستعداداً لفيض العلوم والمعارف عليها ، وهذه العبادة على هذا الوجه غير مقبولة فهؤلاء يتصورون أنهم إذا أدوا الحركات والسكنات وأدوا العبادة بهذا المعنى وبهذا الاعتبار أنهم قد قاموا بالمطلوب وحصل للنفس الرياضة المرجوة في نظرهم واستعدت حينئذٍ لفيض العلوم والمعارف عليها حيث يحصل له من انشراح الصدر والفهم والفيض ما لا يحصل بغير ذلك .
- - -(1/349)
وخروج قواها من قوى النفس السبعية والبهيمية ، فلو عطلت العبادة لالتحقت بنفوس السباع والبهائم (1) ، فالعبادة تخرجها إلى مشابهة العقول (2) ، فتصير قابلة لانتقاش صور المعارف فيها (3) .
(1) فهم يرون وجوب العبادة وشرعيتها لكن لا يُؤدونها محبةً لله وذللاً ولا طلباً لثوابه وهرباً عن عقابه ولا يعبدون الله جل وعلا بالمحبة والخوف والرجاء ، يعبدون الله جل وعلا ليتأتى لهم هذا الأمر وتحصل لهم رياضة النفوس واستعدادها لفيض العلوم والمعارف عليها وخروج قواها من قوى النفس السَبُعية البهيمية ، فهذه السَبُعية والبهيمية لا تؤدي الأوامر ونحن نؤدي الأوامر لئلا تلتحق نفوسنا بنفوس السباع والبهائم ، فهذا زعمهم .
(2) فإن العقل المفكر هذا الذي يؤدي هذه العبادة غير أن هذا العقل ناقص فلو كان في هذا العقل كمال وتوقد ذهن وقابلية لما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب لأرشدهم إلى الصواب وأرشدهم إلى معنى قوله تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } . وما من عبد يخرج عن الحق إلا لهوى في النفوس أو نقص في العقول أو الإعراض عما جاءت به الرسل والهوى يتمثل بالأطماع الدنيوية وبالتقليد ونحو ذلك .
(3) وهذا لا يتأتى لهم من وجوه: الوجه الأول: أن المعارف لا تحصل إلا بطاعة الله جل وعلا وامتثال أمره . الوجه الثاني: أن انشراح الصدور واتساعها لا تكون بالابتداع والخروج عن الحق ، قال تعالى: { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } .
الوجه الثالث: أن من لم يؤدي العبادة محبة لله وذلاً بين يديه فلا يحصل له انشراح الصدر ، وإن وجد شيء من ذلك فهو نسبي سرعان ما يذهب ويضمحل وينقلب هماً وغماً .
أبى الله جل وعلا إلا أن يذل من عصاه وخالف أمره وهؤلاء قد أضلتهم الشياطين واحتوشتهم أسباب الشقاوة ، قال تعالى: { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين } .(1/350)
وشابه هؤلاء قومٌ في عصرنا يقولون بأن الصلاة رياضة وليست بعبادة، الصلاة بهذا الاعتبار هي رياضة ، ولكن لا نؤديها من أجل الرياضة ، نؤديها عبادة لله امتثالاً لأمره واجتناباً لنهيه ومحبة لله وخوفاً ورجاء ولا يصح تسمية الصلاة عبادة إلا حين تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ، والناس يتفاوتون في هذا كتفاوتهم في خلقهم وأشكالهم وألوانهم وطبائعهم ، وقد يجد لذة الإيمان وقد لا يجد ذلك .
وكلما قوي إيمانه وقوي توحيده كلما وجد هذه اللذة ، وكلما رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً كلما وجد هذه السعادة ووجد لذة العبادة وحلاوة الإيمان والسعادة تُنال ، بأسباب بالتوحيد الذي ضده الشرك وبالسنة ضدها البدعة وبالطاعة التي ضدها المعصية .
- - -
وهذا يقوله طائفتان (1) ، أحدهما : من يقرب من الإسلام والشرائع (2) من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وعدم الفاعل المختار (3) .
(1) أي يصدر هذا القول وهذا الإعتقاد وهذا التصور للعبادات المأمور بها ، يصدر هذا عن طائفتين.
(2) لفظ ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين (( من يقرب إلى النبوات والشرائع )) ولم يذكر الإسلام .
(3) والمؤلف رحمه الله تعالى لم يقل من أهل الإسلام إنما قال يقربون من النبوات والشرائع وهذا في بعض الجوانب وليس في كل الجوانب .
وقد زعم أرسطو صاحب منطق اليونان بأن العالم المفعول قديم مع الله وأنه مقارِن له في الزمان ، وقد أشار إلى قولهم ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية فقال:
لسنا نقول كما يقول الملحد الـ ... زنديق صاحب منطق اليونان
بدوام هذا العالم المشهود والـ ... أرواح في أزل ليس بفان
هذه مقالات الملاحدة الأُلى ... كفروا بخالق هذه الأكوان(1/351)
وقد ذكر الغزالي كفر الفلاسفة في مسائل منها: إنكارهم حشر الأجساد والتعذيب بالنار والنعيم في الجنة، ومنها قوله: إن الله لا يعلم الجزئيات وتفصيل الحوادث ويحصرون علم الله جل وعلا في الكليات ، ومنها قولهم إن العالم قديم وأن الله تعالى متقدم على العالم بالرتبة كتقدم العلة على المعلول ولم يزالا في الوجود متساويين إلى آخره كلامه الله في كتابه (( تهافت الفلاسفة )) .
والفلسفة باللغة اليونانية: محبة الحكمة والحكمة قوليه وفعلية ، ومن الفلاسفة البراهمة الهنود الذين ينكرون النبوة ولا يقولون بها أصلاً .
- - -
والطائفة الثانية: من تفلسف من صوفية الإسلام (1) ، ويقرب إلى الفلاسفة فإنهم يزعمون أن العبادات رياضات لاستعداد النفوس للمعارف العقلية ومخالفة العوائد (2) .
(1) بمعنى ادعى الحكمة وأدعى المعرفة وصار ذلك بفلسفة ، وهؤلاء يقربون إلى الفلسفة .
(2) وقد نازع بعض أهل العلم في نسبة هؤلاء إلى الإسلام ، وفي نسبة الصوفية إلى الإسلام حيث قال المؤلف رحمه الله (( من صوفية الإسلام )) وقال أصحاب هذا القول ليس في الإسلام صوفية .
وتعقب بعض المعلقين على مدارج السالكين هذا القول ، ونازع ابن القيم في هذا الإطلاق ، وفي هذه المنازعة نظر لأن هذا ناتج من سوء فهم من هذا المعلق ، لأن ابن القيم رحمه الله تعالى حين قال من صوفية الإسلام لا يقصد أن الإسلام فيه صوفية ولكن يقصد من المنسوبين إلى الإسلام ، وأن هذه الصوفية لم تخرجهم عن الإسلام إلى دائرة الكفر ، ويقصد أيضاً من المنسوبين إلى الإسلام بصرف النظر هل هذه النسبة صحيحة أم باطلة ، وهو لا يريد تقرير أن الصوفية من الإسلام أو أن ندعو إلى الصوفية ، وأنها مذهب من جملة المذاهب المنسوبة إلى الإسلام على أن التصوف أنواع منه ما هو منسوب إلى لبس الصوف ولبس الشيء الخشن وتارة ينسب بعض العباد والزهاد إلى التصوف .(1/352)
وقد نسب إلى التصوف بعض أئمة الهدى ومصابيح الدجى حيث جاء عصر من العصور ينسب إلى التصوف من عُرف بالزهد والورع ولبس الشيء الخشن .
الصنف الثاني من كان متصف ببدعة وهذه البدعة لا تخرجهم عن الإسلام ، فيصح حينئذٍ إطلاق من صوفية الإسلام أي المنسوبين إلى الإسلام أو الذين هم من جملة المسلمين لأن النسبة قد تكون صحيحة وقد تكون غير صحيحة .
ومن الصوفية الغلاة غلاة في الأسماء والصفات غلاة في العبادات حيث يعبدون القبور ويعبدون أصحابها ويلجئون إلى الأولياء ، وطوائف منهم يزعمون سقوط التكاليف إذا وصل إلى مرحلة من العلم والمعرفة ، وطوائف منهم يزعمون أن العبادة رياضة كصنيع هؤلاء الذين يقولون هذا القول وذلك لتستعد النفوس للمعارف العقلية والإلهامات وللفيض الحاصل لها من هذا الصنيع وفيهم غير ذلك .
وبالجملة فلفظ التصوف لم يكن معروفاً في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في عصر الصحابة وحين وجد بعد ذلك لزم التفصيل فمنه ما هو حق ومنه ما هو باطل وهذا الحق الأولى الإعراض عن تسميته بالتصوف لأن هذا اللفظ لا أصل له عن السلف ولاسيما أن هذا اللفظ أصبح وصفاً لأهل البدع والضلال والمنحرفين .
وإذا كان إطلاق التصوف باعتبار أن في الإسلام تصوف كما أن في الإسلام صلاة ، كما أن في الإسلام عبادة ، كما أن في الإسلام ذكر فهذا الإطلاق غلط ، وإذا كان هذا الإطلاق باعتبار أن هؤلاء من جملة المسلمين فهذا صحيح إذا كان التصوف لا يخرجهم عن حيِّز الإسلام إلى حيِّز الكفر فالتصوف منه ما هو كفر ومنه ما هو دون ذلك .
وهذا يجرنا إلى الحديث عن مسألة أخرى وهي قضية النقد فحين يريد طالب العلم أو العالم نقد الآخرين لا بد أن تتوفر فيه عدة أمور:
الأمر الأول: أن يفهم المقصود من الكلام حتى لا يُسئ إلى نفسه ويظلم غيره ، كما صنع كثير ممن يعلق على مدارج السالكين وعلى بعض كتب أئمة الهدى .(1/353)
الأمر الثاني: العلم ، والعلم بواقع الحال وبتصور المسألة على حقيقتها وبتنزيل الأدلة منازلها فلا تضع الدليل في غير موضعه ولا الهدى في محل الباطل ولا الباطل في مكان الهدى ، ولاسيما حين يريد نقد الأكابر ممن آتاهم الله علماً وفهما فمن الضروري أن تبذل جهدك فتستفرغ طاقتك في البحث ومحاورة الآخرين لتصل إلى نتيجة إيجابية وأما مجرد المبادرة برد الأقوال دون تمعنها وفهمها واستيعابها فهذا ضرب من الجهل .
ومن صنف أو كتب فقد عرض عقله على الآخرين ، فلينظر الإنسان ماذا يعرض ؟! وأما بالنسبة بالردود على الآخرين فهذا يشترط فيه شروط:
الشرط الأول: العلم .
الشرط الثاني: الإخلاص .
الشرط الثالث: العدل .
الشرط الرابع: الإنصاف .
الشرط الخامس: الرحمة: حيث ترحم الآخرين ولا يكن قصدك التشفي وإشباع النفوس وهواها .
- - -
ثم من هؤلاء من لا يوجب العبادة إلا بهذا المعنى .
(1) أي يوجب العبادة باعتبار أن العبادات رياضات لاستعداد النفوس للمعارف العقلية ومخالفة العوائد وهذا ضلال وهذه مكابرة وهذه مناقضة لما جاءت به الرسل .
الله جل وعلا يقول: { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } أمر الله جل وعلا بالعبادة والعبادة لا يمكن تسميتها عبادة إلا إذا كان فيها إخلاص وفيها متابعة ، إذا كانت تتضمن معنى الذل ومعنى المحبة وإلا فلا يصح تسميتها عبادة .
قوله: { حتى يأتيك اليقين } أي اعبد ربك على الوجه المطلوب المشروع حتى تموت والمقصود باليقين هو الموت ، المنية ، المنون .
ومن أدَّى العبادات على وجه يقصد منه رياضة النفوس دون محبة الله والذل له فهذا عمل مردود وهذه العبادة غير مقبولة وهذا الفاعل آثم .
- - -
فإذا حصل لها ذلك (1) ، بقي متحيراً في حفظ أوراده ، والاشتغال بالوارد عنها (2) .
(1) أي حصل للنفوس شيء من ذلك .
((1/354)
2) أي عن العبادات وشبهها وهذا ضلال وانحراف وكل من أعرض عما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب فله شيء من ذلك ، قال تعالى: { ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين } .
قوله: { ومن يعش } أي يعرض ، قوله: { عن ذكر الرحمن } أي عن طاعة الرحمن وعن عبادة الرحمن قوله: { نقيض له شيطاناً } المقصود بالشيطان هنا اسم الجنس أي شيطاناً من الشياطين ومتمرداً من الملاعين .
قوله: { فهو له قرين } لا يفارقه فهو كظله حيثما توجه توجه معه ، وحينها إذا تكلم تكلم بالباطل ، وإذا سكت سكت عن الحق ، وإذا مشى مشى في غضب الرحمن وإذا جلس جلس في طاعة الشيطان فقد استحوذ عليه الشيطان وأغواه .
وتأمل في حال الناس في هذا العالم ترى جموعاً غفيرة من هذا الضرب ممن تسلط عليهم الشيطان وأغواهم ولا إشكال أن أكثر سعي العالمين ضلال فنسبة المسلمين في جانب الكافرين كالشعرة البيضاء في الجلد الأسود .
العالم الآن ومن يعيش فوق الكرة الأرضية يتجاوز ستة مليارات ، مليار مسلمون والبقية كفرة فجرة ، هؤلاء المسلمون فيهم الصالحون وفيهم الطالحون ، فيهم أهل السنة وفيهم أهل البدع والضلال والانحراف ، فيهم أهل الطاعة وفيهم أهل المعصية ، فيهم أهل الخير وفيهم أهل الشر وهؤلاء قد دخل فيهم من هو منافق يريد إفساد دين المسلمين ودخل فيهم جماعات من الزنادقة ، فيهم من هو محسوب على الإسلام وليس من الإسلام في شيء .
الإسلام ما هو ؟! ما هو الإسلام ؟!
الإسلام ليس كلمة تقال باللسان والدعاوى لا تغني عن أصحابها شيئاً .(1/355)
الإسلام : الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهلة ، الإسلام يعني العمل بمدلول الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمد رسول الله ، وكم من يقول هذه المقالة وهو يعبد غير الله يطوف حول القبور ينادي غير الله ، وكم ممن يقول لا إله إلا الله ويشهد أن محمداً رسول الله ولا يعمل بشيء من ذلك ويترك جنس العمل مطلقاً ، وفيه من يقول هذه الكلمة وينطق بها ليلاً ونهاراً ولا يصلي ولا يصوم ولا يزكي ولا يحج . وكم ممن يقول هذا وهو يحكم بغير شرع الله ، يحكم بالطاغوت ، يحكم بالقوانين الوضعية ، يظاهر المشركين على المسلمين ، وفيهم من يقول ذلك وهو يتعاطى السحر والشعوذة وفيهم من يقول ذلك وفي تصوره واعتقاده ضلالات وانحرافات لا ينطق بها المسلم الإسلام ليس مجرد قول .
نحن نعرف معنى الإيمان بأنه قول وعمل ، قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح .
ومن جميل ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال: (( الإيمان قول وعمل ونية ولا يجزئ واحد دون الآخر )) وحكى على ذلك إجماع الصحابة والتابعين وأهل السنة من بعدهم لابد أن تتمثل فينا حقيقة الإسلام ، تتمثل فينا حقيقة الإيمان حين نمثِّل الإسلام حقيقة أمام نظر الآخرين والمصيبة أنه يتحدث الآن عن الإسلام من لا يعرف الإسلام وهو الذي يمثِّل الإسلام في نظر الآخرين وهذه من المصائب العظيمة في عصرنا ، نحن نعرف أن لهذا أسباباً ولكن لله الأمر من قبل ومن بعد قال تعالى: { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } .
- - -
ومنهم من يوجب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها وهم صنفان أيضاً: أحدهما من يقول بوجوبها حفظاً للقانون ، وظبطاً للناموس (1) .
((1/356)
1) أي من يقول بوجوب أداء الأوامر وبوجوب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها . والإنسان والعبد مأمور ، مأمور إن لم يمتثل أمر رب العالمين أمتثل أمر المخلوق لرب العالمين ، إن لم يطع الخالق أطاع المخلوق ، ولا يمكن لأحد من البشر أن يتخلف عن هذا المأمور في دنيا الواقع .
تأمل في الذين يخرجون عن أوامر الله في تحكيم شرعة و اتباع الإسلام وشرائع الإسلام يخرجون عن ذلك إلى طاعة الشياطين وإلى طاعة العبيد وإلى طاعة الكفار وإلى الانضمام إلى أنظمة هيئة الأمم وشبهها .
يخرجون من طاعة رب المخلوق إلى طاعة المخلوق ، فهو مأمور مأمور لكن هؤلاء هربوا من الرق الذي خُلقوا له فبُلوا بعبادة الهوى والشيطان وهذا الأمر مستقل منه المرء ومستكثر ، منهم من يطيع المخلوق في كل شيء ، ومنهم من يطيع في أشياء دون أخريات ، فهو مأمور مأمور .
إذاً ينبغي أن نطيع ويجب علينا أن نمتثل أمر رب العالمين فإنه هو الذي أمرنا وهو الذي نهانا ، وبيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله قال تعالى: { ألا له الخلق والأمر } وقال تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } وهو رب العالمين ومليكهم .
هذا الصنف يقولون بوجوب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها ليس محبةً لله ولا محبةً للعبادة ، لا طلباً للجنة ولا هرباً من النار ، يقولون بذلك حفظاً للقانون وضبطاً للناموس ، وهذا متمثل في عصرنا يقولون: إن العالم لا يمكن أن يقوم إلا بأوامر ونواهي ونحن نوافقه على هذا وأن البشرية لا تنضبط إلا بأوامر ونواهي ولكن أمر من ؟ ونهي من ؟
بأوامر الله وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإذا كنا نأمر الناس بأوامر الطواغيت والأوامر الوضعية والنواهي الوضعية والانضمام إلى هيئة الأمم وشبهها بما يسمى يهيئة العدل وهي هيئة الظلم والجهل فإننا نأمر بالفوضى نأمر بالشرود عن الحقيقة نأمر بالتفلت وعدم الانضباطية .(1/357)
قد تستقيم بعض البلاد بهذه الأمور لكن فيه أمر ونهي ، لكن الناس لا ينضبطون بالأمر والنهي إلا بتطبيق الشرع ، وما يصيبهم الآن من الفتن والحروب والتفلت هو بسبب الإعراض عن شرع الله والإعراض عن التمسك بالسنة .
ومجرد التسمي بالإسلام دولة إسلامية وهي تحكم بغير شرع الله هذا لا يغني شيئاً والدعاوى وإن راجت على جموع من البشرية لا تروج على أهل العلم وأهل الفضل وأهل الإيمان وإن راجت على كل البشرية وعلى المخلوقين فوراء ذلك حساب وجنة ونار والوقوف بين يدي حكم عدل لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد .
والأمة بحاجة إلى العودة إلى رشدها ليكون الدين كله لله وتعيش البشرية المظلومة المقهورة تحت بساط العدل ومظلة الأمن ، تعيش على حكم الله وشرع الله عز وجل ، قال تعالى: { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } وقال تعالى: { ما لكم كيف تحكمون } أفلا تعقلون !!
- - -
والآخرون: يوجبونها حفظاً للوارد ، وخوفاً من تدرج النفس بمفارقتها إلى حالتها الأولى من البهيمية (1) فهذه نهاية إقدامهم في حكمة العبادة وما شرعت لأجله ولا تكاد تجد في كتب المتكلمين على طريق السلوك غير طريق من هذه الطرق الثلاثة أو مجموعها .
والصنف الرابع: هم القائلون بالجمع بين الخلق والأمر والقدر والسبب (2) .
((1/358)
1) وهؤلاء ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، وقد تقدم أن العبادة المأمور بها هي تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ، وأنه لا يصح تسميتها عبادة إلا بهذا الاعتبار وبهذا المعنى ، ومن أدى العبادة وقام بها حفظاً للقانون وضبطاً للناموس أو حفظاً للوارد وخوفاً من تدرج النفس بمفارقتها إلى حالتها الأولى من البهيمية فهو ضال وعملة مردود عليه ، وجماعات من هذا الضرب يقومون بالأوراد ولا يُخِّلون بها خشية مشابهة النفس البهائم ويقلون لو عطلت العبادة لانسحقت النفوس السباع والبهائم فالعبادة تخرجها إلى مشابهة العقول وحينئذٍ تصير قابلة لانتفاش صور المعارف فيها .
(2) جاء في المدارج والصنف الرابع: هم الطائفة المحمدية الإبراهيمية أتباع الخليلين العارفون بالله وحكمته في أمره وشرعة وخلقه وأهل البصائر في عبادته ومراده بها وهؤلاء قائلون بالجمع بين الخلق والأمر .
وليس المعنى أنهم يسوون بين الخلق والأمر فهذا ليس قولاً للطائفة المحمدية الإبراهيمية ، لأن الله جل وعلا فرق بينهما فقال: { ألا له الخلق والأمر } فالخلق صفة من صفات الله .
وقد تقدم أن الفعل غير المفعول وأن الخلق غير المخلوق . والأمر في إثبات صفة الأمر لله جل وعلا .
والمعنى في قول المؤلف بالجمع: أي أنه لا يجعلون الأمر واحداً بل يجمعون بينها بما يقتضيه المقام ويقتضيه العلم و الشرع والعقل وبما تتجاوب معه الفطرة .
هؤلاء يتجاوبون مع ما تمليه عليه شياطينهم ويناقضون الفطر ، تقدم أن جماعات منهم لا يفرقون بين الأمر والنهي ولا بين التوحيد والشرك ويزعمون أن الله سوى بينهما ، تقدم الرد عليهم فيما مضى .
قوله: (( والقدر والسبب )) جميع ما يخلقه الله جل وعلا ويقدره بأسباب ، لكن من الأسباب ما يخرج عن قدرة العبد ومنها ما يكون مقدوراً له ، ومن الأسباب ما يفعله العبد ، ومنها ما لا يفعله .(1/359)
وبالجملة: فما فعل الله جل وعلا بأسباب يمكن طلبه بطلب الأسباب ، وأمثله ذلك كثيرة كالحياة والموت ودفع الحر والبرد ، ودفع الجوع والعطش ، والعبد يفعل السبب المأمور به ويتوكل على الله جل وعلا فيما يخرج عن قدرته ، وقد دلت الأحاديث الصحاح أن الأسباب من قدر الله جل وعلا .
- - -
فعندهم أن سر العبادة وغايتها مبنيٌ على معرفة حقيقة الإلهية (1) ، ومعنى كونه سبحانه إلهاً (2) .
(1) وهذا صحيح وهذا الذي دلت عليه الأدلة كتاباً وسنةً وهو الذي تتجاوب معه الفطر ، فإن سر العبادة وغايتها مبنيٌ على معرفة حقيقة الإلهية .
(2) الإله هو المألوه بمعنى المعبود محبةً وتعظيماً وخوفاً ورجاءً .
ضل في هذا الباب طوائف من المتكلمين فقالوا: عن الإله بأنه القادر على الاختراع ويفسرون كلمة الإخلاص لا إله إلا الله بمعنى لا قادر على الاختراع إلا الله وقد وقعوا في الشرك الأكبر حين جهلوا معنى الإله ، لأنه إذا فُسر الإله بأنه القادر على الاختراع فحينئذٍ تصبح عبادة المخلوق والذلة له لا بأس بها لأن لا إله إلا الله لا قادر على الاختراع ، وليس المعنى إلا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله وهذا ضلال وانحراف عظيم ، ومن أسباب وقوع طوائف من المتكلمين في الشرك الأكبر .(1/360)
وقد ضل في هذا الباب جماعة من المعتزلة والأشاعرة والكرامية فيفسرون إلا اله بأنه القادر على الاختراع ولا يدخلون توحيد العبادة في مسمى التوحيد ولا يجعلون أخص معاني الإله هو المعبود المألوه محبةً وتعظيماً وخوفاً ورجاءً ، ويكابرون في تقدير الخبر بحق في قولنا: (( لا إله إلا الله )) وهذا ناتج عن جهلهم بمعاني القرآن وبما جاءت به الرسل وبما دعت عليه الرسل ، والذي جاءت به الرسل أن الإله هو المألوه المعبود محبةً وتعظيماً وخوفاً ورجاء ، وأن الخبر المقدر في كلمة الإخلاص هو (( حق )) بنص القرآن قال تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير } قال تعالى { فاعبده وتوكل عليه } وقال تعالى: { وإلهكم إله واحد } وقوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } وقال تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } وقال تعالى: { قل أعوذ برب الفلق } وقال تعالى: { قل أعوذ برب الناس } .
وغير ذلك من الأدلة الدالة والموضحة لهذا المعنى .
- - -
وأن العبادة موجب الإلهية وأثرها ومقتضاها وارتباطها كارتباط متعلق الصفات بالصفات ، وكارتباط المعلوم بالعلم ، والمقدور بالقدرة ، والأصوات بالسمع والإحسان بالرحمة ، والعطاء بالجود (1) .
فعندهم من قام بمعرفتها على النحو الذي فسرناها به لغةً وشرعاً ، مصدراً ومورداً استقام له معرفة حكمة العبادات وغايتها ، وعَلِمَ أنها هي الغاية التي خلقت لها العباد ، ولها أرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب وخلقت الجنة والنار (2) .(1/361)
وقد صرح سبحانه وتعالى بذلك في قوله: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (3) ، فالعبادة هي التي وجدت لأجلها الخلائق كلها ، كما قال تعالى: { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } أي مهملا (4)، قال الشافعي رحمه الله: لا يؤمر ولا ينهى (5) ، وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب ، وهما تفسيران صحيحان فإن الثواب والعقاب مترتب على الأمر والنهي، والأمر والنهي هو الطلب للعبادة وإرادتها (6)، وحقيقة العبادة امتثالهما (7) ، ولهذا قال تعالى: { ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً } .
(1) فإذا قيل الإله فهو المعبود ولا ينفك هذا عن هذا إلا كانفكاك العطاء عن الجود والأصوات عن السمع والإحسان عن الرحمة ، فهذا من متعلقاته ومن موجباته ومن آثاره ومقتضياته .
(2) تقدم أن الحكمة من الخلق هي العبادة ، وأن الله جل وعلا ما خلق إلا لحكمة ومصلحة قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فمن عرف ما جاءت به الرسل استقام له معرفة حكمة العبادات وغايتها.
(3) العبادة هي الغاية التي خلق لها الخلق كلهم ومعنى يعبدون: أي يوحدون ، وقال جماعة إلا لآمرهم وأنهاهم ولا تنافي بين الأمرين ، فمن الأوامر الأمر بالتوحيد ومن النواهي النهي عن الشرك .
(4) وهذا قول ابن عباس وقتادة .
(5) وهذا منقول عن مجاهد رواه عنه عبد ابن حميد وابن المنذر .
(6) فلا تنافي بين هذه الأقوال فآخريتها ترجع إلى أمر واحد .
(7) أي الأمر والنهي وهذه هي حقيقة العبودية ، فإن حقيقة العبادة امتثال الأمر والنهي ، ومن شرد عن ذلك ولو أدى العبادات الظاهرة فلا تسمى عبادةً صحيحة حتى يمتثل الأمر والنهي .
((1/362)
8) { ما خلقت هذا باطلاً } فيه إثبات صفة الخلق لله جل وعلا ومن أسمائه جل وعلا الخالق والله جل وعلا هو الخلاق العليم ، فهؤلاء يتفكرون في خلق السماوات والأرض يقولون: ربنا ما خلقت هذا باطلاً وحقيقة هذا أن يتمثل الأمر والنهي في العبودية وأن نمتثل الأمر والنهي في حياتنا وفي عباداتنا فلا نخالف أمر الله ولا نرتكب نهياً.
وقال تعالى: { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } (1) .: { وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت } (2) .
فأخبر الله تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق المتضمن أمره ونهيه وثوابه وعقابه ، فإذا كانت السماوات والأرض إنما خلقت لهذا ، وهو غاية الخلق فكيف يقال: إنه لا غاية له ولا حكمة مقصودة ؟ أو إن ذلك لمجرد استئجار العمال حتى لا يتكدر عليهم الثواب بالمنة (3) ، أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضاً لمخالفة العوائد (4) ، وإذا تأمل اللبيب الفرق بين هذه الأقوال (5) ، وبين ما دل عليه صريح الوحي (6) ، علم أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته (7) ، الجامعة لكمال محبته مع الخضوع له، والانقياد لأمره (8) .
(1) أي بالعدل وبالحق المتضمن أمرة ونهيه وثوابه وعقابه .
(2) فيه إثبات البعث وفيه إثبات الجزاء والحساب وفيه إثبات الأمر والنهي لأنه كيف يتم الجزاء والحساب ، وهؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار إلا بسبق أوامر ونواهي وحقيقة العبادة امتثالهما .
(3) كقول القدرية وقد تقدم الرد عليهم .
(4) كما هو قول الصوفية وقد تقدم أنهم طوائف ولكن من اعتقد هذا الاعتقاد وقال بهذا فهو أضل من حمار أهله .
(5) أي الأقوال المنحرفة والأقوال الضالة وهذه الأصناف الأربعة .
(6) وهو القسم الرابع فقط دون الأقسام السابقة .
(7) فإن الله جل وعلا ما خلق الخلق من قلة فيستكثر بهم ، ولا من ضعف فيستنصر بهم ولا من وحشة فيستأنس بهم خلق الله جل وعلا الخلق لعبادته .
((1/363)
8) فإذا تخلف أحد هذين الأمرين المحبة مع الخضوع والانقياد للأوامر فلا تسمى هذه العبادة عبادة ، ولا يصح توحيد المرء والناس يتفاوتون في منهم ما هو مسلوب هذا بالكلية ومنهم من هو ناقض ومنهم استوفى هذا ، وهم مراتب متفاوتة .
فالعبادة هي محبة الله وإفراده بالمحبة وطاعته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه فالله جل وعلا خلق الجن والإنس للعبادة أي ليقوموا بالعبادة ، فمن أطاع جازاه الله جل وعلا بجنة عرضها السماوات والأرض ، ومن أبى وعصى فقد خلق الله النار وخلق الله لها أهلهاً ، وقد جاء في البخاري من حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى !! قالوا: يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )
وقال تعالى: { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } ومفهوم هذه الآية أن من تخلف عن جنس الطاعة لله أو للرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا تناله الرحمة ، قال تعالى: { إن رحمة الله قريب من المحسنين } .
- - -
فأصل العبادة محبة الله ، بل إفراده تعالى بالمحبة ، فلا يحب معه سواه (1) ، وإنما يحب ما يحبه لأجله وفيه ، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته (2) ، لأن محبتهم من تمام محبته ، وليست كمحبة من اتخذ من دونه أنداداً يحبهم كحبه (3) ، وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها ، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه (4) ، فعند اتباع الأمر والنهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة .
(1) السبب أنه ليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى وقد تقدمت الإشارة إلى أن العبادة تتضمن معنى الذل ومعنى الحب وأصل العبادة إفراده حل وعلا بالمحبة .
(2) والصالحين من عباد الله نحب هؤلاء ونواليهم .
((1/364)
3) وقد أشار العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الجواب الكافي إلى أربعة أنواع من الحب وذكر أنه يجب التفريق بينها وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينها . أحدها: محبة الله تعالى وهذه لا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه فإن المشركين وعبَّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله تعالى . الثاني: محبة ما يحبه الله وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر ، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها ، والناس يتفاوتون في هذه المرتبة وكلما قوي إيمان العبد وزاد يقينه وقويت محبة الله في قلبه ، كلما قويت محبة ما يحبه الله وبغض ما يبغضه الله وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاث من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار ) وهذا الخبر متفق على صحته ، فقوله: (( وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله )) خرجت بذلك المحبة الدنيوية والمحبة الطبيعية لأنها غير داخلة في هذا التقييم . القسم الثالث: الحب لله وفيه وهي من لوازم محبة ما يحبه الله ولا تستقيم محبة ما يحبه الله إلا بالحب فيه وله . القسم الرابع: المحبة مع الله وهي المحبة الشركية ، وكل من أحب شيئاً مع الله لا لله ولا من أجله ولا فيه فقد اتخذه نداً من دون الله . القسم الخامس: المحبة الطبيعية وهي ليس مما نحن فيه وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه كمحبة الزوجة والولد والماء للعطشان ونحو ذلك .
(4) تقدم قبل قليل بأن أصل العبادة إفراده تعالى بالمحبة ، وتقدم أن محبة الله لا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه لأن المشركين يحبون ربهم والمحبة التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر هي محبة ما يحبه الله ، وأحب الناس إلى الله وأقربهم إليه .(1/365)
أقومهم في هذه المحبة والمحبة له وهي حقيقة عبوديته وسرها لا تتحقق إلا بأمرين:
الأمر الأول: بإتباع الأوامر ، قال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } .
الأمر الثاني: اجتناب النواهي ، لأنه حين يجتنب النهي محبة لله وخوفاً من الله فحينئذٍ تتحقق العبودية وتتبين حقيقة المحبة .
وحين ادعى قوم محبة الله جل وعلا امتحنهم الله جل وعلا بقوله: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وحين ادعى آخرون وطلب آخرون أن يخبرهم الله جل وعلا بأحب الأعمال إليه كي يُؤدونها قال الله جل وعلا: { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص } ، فنخلص من هاتين الآيتين إلى أن حقيقة العبودية وحقيقة المحبة لله جل وعلا تتمثل بأمرين عظيمين:
الأمر الأول: إتباع الأوامر . الأمر الثاني: اجتناب النواهي .
والناس يتفاوتون في تطبيق الأوامر واجتناب النواهي فمقل ومستكثر ، وهذا يختلف على حسب إيمانهم ويقينهم لأن الناس يتفاوتون في الإيمان فلا يمكن جعل إيمان النبي - صلى الله عليه وسلم - كإيمان غيره ، ولا جعل إيمان أبي بكر كإيمان من جاء بعده فالإيمان قول وعمل ، قول القلب واللسان وعمل القلب اللسان والجوارح ، يزيد وينقص .
- - -
ولهذا جعل سبحانه اتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - علماً عليها وشاهداً لها كما قال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } (1) فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله تعالى (2) ، وشرطاً لمحبة الله لهم ، ووجود المشروط بدون تحقق شرطه ممتنع (3) .
(1) لأن المحبة التي تدخل في الإسلام وتخرج عن الكفر هي محبة ما يحبه الله والله جل وعلا يحب محبة رسوله وطاعة رسوله قال تعالى: { وأطيعوا الله والرسول } وقال تعالى: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } وقال تعالى: { ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها } والأدلة في هذا كثيرة .
((1/366)
2) لأننا حين نطيع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن محبته من تمام محبة الله تعالى ، وقد تقدم الإشارة إلى أنه ليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى .
(3) فقوله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ، قل إن: حرف شرط جازم ، كنتم: في محل شرط جزم فعل الشرط { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } الفاء: واقعة في جواب الشرط { فاتبعوني يحببكم الله } يحببكم: مجزوم لأنه جواب الطلب ولا يتحقق فعل الشرط إلا بتحقق جوابه ، ووجود المشروط بدون تحقق شرطه ممتنع .
- - -
فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - (1) ، ولا يكفى ذلك حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما (2) ، ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهو الإشراك الذي لا يغفره الله (3) .
قال تعالى: { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب (4) إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } (5) .
(1) وهذه المحبة قد تنتفي من كل وجه ، وقد ينتفي بعضها وترك طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها ما ينافي أصل الإيمان ومنها ما ينافي كماله الواجب، ومنافاة كمال الإيمان الواجب مراتب فالمعصية أخف من الكبيرة ، والكبيرة أخف من البدعة .
(2) بحيث يقدم طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على هواه ، وعلى طاعة المخلوق فليست المحبة محبة مجرده كلمة تقال باللسان ، فدعاوي اللسان لابد أن تتمثل في أعمال الجوارح حتى تكون المحبة حقيقية .
((1/367)
3) تقدم القسم الرابع من أنواع المحبة وهي المحبة مع الله وهي المحبة الشركية فكل من أحب شيئاً مع الله لا لله ولا من أجله ولا فيه فقد أتخذه نداً من دون الله وليس من ذلك المحبة الطبيعية وهي ميل الإنسان إلى ما يلائمه و يلائم طبعه كمحبة الزوجة ومحبة الولد ونحو ذلك .
(4) (( أحبَ )) بالنصب خبر كان
(5) أي من قدم محبة الله الآباء ومحبة الأبناء ومحبة الإخوان والأزواج ومحبة العشيرة والأموال على محبة الله وقدم هذه الأمور على طاعة الله وعلى طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى القتال في سبيل الله ، فإن بعض الناس يعتذر عن القتال في سبيل الله بالأولاد والأموال والتجارة وهذا ليس عذراً ولا مسوغاً لترك القتال في سبيل الله وترك مجاهدة أعداء الله ، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - حين تمثلت فيهم حقيقة الإيمان وحقيقة التقوى خرجوا عن بلادهم وعن أوطانهم وتركوا أموالهم مهاجرين في سبيل الله يقاتلون في سبيل الله ، قال تعالى: { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا * الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } ، فمن قدم محبة الآباء والأولاد والأموال على طاعة الله وعلى طاعة رسوله وعلى الجهاد في سبيل الله فهو ضال ولينتظر أمر الله جلا وعلا ، والله لا يهدي القوم الفاسقين .
- - -
وكل من قدم قول غير الله على قول الله ، أو حكم به ، أو حاكم إليه ، فليس ممن أحبه (1) .
((1/368)
1) فمن قدم قول المخلوق أو قول شيخه أو قول إمامه أو قول عالمه أو الرأي في مذهبه أو قول الحاكم على قول الله فهو لا يحب الله ، وإن ادعى محبة الله فهذا محبة كاذبة ، ومن تحاكم إلى أقوال البشر أو حَكَّم القوانين الوضعية وفرضها على العباد وادعى محبة الله فهو كاذب في دعواه ، ومن زعم أنه حين يُحَكِّم الطاغوت ويُحَكِّم القوانين الوضعية يعتقد أن حكم الله أحسن من حكم الطاغوت فهو كاذب في دعواه ، لأن العاقل لا يُؤثر الأدنى على الأعلى ولا يُؤثر الباطل على الحق ولا يُؤثر النار على غيرها .
فحين يدَّعي أن حكم الله أحسن حكمه باللسان وهو يُحكِّم غير شرع الله بل ويبطش بمن دعا إلى التحاكم إلى شرع الله فهذا طاغوت وهو كذاب وحتى لو اعتقد هذا الإعتقاد فهذا لا يمنع من تكفيره وردته ، لأن الله جل وعلا سماه منافقاً وسماه مشركاً وسماه كافراً ، قال تعالى: { ولا يشرك في حكمه أحدا } فهذا دليل على أن من حكم بغير شرع الله بأنه مشرك { وإن أطعمتموهم إنكم إذاً لمشركون } .
وقال تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم امنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيدا } وقال تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الكافرون } .
مناط الكفر هو ترك الحكم بشرع الله جل وعلا فإذا أضاف إلى هذا تنظيم القوانين الوضعية فهذا كفر آخر ، وإذا أضاف إلى هذا الحكم بهذا الشرع المبدل فهده ثلاث مناطات في كفره :-
المناط الأول: ترك حكم الله .
المناطق الثاني: تبديل شرع الله ، حيث يقنن هذه القوانين الوضعية ويعتاض عن شرع الله بها .
المناط الثالث: أن يحكم بهذا الشرع المبدل ، وهذا من الكفر الذي لا يختلف فيه اثنان كما ذكره الإمام ابن حزم وحكاه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية المجلد الثالث عشر .(1/369)
والكفر إذا عرِّف بالألف واللام فلا يحتمل إلا الأكبر ، وقد قال ابن عباس هي كفر ، وفي رواية (( هي به كفر )) رواه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس والأثر المشهور عن ابن عباس (( كفر دون كفر )) لا يثبت عنه فقد رواه الحاكم وغيره من طريق هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس وهذا معلول بعلتين:-
العلة الأولى: ضعف هشام بن حجير فهو سيء الحفظ ، وقد ضعفه أحمد ويحيى وجماعة .
العلة الثانية: المخالفة وقد رواه عبد الله بن طاووس وهو أوثق من هشام عن أبيه مخالفاً لما رواه هشام ، فيحكم لرواية هشام بالشذوذ .
لكن قد يشتبه الأمر على من يقدِّم قول أحد ، أو حكمه أو طاعته على قوله (1) ، ظناً منه أنه لا يأمر ، ولا يحكم ، ولا يقول إلا ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيطيعه ، ويحاكم إليه ويتلقَّى أقواله كذلك فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك (2) .
وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وعرف أن غير من اتبعه أولى به مطلقاً أو في بعض الأمور كمسألة معينة ، ولم يلتفت إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا إلى قول من هو أولى به فهذا يُخاف عليه (3) .
(1) أي على قول الله أو على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
(2) وهذا الباب فيه تفصيل فإن من بذل جهده وطاقته ووثق بهذا الشيخ وبهذا العالم لما عُلِم عنه من العلم والصدق مع الله وقول الحق وحينئذٍ يُقدم قوله باعتبار أنه مطيع لله ومُحكِّم لشرع الله فحينئذٍ يعتبر هذا معذوراً ولو قدم قول العالم على قول الله جل وعلا وعلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه يعتقد بأن العالم يقول بقول الله وهذا الذي يقدر عليه لأنه ليس له قدره على النظر في الأدلة الشرعية والموازنة بينهما ، وهذا محمول على من بذل جهده وطاقته ووثق بهذا الشيخ ويعلم أنه لا يتحاكم إلا إلى شرع الله ولا يقول إلا بالحق .
((1/370)
3) لأن هذا عرف الحق وأعرض عنه متعمداً وعنده القدرة إلى الوصول إلى معرفة الحق وإلى معرفة قول الله ومعرفة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا قدم قول غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قول الرسول أو قدم قول هذا العالم على قول الرب جل وعلا فهذا يُخاف عليه وهذا من الضلال والانحراف قال تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا } وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا: يا رسول الله ومن يأبى !! قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى )) رواه البخاري من حديث فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - .
وقد قال ابن عباس لمن عارضه برأي أبي بكر وعمر وهما هما في العلم والدين ، قال: (( والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله ، أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون قال أبو بكر وعمر )) رواه الإمام أحمد والخطيب وجماعة .
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (( عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأى سفيان والله تعالى يقول: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنه أو يصيبهم عذابٌ أليم } أتدري ما الفتنة ؟! الفتنة: الشرك ، لعلة إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك )).
وكل ما يُتَعلل به من عدم العلم ، أو عدم الفهم ، أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدين ، أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر ، أو بأن ذلك المتقدم كان أعلم مني بمراده - صلى الله عليه وسلم - فهي كلها تَعَلُلات لا تفيد (1) .
((1/371)
1) يريد بهذا بأن من تعلل بعدم العلم أو عدم الفهم ، أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدين ، أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر ، أو بأن ذلك المتقدم كان أعلم مني بمراده - صلى الله عليه وسلم - فهذا غير مجدي مادام أنه يقدر على الوصول إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعرض عن ذلك تقليداً للأئمة الأربعة أو غيرهم ، وإعراضاً عما جاء في الكتاب أو في السنة فهذا ضرب من الضلال والتعلل بعدم العلم أو بعدم الفهم غير مجدي وغير مفيد ، هذا وإن كان بعض الناس قد يُعذر بمثل هذا حين تتعارض عنده الأدلة أو يشتبه عليه الأمر ولكن ما دام أنه يستطيع أن يصل إلى الحق ويصل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويدع ذلك اعتماداً على رأي فلان أو الآخر فهذا ضربٌ من الضلال .
والأئمة الأربعة رحمهم الله ينهون عن تقليدهم وينهون عن اتباعهم ، وحين قرر الإمام الشافعي رحمه الله تعالى سنة من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قيل له :أتأخذ بذلك غضب عليه الشافعي غضباً شديداً قال: (( هل رأيتني خرجت من بيعة ، أو رأيت في وسطي زناراً ، هل رأيتني نصرانياً أولا أنتسب لهذا الدين ، أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول أتأخذ به )) وهذا من الأمور والمُسَلمات فلا وجه للاعتذار عن العمل بالسنة لقول الأئمة الأربعة أو بقول فلان أو الآخر ومن جميل ما ذكره بعض أهل العلم من الشعر قال:
وقول أعلام الهدى لا يُعمل ... بقولنا بدون نص يُقبل
فيه دليل الأخذ بالحديث ... وذاك في القديم والحديث
قال أبو حنيفة الإمام ... لا ينبغي لمن له إسلامُ
أخذٌ بأقوالي حتى تعرضا ... على الحديث والكتاب والمرتضى
ومالكٌ إمام دار الهجرةٍ ... قال وقد أشار نحو الحجرةِ
كل كلامٍ من ذو قبول ... ومنه مردودٌ سوى الرسول
والشافعي قال إن رأيتموا ... قولي مخالفاً لما رويتموا
من الحديث فاضربوا الجدارا ... بقولي المخالف الأخبارا
وأحمدُ قال لهم لا تكتبوا ... ما قلته بل أصل ذلك اطلبوا(1/372)
اسمع مقالات الهداة الأربعة ... وأعمل بها فإن فيها منفعه
لقمعها لكل ذي تعصبي ... والمنصفون يكتفون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
ولا يزال أهل العلم يكررون القول في هذه القضية ويوجبون الأخذ بالكتاب والسنة ويضللون من أعرض عن ذلك محتجاً بقول فلان أو الآخر لأنه لا حجة في قول أحد ، ولا في طاعة أحد ، ولا في اجتهاد أحد ، إنما الحجة في كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
والمعرضون عن ذلك أقسام منهم الجاهل وقد تقدم الحديث عنه ، فهو لا يعذر إلا إذا اقتدى بمن يراه عالماً ورعاً تقياً ، ولم يظهر له من أدلة الكتاب والسنة ما يجعله يعرض عن قول العالم ويتَّبع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
الضرب الثاني: طالب العلم ، فهذا إذا اجتهد وبذل وسعه ، وترجح عنده أن قول هذا العالم هو الصواب بأن يستدل بأدلة أخرى فهذا معذور أيضاً .
الضرب الثالث: من يستطيع الوصول إلى الله والوصول إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأَخَذَ بقول العالم وليس عند هذا العالم من الأدلة ما يجعله يأخذ بقول العالم دون قول الله وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذا ضال وهذا يخاف عليه .
الضرب الرابع: أن يدع دليلاً لدليل آخر ، أو يعتقد في نفسه أن هذا الدليل غير صريح وأن هناك ما يعارضه ، وهذا العالم يورد من الأدلة الأخرى ما تعارض هذا الفهم ، أو يعتقد أن فهمك للكتاب غير صحيح لأن هذا العالم أفهم منك للقرآن وهو يعتقد أن هذا العالم لو أخطأ لأبتعد عن قوله وأعرض عنه ، ولكن يعتقد في هذه القضية أنه أصاب في هذا الفهم ، وأن فهم فلان غير صحيح وإن استدل بدليل فهذا قد يكون معذوراً عند الله جل وعلا إذا بذل جهده واستفرغ طاقته ولكن يبقى أن الإنسان يقرر ما يعلمه هو الحق ولا يبالي بمخالفة من خالفه فإن الحق أبلج والباطل لجلج .
- - -(1/373)
هذا مع الإقرار بجواز الخطأ على غير المعصوم ، إلا أن ينازع في هذه القاعدة فتسقط مكالمته ، وهذا هو داخلٌ تحت الوعيد .
(1) يعني لا يشفع له ما تقدم فكونه يتعلل بعدم العلم وبعدم الفهم ومع هذا يقر بجواز الخطأ على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه كلها تعللات لا تفيد .
أما إذا نازع في هذه القاعدة كأن يدَّعي عدم الخطأ في أقوال علمائه كما تدَّعي بذلك الرافضة فهذا تسقط مكالمته ولا حاجة إلى مجادلته لأنه غير مُسَلِِّم بالقواعد الكلية .
فإن الرافضة يدَّعون العصمة لأئمتهم ، وأما أهل الحق وأهل السنة فلا يدَّعون العصمة لأحد فَيُجَوِزُون الخطأ على أبي بكر وعلى عمر وعلى عثمان وعلى علي وعلى من هو دون هؤلاء ولا يزعمون العصمة لغير الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فكل من دون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطى ويصيب يعلم ويجهل فمستقل ومستكثر .
واتفاق الأئمة الأربعة على رأي ليس إجماعاً وليس حجة على العباد فكم من مسألة اتفق الأئمة على القول بها والصواب مع غيرهم ، ولا يتهيب طالب العلم من مخالفة الجمهور مادام يحمل الحق ويحمل الدليل الواضح الذي قد يكون خفي على الأئمة الأربعة أو غير ذلك من الأعذار التي يعتذر عنهم بعدم القول أو العمل بذلك، ولكن لا يمكن أن نتعلل بأن الأئمة الأربعة أفهم من فلان ، لأنه يقال أيضاً وهل الأئمة الأربعة أفهم ممن سبقهم ؟ فنحاج هؤلاء بمثل هذه الأمور حتى نصل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فدونه ينقطع كل قول وتبطل كل حجة وتعليل .
ومن أقبح أنواع التعصب التعصب لرأي إمامك ومذهبك الذي تنتسب إليه بدون دليل وبدون معرفة مأخذ الحجة ، مجرد أن تحفظ قولاً لأهل العلم في فضل إمامك وجلالة قدره تجادل عنه بالباطل .
فالذين يتعصبون لمذهب أبي حنيفة يحتفظون بقول بعض أقوال الأئمة: (( بأن الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه )) وهذا ليس عذراً ولا مسوِّغاً لمثل هذا التعصب الأعمى وهذا الضلال البعيد .(1/374)
وأتباع المذهب المالكي يتعصبون لمذهب مالك ، هذا ليس للجميع إنما هذا للبعض وفئة من الناس فبعض المنتسبين لمذهب مالك يتعصبون لمذهب مالك بحجة أن مالكاً هو الذي عُني بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل ولا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة ) رواه الإمام أحمد والترمذي من طريق ابن جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد رجح الإمام أحمد رحمه الله تعالى وقف هذا الخبر . وأتباع الإمام الشافعي يحتجون بأن الشافعي مُطَّلِبي وأن الله جل وعلا جمع له بين الفقه والحديث ، ويستدلون بحديث: (( قدِّموا قرشياً ولا قدموها )) وهذا الخبر ضعيف وأحاديث كثيرة يحتجون بها في هذا الخبر ، ليست في محل النزاع .
وأتباع الإمام أحمد يقولون بأن الإمام أحمد من أعلم الناس بالحديث وبعلله ، جمع الله له بين الفقه والحديث ويحفظ من الأحاديث ما لا يحفظه هؤلاء الأئمة .
وهذه التعللات لا تفيد فقد يكون الحق مع أحمد وقد يكون الحق مع الشافعي وقد يكون مع مالك وقد يكون الحق مع أبي حنيفة .
فحين تنظر في مسألة مس المرأة فنحن نعلم أن الأئمة الأربعة مختلفون في هذه القضية فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى بأن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً سواء كان بشهوة أو بغير شهوة .
بينما قال الإمام الشافعي بأن مس المرأة ينقض الوضوء مطلقاً بشهوة وبدون شهوة .
بينما قال الإمام مالك إن مس بشهوة انتقض وضوءه وإلا فلا ينتقض الوضوء وعن أحمد رحمه الله تعالى روايات ثلاث توافق مذهب كل واحد من هؤلاء الأئمة والصواب في هذه القضية مع أبي حنيفة رحمه الله تعالى .(1/375)
وحين نأخذ بهذه القضية في مذهب أبي حنيفة لا يمنع في المسألة الأخرى أن نأخذ بالقول الراجح الذي قد يوافق مذهب أحمد كقضية نقض الوضوء من أكل لحم الجزور فنأخذ في هذه القضية في مذهب أحمد، وإن كنا لا ننتسب لمذهب معين ولا نتعصَّب لمذهب معين ، فندور مع الحق حيثما دار، وكون الإنسان يعيش في بلد يغلب عليه التمذهب لا يعني هذا بأنه ينتسب إليهم أو أنه يقلد ، فنحن لا ننتسب لمذهب ولا نتعصب لمذهبٍ على آخر ، إنما ندور مع الحق حيثما دار على حسب القدرة وعلى حسب الاجتهاد وعلى حسب البحث في النصوص .
فكما أنه لو قام رجلٌ الآن وأراد أن يجمع أقوال أبي بكر وينشئ مذهباً لقام عليه الكثير وأنكروا عليه وهو أبو بكر ، ولو أن رجلاً الآن جمع أقوال علي - رضي الله عنه - وحشدها ونظَّر عليها واستخرج الأوجه منها وجعل هذا مذهباً أتصور أن الناس يقولون عنه رافضي أو يقولون عنه بأنه شيعي وهو علي - رضي الله عنه - بالعلم والقدر والجلالة فكيف حينئذٍ نسوِّغ للناس أو نأمر الناس بتِّباع هذه المذاهب وإلزام الناس بها ، والذي لا يتبعها قد نعتبره ضالاً أو جاهلاً أو مشوشاً أو غير ذلك من الأعذار .
العامي صحيح أنه ليس له مذهب ، مذهبه مذهب مفتيه ، لكن طالب العلم الذي توفرت فيه آلة الاجتهاد والقدرة على استخلاص المسائل من مظَّانها ، وعنده حفظ أكبر قدر ممكن من الأحاديث ومعرفة بالفقه وأصوله ومعرفة باللغة وتوابعها فهذا يجتهد ولا يقلِّد أحداً ، وإن انتسب لبعض المذاهب فلا يقلدهم .(1/376)
أرجع فأقول إن مذهب أحمد في هذه القضية أصح من غيره ، فإنه يقول بأن أكل لحم الجزور ينقض الوضوء لحديث جابر بن سمره في صحيح مسلم ، وحديث البراء عند الأربعة ، بينما ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي إلى أن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء مستدلين بحديث شعيب ابن أبي حمزة عن ابن المنكدر عن جابر قال: (( كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار ... )) وهذا الخبر معلول ، أعله أبو حاتم وأبو داود وابن حبان وجماعة ، وحكموا عليه بأنه مختصر .
الصواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من كتف شاة ولم يتوضأ .
وحين ننظر في قضية أخرى لم يقل بها أحد من الأئمة الأربعة وهي قضية الطلاق بالثلاث وجعلها واحدة ، فقد أتفق الأئمة الأربعة كلهم رواية واحد عن الجميع بأن من طلق زوجته بالثلاث كأن يقول أنت طالق بالثلاث ، أو أنت طالق البتة ، فإن المرأة حينئذٍ تبين منه سواءٌ طلَق في الحيض أو طلق في طهر مسَّها فيه أو غير ذلك لا فرق .
بينما ذهب الإمام ابن حزم وتبعه على ذلك الإمامان ابن تيمية وابن القيم فإنه إذا قال أنت طالق ألبته أو أنت طالق بالثلاث أو قال أنت طالق وطالق و طالق أو قال أنت طالق طالق طالق أو غير ذلك تعتبر واحدة فقد جاء في صحيح الإمام مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (( كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة )) وهذا هو الصواب وهو الحق .
فلوا أن المرء قال سبحت ثلاث وحمدت الله ثلاثاً واستغفرت الله ثلاثاً ، أيعتبر استغفر ثلاثاً أو واحدة ؟ يعتبر واحد .
فإذا قال طلقت ثلاثاً ليس من حقك أن تطلِّق بالثلاث ، السنة أن تطلِّق طلقة واحدة بطهر لم تمسها فيه، أو حاملٌ قد استبان حملها فتنتظر حتى تحيض ثم تطهر ثم تطلِّق الثانية .(1/377)
إذا قال طلقت ثلاثاً أو أنت طالق ألبته تعتبر واحده كما لو قال سبحت ثلاثاً واستغفرت ثلاثاً وحمدت الله ثلاثاً والحديث عن هذه القضية يطول .
- - -
فإن استحل مع ذلك ثلبَ من خالفه ، وقرْض عرضه ودينه بلسانه أو انتقل من هذا إلى عقوبته ، أو السعي في أذاه ، فهو من الظلمة المعتدين ونواب المفسدين (1) .
(1) وهذا كله تابع لكلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، فإن المؤلف رحمه الله نقل هذا الفصل من مدارج السالكين .
وهذا ظهر في كثير من المتعصبين والمقلدة ، وقد وجد فيهم من يستبيح دماء من خالفه ، ووجد فيهم من يسعى فيه إلى السلطان لحبسه وضربه فحين عجز هؤلاء عن إقامة الحجة على الآخرين وعن مجاراة الآخرين بالحجة ، وقرع الحجة بالحجة لجئوا إلى السلطان ولجئوا إلى القوة .
ما عندهم عند التناظر حجة ... أنى بها لمقلد حيران
لا يفزعون إلى الدليل وإنما ... في العجز مفزعهم إلى السلطان
فهذا المقلد الذي يُقِّر بجواز الخطأ على غير المعصوم ، ولكن يعتذر عن إتِّباع السنة وعن قبول الحق بعدم العلم أو عدم الفهم أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدين ، والاحتجاج بالأشباه والنظائر أو بأن ذلك المتقدم كان أعلم بمراد الرسول فهذا مبطل ، وجمع مع هذه الأمور استحلال عرض من خالفه أو انتقل من هذا إلى عقوبته والسعي في أذاه فهو من المتعدين ونواب المفسدين .
وقد عانى كثير من الأئمة بمثل هؤلاء المقلدة والحساد ، وقد أشار إلى هذه القضية ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية قال: فصل في حال العدو الثالث
أو حاسدٍ قد بات يغلي صدره ... بعداوتي كالمرجل الملآن
لو قلت هذا البحر قال مكذباً ... هذا السراب يكون بالقيعان
أو قلت هذي الشمس قال مباهتاً ... الشمس لم تطلّع إلى ذا الآن
أوقلت قال الله قال رسوله ... غضب الخبيث وجاء بالكتمان
أو حرف القرآن عن موضوعِهِ ... تحريفَ كذابٍ على القرآن(1/378)
وحين أفتى ابن تيمية رحمه الله تعالى بأن طلاق الثلاث واحده وأفتى بأن الرحال لا تشد إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن هذا بدعة ، لأن الرحال لا تشد إلا إلى ثلاث مساجد ، ومع ذلك لا تشد الرحال إليها أي إذا كانت بقعة تقصد لذاتها ، قام عليه أعداءه وخصوصه وسعوا به إلى السلطان وجرت بينهم وبين ابن تيمية مناظرات ومكاتبات ، وحين انتصر سلطان الحق لجئوا إلى السلطان وإلى الحكام وإلى السب والشتم ، وهذا لا يعجز عنه أحد وفي عصرنا هذا ألوان وألوان من هذا القبيل حين يعجزون عن مجاراة أهل الحق وعن إقامة الحجة على الآخرين يلجئون إلى السب والشتم والثلب واستحلال الأعراض بأنه
خارجي أو بأنه يُشوش أو بأنه مفسد أو يقولون عنه بأنه جاهل لأن الكلام رخيص سعره ، والهذيان بمثل هذا لا يعجز عنه أحد ، وحين يعجزون عن إقامة مثل هذه الأمور في دنيا الواقع ، وحين يعجزون عن إقناع الناس بمثل هذه الأمور يسعون به إلى السلطان بأنه يُألب الناس عليك ، وقد يقولوا بأنه لا يدعوا لك ، أو قد يقولون له بأنه يُكفرك ويستحل عرضك ، وقد يقول بأنه لا يرى لك بيعه وغير ذلك من حجج نواب إبليس في الأرض .
- - -
واعلم أن للعبادة أربع قواعد وهي: (1) التحقق بما يحب الله ورسوله ويرضاه (2) ، وقيام ذلك بالقلب واللسان والجوارح (3) .
(1) تقدم تعريف العبادة ، وأن العبادة المأمور بها هي تتضمن كمال الذل مع كمال الحب ، ويتضمن معنى الذل مع معنى الحب .
(2) وهذا أمر ضروري حيث تتحقق من الأمر بأنه يحبه الله ويحبه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج بذلك الابتداع في الدين لأن البدعة لا يحبها الله ولا يحبها رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
(3) وهذا معنى الإيمان ، فالإيمان عند أهل السنة قول وعمل ، قول القلب ، واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح .(1/379)
وقال بعض أهل السنة بأن الإيمان قولٌ وعمل ونية ، وقال بعض أهل السنة بأن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعملٌ بالأركان ، ولا تنافي بين هذه الأمور ، فهي ترجع إلى أن الإيمان قول وعمل .
إلا أن قول من قال أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان فيه شيء من القصور حيث أخرج أعمال القلوب .
- - -
فالعبودية: اسم جامع لهذه المراتب الأربع (1) ، فأصحاب العبادة حقاً هم أصحابها (2) ، فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله عن نفسه (3) ، وأخبر رسوله عن ربه من أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه وما أشبه ذلك (4) ، وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك ، والدعاء إليه ، والذب عنه ، وتبيين بطلان البدع المخالفة له ، والقيام بذكره تعالى وتبليغ أمره .
(1) وهي التحقق مما يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك قول القلب وعمله ، والثالث قول اللسان وعمله ، الرابع عمل الجوارح .
(2) هم الذين تتمثل فيهم هذه الأمور ويؤدون العبادة بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم والذين يقولون عن الإيمان بأنه قول واعتقاد لا يمكن لهم ولا لأمثالهم أن يقوموا بالعبادة على الوجه المطلوب .
(3) ما أخبر الله جل وعلا عن نفسه من الأسماء والصفات وعظمته وقدرته ونحو ذلك .
(4) من الأسماء والصفات والأفعال من الإيمان بالملائكة والكتب والرسل والنبيين والإيمان بالبعث والقدر خيره وشره ونحو ذلك.
- - -
وعمل القلب: كالمحبة له ، والتوكل عليه ، والإنابة والخوف ، والرجاء والإخلاص ، والصبر على أوامره ونواهيه ، وأقداره ، والرضا به وله وعنه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، والإخبات إليه ، والطمأنينة به ، ونحو ذلك من أعمال القلوب التي فرضُها آكد من فرض أعمال الجوارح ومستحبُها إلى الله تعالى أحب من مستحب أعمال الجوارح (1) .
وأما أعمال الجوارح (2) .
(1) وهذا ليس إطلاقه فقد تكون أعمال الجوارح آكد من أعمال القلوب .
((1/380)
2) وأعمال الجوارح من الإيمان وقد اتفق الصحابة والتابعون ومن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان ، واتفقوا على أن تارك جنس العمل مطلقاً كافر فلا يجرئ التصديق بالقلب والنطق باللسان حتى يكون عملٌ بالجوارح .
وقد حكى الشافعي رحمه الله إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم أن الإيمان قولٌ وعمل ونية فلا يجرئ واحدٌ من الثلاثة من الآخر أي فلا يجزي جنس القول عن جنس الإعتقاد ولا يجزئ جنس الإعتقاد عن جنس عمل الجوارح فإذا اختل جنس واحد من هؤلاء يصبح الرجل كافراً لا مسلماً .
وذكر الخلال في السنة عن الإمام الحميدي رحمه الله قال: (( أُخبرت أن قوماً يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيء حتى يموت أو يصلي مسند ظهره مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك في إيمانية إذا كان يُقر بالفروض واستقبال القبلة . فقلت: هذا الكفر بالله الصُراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وفعل المسلمين قال الله جل وعلا: { حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } .
قال حنبل قال: الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (( من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما جاء به )) وقال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: (( المرجئة سمو ترك الفرائض ذنباً بمنزله ركوب المحارم )) وليس سواء لأن ركوب المحارم متعمداً من غير استحلال معصية ، وترك الفرائض من غير جهل ولا عذر هو كفر وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - بلسانه ولم يعملوا بشرائعه .(1/381)
وقال إسحاق: (( غلت المرجئة حتى صار من قولهم: إن قوماً يقولون من ترك الصلوات المكتوبات ، وصوم رمضان ، والزكاة ، والحج وعامة الفرائض من غير جحود الله ، لا نكفره ، يرجى أمره إلى الله إذا هو مقرٌ )) فهؤلاء الذين لا شك فيهم أنهم مرجئة .
- - -
كالصلاة ، والجهاد ،وصلة الأرحام، ونقل الأقدام إلى الجمع والجماعات ، ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق (1)،ونحو ذلك فقول العبد في صلواته: { إياك نعبد } التزام أحكام هذه الأربعة وإقرار بها (2) .
وقوله: { وإياك نستعين } طلب الإعانة عليها والتوفيق لها ، وقوله: { اهدنا الصراط المستقيم } متضمن للأمرين على التفصيل ، وإلهام القيام بهما ، وسلوك طريق السالكين إلى الله تعالى .
(1) وقد جاء في الصحيحين عن طريق شعبة قال أخبرنا الوليد بن العيزار قال سمعت أبا عمرو الشيباني عن عبد الله بن مسعود قال سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أي العمل أحب إلى الله ؟ قال: (( الصلاة على وقتها )) قلت ثم أي ؟! قال: (( بر الوالدين )) قلت ثم أي قال: (( الجهاد في سبيل الله )) ) .
فهذه جملة من الأعمال ولا يعني هذا أن من ترك عملاً أصبح كافراً ، لأن ترك الأعمال منها ما ينافي أصل الإيمان كترك الصلاة ، وقد أجمع الصحابة على كفر تارك الصلاة حكى إجماعهم العقيلي وإسحاق وجماعة من الأئمة ومن الأعمال ما ينافي تركه الإيمان الواجب ولا ينافي أصل الإيمان كترك بر الوالدين وصلة الأرحام ونحو ذلك مما يعتبر كبيرة من الكبائر .
(2) قال الله تعالى { إياك نعبد } تقدم قول بعض السلف حين ذكر إنزال الكتب قال: وقد جمع الله علم هذه الكتب في القرآن ، وعلم القرآن في الفاتحة ، وعلم الفاتحة في قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } .
{ إياك نعبد } التزام بأن لا تعبد الله إلا بما شرع على ألسن رسله والتزام بالعبودية المتمثلة بقول اللسان وعمله وعمل القلب واللسان والجوارح .
((1/382)
3) فإنه لا يمكن أداء هذه العبادات إلا بالاستعانة بالله والتوكل عليه .
(4) قوله: { اهدنا } : أي دلنا وأرشدنا ، الصراط: أي الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه وهو طريق من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وكل شيء أمر الله به فهو عبادة وهو معنى: { إياك نعبد } والتوكل مقرون بالعبادة قال تعالى: { فاعبده وتوكل عليه } وقال: { قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب } وقال تعالى عن شعيب: { وعليه توكلت وإليه أنيب } .
- - -
والله الموفق بمنه وكرمه (1) ، والحمد لله وحده (2) ، وصلى الله على من لا نبي بعده (3) ، وآله (4) ، وصحبه (5) ، ووارثيه وحزبه (6) .
ثم الكتاب بعون الله الملك (7) الوهاب (8) .
(1) أي هو الموفق لسلوك طريق السالكين ، وهو الموفق للقيام بالعبودية لله رب العالمين ، وهو الموفق لتأليف هذا الكتاب وجمعه فله المنة فهو أجود الأجودين وأكرم الأكرمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله رب العالمين .
(2) ثم ختم المؤلف الكتاب بقوله: (( والحمد لله وحده )) بدليل قوله تعالى { وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } وقال تعالى في آخر سورة الصافات: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين } فَيشُرع خَتْمُ الأعمال بالحمدله .
(3) قال تعالى: { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } .
(4) وهم أهل بيته ويدخل في ذلك أزواجه .
(5) الصحابي: هو من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ومات على ذلك ، ولو تخللت رده في أصح قولي العلماء .
(6) نسأل الله أن يجعلنا من حزبه .
(7) الملك: أي النافذ الأمر في ملكة ، وقيل احتواء الشيء والقدرة على التصرف في الشيء بلا ممانعة ولا مدافعة .
((1/383)
8) الوهاب في اللغة: هو المعطي بلا عوض ، وهو في أسماء الله تعالى الذي يجود بالعطاء أو المتفضل بالعطاء من غير طلب للثواب من أحد ومناسبة ختم الكتاب بهذين الاسمين: أن الملك: هو المتصرف في الشيء فإذا أعطاك شيء ويسر لك أمراً فله المنة وله الكرم .
والوهاب: لأنه أعطاك ذلك بلا عوض ، ومن غير طلب للثواب من أحد ولكن عليك بالشكر وعليك الاعتراف بهذه النعم العظيمة حيث تطيعه سراً وجهراً .
فأصحاب العلم يبذلون علمهم لمن لا يعلمه ولا يكتمون الحق وهم يعلمون وأصحاب الأموال يبذلون أموالهم قال تعالى: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } وكلٌ على ثغر من ثغور الإسلام ، هذا بعلمه ، وهذا بعبادته وهذا بدعائه وهذا بماله وهذا بجاهه .
وإلى هنا تم شرح هذا الكتاب نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا في ذلك الإخلاص في القول والعمل .
- - -
جزى الله خيراً كل من أعان على نشر هذا الشرح المبارك وساعد فيه إخراجه(1/384)