أجسام لطيفة هوائية يتشكل بأشكال مختلفة وتظهر منها أفعال عجيبة منهم المؤمن والكافر والمطيع والعاصي والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء النفس في الفساد والغواية بتذكير أسباب المعاصي واللذات وإنساء منافع الطاعات وما أشبه ذلك على ما قال الله تعالى حكاية عن الشيطان { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } قيل تركيب الأنواع الثلاثة من امتزاج العناصر الأربعة إلا أن الغالب على الشياطين عنصر النار وعلى الآخرين عنصر الهواء وذلك أن امتزاج العناصر قد لا يكون على القرب من الاعتدال بل على قدر صالح من غلبة أحدها فإن كانت الغلبة للأرضية يكون الممتزج مائلا إلى عنصر الأرض وإن كانت للمائية فإلى الماء أو للهوائية فإلى الهواء أو للنارية فإلى النار لا يبرح ولا يفارق إلا بالاختيار أو بأن يكون حيوانا فيفارق بأن الاختيار وليس لهذه الغلبة حد معين بل تختلف إلى مراتب بحسب أنواع الممتزجات التي تسكن هذا العنصر ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والشفيف كانت الملائكة والجن والشياطين بحيث يدخلون المنافذ والمضائق حتى أجواف الإنسان ولا يرون بحس البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات الأخر التي يغلب عليها الأرضية والمائية جلابيب وغواشي فيرون في أبدان كأبدان الناس أو غيره من الحيوانات والملائكة كثيرا ما تعاون الإنسان على أعمال يعجز هو عنها بقوته كالغلبة على الأعداء والطيران في الهواء والمشي على الماء وتحفظه خصوصا المضطرين عن كثير من الآفات وأما الجن والشياطين فيخالطون بعض الأناسي ويعاونونهم على السحر والطلسمات والنيرنجات وما يشاكل ذلك قال ولا يمتنع أن يكتسبوا إشارة إلى دفع إشكالات تورد على هذا المذهب وهي أن الملائكة والجن والشياطين إن كانت أجساما ممتزجة من العناصر يجب أن تكون مرئية لكل سليم الحس كسائر المركبات وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة وأصوات هائلة لا نبصرها ولا نسمعها والعقل جازم ببطلان ذلك على ما هو شأن العلوم العادية وإن كانت غلبة اللطيف بحيث لا تجوز رؤية الممتزج يلزم أن لا يروا أصلا وأن تتمزق أبدانهم وتنحل تراكيبهم بأدنى سبب واللازم باطل بما تواتر من مشاهدة بعض الأنبياء والأولياء إياهم ومكالمتهم ومن بقائهم زمانا طويلا مع هبوب الرياح العاصفة والدخول في المنافذ الضيقة وأيضا لو كانوا من المركبات المزاجية لكانت لهم صور نوعية وأمزجة مخصوصة تقتضي أشكالا مخصوصة كما في سائر الممتزجات فلا يتصور التشكل بالأشكال المختلفة وحاصل الجواب منع الملازمات إما على القول باستناد الممكنات إلى القادر المختار فظاهر لجواز أن تخلق رؤيتهم في بعض الأبصار والأحوال دون البعض وأن يحفظ بالقدرة والإرادة تركيبهم وتبديل أشكالهم وإما على القول بالإيجاب فلجواز أن يكون فيهم
____________________
(2/55)
من العنصر الكثيف ما يحصل معه الرؤية لبعض الأبصار دون البعض وفي بعض الأحوال دون البعض أو يظهروا أحيانا في أجسام كثيفة هي بمنزلة الغشاء والجلباب لهم فيبصروا أن تكون نفوسهم أو أمزجتهم أو صورهم النوعية تقتضي حفظ تركيبهم عن الانحلال وتبدل أشكالهم بحسب اختلاف الأوضاع والأحوال أو يكون فيهم من الفطنة والذكاء ما يعرفون به جهات هبوب الرياح وسائر أسباب انحلال التركيب فيحترزون عنها ويأوون إلى أماكن لا يلحقهم ضرر وأما الجواب بأنه يجوز أن تكون لطافتهم بمعنى الشفافية دون رقة القوام فلا يلائم ما يحكى عنهم من النفوذ في المنافذ الضيقة والظهور في ساعة واحدة في صور مختلفة بالصغر والكبر ونحو ذلك قال خاتمة يشير إلى ما ذهب إليه بعض المتألهين من الحكماء ونسب إلى القدماء من أن بين عالمي المحسوس والمعقول واسطة يسمى عالم المثل ليس في تجرد المجردات ولا في مخالطة الماديات وفيه لكل موجود من المجردات والأجسام والأعراض حتى الحركات والسكنات والأوضاع والهيئات والطعوم والروائح مثال قائم بذاته معلق لا في مادة ومحل يظهر للحس بمعونة مظهر كالمرآة والخيال والماء والهواء ونحو ذلك وقد ينتقل من مظهر إلى مظهر وقد يبطل كما إذا فسدت المرآة والخيال أو زالت المقابلة أو التخيل وبالجملة هو عالم عظيم الفسحة غير متناه يحذو حذو العالم الحسي في دوام حركة أفلاكه المثالية وقبول عناصره ومركباته آثار حركات أفلاكه وإشراقات العالم العقلي وهذا ما قال الأقدمون أن في الوجود عالما مقداريا غير العالم الحسي لا تتناهى عجائبه ولا تحصى مدته ومن جملة تلك المدن جابلقا وجابرصا وهما مدينتان عظيمتان لكل منهما ألف باب لا يحصى ما فيهما من الخلائق ومن هذا العالم تكون الملائكة والجن والشياطين والغيلان لكونها من قبيل المثل أو النفوس الناطقة المفارقة الظاهرة فيها وبه تظهر المجردات في صور مختلفة بالحسن والقبح واللطافة والكثافة وغير ذلك بحسب استعداد القابل والفاعل وعليه بنوا أمر المعاد الجسماني فإن البدن المثالي الذي تتصرف فيه النفس حكمه حكم البدن الحسي في أن له جميع الحواس الظاهرة والباطنة فيلتذ ويتألم باللذات والآلام الجسمانية وأيضا يكون من الصور المعلقة نورانية فيها نعيم السعداء وظلمانية فيها عذاب الأشقياء وكذا أمر المنامات وكثير من الإدراكات فإن جميع ما يرى في المنام أو يتخيل في اليقظة بل يشاهد في الأمراض وعند غلبة الخوف ونحو ذلك من الصور المقدارية التي لا تحقق لها في عالم الحس كلها من عالم المثل وكذا كثير من الغرائب وخوارق العادات كما يحكى عن بعض الأولياء أنه مع إقامته ببلدته كان من حاضري المسجد الحرام ايام الحج وأنه ظهر من بعض جدران البيت أو خرج من بيت مسدود الأبواب والكوات وأنه أحضر بعض الأشخاص أو الثمار أو غير ذلك من مسافة بعيدة في زمان قريب إلى غير
____________________
(2/56)
ذلك والقائلون بهذا العالم منهم من يدعي ثبوته بالمكاشفة والتجارب الصحيحة ومنهم من يحتج بأن ما يشاهد من تلك الصور الجزئية في المرايا ونحوها ليست عدما صرفا ولا من عالم الماديات وهو ظاهر ولا من عالم العقل لكونها ذوات مقدار ولا مرتسمة في الأجزاء الدماغية لامتناع ارتسام الكبير في الصغير ولما كانت الدعوى عالية والشبهة واهية كما سبق لم يلتفت إليها المحققون من الحكماء والمتكلمين قال المقصد الخامس في الإلهيات أي المباحث المتعلقة بذات ا لله تعالى وتنزيهاته وصفاته وما يجوز عليه ومالا يجوز وأفعاله وأسمائه فلهذا جعل المقصد ستة فصول يشتمل الأول منها على تقدير الأدلة على وجود الواجب وعلى تحقيق أن ذاته هل تخالف سائر الذوات وطريق إثبات الواجب عند الحكماء أنه لا شك في وجود موجود فإن كان واجبا فهو المرام وإن كان ممكنا فلا بد له من علة بها يترجح وجوده وينقل الكلام إليه فإما أن يلزم الدور أو التسلسل وهو محال أو ينتهي إلى الواجب وهو المطلوب وعند المتكلمين أنه قد ثبت حدوث العالم إذ لا شك في وجود حادث وكل حادث فبالضرورة له محدث فإما أن يدور أو يتسلسل وهو محال وإما أن ينتهي إلى قديم لا يفتقر إلى سبب أصلا وهو المراد بالواجب وكلا الطريقين مبني على امتناع وجود الممكن أو الحادث بلا موجد وعلى استحالة الدور والتسلسل والمتكلمون لما لم يقولوا بقدم شيء من الممكنات كان إثبات القديم إثباتا للواجب ولا يرد عليهم ما جوزه الحكماء من تعاقب الحوادث من غير بداية كالحركات والأوضاع الفلكية أما أولا فلما مر في مسألة حدوث العالم وأما ثانيا فلأن ذلك إنما هو في المعلولات دون العلل الموجدة التي لا بد من وجودها مع وجود المعلول وتوهم بعضهم أنه يمكن الاستدلال على وجود الواجب بحيث لا يتوقف على امتناع الترجيح بلا مرجح بأن يقال لا بد أن يكون في الموجودات موجود لا يفتقر إلى الغير دفعا للدور والتسلسل ولا معنى للواجب سوى هذا وفيه نظر لأن مجرد الاستغناء عن الغير لا يقتضي الوجوب وامتناع العدم إلا على تقدير بطلان الترجح بلا مرجح وإلا لجاز أن يكون المستغني عن الغير يوجد تارة ويعدم أخرى من غير أن يكون ذلك الوجود والعدم لذاته ولا لغيره بل بمجرد الاتفاق ومنهم من توهم صحة الاستدلال بحيث لا يفتقر إلى إبطال الدور والتسلسل وذلك وجوه
الأول لو لم يكن في الموجودات واجب لكانت بأسرها ممكنة فيلزم وجود الممكنات لذواتها وهو محال وفيه نظر لأن وجود الممكن
____________________
(2/57)
من ذاته إنما يلزم لو لم يكن كل ممكن مستندا إلى ممكن آخر لا إلى نهاية وهو معنى التسلسل وإن أريد مجموع الممكنات من حيث هي فلا بد من بيان أن علتها ليست نفسها ولا جزأ منها بل خارجا عنها وذلك إحداد له إبطال التسلسل وبهذا يظهر أن
الوجه الثاني مشتمل على إبطال التسلسل وتقريره أن مجموع الممكنات أعني المأخوذ بحيث لا يخرج عنه واحد منها ممكن بالطريق الأول وكل ممكن فله بالضرورة فاعل مستقل أي مستجمع بجميع شرائط التأثير وفاعل مجموع الممكنات لا يجوز أن يكون نفسها وهو ظاهر ولا كل جزء منها وإلا لزم توارد العلل المستقلة على معلول واحد مع لزوم كون الشيء علة لنفسه ولعلله لأن المستقل بعلية المركب يجب أن يكون علة لكل جزء منه إذ لو وقع شيء من الأجزاء بعلة أخرى بطل الاستقلال ولا بعض الأجزاء منه أما أولا فلأنه يلزم كونه علة لنفسه ولعلله على ما مر وأما ثانيا فلأنه معلول لجزء آخر لأن التقدير أن كل جزء فرض فهو ممكن يستند إلى ممكن آخر فلا يكون مستقلا بالفاعلية وأما ثالثا فلأن كل جزء فرض كونه مستقلا بفاعلية ذلك المجموع فعلته أولى بذلك لكونه أقدم وأكثر تأثيرا أو أقل احتياجا فلا يتعين شيء من الأجزاء لذلك فتعين كون المستقل بفاعلية مجموع الممكنات عنها والخارج عن مجموع الممكنات يكون واجبا بالضرورة وأنت خبير بأن هذا أول الأدلة المذكورة لبطلان التسلسل وقد سبق الكلام فيه تقرير أو اعتراضا وجوابا فلا حاجة إلى الإعادة
الوجه الثالث مجموع الممكنات ممكن وكل ممكن فله علة بها يجب وجوده لأن الممكن مالم يجب وجوده لم يوجد على ما مر والعلة التي بها يجب وجود المجموع المركب من الممكنات الصرفة لا يجوز أن يكون بعضا من جملتها لأن كل بعض يفرض فله علة يفتقر هو إليها فلا يتحقق وجوب الوجود بالنظر إلى مجرد وجوده فتعين أن يكون خارجا عنها وهو الواجب وهذا بخلاف المجموع المفروض من الواجب والممكنات فإن بعضا منه أعني الواجب بحيث يتعين للعلية ويتحقق الوجوب بالنظر إليه ولما كان وجوب الوجود في قوة امتناع العدم كان لهذا تقرير آخر وهو أنه لا بد لمجموع الممكنات من فاعل مستقل يمتنع عدمها بالنظر إلى وجوده ولا شيء من أجزاء المجموع كذلك ولا خفاء في رجوع هذا إلى بعض أدلة إبطال التسلسل وورود المنع بأن ما بعد المعلول المحض لا إلى نهاية كذلك أي يجب به وجود المجموع ويمتنع عدمه
الوجه الرابع أن العلة التامة للحادث المقارنة له في آن حدوثه ضرورة امتناع تخلف المعلول عن العلة أو تقدمه عليها لو لم تكن واجبا أو مشتملا عليه لزم المحال لأنها لو كانت ممكنة بتمامها فإما أن يكون لها علة من خارج فلا تكون تامة لاحتياج الحادث إلى تلك العلة الخارجة أيضا وقد فرضناها تامة هف وأما أن لا يكون لها علة من خارج وحينئذ إما أن يمتنع وجودها قبل ذلك الحادث فيلزم الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان وإما أن يمكن فيكون اختصاصها بالزمان المعين ترجحا بلا مرجح وفيه
____________________
(2/58)
نظر أما
أولا فلأن الظرف إن تعلق بوجود العلة فلا نسلم على تقدير الامتناع لزوم الانقلاب وإن تعلق بالامتناع والإمكان فلا نسلم على تقدير الامتناع لزوم الترجح بلا مرجح وقد سبق مثل ذلك في دفع ما توهم من امتناع الحادث في الأزل ثم إمكانه
وأما ثانيا فلأن ما ذكر مشترك الإلزام لجريانه في العلة التامة المشتملة على الواجب وكذا في العلة التامة التي هي تكون نفس الواجب لكن بالنظر إلى وجود الحادث قال المبحث الثاني قد سبقت الدلالة على وجود الصانع بالبراهين وههنا نشير إلى وجوه إقناعية وإلى كونه من المشهورات التي لم يخالف فيها أحد ممن يعتد به بذلا للمجهود في إثبات ما هو معظم المطالب العالية بيان ذلك أنه لا يشك أحد في وجود عالم الأجسام من الأفلاك والكواكب والعناصر والمركبات المعدنية والنباتية والحيوانية وفي اختلاف صفات لها وأحوال وقد صح الاستدلال بذواتها وصفاتها لإمكانها وحدوثها على وجود صانع قديم قادر حكيم فيأتي أربعة طرق هي الشائعة فيما بين الجمهور وأشير إليها في أكثر من ثمانين موضعا من كتاب الله تعالى كقوله تعالى { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } وكقوله تعالى { ومن آياته الليل والنهار والشمس } وكقوله تعالى { وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } وكقوله تعالى { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } وكقوله تعالى { ألم نخلقكم من ماء مهين } وكقوله تعالى { ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم } إلى غير ذلك من مواضع الإرشاد إلى الاستدلال بالعالم الأعلى من الأفلاك والكواكب وحركاتها وأوضاعها والأحوال المتعلقة بها وبالعالم الأسفل من طبقات العناصر ومراتب امتزاجاتها والآثار العلوية والسفلية وأحوال المعادن والنباتات والحيوانات سيما الإنسان وما أودع بدنه مما يشهد به علم التشريح وروحه مما ذكر في علم النفس ومبنى الكل على أن افتقار الممكن إلى الموجد والحادث إلى المحدث ضروري يشهد به الفطرة وأن فاعل العجائب والغرائب على الوجه الأوفق الأصلح لا يكون إلا قادرا حكيما فإن قيل سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الصانع جوهرا روحانيا من جملة الممكنات دون الواجب تعالى وتقدس فالجواب من وجوه
الأول أنه يعلم بالحدس والتخمين أن الصانع لمثل هذا لا يكون إلا غنيا مطلقا يفتقر إليه كل شيء ولا يفتقر هو إلى شيء بل يكون وجوده لذاته فيكون الدليل من الإقناعيات والاستكثار منها كثيرا ما يقوي الظن بحيث يفضي إلى اليقين
الثاني أن ذهن العاقل ينساق إلى أن هذا الصانع إن كان هو الواجب الخالق فذاك وإن كان مخلوقا فخالقه أولى بأن يكون قادرا حكيما ولا يذهب ذلك إلى غير النهاية الظهور بعض أدلة بطلان التسلسل فيكون
____________________
(2/59)
المنتهى إلى الواجب تعالى وتقدس ولهذا صرح في كثير من المواضع بأن تلك الآيات إنما هي لقوم يعقلون
الثالث أن المقصود بالإرشاد إلى هذه الاستدلالات تنبيه من لم يعترف بوجود صانع يكون منه المبدأ وإليه المنتهى وله الأمر والنهي وكونه ملجأ الكل عند انقطاع الرجاء عن المخلوقات مذكور في بعض المواضع من التنزيل كقوله تعالى { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين } وكقوله تعالى { أم من يجيب المضطر إذا دعاه } وكقوله تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } إلى غير ذلك تنبيها على أنه مع ثبوته بالأدلة القطعية والوجوه الإقناعية مشهور يعترف به الجمهور من المعترفين بالنبوة وغيرهم إما بحسب الفطرة أو بحسب التهدي إليه وأجيب بالاستدلالات الخفية على ما نقل الأعرابي أنه قال البعرة تدل على البعير وآثار الأقدام على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير وخالفت الملاحدة في وجود الصانع لا بمعنى أنه لا صانع للعالم ولا بمعنى أنه ليس بموجود ولا بمعدوم بل واسطة بل بمعنى أنه مبدع لجميع المتقابلات من الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان فهو متعال عن أن يتصف بشيء منها فلا يقال له موجود ولا واحد ولا واجب مبالغة في التنزيه ولا خفاء في أنه هذيان بين البطلان قال المبحث الثالث الحق أن الواجب تعالى يخالف الممكنات في الذات والحقيقة إذ لو تماثلا وامتاز كل عن الآخر بخصوصية فمثل الوجوب والإمكان إما أن يكون من لوازم الذات فيلزم اشتراك الكل فيه أو الذات مع الخصوصية فيلزم التركيب المنافي للوجوب الذاتي نعم يشارك ذاته ذات الممكنات بمعنى أن مفهوم الذات أعني ما يقوم بنفسه ويقوم به غيره صادق على الكل صدق العارض على المعروض كما أن وجود الواجب ووجود الممكن مع اختلافهما بالحقيقة يشتركان في مطلق الوجود الواقع عليهما وقوع لازم خارجي غير مقوم فالأدلة المذكورة في اشتراك الوجود من صحة القسمة إلى الواجب والممكن ومن الجزم بالمطلق مع التردد في الخصوصية ومن اتحاد المقابل لا تفيد إلا الاشتراك في مفهوم الذات وصدقه على جميع الذوات من غير دلالة على تماثل الذوات وتشاركها في الحقيقة فما ذهب إليه بعض المتكلمين من أن ذات الواجب تماثل سائر الذوات وإنما تمتاز بأحوال أربعة هي الوجود الواجبي الذي قد يعبر عنه بالوجوب والحياة والعلم التام والقدرة الكاملة أو بحالة خامسة تسمى بالإلهية هي الموجبة لهذه الأربع تنسكا بالوجوه المذكورة غلط من باب اشتباه العارض بالمعروض فإن قيل فكيف لم يلزم المتكلمين القائلين بتماثل وجود الواجب والممكن تركب الواجب قلنا لأن المتصف بالوجوب والمقتضي للوجود هو الماهية المخالفة لسائر الماهيات والوجود زائد عليها قال المبحث الرابع قد يجعل من مطالب هذا الباب أن الصانع أزلي أبدي ولا حاجة إليه بعد إثبات صانع واجب الوجود
____________________
(2/60)
لذاته لأن من ضرورة وجوب الوجود امتناع العدم أزلا وأبدا وبعض المتكلمين لما اقتصروا في البيان على أن لهذا العالم صانعا من غير بيان كونه واجبا أو ممكنا افتقروا إلى إثبات كونه أزليا أبديا فبينوا الأول بأنه لو كان حادثا لكان له محدث ويتسلسل وبأنا سنقيم الدلالة على أن المؤثر في وجود العالم هو الله تعالى من غير واسطة والثاني بأن القديم يمتنع عليه العدم لكونه واجبا أو منتهيا إليه بطريق الإيجاب لأن الصادر بطريق الاختيار يكون مسبوقا بالعدم وقد سبق بيان ذلك قال الفصل الثاني في التنزيهات أي سلب مالا يليق بالواجب عنه وفيه مباحث الأول في نفي الكثرة عنه بحسب الأجزاء بأن يتركب من جزئين أو أكثر وبحسب الجزئيات بأن يكون الموجود واجبين أو أكثر واستدل على نفي التركيب بأن كل مركب يحتاج إلى الجزء الذي هو غيره وكل محتاج إلى غير ممكن لأن ذاته من دون ملاحظة الغير لا يكون كافيا في وجوده وإن لم يكن ذلك الغير فاعلا له خارجا عنه وبأن كل جزء منه إما أن يكون واجبا فيتعدد الواجب وسنبطله أولا فيحتاج الواجب إلى الممكن فيكون أولى بالإمكان وبأنه إما أن يحتاج أحد الجزئين إلى الآخر فيكون ممكنا ويلزم إمكان الواجب أولا فلا يلتئم منهما حقيقة واحدة كالحجر الموضوع بجنب الإنسان واستدل على امتناع تعدد الواجب بوجوه
الأول لو كان الواجب مشتركا بين اثنين لكان بينهما تمايز لامتناع الإثنينية بدون التمايز وما به التمايز غير ما به الاشتراك ضرورة فيلزم تركب كل من الواجبين مما به الاشتراك وما به الامتياز وهو محال لا يقال هذا إنما يلزم لو كان الوجوب المشترك مقوما وهو ممنوع لجواز أن يكون عارضا والاشتراك في العارض مع الامتياز بخصوصية لا يوجب التركيب لأنا نقول وجوب الواجب نفس ماهيته إذ لو كان عارضا لها كان ممكنا معللا بها إذ لو علل بغيرها لم يكن ذاتيا وإذا علل بها يلزم تقدمه على نفسه لأن العلة متقدمة على المعلول بالوجود والوجوب وإذا كان الوجوب نفس الماهية كان الاشتراك فيه اشتراكا في الماهية والماهية مع الخصوصية مركبة قطعا فإن قيل لم لا يجوز أن تكون الخصوصية من العوارض قلنا لأنها تكون معللة بالماهية أو بما يقوم بها من الصفات وهو ينافي التعدد المفروض إذ الواجب حينئذ لا يكون بدون تلك الخصوصية أو بأمر منفصل فيلزم الاحتياج المنافي لوجوب الوجود وهذا يصلح أن يجعل دليلا مستقلا بأن يقال لو تعدد الواجب فالتعين الذي به الامتياز إن كان نفس الماهية الواجبة أو معللا بها أو يلازمها فلا تعدد وإن كان معللا بأمر منفصل فلا وجوب بالذات لامتناع احتياج الواجب في تعينه إلى أمر منفصل فلهذا جعل في المتن دليلا ثانيا
الثالث لو كان الواجب أكثر من واحد لكان لكل منهما تعين وهوية ضرورة وحينئذ إما أن يكون بين الوجوب والتعين لزوم أو لا فإن لم يكن بل جاز انفكاكهما لزم جواز الوجوب بدون التعين وهو محال لأن كل موجود متعين او جواز التعين بدون الوجوب وهو
____________________
(2/61)
ينافي كون الوجوب ذاتيا بل يستلزم كون الواجب ممكنا حيث تعين بلا وجوب وإن كان بين الوجوب والتعين لزوم فإن كان الوجوب بالتعين لزم تقدم الوجوب على نفسه ضرورة تقدم العلة على المعلول بالوجود والوجوب مع محال آخر وهو كون الوجوب الذاتي بالغير إن جعل التعين زائدا وإن كان التعين بالوجوب أو كلاهما بالذات لزم خلاف المفروض وهو تعدد الواجب لأن التعين المعلول لازم غير متخلف فلا يوجد الواجب بدرنه وإن كان التعين والوجوب بأمر منفصل لم يكن الواجب واجبا بالذات لاستحالة احتياجه في الوجوب والتعين بل في أحدهما إلى أمر منفصل وهو ظاهر ( قال الرابع ) شروع في طرق المتكلمين فمنها أنها لو وجد إلهان ويتصفان لا محالة بصفات الألوهية من العلم والقدرة والإرادة وغير ذلك فإذا قصدا إلى إيجاد مقدور معين كحركة جسم معين في زمان معين فوقوعه إما أن يكون بهما فلزم مقدور بين قادرين مستقلين بمعنى استقلال كل منهما بإيجاده وقد سبق في بحث العلة امتناع ذلك وإما أن يكون بأحدهما فيلزم الترجح بلا مرجح لأن المقتضي للقادرية ذات الآلة وللمقدورية إمكان الممكن فنسبة الممكنات إلى الإلهين المفروضين على السوية من غير رجحان لا يقال يجوز أن لا يقع مثل هذا المقدور للزوم المحال أو يقع بهما جميعا لا بكل منهما ليلزم المحال لأنا نقول الأول باطل للزوم عجزهما ولأن المانع عن وقوعه بأحدهما ليس إلا وقوعه بالآخر فيلزم من عدم وقوعه بهما وقوعه بهما وكذا الثاني لأن التقدير استقلال كل منهما بالقدرة والإرادة
الوجه الخامس أنه لو وجد إلهان بصفات الألوهية فإذا أراد أحدهما أمرا كحركة جسم مثلا فإما أن يتمكن الآخر من إرادة ضده أو لا وكلاهما محال أما الأول فلأنه لو فرض تعلق إرادته بذلك الضد فإما أن يقع مرادهما وهو محال لاستلزامه اجتماع الضدين أو لا يقع مراد واحد منهما وهو محال لاستلزامه عجز الإلهين الموصوفين بكمال القدرة على ما هو المفروض ولاستلزامه ارتفاع الضدين المفروض امتناع خلو المحل عنهما كحركة جسم وسكونه في زمان معين أو يقع مراد أحدهما دون الآخر وهو محال لاستلزامه الترجح بلا مرجح وعجز من فرض قادرا حيث لم يقع مراده وأما الثاني فلأنه يستلزم عجز الاخر حيث لم يقدر على ما هو ممكن في نفسه أعني إرادة الضد والمقدمات كلها بينة سوى هذه فإنها ربما تمنع ويقال لا نسلم أن مخالفة أحدهما للآخر وإرادة ضد ما أراده ممكنة حتى يكون عدم القدرة عليها عجزا وذلك أن الممكن في نفسه ربما يصير ممتنعا بحسب شرط ككون الجسم في هذا الحيز حال الكون في حيز آخر والجواب أن الممكن في ذاته ممكن على كل حال ضرورة امتناع الانقلاب والممتنع فيما ذكرتم من تحيز الجسم هو الاجتماع أعني كونه في آن واحد في حيزين فكذا ههنا يمتنع اجتماع الإرادتين وهو لا ينافي إمكان كل منهما فتعين أن لزوم المحال إنما هو من وجود الإلهين فإن قيل كل
____________________
(2/62)
منهما عالم بوجوه المصالح والمفاسد فإذا علما المصلحة في أحد الضدين امتنع إرادة الآخر قلنا لو سلم كون الإرادة تابعة للمصلحة نفرض الكلام فيما إذا استوت في الضدين وجوه المصالح فإن قيل ما ذكرتم لازم في الواحد إذا وجد المقدور فإنه لا يبقى قادرا عليه ضرورة امتناع إيجاد الموجود فيلزم أن لا يصلح للألوهية قلنا عدم القدرة بناء على تنفيذ القدرة ليس عجزا بل كمالا للقدرة بخلاف عدم القدرة بناء على سد الغير طريق القدرة عليه فإنه عجز بتعجيز الغير إياه وهذا البرهان يسمى برهان التمانع وإليه الإشارة بقوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فإن أريد بالفساد عدم التكون فتقريره أنه لو تعدد الإله لم تتكون السماء والأرض لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما والكل باطل أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة وأما الآخران فلما مر وإن أريد بالفساد والخروج عما هما عليه من النظام فتقريره أنه لو تعدد الإله لكان بينهما التنازع والتغالب وتميز صنع كل عن صنع الآخر بحكم اللزوم العادي فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتيام الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد ويحتل الانتظام الذي به بقاء الأنواع وترتب الآثار
الوجه السادس لو وجد إلهان فإن اتفقا على إيجاد كل مقدور لزم التوارد وإن اختلفا لزم مفاسد التمانع أعني عجزهما أو عجز أحدهما مع الترجح بلا مرجح
الوجه السابع لو تعدد الإله فما به التمايز لا يجوز أن يكون من لوازم الإلهية ضرورة اشتراكها بل من العوارض فيجوز مفارقتها فترتفع الإثنينية فيلزم جواز وحدة الاثنين وهو محال
الوجه الثامن أن الواحد كاف ولا دليل على الثاني فيجب نفيه وإلا لزم جهالات لا تحصى مثل كون كل موجود نبصره اليوم غير الذي كان بالأمس ونحو ذلك فإن قيل كان الله تعالى في الأزل ولا دليل حينئذ أجيب بأن المراد أن مالا دليل لنا عليه يجب علينا نفيه ولنا دليل على وجوده في الأزل وقد يجاب بأن المراد أن ما لا يمكن أن يقوم عليه دليل يجب نفيه والله الواحد قد قام عليه الدليل فيما لا يزال وإن لم يكن في الأزل بخلاف الشريك فإنه لو كان عليه دليل فإما أزلي وهو بط لأنه لا يلزم افتقاره إلى المؤثر بل لا يجوز عند المتكلمين وإما حادث وهو لا يستدعي مؤثرا ثانيا ولا يخفى ضعفه بل ضعف هذا المأخذ
الوجه التاسع أنه لا أولوية لعدد دون عدد فلو تعدد لم ينحصر في عدد واللازم باطل لما سبق من الأدلة على تناهي كل ما دخل تحت الوجود وقد سبق ضعفه
الوجه العاشر أن بعثة الأنبياء عليهم السلام وصدقهم بدلالة المعجزات لا يتوقف على الوحدانية فيجوز التمسك بالأدلة السمعية كإجماع الأنبياء على الدعوة إلى التوحيد ونفي الشركة وكالنصوص القطعية من كتاب الله تعالى على ذلك وما قيل أن التعدد يستلزم الإمكان لما عرفت من أدلة التوحيد ومالم يعرف أن الله تعالى واجب الوجود خارج عن جميع الممكنات لم يتأت إثبات البعثة
____________________
(2/63)
والرسالة ليس بشيء لأن غايته استلزام الوجوب الوحدة لا استلزام معرفته معرفتها فضلا عن التوقف ومنشأ الغلط عدم التفرقة بين ثبوت لاشيء والعلم بثبوته ( قال خاتمة ) حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواصها ولا نزاع لأهل الإسلام في أن تدبير العالم وخلق الأجسام واستحقاق العبادة وقدم ما يقوم بنفسه كلها من الخواص ونعني القدم بمعنى عدم المسبوقية بالعدم وأما بمعنى عدم المسبوقية بالغير فهو نفس الألوهية ووجوب الوجود فنحن إنما نقول بالصفات القديمة دون الذوات ومع ذلك لا نجعل الصفة غير الذات والمعتزلة إنما يقولون بخلق العباد لأفعالهم دون غيرها من الأعراض والأجسام نعم تفويضهم تدبير شطر من حوادث العالم وهو الشرور والقبائح إلى الشيطان على خلاف مشيئة الله تعالى وإن كان بأقداره وتمكينه خطب صعب وأصعب منه قول الفلاسفة بقدم العقول وإيجادها للنفوس وبعض الأجسام وتفويض تدبير عالم العناصر إليها وإلى الأفلاك فمرجع التوحيد عندهم إلى وحدة الواجب لذاته لا غير والمعتزلة إنما يبالغون في نفي تعدد القديم وأهل السنة في نفي تعدد الخالق والكل متفقون على نفي تعدد الواجب المستحق للعبادة والموجد للجسم وأما المشركون فمنهم الثنوية القائلون بأن للعالم إلهين نور هو مبدأ الخيرات وظلمة هو مبدأ الشرور ومنهم المجوس القائلون بأن مبدأ الخيرات هو يزدان ومبدأ الشرور هو أهرمن واختلفوا في أن أهرمن قديم أو حادث من يزدان وشبهتهم أنه لو كان مبدأ الخير والشر واحدا لزم كون الواحد خيرا وشريرا وهو محال والجواب منع اللزوم إن أريد بالخير من غلب خيره وبالشرير من غلب شره ومنع استحالة اللازم إن أريد خالق الخير وخالق الشر في الجملة غاية الأمر أنه لا يصلح إطلاق الشرير لظهوره فيمن غلب شره وعورض بأن الخير إن لم يقدر على دفع الشرير أو الشرور فعاجز وإن قدر ولم يفعل فشرير وإن جعل إبقاؤها خيرا لما فيه من الحكم والمصالح الخفية كما تزعم المعتزلة في خلق إبليس وذريته وأقداره وتمكينه من الإغواء فلعل نفس خلق الشرور والقبائح أيضا كذلك فلا يكون شرا وسفها ومنهم عبدة الملائكة وعبدة الكواكب وعبدة الاصنام أما الملائكة والكواكب فيمكن أنهم اعتقدوا كونها مؤثرة في عالم العناصر مدبرة لأمور قديمة بالزمان شفعاء للعباد عند الله تعالى مقربة إياهم إليه تعالى وأما الأصنام فلا خفاء أن العاقل لا يعتقد فيها شيئا من ذلك قال الإمام رحمه الله فلهم في ذلك تأويلات باطلة
الأول أنها صور أرواح تدبر أمرهم وتعتني بإصلاح حالهم على ما سبق
الثاني أنها صور الكواكب التي إليها تدبير هذا العالم فزينوا كلا منها بما يناسب ذلك الكوكب
الثالث أن الأوقات الصالحة للطلسمات القوية الآثار لا توجد إلا أحيانا من أزمنة متطاولة جدا فعملوا في ذلك الوقت طلسما لمطلوب خاص يعظمونه ويرجعون إليه عند طلبه
الرابع أنهم اعتقدوا أن الله تعالى جسم على أحسن
____________________
(2/64)
ما يكون من الصورة وكذا الملائكة فاتخذوا صورا وبالغوا في تحسينها وتزيينها وعبدوها لذلك
الخامس أنه لما مات منهم من هو كامل المرتبة عند الله تعالى اتخذوا تمثالا على صورته وعظموه تشفعا إلى الله تعالى وتوسلا ومنهم اليهود القائلون بأن عزيرا ابن الله لما أحياه الله تعالى بعد موته وكان يقرأ التوراة عن ظهر قلبه ومنه النصارى القائلون بأن المسيح ابن الله حيث ولد بلا أب وورد في الإنجيل ذكرهما بلفظ الأب والابن والجواب أنه إن صح النقل من غير تحريف فمعنى الأبوة الربوبية وكونه المبدأ والمرجع ومعنى البنوة التوجه إلى جناب الحق عز وجل بالكلية كابن السبيل أو قصد التشريف والكرامة ولهذا نقل في الإنجيل مثل ذلك في حق الأمة أيضا حيث قال إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم وبالجملة فنفي الشركة في الألوهية ثابت عقلا وشرعا وفي استحقاق العبادة شرعا { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } ( قال المبحث الثاني ) الواجب ليس بجسم لأن كل جسم مركب من أجزاء عقلية هي الجنس والفصل ووجودية هي الهيولي والصورة أو الجواهر الفردة ومقدارية هي الأبعاض وكل مركب محتاج إلى جزئه ولا شيء من المحتاج بواجب وليس بعرض لأن كل عرض محتاج إلى محل يقومه إذ لا معنى له سوى ذلك ولا جوهر لأن معنى الجوهر متمكن يستغني عن المحل أو ماهية إذا وجدت كانت لا في موضوع فيكون وجوده زائدا عليه والواجب ليس كذلك على ما سبق وليس في مكان وجهه لأن المكان اسم للسطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي أو للفراغ الذي يشغله الجسم والجهة اسم المنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك فلا يكونان إلا للجسم والجسماني والواجب ليس كذلك وللمتكلمين خصوصا القدماء منهم في هذه التنزيهات مسلك آخر ففي نفي الجوهرية والعرضية أن الجوهر اسم لما يتركب منه الشيء والعرض لما يستحيل بقاؤه وإن كان يصح في الشاهد جوهر قائم بنفسه وكل قائم بنفسه جوهر وكل عرض قائم بالغير وكل قائم بالغير عرض إلا أن إطلاق الاسم ليس من هذه الجهة بل من جهة ما ذكرنا بدلالة اللغة يقال فلان يجري على جوهره الشريف أي أصله وهذا الثوب جوهري أي محكم الأصل جيد الصنعة وهذا الأمر عارض أي يزول وعرض لفلان أمر أي معنى لا قرار له ولا يدوم ومنه العارض للسحاب ومن ههنا لا يجعلون الصفات القديمة القائمة بذات الله تعالى إعراضا وفي نفي الجسمية وجوه
الأول أن كل جسم حادث لما سبق
الثاني أن كل جسم متحيز بالضرورة والواجب ليس كذلك لما سيأتي
الثالث أن الواجب لو كان جسما فإما أن يتصف بجميع صفات الأجسام فيلزم اجتماع الضدين كالحركة والسكون ونحوهما وأما أن لا يتصف بشيء فيلزم انتفاء بعض لوازم الجسم مع أن الضدين قد يكونان بحيث يمتنع خلو الجسم عنهما وأما أن يتصف بالبعض دون البعض فيلزم احتياج الواجب في صفاته إن كان
____________________
(2/65)
ذلك لمخصص ويلزم الترجح بلا مرجح إن كان لا لمخصص
الرابع أنه لو كان جسما لكان متناهيا لما مر في تناهي الأبعاد فيكون مشكلا لأن الشكل عبارة عن هيئة إحاطة النهاية بالجسم وحينئذ إما أن يكون على جميع الأشكال وهو محال أو على البعض دون البعض لمخصص فيلزم الاحتياج أو لا لمخصص فيلزم الترجح بلا مرجح لا يقال هذا وارد في اتصاف الواجب بصفاته دون أضدادها لأنا نقول صفاته صفات كمال يتصف بها لذاته وأضدادها صفات نقص يتنزه عنها لذاته بخلاف الأضداد المتواردة على الأجسام فإنها قد تكون متساوية الأقدام وفي نفي الحيز والجهة وجوه
الأول أنه لو كان الواجب متحيزا لزم قدم الحيز ضرورة امتناع المتحيز بدون الحيز واللازم باطل لما مر من حدوث ما سوى الواجب وصفاته
الثاني أنه لو كان في مكان لكان محتاجا إليه ضرورة والمحتاج إلى الغير ممكن فيلزم إمكان الواجب ولكان المكان مستغنيا عنه لإمكان الخلاء والمستغني عن الواجب يكون مستغنيا عما سواه بالطريق الأولى فيكون واجبا والمفروض أن الواجب هو المتمكن لا المكان ومبنى الوجهين على أن الحيز موجود لا متوهم
الثالث لو كان الواجب في حيز وجهة فإما أن يكون في جميع الأحياز والجهات فيلزم تداخل المتحيزات ومخالطة الواجب بما لا ينبغي كالقاذورات وإما أن يكون في البعض دون البعض فإن كان لمخصص لزم الاحتياج وإلا لزم الترجح بلا مرجح قال وأما المخالفون إجراء الجسم مجرى الموجود مخالف للعرف واللغة ولما اشتهر من الاصطلاحات لكن إطلاق الجوهر بمعنى الموجود القائم بنفسه وبمعنى الذات والحقيقة اصطلاح شائع فيما بين الحكماء فمن ههنا يقع في كلام بعضهم إطلاق لفظ الجوهر على الواجب وفي كلام ابن كرام أن الله تعالى إحدى الذات إحدى الجوهر ومع هذا فلا ينبغي أن يجترأ على ذلك ولا على إطلاق الجسم عليه بمعنى الموجود إما سمعا فلعدم إذن الشارع وإما عقلا فلإيهامه لما عليه المجسمة من كونه جسما بالمعنى المشهور ولما عليه النصارى من أنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم على ما سيجيء وأما القائلون بحقيقة الجسمية والحيز والجهة فقد بنوا مذهبهم على قضايا وهمية كاذبة تستلزمها وعلى ظواهر آيات وأحاديث تشعر بها أما الأول فكقولهم كل موجود فهو إما جسم أو حال في جسم والواجب يمتنع أن يكون حالا في الجسم لامتناع احتياجه فتعين كونه جسما وكقولهم كل موجود إما متحيز أو حال في المتحيز ويتعين كونه متحيزا لما مر وكقولهم الواجب إما متصل بالعالم وإما منفصل عنه وأيا ما كان يكون في جهة منه وكقولهم الواجب إما داخل في العالم فيكون متحيزا أو خارج عنه فيكون في جهة منه ويدعون في صحة هذه المنفصلات وتمام انحصارها الضرورة والجواب المنع كيف وليس تركيبها عن الشيء ونقيضه أو المساوي لنقيضه وأطبق أكثر العقلاء على خلافها وعلى أن الموجود إما جسم أو جسماني أو ليس بجسم ولا جسماني وكذا باقي التقسيمات
____________________
(2/66)
المذكورة والجزم بالانحصار في القسمين إنما هو من الأحكام الكاذبة للوهم ودعوى الضرورة مبنية على العناد والمكابرة أو على أن الوهميات كثيرا ما تشتبه بالأوليات وأما الثاني فكقوله تعالى { وجاء ربك } { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } { الرحمن على العرش استوى } { إليه يصعد الكلم الطيب } { ويبقى وجه ربك } { يد الله فوق أيديهم } { ولتصنع على عيني } { لما خلقت بيدي } { والسماوات مطويات بيمينه } { يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } إلى غير ذلك وكقوله عليه السلام للجارية الخرساء أين الله فأشارت إلى السماء فلم ينكر عليها وحكم بإسلامها كقوله عليه السلام إن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا الحديث إن الله خلق آدم على صورته إن الجبار يضع قدمه في النار إنه يضحك إلى أوليائه حتى تبدو نواجذه إن الصدقة تقع في كف الرحمن إلى غير ذلك والجواب أنها ظنيات سمعية في معارضة قطعيات عقلية فيقطع بأنها ليست على ظواهرها ويفوض العلم بمعانيها إلى الله تعالى مع اعتقاد حقيقتها جريا على الطريق الأسلم الموافق للوقف على إلا الله في قوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله } أو تأول تأويلات مناسبة موافقة لما عليه الأدلة العقلية على ما ذكر في كتب التفاسير وشروح الأحاديث سلوكا للطريق الأحكم الموافق للعطف في إلا الله { والراسخون في العلم } فإن قيل إذا كان الدين الحق نفي الحيز والجهة فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك من غير أن يقع في موضع منها تصريح بنفي ذلك وتحقيق كما كررت الدلالة على وجود الصانع ووحدته وعلمه وقدرته وحقيقة المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع وأكدت غاية التأكيد مع أن هذا أيضا حقيق بغاية التأكيد والتحقيق لما تقرر في فطرة العقلاء مع اختلاف الأديان والآراء من التوجه إلى العلو عند الدعاء ورفع الأيدي إلى السماء أجيب بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في الجهة كان الأنسب في خطاباتهم والأقرب إلى صلاحهم والأليق بدعوتهم إلى الحق ما يكون ظاهرا في التشبيه وكون الصانع في أشرف الجهات مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمات الحدوث وتوجه العقلاء إلى السماء ليس من جهة اعتقادهم أنه في السماء بل من جهة أن السماء قبلة الدعاء إذ منها تتوقع الخيرات والبركات وهبوط الأنوار ونزول الأمطار قال تنبيه لما ثبت لما ثبت أن الواجب ليس بجسم ظهر أنه لا يتصف بشيء من الكيفيات المحسوسة بالحواس الظاهرة أو الباطنة مثل الصورة واللون والطعم والرائحة واللذة والألم والفرح والغم والغضب ونحو ذلك إذ لا يعقل منها إلا ما يخص الأجسام وإن كان البعض منها مختصا بذوات الأنفس ولأن البعض منها تغيرات وانفعالات وهي على الله تعالى محال وأثبت الحكماء اللذة العقلية لأن كمالاته أمور ملائمة وهو مدرك لها فيبتهج بها واعترض بأنه إن أريد أن الحالة التي نسميها اللذة هي نفس إدراك الملائم فغير معلوم
____________________
(2/67)
فإن أريد أنها حاصلة البتة عند إدراك الملائم فربما يختص ذلك بإدراكنا دون إدراكه فإنهما مختلفان قطعا واعلم أن بعض القدماء بالغوا في التنزيه حتى امتنعوا عن إطلاق اسم الشيء بل العالم والقادر وغيرهما على الله تعالى زعما منهم أنه يوجب إثبات المثل له وليس كذلك لأن المماثلة إنما تلزم لو كان المعنى المشترك بينه وبين غيره فيهما على السواء ولا تساوي بين شيئيته وشيئية غيره ولا بين علمه وعلم غيره وكذا جميع الصفات وأشنع من ذلك امتناع الملاحدة عن إطلاق اسم الموجود عليه وأما الامتناع عن إطلاق اسم الماهية فمذهب كثير من المتكلمين لأن معناها المجانسة يقال ما هذا الشيء أي من أي جنس هو قالوا وما روي أن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه كان يقول إن لله تعالى ماهية لا يعلمها إلا هو ليس بصحيح إذ لم يوجد في كتبه ولم ينقل من أصحابه العارفين بمذهبه ولو ثبت فمعناه أنه يعلم نفسه بالمشاهدة لا بدليل أو خبر أو أن له اسما لا يعلمه غيره فإن لفظة ما قد تقع سؤالا عن الاسم قال الشيخ أبو منصور رحمه الله تعالى إن سألنا سائل عن الله تعالى ما هو قلنا إن أردت ما اسمه فالله الرحمن الرحيم وإن أردت ما صفته فسميع بصير وإن أردت ما فعله فخلق المخلوقات ووضع كل شيء موضعه وإن أردت ما ماهيته فهو متعال عن المثال والجنس ( قال المبحث الثالث ) الواجب لا يتحد بغيره ولا يحل فيه أما الاتحاد فلما سبق من امتناع اتحاد الاثنين ولأنه يلزم كون الواجب هو الممكن والممكن هو الواجب وذلك محال بالضرورة وأما الحلول فلوجوه
الأول أن الحال في الشيء يفتقر إليه في الجملة سواء كان حلول جسم في مكان أو عرض في جوهر أو صورة في مادة كما هو رأي الحكماء أو صفة في موصوف كصفات المجردات والافتقار إلى الغير ينافي الوجوب فإن قيل قد يكون حلول امتزاج كالماء في الورد قلنا ذلك من خواص الأجسام ومفض إلى الانقسام وعائد إلى حلول الجسم في المكان الثاني أنه لو حل في محل فإما مع وجوب ذلك وحينئذ يفتقر إلى المحل ويلزم إمكانه وقدم المحل بل وجوبه لأن ما يفتقر إليه الواجب أولى بأن يكون واجبا وإما مع جوازه وحينئذ يكون غنيا عن المحل والحال يجب افتقاره إلى المحل فيلزم انقلاب الغنى عن الشيء محتاجا إليه هكذا قرره الإمام رحمه الله ثم اعترض بأنه على التقدير الأول لا يلزم الافتقار لجواز أن توجب ذاته ذلك المحل والمحل الحلول أو توجب ذاته المحل والحلول جميعا ووجوب اللوازم والآثار عند المؤثر لا يوجب احتياجه إليها وعلى التقدير الثاني لا يلزم الانقلاب لأنا لا نسلم أن الحال في الشيء تكون محتاجا إليه كالجسم المعين يحل في الحيز المعين مع عدم احتياجه في ذاته إليه وقد يقرر بأنه إن كان مستغنيا بالذات عن المحل لم يحل فيه لأن الحال في الشيء محتاج إليه ولا شيء من الغنى بالذات كذلك وإلا أي وإن لم يكن مستغنيا بالذات لزم إمكانه وقدم المحل وهو ظاهر واعترض بأن عدم الاستغناء بالذات لا يستلزم الاحتياج بالذات ليلزم إمكانه وقدم المحل لجواز أن يكون
____________________
(2/68)
كل من الغنى والاحتياج عارضا بحسب أمر خارج وأجيب بأن مجرد عدم الاستغناء بالذات يستلزم الإمكان لأن الواجب مستغن بالذات ضرورة ولا حاجة إلى توسيط الاحتياج بالذات وقد تقرر بأنه إن كان محتاجا بالذات لزم إمكانه وإلا امتنع حلوله ورد بأن عدم الاحتياج الذاتي لا ينافي عروض الاحتياج فلا ينافي الحلول
الثالث أن الحلول في الغير إن لم يكن صفة كمال وجب نفيه عن الواجب وإن كان لزم كون الواجب مستكملا بالغير وهو باطل وفاقا
الرابع أنه لو حل في شيء لزم تحيزه لأن المعقول من الحلول باتفاق العقلاء وهو حصول العرض في الحيز تبعا لحصول الجوهر وأما صفات الباري عز وجل فالفلاسفة لا يقولون بها والمتكلمون لا يقولون بكونها أعراضا ولا بكونها حالة في الذات بل قائمة بها بمعنى الاختصاص الناعت
الخامس أنه لو حل في جسم على ما يزعم الخصم فإما في جميع أجزائه فيلزم الانقسام أو في جزء منه فيكون أصغر الأشياء وكلاهما باطل بالضرورة والاعتراف
السادس لو حل في جسم والأجسام متماثلة لتركبها من الجواهر الفردة المتفقة الحقيقة على ما بين لجاز حلوله في أحقر الأجسام وأرذلها فلا يحصل الجزم بعدم حلوله في مثل البعوضة وهو باطل بلا نزاع قال والقول بالحلول يعني كما قامت الدلالة على امتناع الحلول والاتحاد على الذات فكذا على الصفات بل أولى لاستحالة انتقال الصفة عن الذات والاحتمالات التي تذهب إليها أوهام المخالفين في هذا الأصل ثمانية حلول ذات الواجب أو صفته في بدن الإنسان أو روحه وكذا الاتحاد والمخالفون منهم نصارى ومنهم منتمون إلى الإسلام أما النصارى فقد ذهبوا إلى أن الله تعالى جوهر واحد ثلاثة أقانيم هي الوجود والعلم والحياة المعبر عنها عندهم بالأب والابن وروح القدس على ما يقولون آنا ايثا روحا قدسا ويعنون بالجوهر القائم بنفسه وبالأقنوم الصفة وجعل الواحد ثلاثة جهالة أو ميل إلى أن الصفات نفس الذات واقتصارهم على العلم والحياة دون القدرة وغيرها جهالة أخرى وكأنهم يجعلون القدرة راجعة إلى الحياة والسمع والبصر إلى العلم ثم قالوا إن الكلمة وهي أقنوم العلم اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته بطريق الامتزاج كالحمر بالماء عند الملكائية وبطريق الإشراق كما تشرق الشمس من كوة على بلور عند النسطورية وبطريق الانقلاب لحما ودما بحيث صار الإله هو المسيح عند اليعقوبية ومنهم من قال ظهر اللاهوت بالناسوت كا يظهر الملك في صورة البشر وقيل تركب اللاهوت والناسوت كالنفس مع البدن وقيل إن الكلمة قد تداخل الجسد فيصدر عنه خوارق العادات وقد تفارقه فتحله الآلام والآفات إلى غير ذلك من الهذيانات وأما المنتمون إلى الإسلام فمنهم بعض غلاة الشيعة القائلون بأنه لا يمتنع ظهور الروحاني بالجسماني كجبرائيل في صورة دحية الكلبي وكبعض الجن أو الشياطين في صورة الأناسي ولا يبعد أن يظهر الله تعالى في صورة بعض الكاملين وأولى الناس
____________________
(2/69)
بذلك علي رضي الله عنه وأولاده المخصوصون الذين هم خير البرية والعلم في الكمالات العلمية والعملية فلهذا كان يصدر عنهم في العلوم والأعمال ما هو فوق الطاقة البشرية ومنهم بعض المتصوفة القائلون بأن السالك إذا أمعن في السلوك وخاض معظم لجة الوصول فربما يحل الله فيه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا كالنار في الجمر بحيث لا تمايز أو يتحد به بحيث لا إثنينية ولا تغاير وصح أن يقول هو أنا وأنا هو وحينئذ يرتفع الأمر والنهي ويظهر من الغرائب والعجائب مالا يتصور من البشر وفساد الرأيين غني عن البيان وههنا مذهبان آخران يوهمان بالحلول أو الاتحاد وليسا منه في شيء
الأول أن السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله وفي الله يستغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تضمحل ذاته في ذاته تعالى وصفاته في صفاته ويغيب عن كل ما سواه ولا يرى في الوجود إلا الله تعالى وهذا الذي يسمونه الفناء في التوحيد وإليه يشير الحديث الإلهي أن العبد لا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع وبصره الذي به يبصر وحينئذ ربما تصدر عنه عبارات تشعر بالحلول أو الاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحال وتعذر الكشف عنها بالمقال ونحن على ساحل التمني نغترف من بحر التوحيد بقدر الإمكان ونعترف بأن طريق الفناء فيه العيان دون البرهان والله الموفق
والثاني أن الواجب هو الوجود المطلق وهو واحد لا كثرة فيه أصلا وإنما الكثرة في الإضافات والتعينات التي هي بمنزلة الخيال والسراب إذ الكل في الحقيقة واحد يتكرر على المظاهر لا بطريق المخالطة ويتكثر في النواظر لا بطريق الانقسام فلا حلول ههنا ولا اتحاد لعدم الإثنينية والغيرية وكلامهم في ذلك طويل خارج عن طريق العقل والشرع وقد أشرنا في بحث الوجود إلى بطلانه لكن من يضلل الله فما له من هاد قال المبحث الرابع الجمهور على أن الواجب يمتنع أن يتصف بالحادث أي الموجود بعد العدم خلافا للكرامية وأما اتصافه بالسلوب والإضافات الحاصلة بعد مالم تكن ككونه غير رازق لزيد الميت رازقا لعمرو المولود وبالصفات الحقيقية المغيرة التعلقات ككونه عالما بهذا الحادث وقادرا عليه فجائز وكذا بالأحوال المتحققة بعد مالم تكن كالعالميات المتجددة بتجدد المعلومات عند أبي الحسين البصري على ما سيجيء تحقيق ذلك وبهذا يندفع ما ذكره الإمام الرازي من أن القول بكون الواجب محلا للحوادث لازم على جميع الفرق وإن كانوا يتبرأون عنه أما الأشاعرة فلأن زيدا إذا وجد كان الواجب غير قادر على خلقه بعد ما كان وفاعلا له عالما بأنه موجود مبصرا لصورته سامعا لصوته آمرا له بالصلاة بعدما لم يكن كذلك وأما المعتزلة فلقولهم بحدوث المريدية والكارهية لما يراد وجوده أو عدمه والسامعية والمبصرية لما يحدث من الأصوات والألوان وكذا يتجدد العالميات بتجدد المعلوميات عند أبي الحسين البصري وأما الفلاسفة فلقولهم بأن الله تعالى إضافة إلى ما حدث ثم فني بالقبلية ثم المعية ثم البعدية
____________________
(2/70)
وهم لا يقولون بوجود كل إضافة حتى يلزم اتصافه بموجودات حادثة على ما هو المتنازع وهذه الشبهة هي العمدة في تمسك المجوزين فلا تكون واردة في محل النزاع وقد تمسك بأن المصحح لقيام الصفة بالواجب إما كونها صفة فيعم القديم والحادث وإما مع قيد القدم أعني كونه غير مسبوق بالعدم وهو عدمي لا يصلح جزأ للمؤثر وجوابه منع الحصر لجواز أن يكون المصحح ماهية الصفة القديمة المخالفة لماهية الصفة الحادثة على أن يكونا أمرين متخالفين متشاركين في مفهوم الوصفية ولو سلم يجوز أن يكون القدم شرطا أو الحدوث مانعا احتج المانعون بوجوه
الأول أنه لو جاز اتصافه بالحادث لجاز النقصان عليه وهو باطل بالإجماع وجه اللزوم أن ذلك الحادث إن كان من صفات الكمال كان الخلو عنه مع جواز الاتصاف به نقصانا بالاتفاق وقد خلا عنه قبل حدوثه وإن لم يكن من صفات الكمال امتنع اتصاف الواجب به للاتفاق على أن كل ما يتصف هو به يلزم أن يكون صفة كمال واعترض بأنا لا نسلم أن الخلو عن صفة الكمال نقص وإنما تكون لو لم يكن حال الخلو متصفا بكمال يكون زواله شرطا لحدوث هذا الكمال وذلك بأن يتصف دائما بنوع كمال تتعاقب أفراده من غير بداية ونهاية ويكون حصول كلا لاحق مشروطا بزوال السابق على ما ذكره الحكماء في حركات الأفلاك فالخلو عن كل فرد يكون شرطا لحصول كمال آخر بل الاستمرار كمالات غير متناهية فلا يكون نقصا وأجيب بأن المقدمة إجماعية بل ضرورية والسند مدفوع بأنه إذا كان كل فرد حادثا كان النوع حادثا ضرورة أنه لا يوجد إلا في ضمن فرد وبأن الواجب على ما ذكرتم لا يخلو عن الحادث فيكون حادثا ضرورة وبأنه في الأزل يكون خاليا عن كل فرد ضرورة امتناع الحادث في الأزل فيكون ناقصا
الثاني وهو العمدة عند الحكماء أن الاتصاف بالحادث تغير وهو على الله تعالى محال واعترض بأنه إن اريد بالتغير مجرد الانتقال من حال إلى حال فالكبرى نفس المتنازع وإن أريد تغير في الواجبية أو تأثير وانفعال عن الغير فالصغرى ممنوعة لجواز أن يكون الحادث معلول الذات بطريق الاختيار أو بطريق الإيجاب بأن يقتضي صفة كمالية متلاحقة الأفراد مشروطا ابتداء كل بانتهاء الآخر كحركات الأفلاك عندهم
الثالث أنه لو اتصف بالحادث لزم جواز أزلية الحادث بوصف الحدوث وهو باطل ضرورة أن الحادث ما له أول والأزلي مالا أول له وجه اللزوم أنه يجوز اتصافه بذلك الحادث في الأزل إذ لو امتنع لاستحال انقلابه إلى الجواز وجواز الاتصاف بالشيء في الأزل يقتضي جواز وجود ذلك الشيء في الأزل فيلزم جواز وجود الحادث في الأزل وجوابه أن اللازم من استحالة الانقلاب جواز الاتصاف في الأزل على أن يكون الأزل قيدا للجواز وهو لا يستلزم إلا أزلية جواز الحادث لا جواز الاتصاف في الأزل على أن يكون قيدا للاتصاف ليلزم جواز أزلية الحادث ولا خفاء في أن المحال جواز أزلية الحادث بمعنى إمكان أن يوجد
____________________
(2/71)
في الأزل لا أزلية جوازه بمعنى أن يمكن في الأزل وجوده في الجملة وهذا كما يقال أن قابلية الإله لإيجاد العالم متحققة في الأزل بخلاف قابليته لإيحاد العالم في الأزل أي يمكن في الأزل أن يوجده ولا يمكن أن يوجده في الأزل ومبنى الكلام على أن يعتبر الحادث بشرط الحدوث وإلا فلا خفاء في إمكان وجوده في الأزل
الرابع أنه لو جاز اتصافه بالحادث لزم عدم خلوه عن الحادث فيكون حادثا لما سبق في حدوث العالم ولمساعدة الخصم على ذلك أما الملازمة فلوجهين
أحدهما أن المتصف بالحادث لا يخلو عنه وعن ضده وضد الحادث حادث لأنه منقطع إلى الحادث ولا شيء من القديم كذلك لما تقرر أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه
وثانيهما أنه لا يخلو عنه وعن قابليته وهي حادثة لما مر من أن أزلية القابلية تستلزم جواز أزلية المقبول فيلزم جواز أزلية الحادث وهو محال وكلا الوجهين ضعيف أما الأول فلأنه إن أريد بالضد ما هو المتعارف فلا نسلم أن لكل صفة ضدا وأن الموصوف لا يخلو عن الضدين وإن أريد مجرد ما ينافيه وجوديا كان أو عدميا حتى أن عدم كل شيء ضد له ويستحيل الخلو عنهما فلا نسلم أن ضدا الحادث حادث فإن القدم والحدوث إن جعلا من صفات الموجود خاصة فعدم الحادث قبل وجوده ليس بقديم ولا حادث وإن أطلقا على المعدوم ايضا باعتبار كونه غير مسبوق بالوجود أو مسبوقا به فهو قديم وامتناع زوال القديم إنما هو في الموجود لظهور زوال العدم الأزلي لكل حادث وأما الثاني فلأن القابلية اعتبار عقلي معناه إمكان الاتصاف ولو سلم فأزليتها إنما تقتضي أزلية جواز المقبول أي إمكانه لا جواز أزليته ليلزم المحال وقد عرف الفرق قال الفصل الثالث في الصفات الوجودية لا خفاء ولا نزاع في أن اتصاف الواجب بالسلبيات مثل كونه واحدا مجردا ليس في جهة وحيز لا يقتضي ثبوت صفات له وكذا بالإضافات والأفعال مثل كونه العلي والعظيم والأول والآخر والقابض والباسط والخافض والرافع ونحو ذلك وإنما الخلاف في الصفات الثبوتية الحقيقية مثل كونه العالم والقادر فعند أهل الحق له صفات أزلية زائدة على الذات فهو عالم له علم وقادر له قدرة وحي له حياة وكذا في السميع والبصير والمتكلم وغير ذلك مع اختلاف في البعض وفي كونها غير الذات بعد الاتفاق على أنها ليست عين الذات وكذا في الصفات بعضها مع بعض وهذا لفرط تحرزهم عن القول بتعدد القدماء حتى منع بعضهم أن يقال صفاته قديمة وإن كانت أزلية بل يقال هو قديم بصفاته وآثروا أن يقال هي قائمة بذاته أو موجودة بذاته ولا يقال هي فيه أو معه أو مجاورة له أو حالة فيه لإيهام التغاير وأطبقوا على أنها لا توصف بكونها أعراضا وخالف في القول بزيادة الصفات أكثر الفرق كالفلاسفة والمعتزلة ومن يجري مجراهم من أهل البدع والأهواء وسموا القائلين بها بالصفاتية ثم اختلفت عباراتهم فقيل هو حي عالم قادر لنفسه وقيل بنفسه وقيل لكونه على حالة هي اخص صفاته
____________________
(2/72)
وقيل لا لنفسه ولا لعلل وكلام الإمام الرازي في تحقيق إثبات الصفات وتحرير محل النزاع ربما يميل إلى الاعتزال قال في المطالب العالية اهم المهمات في هذه المسألة البحث عن محل الخلاف فمن المتكلمين من زعم أن العلم صفة قائمة بذات العالم ولها تعلق بالمعلوم فهناك أمور ثلاثة الذات والصفة والتعلق ومنهم من زعم أن العلم صفة توجب العالمية وأن هناك تعلقا بالمعلوم من غير أن يبين أن المتعلق هو العلم أو العالمية ليكون هناك أمور أربعة أو كلاهما ليكون هناك أمور خمسة ثم قال وأما نحن فلا نثبت إلا أمرين الذات والنسبة المسماة بالعالمية وندعي أنها أمر زائد على الذات موجود فيه للقطع بأن المفهوم من هذه النسبة ليس هو المفهوم من الذات وأن من اعترف بكونه عالما لم يمكنه نفي هذه النسبة إذ لا معنى للعالم إلا الذات الموصوفة بهذه النسبة ولا للقادر إلا الذات الموصوفة بأنه يصح منه الفعل هذا وقد عرفت أنه لا يجوز أن يكون العلم نفس الإضافة وقد صرح هو أيضا بذلك حيث قال في نهاية العقول لو كان كونه عالما وقادرا مجرد أمر إضافي لتوقف ثبوته على ثبوت المعلوم والمقدور لأن وجود الأمور الإضافية مشروط بوجود المضافين لكن المعلوم قد يكون محالا وقد يكون ممكنا لا يوجد إلا بإيجاد الله المتوقف على كونه عالما قادرا قال لنا وجوه
الأول طريقة القدماء وهو اعتبار الغائب بالشاهد وتقريره على ما ذكره إمام الحرمين أنه لا بد في ذلك من جامع للقطع بأنه لا يصح في الغائب الحكم بكونه جسما محدودا بناء على أنا لا نشاهد الفاعل إلا كذلك والجوامع أربعة العلة والشرط والحقيقة والدليل فإنه إذا ثبت في الشاهد كون الحكم معللا بعلة كالعالمية بالعلم أو مشروطا بشرط كالعالمية بالحياة او تقررت حقيقة في محقق ككون حقيقة العالم من قام به العلم أو دل دليل على مدلول عقلا كدلالة الأحداث على المحدث لزم اطراد ذلك في الغائب وقد ثبت في الشاهد أن حقيقة العالم من قام به العلم وأن الحكم بكون ا لعالم عالما معلل فلزم القضاء بذلك في الغائب وكذا الكلام في القدرة والحياة وغيرهما وهذا احتجاج على المعتزلة القائلين بصحة قياس الغائب على الشاهد عند شرائطه وبكون هذه الأحكام في الشاهد معللة بالصفات كالعالمية بالعلم فلا يتوجه منع الأمرين نعم يتوجه ما قيل أن هذه الأحكام إنما تعلل في الشاهد لجوازها فلا تعلل في الغائب لوجوبها وأن من شرط القياس أن يتماثل أمران فيثبت لأحدهما مثل ما ثبت للآخر وهذه الأحكام مختلفة غائبا وشاهدا بالقدم والحدوث والشمول واللاشمول وغير ذلك وكذا الصفات التي أثبتوها عللا لها وأجيب بأن الوجوب لا ينافي التعليل غايته أنه لا يعلل إلا بالواجب والجائز يعلل بالجائز وأنه لا اختلاف لهذه الأحكام ولا الصفات فيما يتعلق بالمقصود فإن العلم إنما يوجب كون العالم عالما من حيث كونه عالما لا من حيث كونه
____________________
(2/73)
عرضا أو حادثا أو نحو ذلك
الوجه الثاني أن الله تعالى عالم وكل عالم فيه علم إذ لا يعقل من العالم إلا ذلك وكذا القادر وغيره وتقرير آخر أن لله تعالى معلوما وكل من له معلوم فله علم إذ لا معنى للمعلوم إلا ما تعلق به العلم فإن قيل سلمنا أن له علما لكن لم لا يجوز أن يكون علمه نفس ذاته لا زايدا عليه وكذا سائر الصفات قلنا لأنه يلزم منه محالات
أحدها أن لا يكون حمل تلك الصفات على الذات مفيدا بمنزلة قولنا الإنسان بشر والذات ذات والعالم عالم والعلم علم
وثانيها أن يكون العلم هو القدرة والقدرة هي الحياة وكذا البواقي من غير تمايز أصلا لأنها كلها نفس الذات فينتظم قياس هكذا العلم هو الذات والذات هو القدرة لأن القدرة إذا كانت نفس الذات كان الذات نفس القدرة ضرورة
وثالثها أن يجزم العقل بكون الواجب عالما قادرا حيا سميعا بصيرا من غير افتقار إلى إثبات ذلك بالبرهان لأن كون الشيء نفسه ضروري
ورابعها أن يكون العلم مثلا واجب الوجود لذاته قائما بنفسه صانعا للعالم معبودا للعباد حيا قادرا سميعا بصيرا إلى غير ذلك من الكمالات وليس كذلك وفاقا حتى صرح الكعبي بأن من زعم أن علم الله يعبد فهو كافر فإن قيل يكفي في عدم لزوم هذه المحالات كون المفهوم من الذات غير المفهوم من الصفات وكون المفهوم من كل صفة مغايرا للمفهوم من الأخرى وهذا لا نزاع فيه ولا يستلزم الزيادة بحسب الوجود كما هو المطلوب ألا ترى أن حمل مثل الكاتب والضاحك والعالم والقادر على الإنسان مفيد وربما يحتاج إلى البيان مع اتحاد الذات وعدم لزوم كون الكتابة هو الضحك أو الضاحك والناطق قلنا ليس الكلام في العالم والقادر والحي ونحو ذلك مما يحمل على الذات بالمواطأة بل في العلم والقدرة والحياة ونحوها مما لا يحمل إلا بالاشتقاق فإنها إذا كانت نفس الذات كان لزوم المحالات المذكورة ظاهرا فإن قيل إنما يلزم ذلك لو لم تكن الذات مع الصفات وكذا الصفات بعضها مع البعض متغايرة بحسب الاعتبار وإن كانت متحدة بحسب الوجود وذلك بأن تكون الذات من حيث التعلق بالمعلومات عالما بل علما ومن حيث التعلق بالمقدورات قادرا بل قدرة ومن حيث كونه بحيث يصح أن يعلم ويقدر حيا بل حياة وعلى هذا القياس ويكون معنى الحمل أن الذات متعلق بالمعلومات وبالمقدورات مثلا ولا خفاء في إفادته وافتقاره إلى البيان ولا في تمايز الاعتبارات بعضها عن البعض من غير تكثر في الذات أصلا بحسب الوجود وهذا كما أن الواحد نصف للاثنين ثلث للثلاثة ربع للأربعة وهكذا إلى غير النهاية مع أن الموجود واحد لا غير والحمل مفيد والنصفية متميزة عن الثلثية قلنا كون الذات نفس التعلق الذي هو العلم والقدرة مثلا ضروري البطلان ككون الواحد نفس النصفية والثلثية وإنما هو عالم وقادر فيبقى الكلام في مأخذ الاشتقاق أعني العلم والقدرة وأنه لا بد أن يكون معنى وراء الذات لا نفسه ولا يفيدك تسميته بالتعلق لأن مثل العلم والقدرة ليس
____________________
(2/74)
من الاعتبارات العقلية التي لا تحقق لها في الأعيان بمنزلة الحدوث والإمكان بل من المعاني الحقيقية فلا بد من القول بكونها نفس الذات فيعود المحذور أو وراء الذات فيثبت المطلوب وأيضا وصف العالمية أو القادرية وكذا المعلومية أو المقدورية إنما يتحقق بعد تمام التعلق فعلى ما ذكر يكون كل من العلم والقدرة عبارة عن تعلق الذات بأمر فلا بد في التمايز من خصوصية بها يكون أحد التعلقين علما والآخر قدرة وهو المراد بالمعنى الزائد على الذات والحاصل أنه لا نزاع في أنه تعالى عالم حي قادر ونحو ذلك وهذه الألفاظ ليست أسماء للذات من غير اعتبار معنى بل هي أسماء مشتقة معناها إثبات ما هو مأخذ الاشتقاق ولا معنى له سوى إدراك المعاني والتمكن من الفعل والترك ونحو ذلك فلزم بالضرورة ثبوت هذه المعاني للواجب كيف والخلو عنها نقص وذهاب أي أنه لا يعلم ولا يقدر ثم هذه المعاني يمتنع أن تكون نفس الذات لامتناع قيامها بأنفسها ولما سبق من المحالات فتعين كونها معاني وراء الذات والمعتزلة مع ارتكابهم شناعة العالم بلا علم والقادر بلا قدرة لا يرضون رأسا برأس بل يباهون بنفي الصفات ويعدون إثباتها من الجهالات
الوجه الثالث النصوص الدالة على إثبات العلم والقدرة بحيث لا يحتمل التأويل كقوله تعالى { أنزله بعلمه } وقوله { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } أي . . . لعلمه بمعنى أنه تعلق به العلم لا بمعنى مقارنا للعلم ليلزم كون العلم منزلا فيجب تأويله وكقوله تعالى { أن القوة لله } وقوله تعالى ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) قال تمسك المخالف بوجود للقائلين بنفي الصفات شبه بعضها على أصول الفلسفة تمسكا للفلاسفة وبعضها على قواعد الكلام تمسكا للمعتزلة وبعضها من مخترعات أهل السنة على احد الطريقين دفعا لها ولم يصرح في المتن بنسبة كل إلى من يتمسك به لعدم خفائه على الناظر في المقدمات
الأول وهو للفلاسفة لو كانت له صفة زائدة لكانت ممكنة لأن الصفة لا تقوم بنفسها فضلا عن الوجوب كيف وقد ثبت أن الواجب واحد وما وقع في كلام بعض العلماء من أن واجب الوجود لذاته هو الله تعالى وصفاته فمعناه أنها واجبة لذات الواجب أي مستندة إلى الله بطريق الإيجاب لا بطريق الخلق بالقصد والاختيار ليلزم كونها حادثة وكون القدرة مثلا مسبوقة بقدرة أخرى وما ثبت من كون الواجب مختارا لا موجبا إنما هو في غير صفاته وأما استناد الصفات عند من يثبتها فليس إلا بطريق الإيجاب وكذا قولهم علة الاحتياج إلى المؤثر هو الحدوث دون الإمكان ينبغي أن يخص بغير صفاته ولا يخفى أن مثل هذه التخصيصات في الأحكام العقلية بعيد جدا ثم صفاته على تقدير تحققها ولزوم إمكانها يجب أن تكون أثرا له لامتناع افتقار ا لواجب في صفاته وكمالاته إلى الغير فيلزم كونه القابل والفاعل وهو باطل لما مر وأجيب بالمنع كما مر وقد تقرر لزوم كونه الفاعل بأن جميع الممكنات مستندة
____________________
(2/75)
إليه وكأنه إلزامي وإلا فأكثر الممكنات عند الفلاسفة أثر للغير وإن كانت بالآخرة منتهية إلى الواجب مستندة إليه بالواسطة وهذا لا يوجب كونه الفاعل
الثاني الصفة الزائدة إن لم تكن كما لا يجب نفيها عنه لتنزهه عن النقصان وإن كانت يلزم استكماله بالغير وهو يوجب النقصان بالذات فيكون محالا وأجيب بأنا لا نسلم أن مالا يكون كما لا يكون نقصانا وأن مالا يكون عين الشيء يكون غيره بل صفاته لا هو ولا غيره ولو سلم فلا نسلم استحالة ذلك إذا كانت صفة الكمال ناشئة عن الذات دائمة بدوامه بل ذلك غاية الكمال
الثالث وهو للمعتزلة أن عالميته واجبة لاستحالة الجهل عليه ولاستحالة افتقاره إلى فاعل يجعله عالما وكذا البواقي والواجب لا يعلل لأن سبب الاحتياج إلى العلة هو الجواز ليترجح جانب الوجود فعالميته مثلا لا تعلل بالعلم بل يكون هو عالم بالذات بخلاف عليتنا فإنها جائزة والجواب بعد تسليم كون العالمية أمرا وراء العلم معللا به كما هو رأي مثبتي الأحوال أن وجوبها ليس بمعنى كونها واجبة الوجود لذاتها ليمتنع تعليلها بل بمعنى امتناع خلو الذات عنها وهو لا ينافي كونها معللة بصفة ناشئة عن الذات فإن اللازم للذات قد يكون بوسط
الرابع وهو العمدة الوثقى لنفات الصفات من المليين أنها إما أن تكون حادثة فيلزم قيام الحوادث بذاته وخلوه في الأزل عن العلم والقدرة والحياة وغيرها من الكمالات وصدورها عنه بالقصد والاختيار أو بشرائط حادثة لا بداية لها والكل باطل بالاتفاق وإما أن تكون قديمة فيلزم تعدد القدماء وهو كفر بإجماع المسلمين وقد كفرت النصارى بزيادة قديمين فكيف بالأكثر وأجيب بأنا لا نسلم تغاير الذات مع الصفات ولا الصفات بعضها مع البعض ليثبت التعدد فإن الغيرين هما اللذان يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر بمكان أو بزمان أو بوجود وعدم أو هما ذاتان ليست إحداهما الأخرى وتفسيرهما بالشيئين أو الموجودين أو الاثنين فاسد لأن الغير من الأسماء الإضافية ولا إشعار في هذا التفسير بذلك قال صاحب التبصرة وكذا تفسيرهما بالشيئين من حيث أن أحدهما ليس هو الآخر لصدقه على الكل مع الجزء كالعشرة مع الواحد وزيد مع رأسه مع أنه لم يقل أحد بكون الجزء غير الكل إلا جعفر بن حارث من المعتزلة وعد هذا من جهالاته لأن العشرة اسم للمجموع يتناول كل فرد مع أغياره فلو كان الواحد غير العشرة لصار غير نفسه لأنه من العشرة ولن تكون العشرة بدونه وقال أيضا كل الشيء ليس غيره لأن الشيء لا يغاير نفسه وأعجب من هذا ما قال لو كان الغيران هما الاثنين لكان الغير اثنا والاثن ليس بمستعمل والغير مستعمل والقول ما قال إمام الحرمين رحمه الله أن إيضاح معنى الغيرين مما لا يدل عليه قضية عقلية ولا دلالة قاطعة سمعية فلا يقطع ببطلان قول من قال كل شيئين غير أن نعم لا يقطع بالمنع من إطلاق الغيرية في صفات الباري وذاته لاتفاق الأمة على ذلك ثم قال ولا يتحاشى من إطلاق القول بأن الصفات
____________________
(2/76)
موجودات والعلم مع الذات موجودان وكذا جميع الصفات فظهر أن القول بالتعدد لا يتوقف على القول بالتغاير فقولنا ولو سلم معناه ولو سلم التغاير أو التعدد بدون التغاير فالقول بأزلية الصفات لا يستلزم القول بقدمها لكونه أخص فإن القديم هو الأزلي القائم بنفسه ولو سلم أن كل أزلي قديم فلا نسلم أن القول بتعدد القديم مطلقا كفر بالإجماع بل في قدم الذاتي بمعنى عدم المسبوقية بالغير وقدم الصفات زماني بمعنى كونها غير مسبوقة بالعدم ولو سلم أن القول بتعدد القديم كفر ذاتيا كان أو زمانيا فلا نسلم ذلك في الصفات بل في الذوات خاصة أعني ما تقوم بأنفسها والنصارى وإن لم يجعلوا الأقانيم القديمة ذوات لكن لزمهم القول بذلك حيث جوزوا عليها الانتقال وقد سبق بيان ذلك وقوله تعالى { وما من إله إلا إله واحد } بعد قوله { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } شاهد صدق على أنهم كانوا يقولون بآلهة ثلاثة فأين هذا من القول بإله واحد له صفات كمال كما نطق بها كتابه قال وأما التمسك إشارة إلى شبه أخرى ضعيفة جدا
الأولى أنه لو كان موصوفا بصفات قائمة بذاته لكان حقيقة الإلهية مركبة من تلك الذات والصفات وكل مركب ممكن لاحتياجه إلى الأجزاء والجواب بمنع الملازمة بل حقيقة الإله تلك الذات الموجبة للصفات
الثانية أن القدم أخص أوصاف الإله والكاشف عن حقيقته إذ به يعرف تميزه عن غيره فلو شاركته الصفات في القدم لشاركته في الإلهية فيلزم من القول بها القول بالآلهة كما لزم النصارى والجواب منع كون الأخص والكاشف هو القدم بل وجوب الوجود
الثالثة أنه لا دليل على هذه الصفات لأن الأدلة العقلية لا تتمم والسمعية لا تدل إلا على أنه حي عالم قادر إلى غير ذلك والنزاع لم يقع فيه وما لا دليل عليه يجب نفيه كما سبق مرارا والجواب منع المقدمتين
الرابعة أنه لا يعقل من قيام الصفة بالموصوف إلا حصولها في الحيز تبعا لحصوله والتحيز على الله تعالى محال فكذا قيام الصفات به والجواب أن معنى القيام هو الاختصاص الناعت على ما هو مرادكم باتصافه بالأحكام والأحوال قال والقوى إلزاما يعني أن من الشبه القوية في هذا الباب وإن كانت مقدماتها إلزامية لا تحقيقية أنه لو كانت له صفات قديمة لزم قيام المعنى بالمعنى لأن القديم يكون باقيا بالضرورة وعندكم أن بقاء الشيء صفة زائدة عليه قائمة به وأن قيام المعنى بالمعنى باطل فمن الأصحاب من لم يجعل البقاء صفة زائدة بل استمرارا للوجود ومنهم من جوز في غير المتحيز قيام المعنى بالمعنى وإنما الممتنع قيام العرض بالعرض لأن معناه التبعية في التحيز والعرض لا يستقل بالتحيز فلا يتبعه غيره بل كلاهما يتبعان الجوهر ومنهم من امتنع عن وصف الصفات بالبقاء فلم يقل علمه باق وقدرته باقية بل قال هو باق بصفاته وهذا ضعيف جدا لأن الدائم الموجود أزلا وأبدا من غير طريان فناء عليه أصلا اتصافه بالبقاء ضروري ولا يفيد التحرز عن التكلم به ومنهم من قال هي باقية ببقاء هو بقاء الذات فإنه بقاء للذات وللصفات وللبقاء لأنها
____________________
(2/77)
ليست غير الذات بخلاف بقاء الجوهر فإنه لا يكون بقاء لأعراضه لكونها مغايرة له والبقاء القائم بالشيء لا يكون بقاء لما هو غيره وبهذا صرح الشيخ الأشعري واعترض عليه بأن الصفات كما أنها ليست غير الذات ليست عينها فكيف يجعل البقاء القائم بالذات بقاء لما ليس بالذات ولما لم يقم به البقاء ولهذا لا يتصف بعض صفات الذات مع أنها ليست غير الذات بالبعض فلا يكون العلم مثلا حيا قادرا فظهر أن علة امتناع جعل بقاء الجوهر بقاء العرض ليست تغايرهما بل كون أحدهما ليس الآخر ومنهم من قال أن الصفة باقية ببقاء هو نفسها فالعلم مثلا علم للذات فيكون به عالما وبقاء لنفسه فيكون به باقيا كما أن بقاء الله تعالى بقاء له وبقاء للبقاء أيضا وهذا كالجسم يكون كائنا بالكون والكون يكون كائنا بنفسه وجاز حصول باقيين ببقاء واحد لأن أحدهما كان قائما بالآخر فلم يؤد إلى قيام صفة بذاتين بخلاف حصول متحركين بحركة وأسودين بسواد فإن قيل فمعلوم أن الشيء إنما يكون عالما بما هو علم قادرا بما هو قدرة باقيا بما هو بقاء إلى غير ذلك وههنا قد لزم كون الذات عالما وقادرا بما هو بقاء والعلم باقيا بما هو علم والقدرة باقية بما هو قدرة وهو محال قلنا اختلاف الإضافة بدفع الاستحالة فإن المستحيل هو أن يكون الشيء عالما أو قادرا بما هو بقاء له وباقيا بما هو علم أو قدرة له واللازم هو أن الذات عالم أو قادر بما هو بقاء للعلم أو القدرة والعلم أو القدرة باق بما هو علم أو قدرة للذات ولقائل أن يقول فحينئذ لا يبقى قولكم بقاء الباقي صفة زائدة عليه قائمة به على إطلاقه وأيضا إذا جاز كون بقاء العلم نفسه مع القطع بأن مفهوم البقاء ليس مفهوم العلم فلم لا يجوز مثله في الصفات مع الذات بأن يكون عالما بعلم هو نفسه قادرا بقدرة هي نفسه باقيا ببقاء هو نفسه إلى غير ذلك ولا يلزم إلا كون الجميع واحدا بحسب الوجود لا بحسب المفهوم والاعتبار قال ولهم في نفي القدرة تمسكت المعتزلة في امتناع كون الباري تعالى قادرا بالقدرة بأنه لو كان كذلك لما كان قادرا على خلق الأجسام واللازم باطل وفاقا بيان الملازمة من وجهين
أحدهما أن عدم صلوح قدرة العبد لخلق الأجسام حكم مشترك لا بد له من علة مشتركة وما هي إلا كونها قدرة فلو كانت للباري أيضا قدرة لكانت كذلك
وثانيهما أن قدرة الباري على تقدير تحققها إما أن تكون مماثلة لقدر العباد فيلزم أن لا تصلح لخلق الأجسام لأن حكم الأمثال واحد وإما أن تكون مخالفة لها وليست تلك المخالفة أشد من مخالفة قدر العباد بعضها للبعض ومع ذلك لا يصلح شيء منها لخلق الأجسام فكذا التي تخلفها هذا القدر من المخالفة والجواب أنا لا نسلم أنه لا بد للحكم المشترك من علة مشتركة بل يجوز أن يعلل بعلل مختلفة إذ لا يمتنع اشتراك المختلفات في لازم واحد وههنا يجوز أن يعلل عدم صلوح قدر العباد لخلق الأجسام بخصوصياتها ولو سلم فلا نسلم أنه لا مشترك بينهما سوى كونها قدرة لجواز أن تكون أمرا أخص من ذلك بحيث تشمل قدر العباد ولا تشمل قدرة الباري ولا نسلم أن مخالفة قدرة الباري
____________________
(2/78)
لقدر العباد ليست أشد من مخالفتها فيما بينها لجواز أن تنفرد بخصوصية لا توجد في شيء منها فتصلح هي لخلق الأجسام دونها قال وفي نفي العلم تمسكوا في امتناع كونه عالما بالعلم بوجوه
الأول أنه لو كان كذلك لزم حدوث علمه أو قدم علمنا وكلاهما ظاهر البطلان وجه اللزوم أنه إذا تعلق علمنا بشيء مخصوص تعلق به علمه كان كلاهما على وجه واحد وهو طريق تعلق العلم بالمعلوم إلا أن يكون علمه به بطريق تعلق الذات وعلمنا به بطريق تعلق العلم كما في عالميته وعالميتنا وإذا كان كلاهما على وجه واحد كانا متماثلين فيلزم استواؤهما في القدم أو الحدوث والجواب أن تعلقهما من وجه واحد لا يوجب تماثلهما لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد ولو سلم فالتماثل لا يوجب تساويهما في القدم أو الحدوث لجواز اختلاف المتماثلات في الصفات كالوجودات على رأي المتكلمين
الثاني لو كان عالما بالعلم لكان له علوم غير متناهية لأنه عالم بما لا نهاية له والعلم الواحد لا يتعلق إلا بمعلوم واحد وإلا لما صح لنا أن نعلم كونه عالما بأحد المعلومين مع الذهول عن علمه بالعلوم الأخر ولجاز أن يكون علم الواحد قائما مقام العلوم المختلفة في الشاهد للقطع بأن علمنا بالبياض يخالف علمنا بالسواد ولو جاز هذا لجاز أن يكون له صفة واحدة تقوم مقام الصفات كلها بأن تكون علما وقدرة وحياة وغير ذلك بل تقوم الذات مقام الكل ويلزم نفي الصفات وإذا لم يتعلق العلم الواحد إلا بمعلوم واحد لزم أن يكون له بحسب معلوماته الغير المتناهية علوم غير متناهية وهو باطل وفاقا واستدلالا بما مر مرارا من أن كل عدد يوجد بالفعل فهو متناه فإن قيل فكيف جاز أن يكون المعلومات غير متناهية قلنا لأن المعلوم لا يلزم أن يكون موجودا في الخارج والجواب أنه لا يمتنع تعلق العلم الواحد بمعلومات كثيرة ولو إلى غير نهاية وما ذكر في بيان الامتناع ليس بشيء لأن الذهول إنما هو عن التعلق بالمعلوم الآخر وعلمنا أيضا بالسواد والبياض لا يختلف إلا بالإضافة ولو سلم فقيام علمه مقام علوم مختلفة لا يستلزم جواز قيام صفة واحدة له مقام صفات مختلفة الجنس
الثالث لو كان الباري ذا علم لكان فوقه عليم لقوله تعالى { وفوق كل ذي علم عليم } واللازم باطل قطعا والجواب منع كونه على عمومه والمعارضة بالآيات الدالة على ثبوت العلم كما مر قال المبحث الثاني في أنه قادر المشهور أن القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك ومعناه أنه يتمكن من الفعل والترك أي يصح كل منهما عنه بحسب الدواعي المختلفة وهذا لا ينافي لزوم الفعل عنه عند خلوص الداعي بحيث لا يصح عدم وقوعه ولا يستلزم عدم الفرق بينه وبين الموجب لأنه الذي يجب عنه الفعل نظرا إلى نفسه بحيث لا يتمكن من الترك اصلا ولا يصدق إن شاء ترك كالشمس في الإشراق والنار في الإحراق وميل الإمام الرازي إلى أن الداعي من جنس الإدراكات وهو العلم أو الظني أو الاعتقاد أن في الفعل مصلحة ومنفعة مثلا وقيل
____________________
(2/79)
من جنس الإرادة وقيل نفس المصلحة والمنفعة ولا خفاء في أنها لا يلزم أن تكون كذلك في نفس الأمر إذ ربما يظن المفسدة مصلحة فيقدم على الفعل ثم الأصل المعلول عليه في باب إثبات قادرية الباري أنه صانع قديم له صنع حادث وصدور الحادث عن القديم إنما يتصور بطريق القدرة دون الإيجاب وإلا يلزم تخلف المعلول عن تمام علته حيث وجدت في الأزل العلة دون المعلول ولا يتم هذا إلا بعد إثبات أن شيئا من الحوادث يستند إلى الباري تعالى بلا واسطة وذلك بأن يبين أنه قديم بذاته وصفاته وأن العالم حادث بجميع أجزائه على ما قرره المتكلمون أو يبين امتناع أن يكون موجبا بالذات ويكون في سلسلة معلولاته قديم مختار تستند إليه الحوادث وهذا مما وافقنا عليه الخصم أو حركة سرمدية تكون جزئياتها الحادثة شروطا ومعدات في حدوث الحوادث على ما زعمت الفلاسفة وقد سبق في بحث التسلسل بيان استحالة وجود مالا نهاية لها مجتمعة كانت أو متعاقبة وفي بحث حدوث العالم بيان استحالة أزلية الحركة قال إمام الحرمين رحمه الله دخول حوادث لا نهاية لأعدادها على التعاقب في الوجود معلوم البطلان بأوائل العقول وكيف ينصرم بالواحد على أثر الواحد ما انتفت عنه النهاية كالدورات التي قبل هذه الدورة التي نحن فيها على ما يزعم الملاحدة من أن العالم لم يزل على ما هو عليه ولم تزل دورة قبل دورة إلى غير أول ووالد قبل ولد وبذر قبل زرع ودجاجة قبل بيضة وهذا بخلاف إثبات حوادث لا آخر لها كنعيم الجنان فإنه ليس قضاء بوجود مالا يتناهى وهذا كما إذا قال لا أعطيك درهما إلا أعطيك قبله دينارا ولا أعطيك دينارا إلا أعطيك قبله درهما لم يتصور أن يعطيه على حكم شرطه درهما ولا دينارا بخلاف ما إذا قال لا أعطيك درهما إلا أعطيك بعده دينارا ولا أعطيك دينارا إلا أعطيك بعده درهما وبالجملة فالحدوث ينافي نفي الأولية ولا ينافي نفي الآخرية لا يقال قد يمكن تقرير هذا الاستدلال بحيث لا يفتقر إلى أحد الأمرين المذكورين كما ذكر في المواقف من أنه لو لم يكن قادرا لزم إما نفي الحادث أو عدم استناده إلى المؤثر أو التسلسل أو تخلف الأثر عن المؤثر التام لأنه إن لم يوجد حادث أصلا فهو الأمر الأول وإن وجد فإن لم يستند إلى مؤثر فهو الثاني وإن استند فإن لم ينته إلى قديم فهو الثالث وإن انتهى فلا بد من قديم يوجب حادثا بلا واسطة دفعا للتسلسل وهو الرابع لأنا نقول هذا أيضا تقرير للاستدلال المشهور بزيادة مقدمات لا حاجة إليها وهي الشرطيات الثلاث
الأول لأن الكلام في قادرية القديم الذي إليه ينتهي الكل مع أن التالي في كل من الأوليين عين المقدم ولذا عدل عنه وقال وإن شئت قلت أي في تقرير هذا الاستدلال لو كان الباري موجبا بالذات لزم قدم الحادث إذ لو حدث لتوقف على شرط حادث وتسلسل ثم أنه لا يتم إلا بما ذكرنا على ما اعترف به حيث قال واعلم أن هذا الاستدلال يعني على التقريرين لا يتم إلا أن يبين حدوث ما سوى الله تعالى وامتناع قيام حوادث متعاقبة
____________________
(2/80)
لا نهاية لها بذاته أو يبين في الحادث اليومي انه لا يستند إلى حادث مسبوق بآخر لا إلى نهاية محفوظا بحركة دائمة وذلك لأنه لو لم يبين ما ذكر لم تصح الشرطية الرابعة من التقرير الأول ولم يلزم المحال المذكور في التقرير الثاني لجواز أن تنتهي الحوادث إلى قديم يوجب قديما تستند إليه الحوادث بطريق الاختيار دون الإيجاب فلا يلزم التخلف ولا التسلسل وأن لا يثبت قديم يوجب حادثا بلا واسطة بل يكون كل حادث مسبوقا بآخر من غير بداية كما هو رأيهم في الحركات ولا يكون هذا من التسلسل المسلم استحالته أعني ترتب العلل والمعلولات لا إلى نهاية فلا بد من بيان استحالة النوع الآخر من التسلسل أعني كون كل حادث مسبوقا بآخر لا إلى نهاية ليتم به الاستدلال ( قال ولتعد من الأدلة عدة ) بعد التنبيه على أصل الباب يريد إيراد عدة تقريرات للأصحاب
الأول لما ثبت بما سبق في إثبات الصانع وإبطال التسلسل انتهاء الحوادث إلى الواجب لزم كونه قادرا مختارا وإلا فإما أن يوجب حادثا بلا واسطة فيلزم التخلف حيث وجد في الأزل ولم يوجد الحادث أو لا فيلزم أن يكون كل حادث مسبوقا بآخر لا إلى نهاية وقد تبين بطلانه
الثاني تأثير الواجب في وجود العالم يجب أن يكون بطريق القدرة والاختيار إذ لو كان بطريق الإيجاب فإما أن يكون بلا وسط أو بوسط قديم فيلزم قدم العالم وقد بين حدوثه وإما بوسط حادث فينتقل الكلام إلى كيفية صدوره ويتسلسل الحوادث وقد بين بطلانه
الثالث اختلاف الأجسام بالأوصاف واختصاص كل بما له من اللون والشكل والطعم والرائحة وغير ذلك لا بد أن يكون لمخصص لامتناع التخصص بلا مخصص فذلك المخصص لا يجوز أن يكون نفس الجسمية أو شيئا من لوازمها لكونها مشتركة بين الكل بل أمرا آخر فينقل الكلام إلى اختصاصه بذلك الجسم فإما أن تتسلسل المخصصات وهو محال أو تنتهي إلى قادر مختار بناء على أن نسبة الموجب إلى الكل على السواء وهو المطلوب
الرابع لو كان موجد العالم وهو الله تعالى موجبا بالذات لزم من ارتفاع العالم ارتفاعه بمعنى أن يدل ارتفاعه على ارتفاعه لأن العالم حينئذ يكون من لوازم ذاته ومعلوم بالضرورة أن ارتفاع اللازم يدل على ارتفاع الملزوم لكن ارتفاع الواجب محال فتعين أن يكون تأثيره في العالم بطريق القدرة والاختيار دون اللزوم والإيجاب
الخامس اختصاص الكواكب والأقطاب بمحالها لو لم يكن بقادر مختار بل بموجب لزم الترجح بلا مرجح لأن نسبة الموجب إلى جميع أجزاء البسيط على السواء
السادس فاعل الحيوان وأعضائه على صورها وأشكالها
____________________
(2/81)
يجب أن يكون قادرا مختارا إذ لو كان طبيعة النطفة أو أمرا خارجا موجبا لزم أن يكون الحيوان على شكل الكرة إن كانت النطفة بسيطة لأن ذلك مقتضى الطبيعة ونسبة الموجب إلى أجزاء البسيط على السوية وعلى شكل كرات مضمومة بعضها إلى البعض إن كانت النطفة مركبة من البسائط بمثل ما ذكر وقد يتمسك في إثبات كون الباري قادرا عالما بالإجماع والنصوص القطعية من الكتاب والسنة وبأن القدرة والعلم والحياة ونحو ذلك صفات كمال وأضدادها من الجهل والعجز والممات سمات نقص يجب تنزيه الله عنها وبأن صانع العالم على ما فيه من لطائف الصنع وكمال الانتظام والأحكام عالم قادر بحكم الضرورة وهذه الوجوه لا تخلو عن محال مناقشة أما لشبه الأول فلما لا يخفى على المتأمل فيها الواقف على قواعد الفلسفة
وأما السابع فلأن مرجع الأدلة السمعية إلى الكتاب ودلالة المعجزات وهل يتم الإقرار بها والإذعان لها قبل التصديق بكون الباري قادرا عالما فيه تردد وتأمل
وأما الثامن فلأنه فرع جواز اتصافه بها وكونها كمالات في حقه ووجوب اتصافه بكل كمال ونحو ذلك من المقدمات التي ربما يناقش فيها
وأما التاسع فلابتنائه على أن ما يشاهد من أمر السماء والأرض مستند إلى الواجب بلا واسطة لا إلى بعض معلولاته على ما زعم الفلسفي لكن من كان طالبا للحق غير هائم في أودية الضلال ربما يستفيد من هذه الوجوه القطع واليقين بلا احتمال قال تمسك المخالف بوجوه
الأول لو كان الباري تعالى فاعلا بالقدرة والاختيار دون الإيجاب فتعلق قدرته بأحد مقدوريه المتساويين بالنظر إلى نفس القدرة دون الآخر إن افتقر إلى مرجح ينقل الكلام إلى تأثيره في ذلك المرجح ولزم التسلسل في المرجحات وإن لم يفتقر لزم انسداد باب إثبات الصانع لأن مبناه على امتناع الترجح بلا مرجح وافتقار وقوع الممكن إلى مؤثر والجواب منع الملازمتين أي لا نسلم أنه لو افتقر تعلق القدرة إلى مرجح لزم التسلسل لجواز أن يكون المرجح هو الإرادة التي تتعلق بأحد المتساويين لذاتها كما في اختيار الجائع أحاد الرغيفين والهارب أحد الطريقين ولا يخفى أن هذا أولى مما قال في المواقف اقتداء بالإمام أن القدرة تتعلق لذاتها ولا نسلم أنه لو لم يفتقر إلى مرجح لزم انسداد باب إثبات الصانع فإن المفضي إلى ذلك جواز ترجح الممكن بلا مرجح بمعنى تحققه بلا مؤثر لا ترجيح القادر أحد مقدوريه بلا مرجح بمعنى تخصيصه بالإيقاع من غير داعية ولا يلزم من جواز هذا جواز ذاك
الثاني أن تعلق القدرة والإرادة
____________________
(2/82)
بإيجاد العالم إن كان أزليا لزم كون العالم أزليا لامتناع التخلف عن تمام العلة وإن كان حادثا ننقل الكلام إلى تعلقهما بأحداث ذلك التعلق وتتسلسل التعلقات الحادثة والجواب منع الملازمتين أما الأول فلجواز أن تتعلق القدرة والإرادة في الأزل بإيجاد العالم فيما لا يزال وأما الثانية فلجواز أن يكون حدوث تعلق القدرة والإرادة لذاتهما من غير افتقار إلى حدوث تعلق آخر على أن التعلقات اعتبارات عقلية ينقطع التسلسل فيها بانقطاع الاعتبار
الثالث أن الواجب أن استجمع جميع ما لا بد منه في صدور الأثر عنه وجوديا كان أو عدميا وجب صدور الأثر عنه بحيث لا يتمكن من الترك لامتناع عدم الأثر عند تمام المؤثر فلا يكون مختارا بل موجبا وإن لم يستجمع جميع ما لا بد منه امتنع صدور الأثر ضرورة امتناع وجود الأثر بدون المؤثر وحاصل هذا يوؤل إلى أنه لا فرق بين الموجب والمختار والجواب أنه لو سلم امتناع عدم الأثر عند تمام المؤثر المختار فلا نسلم أن هذا يستلزم كون الفاعل موجبا لا مختارا فإن الوجوب بالاختيار محقق للاختيار لا مناف له لأنه بحيث لو شاء لترك بخلاف الموجب فظهر الفرق
الرابع أن الفاعل لو كان قادرا على وجود الشيء لكان قادرا على عدمه لأن نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء لكن اللازم باطل لأن العدم الأصلي أزلي ولا شيء من الأزلي بأثر للقادر وأيضا العدم نفي محض لا يصلح متعلقا للقدرة والإرادة لأن معناه التأثير وحيث لا تأثير فلا أثر والجواب أن معنى كون العدم مقدورا أن الفاعل إن شاء لم يفعل أي إن شاء أن لا يوجد الشيء لم يوجده أو إن لم يشأ لم يفعل أي إن لم يشأ أن يوجده لم يوجده ولا نسلم استحالة ذلك وإنما المستحيل هو أنه إن شاء فعل العدم وهذان الوجهان لنفي كون المؤثر قادرا واجبا كان أو غيره وقد ذكرهما في المواقف بطريق السؤال والجواب بعد ما قال احتج الحكماء بوجوه الأول ما ذكرنا أولا ولم يذكره غيره
الخامس أن الفاعل للشيء بطريق القدرة والاختيار إن كان الفعل أولى به من الترك لزم استكماله بالغير وإن لم يكن أولي لزم كون فعله عبثا وكلا الأمرين محال على الواجب والجواب أنا لا نسلم أن الفعل إذا لم يكن أولى به كان عبثا لم لا يكفي في نفي العبث كونه أولى في نفس الأمر أو بالنسبة إلى الغير من غير أن تكون تلك الأولوية أولى بالفاعل وإن سمي مثله عبثا بناء على خلوه عن نفع للفاعل فلا نسلم استحالته على الواجب
السادس أن الباري تعالى لو كان قادرا مختارا لزم انقلاب الممتنع ممكنا أو جواز كون الأزلي أثرا للقادر وكلاهما محال وجه اللزوم أن أثره إن كان ممتنعا في الأزل وقد صار ممكنا فيما لا يزال فهو الأمر الأول وإن كان ممكنا وقد أوجده القادر فهو الثاني لأن إمكانه في الأزل مع الاستناد إلى القادر في قوة إمكان استناده إلى القادر مع كونه في الأزل والجواب منع الملازمة الثانية لجواز أن يكون ممكنا في الأزل نظرا إلى ذاته ويمتنع وقوعه في الأزل نظرا إلى وصف
____________________
(2/83)
استناده إلى القادر كالحادث يمكن في الأزل لذاته ويمتنع مع حدوثه فلا يلزم جواز الاستناد إلى القادر لما هو أزلي بل لما هو ممكن في الأزل بالذات ولا نسلم استحالته
السابع أن أثر الباري تعالى إما واجب الوقوع أو ممتنع الوقوع لأنه إما أن يعلم في الأزل وقوعه فيجب أولا وقوعه فيمتنع وإلا لزم الجهل ولا شيء من الواجب والممتنع بمقدور لزوال مكنة الترك في الأول والفعل في الثاني بل كليهما في كليهما والجواب أنه يعلم وقوعه بقدرته ومثل هذا الوجوب لا ينافي المقدورية بل يحققها قال خاتمة قدرة الله غير متناهية إما بمعنى أنها ليست لها طبيعة امتدادية تنتهي إلى حد ونهاية أو بمعنى أنها لا يطرأ عليها العدم فظاهر لا يحتاج إلى التعرض وإما بمعنى أنها لا تصير بحيث يمتنع تعلقها فلأن ذلك عجز ونقص ولأن كثيرا من مخلوقاته أبدي كنعيم الجنان وذلك بتعاقب جزئيات لا نهاية لها بحسب القوة والإمكان ولأن المقتضي للقادرية هو الذات والمصحح للمقدورية هو الإمكان ولا انقطاع لهما وبهذا استدلوا على شمول قدرة الله تعالى لكل موجود ممكن بمعنى أنه يصح تعلقها به ولما توجه عليه أنه لم لا يجوز اختصاص بعض الممكنات بشرط لتعلق القدرة أو مانع عنه ومجرد المنتضى والمصحح لا يكفي بدون وجود الشرط وعدم المانع أجيب بأنه لا تمايز للممكنات قبل الوجود ليختص البعض بشرائط التعلق وموانعه دون البعض وهذا ضعيف على ما سبق فالأولى التمسك بالنصوص الدالة على شمول قدرته مثل والله على كل شيء قدير ( قال وخالف المجوس ) المنكرون لشمول قدرة الله تعالى طوائف منهم المجوس القائلون بأنه لا يقدر على الشرور حتى خلق الأجسام المؤذية وإنما القادر على ذلك فاعل آخر يسمى عندهم أهرمن لئلا يلزم كون الواحد خيرا وشريرا وقد عرفت ذلك ومنهم النظام وأتباعه القائلون بأنه لا يقدر على خلق الجهل والكذب والظلم وسائر القبائح إذ لو كان خلقها مقدورا له لجاز صدوره عنه واللازم باطل لإفضائه إلى السفه إن كان عالما بقبح ذلك وباستغنائه عنه وإلى الجهل إن لم يكن عالما والجواب لا نسلم قبح شيء بالنسبة إليه تعالى كيف وهو تصرف في ملكه ولو سلم فالقدرة عليه لا تنافي امتناع صدوره عنه نظرا إلى وجود الصارف وعدم الداعي وإن كان ممكنا في نفسه ومنهم عباد وأتباعه القائلون بأنه ليس بقادر على ما علم أنه لا يقع لاستحالة وقوعه قال في المحصل وكذا ما علم أنه يقع لوجوبه والجواب أن مثل هذه الاستحالة والوجوب لا تنافي المقدورية ومنهم أبو القاسم البلخي المعروف بالكعبي وأتباعه القائلون بأنه لا يقدر على مثل مقدور العبد حتى لو حرك جوهر إلى حيز وحركه العبد إلى ذلك الحيز لم تتماثل الحركتان وذلك لأن فعل العبد إما عبث أو سفه أو تواضع بخلاف فعل الرب وفي عبارة المحصل بدل التواضع الطاعة وعبارة المواقف إما طاعة أو معصية أوسفه ليست على ما ينبغي لأن السفه وإن جاز أن يجعل شاملا للعبث فلا خفاء في شموله المعصية أيضا والجواب منع
____________________
(2/84)
الحصر ككثير من المصالح الدنيوية فإن قيل المشتمل على المصلحة المحضة أو الراجحة طاعة وتواضع قلنا ممنوع بل إذا كان فيه امتثال وتعظيم للغير ولهذا لا يتصف به فعل الرب وإن اشتمل على المصلحة ولو سلم الحصر فالمقدور في نفسه حركات وسكنات وتلحقه هذه الأحوال والاعتبارات بحسب قصد العبد وداعيته ولست من لوازم الماهية فانتفاؤها لا يمنع التماثل ومنهم الجبائي وأتباعه القائلون بأنه لا يقدر على نفس مقدور العبد لأنه لو صح مقدور بين قادرين لصح مخلوق بين خالقين لأنه يجب وقوعه بكل منهما عند تعلق الإرادة لما سبق من وجوب حصول الفعل عند خلوص القدرة والداعي وقد عرفت امتناع اجتماع المؤثرين على أثر واحد والجواب عندنا منع الملازمة بناء على أن قدرة العبد ليست بمؤثرة وسيجيء إن شاء الله ولو سلم فإنما يتم خلوص الداعي والقدرة لو لم يكن تعلق القدرة أو الإرادة للآخر مانعا ولو سلم فيجوز أن يكون واقعا بهما جميعا لا بكل منهما ليلزم المحال وعند أبي الحسين البصري منع بطلان اللازم فإنا إذا فرضنا التصاق جوهر واحد يكفي إنسانين فجذبه أحدهما حال ما دفعه الآخر فإن الحركة الحاصلة فيه مستندة إلى كل منهما وفيه نظر قال وأما شمول قدرته ما مر من الاختلاف كان في شمول قدرة الله تعالى بمعنى كونه قادرا على كل ممكن سواء تعلق به الإرادة والقدرة فوجد أم لا فلم يوجد أصلا أو وجد بقدرة مخلوق وعلى هذا لا يتأتى اختلافات الفلاسفة ومن يجري مجراهم ممن لا يقول بكونه قادرا مختارا وقد يفسر شمول قدرته بأن كل ما يوجد من الممكنات فهو معلول له بالذات أو بالواسطة وهذا مما لا نزاع فيه لأحد من القائلين بوحدة الواجب تعالى وإنما الخلاف في كيفية الاستناد ووجود الوسائط وتفاصيلها وأن كل ممكن إلى أي ممكن يستند حتى ينتهي إلى الواجب وقد يفسر شمول قدرته بأن ما سوى الذات والصفات من الموجودات واقع بقدرته وإرادته ابتداء بحيث لا مؤثرا سواه وهذا مذهب أهل الحق من المتكلمين وقليل ما هم وتمسكوا بوجوه
الأول النصوص الدالة إجمالا على أنه خالق الكل لا خالق سواه وتفصيلا على أنه خالق السموات والأرض والظلمات والنور والموت والحياة وغير ذلك من الجواهر والأعراض
الثاني دليل التوارد وهو أنه لو وقع شيء بقدرة الغير وقد عرفت أنه مقدور لله تعالى أيضا فلو فرضنا تعلق الإرادتين به معا فوقوعه إما بإحدى القدرتين فيلزم الترجح بلا مرجح وإما بهما فيلزم توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد لأن التقديران كلا منهما مستقل بالإيجاد فلا يجوز أن تكون العلة هي المجموع وهذا بخلاف حركة الجوهر الملتصق يكفي جاذب ودافع فإنه لا دليل على استقلال كل منهما بإيجاد تلك الحركة على الوجه المخصوص نعم يرد عليه أن قدرة الله تعالى أكمل فيقع بها وتضمحل قدرة العبد
الثالث دليل التمانع وهو أنه لو وقع شيء بإيجاد الغير وفرضنا تعلق قدرة الله تعالى وإرادته بضد ذلك الشيء في حال إيجاد الغير ذلك الشيء كحركة
____________________
(2/85)
جسم وسكونه في زمان بعينه فإن وقع الأمر إن جميعا لزم اجتماع الضدين وإن لم يقع شيء منهما لزم عجز الباري تعالى وتخلف المعلول عن تمام العلة وخلو الجسم عن الحركة والسكون وإن وقع أحدهما لزم الترجح بلا مرجح وفيه ما قد عرفت لا يقال معنى كون قدرته أكمل أنها أشمل أي أكثر إيجادا ولا أثر لهذا التفاوت في المقدور المخصوص بل نسبة القدرتين إليه على السواء لأنا نقول بل معناه أنها أقوى وأشد تأثيرا فيترجح على قدرة العبد ويظهر أثرها ( قال وخالفت الفلاسفة ) القول بأنه لا مؤثر في الوجود سوى الله تعالى مذهب البعض من أهل السنة كالأشاعرة ومن يجري مجراهم وخالف فيه أكثر الفرق من المليين وغيرهم فذهبت الفلاسفة إلى أن الصادر عنه بلا واسطة هو العقل الأول وهو مصدر لعقل ونفس وفلك وهكذا يترتب المعلولات مستندا بعضها إلى البعض فالفاعل للأفلاك عقول ولحركاتها نفوس وللحوادث بعض هذه المبادي أو الصور أو القوى بتوسط الحركات ولأفعال المعدنيات صورها النوعية ولأفعال النبات والحيوان نفوسها وبالجملة فأكثر الممكنات عندهم مؤثرات وذهب الصائبون والمنجمون إلى أن كل ما يقع في عالم الكون والفساد من الحوادث والتغيرات مستندة إلى الأفلاك والكواكب بما لها من الأوضاع والحركات والأحوال والاتصالات وغاية متمسكهم في ذلك هو الدوران أعني ترتب هذه الحوادث على هذه الأحوال وجودا وعدما وهو لا يفيد القطع بالعلية لجواز أن تكون شروطا أو معلولات مقارنة أو نحو ذلك كيف وكثيرا ما يظهر التحلف بطريق المعجزات والكرامات كيف ومبنى علومهم على بساطة الأفلاك والكواكب وانتظام حركاتها على نهج واحد وهو ينافي ما ذهبوا إليه من اختلاف أحوال البروج والدرجات وانتسابها إلى الكواكب وغير ذلك من التفاصيل والاختصاصات وبالنظر إلى الدوران زعم الطبيعيون أن حوادث هذا العالم مستندة إلى امتزاج العناصر والقوى والكيفيات الحاصلة بذلك ثم الظاهر أن ما نسب إلى المنجمين والطبيعيون هو مذهب الفلاسفة إلا أنه لما لم يعرف مذهب الفريقين في مبادي الأفلاك والعناصر وإثبات العقول والنفوس وكون الباري موجبا أو مختارا جعل كل منهما فرقة من المخالفين وأما من المسلمين فالمعتزلة أسندوا الشرور والقبائح إلى الشيطان وهو قريب من مذهب القائلين بالنور أو الظلمة وأسندوا الأفعال الاختيارية للإنسان وغيره من الحيوانات إليهم وهو مسألة خلق الأعمال وسيئاتي فإن قيل الفلاسفة والمعتزلة لا يقولون بالقدرة فلا معنى لعدهم من المخالفين في شمولها قلنا المراد بالقدرة ههنا القادرية أي كونه قادرا ولا خلاف للمعتزلة في ذلك وكذا للفلاسفة لكن بمعنى لاينا في الإيجاب على ما قيل إن القادر هو الذي يصح أن يصدر عنه الفعل وأن لا يصدر وهذه الصحة هي القدرة وإنما يترجح أحد الطرفين على الآخر بانضياف وجود الإرادة أو عدمها إلى القدرة وعند اجتماعها يجب حصول
____________________
(2/86)
الفعل وإرادة الله تعالى علم خاص وعلمه وقدرته أزليان غير زائدين على الذات فلهذا كان العالم قديما والصانع موجبا بالذات والحق أن هذا قول بالقدرة والإرادة لفظا لا معنى قال المبحث الثالث في أنه عالم اتفق عليه جمهور العقلاء والمشهور من استدلال المتكلمين وجهان
الأول أنه فاعل فعلا محكما متقنا وكل من كان كذلك فهو عالم أما الكبرى فبالضرورة وينبه عليه أن من رأى خطوطا مليحة أو سمع ألفاظا فصيحة تنبئ عن معان دقيقة وأغراض صحيحة علم قطعا أن فاعلها عالم وأما الصغرى فلما ثبت من أنه خالق للأفلاك والعناصر ولما فيها من الأعراض والجواهر وأنواع المعادن والنبات وأصناف الحيوانات على اتساق وانتظام وإتقان وإحكام تحار فيه العقول والأفهام ولا تفي بتفاصيلها الدفاتر والأقلام على ما يشهد بذلك علم الهيئة وعلم التشريح وعلم الآثار العلوية والسفلية وعلم الحيوان والنبات مع أن الإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلا ولم يجد إلى الكنه سبيلا فكيف إذا رقي إلى عالم الروحانيات من الأرضيات والسمويات وإلى ما يقول به الحكماء من المجردات { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } فإن قيل إن اريد الانتظام والأحكام من كل وجه بمعنى أن هذه الآثار مرتبة ترتيبا لا خلل فيه أصلا وملائمة للمنافع والمصالح المطلوبة منها بحيث لا يتصور ما هو أوفق منه وأصلح فظاهر أنها ليست كذلك بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات وإن أريد في الجملة ومن بعض الوجوه محل آثار المؤثرات من غير العقلاء بل كلها كذلك وأيضا قد أسند جمع من العقلاء الحكماء عجائب خلقة الحيوان وتكون تفاصيل الأعضاء إلى قوة عديمة الشعور سموها المصورة فكيف يصح دعوى كون الكبرى ضرورية قلنا المراد اشتمال الأفعال والآثار على لطائف الصنع وبدائع الترتيب وحسن الملائمة للمنافع والمطابقة للمصالح على وجه الكمال وإن اشتمل بالفرض على نوع من الخلل وجاز أن يكون فوقه ما هو أكمل والحكم بأن مثل ذلك لم يصدر إلا عن العالم ضروري سيما إذا تكرر وتكثر وخفاء الضروري على بعض العقلاء جائز وما يقال لم لا يكفي الظن مدفوع بالتكرر والتكثر وبأنه يكفي في إثبات غرضنا التصور
الثاني أنه قادر أي فاعل بالقصد والاختيار لما مر ولا يتصور ذلك إلا مع العلم بالمقصود فإن قيل قد يصدر عن الحيوانات العجم بالقصد والاختيار أفعال متقنة محكمة في ترتيب مساكنها وتدبير معايشها كما للنحل والعنكبوت وكثير من الوحوش والطيور على ما هو في كتب مسطور وفيما بين الناس مشهور مع أنها ليست من أولى العلم قلنا لو سلم أن موجد هذه الآثار هو هذه الحيوانات فلم لا يجوز أن يكون فيها من العلم قدر ما يهتدي إلى ذلك يخلقها الله تعالى عالمة بذلك
____________________
(2/87)
أو يلهمها هذا العلم حين ذلك الفعل ثم المحققون من المتكلمين على أن طريقة القدرة والاختيار أوكد وأوثق من طريقة الإتقان والأحكام لأن عليها سؤالا صعبا وهو أنه لم لا يجوز أن يوجد الباري موجودا تستند إليه تلك الأفعال المتقنة المحكمة ويكون له العلم والقدرة ودفعه بأن إيجاد مثل ذلك الموجود وإيجاد العلم والقدرة يكون أيضا فعلا محكما بل أحكم فيكون فاعله عالما لا يتم إلا ببيان أنه قادر مختار إذ الإيجاب بالذات من غير قصد لا يدل على العلم فيرجع طريق الإتقان إلى طريق القدرة مع أنه كاف في إثبات المطلوب وقد يتمسك في كونه عالما بالأدلة السمعية من الكتاب والسنة والإجماع ويرد عليه أن التصديق بإرسال الرسل وإنزال الكتب يتوقف على التصديق بالعلم والقدرة فيدور وربما يجاب بمنع التوقف فإنه إذا ثبت صدق الرسل بالمعجزات حصل العلم بكل ما أخبروا به وإن لم يخطر بالبال كون المرسل عالما والظاهر أن هذا مكابرة نعم يتجه ذلك في صفة الكلام على ما صرح به الإمام قال وعند الفلاسفة ورد من استدلالهم على علم الباري وجهان
الأول أنه مجرد أي ليس بجسم ولا جسماني لما مر وكل مجرد عاقل أي عالم بالكليات لما وقعت الإشارة إليه في مباحث المجردات من أن التجرد يستلزم التعقل وبيانه أن التجرد يستلزم إمكان المعقولية لأن المجرد بريء عن الشوائب المادية واللواحق الغريبة وكل ما هو كذلك لا يحتاج إلى عمل يعمل به حتى يصير معقولا فإن لم يعقل كان ذلك من جهة القوة العاقلة لا من جهته وإمكان المعقولية يستلزم إمكان المصاحبة بينه وبين العاقل إياه وهذا الإمكان لا يتوقف على حصول المجرد في جوهر العاقل لأن حصوله فيه نفس المصاحبة فيتوقف إمكان المصاحبة على حصول المجرد فيه توقف إمكان الشيء على وجوده المتأخر عنه وهو محال فإذن المجرد سواء وجد في العقل أو في الخارج يلزمه إمكان مصاحبة المعقول ولا معنى للتعقل إلا المصاحبة فإذن كل مجرد يصح أن يعقل غيره وكل ما يصح للمجرد وجب أن يكون بالفعل لبراءته عن أن يحدث فيه ما هو بالقوة لأن ذلك شأن الماديات ولا خفاء في ضعف بعض هذه المقدمات وفي أنه لو صح أن مصاحبة المجرد للمعقولات في الوجود تعقل لها لكفى ذلك في إثبات المطلوب من غير احتياج إلى سائر المقدمات
الثاني أنه عالم بذاته لأنه لا معنى لتعقل المجرد ذاته سوى حضور ذاته عند ذاته بمعنى عدم غيبته عنه لاستحالة حصول المثال لكونه اجتماعا للمثلين وهذا القدر وإن كان مبنيا على أصولهم كاف في إثبات كونه عالما في الجملة إلا أنهم حاولوا إثبات علمه بما سواه فقالوا هو عالم بذاته الذي هو مبدأ الممكنات لما ذكرنا والعالم بالمبدأ أعني العلة عالم بذي المبدأ أعني المعلول لأن العلم بالشيء يستلزم العلم بلوازمه والعلية وهي لا تعقل بدون المعلول بل المعلول نفسه وما يتبعه من المعلولات كلها من لوازم الذات واعترض بأن لازم الذات وإن كان بلا وسط في الثبوت لا يجب أن يكون لازما بينا يلزم من تعقل
____________________
(2/88)
الذات تعقله كتساوي الزوايا الثلاث للقائمتين للمثلث ولو وجب ذلك لزم من العلم بالشيء العلم بجميع لوازمه القريبة والبعيدة لاستمرار الاندفاع من لازم إلى لازم وأجيب بأن الكلام في العلم التام أعني العلم بالشيء بما له في نفسه ولا شك أن علم الباري بذاته كذلك قال وقيل لا يعلم ذاته القائلون بأنه ليس بعالم أصلا تمسكوا بوجهين
أحدهما أنه لا يصح علمه بذاته ولا بغيره أما الأول فلأن العلم إضافة أو صفة ذات إضافة وأيا ما كان يقتضي إثنينية وتغايرا بين العالم والمعلوم فلا يعقل في الواحد الحقيقي وأما الثاني فلأنه يوجب كثرة في الذات الأحدي من كل وجه لأن العلم بأحد المعلومين غير العلم بالآخر للقطع بجواز العلم بهذا مع الذهول عن الآخر ولأن العلم صورة مساوية للمعلوم مرتسمة في العالم أو نفس الارتسام ولا خفاء في أن صور الأشياء المختلفة مختلفة فيلزم بحسب كثرة المعلومات كثرة الصور في الذات
وثانيهما أن العلم مغاير للذات لما سبق من الأدلة فيكون ممكنا معلوما له ضرورة امتناع احتياج الواجب في صفاته وكمالاته إلى الغير فيلزم كون الشيء قابلا وفاعلا وهو محال وأجيب عن الوجه الأول أولا بعد تسليم لزوم التغاير على تقدير كون العلم صفة ذات إضافة بأن تغاير الاعتبار كاف كما في علمنا بأنفسنا على ما سبق في بحث العلم لا يقال التغاير الاعتباري إنما هو بالعالمية والمعلومية وهو فرع حصول العلم فلو توقف حصول العلم على التغاير لزم الدور وإنما يرد النقض بعلمنا بأنفسنا لو كانت النفس واحدة من كل وجه كالواجب وهو ممنوع فيجوز كونها عالمة من وجه معلومة من وجه لأنا نقول إنما يلزم الدور لو كان توقف العلم على التغاير توقف سبق واحتياج وهو ممنوع بل غايته أنه لا ينفك عن العلم كما لا ينفك المعلول عن علته والمراد بالنقض أن النفس تعلم ذاته التي هي عالمة لا أن يكون العالم شيئا والمعلوم شيئا آخر وثانيا بأن علمه ليس إلا تعلقا بالمعلوم من غير ارتسام صورة في الذات فلا كثرة إلا في التعلقات والإضافات وتحقيقه على ما ذكر بعض المتأخرين أن حصول الأشياء له حصول للفاعل وذلك بالوجوب وحصول الصور المعقولة لنا حصول للقابل وذلك بالإمكان ومع ذلك فلا تستدعي صورا مغايرة لها فإنك تعقل شيئأ بصورة تتصورها أو تستحضرها فهي صادرة عنك بمشاركة ما من غيرك وهو الشيء الخارجي ومع ذلك فإنك لا تعقل تلك الصورة بغيرها بل كما تعقل ذلك الشيء بها كذلك تعقلها أيضا بنفسها من غير أن تتضاعف الصور فيك وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك بهذه الحال فما ظنك بحال من يعقل ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة الغير فيه ثم ليس كونك محلا لتلك الصورة شرطا في التعقل بدليل أنك تعقل ذاتك بدون ذلك بل المعتبر حصول الصورة لك حالة كانت أو غير حالة والمعلولات الذاتية للعاقل الفاعل لذاته حاصلة له من غير حلول فيه فهو عاقل إياها من غير أن تكون حالة فيه على أن كثرة الصفات في الذات لا يمتنع عندنا بل عند الفلاسفة وأتباعهم
____________________
(2/89)
وأجيب عن الثاني بمنع استحالة كون الواحد قابلا وفاعلا قال خاتمة علم الله تعالى غير متناه بمعنى أنه لا ينقطع ولا يصير بحيث لا يتعلق بالمعلوم ومحيط بما هو غير متناه كالأعداد والأشكال ونعيم الجنان وشامل لجميع الموجودات والمعدومات الممكنة والممتنعة وجميع الكليات والجزئيات أما سمعا فلمثل قوله تعالى { والله بكل شيء عليم } { عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال } { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } { يعلم ما تسرون وما تعلنون } إلى غير ذلك وأما عقلا فلأن المقتضي للعالمية هو الذات إما بواسطة المعنى أعني العلم على ما هو رأي الصفاتية أو بدونها على ما هو رأي الثقاة وللمعلومية إمكانها ونسبة الذات إلى الكل على السوية فلو اختصت عالميته بالبعض دون البعض لكان لمخصص وهو محال لامتناع احتياج الواجب في صفاته وكمالاته لمنافاته الوجوب والغنى المطلق والمخالفون في شمول علمه منهم من قال يمتنع علمه بعلمه وإلا لزم اتصافه بما لا يتناهى عدده من العلوم وهو محال لأن كل ما هو موجود بالفعل فهو متناه على ما مر مرارا وجه اللزوم أنه لو كان جائزا لكان حاصلا بالفعل لأنه مقتضى ذاته ولأن الخلو عن العلم الجائز عليه جهل ونقص ولأنه لا يتصف بالحوادث وينقل الكلام إلى العلم بهذا العلم وهكذا إلى ما لا يتناهى لا يقال علمه ذاته ولو سلم فالعلم بالعلم نفس العلم لأنا نقول أما امتناع كون العلم نفس الذات فقد سبق وأما امتناع كون العلم بالعلم نفس العلم فلأن الصورة المساوية لأحد المتغايرين تغاير الصورة المساوية للمغاير الآخر ولأن التعلق بهذا يغاير التعلق بذاك والجواب أن العلم صفة واحدة لها تعلقات هي اعتبارات عقلية لا موجودات عينية ليلزم المحال ولا يلزم من كونه اعتبارا عقليا أن لا تكون الذات عالما والشيء معلوما في الواقع لما عرفت من أن انتفاء مبدأ المحمول لا يوجب انتفاء الحمل على أن مغايرة العلم بالشيء للعلم بالعلم إنما هي بحسب الاعتبار فلا يلزم كثرة الأعيان الخارجية فضلا عن لاتناهيها وبهذا يندفع الاستدلال بهذا الإشكال على نفي علمه بذاته بل بشيء من المعلومات وأجاب الإمام بأن هذه أمور غير متناهية لا آخر لها والبرهان إنما قام على مالا أول لها ومنهم من قال لا يجوز علمه بما لا يتناهى أما أولا فلأن كل معلوم يجب كونه ممتازا وهو ظاهر ولا شيء من غير المتناهي بممتاز لأن المتميز عن الشيء منفصل عنه محدود بالضرورة وأما ثانيا فلأنه يلزم صفات غير متناهية هي العلوم لما عرفت من تعدد العلوم بتعدد المعلومات والجواب عن الأول أنا لانم أن كل متميز عن غيره يجب أن يكون متناهيا وأن انفصاله عن الغير يقتضي ذلك كيف ولا معنى للانفصال عن الغير إلا مغايرته له وعن الثاني ما سبق وأجاب الإمام عن الأول بأن المتميز كل واحد منها وهو متناه واعترض بأنه إذا كان غير المتناهي معلوما يجب أن يكون متميزا ولا يفيده تميز كل فرد والجواب أنه لا معنى للعلم بغير المتناهي إلا العلم بآحاده وبهذا يندفع الإشكال على معلومية الكل أي جميع
____________________
(2/90)
الموجودات والمعدومات بأنه لا شيء بعد الجميع يعقل تميزه عنه وقد يجاب بأن تميز المعلوم إنما هو عند ملاحظة الغير والشعور به فحيث لا غير لا يلزم التميز ولو سلم فيكفي التميز عن الغير الذي هو كل واحد من الآحاد ومنهم من قال يمتنع علمه بالمعدوم لأن كل معلوم متميز ولا شيء من المعلوم بمتميز والجواب منع الصغرى أما إن أريد التميز بحسب الخارج والكبرى إن أريد بحسب الذهن ومن المخالفين من لم يجوز علمه بذاته ومنهم من لم يجوز علمه بغيره تمسكا بالشبهة المذكورة لنفي العلم مطلقا قال والفلاسفة في العلم بالجزئيات المشهور من مذهبهم أنه يمتنع علمه بالجزئيات على وجه كونها جزئيات أي من حيث كونها زمانية يلحقها التغير لأن تغير المعلوم يستلزم تغير العلم وهو على الله محال في ذاته وصفاته وأما من حيث أنها غير متعلقة بزمان فتعقلها تعقل بوجه كلي لا يلحقه التغير فالله يعلم جميع الحوادث الجزئية وأزمنتها الواقعة هي فيها لا من حيث أن بعضها واقع الآن وبعضها في الزمان الماضي وبعضها في الزمان المستقبل ليلزم تغيره بحسب تغير الماضي والحال والمستقبل بل علما ثابتا أبدا لدهر غير داخل تحت الأزمنة مثلا يعلم أن القمر يتحرك كل يوم كذا درجة والشمس كذا درجة فيعلم أنه يحصل لهما مقابلة يوم كذا وينخسف القمر في أول الحمل مثلا وهذا العلم ثابت له حال المقابلة وقبلها أو بعدها ليس في علمه كان وكائن ويكون بل هي حاضرة عنده في أوقاتها أزلا وأبدا وإنما التعلق بالأزمنة في علومنا والحاصل أن تعلق العلم بالشيء الزماني المتغير لا يلزم أن يكون زمانيا ليلزم تغيره وقال الإمام أن اللائق بأصولهم أن الجزئي إن كان متغيرا أو متشكلا يمتنع أن يتعلق به علم الواجب لما يلزم في الأول من تغير العلم وفي الثاني من الافتقار إلى الآلة الجسمانية وذلك كالأجرام الفلكية فإنها متشكلة وإن لم تكن متغيرة في ذواتها وكالصور والأعراض فإنها متغيرة وكالأجرام الكائنة الفاسدة فإنها متغيرة ومتشكلة وأما ما ليس بمتغير ولا متشكل كذات الواجب وذوات المجردات فلا يستحيل بل يجب العلم به على ما يقرره الحكماء من أنه عالم بذاته الذي هو مبدأ للعقل الأول بالذات ولا شك أن كلا منهما جزئي والعمدة في احتجاج الفلاسفة أنه لو علم أن زيدا يدخل الدار غدا فإذا دخل زيد الدار في الغد فإن بقي العلم بحاله بمعنى أنه يعلم أن زيدا يدخل غدا فهو جهل لكونه غير مطابق للواقع وإن زال وحصل العلم بأنه دخل لزم تغير العلم الأول من الوجود إلى العدم والثاني من العدم إلى الوجود وهذا على القديم محال لا يقال كما أن الاعتقاد الغير المطابق جهل فكذا الخلو عن الاعتقاد المطابق بما هو واقع لأنا نقول لو سلم فإذا لم يعلمه على وجه كلي والجواب أن من الجزئيات مالا يتغير كذات الباري وصفاته الحقيقية عند من يثبتها وكذوات العقول فلا يتناولها الدليل وتخصيص
____________________
(2/91)
الحكم بالبعض على ما يشير إليه كلام الإمام إنما يصح في القواعد الشرعية دون العقلية ولما أمكن التفصي عن هذا بأنه يجوز أن يكون المدعي العام وهو أنه لا يعلم شيئا من المتغيرات أو إن بينوا الامتناع في الجزئيات المتغيرة بهذا الدليل وفي غير المتغيرة بدليل آخر أو أن يقصدوا إبطال كلام الخصم وهو أنه عالم بجميع الجزئيات على وجه الجزئية اقتصر الجمهور في الجواب على منع الملازمة مستندا بأن العلم إما إضافة أو صفة ذات إضافة وتغير الإضافة لا يوجب تغير المضاف كالقديم يتصف بأنه قبل الحادث إذا لم يوجد الحادث ومعه إذا وجد وبعده إذا فني من غير تغير في ذات القديم فعلى تقدير كون العلم إضافة لا يلزم من تغير المعلوم إلا تغير العلم دون الذات وعلى تقدير كونه صفة ذات إضافة لا يلزم تغير العلم فضلا عن الذات وأجاب كثير من المعتزلة وأهل السنة بأن علم الله تعالى بأن الشيء سيحدث هو نفس علمه بأنه حدث للقطع بأن من علم أن زيدا يدخل الدار غدا واستمر على هذا العلم إلى مضي الغد علم بهذا العلم أنه دخل الدار من غير افتقار إلى علم مستأنف فعلى هذا لا تغير في العالمية التي تثبتها المعتزلة والعلم الذي تثبته الصفاتية وهذا بخلاف علم المخلوق فإنه لا يستمر ومرجع هذا الجواب إلى ما سبق من كون العلم أو العالمية غير الإضافة إذ لا شبهة في تغير الإضافة بتغير المضاف إليه ولهذا أوضحوا هذا المدعى بأن العلم لو تغير بتغيرالمعلوم لتكثر بتكثرة ضرورة فيلزم كثرة الصفات بل لاتناهيها بحسب لاتناهي المعلومات وبأن العلم صفة تتجلى بها المعلومات بمنزلة مرآة تنكشف بها الصور فلا يتغير بتغير المعلوم كما لا تتغير المرآة بتغير الصورة وبأنه صفة تعرض لها إضافات وتعلقات بمنزلة إنسان جلس زيد عن يساره ثم قام فجلس عن يمينه فإنه يصير متيامنا لزيد بعدما كان متياسرا له من غير تغير فيه أصلا فظاهر أن هذا لا يتم على القول بكون العلم تعلقا بين العالم والمعلوم على ما يراه جمهور المعتزلة فلهذا رده أبو الحسين البصري بوجوه
أحدها القطع بأن من علم أن زيدا يدخل البلد غدا وجلس مستمرا على هذا الاعتقاد إلى الغد في بيت مظلم بحيث لم يعلم دخول الغد فإنه لا يصير عالما بدخول زيد ولو كان العلم بأنه سيدخل نفس العلم بأنه دخل لوجب أن يحصل هذا العلم في هذه الصورة فإذا لم يحصل لم يكن بل الحق أن العلم بأنه دخل علم ثالث متولد من العلم بأنه سيدخل غدا ومن العلم بوجود الغد
وثانيها أن متعلق العلم الأول أنه سيدخل وشرطه عدم الدخول ومتعلق العلم الثاني أنه دخل وشرطه تحقق الدخول فلا خفاء في أن الإضافة إلى أحد المختلفين أو الصورة المطابقة له تغاير الإضافة إلى الآخر أو الصورة المطابقة له وكذا المشروط بأحد المتنافيين يغاير المشروط بالآخر
وثالثها أن كلا من العلمين قد يحصل بدون الآخر كما إذا علم أن زيدا سيقدم البتة لكن عند قدومه لم يعلم أنه قدم وكما إذا علم أنه قدم من غير سابقة علم أنه سيقدم والحق أن العلمين متغايران وأن التغاير في الإضافة أو العالمية
____________________
(2/92)
لا يقدح في قدم الذات ومن المعتزلة من سلم تغاير العلمين ومنع تغيرهما وقال تعلق عالمية الباري بعدم دخول زيد يوم الجمعة وبدخوله يوم السبت تعلقان مختلفان أزليان لا يتغيران أصلا فإنه في يوم الجمعة يعلم دخوله في السبت وفي السبت يعلم عدم دخوله في الجمعة غاية الأمر أنه يمكن التعبير عن العدم في الحال والوجود في الاستقبال بسيوجد وبعد الوجود لا يمكن وهذا تفاوت وضعي لا يقدح في الحقائق وكذا عالميته بعدم العالم في الأزل لا يتغير بوجود العالم فيما لا يزال فإن قيل الكلام في العلم التصديقي ولا خفاء في أن تعلق عالميته لهذه النسبة وهو أنه يحصل له الدخول يوم السبت وللعالم الوجود فيما لا يزال ولو بقي يوم السبت وفيما لا يزال كان جهلا لانتفاء متعلقه الذي هو النسبة الاستقبالية أجيب بالمنع فإن ذلك التعلق حال عدمه بأنه سيوجد وهذه النسبة بحالها وإنما الجهل هو أن يحصل التعلق حال وجوده بأنه سيوجد وهو غير التعلق الثاني والحاصل أن التعلق بالعدم في حالة معينة والوجود في حالة أخرى باق أزلا وأبدا لا ينقلب جهلا أصلا فقد علم الباري تعالى في الأزل عدم العالم في الأزل ووجوده فيما لا يزال وفناءه بعد ذلك ويوم القيامة ايضا بعلمه كذلك من غير تغير أصلا وهذا الكلام يدفع اعتراض الإمام بأن الباري تعالى إذا أوجد العالم وعلم أنه موجود في الحال فإما أن يبقى علمه في الأزل بأنه معدوم في الحال فيلزم الجهل والجمع بين الاعتقادين المتنافيين وإما أن يزول فيلزم زوال القديم وقد تقرر أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ( قال والتزم ) يعني ذهب أبو الحسين إلى أن علم الباري الجزئيات يتغير بتغيرها ويحدث بعد وقوعها ولا يقدح ذلك في قدم الذات كما هو مذهب جهم بن صفوان وهشام بن الحكم من القدماء وهو أنه في الأزل إنما يعلم الماهيات والحقائق وأما التصديقات أعني الأحكام بأن هذا قد وجد وذاك قد عدم فإنما يحدث فيما لا يزال وكذا تصور الجزئيات الحادثة وبالجملة فذاته توجب العلم بالشيء بشرط وجوده فلا يحصل قبل وجوده ولا يبقى بعد فنائه ولا امتناع في اتصاف الذات بعلوم حادثة هي تعلقات وإضافات ولا في حدوثها مع كونها مستندة إلى القديم بطريق الإيجاب دون الاختيار لكونها مشروطة بشروط حادثة وأما اعتراض الإمام بأن كل صفة تعرض للواجب فذات الواجب إما أن تكفي في ثبوتها أو انتفائها فيلزم دوام ثبوتها أو انتفائها بدوام الذات من غير تغير وإما أن لا تكفي فيتوقف ثبوتها أو انتفاؤها على أمر منفصل والذات لا تنفك عن ثبوت تلك الصفة وانتفائها الموقوف على ذلك الأمر فيلزم توقف الذات عليه لأن الموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء فيلزم إمكان الواجب لأن الموقوف على الممكن أولى بأن يكون ممكنا ففي غاية الضعف لأن مالا ينفك عن الشيء لا يلزم أن يكون متوقفا عليه كما في وجود زيد مع وجود عمرو أو عدمه إلى غير ذلك مما لا يحصى وقد يستدل على علمه بالجزئيات بأن الخلو عنه جهل
____________________
(2/93)
ونقص وبأن كل أحد من المطيع والعاصي يلجأ إليه في كشف الملمات ودفع البليات ولولا أنه مما لا تشهد به فطرة جميع العقلاء لما كان كذلك وبأن الجزئيات مستندة إلى الله تعالى ابتداء أو بواسطة وقد اتفق الحكماء على أنه عالم بذاته وأن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول قال المبحث الرابع اتفق المتكلمون والحكماء وجميع الفرق على إطلاق القول بأنه مريد وشاع ذلك في كلام الله تعالى وكلام الأنبياء عليهم السلام ودل عليه ما ثبت من كونه تعالى فاعلا بالاختيار لأن معناه القصد والإرادة مع ملاحظة ما للطرف الآخر فكان المختار ينظر إلى الطرفين ويميل إلى أحدهما والمريد ينظر إلى الطرف الذي يريده لكن أكثر الخلاف في معنى إرادته فعندنا صفة قديمة زائدة على الذات قائمة به على ما هو شأن سائر الصفات الحقيقية وعند الجبائية صفة زائدة قائمة لا بمحل وعند الكرامية صفة حادثة قائمة بالذات وعند ضرار نفس الذات وعند النجار صفة سلبية هي كون الفاعل ليس بمكره ولا ساه وعند الفلاسفة العلم بالنظام الأكمل وعند الكعبي إرادته لفعله تعالى العلم به ولفعل غيره الأمر به وعند المحققين من المعتزلة هي العلم بما في الفعل من المصلحة تمسك أصحابنا بأن تخصيص بعض الأضداد بالوقوع دون البعض وفي بعض الأوقات دون البعض مع استواء نسبة الذات إلى الكل لا بد أن يكون لصفة شأنها التخصيص لامتناع التخصيص بلا مخصص وامتناع احتياج الواجب في فاعليته إلى أمر منفصل وتلك الصفة هي المسماة بالإرادة وهو معنى واضح عند العقل مغاير للعلم والقدرة وسائر الصفات شأنه التخصيص والترجيح لأحد طرفي المقدور من الفعل والترك على الآخر وينبه على مغايرتها للقدرة أن نسبة القدرة إلى الطرفين على السواء بخلافها وللعلم أن مطلق العلم نسبته إلى الكل على السواء والعلم بما فيه من المصلحة أو بأنه سيوجد في وقت كذا سابق على الإرادة والعلم بوقوعه تابع للوقوع المتأخر عنها وفيه نظر إذ قد لا يسلم الخصم سبق العلم بأنه يوجده في وقت كذا على إرادته ذلك ولا تأخر علمه بوقوعه حالا عن إرادته الوقوع حالا وما يقال أن العلم تابع للوقوع فمعناه أنه يعلم الشيء كما يقع وأن المعلوم هو الأصل في التطابق لأنه مثال وصورة له لا بمعنى تأخره عنه في الخارج البتة والحق أن مغايرة الحالة التي تسميها بالإرادة للعلم والقدرة وسائر الصفات ضرورية ثم قد تبين قدمها وزيادتها على الذات بمثل ما مر في العلم والقدرة وقد يورد ههنا إشكالات
الأول أن نسبة الإرادة أيضا إلى الفعل والترك وإلى جميع الأوقات على السواء إذ لو لم يجز تعلقها بالطرف الآخر وفي الوقت الآخر لزم نفي القدرة والاختيار وإذا كانت على السواء فتعلقها بالفعل دون الترك وفي هذا الوقت دون غيره يفتقر إلى مرجح ومخصص لامتناع وقوع الممكن بلا مرجح كما ذكرتم ويلزم تسلسل الإرادات والجواب أنها إنما تتعلق بالمراد لذاتها من غير افتقار إلى مرجح آخر لأنها صفة
____________________
(2/94)
شأنها التخصيص والتترجيح ولو للمساوي بل المرجوح وليس هذا من وجود الممكن بلا موجد وترجحه بلا مرجح في شيء فإن قيل فمع تعلق الإرادة لا يبقى التمكن من الترك وينتفي الاختيار قلنا قد مر غير مرة أن الوجوب بالاختيار محض الاختيار
الثاني أن الإرادة لا تبقى بعد الإيجاد ضرورة فيلزم زوال القديم وهو محال والجواب أنها صفة قد تتعلق بالفعل وقد تتعلق بالترك فتخصص بما تعلقت به وترجحه وعند وقوع المراد يزول تعلقها الحادث وبهذا يندفع ما يقال أنها لا تكون بدون المراد فيلزم من قدمها قدم المراد فيلزم قدم العالم على أن قدم المراد لا يوجب قدم العالم لأن معناه أن يريد الله تعالى في الأزل إيجاد العالم وإحداثه في وقته ويشكل بإيجاد الزمان إلا أن يجعل أمرا مقدرا لا تحقق له في الأعيان فإن قيل نحن نردد في الأثر الذي هو المراد كالعالم مثلا بأنه إما لازم للإرادة فيلزم قدمه أو لا فيكون مع الإرادة جائز الوجود والعدم فلا تكون الإرادة مرجحة قلنا هو جائز الوجود والعدم بالنظر إلى نفس الإرادة وإما مع تعلقها بالوجود فالوجود مترجح بل لازم وقد تمنع استحالة زوال القديم وهو مدفوع بما سبق من البرهان والاستناد بأنه يعلم في الأزل أن العالم معدوم سيوجد وبعد الإيجاد لا يبقى ذلك التعلق الأزلي مدفوع بما عرفت في المبحث السابق
الثالث أن متعلق إرادته إما أن يكون أولى فيلزم استكماله بالغير أو لا فيلزم العبث والجواب ما مر في بحث قدرته قال وحدوثها يشير إلى نفي مذاهب المبطلين فمنها قول الكرامية أن إرادة الله تعالى حادثة قائمة بذاته وهو فاسد لما مر من استحالة قيام الحوادث بذات الله تعالى ولأن صدور الحادث عن الواجب لا يكون إلا بالاختيار فيتوقف على الإرادة فيلزم الدور أو التسلسل فإن قيل استناد الصفات إلى الذات إنما هو بطريق الإيجاب دون الاختيار فلم لا يجوز أن يكون البعض منها موقوفا على شرط حادث فيكون حادثا قلنا لما يلزم من تعاقب حوادث لا بداية لها وقد بينا استحالته ولأن تلك الشروط إما صفات للباري فيلزم حدوثه لأن ما لا يخلو عن الحادث حادث أو لا فيلزم افتقاره في صفاته وكمالاته إلى الغير ومنها قول أكثر معتزلة البصرة أن إرادته حادثة قائمة بنفسها لا بمحل وبطلانه ضروري فإن ما يقوم بنفسه لا يكون صفة وهذا أولى من أن يقال أن العرض لا يقوم إلا بمحل للإطباق على أن صفات الباري ليست من قبيل الأعراض وفي كلام بعض المعتزلة أن العرض نفسه ليس بضروري بل استدلالي فكيف حكمه الذي هو استحالة قيامه بنفسه وفساده بين ومنها قول الحكماء أن إرادة الله تعالى ويسمونها العناية بالمخلوقات هو تمثل نظام جميع الموجودات من الأزل إلى الأبد في علمه السابق على هذه الموجودات مع الأوقات المترتبة غير المتناهية التي يجب ويليق
____________________
(2/95)
أن يقع كل موجود منها في واحد من تلك الأوقات قالوا وهذا هو المقتضي لإفاضة ذلك النظام على ذلك الترتيب والتفصيل إذ لا يجوز أن يكون صدوره عن الواجب وعن العقول المجردة بقصد وإرادة ولا بحسب طبيعة ولا على سبيل الاتفاق والجزاف لأن العلل العالية لا تفعل لغرض في الأمور السافلة فقد صرحوا في إثبات هذه العناية بنفي ما نسميه الإرادة وقد عرفت مرادهم بإحاطة علم الله تعالى بالكل وأنها ليست إلا وجود الكل ومنها قول النجار من المعتزلة أن إرادة الله تعالى كونه غير مكره ولا ساه وقول الكعبي وكثير من معتزلة بغداد أن إرادته لفعله هو علمه به أو كونه غير مكره ولا ساه ولفعل غيره هو الأمر به حتى أن مالا يكون مأمورا به لا يكون مرادا له ولا خفاء في أن هذا موافقة للفلاسفة في نفي كون الواجب تعالى مريدا أي فاعلا على سبيل القصد والاختيار ومخالفة للنصوص الدالة على أن إرادته تتعلق بشيء دون شيء وفي وقت دون وقت وأنه قد أمر العباد بما لم يشأه منهم قال الله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } إلى غير ذلك مما لا يحصى ولا فرق بين المشيئة والإرادة إلا عند الكرامية حيث جعلوا المشيئة صفة واحدة أزلية تتناول ما يشاء الله بها من حيث تحدث والإرادة حادثة متعددة بعدد المرادات وأما الاعتراض على قول النجار بأنه يوجب كون الجماد مريدا فليس بشيء لأنه إنما يفسر بذلك إرادة الله تعالى وذهب كثير من المعتزلة إلى أن الإرادة ليست سوى الداعي إلى الفعل وهو اختيار ركن الدين الخوارزمي في الشاهد والغائب جميعا وأبي الحسين البصري في الغائب خاصة قالوا وهو العلم أو الاعتقاد أو الظن باشتمال الفعل أو الترك على المصلحة ولما امتنع في حق الباري تعالى الظن والاعتقاد كان الداعي في حقه تعالى هو العلم بالمصلحة واحتجوا بأن الإرادة فعل المريد قطعا واتفاقا يقال فلان يريد هذا ويكره ذاك ولهذا يمدح بها ويذم ويثاب عليها ويعاقب قال الله تعالى يريد ثواب الدنيا { والله يريد الآخرة } وقال تعالى { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } فهذا الفعل لو كان غير الداعي لكان للفاعل شعور به ضرورة أن الفاعل هو المؤثر في الشيء بالقصد والاختيار وذلك لا يكون إلا بعد الشعور به لكن اللازم باطل لأنا لا نشعر عند الفعل أو الترك بمرجح سوى الداعي الخالص أو المترجح على الصارف والجواب أنه إن أريد بكونها فعلا للمريد مجرد استنادها إليه كما في قولنا فلان يقدر على كذا ويعجز عن كذا فهذا لا يقتضي كونه أثرا صادرا عنه بالقصد والاختيار ليلزم الشعور به وإن أريد أنه أثر له بطريق القصد والاختيار فممنوع ولا يبعد دعوى الاتفاق على نقيض ذلك كيف ولو كانت كذلك لاحتاجت إلى إرادة أخرى وتسلسلت ثم ترتب الثواب والعقاب على الإرادة إنما هو باعتبار ما يلزمها من الأفعال أو تحصيل الدواعي أو نفي الصوارف
____________________
(2/96)
أو نحو ذلك مما للقصد فيه مدخل وأما المدح والذم على الشيء فلا يقتضيان كونه فعلا اختياريا وهو ظاهر ثم لا نسلم أنه لا شعور لنا بمرجح سوى الداعي بمعنى اعتقاد المصلحة والمنفعة بل نجد من أنفسنا حالة ميلانية منبعثة عن الداعي أو غير منبعثة هي السبب القريب في الترجيح والتخصيص فدعوى كون الإرادة مغايرة للداعي أجدر بأن يكون ضرورية ثم أورد بطريق المعارضة أن الإرادة لو كانت هي الشعور بما في الفعل أو الترك من المصلحة لما وقع الفعل الاختياري بدونه ضرورة واللازم باطل لأن العطشان يشرب أحد القدحين والهارب يسلك أحد الطريقين من غير شعور بمصلحة راجحة في فعل هذا وترك ذاك عند فرض التساوي في نظر العقل وبالجملة فيكون مسمى لفظ الإرادة مغايرا للشعور بالمصلحة في الفعل أو الترك مما لا ينبغي أن يخفى على العاقل العارف بالمعاني والأوضاع نعم لو ادعي في حق الباري تعالى انتفاء مثل هذه الحالة الميلانية والاقتصار على العلم بالمصلحة فذلك بحث آخر ( قال خاتمة ) مذهب أهل الحق أن كل ما أراد الله تعالى فهو كائن وأن كل كائن فهو مراد له وإن لم يكن مرضيا ولا مأمورا به بل منهيا وهذا ما اشتهر من السلف أن ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن وخالفت المعتزلة في الأصلين ذهابا إلى أنه يريد من الكفار والعصاة الإيمان والطاعة ولا يقع مراده ويقع منهم الكفر والمعاصي ولا يريدها وكذا جميع ما يقع في العالم من الشرور والقبائح وأخرنا الكلام في ذلك إلى بحث الأفعال لما له من زيادة التعلق بمسألة خلق الأعمال ( قال المبحث الخامس ) قد علم بالضرورة من الدين وثبت في الكتاب والسنة بحيث لا يمكن إنكاره ولا تأويله أن الباري تعالى حي سميع بصير وانعقد إجماع أهل الأديان بل جميع العقلاء على ذلك وقد يستدل على الحياة بأنه عالم قادر لما مر وكل عالم قادر حي بالضرورة وعلى السمع والبصر بأن كل حي يصح كونه سميعا بصيرا وكل ما يصح للواجب من الكمالات يثبت بالفعل لبراءته عن أن يكون له ذلك بالقوة والإمكان وعلى الكل بأنها صفات كمال قطعا والخلو عن صفة الكمال في حق من يصح اتصافه بها نقص وهو على الله تعالى محال لما مر وهذا التقرير لا يحتاج إلى بيان أن الممات والصمم والعمى أضداد للحياة والسمع والبصر لا إعدام ملكات وأن من يصح اتصافه بصفة لا يخلو عنها وعن ضدها لكن لا بد من بيان أن الحياة في الغائب أيضا تقتضي صحة السمع والبصر وغاية متشبثهم في ذلك على ما ذكره إمام الحرمين طريق السير والتقسيم فإن الجماد لا يتصف بقبول السمع والبصر وإذا صار حيا يتصف به إن لم يقم به آفات ثم إذا سيرنا صفات الحي لم نجد ما يصحح قبوله للسمع والبصر سوى كونه حيا ولزم القضاء بمثل ذلك في حق الباري تعالى وأوضح من هذا ما أشار إليه الإمام حجة الإسلام أنه لا خفاء في أن المتصف بهذه الصفات أكمل ممن لا يتصف بها فلو لم يتصف الباري بها لزم أن يكون الإنسان بل غيره من الحيوانات أكمل منه وهو باطل قطعا ولا يرد
____________________
(2/97)
عليه النقض بمثل الماشي والحسن الوجه لأن استحالته في حق الباري تعالى مما يعلم قطعا بخلاف السمع والبصر والغرض من تكثير وجوه الاستدلال في أمثل هذه المقامات زيادة التوثيق والتحقيق وأن الأذهان متفاوتة في القبول والإذعان ربما يحصل للبعض منها الاطمئنان ببعض الوجوه دون البعض أو باجتماع الكل أو عدة منها مع ما في كل واحد من محال المناقشة وأما الاعتراض بأنه لا سبيل إلى استحالة النقص والآفة على الباري تعالى سوى الإجماع المستند حجيته إلى الأدلة السمعية ولا خفاء في ثبوت الإجماع وقيام الأدلة السمعية القطعية على كونه تعالى حيا سميعا بصيرا فأي حاجة إلى سائر المقدمات التي ربما يناقش فيها فجوابه المنع إذ ربما يجزم بذلك من لا يلاحظ الإجماع عليه أو لا يراه حجة أصلا أو يعتقد أنه لا يصح في مثل هذا المطلوب التمسك به وبسائر الأدلة السمعية لكون إنزال الكتب وإرسال الرسل فرع كون الباري حيا سميعا بصيرا وبالجملة لما ثبت كونه حيا سميعا بصيرا ثبت على قاعدة أصحابنا له صفات قديمة هي الحياة والسمع والبصر على ما بينا في العلم والقدرة فإن قيل لو كان السمع والبصر قديمين لزم كون المسموع والمبصر كذلك لامتناع السمع بدون المسموع والإبصار بدون المبصر قلنا ممنوع لجواز أن يكون كل منهما صفة قديمة له تعلقات حادثة كالعلم والقدرة ويمكن أن يجعل هذا شبهة من قبل المخالف بأنه لو كان سميعا بصيرا فإما أن يكون السمع والبصر قديمين فيلزم قدم المسموع والمبصر أو حادثين فيلزم كونه محلا للحوادث وشبهة أخرى وهي أنه لو كان حيا سميعا بصيرا لكان جسما واللازم باطل وجه اللزوم أن الحياة اعتدال نوعي للمزاج الحيواني على ما سبق أو صفة تتبعها مقتضية للحس والحركة الإرادية وقد عرفت أن المزاج من الكيفيات الجسمية وأن السمع والبصر وسائر الإحساسات تأثر للحواس عن المحسوسات أو حالة إدراكية تتبعه وليست الحواس الأقوى جسمانية والجواب أنا لا نسلم كون الحياة والسمع والبصر عبارة عما ذكرتم أو مشروطة به في الشاهد فضلا عن الغائب غاية الأمر أنها في الشاهد تقارن ما ذكرتم ولا حجة على الاشتراك وقد تكلمنا على ذلك فيما سبق ( قال وعلى ما نقل ) المشهور من مذهب الأشاعرة أن كلا من السمع والبصر صفة مغايرة للعلم إلا أن ذلك ليس بلازم على قاعدة الشيخ أبي الحسن في الإحساس من أنه علم بالمحسوس على ما سبق ذكره لجواز أن يكون مرجعهما إلى صفة العلم ويكون السمع علما بالمسموعات والبصر علما بالمبصرات فإن قيل هذا إنما يتم لو كان الكل نوعا واحدا من العلم لا أنواعا مختلفة على ما مر في بحث العلم قلنا يجوز أن يكون له صفة واحدة هي العلم لها تعلقات مختلفة هي الأنواع المختلفة بأن تتعلق بالمبصرات مثلا تارة بحيث تحصل حالة إدراكية تناسب تعقلنا إياه وتارة بحيث تحصل حالة إدراكية تناسب إبصارنا إياه قال وعند الفلاسفة على هذا لا يلزم ثبوت صفة زائدة فضلا عن تعددها وإلى هذا ذهب الكعبي وجماعة من معتزلة بغداد والأكثرون
____________________
(2/98)
على أن كونه سميعا بصيرا غير كونه عالما واتفق كلهم على نفي الصفة الزائدة على الذات قال خاتمة قال إمام الحرمين رحمه الله الصحيح المقطوع به عندنا وجوب وصف الباري تعالى بأحكام الإدراكات الأخر أعني الإدراك المتعلق بالطعوم والمتعلق بالروائح والمتعلق بالحرارة والبرودة واللين والخشونة إذ كل إدراك يعقبه ضد هو آفة فما دل على وجوب وصفه بحكم السمع والبصر دل على وجوب وصفه بأحكام الإدراكات ثم يتقدس الباري تعالى عن كونه شاما ذائقا لامسا فإن هذه الصفات تنبئ عن الاتصالات يتعالى الرب عنها مع أنها لا تنبئ عن حقائق الإدراكات فإنك تقول شممت تفاحة فلم أدرك ريحها وكذلك اللمس والذوق قال المبحث السادس في أنه متكلم تواتر القول بذلك عن الأنبياء وقد ثبت صدقهم بدلالة المعجزات من غير توقف على إخبار الله تعالى عن صدقهم بطريق التكلم ليلزم الدور وقد يستدل على ذلك بدليل عقلي على قياس ما مر في السمع والبصر وهو أن عدم التكلم ممن يصح اتصافه بالكلام أعني الحي العالم القادر نقص واتصاف بأضداد الكلام وهو على الله تعالى محال وإن نوقش في كونه نقصا سيما إذا كان مع قدرة على الكلام كما في السكوت فلا خفاء في أن المتكلم أكمل من غيره ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق والاعتراض والجواب ههنا كما مر في السمع والبصر وبالجملة لا خلاف لأرباب الملل والمذاهب في كون الباري تعالى متكلما وإنما الخلاف في معنى كلامه وفي قدمه وحدوثه فعند أهل الحق كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف بل صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى منافية للسكوت والآفة كما في الخرس والطفولية هو بها آمر ناه مخبر وغير ذلك يدل عليها بالعبارة أو الكتابة أو الإشارة فإذا عبر عنها بالعربية فقرآن وباليونانية فإنجيل وبالعبرانية فتوراة وبالسريانية فزبور فالاختلاف في العبارات دون المسمى كما إذا ذكر الله تعالى بألسنة متعددة ولغات مختلفة وخالفنا في ذلك جميع الفرق وزعموا أنه لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدال على المعاني المقصودة وأن الكلام النفسي غير معقول ثم قالت الحنابلة والخشوية أن تلك الأصوات والحروف مع تواليها وترتب بعضها على البعض ويكون الحرف الثاني من كل كلمة مسبوقا بالحرف المتقدم عليه كانت ثابتة في الأزل قائمة بذات الباري تعالى وتقدس وأن المسموع من أصوات القراء والمرئي من أسطر الكتاب نفس كلام الله تعالى القديم وكفى شاهدا على جهلهم ما نقل عن بعضهم أن الجلدة والغلاف أزليان وعن بعضهم أن الجسم الذي كتب به الفرقان فانتظم حروفا ورقوما هو بعينه كلام الله تعالى وقد صار قديما بعدما كان حادثا ولما رأت الكرامية أن بعض الشر أهون من البعض وأن مخالفة الضرورة أشنع من مخالفة الدليل ذهبوا إلى أن المنتظم من الحروف المسموعة مع حدوثه قائم بذات الله تعالى وأنه قول الله تعالى لا كلامه وإنما كلامه قدرته على التكلم وهو قديم وقوله حادث لا محدث وفرقوا بينهما بأن كل ما له
____________________
(2/99)
ابتداء إن كان قائما بالذات فهو حادث بالقدرة غير محدث وإن كان مباينا للذات فهو محدث بقوله كن لا بالقدرة والمعتزلة لما قطعوا بأنه المنتظم من الحروف وأنه حادث والحادث لا يقوم بذات الله تعالى ذهبوا إلى أن معنى كونه متكلما أنه خلق الكلام في بعض الأجسام واحترز بعضهم من إطلاق لفظ المخلوق عليه لما فيه من إيهام الخلق والافتراء وجوزه الجمهور ثم المختار عندهم وهو مذهب ابن هاشم ومن تبعه من المتأخرين أنه من جنس الأصوات والحروف ولا يحتمل البقاء حتى إن ما خلق مرقوما في اللوح المحفوظ أو كتب في المصحف لا يكون قرآنا وإنما القرآن ما قرأه القاريء وخلقه الباري من الأصوات المنقطعة والحروف المنتظمة وذهب الجبائي إلى أنه من جنس غير الحروف يسمع عند سماع الأصوات ويوجد بنظم الحروف وبكتابتها ويبقى عند المكتوب والحفظ ويقوم باللوح المحفوظ وبكل مصحف وكل لسان ومع هذا فهو واحد لا يزداد بازدياد المصاحف ولا ينتقص بنقصانها ولا يبطل ببطلانها والحاصل أنه انتظم من المقدمات القطعية والمشهورة قياسان ينتج أحدهما قدم كلام الله تعالى وهو أنه من صفات الله وهي قديمة والآخر حدوثه وهو أنه من جنس الأصوات وهي حادثة فاضطر القوم إلى القدح في أحد القياسين ومنع بعض المقدمات ضرورة امتناع حقية النقيضين فمنعت المعتزلة كونه من صفات الله والكرامية كون كل صفة قديمة والأشاعرة كونه من جنس الأصوات والحروف والخشوية كون المنتظم من الحروف حادثا ولا عبرة بكلام الكرامية والخشوية فبقي النزاع بيننا وبين المعتزلة وهو في التحقيق عائد إلى إثبات كلام النفس ونفيه وأن القرآن هو أو هذا المؤلف من الحروف الذي هو كلام حسي وإلا فلا نزاع لنا في حدوث الكلام الحسي ولا لهم في قدم النفسي لو ثبت وعلى البحث وعلى المناظرة في ثبوت الكلام النفسي وكونه هو القرآن ينبغي أن يحمل ما نقل من مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف ستة أشهر ثم استقر رأيهما على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر ( قال لنا ) استدل على قدم كلام الله وكونه نفسيا لاحسيا بوجهين
الأول أن المتكلم من قام به الكلام لا من أوجد الكلام ولو في محل آخر للقطع بأن موجد الحركة في جسم آخر لا يسمى متحركا وأن الله لا يسمى بخلق الأصوات مصوتا وإنا إذا سمعنا قائلا يقول إنا قائم يسميه متكلما وإن لم نعلم أنه الموجد لهذا الكلام بل وإن علمنا أن موجده هو الله كما هو رأي أهل الحق وحينئذ فالكلام القائم بذات الباري لا يجوز أن يكون هو الحسي أعني المنتظم من الحروف المسموعة لأنه حادث ضرورة أن له ابتداء وانتهاء وأن الحرف الثاني من كل كلمة مسبوق بالأول ومشروط بانقضائه وأنه يمتنع اجتماع أجزائه في الوجود وبقاء شيء منها بعد الحصول على ما سبق نبذ من ذلك في بحث الكم والحادث يمتنع قيامه بذات الباري تعالى لما سبق فتعين أن يكون هو المعنى إذ لا ثالث يطلق عليه اسم الكلام وأن يكون قديما لما عرفت فإن اعترض من قبل المعتزلة بأنه لو كان المتكلم من قام به الكلام
____________________
(2/100)
لما صح إطلاقه حقيقة على المتكلم بالكلام الحسي لأنه لا بقاء له ولا اجتماع لأجزائه حتى يقوم بشيء ولوسلم فإنما يقوم بلسانه لا بذاته وأيضا لما صح قولهم الأمير يتكلم بلسان الوزير والجني يتكلم بلسان المصروع ومن قبل الحنابلة أن المنتظم من الحروف قد لا يكون مترتب الأجزاء بل دفعيا كالقائم بنفس الحافظ وكالحاصل على الورقة من طائع فيه نقش الكلام وإنما لزوم الترتب في التلفظ والقراءة لعدم مساعدة الآلة فالقرآن الذي هو اسم للنظم والمعنى جميعا لا يمتنع أن يكون قديما قائما بذات الباري تعالى أجيب بأن كون المتكلم من قام به الكلام ثابت عرفا ولغة وكون المنتظم من الحروف المسموعة مترتب الأجزاء ممتنع البقاء ثابت ضرورة وما ذكرتم سندا لمنعهما تمويه أما الأول فلأن المعتبر في اسم الفاعل موجود المعنى لا بقاؤه سيما في الأعراض السيالة كالمتحرك والمتكلم ولو سلم فيكفي التلبس ببعض أجزائه ولايشترط القيام بكل جزء من أجزاء المحل كالسامع والباصر والذالق وغير ذلك ومعنى التكلم بلسان الغير إلقاء الكلام إليه مجازا وأما الثاني فلأن الكلام في المنتظم من الحروف المسموعة لا في الصورة المرسومة والخيال أو المخزونة في الحافظة أو المنقوشة بأشكال الكتابة على أن قيام الصوت والحروف بذات الله تعالى وتقدس ليس بمقول وإن كان غير مترتب الأجزاء كحرف واحد مثلا قال وإن من يأمر وينهى
الوجه الثاني أن من يورد صيغة أمرا ونهي أو نداء أو إخبارا واستخبارا وغير ذلك يجد في نفسه ويدور في خلده ولا يختلف باختلاف العبارات بحسب الأوضاع والاصطلاحات ويقصد المتكلم حصولها في نفس السامع ليجري على موجبها هو الذي نسميه كلام النفس وحديثها وربما يعترف به أبو هاشم ويسميه الخواطر ومغايرته للعلم والإرادة سيما في الإخبار والإنشاء الغير الطلبي في غاية الظهور نعم قد يتوهم أن الطلب النفسي هو الإرادة وأن قولنا أريد منك هذا الفعل ولا أطلبه في نفسي أو أطلبه ولا أريده تناقض وسيأتي في فصل الأفعال واستدل القوم على مغايرته للعلم بأن الرجل قد يخبر عما لا يعلمه بل يعلم خلافه وللإرادة بأن السيد قد يأمر العبد بالفعل ويطلبه منه ولا يريده وذلك عند الاعتذار من ضربه بأنه يعصيه ( قال صاحب المواقف لو قالت المعتزلة أنه إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلم بما أخبر عنه أو إرادته لما أمر به لم يكن بعيد الكنى لم أجده في كلامهم وأنا قد وجدت في كلام الإمام الزاهدي من المعتزلة ما يشعر بذلك حيث قال لا نسلم وجود حقيقة الإخبار والطلب في الصورتين المذكورتين بل إنما هو مجرد إظهار إماراتها وقريب من ذلك ما قال إمام الحرمين في الإرشاد فإن قالوا الذي يجده في نفسه هو إرادة جعل اللفظة الصادرة عنه أمرا على جهة ندب أو إيجاب فهذا باطل لأن اللفظ يتصرم مع أن الطلب بحاله والماضي لا يراد بل يتلهف عليه وبالضرورة يعلم أن ما نجده بعد
____________________
(2/101)
انقضاء اللفظ ليس تلهفا ولأن اللفظ يكون ترجمة عما في الضمير وبالضرورة يعلم أنها ليست ترجمة عن إرادة جعلها على صفة بل عن الاقتضاء والإيجاب ونحو ذلك ثم شاع فيما بين أهل اللسان إطلاق اسم الكلام والقول على المعنى القائم بالنفس يقولون في نفسي كلام وزورت في نفسي مقالة وقال الأخطل
( إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلا )
وفي التنزيل ويقولون في أنفسهم وإذا ثبت أن الباري تعالى متكلم وأنه يمتنع قيام الكلام الحسي بذاته تعين أن يكون هو النفسي فيكون قديما لما مر قال تمسكوا بوجوه الأول أنه علم بالضرورة من دين النبي صلى الله عليه وسلم حتى للعوام والصبيان أن القرآن هو هذا الكلام المؤلف المنتظم من الحروف المسموعة المفتتح بالتحميد المختتم بالاستعاذة وعليه انعقد إجماع السلف وأكثر الخلف الثاني أن ما اشتهر وثبت بالنص والإجماع من خواص القرآن إنما يصدق على هذا المؤلف الحادث لا المعنى القديم وجوابهما أنه لا نزاع في إطلاق اسم القرآن وكلام الله تعالى بطريق الاشتراك أو المجاز المشهور شهرة الحقائق على هذا المؤلف الحادث وهو المتعارف عند العامة والقراء والأصوليين والفقهاء وإليه يرجع الخواص التي هي من صفات الحروف وسماة الحدوث قال وذلك إشارة إلى ما اشتهر من الخواص فالقرآن ذكر لقوله تعالى { وهذا ذكر مبارك } وقوله { وإنه لذكر لك ولقومك } والذكر محدث لقوله تعالى { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن } محدث ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث وعربي لقوله تعالى { إنا جعلناه قرآنا عربيا } والعربي هو اللفظ لاشتراك اللغات في المعنى ومنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة النص والإجماع ولا خفاء في امتناع نزول المعنى القديم القائم بذات الله تعالى بخلاف اللفظ فإنه وإن كان عرضا لا يزول عن محله لكن قد ينزل بنزول الجسم الحامل له وقد روى أن الله تعالى أنزل القرآن دفعة إلى سماء الدنيا فحفظته الحفظة أو كتبته الكتبة ثم نزله منها بلسان جبرائيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فشيئا بحسب المصالح فإن قيل المكتوب في المصحف هو الصور والأشكال لا اللفظ ولا المعنى قلنا بل اللفظ لأن الكتابة تصوير اللفظ بحروف هجائه نعم المثبت في المصحف هو الصور والأشكال فإن قيل القديم دائم فيكون مقارنا للتحدي ضرورة فلا يكون ذلك من خواص الحادث قلنا معناه أن يدعو العرب إلى المعارضة والإتيان بالمثل وذلك لا يتصور في الصفة القديمة فإن قيل النسخ كما يكون للفظ يكون للمعنى قلنا نعم لكن يخص الحادث لأن القديم لا يرتفع ولا ينتهي فإن قبل وقوع كلمة كن عقيب إرادة تكوين الأشياء على ما تعطيه كلمة الجزاء وإن دل على حدوثها لكن عموم لفظ شيء من حيث وقوعه في سياق النفي معنى أي ليس قولنا لشيء مما نقصد
____________________
(2/102)
إيجاده وإحداثه كما في قوله عليه السلام وإنما لكل امرىء ما نوى يقتضي قدمها إذ لو كانت حادثة لكانت واقعة بكلمة كن أخرى سابقة وبتسلسل وإن جعلتم هذا الكلام لا على حقيقته بل مجازا عن سرعة الإيجاد فلا دلالة فيه على حدوث كن قلنا حقيقته إن ليس قولنا لشيء من الأشياء عند تكوينه إلا هذا القول وهو لا يقتضي ثبوت هذا القول لكل شيء ألا ترى أنك إذا قلت ما قولي لأحد من الناس عند إرشاده إلا أن أقول له تعلم لم يدل على أنك تقول تعلم لكل أحد بل على أنك لو قلت في حقه شيئا لم يكن إلا هذا القول قال لا لمجرد أنه دال المشهور في كلام الأصحاب أن ليس أطلاق كلام الله تعالى على هذا المنتظم من الحروف المسموعة إلا بمعنى أنه دال على كلامه القديم حتى لو كان مخترع هذه الألفاظ غير الله تعالى لكان هذا الإطلاق بحاله لكن المرضي عندنا أن له اختصاصا آخر بالله وهو أنه أخبر عنه بأنه أوجد أولا الأشكال في اللوح المحفوظ لقوله تعالى { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } أو الأصوات في لسان الملك لقوله تعالى { إنه لقول رسول كريم } الآية أو لسان النبي لقوله تعالى { نزل به الروح الأمين على قلبك } والمنزل على القلب هو المعنى دون اللفظ ثم اختلفوا فقيل هو اسم لهذا المؤلف المخصوص القائم بأول لسان اخترعه الله تعالى فيه حتى إن ما يقرأه كل أحد بكسبه يكون مثله لا عينه والأصح أنه اسم له لا من حيث تعين المحل فيكون واحدا بالنوع ويكون ما يقرأه القاري نفسه لا مثله وهكذا الحكم في كل شعر أو كتاب ينسب إلى مؤلفه وعلى التقديرين فقد يجعل اسما للمجموع بحيث لا يصدق على البعض وقد يجعل اسما لمعنى كلي صادق على المجموع وعلى كل بعض من أبعاضه ولهذا المقام زيادة توضيح في شرح التنقيح وبالجملة ما يقال أن المكتوب في كل مصحف والمقروء بكل لسان كلام الله تعالى فباعتبار الوحدة النوعية ومايقال أنه حكاية عن كلام الله ومماثل له وإنما الكلام هو المخترع في لسان الملك فباعتبار الوحدة الشخصية وما يقال أن كلام الله تعالى ليس قائما بلسان أو قلب ولا حالا في مصحف أو لوح فيراد به الكلام الحقيقي الذي هو الصفة الأزلية ومنعوا من القول بحلول كلامه في لسان أو قلب أو مصحف وأن كان المراد هو اللفظي رعاية للتأدب واحترازا عن ذهاب الوهم إلى الحقيقي الأزلي قال وإجراء هذا جواب آخر لأصحابنا تقريره أن المراد بالمذكور العربي المنزل المقروء المسموع المكتوب إلى آخر الخواص هو المعنى القديم إلا أنه وصف بما هو من صفات الأصوات والحروف الدالة عليه مجازا ووصفا للمدلول بصفة الدال عليه كما يقال سمعت هذا المعنى من فلان وقرأته في بعض الكتب وكتبته بيدي وهذا ما قال أصحابنا أن القراءة حادثة أعني أصوات القاري التي هي من اكتسابه ويؤمر بها تارة إيجابا أو ندبا وينهى عنها حينا وكذا الكتابة أعني حركات الكاتب والأحرف المرسومة وإما المقروء بالقراءة المكتوب في المصاحف المحفوظ في الصدور المسموع بالآذان فقديم ليس حالا في لسان
____________________
(2/103)
ولا في قلب ولا في مصحف لأن المراد به المعلوم بالقراءة المفهوم من الخطوط ومن الأصوات المسموعة وكذا المنزل إذ معنى الإنزال أن جبرائيل عليه السلام أدرك كلام الله تعالى وهو في مقامه ثم نزل إلى الأرض وأفهم النبي صلى الله عليه وسلم ما فهمه عند سدرة المنتهى من غير نقل لذات الكلام فإن قيل إذا أريد بكلام الله تعالى المنتظم من الحروف المسموعة من غير اعتبار تعين المحل فكل أحد منا يسمع كلام الله تعالى وكذا إذا أريد به المعنى الأزلي وأريد بسماعه فهمه من الأصوات المسموعة فما وجه اختصاص موسى عليه السلام بأنه كليم الله تعالى قلنا فيه أوجه
أحدها وهو اختيار الإمام حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزلي بلا صوت ولا حرف كما ترى في الآخرة ذاته بلا كم وكيف وهذا على مذهب من يجوز تعلق الرؤية والسماع بكل موجود حتى الذات والصفات لكن سماع غير الصوت والحرف لا يكون إلا بطريق خرق العادة
وثانيها إنه سمعه بصوت من جميع الجهات على خلاف ما هو العادة
وثالثها أنه سمع من جهة لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شان سماعنا وحاصلة أنه أكرم موسى عليه السلام ما فهمه كلامه بصوت تولى بخلقه من غير كسب لأحد من خلقه وإلى هذا ذهب الشيخ أبو منصور الماتريدي والأستاذ أبو إسحق الإسفرائني قال الأستاذ اتفقوا على أنه لا يمكن سماع غير الصوت إلا أن منهم من بت القول بذلك ومنهم من قال لما كان المعنى القائم بالنفس معلوما بواسطة سماع الصوت كان مسموعا فالاختلاف لفظي لا معنوي قال الثالث
الوجه الثالث أن كلامه لو كان أزليا لزم الكذب في إخباره لأن الإخبار بطريق المضي كثير في كلام الله تعالى مثل أنا أرسلنا وقال موسى وعصى فرعون إلى غير ذلك وصدقه يقتضي سبق وقوع النسبة ولا يتصور السبق على الأزل فتعين الكذب وهو محال
أما أولا فبإجماع العلماء
وإما ثانيا فبما تواتر من أخبار الأنبياء عليهم السلام الثابت صدقهم بدلالة المعجزات من غير توقف على ثبوت كلام الله تعالى فضلا عن صدقه
وأما ثالثا فلأن الكذب نقص باتفاق العقلاء وهو على الله محال لما فيه من إمارة العجز أو الجهل أو العبث
وأما رابعا فلأنه لو اتصف في الأزل بالكذب في خير ما لامتنع صدقه فيه لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه لكنا نعلم بالضرورة أن من علم النسبة لا يمتنع عليه أن يخبر عنها على ما هي عليه وطريق اطراد هذا الوجه في كلامه المنتظم من الحروف المسموعة أنه عبارة عن كلامه الأزلي ومرجع الصدق والكذب إلى المعنى وأما وجه استحالة النقص ففي كلام البعض أنه لا يتم إلا على رأي المعتزلة القائلين بالقبح العقلي قال إمام الحرمين لا يمكن التمسك في تنزيه الرب تعالى عن الكذب بكونه نقصا لأن الكذب عندنا لا يقبح لعينه وقال صاحب التلخيص الحكم بأن الكذب نقص إن كان عقليا كان قولا بحسن الأشياء وقبحها عقلا وإن كان سمعيا لزم الدور وهذا مبني على أن مرجع الأداة السمعية إلى كلام الله تعالى وصدقه وأن تصديقه
____________________
(2/104)
النبي عليه الصلاة والسلام بالمعجزات إخبار خاص وقد عرفت ما فيه وقال صاحب المواقف لم يظهر لي فرق بين النقض في العقل وبين القبح العقلي بل هو هو بعينه وأنا أتعجب من كلام هؤلاء المحققين الواقفين على محل النزاع في مسألة الحسن والقبح والجواب أن كلامه في الأزل لا يتصف بالماضي والحال والمستقبل لعدم الزمان وإنما يتصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلقات وحدوث الأزمنة والأوقات وتحقيق هذا مع القول بأن الأزلي مدلول اللفظي عسير جدا وكذا القول بأن المتصف بالمضي وغيره إنما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم ( قال الرابع ) تقديره أن كلامه يشتمل على أمر ونهي وإخبار واستخبار ونداء وغير ذلك فلو كان أزليا لزم الأمر بلا مأمور والنهي بلا منهى والإخبار بلا سامع والنداء والاستخبار بلا مخاطب وكل ذلك سفه وعبث لا يجوز أن ينسب إلى الحكيم تعالى وتقدرس وأجيب بوجوه
أحدها لعبد الله بن سعيد القطان وهو أن كلامه في الأزل ليس بأمر ولا نهي ولا خبر وغير ذلك وإنما يصير أحد الأقسام فيما لا يزال فإن قيل وجود الجنس من غير أن يكون أحد الأنواع ليس بمعقول وأيضا التغير على القديم محال قلنا هو إرادته أمر واحد يعرض له التنوع بحسب التعلقات الحادثة من غير أن يتغير في نفسه
وثانيها إن وجود المخاطب إنما يلزم في الكلام الحسي وإما النفسي فيكفيه وجوده العقلي
وثالثها أن السفه أو العبث إنما يلزم لو خوطب المعدوم وأمر في عدمه وإما على تقدير وجوده بأن يكون طلبا للفعل ممن سيكون فلا كما في طلب الرجل تعلم ولده الذي أخبره صادق بأنه سيولد وكما في خطاب النبي عليه الصلاة والسلام بأوامره ونواهيه كل مكلف بولد إلى يوم القيامة إذ اختصاص خطاباته بأهل عصره وثبوت الحكم فيمن عداهم بطريق القياس بعيد جدا نعم لو قيل خطاب الحاضرين قصدا والغائبين والمعدومين ضمنا وتبعا ليس من السفه في شيء لكان شيئا واعلم أن هذا الجواب هو المشهور بين الجمهور وكلامهم متردد في أن معناه أن المعدوم مأمور في الأزل بأن يمتثل وتأتي بالفعل على تقدير الوجود أو المعدوم ليس بمأمور في الأزل لكن لما استمر الأمر الأزلي إلى زمان وجوده صار بعد الوجود مأمورا
ورابعها أن السفه هو أن يخلو عن الحكمة والعاقبة الحميدة ما يتعلق بها والقديم ليس كذلك إذ لا يطلب بثبوته حكمة وغرض
وخامسها أن السفه هو الخالي عن الحكمة بالكلية والأمر الأزلي ليس كذلك لترتب الحكمة عليه فيما لا يزال قال الخامس الوجه الخامس والسادس من تمسكات المعتزلة أن الأمر لو كان أزليا لكان التكليف باقيا أبدا حتى في دار الجزاء لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ولما اختص مكالمة موسى عزم بالطور بل استمر أزلا وأبدا واللازم باطل إجماعا وجوابهما إن الكلام وإن كان أزليا لكن تعلقاته بالأشخاص والأفعال حادثة بإرادة من الله تعالى واختيار فيتعلق الأمر بصلاة زيد مثلا بعد بلوغه وينقطع عند موته ويتعلق الكلام
____________________
(2/105)
بموسى في الطور على أنك إذا تحققت فالمختص بالطور سماع الكلام وظهوره وبهذا يخرج الجواب عن الوجه السابع وهو أن القديم يستوي نسبته إلى جميع ما يصح تعلقه به كما في العلم والقدرة فيتعلق الأمر والنهي بكل فعل حتى يكون المأمور منهيا وبالعكس واللازم باطل قطع وهذا إلزامي علينا حيث لا نقول بالحسن والقبح لذات الفعل ليمنع صحة تعلق الأمر بما يتعلق به النهي وبالعكس ( قوله خاتمة ) المذهب أن الكلام الأزلي واحد قال عبدالله بن سعيد أنه في الأزل ليس شيئا من الأقسام وإنما يصير أحدها فيما لا يزال وقد عرفت ضعفه وقال الإمام الرازي هو في الأزل خبر ومرجع البواقي إليه لأن الأمر بالشيء إخبار باستحقاق فاعله الثواب وتاركه العقاب والنهي بالعكس وعلى هذا القياس وضعفه ظاهر لأن ذلك لازم الأمر والنهي لا حقيقتهما والأقرب ما ذكره إمام الحرمين وهو أن ثبوت الكلام إنما هو بالسمع دون العقل ولم يرد بالتعدد بل انعقد الإجماع على نفي كلام ثان قديم ولم يمتنع التكلم بالأمر والنهي والخبر وغيرها بكلام واحد فحكمنا بأنه واحد يتعلق بجميع المتعلقات كما في سائر الصفات وإن كانت العقول قاصرة عن إدراك كنه هذا المعنى وإذا تحققت فالأمر كذلك في الذات وجميع الصفات وقد يستدل على وحدة الكلام بأنه لو تعدد لم ينحصر في عدد لأن نسبة الموجب إلى جميع الأعداد على السواء وقد مر ذلك في القدرة ( قال المبحث السابع في صفات اختلف فيها ) يعني اختلف فيها أهل الحق القائلون بالصفات الأزلية زعم بعض الظاهريين أن لا صفة لله تعالى وراء السبعة المذكورة لوجهين
الأول أنه لا دليل عليه وكل ما لا دليل عليه يجب نفيه ورد بمنع المقدمتين
وثانيهما أنا مكلفون بكمال المعرفة وذلك بمعرفة الذات وجميع الصفات فلو كانت له صفة أخرى لعرفناها معشر العارفين الكاملين واللازم منتف بالضرورة وبأنه لا طريق إلى معرفة الصفات سوى الاستدلال بالأفعال والتنزيه عن النقائض وهما لا يدلان على صفة اخرى ورد بالمنع بل التكليف بقدر الوسع ولو سلم فما أدريك أن الكاملين لم يعرفوا صفة أخرى ولا نسلم أنه لا طريق سوى ما ذكرتم أليس الشرع طريقا وصراطا قويما مستقيما فمن الصفات المختلف فيها البقاء أثبته الشيخ الأشعري وأشياعه من أهل السنة لأن الواجب باق بالضرورة فلا بد أن يقوم به معنى هو البقاء كما في العالم والقادر لأن البقاء ليس من السلوب والإضافات وهو ظاهر وليس أيضا عبارة عن الوجود بل زائدا عليه لأن الشيء قد يوجد ولا يبقى كالأعراض سيما السيالة وذهب الأكثرون إلى
____________________
(2/106)
أنه ليس صفة زائدة على الوجود لوجوه
أحدها أن المعقول منه استمرار الوجود ولا معنى لذلك سوى الوجود من حيث انتسابه إلى الزمان الثاني بعد الزمان الأول
وثانيها أن الواجب لو كان باقيا بالبقاء الذي ليس نفس ذاته لما كان واجب الوجود لذاته لأن ما هو موجود لذاته فهو باق لذاته ضرورة أن ما بالذات لا يزول أبدا وإذا فسر البقاء بصفة بها الوجود في الزمان الثاني كان لزوم المحال أظهر لأنه يؤول إلى أن الواجب موجود في الزمان الثاني لأمر سوى ذاته واعترض صاحب الصحائف بأن اللازم ليس الا افتقار صفة إلى صفة أخرى نشأت من الذات ولا امتناع فيه كالإرادة يتوقف على العلم والعلم على الحياة وليس بشيء لأن الوجود ليس من الذات ولو سلم فافتقاره إلى أمر سوى الذات ينافي الوجوب بالذات
وثالثها أن الذات لو كان باقيا بالبقاء لا بنفسه فإن افتقر صفة البقاء إلى الذات لزم الدور لتوقف ثبوت كل في الزمان الثاني على الآخر وإن افتقر الذات إلى البقاء مع استغنائه عنه كان الواجب هو البقاء لا الذات هف وإن لم يفتقر أحدهما إلى الآخر بل اتفق تحققهما معا كما ذكره صاحب المواقف لزم تعدد الواجب لأن كلا من الذات والبقاء يكون مستغنيا عما سواه إذ لو افتقر البقاء إلى شيء لافتقر إلى الذات ضرورة افتقار الكل إليه والمستغنى عن جميع ما سواه واجب قطعا هذا مع أن ما فرض من عدم افتقار البقاء إلى الذات محال لأن افتقار الصفات إلى الذات ضروري
ورابعها أن البقاء لو كان صفة أزلية زائدة على الذات قائمة به كانت باقية بالضررة وحينئذ فإن كان لها بقاء ينقل الكلام إليه ويتسلسل وأيضا يلزم قيام المعنى بالمعنى وهو باطل عندكم وإن لم يكن له بقاء كان كعالم بلا علم وقد بين بطلانه فإن قيل هو باق بالبقاء إلا أن بقاء نفسه لا زائد عليه ليتسلسل قلنا فحينئذ يجوز أن يكون الباري تعالى باقيا ببقاء هو نفسه عالما بعلم هو نفسه فلا يثبت زيادة صفة البقاء على ما هو رأي الشيخ ولا زيادة العلم والقدرة وغيرهما على ما هو رأي أهل الحق واعترض على هذا الجواب بأن كون بقاء الباري أو علمه أو قدرته نفس ذاته محال لما مر في إثبات الصفات بخلاف كون بقاء البقاء نفس البقاء كوجود الوجود وقدم القدم وغير ذلك فأورد الأشكال ببقاء الصفات فإن العلم القديم باق بالضرورة وكذلك سائر الصفات مع امتناع أن يكون البقاء نفس العلم والقدرة وغيرهما فيلزم قيام المعنى بالمعنى وثبوت قدماء أخر لم يقل بها أحد وللقوم في التفصي عن هذا الإشكال وجوه
الأول لبعض القدماء أنا نقول الذات باق بصفاته ولا نقول الصفات باقية ليلزم المحال وفساده بين لأن كون الصفة الأزلية باقية ضروري
الثاني لبعض الأشاعرة ونسب إلى الشيخ أن العلم باق ببقاء هو نفس العلم وكذا سائر الصفات كما ذكر في البقاء وأوضحه الأستاذ بأنه لما ثبت قدم الصفات ولزم كونها باقية وامتنع الباقي بلا بقاء وكونها باقية ببقاء زائد لاستحالة قيام المعنى بالمعنى ثبت أن كلا منها باقية ببقاء
____________________
(2/107)
هو نفسها فكان العلم مثلا صفة للذات بها يكون الذات عالما وبقاء لنفسه به يكون هو باقيا وكان بقاء الذات بقاء له وبقاء لنفسه أيضا ولم يكن العلم صفة لنفسه حتى يلزم كونه عالما وهذا كما أن الجسم كائن في المكان بكون يخصه ويزيد عليه ضرورة تحقق الجسم بدون هذا التمكن ثم هذا الكون كائن بكون هو نفسه لا زائد عليه قائم به ولم يكن العلم علما لنفسه حتى يلزم كونه علما ولا بقاءه بقاء للذات ليلزم كونه عالما باقيا بشيء واحد فإن قيل فقد لزم كون الذات عالما بما هو بقاء والعلم باقيا بما هو علم وهو محال قلنا المستحيل أن يكون الشيء عالما بما هو بقاء له وباقيا بما هو علم له وههنا العلم علم للذات وليس بقاء له والبقاء بقاء للعلم وليس علما له فإن قيل إذا جاز كون العلم باقيا ببقاء هو نفسه فلم لم يجز كون الذات عالما بعلم هو نفسه قادرا بقدرة هي نفسه إلى غير ذلك على ما هو رأي المعتزلة قلنا لما سبق في بحث زيادة الصفات من لزوم الفسادات ويرد على هذا الوجه أنه إذا جاز كون بقاء العلم نفسه فلم لا يجوز أن يكون بقاء الذات نفسه ولا تثبت صفة زائدة فإن قيل الأصل زيادة الصفة إلا لمانع وهو ههنا لزوم قيام المعنى بالمعنى ولم يوجد في بقاء الذات قلنا خطابي ومعارض بأن الأصل عدم تكثر القدماء إلا لقاطع
الوجه الثالث للأشعري أن الصفات باقية ببقاء هو بقاء الذات وجاز ذلك لعدم المغايرة بين الذات والصفات بخلاف الجوهر مع إعراضه فلذا لم يكن بقاؤه بقاء لها ويرد عليه أن الصفات كما أنها ليست غير الذات فليست عينه أيضا وكما امتنع اتصاف الشيء بصفة قائمة بالغير فكذا بصفة قائمة بما نفس ليس ذلك الشيء وأما الاعتراض بأنه لو كانت الصفات باقية ببقاء الذات لعدم التغاير لكانت عالمة بعلمه قادرة بقدرته إلى غير ذلك فليس بشيء لأن ذلك فرع صحة الاتصاف وقد صح كون العلم مثلا باقيا بخلاف كونه قادرا قال ومنها التكوين اشتهرالقول به عن الشيخ أبي منصور الماتريدي وأتباعه وهم ينسبونه إلى قدمائهم الذين كانوا قبل الشيخ أبي الحسن الأشعري حتى قالوا أن قول أبي جعفر الطحاوي له الربوبية ولا مربوب والخالقية ولا مخلوق إشارة إلى هذا وفسروه بإخراج المعدوم عن العدم إلى الوجود ثم أطنبوا في إثبات أزليته ومغايرته للقدرة وكونه غير المكون وأن أزليته لا يستلزم أزلية المكونات إلا أنهم سكتوا عما هو أصل الباب أعني مغايرته للقدرة من حيث تعلقها بأحد طرفي الفعل والترك واقترانها بإزادته والعمدة في إثباته أن الباري تعالى يكون الأشياء أجماعا وهو بدون صفة التكوين محال كالعام بلا علم ولا بد أن يكون أزلية لامتناع قيام الحوادث بذات الله تعالى ثم اختلف أسماءها بحسب اختلاف الآثار فمن حيث حصول المخلوقات به يسمى تخليقا والأرزاق ترزيقا والصور تصويرا
____________________
(2/108)
والحياة إحياء والموت إماتة إلى غير ذلك وأجيب بأن ذلك إنما هو في الصفات الحقيقية كالعلم والقدرة ولا نسلم أن التأثير وإلإيجاد كذلك بل هو معنى يعقل من إضافة المؤثر إلى الأثر فلا يكون إلا فيما لا يزال ولا يفتقر إلا إلى صفة القدرة والإرادة وقد يستدل بوجوه أخرى
أحدها أن الباري تعالى تمدح في كلامه الأزلي بأنه الخالق البارىء المصور فلو لم يثبت التخليق والتصوير في الأزل بل فيما لا يزال لكان تمدحا من الله بما ليس فيه وهو محال ولزم اتصافه بصفة الكمال بعد خلوه عنها وهو عليه محال وأجيب بأنه كالتمدح بقوله تعالى { يسبح له ما في السماوات والأرض } وقوله تعالى { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أي معبود ولا شك أن ذلك بالفعل إنما يكون فيما لا يزال لا في الأزل والإخبار عن الشيء في الأزل لا يقتضي ثبوته فيه كذكر الأرض والسماء والأنبياء وغير ذلك نعم هو في الأزل بحيث تحصل له هذه التعلقات والإضافات فيما لا يزال لماله من صفات الكمال
وثانيها أن الأشاعرة يقولون في قوله تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } أنه قد جرت العادة الإلهية بأنه يكون الأشياء لأوقاتها بكلمة أزلية هي كلمة كن ولا نعني بصفة التكوين إلا هذا وأجيب بأنه حينئذ يعود إلى صفة الكلام ولا تثبت صفة أخرى على أن الأكثرين يجعلونه مجازا عن سرعة الإيجاد والتكوين بما له من كمال العلم والقدرة والإرادة
وثالثها أن التكوين والإيجاد صفة كمال فلو خلا عنها في الأزل لكان نقصا وهو عليه محال وأجيب بأن ذلك إنما هو فيما يصح اتصافه به في الأزل ولا نسلم أن التكوين والإيجاد بالفعل كذلك نعم هو في الأزل قادر عليه ولا كلام فيه ثم عورضت الوجوه المذكورة بوجهين
الأول أنه لا يعقل من التكوين إلا الأحداث وإخراج المعدوم من العدم إلى الوجود كما فسره القائلون بالتكوين الأزلي ولا خفاء في أنه إضافة يعتبرها العقل من نسبة المؤثر إلى المؤثر فلا يكون موجودا عينيا ثابتا في الأزل
وثانيهما أنه لو كان أزليا لزم أزلية المكونات ضرورة امتناع التأثير بالفعل بدون الأثر فإن قيل المراد بالتكوين صفة أزلية بها تتكون الأشياء لأوقاتها وتخرج من العدم إلى الوجود فيما لا يزال وليست نفس القدرة لأن مقتضى القدرة ومتعلقها إنما هو صحة المقدور وكونه ممكن الوجود ومقتضى التكوين ومتعلقه وجود المكون في وقته على أنه لو أريد بالتكوين نفس الإحداث والإخراج من العدم فأزليته لا تستلزم أزلية المخلوق لأنه لما كان دائما مستمرا إلى زمان وجود المخلوق وترتبه عليه لم يكن هذا من انفكاك الأثر عن المؤثر وتخلف المعلول عن العلة في شيء ولم يكن كالضرب بلا مضروب والكسر بلا مكسور وإنما يلزم ذلك في التكوين الذي يكون من الأعراض التي لا بقاء لها قلنا وما الدليل على أن تلك الصفة غير القدرة المتعلقة بأحد طرفي الفعل والترك المقترنة بإرادته كيف وقد فسروا القدرة بأنها صفة تؤثر على وفق الإرادة أي إنما تؤثر في الفعل ويجب صدور الأثر عنه عند انضمام الإرادة وإما بالنظر إلى
____________________
(2/109)
نفسها وعدم اقترانها بالإرادة المرجحة لأحد طرفي الفعل والترك فلا تكون إلا جائز التأثير فلهذا لا يلزم وجود جميع المقدورات ولما ذكرنا من أن القدرة جائزة التأثير وإنما يجب بالإرادة قال الإمام الرازي أن الصفة التي يسمونها التكوين يكون تأثيرها أي بالنظر إلى نفسها إما على سبيل الجواز فلا تتميز عن القدرة أو على سبيل الوجوب فلا يكون الواجب مختارا بل موجبا ولا يرد عليه اعتراض صاحب التلخيص بأن الوجوب اللاحق لا ينافي الاختيار لأن معناه أنه تعالى إذا أراد خلق شيء من مقدوراته كان حصول ذلك الشيء منه واجبا لأن هذا هو القسم الأول أعني ما يكون تأثيره بالنظر إلى نفسه على سبيل الجواز قال وما نقل قد اشتهر عن الأشعري أن التأثير نفس الأثر والتكوين نفس المكون وهذا بظاهره فاسد وفساده غني عن التنبيه فضلا عن الدليل والذي يشعر به كلام بعض الأصحاب أن معناه أن لفظ الخلق شائع في المخلوقات بحيث لايفهم منه عند الإطلاق غيره سواء جعلناه حقيقة فيه أو مجازا مشتهرا من الخلق بمعنى المصدر وهذا لا يليق بالمباحث العلمية ويمكن أن يكون معناه أن الشيء إذا أثر في شيء وأوجده بعدما لم يكن مؤثرا فالذي حصل في الخارج هو الأثر لا غير وأما حقيقة الأحداث والإيجاد فاعتبار عقلي لا تحقق له في الأعيان وقد سبق ذلك في الأمور العامة قال ومنها القدم أثبته ابن سعيد صفة بها يكون الباري تعالى قديما وأثبت الرحمة والكرم والرضا صفات وراء الإرادة وليس له على ذلك دليل يعول عليه وأثبت القاضي إدراك الشم والذوق واللمس صفات وراء العلم ( قال ومنها ما ورد به ظاهرالشرع وامتنع حملها على معانيها الحقيقية ) مثل الاستواء في قوله تعالى { الرحمن على العرش استوى } واليد في قوله تعالى { يد الله فوق أيديهم } و { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } والوجه في قوله تعالى { ويبقى وجه ربك } والعين في قوله تعالى { ولتصنع على عيني } و { تجري بأعيننا } فعن الشيخ أن كلا منها صفة زائدة وعن الجمهور وهو أحد قولي الشيخ أنها مجازات فالاستواء مجاز عن الاستيلاء أو تمثيل وتصوير بعظمة الله تعالى واليد مجاز عن القدرة والوجه عن الوجود والعين عن البصر فإن قيل بجملة المكونات مخلوقة بقدرة الله تعالى فما وجه تخصيص خلق آدم صلى الله عليه وسلم سيما بلفظ المثنى وما وجه الجمع في قوله بأعيننا أجيب بأنه أريد كمال القدرة وتخصيص آدم تشريف له وتكريم ومعنى تجري بأعيننا أنها تجري بالمكان المحوط بالكلاءة والحفظ والرعاية يقال فلان بمرىء من الملك ومسمع إذا كان بحيث تحوطه عنايته وتكتنفه رعايته وقيل المراد الأعين التي انفجرت من الأرض وهو بعيد وفي كلام المحققين من علماء البيان أن قولنا الاستواء مجاز عن الاستيلاء واليد واليمين عن القدرة والعين عن البصر ونحو ذلك إنما هو لنفي وهم التشبيه والتجسيم بسرعة وإلا فهي تمثيلات وتصويرات للمعاني العقلية بإبرازها في الصور الحسية وقد بينا ذلك في شرح التلخيص
____________________
(2/110)
الفصل الرابع في أحواله من أنه هل يرى وهل يمكن العلم بحقيقته وفيه بحثان البحث الأول في رؤيته
ذهب أهل السنة إلى أن الله تعالى يجوز أن يرى وأن المؤمنين في الجنة يرونه منزها عن المقابلة والجهة والمكان وخالفهم في ذلك جميع الفرق فإن المشبهة والكرامية إنما يقولون برؤيته في الجهة والمكان لكونه عندهم جسما تعالى عن ذلك ولا نزاع للمخالفين في جواز الانكشاف التام العلمي ولا لنا في امتناع ارتسام صورة من المرئي في العين أو اتصال الشعاع الخارج من العين بالمرئي وحالة إدراكية مستلزمة لذلك وإنما محل النزاع إنا إذا عرفنا الشمس مثلا بحد أو رسم كان نوعا من المعرفة ثم إذا أبصرناها وغمضنا العين كان نوعا آخر فوق الأول ثم إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأولين نسميها الرؤية ولا تتعلق في الدنيا إلا بما هو في جهة ومكان فمثل هذه الحالة الإدراكية هل تصح أن تقع بدون المقابلة والجهة وإن تتعلق بذات الله تعالى منزها عن الجهة والمكان ولم يقتصر الأصحاب على أدلة الوقوع مع أنها تفيد الإمكان أيضا لأنها سمعيات ربما يدفعها الخصم بمنع إمكان المطلوب فاحتاجوا إلى بيان الإمكان أولا والوقوع ثانيا ولم يكتفوا بما يقال الأصل في الشيء سيما فيما ورد به الشرع هو الإمكان ما لم يزد عنه الضرورة والبرهان فمن ادعى الامتناع فعليه البيان لأن هذا إنما يحس في مقام النظر والاستدلال دون المناظرة والاحتجاج فإن قيل المعول عليه من الأدلة الإمكان أيضا سمعي لأن إحدى مقدمتيه وهو أن موسى عليه السلام طلب الرؤية وأن الرؤية علقت على استقرار الجبل إنما يثبت بالنقل دون العقل قلنا نعم لكنه قطعي لا نزاع في إمكانه بل وقوعه لنا من المنقول قوله تعالى حكاية { رب أرني أنظر إليك } الآية والاستدلال فيها من وجهين
أحدهما أنه لو لم تجز الرؤية لم يطلبها موسى عليه السلام واللازم باطل بالنص والإجماع والتواتر وتسليم الخصم وجه اللزوم أنه إن كان عالما بالله تعالى وما يجوز وما لا يجوز كان طلبه الرؤية عبثا واجتراء بمالا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإن كان جاهلا لم يصلح أن يكون نبيا كليما
وثانيهما أنه علق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في نفسه ضرورة والمعلق على الممكن ممكن لأن معنى التعليق إن المعلق يقع على تقرير المعلق عليه والمحال لا يقع على شيء من التقادير واعترضت المعتزلة بوجوه
الأول أن موسى عيه السلام لم يطلب الرؤية بل عبر بها عن لازمها الذي هو العلم الضروري
الثاني أنه على حذف المضاف والمعنى أرني آية من آياتك أنظر إلى آيتك وكلاهما
____________________
(2/111)
فاسد لمخالفته الظاهر بلا ضرورة ولعدم مطابقته الجواب أعني قوله لن تراني لأنه نفي لرؤية الله تعالى بإجماع المعتزلة لا للعلم الضروري ولا لرؤية الآية والعلامة كيف وموسى عالم بربه تعالى سمع كلامه وجعل يناجيه ويخاطبه واختص من عنده بآيات كثيرة فما معنى طلب العلم الضروري واندكاك الجبل أعظم آية من آياته فكيف يستقيم نفي رؤية الآية وأيضا الآية إنما هي عند اندكاك الجبل لا استقراره فكيف يصح تعليق رؤيتها بالاستقرار وأيضا الرؤية المقرونة بالنظر الموصول بإلى نص في الرؤية كذا في الإرشاد لإمام الحرمين وما وقع في المواقف من أن الرؤية وإن استعملت للعلم لكنه بعيد جدا إذا وصلت بإلى سهو أو مأول بأن النظر بمعنى الرؤية فوصله وصلها وإلا فليس في الآية وصل الرؤية بإلى الثالث للجاحظ وأتباعه أن موسى عليه السلام إنما سأل الرؤية لأجل قومه حين قالوا أرنا الله جهرة وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة وأضاف السؤال إلى نفسه ليمنع فيعلم امتناعها بالنسبة إلى القوم بالطريق الأولى ولهذا قال أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا وهذا مع مخالفته الظاهر حيث لم يقل أرهم ينظرون إليك فاسد
أما أولا فلأن تجويز الرؤية باطل بل كفر عند أكثر المعتزلة فلا يجوز لموسى تأخير الرد وتقرير الباطل ألا يرى أنهم لما قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة رد عليهم من ساعته بقوله إنكم قوم تجهلون
وأما ثانيا فلأنه لم يبين لهم الامتناع بل غايته الإخبار بعدم الوقوع وإنما أخذتهم الصاعقة لقصدهم التعنت والإلزام على موسى عليه السلام لا لطلبهم الباطل
وأما ثالثا فلأنهم إن كانوا مؤمنين بموسى مصدقين لكلامه كفاهم إخباره بامتناع الرؤية من غير طلب للمحال ومشاهدة لما جرت من الأحوال والأهوال والألم يفد الطلب والجواب لأنهم وإن سمعوا الجواب فهو المخبر بأنه كلام الله تعالى والمعتزلة تحيروا في هذا المقام فزعموا تارة أنهم كانوا مؤمنين لكن لم يعلموا مسألة الرؤية فظنوا جوازها عند سماع الكلام واختار موسى عليه السلام في الرد عليهم طريق السؤال والجواب من الله ليكون أوثق عندهم وأهدى إلى الحق وتارة أنهم لم يكونوا مؤمنين حق الإيمان ولا كافرين بل مستدلين أو فاسقين أو مقلدين فاقترحوا ما اقترحوا وأجيبوا بما أجيبوا وأضاف موسى الرؤية إلى نفسه دونهم لئلا يبقى لهم عذر ولا يقولوا لو سألها لنفسه لرآه لعلو قدره وكل ذلك خبط لأن السائلين القائلين لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة لم يكونوا مؤمنين ولا حاضرين عند سؤال الرؤية ليسمعوا جواب الله وإنما الحاضرون هم السبعون المختارون ولا يتصور منهم عدم تصديق موسى عليه السلام في الأخبار بامتناع الرؤية ولا فائدة للسؤال بحضرتهم على تقدير امتناع الرؤية إلا أن يطلعوا فيحيروا السائلين ولا شك أنهم إذا لم يقبلوه من موسى مع تأيده بالمعجزات فمن السبعين أولى
الرابع أنه سأل الرؤية مع علمه بامتناعها لزيادة الطمأنينة بتعاضد دليل العقل والسمع كما في طلب إبراهيم عليه السلام أن يريه كيفية إحياء الموتى ورد بأن هذا لا ينبغي أن يكون
____________________
(2/112)
بطريق طلب المحال الموهم لجهله بما يعرفه آحاد المعتزلة
الخامس أن معرفة الله تعالى لا تتوقف على العلم بمسألة الرؤية فيجوز أن يكون لاشتغاله بسائر العلوم والوظائف الشرعية لم يخطر بباله هذه المسألة حتى سألوها منه فطلب العلم ثم تاب عن تركه طريقة الاستدلال أو خطرت بباله وكان ناظرا فيها طالبا للحق فاجترأ على السؤال لتتبين له جلية الحال وهذا تغيير وتلطيف للعبارة في التعبير عن جهل كليم الله تعالى بما يجوز عليه وبما لا يجوز وقصوره في المعرفة عن حثالة المعتزلة نعوذ بالله من الغباوة والغواية واعلم أن توجيه هذه الاعتراضات على قانون المناظرة أنا لا نسلم أنه طلب الرؤية بل العلم الضروري أو رؤية آية أو علامة ولو سلم فلا نسلم لزوم الجهل أو العبث لجواز أن يكون لغرض إرشاد القوم أو زيادة اطمئنان القلب ولو سلم فلا نسلم استحالة جهل موسى عليه السلام بمثل هذه المسائل فعليك بتطبيق الأجوبة وأما الاعتراض على الوجه الثاني من طريق الاستدلال فمن وجوه
أحدها أنا لا نسلم أنه علق الرؤية على استقرار الجبل مطلقا أو حالة السكون ليكون ممكنا بل عقيب النظر بدلالة الفاء وهو حالة تزلزل واندكاك ولا نسلم إمكان الاستقرار حينئذ والجوب أن الاستقرار حالة الحركة أيضا ممكن بأن يحصل بدل الحركة السكون لأن الإمكان الذاتي لا يزول ولهذا صح جعله دكا فإنه لا يقال جعله دكا إلا فيما يجوز أن لا يكون كذا وإنما المحال هو اجتماع الحركة والسكون وهذا كما أن قيام زيد حال قعوده ممكن وبالعكس واجتماعهما محال وما يقال أن الاستقرار مع الحركة محال إن أريد الاجتماع فمسلم لكن ليس هو المعلق عليه وإن أريد المقيد بالمعية فممنوع فإن قيل قد جعلتم الأعم وهو الإمكان الذاتي مستلزما للأخص وهو الاستقبالي قلنا العموم والخصوص بينهما إنما هو بحسب المفهوم دون الوجود لأن الممكن الذاتي ممكن أبدا وقد يقال في الجواب أنه علقها على استقرار الجبل من حيث هو من غير قيد وهو ممكن في نفسه فيرد عليه أنه واقع في الدنيا فيلزم وقوع الرؤية فيها اللهم إلا أن يقال المراد استقرار الجبل من حيث هو لكن في المستقبل وعقيب النظر بدليل الفاء وإن فلا يرد السكون السابق أو اللاحق فإن قيل وجود الشرط لا يستلزم وجود المشروط قلنا ذلك في الشرط بمعنى ما يتوقف عليه الشيء ولا يكون داخلا فيه وأما الشرط التعليقي فمعناه ما يتم به علية العلة وآخر ما يتوقف عليه الشيء وما جعل بمنزلة الملزوم لما علق عليه
وثانيها أن ليس القصد ههنا إلى بيان إمكان الرؤية أو امتناعها بل إلى بيان أنها لم تقع لعدم وقوع المعلق عليه ورد بأن المدعى لزوم الإمكان قصد أو لم يقصد وقد ثبت وثلثها أنه لما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط وهو الرؤية في المستقبل فانتفت أبدا لتساوي الأزمنة فكانت محالا وهذا في غاية الفساد
ورابعها أن التعليق بالجائز إنما يدل على الجواز إذا كان القصد إلى وقوع المشروط عند وقوع الشرط وأما إذا كان القصد إلى الإقناط الكلي عن وجود المشروط بشهادة القرائن كما في هذه الآية فلا ورد بأن
____________________
(2/113)
الآية على الأطماع أدل منها على الإقناط وسيجيء الكلام على القرائن وقد يقال أن في الآية وجهين آخرين من الاستدلال
أحدهما أنه قال لن تراني ولم يقل لست بمرئي على ما هو مقتضى المقام لو امتنعت الرؤية وأخطأ السائلون والآخر أنه ليس معنى التجلي للجبل أنه ظهر عليه بعدما كان محجوبا عنه بل أنه خلق فيه الحياة والرؤية فرآه على ماحكى ابن فورك عن الأشعري وضعفهما ظاهر وقال وثالثهما تمسك المتقدمون من أهل السنة في إمكان الرؤية بدليل عقلي تقريره أنا نرى الجواهر والأعراض بحكم الضرورة كالأجسام وكالأضواء والألوان والأكوان وباتفاق الخصوم وإن زعم لبعض منهم في بعض الأعراض أنها أجسام وفي الطول الذي هو جواهر ممتدة أنه عرض ورد بأنه يدرك الطول بمجرد تألف عدة من الجواهر في سمت وإن لم يخطر بالبال شيء من الأعراض وقد يستدل على رؤية القبيلتين بأنا نميز بالبصر بين نوع ونوع من الأجسام كالشجر والحجر ونوع ونوع من الألوان كالسواد والبياض من غير أن يقوم شيء منها بآلة الإبصار وبالجملة لما صحت رؤيتهما وصحة الرؤية أمر يتحقق عند الوجود وينتفي عند العدم لزم أن يكون لها علة لامتناع الترجح بلا مرجح وأن تكون تلك العلة مشتركة بين الجوهر والعرض لما مر من امتناع تعليل الواحد بعلتين وهي إما الوجود وإما الحدوث إذ لا ثالث يصلح للعلية والحدوث أيضا غير صالح لأنه عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم وهو اعتباري محض أو عن الوجود بعد العدم ولا مدخل للعدم فتعين الوجود وهو مما يشترك فيه الواجب لما مر في بحث الوجود فلزم صحة رؤيته وهو المط واعترض عليه بوجوه يندفع أكثرها بما دل عليه كلام إمام الحرمين من أن المراد بالعلة ههنا ما يصلح متعلقا للرؤية لا المؤثر في الصحة على ما فهمه الأكثرون
فالاعتراض الأول أن الصحة معناها الإمكان وهو أمر اعتباري لا يفتقر إلى علة موجودة بل يكفيه الحدوث الذي هو أيضا اعتباري ووجه اندفاعه أن ما لا تحقق له في الأعيان لا يصلح متعلقا للرؤية بالضرورة
الثاني أنه لا حصر للمشترك بينهما في الحدوث والوجود فإن الإمكان أيضا مشترك فلم لا يجوز أن يكون هو العلة ووجه اندفاعه أن الإمكان اعتباري لا تحقق له في الخارج فلا يمكن تعلق الرؤية به وكيف والمعدوم متصف بالإمكان فيلزم أن يصح رؤيته وهو باطل بالضرورة
الثالث أن صحة رؤية الجوهر لا تماثل صحة رؤية العرض إذ لا يسد أحدهما مسد الآخر فلم لا يجوز أن يعلل كل منهما بعلة على الانفراد ولو سلم تماثلهما فالواحد النوعي قد يعلل بعلتين مختلفتين كالحرارة بالشمس والنار فلا يلزم
____________________
(2/114)
أن يكون له علة مشتركة ووجه اندفاعه أن متعلق الرؤية لا يجوز أن يكون من خصوصيات الجوهرية أو العرضية بل يجب أن يكون مما يشتركان فيه للقطع بأنا قد نرى الشيء وندرك أن له هوية ما من غير أن ندرك كونه جوهرا أو عرضا فضلا عن أن ندرك ما هو زيادة خصوصية لأحدهما ككونه إنسانا أو فرسا سوادا أو خضرة بل ربما نرى زيدا بأن تتعلق رؤية واحدة بهويته من غير تفصيل لما فيه من الجواهر والأعراض ثم قد نفصله إلى ما له من تفاصيل الجواهر والأعراض وقد نغفل عن التفاصيل بحيث لا نعملها عندما سئلنا عنها وإن استقصينا في التأمل فعلم أن ما يتعلق به الرؤية هو الهوية المشتركة لا الخصوصيات التي بها الافتراق وهذا معنى كون علة صحة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض
الرابع أن بعد ثبوت كون الوجود هو العلة وكونه مشتركا بين الجوهر والعرض وبين الواجب لا يلزم من صحة رؤيتهما صحة رؤيته لجواز أن تكون خصوصية الجوهرية أو العرضية شرطا لها أو خصوصية الواجبية مانعا عنها ووجه اندفاعه أن صحة رؤية الشيء الذي له الوجود الذي هو المتعلق للرؤية ضروري بل لا معنى لصحة رؤيته إلا ذلك ثم الشرطية أو المانعية إنما تتصور لتحقق الرؤية لا لصحتها وقد يعترض بوجوه أخر
الأول منع اشتراك الوجود بين الواجب وغيره بل وجود كل شيء عين حقيقته ولا خفاء في أن حقيقة الواجب لا تماثل حقيقة الممكن وحقيقة الإنسان لا تماثل حقيقة الفرس وجوابه ما مر في بحث الوجود وغاية الأمر أن الاعتراض يرد على الأشعري إلزاما ما دام كلامه محمولا على ظاهره وأما بعد تحقيق أن الوجود هو كون الشيء له هوية فاشتراكه ضروري
الثاني أنه يلزم على ما ذكرتم صحة رؤية كل موجود حتى الأصوات والطعوم والروائح والاعتقادات والقدر والإرادات وأنواع الإدراكات وغير ذلك من الموجودات وبطلانه ضروري والجواب منع بطلانه وإنما لا تتعلق بها الرؤية بناء على جري العادة بأن الله تعالى لا يخلق فينا رؤيتها لا بناء على امتناع ذلك وما ذكره الخصم مجرد استبعاد
الثالث نقص الدليل بصحة المخلوقية فإنها مشتركة بين الجوهر والعرض ولا مشترك بينهما يصلح علة لذلك سوى الوجود فيلزم صحة مخلوقية الواجب وهو محال والجواب أنها أمر اعتباري محض لا يقتضي علة إذ ليست مما يتحقق عند الوجود وينتفي عند العدم كصحة الرؤية سلمنا لكن الحدوث يصلح ههنا علة لأن المانع من ذلك في صحة الرؤية إنما هو امتناع تعلق الرؤية بما لا تحقق له في الخارج وأما النقض بصحة الملموسية فقوي والإنصاف أن ضعف هذا الدليل جلي وعلى ما ذكرنا من أن المراد بالعلة ههنا متعلق الرؤية يكون المرئي من كل شيء وجوده وقال الإمام الرازي في نهاية العقول من أصحابنا من التزم أن المرئي هو الوجود فقط وأنا لا نبصر اختلاف المختلقات بل نعلمه بالضرورة وهذه مكابرة لا نرتضيها بل الوجود علة لصحة كون الحقيقة المخصوصة مرئية ( قال وعلى
____________________
(2/115)
الوقوع ) الإجماع والنص لا خفاء في أن إثبات وقوع الرؤية لا يمكن إلا بالأدلة السمعية وقد احتجوا عليه بالإجماع والنص أما الإجماع فاتفاق الأمة قبل حدوث المخالفين على وقوع الرؤية وكون الآيات والأحاديث الواردة فيها على ظواهرها حتى روى حديث الرؤية أحد وعشرون رجلا من كبار الصحابة رضي الله عنهم وأما النص فمن الكتاب قوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } فإن النظر الموصول بإلى إما بمعنى الرؤية أو ملزوم لها بشهادة النقل عن أئمة اللغة والتتبع لموارد استعماله وإما مجاز عنها لكونه عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي طلبا لرؤيته وقد تعذر ههنا الحقيقة لامتناع المقابلة والجهة فتعين الرؤية لكونها أقرب المجازات بحيث التحق بالحقائق بشهادة العرف والتقديم لمجرد الاهتمام ورعاية الفاصلة دون الحصر أو للحصر ادعاء بمعنى أن المؤمنين لاستغراقهم في مشاهدة جماله وقصر النظر على عظمة جلاله كأنهم لا يلتفتون إلى ما سواه ولا يرون إلا الله واعترض بأن إلى ههنا ليست حرفا بل اسما بمعنى النعمة واحد الآلاء وناظرة من النظر بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى { انظرونا نقتبس من نوركم } ولو سلم فالموصول بإلى أيضا قد يجيء بمعنى الانتظار كما في قول الشاعر
( وجوه ناظرات يوم بدر ** إلى الرحمن تأتي بالفلاح ) وقوله
( وشعث ينظرون إلى بلال ** كما نظر الظماء إلى الغمام ) وقوله
( كل الخلائق ينظرون سجاله ** نظر الحجيج إلى طلوع هلال ) ولو سلم فالنظر الموصول بإلى ليس بمعنى الرؤية ولا ملزوما لها لاتصافه بما لا يتصف به الرؤية مثل الشدة والازورار والرضى والتجبر والذل والخشوع ولتحققه مع انتفاء الرؤية مثل نظرت إلى الهلال فلم أره قال الله تعالى { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } وجعله مجازا عن الرؤية ليس بأولى من حمله على حذف المضاف أي ناظرة إلى ثواب ربها على ما ذكره علي رضي الله عنه وكثير من المفسرين وبالجملة فلا خفاء في أن ما ذكرنا احتمالات تدفع الاحتجاج بالآية وأجيب بأن سوق الآية لبشارة المؤمنين وبيان أنهم يومئذ في غاية الفرح والسرور والإخبار بانتظارهم النعمة والثواب لا يلائم ذلك بل ربما ينافيه لأن الانتظار موتا أحمر فهو بالغم والحزن والقلق وضيق الصدر أجدر وإن كان مع القطع بالحصول على أن كون إلى اسما بمعنى النعمة لو ثبت في اللغة فلا خفاء في بعده وغرابته وإخلاله بالفهم عند تعلق النظر به ولهذا لم يحمل الآية عليه أحد من أئمة التفسير في القرن الأول والثاني بل أجمعوا على خلافه وكون النظر الموصول بإلى سيما المسند إلى الوجه بمعنى الانتظار مما لم يثبت عن الثقاة ولم يدل عليه الأبيات لجواز أن يحمل على تقليب الحدقة بتأويلات لا يخفى وأما اعتبار حذف المضاف فعدول عن الحقيقة أو المجاز المشهور إلى الحذف
____________________
(2/116)
الذي لا تظهر فيه قرينة تعين المحذوف وتمام الكلام في الإشكالات الموردة من قبل المعتزلة على الاحتجاج بالآية والتفصي عنها من قبل أهل الحق مذكور في نهاية العقول للإمام الرازي لكن الإنصاف أنه لا يفيد القطع ولا ينفي الاحتمالات ومنه قوله تعالى { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } حقر شأن الكفار وخصهم بكونهم محجوبين فكان المؤمنون غير محجوبين وهو معنى الرؤية والحمل على كونهم محجوبين عن ثوابه وكرامته خلاف الظاهر ومنه قوله تعالى { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } فسر جمهور أئمة التفسير الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية على ما ورد في الخبر كما سيجيء وهو لا ينافي ما ذكره البعض من أن الحسنى هو الجزاء المستحق والزيادة هي الفضل فإن قيل الرؤية أصل الكرامات وأعظمها فكيف يعبر عنها بالزيادة قلنا للتنبيه على أنها أجل من أن تعد في الحسنات وفي أجزية الأعمال الصالحات والنص من السنة قوله عليه الصلاة والسلام إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ومنها ما روي عن صهيب أنه قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } قال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يشتهي أن ينجزكموه قالوا ما هذا الموعد ألم يثقل موازيننا وينضر وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه الله عز وجل قال فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر ومنها قوله عليه السلام إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقد صحح هذه الأحاديث من يوثق به من أئمة الحديث إلا أنها آحاد قال تمسك المخالف بوجوه يعني للمعتزلة شبه عقلية وسمعية بعضها يمنع صحة الرؤية وبعضها وقوعها فالعقلية أصولها ثلاثة
الأولى شبهة المقابلة وهي أنه لو كان مرئيا لكان مقابلا للرائي حقيقة كما في الرؤية بالذات أو حكما كما في الرؤية بالمرآة والحق أنه لا حاجة إلى هذا التفصيل لأن المرئي بالمرآة هو الصورة المنطبعة فيها المقابلة للرائي حقيقة لا ما له الصورة كالوجه مثلا ويدعون في لزوم المقابلة الضرورة ويفرعون على ذلك وجوها من الاستدلال مثل أنه لو كان مرئيا لكان في جهة وحيز وهو محل ولكان جوهرا أو عرضا لأن المتحيز بالاستقلال جوهر وبالتبعية عرض ولكان إما في البدن أو خارج البدن أو فيهما ولكان في الجنة أو خارج الجنة أو فيهما إذ لا تعقل الرؤية إن لم تكن فيه ولا خارجة لانتفاء المقابلة ولكان المرئي إما كله فيكون محدودا متناهيا أو بعضه فيكون متبعضا متجزيا وهذا بخلاف العلم فإنه إنما يتعلق بالصفات ولا فساد في أن يكون المعلوم كلها أو بعضها ولكان إما على مسافة من الرائي فيكون
____________________
(2/117)
في حيز وجهة أو لا فيكون في العين أو متصلا بها ولكان رؤية المؤمنين إياه إما دفعة فيكون متصلا بعين كل أحد بتمامه فيتكثر أو لا بتمامه فيتجزأ أو منفصلا عنها فيكون على مسافة وأما على التعاقب مع استوائهم في سلامة الحواس فيلزم الحجاب بالنسبة إلى البعض ولكان رؤيته إما مع رؤية شيء آخر مما في الجنة فيكون على جهة منه ضرورة أن رؤية الشيئين دفعة لا تعقل إلا كذلك وإما لا معها فيكون ما هو باطن في الدارين مرئيا وما هو ظاهر غير مرئي مع شرائط الرؤية وحديث غلبة شعاع أحد المرئيين إنما يصح في الأجسام والجواب أن لزوم المقابلة والجهة ممنوع وإنما الرؤية نوع من الإدراك يخلقه الله متى شاء ولأي شيء شاء ودعوى الضرورة فيما نازع فيه الجم الغفير من العقلاء غير مسموع ولو سلم في الشاهد فلا يلزم في الغائب لأن الرؤيتين مختلفتان إما بالماهية وإما بالهوية لا محالة فيجوز اختلافهما في الشروط واللوازم وهذا هو المراد بالرؤية بلا كيف بمعنى خلوها عن الشرائط والكيفيات المعتبرة في رؤية الأجسام والأعراض لا بمعنى خلو الرؤية أو الرائي أو المرئي عن جميع الحالات والصفات على ما يفهمه أرباب الجهالات فيعترضون بأن الرؤية فعل من أفعال العبد أو كسب من أكسابه فبالضرورة يكون واقعا بصفة من الصفات وكذا المرئي بحاسة العين لا بد أن يكون له كيفية من الكيفيات نعم يتوجه أن يقال نزاعنا إنما هو في هذا النوع من الرؤية لا في الرؤية المخالفة لها بالحقيقة المسماة عندكم بالانكشاف التام وعندنا بالعلم الضروري قال الثاني الشبهة الثانية شبهة الشعاع والانطباع وهي أن الرؤية إما باتصال شعاع العين المرئي وإما بانطباع الشبح من المرئي في حدقة الرائي على اختلاف المذهبين وكلاهما في حق الباري ظاهر الامتناع فتمتنع رؤيته والجواب أن هذا مما نازع فيه الفلاسفة فضلا عن المتكلمين على ما سبق في بحث القوى ولو سلم فإنما هو في الشاهد دون الغائب إما على تقدير اختلاف الرؤيتين بالماهية فظاهر وإما على تقدير اتفاقهما فلجواز أن يقع أفراد الماهية الواحدة بطرق مختلفة ( قال الثالث ) الشبهة الثالثة شبهة الموانع وهي أنه لو جازت رؤيته تعالى لدامت لكل سليم الحاسة في الدنيا والآخرة فيلزم أن نراه الآن وفي الجنة على الدوام والأول منتف بالضرورة والثاني بالإجماع وبالنصوص القاطعة الدالة على اشتغالهم بغير ذلك من اللذات وجه اللزوم أنه يكفي للرؤية في حق الغائب سلامة الحاسة وكون الشيء جائز الرؤية لأن المقابلة وانتفاء الموانع من فرط الصغر أو اللطافة أو القرب أو البعد أو حيلولة الحجاب الكثيف أو الشعاع المناسب لضوء العين إنما يشترط في الشاهد أعني رؤية الأجسام والأعراض فعند تحقق الأمرين لو لم تجب الرؤية لجاز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة لا نراها لأن الله تعالى لم يخلق رؤيتها أو لتوقفها على شرط آخر وهذا قطعي البطلان والجواب أنه إن أريد جواز ذلك في نفسه بمعنى كونه من الأمور الممكنة فليس قطعي
____________________
(2/118)
البطلان بل قطعي الصحة والشرطية المذكورة ليست لزومية بل اتفاقية بمنزلة قولنا لو لم تجب الرؤية عند تحقق الشرائط لكان العالم ممكنا وإن أريد جوازه عند العقل بمعنى تجويز ثبوت الجبال وعدم جزمه بانتفائها فاللزوم ممنوع فإن انتفاءها من العاديات القطعية الضرورية كعدم جبل من الياقوت وبحر من الزئبق ونحو ذلك مما يخلق الله تعالى العلم الضروري بانتفائها وإن كان ثبوتها من الممكنات دون المحالات وليس الجزم به مبنيا على العلم بأنه تجب الرؤية عند وجود شرائطها لحصوله من غير ملاحظة ذلك بل مع الجهل بذلك سلمنا وجوب الرؤية عند تحقق الشرائط المذكورة في حق الشاهد لكن لا نسلم وجوبها في الغائب عند تحقق الأمرين لجواز أن تكون الرؤيتان مختلفتين في الماهية فتختلفان في اللوازم أو تكون رؤية الخالق مشروطة بزيادة قوة إدراكية في الباصرة لا يخلقها الله إلا في الجنة في بعض الأزمان ثم لا يخفى ضعف ما ذكره بعض المعتزلة من أن العينين أعني الدنيوية والأخروية لما كانتا مثلين لزم تساويهما في الأحكام واللوازم والشروط وأن الشروط والموانع يجب أن تكون منحصرة فيما ذكرنا للدوران القطعي ولأنه إذا قيل أن لنا هناك مرئيا آخر مقرونا بجميع ما ذكر من الشرائط وانتفاء الموانع إلا أنه لا يرى لانتفاء شرط أو تحقق مانع غير ذلك فنحن نقطع ببطلانه واحتج الإمام الرازي على بطلان انحصار الشرائط فيما ذكروه بوجهين
أحدهما مبناه على قاعدة المتكلمين أعني تركب الجسم من أجزاء لا تتجزأ أنا نرى الجسم الكبير من البعيد صغيرا وما ذاك إلا لرؤية بعض أجزائه دون البعض مع استواء الكل في الشرائط المذكورة فلولا اختصاص البعض بشرط وارتفاع مانع لما كان كذلك
وثانيهما أنا نرى ذرات الغبار عند اجتماعها ولا نراها عند تفرقها مع حصول الشرائط المذكورة في الحالين فعلمنا اختصاصها حالة التفرق بانتفاء شرط أو وجود مانع لا يقال بل ذلك لانتفاء شرط الكثافة وتحقق مانع الصغر لأنا نقول فحينئذ تكون رؤية كل ذرة مشروطة بانضمام الأخرى إليها وهو دور وأجيب عن الأول بمنع التساوي فإن أجزاء الجسم متفاوتة في القرب والبعد من الحدقة فلعل البعض منها تقع في حد البعد المانع من الرؤية بخلاف البعض وعن الثاني بأنه دور معية لا تقدم قال الرابع هذه هي الشبه السمعية وأقواها قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } والتمسك به من وجهين
أحدهما أن إدراك البصر عبارة شائعة في الإدراك بالبصر إسنادا إلى الآلة والإدراك بالبصر هو الرؤية بمعنى اتحاد المفهومين أو تلازمهما بشهادة النقل عن أئمة اللغة والتتبع لموارد الاستعمال والقطع بامتناع إثبات أحدهما ونفي الآخر مثل أدركت القمر ببصري وما رأيته والجمع المعرف باللام عند عدم قرينة العهد والبعضية للعموم والاستغراق بإجماع أهل العربية والأصول وأئمة التفسير وبشهادة استعمال الفصحاء وصحة الاستثناء فالله سبحانه قد أخبر بأنه لا يراه أحد في المستقبل
____________________
(2/119)
فلو رآه المؤمنون في الجنة لزم كذبه وهو محال لا يقال إذا كان الجمع للعموم فدخول النفي عليه يفيد سلب العموم ونفي الشمول على ما هو معنى السلب الجزئي لا عموم السلب وشمول النفي على ما هو معنى السلب الكلي فلا يكون إخبارا بأنه لا يراه أحد بل بأنه لا يراه كل أحد والأمر كذلك لأن الكفار لا يرونه لأنا نقول كما يستعمل لسلب العموم مثل ما قام العبيد كلهم ولم آخذ الدراهم كلها كذلك يستعمل لعموم السلب كقوله تعالى { وما الله يريد ظلما للعالمين } { ولا تطع الكافرين والمنافقين } وكذلك صريح كلمة كل مثل لا يفلح كل أحد ولا أقبل كل درهم ومثل { والله لا يحب كل مختال فخور } { ولا تطع كل حلاف مهين } وتحقيقه أنه إن اعتبرت النسبة إلى الكل أو لا ثم نفيت فهو لسلب العموم وإن اعتبرت النفي أو لا ثم نسبت إلى الكل فلعموم السلب وكذلك جميع القيود حتى أن الكلام المشتمل على نفي وقيد قد يكون لنفي التقييد وقد يكون لتقييد النفي فمثل ما ضربته تأديبا أي بل إهانة سلب للتعليل والعمل للفعل وما ضربته إكراما له أي تركت ضربه للإكرام تعليل للسلب والعمل للنفي وما جاءني راكبا أي بل ماشيا نفي للكيفية وما حج مستطيعا أي ترك الحج مع الاستطاعة تكييف للنفي وعلى هذا الأصل يبتني أن النكرة في سياق النفي إنما تعم إذا تعلقت بالفعل مثل ما جاءني رجل لا بالنفي مثل قولنا الأمي من لا يحسن من الفاتحة حرفا وأن إسناد الفعل المنفي إلى غير الفاعل والمفعول يكون حقيقة إذا قصد نفي الإسناد مثل ما نام الليل بل صاحبه ومجازا إذا قصد إسناد النفي مثل ما نام ليلي وما صام نهاري وما ربحت تجارته بمعنى سهر وأفطر وخسرت وكذا ما ليلي بنائم وإن كان ظاهره على نفي الإسناد كان المعنى ليلي ساهر وإن متعلق النهي قد يكون قيدا للمنهي مثل لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وقد يكون قيدا للنهي أي طلب الترك مثل لا تكفر لتدخل اجلنة وإن مثل وما هم بمؤمنين لتأكيد النفي لا لنفي التأكيد وما زيدا ضربت لاختصاص النفي لا لنفي الاختصاص وأغير الله أعبد لاختصاص الإنكار دون العكس وإذا تحقق النفي فالإثبات أيضا كذلك حتى أن الشرط كما يكون سببا لمضمون الجزاء فقد يكون سببا لمضمون الإخبار به والإعلام كقوله تعالى { وما بكم من نعمة فمن الله } وإن متعلق الأمر كما يكون قيدا للمطلوب فقد يكون قيدا للطلب مثل صل لأنها فريضة وزك لأنك غني وهذا أصل كثير الشعب غزير الفوائد يجب التنبه له والمحافظة عليه ولم يبينه القوم على ما ينبغي فلذا أشرنا إليه إذا تقرر هذا فنقول كون الجمع المعرف باللام في النفي لعموم السلب هو الشائع في الاستعمال حتى لا يوجد مع كثرته في التنزيل إلا بهذا المعنى وهو اللائق بهذا المقام على ما لا يخفى
وثانيهما أي ثاني وجهي التمسك بالآية أن نفي إدراكه بالبصر وارد مورد التمدح مدرج في أثناء المدح فيكون نقيضه وهو الإدراك بالبصر نقصا وهو على الله تعالى محال فيدل هذا الوجه على نفي الجواز والجواب أولا أنه لو سلم عموم الإبصار وكون الكلام لعموم السلب لكن لا نسلم عمومه
____________________
(2/120)
في الأوقات والأحوال فيحمل على نفي الرؤية في الدنيا جمعا بين الأدلة وأورد عليه
أولا أن هذا تمدح وما به التمدح يدوم في الدنيا والآخرة ولا يزول ودفع بأن امتناع الزوال إنما هو فيما يرجع إلى الذات والصفات وأما ما يرجع إلى الأفعال فقد يزول بحدوثها والرؤية من هذا القبيل فقد يخلقها الله في العين وقد لا يخلق ثم لو سلم عموم الأوقات فغايته الظهور والرجحان ومثله إنما يعتبر في العمليات دون العلميات
وثانيا أنا لا نسلم أن الإدراك بالبصر هو الرؤية أو لازم لها بل هو رؤية مخصوصة وهو أن يكون على وجه الإحاطة بجوانب المرئي إذ حقيقته النيل والوصول مأخوذا من أدركت فلانا إذا لحقته ولهذا يصح رأيت القمر وما أدركه بصري لإحاطة الغيم به ولا يصح أدركه بصري وما رأيته فيكون أخص من الرؤية ملزوما لها بمنزلة الإحاطة من العلم فلا يلزم من نفيه نفيها ولا من كون نفيه مدحا كون الرؤية نقصا واستدلالهم بأن قولنا أدركت القمر ببصري وما رأيته تناقض إنما يفيد ما ذكرنا لا ما ذكروا ونقلهم عن أئمة اللغة افتراء فإن إدراك الحواس مستعار من أدركت فلانا إذا لحقته وقد صار حقيقة عرفية فالرجوع فيه إلى العرف دون اللغة فإن قيل فإذا كان الإدراك ما ذكرتم وهو مستحيل في حق الباري لم يكن لقوله { لا تدركه الأبصار } فائدة ولا لقوله { وهو يدرك الأبصار } جهة قلنا أما فائدته فالتمدح بتنزهه عن سمات الحدوث والنقصان من الحدود والنهايات وأما إدراكه الأبصار فعبارة عن رؤية إياها أو علمه بها تعبيرا عن اللازم بالملزوم
وثالثا أن المنفي إدراك الأبصار ولا نزاع فيه والمتنازع إدراك المبصرين ولا دلالة على نفيه وهذا ينسب إلى الأشعري وضعفه ظاهر لما أشرنا إليه ولما أن جميع الأشياء كذلك إذ المرئيات منها إنما يدركها المبصرون لا الأبصار فلا تمدح في ذلك بل لا فائدة أصلا اللهم إلا أن يراد أن إدراك الأبصار هو الرؤية بالجارحة على طريق المواجهة والانطباع فيكون نفيه تمدحا وبيانا لتنزه الباري تعالى عن الجهة ولا يستلزم نفي الرؤية بالمعنى المتنازع فيه ( قال بل ربما يلزم جوازها ) إشارة إلى استدلال الأصحاب بالآية على جواز الرؤية وتقرير الظاهريين منهم أن التمدح بنفي الرؤية يستدعي جوازها ليكون ذلك للتمنع والتعذر بحجاب الكبرياء لا لامتناعها كالمعدوم حيث لا يرى ولا مدح له في ذلك واعترض بأن ذلك لعرائه عما هو أصل الممادح والكمالات أعني الوجود وأما الموجود فيتمدح بنفي الرؤية التي هي من صفات الخلق وسمات النقص وإن لم يجز رؤيته وأجيب بأنه لا تمدح في ذلك ايضا لأن كثيرا من الموجودات بهذه المثابة كالأصوات والطعوم والروائح وغيرها فاعترض بأن هذا لا يستقيم على أصلكم حيث جعلتم متعلق الرؤية هو الوجود وجوزتم رؤية كل موجود فأجيب بأن تلك الأعراض وإن كانت جائزة الرؤية إلا أنها مقرونة بإمارات الحدوث وسمات النقص فلم يكن نفي رؤيتها مدحا بخلاف الصانع فإنه علم بالأدلة القاطعة قدمه وكما له وأدرج تمدحه بنفي
____________________
(2/121)
الرؤية في أثناء كلام ينفي سمات الحدوث والزوال ويشتمل على آيات العظمة والجلال أعني قوله تعالى { بديع السماوات والأرض } إلى قوله { وهو اللطيف الخبير } فدل على جواز الرؤية ليصلح نفيها تمدحا وصار الحاصل أن نفي الرؤية عن الموجود الجائز الرؤية الخالي عن سمات النقص بل المقرون بصفات الكمال تمدح له فاعترض بأنه يجب أن لا يزول فلا يرى في الآخرة لأن زوال ما به التمدح نقص وأجيب بأن ذلك إنما هو فيما يرجع إلى الذات وصفاته والتمدح بنفي الرؤية راجع إلى صفات الفعل لأن الرؤية بخلق الله تعالى ونفيها بخلق ضدها والأفعال حادثة يجوز زوالها وزوال الممادح الراجعة إليها إذ لا يحصل بذلك تغير في القديم ولا نقص في الذات ولما لم يستقم هذا على رأي القائلين بقدم التكوين ومغايرته للمكون لم يحسن جعل هذا التمدح راجعا إلى الفعل لأنه لا مدح للشيء في أن لا يخلق الله تعالى في أعين الناس رؤيته بل ضدها لأن كل ما دب ودرج لا يرى إذا لم يخلق الله تعالى رؤيته في الأبصار أجاب بعضهم بأن إدراك البصر هو الإحاطة بجوانب المرئي والوقوف على حدوده ونهاياته والتمدح به إنما يكون على تقدير صحة الرؤية وانتفاء إمارات الحدوث وسمات النقص إذ لا تمدح بنفي الإدراك فيما تمتنع رؤيته التي هي سبب الإدراك كالمعدوم ولا فيما تصح رؤيته لكن عرف حدوثه ونقصه كالأصوات والروائح والطعوم واعلم أن مبنى هذا الاستدلال على أن يكون كل من قوله { لا تدركه الأبصار } وقوله { وهو يدرك الأبصار } تمدحا على حدة لا أن يكون المجموع تمدحا واحدا فليتأمل ( قال الخامس ) هذه ثانية الشبه السمعية وتقريرها أن الله تعالى خاطب موسى عليه السلام عند سؤاله الرؤية بقوله لن تراني وكلمة لن للنفي في المستقبل على سبيل التأبيد فيكون نصا في أن موسى عليه السلام لا يراه في الجنة أو على سبيل التأكيد فيكون ظاهرا في ذلك لأن الأصل في مثله عموم الأوقات وإذا لم يره موسى عليه السلام لم يره غيره إجماعا والجواب أن كون كلمة لن للتأبيد لم يثبت ممن يوثق به من أئمة اللغة وكونها للتأكيد وإن ثبت بحيث لا يمنع إلا مكابرة لكن لا نسلم دلالة الكلام على عموم الأوقات لا نصا ولا ظاهرا ولو سلم الظهور فلا عبرة به في العلميات سيما مع ظهور قرينة الخلاف وهو وقوعه جوابا لسؤال الرؤية في الدنيا على أنه لو صرح بالعموم وجب الحمل على الرؤية في الدنيا توفيقا بين الأدلة ( قال السادس قوله تعالى { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } سبقت الآية لنفي أن يراه أحد من البشر حين يكلمه الله تعالى فكيف في غير تلك الحالة ونزلت حين قالوا لمحمد عليه الصلاة والسلام ألا تكلم الله وتنظر إليه كما كلم موسى عليه السلام ونظر إليه فقال لم ينظر إليه موسى وسكت والمعنى ما صح لبشر أن يكلمه الله إلا كلاما خفيا بسرعة في المنام والإلهام أو صوتا من وراء حجاب كما كان لموسى عليه السلام أو على لسان ملك كما هو الشائع الكثير من حال الأنبياء
____________________
(2/122)
والجواب منع ذلك بل إنما سبقت الآية لبيان أنواع تكليم الله البشر والتكليم وحيا أعم من أن يكون مع الرؤية أو بدونها بل ينبغي أن يحمل على حال الرؤية ليصح جعل قوله { أو من وراء حجاب } عطفا عليه قسيما له إذ لا معنى له سوى كونه بدون الرؤية تمثيلا بحال من احتجب بحجاب ولو سلم دلالتها على نفي الرؤية ونزولها في ذلك فيحمل على الرؤية في الدنيا جمعا بين الأدلة وجريا على موجب القرينة أعني سبب النزول وقوله { وحيا } نصب على المصدر و { من وراء حجاب } صفة لمحذوف أي كلاما من وراء الحجاب أو يرسل عطف على وحيا بإضمار أن والإرسال نوع من الكلام ويجوز أن تكون الثلاثة في موضع الحال قال السابع ) تقريره أن الله حيثما ذكر في كتابه سؤال الرؤية استعظمه استعظاما شديدا واستنكره استنكارا بليغا حتى سماه ظلما وعتوا كقوله تعالى { وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا } وقوله { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون } وقوله { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } فلو جازت رؤيته لما كان كذلك والجواب أن ذلك لتعنتهم وعنادهم على ما يشعر به مساق الكلام لا لطلبهم الرؤية ولهذا عوتبوا على طلب إنزال الملائكة عليهم والكتاب مع أنه من الممكنات وفاقا ولو سلم فلطلبهم الرؤية في الدنيا وعلى طريق الجهة والمقابلة على ما عرفوا من حال الأجسام والأعراض وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام { تبت إليك وأنا أول المؤمنين } معناه التوبة عن الجرأة والإقدام على السؤال بدون الإذن أو عن طلب الرؤية في الدنيا ومعنى الإيمان التصديق بأنه لا يرى في الدنيا وإن كانت ممكنة وما قال به بعض السلف من وقوع الرؤية بالبصر ليلة المعراج فالجمهور على خلافه وقد روي أنه سئل صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال رأيت ربي بفؤادي وإن الرؤية في المنام فقد حكي القول بها عن كثير من السلف قال خاتمة اختلف القائلون برؤية الله تعالى في أنه هل يصح رؤية صفاته فقال الجمهور نعم لاقتضاء دليل الوجود صحة رؤية كل موجود إلا أنه لا دليل على الوقوع وكذا إدراكه بسائر الحواس إذا عللناه بالوجود سيما عند الشيخ حيث يجعل الإحساس هو العلم بالمحسوس لكن لا نزاع في امتناع كونه مشموما مذوقا ملموسا لاختصاص ذلك بالأجسام والأعراض وإنما الكلام في إدراكه بالشم والذوق واللمس من غير اتصال بالحواس وحاصله انه كما أن الشم والذوق واللمس لا يستلزم الإدراك لصحة قولنا شممت التفاح وذقته ولمسته فما أدركت رائحته وطعمه وكيفيته كذلك أنواع الإدراكات الحاصلة عند الشم والذوق واللمس لا يستلزمها بل يمكن أن يحصل بدونها ويتعلق بغير الأجسام والأعراض وإن لم يقم دليل على الوقوع لكنك خبير بحال دليل الوجود وجريانه في سائر الحواس فالأولى الاكتفاء بالرؤية قال المبحث الثاني
____________________
(2/123)
اختلفوا في العلم بحقيقة الله تعالى للبشر أي في معرفة ذاته بكنه الحقيقة فقال بعدم حصوله كثير من المحققين خلاف لجمهور المتكلمين ثم القائلون بعدم الحصول جوزوه خلافا للفلاسفة احتج الأولون بوجهين
أحدهما أن ما يعلم منه البشر هو السلوب والإضافات والأحسن أن يقال هو الوجود بمعنى أنه كائن في الخارج والصفات بمعنى أنه حي عالم قادر ونحو ذلك والسلوب بمعنى أنه واحد أزلي أبدي ليس بجسم ولا عرض وما أشبه ذلك والإضافات بمعنى أنه خالق ورازق ونحوهما وظاهر أن ذلك ليس علما يحققه الذات لا يقال الوجود عين الذات عند كثير من المحققين فالعلم به علم به لأنا نقول قد أشرنا إلى أن معنى العلم بوجوده التصديق بأنه موجود ليس بمعدوم لا تصور وجوده الخاص بحقيقته وكذا الكلام في الصفات
وثانيهما أن ذاته المخصوصة جزئي حقيقي يمنع تصوره الشركة فيه ولا شيء مما يعلم منه كذلك ولهذا يفتقر في بيان التوحيد أي نفي الشركة إلى الدليل ولو كان المعلوم منه يمنع الشركة لما كان كذلك وما يقال أن الواجب كلي يمتنع كثرة أفراده فمعناه أن مفهوم الواجب كذلك لا الذات المخصوص الذي يصدق عليه أنه واجب ويرد على الوجهين أنا لا نسلم أن معلوم كل أحد من البشر ما ذكرتم ومن أين لكم الإحاطة بأفراد البشر ومعلوماتهم وقد يقال على الأخير أن من جملة ما علم منه الوحدانية بأدلتها القاطعة ومع اعتبار ذلك لا تتصور الشركة ولا الافتقار إلى بيان التوحيد فيجاب بأن هذا أيضا كلي إذ لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين وإن كان المفروض محالا نعم يتوجه أن يقال الكلام في حقيقة الواجب لا في هويته ولهذا ترى القائلين بامتناع المعلومية يجعلون امتناع اكتسابه بالحد والرسم مبنيا على أنه لا تركب فيه وأن الرسم لا يفيد الحقيقة لا على أن الشخص لا يعرف بالحد والرسم والقائلين بحصول المعلومية يقولون أنه لا حقيقة له سوى كونه ذاتا واجب الوجود يجب كونه قادرا عالما حيا سميعا بصيرا إلى غير ذلك من الصفات حتى اجترأ المشايخية من المعتزلة فقالوا إنا نعلم ذاته كما يعلم هو ذاته من غير تفاوت وهذا البحث عند المتكلمين يعرف بمسألة المائية وينسب القول بها إلى ضرار حيث قال أن الله تعالى مائية لا يعلمها إلا هو ولو رؤي لرؤي عليها وفي قدرة الله تعالى أن يخلق في الخلق حاسة سادسة بها يدركون تلك المائية والخاصية وحين رؤي ذلك عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنكر أصحابه هذه الرواية اشد إنكار وذلك لأن المائية عبارة عن المجانسة حيث يقال ما هو بمعنى أي جنس هو من أجناس الأشياء والله تعالى منزه عن الجنس لأن كل ذي جنس مماثل لجنسه ولما تحته من الأنواع والأفراد فالقول به تشبيه وفسره بعضهم بأن الله تعالى يعلم نفسه بمشاهدة لا بدليل ولا بخبر ونحن نعلمه بدليل وخبر ومن يعلم الشيء بالمشاهدة يعلم منه مالا يعلمه من لا يشاهد وليس هناك شيء هو المائية ليلزم التشبيه وكان أصحابنا يعدلون عن لفظ المائية إلى لفظ الخاصية كما قال القاضي أن خاصيته غير معلومة لنا الآن وهل تعلم بعد رؤيته
____________________
(2/124)
في الجنة فقد تردد احترازا عن التشبيه قال ثم هو كاف إشارة إلى جواب استدلال القائلين بوقوع العلم بحقيقته تحقيقا بأنا نحكم عليه بكثير من الصفات والتنزيهات والأفعال والحكم على الشيء يستدعي تصوره من حيث أخذ محكوما عليه وصح الحكم عليه فإذا كان الحكم على الحقيقة لزم العلم بالحقيقة وإلزاما بأن قولكم حقيقته غير معلومة اعتراف بكونها معلومة وإلا لم يصح الحكم عليها وأيضا الحكم إما إنها معلومة أو ليست بمعلومة وأيا ما كان يثبت المطلوب وتقرير الجواب أنها معلومة بحسب هذا المفهوم أعني كونها حقيقة الواجب وهذا أيضا من العوارض والوجوه والاعتبارات وكذا مفهوم الذات والماهية والكلام فيما يصدق عليه أنه الحقيقة والذات قال وأما الجواز تمسكت الفلاسفة في امتناع العلم بحقيقته بوجهين
أحدهما أن العلم هو ارتسام صورة المعلوم في النفس أي ماهيته الكلية المنتزعة من الوجود العيني بحذف المشخصات بحيث إذا وجدت كانت ذلك الشيء وليست للواجب ماهية كلية معروضة للتشخص على ما تقرر في موضعه ولو فرض ذلك لكان الواجب مقولا على تلك الصور المأخوذة في الأذهان فيصير كثيرا ويبطل التوحيد وأجيب بأنا لا نسلم أن العلم بارتسام الصورة ولو سلم فلا كذلك العلم بالواجب ولا علم الواجب ولو سلم فالمنافي للتوحيد تعدد أفراد الواجب لا الصور المأخوذة منه والمخل بالشخصية إمكان فرض صدق المفهوم على الكثيرين لا صدق الموجود العيني على الصور
وثانيهما أن تصور الشيء إما أن يحصل بالبديهة وهو منتف في الواجب وفاقا وإما بالحد وهو إنما يكون للمركب من الجنس والفصل والواجب ليس كذلك وإما بالرسم وهو لا يفيد العلم بالحقيقة والكلام فيه وأجيب بأنا لا نسلم انحصار طرق التصور في ذلك بل قد يحصل بالإلهام أو بخلق الله تعالى العلم الضروري بالكسبيات أو بصيرورة الأشياء مشاهدة للنفس عند مفارقتها البدن كسائر المجردات ولو سلم فالرسم وإن لم يستلزم تصور الحقيقة لكن قد يفضي إليه كما سبق قال الفصل الخامس في أفعاله وفيه مباحث أولها في خلق أفعال العباد بمعنى أنه هل من جملة أفعال الله تعالى خلق الأفعال الاختيارية التي للعباد بل لسائر الأحياء مع الاتفاق على أنها أفعالهم لا أفعاله إذ القائم والقاعد والآكل والشارب وغير ذلك هو الإنسان مثلا وإن كان الفعل مخلوقا لله تعالى فإن الفعل إنما يستند حقيقة إلى من قام به لا إلى من أوجده ألا يرى أن الأبيض مثلا هو الجسم وإن كان البياض بخلق الله وإيجاده ولا عجب في خفاء هذا المعنى على عوام القدرية وجهالهم حتى شنعوا به على أهل الحق في الأسواق وإنما العجب في خفائه على خواصهم وعلمائهم حتى سودوا به الصحائف والأوراق وبهذا يظهر أن تمسكهم بما ورد في الكتاب والسنة من إسناد
____________________
(2/125)
الأفعال إلى العباد لا يثبت المدعى وهو كون فعل العبد واقعا بقدرته مخلوقا له وتحرير المبحث على ما هو في المواقف أن فعل العبد واقع عندنا بقدرة الله وحدها وعند المعتزلة بقدرة العبد وحدها وعند الأستاذ بمجموع القدرتين على أن يتعلقا جميعا بأصل الفعل وعند القاضي على أن تتعلق قدرة الله تعالى بأصل الفعل وقدرة العبد بكونه طاعة ومعصية وعند الحكماء بقدرة يخلقها الله تعالى في العبد ولا نزاع للمعتزلة في أن قدرة العبد مخلوقة لله تعالى وشاع في كلامهم أنه خالق القوى والقدر فلا يمتاز مذهبهم عن مذهب الحكماء ولا يفيد ما أشار إليه في المواقف من أن المؤثر عندهم قدرة العبد وعند الحكماء مجموع القدرتين على أن تتعلق قدرة الله بقدرة العبد وهي بالفعل وذكر الإمام الرازي وتبعه بعض المعتزلة أن العبد عندهم موجد لأفعاله على سبيل الصحة والاختيار وعند الحكماء على سبيل الإيجاب بمعنى أن الله تعالى يوجب للعبد القدرة والإرادة ثم هما يوجبان وجود المقدور وأنت خبير بأن الصحة إنما هي بالقياس إلى القدرة وأما بالقياس إلى تمام القدرة والإرادة فليس إلا الوجوب وأنه لا ينافي الاختيار ولهذا صرح المحقق في قواعد العقائد أن هذا مذهب المعتزلة والحكماء جميعا نعم أن إيجاد القوى والقدر عند المعتزلة بطريق الاختيار وعند الحكماء بطريق الإيجاب لتمام الاستعداد ثم المشهور فيما بين القوم والمذكور في كتبهم أن مذهب إمام الحرمين أن فعل العبد واقع بقدرته وإرادته كما هو رأي الحكماء وهذا خلاف ما ضربه الإمام فيما وقع إلينا من كتبه قال في الإرشاد اتفق أئمة السلف قبل ظهور البدع والأهواء على أن الخالق هو الله ولا خالق سواه وأن الحوادث كلها حدثت بقدرة الله تعالى من غير فرق بين ما يتعلق قدرة العباد به وبين مالا يتعلق فإن تعلق الصفة بشيء لا يستلزم تأثيرها فيه كالعلم بالمعلوم والإرادة بفعل الغير فالقدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها أصلا واتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل الزيغ على أن العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرتهم ثم المتقدمون منهم كانوا يمنعون من تسمية العبد خالقا لقرب عهدهم بإجماع السلف على أنه لا خالق إلا الله واجترأ المتأخرون فسموا العبد خالقا على الحقيقة هذا كلامه ثم أورد أدلة الأصحاب وأجاب عن شبه المعتزلة وبالغ في الرد عليهم وعلى الجبرية وأثبت للعبد كسبا وقدرة مقارنة للفعل غير مؤثرة فيه وأما الأستاذ فإن أراد أن قدرة العبد غير مستقلة بالتأثير وإذا انضمت إليها قدرة الله تعالى صارت مستقلة بالتأثير بتوسط هذه الإعانة على ما قرره البعض فقريب من الحق وإن أراد أن كلا من القدرتين مستقلة بالتأثير فباطل لما سبق وكذا الجبر المطلق وهو أن أفعال الحيوانات بمنزلة حركات الجمادات لا تتعلق بها قدرتها لا إيجادا ولا كسبا وذلك لما نجد من الفرق الضروري بين حركة المرتعش وحركة الماشي فبقي الكلام بين الكسبية والقدرية ولكن لا بد أولا من بيان معنى الكسب دفعا لما يقال أنه اسم بلا مسمى
____________________
(2/126)
فاكتفى بعض أهل السنة بأنا نعلم بالبرهان أن لا خالق سوى الله تعالى ولا تأثير إلا للقدرة القديمة ونعلم بالضرورة أن القدرة الحادثة للعبد تتعلق ببعض أفعاله كالصعود دون البعض كالسقوط فيسمى أثر تعلق القدرة الحادثة كسبا وإن لم يعرف حقيقته قال الإمام الرازي هي صفة تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة الله تعالى فإن الصلاة والقتل مثلا كلاهما حركة ويتمايز أن يكون إحداهما طاعة والأخرى معصية وما به الاشتراك غير ما به التمايز فأصل الحركة بقدرة الله تعالى وخصوصية الوصف بقدرة العبد وهي المسماة بالكسب وقريب من ذلك ما يقال أن أصل الحركة بقدرة الله وتعينها بقدرة العبد وهو الكسب وفيه نظر وقيل الفعل الذي يخلقه الله تعالى في العبد ويخلق معه قدرة للعبد متعلقة به يسمى كسبا للعبد بخلاف ما إذا لم يخلق معه تلك القدرة وقيل إن للعبد قدرة تختلف بها النسب والإضافات فقط كتعيين أحد طرفي الفعل والترك وترجيحه ولا يلزم منها وجود أمر حقيقي فالأمر الإضافي الذي يجب من العبد ولا يجب عند وجود الأثر هو الكسب وهذا ما قالوا هو ما يقع به المقدور بلا صحة انفراد القادرية وما يقع في محل قدرته بخلاف الخلق فإنه ما يقع به المقدور مع صحة انفراد القادرية وما يقع لا في محل قدرته فالكسب لا يوجب وجود المقدور بل يوجب من حيث هو كسب اتصاف الفاعل بذلك المقدور ولهذا يكون مرجعا لاختلاف الإضافات ككون الفعل طاعة أو معصية حسنا أو قبيحا فإن الاتصاف بالقبيح بقصده وإرادته قبيح بخلاف خلق القبيح فإنه لا ينافي المصلحة والعاقبة الحميدة بل ربما يشتمل عليهما وملخص الكلام ما أشار إليه الإمام حجة الإسلام وهو أنه لما بطل الجبر المحض بالضرورة وكون العبد خالقا لأفعاله بالدليل وجب الاقتصاد في الاعتقاد وهو أنها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلق يعبر عنه عندنا بالاكتساب وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون على وجه الاختراع إذ قدرة الله تعالى في الأزل متعلقة بالعالم من غير اختراع ثم تتعلق به عند الاختراع نوعا آخر من التعلق فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تسمى كسبا له وباعتبار نسبتها إلى قدرة الله تعالى خلقا فهي خلق للرب ووصف للعبد وكسب له وقدرته خلق للرب ووصف للعبد وليس بكسب له قوله لنا عقليات وسمعيات استدل على كون فعل العبد واقعا بقدرة الله تعالى بوجوه عقلية وسمعية
فالأول من الوجوه العقلية أن فعل العبد ممكن وكل ممكن مقدور لله تعالى لما مر في بحث الصفات ففعل العبد مقدور الله تعالى فلو كان مقدورا للعبد أيضا على وجه التأثير لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على أثر واحد وقد بين امتناعه في بحث العلل فإن قيل اللازم من شمول قدرته كون فعل العبد مقدورا له بمعنى دخوله تحت قدرته وجواز تأثيرها فيه ووقوعه بها نظرا إلى ذاته لا بمعنى أنه واقع بها ليلزم المحال قلنا جواز وقوعه بها مع وقوعه
____________________
(2/127)
بقدرة العبد يستلزم جواز المحال وهو محال وفيه نظر ومن تلفيقات الإمام في بيان كون كل ممكن واقعا بقدرة الله تعالى أن الإمكان محوج إلى سبب ولا يجوز أن يكون محوجا إلى سبب لا بعينه لأن غير المعين لا تحقق له في الخارج وما لا تحقق له لا يصلح سببا لوجود شيء فتعين أن يكون محوجا إلى سبب معين ثم الإمكان أمر واحد في جميع الممكنات فلزم افتقارها كلها إلى ذلك السبب والسبب الذي يفتقر إليه جميع الممكنات لا يكون ممكنا بل واجبا ليكون الكل بإيجاده وقد ثبت أنه مختار لا موجب فيكون الكل واقعا بقدرته واختياره وفي بيان كون كل مقدور الله واقعا بقدرته وحده أنه لو لم يقع بقدرة الله تعالى وحده فإما أن يقع بقدرة الغير وحده فيلزم ترجح أحد المتساويين بل ترجح المرجوح لأن التقدير استقلال القدرتين مع أن قدرة الله تعالى أقوى وإما أن يقع بكل من القدرتين فيلزم اجتماع المستقلتين وإما أن لا يقع بشيء منهما وهو أيضا باطل لأن التقدير وقوعه في الجملة ولأن التخلف عن المقتضى لا يكون إلا لمانع وما ذاك إلا الوقوع بالقدرة الثانية فلا ينتفي الوقوع بهما إلا إذا وقع بهما وهو محال وأيضا لو وقع بقدرة الغير لما بقي لله تعالى قدرة على إيجاده لاستحالة إيجاد الموجود فيلزم كون العبد معجزا للرب وهو محال بخلاف ما إذا أوجده الله تعالى بقدرته فإنه يكون تقريرا لقدرته لا تعجيزا
قال الثاني الوجه الثاني من الوجوه العقلية أن العبد لو كان موجدا لأفعاله لكان عالما بتفاصيلها واللازم باطل أما الملازمة فلأن الإتيان بالأزيد والأنقص والمخالف ممكن فلا بد لرجحان ذلك النوع وذلك المقدار من مخصص هو القصد إليه ولا يتصور ذلك إلا بعد العلم به ولظهور هذه الملازمة يستنكر الخلق بدون العلم كقوله تعالى { ألا يعلم من خلق } ويستدل بفاعلية العالم على عالمية الفاعل وأما بطلان اللازم فلوجوه
منها أن النائم تصدر عنه أفعال اختيارية لا شعور له بتفاصيل كمياتها وكيفياتها ومنها أن الماشي إنسانا كان أو غيره يقطع مسافة معينة في زمان معين من غير شعور له بتفاصيل الأجزاء والأحياز التي هي بين المبدأ والمنتهى ولا بالآيات التي منها يتألف ذلك الزمان ولا بالسكنات التي يتخللها تكون تلك الحركة إبطاء من حركة الفلك أو بالحد الذي لها من وصف السرعة والبطؤ ومنها أن الناطق يأتي بحروف مخصوصة على نظم مخصوص من غير شعور له بالأعضاء التي هي آلاتها ولا بالهيئات والأوضاع التي تكون لتلك الأعضاء عند الإتيان بتلك الحروف ومنها أن الكاتب يصور الحروف والكلمات بتحريك الأنامل من غير شعور له بما للأنامل من الأجزاء والأعضاء أعني العظام والغضاريف والأعصاب والعضلات والرباطات ولا بتفاصيل حركاتها وأوضاعها التي بها يتأتى تلك الصور والنقوش ( قال الثالث ) لو كان فعل العبد بقدرته واختياره لكان متمكنا من فعله وتركه إذ لو لم تمكن من الترك لزم الجبر وبطل الاختيار لكن اللازم أعني التمكن من الفعل والترك باطل لأن رجحان الفعل على الترك إما أن يتوقف
____________________
(2/128)
على مرجح أو لا فعلى الثاني يلزم رجحان أحد طرفي الممكن بلا مرجح وينسد باب إثبات الصانع ويكون وقوع الفعل بدلا عن الترك محض الاتفاق من غير اختيار للعبد وعلى الأول إن كان ذلك المرجح من العبد ينقل الكلام إلى صدوره عنه فيلزم التسلسل وهو محال أو الانتهاء إلى مرجح لا يكون منه وإذا كان المرجح ابتداء أو بالآخرة لا من العبد بل من غيره ثبت عدم استقلال العبد بالفعل وعدم تمكنه من الترك لأن الترك لم يجز وقوعه مع التساوي فكيف مع المرجوحية ولأن وجود الممكن مالم ينته رجحانه إلى حد الوجوب لم يتحقق على ما مر ولا يخفى أن هذا إنما يفيد إلزام المعتزلة القائلين باستقلال العبد واستناد الفعل إلى قدرته واختياره من غير جبر ولا يفيد أن العبد ليس بموجد لأفعاله وللمعتزلة ههنا اعتراضات
أحدها أن ما ذكرتم استدلال في مقابلة الضرورة فلا يستحق الجواب وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن لنا مكنة واختيارا وأنا إن شئنا الفعل فعلنا وإن شئنا الترك تركنا
وثانيها أنه جار في فعل الباري فيلزم أن يكون موجبا لا مختارا وذلك لأن جميع مالا بد منه في إيجاد العالم إن كان حاصلا في الأزل لزم قدم العالم وصدوره عن الباري بطريق الوجوب من غير تمكن من الترك لامتناع التخلف عن تمام العلة وإن لم يكن حاصلا ننقل الكلام إلى حدوث الأمر الذي لا بد منه ولا يتسلسل بل ينتهي إلى أمر أزلي يلزم معه المأثر ويعود المحذوف
وثالثها أن ترجيح المختار أحد المتساويين جائز كما في طريقي الهارب وقدحي العطشان لأن الإرادة صفة شأنها الترجيح والتخصيص من غير احتياج إلى مرجح وإنما المحال الترجح بلا مرجح
ورابعها أن المرجح الذي لا يكون من العبد هو تعلق الإرادة وخلوص الداعي ووجوب الفعل معه لا ينافي الاختيار والتمكن من الفعل والترك بالنظر إلى القدرة وأجيب عن الأول بأن كلامنا في حصول المشية والداعية التي يجب معه الفعل أو الترك ولا خفاء في أنه ليس بمشيئتنا واختيارنا وإليه الإشارة بقوله تعالى { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } وقوله { قل كل من عند الله } ولهذا ذهب المحققون إلى أن المآل هو الجبر وإن كان في الحال الاختيار وأن الإنسان مضطر في صورة مختار
وعن الثاني بأن للباري تعالى إرادة قديمة متعلقة في الأزل بأن يحدث الفعل في وقته فلا يحتاج إلى مرجح آخر ليلزم التسلسل أو الانتهاء إلى ما ليس باختياره بخلاف إرادة العبد فإنها حادثة يحدث تعلقها بالأفعال شيئا فشيئا ويحتاج إلى دواعي مخصوصة متجددة من عند الله من غير اختيار للعبد فيها
وعن الثالث بأنه إلزام على المعتزلة القائلين بوجوب المرجح في الفعل الاختياري لا القائلين بأنه يجوز للقادر ترجيح المساوي بل المرجوح فإن الهارب يتمكن من سلوك أحد الطريقين وإن كان مساويا للآخر أو أصعب منه وفيه نظر للقطع بأن ذلك لا يتصور إلا بداعية لا تكون بمشية العبد بل بمحض خلق الله تعالى وحينئذ يجب الفعل ولا يتمكن العبد من تركه ولا نعني بالانتهاء إلى الجبر والاضطرار سوى هذا وبه
____________________
(2/129)
يظهر الجواب عن الرابع ( قال الرابع ) قد ثبت أن الله تعالى عالم بالجزئيات ما كان وما سيكون وأنه يستحيل عليه الجهل وكل ما علم الله أنه يقع يجب وقوعه وكل ما علم أنه لا يقع يمتنع وقوعه نظرا إلى تعلق العلم وإن كان ممكنا في نفسه وبالنظر إلى ذاته ولا شيء من الواجب والممتنع باقيا في مكنة العبد بمعنى أنه إن شاء فعله وإن شاء تركه فإن قيل يجوز أن يعلم أن الله تعالى أن فعل العبد يقع بقدرته واختياره فلا يكون خارجا عن مكنته قلنا فيجب أن يقع البتة بقدرته واختياره بحيث لا يتمكن من اختيار الترك وهذا هو المراد بالانتهاء إلى الاضطرار غاية الأمر أن يكون بإيجاده لكن لا على وجه الاستقلال والاختيار التام كما هو مذهب المعتزلة وقد أشرنا إلى أن القصد من بعض الأدلة إلى الإلزام دون الإتمام نعم يرد نقض الدليل بفعل الباري تعالى لجريانه فيه مع الاتفاق على كونه بقدرته واختياره ويمكن دفعه بأن الاختياري ما يكون الفاعل متمكنا من تركه عند إرادة فعله لا بعده وهذا متحقق في فعل الباري لأن إرادته قديمة متعلقة في الأزل بأنه يقع في وقته وجائز أن يتعلق ح بتركه وليس حينئذ سابقة علم ليتحقق الوجوب أو الامتناع إذ لا قبل للأزل فالحاصل أن تعلق العلم والإرادة معا فلا محذور بخلاف إرادة العبد وتقرير الإمام في المطالب العالية هو أنه لما وجب في الأزل وقوع الفعل أو لا وقوعه في وقته لزم أن يكون لهذا الوجوب سبب وليس من العبد لأن الحادث لا يصلح سببا للأزلي بل من الله تعالى وليس هو العلم لأنه تابع للمعلوم لا مستتبع بل القدرة والإرادة إذ بهما التأثير فثبت أن المؤثر في فعل العبد قدرة الله تعالى إما ابتداء أو بوسط وهو المطلوب وهذا ضعيف جدا لكن النقض مندفع عنه قال وأما التمسك كما استدل على وجوب الفعل أو الترك بتعلق العلم فكذا بتعلق الإرادة وتقريره أن فعل العبد إما أن يريد الله تعالى وقوعه فيجب أولا وقوعه فيمتنع فلا يكون باختيار العبد ورد أولا بمنع الحصر لجواز أن لا تتعلق إرادة الله تعالى بشيء من طرفي الفعل والترك وثانيا بمنع وجوب وقوع ما أراده الله تعالى من العبد على ما هو المذهب عندهم كما سيجيء قال الخامس لو كان العبد مستقلا بإيجاد فعله فإذا فرضنا أنه أراد تحريك جسم في وقت وأراد الله تعالى سكونه في ذلك الوقت فإما أن يقع المراد إن جميعا وهو ظاهر الاستحالة أو لا يقع شيء منهما وهو أيضا محال لامتناع خلو الجسم في غير آن الحدوث عن الحركة والسكون ولأن التخلف عن المقتضي لا يكون إلا لمانع ولا مانع لكل من المرادين سوى وقوع الآخر فلو امتنعا جميعا لزم أن يقعا جميعا وهو ظاهر الاستحالة وإما أن يقع أحدهما دون الآخر فيلزم الترجيح بلا مرجح لأن التقدير استقلال كل من القدرتين بالتأثير من غير تفاوت وأجيب بأنه يقع مراد الله تعالى لكون قدرته أقوى إذ المفروض استواءهما في الاستقلال بالتأثير وهو لا ينافي التفاوت في القوة والشدة ودفعه الإمام الرازي بأن المقدور يقبل التجزي ولا يتفاوت بالشدة والضعف
____________________
(2/130)
فيمتنع أن يكون الاقتدار عليه قابلا لذلك بل يلزم تساوي القدرتين في القوة غاية الأمر أن إحداهما تكون أعم وأشمل وهو لا يوجب كونه أشد وأقوى وعليه منع ظاهر قال وقد يستدل للمتقدمين على كون فعل العبد بقدرة الله دون قدرته وجوه
منها أن العبد لو كان قادرا على فعله إيجادا واختراعا لكان قادرا على إعادته واللازم منتف إجماعا وجه اللزوم أن إمكان القدرة منه يستلزم ماهيته لا يختلف باختلاف الأوقات ولهذا يصح الاستدلال على قدرة الله على الإعادة بقدرته على الابتداء كما نطق به التنزيل احتجاجا على منكري الإعادة بالنشأة الأولى والاعتراض بمنع إمكان إعادة المعدوم مستندا بأنه يجوز أن يكون خصوصية البدء شرطا أو خصوصية العود مانعا أو يمنع عدم قدرة العبد على الإعادة ليس بشيء لأن الخصم معترف بالمقدمتين ومنها أنه لو كان قادرا على إيجاد فعله لكان قادرا على إيجاد مثله لأن حكم الأمثال واحد لكنا نقطع بأنه يتعذر علينا أن نفعل الآن مثل ما فعلناه سابقا بلا تفاوت وإن بذلنا الجهد في التدبر والاحتياط ومنها أنه لو كان قادرا على إيجاد فلعله لكان قادرا على إيجاد كل ممكن من الأجسام والأعراض لأن المصحح للمقدورية هو الإمكان أو الحدوث والمقدور هو إعطاء الوجود ولا تفاوت في شيء منها باعتراف الخصم ولا يرد النقض بالقدرة الاكتسابية لأنها إنما تتعلق بالذوات وأحوالها وهي مختلفة ومنها أن من فعل العبد الإيمان والطاعات وكثيرا من الحسنات ومن خلق الله تعالى الأجسام والأعراض والشياطين وكثير من المؤذيات ولا شك أن الأول أحسن من الثاني وأشرف فلو كان العبد خالقا لفعله لكان أحسن وأشرف من الله تعالى خلقا وإصلاحا وإرشادا فإن قيل القدرة على الإيمان أحسن وأوضح وأصلح من الإيمان لتوقفه عليها وهي بخلق الله تعالى قلنا فيلزم أن تكون القدرة على الشر والتمكن منه شرا من الكفر وأقبح منه ومنها أن الأمة مجمعون على صحة تضرع العبد إلى الله تعالى في أن يرزقه الإيمان والطاعة ويجنبه الكفر والمعصية ولولا أن الكل بخلق الله تعالى لما صح ذلك إذ لا وجه لحمله على سؤال الأقدار والتمكين لأنه حاصل أو التقرير والتثبيت لأنه عائد إلى الحصول في الزمان الثاني وذلك عندهم بقدرة العبد ومنها أن الأمة مجمعون على صحة بل وجوب حمد الله وشكره على نعمة الإيمان نفسه ولا يتصور ذلك إلا إذا كان بخلقه وإعطائه وإن كان لكسب العبد مدخل فيه فأما الشكر على مقدماته من الأقدار والتمكين والتوفيق والتعريف ونحو ذلك فشيء آخر فإن قيل لو استحق بخلق الإيمان المدح لا يستحق بخلق الكفر الذم قلنا ممنوع فإن من شأنه استحقاق المدح والشكر بخلق الحسنات وإيصال النعم لا الذم بخلق القبائح وإرسال النقم لأنه المالك فله الأمر كله لا يقبح منه خلق القبيح فإن قيل فعندكم الإيمان مخلوق الله تعالى وعندهم مخلوق العبد وقد ذكر في بعض الفتاوى أن من قال الإيمان مخلوق كفر فما وجهه قلنا
____________________
(2/131)
وجهه ما أشار إليه أبو المعين النسفي رحمه الله من أن الإيمان ليس كله من الله إلى العبد على ما هو الجبر ولا من العبد إلى الله على ما هو القدر بل من الله التعريف والتوفيق والهداية والإعطاء ومرجعها إلى التكوين وهو غير مخلوق ومن العبد المعرفة والقصد والاهتداء والقبول وهي مخلوقة هذا والأوجه أن يمحى من الكتاب ويثبت ما هو الصواب ثم لا يخفى ما في الوجوه المذكورة من وجوه الضعف والأولى التمسك بالكتاب والسنة وإجماع أهل الحق من الأمة لا بمعنى إثباته في نفسه بمحض الإجماع ليرد أن الحقائق العقلية مثل حدوث العالم وقدم الصانع لا يثبت بالإجماع بل بمعنى أن إجماعهم عليه يدل على أن لهم قاطعا فيه وإن لم نعرفه على التفصيل قال وأما السمعيات فكثيرة جدا فإن قيل التمسك بالكتاب والسنة يتوقف على العلم بصدق كلام الله تعالى وكلام الرسول عليه ودلالة المعجزة وهذا لا يتأتى مع القول بأنه خالق لكل شيء حتى الشرور والقبائح وأنه لا يقبح منه اللبيس والتدليس والكذب وإظهار المعجزة على يد الكاذب ونحو ذلك مما يقدح في وجوب صدق كلامه وثبوت النبوة ودلالة المعجزات قلنا العلم بانتفاء تلك القوادح وإن كانت ممكنة في نفسها من العاديات الملحقة بالضروريات على أن هذا الاحتجاج إنما هو على المعترفين بحجية الكتاب والسنة والمتمسكين بهما في نفي كونه خالقا للشرور والقبائح وأفعال العباد فلو توقف حجيتهما على ذلك كان دورا قال منها ما ورد في معرض التمدح جعل الأدلة السمعية على هذا المطلوب أنواعا باعتبار خصوصيات تكون للبعض منها دون البعض مثل الورود بلفظ الخلق لكل شيء أو لعمل العبد خاصة أو بلفظ الجعل أو الفعل أو بغير ذلك فمن الوارد بلفظ الخلق لكل شيء قوله تعالى { لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه } تمدحا واستحقاقا للعبادة فلا يصح الحمل على أنه خالق لبعض الأشياء كأفعال نفسه لأن كل حيوان عندكم كذلك بل يحمل على العموم فيدخل فيه أعمال العباد ويخرج القديم بدليل العقل والقطع بأن المتكلم لا يدخل في عموم مثل أكرمت كل من دخل الدار فيكون بمنزلة الاستنثاء فلا يخل بقطعية العام عند من يقول بكونه قطعيا وكذا قوله تعالى { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار } تمسكا بالعموم وبأنه إذا جعل كخلقه في موضع المصدر كما هو الظاهر فقد يفيد خلق كل أحد مثل خلقه في الجملة وقوله تعالى { ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا } تمسكا بالعموم وبأن قوله وخلق كل شيء إزالة لما يتوهم من أن العبيد وإن لم يكونوا شركاء له في الملك على الإطلاق لكنهم يخلقون بعض الأشياء وإلا لكان ذكره بعد نفي الشريك مستدركا قطعا وقوله تعالى { إنا كل شيء خلقناه بقدر } اي خلقنا كل موجود ممكن من الممكنات بتقدير وقصد أو على مقدار مخصوص مطابق للغرض والمصلحة ولإفادة هذا المعنى كان المختار نصب كل شيء إذ لو رفع لتوهم أن خلقناه صفة
____________________
(2/132)
وبقدر خبر والمعنى أن كل شيء خلقناه فهو بقدر فلم يفد أن كل شيء مخلوق له بل ربما أفاد أن من الأشياء مالم يخلقه فليس بقدر وبما أشرنا إليه من كون الشيء اسما للموجود أو مقيدا به اندفع ما قيل أنه لا بد من تقييد الشيء بالمخلوق على تقدير النصب أيضا لأنه لم يخلق مالا يتناهى من الممكنات مع وقوع اسم الشيء عليه وحينئذ لا يبقى فرق بين النصب والرفع ولا بين جعل خلقنا خبرا أو صفة على أنه لو سلم التقييد بالمخلوق فالفرق ظاهر لأن الخبر يفيد أن كل مخلوق مخلوق له بخلاف الصفة قال ومنها قوله تعالى { والله خلقكم وما تعملون } أما إذا كانت ما مصدرية على ما اختاره سيبويه لاستغنائه عن الحذف والإضمار فالأمر ظاهر لأن المعنى وخلق عملكم وأما إذا كانت موصولة على حذف الضمير أي وخلق ما تعملونه بقرينة قوله تعالى { أتعبدون ما تنحتون } توبيخا لهم على عبادة ما عملوه من الأصنام فلأن كلمة ما عامة يتناول ما يعملونها من الأوضاع والحركات والمعاصي والطاعات وغير ذلك فإن المراد بأفعال العباد المختلف في كونها بخلق العبد أو بخلق الرب هو ما يقع بكسب العبد ويستند إليه مثل الصوم والصلاة والأكل والشرب والقيام والقعود ونحو ذلك مما يسمى الحاصل بالمصدر لا نفس الإيقاع الذي هو من الاعتبارات العقلية ألا يرى إلى مثل يقيمون الصلاة ويفعلون الزكاة يعملون الصالحات والسيئات وهذه النكتة مما غفل عنها الجمهور فبالغوا في نفي كون ما موصولة حتى صرح به الإمام بأن مثل ما تنحتون وما يأفكون في قوله تعالى { فإذا هي تلقف ما يأفكون } مجاز دفعا للاشتراك وأما اعتراضهم بأن الآية حجة عليكم لا لكم حيث أسند العبادة والنحت والعمل إلى المخاطبين فجهل بالمتنازع قال ومنها قوله تعالى { هو الله الخالق } هذه الآيات صرح فيها بلفظ الخلق إلا أن في دلالتها على المطلوب نوع احتمال وخفاء فلهذا جعلها نوعا آخر فقوله هو الله الخالق إنما يفيد حصر الخالقية في الله إذا كان الخالق خبرا وهو ضمير الشأن أو ضميرا مبهما يفسره الله وأما إذا كان الخالق صفة فذكرالإمام أنه لما كان الله علما والعلم لا يدل إلا على الذات المخصوصة بمنزلة الإشارة لم يجز أن يكون الحكم عائدا إليه إذ لا معنى لقولنا أن هذا المعين ليس إلا هذا المعين ولزم أن يكون عائدا إلى الوصف على معنى أنه الخالق لا غيره وفيه ضعف لا يخفى على العارف بأساليب الكلام وقوله تعالى { وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق } احتجاج على علمه تعالى بما في القلوب من الدواعي والصوارف والعقائد والخواطر بكونه خالقا لها على طريق ثبوت اللازم أعني العلم بثبوت ملزومه أعني الخلق وفي أسلوب الكلام إشارة إلى أن كلا من اللزوم وثبوت الملزوم واضح لا ينبغي أن يشك فيه ولهذا يستدل بالآية على نفي كون العبد خالقا لأفعاله على طريق نفي الملزوم أعني خلقه لأفعاله بنفي اللازم أعني علمه بتفاصيلها لكن كون ذوات الصدور من قبيل الأفعال الاختيارية التي فيها النزاع محل بحث وكذا دلالة الآية
____________________
(2/133)
على كون العلم من لوازم الخلق على الإطلاق بل على تقدير كون الخالق هو اللطيف الخبير فليتأمل وقوله تعالى { هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض } لا ينفي خالقا سوى الله على الإطلاق بل بوصف كونه رازقا لنا من السماء والعبد ليس كذلك وأجاب الإمام بأن ملائكة السماء الساعين في إنزال الأمطار رازقون لنا بمعنى التمكين من الانتفاع بأنواع النبات والثمار كما يقال رزق السلطان فلانا فلو كانوا خالقين لأفعالهم لوجد خالق غير الله يرزق من السماء وفيه ضعف وقوله تعالى { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا } يتناول المسيح والملائكة وغيرهم من الأحياء الذين يدعونهم الكفار فيجب أن لا يخلقوا شيئا أصلا وقوله تعالى { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } يدل على أن من سوى الله لم يخلق شيئا وإلا لكان للكفار أن يقولوا نحن خلقنا كثيرا من الحركات والأوضاع والهيئات المحسوسة إن أريد بالإرادة الإبصار وإن اريد الإعلام فجميع الأفعال الظاهرة والباطنة لكن مبنى الوجهين على أن لا يكون الموصول إشارة إلى الأصنام خاصة ومن هذا القبيل قوله تعالى { ألا له الخلق والأمر } { خلق لكم ما في الأرض جميعا } { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا } { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } فإن قيل على الوجوه نحن نجعل العبد موجدا لأفعاله لا خالقا لأن الخلق هو الإيجاد على وجه التقدير العاري عن الخلل وعلى الوجه الذي يقدره وإيجاد العبد ربما يقع على وجه الخلل وعلى خلاف ما قدره قلنا ليس الخلق إلا إيجادا على وجه التقدير أي الإيقاع على قدر مخصوص وفعل العبد ربما يكون كذلك فلو كان هو موجدا له لكان خالقا قال ومنها نحو قوله تعالى حكاية ربنا { واجعلنا مسلمين لك } فإن جعل المتعدي إلى مفعولين يكون بمعنى التصيير أي تحصيل صفة مكان صفة فإذا وقع مفعوله الثاني من أفعال العباد أفاد أنها بجعل الله وبخلقه والمعتزلة يجعلون أمثال هذا مجازا عن التوفيق ومنح الألطاف أو الخذلان ومنعها أو التمكين والأقدار ونحو ذلك إلا أنها من الكثرة والوضوح بحيث لا مجال لهذا التأويلات عند المنصف قال ومنها مثل { فعال لما يريد } هذه آيات تدل على أن الله تعالى يفعل كل ما يتعلق به إرادته ومشيئته وهي متعلقة بالإيمان وسائر الطاعات أيضا فيجب أن يكون فاعلها أي موجدها هو الله تعالى وحمل الكلام على أنه يفعل ما يريد فعله عدول عن الظاهر ( قال ومنها { كل من عند الله } هذه آيات مختلفة الأساليب في إفادة المطلوب فالظاهر من قوله تعالى { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله } إن جميع الحسنات والسيئات من الطاعات والمعاصي وغيرها بخلق الله ومشيئته لأن منشأ الاحتياج أعني الإمكان والحدوث مشترك بين الكل بحيث لا ينبغي أن يخفى على العاقل فمالهم لا يفهمون ذلك فعلى هذا يكون قوله بعد ذلك { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } واردا على سبيل الإنكار أي
____________________
(2/134)
كيف تكون هذه الفرقة أو محمولا على مجردة السببية دون الإيجاد توفيقا بين الكلامين ومن قوله تعالى { وما بكم من نعمة فمن الله } وقوله تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } أن الإيمان وجميع الطاعات حاصلة من الله وبتكوينه لكونها نعما لنا ومرادة له ومن قوله تعالى { كتب في قلوبهم الإيمان } أنه الذي أثبت الإيمان وأوجده في القلوب ومن قوله تعالى { وأنه هو أضحك وأبكى } أنه يوجد الضحك والبكاء ومن قوله تعالى { هو الذي يسيركم في البر والبحر } أنه الموجد لسيرنا ومن قوله تعالى { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله } أنه الموجد لوقوف الطير في الهواء مع أنه فعل اختياري من الحيوان وأمثال هذه كثيرة جدا { رب اشرح لي صدري } { وما النصر إلا من عند الله } { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } وتأويلات القدرية عدول عن الظاهر بلا ضرورة لما سيأتي من إبطال أدلتهم القطعية قال ومنها ما تواتر الأحاديث الواردة في باب القضاء والقدر وكون الكائنات بتقدير الله ومشيئته وإن كانت آحادا إلا أنها متواترة المعنى كشجاعة علي رضي الله تعالى عنه وجود حاتم وكلها صحاح بنقل الثقاة مثل البخاري ومسلم وغيرهما وإن وقع في بعضها اختلاف رواية في بعض الألفاظ فمنها ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا وأخرجتنا من الجنة فقال آدم يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ومنها ما روى علي رضي تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر خيره وشره ومنها ما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء بقدر حتى العجز والكيس ومنها ما روى حذيفة أنه قال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته ومنها قوله عليه السلام ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه وعن جابر رضي الله تعالى عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقيل له يا رسول الله أتخاف علينا وقد آمنا بك وبما حدثت به فقال إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها هكذا وأشار إلى السبابة والوسطى يحركهما والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة قال وأما المعتزلة
____________________
(2/135)
القائلون بأن أفعال العباد واقعة بخلقهم وإيجادهم استقلالا افترقوا فرقتين فأبو الحسين البصري وأتباعه ادعوا أن هذا الحكم ضروري مركوز في عقول العقلاء المنصفين الخالين عن تقليد أسلافهم وذكروا في ذلك وجوها على قصد التنبيه أو الاستدلال فإنه ربما يكون الحكم ضروريا والحكم بضروريته استدلاليا
الأول أن كل أحد يفرق بالضرورة بين حركاته الاختيارية كالمشي على الأرض والصعود إلى الجبل والاضطرارية كالارتعاش والسقوط من السطح وما ذاك إلا بأن الأولى بقدرته وإيجاده بخلاف الثانية
الثاني أن كل أحد يعلم بالضرورة أن تصرفاته واقعة بحسب قصده وداعيته كالإقدام على الأكل والشرب عند اشتداد الجوع والإحجام عنهما إذا علم أن في الطعام والماء سما ولا معنى لموجد الفعل بالاختيار إلا الذي يحدث منه الفعل على وفق دواعيه
الثالث أن كل عاقل يعلم بالضرورة حسن مدح من أحسن إليه وذم من أساء ولولا أنه يعلم بالضرورة كونه المحدث لتلك الأفعال لما حكم بذلك كما لا يحكم بحسن المدح والذم على ما ليس من أفعاله ولهذا إذا رمى الاقل يذم الرامي لا الآجرة
الرابع أنه يعلم بالضرورة صحة طلب القيام أو المشي من الصحيح البنية لا من الزمن والمقعد بناء على صحة حدوثهما من الأول دون الثاني وإذا كان الفرع ضروريا فالأصل بطريق الأولى
الخامس أنه يعلم بالضرورة أنه تصح منه تحريك المدرة دون الجبل ولا معنى لهذا سوى العلم بقدرته على تحريكها دونه ولهذا يقصد الحمار طفر الجدول الضيق دون الواسع
السادس أن الطالب العاقل يعلم بالضرورة أنه يطلب ما يحدثه المأمور ولهذا يتلطف في استدعاء ذلك الفعل منه وأنه ينهى عما يكرهه من الأفعال التي يحدثها المنهي وكذا التمني والتعجب وغير ذلك وكل هذا يدل على أن فعل العبد إحداثه الجواب أن هذه الوجوه لا تفيد سوى أن من الأفعال المستندة إلى العبد ما هو متعلق بقدرته وإرادته واقع بحسب قصده وداعيته وهي المسماة بالأفعال الاختيارية وكونها مقدورة للعبد واقعة بكسبه وعلى حسب قصده واختياره وعند صرف قدرته وإرادته وإن كانت مخلوقة لله تعالى كاف في حسن المدح والذم وصحة الطلب والنهي والتمني والتعجب ونحو ذلك ولا يفيد كونها مخلوقة للعبد على ما هو المتنازع فضلا عن أن تفيد العلم الضروري بذلك والعجب من أبي الحسين وهو في غاية الحذاقة كيف اجترأ على هذه الدعوى وهي آية الوقاحة حيث نسب جميع ما سواه من العقلاء إلى السفسطة وإنكار الضرورة أما السمنية والجبرية فظاهر وأما القدرية فلأنهم جعلوا الحكم بكون العبد موجدا لأفعاله نظريا لا ضروريا وذكر الإمام في نهاية العقول أن أبا الحسين لما خالف أصحابه في قولهم القادر على الضدين لا يتوقف لعله لأحدهما دون الآخر على مرجح وذهب إلى أن العلم بتوقف صدور الفعل على الداعي ضروري وأن حصول الفعل عقيب الداعي واجب لزمه من هاتين المقدمتين عدم كون العبد
____________________
(2/136)
موجدا لفعله وفيه إبطال للأصول التي عليها مدار أمر الاعتزال فخاف من تنبه أصحابه أنه رجع عن مذهبه فليس الأمر عليهم وادعى العلم الضروري بكون العبد موجد الفعلة ثم قال الإمام لا يقال الاعتراف بتوقف صدور الفعل عن القادر على الداعي ووجوب حصوله عند حصوله لا ينافي القول بأن قدرة العبد مؤثرة في وجود الفعل وإنما ينافي استقلاله بالفاعلية وهو إنما ادعى العلم الضروري في الأول لا في الثاني لأنا نقول نحن لا نستدل بالدليل المذكور لأجل بيان أن القدرة الحادثة غير مؤثرة بل لبيان سلب الاستقلال كما هو مذهب الأستاذ وإمام الحرمين فإن كان أبو الحسين قد ساعدنا عليه فمرحبا بالوفاق لكن يلزم منه فساد مذهب الاعتزال بالكلية لأنه لا فرق في العقل بين أن يأمر الله العبد بما يكون فعلا لله تعالى وأن يأمره بفعل يجب حصوله عند فعل الله تعالى ويمتنع حصوله عند عدمه فإن المأمور على كلا التقديرين لا يكون متمكنا من الفعل والترك ولا بين أن يعذب الله العبد على ما أوجده فيه وأن يعذبه على ما يجب حصوله عند حصول ما أحدثه الله فيه ولا بين فاعل القبيح والظلم وفاعل ما يوجب القبيح والظلم فمن اعترف بوجوب حصول الفعل عند حصول الإرادة الحادثة انسد عليه باب الاعتزال فظهر أن أبا الحسين كان من المنكرين لمذهب الاعتزال في هذه المسألة وإن مبالغته في دعوى الضرورة فيها كانت على سبيل التغبية والتلبيس وزعم بعض المتأخرين من المعتزلة أن معنى الوجوب عند خلوص الداعي أنا نعلم أن القادر بفعله مع إمكان الترك كما نعلم أن الله يثيب الأنبياء والأولياء بالجنة ويعاقب الكفار بالنار مع إمكان تركهما ونعلم أن العرب لو قدروا على مثل القرآن مع توفر الدواعي وانتقاء الموانع لأتوا بمثله ولولا وجوب الإتيان بمثله بمعنى الذي ذكرنا لما عرفنا عجزهم لجواز أن يقدروا ولا يأتوا به وفيه نظر لأنه إما أن يلزم مع خلوص الداعي صدور الفعل من القادر بحيث لا يصح منه الترك وإن كان ممكنا في نفسه وبالنظر إلى أصل قدرته وإرادته فيتم ما ذكره الأمام من وجوب الفعل ولزوم الجبر وعدم استقلال قدرته وإرادته فيتم ما ذكره الإمام من وجوب الفعل ولزوم الجبر وعدم استقلال العبد لظهور إن تلك الداعية والإرادة الجازمة ليستا بإرادة العبد وهذا هو المعنى بالجبر الذي يقول به أهل الحق ويلزم أبا الحسين لا الجبر المطلق الذي يقول به المجبرة وبطلانه ضروري وأما أن لا يلزم فلا معنى لتسميته بالوجوب ولا طريق إلى العلم بالصدور بل هو رجم بالغيب لأن المفروض تساوي الأمرين وإنما العلم فرع اعتقاد الوجوب ألا يرى أنه إذا قيل من أين عرفت عجز المتحدين قيل لأنه خلصت دواعيهم فلو قدروا لأتوا به وهذا معنى الوجوب لأنه استدلال بانتقاء اللازم على انتفاء الملزوم ولهذا يستدل بنفي الفعل عند تحقق القدرة على نفي الداعية وجزم الإرادة ( قال ومنهم من احتج عليه ) المتقدمون من المعتزلة على أن العلم بكون العبد موجدا لأفعاله نظري فتمسكوا بوجوه عقلية ونقلية أما العقليات فمرجعها إلى خمسة
الأول وهو
____________________
(2/137)
عمدتهم الكبرى وعروتهم الوثقى أنه لو لم يكن العبد موجدا لأفعاله بالاستقلال لزم فسادات منها بطلان المدح والذم عليها إذ لا معنى للمدح والذم على ما ليس بفعل له ولا واقع بقدرته واختياره ورد بالمنع بل ربما يمدح أو يذم على ما هو محل له كالحسن والقبح واعتدال القامة وإفراط القصر ومنها بطلان التكاليف من الأوامر والنواهي إذ لا معنى للأمر بما لا يكون فعلا للمأمور ولا يدخل في قدرته بل مالا يطيقه لمرض ونحوه حتى أن العقلاء يتعجبون منه وينسبون الآمر إلى الحمق والجنون بمنزلة من يطلب من الإنسان خلق الحيوان والطيران إلى السماء بل من الجماد المشي على الأرض والصعود في الهواء وكذا الثواب والعقاب إذ لا وجه للثواب والعقاب على ما هو بخلق المثيب والمعاقب حتى أن من يعاقب على ما يخلقه كان أشد ضررا على العبد من الشيطان وأحق منه بالذم إذ ليس منه إلا بالوسوسة والتزيين ومنها بطلان فوائد الوعد والوعيد وإرسال الرسل وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب من السماء إذ لا يظهر للترغيب والترهيب والحث على تحصيل الكمالات وإزالة الرذائل ونحو ذلك فائدة إلا إذا كان لقدرة العبد وإرادته تأثير في أفعاله ويتولى مباشرتها باستقلاله ومنها بطلان الفرق بين الأفعال التي تطابق العقل والشرع على استحسانها واستحقاقها المدح في العاجل والثواب في الآجل والتي ليست كذلك كالكفر والإيمان وكالإساءة إلى الفقراء والإحسان وكفعل النبي صلى الله عليه وسلم من الهداية والإرشاد وتمهيد قواعد الخيرات وفعل إبليس من الإضلال والإغواء وتزيين الشرور والشهوات وكالتكلم بالتسبيحات والدعوات المترتب عليها الثواب والاستجابة والتكلم بالهذيانات والفحش والهجاء التي لا توارث إلا اللوم والعقاب لأن الكل بخلق الله من غير تأثير للعبد ومنها بطلان الفرق بين الحركات التي تظهر من أعضاء العبد بقدرته وإرادته والتي تظهر منها بقدرة الغير وإرادته كما إذا حرك زيد يد عمرو مثلا مع أن كل أحد يفرق بينهما بالضرورة والجواب عن الكل إنه إنما يرد على المجبرة النافين لقدرة العبد واختياره لا على من يجعل فعله متعلقا بقدرته وإرادته واقعا بكسبه وعقيب عزمه وإن كان بخلق الله تعالى عز وجل ولا على من يجعل قدرته مؤثرة لكن لا بالاستقلال بل بمرجح هو بمحض خلق الله تعالى على أن من الفسادات ما يلزم المعتزلة أيضا كبطلان استقلال العبد بناء على وجوب الفعل وامتناعه لوجود المرجح أو عدمه وتعلق علم الله بوقوعه أولا وقوعه ومنها ما يندفع بطريق آخر فإن المدح والذم قد يكون باعتبار المحلية دون الفاعلية كالمدح والذم بالحسن والقبح وسائر الغرائز وأن الثواب والعقاب أيضا لما كان فعل الله وتصرفا فيما هو حقه لم يتوجه سؤال لميته كما لا يقال لم خلق الإحراق عقيب مس النار وإن التكليف والبعثة والتهديد والوعيد والوعد ونحو ذلك قد يكون دواعي إلى الفعل أو الترك فتخلقه الله تعالى وإن عدم افتراق الفعلين
____________________
(2/138)
في المخلوقية لله تعالى لا ينافي افتراقهما بوجوه أخر
الثاني أن كثيرا من أفعال العباد قبيحة كالظلم والشرك والفسق والقول باتحاذ الولد ونحو ذلك والقبيح لا يخلقه الحكيم لعلمه بقبحه وعلمه بغناه عن خلقه ورد بعد تسليم الحسن والقبح العقليين بأن خلق القبيح ربما تكون له عاقبة حميدة فلا يقبح بخلاف فعله وما يقال أنه لا معنى لفاعل القبيح إلا موجده ومحدثه ليس بشيء فإن الظالم من اتصف بالظلم لا من أوجده في محل آخر
الثالث أن فعل العبد في وجوب الوقوع وامتناعه تابع لقصد العبد وداعيته وجودا وعدما وكل ما هو كذلك لا يكون بخلق الغير وإيجاده أما الصغرى فللقطع بأن من اشتد جوعه وعطشه ووجد الطعام والماء بلا صارف يأكل ويشرب البتة ومن علم أن دخول النار محرق ولم يكن له داع إلى دخولها لا يدخلها البتة وأما الكبرى فلأن ما يكون بإيجاد الغير لا يكون في الوجوب والامتناع تابعا لإرادة العبد لجواز أن لا يوجده عند إرادته أو يوجده عند كراهيته ولك أن تنظم القياس هكذا لو كان فعل العبد بإيجاد الله تعالى لم يكن تابعا لإرادة العبد وجوبا وامتناعا لكن اللازم باطل وهكذا لو كان فعل العبد تابعا لإرادته لم يكن بإيجاد الله تعالى لكن الملزوم حق والجواب أن ما ذكرتم في بيان الصغرى لا يفيد الوجوب والامتناع بل الوقوع واللا وقوع في بعض الأفعال ورب فعل يتبع إرادة الغير كما للخدم والعبيد فينتقض الكبرى ولو سلم الوجوب والامتناع فلم لا يجوز أن يكون بتبعية أرادة الله تعالى وقد وافقت إرادة العبد بطريق جري العادة
الرابع أن الله تعالى لو كان موجدا لأفعال العباد لكان فاعلا لها لأن معناهما واحد ولو كان فاعلا لها لكان متصفا بها لأنه لا معنى للكافر والظالم مثلا إلا فاعل الكفر والظلم وحينئذ يلزم أن يكون الباري تعالى وتقدس كافرا ظالما فاسقا أكلا شاربا قائما قاعدا إلى غير ذلك من الفواحش التي لا يستطيع العاقل إجراءها على اللسان بل إخطارها بالبال وهذه الشبهة كنا نسمعها من حمقى العوام والسوقية من المعتزلة فنتعجب حتى وجدناها في كتبهم المعتبرة فتحققنا أن التعصب يغطي على العقول وعنده تعمى القلوب التي في الصدور ولا أدري كيف ذهب عليهم إن مثل هذه الأسامي إنما تطلق على من قام به الفعل لا من أوجد الفعل أو لا يرون أن كثيرا من الصفات قد أوجدها الله تعالى في محالها وفاقا ولا تتصف بها إلا المحال نعم إذا ثبت بالدليل أن الموجد هو الله تعالى لزمهم صحة هذه التسمية بناء على أصلهم الفاسد في إطلاق المتكلم على الله تعالى لإيجاده الكلام في بعض الأجسام وكان قول القائل لخصمه مذهبك باطل حجة لكونه كلام الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا هو لجهلهم يوردون مثل هذا الإلزام على أهل الحق ويجعلون قول السني للمعتزلي آذيتني أو طلبتك أو اقبل على وما أشبه ذلك تركا للمذهب ويعتقدون أن إسناد الأفعال إلى العباد مجاز عند أهل السنة وتمادوا في ذلك حتى زعم بعض من يعتقده الشيعة أعلم الناس أن مثل طلعت الشمس مجاز عند أهل
____________________
(2/139)
السنة قال وأما السمعيات فكثيرة جدا حتى زعموا أنه ما من آية إلا وفيها دلالة على بطلان الجبر وقد بينه الإمام الرازي رحمه الله في سورة الفاتحة ليقاس عليه الباقي وبلغ الأمد الأقصى في التقرير والمعارضة من جانب أهل الحق ثم ضبط دلائلهم السمعية على كثرتها في عدة أنواع
الأول الايات الدالة على إسناد الأفعال إلى العباد إسناد الفعل إلى فاعله وهو أكثر من أن يحصى فليبدأ من قوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة } إلى قوله تعالى { الذي يوسوس في صدور الناس } وقد عرفت أن هذا ليس من المتنازع في شيء وزعم الإمام أنه لا محيص عنها إلا بالتزام أن مجموع القدرة والداعي مؤثر في الفعل وخالق ذلك المجموع هو الله تعالى فبهذا الاعتبار صح الإسناد وزال التناقض بينها وبين الأدلة القاطعة على أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره
الثاني الآيات الواردة في أمر العباد ببعض الأفعال ونهيهم عن البعض ومدحهم على الإيمان والطاعات وذمهم على الكفر والمعاصي ووعدهم الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وفي قصص الأمم الماضية للإنذار أن يحل بالسامعين ما حل بهم وللاتعاظ والاعتبار بأحوالهم وكل هذا إنما يصح إذا كان للعبد قدرة واختيارا في إحداث الأفعال وقد عرفت الجواب
الثالث الآيات الصريحة في إسناد الألفاظ الموضوعة للإيجاد إلى العباد وهي العمل كقوله تعالى { من عمل صالحا فلنفسه } { ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا } { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } وهذا كثير جدا والفعل كقوله تعالى { وما تفعلوا من خير يعلمه الله } { وافعلوا الخير } والصنع كقوله تعالى { لبئس ما كانوا يصنعون } { والله يعلم ما تصنعون } والكسب كقوله تعالى { ووفيت كل نفس ما كسبت } { كل امرئ بما كسب رهين } { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } والجعل كقوله تعالى { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق } { وجعلوا لله شركاء الجن } والخلق كقوله تعالى { فتبارك الله أحسن الخالقين } { أخلق لكم من الطين } { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } والأحداث كقوله حكاية عن الحضر حتى أحدث لك منه ذكر أو الابتداع كقوله تعالى { ورهبانية ابتدعوها } والجواب أنه لما ثبت بالدلائل السالفة ان الكل بقضاء الله تعالى وقدره وجب جعل هذه الألفاظ مجازات عن التسبب العادي أي من صار سببا عاديا للأعمال الصالحة وعلى هذا القياس أو جعل هذه الإسنادات مجازات لكون العبد سببا لهذه الأفعال كما في بنى الأمير المدينة هذا في غير لفظ الكسب فإنه يصح على حقيقته والخلق فإنه بمعنى التقدير والجعل فإنه بمعنى التصيير وهو لا يستلزم أيجاد أمر محقق مثل جعل الله الدرهم في الكيس وجعل لزيد شريكا وأما على رأي الإمام وهو أن مجموع القدرة والداعية مؤثرة في الفعل وذلك المجموع بخلق الله تعالى من غير اختيار العبد فلا مجاز ولا إشكال
____________________
(2/140)
ولا استقلال للعبد فلا اعتذال
الرابع الآيات الدالة على توبيخ الكفار والعصاة وإنه لا مانع من الإيمان والطاعة ولا ملجىء إلى الكفر والمعصية لهم كقوله تعالى { وما منع الناس أن يؤمنوا } { كيف تكفرون بالله } { ما منعك أن تسجد } { فما لهم لا يؤمنون } { فما لهم عن التذكرة معرضين } { لم تلبسون الحق بالباطل } { لم تصدون عن سبيل الله } وأمثال ذلك وعلى مذهب المجبرة لهم أن يجادلوا ويقولوا أنك خلقت فينا الكفر وعلمته وأردته وأخبرت به وخلقت قدرة وداعية يجب معهما الكفر وكل هذه موانع من الإيمان فيكون القرآن حجة للكافر وقد أنزل ليكون حجة عليه وإلى هذا أشار الصاحب ابن عباد وكان غالبا في الرفض والاعتزال ساعيا في تربية ابي هاشم الجبائي ورفع قدره وإعلاء ذكره حيث قال كيف يأمر بالإيمان ولم يرده وينهى عن الكفر وإراده ويعاقب على الباطل ويقدره وكيف يصرف على الإيمان ثم يقول { أنى يصرفون } ويخلق فيهم الإفك ثم يقول { أنى يؤفكون } وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول { كيف تكفرون } وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم قال { لم تلبسون الحق بالباطل } { فصدهم عن السبيل } ثم يقول { لم تصدون عن سبيل الله } { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } ثم يقول { وماذا عليهم لو آمنوا } وذهب بهم عن الرشد ثم قال { فأين تذهبون } ( وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ) ثم قال { فما لهم عن التذكرة معرضين } والجواب أن المراد الموانع الظاهرة التي يعلمها جهال الكفرة وهذه موانع عقلية خفيت على علماء القدرية
الخامس الآيات الدالة على أن فعل العبد بمشيئته كقوله تعالى { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } { اعملوا ما شئتم } { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } { فمن شاء ذكره } { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } والجواب أن التعليق بمشيئة العبد مذهبنا لكن مشيئته بمشيئة الله تعالى { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } وفي تعداد هذه الأنواع وإفرادها إطالة وقد فصلها الإمام في كتبه سيما المطالب العالية وأورد أيضا أحاديث كثيرة توافق أنواع الآيات واقتصر في الجواب على أن الأدلة السمعية متعارضة فالتعويل على العقليات وعمدته في ذلك دليل الداعي الموجب ودليل العلم الأزلي ولذا نقل عن بعض أذكياء المعتزلة أنه كان يقول هما العدوان للاعتزال وإلا فقد ثم الدست لنا وأما دليل الإرادة وقد أورده صاحب المواقف في أعدادهما فلا معول عليه عندهم لتجويزهم وقوع خلاف مراد الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ولهذا ألزم المجوسي عمرو بن عبيد حين قال له لم لا تسلم فقال لأن الله تعالى لم يرد إسلامي فقال أن الله يريد إسلامك لكن الشياطين لا يتركونك فقال المجوسي فأنا أكون مع الشريك الغالب قال خاتمة يشير إلى ما ذكره الإمام الرازي من أن حال هذه المسألة عجيبة فإن الناس كانوا مختلفين فيها أبدا بسبب أن ما يمكن الرجوع إليها فيها متعارضة متدافعة فمفعول الجبرية على أنه لا بد لترجيح الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد ومعول القدرية على أن العبد لو لم يكن قادرا على فعله لما حسن المدح والذم الأمر والنهي وهما مقدمتان بديهيتان ثم من الدلائل العقلية اعتماد الجبرية على أن تفاصيل احوال الأفعال غير معلومة للعبد
____________________
(2/141)
واعتماد القدرية على أن أفعال العباد واقعة على وفق مقصودهم ودواعيهم وهما متعارضان ومن الإلزامات الخطابية أن القدرة على الإيجاد صفة كمال لا تليق بالعبد الذي هو منبع النقصان وأن أفعال العباد تكون سفها وعبثا فلا تليق بالمتعالي عن النقصان وأما الدلائل السمعية فالقرآن مملوء بما يوهم بالأمرين وكذا الآثار فإن أمة من الأمم لم تكن خالية من الفرقتين وكذا الأوضاع والحكايات متدافعة من الجانبين حتى قيل أن وضع النرد على الجبر ووضع الشطرنج على القدر إلا أن مذهبنا أقوى بسبب أن القدح في قولنا لا يترجح الممكن إلا بمرجح يوجب انسداد باب إثبات الصانع ونحن نقول الحق ما قال بعض أئمة الدين أنه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين وذلك لأن مبنى المبادي القريبة لأفعال العباد على قدرته واختياره والمبادي البعيدة على عجزه واضطراره فإن الإنسان مضطر في صورة مختار كالقلم في يد الكاتب والوتد في شق الحائط وفي كلام العقلاء قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني ( قال وأفعاله بقضاء الله تعالى ) قد اشتهر بين أكثر الملل أن الحوادث بقضاء الله تعالى وقدره وهذا يتناول أفعال العباد وأمره ظاهر عند أهل الحق لما تبين أنه الخالق لها نفسها أو الخالق للقدرة والداعية الموجبتين لها فمعنى القضاء والقدر الخلق والتقدير كما في قوله تعالى { فقضاهن سبع سماوات } وقوله تعالى { وقدر فيها أقواتها } ولا يستقيم هذا عند القدرية وقد يكون القضاء والقدر بمعنى الإيجاب والإلزام كما في قوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وقوله تعالى { نحن قدرنا بينكم الموت } فيكون الواجبات بالقضاء والقدر دون البواقي وقد يراد بهما الإعلام والتبيين لقوله تعالى { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض } الآية وقوله تعالى { إلا امرأته قدرناها من الغابرين } أي أعلمنا بذلك وكتبناه في اللوح فعلى هذا جميع الأفعال بالقضاء والقدر وقالت الفلاسفة لما كانت جميع صور الموجودات الكلية والجزئية حاصلة من حيث هي معقولة في العالم العقلي بإبداع الأول الواجب إياها وكان أيجاد ما يتعلق منها بالمادة في المادة مختلفا على سبيل الإبداع ممتنعا إذ هي غير متأتية لقبول صورتين معا فضلا عن أكثر وكان الجود الإلهي مقتضيا لتكميل المادة بإبداع تلك الصور فيها وإخراج ما فيها بالقوة من قبول تلك الصور إلى الفعل قدر بلطيف حكمته زمانا يخرج فيه تلك الأمور من القوة إلى الفعل فالقضاء عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجتمعة ومجملة على سبيل الإبداع والقدر عبارة عن وجودها في موادها الخارجية مفصلة واحدا بعد واحد كما قال عز من قائل { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم } قالوا دخول الشر في القضاء الإلهي على سبيل التبع فإن الموجود إما خير محض كالعقول والأفلاك أو الخير غالب عليه كما في هذا العالم فإن المرض وإن كثر فالصحة أكثر منه ولما امتنع عقلا إيجاد ما في هذا العالم مبرأ عن الشرور بالكلية فإن
____________________
(2/142)
المطر المخصب للبلاد يخرب بعض الدور بالضرورة وجب في الحكمة إيجاده لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فدخل الشر في القضاء وإن كان مكروها غير مرضي قال ثم لا خلاف في ذم القدرية قد ورد في صحاح الأحاديث لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا والمراد بهم القائلون بنفي كون الخير والشر كله بتقدير الله تعالى ومشيئته سموا بذلك لمبالغتهم في نفيه وكثرة مدافعتهم إياه وقيل لإثباتهم للعبد قدرة الإيجاد وليس بشيء لأن المناسب حينئذ القدري بضم القاف وقالت المعتزلة القدرية هم القائلون بأن الخير والشر كله من الله وبتقديره ومشيئته لأن الشائع نسبة الشخص إلى ما يثبته ويقول به كالجبرية والحنفية والشافعية لا إلى ما ينفيه ورد بأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله القدرية مجوس هذه الأمة وقوله إذا قامت القيامة نادى مناد في أهل الجمع ابن خصماء الله فيقوم القدرية ولا خفاء في أن المجوس هم الذين ينسبون الخير إلى الله والشر إلى الشيطان ويسمونهما يزدان واهر من وان من لا يفوض الأمور كلها إلى الله ويعترض لبعضها فينسبه إلى نفسه يكون هو المخاصم لله تعالى وأيضا من يضيف القدر إلى نفسه ويدعي كونه الفاعل والمقدر أولى باسم القدري ممن يضيفه إلى ربه فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل قدم عليه من فارس أخبرني بأعجب شيء رأيت فقال رأيت أقواما ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم فإذا قيل لهم لم تفعلون ذلك قالوا قضاء الله علينا وقدره فقال عليه السلام سيكون في آخر أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم أولئك مجوس أمتي وروى الأصنع بن نباته أن شيخا قام إلى علي ابن أبي طالب بعد انصرافه من صفين فقال أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره فقال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا ولا علونا تلعة إلا بقضاء الله وقدره قال الشيخ عند الله احتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئا فقال له مه أيها الشيخ عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين فقال الشيخ كيف والقضاء والقدر ساقانا فقال ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما لوكان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ولا المسيء أولى بالذم من المحسن تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشياطين وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها إن الله أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف يسيرا لم يعص مغلوبا ولم يطع مستكرها ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار فقال الشيخ وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما قال هو الأمر من الله والحكم ثم تلا قوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه }
____________________
(2/143)
) وعن الحسن بعث الله تعالى محمدا إلى العرب وهم قدرية يحملون ذنوبهم على الله وتصديقه قوله تعالى { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها } قلنا ما ذكر لا يدل إلا على أن القول بأن فعل العبد إذا كان بقضاء الله تعالى وقدره وخلقه وإرادته يجوز للعبد الإقدام عليه ويبطل اختياره فيه واستحقاقه للثواب والعقاب والمدح والذم عليه قول المجوس فلينظر أن هذا قول المعتزلة أم المجبرة ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور ومن وقاحتهم أنهم يروجون باطلهم بنسبته إلى مثل أمير المؤمنين علي وأولاده رضي الله عنهم وقد صح عنه أنه خطب الناس على منبر الكوفة فقال ليس منا من لم يؤمن بالقدر خيره وشره وأنه حين أراد حرب الشام قال
( شمرت ثوبي ودعوت قنبرا ** قدم لوائي لا تؤخر حذرا )
( لن يدفع الحذار ما قد قدرا ** ) وأنه قال لمن قال إني أملك الخير والشر والطاعة والمعصية تملكها مع الله أو تملكها بدون الله فإن قلت أملكها مع الله فقد ادعيت أنك شريك الله وإن قلت أملكها بدون الله فقد ادعيت أنك أنت الله فتاب الرجل على يده وأن جعفر الصادق قال لقدري اقرأ الفاتحة فقرأ فلما بلغ قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } قال له جعفر على ماذا تستعين بالله وعندك أن الفعل منك وجميع ما يتعلق بالأقدار والتمكين والألطاف قد حصلت وتمت فانقطع القدري والحمد لله رب العالمين قال فرع ذهبت المعتزلة إلى أن فعل الفاعل قد يوجد لفاعله فعلا آخر في محل القدرة أو خارجا عنه وذلك معنى التوليد وفرعوا عليه فروعا مثل أن المتولد بالسبب المقدور بالقدرة الحادثة يمتنع أن يقع بالقدرة الحادثة بطريق المباشرة من غير توسط السبب ومثل اختلافهم في أن المتولد هل يقع في فعل الله تعالى أم جميع أفعاله بطريق المباشرة وفي أن الموت هل هو متولد من الجرح حتى يكون فعل العبد إلى غير ذلك ولما ثبت استناد الممكنات إلى الله ابتداء بطل التوليد عن أصله والمعتزلة تمسكوا في كون المتولد فعلا للعبد سواء تولد من فعله المباشر أو فعله المتولد كحركة الآلة وحركة المتحرك بالآلة بمثل ما ذكروا في مسألة خلق الأعمال من وقوعه على وفق القصد والداعية ومن حسن المدح والذم والأمر والنهي بل استحسان المدح والذم على الأفعال المتولدة كالكتابة والصياغة وإنشاء الكلام والدفع والجذب والقتل والحرب أظهر عند العقلاء من المدح والذم على المباشرات لأنها لا تظهر ظهور المتولدات وكذا الوقوع بحسب الدواعي أظهر فيها لأن أكثر الدواعي إنما يكون إلى المتولدات والجواب مثل ما مر وذهب النظام من المعتزلة إلى أنه لافعل للعبد إلا ما يوجد في محل قدرته والباقي بطبع المحل وقال معمر لا فعل للعبد إلا الإرادة وما يحدث بعدها إنما هو بطبع المحل وقيل لا فعل للعبد إلا الفكر قالوا لو كان المتولد فعلنا لم يقع إلا بحسب دواعينا كالمباشر واللازم باطل لأن كثيرا من أرباب الصناعات ينقضون أعمالهم لعدم موافقتها
____________________
(2/144)
دواعيهم وإغراضهم وأيضا لو كان فعلنا لصح منا أن لا نفعله بعد وجود السبب لأن شأن القادر صحة أن يفعل وأن لا يفعل واللازم ظاهر البطلان كما في السهم المرسل من القوس والجواب أن عدم الموافقة للغرض لمانع مثل الخطاء في تهيئة الأسباب وكذا عدم التمكن من ترك الفعل لمانع مثل إحداث السبب التام لا ينافي كونه فعل الفاعل فإن موافقة الغرض وتمكن القادر من الترك والفعل إنما يكونان عند وجود الأسباب وانتفاء الموانع واحتج أصحابنا بوجوه
الأول أن الجسم الملتزق طرفاه بيدي قادرين إذا جذبه أحدهما ودفعه الآخر معا فحركته إما أن تقع بمجموع القدرتين فيلزم اجتماع العلتين المستقلتين على معلول واحد أو بإحداهما فيلزم الترجح بلا مرجح أو لأنهما وهو المطلوب وفيه نظر إذ للخصم أن يمنع استقلال كل من القوتين بإحداث الحركة على الوجه الذي وقع باجتماعهما غاية الأمر أنها تستقل بإحداث حركة ذلك الجسم في الجملة
الثاني أنه لو كان مقدورا للعبد لجاز وقوعه بلا توسط السبب كما في حق الباري تعالى
الثالث أن السبب عندهم موجب للمسبب عند عدم المانع فيلزم أن يكون الفعل المباشر مستقلا بإيجاب المتولد من غير تأثير للقدرة فيه
الرابع أنه لو كان بقدرة العبد لزم أن لا يوجد عند فناء قدرة العبد واللازم باطل فيما إذا رمى الأنسان سهما ومات قبل أن أصاب السهم حيا فجرحه وأفضى إلى زهوق روحه بعد شهور وأعوام فهذه السرايات والآلام حدثت بعد ما صار الرامي عظاما رميما واعترض بأنه يجوز أن يشترط في تأثير القدرة الحادثة مالا يشترط في القديمة وبأن معنى كون المتولد بقدرة العبد تأثيرها في السبب الموجب له واعلم أن مذهب أصحابنا أن ما يقع مباينا لمحل القدرة الحادثة لا يكون مقدورا لها أصلا وإنها لا تتعلق إلا بما يقوم بمحلها وإن كان بخلق الله ثم انظر في الوجوه الأربعة أنها على تقدير تمامها هل تفيد ذلك أم يقتصر بعضها على مجرد نفي مذهب الخصم قال المبحث الثاني مذهب أهل الحق إن إرادة الله تعالى متعلقة بكل كائن غير متعلقة بما ليس بكائن على ما اشتهرمن السلف وروي مرفوعا إلى النبي عليه السلام أن ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن لكن منهم من منع التفصيل بأن يقال أنه يريد الكفر والظلم والفسق كما في الخلق يقال أنه خالق الكل ولا يقال خالق القاذورات والقردة والخنازير وخالفت المعتزلة في الشرور والقبائح فزعموا أنه يريد من الكافر الإيمان وإن لم يقع لا الكفر وإن وقع وكذا يريد من الفاسق الطاعة لا الفسق حتى أن أكثر ما يقع من العباد خلاف مراده والظاهر أنه لا يصير على ذلك رئيس قرية من عباده حكى أنه دخل القاضي عبد الجبار دارا للصاحب بن عباد فرأى الأستاذ أبي إسحق الإسفرائني فقال سبحان من تنزه عن الفحشاء فقال الإستاذ على الفور سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء والتفصي عن ذلك بأنه أراد من العباد الإيمان والطاعة برغبتهم واختبارهم فلا عجز ولا نقيصة ولا مغلوبية له في عدم وقوع ذلك كالملك إذا أراد دخول
____________________
(2/145)
القوم داره رغبة واختيارا لا كرها واضطرارا فلم يدخلوا ليس بشيء لأنه لم يقع هذا المراد ووقع مرادات العبيد والخدم وكفى بهذا نقيصة ومغلوبية لنا على إرادته للكائنات أنه خالق لها بقدرته من غير إكراه فيكون مريدا لها ضرورة إن الإرادة هي الصفة المرجحة لأحد طرفي الفعل والترك وعلى عدم إرادته لما ليس بكائن إنه علم عدم وقوعه فعلم استحالته لاستحالة انقلاب علمه جهلا والعالم باستحالة الشيء لا يريده البتة واعترض بأن خلاف المعلوم مقدور له في نفسه والمقدور إذا كان متعلق المصلحة يجوز أن يكون مرادا وإن علم أنه لا يقع البتة وبأن من أخبره النبي الصادق بأن فلانا يقتله البتة يعلم ذلك قطعا مع أنه لا يريد قتله بل حياته والجواب أن هذا تمن لا إرادة فإنها الصفة التي شأنها التخصيص والترجيح وأما الآيات والأحاديث في هذا الباب فأظهر من أن تخفى وأكثر من أن تحصى { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم } { إن كان الله يريد أن يغويكم } { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } { ولو شاء لهداكم أجمعين } { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون } { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } وللمعتزلة فيها تأويلات فاسدة وتعسفات باردة يتعجب منها الناظر ويتحقق أنهم فيها محجوجون وبوهقها مخنوقون ولظهور الحق في هذه المسألة يكاد عامتهم به يعترفون ويجري على ألسنتهم إن مالم يشأ الله لا يكون ثم العمدة القصوى لهم في الجواب عن أكثر الآيات حمل المشيئة على مشيئة القسر وإلا لجاء وحين سئلوا عن معناها تحيروا فقال العلاف معناها خلق الإيمان والهداية فيهم بلا اختيار منهم ورد بأن المؤمن حينئذ يكون هو الله لا العبد على ما زعمتم في إلزامنا حين قلنا بأن الخالق هو الله تبارك وتعالى وعز وجل مع قدرتنا واختيارنا وكسبنا فكيف بدون ذلك فقال الجبائي معناها خلق العلم الضروري بصحة الإيمان وإقامة الدلائل المثبتة لذلك العلم الضروري ورد بأن هذا لا يكون إيمانا والكلام فيه على أن في بعض الآيات دلالة على أنهم لو رأوا كل آية ودليل لا يؤمنون البتة فقال ابنه أبو هاشم معناها أن خلق لهم العلم بأنهم لو لم يؤمنوا لعذبوا عذابا شديدا وهذا أيضا فاسد لأن كثيرا من الكفار كانوا يعلمون ذلك وكذا إبليس ولا يؤمنون على أنه قال تعالى { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } يشهد بفساد تأويلاتهم لدلالته على أنه إنما لم يهد الكل لسبق الحكم بملأ جهنم ولا خفاء في ان الإيمان والهداية بطريق الجبر لا يخرجهم عن استحقاق جهنم سيما عند المعتزلة وتمام تفصيل هذا
____________________
(2/146)
المقام وتزييف تأويلاتهم في المطولات وكتب التأويلات والمعتزلة تمسكوا في دعواهم بوجوه
الأول أن إرادة القبيح قبيحة والله منزه عن القبائح ورد بأنه لا قبح منه غاية الأمر أنه يخفى علينا وجه حسنه
الثاني أن العقاب على ما أراده ظلم ورد بالمنع فإنه تصرف في ملكه
الثالث أن الأمر بما لا يراد والنهي عما يراد سفه ورد بالمنع إذ ربما لا يكون غرض الآمر الإتيان بالمأمور به كالسيد إذا أمر العبد امتحانا له هل يطيعه أم لا فإنه لا يريد شيئا من الطاعة والعصيان أو اعتذارا عن ضربه بأنه لا يطيعه فإنه يريد منه العصيان وكالمكره على الأمر بنهب أمواله وكذا النهي فإن قيل مأمور السلطان يتبادر إلى المأمور به معللا بأنه مراد السلطان قلنا لا نطقا بل إذا ظهر إمارة إلإرادة وإنما يعلل نطقا بالأمر والإشارة والحكم
الرابع لو كان الكفر مراد الله تعالى لكان طاعة لأن معناها تحصيل مراد المطاع لدورانه معه وجودا وعدما ورد بالمنع بل هي موافقة الأمر وإنما تدور معه علمت الإرادة أو لم تعلم
الخامس لو كان مراد الكان قضاء فوجب الرضاء به والملازمة وبطلان اللازم إجماع ورد بأنه مقضى لا قضاء ووجوب الرضا إنما هو بالقضاء دون المقضى ودعوى أن المراد بالقضاء الواجب الرضى به هو المقضى من المحن والبلايا والمصائب والرزايا لا الصفة الذاتية لله تعالى بهت بل هو الخلق والحكم والتقدير وقد يجاب بأن الرضا بالكفر من حيث أنه من قضاء الله تعالى طاعة ولا من هذه الحيثية كفر وفيه نظر
السادس الآيات الشاهدة بنفي إرادته للقبائح وبالتوبيخ والرد على من يقول بذلك كقوله تعالى { وما الله يريد ظلما للعباد } { وما الله يريد ظلما للعالمين } { إن الله لا يأمر بالفحشاء } ولا يرضى لعباده الكفر { والله لا يحب الفساد } { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } الآية وذلك لأن الله تعالى ذم المشركين ووبخهم على ادعائهم أن الكفر بمشيئة الله تعالى وكذبهم وآباءهم في ذلك وعاقبتهم عليه وحكم بأنهم يتبعون فيه الظن دون العلم وأنه كذب صراح والجواب أنه لا يتصور منه الظلم لأن ما يفعله بالعباد تصرف منه في ملكه فالإتيان نفي للظلم بنفي لازمه أعني الإرادة لأن ما يفعله القادر المختار لا يكون الا مرادا وليس فيهما أنه لا يريد ظلم زيد على عمرو لظهور أن المعنى على أنه لا يريد ظلما منه وإما نفي الأمر والرضاء والمحبة فلا نزاع فيه لما في المحبة والرضى من الاستحسان وترك الاعتراض وإرادة الإنعام فهو يريد كفر الكافر ويخلقه ومع هذا يبغضه وينهاه عنه ويعاقبه عليه ولا يرضاه وأما رد مقال المشركين فلقصدهم بذلك الهزؤ والسخرية وتمهيد العذر في الإشراك كما إذا قال القدري استهزاء بالسني وقصدا إلى إلزامه لو شاء الله رجوعي إلى مذهبكم وخلق في عقائدكم لرجعت والدليل عليه أنه قال تعالى { كذلك كذب الذين من قبلهم } فجعل مقالهم تكذيبا لا كذبا ورتب عذاب الآباء على تكذيبهم لا كما زعم المستدل ولهذا صرح
____________________
(2/147)
في آخر الآية بنفي مشيئة هدايتهم وأنه لو شاء لفعل البتة إزالة للوهم الذي ذهب إليه المستدل
السابع قوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } دل على أنه أراد من الكل الطاعة والعبادة لا المعصية ورد بعد تسليم دلالة لام الغرض على كون ما بعدها مرادا بمنع العموم للقطع بخروج من مات على الصبا أو الجنون فليخرج من مات على الكفر ولو سلم فليس المقصود بيان خلقهم لهذا الغرض بل بيان استغنائه عنهم وافتقارهم إليه بدليل قوله تعالى { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } فكأنه قال وما خلقتهم لينفعوني بل لأمرهم بالعبادة أو ليتذللوا إلي أما بالنسبة إلى المطيع فظاهر وأما بالنسبة إلى العاصي فبشهادة الفطرة على تذلله وأن تخرص وافترى كذا في الإرشاد لإمام الحرمين وذهب كثير من أهل التأويل إلى أن المعنى ليكونوا عبادا لي فتكون الآية على عمومها على أنها يعارضها قوله تعالى { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } وقوله تعالى { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } وجعل اللام للعاقبة كما في قوله تعالى { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا } إنما يصح في فعل من يجهل العواقب فيفعل لغرض فلا يحصل ذلك بل ضده فيجعل كأنه فعل الفاعل لهذا الغرض الفاسد تنبيها على خطئه وكيف يتصور في علام الغيوب أن يفعل فعلا لغرض يعلم قطعا أنه لا يحصل البتة بل يحصل ضده والعجب من المعتزلة كيف لا يعدون ذلك سفها وعبثا
الثامن قوله تعالى { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } جعل المنهيات مكروهة فلا تكون مرادة لأن الإرادة والكراهة ضدان ورد بعد تسليم كونه إشارة إلى المنهيات الواقعة ليلزم كونها مرادة بأن المعنى أنها مكروهة عند الناس وفي مجاري العادات لا عند الله تعالى فيلزم المحال وإما جعل المكروه مجازا عن المنهى فلغو من الكلام لكون ذلك إشارة إلى المنهى ( قال المبحث الثالث ) في الحسن والقبح جعل هذا من مباحث أفعال الباري تعالى مع أنها لا تتصف بالحسن والقبح بالمعنى الذي يذكره أعني المأمور به والمنهي عنه نظرا إلى انهما بخلقه ومن آثار فعله وإلى أنهما بتفسير الخصم يتعلقان بأفعال الباري إثباتا ونفيا وقد اشتهر أن الحسن والقبح عندنا شرعيان وعند المعتزلة عقليان وليس النزاع في الحسن والقبح بمعنى صفة الكمال والنقص كالعلم والجهل وبمعنى الملائمة للغرض وعدمها كالعدل والظلم وبالجملة كل ما يستحق المدح أو الذم في نظر العقول ومجاري العادات فإن ذلك يدرك بالعقل ورد الشرع أم لا وإنما النزاع في الحسن والقبح عند الله تعالى بمعنى استحقاق فاعله في حكم الله تعالى المدح أو الذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا ومبنى التعرض للثواب والعقاب على أن الكلام في أفعال العباد فعندنا ذلك بمجرد الشرع بمعنى أن العقل لا يحكم بأن الفعل حسن أو قبيح في حكم الله تعالى بل ما ورد الأمر به فهو حسن وما ورد النهي عنه فقبيح من غير أن يكون للعقل جهة محسنة أو مقبحة في ذاته ولا بحسب جهاته واعتباراته حتى لو أمر
____________________
(2/148)
بما نهى عنه صار حسنا وبالعكس وعندهم للفعل جهة محسنة أو مقبحة في حكم الله تعالى يدركها العقل بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار أو بالنظر كحسن الكذب النافع وقبح الصدق الضار أو بورود الشرع كحسن صوم يوم عرفة وقبح صوم يوم عيد فإن قيل فأي فرق بين المذهبين في هذا القسم قلنا الآمر والنهي عندنا من موجبات الحسن والقبح بمعنى أن الفعل أمر به فحسن ونهى عنه فقبح وعندهم من مقتضياته بمعنى أنه حسن فأمر به أو قبح فنهى عنه فالأمر والنهي إذا وردا كشفا عن حسن وقبح سابقين حاصلين للفعل لذاته أو لجهاته ثم لكل من الفريقين تعريفات للحسن والقبح يتناول بعضها فعل الباري وفعل غير المكلف والمباح دون البعض وقد بينا تفصيل ذلك في شرح التنقيح وفوائد شرح مختصرالأصول ( قال لنا ) تمسك أصحابنا بوجوه يدل بعضها على أن الحسن والقبح ليسا لذات الفعل ولا لجهات واعتبارات فيه وبعضها على أنهما ليسا لذاته خاصة
الأول لو حسن الفعل أو قبح عقلا لزم تعذيب تارك الواجب ومرتكب الحرام سواء ورد الشرع أم لا بناء على أصلهم في وجوب تعذيب من استحقه إذا مات غير تائب واللازم باطل لقوله تعالى { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
الثاني لو كان الحسن والقبح بالعقل لما كان شيء من أفعال العباد حسنا ولا قبيحا عقلا واللازم باطل باعترافكم وجه اللزوم أن فعل العبد إما اضطراري وإما اتفاقي ولا شيء منهما بحسن ولا قبيح عقلا أما الكبرى فبالاتفاق وأما الصغرى فلأن العبد إن لم يتمكن من الترك فذاك وإن تمكن فإن لم يتوقف الفعل على مرجح بل صدر عنه تارة ولم يصدر أخرى بلا تجدد أمر كان اتفاقيا على أنه يفضي إلى الترجيح بلا مرجح وفيه انسداد باب إثبات الصانع وإن توقف فذلك المرجح إن كان من العبد فينقل الكلام إليه وبتسلسل وإن لم يكن فمعه إن لم يجب الفعل بل صح الصدور واللا صدور عاد الترديد ولزم المحذور وإن وجب فالفعل اضطراري والعبد مجبور واعترض بأن المرجخ هو الإرادة التي شأنها الترجيح والتخصيص وصدور الفعل معه عندنا على سبيل الصحة دون الوجوب إلا عند أبي الحسين ولو سلم فالوجوب بالاختبار لا ينافي الاختيار ولا يوجب الاضطرار المنافي للحسن وصحة التكليف وأجيب بأنه قد ثبت بالدليل لزوم الانتهاء إلى مرجح لا يكون من العبد ويجب معه الفعل ويبطل استقلال العبد ومثله لايحسن ولا يقبح ولا يصح التكليف به عندهم وأما الإعتراض بأنه استدلال في مقابلة الضرورة ومنقوض بفعل الباري فقد عرفت جوابه
الثالث لو كان قبح الكذب لذاته لما تخلف عنه في شيء من الصور ضرورة واللازم باطل فيما إذا تعين الكذب لإنقاذ نبي من الهلاك فإنه يجب قطعا فيحسن وكذا كل فعل يجب تارة ويحرم أخرى كالقتل والضرب حدا وظلما واعترض بأن الكذب في الصورة المذكورة باق على قبحه إلا أن ترك اتجاه النبي أقبح منه فيلزم
____________________
(2/149)
ارتكاب أقل القبحين تخلصا عن ارتكاب الأقبح فالواجب الحسن هو الاتجاه لا الكذب وهذا إذا سلمنا عدم إمكان التخليص بالتعريض وإلا ففي المعاريض مندوحة عن الكذب والجواب أن هذا الكذب لما تعين سببا وطريقا إلى الانجاء الواجب كان واجبا فكان حسنا وأما القتل ومحصلة الضرب حدا فأمرهما ظاهر
الرابع لو كان الحسن والقبح ذاتيين ألزم اجتماع المتنافيين في أخبار من قال لأكذبن غدا لأنه إما صادق فيلزم لصدقه حسنه ولاستلزامه الكذب في الغد قبحه وإما كاذب فيلزم لكذبه قبحه ولاستلزامه ترك الكذب في الغد حسنه وقد يقرر اجتماع المتنافيين في إخبار الغدي كاذبا فإنه لكذبه قبيح ولاستلزامه صدق الكلام الأول حسن أو لأنه أما حسن فلا يكون القبح ذاتيا للكذب وإما قبيح فيكون تركه حسنا مع استلزامه كذب الكلام الأول وهو قبيح ومبنى الاستلزام على انحصار الإخبار الغدى في هذا الواحد وقد يقرر بأنه إما صادق وإما كاذب وأيا ما كان يلزم اجتماع الحسن والقبح فيه ومبنى الكل على أن ملزوم الحسن حسن وملزوم القبيح قبيح وإن كل حسن أو قبح ذاتي ويمكن تقرير الشبهة بحيث يجتمع الصدق والكذب في كلام واحد فيجتمع الحسن والقبح وذلك إذا اعتبرنا قضية يكون مضمونها الإخبار عن نفسها بعدم الصدق فيتلازم فيها الصدق والكذب كما تقول هذا الكلام الذي أتكلم به الآن ليس بصادق فإن صدقها يستلزم عدم صدقها وبالعكس وقد يورد ذلك في صورة كلام غدي وأمسي فيقال الكلام الذي أتكلم به غدا ليس بصادق أو لا شيء مما أتكلم به غدا بصادق خارجية ثم يقتصر في الغد على قوله ذلك الكلام الذي تكلمت به أمس صادق فإن صدق كل من الكلام الغدى والأمسى يستلزم عدم صدقهما وبالعكس وهذه مغلطة تحير في حلها عقول العقلاء وفحول الأذكياء ولهذا سميتها مغلطة جذرالأصم ولقد تصفحت الأقاويل فلم أظفر بما يروى الغليل وتأملت كثيرا فلم يظهر إلا أقل من القليل وهو أن الصدق أو الكذب كما يكون حالا للحكم أي للنسبة الإيجابية أو السلبية على ما هو اللازم في جميع القضايا فقد يكون حكما أي محكوما به محمولا على الشيء بالاشتقاق كما في قولنا هذا صادق وذاك كاذب ولا يتناقضان إلا إذا اعتبرا حالين لحكم واحد أو حكمين على موضوع واحد بخلاف ما إذا اعتبر أحدهما حالا للحكم والآخر حكما لاختلاف المرجع اختلافا جليا كما في قولنا السماء تحتنا صادق أو كاذب أو خفيا كما في الشخصية التي هي مناط المغلطة فإما إذا فرضناها كاذبة لم يلزم الا صدق نقيضها وهو قولنا هذا الكلام صادق فيقع الصدق حكما للشخصية لا حالا لحكمها وإنما حال حكمها الكذب على ما فرضنا والصدق حال للنسبة الإيجابية التي هي حكم النقيض وحكم للشخصية التي هي الأصل فلم يجتمعا حالين لحكم ولا حكمين لموضوع وكذا إذا فرضناها صادقة وحينئذ فلعل المجيب يمنع تناقض الصدق والكذب المتلازمين بناء على رجوع أحدهما إلى حكم الشخصية والآخر إلى موضوعها لكن
____________________
(2/150)
الصواب عندي في هذه القضية ترك الجواب والاعتراف بالعجز عن حل الإشكال
الخامس لو كان الفعل حسنا أو قبيحا لذاته لزم قيام العرض بالعرض وهو باطل باعتراف الخصم وبما مر من الدليل وجه اللزوم أن حسن الفعل مثلا أمر زائد عليه لأنه قد يعقل الفعل ولا يعقل حسنه أو قبحه ومع ذلك فهو لوجودي غير قائم بنفسه وهذا معنى العرض أما عدم القيام بنفسه فظاهر وأما الوجود فلأن نقيضه لا حسن وهو سلب إذ لو لم يكن سلبا لاستلزم محلا موجودا فلم يصدق على المعدوم أنه ليس بحسن وهذا باطل بالضرورة وإذا كان أحد النقيضين سلبيا كان الآخر وجوديا ضرورة امتناع ارتفاع النقيضين ثم إنه صفة للفعل الذي هو أيضا عرض فيلزم قيام العرض بالعرض واعترض بأن النقيضين قد يكونان عدميين كالامتناع واللاامتناع وبأن صورة السلب أعني ما فيه حرف النفي لا يلزم من صدقه على المعدوم أن يكون سلبا محضا لجواز أن يكون مفهوما كليا يصدق على أفراد بعضها وجودي وبعضها عدمي كاللاممكن الصادق على الواجب والممتنع وبأنه منقوض بإمكان الفعل فإنه ذاتي له مع إجراء الدليل فيه وإنما لم ينقضوا الدليل بأنه يقتضي أن لا يتصف الفعل بالحسن الشرعي للزوم قيام العرض بالعرض لأن الحسن الشرعي عند التحقيق قديم لا عرض ومتعلق بالفعل لا صفة له وقد بينا ذلك في شرح الأصول
السادس لو حسن الفعل أو قبح لذاته أو لصفاته وجهاته لم يكن الباري مختارا في الحكم واللازم باطل بالإجماع وجه اللزوم أنه لا بد في الفعل من حكم والحكم على خلاف ما هو المعقول قبيح لا يصح عن الباري بل يتعين عليه الحكم بالمعقول الراجح بحيث لا يصح تركه وفيه نفي للاختيار واعترض بأنه وإن لم يفعل القبيح لصارف الحكمة لكنه قادر عليه يتمكن منه ولو سلم فالامتناع لصارف الحكمة لا ينفي الاختيار على أن الحكم عندكم قديم فكيف يكون بالاختيار اللهم إلا أن يقصد الإلزام أو يراد جعله متعلقا بالأفعال
السابع قبح الفعل أو حسنه إذا كان صارفا عنه أو داعيا إليه كان سابقا عليه فيلزم قيام الموجود بالمعدوم واعترض بأن الصارف والداعي في التحقيق هو العلم باتصاف الفعل بالقبح أو الحسن عند الحصول قال تمسكوا بوجوه
الأول إن حسن الإحسان للمعتزلة في كون الحسن والقبح عقليين وجوه
الأول وهو عمدتهم القصوى إن حسن مثل العدل والإحسان وقبح مثل الظلم والكفران مما اتفق عليه العقلاء حتى الذين لا يتدينون بدين ولا يقولون بشرع كالبراهمة والدهرية وغيرهم بل ربما يبالغ فيه غير الملبين حتى يستقبحون ذبح الحيوانات وذلك مع اختلاف أغراضهم وعاداتهم ورسومهم ومواضعاتهم فلولا أنه ذاتي للفعل يعلم بالعقل لما كان كذلك والجواب منع الاتفاق على الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه وهو كونه متعلق المدح والذم عند الله تعالى واستحقاق الثواب والعقاب في حكمه بل بمعنى ملاءمة غرض العامة وطباعهم وعدمها ومتعلق المدح والذم في مجاري العقول والعادات ولا نزاع في ذلك فبطل اعتراضهم بأنا نعني بالحسن ماليس لفعله مدخل
____________________
(2/151)
في استحقاق الذم وبالقبيح خلافه وأما اعتراضهم بأنه لما ثبت المدح والذم واستحقاق الثواب والعقاب في الشاهد فكذا في الغائب قياسا فلا يخفى ضعفه كيف وغير المتشرع ربما لا يقول بدار الآخرة والثواب والعقاب
الثاني من استوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب بحيث لا مرجح أصلا ولا علم باستقرار الشرائع على تحسين الصدق وتقبيح الكذب فإنه يؤثر الصدق قطعا وما ذاك إلا لأن حسنه ذاتي ضروري عقلي وكذلك إنقاذ من أشرف على الهلاك حيث لا يتصور للمنقذ نفع وغرض ولو مدحا وثناء والجواب أن إيثار الصدق لما تقرر في النفوس من كونه الملائم لغرض العامة ومصلحة العالم والاستواء المفروض إنما هو في تحصيل غرض ذلك الشخص واندفاع حاجته لا على الإطلاق كيف والصدق ممدوح والكذب مذموم عند العقلاء وعلى مذهبكم عند الله أيضا بحكم العقل ولو فرضنا الاستواء من كل وجه فلا نسلم إيثار الصدق قطعا وإنما القطع بذلك عند الفرض والتقدير فيتوهم أنه قطع عند وقوع المقدر المفروض وقد أوضحنا الفرق في فوائد شرح الأصول وأما إنقاذ الهالك فلرقة الجنسية المجبولة في الطبيعة وكأنه يتصور مثل تلك الحالة لنفسه فيجره استحسان ذلك الفعل من غيره في حق نفسه إلى استحسانه من نفسه في حق غيره وبالجملة لا نسلم أن إيثار الصدق والإنقاذ عند من لم يعلم استقرار الشرائع على حسنهما إنما هو لحسنهما عند الله على ما هو المتنازع بل لأمر آخر
الثالث لو لم يثبت الحسن والقبح إلا بالشرع لم يثبتا أصلا لأن العلم بحسن ما أمر به الشارع أو أخبر عن حسنه وبكذب ما نهى عنه أو أخبر عن قبحه يتوقف على أن الكذب قبيح لايصدر عنه وأن الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن سفه وعبث لا يليق به وذلك إما بالعقل والتقدير أنه معزول لا حكم له وإما بالشرع فيدور والجواب إنا لا نجعل الأمر والنهي دليل الحسن والقبح ليرد ما ذكرتم بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلق الأمر والمدح والقبح عن كونه متعلق النهي والذم قال إمام الحرمين ومما يجب التنبيه له أن قولنا لا يدرك الحسن والقبح إلا بالشرع نجوز حيث يوهم كون الحسن زائدا على الشرع موقوفا إدراكه عليه وليس الأمر كذلك بل الحسن عبارة عن نفس ورود الشرع بالثناء على فاعله وكذا في القبح فإذا وصفنا فعلا بالوجوب فلسنا نقدر للفعل الواجب صفة بها يتميز عما ليس بواجب وإنما المراد بالواجب الفعل الذي ورد الشرع بالأمر به إيجابا وكذا الحظر هذا وقد بينا في بحث الكلام امتناع الكذب على الشارع من غير لزوم دور
الرابع لو لم يقبح من الله تعالى شيء لجاز إظهار المعجزة على يد الكاذب وفيه انسداد باب إثبات النبوة والجواب أن الإمكان العقلي لا ينافي الجزم بعدم الوقوع أصلا كسائر العاديات
الخامس إنا قاطعون بأنه يقبح عند الله تعالى من العارف بذاته وصفاته أن يشرك به وينسب إليه الزوجة والولد ومالا يليق به من صفات
____________________
(2/152)
النقص وسمات الحدوث بمعنى أنه يستحق به الذم والعقاب في حكم الله تعالى سواء ورد الشرع أو لم يرد والجواب أن مبنى القطع على استقرار الشرائع على ذلك واستمرار العادات بمثله في الشاهد فصار قبحه مركوزا في العقول بحيث يظن أنه بمجرد حكم العقل
السادس لو لم يكن وجوب النظر وبالجملة أول الواجبات عقليا لزم إفحام الأنبياء وقد مر بجوابه ولقوة هاتين الشبهتين ذهب بعض أهل السنة وهم الحنفية إلى أن حسن بعض الأشياء وقبحها مما يدرك بالعقل كما هو رأي المعتزلة كوجوب أول الواجبات ووجوب تصديق النبي وحرمة تكذيبه دفعا للتسلسل وكحرمة الإشراك بالله ونسبة ما هو في غاية الشناعة إليه على من هو عارف به وبصفاته وكمالاته ووجوب ترك ذلك ولا نزاع في أن كل واجب حسن وكل حرام قبيح إلا أنهم لم يقولوا بالوجوب أو الحرمة على الله تعالى وجعلوا الحاكم بالحسن والقبح والخالق لأفعال العباد هو الله تعالى والعقل آلة لمعرفة بعض ذلك من غير إيجاب ولا توليد بل بإيجاد الله تعالى من غير كسب في البعض ومع الكسب بالنظر الصحيح في البعض ( قال المبحث الرابع ) لا خلاف في أن الباري لا يفعل قبيحا ولا يترك واجبا أما عندنا فلأنه لا قبح منه ولا واجب عليه لكون ذلك بالشرع ولا يتصور في فعله وأما عند المعتزلة فلأن كل ما هو قبيح منه فهو يتركه البتة وما هو واجب عليه فهو يفعله البتة وسيجيء ذكر ما أوجبوا عليه فإن قيل الكفر والظلم والمعاصي كلها قبائح وقد خلقها الله تعالى قلنا نعم إلا أن خلق القبيح ليس بقبيح فهو موجد للقبائح لا فاعل لها فإن قيل فلا يفعل الحسن أيضا لأنه لا حكم عليه أمرا كما لا حكم عليه نهيا والإجماع على خلافه قلنا قد ورد الشرع بالثناء عليه في أفعاله فكانت حسنة لكونها متعلق المدح والثناء عند الله تعالى وأما إذا اكتفي في الحسن بعدم استحقاق الذم في حكم الله تعالى فالأمر أظهر فإن قيل الذي ثبت من مذهبنا هو أنه لا واجب عليه بمعنى أن شيئا من أفعاله ليس مما أمرالشارع به وحكم بأن فاعله يستحق المدح وتاركه الذم عند الله تعالى والمعتزلة إنما يقولون بالوجوب بمعنى استحقاق تاركه الذم عند العقل أو بمعنى اللزوم عليه لما في تركه من الإخلال بالحكمة قلنا على الأول لا نسلم أنه يستحق الذم عقلا على فعل أو ترك فإنه المالك على الإطلاق وعلى الثاني لا نسلم أن شيئا من أفعاله يكون بحيث يخل تركه بحكمة لجواز أن يكون له في كل فعل أو ترك حكم ومصالح لا تهتدي إليها العقول فإنه الحكيم الخبير على أنه لا معنى للزوم عليه إلا عدم التمكن من الترك وهو ينافي الاختيار ولو سلم فلا يوافق مذهبهم أن صدور الفعل عنه على سبيل الصحة من غير أن ينتهي الوجوب ولهذا اضطر المتأخرون منهم إلى أن معنى الوجوب على الله أنه يفعله البتة ولا يتركه وإن كان الترك جائزا كما في العاديات فإنا نعلم قطعا أن جبل أحد باق على حاله لم ينقلب ذهبا وإن كان جائزا والجواب أن الوجوب حينئذ مجرد تسمية والحكم بأن الله تعالى يفعل البتة ما سميتموه
____________________
(2/153)
واجبا جهالة وادعاء من شرذمة بخلاف العاديات فإنها علوم ضرورية خلقها الله تعالى لكل عاقل والعجب أنهم لا يسمون كل ما اخبر به الشارع من أفعاله واجبا عليه مع قيام الدليل على أنه يفعله البتة قال المبحث الخامس جعل أصحابنا جواز تكليف مالا يطاق وعدم تعليل أفعال الله تعالى بالأغراض من فروع مسألة الحسن والقبح وبطلان القول بأنه يقبح منه شيء ويجب عليه فعل أو ترك لأن المخالفين إنما عولوا في ذلك على أن تكليف مالا يطاق سفه والفعل الحالي عن الغرض فيما شأنه ذلك عبث وكلاهما قبيح لا يليق بالحكمة فيجب عليه تركه والمعتزلة منهم من ادعى العلم الضروري بقبح تكليف مالا يطاق حتى زعم بعض جهلتهم أن غير العقلاء كالصبيان والمعاتية يستقبح ذلك بل البهائم أيضا بلسان الحال حيث يحاربون بالقرون والأذناب وكثير من الأعضاء عند عدم الطاقة وأنت خبير بأن هذا منافرة للطبع وألم ومشقة وتضرر لا قبح بالمعنى المتنازع ومنهم من أثبته بقياس الغائب على الشاهد فإن العقلاء حتى الذاهلين عن النواهي الشرعية بل المنكرين للشرائع يستقبحون تكليف الموالي عبيدهم مالا يطيقونه ويذمونهم على ذلك معللين بالعجز وعدم الطاقة والجواب أن ذلك من جهة قطع المستقبحين بأن أفعال العباد معللة بالأغراض وأن مثل ذلك مناف لغرض العامة ومصلحة العالم ولا كذلك تكليف علام الغيوب إما لتنزه أفعاله من الغرض وإما لقصده حكما ومصالح لا تهتدي إليها العقول فإن قيل كلامنا في تكليف التحقيق والمعاقبة على الترك لا في التكليف لأسرار أخر كما في التحدي قلنا نحن أيضا إنما نعتبر احتمال أسرار أخر في ذلك التكليف وفي تثبيت استحقاق العقاب قال ثم المتنازع يشير إلى تحرير محل للنزاع على ما هو رأي المحققين من أصحابنا فإنه حكي عن بعضهم تجويز تكليف المحال حتى الممتنع لذاته كجعل القديم محدثا وبالعكس وعن بعضهم أن تكليف ما علم الله تعالى عدم وقوعه أو أراد ذلك أو أخبر به كلها تكليف مالا يطاق فنقول مراتب مالا يطاق ثلاث أدناها ما يمتنع بعلم الله تعالى بعدم وقوعه أو لإرادته ذلك أو لإخباره بذلك ولا نزاع في وقوع التكليف به فضلا عن الجواز فإن من مات على كفره ومن أخبر الله تعالى بعدم إيمانه يعد عاصيا إجماعا وأقصاها ما يمتنع لذاته كقلب الحقائق وجمع الضدين أو النقيضين وفي جواز التكليف به تردد بناء على أنه يستدعي تصور المكلف به واقعا والممتنع هل يتصور واقعا فيه تردد فقيل لو لم يتصور لم يصح الحكم بامتناع تصوره وقيل تصوره إنما يكون على سبيل التشبيه بأن يعقل بين
____________________
(2/154)
السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع ثم يقال مثل هذا الأمر لا يمكن بين السواد والبياض أو على سبيل النفي بأن يحكم العقل بأنه لا يمكن أن يوجد مفهوم هو اجتماع السواد والبياض كذا في الشفاء وله زيادة تحقيق وتفصيل أوردناها في شرح الأصول والمرتبة الوسطى ما أمكن في نفسه لكن لم يقع متعلقا لقدرة العبد أصلا كخلق الجسم أو عادة كالصعود إلى السماء وهذا هو الذي وقع النزاع في جواز التكليف به بمعنى طلب تحقيق الفعل والإتيان به واستحقاق العقاب على تركه لا على قصد التعجيز وإظهار عدم الاقتدار على الفعل كما في التحدي بمعارضة القرآن فإنه لاخفاء في وجوب كونه مما لا يطاق فإن قيل تكليف الجماد ليس بأبعد من هذا لجواز أن يخلق الله فيه الحياة والعلم والقدرة فكيف لم يقع النزاع في إمتاعه حتى للقائلين بجواز تكليف الممتنع لذاته قلنا لأن شرط التكليف الفهم ولا فهم للجماد حين هو جماد ثم الجمهور على أن النزاع إنما هو في الجواز وأما الوقوع فمنفي بحكم الاستقراء وبشهادة مثل قوله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وبما ذكرنا يظهر أن كثيرا من التمسكات المذكورة في كلام الفريقين لم ترد على المتنازع إما للمانعين فمثل قوله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فإنه إنما ينفي الوقوع لا الجواز فإن قيل ما علم الله أو أخبر بعدم وقوعه يلزم من فرض وقوعه محال هو جهله أو كذبه تعالى عن ذلك وكل ما يلزم من فرض وقوعه محال فهو محال ضرورة امتناع وجود الملزوم بدون اللازم فجوابه منع الكبرى وإنما يصدق لو كان لزوم المحال لذاته أما لو كان لعارض كالعلم أو الخبر فيما نحن فيه فلا لجواز أن يكون هو ممكنا في نفسه ومنشأ لزوم المحال هو ذلك العارض ولعل لهذه النكتة في بعض كتبنا تقريرا آخر وأما للمجوزين فوجوه منها مثل قوله تعالى { أنبئوني بأسماء هؤلاء } وقوله تعالى { فأتوا بسورة من مثله } وذلك لأنه تكليف تعجيز لا تكليف تحقيق ومنها أن فعل العبد بخلق الله تعالى وقدرته فلا يكون بقدرة العبد وهو معنى مالا يطاق وذلك لأن معنى مالا يطاق أن لا يكون متعلقا بقدرة العبد وما وقع التكليف به متعلق بقدرته وإن كان واقعا بقدرة الله تعالى ومنها أن التكليف قبل الفعل والقدرة معه فلا يكون التكليف إلا بغير المقدور وذلك لأن القدرة المعتبرة في التكليف هي سلامة الأسباب والآلات لا الاستطاعة التي لا تكون إلا مع الفعل ولو صح هذان الوجهان لكان جميع التكاليف تكليف مالا يطاق وليس كذلك ومنها أن من علم الله تعالى منه أنه لا يؤمن بل يموت على الكفر مكلف بالإيمان وفاقا مع استحالته منه لأنه لو آمن لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا لا يقال لا نسلم أنه لو آمن لزم انقلاب العلم جهلا بل لزم أن يكون العلم المتعلق به من الأزل أنه يموت مؤمنا فإن العلم تابع للمعلوم فيكون هذا تقدير علم مكان علم لا تغيير علم إلى جهل كما إذا قدرت الآتي بالقبيح آتيا بالحسن فإنه يكون من أول الأمر مستحقا للمدح لا منقلبا من استحقاق الذم إلى استحقاق المدح لأنا نقول الكلام فيمن تحقق العلم بأنه يموت كافرا
____________________
(2/155)
فعلى تقدير الإيمان يكون الانقلاب ضروريا وكذا الكلام فيمن أخبر الله تعالى بأنه لا يؤمن كأبي جهل وأبي لهب وأضرابهما وقد عرفت أن هذا ليس من المتنازع فلا يكون الدليل على هذا التقرير واردا على محل النزاع وأما على تقرير كثير من المحققين فيدل على أن التكليف بالممتنع لذاته كجمع النقيضين جائز بل واقع قال إمام الحرمين في الإرشاد فإن قيل ما جوزتموه عقلا من تكليف المحال هل اتفق وقوعه شرعا قلنا قال شيخنا ذلك واقع شرعا فإن الرب تعالى أمر أبا جهل بأن يصدقه ويؤمن به في جميع ما يخبر عنه ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن فقد أمره أن يصدقه بأنه لا يصدقه وذلك جمع بين النقضين وكذا ذكر الإمام الرازي في المطالب العالية وقال أيضا أن الأمر بتحصيل الإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان أمر بجمع الوجود والعدم لأن وجود الإيمان يستحيل أن يحصل مع العلم بعدم الإيمان ضرورة أن العلم يقتضي المطابقة وذلك بحصول عدم الإيمان وأجاب بعضهم بأن ما ذكر لا يدل على أن المكلف به هو الجمع بل تحصيل الإيمان هو ممكن في نفسه مقدور للعبد بحسب أصله وإن امتنع لسابق علم أو إخبار للرسول بأنه لا يؤمن فيكون مما هو جائز بل واقع بالاتفاق وفيه نظر لأن الكلام فيمن وصل إليه هذا الخبر وكلف التصديق به على التعيين وبعضهم بأن الإيمان في حق مثل أبي لهب هو التصديق بما عدا هذا الإخبار وهذا في غاية السقوط وقد يتمسك بمثل قوله تعالى حكاية ربنا { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } ودلالته إما على الجواز فظاهر وإما على الوقوع فلأنه إنما يستعاذ في العادة عما وقع في الجملة لا عما أمكن ولم يقع أصلا والجواب أن المراد به العوارض التي لا طاقة بها إلا التكاليف قال وأما نفي الغرض ما ذهب إليه الأشاعرة من أن أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض يفهم من بعض أدلته عموم السلب ولزوم النفي بمعنى أنه يمتنع أن يكون شيء من أفعاله معللا بالغرض ومن بعضها سلب العموم ونفي اللزوم بمعنى أن ذلك ليس بلازم في كل فعل فمن الأول وجهان
أحدهما لو كان الباري فاعلا لغرض لكان ناقصا في ذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض لأنه لا بد في الغرض من أن يكون وجوده أصلح للفاعل من عدمه وهو معنى الكمال لا يقال لعل الغرض يعود إلى الغير فلا تتم الملازمة لأنا نقول وحصول ذلك الغرض للغير لا بد أن يكون أصلح للفاعل من عدمه وإلا لم يصلح غرضا لفعله ضرورة وحينئذ يعود الإلزام ورد بمنع الضرورة بل يكفي مجرد كونه أصلح للغير
وثانيهما لو كان شيء من الممكنات غرضا لفعل الباري لما كان حاصلا بخلقه ابتداء بل بتبعية ذلك الفعل وتوسطه لأن ذلك معنى الغرض واللازم باطل لما ثبت من استناد الكل إليه ابتداء من غير أن يكون البعض أولى بالغرضية والتبعية من البعض لا يقال معنى استناد الكل إليه ابتداء أنه الموجد بالاستقلال لكل ممكن لا أن يوجد ممكنا وذلك الممكن ممكنا آخر على ما يراه الفلاسفة وهذا لا ينافي توقف تحصيل البعض على البعض
____________________
(2/156)
كالحركة على الجسم والوصول إلى المنتهى على الحركة ونحو ذلك مما لا يحصى لأنا نقول الذي يصلح أن يكون غرضا لفعله ليس إلا إيصال اللذة إلى العبد وهو مقدور له تعالى من غير شيء من الوسائط ورد بعد تسليم انحصار الغرض فيما ذكرنا بأن إيصال بعض اللذات قد لا يمكن إلا بخلق وسائط كالإحساس ووجود ما يلتذ به ونحو ذلك ومن الثاني وجهان
أحدهما أنه لا بد من انقطاع السلسلة إلى ما يكون غرضا ولا يكون لغرض فلا يصح القول بلزوم الغرض وعمومه
وثانيهما أن مثل تخليد الكفار في النار لا يعقل فيه نفع لأحد والحق أن تعليل بعض الأفعال سيما شرعية الأحكام بالحكم والمصالح ظاهر كإيجاب الحدود والكفارات وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك والنصوص أيضا شاهدة بذلك كقوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } الآية { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج } الآية ولهذا كان القياس حجة إلا عند شرذمة لا يعتد بهم وأما تعميم ذلك بأن لا يخلو فعل من أفعاله عن غرض فمحل بحث قال خاتمة ذهبت المعتزلة إلى أن الغرض من التكليف ولو بالنسبة إلى من مات على الكفر أو الفسق هو التعريض للثواب أعني منافع كثيرة دائمة خالصة مع السرور والتعظيم فإن ذلك لا يحسن بدون الاستحقاق ولا خفاء في أن للأفعال والتروك الشاقة تأثيرا في إثبات الاستحقاق بشهادة الآيات والأحاديث الدالة على ترتب الثواب واستحقاق التعظيم على تلك الأفعال والتروك { ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم } { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } إلى غير ذلك مما لا يحصى وبدلالة العقول أما أولا فلأن الخالي عن الغرض عبث لا يصدر عن الحكيم { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا } ولا غرض سوى ذلك إجماعا لأنا لا نثبت غيره والمخالف لا يثبت الغرض أصلا وأما ثانيا فلأن البعث على أمر شاق بطريق الاستعلاء بحيث لو خولف يترتب عليه العقاب أضرار وأضرار غير المستحق لا لمنفعة ظلم يستحيل على الله تعالى فالتعريض لتلك المنافع والتمكين من اكتساب السعادة الأبدية هي الجهة المحسنة للتكليف ولا يبطل حسنة بتفويت الكافر والفاسق ذلك على نفسه بسوء اختياره وأجيب
أولا بأنا لانم أنه لا يحسن الثواب والتعظيم بدون الاستحقاق إما على أنه لا يقبح من الله تعالى شيء فظاهر وإما على التنزل والقول بالقبح العقلي فلأن إفادة منفعة الغير من غير ضرر للمفيد ولا لغيره محض الكرم والحكمة وغلطهم إنما نشاء من عدم التفرقة بين الاستحقاق الحاصل بالأعمال وبين كون المفاد والمنعم به لائقا بحال المنعم عليه فإن إفادة مالا ينبغي كتعظيم الصبيان والبهائم لا يعد جودا ولا يستحسن عقلا فتوهموا أن إيصال النعيم إلى غير من عمل الصالحات من هذا القبيل ولا خفاء في أن هذا إنما هو على تقدير التكليف
____________________
(2/157)
وأما على تقدير عدمه وكون الإنسان غير مكلف بأمر ولا نهي فكيف يتصور قبح إفاضة سرور دائم عليه من غير لحوق ضرر بالغير
وثانيا بأن ترتب الثواب على الأعمال لا يدل على أن لها تأثيرا في إثبات الاستحقاق لجواز أن يكون فضلا من الله تعالى دائرا مع العمل كيف وجميع الأفعال لا تفي لشكر القليل مما أفاض من النعماء وكيف يعقل استحقاق مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لمجرد تصديق القلب واللسان فيمن آمن فمات في الحال وبهذا يظهر أنه لا حاجة في إثبات الاستحقاق إلى ما شرع من التكاليف على ما فصل في علم الفقه وعلم صفات القلب وأحوال الآخرة التي يسميه الإمام حجة الإسلام بعلم السر
وثالثا بأنه لو سلم لزوم الغرض فلا نسلم الإجماع على أنه لا غرض سوى ما ذكرتم فقد قيل الغرض الابتلاء وقيل شكر النعماء وقيل حفظ نظام العالم وتهذيب الأخلاق ويحتمل أن يكون أمرا لا تهتدي إليه العقول وبهذا يندفع أيضا كونه ظلما لأن الإضرار لمثل تلك المنافع يكون محض العدل سيما ممن له ولاية الربوبية وكان التصرف في خاص ملكه
ورابعا بأن العمل والثواب على ما ذكرتم يشبه إجارة ولا بد فيها من رضى الأجير وإن كان الأجر أضعاف آلاف لأجرة المثل والحق على أن القول بالقبح العقلي ووجوب تركه على الله تعالى يشكل الأمر في تكليف الكافر للقطع بأنه إضرار من جهة أنه إلزام أفعال شاقة لا يترتب عليه نفع له بل استحقاق عقاب دائم وإن كان مسببا عن سوء اختياره ولا خفاء في أن مثله يقبح بخلاف تكليف المؤمن حيث يترتب عليه منافع لا تحصى وكون تكليف الكافر لغرض التعريض والتمكين أي جعله في معرض الثواب ومتمكنا من اكتسابه إنما يحسن إذا لم يعلم قطعا أنه لا يكتسب الثواب وإن استحقاق العقاب والوقوع في الهلاك الدائم كان منتفيا لولا هذا التكليف وأجاب بعض المعتزلة بأن لنا أصلا جليلا تنحل به أمثال هذه الشبه وهو أنه قد يستقبح الفعل في بادي النظر مع أن فيه حكما ومصالح إذا ظهرت عاد الاستقباح استحسانا كما في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام من خرق السفينة وقتل الغلام وكما في تعذيب الإنسان ولده أو عبده للتأديب والزجر عن بعض المنكرات وعلى هذا ينبغي أن يحمل كل مالا يدرك فيه جهة حسن من أفعال الباري تعالى وتقدس وإليه الإشارة بقوله { إني أعلم ما لا تعلمون } حيث تعجب الملائكة من خلق آدم عليه السلام وبه تبين حسن خلق المؤذيات وإبليس وذريته وتبقيته ونحو ذلك قلنا إذا تأملتم فهذا الأصل عليكم لا لكم والله أعلم الفصل السادس في تفاريع الأفعال قد جرت العادة بتعقيب مسألة خلق الأعمال بمباحث الهدى والضلال والأرزاق والآجال ونحو ذلك فعقدنا لها فصلا وسميناه بفصل تفاريع الأفعال لابتناء عامة مباحثه على أنه تعالى هو الخالق لكل شيء وأنه لا قبح في خلقه وفعله وإن قبح المخلوق قال المبحث الأول الهدى قد يكون لازما بمعنى الابتداء أي وجدان طريق توصل إلى المطلوب
____________________
(2/158)
ويقابله الضلال أي فقدان الطريق الموصل وقد يكون متعديا بمعنى الدلالة على الطريق الموصل والإرشاد إليه ويقابله الإضلال بمعنى الدلالة على خلافه مثل أضلني فلان عن الطريق وقد تستعمل الهداية في معنى الدعوة إلى الحق كقوله تعالى { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } وقوله تعالى { وأما ثمود فهديناهم } أي دعوناهم إلى طريق الحق { فاستحبوا العمى على الهدى } أي على الاهتداء وبمعنى الإثابة كقوله تعالى في حق المهاجرين والأنصار { سيهديهم ويصلح بالهم } وقيل معناه الإرشاد في الآخرة إلى طريق الجنة ويستعمل الإضلال في معنى الإضاعة والإهلاك كقوله تعالى { فلن يضل أعمالهم } ومنه { أئذا ضللنا في الأرض } أي هلكنا وقد يسندان مجازا إلى الأسباب كقوله تعالى { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } وكقوله تعالى حكاية { رب إنهن أضللن كثيرا } وهذا كله مما ليس فيه كثير نزاع وإنما الكلام في الآيات المشتملة على اتصاف الباري تعالى بالهداية والإضلال والطبع على قلوب الكفرة والختم والمد في طغيانهم ونحو ذلك كقوله تعالى { والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } { من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } { إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء } { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } { ختم الله على قلوبهم } بل طبع الله عليها بكفرهم { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } { ويمدهم في طغيانهم } إلى غير ذلك فهي عندنا راجعة إلى خلق الإيمان والاهتداء والكفر والضلال بناء على ما مر من أنه الخالق وحده خلافا للمعتزلة بناء على أصلهم الفاسد أنه لوخلق فيهم الهدى والضلال لما صح منه المدح والثواب والذم والعقاب فحملوا الهداية على الإرشاد إلى طريق الحق بالبيان ونصب الأدلة أو الإرشاد في الآخرة إلى طريق الجنة والإضلال على الإهلاك والتعذيب أو التسمية والتلقيب بالضال أو الوجدان ضالا ولما ظهر على بعضهم أن بعض هذه المعاني لا يقبل التعليق بالمشيئة وبعضها لا يخص المؤمن دون الكافر وبعضها ليس مضافا إلى الله تعالى دون النبي صلى الله عليه وسلم وبعض معاني الإضلال لا يقابل الهداية جعلوا الهداية بمعنى الدلالة الموصلة إلى البغية والإضلال مع أنه فعل الشيطان مسندا إلى الله تعالى مجازا لما أنه بأقداره وتمكينه ولأن ضلالهم بواسطة ضربه المثل في { يضل به كثيرا } أوبواسطة الفتنة التي هي الابتلاء والتكليف في { تضل بها من تشاء } ونحن نقول بل الهداية هي الدلالة على الطريق الموصل سواء كانت موصلة أم لا والعدول إلى المجاز إنما يصح عند تعذر الحقيقة ولا تعذر وبعض المواضع من كلام الله تعالى يشهد للمتأمل بأن إضافة الهداية والإضلال إلى الله تعالى ليست إلا بطريق الحقيقة والله الهادي ( قال المبحث الثاني اللطف والتوفيق ) قدرة الطاعة والخذلان خلق قدرة المعصية
____________________
(2/159)
والعصمة هي التوفيق بعينه فإن عممت كانت توفيقا عاما وإن خصصت كانت توفيقا خاصا كذا ذكره إمام الحرمين وقال ثم الموفق لا يعصى إذ لا قدرة له على المعصية وبالعكس ومبناه على أن القدرة مع الفعل وليست نسبته إلى الطرفين على السواء ومن أصحابنا من قال العصمة أن لا يخلق الله تعالى في العبد الذنب وقالت الفلاسفة هي ملكة تمنع الفجور مع القدرة عليه وقيل خاصية في نفس الشخص أو بدنه يمتنع بسببه صدور الذنب عنه ورد بأنه ح لا يستحق المدح بترك الذنب ولا الثواب عليه ولا التكليف به وفي كلام المعتزلة أن اللطف ما يختار المكلف عنده الطاعة تركا أو إتيانا أو يقرب منهما مع تمكنه في الحالين فإن كان مقربا من الواجب أو ترك القبيح يسمى لطفا مقربا وإن كان محصلا له فلطفا محصلا ويخص المحصل للواجب باسم التوفيق والمحصل لترك القبيح باسم العصمة ومنهم من قال التوفيق خلق لطف يعلم الله تعالى أن العبد يطيع عنده والخذلان منع اللطف والعصمة لطف لا يكون معه داع إلى ترك الطاعة ولا إلى ارتكاب المعصية مع القدرة عليهما واللطف هو الفعل الذي يعلم الله تعالى أن العبد يطيع عنده ( قال المبحث الثالث الأجل ) في اللغة الوقت وأجل الشيء يقال لجميع مدته ولآخرها كما يقال أجل هذا الدين شهران وآخر الشهر وفسر قوله تعالى { ثم قضى أجلا } وأجل مسمى عنده بعضهم بأجل الموت وأجل القيمة وبعضهم بما بين أن يخلق إلى الموت وما بين الموت والبعث ثم شاع استعماله في آخر مدة الحياة فلذا يفسر بالوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة الحيوان فيه ثم من قواعد الباب أن المقتول ميت بأجله أي موته كائن في الوقت الذي علم الله تعالى في الأزل وقدر حاصل بإيجاد الله تعالى من غير صنع للعبد مباشرة ولا توليدا وأنه لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت وأن لا يموت من غير قطع بامتداد العمر ولا بالموت بدل القتل وخالف في ذلك طوائف من المعتزلة فزعم الكعبي أنه ليس بميت لأن القتل فعل العبد والموت لا يكون إلا فعل الله تعالى أي مفعوله وأثر صنعه ورد بأن القتل قائم بالقاتل حال فيه لا في المقتول وإنما فيه الموت وانزهاق الروح الذي هو إيجاد الله تعالى عقيب القتل بطريق جري العادة وكأنه يريد بالقتل المقتولية وبجعلها نفس بطلان الحياة ويخص الموت بما لا يكون على وجه القتل على ما يشعر به قوله تعالى { أفإن مات أو قتل } الآية لكن لا خفاء في أن المعنى مات حتف أنفه وأن مجرد بطلان الحياة موت ولهذا قيل أن في المقتول معنيين قتلا هو من فعل القاتل وموتا هو من فعل الله تعالى وزعم كثير منهم أن القائل قد قطع عليه الأجل وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه لولا القتل وزعم أبو الهذيل أنه لو لم يقتل لمات البتة في ذلك الوقت لنا الآيات والأحاديث الدالة على أن كل هالك مستوف أجله من غير تقدم ولا تأخر ثم على تقدير عدم القتل لا قطع بوجود الأجل وعدمه فلا قطع بالموت ولا الحياة فإن عورض بقوله تعالى { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } وقوله عليه السلام لا يزيد
____________________
(2/160)
في العمر إلا البر أجيب بأن المعنى ولا ينقص من عمر معمر على أن الضمير لمطلق المعمر لا لذلك المعمر بعينه كما يقال لي درهم ونصفه أي لا ينقص عمر شخص من أعمار إخوانه ومبالغ مدد أمثاله وأما الحديث فخبر واحد فلا يعارض القطعي وقد يقال أن المراد الزيادة والنقصان بحسب الخير والبركة كما قيل ذكر الفتى عمره الثاني أو بالنسبة إلى ما أثبتته الملائكة في صحيفتهم فقد يثبت فيها الشيء مطلقا وهو في علم الله تعالى مقيد ثم يؤول إلى موجب علم الله تعالى وإليه الإشارة بقوله تعالى { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } أو بالنسبة إلى ما قدر الله تعالى من عمره لولا أسباب الزيادة والنقصان وهذا يعود إلى القول بتعدد الأجل والمذهب أنه واحد تمسك الكثيرون بأنه لو مات بأجله لم يستحق القاتل دما ولا دية أو قصاصا ولا ضمانا في ذبح شاة الغير لأنه لم يقطع عليه أجلا ولم يحدث بفعله أمرا لا مباشرة ولا توليدا وبأنه قد يقتل في الملحمة ألوف تقضي العادة بامتناع موتهم في ذلك الزمان والجواب عن الأول أن استحقاق الذم والعقوبة ليس بما ثبت في المحل من الموت بل بما اكتسبه القاتل وارتكبه من الفعل المنهي سيما عند ظهور البقاء وعدم القطع بالأجل حتى لو علم موت الشاة بإخبار الصادق أو ظهور الآمارت لم يضمن عند بعض الفقهاء وعن الثاني منع قضاء العادة بل قد يقع مثل ذلك بالوباء والزلزلة والغرق والحرق تمسك أبو الهذيل بأنه لو لم يمت لكان القاتل قاطعا لأجل قدرة الله تعالى مغيرا لأمر علمه وهو محال والجواب أن عدم القتل إنما يتصور على تقدير علم الله تعالى بأنه لا يقتل وحينئذ لا نسلم لزوم المحال وقد يجاب بأنه لا استحالة في قطع الأجل المقدر الثابت لولا القتل لأنه تقرير للمعلوم لا تغيير فإن قيل إذا كان الأجل زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى كان المقتول ميتا بأجله قطعا وإن قيد بطلان الحياة بأن لا يترتب على فعل من العبد لم يكن كذلك قطعا من غير تصور خلاف فكان الخلاف لفظي على ما يراه الأستاذ وكثير من المحققين قلنا المراد بأجله المضاف زمان بطلان حياته بحيث لا محيص عنه ولا تقدم ولا تأخر على ما يشير إليه قوله تعالى { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } ومرجع الخلاف إلى أنه هل يتحقق في حق المقتول مثل ذلك أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات وإن لم يقتل فإلى وقت هو أجل له فإن قيل فيلزم على الأول القطع بالموت إن لم يقتل وعلى الثاني القطع بامتداد العمر إلى أمد وقد قال بجواز الأمرين البعض من كل من الفريقين أجيب بمنع لزوم الثاني لجواز أن لا يكون الوقت الذي هو الأجل متراخيا بل يكون متصلا بحين القتل أو نفسه وهذا ظاهر وأما الأول فيمكن دفعه بأن عدم قتل المقتول سيما مع تعلق علم الله تعالى بأنه يقتل أمر مستحيل لا يمتنع أن يستلزم محالا هو انقلاب الأجل وإن قدر معه تعلق العلم بأنه لا يقتل فانتفاء القطع بكون ذلك الوقت هو الأجل ظاهر لأن القطع بذلك إنما كان من جهة القطع بالقتل ثم الأجل عندنا واحد وعند من جعل المقتول ميتا بأجله مع القطع بأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد
____________________
(2/161)
آخر هو أجله اثنان وعند الفلاسفة للحيوان أجل طبيعي بتحلل رطوبته وانطفاء حرارته الغريزيتين وآجال اخترامية بحسب أسباب لا تحصى من الأمراض والآفات قال المبحث الرابع الرزق في الأصل مصدر سمي به المرزوق وهو ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان مما ينتفع به فيدخل رزق الإنسان والدواب وغيرهما من المأكول وغيره ويخرج مالم ينتفع به وإن كان السوق للانتفاع لأنه يقال فيمن ملك شيئا وتمكن من الانتفاع به ولم ينتفع إن ذلك لم يصر رزقا له وعلى هذا يصح أن كل أحد يستوفي رزقه ولا يأكل أحد رزق غيره ولا الغير رزقه بخلاف ما إذا اكتفى بمجرد صحة الانتفاع والتمكن منه على ما يراه المعتزلة وبعض أصحابنا نظرا إلى أن أنواع الأطعمة والثمرات تسمى أرزاقا ويؤمر بالإنفاق من الأرزاق ولهذا اختاروا في تفسير المعنى المصدري التمكن من الانتفاع وفي العيني ما يصح به الانتفاع ولم يكن لأحد منعه احترازا عن الحرام وعما أبيح للضيف مثلا قبل أن يأكل ومن فسره بما ساقه الله تعالى إلى العبد فأكله لم يجعل غير المأكول رزقا عرفا وإن صح لغة حيث يقال رزقه الله ولدا صالحا وأراد بالعبد ما يشمل البهائم تغليبا وتفسيره بالملك ليس بمطرد ولا منعكس لدخول ملك الله تعالى وخروج رزق الدواب بل العبيد والإماء مع الاختلال بما في مفهومه من الإضافة إلى الرازق اللهم إلا أن يقال المراد المملوك أي المجعول ملكا بمعنى الإذن في التصرف الشرعي وفيه معنى الإضافة ولا يشمل ملك الله تعالى ويدخل رزق غير الإنسان بطريق التغليب لكن لا بد مع هذا من قيد الانتفاع وحينئذ فخروج ملك الله تعالى ظاهر ومن فسره بالانتفاع أراد المنتفع به أو أخذ الرزق مصدرا من المبني للمفعول أي الارتزاق ولما كان الرزق مضافا إلى الرازق وهو الله تعالى وحده لم يكن الحرام المنتفع به رزقا عند المعتزلة لقبحه وقد عرفت فساد أصلهم ولزمهم أن من لم يأكل طول عمره إلا الحرام لم يرزقه الله تعالى وهو باطل لقوله تعالى { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } وأجيب بأنه تعالى قد ساق إليه كثيرا من المباح إلا أنه أعرض عنه لسوء اختياره على أنه منقوض بمن مات ولم يأكل حلالا ولا حراما فجوابكم جوابنا قالوا لو كان الحرام رزقا لما جاز دفعه عنه ولا الذم والعقاب عليه قلنا ممنوع وإنما يصح لو لم يكن مرتكبا للمنهي عنه مكتسبا للقبح من الفعل سيما في مباشرة الأسباب لأن السعي في تحصيل الرزق قد يجب وذلك عند الحاجة وقد يستحب وذلك عند قصد التوسعة على نفسه وعياله وقد يباح وذلك عند قصد التكثير من غير ارتكاب منهي وقد يحرم وذلك عند ارتكاب المنهي كالغصب والسرقة والربا قال المبحث الخامس السعر تقدير ما يباع به الشيء طعاما كان أو غيره ويكون غلاء ورخصا باعتبار الزيادة على المقدار الغالب في ذلك المكان والأوان والنقصان عنه ويكونان بما لا اختيار فيه للعبد كتقليل ذلك الجنس وتكثير الرغبات فيه وبالعكس وبما له فيه اختيار كإخافة السبل ومنع التبائع وادخار الأجناس
____________________
(2/162)
ومرجعه أيضا إلى الله تعالى فالمسعر هو الله وحده خلافا للمعتزلة زعما منهم أنه قد يكون من أفعال العباد توليدا كما مر ومباشرة كالمواضعة على تقدير الأثمان قال المبحث السادس لما لم نقل بوجوب شيء على الله كفينا مؤنة كثير من تطويلات المعتزلة القائلين بوجوب أشياء على الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا وقد أكثروا الكلام في تفاصيلها ولنعد منها عدة
الأول اللطف وهو فعل يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية لا إلى حد الإلجاء ويسمى اللطف المقرب أو يحصل الطاعة فيه ويسمى المحصل وذلك كالأرزاق والآجال والقوى والآلات وإكمال العقل ونصب الأدلة وما يشبه ذلك وفسروا الوجوب عليه بأنه لا بد أن يفعله لقيام الداعي وانتفاء الصارف وتارة بأن لتركه مدخلا في استحقاق الذم وقد عرفت ما فيه واستدلوا على الوجوب بوجوه
الأول أنه مريد للطاعة فلو جاز منع ما يحصل أو يقرب منها لكان غير مريد لها وهو تناقض ورد بمنع الملازمة ومنع أن كل مأمور به مراد
الثاني أن منع اللطف نقض لغرضه الذي هو الإتيان بالمأمور به ونقض الغرض قبيح يجب تركه ورد بمنع المقدمتين لجواز أن لا يكون نقض المأمور به مرادا أو غرضا ويتعلق بنقضه حكم ومصالح
الثالث أن منع اللطف تحصيل للمعصية أو تقريب منها وكلاهما قبيح يجب تركه ورد بالمنع فإن عدم تحصيل الطاعة أعم من تحصيل المعصية وكذا التقريب ولانم أن إيجاد القبيح قبيح وقد مر
الرابع أن الواجب لا يتم إلا بما يحصله أو يقرب منه فيكون واجبا ورد بعد تسليم القاعدة بأن ذلك وجوب على المكلف بشرط كونه مقدورا له فلا يكون مما نحن فيه ثم عورضت الوجوه بوجوه
الأول أنه لو وجب اللطف لما بقي كافر ولا فاسق لأن من الألطاف ما هو محصل ومن قواعدهم أن أقصى اللطف واجب فلا يندفع ما ذكرنا بما قيل أن الكافر أو الفاسق لا يخلو عن لطف فلذا أجيب بأن اللطف يتفاوت بالنسبة إلى المكلفين وليس كل ما هو لطف في إيمان زيد لطف في إيمان عمرو فليس في معلوم الله تعالى ما هو لطف في حق الكل حتى يحصل إيمانهم ورد بالنصوص الدالة على أن انتفاء إيمان الكل مبني على انتفاء مشيئة الله وذلك كقوله تعالى { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } { فلو شاء لهداكم أجمعين } إلى غير ذلك مما لا يحصى سيما في أواخر سورة الأنعام وحملها على مشيئة القسر والإلجاء اجتراء والنقل عن أئمة التفسير افتراء والتمسك بقوله تعالى { كذلك كذب الذين من قبلهم } مراء لأنه لا يدل على أن تعليق الأمور بمشيئة الله كذب بل على أن قول الكفرة لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا عناد منهم وتكذيب لله وتسوية بين مشيئته ورضاه وأمره على ما قالوا حين فعلوا فاحشة وجدنا عليه آباؤنا والله أمرنا بها
الثاني أنه لو وجب لما أخبر الله بسعادة البعض وشقاوة البعض بحيث لا يطيع البتة لأن ذلك إقناط وإغراء على المعصية وهو قبيح ولو في حق من علم الله
____________________
(2/163)
أنه لا يجدي عليه اللطف
الثالث أنه لو وجب لكان في كل عصر نبي وفي كل بلد معصوم يأمر بالمعروف ويدعو إلى الحق وعلى وجه الأرض خليفة ينصف للمظلوم وينتصف من الظالم إلى غير ذلك من الألطاف قال الثاني العوض وهو نفع حال عن التعظيم يستحق في مقابلة ما يفعل الله تعالى بالعبد من الأسقام والآلام وما يجري مجرى ذلك فيخرج الأجر والثواب لكونهما للتعظيم في مقابلة فعل العبد وكذا النفع المتفضل به لكونه غير مستحق ووجه وجوبه على الإطلاق أن تركه قبيح لكونه ظلما فيجب فعله قالوا ويستحق على الله تعالى بإنزاله الآلام على العبد وبتفويته المنافع عليه لمصلحة الغير عليه كالزكاة وبإنزاله الغموم التي لا تستند إلى فعل العبد كالغم المستند إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظن بوصول مضرة أو فوات منفعة بخلاف المستند إلى جهل مركب لأنه من العبد وبأمره العباد بالمضار كالذبح لمثل الهدي والنذر أو إباحته إياها كالصيد أو تمكينه غير العاقل كالوحوش والسباع من غير إضرار العباد لا بمثل ألم الاحتراق حين ألقي صبي في النار وألم القتل بشهادة الزور لأن الأول مما وجب طبعا بخلق الله تعالى ذلك فيها بطريق جري العادة فالعوض على الملقي والثاني مما وجب شرعا بفعل الشهود فعليهم العوض وإما في تمكين الظالم من الظلم فالعوض على الله تعالى فإن الانتصاف واجب عليه قالوا فإن كان المظلوم من أهل الجنة فرق الله تعالى أعواضه الموازنة بظلم الظالم على الأوقات المتتالية على وجه لا يتبين انقطاعها كيلا يتألم أو يتفضل الله عليه بمثل تلك الأعواض عقيب انقطاعها فلا يتألم وإن كان من أهل النار أسقط الله تعالى بأعواضه جزء من عقابه بحيث لا يظهر له التخفيف وذلك بأن يفرق القدر المسقط على الأوقات المتتالية لئلا ينقطع ألمه وفسروا الظلم بضرر غير مستحق لا يشتمل على نفع أو دفع ضرر معلوم أو مظنون ولا يكون دفعا عن نفسه ولا مفعولا بطريق جري العادة فخرج العقاب ومشقة السفر والحجامة ودفع الصائل وإحراق الله تعالى الصبي الملقي في النار فإن الإيلام إذا كان مستحقا أو مشتملا على نفع أو دفع ضر أو عاديا لا يكون ظلما بل يكون حسنا يجوز صدوره عن الله تعالى من غير عوض عليه ثم للمعتزلة في بحث الآلام والأعواض فروع واختلافات لا بأس بذكر بعضها منها أن الألم إن وقع جزاء لسيئة فهي عقوبة لا عوض عليها وإن لم يقع فإن كان من الله تعالى وجب العوض عليه وإن كان من مكلف فإن كان له حسنات أخذ الله حسناته وأعطاها المؤلم عوضا لإيلامه وإن لم يكن حسنات فعلى الله العوض من عنده حيث مكن الظالم ولم يصرفه عن الإيلام فالواجب قبل الوقوع إما الصرف وإما التزام العوض وإن كان من غير عاقل كالأطفال والوحوش والسباع فإن كان ملجأ إليه بسبب من الله تعالى كجوع وخوف ونحوهما فالعوض على الله تعالى وإلا فعلى المؤلم عند القاضي وعلى الله تعالى عند أبي علي لأن التمكين
____________________
(2/164)
وعدم المنع بعلم أو نهي إغراء على إيصال تلك المضار فأخذ العوض منها يكون ظلما بمنزلة من ألقى طعاما إلى كلب فأكله ثم أخذ يضربه وللقاضي ما ورد في الحديث من أنه يأخذ للجماء من القرناء وما ثبت في الشرع من وجوب منعها عن تلك المضار وأجيب بأن الحديث خبر واحد في مقابلة القطعي مع أنه لا يدل على كيفية الانتصاف فلعلها تكون بإيفاء العوض من عنده وأما التكليف فإنما هو لحفظ المواشي عن السباع والأموال عن الضياع حتى لا يجب منع الهرة عن أكل الحشرات والعصافير بل قد يحرم لكونه منعا للرزق عنها اللهم إلا إذا تألم قلب العاقل بالافتراس فيجب المنع دفعا لتضرره بتألم قلبه ومنها أن الإيلام بأمر الله كما في استعمال البهائم أو بإباحته كما في ذبحها أو بتمكينه مع تأخير الانتصاف إلى دار الجزاء كما في المظلوم عوضه على الله تعالى لتعاليه عن الظلم ومنها أنه إذا استوى لذة وألم في كونهما لطفا فالجمهور على أنه تتعين اللذة ويقبح الألم لأنه إنما يحسن إذا تعين طريقا للعوض واللطف وقال أبو هاشم بل يتخير بينهما كما بين المنفعتين لأن الإيلام بكونه عوضا ولطفا قد خرج عن كونه عبثا وظلما ومنها أن العوض يستحق دائما عند أبي علي كالثواب إذ لو انقطع لاغتم بانقطاعه فثبت عوض آخر وهلم جرا ومنقطعا عند أبي هاشم إذ لو شرط الدوام لما حسن بدونه واللازم باطل لأن العقلاء قد يستحسنون الآلام لمنافع منقطعة ومنها أنهم اختلفوا في أنه هل يشترط عند إيفاء العوض علم المعوض بأنه حقه كالثواب أم لا بناء على أن العوض منه مجرد اللذة والمنفعة وفي الثواب يعتبر التعظيم به فلا يثبت بدون علمه بذاك ومنها أنه هل يجوز التفضل بقضاء عوض المظلوم عن الظالم بناء على أن حقه في الأعواض المقابلة بالمضار وقد وصلت أم لا بناء على أن حقه في الأعواض الواجبة ولم تصل وأنه لو جاز التفضل لعوضه لجاز ترك الانتصاف من الظالم وهو باطل ومنها أن العوض الواجب على الله لا يصح إسقاطه إذ لا نفع فيه لأحد لكن يصح نقله إلى الغير نفعا له بخلاف الثواب فإن جهة التعظيم لا تقبل ذلك وأما الواجب على العبد فعند القاضي لا يصح كهبة المجهول وقيل يصح لما فيه من نفع الجاني والجهالة لا تمنع صحة الإسقاط كما في الإعتاق والإبراء وكذا يصح نقله إلى الغير بأن يهب عوضه من غيره لكن شبهة الجهالة في ذلك متأكدة ومنها اختلافهم في أن العوض هل يجب أن يكون في الآخرة وهل يحبط بالذنوب اعتبارا بالثواب أم يجوز في الدنيا ولا يحبط أصلا لعدم الدليل على النقيض وفي أنه هل يجوز التفضل بمثل الأعواض ابتداء من غير سبق ألم أم لا وعلى تقدير الجواز هل يجوز الآلام وتحسن المحن لمجرد العوض له هو رأي أبي علي بناء على أن للعوض اللازم المستتحق مزية على المتفضل به من غير لزوم واستحقاق أم لا بد مع ذلك من أن يكون إلطافا للمؤلم في الزجر عن القبيح ولغيره بحسب الاتعاظ والاعتبار كما هو رأي الضميري أم لا بد من كلا الأمرين كما هو رأي أبي هاشم بناء على أنه لما جاز
____________________
(2/165)
مثل العوض ابتداء كان الإيلام لمجرد العوض عبثا خارجا عن الحكمة وما يقال من أن للمستحق اللازم مزية على المتفضل به الغير اللازم فإنما هو في حق من يوقف من تفضله فإن قيل وهل يجوز إيلام الغير لمنفعته بدون رضاه قلنا نعم إذا كانت منفعة عظيمة موقتة تتفق العقلاء على إيثار ذلك الألم لأجلها فإن قيل فيلزم جواز ذلك للعبد أيضا أجيب بالتزامه أو بالفرق فإن الله عالم بالتمكن من التعويض بخلاف العبد وأما الإيلام بدون الرضى لمنفعة الغير على ما يراه الضميري في إيلام زيد لاعتبار عمرو وجمهور المعتزلة في ذبح الحيوانات واستعمالها لمنافع العباد فلا يعقل حسنه ومنها أنهم ذهبوا إلى أن آلام غير العاقل نفى الصبيان والمجانين والبهائم حسنة لالتزام أعواض يزيد عليها ثم اضطربوا في أنها تكون في الدنيا أم في الآخرة وفي أن البهائم هل تدخل الجنة ويخلق فيها العقل والعلم وأن ذلك عوض أم لا وفي أن عاقبة أمرها ماذا وفي بعض التفاسير أن قول الكافر يا ليتني كنت ترابا يكون حين يوصل الله تعالى إلى البهائم أعواضها ثم يجعلها ترابا وأما أعواض الكفار والفساق فقيل في الدنيا وقيل في النار بتخفيف العذاب قال الثالث الجزاء وسيأتي وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وسيأتي في مقصد السمعيات على التفصيل قال الرابع الاخترام ذهب بعض المعتزلة إلى أن الباري تعالى إذا علم من المؤمن المعصوم أو التائب أنه إن ابقاه حيا يكفر أو يفسق يجب اخترامه لأن في تركه تفويتا للغرض بعد حصوله وهو قبيح والأكثرون على أنه لا يجب لأن تفويت الغرض إنما هو بفعل العبد وهو المعصية لا بالتبقية ولأنه لم يخترم من كفر بعد الإيمان وعصى بعد الطاعة ولم يخترم إبليس مع ما روي أنه عبد الله تعالى عشرين ألف سنة ثم كفر والقول بأن ذلك كان مع النفاق بعيد جدا والاستدلال بقوله تعالى { وكان من الكافرين } ضعيف لقول المفسرين أنه بمعنى صار أو كان من جنس كفرة الجن وشياطينهم أو كان في علم الله تعالى ممن يكفر وأما إذا علم من المؤمن أنه يكفر أو يفسق ثم يتوب أو من الكافر والفاسق إنه يزداد كفرا وعصيانا ولا يتوب فلا يجب الاخترام كما لا يجب تبقية المؤمن إذا علم منه زيادة الطاعة ولا تبقية الطفل إذا علم منه أنه لو كلفه آمن وأما تبقية إبليس وتمكينه فقال أبو علي إنما يحسن إذا كان المعلوم أن من يعصي بوسوسته يعصي لولا وسوسته قال الخامس الأصلح ذهب البغداديون من المعتزلة إلى أنه يجب على الله تعالى ما هو أصلح لعباده في الدين والدنيا وقال البصريون بل في الدين فقط فيعنون بالأصلح الأنفع والبغداديون الأصلح في الحكمة والتدبير واتفق الفريقان على وجوب الأقدار والتمكين وأقصى ما يمكن في معلوم الله تعالى مما يؤمن عنده المكلف ويطيع وأنه فعل لكل أحد غاية مقدوره من الأصلح وليس في مقدروه لطف لو فعل بالكفار لآمنوا جميعا وإلا لكان تركه بخلا وسفها وعمدتهم القصوى قياس الغائب على الشاهد لقصور
____________________
(2/166)
نظرهم في المعارف الإلهية واللطايف الخفية الربانية ووفور غلطهم في صفات الواجب الحق وأفعال الغنى المطلق قالوا نحن نقطع بأن الحكيم إذا أمر بطاعته وقدر على أن يعطى المأمور ما يصل به إلى الطاعة من غير تضرر بذلك ثم لم يفعل كان مذموما عند العقلاء معدودا في زمرة البخلاء ولذلك من دعا عدوه إلى الموالاة والرجوع إلى الطاعة لا يجوز أن يعامله من الغلظ واللين إلا بما هو أنجع في حصول المراد وادعى إلى ترك العناد وأيضا من اتخذ ضيافة لرجل واستدعى حضوره وعلم أنه لو تلقاه ببشر وطلاقة وجه دخل وأكل وإلا فلا فالواجب عليه البشر والطلاقة والملاطفة لا أضدادها قلنا ذاك بعد تسليم استلزام الأمر الإرادة إنما هو في حكيم محتاج إلى طاعة الأولياء أو رجوع الأعداء ويتعزز بكثرة ا لأعوان والأنصار ويعظم لديه الأقدار ويكون للشيء بالنسبة إليه مقدار وقد يتمسك بأن عند وجود الداعي والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل ورد بأن ذلك بعد التسليم وجوب عنه بمعنى اللزوم عند تمام العلة والكلام في الوجوب عليه بمعنى استحقاق الذم على الترك فأين هذا من ذاك لنا بعد التنزل إلى القول لوجوب شيء على الله وأن ليس الصلاح والفساد بخلق الله تعالى وجوه
الأول لو وجب عليه الأصلح لعباده لما خلق الكافر الفقير المعذب في الدنيا والآخرة سيما المبتلى بالأسقام والآلام والمحن والآفات
الثاني يلزم على ما ذكرتم من الأمثلة أن يجب على كل أحد ما هو أصلح لعبيده ولنفسه فإن دفع بأن المكلف يتضرر بذلك ويلحقه الكد والتعب أجيب بأنه يلزم حينئذ أن لا يجب عليه شيء مما هو كذلك فإن قيل يترتب عليه ثواب يربى عليه فيحسن لذلك قلنا فليكن الأصلح كذلك
الثالث يلزم أن يكون الأصلح للكفار الخلود في النار إذ لو كان الخروج أو عدم الدخول أصلح لفعل فإن قيل نعم يلزم أن الأصلح لهم الخلود لعلمه بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه قلنا لا خفاء في أن الإماتة أو قطع العذاب ثم سلب العقول الصلح وأيضا فإذا كان تكليف من علم أنه يكفر أصلح مع أنه تنجيز مشقة فلم لا يكون إنقاذا من علم أنه يعود أصلح مع أنه تنجيز راحة
الرابع يلزم أن لا يستوجب الله على فعل شكرا لكونه مؤديا للواجب كمن يرد وديعة ودينا لازما
الخامس مقدورات الله تعالى غير متناهية فأي قدر يضبطونه في الأصلح فالمزيد عليه ممكن فيجب لا إلى حد فإن قيل ربما يصير ضم المزيد إليه مفسدة كما أن ضم النافع إلى النافع تصير مضرة فيما إذا زاد من الدواء على القدر الذي فيه الشفاء أجيب بأنه لا يعقل أن يكون ضم الصلاح إلى الصلاح فسادا وتقدر قدر من الدواء للشفاء إنما هو بطريق جري العادة من الله تعالى فإنه النافع والضار لا الدواء حتى لو غير العادة وجعل الشفاء في القدر الزايد جاز ولو سلم فالنفع مقدور والزيادة في الدواء ليس من ضم النفع إلى النفع بل من ضم ما ليس ينفع مثلا النافع في الحمى قدر من المبرد يقاوم الحرارة الغالبة فإذا زيد عليه قدر فليس
____________________
(2/167)
بنفع لأن عمله ليس في دفع تلك الحرارة التي هي المرض بل في إثبات برودة تزيل الصحة والاعتدال بخلاف الصلاح في الدين فإنه لا يتقدر بقدر ولا ينتهي إلى حد وكل صلاح ضم إلى صلاح يكون أصلح فإن قيل يتقدر الأصلح لا لتناهي قدرة الله تعالى بل لما علم أن المزيد عليه يصير سببا للطغيان أجيب بأنكم لا تعتبرون في وجوب الأصلح جانب المعلوم حيث تزعمون أن من علم الله تعالى أنه لو كلفه طغى وعصى واستكبر وكفر يجب على الله تعويضه للثواب مع علمه بأنه لا يدركه بل يقع في العقاب ولو أنه لو اخترمه قبل كمال العقل خلص نجيا
السادس يلزم أن تكون إماتة الأنبياء والأولياء المرشدين بعد حين وتبقية إبليس وذرياته المضلين إلى يوم الدين اصلح لعباده وكفى بهذا فظاعة
السابع من علم الله تعالى منه الكفر والعصيان أو الارتداد بعد الإسلام فلا خفاء في أن الإماتة أو سلب العقل أصلح له ولم يفعل فإن قيل بل الأصلح التكليف والتعريض للنعيم الدائم لكونه أعلى المنزلتين قلنا فلم لم يفعل ذلك بمن مات طفلا وكيف لم يكن التكليف والتعريض لا على المنزلتين أصلح له وبهذه النكتة ألزم الأشعري الجبائي ورجع عن مذهبه فإن قيل علم من الطفل أنه إن عاش ضل وأضل غيره فإماتته لمصلحة الغير قلنا فكيف لم يمت فرعون وهامان ومزدك وزرادشت وغيرهم من الضالين المضلين أطفالا وكيف لم يكن منع الأصلح عمن لا جناية له لأجل مصلحة الغير سفها وظلما
الثامن أجمع الأنبياء والأولياء وجميع العقلاء على الدعاء لدفع البلاء وكشف البأساء والضراء فعندكم يكون ذلك سؤالا من الله تعالى أن يغير الأصلح ويمنع الواجب وهو ظلم
التاسع إن أعطى أبا جهل لعنه الله غاية مقدوره من المصالح والألطاف فقد سوى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل في الأنعام والأحسان ورجع فضل النبي عليه السلام إلى محض اختياره من غير امتنان وإن منع أبا جهل بعض المصالح والألطاف فقد ترك الواجب ولزم السفه والظلم على ما هو أصلكم الفاسد
العاشر لو وجب الأصلح لما بقي للتفضل مجال ولم يكن لله خيره في الأنعام والأفضال وهو باطل لقوله تعالى { وربك يخلق ما يشاء } ويختار { يختص برحمته من يشاء } { يؤتي الحكمة من يشاء } { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } ولعمري أن مفاسد هذا الأصل أظهر من أن تخفى وأكثر من أن تحصى ولو وجب على الله الأصلح للعباد لما ضل المعتزلة طريق الرشاد الفصل السابع في أسمائه وفيه مباحث معظم كلام القدماء في هذا الفصل شرح معاني أسماء الله ورجعها إلى ما له من الصفات والأفعال والمتأخرون فوضوا ذلك إلى ما صنف فيه من الكتب واقتصروا على ما اختلفوا فيه من مغايرة الاسم للمسمى وكون أسماء الله تعالى توقيفية قال المبحث الأول الاسم هو اللفظ المفرد الموضوع للمعنى على ما يعم أنواع الكلمة وقد يقيد بالاستقلال
____________________
(2/168)
والتجرد عن الزمان فيقابل الفعل والحرف على ما هو مصطلح النحاة والمسمى هو المعنى الذي وضع الاسم بإزائه والتسمية هو وضع الاسم للمعنى وقد يراد بها ذكر الشيء باسمه كما يقال سمي زيدا ولم يسم عمرا فلا خفاء في تغاير الأمور الثلثة وإنما الخفاء فيما ذهب إليه بعض أصحابنا من أن الاسم نفس المسمى وفيما ذكره الشيخ الأشعري من أن أسماء الله تعالى ثلثة أقسام ما هو نفس المسمى مثل الله الدال على الوجود أي الذات وما هو غيره كالخالق والرازق ونحو ذلك مما يدل على فعل وما لا يقال أنه هو ولا غيره كالعالم والقادر وكل ما يدل على الصفات القديمة وأما التسمية فغير الاسم والمسمى وتوضيحه أنهم يريدون بالتسمية اللفظ وبالاسم مدلوله كما يريدون بالوصف قول الواصف وبالصفة مدلوله وكما يقولون أن القراءة حادثة والمقر وقديم إلا أن الأصحاب اعتبروا المدلول المطابقي فأطلقوا القول بأن الاسم نفس المسمى للقطع بأن مدلول الخالق شيء ما له الخلق لا نفس الخلق ومدلول العالم شيء ما له العلم لا نفس العلم والشيخ أخذ المدلول أعم واعتبر في أسماء الصفات المعاني المقصودة فزعم أن مدلول الخالق الخلق وهو غير الذات ومدلول العالم العلم وهو لا عين ولا غير وتمسكوا في ذلك بالعقل والنقل أما العقل فلأنه لو كانت الأسماء غير الذات لكانت حادثة فلم يكن الباري تعالى في الأزل إلها وعالما وقادرا ونحو ذلك وهو محال بخلاف الخالقية فإنه يلزم من قدمها قدم المخلوق إذا أريد الخالق بالفعل كالقاطع في قولنا السيف قاطع عند الوقوع بخلاف قولنا السيف قاطع في الغمد بمعنى أن من شأنه ذلك فإن للخالق ح معناه الاقتدار على ذلك وأما النقل فلقوله تعالى { سبح اسم ربك } والتسبيح إنما هو للذات دون اللفظ وقوله تعالى { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } وعبادتهم إنما هي للأصنام التي هي المسميات دون الأسامي وأما التمسك بأن الاسم لو كان غير المسمى لما كان قولنا محمد رسول الله حكما بثبوت الرسالة للنبي صلى الله عليه وسلم بل لغيره فشبهة واهية فإن الاسم وإن لم يكن نفس المسمى لكنه دال عليه ووضع الكلام على أن تذكر الألفاظ ويرجع الأحكام إلى المدلولات كقولنا زيد كاتب أي مدلول زيد متصف بمعنى الكتابة وقد يرجع بمعونة القرينة إلى نفس اللفظ كما في قولنا زيد مكتوب وثلاثي ومعرب ونحو ذلك وأجيب عن الأول بأن الثابت في الأزل معنى الإلهية والعلم ولا يلزم من انتفاء الاسم بمعنى اللفظ انتفاء ذلك المعنى وعن الثاني بأن معنى تسبيح الاسم تقديسه وتنزيهه عن أن يسمى به الغير أو عن يفسر بمالا يليق أو عن أن يذكر على غير وجه التعظيم أو هو كناية عن تسبيح الذات كما في قولهم سلام على المجلس الشريف والجناب المنيف وفيه من التعظيم والإجلال مالا يخفى أو لفظ الاسم مقحم كما في قول الشاعر
( ثم اسم السلام عليكما ** ) ومعنى عبادة الأسماء أنهم يعبدون الأصنام التي ليس فيها من الإلهية إلا مجرد الاسم كمن سمى نفسه بالسلطان وليست عنده آلات السلطنة وأسبابها فيقال أنه فرح من السلطنة بالاسم على أن
____________________
(2/169)
في تقرير الاستدلال اعترافا بالمغايرة حيث يقال التسبيح لذات الرب دون اسمه والعبادة لذوات الأصنام دون أساميها بل ربما يدعي أن في الآيتين دلالة على المغايرة حيث أضيف الاسم إلى الرب وجعل الأسماء بتسميتهم وفعلهم مع القطع بأن أشخاص الأصنام ليست كذلك ثم عورض الوجهان لوجهين
الأول أن الاسم لفظ وهو عرض غير باق ولا قائم بنفسه متصف بأنه متركب من الحروف وبأنه عجمي أو عربي ثلاثي أو رباعي والمسمى معنى لا يتصف بذلك وربما يكون جسما قائما بنفسه متصفا بالألوان متمكنا في المكان إلى غير ذلك من الخواص فكيف يتحدان
الثاني قوله تعالى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } وقوله عليه السلام إن لله تعالى تسعا وتسعين اسما مع القطع بأن المسمى واحد لا تعدد فيه وأجيب بأن النزاع ليس في نفس اللفظ بل مدلوله ونحن إنما نعبر عن اللفظ بالتسمية وإن كانت في اللغة فعل الواضع أو الذاكر ثم لا ننكر إطلاق الاسم على التسمية كما في الآية والحديث على أن الحق أن المسميات أيضا كثيرة للقطع بأن مفهوم العالم غير مفهوم القادر وكذا البواقي وإنما الواحد هو الذات المتصف بالمسميات فإن قيل تمسك الفريقين بالآيات والحديث مما لا يكاد يصح لأن النزاع ليس في اسم بل في أفراد مدلوله من مثل السماء والأرض والعالم والقادر والاسم والفعل وغير ذلك على ما يشهد به كلامهم ألا يرى أنه لو أريد الأول لما كان للقول بتعدد أسماء الله تعالى وانقسامها إلى ما هو عين أو غير أو لا عين ولا غير معنى وبهذا يسقط ما ذكره الإمام الرازي من أن لفظ ا لاسم مسمى بالاسم لا الفعل والحرف فههنا الاسم والمسمى واحد ولا يحتاج إلى الجواب بأن الاسم هو لفظ الاسم من حيث أنه دال وموضوع والمسمى هو من حيث أنه مدلول وموضوع له بل فرد من أفراد الموضوع له فتغايرا قلنا نعم إلا أن وجه تمسك الأولين أن في مثل سبح اسم ربك أريد بلفظ الاسم الذي هو من جملة الأسماء مسماه الذي هو اسم من أسماء الله تعالى ثم أريد به مسماه الذي هو الذات الإلهية إلا أنه يرد إشكال الإضافة ووجه تمسك الآخرين أن في قوله تعالى { ولله الأسماء الحسنى } أريد بلفظ الأسماء مثل لفظ الرحمن والرحيم والعليم والقدير وغير ذلك مما هو غير لفظ الأسماء ثم أنها متعددة فيكون غير المسمى الذي هو ذات الواحد الحقيقي ا لذي لا تعدد فيه أصلا فإن قيل قد ظهر أن ليس الخلاف في لفظ الاسم وأنه في اللغة موضوع للفظ الشيء أو لمعناه بل في الأسماء التي من جملتها لفظ الاسم ولا خفاء في أنها أصوات وحروف مغايرة لمدلولاتها ومفهوماتها وإن أريد بالاسم المدلول فلا خفاء في أن مدلول اسم الشيء ومفهومه نفس مسماه من غير احتياج إلى استدلال بل هو لغو من الكلام بمنزلة قولنا ذات الشيء ذاته فما وجه هذا الاختلاف المستمر بين كثير من العقلاء قلنا الاسم إذا وقع في كلام قد يراد به معناه كقولنا زيد كاتب وقد يراد به نفس لفظه كقولنا زيد اسم معرب حتى أن كل كلمة فإنه اسم موضوع بإزاء لفظه يعبر عنه
____________________
(2/170)
كقولنا ضرب فعل ماض ومن حرف جر وقد أوردنا لهذا زيادة توضيح وتفصيل في فوائد شرح الأصول ثم إذا أريد المعنى وقد يراد نفس ماهية المسمى كقولنا الحيوان جنس والإنسان نوع وقد يراد بعض أفرادها كقولنا جاءني إنسان ورأيت حيوانا وقد يراد جزؤها كالناطق أو عارض لها كالضاحك فلا يبعد أن يقع بهذا الاعتبار اختلاف واشتباه في أن اسم الشيء نفس مسماه أم غيره قال المبحث الثاني لا خلاف في جواز إطلاق الأسماء والصفات على الباري تعالى إذا ورد إذن الشرع وعدم جوازه إذا ورد منعه وإنما الخلاف فيما لم يرد به إذن ولا منع وكان هو موصوفا بمعناه ولم يكن إطلاقه موهما مما يستحيل في حقه فعندنا لا يجوز وعند المعتزلة يجوز وإليه مال القاضي أبو بكر منا وتوقف إمام الحرمين وفصل الإمام الغزالي رحمه الله فقال بجواز الصفة وهو ما يدل على معنى زائد على الذات دون الاسم وهو ما يدل على نفس الذات ويشكل هذا بمثل الإله اسما للمعبود والكتاب اسما للمكتوب والرميم اسما لما رم من العظام أو بلي وبأسماء الزمان والمكان والآلة ولعل المتكلم يلتزم كونها صفات وإن كانت اسما عند النحاة وقد أوردنا تمام تحقيق الفرق في فوايد شرح الأصول لنا أنه لا يجوز أن يسمى النبي صلى الله عليه وسلم بما ليس من أسمائه بل لو سمي واحد من أفراد الناس بما لم يسميه أبواه لما ارتضاه فالباري تعالى وتقدس أولى قالوا أهل كل لغة يسمونه باسم مختص بلغتهم كقولهم خداي وتنكري وشاع ذلك وذاع من غير نكير وكان إجماعا قلنا كفى بالإجماع دليلا على الإذن الشرعي وهذا ما يقال أنه لا خلاف فيما يرد في الأسماء الواردة في الشرع قال إمام الحرمين معنى الجواز وعدمه الحل والحرمة وكل منهما حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي والقياس إنما يعتبر في العمليات دون الأسماء والصفات وأجيب بأن التسمية من باب العمليات وأفعال اللسان وقال الإمام الغزالي إجراء الصفات إخبار بثبوت مدلولها فيجوز عند ثبوت المدلول إلا لمانع بالدلايل الدالة على إباحة الصدق بل استحبابه بخلاف التسمية فإنه تصرف في المسمى لا ولاية عليه إلا للأب والمالك ومن يجري مجرى ذلك فإن قيل فلم لا يجوز مثل العارف والعاقل والفطن والذكي وما أشبه ذلك قلنا لما فيه من الإيهام لشهرة استعماله مع خصوصية تمنع في حق الباري تعالى فإن المعرفة قد تشعر سبق العدم والعقل بما يعقل العالم أي يحبسه ويمنعه والفطنة والذكاء بسرعة إدراك ما غلب وكذا جميع الألفاظ الدالة على الإدراك حتى قالوا أن الدراية تشعر بضرب من الحيلة وهو إعمال الفكر والرؤية وفيه إيهام لا يجوز بدون الإذن وفاقا كالصبور والشكور والحليم والرحيم فإن قيل قد وجدنا من الأوصاف ما يمتنع إطلاقها مع ورود الشرع بها كالماكر والمستهزئ والمنزل والمنشئ والحارث والزارع والرامي قلنا لا يكفي في صحة الإجراء على الإطلاق مجرد وقوعها في الكتاب والسنة بحسب اقتضاء المقام وسياق الكلام بل يجب أن لا يخلو عن نوع تعظيم ورعاية
____________________
(2/171)
أدب قال المبحث الثالث مفهوم الاسم قد يكون نفس الذات والحقيقة وقد يكون مأخوذا باعتبار الأجزاء وقد يكون مأخوذا باعتار الصفات والأفعال والسلوب والإضافات ولا خفاء في تكثير أسماء الله تعالى بهذا الاعتبار وامتناع ما يكون باعتبار الجزء لتنزهه عن التركب واختلفوا في الموضوع لنفس الذات فقيل جائز بل واقع كقولنا الله فإن الجمهور على أنه علم لذاته المخصوصة وكونه مأخوذا من الإله بحذف الهمزة وإدغام اللام ومشتقا من إله يأله أو وله يوله أو لاه يليه إذا احتجب أو لاه يلوه إذا ارتفع أو غير ذلك من الأقاويل الصحيحة والفاسدة لا ينافي العلمية ولا يقتضي الوصفية وقيل غير جائز لأن الوضع يقتضي العلم بالموضوع له ولا سبيل للعقول إلى العلم بحقيقة الذات وأجيب بأنه يجوز أن يكون الواضع هو الله تعالى وبأنه يكفي معرفة الموضوع له بوجه من الوجوه ككونه حقيقة ذات واجب الوجود فالموضوع له أن يكون هو الذات مع أنه لا يعرف بكنه الحقيقة وأما الاستدلال بأن اسم الله تعالى لا يكون إلا حسنا والحسن إنما هو بحسب الصفات دون ا لذات وبأن اسم العلم إنما يكون لما يدرك بالحسن ويتصور في الوهم وبأن العلم قائم مقام الإشارة ولا إشارة إلى الباري تعالى وبأن العلم لا يكون إلا لغرض التمييز عن المشاركات النوعية أو الجنسية فلا يخفى ضعفه فإن قيل اعتبار السلوب والإضافات يقتضي تكثر أسماء الله تعالى جدا حتى ذكر بعضهم أنها لا تتناهي بحسب لاتناهي الإضافات والمغايرات فما وجه التخصيص بالتسعة والتسعين على ما نطق به الحديث على أنه قد دل الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم على أن لله تعالى أسماء لم يعلمها أحدا من خلقه واستأثر بها في علم الغيب عنده وورد في الكتاب والسنة أسامي خارجة عن التسعة والتسعين كالباري والكافي والدائم والبصير والنور والمبين والصادق والمحيط والقديم والقريب والوتر والفاطر والعلام والمليك والأكرم والمدبر والرفيع وذي الطول وذي المعارج وذي الفضل والخلاق والمولى والنصير والغالب والرب والناصر وشديد العقاب وقابل التوب وغافر الذنب ومولج الليل في النهار ومولج النهار في الليل ومخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي والسيد والحنان والمنان ورمضان وقد شاع في عبارات العلماء المريد والمتكلم والشيء والموجود والذات والأزلي والصانع والواجب وأمثال ذلك أجيب بوجوه
الأول أن التخصيص على اسم العدد ربما لا يكون لنفي الزيادة بل لغرض آخر كزيادة الفضيلة مثلا
الثاني أن قوله من أحصاها دخل الجنة في موقع الوصف كقولك للأمير عشرة غلمان يكفون مهماته بمعنى أن لهم زيادة قرب واشتغال بالمهمات أو أن هذا القدر من غلمانه الجمة كاف لمهماته من غير افتقار إلى الآخرين فإن قيل إن كان اسمه الأعظم خارجا عن هذه الجملة فكيف يختص ما سواه بهذا الشرف وإن كان داخلا فكيف يصح أنه مما يختص لمعرفته نبي أو ولي وأنه سبب لكرامات عظيمة لمن عرفه حتى قيل إن آصف بن برحيا إنما جاء بعرش بلقيس لأنه قد أوتي الاسم الأعظم قلنا يحتمل أن يكون
____________________
(2/172)
خارجا وأن يكون زيادة شرف التسعة والتسعين وجلالتها بالإضافة إلى ما عداه وأن يكون داخلا فيها لا يعرفه بعينه إلا نبي أو ولي
الثالث أن الأسماء منحصرة في التسعة والتسعين والرواية المشتملة على تفصيلها غير مذكورة في الصحيح ولا خالية عن الاضطراب والتغيير وقد ذكر كثير من المحدثين أن في إسنادها ضعفا وعلى هذا يظهر معنى قوله عليه السلام إن الله وتر يحب الوتر أي جعل الأسماء التي سمى بها نفسه تسعة وتسعين ولم يكملها مائة لأنه وتر يحب الوتر ويكون معنى إحصائها الاجتهاد في التقاطها من الكتاب والسنة وجمعها وحفظها على ما قال بعض المحدثين أنه صح عندي قريب من ثمانين يشتمل عليه الكتاب والصحاح من الأخبار والباقي ينبغي أن يطلب من الأخبار بطريق الاجتهاد والمشهور أن معنى إحصائها عدها والتلفظ بها حتى ذكر بعض الفقهاء أنه ينبغي أن تذكر بلا إعراب ليكون إحصاء ويشكل بما هو مضاف كمالك الملك وذو الجلال وقيل حفظها أو التأمل في معانيها قال المقصد السادس في السمعيات وفيه فصول أربعة مباحث النبوة ومباحث المعاد ومباحث الأسماء والأحكام وما يلايمها ومباحث الإمامة قال الفصل الأول في النبوة وفيه مباحث وهو كون الإنسان معبوثا من الحق إلى الخلق فإن كان النبي مأخوذا من النبوة وهو الارتفاع لعلو شأنه واشتهار مكانه أو من النبي بمعنى الطريق لكونه وسيلة إلى الحق تعالى فالنبوة على الأصل كالأبوة وإن كان من النبأ وهو الخبر لإنبائه عن الله تعالى فعلى قلب الهمزة واوا ثم الإدغام كالمروة قال المبحث الأول النبي إنسان بعثه الله لتبليغ ما أوحي إلي وكذا الرسول وقد يخص بمن له شريعة وكتاب فيكون أخص من النبي واعترض بما ورد في حديث من زيادة عدد الرسل على عدد الكتب فقيل هو من له كتاب أو نسخ لبعض أحكام الشريعة السابقة والنبي قد يخلو عن ذلك كيوشع عليه السلام وفي كلام بعض المعتزلة أن الرسول صاحب الوحي بواسطة الملك والنبي هو المخبر عن الله تعالى بكتاب أو إلهام أو تنبيه في المنام ثم البعثة لطف من الله تعالى ورحمة للعالمين لما فيها من حكم ومصالح لا تحصى منها معاضة العقل فيما يستقل بمعرفته مثل وجود الباري وعلمه وقدرته لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ومنها استفادة الحكم من النبي فيما لا يستقل به العقل مثل الكلام والرؤية والمعاد الجسماني ومنها إزالة الخوف الحاصل عند الإتيان بالحسنات لكونه تصرفا في ملك الله بغير إذنه وعند تركها لكونه ترك طاعة ومنها بيان حال الأفعال التي تحسن تارة وتقبح أخرى من غير اهتداء العقل إلى مواقعها ومنها بيان منافع الأغذية والأدوية ومضارها التي لا تفي بها التجرية إلا بعد أدوار وأطوار مع ما فيها من الأخطار ومنها تكميل النفوس البشرية بحسب استعداداتهم المختلفة في العلميات والعمليات ومنها تعليم الصنايع الخفية من الحاجيات والضروريات ومنها تعليمهم الأخلاق الفاضلة الراجعة إلى الأشخاص والسياسات الكاملة العايدة إلى الجماعات من
____________________
(2/173)
المنازل والمدن ومنها الإخبار بتفاصيل ثواب المطيع وعقاب العاصي ترغيبا في الحسنات وتحذيرا عن السيئات إلى غير ذلك من الفوائد فلهذا قالت المعتزلة بوجوبها على الله تعالى والفلاسفة بلزومها في حفظ نظام العالم على ما سيجيء والحاصل أن النظام المؤدي إلى صلاح حال النوع على العموم في المعاش والمعاد لا يتكمل إلا ببعثة الأنبياء فيجب على الله عند المعتزلة لكونه لطفا وصلاحا للعباد وعند الفلاسفة لكونه سببا للخير العام المستحيل تركه في الحكمة والعناية الإلهية وإلى هذا ذهب جمع من المتكلمين بما وراء النهر وقالوا أنها من مقتضيات حكمة الباري عز وجل فيستحيل أن لا يوجد لاستحالة السفه عليه كما أن ما علم الله وقوعه يجب أن يقع لاستحالة الجهل عليه ثم طولوا في ذلك وعولوا على ضروب من الاستدلال مرجعها إلى ما ذكرنا من لزوم السفه والعبث كما في خلق الأغذية والأدوية التي لا تتميز عن السموم المهلكة إلا بتجارب لا يتجاسر عليها العقلاء ولا يفي بها الأعمار وخلق الأبدان التي ليس لها بدون الغذاء إلا الفناء وخلق نوع الإنسان المفتقر في البقاء إلى اجتماع لا ينتظم بدون بعثة الأنبياء وكخلق العقل المائل إلى المحاسن النافر عن القبايح الجازم بأن شرفه وكماله في العلم بتفاصيل ذلك والعمل بمقتضياتها من الامتنثال والاجتناب وأنه لا يستقل بجميع ذلك على التفصيل بل يفتقر إلى بيان ممن أوجدها ودعا إلى الإتيان بالبعض منها والانتهاء عن البعض كالمجمل من الخطاب فإن خلق العقل مائلا إلى المحاسن نافرا عن القبايح بمنزلة الخطاب في كونه دليلا على الأمر والنهي اللذين هما من الصفات القائمة بذاته تعالى إذ لا معنى لهما سوى الدعوة إلى المباشرة والامتناع وكما في جعل بعض الأفعال بحيث قد يحمد عاقبته فيجب وقد يذم فيحرم كالصوم مثلا فلو لم يكن له بيان من الشارع لكان في ذلك إباحة ترك الواجب وإباحة مباشرة المحظور وهو خارج عن الحكمة فظهر بهذه الوجوه وأمثالها أنه لا بد من النبي البتة ولهذا كان في كل عصر للعقلاء نبي أو من يخلفه في إقامة الدليل السمعي وكان الغالب على المتمسكين بالشرايع سلوك طريق الحق وسبيل النجاة والرشاد مع اشتغالهم باكتساب أسباب المعاش وخلو أكثرهم عن صناعة النظر وحذاقة الذهن وعلى الفلاسفة المتشبثين بأذيال العقل العدول عن الصواب والوقوع في الضلال مع رجاحة عقولهم ودقة أنظارهم وإقبالهم بالكلية على البحث عن المعارف الإلهية والعلوم اليقينية وأنت خبير بأن في ترويج أمثال هذا المقال توسيع لمجال الاعتزال فإنهم لا يعنون بالوجوب على الله تعالى سوى أن تركه لقبحه محل بالحكمة ومظنة لاستحقاق المذمة فالحق أن البعثة لطف من الله تعالى ورحمة يحسن فعلها ولا يقبح تركها على ما هو المذهب في سائر الألطاف ولا تبتني على استحقاق من المبعوث واجتماع أسباب وشروط فيه بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده وهو أعلم حيث يجعل رسالته قال وللمنكرين المنكرون للنبوة منهم من قال باستحالتها ولا اعتداد بهم ومنهم من قال بعدم الاحتياج
____________________
(2/174)
إليها كالبراهمة جمع من الهند أصحاب برهام ومنهم من لزم ذلك من عقايدهم كالفلاسفة النافين لاختيار الباري وعلمه بالجزئيات وظهور الملك على البشر ونزوله من السموات ومنهم من لاح ذلك على أفعاله وأقواله كالمصرين على الخلاعة وعدم المبالاة ونفي التكاليف ودلالة المعجزات وهؤلاء آحاد وأوباش من الطوايف لا طائفة معينة يكون لها ملة ونخلة وبالجملة للمنكرين شبه
الأولى أن البعثة تتوقف على علم المبعوث بأن الباعث هو الله تعالى ولا سبيل إلى ذلك والجواب المنع لجواز أن ينصب دليلا له أو يخلق علما ضروريا فيه
الثانية وهي للبرهمة أن ما جاء به النبي إما أن يكون موافقا للعقل حسنا عنده فيقبل ويفعل وإن لم يكن نبي أو مخالفا له قبيحا عنده فيرد ويترك وإن جاء به النبي وأياما كان لا حاجة إليه فإن قيل لعله لا يكون حسنا عند العقل ولا قبيحا قلنا فيفعل عند الحاجة لأن مجرد الاحتمال لا يعارض تنجز الاحتياج ويترك عند عدمها للاحتياط والجواب أن ما يوافق العقل قد يستقل بمعرفته فيعاضده النبي ويؤكده بمنزلة الأدلة العقلية على مدلول واحد وقد لا يستقل فيدل عليه ويرشده وما يخالف العقل قد لا يكون مع الجزم فيدفعه النبي أو يرفع عنه الاحتمال وما لا يدرك حسنه ولا قبحه قد يكون حسنا يجب فعله أو قبيحا يجب تركه هذا مع أن العقول متفاوتة فالتفويض اليها مظنة التنازع والتقاتل ومفض إلى اختلال النظام وأن فوائد البعثة لا تنحصر في بيان حسن الأشياء وقبحها على ما تقدم
الثالثة أن العمدة في باب البعثة هي التكليف وهو عبث لا يليق بالحكيم إذ لا يشتمل على فائدة للعبد لكونه في حقه مضرة ناجزة ومشقة ظاهرة ولا للمعبود لتعاليه عن الاستفادة والانتفاع وأيضا منه شغل للقلب عما هو غاية الأعمال ونهاية الكمال أعني الاستغراق في معرفته والفناء في عظمته والجواب أن مضاره الناجزة قليلة جدا بالنسبة إلى منافعها الدنيوية والأخروية الظاهرة لدى الواقفين على ظواهر الشريعة النبوية فضلا عن الكاشفين عن أسرارها الخفية وإذا تأملتم فالتكليف صرف إلى ما ذكرتم لا شغل عنه على ما توهمتم
الرابعة وهي لأهل الخلاعة المنهمكين في اتباع الهوى وترك الطاعة إنا نجد الشرايع مشتملة على أفعال وهيئات لا نشك في أن الصانع الحكيم لا يعتبرها ولا يأمر بها كما نشاهد في الحج والصلاة وكغسل بعض الأعضاء لتلوث بعض آخر إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن قانون العقل والجواب أنها أمور تعبدية اعتبرها الشارع ابتلاء للمكلفين وتطويعا لنفوسهم وتأكيدا لملكة امتثالهم الأوامر والنواهي ولعل فيها حكما ومصالح لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم وقد أشار إليها بعض الخائضين في بحار أسرار الشريعة
الخامسة القدح في ثبوت المعجزة ووجه دلالتها ونقلها سيأتي بأجوبتها قال المبحث الثاني المعجزة مأخوذ من العجز المقابل للقدرة وحقيقة الإعجاز إثبات العجز استعير لإظهاره ثم أسند مجازا إلى ما هو سبب العجز وجعل اسما له فالتاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية كما
____________________
(2/175)
في الحقيقة وقيل للمبالغة كما في العلامة وذكر إمام الحرمين بناء على رأي الأشعري أن ههنا تجوزا آخر هو استعمال العجز في عدم القدرة كالجهل في عدم العلم وهو في الحقيقة ضد للقدرة وإنما يتعلق بالموجود وبما يقدر عليه حتى أن عجز الزمن إنما هو عن القعود بمعنى أنه وجد منه اضطرارا لا اختيارا فلتحقق العجز عن المعارضة لوجدت المعارضة الاضطرارية والمعجزة في العرف أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة وإنما قال أمر ليتناول الفعل كانفجار الماء من بين الأصابع وعدمه كعدم إحراق النار ومن اقتصر على الفعل جعل المعجزة ههنا كون النار بردا وسلاما أو بقاء الجسم على ما كان عليه من غير احتراق واحترز يقيد المقارنة للتحدي عن كرامات الأولياء والعلامات الإرهاصية التي تتقدم بعثة الأنبياء وعن أن يتخذ الكاذب معجزة من مضى من الأنبياء حجة لنفسه وبقيد عدم المعارضة عن السحر والشعبذة كذا ذكره الإمام الرازي وفيه نظر أما
أولا فلأنه لا بد من قيد الظهور على يد المدعي ومن جهته احترازا عن أن يتخذ الكاذب معجزة من يعاصره من الأنبياء حجة لنفسه وعن أن يقول معجزتي ما ظهر مني في السنين الماضية فقد صرحوا بأنه لا عبرة بذلك ومن قيد الموافقة للدعوى احترازا عما إذا قال معجزتي نطق هذا الجماد فنطق بأنه مفتر كذاب ولهذا قال الشيخ أبو الحسن هي فعل من الله تعالى أو قائم مقام الفعل يقصد بمثله التصديق وقال بعض الأصحاب هي أمر قصد به إظهار صدق من ادعى الرسالة وأما
ثانيا فلأن القوم عدوا من المعجزات ما هو متقدم غير مقرون بالتحدي ولا مقصود به إظهار الصدق لعدم الدعوى حينئذ كإظلال الغمام وتسليم الحجر والمدر ونحو ذلك وأما
ثالثا فلأن المعجزة قد تتأخر عن التحدي كما إذا قال معجزتي ما يظهر مني يوم كذا فظهرت ويمكن الجواب عن الأول بأن ذكر التحدي مشعر بالقيدين فإن معناه طلب المعارضة فيما جعله شاهدا لدعوته وتعجيز الغير عن الإتيان بمثل ما أبداه تقول تحديت فلانا إذا باريته الفعل ونازعته الغلبة وتحديته القراءة أينا إقراء وبالتحدي يحصل ربط الدعوى بالمعجزة حتى لو ظهرت آية من شخص وهو ساكت لم يكن معجزة وكذا لو ادعى الرسالة فظهرت الآية من غير إشعار منه بالتحدي قالوا ويكفي في التحدي أن يقول آية صدقي أن يكون كذا وكذا ولا يحتاج إلى أن يقول هذه آيتي ولا يأتي أحد بمثلها فعلى هذا لا تكون معجزة نبي ماض ولا معاصر معجزة للغير وعن الثاني إن عد الإرهاصات من جملة المعجزات إنما هو على سبيل التغليب والتشبيه والمحققون على أن خوارق العادات المتعلقة ببعثة النبي إذا كانت متقدمة فإن ظهرت منه فإن شاعت وكان هو مظنة البعثة كما في حق نبينا عليه السلام حيث أخبر بذلك بعض أهل الكتاب والكهنة فإرهاص أي تأسيس لقاعدة البعثة وإلا فكرامة محضة وإن ظهرت من غيره فإن كان من الأخبار فكذلك أي أرهاص أو كرامة وإلا فإرهاص
____________________
(2/176)
محض كظهور النور في جبين عبدالله أو ابتلاء كما إذا ظهرت على يد من ادعى الألوهية فإن الأدلة القطعية قائمة على كذبه بخلاف مدعي النبوة فلهذا جوزوا إظهارها على يد المتأله دون المتنبي وعن الثالث أن المتأخر إن كان بزمان يسير يعد مثله في العرف مقارنا فلا إشكال وإن كان بزمان متطاول فالمعجزة عند من شرط المقارنة هو ذلك القول المقارن فإنه إخبار بالغيب لكن العلم بإعجازه متراخ إلى وقت وقوع ذلك الأمر ومن جعل المعجزة نفس ذلك الأمر فهو لا يشترط المقارنة وعلى التقديرين لا يصح من ذلك النبي تكليف الناس بالتزام الشرع ناجزا لانتفاء المعجزة أو العلم بها لكن لو بين الأحكام وعلق التزامها بوقوع ذلك الأمر صح عند الإمام ولم يصح عند القاضي ثم المراد بعدم المعارضة أن لا يظهر مثله ممن ليس بنبي وأما من نبي آخر فلا امتناع وزاد بعضهم في تفسير المعجزة قيدا آخر وهو أن يكون في زمان التكليف لأن ما يقع في الآخرة من الخوارق ليست بمعجزة ولأن ما يظهر عند ظهور أشراط الساعة وانتهاء التكاليف لا يشهد بصدق الدعوى لكونه زمان نقض العادات وتغير الرسول قال وإما إمكانها فضروري قدح بعض المنكرين للنبوة في المعجزات بأن تجويز خوارق العادات سفسطة إذ لو جازت لجاز أن ينقلب الجبل ذهبا والبحر دهنا والمدعي للنبوة شخصا آخر عليه ظهرت المعجزة إلى غير ذلك من المحالات وبعضهم بأنها على تقدير ثبوتها لا تثبت على الغائبين لأن أقوى طرق نقلها التواتر وهو لا يفيد اليقين لأن جواز الكذب على كل أحد يوجب جوازه على الكل لكونه نفس الآحاد ولأنه لو أفاده لإفادة خبر الواحد لأن كل طبقة يفرض عدد التواتر فعند نقصان واحد منه إن بقيت مفيدة لليقين وهكذا إلى الواحد فظاهر وإن لم تبق كان المفيد هو ذلك الواحد الزائد ولأنه غير مضبوط بعدد بل ضابطة حصول اليقين فإثبات اليقين به يكون دورا والجواب عن الأول أن المراد بخوارق العادات أمور ممكنة في نفسها ممتنعة في العادة بمعنى أنها لم يجز العادة بوقوعها كانقلاب العصا حية فإمكانها ضروري وإبداعها ليس أبعد من أبداء خلق الأرض والسماء وما بينهما والجزم بعدم وقوع بعضها كانقلاب الجبل والبحر وهذا الشخص وأمثال ذلك لا ينافي الإمكان الذاتي على ما سبق في صدر الكتاب وعن الثاني بأن المتواترات أحد أقسام الضروريات فالقدح فيها بما ذكر مع أنه ظاهر الاندفاع لا يستحق الجواب وأما وجه دلالتها أي وجه دلالة المعجزة على صدق الرسالة أنها عند التحقيق بمنزلة صريح التصديق لما جرت العادة به
____________________
(2/177)
من أن الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بصدقه كما إذا قام رجل في مجلس ملك بحضور جماعة وادعى أنه رسول هذا الملك إليهم فطالبوه بالحجة فقال هي أن يخالف هذا الملك عادته ويقوم عن سريره ثلاث مرات ويقعد ففعل فإنه يكون تصديقا له ومفيدا للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب فإن قيل هذا تمثيل وقياس للغائب على الشاهد وهو على تقدير ظهور الجامع إنما يعتبر في العمليات لإفادة الظن وقد اعتبرتموه بلا جامع لإفادة اليقين في العلميات التي هي أساس ثبوت الشرايع على أن حصول العلم فيما ذكرتم من المثال إنما هو بشواهد من قرائن الأحوال قلنا التمثيل إنما هو للتوضيح والتقريب دون الاستدلال ولا مدخل لمشاهدة القرائن في إفادة العلم الضروري لحصوله للغائبين عن هذاالمجلس عند تواتر القضية إليهم وللحاضرين فيما إذا فرضنا الملك في بيت ليس فيه غيره ودونه حجب لا يقدر على تحريكها أحد سواه وجعل مدعى الرسالة حجته إن الملك يحرك تلك الحجب من ساعته ففعل فإن قيل ههنا احتمالات تنفي الدلالة على الصدق في الجزم به وهي أنواع
الأول احتمال أن لا يكون ذلك الأمر من الله تعالى بل يستند إلى المدعي بخاصية في نفسه أو مزاج في بدنه أو لاطلاع منه على خواص في بعض الأجسام يتخذها ذريعة إلى ذلك أو يستند إلى بعض الملائكة أو الجن أو إلى اتصالات كوكبية وأوضاع فلكية لا يطلع عليها غيره إلى غير ذلك من الأسباب
الثاني احتمال أن لا يكون خارقا للعادة بل ابتداء عادة أراد الله إجراءها أو تكرير عادة لا تكون إلا في دهور متطاولة كعود الثوابت إلى نقطة معينة
الثالث احتمال أن يكون مما يعارض إلا أنه لم يعارض لعدم بلوغه إلى من يقدر المعارضة أو المواضعة من القوم وموافقة في إعلاء كلمته أو الخوف أو لاستهانة وقلة مبالاة أو لاشتغال بما هو أهم أو عورض ولم ينقل لمانع
الرابع احتمال أن لا يكون لغرض التصديق إما لانتفاء الغرض في فعله على ما هو المذهب وإما لثبوت غرض آخر مثل أن يكون لطفا بمكلف أو إجابة لدعوته أو معجزة لنبي آخر أو ابتلاء للعبد لينال الثواب بالتوقف عن موجبه أو النظر والاجتهاد في دفعه كما في إنزال المتشابه أو إضلالا للخلق على ما هو المذهب عندكم من أن الله يضل من يشاء من عباده وبعد تسليم انتفاء الاحتمالات وكون المعجزة بمنزلة صريح القول من الله تعالى بأن المدعي صادق فهو لا يوجب صدقة إلا بعد استحالة الكذب في اخبار الله تعالى ولا سبيل إلى ذلك بدليل السمع للزوم الدور ولا بدليل العقل لأن غايته أن الكذب قبيح وهو على الله تعالى مستحيل وثبوت المقدمتين بغير دليل السمع في حيز المنع فالجواب إجمالا أن الاحتمالات والتجويزات العقلية لا تنافي العلوم العادية الضرورية القطعية فنحن نقطع بحصول العلم بالصدق عقيب ظهور المعجزة من غير التفات إلى ما ذكر من الاحتمالات لا بالنفي ولا بالإثبات كما يحصل في المثال المذكور وإن كان الملك ظلوما غشوما كذوبا لا يبالي بإغواء رعيته والاستهزاء برسله وتفصيلا أولا أنا بينا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله وحده سيما
____________________
(2/178)
في مثل إحياء الموتى وانقلاب العصا حية وانشقاق القمر وسلام الحجر والمدر على أن مجرد التمكين وترك الدفع من قبل الحكيم القادر المختار كاف في إفادة المطلوب ولهذا ذهب المعتزلة إلى أن المعجزة تكون فعلا لله تعالى أو واقعا بأمره أو بتمكينه وثانيا أن كلامنا فيما حصل الجزم بأنه خارق للعادة وأن المتحدين عجزوا عن معارضته مع كونهم أحق بها إن أمكنت لكثرة اشتغالهم بما يناسب ذلك وكما لهم فيه وفرط اهتمامهم بالمعارضة وتوفر دواعيهم ولهذا كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على أهل زمانه وتهالكوا عليه وتفاخروا به كالسحر في زمن موسى عليه السلام والطب في زمن عيسى والموسيقى في زمن داود والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم وثالثا أنه لا خفاء ولا خلاف في ترتب الغايات والآثار على بعض أفعاله وإن لم يجعلها إعراضا له على أنا لا نقول أنه فعل المعجزة لغرض التصديق بل أنها دلت على تصديق من الله تعالى قائم بذاته سواء جعل من جنس العلم أو كلام النفس أو غيرهما ورابعا أن ظهور المعجزة على يد الكاذب لأي غرض فرض وإن جاز عقلا بناء على شمول قدرة الله فهو ممتنع عادة معلوم الانتفاء قطعا كما هو حكم سائر العاديات وهذا ما قام القاضي ان اقتران ظهور المعجزة بالصدق أحد العاديات فإذا جوزنا انحرافها عن مجراها جاز إخلاء المعجزة عن اعتقاد الصدق وحينئذ يجوز إظهاره على يد الكاذب وأما بدون ذلك فلا لاستحالة العلم بصدق الكاذب ومنا من قال باستحالته عقلا فالشيخ لإفضائه إلى التعجيز عن إقامة الدلالة على صدق دعوى الرسالة والإمام وكثير من المتكلمين لأن الصدق مدلول بها لازم بمنزلة العلم لإتقان الفعل فلو ظهرت من الكاذب لزم كونه صادقا كاذبا وهو محال والماتريدية لإيجابه التسوية بين الصادق والكاذب وعدم التفرقة بين النبي والمتنبي وهو سفه لا يليق بالحكيم وخامسا أن مجرد إظهار المعجزة على يده يفيدنا العلم بصدقه وبتصديق الله إياه من غير افتقار إلى اعتبار كلام وإخبار ومن هنا يصح التمسك بخبر النبي في إثبات الكلام وامتناع الكذب والنقص على ما مر وإلى هذا يشير ما قال إمام الحرمين إنا نجعل إظهار المعجزة تصديقا بمنزلة أن يقول جعلته رسولا وأنشأت الرسالة فيه كقولك جعلتك وكيلا واستنبتك لشاني من غير قصد إلى إخبار وإعلام بما ثبت ومحصوله أنه يعتبر القول فيه إنشاء لا إخبارا وأما لو تم لنا نفي الكذب عنه بغير خبر النبي على ما سبق فلا إشكال قال خاتمة لا خفاء في ثبوت النبوة بخلق العلم الضروري كعلم الصديق رضي الله تعالى عنه وبخبر من ثبتت عصمته عن الكذب كنصوص التوراة والإنجيل في نبوة نبينا عليه السلام وكإخبار موسى عليه السلام بنبوة هارون وكالب ويوشع عليهم السلام فيما ذكر أمام الحرمين من أنه لا يمكن نصب دليل على النبوة سوى المعجزة لأن ما يقدر دليلا إن لم يكن خارقا للعادة أو كان خارقا ولم يكن مقرونا بالدعوى لم يصلح دليلا للاتفاق على جواز وقوع الخوارق من الله تعالى
____________________
(2/179)
ابتداء محمول على ما يصلح دليلا للنبوة على الإطلاق وحجة على المنكرين بالنسبة إلى كل نبي حتى الذي لا نبي قبله ولا كتاب وأما ما سيأتي من الاستدلال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما شاع من أخلاقه وأحواله فعائد إلى المعجزة على ما تبين إن شاء الله تعالى قال المبحث الثالث في طريقة الفلاسفة هم يقرون بالاحتياج إلى النبي والشريعة وبثبوت المعجزة لكن يقررون ذلك على وجه لايوافق ما علم بالضرورة من الدين أما تقريرهم في الاحتياج إلى النبي فهو أن الإنسان مدني بالطبع أي محتاج في تعيشه إلى التمدن وهو اجتماعه مع بني نوعه للتعاون والتشارك في تحصيل ما يحتاجون إليه من الغذاء الموافق واللباس الواقي من الحر والبرد والمسكن الملائم بحسب الفصول المختلفة والسلاح الحامي عن السباع والأعداء فإن كل ذلك مما يحصل بالصناعات ولا يمكن للإنسان الواحد القيام بجميعها بل لا بد من أن يخبز هذا لذلك وذلك يخيط آخر وآخر يتخذ الإبرة له إلى غير ذلك من المصالح التي لا بقاء للنوع بدونها ثم ذلك التعاون والتشارك لا يتم إلا بمعاملات فيما بينهم وبمعاوضات ولا ينتظم إلا بقانون متفق عليه مبني على العدل والإنصاف ضابط لما لا حصر له من الجزئيات لئلا يقع الجور فيختل أمر النظام لما جبل عليه كل أحد من أنه يشتهي ما يحتاج إليه ويغضب على من يزاحمه وذلك القانون هو الشرع ولا بد له من شارع يقرره على ما ينبغي متميزا عن الآخرين بخصوصية فيه من قبل خالق الكل واستحقاق طاعة وانقياد وإلا لما قبلوه ولم ينقادوا له وأن يكون إنسانا يخاطبهم ويلزمهم المعاملة على وفق ذلك القانون ويراجعونه في مواضع الاحتياج ومظان الاشتباه فتلك الخصوصية هي البعثة والنبوة وذلك الإنسان الشارع لقوانين المعاملات فيما بينهم والسياسات في حق من يخرج من مصالح البقاء هو النبي فلا بد من أمر مختص يدل على أن شريعته من عند ربه ويقتضي لمن وقف عليه أن يقر بنبوته وينقاد له وهو المعجزة قالوا وهذا الإنسان هو الذي يجتمع فيه خواص ثلاث هي الاطلاع على المغيبات وظهور خوارق العادات ومشاهدة الملك مع سماع كلامه ومعنى ذلك على ما شرحه في الشفاء وغيره أنه يكون كاملا في قوته النفسانية أعني الإنسانية والحيوانية المدركة والمحركة بمعنى أن نفسه القدسية بصفاء جوهرها وشدة اتصالها بالمبادىء العالية المنتقشة بصور الكائنات ماضيها وحاضرها وآتيها وقلة التفاتها إلى الأمور الجاذبة إلى الخسة السافلة تكون بحيث يحصل لها جميع ما يمكن للنوع دفعة أو قريبا من دفعة إذ لا يحل هناك ولا
____________________
(2/180)
احتجاب وإنما المانع هو انجذاب القوابل إلى عالم الطبيعة وانغماسها في الشواغل عن عالم العقل وإن قوته المتخيلة تكون بحيث يتمثل لها العقول المجردة صورا وأشباحا يخاطبونه ويسمعونه كلاما منظوما محفوظا وأن قوته المحركة تكون بحيث يطيع لها هيولي العناصر فيتصرف فيها تصرفها في بدنها فيعنون بالخصائص هذه القوى وبمشاهدة الملك هذ المعنى فلا يرد الاعتراض بأن الاطلاع على المغيبات وظهور خوارق العادات قد يوجد لغير الأنبياء فلا يكون من خواصهم وإن مشاهدة الملك وسماع كلامه مجرد عبارة لا يقولون بمعناها على أن الخاصة قد تطلق على الإضافية وإن ما ذكر بمجرد اعتبار مقارنته بالتحدي يصير خاصة حقيقية وإما تقريرهم في المعجزات فإجمالا أنه لا يبعد أن يختص بعض النفوس الإنسانية بقوة هي مبدأ لأفعال غريبة بسبب مالها من الخصوصية الشخصية أو بسبب أمر طار عليها من غير اكتساب أو حاصل لها بالاكتساب على ما هو شأن أكثر الأولياء وهذا لا ينافي اتحاد النفوس بحسب النوع وتفصيلا أن المشهور من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ثلاث بحسب القوة الإنسانية والقوة الحيوانية باعتبار الحركات والسكنات
فالأول الاطلاع على المغيبات وليس ببعيد لتحققه في حال النوم على ما تعرفه من نفسك وتسمعه من غيرك وسبب ذلك اتصال النفس بالمبادىء العالية أعني العقول والنفوس السماوية المنتقشة بصور ما يستند إليها من الحوادث لما تقرر من أنها عالمة بذواتها وإن العلم بالعلل والأسباب يوجب العلم بالمعلولات والمسببات غاية الأمر أن علم العقول بالحوادث لا يكون إلا على وجه كلي خال عن قيد الهذية وخصوص الوقتية والكاملون قد يدركونها على الوجه الجزئي أما يجعلها جزئية بمعونة الحواس الباطنة على ما قررها الحكماء وإما لارتسامها في النفوس السماوية كذلك على ما يراه بعضهم ومعنى اتصال النفس بالمبادىء العالية صيرورتها مستعدة لفيضان العلوم عليها بحصول القوة لها وزوال المانع أعني الشواغل الحسية عنها بمنزلة مرآة مجلوة تحاذي شطر الشمس ولا يلزم من ذلك انتقاشها بجميع ما في المبادىء من الصور لأن القبول كل صورة استعدادا يخصها
والثاني ظهور حركات وأفعال تعجز عن أمثالها أمثاله كحدوث رياح وزلازل وحرق وغرق وهلاك أشخاص ظالمة وخراب مدن فاسدة وانفجار المياه من الأحجار بل من أصابع وليس ببعيد لأن علاقة النفس مع البدن إنما هي بالتدبير والتصرف لا الحلول والانطباع فيجوز أن يكون بعض النفوس من القوة بحيث يتصرف في أجسام أخر غير بدنها بل في كلية العناصر حتى كأنها نفس لعالم العناصر
والثالث الإمساك عن القوة مدة غير معتادة وليس ببعيد كما في بعض الأمراض لاشتغال الطبيعة بهضم الأخلاط الفاسدة وتحليل المواد الردية عن تحليل المواد المحمودة والرطوبات الأصلية المحوج إلى البدل فيجوز في حق الأشخاص الكاملة لانجذاب نفوسهم إلى
____________________
(2/181)
جناب القدس بالكلية واستتباعها القوى الجسمانية التي بها الهضم والشهوة والتغذية وما يتعلق بذلك بل لا يبعد أن يكون هذا في حق هؤلاء أولى وأقرب منه في المرض لكون احتياج المريض إلى الغذاء أوفر وأوفى أما أولا فلتحلل رطوباته بسبب الحرارة الغريزية المسماة بسوء المزاج وأما ثانيا فلفرط احتياجه إلى حفظ القوى البدنية بحفظ الرطوبات التي بها تعتدل الحرارة الغريزية وذلك لما عرض لها بسبب المرض المضاد لها من الفتور وأما ثالثا فلاختصاص العارف بأمر يقتضي الاستغناء عن الغذاء والسكون البدني الحاصل بسبب ترك القوى البدنية أفاعيلها عند متابعتها النفس وأما تقريرهم لنزول الوحي وظهور الملك مع أنه من المجردات دون الأجسام فهو أن النائم ومن يجري مجراه في عدم استيلاء الحواس عليه قد يشاهد صورا غريبة ويسمع أصواتا عجيبة ليست بمعدومة صرفة ولا موجودة في الخارج بل في القوة المتخيلة والحس المشترك وربما لا يكون متأدية إليه من طرق الحواس الظاهرة بل من عالم آخر فلا يبعد أن يكون لبعض أفراد الإنسان نفس شريفة شديدة الاتصال بعالم العقل قليلة الالتفات إلى عالم الحس ومتخيلة شديدة جدا قوية التلقي من عالم الغيب قليلة الانغماس في جانب الظاهر لا يعصيها المصورة ولا يشغلها المحسوسات عن أفعالها الخاصة ويحصل لذلك الإنسان في اليقظة أن يتصل بعالم الغيب ويتمثل لقوته المتخيلة العقول المجردة والنفوس السماوية أشباحا مصورة سيما العقل الفعال الذي له زيادة اختصاص بعالم العناصر فتخاطبه وتحدث في سمعه كلام مسموعا يحفظ ويتلى ويكون ذلك من قبل الله وملائكته لا من الإنسان وهذا معنى الوحي ونزول الملك والكتاب وقد يكون ذلك على غاية الكمال فيعبر عنها بمشاهدة وجه الله الكريم وسماع كلامه من غير واسطة وأما تقريرهم في كون النبي مبعوثا من قبل الباري تعالى لحفظ النظام وصلاح العباد في المعاش والمعاد مع أنهم لا يثبتون له الفعل بالاختيار والعلم بالجزئيات ويقطعون بأنه تعالى بل جميع المبادي العالية لا يفعل لغرض في الأمور السافلة فهو أن العناية الإلهية بمخلوقاته أعني إحاطة علمه السابق بنظام الموجودات على الوجه الأليق في الأوقات المترتبة التي يقع كل موجود منها في واحد من تلك الأوقات يقتضي إفاضة ذلك النظام على ذلك الترتيب والتفصيل الذي من جملته وجود الشرع والشارع ووجوب ما به يكون النظام على وجه الصواب فيجب ذلك عنه وعن إحاطته بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل ليكون الموجود على وفق المعلوم وعلى أحسن النظام وإن لم يكن هناك انبعاث قصد وطلب منه تعالى وهذا ما قال في الشفاء أن العناية الإلهية تقتضي المصالح التي لها منفعة ما في البقاء كإنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين وتقعير الأخمص من القدمين فكيف لا تقتضي المنفعة التي هي في محل الضرورة للبقاء ولتمهيد نظام الخير وأساس المنافع كلها وكيف
____________________
(2/182)
لا يجب وقد وجد ما هو مبني عليها ومتعلق بها وكيف يجوز أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلمون ذلك ولا يعلمون هذا ففي الجملة قالوا بوجوب البعثة ولزوم النبوة فمن قال هي واجبة في الحكمة أراد تبقية النظام على الوجه اللايق ومن قال في العناية أراد تمثل النظام في علمه الشامل ومن قال في الطبيعة أراد وجود النظام الكامل ولقد أفصح عن المقصود بعض الإفصاح من قال أن المدبر الذي يسوق النوع من النقصان إلى الكمال لا بد أن يبعث الأنبياء ويمهد الشرايع كما هو موجود في العالم ليحصل النظام ويتعيش الأشخاص ويمكن لهم الوصول من النقصان إلى الكمال الذي خلقوا لأجله قال المبحث الرابع محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ولم يخالف في ذلك من أهل الملل والأديان إلا البعض من اليهود والنصارى وحجتنا أنه عليه السلام ادعى النبوة وأظهر المعجزة وكل من كان كذلك فهو نبي لما بينا اما دعوى النبوة فبالتواتر والاتفاق حتى جرت مجرى الشمس في الوضوح والإشراق وأما إظهار المعجزة فلأنه أتى بالقرآن وأخبر عن المغيبات وأظهر أفعالا على خلاف المعتاد وبلغت جملتها حد التواتر وإن كانت تفاصيلها من الآحاد فلنتكلم في الأنواع الثلاثة أما النوع الأول ففيه ثلاث مقامات لبيان إعجاز القرآن ووجه الإعجاز ودفع شبه الطاعنين أما المقام الأول فهو أنه صلى الله عليه وسلم تحدى بالقرآن ودعا إلى الإتيان بسورة مثله مصاقع البلغاء والفصحاء من العرب العرباء مع كثرتهم كثرة رمال الدهناء وحصى البطحاء وشهرتهم بغاية العصبية والحمية الجاهلية وتهالكهم على المباهاة والمباراة والدفاع عن الأحساب وركوب الشطط في هذا الباب فعجزوا حتى آثروا المقارعة على المعارضة وبذلوا المهج والأرواح دون المدافعة فلو قدروا على المعارضة لعارضوا ولو عارضوا لنقل إلينا لتوفر الدواعي وعدم الصارف والعلم بجميع ذلك قطعي كسائر العاديات لا يقدح فيه احتمال أنهم تركوا المعارضة مع القدرة عليها أو عارضوا ولم ينقل إلينا لمانع كعدم المبالاة وقلة الالتفات والاشتغال بالمهمات وأما المقام الثاني فالجمهور على أن إعجاز القرآن لكونه في الطبقة العليا من الفصاحة والدرجة القصوى من البلاغة على ما يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم وعلماء الفرق بمهارتهم في فن البيان
____________________
(2/183)
وإحاطتهم بأساليب الكلام وهذا مع اشتماله على الإخبار عن المغيبات الماضية والآتية كما سنذكره وعلى دقايق العلوم الإلهية وأحوال المبدأ والمعاد ومكارم الأخلاق والإرشاد إلى فنون الحكمة العلمية والعملية والمصالح الدينية والدنيوية على ما يظهر للمتدبرين ويتجلى على المتفكرين وذهب النظام وكثير من المعتزلة والمرتضى من الشيعة إلى أن إعجازه بالصرفة وهي أن الله تعالى صرف همم المتحدين عن معارضته مع قدرتهم عليها وذلك إما بسلب قدرتهم أو بسلب دواعيهم أو بسلب العلوم التي لا بد منها في الإتيان بمثل القرآن بمعنى أنها لم تكن حاصلة لهم أو بمعنى أنها كانت حاصلة فأزالها الله وهذا هو المختار عند المرتضى وتحقيقه أنه كان عندهم العلم بنظم القرآن والعلم بأنه كيف يؤلف كلام يساويه أو يدانيه والمعتاد أن من كان عنده هذان العلمان يتمكن من الإتيان بالمثل إلا أنهم كلما حاولوا ذلك أزال الله تعالى عن قلوبهم تلك العلوم وفيه نظر واحتجوا
أولا بأنا نقطع بأن فصحاء العرب كانوا قادرين على التكلم بمثل مفردات السورة ومركباتها القصيرة مثل الحمد لله ومثل رب العالمين وهكذا إلى الآخر فيكونون قادرين على الإتيان بمثل السورة
وثانيا بأن الصحابة عند جمع القرآن كانوا يتوقفون في بعض السور والآيات إلى شهادة الثقاة وابن مسعود رضي الله تعالى عنه قد بقي مترددا في الفاتحة والمعوذتين ولو كان نظم القرآن معجزا بفصاحته لكان كافيا في الشهادة والجواب عن الأول بأن حكم الجملة قد يخالف حكم الأجزاء وهذه بعينها شبهة من نفي قطعية الإجماع والخبر المتواتر ولو صح ما ذكر لكان كل من آحاد العرب قادرا على الإتيان بمثل قصايد فصحائهم كامرئ القيس وأضرابه واللازم قطعي البطلان وعن الثاني بعد صحة الرواية وكون الجمع بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا في زمانه وكون كل سورة مستقلة بالإعجاز أن ذلك كان للاحتياط والاحتراز عن أدنى تغيير لا يخل بالإعجاز وأن إعجاز كل سورة ليس مما يظهر لكل أحد بحيث لا يبقى له تردد أصلا وقيل إعجازه بنظمه الغريب المخالف لما عليه كلام العرب في الخطب والرسائل والأشعار وقيل بسلامته عن الاختلاف والتناقض وقيل باشتماله على دقائق العلوم وحقايق الحكم والمصالح وقيل بإخباره عن المغيبات ورد بأن حماقات مسيلمة ومن يجري مجراه أيضا على ذلك النظم وبأنه كثيرا ما يسلم كلام البلغاء عن الاختلاف والتناقض ويشتمل كلام الحكماء على العلوم والحقايق والأخبار عن المغيبات التي لا توجد إلا في قليل من الكتاب فإن قيل لا يظهر فرق بين كون الإعجاز بنظمه الخاص وكونه ببلاغة النظم ليجعلا مذهبين متقابلين ويجعل كون الإعجاز بالأمرين جميعا مذهبا ثالثا ينسب إلى القاضي على ما قال إمام الحرمين أن وجه الإعجاز عندنا هو اجتماع الجزالة مع الأسلوب والنظم المخالف لأساليب كلام العرب من غير استقلال لأحدهما إذ ربما يدعي أن بعض الخطب والأشعار من كلام أعاظم
____________________
(2/184)
البلغاء لا ينحط عن جزالة القرآن انحطاطا بينا قاطعا للأوهام وربما يقدر نظم ركيك يضاهي نظم القرآن على ما روي من ترهات مسيلمة الكذاب الفيل ما الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل وخرطوم طويل فلزم كون الإعجاز بالنظم البديع مع الجزالة أعني البلاغة وهو التعبير عن معنى سديد بلفظ شريف وأن ينبئ عن المقصود من غير مزيد ثم قال وفي القرآن سوى النظم والبلاغة وجهان آخران من الإعجاز هما الإخبار عن قصص الأولين من غير سماع وتلقين والإخبار عن المغيبات المستقبلة متكررة متوالية قلنا معنى الأول أن نظم القرآن وتركيبه يخالف المعتاد من أساليب كلام العرب إذ لم يعهد فيه كون المقاطع على مثل يعلمون ويفعلون والمطالع على مثل { يا أيها الناس } و { يا أيها المزمل } و { الحاقة ما الحاقة } و { عم يتساءلون } وأمثال ذلك ومعنى الثاني أن نظمه بالغ في الفصاحة والمطابقة لمقتضى الحال الجد الخارج عن طوق البشر وكان معنى النظم على الأول ترتب الكلمات وضم بعضها إلى البعض وعلى الثاني جمعها مترتبة المعاني متناسقة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل على ما قال عبدالقاهر أن النظم هو توخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام ولهذا زيادة بيان في بعض كتبنا في فن البيان وقد استدل على بطلان الصرفة بوجوه
الأول أن فصحاء العرب إنما كانوا يتعجبون من حسن نظمه وبلاغته وسلاسته في جزالته ويرقصون رؤسهم عند سماع قوله تعالى { وقيل يا أرض ابلعي ماءك } الآية لذلك لا لعدم تأتي المعارضة مع سهولتها في نفسها
الثاني أنه لو قصد الإعجاز بالصرفة لكان الأنسب ترك الاعتناء ببلاغته وعلو طبقته لأنه كلما كان أنزل في البلاغة وأدخل في الركاكة كان عدم تيسر المعارضة أبلغ في خرق العادة
الثالث قوله تعالى { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } فإن ذكر الاجتماع والاستظهار بالغير في مقام التحدي إنما يحسن فيما لا يكون مقدورا للبعض ويتوهم كونه مقدورا للكل فيقصد نفي ذلك فإن قيل لو كان القصد إلى لإعجاز بالبلاغة لكان ينبغي أن يؤتى بالكل في أعلى الطبقات لكونه أبلغ في خرق العادة والمذهب أن الله تعالى قادر على أن يأتي بما هو أفصح مما أتى به وأبلغ وأن بعض الآيات في باب البلاغة أعلى وأرفع كقوله تعالى { وقيل يا أرض ابلعي ماءك } الآية بالنسبة إلى سورة الكافرين مثلا قلنا هذا أوفى بالغرض وأوضح في المقصود بمنزلة صانع يبرز من مصنوعاته ما ليس غاية مقدوره ونهاية ميسوره ثم يدعو جماهير الحذاق في الصناعة إلى أن يأتوا بما يوازي أو يداني دون ما ألقاه وأهون ما أبداه وأما المقام الثالث فإشراف العرب مع كمال حذاقتهم في أسرار الكلام وفرط عداوتهم للإسلام لم يجدوا فيه للطعن مجالا ولم يوردوا في القدح مقالا ونسبوه إلى السحر على ما هو دأب المحجوج المبهوت تعجبا من فصاحته وحسن نظمه وبلاغته واعترفوا بأنه ليس من جنس خطب الخطباء أو شعر
____________________
(2/185)
الشعراء وإن له حلاوة وعليه طلاوة وإن أسافله مغدقة وأعاليه مثمرة فآثروا المقارعة على المعارضة والمقاتلة على المقاولة وأبى الله إلا أن يتم نوره على كره من المشركين ورغم المعاندين وحين انتهى الأمر إلى من بعدهم من أعداء الدين وفرق الملحدين اخترعوا مطاعين ليست إلا هزءة للساخرين وضحكة للناظرين منها أن فيه كلمات غير عربية كالإستبرق والسجيل والقسطاس والمقاليد فكيف يصح أنه عربي مبين فرد بأن ذلك من توافق اللغتين أو المراد أنه عربي النظم والتركيب أو الكل عربي على سبيل التغليب ومنها أن فيه خطأ من جهة الإعراب مثل إن هذان لساحران وأن الذين هادوا والصابئون ولكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة ورد بأن كل ذلك صواب على ما بين في علم الإعراب ومنها أن فيه مما يكذبه حيث أخبر بأنه لا يتيسر للبشر والجن بل الإنس والجن الآيتان بمثل سورة منه واقل السور ثلاث آيات ثم حكي عن موسى مع اعترافه بأن هارون أفصح منه مقدار إحدى عشرة آية منه وهي قوله تعالى { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري } إلى قوله { إنك كنت بنا بصيرا } ورد بأن المحكي لا يلزم أن يكون لهذا النظم بعينه على أن المختار عند البعض في المتحدي به سورة من الطوال أو عشر من الأوساط ومنها أن فيه متشابهات يتمسك بها أهل الغواية كالمجسمة بمثل { الرحمن على العرش استوى } ورد بأنها لنيل المثوبة بالنظر والاجتهاد في طلب المراد أو لفوائد لا تحصى بالرجوع إلى الراسخين في العلم ومنها أن فيه عيب التكرار كإعادة قصة فرعون في عدة مواضع وكإعادة { فبأي آلاء ربكما تكذبان } و { ويل يومئذ للمكذبين } في سورة الرحمن والمرسلات ورد بأنه ربما يكون من محاسن الكلام على ما يقرره علماء البيان فيما وقع منه في القرآن ومنها أن فيه قوله { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } وأنت تجد فيه من الاختلاف المسموع من أصحاب القراءة ما يربى على اثني عشر ألفا ورد بأن المراد من الاختلاف المنفي هو التفاوت في مراتب البلاغة بحيث يكون بعضه قاصرا عن مرتبة الإعجاز لا يقال تقدير الطعن فاسد عن أصله لأنه استدلال بثبوت اللازم على ثبوت الملزوم لأنا نقول لا بل هو مبني على أن كلمة لو في اللغة تفيد انتفاء الجزاء لانتفاء الشرط يعني عدم وجدان الاختلاف فيه بسبب أنه ليس من عند غير الله وأما إذا حملت كلمة لو في الآية على ما هو قانون الاستدلال كما في قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فهو استدلال بنفي اللازم على نفي الملزوم أي لكن لم يوجد فيه الاختلاف فلم يكن من عند غير الله وتمام تحقيق هذا المقام يطلب من شرحنا لتلخيص المفتاح ومنها أن فيه التناقض كقوله تعالى { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } مع قوله { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } { ليس لهم طعام إلا من ضريع } مع قوله { ولا طعام إلا من غسلين } إلى غير ذلك من مواضع يتوهم فيها تنافي الكلامين ورد بمنع وجود شرايط التناقض
____________________
(2/186)
وقد بين ذلك على التفصيل في كتب التفسير ومنها أن فيه الكذب المحض كقوله تعالى { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } للقطع بأن الأمر للسجود لم يكن بعد خلقنا وتصويرنا ورد بأن المراد خلق أبينا آدم وتصويره ومنها أن فيه الشعر من كل بحر وقد قال { وما علمناه الشعر } فمن الطويل { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ومن المديد { واصنع الفلك بأعيننا } ومن البسيط { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } ومن الوافر { ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين } ومن الكامل { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ومن الهزج { تالله لقد آثرك الله علينا } ومن الرجز { ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا } ومن الرمل { وجفان كالجواب وقدور راسيات } ومن السريع { قال فما خطبك يا سامري } ومن المنسرح { إنا خلقنا الإنسان من نطفة } ومن الخفيف { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم } ومن المضارع { يوم التناد يوم تولون مدبرين } ومن المقتضب { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } ومن المجتث { المطوعين من المؤمنين في الصدقات } ومن المتقارب { وأملي لهم إن كيدي متين } ورد بأن مجرد كون اللفظ على هذه الأوزان لا يكفي بل لا بد من تعمد الوزن وعند البعض من التقفية على أن في كثير مما ذكر نوع تغيير ولو سلم فالتغليب باب واسع قال وأما النوع الثاني من أنواع المعجزات إخباره عن الغيوب الماضية والمستقبلة أما الماضية فكقصة موسى وفرعون وقصة يوسف وقصة إبراهيم ونوح ولوط وغيرهم عليهم السلام على تفاصيلها وطولها من غير سماع من أحد ولا يلقن من كتاب على ما أشير إليه بقوله تعالى { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } وأما المستقبلة فمنها ما في القرآن كقوله تعالى { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } { الم غلبت الروم } إلى قوله { وعد الله لا يخلف الله وعده } { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } { سيهزم الجمع ويولون الدبر } { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد } { ليستخلفنهم في الأرض } { لتدخلن المسجد الحرام } { ليظهره على الدين كله } { لا يأتون بمثله } { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } ومنها ما ليس فيه كقوله عليه السلام لعلي رضي الله تعالى عنه تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين ولعمار تقتلك الفئة الباغية وقوله عليه السلام زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها وقوله الخلافة بعدي ثلاثون سنة وكإخباره بهلاك كسرى وقيصر وزوال ملكهما وإنفاق كنوزهما في سبيل الله وباستيلاء الأتراك إلى غير ذلك مما ورد في صحاح الأحاديث وقد اقترنت بدعوى النبوة فيتميز عن الكرامات وبطهارة النفس وصوالح الأعمال وترك المراجعة إلى أحوال الكواكب والنظر في آلاتها فيتميز عن السحر والكهانة والنجوم وأمثال ذلك قال وأما النوع الثالث من أنواع
____________________
(2/187)
المعجزات أفعال ظهرت منه عليه السلام على خلاف العادة تربى على ألف وقد فصلت في دلايل النبوة بعضها إرهاصية ظهرت قبل دعوى النبوة وبعضها تصديقية ظهرت بعدها وتنقسم إلى أمور ثابتة في ذاته أو أمور متعلقة لصفاته وأمور خارجة عنهما
فالأول كالنور الذي كان ينقلب في آبائه إلى أن ولد وكولادته مختونا مسرورا واضعا إحدى يديه على عينيه والأخرى على سؤته وما كان من خاتم النبوة بين كتفيه وطول قامته عند الطويل ووساطته عند الوسيط ورؤية من خلفه كان يرى من قدامه
والثاني كاستجماعه الغاية القصوى من الصدق والأمانة والعفاف والشجاعة والفصاحة والسماحة والزهد والتواضع لأهل المسكنة والشفقة على الأمة والمصابرة على متاعب النبوة والمواظبة على مكارم الأخلاق وكبلوغه النهاية في العلوم والمعارف الإلهية وتمهيد المصالح الدينية والدنيوية وككونه مستجاب الدعوة على ما دعى لابن عباس رضي الله تعالى عنه بقوله اللهم فقهه في الدين فصار إمام المفسرين ودعا على عتبة بن أبي لهب بقوله اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه الأسد وعلى مضر بقوله اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسني يوسف فمنع الله القطر عنهم سنين وعلى من لحقه من الكفار حين خرج من الغار بقوله يا أرض خذيه فساخت قوايم فرسه
والثالث كخرور الأوثان سجدا ليلة ولادته وسقوط شرف قصور الأكاسرة وباء ظلال السحاب عليه وكانشقاق القمر وانقلاع الشجر وتسليم الحجر ونبوع الماء من بين أصابعه إلى أن رويت الجنود ودوابهم وشبع الخلق الكثير من طعامه اليسير وحنين الجذع في مسجد المدينة حين انتقل منه إلى المنبر وشكاية النوق عن أصحابها وشهادة الشاة المشوية يوم خيبر بأنها مسمومة ودرور الضرع من الشاة اليابسة الجرباء لأم معبد حين مسح يده عليها وخطاب الذئب وهب بن أوس بقوله أتعجب من أخذى شاة وهذا محمد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه وتسبيح الحصى وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى قوله وقد يستدل ما سبق هو العمدة في إثبات النبوة وإلزام الحجة على المجادل والمعاند وقد يذكر وجوه أخر تقوية له وتتميما وإرشاد الطالب الحق وتعليما
الأول أنه قد اجتمع فيه من الأخلاق الحميدة والأوصاف الشريفة والسير المرضية والكمالات العلمية والعملية والمحاسن البديعة الراجعة إلى النفس والبدن والنسب والوطن ما يجزم العقل بأنه لا يجتمع إلا لنبي وتفاصيل ذلك تصنيف على حدة
الثاني أن من نظر فيما اشتملت عليه شريعته مما يتعلق بالاعتقادات والعبادات والمعاملات والسياسات والآداب وعلم ما فيها من دقايق الحكمة علم قطعها أنها ليست إلا وضعا إلهيا ووحيا سماويا والمبعوث بها ليس إلا نبيا
الثالث أنه انتصب مع ضعفه وفقره وقلة أعوانه وأنصاره حربا لأهل الأرض آحادهم وأوساطهم وأكاسرتهم وجبابرتهم فضلل آرائهم وسفه أحلامهم وأبطل مللهم وهدم دولهم
____________________
(2/188)
وظهر دينه على الأديان وزاد على مر الأعصار والأزمان وانتشر في الآفاق والأقطار وشاع في المشارق والمغارب من غير أن تقدر الأعداء مع كثرة عددهم وعددهم وشدة شوكتهم وشكيمتهم وفرط حميتهم وعصبيتهم وبذلهم غاية الوسع في إطفاء أنواره وطمس آثاره على إخماد شرارة من ناره فهل يكون ذلك إلا بعون إلهي وتأييد سماوي
الرابع أنه ظهر أحوج ما كان الناس إلا من يهدي إلى الطريق المستقيم ويدعو إلى الدين القويم وينظم الأمور ويضبط حال الجمهور لكونه زمان فترة من الرسل وتفرق للسبل وانحراف في الملل واختلال للدول واشتعال للضلال واشتغال بالمحال فالعرب على عبادة الأوثان وؤد البنات والفرس على تعظيم النيران ووطئ الأمهات والترك على تخريب البلاد وتعذيب العباد والهند على عبادة البقر وسجود الحجر والشجر واليهود على الجحود والنصارى حيارى فيمن ليس بوالد ولا مولود وهكذا سائر الفرق في أودية الضلال وأخبية الخيال والخبال أفيليق بحكمة الملك الحق المبين أن لا يرسل رحمة للعالمين ولا يبعث من يجدد أمر الدين وهل ظهر أحد يصلح لهذا الشأن ويؤسس هذا البنيان غير محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي بن كلاب بن مر بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات الخامس النصوص الواردة في كتب الأنبياء المتقدمين المنقولة إلى العربي المشهورة فيما بين أممهم أما في التوراة فمنها ما جاء في السفر الخامس جاء الله من طور سيناء وأشرق من سيعير واستعلن من جبال فاران يريد الإخبار عن إنزال التوراة على موسى بطور سيناء والإنجيل على عيسى بسيعير فإنه كان يسكن من سيعير بقرية تسمى ناصرة وإنزال القرآن على محمد بمكة فإن فاران في طريق مكة قبل العدن بميلين ونصف وهو كان المنزل وقد بقي اليوم على يسار الطريق من العراق إلى مكة وهذا ما ذكر في التوراة أن أسمعيل أقام برية فاران يعني بادية العرب ومنها ما جاء في السفر الخامس أنه تعالى قال لموسى صلى الله تعالى عليه وسلم إني مقيم لهم نبيا من بني إخوتهم مثلك وأجري قولي في فيه ويقول لهم ما آمرهم به والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي فأنا أنتقم منه والمراد ببني إخوة بني إسرائيل بنو إسماعيل على ما هو المتعارف فلا يصرف إلى من بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل ولا إلى عيسى لأنهم لم يكونوا من بني إخوتهم ولا إلى موسى لكونه صاحب شريعة مستأنفة فيها بيان مصالح الدارين فتعين محمد صلى الله عليه وسلم ومنها ما جاء في السفر الأول أنه تعالى قال لإبراهيم عليه السلام أن هاجر تلد ويكون من ولدها من يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخشوع وأما في الإنجيل فمنها ما ورد في الصحاح الرابع عشر أنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم ويعطيكم فارقليطا ليكون معكم إلى الأبد
____________________
(2/189)
والفارقليط روح الحق واليقين وفي الخامس عشر وأما فارقليط روح القدس الذي يرسله أبي باسمي هو يعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء وهو يذكركم ما قلته لكم ثم قال وإني قد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان ذلك تؤمنوا به وقوله باسمي يعني بالنبوة ومعنى الفارقليط كاشف الخفيات وفي السادس عشر أقول لكم الآن حقا ويقينا أن انطلاقي عنكم خير لكم فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي لم يأتكم الفارقليط وإن انطلقت أرسلت به إليكم فإذا جاء هو يفيد أهل العالم ويدينهم ويوبخهم ويوقفهم على الخطيئة والبر ثم قال إذا جاء روح الحق واليقين يرشدكم ويعلمكم ويدبركم ويذكركم لجميع الحق لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء نفسه وأما في الزبور فقوله تقلد أيها الجبار السيف فإن ناموسك وشرايعك مقرونة بهيبة يمينك وسهامك مسنونة والأمم يخرون تحتك وقوله قال داود اللهم ابعث جاعل السنة حتى يعلم الناس أنه بشر يعني ابعث محمدا حتى يعلم الناس أن عيسى بشر قال في تلخيص المحصل وأمثال هذا كثير في كتب الأنبياء المتقدمين يذكرها المصنفون الواقفون على كتبهم ولا يقدر المخالف على دفعها أو صرفها إلى ملك أو نبي آخر ولا على أن يكتمها ولقد جمع أبو الحسين البصري في كتاب غرر الأدلة ما يوقف من نصوص التوراة على صحة نبوة محمد عليه السلام وأما المنكرون أنكر المشركون والنصارى والمجوس ومن يجري مجراهم نبوة محمد عليه السلام بغيا منهم وحسدا وعنادا ولددا من غير تمسك بشبهة وأكثر اليهود تمسكوا بأنه لو كان نبيا لزم نسخ دين موسى واللازم باطل أما أولا فلبطلان النسخ مطلقا لوجهين
أحدهما أنه إن لم يكن لمصلحة فعبث وإن كان لمصلحة لم يعلمها عند شرعية الحكم المنسوخ فجهل وإن كان لمصلحة علمها وأهملها أو لا ثم راعاها فبداء أو نقول إن كان في شرعية الحكم المنسوخ مصلحة لم يعلم إهمالها عند النسخ فجهل وإن كان يعلمها فرأى رعايتها أو لا ثم أهملها فبداء والجواب أنه لمصلحة تجددت وحصلت بعدما لم تكن فإن المصالح تختلف باختلاف الأزمان والأحوال فرب دواء يصلح في الصيف دون الشتاء ولزيد دون عمرو ولهذا ورد في التوراة أن آدم أمر بتزويج بناته من بنيه ثم نسخ وفاقا
وثانيهما أن الحكم إما مؤقت مثل صم غدا فنفيه بعد ذلك لا يكون نسخا وإما مؤبد مثل صم أبدا فنسخه تناقض بمنزلة قولك الصوم واجب أبدا وليس بواجب وإما مرسل لا توقيت فيه ولا تأبيد وحينئذ فإما أن يعلم الله تعالى استمراره أبدا فلا يرتفع للزوم الجهل أو إلى غاية ما فلا رفع بعدها ولا نسخ والجواب أنه مرسل عن توقيت الوجوب مثلا وتأبيده والمعلوم عند الله استمرار الوجوب إلى غاية هي وقت نسخه ورفعه ولا تناقض في ذلك سواء كان الواجب مؤقتا أو مؤبدا بمنزلة قولك صوم الغد أو الأبد واجب حينا دون حين وإنما التناقض في رفع الوجوب بعد تأبيده كما إذا قيل الوجوب ثابت أبدا ثم نسخ فيكون زمان لا وجوب فيه
____________________
(2/190)
وهذا لا نزاع في امتناعه وهو المراد بقولهم أن النسخ ينافي التأبيد وعليه يبتني امتناع نسخ شريعتنا والفرق بين كون التأبيد راجعا إلى الواجب أو إلى الوجوب مما يتضح بالرجوع إلى الأصل الذي مهدناه في بحث الرؤية في قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } على أن التحقيق أن لا رفع ههنا وإنما النسخ بيان لانتهاء حكم شرعي سبق على الإطلاق وأما ثانيا فلبطلان نسخ شريعة موسى عليه السلام لوجهين
الأول أنه تواتر النص منه على تأبيدها مثل تمسكوا بالسبت أبدا وهذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض والجواب أنه افتراء على موسى عليه السلام ودعوى تواتره مكابرة ولو صح لما ظهرت المعجزات على عيسى أو محمد عليهما السلام ولأظهروه في زمانهما احتجاجا عليهما ولو أظهروه لاشتهر لتوفر الدواعي على أنه كثير إما يعبر بالتأبيد فالدوام عن طول الزمان
وثانيهما أنه إما أن يكون صرح بدوام شريعته فيدوم أو بانقطاعها فيلزم تواتره لكونه من الأمور العظام التي تتوفر الدواعي على نقلها ولم تتواتر أو سكت عن الدوام والانقطاع فيلزم أن لا يتكرر ولا يتقرر إلى أوان النسخ وقد تقرر والجواب أنه صرح بانقطاعها بالناسخ ولم يتواتر لعدم توفر الدواعي ولقلة الناقلين في بعض الطبقات إذ لم يبق من اليهود في زمان بخت نصر إلا أقل من القليل أو سكت وقد تقرر وتكرر بناء على تكرر الأسباب والمحال أو على أن الأصل في الثابت هو البقاء حتى يظهر دليل العدم قال المبحث الخامس يريد أنه مبعوث إلى الثقلين لا إلى العرب خاصة على ما زعم بعض اليهود والنصارى زعما منهم أن الاحتياج إلى النبي إنما كان للعرب خاصة دون أهل الكتابين ورد بما مر من احتياج الكل إلى من يجدد أمر الشريعة بل احتياج اليهود والنصارى أكثر لاختلال دينهم بالتحريفات وأنواع الضلالات مع ادعائهم أنه من عند الله تعالى والدليل على عموم بعثته وكونه خاتم النبيين لا نبي بعده ولا نسخ لشريعته هو أنه ادعى ذلك بحيث لا يحتمل التأويل وأظهر المعجزة على وفقه وأن كتابه المعجز قد شهد بذلك قطعا كقوله تعالى { وما أرسلناك إلا كافة للناس } { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } الآيات { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } { ليظهره على الدين كله } لا يقال ففي القرآن ما يدل على أن التوراة والإنجيل هدى للناس من غير تفرقة بين ما يوافق القرآن ويخالفه فيختص هداية القرآن وبعثة محمد عليه السلام بقومه الذين هم العرب على ما يشير إليه بقوله { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } لأنا نقول هما هدى للناس قبل نزول القرآن أو هدى لهم إلى الإيمان بمحمد عليه السلام والاتباع لشريعته لما فيهما من البشارة ببعثته والإنباء عن الاهتداء بمتابعته فإن قيل أليس عيسى عليه السلام حيا بعد نبينا رفع إلى
____________________
(2/191)
السماء وسينزل إلى الدنيا قلنا بلى ولكنه على شريعة نبينا لا يسعه إلا اتباعه على ما قال عليه السلام في حق موسى أنه لو كان حيا لما وسعه إلا اتباعي فيصح أنه خاتم الأنبياء بمعنى أنه لا يبعث نبي بعده وأجمع المسلمون على أن أفضل الأنبياء محمد لأن أمته خير الأمم لقوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } وتفضيل الأمة من حيث أنها أمة تفضيل للرسول الذي هم أمته ولأنه مبعوث إلى الثقلين وخاتم الأنبياء والرسل ومعجزته الظاهرة الباهرة باقية على وجه الزمان وشريعته ناسخة لجميع الأديان وشهادته قائمة في القيامة على كافة البشر إلى غير ذلك من خصايص لا تعد ولا تحصى وقوله تعالى { ورفع بعضهم درجات } إشارة إلى ذلك والأحاديث الصحاح في هذا المعنى كثيرة حتى قال عليه السلام أنا أكرم الأولين والآخرين على الله تعالى ولا فخر فما قال عليه السلام لا تخيروني على موسى وما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى تواضع منه واختلفوا في الأفضل بعده فقيل آدم لكونه أبا البشر وقيل نوح لطول عبادته ومجاهدته وقيل إبراهيم لزيادة توكله واطمئنانه وقيل موسى لكونه كليم الله ونجيه وقيل عيسى لكونه روح الله وصفيه وفضله النصارى على الكل بأنه كلمة القاها إلى مريم وروح منه طاهر مقدس لم يخلق من نطفة وقد ولدته سيدة نساء العالمين المطهرة عن الأدناس وتربى في حجر الأنبياء والأولياء وتكلم في المهد بعبودية نفسه وربوبية الله لم يخل زمانا من التوحيد والشرايع ولم يلتفت إلى زخارف الدنيا ولم يستمتع بلذاتها ولم يدخر قوت يوم ولم يسع في هلاك نفس أو سبيها أو استرقاقها ولا في أخذ مال ولا ولد ولا إيذاء لأحد معجزاته من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أبهر المعجزات وأشهرها ثم هو في السماء ومن زمرة الأحياء ونبوته مما اتفق عليها ذوو الآراء واعترف بها خاتم الأنبياء والجواب أن البعض من ذلك حجة لنا وشاهد بفضل نبينا كالولادة من المشركين والمشركات والتربي في حجرهم مع المواظبة على التوحيد والطاعات وكالإقبال على الجهاد وقمع المشركين وقهر أعداء الدين وكالقيام بمصالح نظام العالم مع الاستغراق في التوجه إلى جناب القدس وأما معجزاته فإنما اشتهر تلك الشهرة بإخبار من نبينا وكتابه مع ذلك فأين هي من معجزاته ثم الكون ميتا في الأرض أنفع للأمة من الكون حيا في السماء حيث صارت الروضة المقدسة مهبطا للبركات ومصعدا للدعوات وموطنا للاجتماع على الطاعات إلى غير ذلك من أنواع الخيرات ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم مما نطق به العجماء وشهد به رب الأرض والسماء واتفق عليه من سبقه من الأنبياء وخصائصه مما لا يضبطه العد والإحصاء وقد أشرقت الأرض بنورها إشراق الشمس في كبد السماء فصياح الخصماء نباح الكلام في الليلة القمراء قال خاتمة قد ثبت معراج النبي صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة إلا أن الخلاف في أنه في المنام أو في اليقظة وبالروح فقط أو بالجسد وإلى المسجد
____________________
(2/192)
الأقصى فقط أو إلى السماء والحق أنه في اليقظة بالجسد إلى المسجد الأقصى بشهادة الكتاب وإجماع القرن الثاني ومن بعدهم ثم إلى السماء بالأحاديث المشهورة والمنكر مبتدع ثم إلى الجنة أو العرش أو طرف العالم على اختلاف الآراء بخبر الواحد وقد اشتهر أنه نعت لقريش المسجد الأقصى على ما هو عليه وأخبرهم بحال غيرهم وكان على ما أخبر وبما رأى في السماء من العجائب وبما شاهد من أحوال الأنبياء على ما هو مذكور في كتب الأحاديث لنا أنه امر ممكن أخبر به الصادق ودليل الإمكان إما تماثل الأجسام فيجوز الخرق على السماء كالأرض وعروج الإنسان كغيره وإما عدم دليل الامتناع وأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال وأيضا لو كان دعوى النبي صلى الله عليه وسلم المعراج في المنام أو بالروح لما أنكره الكفرة غاية الإنكار ولم يرتد بعض من اسلم ترددا منه في صدق النبي عليه السلام تمسك المخالف بما روي عن عايشة رضي الله عنها أنها قالت والله ما فقدت جسد محمد رسول الله وعن معاوية أنها كانت رؤيا صالحة وأنت خبير بأنه على تقدير صحة روايته لا يصلح حجة في مقابلة ما ورد من الأحاديث وأقوال كبار الصحابة وإجماع القرون اللاحقة المبحث السادس في عصمة الأنبياء وقد سبق أن المعجزة تقتضي الصدق في دعوى النبوة وما يتعلق بها من التبليغ وشرعية الأحكام فما يتوهم صدوره عن الأنبياء من القبايح إما أن يكون منافيا لما يقتضيه المعجزة كالكذب فيما يتعلق بالتبليغ أولا والثاني إما أن يكون كفرا أو معصية غيره وهي إما أن تكون كبيرة كالقتل والزنا أو صغيرة منفرة كسرقة لقمة والتطفيف بحبة أو غير منفرة ككذبة وهم بمعصية كل ذلك إما عمدا أو سهوا وبعد البعثة أو قبلها والجمهور على وجوب عصمتهم عما ينافي مقتضى المعجزة وقد جوزه القاضي سهوا زعما منه أنه لا يدخل في التصديق المقصود بالمعجزة وعن الكفر وقد جوزه الأزارقة من الخوارج بناء على تجويزهم الذنب مع قولهم بأن كل ذنب كفر وجوز الشيعة إظهاره تقية واحترازا عن إلقاء النفس في التهلكة ورد بأن أولى الأوقات بالتقية إبداع الدعوة لضعف الداعي وشوكة المخالف وكذا عن تعمد الكبائر بعد البعثة فعندنا سمعا وعند المعتزلة عقلا وجوزه الحشوية إما لعدم دليل الامتناع وإما لما سيجيء من شبه الوقوع وكذا عن الصغائر المنفرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتباع ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة ايضا وبعض الشيعة إلى نفي الصغاير ولو سهوا والمذهب عندنا منع الكبائر بعد البعثة مطلقا والصغاير عمدا لا سهوا لكن لا يصرون ولا يقرون بل ينبهون فيتنبهون وذهب إمام الحرمين منا وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغاير عمدا لنا أنه لو صدر عنهم الذنب لزم أمور كلها منتفية
الأول حرمة اتباعهم لكنه واجب بالإجماع وبقوله تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }
الثاني رد شهادتهم لقوله تعالى { إن جاءكم فاسق } الآية والإجماع على ذلك لكنه منتف للقطع بأن من يرد شهادته في القليل من متاع الدنيا لا يستحق القبول
____________________
(2/193)
في أمر الدين القائم إلى يوم الدين
الثالث وجوب منعهم وزجرهم لعموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكنه منتف لاستلزامه إيذائهم المحرم بالإجماع ولقوله تعالى { إن الذين يؤذون الله ورسوله } الآية
الرابع استحقاقهم العذاب والطعن واللوم والذم لدخولهم تحت قوله تعالى { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم } وقوله { ألا لعنة الله على الظالمين } وقوله { لم تقولون ما لا تفعلون } وقوله { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } لكن ذلك منتف بالإجماع ولكونه من أعظم المنفرات
الخامس عدم نيلهم عهد النبوة ولقوله تعالى { لا ينال عهدي الظالمين } فإن المراد به النبوة أو الإمامة التي دونها
السادس كونهم غير مخلصين لأن المذنب قد أغواه الشيطان والمخلص ليس كذلك لقوله تعالى حكاية { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } لكن اللازم منتف بالإجماع وبقوله تعالى في إبراهيم ويعقوب { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } وفي يوسف { إنه من عبادنا المخلصين }
السابع كونهم من حزب الشيطان ومتبعيه واللازم قطعي البطلان
الثامن عدم كونهم مسارعين في الخيرات ومعدودين عند الله من المصطفين الأخيار إذ لا خير في الذنب لكن اللازم منتف لقوله تعالى في حق بعضهم { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } { وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } وحصول المطلوب من هذه الوجوه محل بحث لأن وجوب الاتباع إنما هو فيما يتعلق بالشريعة وتبليغ الأحكام وبالجملة فيما ليس بزلة ولا طبع واستحقاق العذاب ورد الشهادة إنما يكون بكبيرة أو إصرار على صغيرة من غير إنابة ورجوع ولزوم الزجر والمنع واستحقاق العذاب واللوم إنما هو على تقدير التعمد وعدم الإنابة ومع ذلك فلا يتأذى به النبي بل يبتهج بمجرد كبيرة سهوا أو صغيرة ولو عمدا لا يعد المرء من الظالمين على الإطلاق ولا من الذين أغواهم الشيطان ولا من حزب الشيطان سيما مع الإنابة وعلى تقدير كون الخيرات لعموم كل فعل وترك فمسارعة البعض إليها أو كونه من زمرة الأخيار لا ينافي صدور ذنب عن آخر سيما سهوا أو مع التوبة وبالجملة فدلالة الوجوه المذكورة على نفي الكبيرة سهوا أو لصغيرة الغير المنفر عمدا على ما هو المتنازع محل نظر احتج المخالف بما نقل من أقاصيص الأنبياء وما شهد به كتاب الله من نسبة المعصية والذنب إليهم ومن توبتهم واستغفارهم وأمثال ذلك والجواب عنه إما إجمالا فهو أن ما نقل آحادا مردود وما نقل متواترا أو منصوصا في الكتاب محمول على السهو والنسيان أو ترك الأولى أو كونه قبل البعثة أو غير ذلك من المحامل والتأويلات وإما تفصيلا فمذكور في التفاسير وفي الكتب المصنفة في هذا الباب أما في قصة آدم عليه السلام فأمران
أحدهما ما ورد في التنزيل من أنه عصى وغوى وأزله الشيطان وخالف النهي عن أكل الشجرة واعترف بظلمه نفسه وعوتب قولا وفعلا بقوله تعالى { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } وبنزع اللباس والإخراج من الجنة ثم تاب الله تعالى عليه واجتباه والجواب أنه كان قبل البعثة كيف ولم تكن له في الجنة
____________________
(2/194)
أمة وكان عن نسيان لقوله تعالى { فنسي ولم نجد له عزما } أو كان زلة وسهوا حيث ظن أن المنهي شجرة بعينها وقد قرب فردا آخر من جنسها وإنما عوتب لترك التيقظ والتنبه لإصابة المراد وقد يعتذر بأنه وإن كان عمدا لكن لم يكن إلا صغيرة وهذا هو الظاهر إلا أن فيه تسليما للمدعي
وثانيهما قوله تعالى { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } إلى قوله { جعلا له شركاء فيما آتاهما } ولم يقل أحد في حق الأنبياء بالشرك في الألوهية ولو قبل البعثة فالوجه أنه على حذف المضاف أي جعل أولادهما له شركاء بدليل قوله تعالى { فتعالى الله عما يشركون } أو المراد ما وقع له من الميل إلى طاعة الشيطان وقبول وسوسته أو الخطاب لقريش والنفس الواحدة قصي ومعنى جعل منها زوجها جعلها من جنسها عربية قرشية وإشراكهما فيما آتاهما الله تسمية أولادهما بعبدمناف وعبدالعزى وعبدالدار ونحو ذلك وأما الشبهة في حق نوح عليه السلام فهو أن قوله تعالى { يا نوح إنه ليس من أهلك } تكذيب له في قوله إن ابني من أهلي والجواب أنه ليس للتكذيب بل للتنبيه على أن المراد بالأهل في الوعد هو الأهل الصالح أو المعنى أنه ليس من أهل دينك أو أنه أجنبي منك وإن أضفته إلى نفسك بأبنائك لما روي من أنه كان ابن امرأته والأجنبي إنما يعد من آل النبي إذا كان له عمل صالح وأما بالشبهة في حق إبراهيم عليه السلام فهو أنه كذب في قوله تعالى { هذا ربي } و { بل فعله كبيرهم } و { إني سقيم } والجواب أن الأول على سبيل الفرض والتقدير كما يوضع الحكم الذي يراد إبطاله أو على الاستفهام أو على أنه كان في مقام النظر والاستدلال وذلك قبل البعثة والثاني على التعريض والاستهزاء والثالث على أن به مرض الهم والحزن من عنادهم أو الحمى على ما قيل وأما الشبهة في قصة يوسف من جهة يعقوب عليهما السلام الإفراط في المحبة والحزن والبكاء والجواب أنه لا معصية في ميل النفس سيما إلى من يلوح عيه آثار الخير والصلاح وأنواع الكمال ولا في بث الشكوى والحزن إلى الله تعالى في مصائب يكون من جهة العباد سيما إن قيل أنه كان من خوف أن يموت يوسف عليه السلام على غير دين الإسلام ومن جهة الإخوة ما فعلوا بيوسف وما قالوا من الكذب والجواب أنهم لم يكونوا أنبياء ومن جهة يوسف الهم المشار إليه بقوله تعالى { ولقد همت به وهم بها } { جعل السقاية في رحل أخيه } والرضاء بسجود إخوته وأبويه له والجواب أن ذلك قبل البعثة أو المراد وهم بها لولا أن رأى برهان ربه على أن يكون الجواب المحذوف ما دل عليه الكلام السابق ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه لخالطها أو المراد الميلان المذكور في الطبيعة البشرية لا الهم بالمعصية والقصد إليها أو هو من باب المشارفة أي شارف أن يهم بها وبالجملة فلا دلالة ههنا على العزم والقصد إلى المعصية فضلا عما يذكره الخشوية من الخشويات ولهذا ورد في هذا المقام من الثناء على يوسف ما ورد من غير أن تقع عليه زلة أو يذكر له استغفار وتوبة وأما جعل السقاية في رحل أخيه فقد كان بإذنه ورضاه
____________________
(2/195)
بل بإذن الله تعالى ونسبة السرقة إلى الإخوة تورية عما كانوا فعلوا يوسف مما يجري مجرى السرقة أو هو قول المؤذن والسجدة كانت عندهم تحية وتكرمة كالقيام والمصافحة أو كانت مجرد انحناء وتواضع لا وضع جبهة وأما في قصة موسى فقتل القبطي وتوبته عنه واعترافه لكونه من عمل الشيطان فمحمول على أنه كان خطأ وقبل البعثة وإذنه للسحرة في إظهار السحر بقوله { ألقوا ما أنتم ملقون } ليس رضاء به بل الغرض إظهار إبطاله أو إظهار معجزته ولا يتم إلا به وقيل لم يكن حراما حينئذ وإلقاء الألواح كان عن دهشة وتخير لشدة غضبه والأخذ برأس هارون وجره إليه لم يكن على سبيل الإيذاء بل كان يدنيه إلى نفسه ليتفحص منه حقيقة الحال فخاف هارون أن يحمله بنوا إسرائيل على الإيذاء ويفضي إلى شماتة الأعداء فلم يثبت بذلك ذنب له ولا لهرون فإنه كان ينهاهم عن عبادة العجل وقوله للخضر { لقد جئت شيئا نكرا } أي عجبا وما فعله الخضر كان بإذن الله تعالى وأما في قصة داود عليه السلام فلم يثبت سوى أنه خطب امرأة كان خطبها أوريا فزوجها أولياؤها داود دون أوريا أو سأل أن ينزل عنها فيطلقها وكان ذلك عادة في عهده فكان زلة منه لاستغنائه بتسعة وتسعين والخصمان كانا ملكين أرسلهما الله تعالى إليه لينبهاه فلما تنبه استغفر ربه وخر راكعا وأناب وسياق الآيات يدل على كرامته عند الله تعالى ونزاهته عما ينسبه إليه الحشوية إلا أنه بالغ في التضرع والتحزن والبكاء والاستغفار استعظاما للزلة بالنظر إلى ما له من رفيع المنزلة وتقرير الملكين تمثيل وتصوير للقصة لا إخبار بمضمون الكلام ليلزم الكذب ويحتاج إلى ما قيل أن المتخاصمين كانا لصين دخلا عليه للسرقة فلما رآهما اخترعا الدعوى أو كانا راعيي غنم ظلم أحدهما الآخر والكلام على حقيقته وأما في قصة سليمان فأمور أحدها ما أشير إليه بقوله { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد } الخ وذلك أنه اشتغل باستعراض الأفراس حتى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن ورد كان له وقت العشي فاغتم لذلك واسترد الأفراس فعقرها والجواب أن ذلك كان على سبيل السهو والنسيان وعقر الجياد وضرب أعناقها كان لإظهار الندم وقصد التقرب إلى الله تعالى والتصدق على الفقراء من أحب ماله على أن من المفسرين من قال المراد حبه للجهاد وإعلاء كلمة الله وضمير توارت للجياد لا للشمس وإنما طفق مسحا بالسوق والأعناق تشريفا لها أو امتحانا أو إظهارا لإصلاح آلة الجهاد بنفسه وثانيها ما أشير إليه بقوله { ولقد فتنا سليمان } الآية فإن كان ذلك ما روي أنه ولد له ابن فكان يغذوه في السحابة خوفا من أن تقتله الشياطين أو تخبله مما راعه إلى أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبه لخطائه في ترك التوكل فاستغفر وأناب فهذا مما لا بأس به وغايته ترك الأولى وليس في التحفظ ومباشرة الأسباب ترك الامتثال لأمر التوكل على ما قال عليه السلام اعقلها وتوكل وكذا ما روي أنه قال لأطوفن الليلة على سبعين امرأة
____________________
(2/196)
كل واحدة تأتي بفارس مجاهد في سبيل الله ولم يقل إنشاء الله فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد له عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة فألقته القابلة على كرسيه وأما ما روي عن حديث الحاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيته وجلوس الشيطان على كرسيه فعلى تقدير صحته يجوز أن يكون اتخاذ التماثيل غير محرم في شريعته وعبادة التماثيل في بيته غير معلوم له وثالثها ما يشعر به قوله تعالى { وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } من الحسد وعدم إرادة الخير للغير والجواب أن ذلك لم يكن حسدا بل طلبا للمعجزة على وفق ما غلب في زمانه ولاق بحاله فإنهم كانوا يفتخرون في ذلك العهد بالملك والجاه وهو كان ناشيا في بيت الملك والنبوة ووارثا لهما أو إظهارا لإمكان طاعة الله وعبادته مع هذا الملك العظيم وقيل أراد ملكا لا يورث مني وهو ملك الدين لا الدنيا أو ملكا لا أسلبه ولا يقوم فيه غيري مقامي كما وقع ذلك مرة وقيل ملكا خفيا لا ينبغي للناس وهي القناعة وقيل كان ملكه عظيما فخاف أن لا يقوم غيره بشكره ولا يحافظ فيه على حدود الله وأما في قصة يونس مما يشعر به قوله تعالى { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه } فالجواب أن المغاضبة على الكفار المعاندين لا على الله تعالى ومعنى أن لن نقدر لن نضيق عليه كما في قوله تعالى { فقدر عليه رزقه } فلا يوجب شكا في القدرة ومعنى الظلم في قوله { إني كنت من الظالمين } ترك الأفضل وهو الصبر وهذا معنى قوله تعالى { ولا تكن كصاحب الحوت } أي في ترك الصبر على معاندة الكفار وأما في حق نبينا فمثل { واستغفر لذنبك } و { لقد تاب الله على النبي } و { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك } فمحمول على ما فرط منه من الزلة وترك الأفضل وقوله تعالى { ووجدك ضالا فهدى } معناه فقدان الشرايع والأحكام وقيل أنه ضل في صباه في بعض شعاب مكة فرده أبو جهل إلى عبدالمطلب وقيل ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب وبالجملة لا دلالة على العصيان والميل عن طريق الحق ولذا قال { ما ضل صاحبكم وما غوى } وقوله { ووضعنا عنك وزرك } مثل لما كان يثقل عليه ويغمه من فرطاته قبل النبوة أو من جهله بالشرايع والأحكام أو من تهالكه على إسلام أولي العناد وتلهفه وقوله { عفا الله عنك لم أذنت لهم } تلطف في الخطاب وعتاب على ترك الأفضل وإرشاد إلى الاحتياط في تدبير الخيرات وقوله { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } إلى قوله { لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } عتاب على ترك الأفضل وهو أن لا يرضى باختيار الصحابة الفداء وكذا الكلام في قوله { لم تحرم ما أحل الله لك } وقوله تعالى { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } وما روي من أنه قرأ بعد قوله { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } / < تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى > / فلما أخبره جبرئيل بما وقع منه حزن وخاف خوفا شديدا فنزل قوله تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } تسلية له فالجواب أنه كان من إلقاء الشيطان لا تعمدا منه وقيل بل
____________________
(2/197)
الغرانيق هي الملائكة وكان هذا قرآنا فنسخ وقيل معنى تمني النبي حديث النفس وكان الشيطان يوسوس إليه غير الهدى فينسخ الله وساوسه من نفسه ويهديه إلى الصواب وقوله { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } عتاب على أنه أخفى في نفسه عزيمة تزوج زينب عند تطليق زيد إياها خوفا من طعن المنافقين ولا خفاء في أن إخفاء أمر دنيوي خوفا من طعن أعداء الدين ليس من الصغاير فضلا عن الكباير بل غايته زلة وترك الأولى وكذا ميلان القلب لزينب وأما مثل قوله { يا أيها النبي اتق الله } { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } { فلا تكونن من الممترين } { لئن أشركت ليحبطن عملك } { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب } والجواب أن الأمر لا يقتضي سابقا تركه ولا النهي سابقة فعله ولا الشرط وقوع مضمونه وبالجملة فمسئلة جواز الصغيرة عمدا على الأنبياء في معرض الاجتهاد لا قاطع فيها لا نفيا ولا إثباتا فإن قيل ما بال زلة الأنبياء حكيت بحيث تقرأ بأعلى الصوت على وجه الزمان مع أن الله غفار ستار وقد أمرنا بالستر على من ارتكب ذنبا قلنا ليدل على صدق الأنبياء وكون ما يبلغون الشيء بأمر من الله من غير إخفاء لشيء أو ليكون امتحانا للأمم كيف يفعلون بأنبيائهم بعد الاطلاع على زلالتهم وليعلموا أن الأنبياء مع جلالة قدرهم وكثرة طاعاتهم كيف التجؤا إلى التضرع والاستغفار في أدنى زلة وأن الصغيرة ليست مما يقدح في الولاية والإيمان البتة أو تقع مكفرة لا محالة بحيث لا عتاب عليها ولا عقاب قال خاتمة من شروط النبوة الذكورة وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي ولو في الصبي كعيسى ويحيى عليهما السلام والسلامة عن كل ما ينفر عنه كزنا الآباء وعهر الأمهات والغلظة والفظاظة والعيوب المنفرة كالبرص والجذام ونحو ذلك والأمور المخلة بالمروءة كالأكل على الطريق والحرف الدنيئة كالحجامة وكل ما يخل بحكم البعثة من أداء الشرايع وقبول الأمة قال وقد ورد يعني قد ذكر في بعض الأحاديث بيان عدد الأنبياء والرسل على ما روي عن أبي ذر الغفاري أنه قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كم الأنبياء فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا فقلت وكم الرسل فقال ثلثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا لكن ذكر بعض العلماء أن الأولى أن لا يقتصر عددهم لأن خبر الواحد على تقدير اشتماله على جميع الشرائط لا يفيد إلا الظن ولا يعتبر إلا في العمليات دون الاعتقادات وههنا حصر عددهم يخالف ظاهر قوله تعالى { منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص } ويحتمل أيضا مخالفة الواقع وإثبات نبوة من ليس بنبي إن كان عددهم في الواقع أقل مما ذكر ونفي النبوة عمن هو نبي إن كان أكثر فالأولى عدم التنصيص على عدد قال المبحث السابع جمهور المسلمين على
____________________
(2/198)
أن الملائكة أجسام لطيفة تظهر في صور مختلفة وتقوى على أفعال شاقة هم عباد مكرمون يواظبون على الطاعة والعبادة ولا يوصفون بالذكورة والأنوثة واستقر الخلاف بين المسلمين في عصمتهم وفي فضلهم على الأنبياء ولا قاطع في أحد الجانبين فلنذكر تمسكات الفريقين في المقامين المقام الأول أعني العصمة فتمسك المثبتون بمثل قوله تعالى { وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } وقوله تعالى { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } إلى قوله { وهم من خشيته مشفقون } وقوله تعالى { لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون } ولا خفاء في أن أمثال هذه العمومات تفيد الظن وإن لم تفد اليقين وما يقال أنه لا عبرة بالظنيات في باب الاعتقادات فإن أريد أنه لا يحصل منه الاعتقاد الجازم ولا يصح الحكم القطعي فلا نزاع فيه وإن أريد أنه لا يحصل الظن بذلك الحكم فظاهر البطلان تمسك النافون بوجوه
الأول أن إبليس مع كونه من الملائكة بدليل تناول أمر الملائكة بالسجود في قوله تعالى { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } إياه ولذا عوتب بقوله تعالى { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } وبدليل صحة استثنائه منهم في قوله تعالى { فسجدوا إلا إبليس } وقوله تعالى { فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين } ورد بالمنع بل { كان من الجن ففسق عن أمر ربه } وإنما درج في الملائكة على سبيل التغليب لكونه جنيا واحدا مغمورا فيما بينهم لا يقال معنى قوله كان من الجن صار أو كان من طائفة من الملائكة مسماة بالجن شأنهم الاستكبار لأنا نقول هذا مع كونه كلاما على السند خلاف الظاهر
الثاني أن قولهم في جواب { إني جاعل في الأرض خليفة } { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } اغتياب للخليفة واستبعاد لفعل الله تعالى بحيث يشبه صورة الإنكار بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون واتباع للظن ورجم بالغيب فيما لا يليق وإعجاب بأنفسهم وتزكية لها وأمثال هذه تخل بالعصمة لا محالة والجواب أن الاغتياب إنما يكون حيث الغرض إظهار منقصة الغير والتزكية حيث الغرض إظهار منقبة النفس ولا يتصور ذلك بالنسبة إلى علام الغيوب بل الغرض التعجب والاستفسار عن حكمة استخلاف من ينصف بما لا يليق بذلك مع وجود الأولى والأليق وإنما علموا ذلك بإعلام من الله تعالى أو مشاهدة من اللوح أو مقايسة بين الجن والإنس بمشاركتهما في الشهوة والغضب المفضيين إلى الفساد وسفك الدماء لا يقال قوله تعالى { أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } أي في أني أستخلف من يتصف بما ذكرتم ينافي كون ذلك متحققا معلوما لهم بإعلام من الله تعالى أو إخبار أو بمشاهدة من اللوح لأنا نقول المعنى إن كنتم صادقين في أني أستخلف من يتصف بذلك من غير حكم ومصالح
____________________
(2/199)
وصفات تلائم الاستخلاف إذ التعجب إنما يكون عند ذلك ولذا قال في الرد عليهم { إني أعلم ما لا تعلمون } إشارة إلى تلك الحكم والمصالح لا يقال ففيه دلالة على نفي العصمة بإثبات الكذب في الجملة لأنا نقول هذا القدر من الخطأ والسهو لاينافي العصمة ولا يوجب المعصية
الثالث قصة هاروت وماروت ملكين ببابل يعذبان لارتكابهما السحر والجواب منع ارتكابهما العمل بالسحر واعتقاد تأثيره بل انزل الله تعالى عليهما السحر ابتلاء للناس فمن تعلمه وعمل به فكافر ومن تجنبه أو تعلمه ليتوقاه ولا يغتر به فهو مؤمن وهما كانا يعظان الناس ويقولان إنما نحن فتنة للناس وابتلاء فلا تكفروا أي لا تعتقدوا ولا تعملوا فإن ذلك كفر وتعذيبهما إنما هو على وجه المعاتبة كما تعاتب الأنبياء على السهو والزلة من غير ارتكاب منهما لكبيرة فضلا عن كفر واعتقاد سحر أو عمل به واليهود هم الذين يدعون أن الواحد من الملك قد يرتكب الكبيرة فيعاقبه الله بالمسخ وأما المقام الثاني فذهب جمهور أصحابنا والشيعة إلى أن الأنبياء أفضل من الملائكة خلافا للمعتزلة والقاضي وأبي عبدالله الحليمي منا وصرح بعض أصحابنا بأن عوام البشر من المؤمنين أفضل من عوام الملائكة وخواص الملائكة أفضل من عوام البشر أي غير الأنبياء لنا وجوه نقلية وعقلية
الأول أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم والحكيم لا يأمر بسجود الأفضل للأدنى وإباء إبليس واستكباره والتعليل بأنه خير من آدم لكونه من نار وآدم من طين يدل على أن المأمور به كان سجود تكرمة وتعظيم لا سجود تحية وزيارة ولا سجود الأعلى للأدنى إعظاما له ورفعا له لمنزلته وهضما لنفوس الساجدين
الثاني أن آدم أنبأهم بالأسماء وبما علم الله من الخصائص والمعلم أفضل من المتعلم وسوق الآية ينادي على أن الغرض إظهار ما خفي عليهم من أفضلية آدم ودفع ما توهموا فيه من النقصان ولذا قال الله تعالى { ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض } وبهذا يندفع ما يقال أن لهم أيضا علوما جمة أضعاف العلم بالأسماء لما شاهدوا من اللوح وحصلوا في الأزمنة المتطاولة بالتجارب والأنظار المتوالية
الثالث قوله تعالى { إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } ) وقد خص من آل إبراهيم وآل عمران غير الأنبياء بدليل الإجماع فيكون آدم ونوح وجميع الأنبياء مصطفين على العالمين الذين منهم الملائكة إذ لا مخصص للملائكة عن العالمين ولا جهة لتفسيره بالكثير من المخلوقات
الرابع أن للبشر شواغل عن الطاعات العلمية والعملية كالشهوة والغضب وسائر الحاجات الشاغلة والموانع الخارجة والداخلة فالمواظبة على العبادات وتحصيل الكمالات بالقهر والغلبة على ما يضاد القوة العاقلة يكون أشق وأفضل وأبلغ في استحقاق الثواب ولا معنى للأفضلية سوى زيادة استحقاق الثواب والكرامة لا يقال لو سلم انتفاء الشهوة والغضب وسائر الشواغل في حق الملائكة فالعبادة مع كثرة المتاعب والشواغل إنما تكون أشق
____________________
(2/200)
وأفضل من الأخرى إذا استويا في المقدار وباقي الصفات وعبادة الملائكة أكثر وأدوم فإنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون والإخلاص الذي به القوام والنظام واليقين الذي هو الأساس والتقوى التي هي الثمرة فيهم أقوى وأقوم لأن طريقهم العيان لا البيان والمشاهدة لا المراسلة لأنا نقول انتفاء الشواغل في حقهم مما لم ينازع فيه أحد ووجود المشقة والألم في العبادة والعمل عند عدم المنافي والمضاد مما لا يعقل قلت أو كثرت وكون باقي الصفات في حق الأنبياء أضعف وأدنى مما لا يسمع ولا يقبل وقد يتمسك بأن للملائكة عقلا بلا شهوة وللبهائم شهوة بلا عقل وللإنسان كليهما فإذا ترجح شهوته على عقله يكون أدنى من البهائم لقوله تعالى { بل هم أضل } فإذا ترجح عقله على شهوته يجب أن يكون أعلى من الملائكة وهذا عائد إلى ما سبق لأن تمام تقريره هو أن الكافر آثر النقصان مع التمكن من الكمال وكل من فعل كذا فهو أضل وأرذل ممن آثره بدونه لأن إيثار الشيء مع وجود المضاد والمنافي أرجح وأبلغ من إيثاره بدونه فيلزم أن يكون من آثر الكمال مع التمكن من النقصان أفضل وأكمل ممن آثره بدونه وأما التمسك بقوله تعالى { ولقد كرمنا بني آدم } والتكريم المطلق لأحد الأجناس يشعر بفضله على غيره فضعيف لأن التكريم المطلق لا يوجب التفضيل سيما مع قوله تعالى { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } فإنه يشعر بعدم التفضيل على القليل وليس غيرالملائكة بالإجماع كيف وقد وصف الملائكة أيضا بأنهم عباد مكرمون قال وتمسك المخالفون أيضا بوجوه نقلية وعقلية أما النقليات فمنها قوله تعالى { ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } خصصهم بالتواضع وترك الاستكبار في السجود وفيه إشارة إلى أن غيرهم ليس كذلك وأن أسباب التكبر والتعظم حاصلة لهم ووصفهم باستمرار الخوف وامتثال الأوامر ومن جملتها اجتناب المنهيات ومنها قوله تعالى { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون } ووصفهم بالقرب والشرف عنده وبالتواضع والمواظبة على الطاعة والتسبيح ومنها قوله تعالى { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } إلى أن قال { وهم من خشيته مشفقون } وخصهم بالكرامة المطلقة والامتثال والخشية وهذه الأمور أساس كافة الخيرات والجواب أن جميع ذلك إنما يدل على فضيلتهم لا أفضليتهم (1)
____________________
1- سيما على الأنبياء ومنها قوله تعالى { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني } فإن مثل هذا الكلام إنما يحسن إذا كان الملك أفضل والجواب أنه إنما قال ذلك حين استعجله قريش العذاب الذي أوعدوا به بقوله تعالى { والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون } والمعنى أني لست بملك حتى يكون لي القوة والقدرة على إنزال العذاب بإذن الله كما كان لجبرائيل عليه السلام أو يكون لي العلم بذلك بإخبار من الله بلا واسطة ومنها قوله تعالى { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين } أي إلا كراهة أن تكونا ملكين يعني أن الملكية بالمرتبة العليا وفي الأكل من الشجرة ارتقاء إليها والجواب أن ذلك تمويه من الشيطان وتخييل أن ما يشاهد في الملك من حسن الصور وعظم الخلق وكمال القوة يحصل بأكل الشجرة ولو سلم فغاية التفضيل على آدم عليه السلام قبل النبوة ومنها قوله تعالى { علمه شديد القوى } يعني جبرئيل عليه السلام والمعلم أفضل من المتعلم والجواب إن ذلك بطريق التبليغ وإنما لتعليم من الله تعالى ومنها قوله تعالى { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } أي لا يترفع عيسى في العبودية ولا من هو أرفع منه درجة كقولك لن يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان ولو عكست أحلت بشهادة علماء البيان والبصراء بأساليب الكلام وعليه قوله تعالى { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى } أي مع أنهم أقرب مودة لأهل الإسلام ولهذا خص الملائكة بالمقربين منهم لكونهم أفضل والجواب أن الكلام سبق لرد مقالة النصارى وغيرهم في المسيح وادعائهم فيه مع النبوة البنوة بل الألوهية والترفع عن العبودية لكونه روح الله ولد بلا أب ولكونه يبرىء الأكمه والأبرص والمعنى لا يترفع عيسى عن العبودية ولا من هو فوقه في هذا المعنى وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم ويقدرون على مالا يقدر عليه عيسى عليه السلام ولا دلالة على الأفضلية بمعنى كثرة الثواب وسائر الكمالات ألا يرى أن فيما ذكرت من المثال لم يقصد الزيادة والرفعة في الفضل والشرف والكمال بل فيما هو مظنة الاستنكاف والرضا كالغلبة والاستكبار والاستعلاء في السلطان وقرب المودة في النصارى ومنها اطراد تقديم ذكر الملائكة على ذكرالأنبياء والرسل ولا يعقل له جهة سوى الأفضلية والجواب أنه يجوز أن يكون بجهة تقدمهم في الوجود أو في قوة الإيمان بهم والاهتمام به لأنهم أخفى فالإيمان بهم أقوى وبالتحريض عليه أحرى وأما العقليات فمنها أن الملائكة روحانيات مجردة في ذواتها متعلقة بالهياكل العلوية مبرأة عن ظلمة المادة وعن الشهوة والغضب اللذين هما مبدأ الشرور والقبائح متصفة بالكمالات العلمية والعملية بالعقل من غير شوائب الجهل والنقص والخروج من القوة إلى الفعل على التدريج ومن احتمال الغلط قوية على الأفعال العجيبة وإحداث السحب والزلازل وأمثال ذلك مطلعة على أسرار الغيب سابقة إلى أنواع الخير ولا كذلك حال البشر والجواب أن مبنى ذلك على قواعد الفلسفة دون الملة ومنها أن أعمالهم المستوجبة للمثوبات أكثر لطول زمانه
(2/201)
وأدوم لعدم تخلل الشواغل وأقوم لسلامتها عن مخالطة المعاصي المنقصة للثواب وعلومهم أكمل وأكثر لكونهم نورانيين روحانيين يشاهدون اللوح المحفوظ المنتقش بالكائنات وأسرار المغيبات والجواب أن هذا لا يمنع كون أعمال الأنبياء وعلومهم أفضل وأكثر ثوابا لجهات آخر كقهر المضاد والمنافي وتحمل المتاعب والمشاق ونحو ذلك على ما مر قال المبحث الثامن الولي هو العارف بالله تعالى وصفاته المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات وكرامته ظهور أمر خارق للعادة من قبله غير مقارن لدعوى النبوة وبهذا يمتاز عن المعجزة وبمقارنة الاعتقاد والعمل الصالح والتزام متابعة النبي عن الاستدراج وعن مؤكدات تكذيب الكذابين كما روي أن مسيلمة دعا لأعور أن تصير عينه العوراء صحيحة فصارت عينه الصحيحة عوراء ويسمى هذا إهانة وقد تظهر الخوارق من قبل عوام المسلمين تخليصا لهم من المحن والمكاره وتسمى معونة فلذا قالوا أن الخوارق أنواع أربعة معجزة وكرامة ومعونة وإهانة وذهب جمهور المسلمين إلى جواز كرامة الأولياء ومنعه أكثر المعتزلة والأستاذ أبو إسحق يميل إلى قريب من مذهبهم كذا قال إمام الحرمين ثم المجوزون ذهب بعضهم إلى امتناع كون الكرامة بقصد واختيار من الولي وبعضهم إلى امتناع كونها على قضية الدعوى حتى لو ادعى الولي الولاية واعتقد بخوارق العادات لم يجز ولم يقع بل ربما يسقط عن مرتبة الولاية وبعضهم إلى امتناع كونها من جنس ما وقع معجزة لنبي كانفلاق البحر وانقلاب العصا وإحياء الموتى قالوا وبهذه الجهات تمتاز عن المعجزات وقال الإمام هذه الطرق غير سديدة والمرضى عندنا تجويز جملة خوارق العادات في معرض الكرامات وإنما تمتاز عن المعجزات بخلوها عن دعوى النبوة حتى لو ادعى الولي النبوة صار عدوا لله لا يستحق الكرامة بل اللعنة والإهانة فإن قيل هذ الجواز مناف للإعجاز إذ من شرطه عدم تمكن الغير من الإتيان بالمثل بل مفض إلى تكذيب النبي حيث يدعى عند التحدي أنه لا يأتي أحد بمثل ما أتيت به قلنا المنافي هو الإتيان بالمثل على سبيل المعارضة ودعوى النبي أنه لا يأتي بمثل ما أتيت به أحد من المتحدين لا أنه لا يظهر مثله كرامة لولي أو معجزة لنبي آخر نعم قد يرد في بعض المعجزات نص قاطع على أن أحدا لا يأتي بمثله أصلا كالقرآن وهو لا ينافي الحكم بأن كل ما وقع معجزة لنبي يجوز أن يقع كرامة لولي لنا على الجواز ما مر في المعجزة من إمكان الأمر في نفسه وشمول قدرة الله تعالى وذلك كالملك يصدق رسوله ببعض ما ليس من عادته ثم يفعل مثل ذلك إكراما لبعض أوليائه وعلى الوقوع وجهان
الأول ما ثبت بالنص من قصة مريم عند ولادة عيسى عليه السلام وأنه كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزما قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله وقصة أصحاب الكهف ونومهم في الكهف سنين بلا طعام وشراب وقصة آصف وإتيانه بعرش
____________________
(2/203)
بلقيس قبل ارتداد الطرف فإن قيل كان الأول إرهاصا لنبوة عيسى أو معجزة لزكريا والثاني لمن كان نبيا في زمن أصحاب الكهف والثالث لسليمان صلى الله عليه وسلم قلنا سياق القصص يدل على أن ذلك لم يكن لقصد تصديقهم في دعوى النبوة بل لم يكن لزكريا علم بذلك ولذا سأل ونحن لا ندعي إلا جواز ظهور الخوارق من بعض الصالحين غير مقرونة بدعوى النبوة ولا مسوقة لقصد تصديق نبي ولا يضرنا تسميته إرهاصا أو معجزة لنبي هو من أمته على أن ما ذكرتم يرد على كثير من معجزات الأنبياء لجواز أن يكون معجزة لنبي آخر
والثاني ما تواتر معناه وإن كانت التفاصيل آحادا من كرامات الصحابة والتابعين ومن أبعدهم من الصالحين كرؤية عمر رضي الله عنه على المنبر جيشه بنهاوند حتى قال يا سارية الجبل الجبل وسمع سارية ذلك وكشرب خالد رضي الله تعالى عنه السم من غير أن يضر به وإما من علي رضي الله تعالى عنه فأكثر من أن تحصى وبالجملة وظهور كرامات الأولياء يكاد يلحق بظهور معجزات الأنبياء وإنكارها ليس بعجيب من أهل البدع والأهواء إذ لم يشاهدوا ذلك من أنفسهم قط ولم يسمعوا به من رؤسائهم الذين يزعمون أنهم على شيء مع اجتهادهم في أمور العبادات واجتناب السيئات فوقعوا في أولياء الله تعالى أصحاب الكرامات يمزقون أديمهم ويمضغون لحومهم لا يسمونهم إلا باسم الجهلة المتصوفة ولا يعدونهم إلا في عداد آحاد المبتدعة قاعدين تحت المثل السائر أوسعتهم سبا وأوردوا بالإبل ولم يعرفوا أن مبنى هذا الأمر على صفاء العقيدة ونقاء السريرة واقتفاء الطريقة واصطفاء الحقيقة وإنما العجب من بعض فقهاء أهل السنة حيث قال فيما روي عن إبراهيم بن أدهم أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية وفي ذلك اليوم بمكة أن من اعتقد جواز ذلك يكفر والإنصاف ما ذكره الإمام النسفي حين سئل عما يحكى أن الكعبة كانت تزور واحدا من الأولياء هل يجوز القول به فقال نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة وللمخالف وجوه
الأول وهو العمدة أنه لو ظهرت الخوارق من الولي لالتبس النبي بغيره إذ الفارق هو المعجزة ورد بما مر من الفرق بين المعجزة والكرامة
الثاني أنها لو ظهرت لكثرت كثرة الأولياء وخرجت عن كونها خارقة للعادة هق ورد بالمنع بل غايته استمرار نقض العادة
الثالث لو ظهرت لا لغرض التصديق لانسد باب إثبات النبوة بالمعجزة لجواز أن يكون ما يظهر من النبي لغرض آخر غير التصديق ورد بما مر من أنها عند مقارنة الدعوى تفيد التصديق قطعا
الرابع أن مشاركة الأولياء للأنبياء في ظهور الخوارق تخل بعظم قدر الأنبياء ووقعهم في النفوس ورد بالمنع بل يزيد في جلالة أقدارهم والرغبة في اتباعهم حيث نالت أممهم وأتباعهم مثل هذه الدرجة ببركة الاقتداء بشريعتهم والاستقامة على طريقتهم
الخامس وهو في الإخبار عن المغيبات قوله تعالى { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من }
____________________
(2/204)
ارتضى من رسول ) خص الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب فلا يطلع غيرهم وإن كانوا أولياء مرتضين فما يشاهد من الكهنة إلقاء الجن والشياطين ومن أصحاب التعبير والنجوم ظنون واستدلالات ربما تقع وربما لا تقع ليس من اطلاع الله تعالى في شيء والجواب أن الغيب ههنا ليس للعموم بل مطلق أو معين هو وقت وقوع القيمة بقرينة السياق ولا يبعد أن يطلع عليه بعض الرسل من الملائكة أو البشر فيصح الاستثناء وإن جعل منقطعا فلا خفاء بل لا امتناع حينئذ في جعل الغيب للعموم لكون اسم الجنس المضاف بمنزلة المعرف باللام سيما وقد كان في الأصل مصدرا ويكون الكلام لسلب العموم أي لا يطلع على كل غيبه أحد أو هو لا ينافي اطلاع البعض على البعض وكذا لا إشكال إن خص الاطلاع بطريق الوحي وبالجملة فالاستدلال مبني على أن الكلام لعموم السلب أي لا يطلع على شيء من غيبه أحدا من الأفراد نوعا من الاطلاع وذلك ليس بلازم قال خاتمة
حكي عن بعض الكرامية أن الولي قد يبلغ درجة النبي بل أعلى وعن بعض الصوفية أن الولاية أفضل من النبوة لأنها تنبىء عن القرب والكرامة كما هو شأن خواص الملك والمقربين منه والنبوة عن الإنباء والتبليغ كما هو حال من أرسله الملك إلى الرعايا لتبليغ أحكامه إلا أن الولي لا يبلغ درجة النبي لأن النبوة لا تكون بدون الولاية وعن أهل الإباحة والإلحاد أن الولي إذا بلغ الغاية في المحبة وصفاء القلب وكمال الإخلاص سقط عنه الأمر والنهي ولم يضره الذنب ولا يدخل النار بارتكاب الكبيرة والكل فاسد بإجماع المسلمين والأول خاصة بأن النبي مع ماله من شرف الولاية معصوم عن المعاصي مأمون عن سوء العاقبة بحكم النصوص القاطعة مشرف بالوحي ومشاهدة الملك مبعوث لإصلاح حال العالم ونظام أمر المعاش والمعاد إلى غير ذلك من الكمالات والثاني بأن النبوة تنبىء عن البعثة والتبليغ من الحق إلى الخلق ففيها ملاحظة للجانبين ويتضمن قرب الولاية وشرفها لا محالة فلا تقصر عن مرتبة ولاية غير الأنبياء لأنها لا تكون على غاية الكمال لأن علامة ذلك نيل مرتبة النبوة نعم قد يقع تردد في أن نبوة النبي أفضل أم ولايته فمن قائل بالأول لما في النبوة من معنى الوساطة بين الجانبين والقيام بمصالح الخلق في الدارين مع شرف مشاهدة الملك ومن مائل إلى الثاني لما في الولاية من معنى القرب والاختصاص الذي يكون في النبي في غاية الكمال بخلاف ولاية غير النبي وفي كلام بعض العرفاء أن ما قيل الولاية أفضل من النبوة لا يصح مطلقا وليس من الأدب إطلاق القول به بل لا بد من التقييد وهو أن ولاية النبي أفضل من نبوته لأن نبوة التشريع متعلقة بمصلحة الوقت والولاية لا تعلق لها بوقت دون وقت بل قام سلطانها إلى قيام الساعة بخلاف النبوة فإنها مختومة بمحمد صلى الله عليه وسلم من حيث ظاهرها الذي هو الإنباء وإن كانت دائمة من حيث باطنها الذي هو
____________________
(2/205)
الولاية أعني التصرف في الخلق بالحق فإن الأولياء من أمة محمد صلى الله عليه وسلم حملة تصرف ولايته بهم يتصرف في الخلق بالحق إلى قيام الساعة ولهذا كانت علامتهم المتابعة إذ ليس الولي إلا مظهر تصرف النبي وإما بطلان القول بسقوط الأمر والنهي فلعموم الخطابات ولأن أكمل الناس في المحبة والإخلاص هم الأنبياء سيما حبيب الله مع أن التكاليف في حقهم أتم وأكمل حتى يعاتبون بأدنى زلة بل بترك الأفضل نعم حكي عن بعض الأولياء أنه استعفى الله عن التكاليف وسأله الإعتاق عن ظواهر العبادات فأجابه إلى ذلك بأن سلبه العقل الذي هو مناط التكليف ومع ذلك كان من علو المرتبة على ما كان وأنت خبير بأن العارف لا يسأم من العبادة ولا يفتر في الطاعة ولا يسأل الهبوط من أوج الكمال إلى حضيص النقصان والنزول من معارج الملك إلى منازل الحيوان بل ربما يحصل له كمال الانجذاب إلى عالم القدس والاستغراق في ملاحظة جناب الحق بحيث يذهل عن هذا العالم ويخل بالتكاليف من غير تأثم بذلك لكونه في حكم غير المكلف كالنائم وذلك لعجزه عن مراعاة الأمرين وملاحظة الجانبين فربما يسأل دوام تلك الحالة وعدم العود إلى عالم الظاهر وهذا الذهول هو الجنون الذي ربما يترجح على بعض العقول والمتسمون به هم المسمون بمجانين العقلاء وبهذا يظهر فضل الأنبياء على الأولياء فإنهم مع أن استغراقهم أكمل وانجذابهم أشمل لا يخلون بأدنى طاعة ولا يذهلون من هذا الجانب ساعة لأن قوتهم القدسية من الكمال بحيث لا يشغلها شاغل عن ذلك الجناب ولهذا ينعى عليهم أدنى زلة عن منهج الصواب قال المبحث التاسع السحر إظهار أمر خارق للعادة من نفس شريرة خبيثة بمباشرة أعمال مخصوصة يجري فيها التعلم والتلمذ وبهذين الاعتبارين يفارق المعجزة والكرامة وبأنه لا يكون بحسب اقتراح المقترحين وبأنه يختص ببعض الأزمنة أو الأمكنة أو الشرائط وبأنه قد يتصدى بمعارضته وببذل الجهد في الإتيان بمثله وبأن صاحبه ربما يعلن بالفسق ويتصف بالرجس في الظاهر والباطن والخزي في الدنيا والآخرة إلى غير ذلك من وجوه المفارقة وهو عند أهل الحق جائز عقلا ثابت سمعا وكذلك الإصابة بالعين وقالت المعتزلة بل هو مجرد إراءة ما لا حقيقة له بمنزلة الشعبذة التي سببها خفة حركات اليد أو إخفاء وجه الحيلة فيه لنا على الجواز ما مر في الإعجاز من إمكان الأمر في نفسه وشمول قدرة الله تعالى فإنه هو الخالق وإنما الساحر فاعل وكاسب وأيضا إجماع الفقهاء وإنما اختلفوا في الحكم وعلى الوقوع وجوه منها قوله تعالى { يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } إلى قوله { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } وفيه إشعار بأنه ثابت حقيقة ليس مجرد إراءة وتمويه وبأن المؤثر والخالق هو الله وحده ومنها سورة الفلق فقد اتفق جمهور المسلمين على أنها نزلت
____________________
(2/206)
فيما كانت من سحر لبيد بن أعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مرض ثلاث ليال ومنها ما روى أن جارية سحرت عائشة رضي الله تعالى عنها وأنه سحر ابن عمر رضي الله تعالى عنه فتكوعت يده فإن قيل لو صح السحر لأضرت السحرة بجميع الأنبياء والصالحين ولحصلوا لأنفسهم الملك العظيم وكيف يصح أن يسحر النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى والله يعصمك من الناس ولا يفلح الساحر حيث أتى وكان الكفرة يعيبون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مسحور مع القطع بأنهم كاذبون قلنا ليس الساحر يوجد في كل عصر وزمان وبكل قطر ومكان ولا ينفذ حكمه كل أوان ولا له يد في كل شان والنبي معصوم من أن يهلكه الناس أو يوقع خللا في نبوته لا أن يوصل ضررا وألما إلى بدنه ومراد الكفار بكونه مسحورا أنه مجنون أزيل عقله بالسحر حيث ترك دينهم فإن قيل قوله تعالى في قصة موسى صلى الله تعالى عليه وسلم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى يدل على أنه لا حقيقة للسحر وإنما هو تخيل وتمويه قلنا يجوز أن يكون سحرهم هو إيقاع ذلك التخييل وقد تحقق ولو سلم فيكون أثره في تلك الصورة هو التحييل لا يدل على أنه لا حقيقة له أصلا وأما الإصابة بالعين وهو أن يكون لبعض النفوس خاصية أنها إذا استحسنت شيئا لحقته الآفة فثبوتها يكاد يجري مجرى المشاهدات التي لا تفتقر إلى حجة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم العين حق وقال العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر وذهب كثير من المفسرين إلى أن قوله تعالى { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم } الآية نزل في ذلك وقالوا إن كان العين في بني أسد وكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء يقول فيه لم أر كاليوم الإعانة فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فعصمه الله واعترض الجبائي بأن القوم ما كانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم نظراستحسان بل مقت وبغض والجواب أنهم كانوا يستحسنون منه الفصاحة وكثيرا من الصفات وإن كانوا يبغضونه من جهة الدين ثم للقائلين بالسحر والعين اختلاف في جواز الاستعانة بالرقى والعوذ وفي جواز تعليق التمايم وفي جواز النفث والمسح ولكل من الطرفين أخبار وآثار والجواز هو الأرجح والمسئلة بالفقهيات أشبه ولله علم قال الفصل الثاني في المعاد وفيه مباحث وهو مصدر أو مكان وحقيقة العود توجه الشيء إلى ما كان عليه والمراد ههنا الرجوع إلى الوجود بعد الفناء أو رجوع أجزاء البدن إلى الاجتماع بعد التفرق وإلى الحياة بعد الموت والأرواح إلى الأبدان بعد المفارقة وأما المعاد الروحاني المحض على ما يراه الفلاسفة فمعناه رجوع الأرواح إلى ما كانت عليه من التجرد عن علاقة البدن واستعمال الآلات أو التبرىء عما ابتليت به من الظلمات قال المبحث الأول كثير من مباحث المتكلمين يرى في الظاهر أجنبية عن العلم بالعقائد الدينية ويعلم عند تحقيق المقاصد
____________________
(2/207)
الأصلية أنها نافعة في إيراد الحجج عليها أو دفع الشبه عنها وذلك كإعادة المعدوم وثبوت الجزء والخلاء وصحة الفناء على العالم وجواز الخرق على الأفلاك وعدم اشتراط الحياة بالبنية وعدم لزوم تناهي القوى الجسمانية ونحو ذلك في إثبات الحشر وعذاب القبر والخلود في الجنة أو النار وغير ذلك على اختلاف الآراء وإنما آخر بحث إعادة المعدوم خاصة إلى ههنا لمالها من زيادة الاختصاص بأمر المعاد حيث لا يفتقر إليها إلا في إثبات المعاد بطريق الوجود بعد الفناء اتفق جمهور المتكلمين على جوازها والحكماء على امتناعها وأما المعتزلة فذهب غير البصري إلى جواز إعادة الجواهر لكن بناء على بقاء ذواتها في العدم حتى لو بطلت لاستحالت إعادتها واختلفوا في الأعراض فقال بعضهم يمتنع إعادتها مطلقا لأن المعاد إنما يعاد معنى فيلزم قيام المعنى بالمعنى وإلى هذا ذهب بعض أصحابنا وقال الأكثرون منهم بامتناع إعادة الأعراض التي لا تبقى كالأصوات والإرادات لاختصاصها عندهم بالأوقات وقسموا الباقية إلى ما يكون مقدورا للعبد وحكموا بأنه لا يجوز إعادتها لا للعبد ولا للرب وإلى مالا يكون مقدورا للعبد وجوزوا إعادتها لنا إقناعا أن الأصل فيما لا دليل وجه على وجوبه وامتناعه هو الإمكان على ما قالت الحكماء أن كل ما قرع سمعك من الغرايب فذره في بقعة الإمكان ما لم يدل عليه قائم البرهان فمن ادعى عدم إعادة المعدوم فعليه الدليل وإلزاما أن المعاد مثل المبدأ بل عينه لأن الكلام في إعادة المعدوم بعينه ويستحيل كون الشيء ممكنا في وقت ممتنعا في وقت للقطع بأنه لا أثر للأوقات فيما هو بالذات وعلى هذا لا يرد ما يقال أن العود وهو الوجود ثانيا أخص من مطلق الوجود ولا يلزم من إمكان الأعم إمكان الأخص وقريب من هذا ما يقال أن المعدوم الممكن قابل للوجود ضرورة استحالة الانقلاب فالوجود الأول إن أفادة زيادة استعداد لقبول الوجود على ما هو شأن سائرالقوابل بناء على اكتساب ملكة الإتصاف بالفعل فقد صار قابليته للوجود ثانيا أقرب وإعادته على الفاعل أهون ويشبه أن يكون هذا هو الحق والمراد بقوله تعالى { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } وهو أهون عليه وإن لم يفده زيادة الاستعداد فمعلوم بالضرورة أنه لا ينقص عما هو عليه بالذات من قابلية الوجود في جميع الأوقات هذا ولكن الأقرب أن تحمل الإعادة التي جعلت أهون على إعادة الأجزاء وما تفتتت من المواد إلى ما كانت عليه من الصور والتأليفات على ما يشير إليه قوله تعالى { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } لا على إعادة المعدوم لأنه لم يبق هناك القابل والمستعد فضلا عن الاستعداد القائم به فإن قيل ما معنى كون الإعادة أهون على الله تعالى وقدرته قديمة لا تتفاوت المقدورات بالنسبة إليها قلنا كون الفعل أهون تارة يكون من جهة الفاعل بزيادة شرايط الفاعلية وتارة من جهة القابل بزيادة استعدادات القبول وهذا هو المراد ههنا وأما من جهة قدرة الفاعل فالكل على السواء لا يقال غاية ما ذكرتم أن المعدوم ممكن الوجود في الزمان الثاني
____________________
(2/208)
كما في الزمان الأول نظرا إلى ذاته وهو لا ينافي امتناع وجوده لأمر لازم له كامتناع الحكم عليه والإشارة إليه على أن الكلام ليس في الوجود بل في الإعادة التي هي الإيجاد ثانيا لذلك الشيء بعينه وإمكان الوجود لا يستلزم إمكانها لأنا نقول لو امتنع المعدوم لأمر لازم له لامتنع وجوده أولا كما لو امتنع لذاته ثم إمكان الوجود مستلزم لإمكان الإيجاد سيما بالنظر إلى قدرة واحدة على أن المراد بالإعادة ههنا كونه معادا وهو معنى الوجود ثانيا قال والمنكرون منهم من ادعى الضرورة وقال الحكم بأن الموجود ثانيا ليس بعينه هو الموجود أولا ضروري لا يتردد فيه العقل عند الخلوص عن شوائب التقليد والتعصب واستحسنه الإمام في المباحث العالية حيث قال ونعم ما قال الشيخ من أن كل من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والعصبية شهد عقله الصريح بأن إعادة المعدوم ممتنع والرد بالمنع كيف وقد قال بجوازه كثير من العقلاء وقام البرهان عليه ومنهم من تمسك بوجوه
الأول أنه لو أعيد المعدوم بعينه لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه واللازم باطل بالضرورة ورد بمنع ذلك بحسب وقتين فإن معناه عند التحقيق تخلل العدم بين زماني وجوده بعينه واتصاف ذلك الشيء بل وجوه السابق واللاحق نظرا إلى الوقتين لا ينافي اتحاده بالشخص ويكفي لصحة تخلل العدم كتحلل الوجود بين العدم السابق واللاحق وجعل صاحب المواقف هذا الوجه بيانا لدعوى الضرورة وهو مخالف لكلام القوم وللتحقيق فإن ضرورية مقدمة الدليل لا توجب ضرورية المدعي
الثاني لو جاز إعادة المعدوم بعينه أي بجميع مشخصاته لجاز إعادة وقته الأول لأنه من جملتها ضرورة أن الموجود بقيد كونه في هذا الوقت غير الموجود بقيد كونه في وقت آخر ولأن الوقت أيضا معدوم بجواز إعادته لعدم التمايز أو بطريق الإلزام على من يقول بجواز إعادة الشكل لكن اللازم باطل لإفضائه إلى كون الشيء مبتدأ من حيث أنه معاد إذ لا معنى للمبتدأ لا الموجود في وقته الأول وفي هذا جمع بين المتقابلين حيث صدق على شيء واحد في زمان واحد من جهة واحدة أنه مبتدأ أو معاد لما أشرنا إليه من لزوم كونه مبتدأ من جهة كونه معادا أو منع لكونه معادا لأنه الموجود في الوقت الثاني وهذا قد وجد في الوقت الأول ورفع للتفرقة والامتياز بين المبتدأ والمعاد حيث لم يكن معادا إلا من حيث كونه مبتدأ والامتياز بينهما بحسب العقل ضروري وقد يجعل هذاالوجه ثلاثة أوجه بحسب ما يلزم من الفسادات والجواب أنا لا نسلم كون الوقت من المشخصات فإنا قاطعون بأن هذا الكتاب هو بعينه الذي كان بالأمس حتى أن من زعم خلاف ذلك نسب إلى السفسطة وتغاير الاعتبارات والإضافات لا ينافي الوحدة الشخصية بحسب الخارج ولو سلم فلا نسلم أن ما يوجد في الوقت الأول يكون مبتدأ البتة وإنما
____________________
(2/209)
يلزم لو لم يكن الوقت أيضا معادا أو لم يكن هو مسبوقا بحدوث آخر وهذا ما يقال أن المبتدأ هو الواقع أولا لا الواقع في الزمان الأول والمعاد هو الواقع ثانيا لا الواقع في الزمان الثاني وبهذا يمكن أن يدفع ما يقال لو أعيد الزمان بعينه لزم التسلسل لأنه لا مغايرة بين المبتدأ والمعاد بالماهية ولا بالوجود ولا بشيء من العوارض وإلا لم يكن إعادة له بعينه بل بالقبلية والبعدية بأن هذا في زمان سابق وذلك في زمان لاحق فيكون للزمان زمان يمكن إعادته بعد العدم وبتسلسل
الثالث لو جاز أن يعاد المعدوم بعينه لجاز أن يوجد ابتداء ما يماثله في الماهية وجميع العوارض المشخصة لأن حكم الأمثال واحد ولأن التقديران وجود فرد بهذه الصفات من جملة الممكنات واللازم باطل لعدم التميز بينه وبين المعاد لأن التقدير اشتراكهما في الماهية وجميع العوارض ورد بأن عدم التميز في نفس الأمر غير لازم كيف ولو لم يتميزا لم يكونا شيئين وعند العقل غير مسلم الاستحالة إذ ربما يلتبس وعلى العقل ما هو متميز في نفس الأمر وقد يجاب بأنه لو صح هذا الدليل لجاز وقوع شخصين متماثلين ابتداء بعين ما ذكرتم ويلزم عدم التميز وحاصله أنه لا تعلق لهذا بإعادة المعدوم
الرابع أن المعدوم تمتنع الإشارة إليه إذ لم يبق له ثبوت أصلا فيمتنع الحكم عليه بصحة العود لأن الحكم ثبوت شيء لشيء يقتضي تميزه وثبوته في الجملة والجواب عند المعتزلة القائلين بثبوت المعدوم وبقاء ذاته ظاهر وعندنا أن التميز والثبوت عند العقل كاف في صحة الحكم والاحتياج إلى الثبوت العيني إنما هو عند ثبوت الصفة له في الخارج وما يقال أن القضية تكون حينئذ ذهنية لا حقيقية ولا خارجية فلا يفيد إلا صحة العود في الذهن ليس بشيء لأنا نأخذ للقضية مفهوما عاما هو أن ما يصدق عليه الوصف العنواني في الجملة يصدق عليه المحمول فالمعنى ههنا أن ما يصدق عليه أنه معدوم في الخارج يصدق عليه أنه يوجد في الخارج ولو سلم فالذهنية معناها أن الموضوع المأخوذ في الذهن محكوم عليه بالمحمول فالمعنى ههنا أن المعنى الذهني المعدوم في الخارج يصح أن يعاد ويوجد في الخارج وبالجملة فهذا كما يقال المعدوم الممكن يجوز أن يوجد ومن سيولد يجوز أن يتعلم إلى غير ذلك من الحكم على ما ليس بموجود في الخارج حال الحكم وقد يجاب عن جميع الوجوه بأنا نعني بالإعادة أن يوجد ذلك الشيء الذي هو بجميع أجزائه وعوارضه بحيث يقطع كل من يراه بأنه هو ذلك الشيء كما يقال أعد كلامك أي تلك الحروف بتأليفها وهيئاتها ولا يضر كون هذا معادا في زمان وذاك مبتدأ وفي زمان آخر ولا مناقشة في أن هذا نفس الأول أو مثله وهذاالقدر كاف في إثبات الحشر ولا يبطل بشيء من الوجوه قال المبحث الثاني الفلاسفة الطبيعيون الذين لا يعتد بهم في المسئلة ولا في الفلسفة أنه لا معاد للبشر أصلا زعما منهم أنه هذا
____________________
(2/210)
الهيكل المحسوس بما له من المزاج والقوى والأعراض وأن ذلك يفنى بالموت وزوال الحياة ولا يبقى إلا المواد العنصرية المتفرقة وأنه لا إعادة للمعدوم وفي هذا تكذيب للعقل على ما يراه المحققون من أهل الفلسفة وللشرع على ما يراه المحققون من أهل الملة وتوقف جالينوس في أمر المعاد لتردده في أن النفس هو المزاج فيفنى بالموت فلا يعاد أم جوهر باق بعد الموت فيكون له المعاد واتفق المحققون من الفلاسفة والمليين على حقية المعاد واختلفوا في كيفيته فذهب جمهور المسلمين إلى أنه جسماني فقط لأن الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم والماء في الورد وذهب الفلاسفة إلى أنه روحاني فقط لأن البدن ينعدم بصوره وأعراضه فلا يعاد والنفس جوهر مجرد باق لا سبيل إليه للفناء فيعود إلى عالم المجردات بقطع التعلقات وذهب كثير من علماء الإسلام كالإمام الغزالي والكعبي والحلمي والراغب والقاضي أبي زيد الدبوسي إلى القول بالمعاد الروحاني والجسماني جميعا ذهابا إلى أن النفس جوهر مجرد يعود إلى البدن وهذا رأي كثير من الصوفية والشيعة والكرامية وبه يقول جمهورالنصارى والتناسخية قال الإمام الرازي إلا أن الفرق أن المسلمين يقولون بحدوث الأرواح وردها إلى الإبدان لا في هذا العالم بل في الآخرة والتناسخية بقدمها وردها إليها في هذا العالم وينكرون الآخرة والجنة والنار وإنما نبهنا على هذا الفرق لأنه يغلب على الطباع العامية أن هذا المذهب يجب أن يكون كفرا وضلالا لكونه مما ذهب إليه التناسخية والنصارى ولا يعلمون أن التناسخية إنما يكفرون لإنكارهم القيامة والجنة والنار والنصارى لقولهم بالتثليث وأما القول بالنفوس المجردة فلا يرفع أصلا من أصول الدين بل ربما يؤيده ويبين الطريق إلى إثبات المعاد بحيث لا يقدح فيه شبه المنكرين كذا في نهاية العقول وقد بالغ الإمام الغزالي في تحقيق المعاد الروحاني وبيان أنواع الثواب والعقاب بالنسبة إلى الروح حتى سبق إلى كثير من الأوهام ووقع في السنة بعض العوام أنه ينكر حشر الأجساد افتراء عليه كيف وقد صرح به في مواضع من كتاب الأحياء وغيره وذهب إلى أن إنكاره كفر وإنما لم يشرحه في كتبه كثير شرح لما قال أنه ظاهر لا يحتاج إلى زيادة بيان نعم ربما يميل كلامه وكلام كثير من القائلين بالمعادين إلى أن معنى ذلك أن يخلق الله تعالى من الأجزاء المتفرقة لذلك البدن بدنا فيعيد إليه نفسه المجردة الباقية بعد خراب البدن ولا يضرنا كونه غير البدن الأول بحسب الشخص ولا امتناع إعادة المعدوم بعينه وما شهد به النصوص من كون أهل الجنة جردا مرد أو كون ضرس الكافر مثل جبل أحد يعضد ذلك وكذا قوله تعالى { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } ولا يبعد أن يكون قوله تعالى { أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } إشارة إلى هذا فإن قيل فعلى هذا يكون المثاب والمعاقب باللذات والآلام الجسمانية غير
____________________
(2/211)
من عمل الطاعة وارتكب المعصية قلنا العبرة في ذلك بالإدراك وإنما هو للروح ولو بواسطة الآلات وهو باق بعينه وكذا الأجزاء الأصلية من البدن ولهذا يقال للشخص من الصبا إلى الشيخوخة أنه هو بعينه وإن تبدلت الصور والهيئات بل كثير من الآلات والأعضاء ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب أنها عقوبة لغير الجاني قال لنا المعتمد في إثبات حشرالأجساد دليل السمع والمفصح عنه غاية الإفصاح من الأديان دين الإسلام ومن الكتب القرآن ومن الأنبياء محمد عليه السلام والمعتزلة يدعون إثباته بل وجوبه بدليل العقل وتقريره أنه يجب على الله ثواب المطيعين وعقاب العاصين وإعواض المستحقين ولا يتأتى ذلك إلا بإعادتهم بأعيانهم فيجب لأن مالا يتأتى الواجب إلا به واجب وربما يتمسكون بهذا في وجوب الإعادة على تقدير الفناء ومبناه على أصلهم الفاسد في الوجود على الله تعالى وفي كون ترك الجزاء ظلما لا يصح صدوره من الله تعالى مع إمكان المناقشة في أن الواجب لا يتم إلا به وأنه لا يكفي المعاد الروحاني ويدفعون ذلك بأن المطيع والعاصي هي هذه الجملة أو الأجزاء الأصلية لا الروح وحده ولا يصل الجزاء إلى مستحقه إلا بإعادتها والجواب أنه إن اعتبر الأمر بحسب الحقيقة فالمستحق هو الروح لأن مبنى الطاعة والعصيان على الإدراكات والإرادات والأفعال والحركات وهو المبدأ للكل وإن اعتبر بحسب الظاهر يلزم أن يعاد جميع الأجزاء الكائنة من أول التكليف إلى الممات ولا يقولون بذلك فالأولى التمسك بدليل السمع وتقريره أن الحشر والإعادة أمر ممكن أخبر به الصادق فيكون واقعا أما الإمكان فلأن الكلام فيما عدم بعد الوجود أو تفرق بعد الاجتماع أو مات بعد الحياة فيكون قابلا لذلك والفاعل هو الله القادر على كل الممكنات العالم بجميع الكليات والجزئيات وأما الأخبار فلما تواتر من الأنبياء سيما نبينا عليه السلام أنهم كانوا يقولون بذلك ولما ورد في القرآن من نصوص لا يحتمل أكثرها التأويل مثل قوله تعالى { قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } { فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون } { فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة } { أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه } { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } { يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير } { أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور } إلى غير ذلك من الآيات وفي الأحاديث أيضا كثيرة وبالجملة فإثبات الحشر من ضروريات الدين وإنكاره كفر بيقين فإن قيل الآيات المشعرة بالمعاد الجسماني ليست أكثر وأظهر من الآيات المشعرة بالتشبيه والجبر والقدر ونحو ذلك وقد وجب تأويلها قطعا فلنصرف هذه أيضا إلى بيان المعاد الروحاني وأحوال سعادة النفوس وشقاوتها بعد مفارقة الأبدان على وجه يفهمه العوام فإن الأنبياء مبعثون إلى كافة الخلائق
____________________
(2/212)
لإرشادهم إلى سبيل الحق وتكميل نفوسهم بحسب القوة النظرية والعملية وتبقية النظام المفضي إلى صلاح الكل وذلك بالترغيب والترهيب بالوعد والوعيد والبشارة بما يعتقدونه لذة وكمالا والإنذار عما يعتقدونه ألما ونقصانا وأكثرهم عوام تقصر عقولهم عن فهم الكمالات الحقيقية واللذات العقلية وتقتصر على ما ألفوه من اللذات والآلام الحسية وعرفوه من الكمالات والنقصانات البدنية فوجب أن تخاطبهم الأنبياء بما هو مثال للمعاد الحقيقي ترغيبا وترهيبا للعوام وتتميما لأمر النظام وهذا ما قال أبو نصر الفارابي أن الكلام مثل وخيالات للفلسفة قلنا إنما يجب التأويل عند تعذر الظاهر ولا تعذر ههنا سيما على القول بكون البدن المعاد مثل الأول لا عينه وما ذكرتم من حمل كلام الأنبياء ونصوص الكتاب على الإشارة إلى مثال معاد النفس والرعاية لمصلحة العامة نسبة للأنبياء إلى الكذب فيما يتعلق بالتبليغ والقصد إلى تضليل أكثر الخلائق والتعصب طول العمر لترويج الباطل وإخفاء الحق لأنهم لا يفهمون إلا هذه الظواهر التي لا حقيقة لها عندكم نعم لو قيل أن هذه الظواهر مع إرادتها من الكلام وثبوتها في نفس الأمر مثل للمعاد الروحاني واللذات والآلام العقلية وكذا أكثر ظواهر القرآن على ما يذكره المحققون من علماء الإسلام لكان حقا لا ريب فيه ولا اعتداد بمن ينفيه قال احتج المنكرون بوجوه
الأول إن المعاد الجسماني موقوف على إعادة المعدوم وقد بان استحالتها وجه التوقف إما على تقدير كونها إيجادا بعد الفناء فظاهر وإما على تقدير كونها جمعا وإحياء بعد التفرق والموت فللقطع بفناء التأليف والمزاج والحياة وكثير من الأعراض والهيئات والجواب منع امتناع الإعادة وقد تكلمنا على أدلته ولو سلم فالمراد إعادة الأجزاء إلى ما كانت عليه من التأليف والحياة ونحو ذلك ولا يضرنا كون المعاد مثل المبدأ لا عينه
الثاني لو أكل إنسان إنسانا وصار غداء له جزأ من بدنه فالأجزاء المأكولة إما أن تعاد في بدن الآكل أو في بدن المأكول وأيا ما كان لا يكون أحدهما بعينه معادا بتمامه على أنه لا أولوية لجعلها جزأ من بدن أحدهما دون الآخر ولا سبيل لجعلها جزأ من كل منهما وأيضا إذا كان الآكل كافرا والمأكول مؤمنا يلزم تنعيم الأجزاء العاصية أو تعذيب الأجزاء المطيعة والجواب أنا نعني بالحشر إعادة الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره لا الحاصلة بالتغذية فالمعاد من كل من الآكل والمأكول الأجزاء الأصلية الحاصلة في أول الفطرة من غير لزوم فساد فإن قيل يجوز أن يصير تلك الأجزاء الغذائية الأصلية في المأكول الفصل في الآكل نطفة وأجزاء أصلية لبدن آخر ويعود المحذور قلنا الفساد إنما هو في وقوع ذلك لا في إمكانه فلعل الله تعالى يحفظها من أن تصير جزأ لبدن آخر فضلا عن أن يصير جزأ أصليا وقد ادعى المعتزلة أنه يجب على الحكيم حفظها عن ذلك ليتمكن من أيصال الجزاء إلى مستحقه ونحن نقول لعله يحفظها عن التفرق فلا يحتاج إلى إعادة الجمع والتأليف بل إنما يعاد إلى الحياة في الصور
____________________
(2/213)
والهيئات فإن قيل الآيات الواردة في باب الحشر من مثل { من يحيي العظام وهي رميم } { أئذا متنا وكنا ترابا } { إذا مزقتم كل ممزق } { إنكم لفي خلق جديد } تشعر بأن الأصلية وغير الأصلية ومتنازع المحق والمبطل ومتوارد الإثبات والنفي هي إعادة الأجزاء بأسرها إلى الحياة لا الأصلية وحدها ولا إعادة المعدوم بعينه قلنا ومن الآيات ما هو مسوق لنفس الإعادة مثل { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } { فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة } وكان المنكرين استبعدوا إحياء ما كانوا يشاهدون من الرميم والتراب فأزيل استبعادهم بتذكير ابتداء الفطرة والتنبيه على كمال العلم والقدرة وأما حديث إعادة المعدوم والأجزاء الأصلية فلعله لم يخطر ببالهم
الثالث أن الإعادة لا لغرض عبث لا يليق بالحكيم ولغرض عائد إلى الله تعالى نقص يجب تنزيهه عنه ولغرض عائد إلى العباد أيضا باطل لأنه إما أيصال ألم وهو لا يليق بالحكيم وإما أيصال لذة ولا لذة في الموجود سيما في عالم الحس فكل ما يتخيل لذة فإنما هو خلاص عن الألم ولا ألم في العدم أو الموت ليكون الخلاص عنه لذة مقصودة بالإعادة بل إنما يتصور ذلك بأن يوصل إليه ألما ثم يخلصه عنه فتكون اإلإعادة لإيصال ألم يعقبه خلاص وهو غير لائق بالحكمة والجواب منع لزوم الفرض وقبح الحلو عنه في فعل الله تعالى ثم منع انحصار الغرض في أيصال اللذة والألم إذ يجوز أن يكون نفس إيصال الجزاء إلى من يستحقه غرضا ثم منع كون اللذة دفعا للألم وخلاصا عنه كيف واللذة والألم من الوجدانيات التي لا يشك العاقل في تحققها وقد سبق تحقيق ذلك ثم منع كون اللذات الأخروية من جنس الدنيوية بحسب الحقيقة ليلزم كونها دفعا للألم وخلاصا عنه قال تنبيه القائلون بالمعاد الروحاني فقط أو به وبالجسماني جميعا هم الذين يقولون بالنفوس الناطقة مجردة باقية لا تفنى بخراب البدن لما سبق من الدلائل ويشهد بذلك نصوص من الكتاب والسنة فلا حاجة للأولين إلى زيادة بيان في إثبات المعاد لأنه عبارة عن عود النفس إلى ما كانت عليه من التجرد أو التبرؤ من ظلمات التعلق وبقائها ملتذة بالكمال أو متألمة بالنقصان ولا للآخرين بعد إثبات حشر الأجساد لأن القول بإحياء البدن مع تعلق نفس أخرى به تدبر أمره وبقاء نفسه معطلة او متعلقة ببدن آخر غير مقبول عند العقل ولا منقول من أحد كيف ونفسها مناسبة لذلك المزاج آلفة به لم تفارقه إلا لانتفاء قابليته لتصرفاتها فحين عادت القابلية عاد التعلق لا محالة وقد يقال أن قوله تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } { ورضوان من الله أكبر } إشارة إلى المعاد الروحاني وكذا الأحاديث الواردة في حال أرواح المؤمنين وخصوصا الصديقين والشهداء والصالحين وأنها في حواصل طيور خضر في قناديل من نور معلقة تحت العرش وإن كانت ظواهرها مشعرة بأن الأرواح من قبيل الأجسام على ما قال إمام الحرمين أن الأظهر عندنا أن الأرواح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام
____________________
(2/214)
المحسوسة أجرى الله تعالى العادة باستمرار حياة الأجساد ما استمرت مشابكتها بها فإذا فارقها يعقب الموت الحياة في استمرار العادة ثم الروح يعرج به ويرفع في حواصل طيور خضر في الجنة ويهبط به إلى سجين من الكفرة كما وردت فيه الآثار والحياة عرض يحيى به الجوهر والروح يحيى بالحياة أيضا إن قامت به الحياة فهذا قولنا في الروح كذا في الإرشاد قال المبحث الثالث قد سبقت في مباحث الجسم إشارة إلى أن الأجسام باقية غير متزايلة على ما يراه النظام وقابلة للفناء غير دائمة البقاء على ما يراه الفلاسفة قولا بأنها أزلية أبدية والجاحظ وجمع من الكرامية قولا بأنها أبدية غير أزلية وتوقف أصحاب أبي الحسين في صحة الفناء واختلف القائلون بها في أن الفناء بإعدام معدم أو بحدوث ضد أو بانتفاء شرط
أما الأول فذهب القاضي وبعض المعتزلة إلى أن الله تعالى يعدم العالم بلا واسطة فيصير معدوما كما أوجده كذلك فصار موجودا وذهب أبو الهذيل إلى أنه تعالى يقول له إفن فيفنى كما قال له كن فكان
وأما الثاني فذهب جمهور المعتزلة إلى أن فناء الجوهر بحدوث ضد له هو الفناء ثم اختلفوا فذهب ابن الإخشيد إلى أن الفناء وإن لم يكن متحيزا لكنه يكون حاصلا في جهة معينة فإذا أحدثه الله تعالى فيها عدمت الجواهر بأسرها وذهب ابن شبيب إلى أن الله تعالى يحدث في كل جوهر فناء ثم ذلك الفناء يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني وذهب أبو علي وأتباعه إلى أنه يخلق بعدد كل جوهر فناء لا في محل فيفنى الجواهر وقال أبو هاشم وأشياعه يخلق فناء واحد لا في محل فتفنى به الجواهر بأسرها
وأما الثالث وهو أن فناء الجوهر بانقطاع شرط وجوده فزعم بشر أن ذلك الشرط بقاء يخلقه الله تعالى لا في محل فإذا لم يوجد عدم الجوهر وذهب الأكثرون من أصحابنا والكعبي من المعتزلة إلى أنه بقاء قائم به يخلقه الله تعالى حالا فحالا فإذا لم يخلقه الله تعالى فيه انتفى الجوهر وقال إمام الحرمين بأنها الأعراض التي يجب اتصاف الجسم بها فإذا لم يخلقها الله فيه فني وقال القاضي في أحد قوليه هو الأكوان التي يخلقها الله تعالى في الجسم حالا فحالا فمتى لم يخلقها فيه انعدم وقال النظام أنه ليس بباق بل يخلق حالا فحالا فمتى لم يخلق فني وأكثر هذه الأقاويل من قبيل الأباطيل سيما القول يكون الفناء أمرا محققا في الخارج وضدا للبقاء قائما بنفسه أو بالجوهر وكون البقاء موجود إلا في محل ولعل وجه البطلان غني عن البيان قال المبحث الرابع يعني أن القائلين بصحة الفناء وبحقية حشر الأجساد اختلفوا في أن ذلك بإيجاد بعد الفناء أو بالجمع بعد تفرق الأجزاء والحق
____________________
(2/215)
التوقف وهو اختيار إمام الحرمين حيث قال يجوز عقلا أن تعدم الجواهر ثم تعاد وأن تبقى وتزول أعراضها المعهودة ثم تعاد بنيتها ولم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما فلايبعد أن يغير أجسام العباد على صفة أجسام التراب ثم يعاد تركيبها إلى ما عهد ولا تحيل أن يعدم منها شيء ثم يعاد والله أعلم احتج الأولون بوجوه
الأول الإجماع على ذلك قبل طهور المخالفين كبعض المتأخرين من المعتزلة وأهل السنة ورد بالمنع كيف وقد أطبقت معتزلة بغداد على خلافه نعم كان الصحابة مجمعين على بقاء الحق وفناء الخلق بمعنى هلاك الأشياء وموت الأحياء وتفرق الأجزاء لا بمعنى انعدام الجواهر بالكلية لأن الظاهر أنهم لم يكونوا يخوضون في هذه التدقيقات
الثاني قوله تعالى { هو الأول والآخر } أي في الوجود ولا يتصور ذلك إلا بانعدام ما سواه وليس بعد القيامة وفاقا فيكون قبلها وأجيب بأنه يجوز أن يكون المعنى هو مبدأ كل موجود وغاية كل مقصود أو هو المتوحد في الألوهية أو صفات الكمال كما إذا أقيل لك هذا أول من زارك وآخرهم فتقول هو الأول والآخر وتريد أنه لا زائر سواه أو هو الأول والآخر بالنسبة إلى كل حي بمعنى أنه يبقى بعد موت جميع الأحياء أو هو الأول خلقا والآخر رزقا كما قال { خلقكم ثم رزقكم } وبالجملة فليس المراد أنه آخر كل شيء يحسب الزمان للاتفاق على أبدية الجنة ومن فيها
الثالث قوله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } فإن المراد به الانعدام لا الخروج عن كونه منتفعا به لأن الشيء بعد التفرق يبقى دليلا على الصانع وذلك من أعظم المنافع وأجيب بأن المعنى أنه هالك في حد ذاته لكونه ممكنا لايستحق الوجود إلا بالنظر إلى العلة أو المراد بالهلاك الموت أو الخروج عن الانتفاع المقصود به اللائق بحاله كما يقال هلك الطعام إذا لم يبق صالحا للأكل وإن صلح لمنفعة أخرى ومعلوم أن ليس مقصود الباري تعالى من كل جوهر الدلالة عليه وإن صلح لذلك كما أن من كتب كتابا ليس مقصوده بكل كلمة الدلالة على الكاتب أو المراد الموت كما في قوله تعالى { إن امرؤ هلك } وقيل معناه كل عمل لم يقصد به وجه الله تعالى فهو هالك أي غير مثاب عليه
الرابع قوله تعالى { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } { كما بدأنا أول خلق نعيده } { كما بدأكم تعودون } والبدأ من العدم فكذا العود وأيضا إعادة الخلق بعد إبدائه لا تتصور بدون تخلل العدم وأجيب بأنا لا نسلم أن المراد بإبداء الخلق الإيجاد والإخراج عن العدم بل الجمع والتركيب على ما يشعر به قوله وبدأ خلق الإنسان من طين ولهذا يوصف بكونه مرئيا مشاهدا كقوله تعالى { أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق } { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق } وأما القول بأن الخلق حقيقة في التركيب تمسكا بمثل قوله تعالى { خلقكم من تراب } أي ركبكم ويخلقون إفكا أي يركبونه فلا يكون حقيقة في الإيجاد دفعا للاشتراك فضعيف جدا لإطباق أهل اللغة على أنه إحداث وإيجاد مع تقدير سواء كان عن مادة كما في خلقكم من تراب أو بدونه كما في خلق الله العالم
الخامس
____________________
(2/216)
قوله تعالى { كل من عليها فان } والفناء هو العدم وأجيب بالمنع بل هو خروج الشيء عن الصفة التي ينتفع به عندها كما يقال فني زاد القوم وفني الطعام والشراب ولهذا يستعمل في الموت مثل أفناهم الحرب وقيل معنى الآية كل من على وجه الأرض من الأحياء فهو ميت قال الإمام الرازي ولو سلم كون الهلاك والفناء بمعنى العدم فلا بد في الآيتين من تأويل إذ لو حملنا على ظاهرهما لزم كون الكل هالكا فانيا في الحال وليس كذلك وليس التأويل بكونه آئلا إلى العدم على ما ذكرتم أولى من التأويل بكونه قابلا له وهذا منه إشارة إلى ما اتفق عليه أئمة العربية من كون اسم الفاعل ونحوه مجازا في الاستقبال وأنه لا بد من الاتصاف بالمعنى المشتق منه وإنما الخلاف في أنه هل يشترط بقاء ذلك المعنى وقد توهم صاحب التلخيص أنه كالمضارع مشترك بين الحال والاستقبال فاعترض بأن حمله على الاستقبال ليس تأويلا وصرفا عن الظاهر قال احتج الآخرون وهم القائلون بأن حشر الأجساد إنما هو بالجمع بعد التفريق لا بالإيجاد بعد الانعدام بوجوه
الأول أنه لو عدمت الأجساد لما كان الجزاء واصلا إلى مستحقه واللازم باطل سمعا عندنا بالنصوص الواردة في أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا وعقلا عند المعتزلة لما سبق من وجوب ثواب المطيع وعقاب العاصي بيان اللزوم أن المعاد لا يكون هو المبدأ بل مثله لامتناع إعادة المعدوم بعينه ورد بالمنع وقد مر بيان ضعف أدلته ولو سلم فلا يقوم على من يقول ببقاء الروح والأجزاء الأصلية وإعدام البواقي ثم إيجادها إن لم يكن الثاني هو الأول بعينه بل مغايرا له في صفة الابتداء والإعادة أو باعتبار آخر ولا شك أن العمدة في الاستحقاق هو الروح على ما مر وقد يقرر بأنها لو عدمت لما علم إيصال الجزاء إلى مستحقه لأنه لا يعلم أن ذلك المحشور هو الأول أعيد بعينه أم مثل له خلق على صفته إما على تقدير الفناء بالكلية فظاهر وإما على تقدير بقاء الروح والأجزاء الأصلية فلانعدام التركيب والهيئات والصفات التي بها تمايز المثلين سيما على قول من يجعل الروح أيضا من قبيل الأجسام واللازم منتف لأن الأدلة قائمة على وصول الجزاء إلى المستحق لا يقال لعل الله تعالى يحفظ الروح والأجزاء الأصلية عن التفرق والانحلال بل الحكمة يقتضي ذلك ليعلم وصول الحق إلى المستحق لأنا نقول المقصود إبطال رأي من يقول بفناء الأجساد بجميع الأجزاء بل أجسام العالم بأسرها ثم الإيحاد وقد حصل ولو سلم فقد علمت أن العمدة في الحشر هو الأجزاء الأصلية لا الفضلية وقد سلمتم أنها لا تفرق فضلا عن الانعدام بالكلية بل الجواب أن المعلوم بالأدلة هو أن الله يوصل الجزاء إلى المستحق ولا دلالة على أنا نعلم ذلك بالإيصال البتة وكفى بالله عليما ولو سلم فلعل الله يخلق علما ضروريا أو طريقا جليا جزئيا أو كليا
الثاني وهو للمعتزلة أن فعل الحكيم لا بد أن يكون لغرض لامتناع العبث عليه ولا يتصور له غرض في الإعدام إذ لا منفعة فيه لأحد لأنها إنما تكون مع الوجود بل الحياة وليس أيضا
____________________
(2/217)
جزاء المستحق كالعذاب والسؤال والحساب ونحو ذلك وهذا ظاهر ورد بمنع انحصار الغرض في المنفعة والجزاء فلعل لله تعالى في ذلك حكما ومصالح لا يعلمها غيره على أن في الإخبار بالإعدام لطفا للمكلفين وإظهار الغاية العظمة والاستغناء والتفرد بالدوام والبقاء ثم الإعدام تحقيق لذلك وتصديق وقد يورد الوجهان على طريق تفريق الأجزاء أما الثاني فظاهر وأما الأول فلانعدام التأليف والهيئات التي بها التمايز فإما أن تمتنع الإعادة أو يلتبس المعاد بالمثل ويجاب بأنه يجوز أن لا تنعدم الصفات التي بها التمايز كاختصاص الجواهر بما لها من الجهات مثلا ولو سلم فالمستحق هو تلك الجواهر الموصوفة الباقية لا مجموع الجواهر والصفات والتعينات كما إذا جنى وهو شاب سمين سليم الأعضاء واقتص منه حين صار هرما عجيفا ساقط الأعضاء وعن الثاني بأن في التفريق منفعة الاعتبار وإمكان اللذة والألم على طريق الجزاء
الثالث النصوص الدالة على كون النشور بالإحياء بعد الموت والجمع بعد التفريق لا الإيجاد وبعد العدم كقوله تعالى { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى } الآية وكقوله تعالى { أو كالذي مر على قرية } إلى قوله { ثم نكسوها لحما } وكقوله { كذلك النشور } و { كذلك تخرجون } و { كما بدأكم تعودون } بعد ما ذكر بدأ الخلق من طين على وجه يرى ويشاهد مثل { أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق } { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق } ( وكقوله تعالى { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش } إلى غير ذلك من الآيات المشعرة بالتفريق دون الإعدام والجواب أنها لا تنفي الإعدام وإن لم تدل عليه وإنما سيقت بيانا لكيفية الإحياء بعد الموت والجمع بعد التفريق لأن السؤال وقع عن ذلك ولأنه أظهر في بادي النظر والشواهد عليه أكثر ثم هي معارضة بما سبق من الآيات المشعرة بالإعدام والفناء قال المبحث الخامس جمهور المسلمين على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن خلافا لأبي هاشم والقاضي عبدالجبار ومن يجري مجراهما من المعتزلة حيث زعموا أنهما إنما يخلقان يوم الجزاء لنا وجهان
الأول قصة آدم وحواء وإسكانهما الجنة ثم إخراجهما عنها بأكل الشجرة وكونهما يخصفان عليهما من ورق الجنة على ما نطق به الكتاب والسنة وانعقد عليه الإجماع قبل ظهور المخالفين وحملها على بستان من بساتين الدنيا يجري مجرى التلاعب بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين ثم لا قائل بخلق الجنة دون النار فثبوتها ثبوتها
الثاني الآيات الصريحة في ذلك كقوله تعالى { ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى } وكقوله في حق الجنة { أعدت للمتقين } { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } { وأزلفت الجنة للمتقين } وفي حق النار { أعدت للكافرين }
____________________
(2/218)
{ وبرزت الجحيم للغاوين } وحملها على التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي مبالغة في تحققه مثل { ونفخ في الصور } { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } خلاف الظاهر فلا يعدل إليه بدون قرينة تمسك المنكرون بوجوه
الأول أن خلقهما قبل يوم الجزاء عبث لا يليق بالحكيم وضعفه ظاهر
الثاني أنهما لو خلقتا لهلكتا لقوله تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } واللازم باطل للإجماع على دوامهما وللنصوص الشاهدة بدوام أكل الجنة وظلها وأجيب بتخصيصها من آية الهلاك جمعا بين الأدلة ويحمل الهلاك على غير الفناء كما مر وبأن الدوام المجمع عليه هو أنه لا انقطاع لبقائهما ولا انتهاء لوجودهما بحيث لا يبقيان على العدم زمانا يعتد به كما في دوام المأكول فإنه على التجدد والانقضاء قطعا وهذا لا ينافي فناء لحظة
الثالث أنهما لو وجدتا الآن فإما في هذا العالم أو في عالم آخر وكلاهما باطل أما الأول فلأنه لا يتصور في أفلاكه لامتناع الحرق والالتيام عليها وحصول العنصريات فيها وهبوط آدم منها ولا في عنصرياته لأنها لا تسع جنة عرضها كعرض السماء والأرض ولأنه لا معنى للتناسخ إلا عود الأرواح إلى الأبدان مع بقائها في عالم العناصر وأما الثاني فلأنه لا بد في ذلك العالم أيضا من جهات مختلفة إنما تتحد بالمحيط والمركز فيكون كريا فلا يلاقي هذا العالم إلا بنقطة فيلزم بين العالمين خلاء وقد تبين استحالته ولأنه يشتمل لا محالة على عناصر لها فيه أحياز طبيعية فيكون لعنصر واحد حيزان طبيعيان ويلزم سكون كل عنصر في حيزه الذي في ذلك العالم لكونه طبيعيا له وحركته عنه إلى حيزه الذي في هذا العالم لكونه خارجا عنه واجتماع الحركة والسكون محال وإن لم يلزم الحركة والسكون فلا اقل من لزوم الميل إليه وعنه ولأنه لا محالة يكون في جهة من محدد هذا العالم والمحدد في جهة منه فيلزم تحدد الجهة قبله لا به مع لزوم الترجح بلا مرجح لاستواء الجهات والجواب أن مبني ذلك على أصول فلسفية غير مسلمة عندنا كاستحالة الخلاء وامتناع الخرق والالتيام ونفي القادر المختار الذي بقدرته وإرادته تحديد الجهات وترجيح المتساويات إلى غير ذلك من المقدمات على أن ما ادعوا تحدده بالمحيط والمركز إنما هو من جهة العلو والسفل لا غير ودليلهم على امتناع الخرق إنما قام في المحدد لا غير وكون العالمين في محيط منهما بمنزلة تدويرين في ثخن فلك لا يستلزم الخلاء ولا يمتنع كون عناصر العالمين مختلفة الطبايع ولا كون تحيزهما في أحد العالمين غير طبيعي وليس التناسخ عود الأرواح إلى أبدانها بل تعلقها ببدن آخر في هذا العالم لا يقال هذا الدليل لا يليق بالقائلين بوجود الجنة والنار يوم الجزاء لأنه على تقدير تمامه ينفي وجود جنة يدخلها الناس ويوجد فيها العنصريات لابتناء ذلك على خرق الأفلاك لأنا نقول على تقدير افناء هذا العالم بالكلية وإيجاد عالم آخر فيه الجنة والنار والإنسان وسائر العنصريات لا يلزم الخرق ولا غيره من المحالات فلذا خص هذا الدليل بنفي الجنة
____________________
(2/219)
والنار مع وجود هذا العالم قال ( خاتمة ) لم يرد نص صريح في تعيين مكان الجنة والنار والأكثرون على أن الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش تشبثا بقوله تعالى { عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى } وقوله عليه السلام سقف الجنة عرش الرحمن والنار تحت الأرضين السبع والحق تفويض ذلك إلى علم العليم الخبير قال المبحث السادس في سؤال القبر وعذابه اتفق الإسلاميون على حقية سؤال منكر ونكير في القبر وعذاب الكفار وبعض العصاة فيه ونسب خلافه إلى بعض المعتزلة قال بعض المتأخرين منهم حكي إنكار ذلك عن ضرار بن عمرو وإنما نسب إلى المعتزلة وهم براء منه لمخالطة ضرار إياهم وتبعه قوم من السفهاء المعاندين للحق لنا الآيات كقوله تعالى في آل فرعون { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } أي قبل القيامة وذلك في القبر بدليل قوله تعالى { ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } وكقوله تعالى في قوم نوح { أغرقوا فأدخلوا نارا } والفاء للتعقيب وكقوله تعالى { ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } وإحدى الحياتين ليست إلا في القبر ولا يكون إلا لأنموذج ثواب أو عقاب بالاتفاق وكقوله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله } والأحاديث المتواترة المعنى كقوله صلى الله عليه وسلم القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران وكما روي أنه عليه السلام مر بقبرين فقال إنهما ليعذبان الحديث وكالحديث المعروف في الملكين اللذين هما يدخلان القبر ومعهما مرزبتان فيسألان الميت عن ربه وعن دينه وعن نبيه إلى غير ذلك من الأخبار والآثار المسطورة في الكتب المشهورة وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذته من عذاب القبر واستفاض ذلك في الأدعية المأثورة تمسك المنكرون بالسمع والعقل أما السمع وهو للمعترفين بظواهر الشرايع فقوله تعالى { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } ولو كان في القبر حياة ولا محالة يعقبها موت إذ لا خلاف في إحياء الحشر لكان لهم قبل دخول الجنة موتتان لا موتة واحدة فقط فإن قيل ما معنى هذا الاستثناء ومعلوم أن لا موت في الجنة أصلا ولو فرض فلا يتصور ذوق الموتة الأولى فيها قلنا هو منقطع أي لكن ذاقوا الموتة الأولى أو متصل على قصد المبالغة في عدم انقطاع نعيم الجنة بالموت بمنزلة تعليقه بالمحال أي لو أمكنت فيها موتة لكانت الموتة الأولى التي مضت وانقضت لكن ذلك محال فإن قيل وصف الموتة بالأولى
____________________
(2/220)
يشعر بموتة ثانية وليست إلا بعد إحياء القبر فتكون الآية حجة على المتمسك لا له قلنا المراد بالأولى بالنسبة إلى ما يتوهم في الجنة ويقصد نفيها فإن قيل يجوز ألا يراد الواحد بالعدد بل المتحقق المقابل بهذا المتوهم على ما يتناول موتة الدنيا وموتة القبر قلنا يأباه بناء المرة وتاء الوحدة وكذا قوله تعالى { وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } { ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } ولو كان في القبر إحياء لكانت الإحياآت ثلاثة في الدنيا وفي القبر وفي الحشر وقوله تعالى { وما أنت بمسمع من في القبور } ولو كان في القبر إحياء لصح إسماع والجواب أن إثبات الواحد أو اثنين لا ينفي وجود الثاني أو الثالث على أن التعليق بأحد المحالين كاف في المبالغة وإثبات الإماتة والإحياء فكقوله تعالى { ثم يميتكم ثم يحييكم } يمكن حمله على جميع ما يقع بعد حياة الدنيا من الإماتة والإحياء في الدنيا وفي القبر والحشر إذ لا دلالة للفعل على المرة لكن ربما يقال أن في لفظ ثم الثانية بعض نبوة عن ذلك ثم الظاهر أن المراد الإماتة في الدنيا والإحياء في الآخرة ولم يتعرض لما في القبر لخفاء أمره وضعف أثره على ما سيجيء فلا يصلح ذكره في معرض الدلالة على ثبوت الألوهية ووجوب الإيمان والتعجب والتعجيب من الكفر وأما في قولهم { أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } فالإماتتان في الدنيا وفي القبر وكذا الإحياآن وترك ما في الآخرة لأنه معاين وقيل بل ما في القبر وما في الحشر لأن المراد إحياء تعقبه معرفة ضرورية بالله واعتراف بالذنوب وأما قوله تعالى { وما أنت بمسمع من في القبور } فتمثيل لحال الكفرة بحال الموتى ولا نزاع في أن الميت لا يسمع وأما العقل فلأن اللذة والألم والمسئلة والتكلم ونحو ذلك لا يتصور بدون العلم والحياة ولا حياة مع فساد البنية وبطلان المزاج ولو سلم فإنا نرى الميت أو المقتول أو المصلوب يبقى مدة من غير تحرك وتكلم ولا أثر تلذذ أو تألم وربما يدفن في صندوق أو لحد ضيق لا يتصور فيه جلوسه على ما ورد في الخبر وربما يذر على صدره كف من الذرة فترى باقية على حالها بل ربما يأكله السباع أو تحرقه النار فيصير رمادا تذروه الرياح في المشارق والمغارب فكيف يعقل حياته وعذابه وسؤاله وجوابه وتجويز ذلك سفسطة وليس بأبعد من تجويز حياة سرير الميت وكلامه وتعذيب خشبة المصلوب واحتراقها ونحن نراها بحالها والجواب إجمالا أن جميع ما ذكرتم استبعادات لا تنفي الإمكان كسائر خوارق العادات وإذ قد أخبر الصادق بها لزم التصديق وتفصيلا أنا لا نسلم اشتراط الحياة بالبنية ولو سلم فيجوز أن يبقى من الأجزاء قدر ما يصلح بنية والتعذيب والمسئلة يجوز أن يكون للروح الذي هو أجسام لطيفة أو للأجزاء الأصلية الباقية فلا يمتنع أن لا يشاهده الناظر ولا أن يخفيه الله تعالى عن الإنس والجن لحكمة لا اطلاع لنا عليها ولا أن يتحقق مع كون الميت في بطون السباع ومن قال بالقادر المختار المحيي المميت لا يستبعد توسيع اللحد
____________________
(2/221)
والصندوق ولا حفظ الذرة على صدر المتحرك والقول بأن تجويز أمثال ذلك يفضي إلى السفطسة إنما يصح فيما لم يقم عليه الدليل ولم يخبر به الصادق وأما ما يقول به الصالحية والكرامية من جواز التعذيب بدون الحياة لأنها ليست شرطا للإدراك وابن الراوندي من أن الحياة موجودة في كل ميت لأن الموت ليست ضدا للحياة بل هو آفة كلية معجزة عن الأفعال الاختيارية غير منافية للعلم فباطل لا يوافق أصول أهل الحق قال خاتمة اتفق أهل الحق على أن الله يعيد إلى الميت في القبر نوع حياة قدر ما يتألم ويتلذذ ويشهد بذلك الكتاب والأخبار والآثار ولكن توقفوا في أنه هل يعاد الروح إليه أم لا وما يتوهم من امتناع الحياة بدون الروح ممنوع وإنما ذلك في الحياة الكاملة التي يكون معها القدرة والأفعال الاختيارية وقد اتفقوا على أن الله تعالى لم يخلق في الميت القدرة والأفعال الاختيارية فلهذا لا يعرف حياته كمن أصابته سكتة ويشكل هذا بجوابه لمنكر ونكير على ما ورد في الحديث قال المبحث السابع في سائر السمعيات المتعلقة بأمر المعاد وجملة الأمر أنها أمور ممكنة نطق بها الكتاب والسنة وانعقد عليها إجماع الأمة فيكون القول بها حقا والتصديق بها واجبا فمنها المحاسبة المشار إليها بقوله تعالى { إن الله سريع الحساب } وبقوله عليه الصلاة والسلام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وأهوالها هول الوقوف قيل ألف سنة وقيل خمسون ألفا وقيل أقل وقيل أكثر والله أعلم قال الله تعالى { وقفوهم إنهم مسؤولون } { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن } وهول تطاير الكتب قال الله تعالى { فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا } وقال { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا } وهول المسئلة { وقفوهم إنهم مسؤولون } { فوربك لنسألنهم أجمعين } وهول شهادة الشهود العشرة الألسنة والأيدي والأرجل والسمع والأبصار والجلود والأرض والليل والنهار والحفظة الكرام قال الله تعالى { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } وقال { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } وقال عليه الصلاة والسلام ما من يوم وليلة يأتي على ابن آدم إلا قال أنا ليل جديد وأنا فيما يعمل في شهيد وكذا قال في اليوم وقال الله تعالى { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } وهول تغير الألوان قال الله تعالى { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وقال { وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة } وهول المناداة بالسعادة أو الشقاوة وقال عليه السلام يكون عند كل كفة الميزان ملك فإذا ترجح كفة الخير نادى الملك الأول ألا إن فلانا سعد سعادة لا شقاوة بعدها أبدا وإذا ترجح الكفة الأخرى نادى الملك الثاني ألا إن فلانا شقي شقاوة لا سعادة
____________________
(2/222)
بعدها أبدا والحكمة في هذه المحاسبة والأهوال مع أن المحاسب خبير والناقد بصير ظهور مراتب أرباب الكمال وفضايح أصحاب النقصان على رؤس الأشهاد زيادة في الذات هؤلاء ومسراتهم وآلام أولئك وأحزانهم ثم في هذا ترغيب في الحسنات وزجر عن السيئات وهل يظهر أثر هذه الأهوال في الأنبياء والأولياء والصلحاء والأتقياء فيه تردد والظاهر السلامة لقوله تعالى { تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا } { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ومنها الصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والآخرون أدق من الشعر وأحد من السيف على ما ورد في الحديث الصحيح ويشبه أن يكون المرور عليه هو المراد بورود كل أحد النار على ما قال تعالى { وإن منكم إلا واردها } وأنكره القاضي عبدالجبار وكثير من المعتزلة زعما منهم أنه لا يمكن الحظور عليه ولو أمكن ففيه تعذيب ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة قالوا بل المراد به طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى { سيهديهم ويصلح بالهم } وطريق النار المشار إليه بقوله { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } وقيل المراد الأدلة الواضحة وقيل العبادات كالصلاة والزكاة ونحوهما وقيل الأعمال الردية التي يسأل عنها ويؤاخذ بها كأنه يمر عليها ويطول المرور بكثرتها ويقصر بقلتها والجواب أن إمكان العبور ظاهر كالمشي على الماء والطيران في الهواء غايته مخالفة العادة ثم الله تعالى يسهل الطريق على من أراد كما جاء في الحديث إن منهم من يمر كالبرق الخاطف ومنهم من يمر كالريح الهابة ومنهم من يمر كالجواد ومنهم من تخور رجلاه وتتعلق يداه ومنهم من يخر على وجهه ومنها الميزان قال الله تعالى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } وقال { فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية } ذهب كثير من المفسرين إلى أنه ميزان له كفتان ولسان وساقان عملا بالحقيقة لإمكانها وقد ورد في الحديث تفسيره بذلك وأنكره بعض المعتزلة ذهابا إلى أن الأعمال أعراض لا يمكن وزنها فكيف إذا زالت وتلاشت بل المراد به العدل الثابت في كل شيء ولذا ذكره بلفظ الجمع وإلا فالميزان المشهور واحد وقيل هو الإدراك فميزان الألوان البصر والأصوات السمع والطعوم الذوق وكذا سائر الحواس وميزان المعقولات العلم والعقل وأجيب بأنه يوزن صحايف الأعمال وقيل بل تجعل الحسنات أجساما نورانية والسيئات أجساما ظلمانية وأما لفظ الجمع فللاستعظام وقيل لكل مكلف ميزان وإنما الميزان الكبير واحد إظهارا لجلالة الأمر وعظمة المقام ومنها الحوض قال تعالى { إنا أعطيناك الكوثر } وفي الحديث حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه أكثر من نجوم السماء من شرب منها فلا يظمأ أبدا وقال الصحابة له عليه السلام أين نطلبك يوم الحشر فقال على الصراط فإن لم تجدوا فعلى الميزان فإن لم تجدوا فعلى الحوض قال المبحث الثامن في تقرير مذهب الحكماء في الجنة والنار والثواب والعقاب أما القائلون بعالم المثل فيقولون بالجنة
____________________
(2/223)
والنار وسائر ما ورد به الشرع من التفاصيل لكن في عالم المثل لا من جنس المحسوسات المحضة على ما يقول به الإسلاميون وأما الأكثرون فيجعلون ذلك من قبيل اللذات والآلام العقلية وذلك أن النفوس البشرية سواء جعلت أزلية كما هو رأي أفلاطون أو لا كما هو رأي أرسطو فهي أبدية عندهم لا تفنى بجراب البدن بل تبقى ملتذة بكمالاتها مبتهجة بإدراكاتها وذلك سعادتها وثوابها وجنانها على اختلاف المراتب وتفاوت الأحوال أو متألمة بفقد الكمالات وفساد الاعتقادات وذلك شقاوتها وعقابها ونيرانها على ما لها من اختلاف التفاصيل وإنما لم تتنبه لذلك في هذا العالم لاستغراقها في تدبير البدن وانغماسها في كدورات عالم الطبيعة لما بها من العلايق والعوايق الزايلة بمفارقة البدن فما ورد في لسان الشرع من تفاصيل الثواب والعقاب وما يتعلق بذلك من السمعيات فهي مجازات وعبارت عن تفاصيل أحوالها في السعادة والشقاوة واختلاف أحوالها في اللذات والآلالم والتدرج مما لها من دركات الشقاوة إلى درجات السعادة فإن الشقاوة السرمدية إنما هي الجهل المركب الراسخ والشرارة المضادة للملكة الفاضلة لا الجهل البسيط والأخلاق الخالية عن غايتي الفضل والشرارة فإن شقاوتها منقطعة بل ربما لا تقتضي الشقاوة أصلا وتفصيل ذلك أن فوات كمالات النفس يكون إما لأمر عدمي كنقصان غريزة العقل أو وجودي كوجود الأمور المضادة للكمالات وهي إما راسخة أو غير راسخة وكل واحد من الأقسام الثلاثة إما أن يكون بحسب القوة النظرية أو العملية يصير ستة فالذي بحسب نقصان الغريزة في القوتين معا فهو غير مجبور بعد الموت ولا عذاب بسببه أصلا والذي بسبب مضاد راسخ في القوة النظرية كالجهل المركب الذي صار صورة للنفس غير مفارقة عنها فغير مجبور أيضا لكن عذابه دايم وأما الثلاثة الباقية أعني النظرية غير الراسخة كاعتقادات العوام والمقلدة والعملية الراسخة وغير الراسخة كالأخلاق والملكات الردية المستحكمة وغير المستحكمة فيزول بعد الموت لعدم رسوخها أو لكونها هيئات مستفادة من الأفعال والأمزجة فيزول بزوالها لكنها تختلف في شدة الرداءة وضعفها وفي سرعة الزوال وبطئه فيختلف العذاب بها في الكم والكيف بحسب الاختلافين وهذا إذا عرفت النفس أن لها كمالا فإنها لاكتسابها ما يضاد الكمال أو لاشتغالها بما يصرفها عن اكتساب الكمال أو لتكاسلها في اقتناء الكمال وعدم اشتغالها بشيء من العلوم وأما النفوس السليمة الخالية عن الكمال وعما يضاده وعن الشوق إلى الكمال فتبقى في سعة من رحمة الله تعالى خالصة من البدن إلى سعادة تليق بها غير متألمة بما يتأذى به الأشقياء إلا أنه ذهب بعض الفلاسفة إلى أنها لا يجوز أن تكون معطلة عن الإدراك فلا بد أن تتعلق بأجسام أخر لما أنها لا تدرك إلا بالآلات الجسمانية وحينئذ إما أن تصير مبادي صور لها وتكون نفوسا لها وهذا هو القول بالتناسخ وإما أن لا تصير وهذا هو الذي مال إليه ابن سينا والفارابي من
____________________
(2/224)
أنها تتعلق بأجرام سماوية لا على أن تكون نفوسا لها مدبرة لأمورها بل على أن تستعملها لإمكان التخيل ثم تتخيل الصور التي كانت معتقدة عندها وفي وهمها فتشاهد الخيرات الأخروية على حسب ما تتخيلها قالوا ويجوز أن يكون هذا الجرم متولدا من الهواء والأدخنة من غير أن يقارن مزاجا يقتضي فيضان نفس إنسانية ثم إن الحكماء وإن لم يثبتوا المعاد الجسماني والثواب والعقاب المحسوسين فلم ينكروها غاية الإنكار بل جعلوها من الممكنات لا على وجه إعادة المعدوم وجوزوا حمل الآيات الواردة فيها على ظواهرها وصرحوا بأن ذلك ليس مخالفا للأصول الحكمية والقواعد الفلسفية ولا مستبعد الوقوع في الحكمة الإلهية لأن للتبشير والإنذار نفعا ظاهرا في أمر نظام المعاش وصلاح المعاد ثم الإيفاء بذلك التبشير والإنذار بثواب المطيع وعقاب العاصي تأكيد لذلك وموجب لازدياد النفع فيكون خيرا بالقياس إلى الأكثرين وإن كان ضرا في حق المعذب فيكون من جملة الخير الكثير الذي يلزمه شر قليل بمنزلة قطع العضو لإصلاح البدن قال المبحث التاسع الثواب فضل من الله تعالى والعقاب عدل من غير وجوب عليه ولا استحقاق من العبد خلافا للمعتزلة إلا أن الخلف في الوعد نقص لا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى فيثيب المطيع البتة إنجازا لوعده بخلاف الخلف في الوعيد فإنه فضل وكرم يجوز إسناده إليه فيجوز أن لا يعاقب العاصي ووافقنا في ذلك البصريون من المعتزلة وكثير من البغداديين ومعنى كون الثواب أو العقاب غير مستحق أنه ليس له حقا لازما يقبح تركه وأما الاستحقاق بمعنى ترتبهما على الأفعال والتروك وملايمة إضافتهما إليهما في مجاري العقول والعادات فمما لا نزاع فيه كيف وقد ورد بذلك الكتاب والسنة في مواضع لا تحصى وأجمع السلف على أن كلا من فعل الواجب والمندوب ينتهض سببا للثواب ومن فعل الحرام وترك الواجب سببا للعقاب وبنوا أمر الترغيب في اكتساب الحسنات واجتناب السيئات على إفادتهما الثواب والعقاب لنا وجوه
الأول وهو العمدة ما مر أنه لا يجب على الله تعالى شيء لا الثواب على الطاعة ولا العقاب على المعصية
الثاني أن طاعات العبد وإن كثرت لا تفي بشكر بعض ما أنعم الله عليه فكيف يتصور استحقاق عوض عليها ولو استحق العبد بشكره الواجب عوضا لاستحق الرب على ما يوليه من الثواب عوضا وكذا العبد على خدمته لسيده الذي
____________________
(2/225)
يقوم بمؤنته وإزاحة علله والولد على خدمته لأبيه الذي يربيه وعلى مراعاته وتوخي مرضاته لا يقال لا يجوز أن تكون الطاعة شكرا للنعمة لأن العقلاء يستقبحون الإحسان إلى الغير لتكليفه الشكر ولأن الشكر يتصور بدون تكليف المشاق والمضار كشكر أهل الجنة فلا بد لتكليف المشاق من عوض ليخرج عن العبث لأنا نقول بعد تسليم قاعدة الحسن والقبح ولزوم العوض وقبح الإحسان لتكليف الشكر فوجوب الشكر على الإحسان لا يوجب كون الإحسان لأجله حتى يقبح وكون تكليف المشاق لغرض لا يوجب كونه لغرض ولو سلم لكفى بترتب التفضل عليه عوضا
الثالث أنه لو وجب الثواب والعقاب بطريق الاستحقاق وترتب المسبب على السبب لزم أن يثاب من واظب طول عمره على الطاعات وارتد نعوذ بالله تعالى في آخر الحياة وأن يعاقب من أصر دهرا على كفره وتبرأ وأخلص الإيمان في آخر عمره ضرورة تحقق الوجوب والاستحقاق واللازم باطل بالاتفاق لا يقال يجوز أن يكون موت المطيع على الطاعة والعاصي على المعصية شرطا في استحقاق الثواب والعقاب على ما هو قاعدة الموافاة لأنا نقول لو كان كذلك لم يتحقق الاستحقاق أصلا لعدم الشرط عند تحقق العلة وانقضاء العلة عند تحقق الشرط احتج المخالف بوجوه
الأول أن إلزام المشاق من غير منفعة مؤقتة تقابلها تكون ظلما والله منزه عن الظلم وتلك المنفعة هي الثواب ثم أن الفعل لا يجب عقلا لأجل تحصيل المنفعة وإلا لوجب النوافل وإنما يجب لدفع المضرة فلزم استحقاق العقاب بتركه ليحسن إيجابه ورد بعد تسليم لزوم الغرض بأنه يجوز أن يكون شكرا للنعم السابقة أو يكون الغرض أمرا آخر كحصول السرور بالمدح على أداء الواجب واحتمال المشاق في طاعة الخالق على أنه يجوز أن يكون إيجاب الواجبات بناء على أن لها وجه وجوب في أنفسها وما يقال من أنه لو كان كذلك لوجب على الله تعالى أن لا يجعلها شاقة علينا بأن يزيد في قوانا لأن وجه الوجوب لا يتوقف على كونها شاقة كرد الوديعة وترك الظلم يجب سواء كان شاقا أو لا فليس بشيء لجواز أن يكون وجوبها بهذا الوجه ولأن الوجوب وإن لم يتوقف على كونها شاقة لكن لم يكن منافيا لذلك فيجوز أن تجعل شاقة لغرض آخر
الثاني أنه لو لم يجب الثواب والعقاب لأفضى ذلك إلى التواني في الطاعات والاجتراء على المعاصي لأن الطاعات مشاق ومخالفات للهوى لا تميل إليها إلا بعد القطع بلذات ومنافع تربى عليها والمعاصي شهوات ومستلذات لا ينزجر عنها النفس إلا مع القطع بآلام ومضار تترتب عليها ورد بأن شمول الوعد والوعيد للكل وغلبة ظن الوفاء بهما وكثرة الأخبار والآثار في ذلك كاف في الترغيب والترهيب ومجرد جواز الترك غير قادح
الثالث الآيات والأحاديث الواردة في تحقق الثواب والعقاب يوم الجزاء فلو لم يجب وجاز العدم لزم الخلف والكذب ورد بأن غايته الوقوع البتة وهو لا يستلزم الوجوب على الله والاستحقاق من العبد على ما هو
____________________
(2/226)
المدعى هذا والمذهب جواز الخلف في الوعيد بأن لا يقع العذاب وحينئذ يتأكد الإشكال وسنتكلم عليه في بحث العفو إن شاء الله تعالى قال خاتمة في فروع للمعتزلة على استحقاق الثواب والعقاب منها أنهم بعد الاتفاق على أنه يستحق الثواب والمدح بفعل الواجب والمندوب وفعل ضد القبيح بشرط أن يكون فعل الواجب لوجوبه كالواجب المعين أو لوجه وجوبه كالواجب المخير وفعل المندوب لندبيته أو لوجه ندبيته وفعل ضد القبيح لكونه تركا للقبيح بأن يفعل المباح لكونه تركا للحرام ويستحق العذاب والذم بفعل القبيح اختلفوا في أنه هل يستحق المدح والثواب بالإخلال بالقبيح لكونه إخلالا به والذم والعقاب على الإخلال بالواجب فقال المتقدمون لا بل إنما يستحق المدح والثواب بفعل عند الإخلال بالقبيح هو ترك القبيح والذم والعقاب على فعل عند الإخلال بالواجب هو ترك الواجب لأن الإخلال عدمي لا يصلح علة للاستحقاق الوجودي ولأن كل أحد يخل كل لحظة بما لا يتناهى من القبايح وقال المتأخرون كأبي هاشم وأبي الحسين وعبدالجبار نعم للنصوص الصريحة في تعليل العقاب بعدم الإتيان بالواجب كقوله تعالى { خذوه فغلوه } إلى قوله { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين } وكقوله حكاية { ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين } ومنها أنه يجب اقتران الثواب بالتعظيم والعقاب بالإهانة للعلم الضروري باستتحقاقهما وقيل لأنه يحسن التفضل بالمنافع العظيمة ابتداء فإلزام المشاق والمضار لأجلها يكون عبثا بخلاف التعظيم فإنه لا يحسن التفضل به ابتداء من غير استحقاق كتعظيم البهائم والصبيان ومنها أنه يجب دوامهما لكونه لطفا أو يقرب المكلف إلى الطاعة ويبعده عن المعصية ولأن التفضل بالمنافع الدائمة حسن إجماعا فلا يحسن التكليف للثواب المنقطع الذي هو أدنى حالا ومنها أنه يجب خلوصهما عن الشوب لكونه أدخل في الترغيب والترهيب ولأنه واجب في العوض مع كونه أدنى حالا من الثواب لخلوه عن التعظيم فإن قيل ثواب أهل الجنة يشوبه شوق كل ذي مرتبة إلى ما فوقها ومشقة وجوب شكر المنعم وترك القبايح وعقاب أهل النار يشوبه ثواب ترك القبايح فيها أجيب بأن كل ذي مرتبة في الجنة يكون فرحا بما عنده لا يطلب الأعلى ويعد الشكر لذة وسرورا لا يحصى ويكون في شغل شاغل عن القبايح وذكرها والتألم بتركها وأهل النار لا يثابون لكونهم مضطرين إلى ترك القبايح ومنها اختلافهم في وقت استحقاق الثواب والعقاب فعند البصرية حالة الطاعة والمعصية وعند البغدادية في الآخرة وقيل في حال الاحترام وقيل وقت الفعل بشرط الموافاة وهو أن لا تحبط الطاعة والمعصية إلى الموت وليس لأحد تمسك يعول عليه سوى ما قيل بأن المدح والذم يثبتان حال الفعل فكذا الثواب والعقاب لكونهما من موجبات الفعل مثلهما وإنما حسن تأخير تمام الثواب إلى دار الآخرة لمانع وهو لزوم الجمع بين المتنافيين فإن من شرط الثواب الخلوص عن شوب المشاق
____________________
(2/227)
ومن لوازم التكليف الشوب بها وتمسك الاخرون بالنصوص المقتضية لتأخير الأجزية وبلزوم الجمع بين المتنافيين كما ذكر ولا خفاء في أن ذلك لا ينافي ثبوت الاستحقاق في دارالتكليف والظاهر أن مراد الأولين ثبوت أصل الاستحقاق ومراد الآخرين وجوب الأداء وقال بعضهم الحق أن التكليف لا يجامع كل الجزاء للزوم المحال بخلاف البعض كتعظيم المؤمن ونصرته على الأعداء وكالحدود فإنه يجامع التكليف فلم يجب تأخيره قال المبحث العاشر أجمع المسلمون على خلود أهل الجنة في الجنة وخلود الكفار في النار فإن قيل القوى الجسمانية متناهية فلا تقبل خلود الحياة وأيضا الرطوبة التي هي مادة الحياة تفنى بالحرارة سيما حرارة نار الجحيم فتفضي إلى الفناء ضرورة وأيضا دوام الإحراق مع بقاء الحياة خروج عن قضية العقل قلنا هذه قواعد فلسفية غير مسلمة عند المليين ولا صحيحة عند القائلين بإسناد الحوادث إلى القادر المختار وعلى تقدير تناهي القوى وزوال الحياة يجوز أن يخلق الله البدل فيدوم الثواب والعقاب قال الله تعالى { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب } هذا حكم الكافر الجاهل المعاند وكذا من بالغ في الطلب والنظر واستفراغ المجهود ولم ينل المقصود خلافا للجاحظ والعنبري حيث زعما أنه معذور إذ لا يليق بحكمة الحكيم أن يعذبه مع بذل الجهد والطاقة من غير جرم وتقصير كيف وقد قال الله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } ولا شك أن عجز المتخير أشد وهذا الفرق خرق للإجماع وترك للنصوص الواردة في هذا الباب هذا في حق الكفار عنادا واعتقادا وأما الكفار حكما كأطفال المشركين فكذلك عند الأكثرين لدخولهم في العمومات ولما روي أن خديجة رضي الله عنها سألت النبي عليه السلام عن أطفالها الذين ماتوا في الجاهلية فقال هم في النار وقالت المعتزلة ومن تبعهم لا يعذبون بل هم خدم أهل الجنة على ما ورد في الحديث لأن تعذيب من لا جرم له ظلم ولقوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } { ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون } ونحو ذلك وقيل من علم الله تعالى منه الإيمان والطاعة على تقدير البلوغ ففي الجنة ومن علم منه الكفر والعصيان ففي النار واختلف أهل الإسلام فيمن ارتكب الكبيرة من المؤمنين ومات قبل التوبة فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو ولا بالعقاب بل
____________________
(2/228)
كلاهما في مشيئة الله تعالى لكن على تقدير التعذيب نقطع بأنه لا يخلد في النار بل يخرج البتة لا بطريق الوجوب على الله تعالى بل بمقتضى ما سبق من الوعد وثبت بالدليل كتخليد أهل الجنة وعند المعتزلة القطع بالعذاب الدايم من غير عفو ولا إخراج من النار ويعبر عن هذا بمسئلة وعيد الفساق وعقوبة العصاة وانقطاع عذاب أهل الكبائر ونحو ذلك وليس في مسئلة الاستحقاق ووجوب العقاب غنى عن ذلك لأن التخليد أمر زايد على التعذيب ولا في مسئلة العفو لأنه بطريق الاحتمال دون القطع ولأنه شاع في ترك العقاب بالكلية وهذا قطع بالخروج بعد الدخول وما وقع في كلام البعض من أن صاحب الكبيرة عند المعتزلة ليس في الجنة ولا في النار فغلط نشأ من قولهم أن له المنزلة بين المنزلتين أي حالة غير الإيمان والكفر وأما ما ذهب إليه مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة من أن عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلا وإنما النار للكفار تمسكا بالآيات الدالة على اختصاص العذاب بالكفار مثل { إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } فجوابه تخصيص ذلك بعذاب لا يكون على سبيل الخلود وأما تمسكهم بمثل قوله عليه السلام من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق فضعيف لأنه إنما ينفي الخلود لا الدخول لنا وجوه
الأول وهو العمدة الآيات والأحاديث الدلالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة البتة وليس ذلك قبل دخول النار وفاقا فتعين أن يكون بعده وهو مسئلة انقطاع العذاب أو بدونه وهو مسئلة العفو التام قال الله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون } وقال النبي عليه السلام من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وقال من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وإن زنى وإن سرق
الثاني النصوص المشعرة بالخروج من النار كقوله تعالى { النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله } { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } وكقوله عليه السلام يخرج من النار قوم بعدما امتحشوا وصاروا فحما وحميما فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل وخبر الواحد وإن لم يكن حجة في الأصول لكن يفيد التأييد والتأكيد بتعاضد النصوص
الثالث وهو على قاعدة الاعتزال أن من واظب على الإيمان والعمل الصالح مائة سنة وصدر عنه في أثناء ذلك أو بعده جريمة واحدة كشرب جرعة من الخمر فلا يحسن من الحكيم أن يعذبه على ذلك أبد الآباد ولو لم يكن هذا ظلما فلا ظلم أو لم يستحق بهذا ذما فلا ذم
الرابع أن المعصية متناهية زمانا وهو ظاهر وقدرا لما يوجد من معصية أشد منها فجزاؤها يجب أن يكون متناهيا تحقيقا لقاعدة العدل بخلاف الكفر فإنه لا يتناهى قدرا وإن تناهى زمانه وأما
____________________
(2/229)
التمسك بأن الخلود في النار أشد العذاب وقد جعل جزاء لأشد الجنايات وهو الكفر فلا يصح جعله جزاء بما هو دونه كالمعاصي فربما يدفع بتفاوت مراتب العذاب في الشدة وإن تساوت في عدم الانقطاع
الخامس أنه استحق الثواب بالإيمان والطاعات عقلا عندكم ووعدا عندنا ولا يزول ذلك الاستحقاق بارتكاب الكبيرة لما سيجيء فيكون لزوم اتصال الثواب إليه بحالة وما ذاك إلا بالخروج من النار والدخول في الجنة وهو المطلوب واحتجت المعتزلة بوجوه
الأول الآيات الدالة على الخلود المتناولة للكافر وغيره كقوله تعالى { ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها } وقوله { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } وقوله { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } ومثل هذا مسوق للتأييد ونفي الخروج وقوله { وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين } وعدم الغيبة عن النار خلود فيها وقوله { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها } وليس المراد تعدي جميع الحدود بارتكاب الكبائر كلها تركا وإتيانا فإنه محال لما بين البعض من التضاد كاليهودية والنصرانية والمجوسية فيحمل على مورد الآية من حدود المواريث وقوله بلا { من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } والجواب بعد تسليم كون الصيغ للعموم أن العموم غير مراد في الآية الأولى للقطع بخروج التائب وأصحاب الصغائر وصاحب الكبيرة الغير المنصوصة إذا أتى بعدها بطاعات يربى ثوابها على عقوباته فليكن مرتكب الكبيرة من المؤمنين أيضا خارجا بما سبق من الآيات والأدلة وبالجلمة فالعام المخرج منه البعض لا يفيد القطع وفاقا ولو سلم فلا نسلم تأبيد الاستحقاق بل هو مغيا بغاية رؤية الوعيد لقوله بعده { حتى إذا رأوا ما يوعدون } ولو سلم فغايته الدلالة على استحقاق العذاب المؤبد لا على الوقوع كما هو المتنازع لجواز الخروج بالعفو وما يقال من أنا لا نسلم كون حتى للغاية بل هي ابتدائية ولو سلم فغاية لقوله { يكونون عليه لبدا } أو لمحذوف أي يكونون على ما هم عليه حتى يروا فخارج عن قانون التوجيه وكذا ما يقال أنه لما ثبت الاستحقاق المؤبد جزما وهو مختلف فيه حصل إلزام الخصم ولم يثبت العفو والخروج بالشك وعن الثانية بأن معنى متعمدا مستحلا فعله على ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنه إذ التعمد على الحقيقة إنما يكون من المستحل أو بأن التعليق بالوصف يشعر بالحيثية فيخص بمن قتل المؤمن لإيمانه أو بأن الخلود وإن كان ظاهرا في الدوام والمراد ههنا المكث الطويل جمعا بين الأدلة لا يقال الخلود حقيقة في التأبيد لتبادر الفهم إليه ولقوله تعالى { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } ولأنه يؤكد بلفظ التأبيد مثل { خالدين فيها أبدا } وتأكيد الشيء تقوية لمدلوله ولأن العمومات المقرونة بالخلود متناولة للكفار والمراد في حقهم التأبيد وفاقا فكذا في حق الفساق لئلا يلزم إرادة معنيي المشترك أو المعنى الحقيقي والمجازي
____________________
(2/230)
معا لأنا نقول لا كلام في أن المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق والشايع في الاستعمال هو الدوام لكن قد يستعمل في المكث الطويل المنقطع كسجن مخلد ووقف مخلد فيكون محتملا على أن في جعله لمطلق المكث الطويل نفيا للمجاز والاشتراك فيكون أولى ثم أن المكث الطويل سواء جعل معنى حقيقيا أو مجازيا أعم من أيكون مع دوام كما في حق الكفار أو انقطاع كما في حق الفساق فلا محذور في إرادتهم جميعا وح فلا نسلم أن التأبيد تأكيد بل تقييد ولو سلم فالمراد به تأكيد لطول المكث إذ قد يقال حبس مؤبد ووقف مؤبد وعن الثالثة بأنها في حق الكافرين المنكرين للحشر بقرينة قوله { ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } مع ما في دلالتها على الخلود من المناقشة الظاهرة لجواز أن يخرجوا عند عدم إرادتهم الخروج بالبأس أو الذهول أو نحو ذلك وعن الرابعة بعد تسليم إفادتها النفي عن كل فرد ودلالتها على دوام عدم الغيبة إنما يخص بالكفار جمعا بين الأدلة وكذا الخامسة والسادسة حملا للحدود على حدود الإسلام ولإحاطة الخطيئة على غلبتها بحيث لا يبقى معها الإيمان هذا مع ما في الخلود من الاحتمال الثاني أن الفاسق لو دخل الجنة لكان باستحقاق لامتناع دخول غير المستحق كالكافر واللازم منتف لبطلان الاستحقاق بالإحباط أو الموازنة على ما سيجيء ورد بمنع المقدمتين بل إنما يدخل بفضل الله ورحمته ووعده ومغفرته وسنتكلم على الإحباط والموازنة
الثالث لو انقطع عذاب الفاسق لانقطع عذاب الكافر قياسا عليه بجامع تناهي المعصية ورد بمنع غلبة التناهي ومنع تناهي الكفر قدرا ومنع اعتبار القياس في مقابلة النص والإجماع وفي الاعتقادات
الرابع أن الوعيد بالعقاب الدائم لطف بالعباد لكونه أزجر عن المعاصي فإن منهم من لا يكترث بالعذاب المنقطع عند الميل إلى المستلذات ثم لا بد من تحقيق الوعيد تصديقا للخبر وصونا للقول عن التبديل ورد بمنع وجوب اللطف ومنع انحصاره في الدوام فإن من لا يكترث باللبث في الجحيم أحقابا قلما يستكثر الخلود فيها عقابا وإذ قد كان كل وعيد لطفا ولا شيء من الوعيد يطلق للكل فليكن لطف الخلود في النار مختصا بالكفار وكفى بوعيد النيران بل وعد الجنان لطفا ومزجرة لأهل الإيمان ولو وجب ما هو الغاية في اللطف والزجر لما صح الاكتفاء بوعيد الخلود في النار لإمكان المزيد قال المبحث الحادي عشر لا خلاف في أن من آمن بعد الكفر والمعاصي فهو من أهل الجنة بمنزلة من لا معصية له ومن كفر نعوذ بالله بعد الإيمان والعمل الصالح فهو من أهل النار بمنزلة من لا حسنة له وإنما الكلام فيمن آمن
____________________
(2/231)
وعمل صالحا وآخر سيئا واستمر على الطاعات والكباير كما يشاهد من الناس فعندنا مآله إلى الجنة ولو بعد النار واستحقاقه للثواب والعقاب بمقتضى الوعد والوعيد ثابت من غير حبوط والمشهور من مذهب المعتزلة أنه من أهل الخلود في النار إذا مات قبل التوبة فأشكل عليهم الأمر في إيمانه وطاعته وما ثبت من استحقاقاته أين طارت وكيف زالت فقالوا بحبوط الطاعات ومالوا إلى أن السيئات يذهبن الحسنات حتى ذهب الجمهور منهم إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات وفساده ظاهر أما سمعا فللنصوص الدالة على أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا وأما عقلا فللقطع بأنه لا يحسن من الحكيم الكريم إبطال ثواب إيمان العبد ومواظبته على الطاعات طول العمر يتناول لقمة من الربا وجرعة من الخمر بمنزلة من خدم كريما مائة سنة حق الخدمة ثم بدت منه مخالفة أمر من أوامره فهل يحسن رفض حقوق تلك الخدمات ونقض ما عهد ووعد من الحسنات وتعذيبه عذاب من واظب مدة الحياة على المخالفة والمعاداة وأيضا استحقاق الثواب على الطاعة عندهم إنما هو لكونها حسنة وامتثالا لأمر الباري وهذا متحقق مع الكبيرة فيتحقق أثره وأيضا لو كانت الكبيرة محبطة لثواب الطاعة لكانت منافية لصحتها بمنزلة الردة قالوا استحقاق الثواب والعقاب متنافيان لا يجتمعان لأن الثواب منفعة خالصة دائمة مع التعظيم والعقاب مضرة خالصة دائمة مع الإهانة قلنا لا نسلم لزوم قيد الخلوص والدوام سيما في جانب العقاب وح لا يتنافي الثواب والعقاب بأن يعاقب حينا ثم يثاب ولو سلم فلا يلزم تنافي الاستحقاقين بأن يستحق المنفعة الدائمة من جهة الطاعة والمضرة الدائمة من جهة المعصية ولو سلم فليس إبطال الحسنة بالسيئة أولى من العكس كيف وقد قال الله أن الحسنات يذهبن السيئات وحكم بأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها والحسنة تجزى بعشر أمثالها إلى سبعمائة وأكثر قالوا الإحباط مصرح في التنزيل كقوله تعالى { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم } { أولئك حبطت أعمالهم } و { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } قلنا لا بالمعنى الذي قصدتم بل بمعنى أن من عمل عملا صالحا استحق به الذم وكان يمكنه أن يعمله على وجه يستحق به المدح والثواب يقال أنه أحبط عمله كالصدقة مع المن والأذى وبدونهما وأما إحباط الطاعات بالكفر بمعنى أنه لا يثاب عليها البتة فليس من المتنازع في شيء وحين تنبه أبو علي وأبو هاشم لفساد هذا الرأي رجعا عن التمادي بعض الرجوع فقالا إن المعاصي إنما تحبط بالطاعات إذا أذنب عليها وإن إذنب الطاعات أحبطت المعاصي ثم ليس النظر إلى أعداد الطاعات والمعاصي بل إلى مقادير الأوزار والأجور فرب كبيرة يغلب وزرها أجور طاعات كثيرة ولا سبيل إلى ضبط ذلك بل هو مفوض إلى علم الله ثم افترقا فزعم أبو علي أن الأقل يسقط ولا يسقط من الأكثر شيئا وسقوط الأقل يكون عقابا إذا كان الساقط ثوابا وثوابا إذا كان الساقط عقابا
____________________
(2/232)
وهذا هو الإحباط المحض وقال أبو هاشم الأقل يسقط ويسقط من الأكثر ما يقابله مثلا من له مائة جزء من العقاب واكتسب ألف جزء من الثواب فإنه يسقط عنه العقاب ومائة جزء من الثواب بمقابلته ويبقى له تسعمائة جزء من الثواب ومن له مائة جزء من الثواب واكتسب ألفا من العقاب سقط ثوابه ومائة جزء من عقابه وهذا هو القول بالموازنة لا ما قال في المواقف أنه يوازن بين الطاعات والمعاصي فأيهما رجح أحبط الآخر واختلفت كلمتهم في أن الإحباط والموازنة بين الفعلين أعني الطاعة والمعصية أو المستحقين أعني الثواب والعقاب او الاستحقاقين مال الجبائي إلى الأول وأبو هاشم إلى الثاني وهو المختار عند الأكثرين وبالجملة لا يخفى على أحد أن القول بما ذهبا إليه من الإحباط والموازنة لا يصح إلا بنص من الشارع صريح ونقل صحيح واستدل الإمام الرازي على بطلانه بأن الأكثر إذا أحبط الأقل فإن لم يحبط منه شيء كما هو رأي أبي علي صارت الطاعة السابقة لغوا محضا لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا وهو باطل إما عقلا فلكونه ظلما ولأنه ليس انتفاء الباقي بطريان الحادث أولى من اندفاع الحادث بوجوه الباقي وأما سمعا فكقوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } وغير ذلك وإن حبط من الأكثر ما يوازن الأقل كما هو رأي أبي هاشم فباطل أيضا أما أولا فلأنهما لما كانا متنافيين كان طريان الحادث مشروطا بزوال السابق فلو كان زواله لأجل طريان الحادث لزم الدور وأما ثانيا فلأن تأثير ذلك الاستحقاق القليل في بعض أجزاء الكثير ليس أولى من تأثيره في الباقي لكون الأجزاء متساوية وحينئذ يلزم أن يفنى بذلك القليل كل ذلك الكثير وهو باطل وفاقا وهذا ما قال في المحصل أنه إذا استحق بالطاعة عشرة أجزاء من الثواب وبالمعصية خمسة أجزاء من العقاب فليس انتفاء استحقاق إحدى الخمستين أولى من انتفاء استحقاق الخمسة الأخرى ليتساوى أجزاء الثواب واستحقاقاتها وأما ثالثا فلأن زوال كل من الاستحقاقين بالآخر إما أن يكون دفعة وهو محال لأنه إذا كان عدم كل منهما لوجود الآخر فلو عدما دفعة لوجدا دفعة لكن العلة موجودة حال حدوث المعلول فيلزم كونهما موجودين حال كونهما معدومين هف وأما أن لا يكون دفعة وهو أيضا باطل لأنه إذا كان سبب زوال الأول حدوث الثاني فما لم يوجد الثاني لا يزول الأول وإذا وجد الثاني وزال الأول استحاله زوال الثاني لأنه لا مزيل له لأن التقدير أن كلا منهما إنما يزول بالآخر وهذا ما يقال أن الثاني كان قاصرا عن الغلبة حين مالم يكن مغلوبا فكيف إذا صار مغلوبا واعترض بوجوه
الأول أن الطاري أقوى وبالبقاء أولى لكونه مقارنا لمؤثره الذي يوجده بخلاف السابق فإنه وإن كان موجودا لكن لم يبق معه مؤثره فإذا يجوز على الإحباط أن يفنى السابق بالطاري ويبقى هو بحاله وعلى الموازنة أن يفنى من الطاري ما يقابل السابق ثم يفنى السابق بما بقي من الطاري والجواب المنع بل السابق لاستمرار وجوده وتحقق علة بقائه أقوى وأبقى والطاري لقربه من
____________________
(2/233)
العدم وعدم تحقق علة بقائه بالفناء أولى على أن الدفع أهون من الرفع ثم هذا على تقدير صحته إنما يتأتى فيما إذا كان الأكثر طاريا بخلاف ما إذا استحق بالطاعة ثوابا كثيرا أو بالمعصية عقابا أقل أو بالعكس
الثاني أنه يجوز أن يكون التوقف فيما بين طريان الحادث وزوال السابق توقف معية لا تقدم ليلزم الدور المحال والجواب أن الكلام إنما هو على تقدير جعل طريان الحادث هو السبب في زوال السابق فيتقدمه بالذات ضرورة وهو ينافي اشتراطه به لاستلزامه تأخره عنه بالذات
الثالث أن الاستحقاقات ليست أمورا متمايزة بحسب الخارج بمنزلة ما إذا كان لك عند أحد خمستان وديعة فيمكن تسليم هذه أو تلك بل بحسب الذهن فقط بمنزلة ما إذا كان لك عليه خمستان دينا فلا يكون تسليم خمسة أو الإبراء عنها أو مقاصتها بخمسة له عليك إلا إبراء عن النصف وبما ذكرنا من حمل كلام المحصل على ما نقلنا من تقرير نهاية العقول يظهر أن ليس مقصود الإمام ما فهمه المعترض فإن معناه أن الاستحقاقات لما كانت متساوية فالاستحقاق القليل كما يزيل ما يقابله من الكثير كذلك يزيل الباقي لأن حكم المتساويات واحد بل الاعتراض أن تساوي الاستحقاقات لا يوجب إلا جواز زوال كل بما يزول به الآخر لا زوال الكل بما يزول به البعض
الرابع أما الطاعات والمعاصي مثبتة عند الحفظة وفي صحايف الكتبة فالطاعات تبطل استحقاق العقاب بالمعاصي والمعاصي تبطل استحقاق الثواب بالطاعات من غير لزوم محال والجواب أن المقصود بيان امتناع زوال أحد الاستحقاقين والمستحقين أعني الثواب والعقاب بالآخر على ما هو المذهب في الإحباط والموازنة وبهذا يندفع اعتراض خامس وهو أنه يجوز أن لا يؤثر أحدهما في عدم الآخر لكن يتمانعان في ظهور حكمهما فيظهر حكم الزيادة فقط
السادس أنه يجوز أن يؤثر الطاري في عدم السابق بشرط أن يسقط من الطاري مثل السابق من غير لزوم محذور والجواب أنه يعود الكلام في سقوط ذلك القدر من الطاري ويلزم المحذور نعم يتجه على الوجه الأخير أنه لو جعل زوال كل من الاستحقاقين بالآخر بأن يزيل جزء من هذا جزأ من ذلك وبالعكس إلى أن يفنى الأقل بالكلية ويبقى من الأكثر القدر الزائد لم يلزم شيء من المحالات لأنه يكون مزيلا للجزء الأخير من الأقل إلا أن الإمام إنما أورد هذا البرهان فيما إذا استحق المكلف عشرة أجزاء من الثواب ثم فعل معصية استحق بها عشرة أجزاء من العقاب فلا يرد عليه هذا لكن يتجه أن البيان يختص بما إذا تساوى الاستحقاقات والمعتزلة اضطربوا في مثله وزعم أبو هاشم أنه لا يجوز وقوع ذلك لأن المكلف إما في الجنة أو في النار وأجيب بأنه يجوز أن يرجح جانب الثواب فينزل برحمة الله تعالى منزل الكرامة ويحل بفضله دار المقامة أو يجمع بين الثواب والعقاب من غير خلوص أحدهما أو لا يثاب ولا يعاقب ويكون من أصحاب الأعراف على ما ورد في الحديث ويمكن دفع استدلال الإمام بأن الاستحقاق اعتبار شرعي ليس له تأثير وتأثر حقيقي وفناء بعد وجود بل معنى إحباط الطاعة أو استحقاق الثواب أن الله تعالى
____________________
(2/234)
لا يثيب عليها ومعنى الموازنة أنه لا يثيب عليها ولا يعاقب على المعصية بقدرها من غير أن يتحقق في الخارج استحقاقات بينها منافاة ومفاناة وأما الثواب والعقاب فلا وجود لهما إلا في الآخرة وحينئذ لا اجتماع بينهما ولا اندفاع بل ذلك إلى حكم الله ومشيئته على وفق حكمته والأقرب ما قال إمام الحرمين أنه ليس بإزاء معرفة الله تعالى كبيرة يرى وزرها على أجرها فكان من حقهم أن يدرؤا بها جميع الكبائر فإذا لم يفعلوا ذلك بطل هذيانهم بتغالب الأعمال وسقوط أقلها بأكثرها ومما يجب التنبيه له أنه لا فرق عندهم بين أن يكون المعاصي طارية على الطاعات أو سابقة عليها أو متخللة بينهما وأن ما يوهم به كلام البعض من اختصاص الحكم بما إذا كانت الكبيرة طارية ليس بشيء قال المبحث الثاني عشر اتفقت الأمة ونطق الكتاب والسنة بأن الله تعالى عفو غفور يعفو عن الصغاير مطلقا وعن الكباير بعد التوبة ولا يعفو عن الكفر قطعا وإن جاز عقلا ومنع بعضهم الجواز العقلي أيضا لأنه مخالف لحكمة التفرقة بين من أحسن غاية الإحسان ومن أساء غاية الإساءة وضعفه ظاهر واختلفوا في العفو عن الكباير بدون التوبة فجوزه الأصحاب بل أثبتوه خلافا للمعتزلة حيث منعوه سمعا وإن جاز عقلا عند الأكثرين منهم حتى صرح بعض المتأخرين منهم بأن القول بعدم حسن العفو عن المستحق للعقاب عقلا قول أبي القاسم الكعبي لنا على الجواز أن العقاب حقه فيحسن إسقاطه مع أن فيه نفعا للعبد من غير ضرر لأحد وعلى الوقوع الآيات والأحاديث الناطقة بالعفو والغفران وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات أو يوبقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير { إن الله يغفر الذنوب جميعا } { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } وفي الأحاديث كثرة ومعنى العفو والغفران ترك عقوبة المجرم والستر عليه بعدم المؤاخذة لا يقال يجوز حمل النصوص على العفو عن الصغاير أو عن الكباير بعد التوبة أو على تأخير العقوبات المستحقة أو على عدم شرع الحدود في عامة المعاصي أو على ترك وضع إلا صار عليهم من التكاليف المهلكة كما على الأمم السالفة أو على ترك ما فعل ببعض الأمم من المسخ وكتبة الآثام على الجباه ونحو ذلك بما يفضحهم في الدنيا لأنا نقول هذا مع كونه عدولا عن الظاهر بلا دليل وتقييد للإطلاق بلا قرينة وتخصيصا للعام بلا مخصص ومخالفة لا لأقاويل من يعتد به من المفسرين بلا ضرورة وتفريقا بين الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا المعنى بلا فارق مما لا يكاد يصح في بعض الآيات كقوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية فإن المغفرة بالتوبة تعم الشرك وما دونه فلا تصح التفرقة بإثباتها لما دونه وكذا تعم كل أحد من العصاة فلا تلائم التعليق بمن يشاء المفيد للبعضية وكذا مغفرة الصغاير على أن في تخصيصها إخلالا بالمقصود أعني تهويل شأن الشرك ببلوغه النهاية في القبح بحيث لا يغفر ويغفر جميع ما سواه ولو كبيرة في الغاية وأما باقي المعاني المذكورة فربما يكون
____________________
(2/235)
في الشرك أقوى على مالا يخفى فلا معنى للنفي والمشهور في إبطال تقييدهم المغفرة بما بعد التوبة أن قبول التوبة وترك العقاب بعدها واجب عندهم فلا يتعلق بالمشيئة واعترض بأن ترك العقاب على الكبيرة بعد التوبة ليس واجبا كثواب المطيع بل بمقتضى الوعد بمعنى أنه واجب أن يكون كما هو المذهب عندكم ووعده بذلك ووفاؤه بما وعد هو المغفرة والعفو ولو سلم ففعل الله تعالى وإن كان واجبا عليه يكون بمشيئته وإرادته فيصح تعليقه بها والجواب أن المذهب عندهم على ما صرحوا به في كتبهم هو أن العقاب بعد التوبة ظلم يجب على الله تركه ولا يجوز فعله ثم الواجب وإن كان فعله بالإرادة والمشيئة لا يحسن في الإطلاق تعليقه بالمشيئة كقضاء الدين والوفاء بالنذر لأنه إنما يحسن فيما يكون له الخيرة في الفعل والترك على أنك إذا تحققت فليس هذا مجرد تعليق بالمشيئة بمنزلة قولك يغفر ما دونه إن شاء بل تقييدا للمغفور له بمنزلة قولك يغفر لمن يشاء دون من لا يشاء وهذا لا يكون في الواجب البتة بل في المتفضل به كقولك الأمير يخلع على من يشاء بمعنى أنه يفعل ذلك لكن بالنسبة إلى البعض دون البعض وبهذا يندفع إشكال آخر وهو أن المغفرة معلقة بالمشيئة فلا يدل على الوقوع لعدم العلم بوقوع المشيئة بل على مجرد الجواز وليس المتنازع وقد يدفع بأنه لا بد من وقوع المشيئة ليتحقق الفرق بين الشرك وما دونه على ما هو مقصود سوق الآية وهذا الدفع إنما يتم على رأي من يجعل التفرقة بينهما بوقوع العفو ولا وقوعه ويجعل العفو عن الكفر جايزا غير واقع وعليه الأشاعرة وكثير من المتكلمين قال للمانعين عقلا تمسكت الوعيدية القائلون بعدم جواز العفو عن الكبائر عقلا وهم البلخي وأتباعه بأنه إغراء على القبيح لأن المكلف يتكل على العفو ويرتكب القبايح وهذا قبيح يمتنع إسناده إلى الله تعالى وأجيب بعد تسليم قاعدة الحسن والقبح العقليين بأن مجرد احتمال العقوبة يصلح زاجرا للعاقل عن ارتكاب الباطل فكيف مع الآيات القاطعة بالعذاب والوعيدات الشايعة في ذلك الباب فكيف يكون احتمال تركها بل وقوعه في الجملة وبالنسبة إلى من لا يعلمه إلا الله مظنة للإغراء ومفضية إلى الاجتراء ألا ترى أن قبول التوبة مع وجوبه عندكم وعزم كل أحد عليها غالبا ليس بإغراء والتردد في نيل توفيقها لا يزيد على التردد في نيل كرامة العفو قال قيل ترك العفو أدعى إلى الطاعة فيكون لطفا فيجب فيمتنع العفو قلنا منقوض بقبول التوبة وتأخير العقوبة وإن ادعى وجه مفسدة في تركهما منعنا انتفاءه في ترك العفو فإن في العفو لطفا بالعبد في تأدية وظيفة مزيد الثناء على الله تعالى بالعفو والكرم والرأفة قال وسمعا تمسك القائلون بجواز العفو عقلا وامتناعه سمعا وهم البصريون من المعتزلة وبعض البغدادية بالنصوص الواردة في وعيد الفساق وأصحاب الكبائر إما بالخصوص كقوله تعالى في أكل أموال الناس { ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا } وفي التولي عن الزحف { ومأواه جهنم وبئس المصير } وفي تعدي حدود المواريث { يدخله نارا خالدا فيها }
____________________
(2/236)
) وإما بالدخول في العمومات المذكورة في بحث الخلود وإذا تحقق الوعيد فلو تحقق العفو وترك العقوبة بالنار لزم الخلف في الوعيد والكذب في الأخبار واللازم باطل فكذا الملزوم وأجيب بأنهم داخلون في عمومات الوعد بالثواب ودخول الجنة على ما مر والخلف في الوعد لوم لا يليق بالكريم وفاقا بخلاف الخلف في الوعيد فإنه ربما يعد كرما والقول بالإحباط وبطلان استحقاق الثواب بالمعصية فاسد كما مر فكيف كان ترك عقابهم بالنار خلفا مذموما ولم يكن ترك ثوابهم بالجنة كذلك والدفع بأنه لو صح أن يخلف الوعيد لصح أن يسمى مخلفا ليس بشيء لأن كثيرا من أفعاله بهذه الحيثية أعني لا يصح إطلاق اسم الفاعل ههنا عليه لإيهام النقص كما أنه يتكلم بالمجاز ولا يسمى متجوزا وكذا لا يسمى ماكرا ومستهزئا ونحو ذلك بل مع أنه ينجز وعد الثواب لا يسمى منجزا نعم لزوم الكذب في إخبار الله تعالى مع الإجماع على بطلانه ولزوم تبديل القول مع النص الدال على انتفائه مشكل فالجواب الحق أن من تحقق العفو في حقه يكون خارجا عن عموم اللفظ بمنزلة الثابت فإن قيل صيغة العموم المتعرية عن دليل الخصوص تدل على إرادة كل فرد مما يتناوله اللفظ بمنزلة التنصيص عليه باسمه الخاص فإخراج البعض بدليل متراخ يكون نسخا وهو لا يجري في الخبر للزوم الكذب وإنما التخصيص هو الدلالة على أن المخصوص غير داخل في العموم ولا يكون ذلك إلا بدليل متصل قلنا ممنوع بل إرادة الخصوص من العام والتقييد من المطلق شايع من غير دليل متصل ثم دليل التخصيص والتقييد بعد ذلك وإن كان متراخيا بيان لا نسخ وهذا هو المذهب عند الفقهاء الشافعية والقدماء من الخفية وكانوا ينسبون القول بخلاف ذلك إلى المعتزلة إلا أن المتأخرون منهم لا يعدون ذلك نسخا ويخصون التخصيص بما يكون دليله متصلا ويجوزون الخلف في الوعيد ويقولون الكذب يكون في الماضي دون المستقبل وهذا ظاهر الفساد فإن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو كذب سواء كان في الماضي أو في المستقبل قال الله تعالى { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم } ثم قال { والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } على أن المذهب عندنا أن إخبار الله تعالى أزلي لا يتعلق بالزمان ولا يتغير بتغيير المخبر به على ما سبق في بحث الكلام فإن قيل فعلى ما ذكرتم يكون حكم العام هو التوقف حتى يظهر دليل الخصوص قلنا لا بل يجري على عمومه في حق العمل بل وفي حق وجوب اعتقاد العموم دون فرضيته وهذا البحث مستوفى في أصول الفقه وقد بسط الكلام فيه صاحب التبصرة بعض البسط وللإمام الرازي ههنا جواب إلزامي وهو أن صدق كلامه لما كان عندنا أزليا امتنع كذبه لأن ماثبت قدمه امتنع عدمه وأما عندكم فإن امتنع كذبه لكونه قبيحا فلم قلتم أن هذا الكذب قبيح وقد توقف عليه العفو الذي هو غاية الكرم وهذا كمن أخبر أنه يقتل
____________________
(2/237)
زيد غدا ظلما ففي الغد إما أن يكون الحسن قتله وهو باطل وإما ترك قتله وهو الحق لكنه لا يوجد إلا عند وجود الكذب ومالا يوجد الحسن إلا عند وجوده حسن قطعا فهذا الكذب حسن قطعا ويمكن دفعه بأن الكذب في إخبار الله تعالى قبيح وإن تضمن وجوها من المصلحة وتوقف عليه أنواع من الحسن لما فيه من مفاسد لا تحصى ومطاعن في الإسلام لا تخفى منها مقال الفلاسفة في المعاد ومجال الملاحدة في العناد وههنا بطلان ما وقع عليه الإجماع من القطع بخلود الكفار في النار فإن غاية الأمر شهادة النصوص القاطعة بذلك وإذا جاز الخلف لم يبق القطع إلا عند شرذمة لا يجوزون العفو عنهم في الحكمة على ما يشعر قوله تعالى { أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون } وغير ذلك من الآيات ووجه التفرقة أن العاصي قلما يخلو عن خوف عقاب ورجاء رحمة وغير ذلك من خيرات تقابل ما ارتكب من المعصية اتباعا للهوى بخلاف الكافر وأيضا الكفر مذهب والمذهب يعتقد للأبد وحرمته لا تحتمل الارتفاع أصلا فكذلك عقوبته بخلاف المعصية فإنها لوقت الهوى والشهوة وأما من جوز العفو عقلا والكذب في الوعيد إما قولا لجواز الكذب المتضمن الفعل الحسن أو بأنه لا كذب بالنسبة إلى المستقبل فمع صريح إخبار الله تعالى بأنه لا يعفو عن الكافر ويخلده في النار فجواز الخلف وعدم وقوع مضمون هذا الخبر محتمل ولما كان هذا باطلا قطعا علم أن القول بجواز الكذب في إخبار الله تعالى باطل قطعا قال خاتمة قد اشتهر من مذهب المعتزلة أن صاحب الكبيرة بدون التوبة مخلد في النار وإن عاش على الإيمان والطاعة مائة سنة ولم يفرقوا بين أن تكون الكبيرة واحدة أو كثيرة واقعة قبل الطاعات أو بعدها أو بينها وجعلوا عدم القطع بالعقاب وتفويض الأمر إلى أن الله تعالى يغفر إن شاء ويعذب إن شاء على ما هو مذهب أهل الحق إرجاء بمعنى أنه تأخير للأمر وعدم جزم بالعقاب أو الثواب وبهذا الاعتبار جعل أبو حنيفة من المرجئة وقد قيل له من أين أخذت الإرجاء فقال من الملائكة عليهم السلام قالوا لا علم لنا إلا ما علمتنا وإنما المرجئة الخالصة الباطلة هم الذين يحكمون بأن صاحب الكبيرة لا يعذب أصلا وإنما العذاب والنار للكفار وهذا تفريط كما أن قول الوعيدية إفراط والتفويض إلى الله تعالى وسط بينهما كالكسب بين الجبر والقدر ونحن نقول ينبغي أن يكون ما اشتهر منهم مذهب بعضهم والمختار خلافه لأن مذهب الجبائي وأبي هاشم وكثير من المحققين وهو اختيار المتأخرين أن الكبائر إنما تسقط الطاعات وتوجب دخول النار إذا زاد عقابها على ثوابها والعلم بذلك مفوض إلى الله تعالى فمن خلط الحسنات بالسيئات ولم يعلم عليه غلبة الأوزار لم يحكم بدخوله النار بل إذا زاد الثواب يحكم بأنه لا يدخل النار أصلا واضطربوا فيما إذا تساوى الثواب والعقاب وصرحوا بأن هذا بحسب السمع وأما بحسب العقل فيجوز العفو عن الكبائر كلها إلا عند الكعبي وذكر إمام الحرمين
____________________
(2/238)
في الإرشاد أن مذهب البصريين وبعض البغداديين جواز العفو عقلا أو شرعا ولقد مننا بهذا على المعتزلة إن أدركوا ونهجنا لهم منهاجا إن سلكوا وإلا فمن لهم بعصمة تنجي أو توبة ترجي قال المبحث الثالث عشر في الشفاعة يدل على ثبوتها النص والإجماع إلا أن المعتزلة قصروها على المطيعين والتائبين لرفع الدرجات وزيادة المثوبات وعندنا يجوز لأهل الكبائر أيضا في حط السيئات إما في العرصات وإما بعد دخول النار لما سبق من دلائل العفو عن الكبيرة ولما اشتهر بل تواتر معنى من ادخار الشفاعة لأهل الكبائر كقوله عليه السلام ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وترك العقاب بعد التوبة واجب عندهم فليس للعفو والشفاعة كثير معنى وقد يستدل بقوله تعالى { واستغفر لذنبك وللمؤمنين } أي لذنوب المؤمنين فيعم الكبائر وبقوله تعالى في حق الكفار { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } فإن مثل هذا الكلام إنما يساق حيث تنفع الشفاعة غيرهم فيقصد تقبيح حال الكفرة وتخييب رجائهم بأنهم ليسوا كذلك إذ لو لم تنفع الشفاعة أحدا لما كان في تخصيصهم زيادة تخييب وتوبيخ لهم لكنه مع هذا التكلف لا يفيد إلا ثبوت أصل الشفاعة ولا نزاع فيه نعم لو تم ما ذكره بعض أصحابنا من أن الشفاعة لا يجوز أن تكون حقيقة لزيادة المنافع بل لإسقاط المضار فقط والصغاير مكفرة عندكم باجتناب الكبائر فتعين أن تكون لإسقاط الكبائر لكان في إثبات أصل الشفاعة إثبات المطلوب إلا أن غاية متشبثهم في ذلك هو أن الشفاعة لو كانت حقيقة في طلب زيادة المنافع لكنا شافعين في حق النبي عليه السلام حين نسأل الله تعالى زيادة كرامته واللازم باطل وفاقا واعترض بأنه يجوز أن يعتبر فيها زيادة قيد ككون الشفيع أعلى حالا من المشفوع له أو كون زيادة المنافع محصولة البتة لسؤاله وطلبه وأجيب بأن الشفيع قد يشفع لنفسه فلا يكون أعلى وقد يكون غير مطاع فلا يقع المسؤل فضلا عن أن يكون لأجل سؤاله فإن قيل إطلاق الشفاعة على طلب المنافع مما لا سبيل إلى إنكاره كقول الشاعر
( فذاك فتى إن تأته في صنيعة ** إلى ماله لم تأته بشفيع )
وكما في منشور دار الخلافة لسلطان محمود وليناك كورة خراسان ولقيناك بيمين الدولة وأمين الملة بشفاعة أبي حامد الإسفرائني قلنا نعم لكن لو كان حقيقة لا طرد فيما ذكرنا احتجت المعتزلة بوجوه
الأول الآيات الدالة على نفي الشفاعة بالكلية فيخص المطيع والتائب بالإجماع فتبقى حجة فيما وراء ذلك مثل قوله تعالى { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا } الآية والضمير في لا تقبل منها شفاعة ولا تنفعها شفاعة للنفس المبهمة العامة وكقوله تعالى { من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة } وكقوله تعالى { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع } أي يجاب بمعنى لا شفاعة أصلا على طريقة قوله ولا ترى الضب بها يتحجر وكقوله تعالى { وما للظالمين من أنصار }
الثاني ما يشعر بنفي الشفاعة لصاحب الكبيرة منطوقا كقوله تعالى { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى }
____________________
(2/239)
) فإنه ليس بمرتضى أو مفهوما كقوله تعالى حكاية عن حملة العرش { ويستغفرون للذين آمنوا } { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } ولا فارق بين شفاعة الملائكة والأنبياء
الثالث ما سبق من الآيات المشعرة بخلود الفساق ولو كانت شفاعة لما كان خلودا
الرابع الإجماع على الدعاء بقولنا اللهم اجعلنا من أهل الشفاعة محمد ولو خصت الشفاعة لأهل الكبائر لكان ذلك دعاء يجعله منهم والجواب عن الأول بعد تسليم العموم في الأزمان والأحوال أنها تختص بالكفار جمعا بين الأدلة على أن الظالم على الإطلاق هو الكافر وأن نفي النصرة لا يستلزم نفي الشفاعة لأنها طلب على خضوع والنصرة ربما تنبىء عن مدافعة ومغالبة هذا بعد تسليم كون الكلام لعموم السلب لا لسلب العموم وقد سبق مثل ذلك وعن الثاني بأنا لا نسلم أن من ارتضى لا يتناول الفاسق فإنه مرتضى من جهة الإيمان والعمل الصالح وإن كان مبغوضا من جهة المعصية بخلاف الكافر المتصف بمثل العدل أو الجود فإنه ليس بمرتضى عند الله تعالى أصلا لفوات أصل الحسنات وأساس الكمالات ولا نسلم أن الذين تابوا لا يتناول الفاسق فإن المراد تابوا عن الشرك إذ لا معنى لطلب مغفرة من تاب عن المعاصي وعمل صالحا عندكم لكونه عبثا أو طلبا لترك الظلم بمنع المستحق حقه هذا بعد تسليم دلالة التخصيص بالوصف على نفي الحكم عما عداه وعن الثالث بما سبق في مسئلة انقطاع عذاب صاحب الكبيرة وعن الرابع أن المراد اجعلنا من اهل الشفاعة على تقدير المعاصي كما في قولنا اجعلنا من أهل المغفرة وأهل التوبة وتحقيقه أن المتصف بالصفات إذا اختص بكرامة منشأها بعض تلك الصفات دون البعض لم يكن استدعاء أهلية تلك الكرامة إلا استدعاء الصفة التي هي منشأ تلك الكرامة ألا يرى أن المعالجة وإن لم تكن إلا للمريض لكن قولك اللهم اجعلني من أهل العلاج ليس طلبا للمرض بل لقوة المزاج فكذا ههنا الشفاعة وإن اختصت بأهل الكبائر لكن منشأها الإيمان وبعض الحسنات التي تصير سببا لرضى الشفيع عنه وميله إليه وبهذا يخرج الجواب عما قالوا أن من حلف بالطلاق أن يعمل ما يجعله أهلا للشفاعة أنه يؤمر بالطاعات لا المعاصي قال خاتمة ظاهر قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } يدل على أن الكبائر متمايزة عن الصغاير بالذات لا كما قيل أن كل سيئة فهي بالنسبة إلى ما فوقها صغيرة وبالنسبة إلى ما دونها كبيرة لأنه لا يتصور حينئذ اجتناب الكبائر إلا بترك جميع المنهيات سوى واحدة هي دون الكل وأنى للبشر ذلك فمن ههنا ذهب بعضهم إلى تفسير الكبيرة بأنها التي تشعر بقلة الاكتراث بالدين أو التي توعد عليها الشارع بخصوصها وبعضهم إلى تعيين الكبائر ففي رواية ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنها الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وقذف المحصنة والزنا والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين والإلحاد في الحرم وزاد
____________________
(2/240)
في رواية أبي هريرة أكل الربا وفي رواية على السرقة وشرب الخمر قال المبحث الرابع عشر في التوبة وهي في اللغة الرجوع يقال تاب وناب أو أناب إذا رجع فإذا أسند إلى العبد أريد رجوعه عن الزلة إلى الندم وإذا أسند إلى الله تعالى أريد رجوع نعمه وإلطافه إلى عباده وفي الشرع هي الندم على المعصية لكونها معصية وقيد بذلك لأن الندم على المعصية لا ضرارها ببدنه أو إخلالها بعرضه أو ماله أو نحو ذلك لا تكون توبة وأما الندم لخوف النار أو طمع الجنة فهل تكون توبة فيه تردد مبني على أن ذلك هل يكون ندما عليها لقبحها ولكونها معصية أم لا وكذا في الندم عليها لقبحها مع غرض آخر والحق أن جهة القبح إن كانت بحيث لو انفردت لتحقق الندم فتوبة وإلا فلا كما إذا كان الغرض مجموع الأمرين لا كل واحد منهما وكذا في التوبة عند مرض مخوف بناء على أن ذلك الندم هل يكون لقبح المعصية أم لا بل للخوف كما في الآخرة عند معاينة النار فيكون بمنزلة إيمان اليأس والظاهر من كلام النبي عليه السلام قبول التوبة مالم تظهر علامات الموت ومعنى الندم تحزن وتوجع على أن فعل وتمنى كونه لم يفعل ولا بد من هذا للقطع بأن مجرد الترك كالماجن إذا مل مجونه فاستروج إلى بعض المباحات ليس بتوبة ولقوله عليه السلام الندم توبة وقد يزاد قيد العزم على ترك المعاودة في المستقبل واعترض بأن فعل المعصية في المستقبل قد لا يخطر بالبال لذهول أو جنون أو موت أو نحو ذلك وقد لا يقتدر عليه لعارض آفة كخرس في القذف وشلل أوجب في الزنا فلا يتصور العزم على الترك لما فيه من الإشعار بالقدرة والاختيار فأجيب بأن المراد العزم على الترك على تقدير الخطور والاقتدار حتى لو سلب القدرة لم يشترط العزم على الترك بهذا يشعر كلام إمام الحرمين حيث قال أن العزم على ترك المعاودة إنما يقارن التوبة في بعض الأحوال ولا يطرد في كل حال إذ العزم إنما يصح فيمن يتمكن من مثل ما قدمه ولا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا ولا من الآخرس العزم على ترك القذف فما ذكر في المواقف من أن قولنا إذا قدر لأن من سلب القدرة على الزنا وانقطع طمعه عن عود القوة إذا عزم على تركه لم يكن ذلك توبة منه ليس على ما ينبغي لإشعاره بأن العزم على الترك يصح مع عدم القدرة على الفعل وبأن الندم على الفعل مع العزم على الترك لا يكفي في التوبة لكن لا بد من أمر ثالث هو بقاء القدرة وكلام الإمام وغيره أن عند عدم القدرة لا يشترط في التوبة العزم بل لا يصح ويكفي مجرد الندم لا يقال مراد المواقف أن مجرد هذ العزم بدون الندم ليس بتوبة لأنا نقول هذا لغو من الكلام لا بيان لفائدة التقييد بالقدرة وقد يتوهم أن تقدير القدرة قيد للترك لا للعزم أي يجب العزم على أن لا يفعل على تقدير القدرة حتى يجب على من عرض له الآفة أن يعزم على أن لا يفعل لو فرض وجود القدرة بهذا يشعر ما قال في المواقف أن الزاني المجبوب إذا ندم وعزم على أن لا يعود على تقدير القدرة فهو توبة عندنا خلافا لأبي هاشم
____________________
(2/241)
ثم التحقيق إن ذكر العزم إنما هو للتقرير والبيان لا التقييد والاحتراز إذ النادم على المعصية لقبحها لابخ عن ذلك العزم البتة على تقدير الحظور والاقتدار هذا وقد شاع في عرف العوام إطلاق اسم التوبة على الاستئناف وإظهار العزم على ترك المعصية في المستقبل وليس من التوبة في شيء مالم يتحقق الندم والأسف على ما مضى وعلامته طول الحسرة والحزن وانسكاب الدموع ومن نظر في باب التوبة من كتاب الإحياء للإمام حجة الإسلام وتأمل فيما يروى من قصة استغفار داود عليه السلام علم صعوبة أمر التوبة والمعتزلة لما خرجوا بالكبيرة عن الإيمان وجزموا بالدخول بل الخلود في النيران مالم يتوبوا هونوا أمر التوبة حتى اعتقد عوامهم أنه يكفي مجرد قول العاصي تبت ورجعت وخواصهم أنه يكفي أن يعتقد أنه أساء وأنه لو أمكنه رد تلك المعصية لردها ولا حاجة إلى الأسف والحزن لأن أهل الجنة يندمون على تقصيرهم ولا حزن وإنما الحزن لتوقع الضرر ولا ضرر مع الندم ولأن العاصي مكلف بالتوبة في كل وقت ولا يمكنه تحصيل الغم والحزن فيلزم تكليف مالا يطاق قال وهي واجبة لا نزاع في وجوب التوبة أما عندنا فسمعا لقوله تعالى { وتوبوا إلى الله جميعا } { توبوا إلى الله توبة نصوحا } ونحو ذلك وأما عند المعتزلة فعقلا لما فيها من دفع ضرر العقاب ولما أن الندم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح وهذا يتناول الصغائر أيضا فيكون حجة على البهشمية القائلين بوجوب التوبة عن الصغائر سمعا لا عقلا لسقوط عقوبتها ثم المصرح في كلام المعتزلة أن وجوب التوبة على الفور حتى يلزمه بتأخير ساعة إثم آخر يجب التوبة عنه وهلم جرا حتى ذكروا أن بتأخير التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة تكون له كبيرتان المعصية وترك التوبة وساعتين أربع الأوليان وترك التوبة عن كل منهما وثلاث ساعات ثمان وهكذا وأما قبول التوبة فلا يجب عندنا إذ لا وجوب على الله تعالى وهل ثبت سمعا ووعدا قال إمام الحرمين نعم بدليل ظني إذ لم يثبت في ذلك نص قاطع لا يحتمل التأويل وعند المعتزلة يجب حتى قالوا أن العقاب بعد التوبة ظلم لكن بمقتضى الجود على رأي البغدادية وبمقتضى العدل والحكمة على رأي الجمهور واحتجوا بأن العاصي قد بذل وسعه في التلافي فيسقط عقابه كمن بالغ في الاعتذار إلى من أساء إليه سقط ذمه بالضرورة وبأن التكليف باق وهو تعريض للثواب ولا يتصور إلا بسقوط العقاب فوجب أن يكون له مخلص من العقاب وليس غير التوبة فوجب أن يكون مخلصا وأكثر المقدمات مزخرف بل ربما يدعى القطع بأن من أساء إلى غيره وانتهك حرماته ثم جاء معتذرا لا يجب في حكم العقل قبول اعتذاره بل الخيرة إلى ذلك الغير إن شاء صفح وإن شاء جازاه وأما احتجاجنا بالإجماع على الابتهال إلى الله تعالى في وجوب قبول التوبة وعلى وجوب شكره على ذلك فربما يدفع بأن المسؤل هو استجماعها بشرايط القبول فإن الأمر فيه خطير ووجوب القبول لا ينافي وجوب الشكر لكونه إحسانا
____________________
(2/242)
في نفسه كتربية الوالد لولده يجب شكرها مع وجوبها ثم اختلفوا في مسقط العقوبة فعند اكثر المعتزلة بنفس التوبة وعند بعضهم بكثرة ثوابها إذ لو كان بنفس التوبة لسقط بتوبة الملجأ ويندم العاصي عند معاينة النار ورد بمنع الندم في صورة الإلجاء وبمنع كونه للقبح في صورة المعاينة واحتج الأكثرون بأنه لو كان بكثرة الثواب لما اختصت التوبة عن معصية معينة بسقوط عقابها دون أخرى لأن نسبة كثرة الثواب إلى الكل على السوية ولما بقي فرق بين التوبة المتقدمة على المعصية والمتأخرة عنها في إسقاط عقابها كسائر الطاعات التي تسقط العقوبات بكثرة ثوابها واللازم باطل للقطع بأن من تاب عن المعاصي كلها ثم شرب الخمر لا يسقط عنه عقاب الشرب وأما عندنا فهو بمحض عفو الله تعالى وكرمه وتوبته الصحيحة عبادة يثاب عليها تفضلا ولا تبطل بمعاودة الذنب ثم إذا تاب عنه ثانيا يكون عبادة أخرى فإن قيل فعندكم حكم المؤمن المواظب على الطاعات المعصوم عن المعاصي والمؤمن المصر على المعاصي طول عمره من غير عبادة أصلا والمؤمن الجامع بين الطاعات والمعاصي من غير توبة والمؤمن التائب عن المعاص واحد وهو التفويض إلى مشيئة الله تعالى من غير قطع بالثواب أو العقاب فلا رجاء من الطاعات والتوبة ولا خوف من المعصية والإصرار وهذه جهالة جاهلة ومكابرة تابهة قلنا حكم الكل واحد في أنه لا يجب على الله تعالى في حقهم شيء لكن يثيب المطيع والتايب البتة بمقتضى الوعد على تفاوت درجات ويعاقب العاصي المصر بمقتضى الوعيد على اختلاف دركات لكن مع احتمال العفو احتمالا مرجوحا فإين التساوي وانقطاع الخوف والرجاء نعم خوفنا لا ينتهي إلى حد اليأس والقنوط إذ لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ثم اختلفت المعتزلة في أنه إذا سقط استحقاق عقاب المعصية بالتوبة هل يعود استحقاق ثواب الطاعة الذي أبطله تلك المعصية فقال أبو على وأبو هاشم لا لأن الطاعة تنعدم في الحال وإنما يبقى استحقاق الثواب وقد سقط والساقط لا يعود وقال الكعبي نعم لأن الكبيرة لا تزيل الطاعة وإنما تمنع حكمها وهو المدح والتعظيم فلا تزيل ثمرتها فإذا صارت بالتوبة كأن لم تكن ظهرت ثمرة الطاعة كنور الشمس إذا زال الغيم وقال بعضهم وهو اختيار المتأخرين لا يعود ثوابه السابق لكن تعود طاعته السالفة مؤثرة في استحقاق ثمراته وهو المدح والثواب في المستقبل بمنزلة شجرة أحرقت بالنار أغصانها وثمارها ثم انطفت النار فإنه يعود أصل الشجرة وعروقها إلى خضرتها وثمرتها قال ولا يلزم تجديد الندم كلما ذكر المعصية لأنه قد أتى بما كلف به وخرج عن عهدته خلافا للقاضي منا وأبي علي من المعتزلة وشبهتهما أنه لو لم يندم كلما ذكرها لكان مشتهيا لها فرحا بها وذلك إبطال للندم ورجوع إلى الإصرار والجواب المنع إذ ربما يضرب عنها صفحا من غير ندم عليها ولا اشتهاء لها وابتهاج بها ولو كان الأمر كما ذكر
____________________
(2/243)
لزم أن لا تكون التوبة السابقة صحيحة وقال القاضي أنه إن لم يجد ندما كان ذلك معصية جديدة يجب الندم عليها والتوبة الأولى مضت على صحتها إذا لعبادة الماضية لا ينقضها شيء بعد ثبوتها قال ولا تعميمه لتصح المذهب أنه تصح التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على بعض خلافا لأبي هاشم لنا الإجماع على أن الكافر إذا أسلم وتاب عن كفره مع استدامة بعض المعاصي صحت توبته وإسلامه ولم يعاقب إلا عقوبة تلك المعصية وأيضا ليست التوبة عن تلك المعاصي إلا الرجوع عنها والندم عليها والعزم على أن لا يعاودها وقد وجدت وشبهة أبي هاشم أن الندم عليها يجب أن يكون لقبحها وهو شامل للمعاصي كلها فلا يتحقق الندم على قبيح مع الإصرار على قبيح وأجيب بأن الشامل للكل هو القبح لا قبحها والتحقيق على ما ذكره صاحب التجويد هو أن الدواعي إلى الندم عن القبائح وإن اشتركت في كون الندم على القبيح لقبحه لكن يجوز أن تترجح بعض الدواعي بأمور تنضم إليه كعظم المعصية أو قلة غلبة الهوى فيها فيبعثه ذلك الترجح على الندم عن هذا البعض خاصة دون البعض الآخر لانتفاء ترجيح الداعي بالنسبة إليه ولا يلزم من ذلك ان يكون الندم على البعض الذي تحقق منه الترجيح لا لقبحه إذ لا يخرج الداعي بهذا الترجيح عن الاشتراك في كونه داعيا إلى الندم على القبيح لقبحه وهذا كما في الدواعي إلى الفعل لحسنه قد يترجح البعض فيخصص بعض الأفعال الحسنة بالوقوع ولا يلزم من ترك البعض الآخر كون إيقاع هذا البعض لا لحسنه بل لغرض غاية ما في الباب إنه حصل للداعي إلى هذا الفعل لحسنه رجحان لم يحصل للداعي إلى الفعل الآخر وهذا ما قال أصحابنا أنه كما يجوز الإتيان بواجب لحسنه مع ترك واجب آخر يجوز ترك قبيح لقبحه مع الإصرار على قبيح آخر يقال ويكفي في الإجمال يعني يكفي في التوبة عن المعاصي كلها الإجمال وإن علمت مفصلة لحصول الندم والعزم وذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا بد من الندم تفصيلا فيما علم مفصلا ورد بأنه مكلف بالتوبة في كل وقت مع امتناع اجتماع الذنوب الكثيرة في وقت واحد فلو لم يكف الإجمال ألزم تكليف ما لايطاق قالوا ثم إن كانت المعصية في خالص حق الله تعالى كالواجب فقد يكفي الندم كما في ارتكاب الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف وقد يفتقر إلى أمر زائد كتسليم النفس للحد في الشرب وتسليم ما وجب في ترك الزكاة ومثله في ترك الصلاة وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما كما في الغصب والقتل العمد ولزم أرشاده إن كان الذنب إضلالا له والاعتذار إليه إن كان إيذاء كما في الغيبة ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش والتحقيق إن هذا الزائد واجب آخر خارج عن التوبة على ما قال إمام الحرمين أن القاتل إذا ندم من غير تسليم نفسه للقصاص صحت توبته في حق الله تعالى وكان منعه القصاص من مستحقه معصية متجددة تستدعي توبة
____________________
(2/244)
ولا يقدح في التوبة عن القتل ثم قال وربما لا يصح التوبة بدون الخروج من حق العبد كما في الغصب فإنه لا يصح الندم عليه مع إدامة اليد على المغصوب ففرق بين القتل والغصب قال المبحث الخامس عشر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد جرت عادة المتكلمين بإيرادهما في علم الكلام مع أنهما بالفروع أشبه وكأنهما يشبهان التوبة في الزجر عن ارتكاب المعصية والإخلال بالواجب والمراد بالمعروف الواجب وبالمنكر الحرام ولهذا بنوا القول بأنهما واجبان مع القطع بأن الأمر بالمندوب ليس بواجب بل مندوب والدليل على وجوبهما من غير توقف على ظهور الإمام كما يزعم الروافض والكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقوله تعالى { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر } وأما السنة فقوله عليه السلام مر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك وقوله عليه السلام لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم وقوله عليه السلام من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان وأما الإجماع فهو أن المسلمين في الصدر الأول وبعده كانوا يتواصون بذلك ويوبخون تاركه مع الاقتدار عليه فإن استدل على نفي الوجوب بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وقوله تعالى { لا إكراه في الدين } وبما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت قلنا يا رسول الله متى لا يؤمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر قال إذا كان البخل في خياركم وإذا كان الحكم في رذالكم وإذا كان الإدهان في كباركم وإذا كان الملك في صغاركم أجيب بأن المعنى أصلحوا أنفسكم بأداء الواجبات وترك المعاصي وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يضركم بعد النهي عنادهم وإصرارهم على المعصية أو لا يضر المهتدي إذا نهى ضلال الضال وقوله لا إكراه منسوخ بأيات القتال على أنه ربما يناقش في كون الأمر والنهي إكراها أما الحديث فلا يدل إلا على نفي الوجوب عند فوات الشرط بلزوم المفسدة وانتفاء الفائدة فإن من شرائط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علم الفاعل بوجههما من أنه واجب معين أو مخير مضيق أو موسع عين أو كفاية وكذا في المنهى وبالجملة العلم بما يختلف باختلافه حال الأمر والنهي ليقعا على ما ينبغي ومنها تجويز التأثير بأن لا يعلم عدم التأثير قطعا لئلا يكون عبثا واشتغالا بما لا يعني فإن قيل يجب وإن لم يؤثر إعزازا للدين قلنا ربما تكون ذلك إذلالا ومنها انتفاء مضرة ومفسدة أكثر من ذلك المنكر أو مثله وهذا في حق الوجوب دون الجواز حتى قالوا يجوز وإن ظن أنه يقتل ولا ينكى نكاية بضرب ونحوه لكن يرخص له السكوت بخلاف من يحمل وحده على المشركين ويظن أنه يقتل فإنه إنما يجوز إذا غلب على ظنه أنه ينكى فيهم بقتل
____________________
(2/245)
أو جرح أو هزيمة قال ولا يختص بالولاة كان المسلمون في الصدر الأول وبعده يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر من غير نكير من أحد ولا توقيف على إذن فعلم أنه لا يختص بالولاة بل يجوز لآحاد الرعية بالقول والفعل لكن إذا انتهى الأمر إلى نصب القتال وشهر السلاح ربط بالسلطان حذرا عن الفتنة كذا ذكر إمام الحرمين وقال أن الحكم الشرعي إذا استوى في إدراكه الخاص والعام ففيه للعالم وغير العالم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإذا اختص مدركه بالاجتهاد فليس للعوام فيه أمر ونهي بل الأمر فيه موكول إلى أهل الاجتهاد ثم ليس لمجتهد أن يتعرض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موضع الخلاف إذ كل مجتهد مصيب في الفروع عندنا ومن قال أن المصيب واحد فهو غير متعين عنده وذكر في محيط الحنفية أن للحنفي أن يحتسب على الشافعي في أكل الضبع ومتروك التسمية عمدا وللشافعي أن يحتسب على الحنفي في شرب المثلث والنكاح بلا ولي ثم لا يختص وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن يكون ورعا لا يرتكب مثله بل من رأى منكرا وهو يرتكب مثله فعليه أن ينهى عنه لأن تركه للمنكر ونهيه عنه فرضان متميزان ليس لمن ترك أحدهما ترك الآخر ثم هو فرض كفاية إذا قام به في كل بقعة من فيه غناء سقط الفرض عن الباقين وهذا لا ينافي القول بأنه فرض على الكل لأن المذهب أن فرض الكفاية فرض على الكل ويسقط بفعل البعض نعم إذا نصب لذلك أحد تعين عليه فيحتسب فيما يتعلق بحقوق الله تعالى من غير بحث وتجسس وفيما يتعلق بحقوق العباد لا على وجه العموم كمطل المديون الموسر وتعدي الجار في جدار الجار يحتسب إذا استعداه صاحب الحق وعلى العموم كتعطل شرب البلد وانهدام سورة وترك أهله رعاية أبناء السبيل المحتاجين مع عدم المال في بيت المال يحتسب ويأمر على الإطلاق وينكر على من يغير هيئات العبادات كالجهل في الصلاة السرية وبالعكس وعلى من يزيد في الأذان وعلى من يتصدى الإفتاء أو التدريس أو الوعظ وهو ليس من أهله وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم أو قصروا في النظر في الخصومات وعلى أئمة المساجد المطروقة إذا طولوا في الصلاة وبهذا يعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر على الواجب والحرم وينبغي أن يحتسب برفق وسكون متدرجا إلى الأغلظ فالأغلظ بحسب حال المنكر ذكر في المحيط للحنفية أن من رأى غيره مكشوف الركبة ينكر عليه برفق ولا ينازعه إن لج وفي الفخذ ينكر عليه بعنف ولا يضربه وإن لج وفي السوءة أدبه وإن لج قتله قال الفصل الثالث في الأسماء والأحكام وفيه مباحث هذه الترجمة شايعة في كلام المتقدمين ويعنون بالأسماء اسامي المكلفين في المدح مثل المؤمن والمسلم والمتقي والصالح وفي الذم مثل الكافر والفاسق والمنافق وبالأحكام ما لكل منها في الآخرة من الثواب والعقاب
____________________
(2/246)
وكيفيتهما قال المبحث الأول الإيمان في للغة التصديق أفعال من الأمن للصيرورة أو التعدية بحسب الأصل كأن المصدق صار ذا أمن من أن يكون مكذوبا أو جعل الغير آمنا من التكذيب والمخالفة ويعدى بالباء لاعتبار معنى الإقرار والاعتراف كقوله تعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه } وباللام لاعتبار معنى الإذعان والقبول كقوله تعالى حكاية { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } ولما أنه في التحقيق عايدا إلى أخذ الشيء صادقا والصدق مما يوصف به المتكلم والكلام والحكم يقع تعليقه بالشيء باعتبارات مختلفة مثل آمنت بالله أي بأنه واحد متصف بما يليق منزه عما لا يليق وآمنت بالرسول أي بأنه مبعوث من الله تعالى صادق فيما جاء به وآمنت بملائكته أي بأنهم عباده المكرمون المطيعون المعصومون لا يتصفون بذكورة ولا أنوثة ليسوا بنات الله ولا شركاءه وآمنت بكتبه وكلماته أي بأنها منزلة من عند الله صادقة فيما تتضمنه من الأحكام وآمنت باليوم الآخر أي بأنه كائن البتة وآمنت بالقدر أي بأن الخير والشر بتقدير الله ومشيئته ومرجع الكل إلى القبول والاعتراف وأما في الشرع فاختلف الآراء في تحقيق الإيمان وفي كونه اسما لفعل القلب فقط أو فعل اللسان فقط أو لفعلهما جميعا وحدهما أو مع سائر الجوارح وهذه طرق أربعة فعلى الأول قد يجعل اسما للتصديق أعني تصديق النبي فيما علم مجيئه به بالضرورة أي فيما اشتهر كونه من الدين بحيث يعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال كوحدة الصانع ووجوب الصلاة وحرمة الخمر ونحو ذلك ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالا ويشترط التفصيل فيما يلاحظ تفصيلا حتى لو لم يصدق بوجوب الصلاة عند السؤال عنه وبحرمة الخمر عند السؤال عنه كان كافرا وهذا هو المشهور وعليه الجمهور وقد يجعل اسما للمعرفة أعني معرفة ما ذكرنا ويتناول معرفة الله تعالى بوحدانيته وسائر ما يليق به وتنزهه عما لا يليق به وهو مذهب الشيعة وجهم بن صفوان وأبي الحسين الصالحي من القدرية وقد يميل إليه الأشعري وستعرف فرقا بين المعرفة والتصديق ومن الناس من يكاد يقول بأنه اسم لمعنى آخر غير المعرفة والتصديق هو التسليم إلا أنه يعود بالآخرة إلى التصديق على ما يراه أهل التحقيق وعلى الثاني وهو أن يجعل اسما لفعل اللسان أعني الإقرار بحقية ما جاء به النبي عليه السلام وقد يشترط معه معرفة القلب حتى لا يكون الإقرار بدونها إيمانا وإليه ذهب الرقاشي زاعما أن المعرفة ضرورية يوجد لا محالة فلا يجعل من الإيمان لكونه اسما لفعل مكتسب لا ضروري وقد يشترط التصديق وإليه ذهب القطان وصرح بأن الإقرار الخالي عن المعرفة والتصديق لا يكون إيمانا وعند اقترانه بهما يكون الإيمان هو الإقرار فقط وقد لا يشترط شيء منهما
____________________
(2/247)
وإليه ذهب الكرامية حتى أن من أضمر الكفر وأظهر الإيمان يكون مؤمنا إلا أنه يستحق الخلود في النار ومن أضمر الإيمان وأظهر الكفر لا يكون مؤمنا ومن أضمر الإيمان ولم يتفق منه الإظهار والإقرار لم يستحق الجنة وإذا تحققت فليس لهؤلاء الفرق الثلاث كثير خلاف في المعنى وفيما يرجع إلى الأحكام وعلى الثالث وهو أن يكون اسما لفعل القلب واللسان فهو اسم للتصديق المذكور مع الإقرار وعليه كثير من المحققين وهو المحكي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وكثيرا ما يقع في عبارات التحارير من العلماء مكان التصديق تارة المعرفة وتارة العلم وتارة الاعتقاد فعلى هذا من صدق بقلبه ولم يتفق له الإقرار باللسان في عمره مرة لا يكون مؤمنا عند الله تعالى ولا يستحق دخول الجنة ولا النجاة من الخلود في النار بخلاف ما إذا جعل اسما للتصديق فقط فإن الإقرار حينئذ شرط لإجراء الأحكام عليه في الدنيا من الصلاة عليه وخلفه والدفن في مقابر المسلمين والمطالبة بالعشور والزكوات ونحو ذلك ولا يخفى أن الإقرار بهذا الغرض لا بد أن يكون على وجه الإعلان والإظهار على الإمام وغيره من أهل الإسلام بخلاف ما إذا كان لا تمام الإيمان فإنه يكفي مجرد التكلم وإن لم يظهر على غيره ثم الخلاف فيما إذا كان قادرا وترك التكلم لا على وجه الإباء إذ العاجز كالأخرس مؤمن وفاقا والمصر على عدم الإقرار مع المطالبة به كافر وفاقا لكون ذلك من إمارت عدم التصديق ولهذا أطبقوا على كفر أبي طالب وإن كابرت الروافض غير متألمين في أنه كان أشهر أعمام النبي عليه الصلاة والسلام وأكثرهم اهتماما لشأنه وأوفرهم حرصا من النبي عليه الصلاة والسلام على إيمانه فكيف اشتهر إيمان حمزة والعباس رضي الله عنهما وشاع على رؤس المنابر فيما بين الناس وورد في إيمانهما الأحاديث المشهورة وكثر منهما في الإسلام المساعي المشكورة دون أبي طالب وأما على الرابع وهو أن يكون الإيمان اسما لفعل القلب واللسان والجوارح على ما يقال أنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان فقد يجعل تارك العمل خارجا عن الإيمان داخلا في الكفر وإليه ذهب الخوارج أو غير داخل فيه وهو القول بالمنزلة بين المنزلتين وإليه ذهب المعتزلة إلا أنهم اختلفوا في الأعمال فعند أبي علي وأبي هاشم فعل الواجبات وترك المحظورات وعند أبي الهذيل وعبدالجبار فعل الطاعات واجبة كانت أو مندوبة إلا أن الخروج عن الإيمان وحرمان دخول الجنة بترك المندوب مما لا ينبغي أن يكون مذهبا لعاقل وقد لا يجعل تارك العمل خارجا عن الإيمان بل يقطع بدخول الجنة وعدم خلوده في النار وهو مذهب أكثر السلف وجميع أئمة الحديث وكثير من المتكلمين والمحكي عن مالك والشافعي والأوزاعي رض وعليه إشكال ظاهر وهو أنه كيف لا ينتفي الشيء أعني الإيمان مع انتفاء ركنه أعني الأعمال وكيف يدخل الجنة من لم يتصف بما جعل اسما للإيمان وجوابه أن الإيمان يطلق على ما هو الأصل والأساس في دخول الجنة وهو التصديق وحده أو مع الإقرار وعلى ما هو الكامل المنجي بلا خلاف
____________________
(2/248)
وهو التصديق مع الإقرار والعمل على ما أشير إليه بقوله تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } إلى قوله { أولئك هم المؤمنون حقا } وموضع الخلاف أن مطلق الاسم للأول أم الثاني وذكر الإمام في وجه الضبط أن الإيمان إما أن يكون اسما لعمل القلب فقط وهو المعرفة عند الإمامية وجهم والتصديق عندنا وإما لعمل الجوارح فإن كان هو ا لقول فمذهب الكرامية أو سائر الأعمال فمذهب المعتزلة وأما مجموع عمل القلب والجوارح وهو مذهب السلف وفيه اختلال من جهة ترك عمل القلب في مذهب الاعتزال وعدم التعرض لمذهب التصديق والإقرار فإن قيل قد ذكرت من المذاهب ما يبلغ عشرة ونحن قاطعون بأن النبي عليه السلام ومن بعده كانوا يأمرون بأمر معلوم يمتثل من غير افتقار إلى بيان ولا استفسار إلا بحسب المتعلق أعني ما يجب الإيمان به فكيف ذلك قلنا لا خفاء ولا خلاف في أنهم كانوا يأمرون بالتصديق وقبول الأحكام ويكتفون في حق الأحكام الدنيوية بما يدل على ذلك وهو الإقرار إلا أنه وقع اختلاف واجتهاد في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع الإقرار أم كلاهما مع الأعمال وفي أن ذلك مجرد معرفة واعتقاد أم أمر زائد على ذلك وهذا لا بأس به قال لنا مقامات
الأول أن الإيمان فعل القلب دون مجرد فعل اللسان
الثاني أنه التصديق دون المعرفة والاعتقاد
والثالث أن الأعمال ليست داخلة فيه بحيث ينتفي هو بانتفائها أما المقام الأول فبيانه بنصوص تدل على ذلك حتى أن القول بكون الإيمان مجرد الإقرار يكاد يجري مجرى إنكار النصوص قال الله تعالى { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } { الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } وقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم ثبت قلبي على دينك ومن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان الحديث وقد يستدل بوجهين
أحدهما أنه لو كان الإيمان هو القول لما كان المكلف مؤمنا حقيقة إلا حال التلفظ لانقضاء القول بعده بخلاف التصديق فإنه باق في القلب حتى حال النوم والغفلة إلى طريان ضده الذي هو الكفر وأجيب بعد تسليم كون اسم الفاعل حقيقة في الحال دون الماضي بأن المؤمن بحسب الشرع اسم لمن تكلم بما يدل على التصديق إلى أن يطرأ ضده
وثانيهما أنا لو فرضنا عدم وضع لفظ التصديق المعنى أو وضعه لمعنى آخر لم يكن المتلفظ به مؤمنا قطعا وأجيب بأنهم لا يعنون أن الإيمان هو التلفظ بهذه الحروف كيف ما كانت بل التلفظ بالكلام الدال على تصديق القلب أية ألفاظ كانت وأية حروف من غير أن يجعل التصديق جزأ منه والحاصل أنه اسم للمقيد دون المجموع تمسك المخالف بوجهين أحدهما قوله تعالى { فأثابهم الله بما قالوا } حيث رتب ثواب الجنة على القول قلنا إن
____________________
(2/249)
كانت ما موصولة فالقول بالتحقيق هو المعنى وإن كانت مصدرية فالقول إن حمل على اللفظي فالثواب عليه لدلالته على وجود المعنى في النفس وإن حمل على النفس فهو نفس التصديق ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } حيث رتب على القول الخالي عن تصديق القلب العقاب بالنار والمخالف أيضا لا يخالف في ذلك وقوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } حيث نفى الإيمان عمن أقر باللسان دون القلب وثانيهما أن النبي عليه السلام ومن بعده كانوا يكتفون من كل أحد بمجرد الإقرار والتلفظ بكلمتي الشهادة حتى أن أسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله ذهابا إلى أنه لم يكن مصدقا بالقلب أنكر عليه النبي عليه السلام وقال هلا شققت قلبه وقال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم قلنا هذا في حق أحكام الدنيا وإنما النزاع في أحكام الآخرة وإذا تأملت فحديث أسامة لنا لا علينا قال المقام الثاني أن الإيمان في اللغة التصديق بشهادة النقل عن أئمة اللغة ودلالة موارد الاستعمال ولم ينقل في الشرع إلى معنى آخر أما أولا فلأن النقل خلاف الأصل لا يصار إليه إلا بدليل وأما ثانيا فلأنه كثر في الكتاب والسنة خطاب العرب به بل كان ذلك أول الواجبات وأساس المشروعات فامتثل من امتثل من غير استفسار ولا توقف إلى بيان ولم يكن ذلك من الخطاب بما لا يفهم وإنما احتيج إلى بيان ما يجب الإيمان به فبين وفصل بعض التفصيل حيث قال النبي عليه السلام لمن سأله عن الإيمان الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله الحديث فذكر لفظ تؤمن بالله تعويلا على ظهور معناه عندهم ثم قال هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم دينكم ولو كان الإيمان غير التصديق لما كان هذا تعليما وإرشادا بل تلبيسا وإضلالا نعم لو قيل أنه في اللغة لمطلق التصديق وقد نقل في الشرع إلى التصديق بأمور مخصوصة فلا نزاع وإنما المقصود أنه تصديق بالأمور المخصوصة بالمعنى اللغوي وهو ما يعبر عنه بالفارسية بكرويدن وراست كوى داشتن ويخالفه التكذيب وينافيه التوقف والتردد ولهذا اختار العلماء في ألفاظ الإيمان كرويدم باورداشتم راست كوى داشتم بدل وأنه معنى واضح عند العقل لا يشتبه على العوام فضلا عن الخواص والمذهب أنه غير العلم والمعرفة لأن من الكفار من كان يعرف الحق ولا يصدق به عنادا واستكبارا قال الله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } وقال { وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون } وقال { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وقال حكاية عن موسى عليه السلام لفرعون { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض } بصائر فاحتيج إلى الفرق بين العلم بما جاء به النبي عليه السلام وهو معرفته
____________________
(2/250)
وبين التصديق ليصح كون الأول حاصلا للمعاندين دون الثاني وكون الثاني إيمانا دون الأول فاقتصر بعضهم على أن ضد التصديق هو الإنكار والتكذيب وضد المعرفة النكارة والجهالة وإليه أشار الإمام الغزالي رحمه الله حيث فسر التصديق بالتسليم فإنه لا يكون مع الإنكار والاستكبار بخلاف العلم والمعرفة وفصل بعضهم زيادة تفصيل وقال التصديق عبارة عن ربط القلب بما علم من إخبار المخبر وهو أمر كسبي يثبت بإخبار المصدق ولهذا يؤمر ويثاب عليه بل يجعل رأس العبادات بخلاف المعرفة فإنها ربما يحصل بلا كسب كمن وقع بصره على جسم فحصل له معرفة أنه جدار أو حجر وحققه بعض المتأخرين زيادة تحقيق فقال المعتبر في الإيمان هو التصديق الاختياري ومعناه نسبة الصدق إلى المتكلم اختيارا وبهذا القيد يمتاز عن التصديق المنطقي المقابل للتصور فإنه قد يخلو عن الاختيار كما إذا ادعى النبي النبوة وأظهر المعجزة فوقع في القلب صدقه ضرورة من غير أن ينسب إليه اختيارا فإنه لا يقال في اللغة أنه صدقه فلا يكون إيمانا شرعيا كيف والتصديق مأمور به فيكون فعلا اختياريا زائدا على العلم لكونه كيفية نفسانية أو انفعالا وهو حصول المعنى في القلب والفعل القلبي ليس كذلك بل هو إيقاع النسبة اختيارا الذي هو كلام النفس ويسمى عقد القلب فالسوفسطائي عالم بوجود النهار وكذا بعض الكفار بنبوة النبي عليه السلام لكنهم ليسوا مصدقين لغة لأنهم لا يحكمون اختيارا بل ينكرون وكلام هذا المحقق متردد يميل تارة إلى أن التصديق المعتبر في الإيمان نوع من التصديق المنطقي الذي هو أحد قسمي العلم لكونه مقيدا بالاختيار وكون التصديق العلمي أعم لا فرق بينهما إلا بلزوم الاختيار وعدمه وتارة إلى أنه ليس من جنس العلم أصلا لكونه فعلا اختياريا وكون العلم كيفية أو انفعالا وعلى هذا الأخير أصر بعض المعتنين بتحقيق معنى الإيمان وجزم بأن التسليم الذي فسر به الإمام الغزالي التصديق ليس من جنس العلم بل أمر وراءه معناه كردن دادن وكرويدن وحق داشتن مرا نراكه حق دانسته باشيء ويؤيده ما ذكره إمام الحرمين أن التصديق على التحقيق كلام النفس لكن لا يثبت كلام النفس إلا مع العلم ونحن نقول لا شك أن التصديق المعتبر في الإيمان هو ما يعبر عنه في الفارسية بكرويدن وباوركردن وراست كوى داشتن إذا اضيف إلى الحاكم وراست داشتن وحق داشتن إذا أضيف إلى الحكم ولا يكفي مجرد العلم والمعرفة الخالي عن هذا المعنى لكن ههنا مواضع نظر ومطارح فكر لا بد من التنبيه عليها ولا غنى من الإشارة إليها
الأول أنه ليس معنى كون المأمور به مقدورا واختياريا أنه يلزم أن يكون البتة من مقولة الفعل التي ربما ينازع في كونها من الأعيان الخارجية دون الاعتبارات العقلية بل أن يصح تعلق قدرته به وحصوله يكسبه واختياره سواء كان في نفسه من الأوضاع والهيئات
____________________
(2/251)
كالقيام والقعود أو الكيفيات كالعلم والنظر فاعلم أنه لا إله إلا هو { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض } أو الانفعالات كالتسخن والتبرد والحركات والسكنات وغير ذلك كالصلاة أو التروك كالصوم إلى غير ذلك ومع هذا فالواجب المقدور المثاب عليه بحكم الشرع يكون نفس تلك الأمور لا مجرد إيقاعها فكون الإيمان مأمورا به اختياريا مقدورا مثابا عليه لا ينافي كونه كيفية نفسانية يكتسبها المكلف بقدرته واختياره بتوفيق الله تعالى وهدايته على أنه لو لزم كون المأمور به هو الفعل بمعنى التأثير جاز أن يكون معنى الأمر بالإيمان الأمر بإيقاعه واكتسابه وتحصيله كما في سائر الواجبات
الثاني أن ابن سينا وهو القدوة في فن المنطق والثقة في تفسير ألفاظه وشرح معانيه صرح بأن التصديق المنطقي الذي قسم العلم إليه وإلى التصور هو بعينه اللغوي المعبر عنه في الفارسية بكرويدن المقابل للتكذيب قال في كتابه المسمى بدانش نامه علائي دانش دوكونه است يكي دربافتن ودررسيدن وآنرا بتازى قصور خوانند ودوم كرويدن وآنرا بتازى تصديق خوانند وهذا صريح بأن ثاني قسمي العلم هو المعنى الذي يوضع بإزائه لفظ التصديق في لغة العرب وكرويدن في لغة الفرس ونفي لما عسى يذهب إليه معاند من أن كرويدن في المنطق غيره في اللغة وقال في الشفاء التصديق في قولك البياض عرض هو أن يحصل في الذهن نسبة صورة هذا التأليف إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لها والتكذيب يخالف ذلك فلم يجعل التصديق حصول النسبة التامة في الذهن على ما يفهمه البعض بل حصول أن ينسب الذهن الثبوت أو الانتفاء الذي بين طرفي المؤلف إلى ما في نفس الأمر بالمطابقة ومعناه نسبة الحكم إلى الصدق أعني صادق داشتن وكرو بدن وبينه بأنه ضد التكذيب الذي معناه النسبة إلى الكذب أعني كاذب داشتن وبهذا يندفع ما يقال أن الحكم فعل اختياري هو الإيقاع أو الانتزاع فكيف يكون نفس التصديق أو جزؤه والتصديق قسم من العلم الذي هو من مقولة الكيف أو الانفعال ونعم ما قال من قال الإسناد والإيقاع ونحو ذلك ألفاظ وعبارات والتحقيق أنه ليس للنفس ههنا تأثير وفعل بل إذعان وقبول وإدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة نعم حصول هذا التصديق قد يكون بالكسب أي مباشرة الأسباب بالاختيار كإلقاء الذهن وصرف النظر وتوجيه الحواس وما أشبه ذلك وقد يكون بدونه كمن وقع عليه الضوء فعلم أن الشمس طالعة والمأمور به يجب أن يكون من الأول فإن قيل فاليقين الحاصل بدون الإذعان والقبول بل مع الجحود والاستكبار كما للسوفسطائي ولبعض الكفار يكون من قبيل التصور دون التصديق وهو ظاهر البطلان قلنا نحن لا ندعي إلا كون التصديق المنطقي على ما يفسره رئيسهم لا على ما يفهمه كل نساج وحلاج هو التصديق اللغوي المقابل للتكذيب المعبر عنه بكرويدن وأنه لا يصح حينئذ بت القول وإطباق القوم على أن المعتبر في الإيمان هو اللغوي دون المنطقي
____________________
(2/252)
بل غايته أنه يجب اشتراط أمور كالاختيار وترك الجحود والاستكبار وأما أنه يلزم على قصد تقسيمه وتفسيره كون اليقين الخالي عن الإذعان والقبول تصورا أو خارجا عن التصور والتصديق فذلك بحث آخر لكن الكلام في إمكان الإيقان بدون الإذعان وفي كون بعض الكفار موقنين بجميع ما جاء به النبي عليه السلام غير مصدقين وفي أن كفرهم ليس من جهة الإباء عن الإقرار باللسان والاستكبار عن امتثال الأوامر وقبول الأحكام والإصرار على التكذيب باللسان إلى غير ذلك من موجبات الكفر مع تصديق القلب لعدم الاعتداد به مع تلك الإمارات كما في إلقاء المصحف في القاذورات
الثالث أنا لا نفهم من نسبة التصديق إلى المتكلم بالقلب سوى إذعانه وقبوله وإدراكه لهذا المعنى أعني كون المتكلم صادقا من غير أن يتصور هناك فعل وتأثير من القلب ونقطع بأن هذا كيفية للنفس قد تحصل بالكسب والاختيار ومباشرة الأسباب وقد تحصل بدونها فغاية الأمر أن يشترط فيما اعتبر في الإيمان أن يكون تحصيله بالاختيار على ما هو قاعدة المأمور به وأما أن هذا فعل وتأثير من النفس لا كيفية لها وأن الاختيار معتبر في مفهوم التصديق اللغوي فممنوع بل معلوم الانتفاء قطعا ولو كان الإيمان والتصديق من مقولة الفعل دون الكيف لما صح الاتصاف به حقيقة إلا حال المباشرة والتحصيل كما لا يخفى على من يعرف معنى هذه المقولة
الرابع أنه وقع في كلام كثير من عظماء الملة وعلماء الأمة مكان لفظ التصديق لفظ المعرفة والعلم والاعتقاد فينبغي أن يحمل على العلم التصديقي المعبر عنه بكرويدن ويقطع بأن التصديق من جنس العلوم والاعتقادات لكنه في الإيمان مشروط بقيود وخصوصيات كالتحصيل والاختيار وترك الجحود والاستكبار ويدل على ذلك ما ذكره أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أن الإيمان معرفة والمعرفة تسليم والتسليم تصديق فإن قيل قد ذكر إمام الحرمين والإمام الرازي وغيرهما أن التصديق من جنس كلام النفس وكلام النفس غير العلم والإرادة قلنا معناه أنه ليس بمتعين أن يكون علما أو إرادة بل كل ما يحصل في النفس من حيث يدل عليه بعبارة أو كتابة أو إشارة فهو كلام النفس سواء كان علما أو إرادة أو طلبا أو إخبارا أو استخبارا أو غير ذلك وليس كلام النفس نوعا من المعاني مغايرا لما هو حاصل في النفس باتفاق الفرق وإلا لكان إنكاره إنكارا للتصديق والطلب والإخبار والاستخبار وسائر ما يحصل في القلب وليس كذلك بل إنكاره عائد إلى أن الكلام هو المسموع فقط دون هذه المعاني فالقول بأن الإيمان كلام النفس لا يكفي في التقصي عن مطالبته أنه من أي نوع من أنواع الأعراض وأية مقولة من المقولات ولا محيص سوى تسليم أنه من الكيفيات النفسية الحاصلة بالاختيار الخالية عن الجحود والاستكبار وليت شعري أنه إذا لم يكن من جنس العلوم والاعتقادات فما معنى تحصيله بالدليل أو التقليد وهل يعقل أن يكون ثمرة النظر
____________________
(2/253)
والاستدلال غير العلم والاعتقاد وكلام كثير من ذوي التحصيل القائلين بالتصديق يدل على أنهم لا يعنون بالمعرفة التي لا تكفي في الإيمان معرفة حقية جميع ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام قال أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة لا يلزم من انعدام العلم انعدام التصديق فإنا آمنا بالملائكة والكتب والرسل ولا نعرفهم بأعيانهم والمعاندون يعرفون ولا يصدقون كما قال الله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب } فدل على انفكاك التصديق عن العلم والعلم عن التصديق ولهذا لم يجعل الإيمان معرفة على ما ذهب إليه جهم بن صفوان
الخامس أن ما ذكر من اعتبار الاختيار في نفس التصديق اللغوي وكون الحاصل بلا كسب واختيار ليس بإيمان يدل على أن تصديق الملائكة بما ألقي عليهم والأنبياء بما أوحي إليهم والمصدقين بما سمعوا من النبي عليه السلام كله مكتسب بالاختيار وأن من حصل له هذا المعنى بلا كسب كمن شاهد المعجزة فوقع في قلبه صدق النبي عليه السلام فهو مكلف بتحصيل ذلك اختيارا بل صرح هذا القائل بأن العلم بالنبوة الحاصل من المعجزات حدسي ربما يقع في القلب من غير اختيار ولا ينضم إليه التصديق الاختياري المأمور به وكل هذا موضع تأمل فإن قيل لا شك أن المقصود بالتصديق والتسليم واحد والتصريح بذلك من أكابر الصحابة وعلماء الأمة وارد وفي قوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } عليه شاهد وإن أمكنت مناقشته وبقوله تعالى { وما زادهم إلا إيمانا وتسليما } مجادلة ففي اتحاد المفهوم لا غير فما بال أقوام شددوا النكير أو أكثروا المدافعة على من قال بذلك من المتأخرين ونسبوه إلى اختراع مذهب في الإسلام وزيادة ركن في الإيمان قلنا لأنه كان يزعم أولا أن التسليم أمر زائد على التصديق الذي اعتبره العلماء لم ينكشف على من قبله من الأذكياء واعترف بأنه إنما اطلع عليه بعد حين من الدهر وصدر من العمر مع أن السلف قد صرحوا بأن المراد به ما يعبر عنه في الفارسية بكرويدن وباور داشتن وبذيرفتن وراست كوى داشتن وأنه لا يكفي مجرد المعرفة لحصولها لبعض الكفار على ما تلونا من الآيات فكاد يفضي ذلك إلى نسبة نفسه مدة من الزمان وكثير من السلف إلى الجهل بحقيقة الإيمان وإلى الإصرار على أنه لا بد من أمر وراء التصديق والإقرار ولأنه اتخذ لفظ التصديق مهجورا مع كونه في ما بين الأنام مشهورا وعلى وجه الأيام مذكورا وبنى الأمر كله على لفظ التسليم بحيث اعتقد كثير من العوام بل الخواص أنهما معنيان مختلفان قد يجتمعان وقد يفترقان لا حظ لأهل التصديق دون التسليم من الإيمان وربما يرى الواحد من غلاة الفريقين وجهلة القبيلين يشمئز من أحد اللفظين ولا يكتفي بأن يكون التصديق والتسليم مذهبين ولأنه اعتبر في التسليم تحقيقات وتدقيقات لم تخطر ببال الكثير من المسلمين بل لا يفهمهما إلا الأذكياء من أئمة الدين فاتخذها جهلة العوام ذريعة إلى تكفير الناس وتجهيل الخواص
____________________
(2/254)
حتى استفتوه في شأن بعض رؤساء الدين وعلماء المسلمين والمهرة من المحققين فأفتى بكفره بناء على أنه أنكر بعض ما أورده هو في تحقيق الإيمان مع أنك إذا تحققت فبعض منازعاتهما لفظي وبعضها اجتهادي إلى غير ذلك من أمور قصد بها صلاح الدين وقمع الجاحدين لكنها أدت إلى ما أدت وأفضت إلى ما أفضت لما أنه ترك الأرفق إلى الأوفق والأليق إلى الأوثق ولا عليه فإنه قد بذل الجهد في إحياء مراسم الدين وإعلاء لواء المسلمين جزاه الله خير الجزاء عن أهل اليقين وأعلى درجته يوم اللقاء في عليين قال المقام الثالث الأعمال غير داخلة في حقيقة الإيمان لوجوه
الأول ما مر أنه اسم للتصديق ولا دليل على النقل
الثاني النص والإجماع على أنه لا ينفع عند معاينة العذاب ويسمى إيمان اليأس ولا خفاء في أن ذلك إنما هو التصديق والإقرار إذ لا مجال للأعمال
الثالث النصوص الدالة على الأوامر والنواهي بعد إثبات الإيمان كقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام }
الرابع النصوص الدالة على أن الإيمان والأعمال أمران متفارقان كقوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ) وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال إيمان لا شك فيه وجهاد لا غلول فيه وحج مبرور
والخامس الآيات الدالة على أن الإيمان والمعاصي قد يجتمعان كقوله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } و { والذين آمنوا ولم يهاجروا } { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } الآية { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون }
السادس الإجماع على أن الإيمان شرط العبادات
السابع أنه لو كان اسما للطاعات فأما للجميع فيلزم انتفاؤه بانتفاء بعض الأعمال فلم يكن من صدق وأقر مؤمنا قبل الإتيان بالعبادات والإجماع على خلافه وعلى أن من صدق وأقر فأدركه الموت مات مؤمنا قال في التبصرة قد أجمع المسلمون على تحقيق اسم الإيمان وإثبات حكمه بمجرد الاعتقاد وأما لكل عمل على حدة فيكون كل طاعة إيمانا على حدة والمنتقل من طاعة إلى طاعة منتقلا من دين إلى دين
الثامن أن جبرائيل عليه السلام لما سأل النبي عليه السلام عن الإيمان لم يجبه إلا بالتصديق دون الأعمال وقالت المعتزلة نحن لا ننكر استعمال الإيمان في الشرع في معناه اللغوي أعني التصديق لكنا ندعي نقله عن ذلك إلى معنى شرعي هو فعل الطاعات وترك المعاصي لأن المفهوم من إطلاق المؤمن في الشرع ليس هو المصدق فقط ولأن الأحكام المجراة على المؤمنين دون الكفرة ليست منوطة بمجرد المعنى اللغوي ورد بأنا لا ندعي كونه اسما لكل تصديق بل للتصديق بأمور مخصوصة كما في الحديث المشهور فإن أريد بالنقل عن المعنى اللغوي مجرد هذا فلا نزاع ولا دلالة على ما يزعمون من كونه اسما للطاعات فاحتجوا بوجوه
____________________
(2/255)
بوجوه
الأول أن فعل الواجبات هو الدين المعتبر لقوله تعالى { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } أي ذلك المذكور من إقامة الصلاة وغيرها هو الدين المعتبر والدين المعتبر هو الإسلام لقوله تعالى { إن الدين عند الله الإسلام } والإسلام هو الإيمان لما سيجيء وأجيب أولا بأن ذلك مفرد مذكر وجعله إشارة إلى جملة ما سبق تأويل ليس أولى وأقرب من جعله إشارة إلى الإخلاص أو التدين والانقياد ولما سبق من الأمر بل ربما يكون هذا أولى لبقاء اللفظ على معناه اللغوي أو قريبا منه ألا ترى أن قوله تعالى { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } إلى قوله { ذلك الدين القيم } معناه أن التدين بكون الشهور اثني عشر أربعة منها حرم والانقياد لذلك هو الدين المستقيم على أن ههنا شيئا آخر وهو أن الدين في تلك الآية مضاف إلى القيمة لا موصوف كما في هذه الآية والمعنى دين الملة القيمة فلا يكون معناه الملة والطريقة بل الطاعة كما في قوله تعالى { مخلصين له الدين } وحينئذ سقط الاستدلال بالكلية وثانيا بأن معنى الآية الثانية أن الدين المعتبر هو دين الإسلام للقطع بأن الدين وهو الملة والطريقة التي تعتبر غالبا إضافتها إلى الرسول لا تكون نفس الإسلام الذي هو صفة المكلف وثالثا بما سيجيء من الكلام على دليل اتحاد الإيمان والإسلام
الثاني قوله تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } إلى قوله { أولئك هم المؤمنون حقا } وقوله تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } الآية وأجيب بأن المراد كمال الإيمان جمعا بين الأدلة
الثالث قوله تعالى { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم إلى بيت المقدس وأجيب بأن المعنى تصديقكم بوجوبها أو بكونها جائزة عند التوجه إلى بيت المقدس أو هو مجاز لظهور العلاقة وهو كون الصلاة من شعب الإيمان وثمراته ومشروطة به ودالة عليه على ما قال النبي عليه الصلاة والسلام بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة
الرابع أن كل قاطع الطريق يخزى يوم القيامة لأنه يدخل النار بدليل قوله تعالى { ولهم في الآخرة عذاب النار } وكل من يدخل النار يخزى بدليل قوله تعالى حكاية وتقريرا { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } ولا شيء من المؤمن يخزى يوم القيامة لقوله تعالى { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } وأجيب بمنع الكبرى فإن المراد بالذين آمنوا معه الصحابة لا كل مؤمن ولا يصح لهم التمسك بقوله تعالى { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } لأن القاطع ليس بكافر فإن قيل هب أن ليس في الذين آمنوا معه قاطع طريق لكن لا شك أن فيهم العاصي والباغي وبهذا يتم الاستدلال قلنا إنما يتم لو ثبت بالدليل أنه لا يعفى عنه ولا يثاب عليه بل يدخل النار البتة وأن الآيات الثلاث مجراة على العموم
الخامس قوله عليه
____________________
(2/256)
السلام لا يزني الزاني وهو مؤمن لا يسرق السارق وهو مؤمن لا إيمان لمن لا أمانة له لا إيمان لمن لا عهد له وأجيب بأنه على قصد التغليظ والمبالغة في الوعيد كقوله تعالى في تارك الحج { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } والمعارضة بمثل قوله عليه السلام وإن زنى وإن سرق حتى قال وإن رغم أنف أبي ذر
السادس لو كان الإيمان هو التصديق لكان كل مصدق بشيء مؤمنا وعلى تقدير التقييد بالأمور المخصوصة لزم أن لا يكون بغض النبي عليه السلام وإلقاء المصحف في القاذورات وسجدة الصنم ونحو ذلك كفرا ما دام تصديق القلب بجميع ما جاء به النبي عليه السلام باقيا واللازم منتف قطعا وأجيب بأن من المعاصي ما جعله الشارع إمارة عدم التصديق تنصيصا عليه أو على دليله والأمور المذكورة من هذا القبيل بخلاف مثل الزنا وشرب الخمر من غير استحلال
السابع أن الإيمان بمعنى التصديق بجامع الشرك ونفي الإيمان الشرعي بقوله تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وقوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } وأجيب بأن الأول تصديق بالله وحده وهو غير كاف بالاتفاق والثاني تصديق باللسان فقط وهو محض النفاق
الثامن أن اسم المؤمن ينبئ عن استحقاق غاية المدح والتعظيم وكفاك قوله تعالى في آخر قصة بعض الأنبياء { إنه من عبادنا المؤمنين } ومرتكب الكبيرة إنما يستحق الذم والعذاب الأليم فلا يستحق اسم المؤمن على الإطلاق وأجيب بأنه يستحق المدح من جهة التصديق الذي هو رأس الطاعات والذم من حيث الإخلال بالأعمال ولا منافاة وما يقع في معرض المدح على الإطلاق يحمل على كمال الإيمان على ما هو مذهب السلف قال خاتمة كما اختلفت الأمة في حكم صاحب الكبيرة فكذلك في اسمه بعد الاتفاق على تسميته فاسقا فعندنا مؤمن وعند المعتزلة لا مؤمن ولا كافر ويسمون ذلك المنزلة بين المنزلتين وعند الخوارج كافر وعند الحسن البصري منافق وقد فرغنا من إقامة الأدلة ودفع شبه المعتزلة المبنية على كون الأعمال من الإيمان فالآن نشير إلى دفع باقي شبههم وشبه الخوارج ومن يسميه بالمنافق فمن شبه المعتزلة ما احتج به واصل بن عطاء على عمرو بن عبيد حتى رجع إلى مذهبه وهو أنه اجتمعت الأمة على أن صاحب الكبيرة فاسق واختلفوا في كونه مؤمنا أو كافرا فوجب ترك المختلف فيه والأخذ بالمتفق عليه والجواب أن هذا ترك للمتفق عليه وهو أنه إما مؤمن أو كافر ولا واسطة بينهما وأخذ بما لم يقل به أحد فضلا عن الاتفاق ومنها أن للفاسق بعض أحكام المؤمن المطلق كعصمة الدم والمال والإرث من المسلم والمناكحة
____________________
(2/257)
والغسل والصلاة عليه والدفن في مقابر المسلمين وبعض أحكام الكافر كالذم واللعن وعدم أهلية الإمامة والقضاء والشهادة فيكون له منزلة بين المنزلتين فلا يكون مؤمنا ولا كافرا والجواب أن هذا إنما يتم لو كان ما جعلتموه أحكام الكافر خواصه التي لا تتجاوزه إلى المؤمن أصلا كما في أحكام المؤمن وهذا نفس المتنازع فإنها عندنا تعم الكافر وبعض المؤمنين وفي كلام المتأخرين من المعتزلة ما يرفع النزاع وذلك أنهم لا ينكرون وصف الفاسق بالإيمان بمعنى التصديق أو بمعنى إجراء الأحكام بل بمعنى استحقاق غاية المدح والتعظيم وهو الذي نسميه الإيمان الكامل ونعتبر فيه الأعمال وننفيه عن الفساق فيكون لهم منزلة بين منزلة هذا النوع من الإيمان وبين منزلة الكفر بالاتفاق وكأنه رجوع عن المذهب وإعراض كما يقال في نفي الصفات أنا نريد ما هو من قبيل الإعراض وإلا فقدماؤهم يصرحون بأن من أخل بالطاعة ليس بمؤمن بحسب الشرع بل بمجرد اللغة وبأن القول بتعدد القديم كفر من غير فرق بين العرض وغيره وأما الخوارج فمذهب جمهورهم إلى أن كل معصية كفر ومنهم من فرق ين الصغيرة والكبيرة وتمسكوا بوجوه
الأول النصوص الناطقة بكفر العصاة كقوله تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وقوله تعالى في تارك الحج { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } وقوله تعالى { ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } حصر الفسق على الكافر فيكون كل فاسق كافرا وكقول النبي عليه السلام من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر وقوله ومن مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا قلنا المراد بما أنزل الله هو التوراة بقرينة قوله تعالى { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون } إلى قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله } فيختص من لم يحكم باليهود ولأنا لم نتعبد بالحكم بالتوراة على أنه لو كان للعموم فسلب العموم احتمال ظاهر ثم التعبير عن ترك الحج بالكفر استعظام له وتغليظ في الوعيد عليه وكذا الحديث الوارد في هذا المعنى في ترك الصلاة عمدا مع احتمال الاستحلال والمراد بالفاسقين في قوله تعالى ( فأولئك هم الفاسقون ) الكاملون في الفسق والمتمردون المنهمكون في الكفر للقطع بأن الفسق لا ينحصر في الكفر بعد الإيمان
الثاني الآيات الدالة على انحصار العذاب في الكفار مع قيام الأدلة على أن الفاسقين يعذبون كقوله تعالى { أن العذاب على من كذب وتولى } { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } { فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى } قلنا المراد الكامل الهائل من العذاب والخزي والنار للقطع بتعذيب غير المكذبين أو الحصر غير حقيقي بل بالإضافة إلى المتقين فلا يمنع دخول الفاسقين وإن كانوا مؤمنين
الثالث الآيات الدالة على أن الفاسق مكذب بالقيامة أو بآيات الله ولا شك أن المكذب بها كافر كقوله تعالى { وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } وقوله تعالى { يتساءلون عن المجرمين }
____________________
(2/258)
) إلى قوله { وكنا نكذب بيوم الدين } وقوله تعالى { والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة } فإنه يفيد قصر المسند على المسند إليه كقوله تعالى { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } { وأولئك هم المفلحون } { أصحاب الجنة هم الفائزون } فيكون كل من هو من أصحاب المشأمة مكذبا بالآيات نجعلها كبرى لقولنا الفاسق من أصحاب المشأمة ونجعل النتيجة صغرى لقولنا كل مكذب بآيات الله كافر قلنا لا خفاء في أن كل فاسق ليس بمكذب فيحمل الأوليان على الكفار المكذبين والثالثة على التأكيد دون القصر ولو سلم فمثله عند كون المسند إليه موصولا أو معرفا باللام يكون لقصر المسند إليه على المسند كقولهم الكرم هو التقوى والحسب هو المال والعالم هو المتقي فيكون المعنى أن كل مكذب بالآيات فهو من أصحاب المشأمة ولا ينعكس كليا
الرابع ما يدل على كون الكافر في مقابلة المتقي من غير ثالث ولا شك أن الفاسق ليس بمتق فيكون كافرا وذلك قوله تعالى { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا } إلى قوله { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا } قلنا لا دلالة على نفي قسم ثالث
الخامس أن الفاسق آيس من روح الله وكل من هو كذلك فهو كافر لقوله تعالى { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } قلنا الصغرى ممنوعة فإنه ربما يرجو العفو من الله تعالى أوالتوبة من نفسه وبهذا يندفع ما يقال أن العاصي من المعتزلة يلزم أن يكون كافرا لكونه آيسا فإنه وإن لم يعتقد العفو فليس بآيس من توفيق التوبة فإن قيل هو يعتقد أنه ليس بمؤمن شرعا وكل من كان كذلك فهو كا وأجيب بمنع الكبرى وأما القائلون بكون الفاسق منافقا فتمسكوا بوجهين عقلي وهو أن إقدامه على المعصية المفضية إلى العذاب يدل على أنه كاذب في دعوى تصديقه بما جاء به النبي عليه السلام كمن ادعى أنه يعتقد أن في هذا الحجر حية ثم يدخل فيها يده ونقلي وهو قوله عليه السلام آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا ائتمن خان والجواب عن الأول أنه وإن كان يخاف العذاب لكن يرجو الرحمة ويأمل توفيق التوبة أو يلهيه عن آجل العقوبة عاجل اللذة بخلاف حديث الحجر والحية وعن الثاني بأنه مع كونه من الآحاد ليس على ظاهره وفاقا للقطع بأن من وعد غيره عدة ثم أخلفها لم يكن منافقا في الدين وإذا تأملت فحال الفاسق على عكس حال المنافق لأنه يضمر حسناته ويظهر سيئاته قال المبحث الثاني في الإسلام الجمهور على أن الإسلام والإيمان واحد إذ معنى آمنت بما جاء به النبي عليه السلام صدقته ومعنى أسلمت له سلمته ولا يظهر بينهما كثير فرق لرجوعهما إلى معنى الاعتراف والانقياد والإذعان والقبول وبالجملة لا يعقل بحسب الشرع مؤمن ليس بمسلم أو مسلم ليس بمؤمن وهذا مراد القوم بترادف الاسمين واتحاد المعنى وعدم التغاير على ما قال في التبصرة الاسمان من قبيل الأسماء المترادفة وكل مؤمن مسلم وكل مسلم مؤمن لأن الإيمان اسم لتصديق شهادة العقول والآثار على وحدانية الله تعالى وأن له الخلق والأمر
____________________
(2/259)
لا شريك له في ذلك والإسلام إسلام المرء نفسه بكليتها لله تعالى بالعبودية له من غير شرك فحصلا من طريق المراد منهما على معنى واحد ولو كان الاسمان متغايرين لتصور وجود أحدهما بدون الآخر ولتصور مؤمن ليس بمسلم أو مسلم ليس بمؤمن فيكون لأحدهما في الدنيا أو الآخرة حكم ليس للآخر وهذا باطل قطعا وقال في الكفاية الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر من أوامره ونواهيه والإسلام هو الانقياد والخضوع لألوهيته وذا لا يتحقق إلا بقبول الأمر والنهي فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكما فلا يتغايران وإذا كان المراد بالاتحاد هذا المعنى صح التمسك فيه بالإجماع على أنه يمتنع أن يأتي أحد بجميع ما اعتبر في الإيمان ولا يكون مسلما أو بجميع ما اعتبر في الإسلام ولا يكون مؤمنا وعلى أنه ليس للمؤمن حكم لا يكون للمسلم وبالعكس وعلى أن دار الإيمان دار الإسلام وبالعكس وعلى أن الناس كانوا في عهد النبي عليه السلام ثلاث فرق مؤمن وكافر ومنافق لا رابع لهم والمشهور من استدلال القوم وجهان
أحدهما أن الإيمان لو كان غير الإسلام لم يقبل من مبتغيه لقوله تعالى { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } واللازم باطل بالاتفاق واعترض بأنه يجوز أن يكون غيره لكن لا يكون دينا غيره لكون الدين عبارة عن الطاعات على ما سبق وقد عرفت ما فيه بل المراد بالدين الملة والطريقة الثابتة من النبي عليه السلام والإيمان كذلك وإن استمر في إطلاق أهل الشرع دين الإسلام ولم يسمع دين الإيمان وذلك لاشتهار لفظ الإسلام في طريقة النبي واعتبار الإضافة إليه حتى صار بمنزلة اسم لدين محمد عليه السلام ولفظ الإيمان في فعل المؤمن من حيث الإضافة إليه ولم يصر بمنزلة الاسم للدين ولهذا كثيرا ما يفتقر في الإيمان إلى ذكر المتعلق مثل آمنوا بالله ورسوله وغير ذلك بخلاف الإسلام
وثانيهما أنه لو كان غيره لم يصح استثناء أحدهما من الآخر واللازم باطل لقوله تعالى { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } أي فلم نجد ممن كان فيها من المؤمنين إلا أهل بيت من المسلمين واعترض بأنه يكفي لصحة الاستثناء الإحاطة والشمول بحيث يدخل المستثنى تحت المستثنى منه ولا يتوقف على اتحاد المفهوم وقد عرفت أن المراد بالاتحاد عدم التغاير بمعنى الانفكاك نعم لو قيل أنه لا يتوقف على المساواة أيضا بل يصح مع كون المؤمن أعم كقولك أخرجت العلماء فلم أترك إلا بعض النحاة لكان شيئا لا بالعكس على ما سبق إلى بعض الأوهام ذهابا إلى صحة قولنا أخرجت العلماء فلم أترك إلا بعض الناس وقد يستدل بسوق أحد الاسمين مساق الآخر كقوله تعالى { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون } { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } إلى قوله { ونحن له مسلمون } إلى غير ذلك من الآيات وذهبت الحشوية
____________________
(2/260)
وبعض المعتزلة إلى تغايرهما نظرا إلى أن لفظ الإيمان ينبئ عن التصديق فيما أخبر الله تعالى على لسان رسله ولفظ الإسلام عن التسليم والانقياد ومتعلق التصديق يناسب أن يكون هو الإخبار ومتعلق التسليم الأوامر والنواهي وتمسكا بإثبات أحدها ونفي الآخر كقوله تعالى { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } وبعطف أحدهما على الآخر كما في قوله تعالى { إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } الآية { وما زادهم إلا إيمانا وتسليما } والتسليم هو الإسلام وبأن جبريل لما جاء لتعليم الدين سأل النبي عن كل منهما على حدة وأجاب النبي لكل بجواب وذلك أنه قال أخبرني عن الإيمان فقال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه إلى الآخر ثم قال أخبرني عن الإسلام فقال الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله إلى آخره فدل على أن الإيمان هو التصديق بالأمور المذكورة والإسلام هو الإتيان بالأعمال المخصوصة
والجواب عن الأول أنا لا نعني اتحاد المفهوم بحسب أصل اللغة على أن التحقيق أن مرجع الأمرين إلى الإذعان والقبول كما مر والتصديق كما يتعلق بالإخبار بالذات فكذا بالأوامر والنواهي بمعنى كونها حقة وأحكاما من الله تعالى وكذا التسليم
وعن الثاني بأن المراد الاستسلام والانقياد الظاهر خوفا من السيف والكلام في الإسلام المعتبر في الشرع المقابل للكفر المنبئ عنه قولنا آمن فلان وأسلم
وعن الثالث أن تغاير المفهوم في الجملة كاف في العطف مع أنه قد يكون على طريق التفسير كما في قوله تعالى { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة }
وعن الرابع أن المراد السؤال عن شرايع الإسلام أعني أحكامه المشروعة التي هي الأساس على ما وقع صريحا في بعض الروايات وعلى ما قال النبي عليه السلام لقوم وفدوا عليه أتدرون ما الإيمان بالله وحده فقالوا الله ورسوله أعلم فقال شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس وكما قال صلى الله عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ( قال المبحث الثالث ظاهر الكتاب والسنة ) وهو مذهب الأشاعرة والمعتزلة والمحكي عن الشافعي رحمه الله وكثير من العلماء أن الإيمان يزيد وينقص وعند أبي حنيفة رحمه الله وأصحابه وكثير من العلماء وهو اختيار إمام الحرمين أنه لا يزيد ولا ينقص لأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان ولا يتصور فيه الزيادة والنقصان والمصدق إذا ضم الطاعات إليه أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة ولهذا قال الإمام الرازي وغيره أن هذا الخلاف فرع تفسير الإيمان فإن قلنا هو التصديق فلا يتفاوت وإن قلنا هو الأعمال فمتفاوت وقال إمام الحرمين إذا حملنا الإيمان على التصديق فلا يفضل تصديق تصديقا كما لا يفضل علم علما ومن حمله على
____________________
(2/261)
الطاعة سرا وعلنا وقد مال إليه القلانسي فلا يبعد إطلاق القول بأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ونحن لا يؤثر هذا لا يقال الإيمان على تقدير كونه اسما للأعمال أولى بأن لا يحتمل الزيادة والنقصان أما أولا فلأنه لا مرتبة فوق الكل ليكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصانا وأما ثانيا فلأن أحدا لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على مالم يكمل بعد محال لأنا نقول هذا إنما يرد على من يقول بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال أو التروك كما هو مذهب المعتزلة والخوارج لا على من يقول ببقائه ما بقي التصديق كما هو مذهب السلف إلا أن الزيادة والنقصان على هذا تكون في كمال الإيمان لا في أصله ولهذا قال الإمام الرازي وجه التوفيق أن ما يدل على أن الإيمان لا يتفاوت مصروف إلى أصله وما يدل على أنه يتفاوت مصروف إلى الكامل منه ولقائل أن يقول لا نسلم أن التصديق لا يتفاوت بل يتفاوت قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس والتصديق بحدوث العالم لأنه إما نفس الاعتقاد القابل للتفاوت أو مبني عليه قلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتفصيلي الملاحظ لبعض التفاصيل وأكثر وأكثر فإن ذلك من الإيمان لكونه تصديقا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إجمالا فيما علم إجمالا وتفصيلا فيما علم تفصيلا لا يقال الواجب تصديق يبلغ حد اليقين وهو لا يتفاوت لأن التفاوت لا يتصور إلا باحتمال النقيض لأنا نقول اليقين من باب العلم والمعرفة وقد سبق أنه غير التصديق ولو سلم أنه التصديق وأن المراد به ما يبلغ حد الإذعان والقبول ويصدق عليه المعنى المسمى بكرويدن ليكون تصديقا قطعيا فلا نسلم أنه لا يقبل التفاوت بل لليقين مراتب من أجلى البديهيات إلى أخفى النظريات وكون التفاوت راجعا إلى مجرد الجلاء والخفاء غير مسلم بل عند الحصول وزوال التردد التفاوت بحاله وكفاك قول الخليل صلى الله عليه وسلم مع ما كان له من التصديق ولكن ليطمئن قلبي وعن علي رضي الله تعالى عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا على أن القول بأن المعتبر في حق الكل هو ا ليقين وأن ليس للظن الغالب الذي لا يخطر معه النقيض بالبال حكم اليقين محل نظر احتج القائلون بالزيادة والنقصان بالعقل والنقل أما العقل فلأنه لو لم يتفاوت لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمك في الفسق مساويا لتصديق الأنبياء والملائكة واللازم باطل قطعا وأما النقل فلكثرة النصوص الواردة في هذا المعنى قال الله تعالى { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } { ويزداد الذين آمنوا إيمانا } { وما زادهم إلا إيمانا وتسليما } { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا يا رسول إن الإيمان هل يزيد وينقص قال نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار وعن عمر رضي الله تعالى عنه وروي مرفوعا لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به وأجيب بوجوه
الأول أن المراد الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الأزمان والساعات وهذا ما قال
____________________
(2/262)
إمام الحرمين إيمان النبي صلى الله عليه وسلم يفضل ما عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى فيقع للنبي صلى الله عليه وسلم متواليا ولغيره على الفترات فثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه أكثر والزيادة بهذا المعنى مما لا نزاع فيه وما يقال أن حصول المثل إليه بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه مدفوع بأن المراد زيادة أعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك
الثاني أن المراد الزيادة بحسب زيادة المؤمن به والصحابة كانوا آمنوا في الجملة وكان يأتي فرض بعد فرض وكانوا يؤمنون بكل فرض خاص وحاصله أن الإيمان واجب إجمالا فيما علم إجمالا وتفصيلا فيما علم تفصيلا والناس متفاوتون في ملاحظة التفاصيل كثرة وقلة فيتفاوت إيمانهم زيادة ونقصانا ولا يختص ذلك بعصر النبي صلى الله عليه وسلم على ما يتوهم
الثالث أن المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب فإنه يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي وهذا مما لا خفاء فيه وهذه الوجوه جيدة في التأويل لو ثبت لهم أن التصديق في نفسه لا يقبل التفاوت والكلام فيه قال المبحث الرابع ذهب كثير من السلف وهو المحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه والمروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الإيمان يدخله الاستثناء فيقال إما مؤمن إن شاء الله تعالى ومنعه الأكثرون وعليه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه لأن التصديق أمر معلوم لا تردد فيه عند تحققه ومن تردد في تحققه له لم يكن مؤمنا قطعا وإذا لم يكن للشك والتردد فالأولى أن يترك بل يقال أنا مؤمن حقا دفعا للإيهام وللقائلين بصحته وجوه
الأول أنه للتبرك في ذكر الله والتأدب بإحالة الأمور إلى مشيئة الله والتبرؤ عن تزكية النفس والإعجاب بحالها والتردد في العاقبة والمآل وهذا يفيد مجرد الصحة لا إيثار قولهم أنا مؤمن إن شاء الله على أنا مؤمن حقا ولا يدفع ما ذكر من دفع الإيهام ولا يبين وجه اختصاص التأدب ولتبرك بالإيمان دون غيره من الأعمال والطاعات
والثاني أن التصديق الإيمان المنوط به النجاة أمر قلبي خفي له معارضات خفية كثيرة من الهوى والشيطان والخذلان فالمرء وإن كان جازما بحصوله لكن لا يأمن أن يشوبه شيء من منافيات النجاة سيما عند ملاحظة تفاصيل الأوامر والنواهي الصعبة المخالفة للهوى والمستلذات من غير علم له بذلك فلذلك يفوض حصوله إلى مشيئة الله وهذا قريب لولا مخالفته لما يدعيه القوم من الإجماع ولما ذكر في الفتاوي من الروايات
الثالث وعليه التعويل ما قال إمام الحرمين أن الإيمان ثابت في الحال قطعا من غير شك فيه لكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة إيمان الموافاة فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز ومعنى الموافاة الإتيان والوصول إلى آخر الحياة وأول منازل الآخرة ولا خفاء في أن الإيمان المنجي والكفر المهلك ما يكون في تلك الحال وإن كان مسبوقا بالضد لا ما ثبت أولا وتغير إلى
____________________
(2/263)
الضد فلهذا يرى الكثير من الأشاعرة يبنون القول بأن العبرة بإيمان الموافاة وسعادتها بمعنى أن ذلك هو المنجي لا بمعنى أن إيمان الحال ليس بإيمان وكفره ليس بكفر وكذا السعادة والشقاوة والولاية والعداوة وعلى هذا يسقط عنهم ما يقال أنه إذا اتصف بالإيمان على الحقيقة كان مؤمنا حقا ولا يصح أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى كما لا يصح أن يقول أنا حي إن شاء الله تعالى وإذا كان مؤمنا حقا كان مؤمنا عند الله تعالى وفي علم الله وإن كان الله تعالى يعلم أنه يتغير عن تلك الحال وإذا كان مؤمنا في الحال كان وليا لله سعيدا وإن كان كافرا كان عدوا له شقيا وكما يصير المؤمن كافرا يصير الولي عدوا والسعيد شقيا وبالعكس وما يحكى عنهم من أن السعيد لا يشقى والشقي لا يسعد وأن السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه فمعناه أن من علم الله منه السعادة المعتبرة التي هي سعادة الموافاة فهو لا يتغير إلى شقاوة الموافاة وبالعكس وكذا في الولاية والعداوة وأن السعيد الذي يعتد بسعادته من علم الله أنه يختم له بالسعادة وكذا الشقاوة وبالجملة لا يشك المؤمن في ثبوت الإيمان وتحققه في الحال ولا في الجزم بالثبات والبقاء عليه في المآل لكن يخاف سوء الخاتمة ويرجو حسن العاقبة فيربط إيمان الموافاة الذي هو آية الفوز والنجاة ووسيلة نيل الدرجات بمشيئة الله جريا على مقتضى قوله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } جعل الله حياتنا إليه ومماتنا عليه وختم لنا بالحسنى ويسرنا للفوز بالذخر الأسنى بالنبي وآله قال المبحث الخامس ذهب كثير من العلماء وجميع الفقهاء إلى صحة إيمان المقلد وترتب الأحكام عليه في الدنيا والآخرة ومنعه الشيخ أبو الحسن والمعتزلة وكثير من المتكلمين حجة لقائلين بالصحة أن حقيقة الإيمان هو التصديق وقد وجدت من غير اقتران بموجب من موجبات الكفر فإن قيل لا يتصور التصديق بدون العلم لأنه إما ذاتي للتصديق أو شرط له على ما سبق ولا علم للمقلد لأنه اعتقاد جازم مطابق يستند إلى سبب من ضرورة أو استدلال قلنا المعتبر في التصديق هو اليقين أعني الاعتقاد الجازم المطابق بل ربما يكتفى بالمطابقة ويجعل الظن الغالب الذي لا يخطر معه النقيض بالبال في حكم اليقين وقد يقال أن التصديق قد يكون بدون العلم والمعرفة وبالعكس فإنا نؤمن بالأنبياء والملائكة ولا نعرفهم بأعيانهم ونؤمن بجميع أحوال القيمة من الحساب والميزان والصراط وغير ذلك ولا نعرف كيفياتها وأوصافها وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي عليه السلام كما يعرفون أبناءهم ولم يكونوا مؤمنين وفيه نظر لأن المراد العلم بما حصل التصديق به ونحن نعلم من الأنبياء والملائكة ما نصدق به فامتناع التصديق بدون العلم بمعنى الاعتقاد قطعي وإنما الكلام في العكس فإن قيل نحن لا ننفي كونه إيمانا وتصديقا لكنا ندعي أنه لا ينفع بمنزلة إيمان اليأس فإن عدم نفعه على ما ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي معلل بأن العبد لا يقدر حينئذ أن يستدل بالشاهد على الغائب ليكون مقاله عن معرفة وعلم
____________________
(2/264)
استدلالي فإن الثواب على الإيمان إنما هو بمقابلة ما يتحمله من المشقة وهي في آداب الفكر وإدمان النظر في معجزات الأنبياء أو في محدثات العالم والتمييز بين الحجة والشبهة لا في تحصيل أصل الإيمان قلنا النص إنما قام على عدم نفع إيمان اليأس ومعاينة العذاب دون إيمان المقلد والإجماع أيضا إنما انعقد عليه والتمسك بالقياس لو سلم صحته في الأصول فلا نسلم أن لعلة ما ذكرتم بل ذهب الماتريدي وكثير من المحققين إلى أن إيمان اليأس إنما لم ينفع لأنه إيمان دفع عذاب لا إيمان حقيقة ولأنه لا يبقى للعبد حينئذ قدرة على التصرف في نفسه والاستمتاع بها لأن عذاب الدنيا مقدمة لعذاب الآخرة إذ ربما يموت العبد فيه فينتقل إلى عذاب الآخرة بخلاف إيمان المقلد فإنه تقرب إلى الله تعالى وابتغاء لمرضاته من غير إلجاء ولا قصد دفع العذاب ولا انتفاء قدرة على التصرف في النفس قال وأما المانعون يعني القائلين بأن إيمان المقلد ليس بصحيح أو ليس بنافع فمنهم من قال لا يشترط ابتناء الاعتقاد على استدلال عقلي في كل مسئلة بل يكفي ابتناؤه على قول من عرف رسالته بالمعجزة مشاهدة أو تواترا أو على الإجماع فيقبل قول النبي صلى الله عليه وسلم بحدوث العالم وثبوت الصانع ووحدانيته ومنهم من قال لا بد من ابتناء الاعتقاد في كل مسئلة من الأصول على دليل عقلي لكن لا يشترط الاقتدار على التعبير عنه وعلى مجادلة الخصوم ودفع الشبهة وهذا هو المشهور عن الشيخ أبي الحسن الأشعري حتى حكي عنه أنه من لم يكن كذلك لم يكن مؤمنا لكن ذكر عبدالقاهر البغدادي إن هذا وإن لم يكن عند الأشعري مؤمنا على الإطلاق فليس بكافر لوجود التصديق لكنه عاص بتركه النظر والاستدلال فيعفو الله عنه أو يعذبه بقدر ذنبه وعاقبته الجنة وهذا يشعر بأن مراد الأشعري أنه لا يكون مؤمنا على الكمال كما في ترك الأعمال وإلا فهو لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين ولا بدخول غير المؤمن الجنة وعند هذا يظهر أنه لا خلاف معه على التحقيق ومنهم من قال لا بد مع ابتناء الاعتقاد على الدليل من الاقتدار على مجادلة الخصوم وحل ما يورد عليه من الإشكال وإليه ذهبت المعتزلة ولم يحكموا بإيمان من عجز عن شيء من ذلك بل حكم أبو هاشم بكفره فإن بنوا ذلك على أن ترك النظر كبيرة تخرج من الإيمان إذا طرأت وتمنع من الدخول فيه إذا قارنت فهي مسئلة صاحب الكبيرة وقد سبقت وإن أرادوا أن مثل هذا التصديق لا يكفي في الإيمان أو لا ينفع فمسئلة أخرى وبهذا يشعر تمسكاتهم وهي وجوه
الأول أن حقيقة الإيمان إدخال النفس في الأمان من أن يكون مكذوبا ومخدوعا وملتبسا عليه على أنه أفعال من الأمن للتعدية أو للصيرورة كأنه صار ذا أمن وذلك إنما يكون بالعلم ورد بأنه يجعل متعلقا بالمخبر مثل آمنت به وله لا بالسامع فالمناسب عند ملاحظة الاشتقاق من الأمن أن يقال معناه آمنه من المخالفة والتكذيب على ما صرح به
____________________
(2/265)
المعتزلة وذلك بالتصديق سواء كان عن دليل أو لا ولو سلم فالأمن من أن يكون مكذوبا أو مخدوعا يحصل بالاعتقاد الجازم وإن كان عن تقليد
الثاني أن الواجب هو العلم وذلك لا يكون إلا بالضرورة أو الاستدلال ولا ضرورة فتعين الدليل ورد بأنه لا نزاع في وجوب النظر والاستدلال بل في أن ترك هذا الواجب يوجب عدم الاعتداد بالتصديق على أنه ربما يقال أن المقصود من الاستدلال هو التوصل إلى التصديق ولا عبرة بانعدام الوسيلة بعد حصول المقصود
الثالث أن الأصل الذي يقلد فيه إن كان باطلا فتقليده باطل بالاتفاق كتقليد اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان أسلافهم وإن كان حقا فحقيته إما أن يعلم بالتقليد فدور أو بالدليل فتناقض ورد بأن الكلام فيما علم حقيته بالدليل كالأحكام التي علم بالضرورة كونها من دين الإسلام أن من اعتقدها تقليد أهل يكون مؤمنا يجري عليه أحكام المؤمنين في الدنيا والآخرة وإن كان عاصيا بتركه النظر والاستدلال وأما ما يقال أن القول بجواز التقليد إن لم يكن عن دليل فباطل وإن كان فتناقض فمغالطة ظاهرة لا يقال المقصود أن التقليد لا يكفي في الخروج عن عهدة الواجب فيما وجب العلم به من أصول الإسلام وبعض هذه الوجوه يفيد ذلك لأنا نقول هذا مما لا نزاع فيه ولا حاجة به إلى هذه الوجوه الضعيفة لثبوته بالنص والإجماع على وجوب النظر والاستدلال على أنه حكي عن الكعبي وابن أبي عياش وجمع آخر من المعتزلة أن من العقلاء من كلف النظر وهم أرباب النظر ومنهم من كلف التقليد والظن وهم العوام والعبيد وكثير من النسوان لعجزهم عن النظر في الأدلة وتمييزها عن الشبه لكنهم كلفوا تقليد المحق دون المبطل والظن الصائب دون الخطأ وذكر بعض المتأخرين منهم أن العاجزين كلفوا أن يسمعوا أوائل الدلائل التي تتسارع إلى الأفهام فإن فهموا أكفاهم وهم أصحاب الجمل ولا يكلفون تلخيص العبارة وإن لم يمكنهم الوقوف عليها فليسوا مكلفين أصلا وإنما خلقوا لانتفاع المكلفين بهم في الدنيا وهم كثير من العوام والعبيد والنسوان وصاحب الجمل عند المتكلمين هو الذي يعتقد الجمل التي اتفق عليها أهل الملة ولا يدخل في الاختلافات بل يعتقد أن ما وافق منها تلك الجمل فحق وما خالفها فباطل وتلك الجمل هي أن الله تعالى واحد لا شريك له ولا مثل له وأنه لم يزل قبل الزمان والمكان والعرش وكل ما خلق وأنه القديم وما سواه محدث وأنه عدل في قضائه صادق في إخباره لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ولا يكلفهم مالا يطيقونه وأنه مصيب حكيم محسن في جميع أفعاله وفي كل ما خلق وقضى وقدر وأنه بعث الرسل وأنزل الكتب ليتذكر من في سابق علمه أنه يتذكر ويخشى ويلزم الحجة على من علم أنه لا يؤمن ويأبى وإن الرضاء بقضائه واجب والتسليم لأمره لازم ما شاء كان ومالم يشأ لم يكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء لا كالإضلال الذي علم به الشيطان
____________________
(2/266)
إلى غير ذلك من العقائد الإسلامية فإن قيل أكثر أهل الإسلام آخذون بالتقليد قاصرون أو مقصرون في الاستدلال ولم تزل الصحابة ومن بعدهم من الأئمة والخلفاء والعلماء يكتفون منهم بذلك ويجرون عليهم أحكام المسلمين فما وجه هذا الاختلاف وذهاب كثير من العلماء والمجتهدين إلى أنه لا صحة لإيمان المقلدين قلنا ليس الخلاف في هؤلاء الذين نشأوا في ديار الإسلام من الأمصار والقرى والصحاري وتواتر عندهم حال النبي عليه السلام وما أوتي به من المعجزات ولا في الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار فإنهم كلهم من أهل النظر والاستدلال بل فيمن نشأ على شاهق جبل مثلا ولم يتفكر في ملكوت السموات والأرض فأخبره إنسان بما يفترض عليه اعتقاده فصدقه فيما أخبره بمجرد إخباره من غير تفكر وتدبر وأما ما يحكى عن المعتزلة من أنه لا بد في صحة الإسلام من النظر والاستدلال والاقتدار على تقرير الحجج ودفع الشبهة فبطلانه يكاد يلحق بالضروريات من دين الإسلام والظاهر أن المراد أن ذلك واجب وإن صح الإيمان بدونه فإن أرادوا الواجب على الكفاية فوفاق إذ لا بد في كل صقع ممن يقوم بإقامة الحجج وإزاحة الشبه ومجادلة الخصوم وإن أرادوا الواجب على كل مكلف بحيث لا يسقط بفعل البعض ففيه الخلاف وأما المقلد فقد ذكر بعض من نظر في الكلام وسمع من الإمام أنه لا خلاف في إجراء أحكام الإسلام عليه والاختلاف في كفره راجع إلى أنه هل يعاقب عقاب الكافر فقال الكثيرون نعم لأنه جاهل بالله ورسوله ودينه والجهل بذلك كفر ومثل قوله تعالى { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } وقوله صلى الله عليه وسلم من صلى صلاتنا ودخل مسجدنا واستقبل قبلتنا فهو مسلم محمول على الإسلام في حق الأحكام وقال بعض ذوي التحقيق منهم أنه وإن كان جاهلا لكنه مصدق فيجوز أن ينتقص عقابه لذلك قال المبحث السادس الكفر عدم الإيمان عما من شأنه وهذا معنى عدم تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ما علم مجيئه به بالضرورة والظاهر أن هذا أعم من تكذيبه صلى الله عليه وسلم في شيء مما علم مجيئه به على ما ذكره الإمام الغزالي لشموله الكافر الخالي عن التصديق والتكذيب واعتذار الإمام الرازي بأن من جملة ما جاء به النبي أن تصديقه واجب في كل ما جاء به فمن لم يصدقه فقد كذبه في ذلك ضعيف لظهور المنع فإن قيل من استخف بالشرع أو الشارع أوألقى المصحف في القاذورات أو شد الزنار بالاختيار كافر إجماعا وإن كان مصدقا للنبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به وحينئذ يبطل عكس التعريفين وإن جعلت ترك المأمور به أو ارتكاب المنهي عنه علامة التكذيب وعدم التصديق بطل طردهما بغير الكفرة من الفساق قلنا لو سلم اجتماع التصديق المعتبر في الإيمان مع تلك الأمور التي هي كفر وفاقا فيجوز أن يجعل الشارع بعض محظورات الشرع علامة التكذيب
____________________
(2/267)
فيحكم بكفر من ارتكبه وبوجود التكذيب فيه وانتفاء التصديق عنه كالاستخفاف بالشرع وشد الزنار وبعضها لا كالزنا وشرب الخمر ويتفاوت ذلك إلى متفق عليه ومختلف فيه ومنصوص عليه ومستنبط من الدليل وتفاصيله في كتب الفروع وبهذا يندفع إشكال آخر وهو أن صاحب التأويل في الأصول إما أن يجعل من المكذبين فيلزم تكفير كثير من الفرق الإسلامية كأهل البدع والأهواء بل المختلفين من الفرق الإسلامية كأهل البدع والأهواء بل المختلفين من أهل الحق وإما أن لا يجعل فيلزم عدم تكفير المنكرين لحشر الأجساد وحدوث العالم وعلم الباري بالجزئيات فإن تأويلاتهم ليست بأبعد من تأويلات أهل الحق للنصوص الظاهرة في خلاف مذهبهم وذلك لأن من النصوص ما علم قطعا من الدين أنه على ظاهره فتأويله تكذيب للنبي بخلاف البعض ثم لا يخفى أن المراد التكذيب أو عدم التصديق من المكلف ليخرج الصبي العاقل الذي لم يصدق أو صرح بالتكذيب وأما عند القائلين بصحة إيمانه وبأنه يكفر بصريح التكذيب وإن لم يكفر بترك التصديق فالمراد التكذيب ممن يصح منه الإيمان وعدم التصديق ممن يجب عليه الإيمان وقال القاضي الكفر هو الجحد بالله وربما يفسر الجحد بالجهل واعترض بعدم انعكاسه فإن كثيرا من الكفرة عارفون بالله تعالى مصدقون به غير جاحدين به وإن أريد الجحد أو الجهل أعم من أن يكون بوجوده أو وحدانيته أو شيء من صفاته وأفعاله وأحكامه لزم تكفير كثير من أهل الإسلام المخالفين في الأصول لأن الحق واحد وفاقا وأجيب بأن المراد الجحد به في شيء مما علم قطعا أنه من أحكامه أو الجهل بذلك إجمالا وتفصيلا وحينئذ يطرد وينعكس بل ربما يكون أحسن من التعريف بتكذيب النبي عليه السلام أو عدم تصديقه لشموله الكفر بالله من غير توسط النبي صلى الله عليه وسلم ككفر إبليس وقالت المعتزلة هو ارتكاب قبيح أو إخلال بواجب يستحق به أعظم العقاب ولا خفاء في أن هذا من أحكام الكفر لا ذاتياته ولا لوازمه البينة التي ينقل الذهن منها إليه ومع هذا فإن أريد أعظم العقاب على الإطلاق لم يصدق إلا على ما هو أشد أنواع الكفر وإن أريد أعظم بالنسبة إلى ما دونه صدق على كثير من المعاصي وإن أريد بالنسبة إلى الفسق وقد فسروا الفسق بما يستحق به عقوبة دون عقوبة الكفر فدورا وبالخروج من طاعة الله بكبيرة ومن الكبائر ما هو كفر فلا يتناوله التعريف وإن قيد الكبيرة بغير الكفر عاد الدور وبالجملة لا خفاء في اختلال هذا التعريف وخفائه وما قيل أن الكفر عند كل طائفة مقابل لما فسروا به الإيمان لا يستقيم على القول بالمنزلة بين المنزلتين أصلا ولا على قول السلف ظاهرا قال خاتمة قد ظهر أن الكافر اسم لمن لا إيمان له فإن أظهر الإيمان خص باسم المنافق وإن طرأ كفره بعد الإسلام خص باسم المرتد لرجوعه عن الإسلام وإن قال بإلهين أو أكثر خص باسم المشرك لإثباته الشريك في الألوهية وإن
____________________
(2/268)
كان متدينا ببعض الأديان والكتب المنسوخة خص باسم الكتابي كاليهودي والنصراني وإن كان يقول بقدم الدهر وإسناد الحوادث إليه خص باسم الدهري وإن كان لا يثبت الباري تعالى خص باسم المعطل وإن كان مع اعترافه بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وإظهاره شعائر الإسلام ببطن عقائد هي كفر بالاتفاق خص باسم الزنديق وهو في الأصل منسوب إلى زند اسم كتاب اظهره مزدك في أيام قباد وزعم أنه تأويل كتاب المجوس الذي جاء به زرادشت الذي يزعمونه أنه نبيهم قال المبحث السابع في حكم مخالف الحق من أهل القبلة في باب الكفر والإيمان ومعناه أن الذين اتفقوا على ما هو من ضروريات الإسلام كحدوث العالم وحشر الأجساد وما أشبه ذلك واختلفوا في أصول سواها كمسألة الصفات وخلق الأعمال وعموم الإرادة وقدم الكلام وجواز الرؤية ونحو ذلك مما لا نزاع فيه أن الحق فيها واحد هل يكفر المخالف للحق بذلك الاعتقاد وبالقول به أم لا وإلا فلا نزاع في كفر أهل القبلة المواظب طول العمر على الطاعات باعتقاد قدم العالم ونفي الحشر ونفي العلم بالجزئيات ونحو ذلك وكذا بصدور شيء من موجبات الكفر عنه وأما الذي ذكرنا فذهب الشيخ الأشعري وأكثر الأصحاب إلى أنه ليس بكافر وبه يشعر ما قال الشافعي رحمه الله تعالى لا أرد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لاستحلالهم الكذب وفي المنتقى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة وعليه أكثر الفقهاء ومن أصحابنا من قال يكفر المخالفين وقالت قدماء المعتزلة بكفر القائلين بالصفات القديمة وبخلق الأعمال وكفر المجبرة حتى حكي عن الجبائي أنه قال المجبر كافر ومن شك في كفره فهو كافر ومن شك في كفر من شك في كفره فهو كافر ومنهم من بلغ الغاية في الحماقة والوقاحة فزعم أن القول بزيادة الصفات وبجواز الرؤية وبالخروج من النار وبكون الشرور والقبايح بخلقه وإرادته ومشيئته وبجواز إظهار المعجزة على يد الكاذب كلها كفر وقال الأستاذ أبو إسحق الإسفرائني يكفر من يكفرنا ومن لا فلا واختيار الإمام الرازي أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة وتمسك بأنه لو توقف صحة الإسلام على اعتقاد الحق في تلك الأصول لكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده يطالبون بها من آمن ويفتشون عن عقايدهم فيها وينبهونهم على ما هو الحق منها واللازم منتف قطعا ثم فرق بينها وبين ما هو من أصول الإسلام بالاتفاق بأن بعضها مما اشتهر كونه من الدين واشتمل عليه الكتاب بحيث لا يحتاج إلى البيان كحشرالأجساد وبعضها مما ظهرت أدلتها على ما يليق بأصحاب الجمل بحيث يتسارع إليها الأفهام كحدوث العالم وإنما طال الكلام فيها لإزالة شكوك الفقهاء المبطلون بخلاف الأصول الخلافية فإن الحق فيها خفي يفتقر إلى زيادة نظر وتأمل والكتاب والسنة قد يشتملان على ما يتخيل معارضا لحجة أهل الحق فلو كانت مخالفة الحق فيها كفرا لاحتيج إلى البيان البتة ثم أجاب عن أدلة تكفير الفرق بعضهم بعضا
____________________
(2/269)
بأجوبة مبني بعضها على أن خرق الإجماع ليس بكفر وأن الإجماع لا ينعقد بدون اتفاق المشبهة والمجسمة والروافض وأمثالهم وبعضها على أن من لزمه الكفر ولم يقل به فليس بكافر وبعضها على أن صاحب التأويل وإن كان ظاهر البطلان ليس بكافر ووافقه بعض المتأخرين من المعتزلة حذرا عن شفاعة تكفير من تكاد تشهد الأرض والسماء بإسلامهم وعن لزوم تكفير كثير من كبارهم لكن كلامهم يموج بتكفير عظماء أهل الإسلام والله عزيز ذو انتقام ولقائل أن يجيب عن تمسك الإمام بمنع الملازمة بأن التصديق بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إجمالا كاف في صحة الإيمان وإنما يحتاج إلى بيان الحق في التفاصيل عند ملاحظتها وإن كانت مما لا خلاف في تكفير المخالف فيها كحدوث العالم فكم من مؤمن لم يعرف معنى الحادث والقديم أصلا ولم يخطر بباله حديث حشر الأجساد قطعا لكن إذا لاحظ ذلك فلو لم يصدق كان كافرا قال المبحث الثامن حكم المؤمن الخلود في الجنة وحكم الكافر الخلود في النار ويختص المنافق بالدرك الأسفل وحكم الفاسق من المؤمنين الخلود في الجنة إما ابتداء بموجب العفو أو الشفاعة وإما بعد التعذيب بالنار بقدر الذنب وفيه خلاف المعتزلة والخوارج كما سبق والفسق هو الخروج عن طاعة الله تعالى بارتكاب الكبيرة وقد عرفتها وينبغي أن يقيد بعدم التأويل للاتفاق على أن الباغي ليس بفاسق وفي معنى ارتكاب الكبائر الإصرار على الصغائر بمعنى الإكثار منها سواء كانت من نوع واحد أو أنواع مختلفة وأما استحلال المعصية بمعنى اعتقاد حلها فكفر صغيرة كانت أو كبيرة وكذا الاستهانة بها بمعنى عدها هينة ترتكب من غير مبالاة وتجري مجرى المباحات ولا خفاء في أن المراد ما يثبت بقطعي وحكم المبتدع وهو من خالف في العقيدة طريقة السنة والجماعة ينبغي أن يكون حكم الفاسق لأن الإخلال بالعقائد ليس بادون من الإخلال بالأعمال وأما فيما يتعلق بأمر الدنيا فحكم المؤمن ظاهر وحكم الكافر بأقسامه من الحربي والذمي والكتابي والمرتد مذكورة في كتب الفروع وحكم المنافق والزنديق إجراء أحكام الإسلام وحكم الفاسق الحد فيما يجب فيه الحد والتعزير في غيره والأمر بالتوبة ورد الشهادة وسلب الولاية على اختلاف في ذلك بين الفقهاء وحكم المبتدع البغض والعداوة والإعراض عنه والإهانة والطعن واللعن وكراهية الصلاة خلفه وطريقة أهل السنة أن العالم حادث والصانع قديم متصف بصفات قديمة ليست عينه ولا غيره وواحد لا شبه له ولا ضد ولا ند ولا نهاية له ولا صورة ولا حد ولا يحل في شيء ولا يقوم به حادث ولا يصح عليه الحركة والانتقال ولا الجهل ولا الكذب ولا النقص وأنه يرى في الآخرة وليس في حيز ولا جهة ما شاء كان ومالم يشأ لم يكن لا يحتاج إلى شيء ولا يجب عليه شيء كل المخلوقات بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته لكن القبايخ منها ليست برضاه وأمره ومحبته وأن المعاد الجسماني وسائر ما ورد به
____________________
(2/270)
السمع من عذاب القبر والحساب والصراط والميزان وغير ذلك حق وأن الكفار مخلدون في النار دون الفساق وأن العفو والشفاعة حق وأن أشراط الساعة من خروج الدجال ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها وخروج دابة الأرض حق وأول الأنبياء آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وأول الخلفاء أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم والأفضلية بهذا الترتيب مع تردد فيها بين عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما والمشهور من أهل السنة في ديار خرسان والعراق والشام وأكثر الأقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل بن إسحق بن سالم بن إسماعيل بن عبدالله بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خالف أبا علي الجبائي ورجع عن مذهبه إلى السنة أي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم والجماعة أي طريقة الصحابة وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياض تلميذ أبي بكر الجرجاني صاحب أبي سليمان الجرجاني تلميذ محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله وما تريد من قرى سمرقند وقد دخل الآن فيها بين الطائفتين اختلاف في بعض الأصول كمسئلة التكوين ومسئلة الاستثناء في الإيمان ومسألة إيمان المقلد وغير ذلك والمحققون من الفريقين لا ينسبون أحدهما إلى البدعة والضلالة خلافا للمبطلين المتعصبين حتى ربما جعلوا الاختلاف في الفروع أيضا بدعة وضلالة كالقول بحل متروك التسمية عمدا وعدم نقض الوضوء بالخارج النجس من غير السبيلين وكجواز النكاح بدون الولي والصلاة بدون الفاتحة ولا يعرفون أن البدعة المذمومة هو المحدث في الدين من غير أن يكون في عهد الصحابة والتابعين ولا دل عليه الدليل الشرعي ومن الجهلة من يجعل كل أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة وإن لم يقم دليل على قبحه تمسكا بقوله عليه الصلاة والسلام إياكم ومحدثات الأمور ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليس منه عصمنا الله من اتباع الهوى وثبتنا على اقتفاء الهدى بالنبي وآله قال الفصل الرابع في الإمامة لا نزاع في أن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات وهي أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية لا ينتظم الأمر إلا بحصولها فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة من غير أن يقصد حصولها من كل أحد ولا خفاء في أن ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية وقد ذكر في كتبنا الفقهية أنه لا بد للأمة من إمام يحيي الدين ويقيم السنة وينتصف للمظلومين ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها ويشترط أن يكون مكلفا مسلما عدلا حرا ذكرا مجتهدا شجاعا ذا رأي وكفاية سميعا بصيرا ناطقا قريشيا فإن لم يوجد من قريش من يستجمع الصفات المعتبرة ولي كناني فإن لم يوجد فرجل من ولد إسماعيل فإن لم يوجد فرجل من العجم ولا يشترط أن
____________________
(2/271)
يكون هاشميا ولا معصوما ولا أفضل من يولى عليهم وتنعقد الإمامة بطرق
أحدها بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر حضورهم من غير اشتراط عدد ولا اتفاق من في سائر البلاد بل لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع كفت بيعته
والثاني استخلاف الإمام وعهده وجعله الأمر شورى بمنزلة الاستخلاف إلا أن المستخلف غير متعين فيتشاورون ويتفقون على أحدهم وإذا خلع الإمام نفسه كان كموته فينتقل الأمر إلى ولي العهد
والثالث القهر والاستيلاء فإذا مات الإمام وتصدى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف وقهر الناس بشوكته انعقدت الخلافة له وكذا إذا كان فاسقا أو جاهلا على الأظهر إلا أنه يعصى بما فعل ولا يعتبر الشخص إماما بتفرده بشروط الإمامة ويجب طاعة الإمام مالم يخالف حكم الشرع سواء كان عادلا أو جابرا ولا يجوز نصب إمامين في وقت واحد على الأظهر وإذا ثبت الإمام بالقهر والغلبة ثم جاء آخر فقهره انعزل وصار القاهر إماما ولا يجوز خلع الإمام بلا سبب ولو خلعوه لم ينفذ وإن عزل نفسه فإن كان لعجزه عن القيام بالأمر انعزل وإلا فلا ولا ينعزل الإمام بالفسق والإغماء وينعزل بالجنون وبالعمى والصمم والخرس وبالمرض الذي ينسيه العلوم قال إمام الحرمين وإذا جاور إلى الوقت فظهر ظلمه وغشمه ولم يرعو لزاجر عن سوء صنيعه بالقول فلأهل الحل والعقد التواطؤ على ردعه ولو بشهر السلاح ونصب الحروب هذا ولكن لما شاعت بين الناس في باب الإمامة اعتقادات فاسدة واختلافات بل اختلافات باردة سيما من فرق الروافض والخوارج ومالت كل فئة إلى تعصبات تكاد تفضي إلى رفض كثير من قواعد الإسلام ونقض عقايد المسلمين والقدح في الخلفاء الراشدين مع القطع بأنه ليس للبحث عن أحوالهم واستحقاقهم وأفضليتهم كثير تعلق بأفعال المكلفين الحق المتكلمون هذا الباب بأبواب الكلام وربما أدرجوه في تعريفه حيث قالوا هو العلم الباحث عن أصول الصانع والنبوة والإمامة والمعاد وما يتصل بذلك على قانون الإسلام والإمامة رياسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي عليه الصلاة والسلام وبهذا القيد خرجت النبوة وبقيد العموم مثل القضاء والرياسة في بعض النواحي وكذا رياسة من جعله الإمام نائبا عنه على الإطلاق فإنها لا تعم الإمامة وقال الإمام الرازي هي رياسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص وقال هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد واعتبر رياستهم على من عداهم أو على كل من آحاد الأمة ومع هذا يرد عليه أن الوحدة من شرائط الإمامة لا من مقوماتها وفي الشروط كثرة وعلى اشتراطها أدلة ويمكن أن يقال أنها بالمقومات أشبه من جهة أنه لا يقال لجميع الأمة حينئذ أئمة بخلاف الإمام الجاهل أو الفاسق أو نحو ذلك وعلى هذا ينبغي أن لا يقال لشخصين بايعا الأمة أنهما إمامان فإن قيل الخلافة
____________________
(2/272)
عن النبي عليه الصلاة والسلام إنما تكون فيمن استخلفه النبي عليه الصلاة والسلام ولا يصدق التعريف على إمامة البيعة ونحوها فضلا عن رياسة النائب العام للإمام قلنا لو سلم فالاستخلاف أعم من أن يكون بوسط أو بدونه قال وفيه مباحث لبيان وجوب الإمامة وشروطها وطريق ثبوتها ونبذ من أحكامها وتعيين الإمام الحق بعد النبي عليه الصلاة والسلام وإمامة الأئمة الأربعة وترتيبهم في الأفضلية قال المبحث الأول نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب علينا سمعا عند أهل السنة وعامة المعتزلة وعقلا عند الجاحظ والخياط والكعبي وأبي الحسين البصري وقالت الشيعة والسبعية وهم قوم من الملاحدة سموا بذلك لأن متقدميهم قالوا الأئمة تكون سبعة وعند السابع وهو محمد بن إسماعيل توقف بعضهم عليه وجاوزه بعضهم وقالوا الأئمة تدور على سبعة سبعة كأيام الأسبوع وهو واجب على الله فعندهم ليكون معلما في معرفة الله تعالى وعند بعض الشيعة وهم الإمامية ليكون لطفا في أداء الواجبات العقلية واجتناب المقبحات العقلية وعند بعضهم وهم الغلاة لتعليم اللغات وأحوال الأغذية والأدوية والسموم والحرف والصناعات والمحافظة عن الآفات والمخافات وقالت النجدات قوم من الخوارج أصحاب نجدة بن عويمر أنه ليس بواجب أصلا وقال أبو بكرالأصم من المعتزلة لا يجب عند ظهور العدل والإنصاف لعدم الاحتياج ويجب عند ظهورالظلم وقال هشام القوطبي منهم بالعكس أي يجب عند ظهور العدل لإظهار شرايع الشرع لا عد ظهور الظلم لأن الظلمة ربما لم يطيعوه وصار سببا لزيادة الفتن لنا على الوجوب وجوه
الأول وهو العمدة إجماع الصحابة حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات واشتغلوا به عن دفن الرسول صلى الله عليه وسلم وكذا عقيب موت كل إمام روي أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم خطب أبو بكر رضي الله عنه فقال أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لا يموت لا بد لهذا الأمر ممن يقوم به فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم الله فتبادروا من جانب وقالوا صدقت ولكن ننظر في هذا الأمر ولم يقل أحد أنه لا حاجة إلى الإمام
الثاني أن الشارع أمر بإقامة الحدود وسد الثغور وتجهيز الجيوش للجهاد وكثير من الأمور المتعلقة بحفظ النظام وحماية بيضة الإسلام مما لا يتم إلا بالإمام ومالا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا فهو واجب على ما مر في صدر الكتاب لا يقال الأمر بإقامة الحدود كقطع السارق مثلا إن كان مشروطا بوجود الإمام لم يكن مطلقا فلم يستلزم وجوبه كالأمر بالزكاة بالنسبة إلى تحصيل النصاب وإن لم يكن مشروطا به فظاهر لأنا نقول فرق بين تقييد الوجوب وتقييد الواجب فههنا الوجوب مطلق أي لم يقيد ولم يشترط بوجود الإمام والواجب أعني المأمور به مشروط به وموقوف عليه كوجوب الصلاة المشروطة بالطهارة وأما
____________________
(2/273)
في الزكاة فالوجوب مشروط بحصول النصاب حتى إذا انتفى فلا وجوب
الثالث أن في نصب الإمام استجلاب منافع لا تحصى واستدفاع مضار لا يخفى وكل ما هو كذلك فهو واجب أما الكبرى فبالإجماع وأما الصغرى فيكاد يلحق بالضروريات بل المشاهدات ويعد من العيان الذي لا يحتاج إلى البيان ولهذا اشتهر أن ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن وما يلتئم باللسان لا ينتظم بالبرهان وذلك لأن الاجتماع المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد لا يتم بدون سلطان قاهر يدرأ المفاسد ويحفظ المصالح ويمنع ما يتسارع إليه الطباع ويتنازع عليه الأطماع وكفاك شاهدا ما يشاهد من استيلاء الفتن والابتلاء بالمحن لمجرد هلاك من يقوم بحماية الجورة ورعاية البيضة وإن لم يكن على ما ينبغي من الصلاح والسداد ولم يخل عن شائبة شر وفساد ولهذا لا ينتظم أمر أدنى اجتماع كرفقة طريق بدون رئيس يصدرون عن رأيه ومقتضى أمره ونهيه بل ربما يجري مثل هذا فيما بين الحيوانات العجم كالنحل لها عظيم يقوم مقام الرئيس ينتظم أمرها به ما دام فيها وإذا هلك انتشرت الأفراد انتشار الجراد وشاع فيما بينها الهلاك والفساد لا يقال فغاية الأمر أنه لا بد في كل اجتماع من رئيس مطاع منوط به النظام والانتظام لكن من أين يلزم عموم رياستها جميع الناس وشمولها أمر الدين على ما هو المعتبر في الإمام لأنا نقول انتظام أمر عموم الناس على وجه يؤدي إلى صلاح الدين والدنيا يفتقر إلى رياسة عامة فيهما إذ لو تعدد الرؤساء في الأصقاع والبقاع لأدى إلى منازعات ومخاصمات موجبة لاختلال أمر النظام ولو اقتصرت رياسته على أمر الدنيا لفات انتظام أمر الدين الذي هو المقصود الأهم والعمدة العظمى وأما الكبرى فبالإجماع عندنا وبالضرورة عند القائلين بالوجوب العقلي واعتراض صاحب تلخيص المحصل بأن بيان الصغرى عقلي من باب القبح والحسن وليس من مذهبكم والكبرى أوضح من الصغرى فلا حاجة إلى التعرض للإجماع مدفوع بأن كون الشيء صلاحا أو فسادا ليس في شيء من متنازع الحسن والقبح وكون دفع الضرر واجبا بمعنى استحقاق تاركه العقاب عند الله تعالى ليس بواضح فضلا عن الأوضح ولا ينبغي أن يخفى مثل هذا عليه ولا أن يكون الرجل العالم العلمي في هذه الغاية من الشغف بالاعتراض لا يقال الإجماع على الوجوب إنما هو إذا لم يتضمن مضرة مثل المضرة المندفعة أو فوتها وههنا نصب الإمام يتضمن مفاسد لا يضبطها العد والإحصاء لما في الآراء من اختلافات الأهواء وفي الطباع من الاستنكاف عن تسلط الأكفاء والإنسان قليل البقاء على ما عليه من الاهتداء وصلاح الاقتداء فتميل النفوس إلى الإباء والاستعصاء ويظهر الفساد ويكثر البغي والعناد ويهلك الحرث والنسل ويذهب الفرع والأصل وكفاك شاهدا ما تسمع من قصص انقضاء خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه إلى ابتداء دولة بني العباس لأنا نقول مضاره
____________________
(2/274)
بالنسبة إلى منافعه ومفاسده بالإضافة إلى مصالحه مما لا يعبأ بكثرته ويلحق بالعدم في قلته فإن قيل لو وجب نصب الإمام لزم إطباق الأمة في أكثر الأعصار على ترك الواجب لانتفاء الإمام المتصف بما يجب من الصفات سيما بعد انقضاء الدولة العباسية ولقوله صلى الله عليه وسلم الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا وقد تم ذلك بخلافة علي رضي الله تعالى عنه فمعاوية ومن بعده ملوك وأمراء لا أئمة ولا خلفاء واللازم منتف لأن ترك الواجب معصية وضلالة والأمة لا تجتمع على الضلالة قلنا إنما يلزم الضلالة لو تركوه عن قدرة واختبار لا عجز واضطرار والحديث مع أنه من باب الآحاد يحتمل الصرف إلى الخلافة على وجه الكمال وههنا بحث آخر وهو أنه إذا لم يوجد إمام على شرايطه وبايع طايفة من أهل الحل والعقد قرشيا فيه بعض الشرايط من غير نفاذ لأحكامه وطاعة من العامة لأوامره وشوكة بها يتصرف في مصالح العباد ويقتدر على النصب والعزل لمن أراد هل يكون ذلك إتيانا بالواجب وهل يجب على ذوي الشوكة العظيمة من ملوك الأطراف المتصفين بحسن السياسة والعدل والإنصاف أن يفوضوا الأمر إليه بالكلية ويكونوا لديه كسائر الرعية وقد يتمسك بمثل قوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وقوله صلى الله عليه وسلم من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي وجوب الحصول وأما أنه لا يجب علينا عقلا ولا على الله أصلا فلما مر من بطلان الأصلين قال قالوا احتج القائلون بوجوبه علينا عقلا بأن فيه دفع الضرر واجب عقلا كاجتناب الطعام المسموم والجدار المشرف على السقوط ولو ظنا قلنا نعم بمعنى كونه من مقتضيات العقول والعادات وملايماتها والكلام في الوجوب بمعنى استحقاق تاركه الذم والعقاب في حكم الله تعالى وهو ممنوع ههنا واحتجوا على عدم وجوبه على الله تعالى مع أن الوجوب على الله في الجملة مذهبهم بأنه لو وجب على الله تعالى لما خلا زمان من الأزمنة من إمام ظاهر قاهر جامع لشروط الإمامة قاطع لرسوم الضلالة قائم بحماية بيضة الإسلام وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام واللازم ظاهر الانتفاء قال احتج القائلون بوجوب نصب الإمام على الله تعالى بأنه لطف من الله في حق العباد أما عند الملاحدة فليتمكنوا به من تحصيل المعرفة الواجبة إذ نظر العقل غير كاف في معرفة الله تعالى وأما عند الإمامية فلأنه إذا كان لهم رئيس قاهر يمنعهم من المحظورات ويحثهم على الواجبات كانوا معه أقرب إلى ا لطاعات وأبعد من المعاصي منهم بدونه واللطف واجب على الله لما سبق والجواب إجمالا منع المقدمتين والقدح فيما يورد لإثباتهما على ما سبق من حال الكبرى وتفصيلا أنه إنما يكون لطفا
____________________
(2/275)
إذا خلا عن جميع جهات القبح وهو ممنوع والسند ما مر مع وجوه أخر مثل أن أداء الواجب وترك القبيح مع عدم الإمام أكثر ثوابا لكونهما أشق وأقرب إلى الإخلاص لاحتمال انتفاء كونهما من خوف الإمام وأيضا فإنما يجب لو لم يقم لطف آخر مقامه كالعصمة مثلا فلم لا يجوز أن يكون زمان يكون الناس فيه معصومين مستغنين عن الإمام والقول بأنا نعلم قطعا أن اللطف الذي يحصل بالإمام لا يحصل لغيره مجرد دعوى ربما تعارض بأنا نعلم قطعا جواز حصوله لغيره وهذا كدعوى القطع بانتفاء المفاسد في نصب الإمام وكونه مصلحة خالصة وأيضا إنما يكون منفعة ولطفا واجبا إذا كان ظاهرا قاهرا زاجرا عن القبايح قادرا على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء الإسلام وهذا ليس بلازم عندكم فالإمام الذي ادعيتم وجوبه ليس بلطف والذي هو لطف ليس بواجب وأجاب الشيعة بأن وجود الإمام لطف سواء تصرف أو لم يتصرف على ما نقل عن علي كرم الله وجهه أنه قال لا تخلو الأرض من إمام قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا أو خايفا مضمورا لئلا يبطل حجج الله وبيناته وتصرفه الظاهر لطف آخر وإنما عدم من جهة العباد وسوء اختيارهم حيث أخافوه وتركوا نصرته ففوتوا اللطف على أنفسهم ورد أولا بأنا لا نسلم أن وجوده بدون التصرف لطف فإن قيل لأن المكلف إذا اعتقد وجوده كان دائما يخاف ظهوره وتصرفه فيمتنع من القبايح قلنا مجرد الحكم بخلقه وإيجاده في وقت ما كاف في هذا المعنى فإن ساكن القرية إذا انزجر عن القبيح خوفا من حاكم من قبل السلطان مختف في القرية بحيث لا أثر له كذلك ينزجر خوفا من حاكم علم أن السلطان يرسله إليها البتة متى شاء وليس هذا خوفا من المعدوم بل من وجود مترقب كما أن خوف الأول من ظهور مترقب وثانيا بأنه ينبغي أن يظهر لأوليائه الذين يبذلون الأرواح والأموال على محبته وليس عندهم منه إلا مجرد الاسم فإن قيل لعله ظهر لهم وأنتم عنه غافلون قلنا عدم ظهوره لهم من العاديات التي لا ارتياب فيها لعاقل كعدم بحر من المسك وجبل من الياقوت ولو سلم فالأولياء إذا عرفوا من أنفسهم أنه لم يظهر لهم توجه الاشكل عليهم اقال احتجت الخوارج القائلون بعدم وجوب نصب الإمام احتجوا بأن في نصبه إثارة الفتنة لأن الأهواء متخالفة والآراء متباينة فيميل كل حزب إلى واحد وتهيج الفتن وتقوم الحروب وما هذا شأنه لا يجب بل كان ينبغي أن لا يجوز لا أن احتمال الاتفاق على الواحد أو تعينه وتفرده باستجماع الشرايط أو ترجحه من بعض الجهات منع الامتناع وأوجب الجواز والجواب أن اعتبار الترجح كما قيل يقدم الأعلم ثم الأورع ثم الأسن أو انعقاد الأمر وانسداد طريق المخالفة بمجرد بيعة البعض ولو واحدا يدفع الفتنة مع أن فتنة النزاع في تعيين الإمام بالنسبة إلى مفاسد عدم الإمام ملحقة بالعدم لا يقال الاحتجاج المذكور على تقدير تمامه لا ينفي الوجوب على الله ولا على ا لنبي صلى الله عليه وسلم بالنص ولا على الإمام السابق بالاستخلاف لأنا نقول المقصود نفي ما يراه
____________________
(2/276)
الجمهور من الوجوب على العباد إذا لم ينصب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف الإمام السابق قال المبحث الثاني يشترط في الإمام أن يكون مكلفا حرا ذكرا عدلا لأن غير العاقل من الصبي والمعتوه قاصر عن القيام بالأمور على ما ينبغي والعبد مشغول بخدمة السيد لا يفرغ للأمر مستحقر في أعين الناس لا يهاب ولا يمتثل أمره والنساء ناقصات عقل ودين ممنوعات عن الخروج إلى مشاهد الحكم ومعارك الحرب والفاسق لا يصلح لأمر الدين ولا يوثق بأوامره ونواهيه والظالم يختل به أمر الدين والدنيا وكيف يصلح للولاية وما الوالي إلا لدفع شره أليس بعجيب استرعاء الذئب وأما الكافر فأمره ظاهر وزاد الجمهوراشتراط أن يكون شجاعا لئلا يجبن عن إقامة الحدود ومقاومة الخصوم مجتهدا في الأصول والفروع ليتمكن من القيام بأمر الدين ذا رأي في تدبيرالأمور لئلا يخبط في سياسة الجمهور ولم يشترطها بعضهم لندرة اجتماعها في الشخص وجواز الاكتفاء فيها بالاستعانة من الغير بأن يفوض أمرالحروب ومباشرة الخطوب إلى الشجعان ويستفتي المجتهدين في أمورالدين ويستشير أصحاب الآراء الصائبة في أمورالملك واتفقت الأمة على اشتراط كونه قرشيا أي من أولاد نضر بن كنانة خلافا للخوارج وأكثر المعتزلة لنا السنة والإجماع أما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام الأئمة من قريش وليس المراد إمامة الصلاة اتفاقا فتعينت الإمامة الكبرى وقوله صلى الله عليه وسلم الولاة من قريش ما أطاعوا الله واستقاموا لأمره وقوله صلى الله عليه وسلم قدموا قريشا ولا تقدموها وأما الإجماع فهو أنه لما قال الأنصار يوم السقيفة منا أمير ومنكم أمير منعهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه بعدم كونهم من قريش ولم ينكره عليه أحد من الصحابة فكان إجماعا احتج المخالف بالمنقول والمعقول أما المنقول صلى الله عليه وسلم أطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع وأجيب بأن ذلك في غير الإمام من الحكام جمعا بين الأدلة وأما المعقول فهو أنه لا عبرة بالنسب في القيام بمصالح الملك والدين بل للعلم والتقوى والبصيرة في الأمور والخيرة بالمصالح والقوة على الأهوال وما أشبه ذلك وأجيب بالمنع بل أن لشرف الأنساب وعظيم قدرها في النفوس أثرا تاما في اجتماع الآراء وتآلف الأهواء وبذل الطاعة والانقياد وإظهار آثار الاعتقاد ولهذا شاع في الأعصار أن يكون الملك والسياسة في قبيلة مخصوصة وأهل بيت معين حتى يرى الانتقال عنه من الخطوب العظيمة والاتفاقات العجيبة ولا أليق بذلك من قريش الذين هم أشرف الناس سيما وقد اقتصر عليهم ختم الرسالة وانتشرت منهم الشريعة الباقية إلى يوم القيامة وأما إذا لم يوجد من قريش من يصلح لذلك أو لم يقتدر على نصبه لاستيلاء أهل الباطل وشوكة الظلمة وأرباب الضلالة فلا كلام في جواز تقلد القضاء وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذي شوكة كما إذا كان الإمام القريشي فاسقا أو جابرا أو جاهلا فضلا أن يكون مجتهدا وبالجملة مبنى ما ذكر
____________________
(2/277)
في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار وأما عند العجز والاضطرار واستيلاء الظلمة والكفار والفجار وتسلط الجبابرة الأشرار فقد صارت الرياسة الدنيوية تغلبية وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالإمام ضرورة ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط والضرورات تبيح المحظورات وإلى الله المشكي في النائبات وهو المرتجى لكشف الملمات قال واشترطت الشيعة أمورا منها أن يكون هاشميا أي من أولاد هاشم بن عبد مناف أبي عبد المطلب وليس لهم في ذلك شبهة فضلا عن حجة وإنما قصدهم نفي إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ومنهم من اشترط كونه علويا نقيا لخلافة بني العباس وكفى بإجماع المسلمين على إمامة الأئمة الثلاثة حجة عليهم ومنها أن يكون عالما بكل الأمور وأن يكون مطلعا على المغيبات وهذه جهالة تفرد بها بعضهم ومنها أن يكون أفضل أهل زمانه لأن قبح تقديم المفضول على الأفضل في إقامة قوانين الشريعة وحفظ حوزة الإسلام معلوم للعقلاء ولا ترجيح في تقديم المساوي ونقل مثل ذلك عن الأشعري حتى لا تنعقد إمامة المفضول مع وجود الأفضل لأن الأفضل أقرب إلى انقياد الناس له واجتماع الآراء على متابعته ولأن الإمامة خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجب أن يطلب لها من له رتبة أعلى قياسا على النبوة وأجيب بأن القبح بمعنى استحقاق تاركه الذم والعقاب عند الله ممنوع وبمعنى عدم ملاءمته بمجاري العقول والعادات غير مفيد مع أنه أيضا في حيز المنع إذ ربما يكون المفضول أقدر على القيام بمصالح الدين والملك ونصبه أوفق لانتظام حال الرعية وأوثق في اندفاع الفتنة وهذا بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فإنه مبعوث من العليم الحكيم الذي يختار من يشاء من عباده لنبوته ويوحي إليه مصالح الملك والملة ويراه أهلا لتبليغ ما أوحي إليه بمشيئته فيدل ذلك قطعا على أفضليته وإليه الإشارة بقوله تعالى { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون } وقد يحتج بجواز تقديم المفضول بوجوه
الأول إجماع العلماء بعد الخلفاء الراشدين على انعقاد الإمامة لبعض القريشيين مع أن فيهم من هو أفضل منه
الثاني أن عمر رضي الله عنه جعل الإمامة شورى بين ستة من غير نكير عليه مع أن فيهم عثمان وعليا وهما أفضل من غيرهم إجماعا ولو وجب تعيين الأفضل لعينهما
الثالث أن الأفضلية أمر خفي قلما يطلع عليه أهل الحل والعقد وربما يقع فيه النزاع ويتشوش الأمر وإذا أنصفت فتعيين الأفضل متعسر في أقل فرقة من فرق الفاضلين فكيف في قريش مع كثرتهم وتفرقهم في الأطراف وأنت خبير بأن هذا وأمثاله على تقدير تمامه إنما يصلح للاحتجاج على أهل الحق دون الروافض فإن الإمام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق قال وإن يكون معصوما من معظم الخلافيات مع الشيعة اشتراطهم أن يكون الإمام معصوما وقد عرفت معنى العصمة وأنها لا تنافي القدرة على المعصية
____________________
(2/278)
بل ربما يستلزمها واحتج أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالإجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم مع الإجماع على أنهم لم تجب عصمتهم وإن كانوا معصومين بمعنى أنهم منذ آمنوا كان لهم ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها وحاصل هذا دعوى الإجماع على عدم اشتراط العصمة في الإمام وإلا فليس للإجماع على عدم وجوب عصمة الشخص كثير معنى وقد يحتج كثير بأن العصمة مما لا سبيل للعباد إلى الاطلاع عليه فإيجاب نصب إمام معصوم يعود إلى تكليف ما ليس في الوسع وفي انتهاض الوجهين على الشيعة نظر والظاهر أنه لا حاجة إلى الدليل على عدم اشتراط وإنما يحتاج إليه في الاشتراط وقد احتجوا بوجوه
الأول القياس على النبوة بجامع إقامة الشريعة وتنفيذ الأحكام وحماية حوزة الإسلام ورد بأن النبي مبعوث من الله مقرون دعواه بالمعجزات الباهرة الدالة على عصمته من الكذب وسائر الأمور المحلة بمرتبة النبوة ومنصب الرسالة ولا كذلك الإمام فإن نصبه مفوض إلى العباد الذين لا سبيل لهم إلى معرفة عصمته واستقامة سريرته فلا وجه لاشتراطها وأيضا النبي يأتي بالشريعة التي لا علم للعباد بها إلا من جهته فلو لم يكن معصوما عن الكذب في تبليغها والفسق في تعاطيها وقد لزمنا امتثاله فيما أمر ونهى واعتقاد إباحة ما جرى عليه ومضى لكانت المعجزة التي أقامها الله تعالى لصحة الرسالة والهدى وانتظام أمر الدين والدنيا مفضية إلى الضلالة والردى واختلال حال العاجلة والعقبى
الثاني أن الإمام واجب الطاعة بالنص والإجماع قال الله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وكل واجب الطاعة واجب العصمة وإلا لجاز أن يكذب في تقرير الأوامر والنواهي وينهى عن الطاعات ويأمر بالمعاصي فيلزم وجوب اجتناب الطاعة وارتكاب العصيان واللازم ظاهر البطلان والجواب أن وجوب طاعته إنما هو فيما لا يخالف الشرع بشهادة قوله تعالى { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ويكفي في عدم كذبه في بيان الأحكام العلم والعدالة والإسلام وهذا ما يقال إنما يجب عصمته لو كان وجوب طاعته بمجرد قوله وأما إذا كان لكونه حكم الله ورسوله فيكفي العلم والعدالة كالقاضي والوالي بالنسبة إلى الخلق والشاهد بالنسبة إلى الحاكم والمفتي بالنسبة إلى المقلد وأمثال ذلك على أن الإجماع عند الشيعة إنما يكون حجة لاشتماله على قول
____________________
(2/279)
المعصوم فإثبات العصمة به دور
الثالث أن غير المعصوم ظالم لأن المعصية ظلم على النفس أو على الغير ولا شيء من الظالم بأهل للإمامة لقوله تعالى { لا ينال عهدي الظالمين } والمراد عهد الإمامة بقرينة السباق وهو قوله تعالى { إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي } والجواب أن غير المعصوم أي من ليس له ملكة العصمة لا يلزم أن يكون عاصيا بالفعل فضلا أن يكون ظالما فإن المعصية أعم من الظلم وليس كل عاص ظالما على الإطلاق ولو سلم فدلالة الآية على صدق الكبرى لا يتم لجواز أن يكون المراد عهد النبوة والرسالة على ما هو رأي أكثر المفسرين نعم لا يبعد إثباته بالإجماع وفيه ما مر
الرابع أن الأمة إنما يحتاجون إلى الإمام لجواز الخطأ عليهم في العلم والعمل ولذلك يكون الإمام لطفا لهم فلو جاز الخطأ على الإمام لوجب له إمام آخر ويتسلسل وشبه ذلك بانتهاء سلسلة الممكنات إلى الواجب لئلا يلزم التسلسل والجواب أن وجوب الإمام شرعي بمعنى أنه أوجب علينا نصبه لا عقلي مبني على جواز الخطأ على الأمة كما زعمتم لأن في الشريعة القائمة إلى القيامة غنية عنه لولا إيجاب الشارع والضرر المظنون من عدمه يندفع بعلمه واجتهاده وظاهر عدالته وحسن اعتقاده وإن لم يكن معصوما ألا يرى أن الخطأ جائز على المعصوم أيضا لما عرفت من أن العصمة لا تزيل المحنة وإن لم يندفع بذلك فكفى بخبر الأمم وعلماء الشرع مانعا دافعا
الخامس أنه حافظ للشريعة فلو جاز الخطأ عليه لكان ناقضا لها لا حافظا فيعود على موضوعه بالنقض والجواب أنه ليس حافظا لها بذاته بل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة واجتهاده الصحيح فإن أخطأ في اجتهاده أو ارتكب معصية فالمجتهدون يردون والآمرون بالمعروف يصدون وإن لم يفعلوا أيضا فلا نقض للشريعة القويمة ولا نقض على الطريقة المستقيمة
السادس أنه لو أقدم على المعصية فإما أن يجب الإنكار عليه وهو مضاد لوجوب إطاعته الثابت بقوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } فيلزم اجتماع الضدين وإما أن لا يجب وهو خلاف النص والإجماع والجواب أن وجوب الطاعة إنما هو فيما لا يخالف الشرع وأما فيما يخالفه فالرد والإنكار وإن لم يتيسر فسكوت عن اضطرار
السابع أنه لا بد للشريعة من ناقل ولا يوجد في كل حكم حكم أهل التواتر منعنا إلى انقراض العصر فلم يبق إلا أن يكون إماما معصوما عن الخطأ والجواب أن الظن كاف في البعض فينقل بطريق الآحاد من الثقاة وأما القطعي فإلى أهل التواتر أو جميع الأمة وهم أهل عصمة عن الخطأ فلا حاجة إلى معصوم بالمعنى الذي قصد ثم وليت شعري بأي طريق نقلت الشريعة إلى الشيعة من الإمام الذي لا يوجد منه إلا الاسم قال وأما اشتراط قد اشترط الغلاة من الروافض أن يكون الإمام صاحب معجزة عالما بالغيوب وبجميع اللغات وبجميع الحرف والصناعات وبطبايع الأغذية والأدوية وبعجايب البر والبحر والسماء
____________________
(2/280)
والأرض وهذه خرافات مفضية إلى نفي الإمام ورفض الشريعة والأحكام قال المبحث الثالث في طريق ثبوتها اتفقت الأمة على أن الرجل لا يصير إماما بمجرد صلاحيته للإمامة واجتماع الشرائط فيه بل لا بد من أمر آخر به تنعقد الإمامة وهي طرق منها متفق عليه ومنها مختلف فيه فالمختلف فيه المردود الدعوة بأن يباين الظلمة من هو أهل للإمامة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى اتباعه قال به غير الصالحية من الزيدية ذاهبين إلى أن كل فاطمي خرج شاهرا لسيفه داعيا إلى سبيل ربه فهو إمام ولم يوافقهم على ذلك إلا الجبائي والمختلف فيه المقبول عندنا وعند المعتزلة والخوارج والصالحية خلافا للشيعة هو اختيار أهل الحل والعقد وبيعتهم من غير أن يشترط إجماعهم على ذلك ولا عدد محدود بل ينعقد بعقد واحد منهم ولهذا لم يتوقف أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى انتشار الأخبار في الأقطار ولم ينكر عليه أحد وقال عمر رضي الله تعالى عنه لأبي عبيدة ابسط يدك أبايعك فقال أتقول هذا وأبو بكر حاضر فبايع أبا بكر وهذا مذهب الأشعري إلا أنه يشترط أن يكون العقد بمشهد من الشهود لئلا يدعي آخر أنه عقد عقدا سرا متقدما على هذا العقد وذهب أكثر المعتزلة إلى اشتراط عدد خمسة ممن يصلح للإمامة أخذا من أمر الشورى لنا على كون البيعة والاختيار طريقا أما الطريق إما النص وإما الاختيار والنص منتف في حق أبي بكر رضي الله تعالى عنه مع كونه إماما بالإجماع وكذا في حق علي عند التحقيق وأيضا اشتغل الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ومقتل عثمان رضي الله تعالى عنه باختيار الإمام وعقد البيعة من غير نكير فكان إجماعا على كونه طريقا ولا عبرة بمخالفة الشيعة بعد ذلك احتجت الشيعة بوجوه
الأول أن الإمام يجب أن يكون معصوما افضل من رعيته عالما بأمر الدين كله ولا سبيل إلى معرفة ذلك بالاختيار ورد بمنع المقدمتين فقد سبق عدم اشتراط الأمور وعلم بالضرورة حصول الظن لأهل الحل والعقد بالصفات المذكور
الثاني أن أهل البيعة لا يقدرون على تولية مثل القضاء والاحتساب ولا على التصرف في فرد من آحاد الأمة فكيف يقدرون على تولية الرياسة الكبرى وعلى أقدار الغير على التصرف في أمر الدين والدنيا لكافة الأمة ورد بمنع الصغرى فإن التحكيم جائز عندنا والشاهد يجعل القاضي قادرا على التصرف في الغير
____________________
(2/281)
ولو سلم فذلك لوجود من إليه التولية وهو الإمام ولا كذلك إذا مات ولا إمام غيره
الثالث أن الإمامة لإزالة الفتن وإثباتها بالبيعة مظنة إثارة الفتن لاختلاف الآراء كما في زمن علي رضي الله تعالى عنه ومعاوية فتعود على موضوعها بالنقض ورد بأنه لا فتنة عند الانقياد للحق فإن جهات الترجيح من السبق وغيره معلومة من الشريعة ونزاع معاوية لم يكن في إمامة علي رضي الله تعالى عنه بل في أنه هل يجب عليه بيعته قبل الاقتصاص من قتلة عثمان وأما عند الترفع والاستيلاء فالفتنة قائمة ولو مع قيام النص ولو سلم فالكلام فيما إذا لم يوجد النص إذ لا عبرة بالبيعة والاختيار على خلاف ما ورد به النص ولا خفاء في أن الفتنة القائمة من عدم الإمام أضعاف فتنة النزاع في تعيينه
الرابع أن الإمامة خلافة الله ورسوله فيتوقف على استخلافهما بوسط أو لا بوسط والثابت باختيار الأمة لا يكون خلافة منهما بل من الأمة ورد بأنه لما قام الدليل من قبل الشارع وهو الإجماع على أن من اختاره الأمة خليفة لله ورسوله كان خليفة سقط ما ذكرتم ألا ترى أن الوجوب بشهادة الشاهد وقضاء القاضي وفتوى المفتي حكم الله لا حكمهم على أن الإمام وإن كان نائبا لله فهو نائب للأمة أيضا
الخامس أن القول بالاختيار يؤدي إلى خلو الزمان عن الإمام وهو باطل بالاتفاق وذلك فيما إذا عقد أهل بلدتين لمستعدين ولم يعلم السبق فإنه لا يمكن الحكم بصحتهما لاحتمال المقارنة ولا بفسادهما لاحتمال السبق ولا يتعين الصحيح لعدم الوقوف وحينئذ لا يمكن نصب إمام آخر لاحتمال كونه ثانيا ورد بأنه ينصب إمام بعدم العلم بوجود الإمام على أنه يمكن الترجيح بجهاته
السادس أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته على أنه كان لا يترك الاستخلاف على المدينة وغيرها من البلاد في غيبة مدة قليلة ولا البيان في أدنى ما يحتاج إليه من الفرائض والسنن والآداب حتى في أمر قضاء الحاجة ومسح الخف ونحو ذلك فكيف يترك الاستخلاف في غيبة الوفاة والبيان فيما هو من أساس المهمات والجواب أن ذلك مجرد استبعاد على أن التفويض إلى اختيار أهل الحل والعقد واجتهاد أرباب أولي الألباب نوع استخلاف وبيان كما في كثير من فروع الإيمان
السابع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لأمته بمنزلة الأب الشفيق لأولاده الصغار وهو لا يترك الوصية في الأولاد إلى واحد يصلح لذلك فكذا النبي صلى الله عليه وسلم في حق الأمة
الثامن قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } ولا خفاء في أن الإمامة من معظمات أمر الدين فيكون قد بينها وأكملها إما في كتابه وإما على لسان نبيه والجواب عنهما بمثل ما سبق قال خاتمة ينحل عقد الإمامة بما يزول به مقصود الإمامة كالردة والجنون المطبق وصيرورته أسيرا لا يرجى خلاصه وكذا بالمرض الذي ينسيه العلوم وبالعمى والصمم والخرس وكذا بخلعه نفسه لعجزه عن القيام بمصالح المسلمين وإن لم يكن ظاهرا بل استشعره في نفسه وعليه يحمل خلع الحسن رضي الله تعالى عنه نفسه وأما خلعه لنفسه بلا
____________________
(2/282)
سبب ففيه خلاف وكذا في انعزاله بالفسق والأكثرون على أنه لا ينعزل وهو المختار من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأبي حنيفة وعن محمد رضي الله تعالى عنه روايتان ويستتحق العزل بالاتفاق ومن صار إماما بالقهر والغلبة ينعزل بأن يقهره آخر ويغلبه وأما القاضي فينعزل بالفسق على الأظهر قال المبحث الرابع ذهب جمهور أصحابنا والمعتزلة والخوارج إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص على إمام بعده وقيل نص على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال الحسن البصري نصا خفيا وهو تقديمه إياه في الصلاة وقال بعض أصحاب الحديث نصا جليا وهو ما روي أنه عليه السلام قال ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف فيه اثنان ثم قال يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر وقيل نص على علي رضي الله تعالى عنه وهو مذهب الشيعة أما النص الخفي وهو الذي لا يعلم المراد منه بالضرورة فبالاتفاق وأن النص الجلي فعند الإمامية دون الزيدية وهو قوله عليه السلام سلموا عليه بإمرة المؤمنين وقوله صلى الله عليه وسلم مشيرا إليه وآخذا بيده هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا له وقوله صلى الله عليه وسلم أنت الخليفة من بعدي وقوله صلى الله عليه وسلم وقد جمع بني عبدالمطلب أيكم يبايعني ويؤازرني يكن أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فبايعه علي رضي الله عنه ثم استدل أهل الحق بطريقين أحدهما أنه لو كان نص جلي ظاهر المراد في مثل هذا الأمر الخطير المتعلق بمصالح الدين والدنيا لعامة الخلق لتواتر واشتهر فيما بين الصحابة وظهر على أجلتهم الذين لهم زيادة قرب بالنبي صلى الله عليه وسلم واختصاص بهذا الأمر بحكم العادة واللازم منتف وإلا لم يتوقفوا على الانقياد له والعمل بموجبه ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لتعيين الإمام ولم يقل الأنصار منا أمير ومنكم أمير ولم تمل طائفة إلى أبي بكر رضي الله عنه وأخرى إلى علي رضي الله عنه وأخرى إلى العباس رضي الله عنه ولم يقل عمر رضي الله عنه لأبي عبيدة رضي الله عنه امدد يدك أبايعك ولم يترك المنصوص عليه محاجة القوم ومخاصمتهم وادعاء الأمر له والتمسك بالنص عليه فإن قيل علموا ذلك وكتموه لأعراض لهم في ذلك كحب الرياسة والحقد على علي رضي الله تعالى عنه لقتله أقرباءهم وعشايرهم وحسدهم إياه على ما له من المناقب والكمالات وشدة الاختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وظنهم
____________________
(2/283)
أن النص قد لحقه النسخ لما رأوا من ترك كبار الصحابة العمل به إلى غير ذلك وترك علي رضي الله تعالى عنه المحاجة به تقية وخوفا من الأعداء وقلة وثوق بقبول الجماعة قلنا من كان له حظ من الديانة والإنصاف علم قطعا براءة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلالة أقدارهم عن مخالفة أمره في مثل هذا الخطب الجليل ومتابعة الهوى وترك الدليل واتباع خطوات الشيطان والضلال عن سواء السبيل وكيف يظن بجماعة رضي الله عنهم وآثرهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ونصره دينه ووصفهم بكونهم { خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } وقد تواتر منهم الإعراض عن متاع الدنيا وطيباتها وزخارفها ومستلذاتها والإقبال على بذل مهجهم وذخايرهم وقتل أقاربهم وعشايرهم في نصرة رسول الله وإقامة شريعته وانقياد أمره واتباع طريقته أنهم خالفوه قبل أن يدفنوه وتركوا هداهم واتبعوا هواهم وعدلوا عن الحق الصحيح إلى الباطل الصريح وخذلوا مستحقا من خالص بني هاشم وخاص ذوي القربى إلى غاصب من بني تميم أو عدي بن كعب وأن مثل علي رضي الله عنه مع صلابته في الدين وبسالته وشدة شكيمته وقوة عزيمته وعلو شأنه وكثرة أعوانه وكون أكثر المهاجرين والأنصار والرؤساء الكبار معه قد ترك حقه وسلم الأمر لمن لا يستحقه من شيخ من بني تيم ضعيف الحال عديم المال قليل الأتباع والأشياع ولم يقم بأمره وطلب حقه كما قام به حين أفضى النوبة إليه وقاتل من نازعه بكلتا يديه حتى فني الخلق الكثير والجم الغفير وآثر على التقية الحمية في الدين والعصبية للإسلام والمسلمين مع أن الخطب إذ ذاك أشد والخصم ألد وفي أول الأمر قلوب القوم أرق وجانبهم أسهل وآراؤهم إلى اتباع الحق واجتناب الباطل أميل وعهدهم بالنبي صلى الله عليه وسلم أقوى وهممهم في تنفيذ أحكامه أرغب ومن ادعى النص الجلي فقد طعن في كبار المهاجرين والأنصار عامة بمخالفة الحق وكتمانه وفي علي رضي الله تعالى عنه خاصة باتباعه الباطل وإذعانه بل في النبي صلى الله عليه وسلم حيث اتخذ القوم أحبابا وأصحابا وأعوانا وأنصارا وأختانا وأصهارا مع علمه بحالهم في ابتدائهم ومآلهم بل في كتاب الله تعالى حيث أثنى عليهم وجعلهم خير أمة ووصفهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن مكابرات الروافض ادعاؤهم تواتر هذا النص قرنا بعد قرن مع أنه لم يشتهر فيما بين الصحابة والتابعين ولم يثبت ممن يوثق به من المحدثين مع شدة ميلهم إلى أمير المؤمنين ونقلهم الأحاديث الكثيرة في مناقبه وكمالاته في أمر الدنيا والدين ولم ينقل عنه رضي الله تعالى عنه في خطبه ورسائله ومفاخرة إشارة إلى ذلك وابن جرير الطبري مع اتهامه بالتشيع لم يذكر في روايته قصة الدار هذه الزيادة التي يدعيها الشيعة وهي قوله صلى الله عليه وسلم إنه خليفتي فيكم من بعدي ونعم ما قال المأمون وجدت أربعة في أربعة الزهد في المعتزلة والكذب في الرافضة والمروءة في أصحاب
____________________
(2/284)
الحديث وحب الرياسة في أصحاب الرأي والظاهر ما ذكره المتكلمون من أن هذا المذهب أعني دعوى النص الجلي مما وضعه هشام بن الحكم ونصرة بن الراوندي وأبو عيسى الوراق وأضرابهم ثم رواه أسلاف الروافض شغفا بتقرير مذهبهم قال الإمام الرازي ومن العجايب أن الكاملين من علماء الشيعة لم يبلغوا في كل عصر حد الكثرة فضلا عن التواتر وأن عوامهم وأوساطهم لا يقدرون أن يفهموا كيفية هذه الدعوى على الوجه المحقق وأن غلاتهم زعموا أن المسلمين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق على الإسلام إلا عدد يسير أقل من العشرة فكيف يدعون التواتر في ذلك الطريق الثاني روايات وإمارات ربما تفيد باجتماعها القطع بعدم النص وهي كثيرة جدا كقول العباس لعلي امدد يدك أبايعك حتى تقول الناس هذا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان وقول عمر رضي الله تعالى عنه لأبي عبيدة رضي الله تعالى عنه امدد يدك أبايعك وقول أبي بكر بايعوا عمرا وأبا عبيدة وقوله وددت أني سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر فيمن هو وكنا لا ننازعه وكدخول علي رضي الله تعالى عنه في الشورى فإنه رضي بإمامة أيهم كان وكقوله رضي الله تعالى عنه لطلحة رضي الله تعالى عنه إن أردت بايعتك وكاحتجاجه على معاوية ببيعة الناس له لا بنص من النبي صلى الله عليه وسلم وكقوله حين دعي إلى البيعة اتركوني والتمسوا غيري وكمعاضدته أبا بكر وكعدم الإشارة عليهما بما هو أصلح حين خرج أبو بكر لقتال العرب وعمر لقتال فارس وكعدم تعرضه لذلك النص في شيء من خطبه ورسائله ومفاخراته ومخاصماته وعند تأخره عن البيعة وكإنكار زيد بن علي مع علو رتبته هذا النص وكذا كثير من سادات أهل البيت وكتسمية الصحابة أبا بكر مدة حياته بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال احتج المخالف بأنه يستحيل عادة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يهمل مثل هذا الأمر الجليل وقد بين ما هو بالنسبة إليه أقل من القليل والجواب أن ترك النص الجلي على واحد بالتعيين ليس إهمالا بل تفويض معرفة الاحق الأليق إلى آراء أولي ألباب واختيار أهل الحل والعقد من الأصحاب وإنظار ذوي البصيرة بمصالح الأمور وتدبير سياسة الجمهور مع التنبيه على ذلك بخفيف الإشارة أو لطيف العبارة نوع بيان لا يخفى حسنه على أهل العرفان قال المبحث الخامس الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا وعند المعتزلة وأكثر الفرق أبو بكر وعند الشيعة علي رضي الله تعالى
____________________
(2/285)
عنه ولا عبرة بقول الراوندية أتباع القاسم بن راوند أنه العباس رضي الله تعالى عنه لنا وجوه
الأول وهو العمدة إجماع أهل الحل والعقد على ذلك وإن كان من البعض بعد تردد وتوقف على ما روي أن الأنصار قالوا منا أمير ومنكم أمير وأن أبا سفيان قال أرضيتم يا بني عبدمناف أن يلي عليكم تيم والله لأملأن الوادي خيلا ورجالا وذكر في صحيح البخاري وغيره من الكتب الصحيحة أن بيعة علي وفي إرسال أبي بكر وعمر أبا عبيدة الجراح إلى علي رضي الله عنه رسالة لطيفة رواها الثقات بإسناد صحيح تشتمل على كلام كثير من الجانبين وقليل غلظة من عمرو على أن عليا جاء إليهما ودخل فيما دخلت فيه الجماعة وقال حين قام عن المجلس بارك الله فيما ساءني وسركم فيما روي أنه لما بويع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه وتخلف علي والزبير والمقداد وسلمان وأبو ذر أرسل أبو بكر من الغد إلى علي فأتاه مع أصحابه فقال ما خلفك يا علي عن أمر الناس فقال عظم المصيبة ورأيتكم استغنيتم برأيكم فاعتذر إليه أبو بكر ثم أشرف على الناس فقال هذا علي بن أبي طالب ولا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار في أمره ألا فأنتم بالخيار جميعا في بيعتكم إياي فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه فقال علي لا نرى لها أحدا غيرك فبايعه هو وسائر المتخلفين محل نظر ثم الإجماع على إمامته على أهليته لذلك مع أنها من الظهور بحيث لا يحتاج إلى البيان
الثاني أن المهاجرين والأنصار اتفقوا على أن الإمامة لا تعدو أبا بكر وعليا والعباس ثم إن عليا والعباس بايعا أبا بكر وسلما له الأمر فلو لم يكن على الحق لنازعاه كما نازع علي معاوية لأنه لا يليق لهما السكوت عن الحق ولأن ترك المنازعة ح يكون مخلا بالعصمة الواجبة عندكم فيخرجان عن أهلية الإمامة فتعين أبو بكر للاتفاق على أنها ليست لغيرهم فإن قيل إذا لم يكن على الحق كيف يتعين إماما على الحق وهل هذا إلا تهافت قلنا عدم كونه على الحق إذا استلزم كونه على الحق كان باطلا لأن ما يفضي ثبوته إلى انتفائه كان منتفيا قطعا وفيه المطلوب وقد يجاب بأنه يجوز أن لا يكون على الحق بفضل علي عليه واستحقاقه الإمامة دونه ثم يبطل ذلك الفضل والاستتحقاق بترك ما وجب عليه من المنازعة فيصير أبو بكر هو الإمام بالحق فإن قيل يجوز أن يكون ترك المنازعة لمانع التقية وخوف الفتنة قلنا قد سبق الجواب والله أعلم
الثالث قوله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } وعد الخلافة لجماعة من المؤمنين المخاطبين ولم يثبت لغير الأئمة الأربعة فيثبت لهم على الترتيب
الرابع قوله تعالى { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا } الآية جعل الداعي مفترض الطاعة والمراد به عند أكثر المفسرين أبو بكر وبالقوم بنوا حنيفة قوم مسيلمة الكذاب وقيل قوم فارس فالداعي عمرو في ثبوت خلافته ثبوت خلافة أبي بكر رضي الله عنه وبالاتفاق لم يكن ذلك عليا لأنه لم يقاتل في خلافته الكفار
الخامس قوله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر
____________________
(2/286)
وعمر
السادس قوله صلى الله عليه وسلم الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا عضوضا أي ينال الرعية منهم ظلم كأنهم يعضون عضا وكانت خلافة أبي بكر سنتين وخلافة عمر عشر سنين وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي ست سنين
السابع قوله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه ائتوني بكتاب وقرطاس أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف فيه اثنان ثم قال يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر
الثامن أن المهاجرين الذين وصفهم الله بقوله { أولئك هم الصادقون } كانوا يقولون له يا خليفة رسول الله
التاسع أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه في الصلوات التي هي أساس الشريعة ولم يعزله ورواية العزل افتراء من الروافض ولهذا لما قال أبو بكر أقيلوني فلست بخيركم قال رضي الله عنه لا نقيلك ولا نستقيلك قدمك رسول الله فلا يؤخرك رضيك لديننا فرضيناك لدنيانا
العاشر لو كانت الإمامة حقا لعلي غصبها أبو بكر ورضيت الجماعة بذلك وقاموا بنصرته دون علي رضي الله عنه لما كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واللازم باطل وهذه الوجوه وإن كانت ظنيات فنصب الإمام من العمليات فيكفي فيه الظن على أنها باجتماعها ربما تفيد القطع لبعض المنصفين ولو سلم فلا أقل من صلوحها سندا للإجماع وتأييدا قال احتجت الشيعة بوجوه لهم في إثبات إمامة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وجوه من العقل والنقل والقدح فيمن عداه من أصحاب رسول الله الذين قاموا بالأمر ويدعون في كثير من الأخبار الواردة في هذا الباب التواتر بناء على شهرته فيما بينهم وكثرة دورانه على ألسنتهم وجريانه في أنديتهم وموافقته لطباعهم ومقارعته لأسماعهم ولا يتأملون أنه كيف خفي على الكبار من الأنصار والمهاجرين والثقاة من الرواة والمحدثين ولم يحتج به البعض على البعض ولم يبنوا عليه الإبرام والنقض ولم يظهر إلا بعد انقضاء دور الإمامة وطول العهد بأمر الرسالة وظهور التعصبات الباردة والتعسفات الفاسدة وإفضاء أمر الدين إلى علماء السوء والملك إلى أمراء الجور ومن العجائب أن بعض المتأخرين من المتشيعين الذين لم يروا أحدا من المحدثين ولا رووا حديثا في أمر الدين ملأوا كتبهم من أمثال هذه الأخبار والمطاعن في الصحابة الأخيار وإن شئت فانظر في كتاب التجريد المنسوب إلى الحكيم نصير الطوسي كيف نصر الأباطيل وقرر الأكاذيب والعظماء من عترة النبي وأولاد الوصي الموسومون بالدراية المعصومون في الرواية لم يكن معهم هذه الأحقاد والتعصبات ولم يذكروا من الصحابة إلا الكمالات ولم يسلكوا مع رؤساءالمذاهب من علماء الإسلام إلا طريق الإجلال والإعظام وها هو الإمام علي بن موسى الرضي مع جلالة قدره ونباهة ذكره وكمال علمه وهداه وورعه وتقواه قد كتب على ظهر كتاب عهد المأمون له ما ينبئ عن وفور حمده وقبول عهده والتزام ما شرط عليه وإن كتب في آخره والجامعة و . . . يدلان على ضد ذلك ثم أنه دعا للمأمون
____________________
(2/287)
بالرضوان فكتب في أثناء أسطر العهد تحت قوله وسميته لرضي رضي الله عنك وأرضاك وتحت قوله ويكون له الإمرة الكبرى بعدي بل جعلت فداك وفي موضع آخر وصيتك رحم وجزيت خيرا وهذا العهد بخطهما موجود الآن في المشهد الرضوي بخراسان وآحاد الشيعة في هذا الزمان لا يسمون الكبار الصحابة بالرضوان فضلا عن بني العباس فقد رضوا رأسا برأس ومن البين الواضح في هذا الباب ما كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت المسلمين كل عام مائتي مثقال ذهبا عينا إبريزا كتبه ابن الخطاب فكتب أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون أنا أول من اتبع أمر من أعز الإسلام ونصر الدين والأحكام عمر بن الخطاب ورسمت بمثل ما رسم لآل بني كاكلة في كل عام مائتي دينار ذهبا عينا إبريزا واتبعت أثره وجعلت لهم بمثل ما رسم عمر إذ وجب علي وعلى جميع المسلمين اتباع ذلك كتبه علي بن أبي طالب وهذا بخطهما موجود الآن في ديار العراق قال الأول هذا هو الوجه العقلي وتقريره أنه لا نزاع في أن بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إماما وليس غير علي لإن الإمام يجب أن يكون معصوما ومنصوصا عليه وأفضل أهل زمانه ولا يوجد شيء من ذلك في باقي الصحابة أما العصمة والنص فبالاتفاق وأما الأفضلية فلما سيأتي وهذا يمكن أن يجعل أدلة ثلاثة بحسب الشروط وربما يورد في صورة القلب فيقال الإمام إما علي رضي الله عنه وإما أبو بكر وإما العباس بالإجماع المشتمل على قول المعصوم ولا سبيل إلى الأخيرين لانتفاء الشرط والجواب أولا منع الاشتراط وثانيا منع انتفاء الشرائط في أبي بكر رضي الله عنه وأما ما يقال أن الإجماع على أن الإمام أحدهم إجماع على صلوح كل منهم للإمامة فمحل نظر قال الثاني إشارة إلى الدليل النقلي من الكتاب وتقريره أن قوله تعالى { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } نزلت باتفاق المفسرين في علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أعطى السائل خاتمه وهو راكع في صلاته وكلمة إنما للحصر بشهادة النقل والاستعمال والولي كما جاء بمعنى الناصر فقد جاء بمعنى المتصرف والأولى والأحق بذلك يقال أخو المرأة وليها والسلطان ولي من لا ولي له وفلان ولي الدم وهذا هو المراد ههنا لأن الولاية بمعنى النصرة تعم جميع المؤمنين لقوله تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء } فلا يصح حصرها في المؤمنين الموصوفين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة حال الركوع والمتصرف من المؤمنين في أمر الأمة يكون هو الإمام فتعين علي رضي الله عنه لذلك إذ لم توجد هذه الصفات في غيره والجواب منع كون الولي بمعنى المتصرف في أمر الدين والدنيا
____________________
(2/288)
والأحق بذلك على ما هو خاصة الإمام بل الناصر والموالي و . . . على ما يناسب ما قبل الآية وما بعدها وهو قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } فإن الحصر إنما يكون بإثبات ما نفي عن الغير وولاية اليهود والنصارى المنهي عن اتخاذها ليست هي التصرف والإمامة بل النصرة والمحبة وقوله تعالى { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } وقوله تعالى { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } لظهور أن ذلك تولي محبة ونصرة لا إمامة وبالجملة لا يخفى على من تأمل في سياق الآية وكان له معرفة بأساليب الكلام أن ليس المراد بالولي ههنا ما يقتضي الإمامة بل الموالاة والنصرة والمحبة ثم وصف المؤمنين لما ذكر يجوز أن يكون للمدح والتعظيم دون التقييد والتخصيص وأن يكون لزيادة شرف الموصوفين واستحقاقهم أن يتخذوا أولياء وأولويتهم بذلك وقربهم ونصرتهم وشفقتهم الحاملة على النصرة وقوله { وهم راكعون } كما يحتمل الحال يحتمل العطف بمعنى أنهم يركعون في صلاتهم لا كصلاة اليهود خالية عن الركوع أو بمعنى أنهم خاضعون على أن ههنا وجوها أخر من الاعتراض منها أن النصرة وإن كانت عامة لكن إذا أضيفت إلى جماعة مخصوصة من المؤمنين فبالضرورة تختص بمن عداهم لأن الإنسان لا يكون ناصرا لنفسه وكأنه قيل لبعض المؤمنين إنما ناصركم البعض الآخر قال الإمام الرازي إن هذا السؤال عليه التعويل في دفع هذه الشبهة فإنه دقيق متين وأنت خبير بأن مبناه على اختصاص الخطاب بالبعض من المؤمنين وعلى كون المؤمنين الموصوفين جميع من عداهم ومنها أن الحصر إنما يكون نفيا لما وقع فيه تردد ونزاع ولا خفاء في أن ذلك عند نزول الآية لم يكن إمامة الأئمة الثلاثة ومنها أن ظاهر الآية ثبوت الولاية بالفعل وفي الحال ولا شبهة في أن إمامة علي رضي الله عنه إنما كانت بعد النبي صلى الله عليه وسلم والقول بأنه كانت له ولاية التصرف في أمر المسلمين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أيضا مكابرة وصرف الولاية إلى ما يكون في المآل دون الحال لا يستقيم في حق الله تعالى ورسوله ومنها أن الذين آمنوا صيغة جمع فلا يصرف إلى الواحد إلا بدليل وقول المفسرين أن الآية نزلت في حق علي رضي الله عنه لا يقتضي اختصاصها به واقتصارها عليه ودعوى انحصار الأوصاف فيه مبنية على جعل وهم راكعون حالا من ضمير يؤتون وليس بلازم ومنها أنه لو كانت في الآية دلالة على إمامة علي رضي الله عنه لما خفيت على الصحابة عامة وعلى علي خاصة ولما تركوا الانقياد لها والاحتجاج بها قال الثالث تمسك بما يدعون فيه التواتر من الأخبار أما حديث الغدير فهو أنه عليه السلام قد جمع الناس يوم غدير خم موضع بين مكة والمدينة بالحجفة وذلك بعد رجوعه
____________________
(2/289)
عن حجة الوداع وكان يوما صائفا حتى أن الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر وجمع الرجال وصعد عليه السلام عليها وقال مخاطبا معاشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم قالوا اللهم بلى قال فمن كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وهذا حديث متفق على صحته أورده علي رضي الله عنه يوم الشورى عندما حاول ذكر فضائله ولم ينكره أحد ولفظ المولى قد يراد به المعتق والمعتق والحليف والجار وابن العم والناصر والأولى بالتصرف قال الله تعالى { مأواكم النار هي مولاكم } أي أولى بكم ذكره أبو عبيدة وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن مولاها أي الأولى بها والمالك لتدبير أمرها ومثله في الشعر كثير وبالجملة استعمال المولى بمعنى المتولي والمالك للأمر والأولى بالتصرف شائع في كلام العرب منقول عن كثير من أئمة اللغة والمراد أنه اسم لهذا المعنى لا صفة بمنزلة الأولى ليعترض بأنه ليس من صيغة اسم التفضيل وأنه لا يستعمل استعماله وينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى ليطابق صدر الحديث ولأنه لا وجه للخمسة الأول وهو ظاهر ولا للسادس لظهوره وعدم احتياجه إلى البيان وجمع الناس لأجله سيما وقد قال الله تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } ولا خفاء في أن الولاية بالناس والتولي والمالكية لتدبير أمرهم والتصرف فيهم بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم هو معنى الإمامة والجواب منع تواتر الخبر فإن ذلك من مكابرات الشيعة كيف وقد قدح في صحته كثير من أهل الحديث ولم ينقله المحققون منهم كالبخاري ومسلم والواقدي وأكثر من رواه لم يرو المقدمة التي جعلت دليلا على أن المراد بالمولى الأولى وبعد صحة الرواية فمؤخر الخبر أعني قوله اللهم وال من والاه يشعر بأن المراد بالمولى هو الناصر والمحب بل مجرد احتمال ذلك كاف في دفع الاستدلال وما ذكره من أن ذلك معلوم ظاهر من قوله تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } لا يدفع الاحتمال لجواز أن يكون الغرض التنصيص على موالاته ونصرته ليكون أبعد عن التخصيص الذي تحتمله أكثر العمومات وليكون اقوى دلالة وأوفى بإفادة زيادة الشرف حيث قرن بموالاة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا القدر من المحبة والنصرة لا يقتضي ثبوت الإمامة وبعد تسليم الدلالة على الإمامة فلا عبرة بخبر الواحد في مقابلة الإجماع ولو سلم فغايته الدلالة على استحقاق الإمامة وثبوتها في المال لكن من اين يلزم نفي إمامة الأئمة قبله وهذا قول بالموجب وهو جواب ظاهر لم يذكره القوم وإذا تأملت فما يدعون من تواتر الخبر حجة عليهم لا لهم لأنه لو كان مسوقا لثبوت الإمامة دالا عليه لما خفي على عظماء الصحابة فلم يتركوا الاستدلال به ولم يتوقفوا في أمرالإمامة والقول بأن القوم تركوا الانقياد عنادا وعلي رضي الله تعالى عنه ترك الاحتجاج تقية آية الغواية وغاية الوقاحة وأما حديث المنزلة فهو قوله عليه السلام لعلي رضي الله تعالى عنه أنت مني بمنزلة هارون
____________________
(2/290)
من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وتقريره أن المنزلة اسم جنس ضعيف فعم كما إذا عرف باللام بدليل صحة الاستثناء وإذا استثنى منها مرتبة النبوة بقيت عامة في باقي المنازل التي من جملتها كونه خليفة له ومتوليا في تدبير الأمر ومتصرفا في مصالح العامة ورئيسا مفترض الطاعة لو عاش بعده إذ لا يليق بمرتبة النبوة زوال هذه المرتبة الرفيعة الثابتة في حياة موسى عليه السلام بوفاته وإذ قد صرح بنفي النبوة لم يكن ذلك إلا بطريق الإمامة والجواب منع التواتر بل هو خبر واحد في مقابلة الإجماع ومنع عموم المنازل بل غاية الاسم المفرد المضاف إلى العلم الإطلاق وربما يدعى كونه معهودا معينا كغلام زيد وليس الاستثناء المذكور إخراجا لبعض أفراد المنزلة بمنزلة قولك إلا النبوة بل منقطع بمعنى لكن على ما لا يخفى على أهل العربية فلا يدل على العموم كيف ومن منازله الأخوة في النسب ولم يثبت لعلي اللهم إلا أن يقال أنها بمنزلة المستثنى لظهور انتفائها ولو سلم العموم فليس من منازل هارون الخلافة والتصرف بطريق النيابة على ما هو مقتضى إلإمامة لأنه شريك له في النبوة وقوله اخلفني ليس استخلافا بل مبالغة وتأكيدا في القيام بأمرالقوم ولو سلم فلا دلالة على بقائها بعد الموت وليس انتفاؤها بموت المستخلف عزلا ولا نقصا بل ربما يكون عودا إلى حالة أكمل هي الاستقلال بالنبوة والتبليغ من الله تعالى ولو سلم فتصرف هارون عليه السلام ونفاذ أمره لو بقي بعد موسى إنما يكون لنبوته وقد انتفت النبوة في حق علي رضي الله تعالى فينتفي ما يبتنى عليها ويتسبب عنها وأما الجواب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف عليا على المدينة فأكثر أهل النفاق في ذلك فقال علي يا رسول الله أتتركني مع الاختلاف فقال صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وهذا لا يدل خلافته بعده كابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه استخلفه على المدينة في كثير من غزواته فربما يدفع بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب بل ربما يحتج بأن استخلافه على المدينة وعدم عزله عنها مع أنه لا قائل بالفصل وأن الاحتياج إلى الخليفة بعد الوفاة أشد وأوكد منه حال الغيبة يدل على كونه خليفة قال الرابع هذه أخبار يدعون أنها نصوص جلية من النبي صلى الله عليه وسلم على خلافة علي رضي الله تعالى عنه وهو قوله صلى الله عليه وسلم مخاطبا لأصحابه سلموا عليه يإمرة المؤمنين الضمير لعلي والإمرة بالكسر الإمارة من أمر الرجل صار أميرا وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله تعالى عنه أنت الخليفة من بعدي وقوله عليه الصلاة والسلام أنه أمام المتقين وقائد الغر المحجلين وقوله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بيد علي هذا خليفتي عليكم وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله تعالى عنه أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني بالكسر والجواب ما مر أنها أخبار آحاد في مقابلة الإجماع وأنها لو صحت لما خفيت على الصحابة والتابعين
____________________
(2/291)
والمهرة المتقين من المحدثين سيما على أولاده الطاهرين ولو سلم فغايته إثبات خلافته لا نفي خلافة الآخرين قال الخامس استدلال على إمامة علي رضي الله تعالى عنه بالقدح في إمامة الآخرين وتقريره أنه لا نزاع في وجود إمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم وغير علي من الجماعة الموسومين بذلك لا يصلح لذلك أما إجمالا فلظلمهم لسبق كفرهم لقوله تعالى { والكافرون هم الظالمون } والظالم لا يكون إماما لقوله تعالى { لا ينال عهدي الظالمين } والجواب منع المقدمتين ومنع دلالة الآية على كون من كان كافرا ثم أسلم ظالما ومنع كون المراد بالعهد هو الإمامة وإما تفصيلا فمما يقدح في إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه خالف كتاب الله تعالى في منع إرث النبي بخبر رواه وهو نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وتخصيص الكتاب إنما يجوز بالخبر المتواتر دون الآحاد والجواب أن خبر الواحد وإن كان ظني المتن قد يكون قطعي الدلالة فيخصص به عام الكتاب لكونه ظني الدلالة وإن كان قطعي المتن جمعا بين الدليلين وتمام تحقيق ذلك في أصول الفقه على أن الخبرالمسموع من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يكن فوق المتواتر فلا خفاء في كونه بمنزلته فيجوز للسامع المجتهد أن يخصص به عام الكتاب ومنها أنه منع فاطمة رضي الله تعالى عنها فدك وهي قرية بخيبر مع أنها ادعت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحلها إياها ووهبها منها وشهد بذلك علي رضي الله تعالى عنه وأم أيمن فلم يصدقهم وصدق أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في ادعاء الحجرة لهن من غير شاهد ومثل هذا الجور والميل لا يليق بالإمام ولهذا رد عمر بن عبد العزيز من المروانية فدك إلى أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها والجواب أنه لو سلم صحة ما ذكر فليس على الحاكم أن يحكم بشهادة رجل وامرأة وأن فرض عصمة المدعي والشاهد وله الحكم بما علمه يقينا وإن لم يشهد به شاهد ولعمري أن قصة فدك على ما يرويه الروافض من أبين الشواهد على أنهماكهم في الضلالة وافترائهم على الصحابة وكونهم الغاية في الغواية والنهاية في الوقاحة حيث ظنوا بمثل أبي بكر وعمر أنهما أخذا حق سلالة النبوة ظلما لينتفع به الآخرون لا هما نفسهما ولا من يتصل بهما ويمثل علي رضي الله تعالى عنه أنه مع علمه بحقيقة الحال لم يدفع تلك الظلامة أيام خلافته ولسائر الأصحاب أنهم سكتوا على ذلك من غير تعرض ولا اعتراض والمذكور في كتب التواريخ أن فدك كانت على ما قرره أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى زمن معاوية ثم اقطعها مروان بن الحكم ووهبها مروان من ابنيه عبدالعزيز وعبدالملك ثم لما ولى الوليد بن عبدالملك وهب عمر بن عبدالعزيز نصيبه للوليد وكذا سليمان بن عبدالملك فصارت كلها للوليد ثم ردها عمر بن عبدالعزيز أيام خلافته
____________________
(2/292)
إلى ما كانت عليه ثم لما كانت سنة عشرين ومائتين كتب المأمون إلى عامله على المدينة فثم بن جعفر أن يرد فدك إلى أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها فدفعها إلى محمد بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب ومحمد بن عبد الله ابن زيد بن الحسين بن زيد ليقوما بها لأهلهما وعد ذلك من تشيع المأمون فلما استخلف المتوكل ردها إلى ما كانت عليه ومنها أنه خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستخلاف حيث جعل عمر خليفة له والرسول عليه الصلاة والسلام مع أنه أعرف بالمصالح والمفاسد وأوفر شفقة على الأمة لم يستخلف أحدا بل عزل عمر بعد ما ولاه أمر الصدقات فاستخلافه وتوليته جميع أمور المسلمين مخالفة للرسول وترك لما وجب من اتباعه والجواب أنا لا نسلم انه لم يستخلف أحدا بل استخلف إجماعا أما عندنا فأبا بكر وأما عندكم فعليا ولا نسلم أنه عزل عمر بل انقضى توليته بانقضاء شغله كماإذا وليت أحدا عملا فأتمه فلم يبق عاملا فإنه ليس من العزل في شيء ولا نسلم أن مجرد فعل مالم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة له وترك لاتباعه وإنما يكون ذلك إذا فعل ما نهى عنه أو ترك ما أمر به ولا نسلم أن هذا قادح في استحقاق الإمامة ومنها أنه لم يكن عارفا بالأحكام حتى قطع يسار سارق من الكوع لا يمينه وقال لجدة سألته عن ارثها لا أجد لك شيئا في كتاب الله ولا سنة نبيه فأخبره المغيرة ومحمد بن سلمة أن الرسول عليه الصلاة والسلام أعطاها السدس وقال أعطوا الجدات السدس ولم تعرف الكلالة وهي من لا والد له ولا ولد وكل وارث ليس بوالد ولا ولد والجواب بعد التسليم أن هذا لا يقدح في الاجتهاد فكم مثله للمجتهدين ومنها أنه شك عند موته في استحقاقه الإمامة حيث قال وددت أني سألت رسول الله عن هذا الأمر فيمن هو وكنا لا ننازعه أهله والجواب أن هذا على تقدير صحته لا يدل على الشك بل على عدم النص وإن إمامته كانت بالبيعة والاختيار وأنه في طلب الحق بحيث يحاول أن لا يكتفى بذلك بل يريد اتباع النص خاصة ومنها أن عمر مع كونه وليه وناصره قال كانت بيعة أبي بكر فلتة وفي الله تعالى شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه يعني أنها كانت فجاءة لا عن تدبر وابتناء على أصل والجواب أن المعنى كانت فجاءة وبغتة وفي الله شر الخلاف الذي يكاد يظهر عندها فمن عاد إلى مثل تلك المخالفة الموجبة لتبديد الكلمة فاقتلوه وكيف يتصور منه القدح في إمامة أبي بكر مع ما علم من مبالغته في تعظيمه وفي انعقاد البيعة له ومن صيرورته خليفة باستخلافه فلهم حكايات تجري مجرى ذلك أكثرها افتراآت ومع ذلك فلها محامل وتأويلات ولا تعارض ما ثبت المفهوم من الحكايات وتواتر بين الجماعة من الموادات وما أقبح بناء المذهب على الترهات والأحاديث المفتريات قال وأمر عمر قدحوا في إمامة عمر بوجوه منها أنه لم يكن عارفا بالأحكام حتى أمر برجم امرأة حامل أقرت بالزنا ورجم امرأة مجنونة زنت فنهاه علي رضي الله تعالى عنه
____________________
(2/293)
عن ذلك فقال لولا علي لهلك عمر ونهى عن المغالاة في الصداق فقامت إليه امرأة فقالت ألم يقل الله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فقال كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات والجواب بعد تسليم القصة وعلمه بالحمل والجنون ونهيه على وجه التحريم أن الخطأ في مسئلة وأكثر لا ينافي الاجتهاد ولا يقدح في الإمامة والاعتراف بالنقصان هضم للنفس ودليل على الكمال ومنها أنه لم يكن عالما بالقرآن حتى شك في موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسكن إليه حتى تلا عليه أبو بكر قوله { إنك ميت وإنهم ميتون } فقال كأني لم أسمع هذه الآية فالجواب أن ذلك كان لتشوش البال واضطراب الحال والذهول عن جليات الأحوال أو لأنه فهم من قوله تعالى { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله } وقوله { ليستخلفنهم في الأرض } انه يبقى إلى تمام هذه الأمور وظهورها غاية الظهور وفي قوله كأني لم أسمع دلالة على أنه سمعها وعلمها لكن ذهل عنها أو حملها على معنى آخر أي كأني لم أسمعها سماع اطلاع على هذا المعنى بل أنه يموت بعد تمام الأمور ومنها أنه تصرف في بيت المال بغير الحق فأعطى أزواج النبي عليه السلام منه مالا كثيرا حتى روي أنه أعطى عايشة وحفصة كل سنة عشرة آلاف درهم وافترض لنفسه منه ثمانين ألف درهم وكذا في أموال الغنايم حيث فضل المهاجرين على الأنصار والعرب على العجم ومنع أهل البيت خمسهم الذي هو سهم ذوي القربى بحكم الكتاب والجواب أن من تتبع ما تواتر من أحواله علم قطعا أن حديث التصرف في الأموال محض افتراء وأما التفضيل فله ذلك بحسب ما يرى من المصلحة فإنه من الاجتهاديات التي لا قاطع فيها وأما الخمس فقد كان لذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب من أولاد عبد مناف بالنص والإجماع إلا أنه اجتهد فذهب إلى أن مناط الاستحقاق هو الفقر فخصه بالفقراء منهم أو إلى أنها من قبيل الأوساخ المحرمة على بني هاشم وبالجملة فهذه مسئلة اجتهادية معروفة في كتب الفقه لا تقدح في استحقاق الإمامة ومنها أنه منع متعة النكاح وهي أن يقول لامرأة تمتع بك كذا مدة بكذا درهما أو متعيني نفسك أياما بكذا أو ما يؤدى هذا المعنى وجوزها مالك والشيعة وفي معناها النكاح إلى أجل معلوم وجوزه زفر لازما ومتعة الحج وهي أن يأتي مكة من على مسافة لقصر منها محرما فيعتمر في أشهر الحج ويقيم حلالا بمكة وينشئ منها الحج عامه ذلك وقد كان معترفا بشرعية المتعتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على ما روي عنه أنه قال ثلاث كن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهن وأحرمهن وهي متعة النساء ومتعة الحج وحي على خير العمل والجواب أن هذه مسائل اجتهادية وقد ثبت نسخ إباحة متعة النساء بالآثار المشهورة إجماعا من الصحابة على ما روى محمد بن الحنفية عن علي رضي الله تعالى عنه أن منادي رسول الله نادى يوم خيبر ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عن المتعة وقال جابر بن زيد ما خرج ابن عباس من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة وبعضهم على أنه
____________________
(2/294)
إنما تثبت إباحتها موقتة بثلاثة أيام ومعنى أحرمهن أحكم بحرمتهن وأعتقد ذلك لقيام الدليل كما يقال حرم المثلث الشافعي رضي الله تعالى عنه وأباحه أبو حنيفة رحمه الله تعالى ومنها أنه جعل الخلافة شورى بين ستة مع الإجماع على أنه لا يجوز نصب خليفتين لما فيه من إثارة الفتنة والجواب أن ذلك حيث يكون كل منهما مستقلا بالخلافة فإما بطريق المشاورة وعدم انفراد البعض بالرأي فلا لأن ذلك بمنزلة نصب إمام واحد كامل الرأي وقد يقال أن معنى جعل الإمامة شورى أن يتشاوروا فينصبوا واحدا منهم ولا يتجاوزهم الإمامة ولا يعبأ بتعيين غيرهم وحينئذ لا إشكال ومن نظر بعين الإنصاف وسمع ما اشتهر من عمر في الأطراف علم جلالة محله عما تدعيه الأعداء وبراءة ساحته عما يفتريه أهل البدع والأهواء وجزم بأنه كان الغاية في العدل والسداد والاستقامة على سبيل الرشاد وأنه لو كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبي لكان عمر ولو يبعث فينا نبيا لبعث عمر ولكن لا دواء لداء العناد ومن يضلل الله فما له من هاد قال وولى عثمان من مطاعنهم في عثمان رضي الله عنه أنه ولى أمور المسلمين من ظهر منهم الفسق والفساد كالوليد بن عتبة وعبدالله بن أبي سرح ومروان بن الحكم ومعاوية بن أبي سفيان ومن يجري مجراهم وأنه صرف أموال بيت المال إلى أقاربه حتى نقل أنه صرف إلى أربعة نفر منهم أربعمائة ألف درهم وأنه حمى لنفسه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا حمى إلا لله ولرسوله وعمر إنما حمى لإبل المسلمين العاجزين ولنحو نعم الصدقة والجزية والضوال لا لنفسه وأنه أحرق مصحف بن مسعود وضربه حتى كسر ضلعين من أضلاعه وضرب عمارا حتى أصابه فتق وضرب أبا ذر ونفاه إلى الربذة وأنه رد الحكم بن العاص وقد سيره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أسقط القود عن عبدالله بن عمر وقد قتل الهرمزان والحد عن الوليد بن عتبة وقد شرب الخمر وأن الصحابة خذلوه حتى قتل ولم يدفن إلا بعد ثلاثة أيام والجواب أن بعض هذه الأمور مما لا يقدح في إمامته كظهور الفسق والفساد من ولاة بعض البلاد إذ لا اطلاع له على السرائر وإنما عليه الأخذ بالظاهر والعزل عند تحقق الفسق ومعاوية كان على الشام في زمن عمر أيضا والمذهب أن الباغي ليس بفاسق ولو سلم فإنما ظهر ذلك في زمان إمامة علي رضي الله تعالى عنه وبعضها افتراء محض كصرف ذلك القدر من بيت المال إلى أقاربه وأخذ الحمى لنفسه وضرب الصحابة إلى الحد المذكور وبعضها اجتهاديات مفوضة إلى رأي الإمام حسب ما يراه من المصلحة كالتأديب والتعزير ودرء الحدود والقصاص بالشبهات والتأويلات وبعضها كان بإذن النبي صلى الله عليه وسلم كرد الحكم بن العاص على ما روي أنه ذكر ذلك لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقالا إنك شاهد واحد فلما آل الأمر إليه حكم بعلمه وأما حديث خذلان الصحابة إياه وتركهم دفنه من غير عذر فلو صح كان قدحا فيهم لا فيه ونحن لا نظن بالمهاجرين والأنصار رضي الله عنهم عموما وبعلي
____________________
(2/295)
ابن أبي طالب رضي الله عنه خصوصا أن يرضوا بقتل مظلوم في دارهم وترك دفن ميت في جوارهم سيما من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما وعاكف طول النهار ذاكرا وصائما شرفه رسول الله بابنتيه وبشره بالجنة وأثنى عليه فكيف يخذلونه وقد كان من زمرتهم وطول العمر في نصرتهم وعلموا سابقته في الإسلام وخاتمته إلى دار السلام لكنه لم يأذن لهم في المحاربة ولم يرض بما حاولوا من المدافعة تحاميا عن إراقة الدماء ورضا بسابق القضاء ومع ذلك لم يدع الحسن والحسين رضي الله عنهما في الدفع عنه مقدورا وكان أمر الله قدرا مقدورا قال خاتمة مرض أبو بكر رضي الله عنه مرضه الذي توفي فيه في جمادى الأخرى سنة ثلاث عشرة من الهجرة بعدما انقضت من خلافته سنتان وأربعة أشهر أو ستة أشهر فشاور الصحابة وجعل الخلافة لعمر وقال لعثمان رضي الله عنه اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا عنها وأول عهده بالآخرة داخلا فيها حين يؤمن الكافر يوقن الفاجر ويصدق الكاذب إني أستخلف عمر بن الخطاب فإن عدل فذاك ظني به ورأيي فيه وإن بدل وجار فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون وعرضت الصحيفة على جملة الصحابة فبايعوا لمن فيها حتى مرت بعلي رضي الله عنه فقال بايعنا لمن فيها وإن كان عمر فانعقدت له الإمامة بنص الإمام الحق وإجماع أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار فقام عشر سنين ونصفا يأمر بالعدل والسياسة ونظم قوانين الرياسة وتقوية الضعفاء وقهر الأعداء واستيصال الأقوياء الأغوياء وإعلاء لواء الإسلام وتنفيذ الشرايع والأحكام بحيث صار ذلك كالأمثال في الأمصار وطار كالأمطار في الأقطار واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة على يد أبي لؤلؤة غلام للمغيرة بن شعبة طعنه وهو في الصلاة وحين علم بالموت قال ما أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وجعل الخلافة شورى بينهم فاجتمعوا بعد دفن عمر رضي الله عنه فقال الزبير قد جعلت أمري إلى علي وقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد قد جعلت أمري إلى عبدالرحمن بن عوف ثم جعلوا الاختيار إلى عبدالرحمن بن عوف فأخذ بيد علي رضي الله تعالى عنه وقال تبايعني على كتاب الله وسنة رسول الله وسيرة الشيخين فقال على كتاب الله وسنة رسول الله وأجتهد برأيي ثم قال مثل ذلك لعثمان فأجابه إلى ما دعاه وكرر عليهما ثلاث مرات فأجابا بالجواب الأول فبايع عثمان وبايعه الناس ورضوا بإمامته وقول علي رضي الله تعالى عنه وأجتهد برأيي ليس خلافا منه في إمامة الشيخين بل ذهابا إلى أنه لا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر بل عليه اتباع اجتهاده وكان من مذهب عثمان وعبدالرحمن أنه يجوز إذا كان الآخر أعلم وأبصر بوجوه المقاييس ثم
____________________
(2/296)
خرج على عثمان بعد اثنتي عشرة سنة من خلافته رعاع وأوباش من كل أوب وأرذال من خزاعة ليس فيهم أحد من كبار الصحابة وأهل العلم ومن يعتد به من أوساط الناس فقتلوه ظلما وعدوانا في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ولو استحق القتل أوالخلع لما ترك أكابر الصحابة ومن بقي من أهل الشورى ومن المبشرين بالجنة ذلك إلى جمع من الأوباش والأرذال ومن لا سابقة له في الإسلام ولا علم بشيء من أمور الدين ثم اجتمع الناس بعد ثلاثة أيام وقيل خمسة أيام على علي رضي الله تعالى عنه والتمسوا منه القيام بأمر الخلافة لكونه أولى الناس بذلك وأفضلهم في ذلك الزمان فقبله بعد امتناع كثير ومدافعة طويلة وبايعه جماعة ممن حضر كحزيمة بن ثابت وأبي الهيثم بن التيهاني ومحمد بن مسلم وعمار وأبي موسى الأشعري وعبدالله بن عباس وغيرهم وكذا طلحة والزبير وقد صحت توبتهما عن مخالفته وكذا بايعه عبدالله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة إلا أنهم استعفوا عن القتال مع أهل القبلة لما رووا في هذا المعنى من الأحاديث وبالجملة انعقدت خلافته بالبيعة واتفاق أهل الحل والعقد وقد دلت عليه أحاديث كقوله عليه السلام الخلافة بعدي ثلاثون سنة وقوله عليه السلام لعلي رضي الله تعالى عنه إنك تقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين وقوله عليه السلام لعمار تقتلك الفئة الباغية وقد قتل يوم صفين تحت راية علي رضي الله تعالى عنه ومن المتكلمين من يدعي الإجماع على خلافته لأنه انعقد لإجماع زمان الشورى على أن الخلافة لعثمان أو علي وهو إجماع على أنه لولا عثمان فهي لعلي فحين خرج عثمان من البين بالقتل بقي لعلي بالإجماع قال إمام الحرمين لا اكتراث بقول من قال لا إجماع على إمامة علي رضي الله تعالى عنه فإن الإمامة لم تجحد له وإنما هاجت الفتن لأمور أخر قال وأما الشيعة يعني أن الإمامة يزعمون أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثم ابنه الحسن ثم أخوه الحسين ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه محمد الباقر ثم ابنه جعفر الصادق ثم ابنه موسى الكاظم ثم ابنه علي الرضا ثم ابنه محمد الجواد ثم ابنه علي الزكي ثم ابنه الحسن العسكري ثم ابنه محمد بن القائم المنتظر المهدي ويدعون أنه ثبت بالتواتر نص كل من السابقين على من بعده ويروون عن النبي أنه قال للحسن رضي الله عنه ابني هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم ويتمسكون تارة بأنه يجب في الإمام العصمة والأفضلية ولا يوجد أن فيمن سواهم والعاقل يتعجب من هذه الروايات والمتواترات التي لا أثر لها في القرون السابقة من أسلافهم ولا رواية عن العترة الطاهرة ومن يوثق بهم من الرواة والمحدثين وأنه كيف يأتي من زيد بن علي رضي الله عنه مع جلالة قدره دعوى الخلافة وكيف لم تبلغه هذه المتواترات بعد مائة وقد بلغت آحاد الروافض بعد سبعمائة ثم لسائر فرق الشيعة في باب الإمامة اختلافات
____________________
(2/297)
لا تحصى ذكر الإمام في المحصل نبذا منها قال المبحث السادس لما ذهب معظم أهل السنة وكثير من الفرق على أنه يتعين للإمامة أفضل أهل العصر إلا إذا كان في نصبه مرج وهيجان فتن احتاجوا إلى بحث الأفضلية فقال أهل السنة الأفضل أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي وقد مال البعض منهم إلى تفضيل علي رضي الله عنه على عثمان والبعض إلى التوقف فيما بينهما قال إمام الحرمين مسئلة امتناع إمامة المفضول ليست بقطعية ثم لا قاطع شاهد من العقل على تفضيل بعض الأئمة على البعض والأخبار الواردة على فضايلهم متعارضة لكن الغالب على الظن أن أبا بكر أفضل ثم عمر ثم يتعارض الظنون في عثمان وعلي رضي الله عنهما وذهب الشيعة وجمهور المعتزلة إلى أن الأفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم علي رضي الله عنه لنا إجمالا أن جمهور عظماء الملة وعلماء الأمة أطبقوا على ذلك وحسن الظن بهم يقتضي بأنهم لو لم يعرفوه بدلائل وإمارات لما أطبقوا عليه وتفصيلا الكتاب والسنة والأثر والإمارات أما الكتاب فقوله تعالى { وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى } فالجمهور على أنها نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه والأتقى أكرم لقوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ولا يعني بالأفضل إلا الأكرم وليس المراد به عليا لأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة تجزى وهي نعمة التربية وأما السنة فقوله عليه السلام اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر دخل في الخطاب علي رضي الله عنه فيكون مأمورا بالاقتداء ولا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالاقتداء سيما عند الشيعة وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر هما سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين وقوله عليه السلام خير أمتي أبو بكر ثم عمر وقوله عليه السلام ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه عنده وقوله صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا خليلا دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن هو شريك في ديني وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار وخليفتي في أمتي وقوله صلى الله عليه وسلم وأين مثل أبي بكر كذبني الناس وصدقني وآمن بي وزوجني ابنته وجهز لي بماله وآساني بنفسه وجاهد معي ساعة الخوف وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء حين كان يمشي أمام أبي بكر أتمشي أمام من هو خير منك والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أحد أفضل من أبي بكر ومثل هذا الكلام وإن كان ظاهره نفي أفضلية الغير لكن إنما يساق لإثبات أفضلية المذكور ولهذا أفاد أن أبا بكر أفضل من ابي الدرداء والسر في ذلك أن الغالب من حال كل اثنين هو التفاضل دون التساوي فإذا نفى أفضلية أحدهما لآخر ثبت أفضلية الآخر وبمثل هذا ينحل الإشكال المشهور على قوله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/298)
من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه لأنه في معنى أن من قال ذلك فقد أتى بأفضل مما جاء به كل أحد إلا أحدا قال مثل ذلك أو زاد عليه فالاستثناء بظاهره من النفي وبالتحقيق من الإثبات وعن عمرو بن العاص قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إليك قال عائشة قلت من الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر وقال النبي صلى الله عليه وسلم لو كان بعدي نبي لكان عمر وعن عبدالله بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال هذان السمع والبصر وأما الأثر فعن ابن عمر كنا نقول ورسول الله حي أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وعن محمد بن الحنفية قلت لأبي أي الناس خير بعد النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر قلت ثم من قال عمر وخشيت أن أقول ثم من فيقول عثمان فقلت ثم أنت قال ما لنا إلا رجل من المسلمين وعن علي رضي الله عنه خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثم عمر ثم الله أعلم وعنه رضي الله عنه لما قيل له ما توصي قال ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوصى ولكن إن أراد الله بالناس خيرا جمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم وأما الإمارت فما تواتر في أيام أبي بكر من اجتماع الكلمة وتألف القلوب وتتابع الفتوح وقهر أهل الردة وتطهير جزيرة العرب عن الشرك وإجلاء الروم عن الشام وأطرافها وطرد فارس عن حدود السواد وأطراف العراق مع قوتهم وشوكتهم ووفور أموالهم وانتظام أحوالهم وفي أيام عمرمن فتح جانب المشرق إلى أقصى خراسان وقطع دولة العجم وثل عرشهم الراسي البنيان الثابت الأركان ومن ترتيب الأمور وسياسة الجمهور وإفاضة العدل وتقوية الضعفاء ومن إعراضه عن متاع الدنيا وطيباتها وملاذها وشهواتها وفي أيام عثمان من فتح البلاد وإعلاء لواء الإسلام وجمع الناس على مصحف واحد مع ما كان له من الورع والتقوى وتجهيز جيوش المسلمين والإنفاق في نصرة الدين والمهاجرة هجرتين وكونه ختنا للنبي صلى الله عليه وسلم على ابنتين والاستحياء من أدنى شين وتشرفه بقوله عليه السلام عثمان أخي ورفيقي في الجنة وقوله صلى الله عليه وسلم ألا أستحيي ممن تستحيي منه ملائكة السماء وقوله صلى الله عليه وسلم أنه رجل يدخل الجنة بغير حساب قال تمسكت الشيعة القائلون بأفضلية علي رضي الله عنه تمسكوا بالكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى { فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } الآية عنى بأنفسنا عليا رضي الله تعالى عنه وإن كان صيغة جمع لأنه صلى الله عليه وسلم حين دعا وفد نجران إلى المباهلة وهو الدعاء على الظالم من الفريقين خرج ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي وهو يقول لهم إذا أنا دعوت فآمنوا ولم يخرج معه من بني عمه غير علي رضي الله عنه ولا شك أن من كان بمنزلة نفس
____________________
(2/299)
النبي صلى الله عليه وسلم كان أفضل وقوله تعالى { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } قال سعيد بن جبير لما نزلت هذه الآية قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين تودهم قال علي وفاطمة وولداها ولا يخفى أن من وجبت محبته بحكم نص الكتاب كان أفضل وكذا من ثبت نصرته للرسول بالعطف في كلام الله تعالى عنه على اسم الله وجبريل مع التعبير عنه بصالح المؤمنين وذلك قوله تعالى { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } فعن ابن عباس رضي الله عنه أن المراد به علي وأما السنة فقوله عليه السلام من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب ولا خفاء في أن من ساوى هؤلاء الأنبياء في هذه الكمالات كان أفضل وقوله صلى الله عليه وسلم أقضاكم علي والأقضى أكمل وأعلم وقوله صلى الله عليه وسلم اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير فجاءه علي فأكل معه والأحب إلى الله أكثر ثوابا وهو معنى الأفضلية وبقوله عليه السلام أنت مني بمنزلة هارون من موسى ولم يكن عند موسى أفضل من هارون وكقوله عليه السلام من كنت مولاه فعلي مولاه الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجون أن يعطاها فقال أين علي بن أبي طالب قالوا هو يا رسول الله يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه فأتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية وقوله صلى الله عليه وسلم أنا دار الحكمة وعلي بابها وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي أنت أخي في الدنيا والآخرة وذلك حين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه فقال آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد وقوله صلى الله عليه وسلم لمبارزة علي عمرو بن عبدود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة ومن أحبك فقد أحبني وحبيبي حبيب الله ومن أبغضك فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله فالويل لمن أبغضك بعدي وأما المعقول فهو أنه أعلم الصحابة لقوة حدسه وذكائه وشدة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم واستفادته منه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى { وتعيها أذن واعية } اللهم اجعلها أذن علي قال علي ما نسيت بعد ذلك شيأ وقال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم فانفتح لي من كل باب ألف باب ولهذا رجعت الصحابة إليه في كثير من الوقايع واستند العلماء في كثير من العلوم إليه كالمعتزلة والأشاعرة في علم الأصول والمفسرين في علم التفسير فإن رئيسهم ابن عباس تلميذ له والمشايخ في علم السر وتصفية الباطن فإن المرجع فيه إلى العترة الطاهرة وعلم النحو إنما ظهر منه وبهذا قال لو كسرت الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل
____________________
(2/300)
الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم والله ما من آية نزلت في برا وبحرا وسهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أي شيء نزلت وأيضا هو أشجعهم يدل عليه كثرة جهاده في سبيل الله وحسن إقدامه في الغزوات وهي مشهورة غنية عن البيان ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار وقال صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب لضربة علي خير من عبادة الثقلين وأيضا هو أزهدهم لما تواتر من إعراضه عن لذات الدنيا مع اقتداره عليها لاتساع أبواب الدنيا عليه ولهذا قال يا دنيا إليك عني إلي تعرضت أم إلي تشوقت لا حان حينك هيهات غري غيري لا حاجة لي فيك فقد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها فعيشك قصير وحظك يسير وأملك حقير وقال والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم وقال والله لنعيم دنياكم هذه أهون عندي من عيطة عنز وأيضا هو أكثرهم عبادة حتى روي أن جبهته صارت كركبة البعير لطول سجوده وأكثرهم سخاوة حتى نزل فيه وفي أهل بيته { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا } وأشرفهم خلقا وطلاقة وجه حتى نسب إلى الدعابة وأحلمهم حتى ترك ابن ملجم في دياره وجواره يعطيه العطاء مع علمه بحاله وعفا عن مروان حين أخذ يوم الجمل مع شدة عداوته له وقوله فيه سيلقى الأمة منه ومن ولده يوما أحمر وأيضا هو أفصحهم لسانا على ما يشهد به كتاب نهج البلاغة وأسبقهم إسلاما على ما روي أنه بعث النبي يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء وبالجملة فمناقبه أظهر من أن تخفى وأكثر من أن تحصى والجواب أنه لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله واتصافه بالكمالات واختصاصه بالكرامات إلا أنه لا يدل على الأفضلية بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله بعدما ثبت من الاتفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضلية أبي بكر ثم عمر والاعتراف من علي بذلك على أن فيما ذكر مواضع بحث لا تخفى على المحصل مثل أن المراد بأنفسنا نفس النبي صلى الله عليه وسلم كما يقال دعوت نفسي إلى كذا وأن وجوب المحبة وثبوت النصرة على تقدير تحققه في حق علي رضي الله عنه فلا اختصاص به وكذا الكمالات الثابتة للمذكورين من الأنبياء وأن أحب خلقك يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر منه عملا بأدلة أفضليتهما ويحتمل أن يراد أحب الخلق إليك في أن يأكل معه وإن حكم الأخوة ثابت في حق أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما أيضا حيث قال في حق أبي بكر لكنه أخي وصاحبي ووزيري وقال في عثمان أخي ورفيقي في الجنة وأما حديث العلم والشجاعة فلم تقع حادثة إلا ولأبي بكر وعمر فيه رأي وعند الاختلاف لم يكن يرجع إلى قول علي رضي الله تعالى عنه البتة بل قد وقد ولم يكن رباط الجيش وشجاعة القلب وترك الاكتراث في المهالك في أبي بكر أقل من أحد سيما فيما وقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم من حوادث يكاد يصيب وهنا في الإسلام وليس الخير في هداية
____________________
(2/301)
من اهتدى ببركة أبي بكر ويمن دعوته وحسن تدبيره أقل من الخير في قتل من قتله علي رضي الله تعالى عنه من الكفار بل لعل ذلك أدخل في نصرة الإسلام وتكثير أمة النبي صلى الله عليه وسلم وأما حديث زهدهما في الدنيا فغني عن البيان وأما السابق إسلاما فقيل علي وقيل زيد بن حارثة وقيل خديجة وقيل أبو بكر وعليه الأكثرون على ما صرح به حسان بن ثابت في شعر أنشده على رؤس الأشهاد ولم ينكر عليه أحد وقيل أول من آمن به من النساء خديجة رضي الله تعالى عنها ومن الصبيان علي رضي الله عنه ومن العبيد زيد بن حارثة ومن الرجال الأحرار أبو بكر رضي الله تعالى عنه وبه اقتدى جمع من العظماء كعثمان والزبير وطلحة وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم والإنصاف أن مساعي أبي بكر وعمر في الإسلام أمر علي الشأن جلي البرهان غني عن البيان قال وأما بعدهم ما ذكر من أفضلية بعض الأفراد بحسب التعيين أمر ذهب إليه الأئمة وقامت عليه الأدلة قال الإمام الغزالي رحمة الله تعالى عليه حقيقة الفضل ما هو عند الله وذلك مما لا يطلع عليه إلا رسول الله وقد ورد في الثناء عليهم أخبار كثيرة ولا يدرك دقايق الفضل والترتيب فيه إلا المشاهدون للوحي والتنزيل بقرائن الأحوال فلولا فهم ذلك لما رتبوا الأمر كذلك إذ كان لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عن الحق صارف وأما فيمن عداهم فقد ورد النص بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن أهل بيعة الرضوان الذين بايعوه تحت الشجرة ومن شهد بدرا وأحدا والحديبية من أهل الجنة وحديث بشارة العشرة بالجنة مشهور يكاد يلحق بالمتواترات وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح وأما إجمالا فقد تطابق الكتاب والسنة والإجماع على أن الفضل للعلم والتقوى قال الله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال الله تعالى { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } وقال الله تعالى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } وقال النبي صلى الله عليه وسلم الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي إنما الفضل بالتقوى وقال عليه السلام إن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وقال عليه السلام فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم وقال عليه السلام من سلك طريقا يلتمس فيها علما سهل الله له طريقا إلى الجنة فإن قيل يكاد يقع الإجماع على أن غير القرشي ليس بكفؤ للقرشي وهذا يدل على أن القرشي سيما الهاشمي سيما العلوي سيما الفاطمي أفضل من غيره وإن اختص بالعلم قلنا اعتبار الكفاءة في النكاح لغرض تحصيل رضاء الأولياء وعدم لحوق العار ونحو ذلك مما يتعلق بأمر الدنيا والكلام في الفضل عند الله وكثرة الثواب وعلو الدرجة في الجنة وهل يتصور فضل آحاد القرشيين بل العلويين على علماء الدين وعظماء
____________________
(2/302)
المشتهدين فإن قيل قال الله تعالى { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا } وقال النبي صلى الله عليه وسلم إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وقال صلى الله عليه وسلم أنا تارك فيكم الثقلين كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به وأهل بيتي وأذكركم الله في أهل بيتي اذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ومثل هذا يشعر بفضلهم على العالم وغيره قلنا نعم لاتصافهم بالعلم والتقوى مع شرف النسب ألا يرى أنه صلى الله عليه وسلم قرنهم بكتاب الله في كون التمسك بهما منقذا من الضلالة ولا معنى للتمسك بالكتاب إلا الأخذ بما فيه من العلم والهداية فكذا في العترة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه قال المبحث السابع يجب تعظيم الصحابة والكف عن مطاعنهم وحمل ما يوجب بظاهره الطعن فيهم على محامل وتأويلات سيما للمهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان ومن شهد بدرا وأحدا والحديبية فقال انعقد على علو شأنهم الإجماع وشهد بذلك الآيات الصراح والأخبار الصحاح وتفاصيلها في كتب الحديث والسير والمناقب ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعظيمهم وكف اللسان عن الطعن فيهم حيث قال أكرموا أصحابي فإنهم خياركم وقال لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله الله في أصحابي الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم وللروافض سيما الغلاة منهم مبالغات في بغض البعض من الصحابة رضي الله عنهم والطعن فيهم بناء على حكايات وافتراآت لم تكن في القرن الثاني والثالث فإياك والإصغاء إليها فإنها تضل الأحداث وتخيرالأوساط وإن كانت لا تؤثر فيمن له استقامة على الصراط المستقيم وكفاك شاهدا على ما ذكرنا أنها لم تكن في القرون السالفة ولا فيما بين العترة الطاهرة بل ثناؤهم على عظماء الصحابة وعلماء السنة والجماعة والمهديين من خلفاء الدين مشهور وفي خطبهم ورسائلهم وأشعارهم ومدايحهم مذكور والله الهادي قال وتوقف علي رضي الله عنه قد استقرت آراء المحققين من علماء الدين على أن البحث عن أحوال الصحابة وما جرى بينهم من الموافقة والمخالفة ليس من العقايد الدينية والقواعد الكلامية وليس له نفع في الدين بل ربما يضر باليقين إلا أنهم ذكروا نبذا من ذلك لأمرين أحدهما صون الأذهان السليمة عن التدنس بالعقايد الرديئة التي توقعها حكايات بعض الروافض ورواياتهم وثانيها ابتناء بعض الأحكام الفقهية في باب البغاة عليها إذ ليس في ذلك نصوص يرجع إليها ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى لولا علي لم نكن نعرف السيرة في الخوارج وكان النبي صلى الله عليه وسلم خص عليا رضي الله عنه بتعليم تلك الأحكام لما علم من اختصاصه بالحاجة إليها أو علمها غيره أيضا لكنهم لم يحتاجوا إلى
____________________
(2/303)
البيان والتبليغ لما رأوا من معاملة علي رضي الله تعالى عنه على وفقها من غير تغيير فنقول إما توقف علي رضي الله عنه في بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فيحمل على أنه لما أصابه من الكآبة والحزن بفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتفرغ للنظر والاجتهاد فلما نظر وظهر له الحق دخل فيما دخل فيه الجماعة وأما توقفه عن نصرة عثمان رضي الله تعالى عنه ودفع الغوغاء عنه فلأنه لم يأذن في ذلك وكان يتجافى عن الحرب وإراقة الدماء حتى قال من وضع السلاح من غلماني فهو حر ومع هذا فقد دفع عنه الحسنان رضي الله عنهما ولم ينفع وكان ما كان ولم يكن رضا من علي رضي الله عنه بذلك وإعانة عليه ولهذا قال رضي الله عنه والله ما قتلت عثمان ولا مالأت عليه وتوقف في قبول البيعة إعظاما لقتل عثمان وإنكار أو كذا طلحة والزبير إلا أن من حضر من وجوه المهاجرين والأنصار أقسموا عليه وناشدوه الله في حفظ بقية الأمة وصيانة دار الهجرة إذ قتلة عثمان قصدوا الاستيلاء على المدينة والفتك بأهلها وكانوا جهلة لا سابقة لهم في الإسلام ولا علم لهم بأمر الدين ولا صحبة مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقبل البيعة وتوقفه عن قصاص قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه إما لشوكتهم وكثرتهم وقوتهم وحرصهم بالخروج على من يطالبهم بدمه فاقتضى النظر الصائب تأخير الأمر احترازا عن إثارة الفتنة وإما لأنه رأى انهم بغاة لما لهم من المنعة الظاهرة والتأويل الفاسد حيث استحلوا دمه بما أنكروا عليه من الأمور وأن الباغي إذا انقاد الإمام أهل العدل لا يؤاخذ بما سبق منه من إتلاف أموالهم وسفك دمائهم على ما هو رأي بعض المجتهدين قال وامتناع سعد يعني أن امتناع جماعة سعد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كسعد بن أبي وقاص أو سعيد بن أبي زيد وأسامة بن زيد وعبدالله بن عمر وغيرهم عن نصرة علي رضي الله تعالى عنه والخروج معه إلى الحروب لم يكن عن نزاع منهم في إمامته ولا عن إباء عما وجب عليهم من طاعته بل لأنه تركهم واختيارهم من غير إلزام على الخروج إلى الحروب فاختاروا ذلك بناء على أحاديث رووها على ما قال محمد بن سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي إذا وقعت الفتنة أن أكسر سيفي وأتخذ مكانه سيفا من خشب وروى سعد بن أبي وقاص أنه قال صلى الله عليه وسلم سيكون بعدي فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي وقال صلى الله عليه وسلم قتال المسلم كفر وسبابه فسق ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام فلم تأثموا بالقعود عن الحروب قال وأما في حرب الجمل قاتل علي رضي الله تعالى عنه ثلاث فرق من المسلمين على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنك تقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين فالناكثون هم الذين نكثوا العهد والبيعة وخرجوا إلى البصرة ومقدمهم طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما وقاتلوا عليا رضي الله تعالى عنه بعسكر مقدمهم
____________________
(2/304)
عائشة رضي الله تعالى عنها في هودج على جمل أخذ بخطامه كعب بن مسور فسمي ذلك الحرب حرب الجمل والمارقون هم الذين نزعوا اليد عن طاعة علي رضي الله تعالى عنه بعدما بايعوه وتابعوه في حرب أهل الشام زعما منهم أنه كفر حيث رضي بالتحكيم وذلك أنه لما طالت محاربة علي رضي الله تعالى عنه ومعاوية بصفين واستمرت اتفق الفريقان على تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص في أمر الخلافة وعلي الرضا بما يريانه فاجتمع الخوارج على عبدالله بن وهب الرابسي وساروا إلى النهروان وسار إليهم علي رضي الله تعالى عنه بعسكره وكسرهم وقتل الكثير منهم وذلك حرب الخوارج وحرب النهروان والقاسطون معاوية وأتباعه الذين اجتمعوا عليه وعدلوا عن طريق الحق الذي هو بيعة علي رضي الله تعالى عنه والدخول تحت طاعته ذهابا إلى أنه مالأ على قتل عثمان رضي الله تعالى عنه حيث ترك معاونته وجعل قتلته خواصه وبطانته فاجتمع الفريقان بصفين وهي قرية خراب من قرى الروم على غلوة من الفرات ودامت الحرب بينهم شهورا فسمي ذلك حرب صفين والذي اتفق عليه أهل الحق أن المصيب في جميع ذلك علي رضي الله تعالى عنه لما ثبت من إمامته ببيعة أهل الحل والعقد وظهر من تفاوت ما بينه وبين المخالفين سيما معاوية وأحزابه وتكاثر من الأخبار في كون الحق معه وما وقع عليه الاتفاق حتى من الأعداء إلى أنه أفضل زمانه وأنه لا أحق بالإمامة منه والمخالفون بغاة لخروجهم على الإمام الحق بشبهة هي تركه القصاص من قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمار تقتلك الفئة الباغية وقد قتل يوم صفين على يد أهل الشام ولقول علي رضي الله تعالى عنه إخواننا بغوا علينا وليسوا كفارا ولا فسقة ولا ظلمة لما لهم من التأويل وإن كان باطلا فغاية الأمر أنهم أخطأوا في الاجتهاد وذلك لا يوجب التفسيق فضلا عن التكفير ولهذا منع علي رضي الله تعالى عنه أصحابه من لعن أهل الشام وقال إخواننا بغوا علينا كيف وقد صح ندم طلحة والزبير رضي الله عنهما وانصراف الزبير رضي الله عنه عن الحرب واشتهر ندم عائشة رضي الله عنها والمحققون من أصحابنا على أن حرب الجمل كانت فلتة من غير قصد من الفريقين بل كانت تهييجا من قتلة عثمان رضي الله عنه حيث صاروا فرقتين واختلطوا بالعسكرين وأقاموا الحرب خوفا من القصاص وقصد عائشة رضي الله عنها لم يكن إلا إصلاح الطائفتين وتسكين الفتنة فوقعت في الحرب وما ذهب إليه الشيعة من أن محاربي علي كفرة ومخالفوه فسقة تمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم حربك يا علي حربي وبأن الطاعة واجبة وترك الواجب فسق فمن اجتراآتهم وجهالاتهم حيث لم يفرقوا بين ما يكون بتأويل واجتهاد وبين مالا يكون نعم لو قلنا بكفر الخوارج بناء على تكفيرهم عليا رضي الله عنه لم يبعد لكنه بحث آخر فإن قيل لا كلام في أن عليا أعلم وأفضل وفي باب الاجتهاد أكمل لكن من أين لكم
____________________
(2/305)
أن اجتهاده في هذه المسئلة وحكمه بعدم القصاص على الباغي أو باشتراط زوال المنعة صواب واجتهاد القائلين بالوجوب خطأ ليصح له مقاتلتهم وهل هذا إلا كما إذا خرج طائفة على الإمام وطلبوا منه الاقتصاص ممن قتل مسلما بالمثقل قلنا ليس قطعنا بخطأهم في الاجتهاد عائدا إلى حكم المسئلة نفسه بل إلى اعتقادهم أن عليا رضي الله عنه يعرف القتلة بأعيانهم ويقدر على الاقتصاص منهم كيف وقد كانت عشرة آلاف من الرجال يلبسون السلاح وينادون إننا كلنا قتلة عثمان وبهذا يظهر فساد ما ذهب إليه عمرو بن عبيدة وواصل بن عطاء من أن المصيب إحدى الطائفتين ولا نعلمه على التعيين وكذا ما ذهب إليه البعض من أن كلتا الطائفتين على الصواب بناء على تصويب كل مجتهد وذلك لأن الخلاف إنما هو فيما إذا كان كل منهما مجتهدا في الدين على الشرائط المذكورة والاجتهاد لا في كل من يتخيل شبهة واهية ويتأول تأويلا فاسدا ولهذا ذهب الأكثرون إلى أن أول من بغى في الإسلام معاوية لأن قتلة عثمان لم يكونوا بغاة بل ظلمة وعتاة لعدم الاعتداد بشبهتهم ولأنهم بعد كشف الشبهة أصروا إصرارا واستكبروا استكبارا قال وفي حرب الخوارج الأمر أظهر لأن الحكمة من نصب الإمام وهي تألف القلوب واجتماع الكلمة كما يحصل بالقتال فقد يحصل بالتحكيم سيما وقد شرط أن يحكم الحكمان بكتاب الله ثم سنة رسول الله وأيضا ورد النص في إصلاح الزوجين بأن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وغاية متشبثهم أن الله تعالى أوجب القتال لقوله تعالى { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } فلا يجوز العدول عنه إلى التحكيم والجواب بعد تسليم كون الأمر للفور أو كون الفاء الجزائية للتعقيب أنه إنما أوجب القتال بعد إيجاب الإصلاح وهذا إصلاح فلا يعدل عنه إلى القتال مالم يتعذر فإن قيل يزعمون أن الوقيعة في الصحابة رضي الله عنهم بالطعن واللعن والتفسيق والتضليل بدعة وضلالة وخروج عن مذهب الحق والصحابة أنفسهم كانوا يتقاتلون بالسنان ويتقاولون باللسان بما يكره وذلك وقيعة قلنا مقاولتهم ومخاشنتهم في الكلام كانت محض نسبة إلى الخطأ وتقرير على قلة التأمل وقصد إلى الرجوع إلى الحق ومقاتلتهم كانت لارتفاع التباين والعود إلى الألفة والاجتماع بعدما لم يكن طريق سواه وبالجملة فلم يقصدوا إلا الخير والصلاح في الدين وأما اليوم فلا معنى لبسط اللسان فيهم إلا التهاون بنقلة الدين الباذلين أنفسهم وأموالهم في نصرته المكرمين بصحبة خير البشر ومحبته قال وأما بعدهم يعني أن ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقاة يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق وبلغ حد الظلم والفسق وكان الباعث له الحقد والعناد والحسد واللداد وطلب الملك والرياسة والميل إلى اللذات والشهوات إذ ليس كل صحابي معصوما ولا كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم بالخير موسوما إلا أن العلماء
____________________
(2/306)
لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق وذهبوا إلى أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق صونا لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة سيما المهاجرين منهم والأنصار والمبشرين بالثواب في دار القرار وأما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء ويبكي له من في الأرض والسماء وتنهد منه الجبال وتنشق الصخور ويبقى سوء عمله على كر الشهور ومر الدهور فلعنة الله على من باشر أو رضي أو سعى ولعذاب الآخرة أشد وأبقى فإن قيل فمن علماء المذهب من لم يجوز اللعن على يزيد مع علمهم بأنه يستحق ما يربوا على ذلك ويزيد قلنا تحاميا عن أن يرتقي إلى الأعلى فالأعلى كما هو شعار الروافض على ما يروى في أدعيتهم ويجري في أنديتهم فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكلية طريقا إلى الاقتصاد في الاعتقاد وبحيث لا تزل الأقدام على السواء ولا تضل الأفهام بالأهواء وإلا فمن يخفى عليه الجواز والاستحقاق وكيف لا يقع عليهما الاتفاق وهذا هو السر فيما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال وسد طريق لا يؤمن أن يجر إلى الغواية في المآل مع علمهم بحقيقة الحال وجلية المقال وقد انكشف لنا ذلك حين اضطربت الأحوال واشرأبت الأهوال وحيث لا متسع ولا مجال والمشتكى إلى عالم الغيب والشهادة الكبير المتعالي قال خاتمة مما يلحق بباب الإمامة بحث خروج المهدي ونزول عيسى صلى الله عليه وسلم وهما من أشراط الساعة وقد وردت في هذا الباب أخبار صحاح وإن كانت آحادا ويشبه أن يكون حديث خروج الدجال متواتر المعنى أما خروج المهدي فعن ابن عباس رضي تعالى عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي بواطيء اسمه اسمي وعن ابن سلمة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المهدي من عترتي من ولد فاطمة وعن أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يملك سبع سنين وعنه رضي الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلاء يصيب هذه الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم فيبعث الله رجلا من عترتي فيملأ به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما فذهب العلماء إلى أنه إمام عادل من ولد فاطمة رضي الله عنها يخلقه الله تعالى متى شاء ويبعثه نصرة لدينه وزعمت الإمامية من الشيعة أنه محمد بن الحسن العسكري اختفى عن الناس خوفا من الأعداء ولا استحالة في طول عمره كنوح ولقمان والخضر عليهم السلام وأنكر ذلك سائر الفرق لأنه ادعاء أمر يستبعد جدا إذ لم يعهد في هذه الأمة مثل هذه الأعمار من غير دليل عليه ولا إمارة ولا إشارة إقامة من النبي صلى الله عليه وسلم ولأن
____________________
(2/307)
اختفاء إمام هذا القدر من الأنام بحيث لا يذكر منه إلا الاسم بعيد جدا ولأن بعثه مع هذا الاختفاء عبث إذ المقصود من الإمامة الشريعة وحفظ النظام ودفع الجور ونحو ذلك ولو سلم فكان ينبغي أن يكون ظاهرا لا يظهر دعوى الإمامة كسائر الأئمة من أهل البيت ليستظهر به الأولياء وينتفع به الناس لأن أولى الأزمنة بالظهور هو هذا الزمان للقطع بأنه يتسارع إلى الانقياد له والاجتماع معه النسوان والصبيان فضلا عن الرجال والأبطال وأما نزول عيسى عليه السلام فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير الحديث وقال صلى الله عليه وسلم كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم ثم لم يروا في حاله مع إمام الزمان حديث صحيح سوى ما روي أنه قال صلى الله عليه وسلم لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعال صل لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة إليه هذه الأمة فما يقال أن عيسى صلى الله عليه وسلم يقتدي بالمهدي أو بالعكس شيء لا مستند له فلا ينبغي أن يعول عليه نعم هو وإن كان حينئذ من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم فليس منعزلا عن النبوة فلا محالة يكون أفضل من الإمام إذ غاية علماء الأمة الشبه بأنبياء بني إسرائيل وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا مهدي إلا عيسى ابن مريم فلا يبعد أن يحمل على الهداية إلى طريق هلاك الدجال ودفع شره على ما نظن به الأحاديث الصحاح فمن حديث طويل في الملاحم أنه يخرج الدجال بالشام فبينا المسلمون يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم فأمهم فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته وفي هذا دليل على أن عيسى صلى الله عليه وسلم يؤم المسلمين في تلك الصلاة وقال صلى الله عليه وسلم ليس ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال وقال صلى الله عليه وسلم ما من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب ثم وصفه وفصل كثيرا من أحواله وقال ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله وقال صلى الله عليه وسلم الدجال يخرج من أرض بالشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة وقال صلى الله عليه وسلم يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفا عليهم التيجان أي الطيالسة الخضر ونرجو أن يكون المراد أمة الدعوة على ما قال صلى الله عليه وسلم يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفا عليهم الطيالسة وقال عليه السلام من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنه جواركم من فتنته وقال عليه السلام من سمع بالدجال فلينأ عنه فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما تبعث له من الشبهات قال وغير ذلك من أشراط الساعة عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون قلنا نذكر الساعة
____________________
(2/308)
قال إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم وقال صلى الله عليه وسلم إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وعن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غربت الشمس أتدري أين تذهب هذه قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى يسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى { والشمس تجري لمستقر لها } قال مستقرها تحت العرش وقال صلى الله عليه وسلم إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويكثر الجهل ويكثر شرب الخمر ويقل الرجال ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول أشراط الساعة نار تحشرالناس من المشرق إلى المغرب وقال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى وقال عليه السلام لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة وتكون الساعة كالصرمة بالنار وقال عليه السلام لا تقوم الساعة إلا على شرارالخلق وفي حديث آخر لا تقوم حتى لا يقال في الأرض الله الله وذكر في حديث آخر من علامات الساعة أن تظهر الأصوات في المساجد وأن يسود القبيلة فاسقهم وأن يكون زعيم القوم أرذلهم وأن يكرم الرجل مخافة شره وبالجملة فالأحاديث في هذا الباب كثيرة رواها العدول الثقاة وصححها المحدثون الأثبات ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة لأن المعاني المذكورة أمور ممكنة عقلا وزعمت الفلاسفة أن طلوع الشمس من مغربها مما يجب تأويله بانعكاس الأمور وجريانها على غير ما ينبغي وأول بعض العلماء النار الخارجة من الحجاز بالعلم والهداية سيما الفقه الحجازي والنار الحاشرة للناس بفتنة الأتراك وخروج الدجال بظهور الشر والفساد ونزول عيسى صلى الله تعالى عليه وسلم باندفاع ذلك وبدو الخير والصلاح وتقارب الزمان بقلة الخير والبركة وذهاب فائدة الأيام والأوقات أو بكثرة الغفلة والاشتغال بأمر الدنيا ولذاتها وبحدوث الفتن العظام الشاغلة لقلوب الأنام عما يمضي عليهم من الليالي والأيام وأما يأجوج ومأجوج فقيل من أولاد يافث بن نوح وقيل جمع كثير من أولاد آدم أضعاف سائر بني آدم لأنه لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه يحملون السلاح فمنهم من هو في غاية الطول خمسون ذراعا وقيل ماية وعشرون ذراعا ومنهم من طوله وعرضه كذلك ومنهم من هو في غاية القصر كانوا يخرجون
____________________
(2/309)
إلى قوم صالحين بقربهم فيهلكون زروعهم وضروعهم ويقتلونهم فجعل ذو القرنين سدا دونهم فيحفرون كل يوم السد حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده الله كما كان حتى إذا بلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله فيعودون وهو كهيئة فيحفرونه ويخرجون مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان فيشربون المياه وينحصر الناس منهم في حصونهم ولا يقدرون على إتيان مكة والمدينة وبيت المقدس فيرسل الله عليهم نغفا في أمعائهم فيهلكون جميعا فيرسل طيرا فيلقيهم في البحر ويرسل مطرا فيغسل الأرض وخروجهم يكون بعد خروج الدجال وقتل عيسى إياه فإن قيل بعض هذه الأحاديث يشعر بأن الأمة في آخر الزمان شر الخلق قليل الخير وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره قلنا الشرارة الظاهرة التي لا شك معها في خيرية القرون السابقة إنما هي عند غاية قرب الساعة وحين انقراض زمن التكليف أو كاد على ما ورد في الحديث أنه يمكث عيسى ابن مريم في الناس بعد قتل الدجال سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيأمرهم الشيطان بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور وهذا ما قال صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله وأما في آخر الزمان عند كون الأمة في الجملة على الطاعة والإيمان فلا يبعد كونهم خيرا عند الله وأكثر ثوابا باعتبار انقيادهم وإيمانهم مع الغيبة عن مشاهدة نزول الوحي وظهور المعجزات وهبوط الخيرات والبركات وباعتبار ثباتهم على الإيمان والطاعات والعلوم والمعارف وإرشاد الطوايف مع فساد الزمان وشيوع المنكرات وكساد الفضائل ورواج الرذايل واستيلاء أهل الجهل والعناد والشر والفساد وهذا لا ينافي خيرية القرون الأولى ومن يليهم بكثرة الطاعات والعبادات وصفاء العقائد وخلوص النيات وقرب العهد بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونحو ذلك على ما قال صلى الله عليه وسلم خيرالقرون القرن الذي أنا فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب فإن قيل في أحاديث قرب الساعة ما يشعر بأنها تقوم قريبا كقوله صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين يعني السبابة والوسطى بل على أنها تكون قبل مائة سنة كقوله صلى الله عليه وسلم يسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وكقوله صلى الله عليه وسلم لا يأتي ماية سنة وعلى الأرض نفس منفوسة وها نحن اليوم شارفنا ثمان مائة سنة ولم يظهر شيء من تلك العلامات قلنا المراد أن قرب الساعة
____________________
(2/310)
من مستقبل الزمان بالإضافة إلى ما مضى كقرب ما بين الأصبعين أو كفضل الوسطى على السبابة وحديث مائة سنة إنما هو في القيامة الصغرى المشار إليها بقوله عليه السلام من مات فقد قامت قيامته وقوله لجمع من الأعراب سألوه عن الساعة وقد أشار إلى أصغرهم إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى يقوم عليكم ساعيكم وإنما الكلام في القيامة الكبرى التي هي حشر الكل وسوقهم إلى المحشر على أن الحديث ليس على عمومه لبقاء الخضر بل الياس أيضا على ما ذهب إليه العظماء من العلماء من أن أربعة من أنبياء في زمرة الأحياء الخضر والياس في الأرض وعيسى وإدريس في السماء عليهم الصلاة والسلام قد يسر الله تعالى طبع هذا الكتاب المسمى بشرح مقاصد الطالبين في علم أصول عقائد الدين للعلامة الفاضل سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني وذلك في دار الخلافة الزاهرة في أيام حضرة ذي الدولة والإجلال والفضل والأفضال مولانا المكرم وسلطاننا المعظم السلطان ابن السلطان السلطان الغازي عبدالحميد خان أدام الله دولته إلى آخر الدوران وذلك في مطبعة الحاج محرم أفندي البسنوي أنال الله مقصوده الدنيوي والأخروي ووافق إنجاز طبعه في شهر جمادى الأولى في سنة خمس وثلثمائة وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية وعلى آله وعترته الزكية
____________________
(2/311)