شرح المقاصد في علم الكلام 1
____________________
(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك يا من بيده ملكوت كل شيء وبه اعتضاده ومن عنده ابتداء كل حي وإليه معاده تتلى من أوراق الأطباق آيات توحيده وتحميده وتجلى في الآفاق والأنفس شواهد تقديسه وتمجيده ما تسقط في الأكوان من ورقة إلا تعلمها حكمته الباهرة ولا توجد في الأمكان من طبقة إلا تشملها قدرته القاهرة تقدس عن الأمثال والأكفاء ذاته الأحدية وتنزه عن الزوال والفناء صفاته الأزلية والأبدية سجدت لعزة جلاله جباه الأجرام العلوية ونطقت بشكر نواله شفاه الأنوار القدسية ونشكرك على ما علمتنا من قواعد العقائد الدينية وخولتنا من عوارف المعارف اليقينية وهديتنا إليه من طريق النجاة وسبيل الرشاد ودللتنا عليه من سنن الاستقامة ونهج السداد ونصلي على نبيك محمد المنعوت بأكرم الخلائق المبعوث رحمة للخلائق أرسلته حين درست أعلام الهدى وظهرت أعلام الردى وانطمس منهج الحق وعفا وأشرقت مصابيح الصدق على الانطفاء فأعلى من الدين معالمه ومن اليقين مراسمه وبين من البرهان سبيله ومن الإيمان دليله وأقام للحق حجته وأنار للشرع محجته حتى انشرح الصدور بنور البينات وانزاح عن القلوب صدأ الشبهات وأشرق وجه الأيام واتسق أمر الإسلام واعتصم الأنام بأوثق عصام ماله من انفصام وعلى آله وأصحابه خلفاء الدين وخلفاء اليقين مصابيح الأمم ومفاتيح الكرم وكنوز العلم ورموز الحكم رؤساء حظائر القدس وعظماه بقاع الأنس قد صعدوا ذرى الحقائق بإقدام الأفكار ونوروا سبع طرائق بأنوار الآثار وقارعوا على الدين فكشفوا عنه القوارع والكروب وسارعوا إلى
____________________
(1/2)
اليقين فصرفوا عنه العوادي والخطوب فابتسم ثغر الإسلام وانتظم أمر المسلمين واتضح وعدا من الله وحقا عليه نصر المؤمنين وبعد فقد كنت في إبان الأمر وعنفوان العمر إذ العيش غض والشباب بمائه وغصن الحداثة على نمائه وبدور الآمال طالعة مسفرة ووجوه الأحوال ضاحكة مستبشرة ورباع الفضل معمورة الأكناف والعرصات ورياض العلم ممطورة الأكمام والزهرات أسرح النظر في العلوم طلبا لأزهارها وأنوارها وأشرح الكتب من الفنون كشفا لأستارها عن أسرارها يرد على حذاق الآفاق غوصا على فرائد فوائدها ويتردد إلى أكياس الناس روما لشوارد عوائدها علما منهم بأنا بذلنا قوانا لاكتساب الدقائق وقتلنا نهانا في طلاب الحقائق وحين رأوا علم الكلام الذي هو أساس الشرائع والأحكام ومقياس قواعد عقائد الإسلام أعز ما يرغب فيه ويعرج عليه وأهم ما تناخ مطايا الطلب لديه لكونه أوثق العلوم بنيانا وأصدقها تبيانا وأكرمها نتاجا وأنورها سراجا وأصحها حجة ودليلا وأوضحها محجة وسبيلا حاموا جميعا حول طلابه وراموا طريقا إلى جنابه والتمسوا مصباحا على قبابه ومفتاحا إلى فتح بابه فافترصت لمعة من ظلم الدهر ونبوة من أنياب النوائب وانتهزت فرصة من عين الزمان وخفة من زحام الشوائب وأخذت في تصنيف مختصر موسوم بالمقاصد منظوم فيه غرر الفرائد ودرر الفوائد وشرح له يتضمن بسط موجزه وحل ملغزه وتفصيل مجمله وتبيين معضله مع تحقيق للمقاصد وفق ما يرتاد وتدقيق للمعاقد فوق ما يعتاد وتحرير للمسائل بحسب ما يراد ولا يزاد وتقرير للدلائل بحيث لا يضاد ولا يصاد بألفاظ تنفتح بها الآذان وتنشرح الصدور وتتفطر بالأنهار والأزهار جبال وصخور ومعان تتهلل بها وجوه الأوراق وتتبسم ثغور السطور وتتلألأ خلال الكلام كأنها نور على نور باذلا الجهد في إيراد مباحث قلت عناية المتأخرين بها من المتكلمين وقد بالغ في الاعتناء بها المحققون من المتقدمين لا سيما السمعيات التي هي المطلب الأعلى والمقصد الأقصى في أصول الدين والعروة الوثقى والعمدة القصوى لأهل الحق واليقين وحين حررت بعضا من الكتاب ونبذا من الفصول والأبواب تسارع إليه الطلاب وتداولته أيدي أولي الألباب وأحاط به طلبته كل طالب وناط به رغبته كل راغب وعشا ضوء ناره كل وارد ووجه إليه الهمة كل رائد وطفقوا يمتدحون ويقترحون وزناد الإزدياد يقتدحون وأنا أصرف جهدي والمراد ينصرف والمقصود يتقاعس عن الحصول وينحرف والأيام تحول وتحجز وتعد ولا تنجز والدهر يشكى ويبتكى والعقل يضحك ويبكى العجب من تقاصر همم الرجال وفسادها وتراجع سوق الفضائل وكسادها وتضعضع بنيان الحق وتداعي
____________________
(1/3)
أركانه وتزعزع شأن الباطل وتمادى طغيانه وتطاول أيام كلها غضب وعتب وعلى الألباب عول والب تجمع بين الجفون والسهاد وتفرق بين العيون والرقاد لا في القول إمكان وللتحصيل تأييد ولا في قوس الرماء منزع ولسهم النضال تسديد وهلم جرا إلى أن رماني زماني وبلاني من الحوادث بما بلاني وحالت الأحوال دون الأمان بل الأماني وأصبح شاني أن يفيض غروب شاني تناء بي الأوطان والأوطار وترامت بي الأقطار والأسفار قاسى أحوالا تشيب النواصي وأهوالا تذيب الرواسي أشاهد من أسباب انقراض العلوم وانتقاض مددها وانتقاض مددها ما تكادالأنفاس له تتقطع والجبال تتصدع وقد ملكتها وحشة المضياع وخبرة المزياع ووقفت على ثنية الوداع لا طلول ولا يفاع ولا رسوم ولا رباع كلما نويت نشر ما طويت وتصديت لإتمامه أو تمنيت عرض من الموانع والقواطع وحدث من النوائب والشوائب ما يحول أيسرها بين المرء وقلبه وتصدأ به مرآة فكره وعقله ويزول باد ولها ريق خاطره وناظره ويذهب رونق باطنه وظاهره إلى أن تداركني نعمة من ربي وتماسك بي عودة من فهمي ولبي فأقبلت على إتمام الكتاب وانتظام تلك الفصول والأبواب فجاء بحمد الله كنزا مدفونا من جواهر الفوائد وبحرا مشحونا بنفايس الفرائد في لطائف طالما كانت مخزونة وعن الإضاعة مصونة مع تنقيح للكلام وتوضيح للمرام بتقريرات ترتاح لها نفوس المحصلين وينزاح منها شبه المبطلين وتضحى أنوارها في قلوب الطالبين وتطلع نيرانها على أفئدة الحاسدين لا يعقل بيناتها إلا العالمون ولا يجحد بآياتها إلا القوم الظالمون يهتز لها علماء البلاد في كل ناد ولا يغض منها إلا كل هايم في واد من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلله فما له من هاد وإذا قرع سمعك ما لم تسمع به من ألأولين فلا تسرع وقف وقفة المتأملين لعلك تطلع بوميض برق إلهي وتألق نور رباني من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة على برهان له جلي أو بيان من آخرين واضح خفي والله سبحانه ولي الإعانة والتوفيق وبتحقيق آمال المؤمنين حقيق قال ورتبته على ستة مقاصد أقول اعلم أن للإنسان قوة نظرية كمالها معرفة الحقائق كما هي وعملية كمالها القيام بالأمور على ما ينبغي تحصيلا لسعادة الدارين وقد تطابقت الملة والفلسفة على الاعتناء بتكميل النفوس البشرية في القوتين وتسهيل طريق الوصول إلى الغايتين إلا أن نظر العقل يتبع في الملة هداه وفي الفلسفة
____________________
(1/4)
هواه وكما دونت حكماء الفلسفة الحكمة النظرية والعملية إعانة للعامة على تحصيل الكمالات المتعلقة بالقوتين دونت عظماء الملة وعلماء الأمة علم الكلام وعلم الشرايع والأحكام فوقع الكلام للملة بإزاء الحكمة النظرية للفلسفة وهي عندهم تنقسم إلى العلم المتعلق بأمور تستغني عن المادة في الوجود والتصور جميعا وهو الإلهي أو في التصور فقط وهو الرياضي أولا تستغني أصلا وهو الطبيعي ولكل منها أقسام وفروع كثيرة إلا أن المقدم في الاعتبار بشهادة العقل والنقل هو معرفة المبدأ والمعاد المشار إليهما بالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وطريق الوصول إليها هوالنظر في الممكنات من الجواهر والأعراض على ما يرشد إليه مواضع من كتاب الله تعالى وما أحسن ما أشار أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه إلى أن المعتبر من كمال القوة العملية ما به نظام المعاش ونجاة المعاد ومن النظرية العلم بالمبدأ والمعاد وبما بينهما من جهة النظر والاعتبار حيث قال رحم الله أمرأ أخذ لنفسه واستعد لرمسه وعلم من اين وفى اين وإلى أين فاقتصر المليون على ما يتعلق بمعرفة الصانع وصفانه وأفعاله وما يتفرع على ذلك من النبوة والمعاد وسائر مالا سبيل للعقل باستقلاله وما يترتب عليه إثبات ذلك من الأحوال المختصة بالجواهر والأعراض أو الشاملة لأكثر الموجودات فجاءت أبواب الكلام خمسة هي الأمور العامة والأعراض والجواهر والإلهيات والسمعيات وقد جرت العادة بتصديرها بمباحث تجري مجرى السوابق لها تسمى بالمباديء فرتبنا الكتاب على ستة مقاصد ووجه الضبط أن المذكور فيه أن كان من مقاصد الكلام فإما سمعيات هو المقصد السادس أو عقليات مختص بالواجب وهو الخامس أو بالممكن الجوهر وهو الرابع أو العرض وهو الثالث أولا مختص بواحد وهو الثاني وإن لم يكن من مقاصد الفن فهو المقصد الأول من الكتاب ووجه الترتيب توقف اللاحق على السابق في بعض البينات وقد يقتضى الضبط والمناسبة إيراد شيء من مباحث تأتي في الآخر كمسئلة الرؤية في الإلهيات وإعادة المعدوم في السمعيات قال المقصد الأول أقول رتبه على ثلاثة فصول لأن المبادي منها ما رأوا تصدير كل علم بها كمعرفة حده وموضوعه وغايته ونحو ذلك فسماها بالمقدمات وجعلها في فصل ومنها ما صدروا بها علم الكلام خاصة كمباحث العلم والنظر لأن تحصيل العقائد بطريق النظر والاستدلال والرد على منكري حصول العلم أصلا واستفادته من النظر مطلقا أو في الإلهيات خاصة يتوقف على ذلك وليس في العلوم الإسلامية ما هو أليق ببيانه فجعلها في فصلين قال الكلام هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية أقول حصول الكيفيات النفسانية في النفس قد يكون بأعيانها وهو اتصاف بها وقد يكون بصورها وهو تصور لها كالكريم يتصف بالكرم وإن لم يتصوره وغير الكريم يتصوره وإن لم يتصف به ولا خفاء في أن حقيقة كل علم من الكلام وغيره تصورات وتصديقات
____________________
(1/5)
كثيرة يطلب حصولها بأعيانها بطريق النظر والاستدلال فاحتيج إلى ما يفيد تصورها بصورة إجمالية تساويها صونا للطلب والنظر عن إخلال بما هو منها واشتغال بما ليس منها وذلك هو المعنى بتعريف العلم فكان من مقدماته وإنما كثر تركه سيما في العلوم الشرعية والأدبية لما شاع من تدوين العلوم بمسائلها ودلائلها وتفسير ما يتعلق بها من التصورات ثم تحصيلها كذلك بطريق التعلم من المعلم أو التفهم من الكتاب إذا تقرر هذا فنقول الأحكام المنسوبة إلى الشرع منها ما يتعلق بالعمل وتسمى فرعية وعملية ومنها ما يتعلق بالاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية وكانت الأوائل من العلماء ببركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وقرب العهد بزمانه وسماع الأخبار منه ومشاهدة الآثار مع قلة الوقائع والاختلافات وسهولة المراجعة إلى الثقات مستغنين عن تدوين الأحكام وترتيبها أبوابا وفصولا وتكثير المسائل فروعا وأصولا إلى أن ظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء وكثرت الفتاوى والواقعات ومست الحاجة فيها إلى زيادة نظر والتفات فأخذ أرباب النظر والاستدلال في استنباط الأحكام وبذلوا جهدهم في تحقيق عقائد الإسلام وأقبلوا على تمهيد أصولها وقوانينها وتلخيص حججها وبراهينها وتدوين المسائل بأدلتها والشبه بأجوبتها وسموا العلم بها فقها وخصوا الاعتقاديات باسم الفقة الأكبر والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه والاعتقاديات بعلم التوحيد والصفات تسمية بأشهر أجزائه وأشرفها وبعلم الكلام لأن مباحثه كانت مصدرة بقولهم الكلام في كذا وكذا ولأن أشهر الاختلافات فيه كانت مسئلة كلام الله تعالى أنه قديم أو حادث ولأنه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات كالمنطق في الفلسفيات ولأنه كثر فيه من الكلام مع المخالفين والرد عليهم مالم يكثر في غيره ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه كما يقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام واعتبروا في أدلتها اليقين لأنه لا عبرة بالظن في الاعتقاديات بل في العمليات فظهر أنه العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية وهذا هو معنى العقائد الدينية أي المنسوبة إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم سواء توقف على الشرع أم لا وسواء كان من الدين في الواقع ككلام أهل الحق أم لا ككلام المخالفين وصار قولنا هو العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية مناسبا لقولهم في الفقه إنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية وموافقا لما نقل عن بعض عظماء الملة أن الفقه معرفة النفس مالها وما عليها وأن ما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر وخرج العلم بغير الشرعيات وبالشرعيات الفرعية وعلم الله تعالى وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بالاعتقاديات وكذا اعتقاد المقلد فيمن يسميه علما ودخل علم علماء الصحابة بذلك فإنه كلام وإن لم يكن وسمي في ذلك الزمان بهذا الاسم كما أن علمهم
____________________
(1/6)
بالعمليات فقه وإن لم يكن ثمة هذا التدوين والترتيب وذلك إذا كان متعلقا بجميع العقائد بقدر الطاقة البشرية مكتسبا من النظر في الأدلة اليقينية أو كان ملكة يتعلق بها بأن يكون عندهم من المآخذ والشرائط ما يكفيهم في استحضار العقائد على ما هو المراد بقولنا العلم بالعقائد عن الأدلة وإلى المعنى الأخير يشير قول المواقف أنه علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه ومعنى إثبات العقائد تحصيلها واكتسابها بحيث يحصل الترقي من التقليد إلى التحقيق أو إثباتها على الغير بحيث يتمكن من إلزام المعاندين أو اتقانها وإحكامها بحيث لا تزلزلها شبه المبطلين وعدل عن يقتدر به إلى يقتدر معه مبالغة في نفي الأسباب واستناد الكل إلى خلق الله تعالى ابتداء على ما هو المذهب وأورد على طرد تعريفه جميع العلوم الحاصلة عند الاقتدار من النحو والمنطق وغيرهما وعلى عكسه علم الكلام بعد إثبات العقائد لانتفاء الاقتدار حينئذ والجواب أن المراد هو علم يحصل معه الاقتدار البتة بطريق جري العادة أي يلزمه حصول الاقتدار لزوما عاديا وإن لم يبق الاقتدار دائما ولا خفاء في أن الكلام كذلك بخلاف سائر العلوم وأما مجموع العلوم التي من جملتها الكلام فهو وإن كان كذلك فليس بعلم واحد بل علوم جمة وقد يجاب بأن المراد ماله مدخل في الاقتدار أو ما يلزم معه الاقتدار ولو على بعض التقادير والكلام بعد الإثبات بهذه الحيثية بخلاف سائر العلوم ويعترض بأن للمنطق مدخلا في الاقتدار وإن لم يستقل به والاقتدار لازم مع كل علم على تقدير مقارنته للكلام نعم لو أريد ما يلزم معه الاقتدار في الجملة بحيث يكون له مدخل في ذلك خرج غير المنطق وفيما ذكرنا غنية عن هذا مع أن في إثبات المدخل إشعارا بالسببية ولو قال يقتدر به وأراد الاستعقاب العادي كما في إثبات العقائد بإيراد الحجج على ما هو المذهب في حصول النتيجة عقيب النظر لم يحتج إلى شيء من ذلك قال وموضوعه المعلوم أقول اتفقت كلمة القوم على أن تمايز العلوم في أنفسها إنما هو بحسب تمايز الموضوعات فيناسب تصدير العلم ببيان الموضوع إفادة لما به يتميز بحسب الذات بعدما أفاد التعريف التمييز بحسب المفهوم وأيضا في معرفة جهة الوحدة للكثرة المطلوبة إحاطة بها إجمالا بحيث إذا قصد تحصيل تفاصيلها لم ينصرف الطلب عما هو منها إلى ما ليس منها ولا شك أن جهة وحدة مسائل العلم أولا وبالذات هو الموضوع إذ فيه اشتراكها وبه اتحادها على ما سنفصله وتحقيق المقام أنهم لما حاولوا معرفة أحوال الأشياء بقدر الطاقة البشرية على ما هو المراد بالحكمة وضعوا الحقائق أنواعا وأجناسا وغيرها كالإنسان والحيوان والموجود وبحثوا عن أحوالها المختصة وأثبتوها لها بالأدلة فحصلت لهم قضايا كسبية محمولاتها أغراض ذاتية لتلك الحقائق سموها بالمسائل وجعلوا كل طائفة منها يرجع إلى واحد من تلك الأشياء بأن تكون موضوعاتها نفسه أو جزأ له أو نوعا منه أو عرضا ذاتيا له
____________________
(1/7)
علما خاصا يفرد بالتدوين والتسمية والتعليم نظرا إلى ما لتلك الطائفة على كثرتها واختلاف محمولاتها من الاتحاد من جهة الموضوع أي الاشتراك فيه على الوجه المذكور ثم قد يتحد من جهات أخر كالمنفعة والغاية ونحوهما ويؤخذ لها من بعض تلك الجهات ما يفيد تصورها إجمالا ومن حيث أن لها وحدة فيكون حدا للعلم إن دل على حقيقة مسماه أعني ذلك المركب الاعتباري كما يقال هو علم يبحث فيه عن كذا أو علم بقواعد كذا وإلا فرسما كما يقال هو علم يقتدر به على كذا أو يحترز عن كذا أو يكون آلة لكذا فظهر أن الموضوع هو جهة وحدة مسائل العلم الواحد نظرا إلى ذاتها وإن عرضت لها جهات أخر كالتعريف والغاية فإنه لا معنى لكون هذا علما وذاك علما آخر سوى أنه يبحث هذا عن أحوال شيء وذلك عن أحوال شيء آخر مغاير له بالذات أو بالاعتبار فلا يكون تمايز العلوم في أنفسها وبالنظر إلى ذواتها إلا بحسب الموضوع وإن كانت تتمايز عند الطالب بما لها من التعريفات والغايات ونحوهما ولهذا جعلوا تباين العلوم وتناسبها وتداخلها أيضا بحسب الموضوع بمعنى أن موضوع أحد العلمين إن كان مباينا لموضوع الآخر من كل وجه فالعلمان متباينان على الإطلاق وإن كان أعم منه فالعلمان متداخلان وإن كان موضوعهما شيئا واحدا بالذات متغايرا بالاعتبار أو شيئين متشاركين في جنس أو غيره فالعلمان متناسبان على تفاصيل ذكرت في موضعها وبالجملة فقد أطبقوا على امتناع أن يكون شيء واحد موضوعا لعلمين من غير اعتبار تغاير بأن يؤخذ في أحدهما مطلقا وفي الآخر مقيدا أو يؤخذ في كل منهما مقيدا بقيد آخر وامتناع أن يكون موضوع علم واحد شيئين من غير اعتبار اتحادهما في جنس أو غاية أو غيرهما إذ لا معنى لاتحاد العلم واختلافه بدون ذلك لا يقال العلم مختلف باختلاف المعلوم أعني المسائل وهي كما تختلف باختلاف الموضوع فكذا تختلف باختلاف المحمول فلم لم يجعل هذا وجه التمايز بأن يكون البحث عن بعض من الأعراض الذاتية علما ومن بعض آخر علما آخر مع اتحاد الموضوع على أن هذا أقرب بناء على كون الموضوع بمنزلة المادة وهي مأخذ للجنس والأعراض الذاتية بمنزلة الصورة وهي مأخذ للفصل الذي به كمال التميز لأنا نقول حينئذ لا ينضبط أمر الاتحاد والاختلاف ويكون كل علم علوما جمة ضرورة اشتماله على أنواع جمة من الأعراض الذاتية مثلا يكون الحساب علوما متعددة بتعدد محمولات المسائل من الزوج والفرد وزوج الزوج وزوج الفرد إلى غير ذلك وكذا سائر العلوم والغلط إنما نشأ من عدم التفرقة بين العلم بمعنى الصناعة أعني جميع المباحث المتعلقة لموضوع ما وبين العلم بمعنى حصول الصورة ولو أريد هذا لكان كل مسئلة علما على حدة وأيضا مبنى الاتحاد والاختلاف وما يتبعه من التباين والتناسب والتداخل يجب أن يكون أمرا معينا بينا أو مبينا وذلك هو الموضوع إذ لا ضبط للأعراض الذاتية ولا حصر بل لكل
____________________
(1/8)
أحد أن يثبت ما استطاع وإنما يتبين بتحققها في العلم نفسه ولهذا كانت حدودها في صدر العلم حدودا اسمية ربما تصير بعد إثباتها حدودا حقيقية بخلاف حدود الموضوع وأجزائه فإنها حقيقية وأما حديث المادة والصورة فكاذب لأن كلا من الموضوع والمحمول جزء مادي من القضية وإنما الصوري هو الحكم على أن الكلام ليس في المسئلة بل في المركب الاعتباري الذي هو العلم ولإخفاء في أن المسائل مادة له ومرجع الصورة إلى جهة الاتحاد إذ بها تصير المسائل تلك الصناعة المخصوصة فإن قلت اشتراط تشارك موضوعات العلم الواحد في جنس أو غيره لا يدفع اختلال أمر اتحاد العلم واختلافه إذ قلما يخلو موضوعا العلمين عن تشارك في ذاتي أو عرضي أقله الوجود بل مثل الحساب والهندسة الباحثين عن العدد والمقدار الداخلين تحت جنس هو الكم لا يجعل علما واحدا بل علمين متساويين في الرتبة بخلاف علم النحو الباحث عن أنواع الكلمة قلت إذا كان البحث عن الأشياء من جهة اشتراكها في ذلك الأمر ومصداقه أن يقع البحث عن كل ما يشاركها في ذلك فالعلم واحد وإلا فمتعدد ألا ترى أن الحساب والهندسة لا ينظران في الزمان الذي هو من أنواع الكم وإلى هذا يشير كلام الشفاء أن كلا من الحساب والهندسة إنما يجعل علما على حدة لكونه ناظرا فيما يعرض لموضوعه من حيث هو وهو العدد للحساب والمقدار للهندسة ولو كانا ينظران فيهما من جهة ما هو كم لكان موضوع كل منهما الكم أو كان العلمان علما واحدا ولو نظر كل منهما في موضوعه من حيث هو موجود لما تميزا عن الفلسفة الأولى فإن قلت كما صرحوا بكون الموضوع من المقدمات فقد صرحوا بكونه جزأ من العلم على حدة وبكونه من مباديه التصورية فما وجه ذلك قلت أرادوا أن التصديق بهلية ذات الموضوع كالعدد في الحساب جزء منه بدليل تعليلهم ذلك بأن ما لا يعلم ثبوته كيف يطلب ثبوت شيء له وتصوره من المبادي التصورية والتصديق بموضوعيته من المقدمات وأما تصور مفهوم الموضوع أعني ما يبحث فيه عن أعراضه الذاتية ففي صناعة البرهان من المنطق فهذه أمور أربعة ربما يقع فيه الاشتباه وإنما لم يجعلوا التصديق بهلية الموضوع من المبادي التصديقية كما جعلوا تصوره من المبادي التصورية لأنهم أرادوا بها المقدمات التي منها تتألف قياسات العلم وإنما لم يجعل التصديق بالموضوعية من الأجزاء المادية لأنه إنما يتحقق بعد كمال العلم فهو بثمراته أشبه منه بأجزائه مثلا إذا قلنا العدد موضوع الحساب لأنه إنما ينظر في أعراضه الذاتية لم يتحقق ذلك إلا بعد الإحاطة بعلم الحساب فكان التصديق بالموضوعية إجمالا من سوابق العلم وتحقيقا من لواحقه وينبغي أن يعلم أن لزوم هذه الأمور إنما هو في الصناعات النظرية البرهانية وأما في غيرها فقد يظهر كما في الفقه والأصول وقد لا يظهر إلا بتكلف كما في بعض الأدبيات إذ ربما تكون الصناعة عبارة عن عدة أوضاع
____________________
(1/9)
واصطلاحات وتنبيهات متعلقة بأمر واحد من غير أن يكون هناك إثبات أعراض ذاتية لموضوع بأدلة مبينة على مقدمات وإنما أطنبنا بإيراد هذه المباحث مع أنها في نظر صناعة البرهان من قبيل الواضحات لما تطرقت إليها بعد انعدام قواعد الصناعات الخمس من الشبهات إذا تقرر هذا فنقول موضوع علم الكلام هو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية لما أنه يبحث عن أحوال الصانع من القدم والوحدة والقدرة والإرادة وغيرها وأحوال الجسم والعرض من الحدوث والافتقار والتركب من الأجزاء وقبول الفناء ونحو ذلك مما هو عقيدة إسلامية أو وسيلة إليها وكل هذا بحث عن أحوال المعلوم وهو كالموجود بين الهلية والشمول لموضوعات سائر العلوم الإسلامية فيكون الكلام فوق الكل إلا أنه أوثر على الموجود ليصح على رأي من لا يقول بالموجود الذهني ولا يفسر العلم بحصول الصورة في العقل ويرى مباحث المعدوم والحال من مسائل الكلام فإن قيل إن أريد بالمعلوم أو الموجود مفهومه فكثير من محمولات المسائل بل أكثرها أخص منه وهو ظاهر وإن أريد معروضه فأعم كرؤية الصانع وقدم كلامه وحدوث الجسم ونحو ذلك ولا خلاف في أن الأخص لا يكون عرضا ذاتيا والأعم لا يستعمل على عمومه كالمساواة العارضة للعدد بواسطة الكم لا يستعمل في الحساب إلا بعد التخصيص بالمساواة العددية وإنما الخلاف في أنه قبل التخصيص هل يسمى عرضا ذاتيا أم لا قلنا لزوم الاختصاص ليس بالنظر إلى موضوع المسئلة بل موضوع العلم أعم من أن يكون على الإطلاق أو التقابل كالعدد لا يخلو عن الزوجية والفردية ألا يرى أن الزوج يحمل على مضروب الفرد في الزوج مع كونه أعم منه قال في الشفاء العرض الذاتي قد يكون مساويا للموضوع كمساواة الزوايا الثلاث لقائمتين للمثلث وقد يكون أخص منه مطلقا كالزوج للعدد أو من وجه كالمساواة للعدد فإنها عرض ذاتي له لكون جنسه وهو الكم مأخوذا في حدها ثم أنهما قد يوجدان معا وقد يوجد العدد بدونها وهو ظاهر وبالعكس كما في المقادير وقد يكون أعم منه مطلقا كالزوج لمضروب الفرد في الزوج قال ومسائله القضايا النظرية الشرعية الاعتقادية أقول قد يجعل من مقدمات العلم تصور مسائله إجمالا لإفادته زيادة التميز وقيد القضايا بالنظرية لأنه لم يقع خلاف في أن البديهي لا يكون من المسائل والمطالب العملية بل لا معنى للمسئلة إلا ما يسأل عنه ويطلب بالدليل نعم قد يورد في المسائل الحكم البديهي ليبين لميته وهو من هذه الحيثية كسبي لا بديهي وقد تجعل الصناعة عبارة عن عدة أوضاع واصطلاحات وأحكام بينة تفتقر إلى تنبيه هي مسائلها وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما وقع في تجريد المنطق من أن المسائل ما يبرهن عليها في العلم إن لم تكن بينة قال وغايته ما يتأدى إليه الشيء ويترتب عليه يسمى من هذه الحيثية غاية ومن حيث يطلب بالفعل غرضا ثم إن كان مما يتشوقه الكل طبعا
____________________
(1/10)
يسمى منفعة فيصدر العلم بذكر غايته ليعلم أنه هل يوافق غرضه أم لا ولئلا يكون نظره عبثا أو ضلالا ومنفعته ليزداد طالبه جدا ونشاطا وغاية الكلام أن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متيقنا محكما لا تزلزله شبه المبطلين ومنفعته في الدنيا انتظام أمر المعاش بالمحافظة على العدل والمعاملة التي يحتاج إليها في بقاء النوع على وجه لا يؤدي إلى الفساد وفي الآخرة النجاة من العذاب المرتب على الكفر وسوء الاعتقاد قال فهو أشرف العلوم أقول لما تبين أن موضوعه أعلى الموضوعات ومعلومه أجل المعلومات وغايته أشرف الغايات مع الإشارة إلى شدة الاحتياج إليه وابتناء سائر العلوم الدينية عليه والإشعار بوثاقة براهينه لكونها يقينيات يتطابق عليها العقل والشرع تبين أنه أشرف العلوم لأن هذه جهات شرف العلم وما نقل عن السلف من الطعن فيه فمحمول على ما إذا قصد التعصب في الدين وإفساد عقايد المبتدين والتوريط في أودية الضلال بتزيين ما للفلسفة من المقال قال والمتقدمون أقول آخر هذه المباحث مع تعلقها بالموضوع محافظة على انتظام الكلام في بيان الموضوع والمسائل والغاية فالمتقدمون من علماء الكلام جعلوا موضوعه الموجود بما هو موجود لرجوع مباحثه إليه على ما قال الإمام حجة الإسلام أن المتكلم ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود فيقسمه إلى قديم ومحدث والمحدث إلى جوهر وعرض والعرض إلى ما يشترط فيه الحيوة كالعلم والقدرة وإلى ما لا يشترط كاللون والطعم ويقسم الجوهر إلى الحيوان والنبات والجماد ويبين أن اختلافها بالأنواع أو بالأعراض وينظر في القديم فيتبين أنه لا يتكثر ولا يتركب وأنه يتميز عن المحدث بصفات تجب له وأمور تمتنع عليه وأحكام تجوز في حقه من غير وجوب أو امتناع ويبين أن أصل الفعل جائز عليه وأن العالم فعله الجائز فيفتقر بجوازه إلى محدث وأنه قادر على بعث الرسل وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات وأن هذا واقع وحينئذ ينتهي تصرف العقل ويأخذ في التلقي من النبي عليه السلام الثابت عند صدقه ومقبول ما يقوله في الله تعالى وفي أمر المبدأ والمعاد ولما كان موضوع العلم الآلهي من الفلسفة هو الموجود بما هو موجود وكان تمايز العلوم بتمايز الموضوعات قيد الموجود ههنا بحيثية كونه متعلقا للمباحث الجارية على قانون الإسلام فتميز الكلام عن الإلهي بأن البحث فيه إنما يكون على قانون الإسلام أي الطريقة المعهودة المسماة بالدين والملة والقواعد المعلومة قطعا من الكتاب والسنة والإجماع مثل كون الواحد موجدا للكثير وكون الملك نازلا من السماء وكون العالم مسبوقا بالعدم وفانيا بعد الوجود إلى غير ذلك من القواعد التي يقطع بها في الإسلام دون الفلسفة وإلى هذا أشار من قال الأصل في هذا العلم التمسك بالكتاب والسنة أي التعلق بهما وكون مباحثه منتسبة إليهما جارية على قواعدهما على ما هو معنى انتساب العقائد إلى الدين وقيل المراد بقانون الإسلام
____________________
(1/11)
أصوله من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول الذي لا يخالفها وبالجملة فحاصله أن يحافظ في جميع المباحث على القواعد الشرعية ولا يخالف القطعيات منها جريا على مقتضى نظر العقول القاصرة على ما هو قانون الفلسفة لا أن يكون جميع المباحث حقة في نفس الأمر منتسبة إلى الإسلام بالتحقيق وإلا لما صدق التعريف على كلام المجسمة والمعتزلة والخوارج ومن يجري مجراهم وعلى هذا لا يرد الاعتراض بأن قانون الإسلام ما هو الحق من مسائل الكلام فإن أريد الحقية والانتساب إلى الإسلام بحسب الواقع لم يصلح هذا القيد لتميز الكلام عن غيره لأنه ليس لازما بينا إذ كل من المتكلم وغيره يدعي حقية مقاله ولم يصدق التعريف على كلام المخالف لبطلان كثير من قواعده مع أنه كلام وفاقا وإن أريد بحسب اعتقاد الباحث حقا كان أو باطلا لم يتميز الكلام بهذا القيد عن الإلهى لاشتراكهما في ذلك قال فإن قيل أقول أعترض في المواقف على كون موضوع الكلام هو الموجود من حيث هو بأنه قد يبحث عن أحوال مالا يعتبر وجوده وإن كان موجودا كالنظر والدليل وعن أحوال مالا وجود له أصلا كالمعدوم والحال ولا يجوز أن يؤخذ الموجود أعم من الذهني والخارجي ليعم الكل لأن المتكلمين لا يقولون بالوجود الذهني والجواب أنا لا نسلم كون هذه المباحث من مسائل الكلام بل مباحث النظر والدليل من مباديه على ما قررنا وبحث المعدوم والحال من لواحق مسئلة الوجود توضيحا للمقصود وتتميما له بالتعرض لما يقابله لا يقال بحث إعادة المعدوم واستحالة التسلسل ونفي الهيولي وأمثال ذلك من المسائل قطعا لأنا نقول هي راجعة إلى أحوال الموجود بأنه هل يعاد بعد العدم وهل يتسلسل إلى غير النهاية وهل يتركب الجسم من الهيولي والصورة ولو سلم أنها من المسائل فإنما يريد ما ذكرتم لو أريد بالموجود من حيث هو الموجود في الخارج بشرط اعتبار وجوده وليس كذلك بل الموجود على الإطلاق ذهنيا كان أو خارجيا واجبا أو ممكنا جوهرا أو عرضا إلى غير ذلك فباحث النظر والدليل من أحوال الوجود العيني وإن لم يعتبر والبواقي من أحوال الوجود الذهني وكثير من المتكلمين يقولون به على ما يصرح بذلك كلامهم ومن لم يقل فعليه العدول إلى المعلوم ( قال وقيل ) أقول ذهب القاضي الأرموي من المتأخرين إلى أن موضوع الكلام ذات الله تعالى لأنه يبحث عن صفاته الثبوتية والسلبية وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا ككيفة صدور العالم عنه بالاختبار وحدوث العالم وخلق الأعمال وكيفية نظام العالم كالبحث عن النبوات وما يتبعها أو بأمر الآخرة كبحث المعاد وسائر السمعيات فيكون الكلام هو العلم الباحث عن أحوال الصانع من صفاته الثبوتية والسلبية وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا والآخرة
____________________
(1/12)
وتبعه صاحب الصحايف إلا أنه زاد فجعل الموضوع ذات الله تعالى من حيث هي وذات الممكنات من حيث استنادها إلى الله تعالى لما أنه يبحث عن أوصاف ذاتية لذات الله تعالى من حيث هي وأوصاف ذاتية لذات الممكنات من حيث أنها محتاجة إلى الله تعالى وجهة الوحدة هي الموجود وكان هو العلم الباحث عن أحوال الصانع وأحوال الممكنات من حيث احتياجها إليه على قانون الإسلام وينبغي أن يكون هذا معنى ما قال هو العلم الباحث عن ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون الإسلام وإلا فلا معنى للبحث عن نفس الموضوع لكنه أجاب بأن المراد بذات الله تعالى في التعريف الذات من حيث الصفات كالذات من حيث عدم التركيب والجوهرية والعرضية والبحث عنها من قبيل المسائل كالبحث عن نفس الصفات والموضوع هو الذات من حيث هي ولا بحث عنها في العلم وهذا يشعر بأن المحمول في قولنا الواجب ليس بجوهر ولا عرض هو ذات الله تعالى من حيث عدم الجوهرية والمعرضية فإن قيل لو كان الموضوع ذات الله تعالى وحده أو مع ذات الممكنات من حيث الاستناد إليه لما وقع البحث في المسائل إلا عن أحوالها واللازم باطل لأن كثيرا من مباحث الأمور العامة والجواهر والأعراض بحث عن أحوال الممكنات لا من حيث استنادها إلى الواجب قلنا يجوز أن يكون ذلك على سبيل الاستطراد قصدا إلى تكميل الصناعة بأن يذكر مع المطلوب ماله نوع تعلق به من اللواحق والفروع والمقابلات وما أشبه ذلك كمباحث المعدوم والحال وأقسام الماهية والحركات والأجسام أو على سبيل الحكاية لكلام المخالف قصدا إلى تزييفه كبحث علة اليقين والآثار العلوية والجواهر المجردة أو على سبيل المبدائية بأن يتوقف عليه بعض المسائل فيذكر لتحقيق المقصود بأن لا يتوقف بيانه على ما ليس ببين كاشتراك الوجود واستحالة التسلسل وجواز كون الشيء قابلا وفاعلا وإمكان الخلاء وتناهي الأبعاد وأما ما سوى ذلك فيكون من فضول الكلام يقصد به تكثير المباحث كما اشتهر فيما بين المتأخرين من خلط كثير من مسائل الطبيعي والرياضي بالكلام فإن قيل لا يجوز أن يكون للكلام مبادي يفتقر إلى البيان ويثبت بالبرهان لأن مبادي العلم إنما تتبين في علم أعلى منه وليس في العلوم الشرعية ما هو أعلى من الكلام بل الكل جزئي بالنسبة إليه ومتوقف بالآخرة عليه فمباديه لا تكون إلا بينة بنفسها قلنا ما يبين فيه مبادي العلم الشرعي لا يجب أن يكون علما أعلى ولا أن يكون علما شرعيا للإطباق على أن علم الأصول يستمد من العربية ويبين فيها بعض مباديه وتفصيل ذلك على ما هو المذكور في الشفاء وغيره أن مبادي العلم قد تكون بينة بنفسها فلا تبين في علم أصلا وقد تكون غير بينة فتبين في علم أعلى بجلالة محله عن أن يبين في ذلك العلم كقولنا الجسم مؤلف من الهيولي والصورة فإنه من مبادي الطبيعي ومن مسائل الفلسفة الأولى أو في علم أدنى لدنو شأنه عن أن يبين في ذلك
____________________
(1/13)
العلم كامتناع الجزء الذي لا يتجزأ فإنه من مسائل الطبيعي ومن مبادي الإلهى لإثبات الهيولي والصورة فيجب أن تبين بمقدمات لا تتوقف صحتها عليها لئلا يلزم الدور وقد يبين في ذلك العلم نفسه بشرط أن لا يكون مبدأ لجميع مسائله وأن لا يبين بمسئلة تتوقف عليه لئلا يدور فهذا يكون مبدأ باعتبار ومسئلة باعتبار كأكثر مسائل الهندسة وككون الأمر للوجوب فإنه مسئلة من الأصول ومبدأ المسئلة وجوب القياس تمسكا بقوله تعالى فاعتبروا ولا يخفى أنه يجب في هذا القسم أن يكون بحثا عن أحوال موضوع الصناعة ليصح كونه من مسائلها فما نحن فيه أعني البحث عن أحوال الممكنات لا على وجه الاستناد لا يكون من هذا القبيل فتعين البيان في علم أدنى أو أعلى فيثبت هذا المبدأ بدليل قطعي من غير مخالفة للقواعد الشرعية وإن لم يعد ذلك العلم من العلوم الإسلامية كالإلهي الباحث عن أحوال الموجود على الإطلاق وههنا شيء آخر وهو أن المفهوم من شرح الصحايف أن ليس معنى البحث عن أحوال الممكنات على وجه الاستناد أن يكون ذلك ملاحظا في جميع المسائل بل أن يكون البحث عن أحوال تعرض للممكنات من جهة استنادها إلى الله تعالى فإن أحوال الممكنات التي يبحث عنها في الكلام أحوال مخصوصة معلومة بحكم فيضانها عن تأثر قدرة الله تعالى وذلك إنما يكون لحاجتها إلى الله تعالى فيكون عروضها للممكنات ناشئا عن جهة حاجتها إليه ( قال واعترض ) أقول لما كان من المباحث الحكمية مالا يقدح في العقايد الدينية ولم يناسب غير الكلام من العلوم الإسلامية خلطها المتأخرون بمسائل الكلام إفاضة للحقايق وإفادة لما عسى أن يستعان به في التقصي عن المضايق وإلا فلا نزاع في أن أصل الكلام لا يتجاوز مباحث الذات والصفات والنبوة والإمامة والمعاد وما يتعلق بذلك من أحوال الممكنات فلذا اقتصر القوم في إبطال كون موضوع الكلام ذات الله وحده أو مع ذات الممكنات من جهة الاستناد على أنه لو كان كذلك لما كان إثباته من مطالب الكلام لأن موضوع العلم لا يبين فيه بل في علم أعلى إلى أن ينتهي إلى ما موضوعه بين الثبوت كالموجود وذلك لأن حقيقة العلم إثبات الأعراض الذاتية للشيء على ما هو معنى الهلية المركبة ولا خفاء في أنها بعد الهلية البسيطة لأن مالا يعلم ثبوته لا يطلب ثبوت شيء له لكن لا نزاع في أن إثبات الواجب بمعنى إقامة البرهان على وجوده من أعلى مطالب الكلام ثم كونه مبدأ الممكنات بالاختيار أو الإيجاب بلا وسط في الكل أو بوسط في البعض بحث آخر والقول بأن إثباته إنما هو من مسائل الإلهي دون الكلام ظاهر الفساد وإلا لكان هو أحد العلوم الإسلامية بل رئيسها ورأسها ومبنى القواعد الشرعية وأساسها وأجاب بعضهم بأنه جاز ههنا إثبات الموضوع في العلم لوجهين الأول أن الوجود من أعراضه الذاتية لكونه واجب الوجود بخلاف سائر العلوم فإن الوجود إنما يلحق موضوعاتها لأمر مباين وكان هذا مراد من قال
____________________
(1/14)
موضوع العلم إنما لا يبين فيه إذا كان البحث فيه عن الأحوال التي هي غير الوجود وإلا فهذه التفرقة مما لا يشهد به عقل ولا نقل بل ليس لها كثير معنى فإن قيل هذا لا يصح على رأي من يجعل الوجود نفس الماهية وهو ظاهر ولا على رأي من يجعله زايدا مشتركا لأن العرض الذاتي يكون مختصا قلنا سواء كان ذاته نفس الوجود أو غيره فإما أن يكون هناك قضية كسبية محمولها الموجود في الخارج بطريق الوجوب فيتم الجواب أو لا فيسقط أصل الاعتراض الثاني لا علم شرعي فوقه يبين فيه موضوعه فلا بد من بيان فيه وفيه نظر
أما أولا فلأنه ليس من شرط العرض الذاتي أن لا يكون معلوما للغير بل أن لا يكون لحوقه للشيء بتوسط لحوقه لأمر خارج غير مساو للاتفاق على كون الصحة والمرض عرضا ذاتيا للإنسان والحركة والسكون للجسم والاستقامة والانحناء للخط إلى غير ذلك
وأما ثانيا فلأنه يلزم أن لا يكون بيان وجود شيء من الممكنات مسئلة في شيء من العلوم فلا يصح أن موضوع العلم إنما يبين وجوده في علم أعلى
وأما ثالثا فلأن قولهم موضوع العلم لا يبين فيه بعد تقدير أنه لا يثبت في العلم غير الأعراض الذاتية للموضوع يكون لغوا من الكلام لأن ما وجوده عرض ذاتي يبين فيه وما لا يبين ليس بعرض ذاتي
وأما رابعا فلأنه لا يبقى قولهم لكل علم موضوع ومباد ومسائل على عمومه لأن معناه التصديق بانية الموضوع وهلية البسيطة وقد صار في علم الكلام من جملة المسائل
وأما خامسا فلأن تصاعد العلوم إنما هو بتصاعد الموضوعات فلا معنى لكون علم أعلى من آخر سوى أن موضوعه أعم فينبغي أن يؤخذ موضوع علم الكلام الموجود أو المعلوم وإلا فالإلهي أعلى منه رتبة وإن كان هو أشرف من جهة وقد عرفت أن ما يبين فيه موضوع علم شرعي أو مباديه لا يلزم أن يكون علما شرعيا بل يكفي كونه تعينيا وعلى وفق الشرع فإن قيل فقد آل الكلام إلى أن لوجود المخصص لموضوع الصناعة وإن كان من أعراضه الذاتية لا يبين فيها لكون نظرها مقصورا على بيان هليته المركبة بل يكون مسلما في نظرها لكونه بينا أو مبينا في صناعة أعلى وحينئذ يتوجه الإشكال بأن بيانه هناك لا يكون من الهلية المركبة وموضوع هذا العرض الذاتي لا يكون مما هو مسلم الوجود قلنا موضوع الصناعة الأعلى أعم ووجوده لا يستلزم وجود الأخص فيبين فيها وجود الأخص بأن يبين انقسام الأعم إليه وإلى غيره وأنه يوجد له هذا القسم ويكون ذلك عائدا إلى الهلية المركبة للأعم مثلا يبين في الإلهي أن بعض الموجود جسم فتبين وجود الجسم وفي الطبيعي أن بعض الجسم كرة فيبين وجود الكرة وعلى هذا القياس وربما يتنبه الفطن من هذا الكلام لنكتة قادحة في بعض ما سبق قال الفصل الثاني في العلم ذهب الإمام الرازي إلى أن تصور العلم بديهي لوجهين الأول أنه معلوم يمتنع اكتسابه أما المعلومية فبحكم الوجدان وأما امتناع الاكتساب فلأنه إنما يكون بغيره معلوما
____________________
(1/15)
ضرورة امتناع اكتساب الشيء بنفسه أو بغيره مجهولا والغير إنما يعلم بالعلم فلو علم العلم بالغير لزم الدور فتعين طريق الضرورة وهو المط الثاني إن علم كل أحد بوجوده بديهي أي حاصل من غير نظر وكسب وهذا علم خاص مسبوق لمطلق العلم لتركبه منه ومن الخصوصية والسابق على البديهي بديهي بل أولى بالبداهة فمطلق العلم بديهي وهو المط وأجيب عن الوجهين بأن مبناهما على عدم التفرقة بين تصور العلم وحصوله
أما الأول فلأن تصور العلم على تقدير اكتسابه يتوقف على تصور غيره وتصور الغير لا يتوقف على تصوره ليلزم الدور بل على حصوله بناء على امتناع حصول المقيد بدون المطلق حتى لو لم يقل بوجود الكلي في ضمن الجزئيات لم يتوقف على حصوله أيضا وعبارة المواقف أن الذي نحاول أن نعلمه بغير العلم تصور حقيقة العلم وقد تسامح حيث حاول العلم بتصور الحقيقة والأحسن ما في شرح المختصر أن الذي يراد حصوله بالغير تصور حقيقة العلم إلا أنه تسامح فيه أيضا حيث قال أن توقف تصور غير العلم إنما هو على حصول العلم به أعني علما جزئيا متعلقا بذلك الغير إذ لا معنى لتوقف الشيء على حصوله
وأما الثاني فلأن البديهي لكل أحد ليس هو تصور العلم بأنه موجود بل حصول العلم بذلك وهو لا يستدعي تصور العلم به فضلا عن بداهته كما أن كل أحد يعلم أن له نفسا ولا يعلم حقيقتها فإن قيل لا معنى للعلم إلا وصول النفس إلى المعنى وحصوله فيها والعلم من المعاني النفسية فحصوله في النفس علم به وتصور له فإذا كان حصول العلم لوجوده بديهيا كان تصور العلم به بديهيا ويلزم منه أن يكون تصور مطلق العلم بديهيا وهو المطلوب وكذا إذا كان تصور الغير الذي يكتسب به تصور العلم متوقفا على حصول مطلق العلم كان متوقفا على تصوره وهو الدور قلنا قد سبق أن حصول المعاني النفسية في النفس قد يكون بأعيانها وهو المراد بالوجود والمتأصل وذلك اتصاف بها لا تصور لها وقد يكون بصورها وهو المراد بالوجود الغير المتأصل بمنزلة الظل للشجر وذلك تصور لها لاتصاف بها ألا يرى أن الكافر يتصف بالكفر بحصول الإنكار في نفسه وإن لم يتصوره ويتصور الإيمان بحصول مفهومه في نفسه من غير إتصاف به فحصول عين العلم بالشيء في النفس لا يكون تصورا لذلك العلم كما أن حصول مفهوم العلم بالشيء في النفس لا يكون اتصافا بالعلم به بل ربما يستلزمه نعم يكون ذلك اتصافا بالعلم بمفهوم العلم بناء على أن المفهوم حاصل بعينه فإن قيل في تقرير الإمام ما يدفع الجواب المذكور لأنه قرر الأول بأن اكتساب العلم يتوقف على حصول العلم بالغير وهو يستلزم إمكان العلم بأنه عالم بذلك الغير وعلى تقدير وقوع ذلك الممكن يلزم حصول العلم بالعلم الخاص قبل حصول العلم بمطلق العلم وهو محال واكتساب العلم يكون ملزوما لتصور الغير الملزوم لإمكان المحال فيكون محالا والثاني بأن علم كل أحد بأنه عالم بوجوده بديهي وعلمه بوجوده علم خاص ومتى كان العلم بالعلم الخاص بديهيا كان العلم بمطلق العلم بديهيا ولما كان مظنة
____________________
(1/16)
أن يقال العلم بأنه عالم تصديق وبداهته لا تستدعي بداهة تصوراته لأنه مفسر بما لا يتوقف بعد تصور طرفيه على نظر أشار إلى دفعه بأن هذا التصديق بديهي بمعنى أنه لا يتوقف على كسب ونظر أصلا لا في الحكم ولا في طرفيه سواء جعل تصور الطرفين شطرا له أو شرطا وذلك لحصوله لمن لا يتأتى منه النظر والاكتساب كالبله والصبيان قلنا العلم بأنه عالم بالشيء تصديق وهو إنما يستدعي تصور الطرفين بوجه فلا يلزم تصور العلم بحقيقته مع أن الكلام فيه على أنه إن أراد أن العلم بالغير يستلزم إمكان العلم بأنه عالم به قبل اكتساب حقيقة العلم فغير مسلم أو في الجملة فغير مفيد لجواز أن يكون وقوع الممكن بعد الاكتساب قال ثم أكثر تعريفات العلم مدخوله كقولهم معرفة المعلوم على ما هو به إدراك المعلوم على ما هو به إثبات المعلوم على ما هو به اعتقاد الشيء على ما هو به ما يعلم به لاشيء ما يوجب كون من قام به عالما إلى غير ذلك ووجوه الخلل ظاهرة إلا أن ذلك عند الإمام حجة الإسلام لخفاء معنى العلم وعسر تحديده قال في المستصفى ربما يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل فإن ذلك متعسر في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية فكيف في الإدراكات وإنما يبين معناه بتقسيم ومثال أما التقسيم فهو أن تميزه عما يلتبس به وهي الاعتقادات ولا خفاء في غيره عن الشك والظن بالجزم وعن الجهل بالمطابقة فلم يبق إلا اعتقاد المقلد ويتميز عنه بأن الاعتقاد قد يبقى مع تغير متعلقه كما إذا اعتقد كون زيد في الدار ثم خرج زيد والاعتقاد بحاله بخلاف العلم فإنه يتغير بتغير المعلوم ولا يبقى عند اعتقاد انتفاء المتعلق لأنه كشف وانحلال في العقيدة والاعتقاد عقد على القلب ولهذا يزول بتشكيك المشكك بخلاف العلم وأما المثال فهو أن إدراك البصيرة شبيه بإدراك الباصرة فكما أنه لا معنى للإبصار إلا انطباع صورة المبصر أي مثاله المطابق في القوة الباصرة كانطباع الصورة في المرآة كذلك العقل بمنزلة مرآة تنطبع فيها صور المعقولات أي حقائقها وماهياتها على ما هي عليها والعلم عبارة عن أخذ العقل صور المعقولات في نفسه وانطباعها وحصولها فيه فالتقسيم المذكور يقطع العلم عن مظان الاشتباه وهذا المثال يفهمك حقيقة العلم هذا كلامه فظهر انه يريد عسر تحديده بالحد الحقيقي لا ما يفيد امتيازه وتفهيم حقيقته وأن ذلك ليس ببعيد وأنه لا يريد بالمثال جزئيا من جزئياته كاعتقادنا أن الواحد نصف الاثنين على ما فهمه البعض وقال الإمام الرازي تعريفات العلم لا تخلو عن خلل لأن ماهيته قد بلغت في الظهور إلى حيث لا يمكن تعريفه بشيء أجلى منه وإلى هذا ذهب كثير من المحققين حتى قال بعضهم أن ما وقع فيه من الاختلاف إنما هو لشدة وضوحه لا لخفائه قال ولا نزاع في اشتراك لفظه لفظ العلم يقال في الاصطلاح على معان منها إدراك العقل فيفسر بحصول صورة الشيء في العقل وسيجيء في بحث الكيفيات تحقيقه ودفع ما أورد عليه وبعضهم نظر إلى أن العلم صفة العالم والحصول صفة
____________________
(1/17)
الصورة فعدل إلى وصول النفس إلى المعنى أخذا مما ذكره الإمام وغيره أن أول مراتب وصول النفس إلى المعنى شعور فإذا حصل وقوف النفس على تمام ذلك المعنى فتصور فإذا بقي بحيث لو أراد استرجاعه بعد ذهابه أمكنه يقال له حفظ ولذلك الطلب تذكر ولذلك الوجدان ذكر وأنت خبير بأن حصول الصورة في العقل أيضا صفة العالم ومنها أحد أقسام التصديق وهو ما يقارن الجزم والمطابقة والثبات فيخرج الظن والجهل المركب والتقليد وسيجيء بيان ذلك ومنها ما يشمل تصور المطابق والتصديق اليقيني على ما هو الموافق للعرف واللغة ولهم فيه عبارتان
( 1 ) صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به أي صفة ينكشف بها ما يذكر ويلتفت إليه انكشافا تاما لمن قامت به تلك الصفة إنسانا كان أو غيره وعدل عن الشيء إلى المذكور ليعم الموجود والمعدوم وقد يتوهم أن المراد به المعلوم لأن في ذكر العلم ذكر المعلوم وعدل إليه تفاديا عن الدور وبالجملة فقد خرج الظن والجهل إذ لا تجلي فيهما وكذا اعتقاد المقلد لأنه عقدة على القلب والتجلي انشراح وانحلال للعقدة
( 2 ) صفة توجب تمييزا في المعاني لا يحتمل النقيض أي صفة تستعقب لخلق الله تعالى لمن قامت به تمييزا في الأمور العقلية كلية كانت أو جزئية فيخرج مثل القدرة والإرادة وهو ظاهر وإدراك الحواس لأن تمييزه في الأعيان ومن جعله علما بالمحسوسات لم يذكر هذا القيد وخرج سائر الإدراكات لأن احتمال النقيض في الظن والشك والوهم ظاهر وفي الجهل المركب أظهر وكذا اعتقاد المقلد لأنه يزول بتشكيك المشكك بل ربما يتعلق بالنقيض جزما وقد يقال إن الجهل المركب ليس بتمييز وكذا التصور الغير المطابق كما إذا ارتسم في النفس من الفرس صورة حيوان ناطق وأما المطابق فداخل لأنه لا نقيض له بناء على أن في أخذ النقيض شائبة الحكم والتركيب ولا يخفى ما فيه ومنهم من قيد المعاني بالكلية ميلا إلى تخصيص العلم بالكليات والمعرفة بالجزئيات فلا يرد ما ذكر في المواقف أن هذه الزيادة مع الغنى عنها محل نظر بطرد التعريف أي جريانه في جميع أفراد المعرف على ما ذكر ابن الحاجب أن اسم الفاعل يورد على طرد تعريف الاسم والفعل المضارع على عكسه قالوا وهذا مصطلح النحاة ثم الظاهر من قولنا تمييزا لا يحتمل النقيض أن يراد نقيض التمييز ولما لم يكن له كثير معنى ذهب بعضهم إلى أن المراد أنه صفة توجب التمييز إيجابا لا يحتمل النقيض وليس بشيء والحق اعتبار ذلك في متعلق التمييز على ما قالوا أن اعتقاد الشيء كذا مع أنه لا يكون إلا كذا علم ومع احتمال أن لا يكون كذا احتمالا مرجوحا ظن فالمعنى أنه صفة توجب للنفس تمييز المعنى عندها بحيث لا يحتمل النقيض في متعلقه ويدل على ذلك تقرير للنفس تمييز المعنى عندها بحيث لا يحتمل النقيض في متعلقه ويدل على ذلك تقرير اعتراضهم بالعلوم العادية مثل العلم بكون الجبل حجرا فإنه يحتمل النقيض بأن لا يكون حجرا بل قد انقلب ذهبا بأن يخلق الله تعالى مكان الحجر الذهب على ما هو رأي المحققين أو بأن يسلب عن أجزاء الحجر الوصف الذي به صارت حجرا ويخلق فيه الوصف الذي به يصير
____________________
(1/18)
ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر في جميع الأجسام والجواب أن المراد بعدم احتمال النقيض في العلم هو عدم تجويز العالم إياه لا حقيقة ولا حكما أما في التصور فلعدم النقيض أو لأنه لا معنى لاحتمال النقيض بدون شائبة الحكم وأما في التصديق فلاستناد جزمه بالحكم إلى موجب بحيث لا يحتمل الزوال أصلا والعاديات كذلك لأن الجزم بها مستند إلى موجب هو العادة وإنما يحتمل النقيض بمعنى أنه لو فرض وقوعه لم يلزمه منه محال لذاته لكونه في نفسه من الممكنات التي يجوز وقوعها أولا وقوعها وذلك كما يحكم ببياض الجسم المشاهد قطعا مع أنه في نفسه ممكن أن يكون وأن لا يكون والحاصل أن معنى احتمال النقيض تجويز الحاكم إياه حقيقة وحالا كما في الظن لعدم الجزم بمتعلقه أو حكما ومآلا كما في اعتقاد المقلد لعدم استناد الجزم به إلى موجب من حس أو عقل أو عادة فيجوز أن يزول بل يحصل اعتقاد النقيض جزما وبهذا يظهر الجواب عن بعض تفسير العلم باعتقاد المقلد سيما المطابق فإنه لا يحتمل النقيض في الواقع ولا عند الحاكم وهو ظاهر ولا عبرة بالإمكان العقلي كما في العاديات قال المبحث الثاني أقول قد اشتهر تقسيم العلم إلى التصور والتصديق واستبعده بعضهم لما بينهما من اللزوم إذ لا تصديق بدون التصور بل ذكروا أنه لا تصور بحسب الحقيقة بدون التصديق بالتحقيق وإنما الكلام في التصور بحسب الاسم فعدلوا إلى التقسيم إلى التصور الساذج أي المشروط بعدم الحكم وإلى التصديق وأجاب آخرون بأن اللزوم بحسب الوجود لا ينافي التقابل بحسب الصدق كما بين الزوج والفرد والحصر في التصور المقيد بعدم الحكم وفي التصديق ليس بتام لخروج تصور الطرفين وبالجملة فكلام القوم صريح في أن التصور المعتبر في التصديق هو التصور المقابل له وهو التصور لا بشرط الحكم أعني الذي لم يعتبر فيه الحكم لا الذي اعتبر فيه عدم الحكم وصرح الإمام والكاتبي بأن هذا هو المراد بالتصور الساذج والتصور فقط وحاصل التقسيم أن العلم إما أن يعتبر فيه الحكم وهو التصديق أولا وهوالتصور ومعناه أن التصديق هو الحكم مع ما يتعلق به من التصورات على ما هو صريح كلام الإمام لا الإدراك المقيد بالحكم على ما سبق إلى الفهم من عبارته حيث يقول أنه الإدراك المقارن للحكم أو الإدراك الذي يلحقه الحكم كيف وأنه يذكر ذلك في معرض الاستدلال على كون التصور جزأ منه ثم أنه كثيرا ما يصرح بأنه عبارة عن نفس الحكم ويجعل الحكم تارة من قبيل الأفعال وتارة ماهية مسماة بالكلام النفسي ليست من جنس الاعتقاد ولا الإرادة والجمهور على أنه نفس الحكم وأنه نوع من العلم متميز عن التصور بحقيقته لا يتعلق إلا بالنسبة بخلاف التصور حيث يتعلق بها وبغيرها ألا ترى أنك إذا شككت في حدوث العالم فقد تصورت العالم والحادث والنسبة بينهما من غير حكم وتصديق ثم إذا أقيم البرهان
____________________
(1/19)
فقد علمت النسبة نوعا آخر من العلم وهو المسمى بالحكم والتصديق وحقيقته إذعان النفس وقبولها لوقوع النسبة أولا وقوعها ويعبر عنه بالفارسية بكر ويدن على ما صرح به ابن سينا وهذا ما قال في الشفاء التصور في قولك البياض عرض هو أن يحدث في الذهن صورة هذا التأليف وما يؤلف منه كالبياض والعرض والتصديق هو أن يحصل في الذهن نسبة هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لها والتكذيب يخالف ذلك وفي هذا الكلام إشارة إلى أن مدلول الخبر والقضية هو الصدق وإنما الكذب احتمال عقلي وليس فيه انحصار التصديق في المطابق كما توهم إذلا يلزم من حصول الشيء كالمطابقة مثلا في النفس تحققه في الواقع قوله والضرورة قاضية يعني أن كلا من التصور والتصديق ينقسم إلى النظري والضروري لأنا نجد في أنفسنا احتياج بعض التصورات والتصديقات إلى النظر كتصور الملك والجن والتصديق بحدوث العالم واستغناء بعضها عنه كتصور الوجود والعدم والتصديق بامتناع اجتماع النقيضين والمراد الاحتياج والاستغناء بالذات حتى يكون الحكم المستغنى في نفسه عن النظر ضروريا وإن كان طرفاه بالكسب على ما تقرر عند الجمهور من أن التصديق الضروري مالا يتوقف بعد تصور الطرفين على نظر وكسب وعبارة المواقف وهو أن البعض ضروري بالوجدان والبعض نظري بالضرورة ربما يوهم أن الثاني ليس بالوجدان لكن المراد ما ذكرنا وفسر القاضي أبو بكر العلم الضروري بما يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد إلى الانفكاك عنه سبيلا وقيد بالمخلوق لأن الضروري والنظري من أقسام العلم الحادث واعترض عليه بأن النفس قد تنفك عن العلم الضروري بأن يزول بعد الحصول لطريان شيء من أضداد العلم كالنوم والغفلة أو بأن لا يحصل أصلا لانتفاء شرط من شرائطه مثل التوجه وتصور الطرفين واستعداد النفس والإحساس والتجربة ونحو ذلك مما يتوقف عليه بعض الضروريات وأجيب بأن المراد أنه لا يقتدر على الانفكاك والانفكاك فيما ذكرتم من الصور ليس بقدرة المخلوق وهذا ما قال في المواقف أن عبارته مشعرة بالقدرة يعني يفهم من قولنا يجد فلان سبيلا إلى كذا أو لا يجد أنه يقتدر عليه أو لا يقتدر والحاصل إن إطلاق الضروري على العلم مأخوذ من الضرورة بمعنى عدم القدرة على الفعل والترك كحركة المرتعش ولذا قد يفسر بما لا يكون تحصيله مقدورا للمخلوق إلا أن قيد الحصول مراد ههنا بقرينة جعل الضروري من أقسام العلم الحادث ومصرح في عبارة القاضي ليخرج العلم بمثل تفاصيل الأعداد والأشكال مما لا قدرة للعبد على تحصيله ولا على الانفكاك عنه فإن قيل يرد على طرد العبارتين العلم الحاصل بالنظر إذ لا قدرة حينئذ على تحصيله ولا على الانفكاك عنه أجيب عنه بأن المعتبر في الضروري نفي القدرة دائما وفي النظري إنما تنتفى القدرة بعد الحصول
____________________
(1/20)
إذ قبله يقتدر على التحصيل بأن يكتسب وعلى الانفكاك بأن لا يكتسب فإن قيل سلمنا أن مراد القاضي نفي الاقتدار على الانفكاك إلا أن السؤال باق بعد لأن الانفكاك سواء كان مقدورا أو غير مقدور ينافي اللزوم قلنا أراد باللزوم الثبوت أو امتناع الانفكاك بالقدرة على أن يكون آخر الكلام تفسيرا لأوله وفسر النظري بما يتضمنه النظر الصحيح بمعنى أنه لا ينفك عنه بطريق جرى العادة عند حصول الشرائط ولم يقل ما يوجبه لما سيجيء من أن حصول النتيجة عقيب النظر ليس بطريق الوجوب ولم يقل ما يحصل عقيب النظر الصحيح لأن من الضروريات ما هو كذلك كالعلم بما يحدث حينئذ من اللذة أو الألم ولو قال ما يفيده النظر الصحيح وأراد الاستعقاب العادي لكان أظهر والكسبي يقابل الضروري ويرادف النظري فيمن يجعل طريق الاكتساب هو النظر لا غير وأما فيمن يجوز الكسب بمثل التصفية والإلهام ولا يجعله مشتملا على النظر فالكسبي أعم من النظري ولا تلازم بينهما عادة على ما في المواقف إلا أن يجعل مثل التصفية والإلهام من خوارق العادات وقد يقال الكسبي لما يحصل بمباشرة الأسباب اختيارا كصرف العقل أو الحس والضروري لما يقابله ويخص الكسبي النظري باسم الاستدلالي قال واختار الإمام أقول اختار الإمام الرازي أن كل ما يحصل من التصورات فهو ضروري لأن الاكتساب ممتنع من جهة المكتسب أعني المط والكاسب أعني طريق اكتسابه أما الأول فلان المط إما أن يكون معلوما فلا يمكن طلبه واكتسابه لامتناع تحصيل الحاصل أو يكون مجهولا فلا يمكن التوجه إليه ثم اعترض بوجهين أحدهما أنه لم لا يجوز أن يكون معلوما من وجه فيتوجه إليه مجهولا من وجه فيطلب وثانيهما النقض باكتساب التصديق مع جريان الدليل فيه فأجاب عن الأول بأنه إما أن يطلب من وجهه المعلوم وهو محال لامتناع تحصيله أو من وجهه المجهول وهو مح لامتناع التوجه إليه وعن الثاني بأن ما يتعلق به التصديق كالقضية أو النسبة معلوم بحسب التصور فلا يمتنع التوجه إليه ومجهول بحسب التصديق فلا يمتنع طلب حصوله وهذا بخلاف التصور فإن ما يكون مجهولا بحسب التصور يكون مجهولا مطلقا إذ لا علم قبل التصور وحاصله أن متعلق التصديق يجوز أن يتعلق به قبل التصديق علم هو التصور بخلاف متعلق التصور وأجيب بأنا نختار أنه معلوم من وجه ولا تم امتناع التوجه حينئذ إلى وجهه المجهول وإنما يمتنع لو لم يكن الوجه المعلوم من وجوهه واعتباراته بحيث يخرجه عن كونه مجهولا مطلقا وذلك كما إذا علمنا أن لنا شيئا به الحيوة والإدراكات فنطلبه بحقيقته أو بعوارضه المميزة عن جميع ما عداه على ما هو المستفاد من الحد أو الرسم فالمجهول المط لا ينحصر في الحقيقة ولا في العارض وما ذكر في المواقف من أن المجهول هو الذات والمعلوم بعض الاعتبارات تحقيق لما هو الأهم أعني إمكان اكتساب
____________________
(1/21)
التصور بحسب الحقيقة وتنبيه على أن مجهولية الذات لازمة فيما يطلب تصوره حتى لو علم الشيء بحقيقته وقصد اكتساب بعض العوارض له كان ذلك بالدليل لا التعريف ولو قصد اكتساب العارض نفسه كان هو مجهولا بحقيقته وما ذكر في تلخيص المحصل من أن كلا من الوجه المجهول والمعلوم حاصل لأمر ثالث هو المط إلزام للإمام بما اعترف به من أن المعلوم إجمالا معلوم من وجه مجهول من وجه والوجهان متغايران أحدهما معلوم لا إجمال فيه والآخر ليس بمعلوم البتة لكن لما اجتمعا في شيء ظن أن هناك علما إجماليا وإلا فقد ذكر هو في نقد تنزيل الأفكار أن المط المجهول هو حقيقة الماهية المعلومة من جهة بعض عوارضها وأما الثاني فلأن الكاسب أعني المعرف للماهية يمتنع أن يكون نفسها لامتناع كون الشيء أجلى وأسبق معرفة من نفسه بل يكون إما جميع أجزائها وهو نفسها فيعود المحذور وإما بعضها أو خارجا عنها ويندرج فيه المركب من الداخل والخارج ومن أفرده بالذكر أراد بالداخل والخارج المحض من ذلك ثم البعض إنما يعرف الماهية إذا عرف شيئا من أجزائها إذ لو كانت الأجزاء بأسرها معلومة أو بقيت مجهولة لم يكن المعرف معرفا أي سببا لمعرفة الماهية وموصلا إلى تصورها فالجزء المعرف إن كان نفسه عاد المحذور وإن كان غيره لزم التعريف بالخارج ضرورة كون كل جزء خارجا عن الآخر ولو فرض تداخلها بنقل الكلام إلى تعريفه الجزء المركب منه ومن غيره فيعود المحذور أو التعريف بالخارج وهو أيضا بطلان الخارج إنما يفيد معرفة الماهية إذا علم اختصاصه بها بمعنى ثبوته لها ونفيه عن جميع ما عداها وهذا تصديق يتوقف على تصور الماهية وهو دور وتصور ما عداها من الأمور الغير المتناهية على التفصيل وهو محال وفي عبارة الموقف هنا تسامح حيث قال والبعض أن عرف الماهية عرف نفسه وقد أبطل والخارج وسنبطله لأن الذي سيبطل هو التعريف بالخارج لا للخارج وكأنه على حذف الباء أي عرف بالخارج أو عرف الأمر الذي شأنه أن يكون خارجا عن سائر الأجزاء فيكون البعض المعرف خارجا عنه ويلزم التعريف بالخارج لا للخارج وإنما ادعى لزوم المحالين على ما هو تقرير المحصل بناء على أن معرف الماهية معرف لكل جزء منها ولظهور المنع عليه اقتصرنا على أحدهما كما هو تقرير المطالب العالية ثم لا يخفى أن القدح في بعض مقدمات هذا الاستدلال كاف في دفعه إلا أنهم لما جوزوا التعريف بجميع الأجزاء وبالبعض وبالخارج احتجنا إلى التقصي عن الإشكالات الثلاث أما عن الأول فبان جميع الأجزاء وإن كانت نفس الماهية بالذات لكن إنما يمتنع التعريف بها لو لم تغايرها بالاعتبار وتحقيقه أن الأجزاء قد تتعلق بها تصورات متعددة بأن تلاحظ واحدا واحدا على التفصيل والترتيب فيكون كاسبا أي حدا وقد يتعلق بها تصور واحد بأن يلاحظ المجموع من حيث المجموع فيكون مكتسبا أي محدودا وهذا معنى
____________________
(1/22)
قولهم في المحدود إجمال وفي الحد تفصيل ولا امتناع في أن يكون تصور المجموع مترتبا على مجموع التصورات ومسببا عنها فإن قيل إذا كان مجموع التصورات مفضيا إلى تصورات المجموع فإن كانت حاصلة كان هو أيضا حاصلا من غير أثر للنظر والاكتساب وإن لم تكن حاصلة لم يصلح معرفا بل تكون مطلوبة وينقل الكلام إلى ما يحصلها وكذا الكلام في التعريف ببعض الأجزاء أو بالخارج بل في اكتساب التصديقات قلنا يجوز أن تكون الأجزاء معلومة منتشرة في سائر المعلومات فيفتقر إلى النظر لاستحضارها مجموعة مترتبة بحيث تفضي إلى تصور الماهية وهذا معنى الاكتساب وحاصله عائد إلى تحصيل الجزء الصوري وعلى هذا فقس وقال في المواقف قدحا في قولهم لمجموع التصورات يحصل تصورالمجموع والحق ان الأجزاء إذا استحضرت مترتبة حتى حصلت فهي الماهية لا أن ثمة حصول مجموع يوجب حصول شيء آخر هو الماهية وهذا كالأجزاء الخارجية إذا حصلت كانت نفس المركب الخارجي لا أمرا يترتب عليه المركب وظاهره غير قادح لأنهم لا يدعون أن مجموع الأجزاء أمر يوجب حصوله حصول أمر آخر هو الماهية بل إنه يجوز أن يكون تصورات الأجزاء أمرا يوجب حصول أمر آخر هو تصور المجموع أعني تصور الماهية فإن أراد نفي ذلك فباطل لا يشهد له ضرورة ولا برهان بل يكذبه الوجدان ولا عبرة بالقياس على الوجود الخارجي لأنه لا حجر في تصرفات العقل فله أن يلاحظ الموجود الواحد تارة جملة وتارة شيئا فشيئا ولم يزد في حل الإشكال على أن قال الحد مجموع الأمور التي كل واحد منها مقدم ولا يجدي نفعا لأن المحدود أيضا كذلك فلا بد في بيان المغايرة والسببية من أن يقال تلك الأمور من حيث الملاحظة تفصيلا حد وإجمالا محدود وهو معنى كلامهم وأما عن الثاني فبإنا لا نسلم أن معرف الماهية يجب أن يعرف شيئا من أجزائها لجواز أن تكون الأجزاء معلومة وتفتقر إلى حضورها مجموعة مترتبة ممتازة عما عداها ويكون ذلك بالمعرف وحاصله أن الماهية وإن كانت نفس الأجزاء بحسب الذات لكن لا يلزم أن يكون العلم بها هو العلم بالأجزاء بمعنى التصورات المتعلقة بها بل لا بد من ملاحظتها مجتمعة متميزة عن الأغيار ويجوز أن تبقى الأجزاء مجهولة ويفيد المعرف تصورالماهية بوجه يمتاز عما عداها من غير إحاطة بحقيقة شيء من الأجزاء ولو سلم فيجوز أن يكون الجزء المعرف نفس المعرف بالذات ويعود التغاير إلى الإجمال والتفصيل كما في تعريف الماهية بأجزائها أو غيره ويصح التعريف بالخارج على ما سيجيء وبما ذكرنا يندفع ما يقال أن جميع أجزاء الماهية نفسها فكيف لا يكون العلم بها علما بها وأن معرف الشيء سبب لمعرفته أي حصوله في الذهن فكيف لا يحصل شيئامن أجزائه وإن علة حصول الشيء لو لم تكن علة لشيء من أجزائه لجاز حصول كل جزء بدونه فجاز حصول الكل بدونه فلم يكن
____________________
(1/23)
علة ولنعتبر بالهيئة الاجتماعية فإنها علة لحصول المركب وليست علة لحصول شيء من أجزائه وأما عن الثالث فبأنا لا نسلم أن التعريف بالخارج يتوقف على العلم باختصاصه بل على الاختصاص نفسه فإن الذهن ينتقل من تصور الملزوم إلى تصور لازمه الذهني وإن لم يتقدم العلم باللزوم ولو سلم فيكفي في ذلك تصور الشيء بوجه ما وتصور ما عداه إجمالا كما في اختصاص الجسم بهذا الحيز وإن كان مبنيا على امتناع كونه في حيزين واشتغال حيز بمتحيزين وإلى هذا التسليم نظر من قال الوصف الصالح لتعريف الشيء يجب أن يكون لازما بين الثبوت لأفراده بين الانتفاء عن جميع ما عداه وينبغي أن يعلم أنه وإن كان لازما بحسب الصدق لكن لا بد أن يكون ملزوما بحسب التصور وأجاب بعض المحققين عن الأول بمنع كون جميع أجزاء الماهية نفسها بل جزم بأنه باطل تمسكا بأن الأشياء التي كل واحد منها متقدم على الشيء يمتنع أن يكون نفس المتأخر ثم قال ويجوز أن يصير عند الاجتماع ماهية هي المتأخرة فتحصل معرفتها بها كما أن العلم بالجنس والفصل وبالتركيب التقييدي متقدم على العلم بالجنس المقيد بالفصل وهي أجزاؤه وبها يحصل العلم به ورد المنع تارة بدعوى الضرورة وتارة بالاستدلال بأن جميع أجزاء الشيء إن لم تكن نفسه فإما أن تكون خارجة عنه وهو ظاهر البطلان أو داخلة فيه فتركب الشيء منها ومن غيرها فلا تكون هي جميع الأجزاء بل بعضها وأيضا لو كان الشيء غير جميع الأجزاء فتمام حقيقته أما ذلك الغير وحده فلا يكون المفروض أجزاء أو مع الأجزاء فلا يكون جميعا وأما التمسك فضعيف لأن تقدم كل جزء على الشيء لا يستلزم تقدم الكل عليه ليمتنع كونه نفس المتأخر ولو كان هذا لازما لكان الكل متقدما على نفسه ضرورة تقدم كل جزء عليه والذي يلوح من كلامه أنه يريد بجميع أجزاء الشيء جميع الأمور الداخلة فيه من غير اعتبار التأليف والاجتماع وبالمركب تلك الأمور مع الاجتماع على ما قال الكشي أن مجرد جميع أجزاء الشيء ليس نفسه وإنما نفسه تلك الأجزاء مع هيئة مخصوصة اجتماعية وحدانية بها هي هي لكن لا يخفى أن هذا رجع إلى ما ذكره البعض من أن الحد التام تعريف بجميع الأجزاء المادية إذ بحصولها في الذهن يحصل صورة مطابقة لما في الأعيان وقد رده هذا المحقق بأنه كما يعتبر في الحد التام الأجزاء المادية أعني الجنس والفصل يعتبر الجزء الصوري أعني الترتيب لأن التعريف بالجنس والفصل لا على الترتيب لا يكون حدا تاما ثم أصر على أن جميع الأجزاء المادية والصورية ليست نفس المركب لأنها علل وهو معلول لها ومن المعلوم بالبديهة أن محصل الاثنين بتحصيل واحد وبتحصيل واحد آخر وبضم أحدهما إلى الآخر ألا يكون محصلا للإثنين بنفسه بل يكون محصلا له بجميع أجزائه المادية والصورية قال المبحث الثالث أقول لما كانت العلوم النظرية تنتهي إلى الضروريات جعلوا إثباتها والرد على منكريها من مبادىء الكلام ليعلم أن ما يجعل
____________________
(1/24)
منتهى مقدمات القياس ويدعي كونه ضروريا هل هو منها ولم يشتغلوا بضبط التصورات الضرورية وكأنها ترجع إلى البديهيات والمشاهدات وحصروا التصديقات الضرورية في ست البديهيات والمشاهدات والفطريات والمجريات والمتواترات والحدسيات لأن القضايا إما أن تكون تصور أطرافها بعد شرائط الإدراك من الالتفات وسلامة الآلات كافيا في حكم العقل أولا فإن كان كافيا فهي البديهيات وإن لم يكن كافيا فلا محالة يحتاج إلى أمر ينضم إلى العقل ويعينه على الحكم أو إلى القضية أو إليهما جميعا فالأول المشاهدات لاحتياجها إلى الإحساس والثاني لا يخلو من أن يكون ذلك الأمر لازما وهي الفطريات أو غير لازم وحينئذ إن كان حصوله بسهولة فهي الحدسيات وإلا فليست من الضروريات بل من النظريات والثالث إن كان حصوله بالأخبار فالمتواترات وإلا فالمجريات أما البديهيات وتسمى أوليات فهي قضايا بحكم العقل بها بمجرد تصور طرفيها كالحكم بأن الواحد نصف الاثنين والجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين وقد يتوقف فيه العقل لعدم تصور الطرفين كما في قولنا الأشياء المتساوية لشيء واحد متساوية أو لنقصان الغريزة كما في الصبيان والبله أو لتدنيس الفطرة بالعقائد المضادة كما في بعض الجهال أو لأن الله لا يخلقه على ما هو المذهب وأما المشاهدات فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة الحواس الظاهرة وتسمى حسيات كالحكم بأن الشمس نيرة والنار حارة أو الباطنة وتسمى وجدانيات كالحكم بأن لنا خوفا وغضبا ومنها ما نجده بنفوسنا لا بالآلات البدنية كشعورنا بذواتنا وأحوالها وجميع أحكام الحس جزئية لأنه لا يفيد إلا أن هذه النار حارة وأما الحكم بأن كل نار حارة فحكم عقلي حصل بمعونة الإحساس بجزئيات ذلك الحكم والوقوف على علله وأما الفطريات فقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عنه عند تصور الطرفين وهو المعنى بأمر لازم منضم إلى القضية ولهذا تسمى قضايا قياساتها معها كالحكم بأن الأربعة زوج لانقسامها بمتساويين وأما المجربات فهي قضايا يحكم بها العقل بانضمام تكرر المشاهدة إليه والقياس الخفي المنتج لليقين إليها وهوان الوقوع المتكرر على نهج واحد لا بدله من سبب وإن لم يعرف ماهيته فكلما علم وجود السبب علم وجود المسبب قطعا وذلك كالحكم بأن السقمونيا مسهل للصفراء وأما المتواترات فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة كثرة شهادة المخبرين بأمر ممكن مستند إلى المشاهدة كثرة يمتنع تواطؤهم على الكذب فينضم إلى العقل سماع الأخبار وإلى القضية قياس خفي هو أنه لو لم يكن هذا الحكم حقا لما أخبر به هذا الجمع وأما الحدسيات فهي قضايا يحكم بها العقل بحدس قوي من النفس يزول معه الشك ويحصل اليقين بمشاهدة القرائن كالحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس لما نرى من اختلاف تشكلات نوره بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس وذلك أنه يضيء دائما
____________________
(1/25)
جانبه الذي يلي الشمس وينتقل ضوءه إلى مقابلة الشمس فيحدس العقل بأنه لو لم يكن نوره من الشمس لما كان كذلك فهي كالمجربات في تكرر المشاهدة ومقارنة القياس الخفي إلا أن السبب في المجربات معلوم السببية غير معلوم الماهية وفي الحدسيات معلوم بالوجهين إلا أن الوقوف عليه يكون بالحدس دون الفكر وإلا لكان من العلوم الكسبية وستعرف معنى الحدس في بحث النفس قال وقد تنحصر في البديهيات والمشاهدات ذكر في المحصل أن الضروريات هي الوجدانيات وأنها قليلة النفع في العلوم لكونها غير مشتركة والحسيات والبديهيات وتبعه صاحب المواقف إلا أنه ذكر في موضع آخر أن الضروريات هي الست المذكورة والوهميات في المحسوسات كالحكم بأن كل جسم في جهة واعتذر لما في المحصل بوجهين أحدهما أن البديهيات تشمل الفطريات نظرا إلى أن الوسط لما كان لازما لتصور الطرفين فكان العقل لم يفتقر إلا إلى تصورهما والحدسيات تشمل المجربات والمتواترات نظرا إلى استناد حكم العقل فيهما إلى الحس لكن مع التكرر وكذا الحدسيات وثانيهما أن كون المجربات والمتواترات والحدسيات من قبيل الضروريات موضع بحث على ما فصله الإمام في الملخص لاشتمال كل منها على ملاحظة قياس خفي وكذا القضايا التي قياساتها معها ونازع بعضهم في كون المجربات والحدسيات من قبيل اليقينيات فضلا عن كونها ضرورية بل جعل كثير من العلماء الحدسيات من قبيل الظنيات ثم المحققون من القائلين بأن هذه الأربعة ليست من الضروريات على أنها ليست من النظريات أيضا بل واسطة لعدم افتقارها إلى الاكتساب الفكري وبهذا يشعر كلام الإمام حجة الإسلام حيث قال العلم الحاصل بالتواتر ضروري بمعنى أنه لا يحتاج إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن وليس ضروريا بمعنى الحاصل من غير واسطة كما في قولنا الموجود ليس بمعدوم فإنه لا بد فيه من حصول مقدمتين إحداهما أن هؤلاء مع كثرتهم واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع الثانية إنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة لكنه لا يفتقر إلى ترتيب المقدمتين ولا إلى الشعور بتوسطهما وبإفضائهما إليه وبهذا يظهر أن النزاع لفظي مبني على تفسير الضروري أنه الذي لا يفتقر إلى واسطة أصلا أو الذي نجد أنفسنا مضطرين إليه فإن قيل المتواترات من قبيل المحسوسات بحس السمع فيجب أن يكون ضروريا بلا نزاع كالعلم بأن النار حارة قلنا الكلام في العلم بمضمون الخبر المسموع تواترا كوجود مكة مثلا وهو معقول آلته يتكرر السماع حتى إذا كان المسموع المتواتر خبرا عن نسبة خبر إلى صادق كان العلم بمضمون ذلك الخبر اكتسابيا وفاقا مثلا إذا توتر الإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال البينة على المدعي واليمين على من أنكر فالعلم بأن هذا صوت المخبرين ضروري مأخوذ من الحس والعلم بأن الخبر المنقول كلام النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(1/26)
هو المستفاد من القضية التي من قبيل المتواترات المتنازع في أنه ضروري أو غير ضروري والعلم بأن البينة تجب على المدعي كسبي مستفاد من ترتيب المقدمتين أعني أن هذا خبر النبي عليه السلام وكل ما هو خبر النبي عليه السلام فمضمونه حق لما ثبت من صدقه بدلالة المعجزات وما يقال أن هذا الحديث متواتر فمعناه أن الخبر بكونه كلام النبي صلى الله عليه وسلم متواتر سواء كان هو في نفسه خبرا أو إنشاء ( قال وأما المنكرون ) قد ثبت اتفاق أهل الحق على أن الحسيات والبديهيات مبادىء أول لما يقوم حجة على الغير وأنكر ذلك جماعة فمنهم من قدح ذلك في الحسيات وحصرالمبادىء الأول في البديهيات ومنهم من عكس ومنهم من قدح فيهما جميعا ولكل من الفرق شبه وقد أطنب الإمام فيها بتكثير الأمثلة ونسب القول بعدم كون الحسيات من اليقينيات إلى أكابر الفلاسفة ورد بأن أكثر علومهم اليقينية مبنية عليها والمبادىء أول الضرورية مستندة إليها على ما صرحوا بأن مبادىء المجربات والمتواترات والحدسيات هي الإحساس بالجزئيات وأن الأوليات يكتسبها الصبيان باستعداد يحصل لعقولهم من الإحساس بالجزئيات فكيف ينسب إليهم القول بأنها ليست يقينية واعتذر بأن المراد أن جزم العقل بالأحكام المأخوذة من الحس قد تتوقف على شرائط ربما لا يعلم ما هي ومتى حصلت وكيف حصلت فلذلك جعلوا لبيان مواضع الغلط في المحسوسات وإن أي أحكامها تكون يقينية وأيها تكون غير يقينية صناعة المناظر كما جعلوا لبيان ذلك في المعقولات صناعة سوفسطيقا وما ذكر في تلخيص المحصل من أنه لا حكم للحس لأنه ليس من شأنه التأليف الحكمي بل الإدراك فقط وإنما الحكم للعقل ليس رد الكلام الإمام بالمناقشة في أن الحاكم هو الحس أو العقل بواسطته بل لما رتب عليه من المقصود حيث قال فالمحسوس من حيث أنه محسوس لا يوصف بكونه يقينيا أو غير يقيني وإنما يوصف به من حيث مقارنته لحكم العقل وحينئذ يصير المعنى أن أحكام العقل في المحسوسات ليست بيقينية لما قد يقع فيها من الغلط وهذا لا يختص بالمحسوسات لأن المعقولات الصرفة أيضا قد يقع فيها الغلط ولا تصح نسبته إلى الحكماء لتصريحهم بخلاف ذلك نعم لما ذكر الإمام أنه ثبت بما ذكر من الشبه أن حكم الحس قد يكون غلطا فلا بد من حاكم آخر فوقه يميز صوابه عن خطأه فلا يكون الحس هو الحاكم الأول رده بأن الحس ليس بحاكم أصلا بل الحاكم في الكل هو العقل وأما اشتغاله ببيان أسباب الغلط فيما أورده الإمام من الصور فقد اعترف بأنه تنبيه لمن يثق أو يعترف بالوثوق على الأوليات والمحسوسات ببيان التقصي عن مضايق مواضع الغلط ثم إحالة تصويب الصواب وتخطئة الخطاء إلى صريح العقل من غير افتقار إلى دليل في الوثوق بالمحسوسات ولا جواب عن شيء من الشكوك ولا تأمل في الأسباب وحصرها وانتفائها ونحو ذلك وحاصل الشكوك أنه لا وثوق على حكم الحس أما في الكليات
____________________
(1/27)
فلأنه لا يحيط بها كيف وهي لا تقتصر على الأفراد المحققة وأما في الجزئيات فلأنه كثيرا ما يكون حكمه فيها غلطا بأن يقع الحكم في المحسوسات على خلاف ما هو عليه فإنا نرى الصغير كبيرا وبالعكس والواحد كثيرا وبالعكس والساكن متحركا إلى غير ذلك كما نرى العنبة في الماء كالإجاصة والجرة من بعيد كالكوز والقمر في الماء قمرين والألوان المختلفة في الخطوط المخرجة من مركز الرحى إلى محيطها عند إدارتها لونا واحدا ممتزجا من الكل ويرى من في السفينة السفينة ساكنة وهي متحركة والشط متحركا وهو ساكن إلى غير ذلك والجواب أن غلطه في بعض الصور لا ينافي الجزم المطابق في كثير من الصور كما في الحكم بأن الشمس مضيئة والنار حارة إذا لعقل قاطع بأنه لا غلط هناك من غير افتقار إلى نظر وإن كان ذلك بمعونة أمور لا تعلم على التفصيل وهذا ما قال في المواقف إن مقتضى ما ذكر من الشبه أن لا يجزم العقل بأحكام المحسوسات لمجرد الحس إلا أن لا يوثق بجزمه بما جزم به وكونه محتملا أي ولا أن يكون كل ما جزم به العقل من أحكام المحسوسات محتملا أي بصدد الاحتمال بناء على عدم الوثوق بما وقع فيه من الجزم فقوله وكونه محتملا مرفوع معطوف على أن لا يوثق لا مجرور معطوف على جزمه كما يتوهم إذ ليس فيه كثير معنى قال ومنهم من قدح في البديهيات قالوا أنها فرع الحسيات لأن الإنسان إنما يتنبه للبديهيات بعد الإحساس بالجزئيات والتنبه لما بينهما من المشاركات والمباينات ولا يلزم من القدح في الفرع القدح في الأصل وإنما يلزم لو كان الفرع لازما له نظرا إلى ذاته ووجه القدح أن أجلى التصديقات البديهية وإعلاها قولنا النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان بمعنى أن الشيء إما أن يكون وإما أن لا يكون وهذا غير موثوق به أما كونه أجلى فجلي وأما كونه أعلى أي أسبق فلتوقف الكل عليه واستنادها إليه مثلا يلاحظ في قولنا الكل أعظم من الجزء أنه لو لم يكن كذلك لكان الجزء الآخر كائنا وليس بكائن وفي قولنا الجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين أنه لو وجد فيها لكان الواحد اثنين فيكون أحد المثلين كأئنا وليس بكائن وعلى هذا القياس وأما عدم الوثوق فلأن العلم بحقيقة هذه القضية وقطعيتها يتوقف على تصور الوجود والعدم أعني الكون واللاكون وعلى تحقيق معنى كون الشيء موضوعا وكونه محمولا وعلى دفع الشبهات التي تورد على الأمرين وهذه الأمور الثلاثة إنما نتبين بأنظار دقيقة فإن تمت الأنظار وحصلت المطالب ويتوقف لا محالة على حقية هذه القضية لكونها أول الأوائل لزم الدور وكون الشيء نظريا على تقدير كونه ضروريا وهو محال وإن بقي شيء منها في حيز الإبهام لم يحصل الجزم بالقضية وهو المرام والجواب أن بديهة العقل جازمة بها وبحقيتها من غير نظر واستدلال في تحقيق النسبة ولا في دفع الشبهة وما يورد من الشكوك لا يورث قدحا في ذلك الجزم ولا يمكن دفعه
____________________
(1/28)
بالنسبة إلى من لا يعترف بالبديهيات فإن شئنا أعرضنا عنه وإن شئنا نبهناه عسى أن يعترف أو يحصل له استعداد النظر واستحقاق المباحثة فمن الشبه أن هذا التصديق يتوقف على تصور الوجود والعدم وغيرهما وهذا يقتضي الثبوت ولو في الذهن وثبوت العدم المطلق مناقض ثم لا بد من إمكان سلب العدم المطلق ليتحقق الوجود في الجملة فيكون هذاالسلب قسما من العدم المطلق لكونه عدما مضافا وقسيما له لكونه رفعا له وسلبا والجواب أنه لااستحالة في كون المعنى لا ثابتا من حيث الذات والمفهوم وثابتا من حيث الحصول في العقل ولا في كونه قسما من العدم من حيث كونه عدما مضافا وقسيما له من حيث المفهوم وسيجيء لهذا زيادة تحقيق في بحث العدم ومنها أن الوجود إن أخذ في هذه القضية المنفصلة محمولا بمعنى أن الجسم إما كائن أو ليس بكائن فإما أن يكون وجود الشيء نفس ماهيته فيلزم كون الجزء الإيجابي لغوا مع أنه مفيد قطعا وكون الجزء السلبي مناقضا لأن إطلاق السلب يناقض دوام الإيجاب وإما أن يكون غيرها فيلزم في الإيجاب قيام الوجود بما ليس بموجود إن أخذ الموضوع خاليا عن الوجود وتسلسل الموجودات إن أخذ موجودا وسيجيء بيانه وجوابه في بحث الوجود وأيضا يلزم كون الشيء غيره وفيه اتحاد الاثنين ويلزم في السلب تعقل النفي المستلزم لثبوته وخلو الماهية عن الوجود المستلزم لقيام الوجود بالمعدوم عند ثبوته لها والجواب أنه لا امتناع في كون الشيئين متغايرين باعتبار متحدين باعتبار على ما تقرر من أن بين الموضوع والمحمول تغايرا بحسب المفهوم واتحادا بحسب الهوية والمعنى أن ما يقال له الجسم هو بعينه يقال له الموجود وكذا لا امتناع في كون النفي المطلق ثابتا من حيث الحصول في العقل ولا في قيام الوجود بما لم يكن موجودا على ما سيجيء إن شاء الله تعالى هذا كله إذا أخذ الوجود محمولا وأما إذا أخذ رابطة بأن يقال الجسم إما أن يكون أسود أو لا يكون أسود فيلزم في الجزء الإيجابي اتحاد الاثنين وقد سبق بجوابه وأيضا لما كان المحمول هنا وصفا كان للموضوع موصوفية وهي وجودية لأن نقيضها اللاموصوفية وهي عدمية ويتصف بها الجسم ضرورة فيتسلسل الموصوفيات ولا تندفع بكونها من الاعتبارات العقلية لأن الموصوفية نسبة فتقوم بالمنتسبين لا بالعقل ولأن حكم العقل إن لم يطابق الخارج كان جهلا فإذا بطل الإيجاب تعين أن يكون الصادق دائما هو الجزء السلبي وأنتم لا تقولون بذلك بل تجوزون صدق الإيجاب في الجملة والجواب ما سيجيء من أن صورة السلب كاللا موصوفية لا يلزم أن تكون عدمية ولو سلم فنقيض العدمي لا يلزم أن يكون وجوديا وإن الأحكام الذهنية لا يكون صدقها باعتبار المطابقة لما في الخارج وحصول النسب والإضافات في العقل فقط لا ينافي انتسابها إلى الأمور الخارجية لأن معناه أن تلك الأمور بحيث إذا عقلها عاقل حصلت في عقله تلك النسب والإضافات ومنها
____________________
(1/29)
أنا لا نسلم عدم الواسطة بين الوجود والعدم وسيجيء بجوابه على أنها لا تعقل بين الكون واللاكون وما ذكر في المواقف من أن القائلين بها بلغوا في الكثرة حدا يقوم الحجة بقولهم معناه أنه قد يكون حجة وذلك عند الإخبار عن محسوس ففي المعقول يكون شبهة لا أقل قال ومنهم من قدح فيهما أي في الحسيات والبديهيات جميعا وهم السوفسطائية قال في تلخيص المحصل أن قوما من الناس يظنون أن السوفسطائية قوم لهم نحلة ومذهب ويتشعبون إلى ثلث طوائف اللاأدرية وهم الذين قالوا نحن شاكون وشاكون في أنا شاكون وهلم جرا والعنادية وهم الذين يقولون ما من قضية بديهية أو نظرية إلا ولها معارضة ومقاومة مثلها في القبول والعندية وهم الذين يقولون مذهب كل قوم حق بالقياس إليهم وباطل بالقياس إلى خصومهم وقد يكون طرفا النقيض حقا بالقياس إلى شخصين وليس في نفس الأمر شيء بحق والمحققون على أن السفسطة مشتقة من سوفا أسطا ومعناه علم الغلط والحكمة المموهة لأن سوفا اسم للعلم وأسطا للغلط ولا يمكن أن يكون في العالم قوم ينتحلون هذا المذهب بل كل غالط سوفسطائي في موضع غلطه ثم لا يخفى ما في كلام العنادية والعندية من التناقض حيث اعترفوا بحقية إثبات أو نفي سيما إذا تمسكوا فيما ادعوا بشبهة بخلاف اللاأدرية فإنهم أصروا على التردد والشك في كل ما يلتفت إليه حتى في كونهم شاكين وتمسكوا بأنه لا وثوق على حكم الحس والعقل لما مر من شبه الفريقين ولا على الاستدلال لكونه فرعهما فلم يبق إلا طريق التوقف وغرضهم من هذا التمسك حصول الشك والتهمة لا إثبات أمرا ونفيه فلهذا كانوا مثل طريقة من العنادية والعندية والمحققون على أنه لا سبيل إلى البحث والمناظرة معهم لأنها لإفادة المجهول بالمعلوم وهم لا يعترفون بمعلوم أصلا بل يصرون على إنكار الضروريات أيضا حتى الحسيات والبديهيات وفي الإشتغال بإثباتهما التزام لمذهبهم وتحصيل لغرضهم من كون الحسيات والبديهيات غير حاصلة بالضرورة بل مفتقرة إلى الاكتساب إذ عندنا لا يتصور كون الضروري مجهولا يستفاد بالمعلوم فالطريق معهم التعذيب ولو بالنار فإما أن يعترفوا بالألم وهو من الحسيات وبالفرق بينه وبين اللذة وهو من العقليات وفيه بطلان لمذهبهم وانتفاء لملتهم وإما أن يصروا على الإنكار فيحترقوا وفيه اضمحلال لثائرة فتنهم وانطفاء لنائر شعلتهم قال الفصل الثالث في النظر أورد فيه ستة مباحث أولها في بيان حقيقته ولا خفاء في أن كل مطلوب لا يحصل من أي مبدأ يتفق بل لا بد من مباد مناسبة له والمبادي لا توصل إليه كيف اتفقت بل لا بد من هيئة مخصوصة فإذا حاولنا تحصيل مطلوب تصوري أو تصديقي ولا محالة يكون مشعورا به من وجه تحركت الناس منه
____________________
(1/30)
في الصور المخزونة عندها منتقلا من صورة إلى صورة إلى أن يظفر بمباديه من الذاتيات والعرضيات والحدود الوسطى فيستحضرها متعينة متميزة ثم يتحرك فيها لترتيبها ترتيبا خاصا يؤدي إلى تصور المطلوب بحقيقته أو بوجه يمتاز عما عداه أو إلى التصديق به يقينا أو غير يقين فههنا حركتان يحصل بأوليهما المادة وبالثانية الصورة والمبادي من حيث الوصول إليها منتهى الحركة الأولى ومن حيث الرجوع عنها مبدأ الحركة الثانية ومن حيث التصرف فيها لترتب الترتيب المخصوص مادة الثانية وحقيقة النظر مجموع الحركتين وهما من جنس الحركة في الكيف بتوارد الصور والكيفيات على النفس ولا محالة يكون هناك توجه نحو المطلوب وإزالة لما يمنعه من الغفلة والصور المضادة والمنافية وملاحظة للمعقولات ليؤخذ البعض ويحذف البعض وترتيب للمأخوذ وغاية يقصد حصولها وكثيرا ما يقتصر في تفسير النظر على بعض أجزائه أو لوازمه اكتفاء بما يفيد امتيازه أو اصطلاحا على ذلك فيقال هو حركة الذهن إلى مبادي المطلوب أو حركته عن المبادي إلى المطالب أو ترتيب المعلومات للتأدي إلى المجهول ويراد بالعلم الحضور عند العقل ليعم الظن والجهل المركب أيضا ويدخل التعريف بالفصل وحده أو بالخاصة وحدها بناء على أنه يكون بالمشتق كالناطق والضاحك وفيه شائبة التركيب والترتيب بين الموصوف والصفة أو يخص التفسير بالنظر المشتمل على التأليف والترتيب لندرة التعريف بالمفرد فلا يضر خروجه وهذا ما قال ابن سينا أن التعريف بالمفرد . . . خداج والإمام ذكر مكان المعلومات التصديقات بناء على ما ذهب إليه من امتناع اكتساب التصورات وكثيرا ما يجعله عبارة عن نفس العلوم المرتبة ومن قال ترتيب أمور معلومة أو مظنونة للتأدي إلى مجهول أراد بالعلم التصور والتصديق الجازم المطابق الثابت على ما هو معنى اليقين وبالظن ما يقابل اليقين فيتناول الظن الصرف والجهل المركب والاعتقاد على ما صرح به في شرح الإشارات وحينئذ لا يرد ما ذكر في المواقف من أن هذا ليس تفسيرا للنظر الصحيح والألزم أن يقيد الظن بالمطابقة ليخرج الفاسد من جهة المادة المظنونة الكاذبة وأن يقال بدل للتأدي بحيث يؤدي ليخرج الفاسد من جهة الصورة بل لمطلق النظر ومقدماته قد لا تكون معلومة ولا مظنونة بل مجهولة جهلا مركبا ولا يتناوله التفسير فلا يكون جامعا وقد يفسر بملاحظة المعقول لتحصيل المجهول ويراد بالمعقول الحاصل عند العقل واحدا كان أو أكثر تصورا كان أو تصديقا علما كان أو ظنا أو جهلا مركبا فلا يفتقر إلى شيء من التكلفات السابقة وفي كلام الإمام أن نظر البصيرة أشبه شيء بنظر البصر فكما أن من يريد إدراك شيء ببصره يقطع نظره عن سائر الأشياء ويحرك حدقته من جانب إلى جانب إلى أن يقع في مقابلة ذلك الشيء فيبصره كذلك من يريد إدراك شيء ببصيرته يقطع نظره عن سائر الأشياء ويحرك حدقة عقله من شيء
____________________
(1/31)
إلى شيء إلى أن يحصل له العلوم المرتبة المؤدية إلى ذلك المطلوب فمن ههنا يقال النظر تجريد الذهن عن الغفلات بمعنى إخلائه عن الصوارف والشواغل العائقة عن إشراق النور الإلهي الموجب لفيضان المطلوب أو تحديق العقل نحو المعقولات طلبا لما يعده لفيضان المطلوب عليه ولما كان امتياز النظر عن سائر حركات النفس بالغاية في غاية الظهور حتى إن شيئا من تفاسيره لا يخلو عن إشارة إليها ذهب المتكلمون إلى أنه الفكر الذي يطلب به علم أو ظن والمراد بالفكر حركة النفس في المعاني واحترز بقيد المعاني عن التخيل على ما قال في شرح الإشارات أن الفكر قد يطلق على حركة النفس بالقوة التي آلتها مقدم البطن الأوسط في الدماغ أي حركة كانت إذا كانت تلك الحركة في المعقولات وأما إذا كانت في المحسوسات فقد تسمى تخيلا فما وقع في المواقف أن المراد به الحركات التخييلية ليس كما ينبغي والصواب ما ذكر في شرح الأصول أنه انتقال النفس في المعاني انتقالا بالقصد وكأنه احترز بالقصد عن الحدس وعن سائر حركاتها لا عن قصد وبالجملة هو بمنزلة الجنس للنظر على ما قال إمام الحرمين أن الفكر قد يكون لطلب علم أو ظن فيسمى نظرا وقد لا يكون كأكثر حديث النفس فسقط اعتراض الآمدي بأن لفظ الفكر زائد لأن باقي الحد مغن عنه واعتذاره بأنه لم يجعله جزأ من الحد بل كأنه قال النظر الفكر وهو الذي يطلب به علم أو ظن وإن كان صحيحا من جهة أن الفكر في الاصطلاح المشهور كالمرادف للنظر لا أعم منه ليمتنع تفسيره بما يطلب به علم أو ظن لكنه بعيد من جهة أن العبارة لا تدل عليه أصلا ولم يعهد في التعريفات أن يقال الإنسان البشر الذي هو حيوان ناطق مثلا على أن مجرد قولنا الذي يطلب به علم أو ظن لا يصلح تفسيرا للنظر والفكر إلا بتكلف وأما اعتراضه بأن الظن قد لا يكون مطابقا وهو جهل يمتنع أن يكون مطلوبا فمدفوع بأن المطلوب هو الظن من حيث أنه ظن وهو لا يستلزم طلب الأخص أعني غير المطابق ليلزم طلب الجهل وفي عبارة القاضي أبي بكر علم أو غلبة ظن واعترض بأنه لا يتناول ما يطلب به أصل الظن وأجاب الآمدي بأن كلا من طلب العلم وطلب الظن وطلب غلبته خاصة للنظر ولا خلل في الاقتصار على بعض الخواص ورده في المواقف بأن هذا إنما يكون في الخاصة الشاملة وظاهر أن شيئا من الثلاثة ليست كذلك ولهذا لم يجز الاقتصار على قولنا يطلب به علم لخروج ما يطلب به ظن بل وجب في تعريف الشيء بالخواص التي لا يشمل كل منها إلا بعض اقسامه أن يذكر الجميع بطريق التقسيم تحصيلا لخاصة شاملة لكل فرد هي كونه على أحد الأوصاف وتقع كلمة أو لبيان أقسام المحدود لا للإبهام والترديد لينافي التحديد فأجاب بأن الظن هو المعبر عنه بغلبة الظن لأن الرجحان مأخوذ في حقيقته إذ هي الاعتقاد الراجح وهذا عذر غير واضح لأن اعتبار رجحان الحكم في حقيقته لا يصلح مصححا أو باعثا على التعبير عنه برجحان الظن اللهم إلا أن يريد
____________________
(1/32)
أن إضافة الغلبة إليه للاختصاص أي الرجحان المعتبر في الظن وليست من إضافة المصدر إلى الفاعل بمعنى كون الظن غالبا راجحا وقد يقال أن كلا من الثلث خاصة شاملة إذ ليس المراد طلب العلم أو الظن بالفعل بل أن يكون الفكر بهذه الحيثية وذلك بأن يكون حركة في المعقولات لتحصيل مبادي المطلوب فالفكر الذي يطلب به العلم هو الذي يطلب به الظن أو غلبته فلا يمتنع الاقتصار قوله المبحث الثاني النظر سواء جعلناه نفس الترتيب أو الحركة المفضية إليه يستدعي علوما مرتبة على هيئة مخصوصة يسمى الموصل منها إلى التصور معرفا وإلى التصديق دليلا وتكون العلوم أي الأمور الحاضرة مادة لذلك الموصل والهيئة المحصلة صورة له وقديضا فإن إلى النظر لهذه الملابسة أو إطلاقا للفكر والنظر على العلوم المرتبة كما في عبارة الإمام وهذا معنى كلام المواقف أن لكل ترتيب مادة وصورة ثم الشايع في عبارة البعض أن الصورة هي ذلك الترتيب إلا أن المحققين على أن الترتيب هو أن يكون لبعض أجزاء ذلك المجموع عند البعض وضع ما أو جعلها بهذه الحيثية والصورة هي الهيئة العارضة للأجزاء بعد الترتيب بسببها يقال لها أنها واحدة واتفقوا على أنه إن صحت المادة والصورة فالنظر صحيح يؤدي إلى المطلوب وإلا ففاسد لا يؤدي إليه وصحة المادة في المعرف أن يكون المذكور في معرض الجنس جنسا للماهية وفي معرض الفصل فصلا لها وفي معرض الخاصة خاصة شاملة لازمة وأن يكون المذكور في الحد التام الجنس والفصل القريبين إلى غير ذلك من الشرائط وفي الدليل أن تكون المقدمات مناسبة للمطلوب صادقة قطعا أو ظنا أو فرضا بحسب المطالب على ما بين في الصناعات الخمس وصحة الصورة في المعرف أن يقدم الأعم فيقيد بالفصل أو الخاصة بحيث تحصل صورة وحدانية موازية أو مميزة لصورة المطلوب وفي الدليل أن يكون على الشرائط المعتبرة في الإنتاج على ما فصل في أبواب القياس والاستقراء والتمثيل من المنطق فظهر أن في تقسيم النظر إلى الصحيح والفاسد باعتبار المادة والصورة تجوزا فلا يبعد تقسيمه إلى الجلي والخفي بهذا الاعتبار أيضا فإن أجزاء كل من المعرف والدليل قد تكون ضرورية تتفاوت في الجلاء والخفاء وقد تكون نظرية تنتهي إلى الضروري بوسايط أقل أو أكثر وكذا الصورة القياسية للأشكال وعبارة المواقف ربما توهم اختصاص التجوز بانقسام النظر إلى الجلي والخفي واختصاصه بالدليل دون المعرف وابتناء انقسام النظر إلى الصحيح والفاسد باعتبار المادة والصورة على تفسيره بالترتيب قال والصحيح المقرون بشرائطه قال الإمام لا نزاع في أن النظر يفيد الظن وإنما النزاع في إفادته اليقين فأنكره السمنية مطلقا وجمع من الفلاسفة في الآلهيات والطبيعيات حتى نقل عن أرسطو أنه قال لا يمكن تحصيل اليقين في المباحث الإلهية إنما الغاية القصوى فيها الأخذ بالأولى والأخلق وهذا أقرب بأن يكون محل النزاع
____________________
(1/33)
إذ لا يتصور تردد في أن الحاصل من ضرب الاثنين في الاثنين أربعة وبالجملة لما كان مقصود الإمام الرد على المنكرين اقتصر على أن النظر المفيد للعلم مطلقا أو في الإلهيات موجود في الجملة ولما قصد الآمدي إثبات قاعدة تنطبق على الأنظار الجزئية الصحيحة الصادرة عنا في اكتساب العلوم افتقر إلى إثبات الموجبة الكلية فقيد النظر بكونه في القطعيات إذ النظر في الظني لا يفيد العلم وفاقا وبأن لا يعقبه شيء من أضداد الإدراك كالنوم والغفلة والموت فإنه لا علم ح بل لا ظن أيضا وجعل كلا من الأمور المذكورة ضد اللاإدراك على ما هو رأي المتكلمين وإن لم يوافق اصطلاح الفلاسفة وتركنا لتقييد بالقطعي استغناء عنه بذكر الصحيح إذ النظر في الظني لطلب العلم يكون فاسدا من جهة المادة حيث لم يناسب المط وليتناول النظر المط به التصور هذا وظاهر كلام المتكلمين أنهم يريدون بالعلم والنظر عند الإطلاق ما يخص التصديقات وأن ما ذكرنا في قولهم العلم صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض والنظر فكر يطلب به علم أو ظن أنه يعم التصور والتصديق تكلف منا قال بمعنى حصوله عقيبه يشير إلى كيفية إفادة النظر للعلم فعندنا هي بخلق الله تعالى العلم عقيب تمام النظر بطريق إجراء العادة أي تكرر ذلك دائما من غير وجوب بل مع جواز أن لا يخلقه على طريق خرق العادة وذلك لما سيجيء من استناد جميع الممكنات إلى قدرة الله تعالى واختياره ابتداء وأثر المختار لا يكون واجبا ثم القائلون بهذا المذهب فرقتان منهم من جعله بمحض القدرة القديمة من غير أن يتعلق به قدرة العبد وإنما قدرته على إحضار المقدمتين وملاحظة وجود النتيجة فيهما بالقوة ومنهم من جعله كسبيا مقدورا وعند المعتزلة بطريق التوليد ومعناه أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر كحركة اليد لحركة المفتاح فالنظر على أي تفسير فسر فعل للناظر يوجب فعلا آخر له هو العلم إذ معنى الفعل ههنا الأثر الحاصل بالفاعل لا نفس التأثير ليرد الاعتراض بأن العلم ليس بفعل وكذا النظر على أكثر التفاسير ألا ترى أن الحركة أيضا ليست كذلك وقد اتفقوا على أن حركة اليد وحركة المفتاح فعلان لفاعل واحد واحتج بعض أصحابنا بعد إبطال التوليد مطلقا على بطلانه ههنا بأن تذكر النظر لا يولد العلم اتفاقا فكذا النظر ابتداء لاشتراكهما في النظرية واعترض بأن هذا لا يفيد اليقين لكونه عائدا إلى القياس الشرعي وإن أدى بصورة قياس منطقي بأن يقال لو كان النظر مولدا لكان تذكره مولدا لعدم الفرق واللازم باطل وفاقا ولا لإلزام لأنهم إنما قالوا بالحكم أعني عدم التوليد في الأصل أعني في التذكر لعلة لا توجد في الفرع أعني ابتداء النظر وهي كونه حاصلا بغير قدرة العبد واختياره حتى لو كان التذكر بقصد العبد لكان مولدا فيصير الحاصل أن هذا قياس مركب وهو أن يكون حكم الأصل متفقا عليه بين المستدل والخصم لكن يعلل عند كل منهما بعلة أخرى والخصم بين منع وجود الجامع بين الأصل والفرع إذ ابتداء النظر لا يشارك تذكره
____________________
(1/34)
في عدم المقدورية وبين منع وجود الحكم في الأصل ساى لانم أن التذكر لا يولد العلم عند كونه بقدرة العبد وإنما ذلك عند كونه سانحا للذهن من غير قصد العبد فإنه يكون فعل الله تعالى فلو قلنا بتولد العلم عنه لكان أيضا فعل الله تعالى فلا يصح تكليف العبد به وفي نهاية العقول ما يشعر بأن علة عدم التوليد في التذكر هو لزوم اجتماع الموجبين على أثر واحد لأنه قال التذكر عبارة عن وجود علمين أحدهما العلم بالمقدمات التي سبقت والآخر العلم بأنه كان قد أتى بتلك العلوم ثم ليس أحد العلمين أولى بالتوليد من الآخر فيلزم أن يكون كل منهما مولدا للعلم بالنتيجة وهو محال ويجوز أن تكون العلة هو لزوم حصول الحاصل إذ التذكر إنما يكون بعد النظر وقد حصل به العلم وعلى هذا لا يكون التذكر مفيدا للعلم أصلا وعند الفلاسفة هي بطريق الوجوب لتمام القابل مع دوام الفاعل وذلك أن النظر يعد الذهن لفيضان العلم عليه من عند واهب الصور الذي هو عندهم العقل الفعال المنتقش بصورالكائنات المفيض على أنفسنا بقدر الاستعداد عند اتصالها به وزعموا أن اللوح المحفوظ والكتاب المبين في لسان الشرع عبارتان عنه وههنا مذهب آخر اختاره الإمام الرازي وذكر حجة الإسلام الغزالي أنه المذهب عند أكثر أصحابنا وهو أن النظر يستلزم العلم بالنتيجة بطريق الوجوب الذي لا بد منه لكن لا بطريق التوليد على ما هو رأي المعتزلة وهذا ما نقل عن القاضي أبي بكر وإمام الحرمين أن النظر يستلزم العلم بطريق الوجوب من غير أن يكون النظر علة أو مولدا أو صرح بذكر الوجوب لئلا يحمل الاستلزام على الاستعقاب العادي فيصير هذا هو المذهب الأول وقد صرح الإمام الغزالي بأن هذا مذهب أكثر أصحابنا والأول مذهب بعضهم واستدل الإمام الرازي على الوجوب بأن من علم أن العالم متغير وكل متغير ممكن فمع حضور هذين العلمين في الذهن يمتنع أن لا يعلم أن العالم ممكن والعلم بهذا الامتناع ضروري وكذا في جميع اللوازم مع الملزومات وعلى بطلان التوليد بأن العلم في نفسه ممكن فيكون مقدورا لله تعالى فيمتنع وقوعه بغير قدرته فتوجه اعتراض المواقف بأنه لما كان فعل القادر امتنع أن يكون واجبا فإنه الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك من غير وجوب عليه أو عنه لا يقال المراد الوجوب بالاختيار على ما سيجيء لأنا نقول فح يجوز أن لا يقع بأن لا تتعلق به القدرة والاختيار ويكون هذا هو المذهب الأول بعينه والجواب أن وجوب الأثر كالعلم مثلا بمعنى امتناع انفكاكه عن أثر آخر كالنظر لا ينافي كونه أثر المختار جائز الفعل والترك بأن لا يخلقه ولا ملزومه لا بأن يخلق الملزوم ولا يخلقه كسائر اللوازم الممكنة مثل وجود الجوهر لوجود العرض وتحقيقه أن جواز الترك أعم من أن يكون بوسط أو بلا وسط وأن جواز ترك المقدور لا يمتنع أن يكون مشروطا بارتفاع مانع هو أيضا مقدور وهذا كالمتولدات عند من يقول من المعتزلة بكونها بقدرة العبد وإنما المنافي له امتناع انفكاكه عن المؤثر بأن لا يتمكن من تركه أصلا
____________________
(1/35)
ولو صح هذا الاعتراض لارتفع علاقة اللزوم بين الممكنات فلم يكن تصور الابن مستلزما لتصور الأب ووجود العرض مستلزما لوجود الجوهر إلى غير ذلك والحاصل أن لزوم العلم للنظر عقلي عندهم حتى يمتنع الانفكاك كتصور الأب لتصور الابن وعادي عند الأولين حتى لا يمتنع الانفكاك بطريق خرق العادة كالإحراق بالنار وإلى المذاهب الثلاثة لأصحابنا أشار في المتن بقوله عادة مع الكسب أو بدونه أو لزوما عقليا قال فإن قيل تقدير السؤال أن الحكم بأن النظر يفيد العلم إما أن يكون ضروريا أو نظريا وكلاهما باطل أما الأول فلأنه لو كان ضروريا لما وقع فيه اختلاف العقلاء كسائر الضروريات ولكان مثل قولنا الواحد نصف الاثنين في الوضوح من غير تفاوت لأن التفاوت دليل الاحتمال والاشتباه وهو بنا في الضرورة وكلا اللازمين منتف لوقوع الاختلاف وظهور التفاوت وأما الثاني فلأنه لو كان نظريا لكان إثباته بالنظر وفيه دور من جهة توقفه على الدليل وعلى استلزامه المدلول وهو معنى الإفادة وتناقض من جهة كونه معلوما لكونه وسيلة وليس بمعلوم لكونه مطلوبا وهذا معنى قولهم إثبات النظر بالنظر تناقض فإن قيل معنى إثبات القضية النظرية أن العلم بها يستفاد من النظر بأن يعلم المقدمات مرتبة فيعلم النتيجة وهذا إنما يتوقف على كون النظر مفيدا للعلم لا على العلم بذلك فالموقوف هو التصديق والموقوف عليه هو الصدق وهذا كما أن تصور الماهية مستفاد من الخاصة اللازمة بمعنى أنها تتصور فيتصور وإن لم يعلم الاختصاص واللزوم قلنا مبنى الكلام على أن اللازم في القياس هو صدق النتيجة والملزوم صدق المقدمات المرتبة وأما التصديق بالنتيجة أعني العلم بحقيقتها فإنما يستلزمه التصديق بالمقدمات المرتبة وكونها مستلزمة للمطلوب بديهة أو اكتسابا على ما تقرر من أن العلم بتحقق اللازم يستفاد من العلم باللزوم وبتحقق الملزوم وهذا بخلاف التعريف بالخاصة فإن اللزوم متحقق بين التصورين حتى لو كان التصديق بالمقدمات مع التصديق بالنتيجة كذلك سقط السؤال وتقرير الجواب أنا نختار أنه ضروري ولا نسلم امتناع الاختلاف والتفاوت في الضروريات بل قد يختلف فيها جمع من العقلاء لخفاء في تصورات الأطراف وعسر في تجريدها عن اللواحق المانعة عن ظهور الحكم وقد يقع فيها التفاوت لتفاوتها في ذلك وفي كثرة التفات النفس إليها أو يختار أنه نظري يثبت بنظر مخصوص ضروري المقدمات ابتداء وانتهاء من غير لزوم دور أو تناقض بأن يقال في قولنا العالم متغير وكل متغير حادث أن هذا الترتيب المخصوص أو العلوم المرتبة نظر إذ لا معنى له سوى ذلك ثم أنه يفيد بالضرورة العلم بأن العالم حادث ينتج أن نظرا ما يفيد العلم على ما ادعاه الإمام وإن شئنا إثبات القاعدة الكلية على ما ادعاه الآمدي
____________________
(1/36)
قلنا معلوم بالضرورة أن هذه الإفادة ليست لخصوصية هذه المادة بل لصحة النظر المخصوص مادة وصورة وكونه على شرائطه فكل نظر يكون كذلك يفيد العلم وهو المطلوب وهذا ما قال إمام الحرمين أنه لا يعد في إثبات جميع أنواع النظر بنوع منها يثبت نفسه وغيره إلا أنه لما اعترف بإثبات الشيء بنفسه اعترض الإمام الرازي بأن فيه تناقضا وتقدما للشيء على نفسه وجوابه أن نفس الشيء بحسب الذات قد تغايره بحسب الاعتبار فنخالفه في الأحكام كهذا الذي أثبتنا به كون كل نظر مفيدا للحكم فإنه من حيث ذاته وسيلة ومتقدم ومعلوم ومن حيث كونه من إفراد النظر مطلوب ومتأخر ومجهول وتفصيله أن الموقوف المجهول المطلوب بالنظر هو القضية الموجبة المهملة أو الموجبة الكلية التي عنوان موضوعها مفهوم النظر أعني قولنا النظر يفيد العلم أو كل نظر مقرون بشرائطه يفيد العلم والموقوف عليه المعلوم بديهة هو القضية الشخصية التي موضوعها ذات النظر المخصوص أعني قولنا العالم متغير وكل متغير حادث يفيد العلم بأن العالم حادث من غير اعتبار كون هذا الموضوع من إفراد النظر فلا يكون الشيء الواحد بالذات والاعتبار متقدما على نفسه ومعلوما حين ما ليس بمعلوم ليلزم الدور والتناقض وأصل الباب أن الحكم بالشيء على الشيء قد يختلف لوازمه من الاستغناء عن الدليل أو الافتقار إليه أو إلى التنبيه أو إلى الإحساس أو غير ذلك باختلاف التعبير عن المحكوم عليه مثلا إذا حاولنا الحكم على العالم بالحدوث فربما يقع التعبير عنه بما يجعل الحكم غير مفيد أصلا كقولنا كل موجود بعد العدم حادث أو مفيدا بديهيا كقولنا كل ما يقارن تعلق القدرة والإرادة الحادثة فهو حادث أو مفيدا كسبيا كقولنا كل متغير فهو حادث وبهذا ينحل ما يورد على الشكل الأول من أن العلم بالنتيجة لما توقف على العلم بالكبرى الكلية التي من جملة إفراد موضوعها موضوع النتيجة لزم توقف النتيجة على نفسها وكونها معلومة قبل أن تعلم وهو تناقض وذلك لأن معلومية الحكم كحدوث العالم من جهة كون المحكوم عليه من إفراد الأوسط كالمتغير لا يناقض مجهوليته من جهة كونه من إفراد الأصغر أعني العالم فإن قيل لا خفاء في أن كون النظر مفيدا للعلم ضروري في الشكل الأول نظري في باقي الأشكال فكيف يصح اختيار أنه ضروري مطلقا على ما ذهب إليه الإمام الرازي أو نظري مطلقا على ما ذهب إليه إمام الحرمين قلنا الكلام فيما إذا أخذ عنوان الموضوع هو النظر فيقال النظر أو كل نظر على شرائطه يفيد العلم وما ذكر من التفصيل قطعا إنما هو في الخصوصيات مثل قولنا العالم متغير مع قولنا وكل متغير حادث أو ولا شيء من القديم بمتغير فإن العلم بإفادة الأول ضروري والثاني نظري على أن هذا التفصيل إنما هو بالنظر إلى مجرد ترتيب المقدمتين ووضع الحد الأوسط عند الحدين الآخرين وأما بعد حصول جميع الشرائط فالحكم بإفادة كل من خصوصيات النظر العلم ضروري في جميع الأشكال على ما يراه بعض
____________________
(1/37)
المحققين من أن من جملة الشرائط ملاحظة جهة دلالة المقدمتين على المطلوب وكيفية اندراجه فيهما بالقوة حتى قال الإمام حجة الإسلام أن هذا هو السبب الخاص لحصول النتيجة بالفعل وبدونه ربما يذهل عن النتيجة مع حضور المقدمتين كما إذا رأى بغلة منتفخة البطن فتوهم أنها حامل مع ملاحظة أنها بغلة عاقر وكل بغلة ولا خفاء في أن مع ملاحظة جهة الإنتاج والتفطن لكيفية الاندراج يتساوى الأشكال في الجلاء حتى ذهب بعض أهل التحقيق إلى أن الكل ح يرجع إلى الشكل الأول بحسب التعقل وإن لم يتمكن من تلخيص العبارة فيه وتمام تحقيقه في شرح الأصول لصاحب المواقف ثم كلام القوم هو أن العلم بكون التفطن للاندراج شرطا للإنتاج ضروري وحديث البغلة تنبيه عليه ومنع الإمام على ما قال أن ذلك إنما يكون عند حصول إحدى المقدمتين فقط وأما عند اجتماعهما فلا نسلم إن كان الشك في النتيجة مكابرة واستدلاله على بطلان ذلك بأن الاندراج لو كان معلوما مغايرا للمقدمتين لكانت مقدمة أخرى مشروطة في الإنتاج فينقل الكلام إلى كيفية التئامها مع الأوليين ويفضي إلى اعتبار ما لا نهاية لها من المقدمات ضعيف لأن ذلك ملاحظة لكيفية نسبة المقدمتين إلى النتيجة لا قضية هي جزء القياس ليكون مقدمة على أنه لو سمى مقدمة أو جعل عبارة عن التصديق يكون الأصغر بعض جزئيات الأوسط التي حكم على جميعها بالأكبر فليس بلازم أن يكون له مع المقدمتين هيئة واندراج شرط العلم بها لتحصل مقدمة رابعة وهلم جرا فإن قيل لا نزاع في أنه لا يكفي حضور المقدمتين كيف اتفق بل لا بد من ترتيبهما على هيئة مخصوصة هي الجزء الصوري بحيث يكون على ضرب من الضروب المنتجة وأنه لا بد مع ذلك في غير الشكل الأول من بيان اللزوم بالخلف أو بالعكس أو نحوهما حتى لو استحضرت المقدمتان في حديث البغلة على هيئة الشكل الرابع لم يمتنع الشك مالم يعكس الترتيب مثلا فما المتنازع في هذا المقام قلنا هو أن حصول العلم بالنتيجة بعد تمام القياس مادة وصورة بمعنى حضور المقدمتين على هيئة مخصوصة منتجة مشروطة بملاحظة تلك الهيئة فيما بين المقدمتين ونسبة النتيجة إليهما وكيفية اندراجها فيهما بالقوة ويكون ذلك في الشكل الأول بمجرد الالتفات وفي البواقي بالاكتساب ويرجع الكل إلى بيان إثبات أو نفي هو الواسطة ملزوم لإثبات أو نفي هو المطلوب على ما هو حقيقة الشكل الأول ويكون طرق البيان لتحصيل هذا الشرط ومن ههنا استدل بعض المتأخرين على هذا الاشتراط بتفاوت الأشكال في الإنتاج وضوحا وخفاء إلا أنه لم يجزم بذلك لأن كون طرق البيان لتحصيل هذا الشرط ليس بقطعي لجواز أن تكون هي نفسها شرائط العلم بلزوم النتائج التي هي لوازم الأشكال يعلم لزوم بعضها بلا واسطة وبعضها بوسط خفي أو أخفى وقد يقرر الاستدلال بأن المقدمتين المعينتين قد يتخذ منهما شكل بين الإنتاج كقولنا
____________________
(1/38)
العالم متغير وكل متغير حادث وآخر غير بين كقولنا كل متغير حادث والعالم متغير فلو لم يكن للهيئة مدخل في لزوم النتيجة لما كان كذلك لاتحاد المادة ويجاب بأن اللازم متعدد وهو العالم حادث وبعض الحادث هو العالم فيجوز أن يكون لزوم أحدهما أوضح مع اتحاد الملزوم ولو أخذ اللازم واحدا وهو قولنا العالم حادث فاستنتاجه من شكل آخر لا يتصور إلا بتغيير إحدى المقدمتين أو كلتيهما كقولنا بعض المتغير هو العالم وكل متغير حادث من الثالث أو كل حادث متغير من الرابع إذا صدق العكس كليا وحيننئذ يتعدد المادة ولا يمتنع أن يكون اللزوم للبعض أوضح وأنت بعد تحرير محل النزاع خبير بحال هذا التقرير لا يقال الاستدلال بتفاوت الأشكال يفيد القطع بهذا الاشتراط لأن القياس المقرون بالشرائط ملزوم للنتيجة قطعا واللازم يمتنع انفكاكه عن الملزوم فلو لم يكن التفطن لكيفية الاندراج شرطا متفاوت الحصول بأن يحصل في البعض بمجرد الالتفات وفي البعض بوسط خفي أو أخفى لزم استواء جميع الضروب المنتجة في حصول النتيجة عند حصولها ضرورة امتناع انفكاك اللازم عن الملزوم المستجمع بشرائط اللزوم لأنا نقول فرق بين لزوم الشيء والعلم بلزومه فالضروب والأشكال متساوية في لزوم النتائج إياها بمعنى حقيتها في نفس الأمر على تقدير حقيتها وإنما التفاوت في العلم بذلك وشروطه متفاوتة الحصول كالالتفات أو الاكتساب بخفي أو أخفى وإن لم يكن التفطن لكيفية الاندراج من جملتها قال احتج المخالف بوجوه وإنما لم نورد الشبهة السابقة في ضمن الوجوه لأنها لنفي أن يكون التصديق الحاصل عقيب النظر علما مطلقا أو في الطبيعيات والإلهيات أو في الإلهيات خاصة على ما ذكره الإمام من أنه لا نزاع في إفادة النظر الظن وإنما النزاع في إفادته ليقين الكامل وينبغي أن لا تكون العدديات محل الخلاف والشبهة السابقة تنفي كون النظر مفيدا للتصديق مطلقا
الوجه الأول أن العلم بأن الاعتقاد الحاصل عقيب النظر علم إن كان ضروريا لم يظهر أي لم يقع عقيب النظر خلاف ذلك أو لم يظهر بعد هذا خلاف ذلك لامتناع أن يقع أو يظهر خلاف الضروري واللازم باطل لأن كثيرا من الناس لا يحصل عقيب نظرهم إلا الجهل وكثيرا ما ينكشف للناظر خلاف ما حصل من نظره ويظهر خطاؤه ولذلك ينقل المذاهب وإن كان نظريا افتقر إلى نظر آخر يفيد العلم بأنه علم ويتسلسل ورد بأنا نختار أنه ضروري ولانم ظهور الخلاف من هذا النظر أو بعده إذ الكلام في النظر الصحيح ولازم الحق حق قطعا أو نختار أنه نظري ولانم افتقاره إلى نظر آخر فإن النظر الصحيح كما أفاد العلم بالنتيجة أفاد العلم بأن ذلك علم لا جهل أو ظن وكذا حال العلم بعدم
____________________
(1/39)
المعارض إذ لا يتصور المعارض للنظر الصحيح في القطعيات وبهذا تندفع شبهة أخرى وهي أن النظر لو أفاد العلم فلا بد أن يكون مع العلم بعدم المعارض إذ لا جزم مع المعارض ثم أنه ليس بضروري إذ كثيرا ما يظهر المعارض بل نظري فيفتقر إلى نظر آخر موقوف على عدم المعارض ويتسلسل فقوله كالعلم بأنه لا معارض معناه أنه يجوز أن يكون ضروريا ولانم ظهور المعارض بعد النظر الصحيح وأن يكون نظريا ولانم توقفه على نظر آخر وههنا بحث نطلعك عليه في آخر المقصد وفي تقرير الطوالع ههنا قصور حيث قال العلم الحاصل عقيب النظر إما أن يكون ضروريا أو نظريا وكلاهما محال كأنه على حذف المضاف أي علمية العلم الحاصل أعني كونه علما ولهذا صح منه اختيار أنه ضروري وإلا فالحاصل بالنظر لا يكون ضروريا إلا بمعنى أنا نضطر إلى الجزم به للجزم بالمقدمات لكنه بهذا المعنى لا يقابل النظري
الثاني أن النظر مشروط بعدم العلم بالمطلوب لئلا يلزم طلب الحاصل فلو كان مفيدا للعلم أي مستلزما له عقلا أو عادة لما كان مشروطا بعدمه ضرورة امتناع كون الملزوم مشروطا بعدم اللازم ورد بأن معنى الاستلزام ههنا الاستعقاب عقلا أو عادة بمعنى أنه يلزم حصول العلم بالمط عند تمام النظر فالملزوم للعلم انتهاؤه والمشروط بعدم العلم بقاؤه
الثالث لو أفاد النظر العلم بمعنى لزومه عقيبه عقلا أو عادة لقبح التكليف بالعلم لكونه بمنزلة الضروري في الخروج عن القدرة والاختيار وعن استحقاق الثواب والعقاب وأجيب بعد تسليم قاعدة القبح العقلي بأن التكليف إنما يكون بالأفعال دون الكيفيات والإضافات والانفعالات والعلم عند المحققين من الكيفيات دون الأفعال فالتكليف لا يكون إلا بتحصيله وذلك بمباشرة الأسباب كصرف القوة والنظر واستعمال الخواص فكان هذا مراد الآمدي بما قال أن التكليف لم يقع بالمنظور فيه ليصح بل بالنظر وهو مقدور وإلا فلا خفاء في وقوع التكليف بمعرفة الصانع ووحدانيته ونحو ذلك وبالجملة فالعلم النظري مقدور التحصيل والترك بخلاف الضروري ولزومه بعد تمام النظر لا ينافي ذلك ومن ههنا أمكن في القضية النظرية اعتقاد النقيض بخلاف القضية البديهية
الرابع إن أقرب الأشياء إلى الإنسان اتصالا ومناسبة هويته التي يشير إليها بقوله أنا وقد كثر فيها الخلاف ولم يحصل من النظر الجزم بأنها هذا الهيكل المحسوس أو أجزاء لطيفة سارية فيه أو جزء لا يتجزأ في القلب أو جوهر مجرد متعلق به أو غير ذلك فكيف فيما هو أبعد كالسماويات والعناصر وعجائب المركبات وأبعد كالمجردات والإلهيات من مباحث الذات والصفات وأجيب بأن ذلك إنما يدل على صعوبة تحصيل هذه العلوم بالنظر لا على امتناعه والمتنازع هو الامتناع لا الصعوبة
الخامس لو أفاد النظر العلم أي التصديق في الحقائق الإلهيات لكان شرطه وهو التصور متحققا لكنه منتف إما بالضرورة فقط وإما بالكسب فلأن الحد ممتنع لامتناع التركيب والرسم لا يفيد
____________________
(1/40)
تصور الحقيقة وأجيب بأن الرسم قد يفيد تصور الحقيقة وإن لم يستلزمه ولو سلم فيكفي التصور بوجه ما
السادس أن العلم بوجود الواجب هو الأساس في الإلهيات ولا يمكن اكتسابه بالنظر لأنه يستدعي دليلا يفيد أمرا ويدل عليه وذلك إما نفس ثبوت الصانع أو العلم به وإلا لما كان دليلا عليه فإن كان الأول لزم من انتفائه إنتاؤه ضرورة انتفاء المفاد بانتفاء المفيد وإن كان الثاني لزم من عدم النظر في الدليل أن لا يكون دليلا لأن هذا وصف إضافي لا يعرض إلا بالإضافة إلى المدلول الذي فرضناه العلم وهو منتف عند عدم النظر وأجيب بأنا لا نعني بكون الدليل مفيدا بشيء وموجبا له أنه يوجده ويحصله على ما هو شأن العلل بل بأنه بحيث متى وجد وجد ذلك الشيء ومتى نظر فيه علم ذلك الشيء وحاصله أن وجوده مستلزم لثبوته والنظر فيه مستلزم للعلم به ومعلوم أن انتفاء الملزوم لا يوجب انتفاء اللازم وأن عدم النظر فيه لا ينافي كونه بحيث متى نظر فيه علم المدلول وأورد على جميع الوجوه بل على كل ما يحتج به لإثبات أن النظر لا يفيد العلم أن العلم بكون النظر غير مفيد للعلم إن كان نظريا مستفادا من شيء من الاحتجاجات يلزم التناقض إذ النظر قد أفاد العلم في الجملة وإن كان ضروريا والوجوه المذكورة تنبيهات عليه لزم خلاف أكثر العقلاء في الحكم الضروري وهو باطل بالضرورة وإنما الجائز خلاف جمع من العقلاء وهو لا يستلزم جواز خلاف الأكثر فإن قيل نحن نعترف بأن الاحتجاج لا يفيد العلم لكن لما احتججتم على الإفادة احتججنا على نفي الإفادة معارضة للفاسد بالفاسد قلنا ما ذكرتم من الوجوه إن أفادت فساد كلامنا كان النظر مفيدا للعلم وهو المط وإن لم يفد كان لغوا وبقي ما ذكرنا سالما عن المعارض قال وأما النظر الفاسد القائلون بأن النظر الصحيح المقرون بشرائطه يستلزم العلم اختلفوا في أن النظر الفاسد هل يستلزم الجهل أي الاعتقاد الغير المطابق فقال الإمام يستلزمه لأن من اعتقد أن العالم قديم وكل قديم مستغن عن المؤثر استحال أن لا يعتقد أن العالم غني عن المؤثر وقيل إن كان الفساد مقصورا على المادة يستلزمه وإلا فلا أما الأول فلأن لزوم النتيجة للقياس المشتمل على الشرائط ضروري ابتداء أو انتهاء سواء كانت المقدمات صادقة أو كاذبة كما في المثال المذكور وأما الثاني فلأن معنى فساد الصورة أنه ليس من الضروب التي يلزمها النتيجة والصحيح أنه لا يستلزم الجهل على التقديرين أما عند فساد الصورة فظاهر وأما عند فساد المادة فقط بأن تكون الصورة من الضروب المنتجة فلأن اللازم من الكاذب قد لا يكون كاذبا كما إذا اعتقد أن العالم أثر الموجب بالذات وكل ما هو أثر الموجب بالذات فهو حادث فإنه يستلزم أن العالم حادث وهو حق مع كذب القياس بمقدمتيه نعم قد يفيد الجهل كما إذا اعتقد أن العالم قديم وكل قديم مستغن عن المؤثر والتحقيق أنه لا نزاع في أن الفاسد صورة لا يستلزم بالاتفاق والفاسد مادة فقط قد يستلزم وقد لا يستلزم فمراد الإمام الإيجاب الجزئي كما في المثال المذكور ومرادنا نفي الإيجاب الكلي لعدم
____________________
(1/41)
اللزوم في بعض المواد والقائلون بأنه لا لزوم أصلا يريدون اللزوم الذي مناطه صفة في الشبهة بمعنى أن شبهة المنظور فيها ليس لها لذاتها صفة ولا وجه بكونها مناطا للملازمة بينها وبين المطلوب وإلا لما انتفت الدلالة بظهور الغلط ولكان المحققون بل المعصومون عن الخطأ أولى بأن يستلزم نظرهم في الشبهة الجهل بناء على أنهم أحق بالاطلاع على وجه الدلالة فيها وهذا بخلاف الدليل فإن له صفة ووجه دلالة في ذاته وهو مناط استلزامه المطلوب عند حصول الشرائط وأما اللزوم العائد إلى اعتقاد الناظر في بعض الصور كما إذا اعتقد حقية المقدمات في المثال المذكور فلا نزاع فيه واعترض الإمام بأن عدم حصول الجهل للمحق الناظر في شبهة المبطل يجوز أن يكون بناء على عدم اطلاعه على ما فيها من جهة الاستلزام أو عدم اعتقاده حقية المقدمات كما أن نظر المبطل في دليل المحق لا يستلزم العلم بذلك وما ذكر من كون المحق أولى بالاطلاع إنما هو فيما يفيد الحق والعلم لا الباطل والجهل ( قال المبحث الثالث يشترط ) للنظر صحيحا كان أو فاسدا بعد شرائط العلم من الحيوة والعقل وعدم النوم والغفلة ونحو ذلك أمران
أحدهما عدم العلم بالمطلوب إذ لا طلب مع الحصول وثانيهما عدم الجهل المركب به أعني عدم الجزم بنقيضه لأن ذلك يمنعه من الإقدام على الطلب إما لأن النظر يجب أن يكون مقارنا للشك على ما هو رأي أبي هاشم والجهل المركب مقارن للجزم فيتناقضان وإما لأن الجهل المركب صارف عنه كالأكل مع الامتلاء على ما هو رأي الحكماء من أن النظر لا يجب أن يكون مع الشك وإليه ذهب القاضي بل ذهب الأستاذ إلى أن الناظر يمتنع أن يكون شاكا وما ذكرنا مع وجازته أوضح مما قال في المواقف أن شرط النظر مطلقا بعد الحياة أمران الأول وجود العقل
والثاني عدم ضده أي ضد النظر فمنه أي من ضده ما هو عام أي ضد للنظر ولكل إدراك كالنوم والغفلة مثلا ومنه ما هو خاص أي ضد للنظر دون الإدراكات وهو العلم بالمطلوب والجهل المركب به فإن قيل الجهل المركب ضد للعلم فانتفاؤه مندرج في شرائط العلم فيكون في عباراتكم استدراك قلنا الجهل المركب بالمط يكون ضدا للعلم به لا للعلم على الإطلاق ليكون انتفاؤه من جملة شرائط العلم وبهذا يظهر أن تفسير الضد العام في عبارة المواقف بما يضاد العلم وجميع الإدراكات كالنوم والغفلة والخاص بما يضاد العلم خاصة كالعلم بالمطلوب والجهل المركب به كلام من قبيل الثاني فإن قيل لو كان النظر مشروطا بعدم العلم بالمطلوب لما جاز النظر في دليل ثان وثالث على مطلوب لحصول العلم به بالدليل الأول أجيب بأن ذلك إنما يشترط حيث يقصد بالنظر طلب العلم أو الظن لكن قد يورد صورة النظر والاستدلال لا لذلك بل لغرض آخر عائد إلى الناظر وهو زيادة الاطمئنان بتعاضد الأدلة أو إلى المتعلم بأن يكون ممن يحصل له استعداد القبول باجتماع الأدلة دون كل واحد أو بهذا الدليل دون ذاك فإن الأذهان مختلفة في قبول اليقين فربما يحصل
____________________
(1/42)
للبعض من دليل ولبعض آخر من دليل آخر وربما يحصل من الاجتماع كما في الإقناعيات وقال الإمام النظر في الدليل الثاني نظر في وجه دلالته أي المط منه كونه دليلا على النتيجة وهو غير معلوم والحق أن هذا لازم لكن المطلوب والنتيجة اسم لما يلزم المقدمات بالذات وبالتعيين وهو القضية التي موضوعها موضوع الصغرى ومحمولها محمول الكبرى وأما النظر الصحيح فيشترط أن يكون نظرا في الدليل دون الشبهة وأن يكون النظر فيه من جهة دلالته وهي الأمر الذي بواسطته ينتقل الذهن من الدليل إلى المدلول فإذا استدللنا بالعالم على الصانع بأن نظرنا فيه وحصلنا قضيتين
إحداهما أن العالم حادث
والأخرى أن كل حادث له صانع ليعلم من ترتيبهما أن العالم له صانع فالعالم هو الدليل عند المتكلمين لا نفس المقدمتين المرتبتين على ما هو اصطلاح المنطق وثبوت الصانع هو المدلول وكون العالم بحيث يفيد النظر فيه العلم بثبوت الصانع هو الدلالة وإمكان العالم وحدوثه الذي هو سبب الاحتياج إلى المؤثر هو جهة الدالة وهذه الأربعة أمور متغايرة بمعنى أن المفهوم من كل منها غير المفهوم من الآخر فتكون العلوم المتعلقة بها متغايرة بحسب الإضافة قال حجة الإسلام لما كان جهة الدلالة في القياس هو التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء فلم يعرفوا أن وجه الدلالة عين المدلول أو غيره والحق أن المطلوب هو المدلول المنتج وأنه غير التفطن لوجوده في المقدمة بالقوة وبالجملة فالمشهور من الاختلاف في هذا البحث هو الاختلاف في مغايرة جهة الدلالة للمدلول فيتفرع عليه الاختلاف في تغاير العلم بهما على ما قال الإمام الرازي وغيره أن العلم بوجه دلالة الدليل هل يغاير العلم بالمدلول فيه خلاف والحق المغايرة لتغاير المدلول ووجه الدلالة وأما ما ذكر في المواقف من أن الخلاف في أن العلم بدلالة الدليل هل يغاير العلم بالمدلول وفي أن وجه الدلالة هل يغاير الدليل فلم يوجد في الكتب المشهورة إلا أن الإمام ذكر في بيان مغايرة العلم بوجه الدلالة للعلم بالمدلول أن ههنا أمور الثلاثة هي العلم بذات الدليل كالعلم بإمكان العالم والعلم بذات المدلول كالعلم بأنه لا بدله من مؤثر والعلم بكون الدليل دليلا على المدلول ولا خفاء في تغاير الأولين وكذا في مغايرة الثالث لهما لكونه علما بإضافة بين الدليل والمدلول مغايرة لهما وهذا الكلام ربما يوهم خلافا في مغايرة العلم بدلالة الدليل للعلم بالمدلول حيث احتيج إلى البيان وجعل العلم بإمكان العالم مع أنه وجه الدلالة مثالا للعلم بذات الدليل يوهم القول بأن وجه الدلالة نفس الدليل وفي نقد المحصل ما يشعر بالخلاف في وجوب مغايرته للدليل والمدلول لأنه قال أن هذه المسألة إنما تجري بين المتكلمين عند استدلالهم بوجود ما سوى الله تعالى على وجوده تعالى فيقولون لا يجوز أن يكون وجه دلالة وجود ما سوى الله تعالى على وجوده مغايرا لهما لأن المغاير لوجوده تعالى داخل في وجود ما سواه والمغاير لوجود ما سواه هو وجوده فقط والجواب أن العلم بوجه دلالة الدليل على المدلول الذي هو
____________________
(1/43)
مغاير لهما هو أمر اعتباري عقلي ليس بموجود في الخارج كما سيجيء في تحقيق التضايف هذا كلامه وأنت خبير بأن الأمر الاعتباري الإضافي هو دلالة الدليل على المدلول لا وجه الدلالة الذي هو صفة في الدليل كالإمكان والحدوث في العالم ثم ظاهر عبارته أن المحكوم عليه يكون أمرا اعتباريا هو العلم بوجه الدلالة وفساده بين ( قوله ولا يشترط للنظر في معرفة الله تعالى وجودالمعلم ) خلافا للملاحدة لنا وجوه
الأول أنه قد بينا إفادة النظر الصحيح المقرون بالشرائط العلم على الإطلاق سواء كان في المعارف الإلهية أو غيرها وسواء كان معه معلم أو لا وأما إمكان تحصيل المقدمات الضرورية وترتيبها على الوجه المنتج بمعونة صناعة المنطق فمعلوم بالضرورة
الثاني أن نظر المعلم أيضا لكونه نظرا في معرفة الله تعالى يحتاج إلى معرفة معلم آخر ويتسلسل إلا أن نخص الاحتياج إلى المعلم بغير المعلم ونجعل نظر المعلم كافيا لكونه مخصوصا بتأييد إلهي أو تنتهي سلسلة التعليم إلى المعلم المستند علمه إلى النبي عليه السلام المستند إلى الوحي
الثالث إن إرشاد المعلم لا يفيدنا إلا بعد العلم بصدقه وصدقه إما أن يعلم بالنظر فيكون النظر كافيا في المعرفة حيث أفاد صدق المعلم المفيد للمعرفة وإما أن يعلم بقول ذلك المعلم فيدور لأن قوله أي إخباره عن كونه صادقا لا يفيد كونه كذلك إلا بعد العلم بأنه صادق البتة وإما بقول معلم آخر وهكذا إلى أن يتسلسل وقد يجاب بأنا لا نجعل المعلم مستقلا بإفادة المعرفة ليلزمنا العلم بكونه صادقا لا يكذب البتة بل نجعل المقيد هو النظر المقرون بإرشاد منه إلى الأدلة ودفع الشبه لكون عقولنا قاصرة عن الاستدلال بذلك مفتقرة إلى إمام يعلمنا الأدلة ودفع الشبه ليحصل لنا بواسطة تعليمه وقوة عقولنا معرفة الحقائق الإلهية التي من جملتها كونه إماما يستحق الإرشاد والتعليم ثم لا يخفى أن ما ذكر من الوجوه بتقدير تمامها إنما يراد الاحتياج إلى المعلم في حصول المعرفة وأما لو أرادوا الاحتياج إليه في حصول النجاة بمعنى أن معرفة الثاني بالنظر لا تفيد النجاة مالم يتصل به تعليم ولم يكن مأخوذا من معلم وامتثالا لأمره على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وفي التنزيل فاعلم أنه لا إله إلا الله وقل هو الله أحد وكثير من المعترفين بالصانع ووحدانيته كانوا كافرين بناء على عدم أخذهم ذلك من النبي عليه السلام وعدم امتثالهم أمره فطريق الرد عليهم أن حاصل ما ذكرتم الاحتياج في النجاة إلى معلم علم صدقه بالمعجزات وذلك هو النبي عليه السلام وكفى به إماما ومرشدا إلى قيام الساعة من غير احتياج في كل عصر إلى معلم يجدد طريق الإرشاد والتعليم وتتوقف النجاة على متابعته والاعتراف بإمامته وأما احتجاج الملاحدة مع الجواب عنه فظاهر من المتن ( قال المبحث الرابع لا خلاف بين أهل الإسلام في وجوب النظر في معرفة الله تعالى ) أي لأجل حصولها بقدر الطاقة البشرية لأنه أمر مقدور يتوقف عليه
____________________
(1/44)
الواجب المطلق الذي هو المعرفة وكل مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعا إن كان وجوب الواجب المطلق شرعيا كما هو رأينا أو عقلا إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال أما كون النظر مقدورا فظاهر وأما توقف المعرفة عليه فلأنها ليست بضرورية بل نظرية ولا معنى للنظري إلا ما يتوقف على النظر ويتحصل به وأما وجوب المعرفة فعندنا بالشرع للنصوص الواردة فيه والإجماع المنعقد عليه واستناد جميع الواجبات إليه وعند المعتزلة بالعقل لأنها دافعة للضرر المظنون وهو خوف العقاب في الآخرة حيث أخبر جمع كثير بذلك وخوف ما يترتب في الدنيا على اختلاف الفرق في معرفة الصانع من المحاربات وهلاك النفوس وتلف الأموال وكل ما يدفع الضرر المظنون بل المشكوك واجب عقلا كما إذا أراد سلوك طريق فأخبر بأن فيه عدوا أو سبعا ورد بمنع ظن الخوف في الأعم الأغلب إذ لا يلزم الشعور بالاختلاف وبما يترتب عليه من الضرر ولا بالصانع وبما رتب في الآخرة من الثواب والعقاب والإخبار بذلك إنما يصل إلى البعض وعلى تقدير الوصول لا رجحان لجانب الصدق لأن التقدير عدم معرفة الصانع وبعثة الأنبياء ودلالة المعجزات ولو سلم ظن الخوف فلا نسلم أن تحصيل المعرفة يدفعه لأن احتمال الخطأ قائم فخوف العقاب أو الاختلاف بحاله والعناء زيادة فإن قيل لا شك أن من حصل المعرفة أحسن حالا ممن لم يحصل لاتصافه بالكمال وتحصيل الأحسن واجب في نظر العقل قلنا نعم إذا حصلت المعرفة على وجهها ولا قطع بذلك بل ربما يحصل ويقع في أودية الضلال فيهلك ولهذا قيل البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء هذا بعد تسليم وجوب الأحسن وتقرير السؤال على ما ذكرنا تتميم للدليل المذكور لبيان وجوب المعرفة وعلى ما في المواقف وهو أن الناظر أحسن حالا ابتداء دليل على وجوب النظر عقلا وأورد على هذا الاستدلال إشكالات بعضها غير مختص به ولا مفتقر إلى حله لكونه منعا على مقدمات مثبتة مقررة مثل إفادة النظر العلم مطلقا وفي الإلهيات وبلا معلم وإمكان تحقق الإجماع ونقله وكونه حجة وبعضها مختص به مفتقر إلى دفعه وهي خمسة
الأول أن وجوب المعرفة فرع إمكان إيجابها وهو ممنوع لأنه إن كان للعارف كان تكليفا بتحصيل الحاصل وهو محال وإن كان لغيره كان تكليفا للغافل وهو باطل والجواب أن إمكانه ضروري والسند مدفوع بأن الغافل من لم يبلغه الخطاب أو بلغه ولم يفهمه لا من لم يكن عارفا بما كلف بمعرفته وتحقيقه أن المكلف بمعرفة أن للعالم صانعا قديما متصفا بالعلم والقدرة مثلا يكون عارفا بمفهومات هذه الألفاظ مكلفا بتحصيل هذا التصديق وتصور تلك المفهومات بقدر الطاقة البشرية
الثاني أنا لا نسلم قيام الدليل على وجوب المعرفة أما النص مثل قوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله فلأنه ليس بقطعي الدلالة إذ الأمر قد يكون لا للوجوب
____________________
(1/45)
وأما الإجماع فلأنه ليس قطعي السند إذ لم ينقل بطريق التواتر بل غايته الآحاد فللخصم أن يمنعه بل يدعي الإجماع على أنه يكفي التصديق علما كان أو ظنا أو تقليدا فإن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم كانوا يكتفون من العوام بالتقليد والانقياد ولا يكلفونهم التحقيق والاستدلال والجواب أن الظن كاف في الوجوب الشرعي على أن الإجماع عليه متواتر إذ بلغ ناقلوه في الكثرة حدا يمتنع تواطؤهم به على الكذب فيفيد القطع وما ذكر من الإجماع على الاكتفاء بالتقليد فليس كذلك وإنما هو اكتفاء بالمعرفة الحاصلة من الأدلة الإجمالية على ما أشير إليه بقوله تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } من غير تلخيص العبارة في ترتيب المقدمات وتحقيق شرائط الإنتاج وتحرير المطالب بأدلتها وتقرير الشبه بأجوبتها على أنه لو ثبت جواز الاكتفاء بالتقليد في حق البعض فهو لا ينافي وجوب المعرفة بالنظر والاستدلال في الجملة هذا والحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر عن حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لا حد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لا بد من أن يقوم به البعض
الثالث أنا لا نسلم أن المعرفة الكاملة لا تحصل إلا بالنظر بل قد تحصل بالتعليم على ما يراه الملاحدة أو بالإلهام على ما يراه البراهمة أو بقول الإمام المعصوم على ما يراه الشيعة أو بتصفية الباطن بالرياضات والمجاهدات على ما يراه المتصوفة والجواب أنا نعلم بالضرورة أن تحصيل غير الضروري من العلوم يفتقر إلى نظر ما ظاهرا وخفي أما التعليم فظاهر لأنه ليس إلا إعانة للعقل بالإرشاد إلى المقدمات ودفع الشكوك والشبهات وقد شبهوا نظر البصيرة بنظر الباصرة وقول المعلم بالضوء الحسي وكما لا يتم الإبصار إلا بهما لا تتم المعرفة إلا بالنظر والتعليم وكذا الكلام في المعصوم إذ لا يكفي في صدقه إخبار معصوم آخر مالم ينته إلى نظر العقل وأما الإلهام فلأنه لا يثق به صاحبه مالم يعلم أنه من الله تعالى وذلك بالنظر وإن لم يقدر على العبارة عنه وأما تصفية الباطن فلأنه لا عبرة بها إلا بعد طمأنينة النفس في المعرفة وذلك بالنظر على أنه لو ثبت حصول المعرفة بدون النظر لم يضرنا لأنا إنما ندعي الاحتياج إليه في حق الأعم الأغلب وهذا لا يمنع لظهور كونه طريق العامة
الرابع أنا لا نسلم أن المعرفة واجب مطلق فإن معناه الوجوب على كل تقدير ووجوب المعرفة مقيد بحال الشك أي تردد الذهن في النسبة أو مجال عدم المعرفة للقطع بأنه لا وجوب حال حصول المعرفة بالفعل لامتناع تحصيل الحاصل والجواب أن ليس معنى الوجوب على كل تقدير عموم التقادير والأحوال وإلا لما كان شيء من الواجبات واجبا مطلقا إذ لا يجب على تقدير الإتيان به ولأن وجوب الصوم مثلا مطلق بالقياس إلى النية حتى يجب مقيد بالقياس إلى كون المكلف
____________________
(1/46)
مقيما غير مسافر حتى لا تجب الإقامة وكذا وجوب الحج مقيد بالاستطاعة فلا يجب تحصيلها مطلقا بالنسبة إلى الإحرام ونحوه من الشرائط فيجب بل معناه الوجوب على تقدير وجود المقدمة وعدمها ووجوب المعرفة ليس مقيدا بالنظر بمعنى أنه لو نظر تجب المعرفة وإلا فلا يكون مطلقا وأما بالنسبة إلى الشك أو عدم المعرفة فقيد إذ لا وجوب على العارف فلا يكون تحصيل الشك أو عدم المعرفة واجبا ويندفع إشكال آخر هو نقض الدليل بهما وإنما لم يورد في المتن لما سيجيء من أن النزاع في مقدوريتهما وفي كون الشك غير واجب
الخامس أنا لا نسلم أن مقدمة الواجب المطلق يلزم أن تكون واجبة لجواز إيجاب الشيء مع الذهول عن مقدمته بل مع التصريح بعدم وجوبها فإن قيل إيجاب الشيء بدون مقدمته تكليف بالمحال ضرورة استحالة الشيء بدون ما يتوقف عليه قلنا المستحيل وجود الشيء بدون وجود المقدمة ولا تكليف به وإنما التكليف بوجود الشيء بدون وجوب المقدمة ولا استحالة فيه فإن قيل لو لم تجب مقدمة الواجب المطلق لجاز تركها شرعا مع بقاء التكليف بالأصل لكونه واجبا مطلقا أي على تقدير وجود المقدمة وعدمها ولا خفاء في أنه مع عدم المقدمة محال فيكون التكليف به ح تكليفا بالمحال قلنا عدم جواز ترك الشيء شرعا قد يكون لكونه لازما للواجب الشرعي فيكون واجبا بمعنى أنه لا بد منه وهذا لا يقتضي كونه مأمورا به متعلقا بخطاب الشارع على ما هو المتنازع والجواب تخصيص الدعوى وهو أن المأمور به إذا كان شيئا ليس في وسع العبد إلا مباشرة أسباب حصوله كان إيجابه إيجابا لمباشرة السبب قطعا كالأمر بالقتل فإنه أمر باستعمال الآلة وحز الرقبة مثلا وههنا العلم نفسه ليس فعلا مقدورا بل كيفية فلا معنى لإيجابه إلا إيجاب سببه الذي هو النظر وليس هذا مبنيا على امتناع تكليف المحال حتى يرد الاعتراض بأنه جايز عندكم واعلم أنه لما كان المقصود وجوب النظر شرعا وقد وقع الإجماع عليه كما صرحوا به فلا حاجة إلى ما ذكروا من المقدمات ودفع الاعتراضات بل لو قصد إثبات مجرد الوجوب دون أن يكون بدليل قطعي لكفى التمسك بظواهر النصوص كقوله تعالى { فانظر إلى آثار رحمة الله } { قل انظروا ماذا في السماوات } إلى غير ذلك قال قالوا لو لم يجب إلا شرعا احتجت المعتزلة على أن وجوب النظر في المعجزة والمعرفة وسائر ما يؤدي إلى ثبوت الشرع عقلي بأنه لو لم يجب إلا بالشرع لزم إفحام الأنبياء فلم يكن للبعثة فائدة وبطلانه ظاهر ووجه اللزوم أن النبي عليه السلام إذا قال للمكلف انظر في معجزتي حتى يظهر لك صدق دعواي فله أن يقول لا أنظر مالم يجب علي لأن ترك غير الواجب جايز ولا يجب علي ما لم يثبت الشرع لأنه لا وجوب إلا بالشرع ولا يثبت الشرع مالم أنظر لأن ثبوته نظري لا ضروري فإن قيل قوله لا أنظر مالم يجب ليس بصحيح لأن النظر لا يتوقف على وجوبه قلنا نعم إلا أنه لا يكون
____________________
(1/47)
للنبي ح إلزامه النظر لأنه لا إلزام على غير الواجب وهو المعنى بالإفحام وأجيب أولا بأنه مشترك الإلزام وحقيقته إلجاء الخصم إلى الاعتراف ينقض دليله إجمالا حيث دل على نفي ما هو الحق عنده في صورة النزاع وتقريره أن للمكلف أن يقول لا أنظر مالم يجب ولا يجب مالم أنظر لأن وجوبه نظري يفتقر إلى ترتيب المقدمات وتحقيق أن النظر يفيد العلم مطلقا وفي الإلهيات سيما إذا كان طريق الاستدلال ما سبق من أنه مقدمة للمعرفة الواجبة مطلقا فإن قيل بل هو من النظريات الجلية التي يتنبه لها العاقل بأدنى التفات أو إصغاء إلى ما يذكره الشارع من المقدمات قلنا لو سلم فله أن لا يلتفت ولا يصغي فيلزم الإفحام وثانيا بالحل وهو تعيين موضع الغلط وذلك أن صحة إلزامه النظر إنما تتوقف على وجوب النظر وثبوت الشرع في نفس الأمر لا على علمه بذلك والمتوقف على النظر هو علمه بذلك لا تحققهما في نفس الأمر فهو إن أراد نفس الوجوب والثبوت لم يصح قوله لا يثبت الشرع ما لم أنظر وإن أراد العلم بهما لم يصح قوله لا أنظر مالم يجب وإن أراد في الوجوب التحقق وفي الثبوت العلم به لم يصح قوله لا يجب علي ما لم يثبت الشرع لأن الوجوب عليه لا يتوقف على العلم بالوجوب ليلزم توقفه على العلم بثبوت الشرع بل العلم بالوجوب يتوقف على الوجوب لئلا يكون جهلا وهذا ما قال في المواقف أن قولك لا يجب علي مالم يثبت الشرع قلنا أن هذا القول إنما يصح لو كان الوجوب عليه موقوفا على العلم بالوجوب فقوله قلنا الخ خبر أن والعائد اسم الإشارة وإن خص إرادة العلم بقوله لا يثبت الشرع مالم أنظر وإرادة التحقق بقوله لا أنظر مالم يجب صحت جميع المقدمات لكن تختل صورة القياس لعدم تكرر الوسط فهذا قياس صحة مادته في فساد صورته وبالعكس قال المبحث الخامس اختلفوافي أول ما يجب على المكلف فقال الشيخ هو معرفة الله تعالى لكونها مبنى الواجبات وقال الأستاذ وهو النظر في معرفة الله تعالى لما مر من كونه المقدمة وقال القاضي والإمام هو القصد إلى النظر لتوقف النظر عليه والحق أنه إن اريد أول الواجبات المقصودة بالذات فهو المعرفة وإن أريد الأعم فهو القصد إلى النظر لكن مبناه على وجوب مقدمة الواجب المطلق وقد عرفت ما فيه فلذا قال في المتن وإلا فالثاني أي النظر أو القصد إليه لا يقال النظر مشروط بعدم المعرفة بمعنى الجهل البسيط بالمط فينبغي أن يكون أول الواجبات لأنا نقول هو ليس بمقدور بل حاصل قبل القدرة والإرادة ولو سلم فوجوب النظر مقيد به لامتناع تحصيل الحاصل فلا يكون مقدمة للواجب المطلق واستدامته وإن كانت مقدورة بأن ترك مباشرة أسباب حصول المعرفة لكنها ليست بمقدمة وقال أبو هاشم أول الواجبات هو الشك لتوقف القصد إلى النظر عليه إذ لا بد من فهم الطرفين والنسبة مع عدم اعتقاد المط أو نقيضه على ما سبق ورد بوجهين
أحدهما أن الشك ليس بمقدور لكونه من الكيفيات كالعلم وإنما
____________________
(1/48)
المقدور تحصيله أو استدامته بأن يحصل تصور الطرفين ويترك النظر في النسبة ولا شيء منهما بمقدمة واعتراض المواقف بأنه لو لم يكن مقدورا لم يكن العلم مقدورا لأنه ضده ونسبة القدرة إلى الضدين على السواء ساقط بما اعترف به من أن العلم ليس بمقدور وإنما المقدور تحصيله بمباشرة الأسباب
وثانيهما أن وجوب النظر والمعرفة مقيد بالشك لما سبق من أنه لا إمكان للنظر بدونه فضلا عن الوجوب فهو لا يكون مقدمة للواجب المطلق بل للمقيد به كالنصاب للزكاة والاستطاعة للحج فلا يجب تحصيله ولما أن إيجاب المعرفة هو إيجاب النظر قال في المواقف أن وجوب المعرفة مقيد بالشك وإلا فالقول بوجوب الشك إنما يبنى على كونه مقدمة للنظر لا للمعرفة وكلا الوجهين ضعيف أما الأول فلأنهم لا يعنون بمقدورية مقدمة الواجب أن يكون من الأفعال الاختيارية بل أن يتمكن المكلف من تحصيله كالطهارة للصلاة وملك النصاب للزكاة ومعنى وجوبها وجوب تحصيلها وأما الثاني فلأنه يقتضي أن لا يجب النظر والمعرفة عند الوهم أو الظن أو التقليد أو الجهل المركب وفساده بين ويمكن دفع الوهم والظن بأن الشك يتناولهما لأن معناه التردد في النسبة إما على استواء وهو الشك المحض أو رجحان لأحد الجانبين وهو الظن والوهم ودفع التقليد والجهل المركب بأن الواجب معهما هو النظر في الدليل ومعرفة وجه دلالته ليؤولا إلى العلم وذلك لأن امتناع النظر والطلب عند الجزم بالمط أو نقيضه مما لم يقع فيه نزاع وقد يقال في رد الشك المحض أنه وإن كان مقدمة للنظر الواجب فليس من أسبابه ليكون إيجابه إيجابا له بمعنى تعلق خطاب الشارع به وفيه نظر لأن مراد أبي هاشم هو الوجوب العقلي كالنظر والمعرفة نعم لو قيل أنه ليس من المعاني التي يطلبها العاقل ويحكم باستحقاق تاركه الذم لكان سيئا وستعرف فساد النظر بمعرفة معنى الوجوب العقلي ( قال المبحث السادس ) قد سبقت إشارة إلى أن الحركة الأولى من النظر تحصل مادة مركب يوصل إلى المط والثانية صورته والمط إما تصورا وتصديق فالموصل إلى التصور ويسمى المعرف إما حدا ورسم وكل منهما إما تام أو ناقص لأن التمييز أمر لا بد منه في التعريف لامتناع المعرفة بدون التمييز عند العقل فالمميز إن كان ذاتيا للماهية يسمى المعرف حدا لأنه في اللغة المنع ولا بد في المعرف من منع خروج شيء من الإفراد ودخول شيء فيه مما سواها فما كان ذلك فيه باعتبار الذات والحقيقة كان أولى بهذا الاسم وإن كان عرضيا لها سمي المعرف رسما لكونه بمنزلة الأثر يستدل به على الطريق ثم المميز إن كان مع كمال الجزء المشترك أعني ما يقع جواب السؤال بما هو عن الماهية وعن كل ما يشاركها وهو المسمى بالجنس القريب فالمعرف تام أما الحد فلاشتماله على جميع الذاتيات وأما الرسم فلاشتماله على كمال الذاتي المشترك وكمال العرضي المميز وإلا فناقص فالحد التام واحد ليس إلا وهو الجنس القريب مع الفصل القريب ويشترط
____________________
(1/49)
تقديم الجنس حتى لو أخر كان الحد ناقصا ومبنى هذا الكلام على أنه لا اعتبار بالعرض العام لأنه لا يفيد الامتياز ولا الاطلاع على أجزاء الماهية ولا بالخاصة مع الفصل القريب وإلا يلزم أن يكون المركب من الفصل القريب مع العرض العام أو مع الخاصة حدا ناقصا وليس كذلك في اصطلاح الجمهور حيث خصوا اسم الحد بما يكون من محض الذاتيات وقد يصطلح على تسمية كل معرف حدا حتى اللفظي منه أعني بيان مدلول اللفظ بلفظ آخر أوضح دلالة وكثير من المتقدمين على أن الرسم التام ما يفيد امتياز الماهية عن جميع ما عداها والناقص ما يفيد الامتياز عن البعض فقط إلا أنه استقر رأي المتأخرين على اشتراط كون المعرف مساويا أي مطردا ومنعكسا حتى لا يجوز التعريف بالأعم محافظة على الضبط والموصل إلى التصديق ويسمى الدليل لما فيه من الإرشاد إلى المطلوب والحجة لما في التمسك به من الغلبة على الخصم إما قياس وإما استقراء وإما تمثيل إذ لا بد من مناسبة بين الحجة والمط ليمكن استفادته منها وتلك المناسبة إما أن تكون باشتمال أحدهما على الآخر أو لا وعلى الأول فإن اشتمل الحجة على المط فهي القياس إذ النتيجة مندرجة في مقدمتيه وإن اشتمل المط على الحجة فهي الاستقراء إذ المط حكم كلي يثبت بتحقق الحكم على الجزئيات المندرجة تحته وعلى الثاني لا بد أن يكون هناك أمر ثالث يشتمل عليهما أو يندرجان فيه ليستفاد العلم بأحدهما من الآخر وهو التمثيل فإن حكم الفرع وهو المط يستفاد من حكم الأصل وهو الحجة لاندراجهما تحت الجامع الذي هو العلة وهذا ما قال الإمام أنا إذا استدللنا بشيء على شيء فإن لم يدخل أحدهما تحت الآخر فهو التمثيل وإن دخل فإما أن يستدل بالكلي على الجزئي وهو القياس أو بالعكس وهو الاستقراء وذكر في بعض كتبه بدل الكلي والجزئي الأعم والأخص تصريحا بأن المراد الجزئي الإضافي لا الحقيقي وتنبيها على أن تفسير الجزئي الإضافي بالمندرج تحت الغير مساو لتفسيره بالأخص تحت الأعم لا أعم منه على ما سبق إلى بعض الأوهام من أن معنى اندراجه تحت الغير مجرد صدق الغير عليه كليا وذلك لأن لفظ الاندراج منبئ عن كون الغير شاملا له ولغيره ولم يعرف من اصطلاح القوم أن كلا من المتساويين جزئي إضافي للآخر فلهذا قال صاحب الطوالع إن استدل بالكلي على الجزئي أو بأحد المتساويين على الآخر فهو القياس ليتناول ما إذا كان الأوسط مساويا للأصغر كقولنا كل إنسان ناطق وكل ناطق حيوان والجواب بأن الناطق معناه شيء ماله النطق وهو بحسب هذا المفهوم أعم من الإنسان لا يجدي نفعا إذ لا يتأتى في مثل قولنا كل ناطق إنسان وكل إنسان حيوان والأحسن أن يقال مرجع القياس إلى استفادة الحكم على ذات الأصغر من ملاحظة مفهوم الأوسط وهو أعم قطعا وإن كان مفهوم الأصغر مساويا له كما في المثالين المذكورين بل وإن كان أعم منه كما في قولنا بعض الحيوان إنسان وكل إنسان
____________________
(1/50)
ناطق وقولنا بعض الحيوان إنسان ولا شيء من الفرس بإنسان وقولنا كل إنسان حيوان وكل إنسان ناطق وعلى هذا حال الاقترانيات الشرطية حيث يستدل بعموم الأوضاع والتقادير على بعضها وأما في القياس الاستثنائي فلا يتضح ذلك إلا أن يرجع إلى الشكل الأول فيقال مضمون التالي أمر تحقق ملزومه وكل ما تحقق ملزومه فهو متحقق أو مضمون المقدم أمر انتفى لازمه وكل ما انتفى لازمه فهو منتف والفقهاء يجعلون القياس اسما للتمثيل لما فيه من تسوية الجزئين في الحكم لتساويهما في العلة وأما على اصطلاح المنطق فوجهه أن فيه جعل النتيجة المجهولة مساوية للمقدمتين في المعلومية ثم القياس إن اشتمل على النتيجة أو نقيضها بالفعل بأن يكون ذلك مذكورا فيه بمادته وصورته وإن لم تبق قضية بواسطة أداة الشرط على ما صرح به بعض أئمة العربية من أن الكلام قد يخرج عن التمام وعن احتمال الصدق والكذب بسبب زيادة فيه مثل طرفي الشرطية كما يخرج عن ذلك لنقصان فيه مثل قولنا زيد عالم بحذف الربط والإعراب سمي استثنائيا لما فيه من استثناء وضع أحد جزئي الشرطية أو رفعه وإلا سمي اقترانيا لما فيه من اقتران الحدود بعضها بالبعض أعني الأصغر والأكبر والأوسط والاستثنائي متصل إن كانت الشرطية المذكورة فيه متصلة ومنفصل إن كانت منفصلة والاقتراني حملي إن كان تألفه من الحمليات الصرفة وشرطي إن اشتمل على شرطية وأما الاستقراء وهو تصفح جزئيات كلي واحد ليثبت حكمها في ذلك الكلي على سبيل العموم فتام إن علم انحصار الجزئيات وثبوت الحكم في كل منها وهذا نوع من القياس الاقتراني الشرطي يسمى القياس المقسم وإلا فناقص وهو المفهوم من إطلاق الاسم وهو لا يفيد إلا الظن وأما التمثيل وهو بيان مساواة جزئي لآخر في علة حكمه لتثبت مساواتهما في الحكم فقطعي إن علم استقلال المشترك بالعلية وهذا نوع من القياس وذكر المثال حشو وإلا فظني ومطلق الاسم منصرف إليه وتفاصيل هذه المباحث في صناعة المنطق وأورد صاحب الطوالع تفاصيل الضروب المنتجة من القياس الاستثنائي المتصل والمنفصل ومن الأشكال الأربعة للقياس الاقتراني الحملي بعبارة في غاية الحسن ونهاية الإيجاز وأوردها الإمام على وجه أجمل إلا أنه أهمل الشكل الرابع لبعده عن الطبع وعبر عن الشكل الثالث بحصول وصفين في محل أي ثبوت أمرين إيجابا كان أو سلبا لأمر ثالث فيشمل صور سلب الكبرى كقولنا كل إنسان حيوان ولا شيء من الإنسان بصهال إذ قد حصل في الإنسان ثبوت الحيوانية ونفي الصهالية فعلم أن بعض الحيوان ليس بصهال وعبر عن الاستثنائي المنفصل بالتقسيم المنحصر في قسمين ثم رفع أيهما كان ليلزم ثبوت الآخر أو إثبات أيهما كان ليلزم ارتفاع الآخر ولما كان ظاهره مختصا بالمنفصل الحقيقي غيره صاحب المواقف إلى ما هو أوجز وأشمل وهو أن يثبت المنافاة بين الأمرين فيلزم
____________________
(1/51)
من ثبوت أيهما كان عدم الآخر يعني إذا ثبت المنافاة بينهما في الصدق والكذب جميعا كما في الحقيقة يلزم من ثبوت صدق كل عدم صدق الآخر ومن ثبوت كذب كل عدم كذب الآخر وإذا كان في الصدق فقط يلزم من ثبوت صدق كل عدم صدق الآخر وإذا كان في الكذب فقط يلزم من ثبوت كذب كل عدم كذب الآخر ( قال وقد يقال الدليل ) في اصطلاح المنطق هو المقدمات المرتبة المنتجة للمطلوب وقد يقال للأمر الذي يمكن أن يتأمل فيه وتستنبط المقدمات المرتبة كالعالم للصانع فيفسر بما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم قطعيا كان أو ظنيا وذكر الإمكان لأن الدليل لا يخرج عن كونه دليلا بعدم النظر فيه وقيد النظر بالصحيح لأنه لا توصل بالفاسد إليه وذلك بأن لا يكون النظر فيه من جهة دلالته وأطلق الحكم ليتناول التفسير الإمارة وكثيرا ما يخص الدليل بما يفيد العلم ويسمى ما يتوصل به إلى الظن إمارة والاستدلال هو التوصل المذكور وقد يخص بما يكون من الأثر إلى المؤثر كالتوصل بالنظر في العالم إلى الصانع ويسمى عكسه تعليلا كالتوصل بالنظر في النار إلى الإشراق أي إلى التصديق بذلك وما يقال أن الدليل هو الذي يلزم من العلم به العلم بوجود المدلول فمعناه العلم بتحقق النسبة إيجابا كان أو سلبا من غير اعتبار وصف المدلولية حتى كأنه قيل بتحقق شيء آخر وهو المدلول وحتى لا يخرج مثل الاستدلال بنفي الحياة على نفي العلم ولا يلزم الدور بناء على تضايف الدليل والمدلول وذلك لأن الدليل عندهم اسم لما يفيد التصديق دون التصور والعلم قسم من التصديق يقابل الظن وعلى هذا فمعنى العلم بالدليل إذا حملناه على مثل العالم للصانع هو العلم بما يؤخذ من النظر في وجه دلالته من المقدمات المرتبة مع سائر الشرائط التي من جملتها التفطن لجهة الإنتاج وكيفية الاندراج إذ لا يلزم العلم بالمدلول إلا حينئذ لا يقال العلم بالنتيجة لازم للعلم بالمقدمات المرتبة إلا أنه قد يفتقر إلى وسط لكونه غير بين لأنا نقول لو كان كذلك لامتنع تحقق العلم الأول بدون الثاني كالمثلث لا يتحقق بدون تساوي زواياه القائمتين والموقوف على الوسط إنما هو العلم بذلك والحاصل أن اللازم يمتنع انفكاكه عن الملزوم بينا كان أو غير بين والتفرقة إنما تظهر في العلم باللزوم وبتحقق اللازم ( قال والدليل ) قد يقسم إلى العقلي والنقلي وقد يقسم إليهما وإلى المركب من العقلي والنقلي وهذا يوهم أن المراد بالنقلي ما لا يكون شيء من مقدماته عقليا وهو باطل إذ لو لم تنته سلسلة صدق المخبرين إلى من يعلم صدقه بالعقل لزم الدور أو التسلسل فدفع ذلك بأن من حصره فيهما أراد بالنقلي ما يتوقف شيء من مقدماته القريبة أو البعيدة على النقل والسماع من الصادق وبالعقلي مالا يكون كذلك ومن ثلث القسمة أراد بالنقلي ما يكون جميع مقدماته القريبة نقلية كقولنا الحج واجب وكل واجب فتاركه يستحق العقاب وبالمركب ما يكون بعض مقدماته القريبة عقليا وبعضها نقليا كقولنا الوضوء عمل وكل عمل فصحته الشرعية
____________________
(1/52)
بالنية وكقولنا الحج واجب وكل واجب فتاركه عاص إذ لا معنى للعصيان إلا ترك امتثال الأوامر والنواهي وإنما قيد المقدمات بالقريبة لأن النقلي أيضا بعض مقدماته البعيدة عقلية كما مر فلا يقابل المركب بل يندرج فيه هذا إذا أريد بالدليل نفس المقدمات المرتبة وأما إذا أريد مأخذها كالعالم للصانع والكتاب والسنة والإجماع للأحكام فلا معنى للمركب وطريق القسمة أن استلزامه للمطلوب إن كان بحكم العقل فعقلي وإلا فنقلي ثم الحكم المطلوب إن استوى فيه عند العقل جانب الثبوت والانتفاء بحيث لا يجد من نفسه سبيلا إلى تعيين أحدهما فطريق إثباته النقل لا غير كالحكم بوجوب الحج وبكون زيد في الدار وإلا فإن توقف عليه ثبوت النقل كالعلم بصدق المخبر وما يبتنى عليه ذلك كثبوت الصانع وبعثة النبي ودلالة المعجزة ونحو ذلك فطريق إثباته العقل لا غير لئلا يلزم الدور وإلا فيمكن إثباته بكل من النقل والعقل كوحدة الصانع وحدوث العالم إذا صح الاستدلال على الصانع بإمكان العالم أو بحدوث الأعراض أو بعض الجواهر وإذا تعاضد العقل والنقل كان المثبت ما أفاد العلم أولا واعلم أن توقف النقل على ثبوت الصانع وبعثة الأنبياء إنماهو في الأحكام الشرعية وفيما يقصد به حصول القطع وصحة الاحتجاج على الغير وأما في مجرد إفادة الظن فيكفي خبر واحد أو جماعة يظن المستدل صدقة كالمنقولات عن بعض الأولياء والعلماء والشعراء ونحو ذلك حتى لو جعل العلم الحاصل بالتواتر استدلاليا لم يتوقف النقل القطعي أيضا على إثبات الصانع وبعثة الأنبياء ( قال ولا خفاء في إفادة النقلي الظن ) وإنماالكلام في إفادته العلم فإنها تتوقف على العلم بوضع الألفاظ الواردة في كلام المخبر الصادق للمعاني المفهومة وبإرادة المخبر تلك المعاني ليلزم ثبوت المدلول والعلم بالوضع يتوقف على العلم بعصمة رواة العربية لغة وصرفا ونحوا عن الغلط والكذب لأن مرجعه إلى روايتهم إذ لا طريق إلى معرفة الأوضاع سوى النقل أما الأصول أعني ما وقع التنصيص عليه فظاهر وأما الفروع فلأنها مبنية على الأصول بالقياس الذي هو في نفسه ظني والعلم بالإرادة يتوقف على عدم النقل إلى معنى آخر وعلى عدم اشتراكه بين هذا المعنى وبين معنى آخر وعلى عدم كونه مستعملا بطريق التجوز في معنى غير الموضوع له وعلى عدم إضمار شيء يتغير به المعنى وعلى عدم تخصيص ما ظاهره عموم الإفراد أو الأوقات بالبعض من ذلك بأن يراد من أول الأمر ذلك البعض أو يراد ما يفيد بيان انتهاء وقت الحكم ويسمى ناسخا وعلى عدم تقديم وتأخير يغير المعنى المطلوب عن ظاهره وفي بعض كتب الإمام وعلى عدم الحذف وفسرالحذف بأن يكون في الكلام زيادة يجب حذفها لتحصيل المعنى المقصود كقوله تعالى { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } وقوله تعالى { لا أقسم بيوم القيامة } فإن كلمة لا في الموضعين محذوفة أي واجبة الحذف وكثير من الناس يفهمون منه أن يكون في الكلام محذوف يجب تقديره
____________________
(1/53)
ليحصل المعنى ويفرقون بينه وبين الإضمار بأن المضمر ما يبقى له اثر في اللفظ كقولك خير مقدم بإضمار قدمت وبالجملة فلا سبيل إلى الجزم بوجود الشرائط وعدم الموانع بل غايته الظن وما يبتني على الظن لا يفيد إلا الظن ومن جملة مالا بد منه ولا سبيل إلى الجزم به انتفاء المعارض العقلي إذ مع وجوده يجب تأويل النقل وصرفه عن ظاهره لأنه لا يجوز تصديقهما لامتناع اعتقاد حقية النقيضين ولا تكذيبهما لامتناع اعتقاد بطلان النقيضين ولا تصديق النقل وتكذيب العقل لأنه أصل النقل لاحتياجه إليه وانتهائه بالآخرة إليه لما سبق من أنه لا بد من معرفة صدق النقل بدليل عقلي وفي تكذيب الأصل لتصديق الفرع تكذيب الأصل والفرع جميعا وما يفضي وجوده إلى عدمه باطل قطعا واقتصر في المتن على هذا لكونه وافيا بتمام المقصود وذلك لأنه لما امتنع تصديق النقل لاستلزامه تكذيب العقل الذي هو الأصل ثبت أنه لا يفيد العلم إذ لا معنى لعدم تصديقه سوى هذا ولا حاجة إلى باقي المقدمات مع ما في الحصر من المناقشة إذ لا يلزم تصديقهما أو تكذيبهما أو تصديق أحدهما وتكذيب الآخر لجواز أن يحكم بتساقطهما وكونهما في حكم العدم من غير أن يعتقد معهما حقية شيء أو بطلانه ولو جعل التكذيب مساويا لعدم التصديق لم يلزم من تكذيب العقل والنقل اعتقاد ارتفاع النقيضين وبطلانهما لأن معنى عدم تصديق الدليل عدم اعتقاد صحته واستلزامه لحقية النتيجة وهذا لا يستلزم بطلانها أو اعتقاد بطلانها وارتفاعها فغاية الأمر التوقف في الإثبات والنفي على أن تكذيبهما أيضا يستلزم المطلوب أعني عدم إفادة النقل العلم فنفيه يكون مستدركا في البيان هذا والحق أن الدليل النقلي قد يفيد القطع إذ من الأوضاع ما هو معلوم بطريق التواتر كلفظ السماء والأرض وكأكثر قواعد الصرف والنحو في وضع هيئات المفردات وهيئات التراكيب والعلم بالإرادة يحصل بمعونة القرائن بحيث لا تبقى شبهة كما في النصوص الواردة في إيجاب الصلاة والزكاة ونحوهما وفي التوحيد والبعث إذا اكتفينا فيهما بمجرد السمع كقوله تعالى { قل هو الله أحد } فاعلم أنه لا إله إلا الله { قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } فإن قيل احتمال المعارض قائم إذ لا جزم بعدمه بمجرد الدليل النقلي أو بمعونة القراين قلنا أما في الشرعيات فلا خفاء إذ لا مجال للعقل فلا معارض من قبله ونفي المعارض من قبل الشرع معلوم بالضرورة من الدين في مثل ما ذكرنا من الصلاة والزكاة وأما في العقليات فلأن العلم بنفي المعارض العقلي لازم حاصل عند العلم بالوضع والإرادة وصدق المخبر على ما هو المفروض في نصوص التوحيد والبعث وذلك لأن العلم بتحقق أحد المتنافيين يفيد العلم بانتفاء المنافي الآخر كما سبق في إفادة النظر العلم بالمطلوب وبانتفاء المعارض فإن قيل إفادتها اليقين تتوقف على العلم بنفي المعارض فإثباته بها يكون دورا قلنا إنما يثبت بها التصديق بحصول هذا العلم بناء على حصول ملزومه على أن
____________________
(1/54)
الحق أن إفادة اليقين إنما تتوقف على انتفاء المعارض وعدم اعتقاد ثبوته لا على العلم بانتفائه إذ كثيرا ما يحصل اليقين من الدليل ولا يخطر المعارض بالبال إثباتا أو نفيا فضلا عن العلم بذلك فما يقال أن إفادة اليقين تكون مع العلم بنفي المعارض وأنه يفيد ذلك ويستلزمه فمعناه أنه يكون بحيث إذا لاحظ العقل هذا المعارض جزم بانتفائه ويدل على ما ذكرنا قطعا ما ذكروا في بيان هذا الاشتراط من أنه لا جزم مع المعارض بل الحاصل معه التوقف فليتأمل والله الهادي ( قال المقصد الثاني ) قد سبقت الإشارة إلى أن وجه تقديم هذا المقصد على الأربعة الباقية توقف بعض بياناتها عليه ووجه إفراده عنها مع كونه عايدا إليها هو أنه لما كان البحث عن أحوال الموجود وقد انقسم إلى الواجب والجوهر والعرض واختص كل منها بأحوال تعرف في بابه احتيج إلى باب لمعرفة الأحوال المشتركة بين الثلاثة كالوجود والوحدة أو الاثنين فقط كالحدوث والكثرة وبهذا يظهر أن المراد بالموجودات في قولهم الأمور العامة ما يعم أكثر الموجودات هو أقسامه الثلاثة التي هي الواجب والجوهر والعرض لا أفراده التي لا سبيل للعقل إلى حصرها وتعيين الأكثر منها والحكم بأن مثل العلية والكثرة يعم أكثرها ولا خفاء في أن المقصود بالنظر ما يتعلق به غرض علمي ويترتب عليه مقصودا صلى من الفن ولا يكون له ذكر في أحد المقاصد بالأصالة وإلا فكثير من الأمور الشاملة مما لا يبحث عنه في الباب كالكمية والكيفية والإضافة والمعلومية والمقدورية وسائر مباحث الكليات الخمس والحد والرسم والوضع والحمل بل عامة المعقولات الثانية ولا يضر كون البعض اعتباريا محضا أو غير مختص بالموجود لأن بعض ما يبحث عنه أيضا كذلك كالإمكان فإن قيل قد يبحث عما لا يشمل الموجود أصلا كالامتناع والعدم وعما يخص الواجب قطعا كالوجوب والقدم قلنا لما كان البحث مقصورا على أحوال الموجود كان بحث العدم والامتناع بالعرض لكونهما في مقابلة الوجود والإمكان وبحث الوجوب والقدم من حهة كونهما من أقسام مطلق الوجوب والقدم أعني ضرورة الوجود بالذات أو بالغير وعدم االمسبوقية بالعدم وهما من الأمور الشاملة أما الوجوب فظاهر وأما القدم فعلى رأي الفلاسفة حيث يقولون بقدم المجردات والحركة والزمان وغيرهما من الجواهر والأعراض ونظر الكلام فيه من جهة النفي لا الإثبات يعني أنه ليس من الأمور العامة كبحث الحال عند من ينفيه وقد تفسر الأمور العامة بما يعم أكثر الموجودات أو المعدومات ليشمل العدم والامتناع وإلى هذا كان ينبغي أن يذهب صاحب المواقف حيث زعم أن ليس موضوع الكلام هو الموجود لما أنه يبحث عن المعدوم قال الفصل الأول رتب المقصد الثاني على ثلاثة فصول في الوجود والماهية ولواحقهما والفصل الأول يتضمن البحث عن العدم والحق أن تصور الوجود بديهي وأن هذا الحكم أيضا بديهي يقطع به كل عاقل يلتفت إليه وإن لم يمارس
____________________
(1/55)
طرق الاكتساب حتى ذهب جمهور الحكماء إلى أنه لا شيء أعرف من الوجود وعولوا على الاستقراء إذ هو كاف في هذا المطلوب لأن العقل إذا لم يجد في معقولاته ما هو أعرف منه بل هو في مرتبته ثبت أنه أوضح الأشياء عند العقل والمعنى الواضح قد يعرف من حيث أنه مدلول لفظ دون لفظ فيعرف تعريفا لفظيا يفيد فهمه من ذلك اللفظ لا تصوره في نفسه ليكون دور أو تعريفا للشيء بنفسه وذلك كتعريفهم الوجود بالكون والثبوت والتحقق والشيئية والحصول ونحو ذلك بالنسبة إلى من يعرف معنى الوجود من حيث أنه مدلول هذه الألفاظ دون لفظ الوجود حتى لو انعكس انعكس وأما التعريف بالثابت العين أو بالذي يمكن أن يخبر عنه ويعلم أو بالذي ينقسم إلى الفاعل والمنفعل أو بالذي ينقسم إلى القديم والحادث فإن قصد كونه رسميا فلزوم الدور ظاهر إذ لا يعقل معنى الذي ثبت والذي أمكن ونحو ذلك إلا بعد تعقل معنى الحصول في الأعيان أو الأذهان ولو سلم فلا خفاء في أن معنى الوجود أوضح عند العقل من معاني هذه العبارات وقد يقرر الدور بأن الموصوف المقدر لهذه الصفات أعني الذي يثبت والذي يمكن والذي ينقسم هو الوجود لا غير لأن غيره إما الموجود أو العدم أو المعدوم ولا شيء منها يصدق على الوجود وهو ضعيف لأن المفهومات لا تنحصر فيما ذكر فيجوز أن يقدر مثل المعنى والأمر والشيء مما يصدق على الوجود وغيره وإن قصد كونه تعريفا اسميا فلا خفاء في أنه ليس أوضح دلالة على المقصود من لفظ الوجود بل أخفى فلا يصلح تعريفا اسميا كما لا يصلح رسميا على أن كلا منها صادق على الموجود وبعضها على أعيان الموجودات وقد يتكلف لعدم صدق الثابت العين على الموجود بأن معناه الثابت عينه أي نفسه من حيث هي هي لا باعتبار أمر آخر بخلاف الموجود فإنه ثابت من حيث اتصافه بالوجود فالثابت أعم من أن يكون ثابتا بنفسه وهو الوجود أو بالوجود وهو الموجود وأنت خبير بأنه لا دلالة للفظ عينه على هذا المعنى ولا يعقل من الثابت إلا ما له الثبوت وهو معنى الموجود وكون هذه التعريفات للوجود هو ظاهر كلام التجريد والمباحث المشرقية وفي كلام المتقدمين أن الموجود هو الثابت العين والمعدوم هو المنفي العين وكأن زيادة لفظ العين لدفع توهم أن يراد الثابت لشيء والمنفي عن شيء فإن ذلك معنى المحمول لا الموجود وفي كلام الفارابي أن الوجود إمكان الفعل والانفعال والموجود ما أمكنه الفعل والانفعال قال واستدل كأن الإمام جعل التصديق ببداهة تصور الوجود كسبيا فاستدل عليه بوجوه الأول أن التصديق بأن الوجود والعدم متنافيان لا يصدقان معا على أمر أصلا بل كل أمر فإما موجود أو معدوم تصديق بديهي وهو مسبوق بتصور الوجود والعدم فهو أولى بالبداهة والجواب
____________________
(1/56)
أنه إن أريد أن هذا الحكم بديهي بجميع متعلقاته على ما هو رأي الإمام في التصديق فممنوع بل مصادرة على المط حيث جعل المرعي وهو بداهة تصور الوجود جزء من الدليل وإن أريد أن نفس الحكم بديهي بمعنى أنه لا يتوقف بعد تصور المتعلقات على كسب فمسلم لكنه لا يثبت المدعى وهو بداهة تصور الوجود بحقيقته لجواز الحكم البديهي مع عدم تصور الطرفين بالحقيقة بل بوجه ما ومع كون تصورهما كسبيا لا بديهيا وإنما قلنا في الأول فممنوع بل مصادرة ولم نقتصر على أحدهما تنبيها على تمام الجواب بدون بيان المصادرة وتحقيقا للزوم المصادرة بأن بداهة كل جزء من أجزاء هذا التصديق جزء من بداهة هذا التصديق لأنه لا معنى لبداهة هذا التصديق سوى أن ما يتضمنه من الحكم والطرفين بديهي والعلم بالكل إما نفس العلم بالأجزاء أو حاصل به على ما مر في تصور الماهية وأجزائها فبالضرورة يكون العلم بكل جزء سابقا على العلم بالكل لا تابعا له ممكن الاستفادة منه ويبطل ما ذكر في المواقف من أنا نحتار أن هذا التصديق بديهي مطلقا أي بجميع أجزائه ولا مصادرة لأن بداهة هذا التصديق تتوقف على بداهة أجزائه لكن العلم ببداهته لا يتوقف على العلم ببداهة الأجزاء فالاستدلال إنما هو على العلم ببداهة الأجزاء فيجوز أن يستفاد من العلم ببداهة هذاالتصديق لأنه يستتبع العلم ببداهة أجزائه بمعنى أنه إذا علم بداهته فكل جزء يلاحظ من أجزائه يعلم أنه بديهي فإن قيل قد يعقل المركب من غير ملاحظة الأجزاء على التفصيل قلنا لو سلم ففي المركب الحقيقي إذ لا معنى لتعقل المركب الاعتباري سوى تعقل الأمور الاعتبارية المتعددة التي وضع الاسم بإزائها ولو سلم ففي التصور للقطع بأنه لا معنى للتصديق ببداهة هذا المركب بجميع أجزائه سوى التصديق بأن هذاالجزء بديهي وذاك وذاك ولو سلم فلا يلزم المصادرة في شيء من الصور لجواز أن يعلم الدليل مطلقا من غير توقف على العلم بجزئه الذي هو نفس المرعي الوجه الثاني أن الوجود معلوم بحقيقته وحصول العلم إما بالضرورة أو الاكتساب وطريق الاكتساب إما الحد أو الرسم وهذا احتجاج على من يعترف بهذه المقدمات فلهذا لم يتعرض لمنعها والوجود يمتنع اكتسابه إما بالحد فلأنه إنما يكون للمركب والوجود ليس بمركب وإلا فأجزاؤه إما وجودات أو غيرها فإن كانت وجودات لزم تقدم الشيء على نفسه ومساواة الجزء للكل في تمام ماهيته وكلاهما محال أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن الجزء داخل في ماهية الكل وليس بداخل في ماهية نفسه ومبنى اللزوم على أن الوجود المطلق الذي فرض التركيب فيه ليس خارجا عن الوجودات الخاصة بل إما نفس ماهيتها ليلزم الثاني أو جزء مقوم لها ليلزم الأول وإلا فيجوز أن تكون الأجزاء وجودات خاصة هي نفس الماهيات أو زائدة عليها والمطلق خارج عنها فلا يلزم شيء من المحالين وإن لم تكن الأجزاء وجودات فإما أن يحصل عند اجتماعهما أمر زائد يكون هو الوجود أو لا
____________________
(1/57)
يحصل فإن لم يحصل كان الوجود محض ما ليس بوجود وهو مح وإن حصل لم يكن التركيب في الوجود الذي هو نفس ذلك الزائد العارض بل في معروضه هذا خلف وتقرير الإمام في المباحث انه لو تركب الوجود فأجزاؤه إن كانت وجودية كان الوجود الواحد وجودات وإن لم تكن وجودية فإن لم يحدث لها عند اجتماعها صفة الوجود كان الوجود عبارة عن مجموع الأمور العدمية وإن حدثت يكون ذلك المجموع مؤثرا في ذلك الوجود أو قابلا له فلا يكون التركيب في نفس الوجود بل في قابله أو فاعله وإما بالرسم فلما سبق من أنه إنما يفيد بعد العلم باختصاص الخارج بالمرسوم وهذا متوقف على العلم به وهو دور وبما عداه مفصلا وهو محال ولو سلم فلا يفيد معرفة الحقيقة والجواب عن التقرير الأول لدليل امتناع تركب الوجود النقض أي لو صح بجميع مقدماته لزم أن لا يكون شيء من الماهيات مركبا لجريانه فيها بأن يقال أجزاء البيت إما بيوت وهو مح وإما غير بيوت وح إما أن يحصل عند اجتماعهما أمر زائد هو البيت فلا يكون التركيب في البيت هذا خلف أولا يحصل فيكون البيت محض ما ليس ببيت والحل بأنا نختار أنه يحصل أمر زائد على كل جزء وهو المجموع الذي هو نفس الوجود فلا يكون التركيب إلا فيه ولا حاجة إلى حصول أمر زائد على المجموع فالوجود محض المجموع الذي ليس شيء من أجزائه بوجود كما أن البيت محض الأجسام التي ليس شيء منها ببيت والعشرة محض الآحاد التي ليس شيء منها بعشرة فإن قيل هذا إنما يستقيم في الأجزاء الخارجية وكلامنا في الأجزاء العقلية التي يقع بها التحديد إلزاما لمن اعترف بزيادة الوجود على الماهية إذ ليس على القول بالاشتراك اللفظي وجود مطلق يدعى بداهته أو اكتسابه بل له معان بعضها بديهي وبعضها كسبي وح لا يصح الحل بأن أجزاء الوجود أمور تتصف بالعدم أو بوجود هو عين الماهية أو لا تتصف بالوجود ولا بالعدم قلنا فالحل ما أشرنا إليه من أنها وجودات أي أمور يصدق عليها الوجود صدق العارض على المعروض وح لا يلزم شيء من المحالين ولا اتصاف الشيء بالوجود قبل تحقق الوجود لأنه لا تمايز بين الجنس والفصل والنوع إلا بحسب العقل دون الخارج فمعنى قولنا يكون الوجود محض ما ليس شيء من أجزائه بوجود أنه لا يكون شيء من الأجزاء نفس الوجود وإن كان يصدق عليه الوجود كسائر المركبات بالنسبة إلى الأجزاء العقلية فإنها لا تكون نفس ذلك المركب لكنه يصدق عليها صدق العارض والجواب عن التقرير الثاني أنا نختار أن أجزاء الوجود وجوديات ولا نسلم لزوم كون الوجود الواحد وجودات وإنما يلزم لو كان وجود الوجودي عينه ولو سلم فيكون الوجود الواحد في نفس الأمر وجودات بحسب العقل ولا استحالة فيه كما في سائر المركبات من الأجزاء العقلية والجواب عما ذكر في امتناع اكتسابه بالرسم ما سبق من أنه إنما يتوقف على الاختصاص لا على العلم بالاختصاص وأنه
____________________
(1/58)
وإن لم يستلزم إفادة معرفة الحقيقة لكنه قد يفيدها وقد يستدل على امتناع اكتسابه بالرسم بوجهين
أحدهما أنه يتوقف على العلم بوجود اللازم وثبوته للمرسوم وهو أخص من مطلق الوجود فيدور
وثانيهما أن الرسم إنما يكون بالأعرف ولا أعرف من الوجود بحكم الاستقراء أو لأنه أعم الأشياء بحسب التحقق دون الصدق والأعم أعرف لكون شروطه ومعانداته أقل والجواب منع أكثر المقدمات على أنه لو ثبت كونه أعرف الأشياء لم يحتج إلى باقي المقدمات
الوجه الثالث أن الوجود المطلق جزء من وجودي لأن معناه الوجود مع الإضافة والعلم بوجودي بديهي بمعنى أنه لا يتوقف على كسب أصلا فيكون الوجود المطلق بديهيا لأن ما يتوقف عليه البديهي يكون بديهيا والجواب أنه إن أريد أن تصور وجودي بالحقيقة بديهي فممنوع ولو سلم فلان أن المطلق جزء منه أو تصوره جزء من تصوره لما سيجيء من أن الوجود المطلق يقع على الوجودات وقوع لازم خارجي غير مقوم وليس العارض جزأ للمعروض ولا تصوره لتصوره وإن أريد أن التصديق أي العلم بأني موجود ضروري فغير مفيد لأن كونه بديهيا لجميع الأجزاء غير مسلم وكون حكمه بديهيا غير مستلزم لتصور الطرفين بالحقيقة فضلا عن بداهته وظاهر تقرير الإمام بل صريحه أن المراد هو تصديق الإنسان بأنه موجود ثم أورد منع بداهته فأجاب بأنه على تقدير كونه كسبيا لا بد من الانتهاء إلى دليل يعلم وجوده بالضرورة قطعا للتسلسل والعلم بالوجود جزء من ذلك العلم فيكون ضروريا وصرح صاحب المواقف بأنه جزء وجودي وهو متصور بالبديهة ثم أورد جواب الإمام عن المنع المذكور وزاد عليه فقال وأيضا لا دليل عن سالبتين فلا بد من الانتهاء إلى موجبة يحكم فيها بوجود المحمول للموضوع ضرورة ثم دفعهما بأن الذي لا بد من الانتهاء إليه دليل هو ضروري لا وجوده فإنا نستدل بصدق المقدمتين لا بوجودهما في الخارج وبأن الموجبة ما حكم فيها بصدق المحمول على ما صدق عليه الموضوع لا بوجوده له وأنت خبير بأنه لا دخل للدليل وترتيب المقدمتين في الإيصال إلى التصور وإن كان كلامه صريح في أنه يريد بالدليل الموصل إلى التصديق لا الموصل في الجملة وأن مراد الإمام بالدليل الذي لا بد من العلم بوجوده هو الأمر الذي يستدل به كالعالم للصانع لا المقدمات المرتبة وأنه لا معنى لصدق المحمول على الموضوع سوى وجوده له وثبوته له نعم يتجه أن يقال الوجود هنا رابطة وليس الكلام فيه ( قال فإن قيل ) يريد أن يشير إلى تمسكات المنكرين ببداهة الوجود مع الجواب عنها وهي وجوه
الأول أن الوجود إما نفس الماهية أو زائد عليها فإن كان نفس الماهية والماهيات ليست ببديهية كان الوجود غير بديهي وإن كان زائدا عليها كان عارضا لها لأن ذلك معناه فيكون تابعا للمعروضات في المعقولية إذ لا استقلال للعارض بدون المعروض وهو غير بديهية فكذا الوجود العارض بل أولى لا يقال الكلام
____________________
(1/59)
في الوجود المطلق لا في الوجودات الخاصة التي هي العوارض للماهيات ولو سلم فالوجود المطلق يكون عارضا لمطلق الماهية والكسبيات إنما هي الماهيات المخصوصة فعلى تقدير كون الوجود المطلق عارضا لا يلزم كونه تابعا للماهيات المكتسبة لأنا نقول الوجود المطلق عارض للوجودات الخاصة على ما سيجيء فيكون تابعا لها وهي تابعة للماهيات المكتسبة فيكون المطلق تابعا لها بالواسطة وهذا معنى زيادة التبعية وكذا مطلق الماهية عارض للماهيات المخصوصة لكونه صادقا عليها غير مقوم لها فيكون تابعا لها فيكون الوجود المطلق العارض لمطلق الماهية عارضا لها بالواسطة
الثاني أن الوجود لو كان بديهيا لم يشتغل العقلاء بتعريفه كما لم يشتغلوا بإقامة البرهان على القضايا البديهية لكنهم عرفوه بوجوه كما مر
الثالث أنه لو كان بديهيا لم يختلف العقلاء في بداهته ولم يفتقر المثبتون منهم إلى الاحتجاج عليها لكنهم اختلفوا واحتجوا فلم يكن بديهيا
والجواب عن الأول أنا لانم أن العارض يكون تابعا للمعروض في المعقولية بل ربما يعقل العارض دون المعروض وعدم استقلاله إنما هو في التحقق في الأعيان ولو سلم فلا نزاع في بداهة بعض الماهيات فيكفي في تعقل الوجود من غير اكتساب لا يقال العارض تابع للمعروض في التحقق حيث ما كان عارضا فإن كان في الخارج ففي الخارج وإن كان في العقل ففي العقل وسيجيء أن زيادة الوجود على الماهية إنما هي في العقل والمعقول بتبعية الماهية البديهية يكون وجودها الخاص وليس المطلق ذاتيا له حتى يلزم بداهته بل عارضا لأنا نقول ليس معنى العروض في العقل أن لا يتحقق العارض في العقل بدون المعروض وقائما به كما في العروض الخارجي بل أن العقل إذا لاحظهما ولاحظ النسبة بينهما لم يكن المعقول من أحدهما نفس المعقول من الآخر ولا جزأ له بل صادقا عليه والوجود المطلق وإن لم يكن ذاتيا للخاص لكنه لازم له بلا نزاع وليس إلا في العقل إذ لا تمايز في الخارج فتعقل الخاص لا يكون بدون تعقله فيكون بديهيا مثله
وعن الثاني أن البديهي لا يعرف تعريفا حديا أو رسميا لإفادة تصوره لكن قد يعرف تعريفا اسميا لإفادة المراد من اللفظ وتصور المعنى من حيث أنه مدلول لفظ وإن كان متصورا في نفسه ومن حيث أنه مدلول لفظ آخر وتعريفات الوجود من هذا القبيل
وعن الثالث أن الذي لا يقع فيه اختلاف العقلاء هو الحكم البديهي الواضح وبداهة تصور الوجود لا تستلزم بداهة الحكم بأنه بديهي فيجوز أن يكون هذا الحكم كسبيا أو بديهيا خفيا لا يكون في حكم قولنا الواحد نصف الاثنين فيقع فيه الاختلاف ويحتاج على الأول إلى الدليل وعلى الثاني إلى التنبيه ويكون ما ذكر في معرض الاستدلال تنبيهات وقد يقال الوجود لا يتصور أصلا وهو مكابرة في مقابلة القول بأنه أظهر الأشياء واخترع الإمام لذلك تنسكات منها أنه لو كان متصورا لكان الواجب متصورا إلزاما للقائلين بأن حقيقة الوجود المجرد ومعنى التجرد معلوم قطعا ومبناه
____________________
(1/60)
على أن الوجود طبيعة نوعية لا تختلف إلا بالإضافات وليس كذلك على ما سيأتي ومنها أنه لو تصور لارتسم في النفس صورة مساوية له مع أن للنفس وجودا فيجتمع مثلان والجواب منع التمثيل بين وجود النفس والصورة الكلية للوجود على أن الممتنع من اجتماع المثلين هو قيامهما بمحل واحد كقيام العرض وههنا لو سلم قيام الصورة كذلك فظاهر أن ليس قيام الوجود كذلك لما سيجيء من أن زيادة الوجود على الماهية إنما هي في الذهن فقط وأما الجواب بأنه يكفي لتصور الوجود وجود النفس كما يكفي لتصور ذاتها نفس ذاتها فإنما يصح على رأي من يجعل الوجود حقيقة واحدة لا يختلف إلا بالإضافة وإلا فكيف يكفي لتصور الوجود المطلق حصول الوجود الخاص الذي هو معروض لها ومنها أن تصوره بالحقيقة لا يكون إلا إذا علم تميزه عما عداه بمعنى أنه ليس غيره وهذا سلب مخصوص لا يعقل إلا بعد تعقل السلب المطلق وهو نفي صرف لا يعقل إلا بالإضافة إلى وجود فيدور والجواب أن تصوره يتوقف على تميزه لا على العلم بتميزه ولو سلم فالسلب المخصوص إنما يتوقف تعقله على تعقل السلب المطلق لو كان ذاتيا له وهو ممنوع ولو سلم فلانم أن النفي الصرف لا يعقل ولو سلم فالسلب يضاف إلى الإيجاب وهو غير الوجود قال البحث الثاني المنقول عن الشيخ أبي الحسن الأشعري أن وجود كل شيء عين ذاته وليس للفظ الوجود مفهوم واحد مشترك بين الوجودات بل الاشتراك لفظي والجمهور على أن له مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات إلا أنه عند المتكلمين حقيقة واحدة تختلف بالقيود والإضافات حتى أن وجود الواجب هو كونه في الأعيان على ما يعقل من كون الإنسان وإنما الاختلاف في الماهية فالوجود معنى زائد على الماهية في الواجب والممكن جميعا وعند الفلاسفة وجود الواجب مخالف لوجود الممكن في الحقيقة واشتراكهما في مفهوم الكون اشتراك معروضين في لازم خارجي غير مقوم وهو في الممكن زائد على الماهية عقلا وفي الواجب نفس الماهية بمعنى أنه لا ماهية للواجب سوى الوجود الخاص المجرد عن مقارنة الماهية بخلاف الإنسان فإن له ماهية هو الحيوان الناطق ووجودا هو الكون في الأعيان فوقع البحث في ثلاث مقامات
( 1 ) أنه مشترك معنى
( 2 ) أنه زائد ذهنا
( 3 ) أنه في الواجب زائد أيضا والإنصاف أن الأولين بديهيان والمذكور في معرض الاستدلال تنبيهات فعلى الأول وجوه
الأول أنا إذا نظرنا في الحادث جزمنا بأن له مؤثرا مع التردد في كونه واجبا أو ممكنا عرضا أو جوهرا متحيزا وغير متحيز ومع تبدل اعتقاد كونه ممكنا إلى اعتقاد كونه واجبا إلى غير ذلك من الخصوصيات فبالضرورة يكون الأمر المقطوع به الباقي مع التردد في الخصوصيات وتبدل الاعتقادات مشتركا بين الكل
الثاني أنا نقسم الموجود إلى الواجب والممكن ومورد القسمة مشترك بين أقسامه ضرورة أنه لا معنى لقسم الشيء إلى بعض ما يصدق هو عليه فقولنا الحيوان
____________________
(1/61)
إما أبيض أو غير أبيض تقسيم له إلى الحيوان الأبيض وغيره لا إلى مطلق الأبيض الشامل للحيوان وغيره ولو سلم فلا يضرنا لأن المقصود مجرد اشتراكه بين الواجب والممكن ردا على من زعم عدم الاشتراك أصلا أو لأنه لا قائل بالاشتراك بينهما دون سائر الممكنات أو لأنه يرشد إلى البيان في الكل بأن يقال الموجود من الممكن إما جوهر أو عرض ومن الجوهر إما إنسان أو غيره فإن قيل على الوجهين الأولين لم لا يجوز أن يكون الأمر الباقي المقطوع به هو تحقق معنى من معاني لفظ الوجود لا مفهوم له كلي وأن يكون التقسيم لبيان مفهومات اللفظ المشترك كما يقال العين إما فوارة وإما باصرة لا لبيان أقسام مفهوم كلي قلنا لأنا نجد هذا الجزم وصحة التقسيم مع قطع النظر عن الوضع واللغة ولفظ الوجود فإن نوقض الوجهان بالماهية والتشخص حيث يبقى الجزم بأن لعلة الحادث ماهية وتشخصا مع التردد في كونها واجبا أو ممكنا وتقسيم كل منهما إلى الواجب والممكن مع أن شيئا من الماهيات والتشخصات ليس بمشترك بين الكل أجيب بأن مطلق الماهية والتشخص أيضا مفهوم كلي مشترك بين الماهيات والتشخصات المخصوصة فلا نقض وإنما يرد لو ادعينا أن الوجودات متماثلة حقيقتها مفهوم الوجود ولا خفاء في أن شيئا من الوجوه لا يدل على ذلك
الثالث أنه لو لم يكن للوجود مفهوم مشترك لم يتم الحصر في الموجود والمعدوم لأنا إذا قلنا الإنسان متصف بالوجود بأحد المعاني أو معدوم كان عند العقل تجويز أن يكون متصفا بالوجود بمعنى آخر ويفتقر إلى إبطاله وهذا لا يتوقف على اتحاد مفهوم العدم إذ على تقدير تعدده كان عدم الحصر أظهر لجواز أن يكون متصفا بالعدم بمعنى آخر فلذا عدلنا عما ذكره القوم من أن مفهوم العدم واحد فلو لم يتحد مفهوم مقابله لبطل الحصر العقلي وجعلنا اتحاد مفهوم العدم وجها رابعا تقريره أن مفهوم العدم واحد فلو لم يكن للوجود مفهوم واحد لما كان نقيضين ضرورة ارتفاعهما عن الوجود بمعنى آخر واللازم باطل قطعا فإن قيل لانم اتحاد مفهوم العدم بل الوجود نفس الحقيقة والعدم رفعها فلكل وجود رفع يقابله قلنا سواء جعل رفع الوجود بمعنى الكون المشترك أو بمعنى نفس الحقيقة فهو مفهوم واحد بالضرورة وإنما التعدد بالإضافة فإن قيل لا خفاء في أن اللاإنسان واللافرس واللاشجر وغير ذلك مفهومات مختلفة فإذا كان لفظ العدم موضوعا بإزاء كل منها لم يتحد مفهومه قلنا الكل مشترك في مفهوم لا وهو معنى العدم ولا نعني باتحاد المفهوم سوى هذا قال وعلى الثاني أي ينبه على زيادة الوجود على الماهية أمور تجامع الوجود وتنافي الماهية وذاتياتها
( 1 ) صحة السلب فإنه يصح سلب الوجود عن الماهية مثل العنقاء ليس بموجود ولا يصح سلب الماهية وذاتياتها عن نفسها
( 2 ) إفادة الحمل فإن حمل الوجود على ا لماهية المعلومة بالكنه يفيد فائدة غير حاصلة بخلاف حمل الماهية وذاتياتها
( 3 ) اكتساب الثبوت فإن التصديق بثبوت الوجود للماهية قد يفتقر إلى كسب ونظر كوجود الجن
____________________
(1/62)
مثلا بخلاف ثبوت الماهية وذاتياتها لها
( 4 ) اتحاد المفهوم فإن وجود الإنسان والفرس والشجر مفهوم واحد وهو الكون في الأعيان ومفهوم الإنسان والفرس والشجر مختلف
( 5 ) الانفكاك في التعقل فإنا قد نتصور الماهية ولا نتصور كونها أما في الخارج فظاهر وأما في الذهن فلأنا لا نعلم أن التصور هو الوجود في العقل ولو سلم فبالدليل ولو سلم فتصور الشيء لا يستلزم تعقل تصوره ولو سلم فيجوز أن يوجد في الخارج مالا نعقله أصلا وأيضا قد نصدق ثبوت الماهية وذاتياتها لها بمعنى أنها هي هي من غير تصديق بثبوت الوجود العيني أو الذهني لها فأثرنا لفظ ا لتعقل ليعم التصور والتصديق وعبارة الكثيرين أنا نتصور ماهية المثلث ونشك في وجودها العيني والذهني ويرد عليها الاعتراض بأنه لا يفيد المط لأن حاصله أنا ندرك الماهية تصورا ولا ندرك الوجود تصديقا وهذا لا ينافي اتحادهما واعلم أن هذه تنبيهات على بطلان القول بأن المعقول من وجود الشيء هو المعقول من ذلك الشيء فبعضها يدل على ذلك في الواجب والممكن جميعا وبعضها في الممكن مطلقا وبعضها في صور جزئية من الممكنات فلا يرد الاعتراض على بعضها بأنه لا يفيد الزيادة في الواجب والممكن جميعا وعلى بعضها بأنه يختص بصور جزئية من الممكنات والمثال الجزئي لا يصحح القاعدة الكلية وعلى الكل بأنها إنما تفيد تغاير الوجود والماهية بحسب المفهوم دون الهوية قال ومنعت الفلاسفة احتجت الفلاسفة على امتناع زيادة وجود الواجب على ماهيته بوجوه حاصلها أنه لو كان كذلك لزم محالا
( 1 ) كون الشيء قابلا وفاعلا وسيجيء بيان استحالته
( 2 ) تقدم الشيء بوجوده على وجوده وهو ضروري الاستحالة لا يحتاج إلى ما ذكره الإمام من أنه يفضي إلى وجود الشيء مرتين وإلى التسلسل في الوجودات لأن الوجود المتقدم إن كان نفس الماهية فذاك وإلا عاد الكلام فيه وتسلسل
( 3 ) إمكان زوال وجود الواجب وهو ضروري الاستحالة وجه اللزوم
أما الأول فلأن الماهية تكون قابلا للوجود من حيث المفروضية وفاعلا له من حيث الاقتضاء
وأما الثاني فلأن الوجود يحتاج إلى الماهية احتياج العارض إلى المعروض فيكون ممكنا ضرورة احتياجه إلى الغير فيفتقر إلى علة هي الماهية لا غير لامتناع افتقار وجود الواجب إلى الغير وكل علة فهي متقدمة على معلولها بالضرورة فتكون الماهية متقدمة بالوجود على الوجود
وأما الثالث فلأن الوجود إذا كان محتاجا إلى غيره كان ممكنا وكان جائز الزوال نظرا إلى ذاته وإلا لكان واجبا لذاته هذا خلف وإنما قلنا نظرا إلى ذاته دفعا لما قيل لا نسلم أن كل ممكن جائز الزوال وإنما يكون كذلك لو لم يكن واجبا بالغير وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم استحالة كون الشيء قابلا وفاعلا وسيجيء الكلام على دليلها وعن الثاني بأنا لا نسلم لزوم تقدم الماهية على الوجود بالوجود وإنما يلزم ذلك لو لزم تقدم العلة على المعلول بالوجود وهو ممنوع ودعوى الضرورة غير مسموعة وإنما الضروري تقدمها بما هي علة به إن كانت بالوجود
____________________
(1/63)
فبالوجود أو بالماهية فبالماهية كما في اللوازم المستندة إلى نفس الماهية فإن الماهية تتقدمها بذاتها ومن حيث كونها تلك الماهية من غير اعتبار وجودها أو عدمها كالثلاثة للفردية وذلك كالقابل فإن تقدمه على المقبول ضروري لكنه قد يكون بالماهية من حيث هي لا باعتبار الوجود أو العدم كماهيات الممكنات لوجوداتها وعن الثالث بأنا لا نسلم أن الوجود إذا كان محتاجا إلى الماهية كان جائزا لزوال عنها نظرا إلى ذاته وإنما يلزم لو لم تكن الماهية لذاتها مقتضية له ولا معنى لواجب الوجود سوى ما يمتنع زوال وجوده عن ذاته نظرا إلى ذاته ولا يضره احتياج وجوده إلى ذاته ولا تسميته ممكنا بهذا الاعتبار وإن كان خلاف الإصلاح فإن الممكن ما يحتاج إلى الغير في ثبوت الوجود له فلهذا لم يتعرض في المتن للإمكان واقتصر على الاحتياج ( قال فإن قيل ) العمدة في احتجاج الفلاسفة هو الوجه الثاني وحاصل ما ذكره الإمام في الجواب أنه لم لا يجوز أن يكون علة الوجود هي الماهية من حيث هي هي فتقدمه لا بالوجود كما أن ذاتيات الماهية متقدمة عليها لا بالوجود وكما أن الماهية علة للوازمها بذاتها لا بوجودها وكما أن ماهية الممكن قابل لوجوده مع أن تقدم القابل أيضا ضروري ورده الحكيم المحقق في مواضع من كتبه بأن الكلام فيما يكن علة لوجود أمر موجود في الخارج وبديهة العقل حاكمة بوجوب تقدمها عليه بالوجود فإنه مالم يلحظ كون الشيء موجودا امتنع أن يلحظ كونه مبدأ للوجود ومفيدا له بخلاف القابل للوجود فإنه لا بد أن يلحظه العقل خاليا عن الوجود أي غير معتبر فيه الوجود لئلا يلزم حصول الحاصل بل عن العدم أيضا لئلا يلزم اجتماع المتنافيين فإذن هي الماهية من حيث هي هي وأما الذاتيات بالنسبة إلى الماهية والماهية بالنسبة إلى لوازمها فلا يجب تقدمهما إلا بالوجود العقلي لأن تقدمها بالذاتيات واتصافها بلوازمها إنما هو بحسب العقل وإذا تحققت فتقدم قابل الوجود أيضا كذلك لما سيجيء من أنه بحسب العقل فقط لا كالجسم مع البياض فنقول على طريق البحث دون التحقيق لا نسلم أن المفيد لوجود نفسه يلزم تقدمه عليه بالوجود فإنه لا معنى للإفادة هنا سوى أن تلك الماهية تقتضي لذاتها الوجود ويمتنع تقدمها عليه بالوجود ضرورة امتناع حصول الحاصل كما في القابل بعينه بخلاف المفيد لوجود الغير فإن بديهة العقل حاكمة بأنه مالم يكن موجودا لم يكن مبدأ لوجود الغير ومن ههنا يستدل بالعالم على وجود الصانع فإن قيل إذا كانت ماهية الواجب مفيدة لوجوده ومقتضية له كان وجوده معلولا للغير وكل معلول للغير ممكن فيكون وجود الواجب ممكنا هذا خلف قلنا بعد المساعدة على تسمية مقتضى الماهية معلولا لها وتسمية الذات الموجودة غيرا للوجود لا نسلم أن كل معلوم للغير بهذاالمعنى ممكن وإنما يلزم ذلك لو لم يكن المعلول هوالوجود والغير هو الماهية التي قام بها ذلك الوجود كيف ولا معنى لوجوب الوجود سوى كونه مقتضى الذات التي قام بها
____________________
(1/64)
الوجود من غير احتياج إلى غير تلك الذات وهذا معنى قوله قلنا لذاته فيجب أن يكون وجود الواجب مقتضي لذات الواجب فيكون اللازم وجوبه لا إمكانه وتحقيقه أنا إذا وصفنا الماهية بالوجوب فمعناه أنها لذاتها تقتضي الوجود وإذا وصفنا به الوجود فمعناه أنه مقتضي ذات الماهية من غير احتياج إلى غيرها فسواء قلنا واجب الوجود لذاته أو الوجود واجب لذاته فالمراد ذات الموجود لا ذات الوجود ( قال وعورضت ) استدل المتكلمون على زيادة وجود الواجب على ماهيته بوجوه
الأول لو كان وجود الواجب مجردا عن مقارنة الماهية فحصول هذا الوصف له إن كان لذاته لزم أن يكون كل وجود كذلك لامتناع تخلف مقتضى الذات وقد مر بطلانه بل واجبا فيلزم تعدد الواجب وإن كان لغيره لزم احتياج الواجب في وجوبه إلى الغير ضرورة توقف وجوبه على التجرد المتوقف على ذلك الغير لا يقال يكفي في التجرد عدم ما يقتضي المقارنة لأنا نقول فيحتاج إلى ذلك العدم وأجيب بأنه لذاته الذي هو الوجود الخاص المخالف بالحقيقة لسائر الموجودات
الثاني الواجب مبدأ الممكنات فلو كان وجودا مجردا فكونه مبدأ للممكنات إن كان لذاته فيلزم أن يكون كل وجود كذلك وهو محال لاستحالة كون وجود زيد علة لنفسه ولعله وإلا فإن كان هو الوجود مع قيد التجرد لزم تركب المبدأ بل عدمه ضرورة أن أحد جزئيه وهو التجرد عدمي وإن كان بشرط التجرد لزم جواز كون كل وجود مبدأ لكل وجود إلا أن الحكم تخلف عنه لانتفاء شرط المبدائية ومعلوم أن كون الشيء مبدأ لنفسه ولعلله ممتنع بالذات لا بواسطة انتفاء شرط المبدائية والجواب أن ذلك لذاته الذي هو وجود خاص مباين لسائر الوجودات فلا يلزم أن يكون كل وجود كذلك
الثالث الواجب يشارك الممكنات في الوجود ويخالفها في الحقيقة وما به المشاركة غير ما به المخالفة فيكون وجوده مغايرا لحقيقته والجواب أن ما به المشاركة هو الوجود المطلق والحقيقة هو الوجود الخاص وهو المتنازع
الرابع الواجب إن كان نفس الكون في الأعيان أعني الوجود المطلق لزم تعدد الواجب ضرورة أن وجود زيد غير وجود عمرو وإن كان هو الكون مع قيد التجرد لزم تركب الواجب من الوجود والتجرد مع أنه عدمي لا يصلح جزأ للواجب أو بشرط التجرد لزم أن لا يكون الواجب واجبا لذاته بل بشرطه الذي هو التجرد وإن كان غير الكون في الأعيان فإن كان بدون الكون في الأعيان فمحال ضرورة أنه لا يعقل الوجود بدون الكون وإن كان مع الكون فإما أن يكون الكون داخلا فيه وهو محال ضرورة امتناع تركب الواجب أو خارجا عنه وهو المطلوب لأن معناه زيادة الوجود على ما هو حقيقة الواجب والجواب أنه نفس الكون الخاص المجرد المخالف لسائر الأكوان ولا نزاع في زيادة الكون المطلق عليه
الخامس الوجود معلوم بالضرورة وحقيقة الواجب غير معلومة اتفاقا وغير المعلوم غير المعلوم ضرورة
____________________
(1/65)
والجواب أن المعلوم هو الوجود المطلق للمغاير للخاص الذي هو نفس الحقيقة وإلى هذه الأجوبة أشار بقوله لا نزاع في زيادة الوجود المطلق أي على ماهية الواجب وإنما النزاع في زيادة وجوده الخاص وما ذكر من الوجوه لا يدل عليها قال فإن قيل إشارة إلى دليل آخر للإمام لا يندفع بما ذكر تقريره أن الوجود طبيعة نوعية لما بينتم من كونه مفهوما واحدا مشتركا بين الكل والطبيعة النوعية لا تختلف لوازمها بل يجب لكل فرد منها ما يجب للآخر لامتناع تخلف المقتضى عن المقتضى وعلى هذا بنيتم كثيرا من القواعد كما سيأتي فالوجود إن اقتضى العروض أو اللاعروض لم يختلف ذلك في الواجب والممكن وإن لم يقتض شيئا منهما احتاج الواجب في وجوبه إلى منفصل كما سبق والجواب أنا لا نسلم أنه طبيعة نوعية ومجرد اتحاد المفهوم لا يوجب ذلك لجواز أن يصدق مفهوم واحد على أشياء مختلفة الحقيقة واللوازم كالنور يصدق على نور الشمس وغيره مع أنه يقتضي إبصار الأعشى بخلاف سائر الأنوار فيجوز أن تكون الوجودات الخاصة متخالفة بالحقيقة يجب للوجود الواجب التجرد ويمتنع عليه المقارنة والممكن بالعكس مع اشتراك الكل في صدق مفهوم الوجود المطلق عليها صدق العرضي اللازم على معروضاته الملزومة كالنور على الأنوار لا صدق الذاتي بمعنى تمام الحقيقة ليكون طبيعة نوعية كالإنسان لإفراده أو بمعنى جزء الماهية ليلزم التركب كالحيوان لأنواعه قال متواطئا أو مشككا إشارة إلى أن الجواب يتم بما ذكرنا من المنع مستندا بأنه يجوز اشتراك الملزومات المختلفة الحقائق في لازم واحد غير ذاتي سواء كانت مقوليته عليها بالتواطئ كالماهية على الماهيات والتشخص على التشخصات أو بالتشكيك كالبياض على البياضات والحرارة على الحرارة فلا يلزم من كون الوجود مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات كونه طبيعة نوعية والوجودات أفرادا متفقة الحقيقة واللوازم وإن فرضنا اشتراك الكل في مفهوم الوجود على السواء من غير أولية ولا أولوية إلا أنه لما كان الواقع هو التشكيك وكان من دأب الحكيم المحقق سلوك طريق التحقيق ذكر في جواب استدلالات الإمام أن الوجود مقول على الوجودات بالتشكيك لأنه في العلة أقدم منه في المعلول وفي الجواهر أولى منه في العرض وفي العرض القار كالسواد أشد منه في غير القار كالحركة بل هو في الواجب أقدم وأولى وأشد منه في الممكن والواقع على الأشياء بالتشكيك يكون عارضا لها خارجا عنها لا ماهية لها أو جزء ماهية لامتناع اختلافهما على ما سيأتي فلا يكون الوجود طبيعة نوعية للوجودات بل لازما خارجا يقع على ما تحته بمعنى واحد ولا يلزم من ذلك تساوي ملزوماته التي هي وجود الواجب ووجودات الممكنات في الحقيقة ليمتنع اختلافها في العروض واللاعروض وفي المبدائية للممكنات وعدم المبدائية إلى غير ذلك والعجب أن الإمام قد اطلع من كلام الفارابي وابن
____________________
(1/66)
سينا على أن مرادهم أن حقيقة الواجب وجود تجرد هي محض الواجب . . ارتزاك نيه أصلا والوجود المشترك العام المعلوم لازم له غير مقوم بل صرح في بعض كتبه بأن الوجود مقول على الوجودات بالتشكيك ثم استمر على شبهته التي زعم أنها من المتانة بحيث لا يمكن توجيه شك مخيل عليها وهي أن الوجود إن اقتضى العروض أو اللاعروض تساوى الواجب والممكن في ذلك وإن لم يقتض شيئا منهما كان وجوب الواجب من الغير وجملة الأمر أنه لم يفرق بين التساوي في المفهوم والتساوي في الحقيقة فذهب إلى أنه لا بد من أحد الأمرين إما كون اشتراك الوجود لفظيا أو كون الوجودات متساوية في اللوازم ( قال فيزيد عليها ) دفع لما سبق إلى بعض الأوهام من أن الوجود إذا كان مشككا كان زائدا في الكل وهو المطلوب حتى قالوا أن اختلافه في العروض واللاعروض على تقدير التواطئ محال وعلى تقدير التشكيك تهافت لاستلزامه العروض في الكل فنقول كلاهما فاسد أما الأول فلما سبق من أن المتواطئ قد لا يكون ذاتيا لما تحته بل عارضا تختلف معروضاته بالحقيقة واللوازم وأما الثاني فلأن كون الوجود مشككا إنما يستلزم زيادته على ما تحته من الوجودات وهو غير مطلوب والمطلوب زيادة الوجودات الخاصة بها بأن يكون كل منها عارضا لماهية قائما بها في العقل وهو غير لازم لجواز أن يكون أحد معروضات مفهوم الوجود أو المشكك وجودا قيوما أي قائما بنفسه مقيما لغيره لكونه حقيقة مخالفة لسائر المعروضات وأما تعجب الإمام بأن العرض الذي بلغ في الضعف إلى حيث لا يستقل بالمفهومية والمحكومية لكونه أمرا إضافيا وهو الكون في الأعيان كيف صار في حق الواجب ذاتا مستقلا بنفسه غنيا عن السبب مبدأ لاستقلال كل مستقل فأولى بالتعجب حيث صدر مثل هذا الكلام عن مثل ذلك الإمام قال فإن قيل أي في إثبات المقدمة الممنوعة لو لم يكن الوجود طبيعة نوعية هي تمام حقيقة الموجودات لزم التباين الكلي بين الوجودات ضرورة أنها لا تشترك في ذاتي أصلا لامتناع تركب وجود الواجب واللازم باطل لما ثبت من اشتراك الوجود معنى قلنا إن أريد بالتباين عدم صدق بعضها على البعض فلا نسلم استحالته وما ثبت من اشتراك الكل في مفهوم الوجود لا يقتضي تصادقها وإن أريد عدم التشارك في شيء أصلا فلا نسلم لزومه وما ذكر من عدم الاشتراك في تمام الحقيقة أو بعض الذاتيات لا ينفي الاشتراك في عارض هو مفهوم الكون وذلك كإفراد الماشي من أنواع الحيوانات وأشخاصها يشترك في مفهوم الماشي من غير تصادق بينها قال وذهب الشيخ احتج القائلون بكون الوجود نفس الماهية في الواجب والممكنات جميعا بوجوه حاصلها أنه لو لم يكن نفس الماهية وليس جزأ منها
____________________
(1/67)
بالاتفاق لكان زائدا عليها قائما بها قيام الصفة بالموصوف وقيام الشيء بالشيء فرع ثبوتهما في نفسهما لأن ما لا كون له في نفسه لا يكون محلا ولا في محل وهذا بالنظر إلى الوجود والمناهية ممتنع أما في جانب الماهية فلأنها لو تحققت محلا للوجود فتحققها أما بذلك الوجود فيلزم تقدم الشيء على نفسه ضرورة تقدم وجود المعروض على العارض وأما بوجود آخر فيلزم تسلسل الوجودات ضرورة إلا أن هذا الوجود أيضا عارض يقتضي سابقية وجود المعروض وأما في جانب الوجود فلأنه لو تحقق والتقدير أن تحقق الشيء أي وجوده زائد عليه تسلسلت الوجودات فباعتبار الوجود والعدم في كل من المعروض والعارض يمكن الاحتجاج على امتناع زيادة الوجود على الماهية بأربعة أوجه
الأول أنه لو قام بها وهي بدون الوجود معدومة لزم قيام الوجود بالمعدوم وفيه جمع بين صفتي الوجود والعدم وهو تناقض
الثاني أنه لو قام بها لزم سبقها بالوجود كما في سائر المعروضات فإن كان ذلك الوجود هو الوجود الأول لزم الدور لتوقف قيام الوجود بالماهية على الماهية الموجودة المتوقفة على قيام ذلك الوجود بها وإن كان غيره لزم التسلسل لأن هذا الوجود أيضا عارض يقتضي سبق الماهية عليه بوجود آخر وهلم جرا قيل هذا التسلسل مع امتناعه لما سيأتي من الأدلة ولاستلزامه انحصار مالا يتناهى بين حاضرين الوجود والماهية يستلزم المدعي وهو كون الوجود نفس الماهية لأن قيام جميع الموجودات العارضة بالماهية يستلزم وجودا لها غير عارض وإلا لم يكن الجميع جميعا وفيه نظر لأنا لا نسلم على تقدير التسلسل تحقق جميع لا يكون وراءه وجود آخر بل كل جميع فرضت معروضها بواسطة وجود آخر عارض لأن معنى هذا التسلسل عدم انتهاء الوجودات إلى وجود لا يكون بينه وبين الماهية وجود آخر
الثالث أن وجود الشيء لو كان زائدا عليه لما كان الوجود موجودا ضرورة امتناع تسلسل الوجودات بل معدوما وفيه اتصاف الشيء بنقيضه وكون مالا ثبوت له في نفسه ثابتا في محله
الرابع أنه لو قام بالماهية لكان موجودا ضرورة امتناع اتصاف الشيء بنقيضه وامتناع أن يثبت في المحل مالا ثبوت له في نفسه فننقل الكلام إلى وجوده ويتسلسل لأن التقدير أن وجود كل شيء زائد عليه والتحقيق يقتضي رد الوجوه الأربعة إلى وجهين بطريق الترديد بين الوجود والعدم في جانبي المعروض والعارض على ما أوردنا في المتن تقرير الأول أنه لو قام بالماهية فالماهية المعروضة إما معدومة فيتناقض أو موجودة فيدور أو بتسلسل وتقرير الثاني أن الوجود العارض إما معدوم فيتصف الشيء بنقيضه ويثبت في المحل مالا ثبوت له في نفسه وإما موجود فيزيد وجوده عليه وتتسلسل الوجودات والجواب إما إجمالا فهو أن زيادة الوجود على الماهية وقيامه بها إنما هو بحسب العقل بأن يلاحظ كلا منهما من غير ملاحظة الآخر ويعتبر الوجود معنى له اختصاص
____________________
(1/68)
ناعت بالماهية لا بحسب الخارج بأن يقوم الوجود بالماهية قيام البياض بالجسم وتلزم المحالات وإما تفصيلا فعن الأول أن قيامه بالماهية من حيث هي هي لا بالماهية المعدومة ليلزم التناقض ولا بالماهية الموجودة ليلزم الدور أو التسلسل فإن قيل إن أريد بالماهية من حيث هي هي مالا يكون الوجود أو العدم نفسها ولا جزأ منها على ما قيل فغير مفيد لأن العروض كاف في لزوم المحالات وإن أريد مالا يكون موجودا ولا معدوما لا بالعروض ولا بغيره فالتناقض فيه أظهر لأن اللاوجود نقيض الوجود بلا نزاع ولا اشتباه قلنا المراد مالا يعتبر فيه الوجود ولا العدم وإن كان لا ينفك عن أحدهما في الخارج فإن قيل عدم الانفكاك عن أحدهما كاف في لزوم المحال لأنه إن قارن العدم فيناقض أو الوجود فيدور أو يتسلسل قلنا قيام الوجود بالماهية أمر عقلي ليس كقيام البياض بالجسم ليلزم تقدمها عليه بالوجود تقدما ذاتيا أو زمانيا فتلزم المحالات بل غاية الأمر أنه يلزم تقدمها عليه بالوجود العقلي ولا استحالة فيه لجواز أن تلاحظ وحدها من غير ملاحظة وجود خارجي أو ذهني ويكون لها وجود ذهني لا بملاحظة العقل فإن عدم الاعتبار غير اعتبار العدم وإن اعتبر العقل وجودها الذهني لم يلزم التسلسل بل ينقطع بانقطاع الاعتبار وأما القائلون بنفي الوجود الذهني فجوابهم الاقتصار على منع لزوم تقدم المعروض على العارض بالوجود على الإطلاق وإنما ذلك في عوارض الوجود دون عوارض الماهية وعن الثاني أنا نختار أن الوجود موجود ولانم لزوم التسلسل وإنما يلزم لو كان وجوده أيضا زائدا عليه وليس كذلك بل وجوده عينه وإنما النزاع في غيره والأدلة إنما قامت عليه وتحقيق ذلك أنه لما كان تحقق كل شيء بالوجود فبالضرورة يكون تحققه بنفسه من غير احتياج إلى وجود آخر يقوم به كما أنه لما كان التقدم والتأخر فيما بين الأشياء بالزمان كانا فيما بين أجزائه بالذات من غير افتقار إلى زمان آخر فإن قيل فيكون كل وجود واجبا إذ لا معنى له سوى ما يكون تحققه بنفسه قلنا ممنوع فإن معنى وجود الواجب بنفسه أنه مقتضى ذاته من غير احتياج إلى فاعل ومعنى تحقق الوجود بنفسه أنه إذا حصل للشيء إما من ذاته كما في الواجب أو من غيره كما في الممكن لم يفتقر تحققه إلى وجود آخر يقوم به بخلاف الإنسان فإنه إنما يتحقق بعد تأثير الفاعل بوجود يقوم به عقلا على أن في قولنا تحقق الأشياء بالوجود تسامحا في العبارة أو الوجود نفس تحقق الأشياء لا ما به تحققها والمعنى أن تحقق الأشياء يكون عند قيام الوجود بها عقلا واتحادها به هوية أو نختار أن الوجود معدوم ولا يلزم منه اتصاف الشيء بنقيضه بمعنى صدقه عليه لأن نقيض الوجود هو العدم واللاوجود لا المعدوم ولا اللاموجود فغاية الأمر أنه يلزم أن الوجود ليس بذي وجود كما أن السواد ليس بذي سواد والأمر كذلك ولا يلزم أيضا أن يتحقق في المحل ما لا تحقق له في نفسه لما عرفت من أن قيام الوجود بالماهية ليس بحسب الخارج كقيام البياض بالجسم
____________________
(1/69)
بل بحسب العقل فلا يلزم إلا تحققه في العقل وقد يجاب عن الأول بأنه منقوض بالأعراض القائمة بالمحال كسواد الجسم فإن قيامه إما بالجسم الأسود فدور أو تسلسل واجتماع للمثلين أو اللاأسود فتناقض وهو ضعيف لأن قيامه بجسم أسود به لا بسواد قبله ليلزم محال وطريانه على محل لا أسود يصير حال طريانه أسود من غير تناقض ولا كذلك حال الوجود مع الماهية لأن الخصم يدعي أن تقدم المعروض على العارض بالوجود ضروري فلا يصح قيام الوجود بمحل موجود بهذا الوجود فلا محيص سوى المنع والاستناد بأن ذلك إنما هو في العروض الخارجي كسواد الجسم وهذا ليس كذلك وعن الثاني بأن الوجود ليس بموجود ولا معدوم وهو أيضا ضعيف لما سيأتي من نفي الواسطة قال فإن قلت يريد تحقيق مذاهب الشيخ وسائر المتكلمين والحكماء على وجه لا يخالف بديهة العقل فإن الظاهر من مذهب الشيخ أن مفهوم وجود الإنسان هو الحيوان الناطق مثلا ولفظ الوجود في العربية ولفظ هستى في الفارسية إلى غير ذلك من اللغات مشترك بين معان لا تكاد تتناهى من الموجودات ومن مذهب المتكلمين أن الوجود عرض قائم بالماهية قيام سائر الأعراض بمحالها ومن مذهب الحكماء أنه كذلك في الممكنات وفي الواجب معنى آخر غير مدرك للعقول وجميع ذلك ظاهر البطلان وذهب صاحب الصحايف إلى أن منشأ الاختلاف هو إطلاق لفظ الوجود على مفهوم الكون ومفهوم الذات فمن ذهب إلى أنه زائد على الماهية أراد به الكون ومن ذهب إلى أنه نفس الماهية أراد به الذات فعند تحرير المبحث يرتفع الاختلاف وهذا فاسد أما أولا فلأن احتجاج الفريقين صريح في أن النزاع في الوجود المقابل للعدم وهو معنى الكون وأما ثانيا فلأن مفهوم الذات أيضا معنى واحد مشترك بين الذوات واشتراك الوجود بين الوجودات من غير اشتراك لفظ وتعدد وضع وأما ثالثا فلأن القول بأن ذات الإنسان نفس ذاته وماهيته مما لا يتصور فيه فائدة فضلا عن أن يحتاج إلى الاحتجاج عليه فنقول أدلة القائلين بأن وجود الشيء زائد عليه لا يفيد سوى أن ليس المفهوم من وجود الشيء هو المفهوم من ذلك الشيء من غير دلالة على أنه عرض قائم به قيام العرض بالمحل فإن هذا مما لا يقبله العقل وإن وقع في كلام الإمام وغيره وأدلة القائلين بأن وجود الشيء نفس ذاته لا يفيد سوى أن ليس للشيء هوية ولعارضه المسمى بالوجود هوية أخرى قائمة بالأولى بحيث يجتمعان اجتماع البياض والجسم من غير دلالة على أن المفهوم من وجود الشيء هو المفهوم من ذلك الشيء فإن هذا بديهي البطلان فإذن لا يظهر من كلام الفريقين ولا يتصور من المنصف خلاف في أن الوجود زائد على الماهية ذهنا أي عند العقل وبحسب المفهوم والتصور بمعنى أن للعقل أن يلاحظ الوجود
____________________
(1/70)
دون الماهية والماهية دون الوجود لا عينا أي بحسب الذات والهوية بأن يكون لكل منهما هوية متميزة يقوم أحدهما بالأخرى كبياض الجسم فعند تحرير المبحث وبيان أن المراد الزيادة في التصور أو في الهوية يرتفع النزاع بين الفريقين ويظهر أن القول يكون اشتراك الوجود لفظيا بمعنى أن المفهوم من الوجود المضاف إلى الإنسان غير المفهوم من المضاف إلى الفرس ولا اشتراك بينهما في مفهوم الكون مكابرة ومخالفة لبديهة العقل وذهب صاحب المواقف إلى أن النزاع راجع إلى النزاع في الوجود الذهني فمن أثبته قال بالزيادة عقلا بمعنى أن في العقل أمرا هو الوجود وآخر هو الماهية ومن نفاه أطلق القول بأنه نفس الماهية لأنه لا تغاير ولا تمايز في الخارج وليس وراء الخارج أمر يتحقق فيه أحدهما بدون الآخر فيتحقق التمايز وفيه نظر لأنه لا نزاع للقائلين بنفي الوجود الذهني في تعقل الكليات والاعتباريات والمعدومات والممتنعات ومغايرة بعضها للبعض بحسب المفهوم وإنما نزاعهم في كون التعقل بحصول شيء في العقل وفي اقتضائه الثبوت في الجملة فلا يتجه لهم بمجرد نفي الوجود الذهني نفي التغاير بين الوجود والماهية في التصور بأن يكون المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر ونفي الاشتراك المعنوي بأن يعقل من الوجود معنى كلي مشترك بين الوجودات كما لا ينفي تغاير مفهوم الإنسان لمفهوم الفرس ومفهوم الإمكان لمفهوم الامتناع ولا اشتراك كل من ذلك بين الإفراد بل غاية الأمر أن لا يقولوا الوجود أمر زايد في العقل والمعنى الكلي المشترك ثابت فيه بل يقولوا زائد ومشترك عقلا وفي التعقل بمعنى أن العقل يفهم من أحدهما غير ما يفهم من الآخر ويدرك منه معنى كليا يصدق على الكل ولهذا اتفق الجمهور من القائلين بنفي الوجود الذهني على أن الوجود مشترك معنى وزائد على الماهية ذهنا بالمعنى الذي ذكرنا قال هذا في الممكن يعني أن ما ذكر من عدم تحقق الخلاف في زيادة الوجود على الماهية ذهنا بمعنى كون المفهوم من أحدهما غير المفهوم من الآخر وفي كونه نفسها عينا بمعنى عدم تمايزها بالهوية إنما هو في الممكن وأما في الواجب فعند المتكلمين له حقيقة غير مدركة للعقول مقتضية بذاتها لوجودها الخاص المغاير لها بحسب المفهوم دون الهوية كما في الممكنات وعند الفلاسفة حقيقته وجود خاص قائم بذاته ذهنا وعينا من غير افتقار إلى فاعل يوجده أو محل يقوم به في العقل وهو مخالف لوجودات الممكنات بالحقيقة وإن كان مشاركا لها في كونه معروضا للوجود المطلق ويعبرون عنه بالوجود البحت وبالوجود بشرط لا بمعنى أنه لا يقوم بماهية ولو في العقل كما في وجود الممكنات وإنما ذهبوا إلى ذلك لاعتقادهم أنه لو كان له ماهية ووجود فإن كان الواجب هو المجموع لزم تركبه ولو بحسب العقل وإن كان أحدهما لزم احتياجه ضرورة احتياج الماهية في تحققها إلى الوجود واحتياج الوجود لعروضه إلى الماهية ولو في العقل وحين اعترض عليهم بأن الوجود الخاص أيضا محتاج إلى الوجود المطلق ضرورة
____________________
(1/71)
امتناع تحقق الخاص بدون العام أجابوا بأنه كون خاص متحقق بنفسه لا بالفاعل قائم بذاته لا بالماهية غني في التحقق عن الوجود المطلق وغيره من العوارض والأسباب مخالف لسائر الوجودات بالحقيقة وإن كان مشاركا لها في وقوع الوجود المطلق عليها وقوع لازم خارجي غير مقوم وهذا لا يوجب التركيب ولا الافتقار كما أنكم إذا جعلتموه ماهية موجودة فكونه أخص من مطلق الماهية والموجود لم يوجب احتياجه كيف والمطلق اعتباري محض وحين اعترض بأنه لم لا يجوز أن تكون تلك الحقيقة المخالفة لسائر الحقائق المتحققة بنفسها الغنية عما سواها أمرا غير الوجود أجابوا بأن المتحقق بنفسه الغني عما سواه لا يجوز أن يكون غير الوجود لأن احتياج غير الموجود في التحقق إلى الوجود ضروري وحين اعترض بأن الوجود مفهوم واحد لا يتكثر ولا يصير حصة حصة إلا بالإضافة إلى الماهيات كبياض هذا الثلج وذاك إذ لا معنى للمقيد سوى المطلق مع قيد الإضافة أجابوا بمنع ذلك بل الوجودات حصص مختلفة وحقائق متكثرة بأنفسها لا بمجرد عارض الإضافة لتكون متماثلة متفقة الحقيقة ولا بالفصول ليكون الوجود المطلق جنسا لها بل هو عارض لازم لها كنور الشمس ونور السراج فإنهما مختلفان بالحقيقة واللوازم مشتركات في عارض النور وكذا بياض الثلج والعاج بل كالكم والكيف المشتركين في العرضية بل الجوهر والعرض المشتركان في الإمكان والوجود إلا أنه لما لم يكن لكل وجود اسم خاص كما في أقسام الممكن وأقسام العرض وغير ذلك توهم أن تكثر الوجودات وكونها حصة حصة إنما هو بمجرد الإضافة إلى الماهيات المعروضة لها كبياض هذا الثلج وذاك ونور هذا السراج وذاك وليس كذلك والإنصاف أن ما ذكروا من الاختلاف بالحقيقة حق في وجود الواجب والممكن ومحتمل في مثل وجود الجوهر والعرض ومثل وجود القار وغير القار وأما في مثل وجود الإنسان والفرس ووجود زيد وعمرو فلا قال فإن قلت لما لاح من كلام الفارابي وابن سينا أن حقيقة الواجب وجود خاص معروض للوجود العام المشترك المقابل للعدم على ما لخصه الحكيم المحقق اعترض الإمام بأن فيه اعترافا بكون وجود الواجب زائدا على حقيقته وبأنه يستلزم كون الواجب موجودا بوجودين مع أنه لا أولوية لأحدهما بالعارضية وقد سبق أن النزاع في الوجودات الخاصة لا المطلق ولما كان معنى صدق الوجود المطلق على الوجودات الخاصة أن في كل منها حصة من مفهوم الوجود المطلق الذي هو الكون في الأعيان صرح بعض من حاول تلخيص كلام الحكماء بأن الحصة من مفهوم الكون في الأعيان زائد على الوجود المجرد المبدأ للممكنات الذي هو نفس ماهية الواجب فتأكد الاعتراض بأن الوجود الخاص الذي هو الحصة من مفهوم الكون زائد على حقيقة الواجب كما في الممكنات ويلزم منه أن يكون في الواجب وجودان عارض ومعروض وفي الممكن كالإنسان
____________________
(1/72)
مثلا ماهية هو الحيوان الناطق ووجود هو الحصة من مفهوم الكون وأمر ثالث هو ما صدق عليه الوجود وهو عارض للماهية معروض للحصة وهذا مما لم يقل به أحد ولم يقم عليه دليل وإذا اعتبر هذا ببياض الثلج لزم أن يكون فيه بياض عارض هو الحصة من مفهوم البياض وآخر معروض لهذه الحصة عارض للثلج هو بياضه الخاص والجواب أن معنى الحصة من مفهوم الكون هو نفس ذلك المفهوم مع خصوصية مالا ما صدق هو عليه من الوجودات المتخالفة وكما لا نزاع لهم في زيادة مفهوم الكون فكذا في الحصة كيف وقد اتفقوا على أن حقيقة الواجب غير معلومة ومفهوم الكون معلوم بل بديهي وكذا قيد الوجوب مثلا وإنما النزاع في أن يكون لوجوده الخاص ماهية مغايرة له بحسب المفهوم كما في الممكنات وإذا تقرر أنه لا معنى للحصة من مفهوم العام الأنفس ذلك المفهوم مع خصوصية ما فكل من قال بكون الوجود مقولا على الوجودات بالتشكيك وأن المقول بالتشكيك لا يكون ماهية أو جزء ماهية لما تحته بل عارضا فقد قال بأن في الممكن أمرا وراء الماهية والحصة من مفهوم الكون هو وجوده الخاص الذي به تحققه في الأعيان بل نفس تحققه وكل دليل دل على ذلك فقد دل على هذا إلا أن هذا التغاير إنما هو بحسب العقل لا غير فليس في الخارج للإنسان مثلا أمر هو الماهية وآخر هو الوجود فضلا عن أن يكون هناك وجودان على أنا لو فرضنا كون وجوده زائدا على الماهية بحسب الخارج أيضا كما في بياض الثلج لم يلزم ذلك لأن مفهوم العام أو الحصة منه صورة عقلية محضة ولو سلم فاتحاد الموضوع والمحمول بحسب الخارج ضروري فمن أين يلزم في الإنسان وجودان وفي الثلج بياضان ( وقال ثم إن جمعا ) قد اشتهر فيما بين جمع من المتفلسفة والمتصوفة أن حقيقة الواجب هو الوجود المطلق تمسكا بأنه لا يجوز أن يكون عدما أو معدوما وهو ظاهر ولا ماهية موجودة أو مع الوجود لما في ذلك من الاحتياج والتركب فتعين أن يكون وجودا وليس هو الوجود الخاص لأنه إن أخذ مع المطلق فمركب أو مجرد المعروض فمحتاج ضرورة احتياج المقيد إلى المطلق وضرورة أنه لو ارتفع المطلق لارتفع كل وجود وحين أورد عليهم أن الوجود المطلق مفهوم كلي لا تحقق له في الخارج وله أفراد كثيرة لا تكاد تتناهى والواجب موجود واحد لا تكثر فيه أجابوا بأنه واحد شخصي موجود بوجود هو نفسه وإنما التكثر في الموجودات فبواسطة الإضافات لا بواسطة تكثر وجوداتها فإنه إذا نسب إلى الإنسان حصل موجود وإلى الفرس فموجود آخر وهكذا وعلى هذا فمعنى قولنا الواجب موجوداته وجود ومعنى قولنا الإنسان أو الفرس أو غيره موجود أنه ذو وجود بمعنى أن له نسبة إلى الواجب وهذااحترازعن شناعة التصريح بأن الواجب ليس بموجود وأن كل وجود حتى وجود
____________________
(1/73)
القاذورات واجب تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وإلا فتكثر الوجودات وكون الوجود المطلق مفهوما كليا لا تحقق له إلا في الذهن ضروري وما توهموا من احتياج الخاص إلى العام باطل بل الأمر بالعكس إذ لا تحقق للعام إلا في ضمن الخاص نعم إذا كان العام ذاتيا للخاص يفتقر هو إليه في تعقله وأما إذا كان عارضا فلا وما ذكروا من أنه لو ارتفع لارتفع كل وجود حتى الواجب فيمتنع ارتفاعه أي عدمه فيكون واجبا فمغالطة وإنما يلزم الوجوب لو كان امتناع العدم لذاته وهو ممنوع بل لأن ارتفاعه بالكلية يستلزم ارتفاع بعض أفراده الذي هو الواجب كسائر لوازم الواجب مثل الماهية والعلية والقابلية وغير ذلك فإن قيل بل يمتنع لذاته لامتناع اتصاف الشيء بنقيضه قلنا الممتنع اتصاف الشيء بنقيضه بمعنى حمله عليه بالمواطأة مثل قولنا الوجود عدم لا بالاشتقاق مثل قولنا الوجود معدوم كيف وقد اتفق الحكماء على أن الوجود المطلق من المعقولات الثانية والأمور الاعتبارية التي لا تحقق لها في الأعيان ثم ادعى القائلون بكون الواجب هو الوجود المطلق أن في مواضع من كلام الحكماء رمزا إلى هذا المعنى منها قولهم الواجب هو الوجود البحت والوجود بشرط لا أي الوجود الصرف الذي لا تقييد فيه أصلا ومنها قولهم الوجود خير محض لأن الشر في نفسه إنما هو عدم وجود أو عدم كمال الموجود من حيث أن ذلك العدم غير لائق به أو غير مؤثر عنده فالوجود بالقياس إلى الشيء العادم كماله قد يكون شرا لكن لا لذاته بل لكونه مؤديا إلى ذلك العدم فحيث لا عدم لا شر قطعا فالوجود البحت خير محض ومنها قولهم الوجود لا يعقل له ضد ولا مثل أما الضد فلأنه يقال عند الجمهور لموجود مساو في القوة لموجود آخر ممانع له والوجود وإن فرضنا كونه موجودا بمعنى المعروضية للوجود فلا يتصور أن يمانعه شيء من الموجودات وعند الخاص لما شارك شيئا آخر في الموضوع مع امتناع اجتماعهما فيه والموضوع هو المحل المستغنى في قوامه عن الحال ولا يتصور ذلك للوجود إذ لا تقوم لشيء بدونه ولو سلم فلا يتصور وجودي يعاقبه ولا يجامعه ومنها قولهم الوجود ليس له جنس ولا فصل لأنه بسيط لا جزء له عينا ولا ذهنا وإلا لزم تقدمه على نفسه ضرورة تقدم وجود الجزء على وجود الكل في الخارج إن كان التركب خارجيا وفي الذهن إن كان ذهنيا ولأن جزءه إن كان وجودا أو موجودا لزم تقدم الشيء على نفسه وإن كان عدما أو معدوما لزم تقدم الشيء بنقيضه ولأن الجنس يجب أن يكون أعم ولا أعم من الوجود إذ ما من شيء إلا وله وجود وفي بعض المقدمات ضعف لا يخفى ولو سلم فغاية الأمر اتصاف كل من الوجود والواجب بهذه المعاني ولا إنتاج عن الموجبتين في الشكل الثاني وتحقيقه أن لزوم هذه الأمور للوجود لا يوجب كونه الواجب مالم نتبين مساواتها للملزوم ثم القول بكون الواجب هو الوجود المطلق ينافي تصريحهم بأمور منها أن الوجود المطلق من المحمولات
____________________
(1/74)
العقلية أي الأمور التي يمتنع استغناؤها عن المحل عقلا ويمتنع حصولها فيه بحسب الخارج كالإمكان والماهية بخلاف مثل الإنسان فإنه مستغن عن المحل ومثل البياض فإن قيامه بالمحل خارجي ومنها أنه من المعقولات الثانية أي العوارض التي تلحق المعقولات الأولى من حيث لا يحاذي بها أمر في الخارج كالكلية والجزئية والذاتية والعرضية لأنها أمور تلحق حقائق الأشياء عند حصولها في العقل وليس في الأعيان شيء هو الوجود أو الذاتية أو العرضية مثلا وإنما في الأعيان الإنسان والسواد مثلا وههنا نظر من جهة أن ما انساق إليه البيان هو أن وجودات الأشياء من المحمولات العقلية والمعقولات الثانية وكان الكلام في الوجود المطلق ومنها أنه ينقسم إلى الواجب والممكن لأنه إن كان مفتقرا إلى سبب فممكن وإلا فواجب وإلى القديم والحادث لأنه إن كان مسبوقا بالغير أو بالعدم فحادث وإلا فقديم ومنها أنه يتكثر بتكثر الموضوعات الشخصية كوجود زيد وعمرو والنوعية كوجود الإنسان والفرس والجنسية كوجود الحيوان والنبات فإن قيل الموضوع هو المحل المستغني في قوامه عن الحال ولا يتصور ذلك للوجود قلنا المراد ههنا ما يقابل المحمول وهو الذي يحمل عليه الوجود بالاشتقاق ولو سلم فالقيام ههنا عقلي والماهية تلاحظ دون الوجود وهذا معنى استغنائه عن العارض وإن كان لا ينفك عن وجود عقلي وظاهر هذا الكلام أن وجودات الممكنات إنما هي نفس الوجود المطلق تكثرت بالإضافة إلى المحل وليست أمورا متكثرة متحصصة بأنفسها معروضة له وكان المراد أن الوجود المطلق يتكثر ما صدق هو عليه من الوجودات الخاصة بتكثر الموضوعات ومنها أنه مقول على الوجودات بالتشكيك كما سبق وجميع ذلك مما يستحيل في حق الواجب تعالى وتقدس وبالجملة فالقول بكون الواجب هو الوجود المطلق مبني على أصول فاسدة مثل كونه واحدا بالشخص موجودا في الخارج ممتنع العدم لذاته ومستلزم لبطلان أمور اتفق العقلاء عليها مثل كونه أعرف الأشياء مشتركا بين الوجودات مقولا عليها بالتشكيك معدودا في ثواني المعقولات وكون الواجب مبدأ لوجود الممكنات متصفا بالعلم والقدرة والإرادة والحياة وإرسال الرسل وإنزال الكتب وغير ذلك مما وردت به الشريعة قال وما أعجب حال الوجود يتعجب من اختلافات العقلاء في أحوال الوجود ومع اتفاقهم على أنه أعرف الأشياء مع أن الغالب من حال الشيء أن تتبع ذاته في الجلاء والخفاء فمنها اختلافهم في أنه جزئي أو كلي فقيل جزئي حقيقي لا تعدد فيه أصلا وإنما التعدد في الموجودات بواسطة الإضافات حتى أن قولنا وجود زيد أو وجود عمرو بمنزلة قولنا إله زيد وإله عمرو والحق أنه كلي والوجودات إفراده ومنها اختلافهم في أنه واجب أو ممكن فقد ذهب جمع كثير من المتأخرين إلى أنه واجب على ما ذكرنا وذلك هو الضلال البعيد ومنها اختلافهم في أنه عرض أو جوهر أو ليس بعرض ولا جوهر لكونهما
____________________
(1/75)
من أقسام الممكن الموجود وهذا هو الحق وفي كلام الإمام ما يشعر بأنه عرض وبه صرح جمع كثير من المتكلمين وهو بعيد جدا لأن العرض مالا يتقوم بنفسه بل بمحله المستغني عنه في تقومه ولا يتصور استغناء شيء في تقومه وتحققه عن الوجود ومنها اختلافهم في أنه موجود أو لا فقيل موجود بوجود هو نفسه فلا يتسلسل وقيل بل اعتباري محض لا تحقق له في الأعيان إذ لو وجد فإما أن يوجد بوجود زائد فيتسلسل أو بوجود هو نفسه فلا يكون إطلاق الموجود على الوجود وعلى سائر الأشياء بمعنى واحد لأن معناه في الوجود أنه الوجود وفي غيره أنه ذو الوجود ولأنه إما أن يكون جوهرا فلا يقع صفة للأشياء أو عرضا فيتقوم المحل دونه والتقوم بدون الوجود محال ولأن ما ذكر في زيادة الوجود على الماهية من أنا نعقل الماهية ونشك في وجودها جاز بعينه في وجود الوجود فإنا نعقل الوجود ونشك في وجوده فلو وجد لكان وجوده زائدا وتسلسل وبهذا يتبين بطلان ما ذهب إليه الفلاسفة من أن ماهية الواجب نفس الوجود المجرد وذلك لأنا بعدما نتصور الوجود المجرد نطلب بالبرهان وجوده في الأعيان فيكون وجوده زائدا ويتسلسل ولا محيص إلا بأن الوجود المقول على الوجودات اعتبار عقلي كما سبق وقيل الوجود ليس بموجود ولا معدوم بل واسطة على ما سيأتي ومنها اختلافهم في أن الوجودات الخاصة نفس الماهيات أو زائدة عليها كما سبق ومنها اختلافهم في أن لفظ الوجود مشترك بين مفهومات مختلفة على ما نقل عن الأشعري أو متواطئ يقع على الوجودات بمعنى واحد لا تفاوت فيه أصلا أو مشكك يقع عليها بمعنى واحد هو مفهوم الكون لكن لا على السواء وهو الحق ( قال المبحث الثالث الوجود ) على مراتب أعلاها الوجود في الأعيان وهو الوجود المتأصل المتفق عليه الذي به تحقق ذات الشيء وحقيقته بل نفس تحققها ثم الوجود في الأذهان وهو وجود غير متأصل بمنزلة الظل للجسم يكون المتحقق به الصورة المطابقة للشيء بمعنى أنها لو تحققت في الخارج لكانت ذلك الشيء كما أن ظل الشجر لوتجسم لكان ذلك الشجر ثم الوجود في العبارة ثم في الكتابة وهما من حيث الإضافة إلى ذات الشيء وحقيقته مجازيان لأن الموجود من زيد في اللفظ صوت موضوع بإزائه وفي الخط نقش موضوع بإزائه اللفظ الدال عليه لا ذات زيد ولا صورته نعم إذا أضيف إلى اللفظ الموضوع بإزائه أو النقش الموضوع بإزاء ذلك اللفظ كان وجودا حقيقيا من قبيل الوجود في الأعيان ولكل لاحق فيما ذكرنا من الترتيب دلالة على السابق فللذهني على العيني وللفظي على الذهني وللخطي على اللفظي فتتحقق ثلاث دلالات أوليها عقلية محضة لا يختلف فيها بحسب اختلاف الأشخاص والأوضاع الدال ولا المدلول إذ بأي لفظ عبر عن السماء فالموجود منها في الخارج هو ذلك الشخص وفي الذهن هو الصورة المعينة المطابقة له والأخريان أعني دلالة اللفظ على الصورة الذهنية ودلالة الخط على اللفظ
____________________
(1/76)
وضعيان يختلف في الأولى منهما الدال بأن يعين طائفة لفظا كالسماء وطائفة أخرى لفظا آخر كما في الفارسية وغيرها لا المدلول لأن الصورة الذهنية لا تختلف باختلاف اللغات وتختلف في الثانية أعني دلالة الخط على اللفظ الدال والمدلول جميعا واختلاف الدال لا يختص بحالة اختلاف المدلول بل قد يكون مع اتحاده كلفظ السماء يكتب بصور مختلفة بحسب اختلاف الاصطلاحات في الكتابة فإن قيل معنى الدلالة كون الشيء بحيث يفهم منه شيء آخر فإذا اعتبرت فيما بين الصور الذهنية والأعيان الخارجية ولا معنى لفهمها والعلم بها سوى حصول صورها كان بمنزلة أن يقال يحصل من حصول الصور حصول الصور قلنا المراد أنه إذا أحكم على الأشياء كان الحاصل في الذهن هو الصور ويحصل منها الحكم على الأعيان الخارجية فإنا إذا قلنا العالم حادث فالحاصل في الذهن صورة العالم وصورة الحدوث وقد حصل منها العلم بثبوت الحدوث للعالم الموجود في الخارج فإن قيل نحن قاطعون بأن الواضع إنما عين الألفاظ بإزاء ما نعقله من الأعيان وللدلالة عليها ولهذا يقول بالوضع والدلالة من لا يقول بالصور الذهنية نعم إذا لم يكن للمعقول وجود في الخارج كان المدلول هو نفس الصورة عند من يقول بها كالمعدوم والمستحيل قلنا مبنى هذا الكلام على إثبات الصور الذهنية فإنه مما يكاد يفضي به بديهة العقل ولما كان عند سماع اللفظ ترتسم الصورة في النفس فيعلم ثبوت الحكم لما في الخارج جعلوا الخارج مدلول الصورة والصورة مدلول اللفظ وأما كون مدلول الخط هو اللفظ فظاهر والحكمة فيه قلة المؤنة حيث اكتفي بحفظ صور متعددة تترتب بترتب الحروف في الألفاظ من غير احتياج إلى أن يحفظ لكل معنى صورة مخصوصة ( قال ويستدل ) كون العلم سيما العلم بمالا تحقق له في الأعيان مقتضيا لثبوت أمر في الذهن ظاهر يجري مجرى الضروريات فمن ههنا زعم بعضهم أن إنكار الوجود الذهني إنكار للأمر الضروري واستدل المثبتون بوجوه
الأول أنا نحكم حكما إيجابيا على مالا تحقق له في الخارج أصلا كقولنا اجتماع النقيضين مستلزم لكل منهما ومغير لاجتماع الضدين ونحو ذلك ومعنى الإيجاب الحكم بثبوت أمر لأمر وثبوت الشيء لما لا ثبوت له في نفسه بديهي الاستحالة فيلزم ثبوت الممتنعات لتصح هذه الأحكام وإذ ليس في الخارج نفي الذهن وتقرير آخر أن من الموجبات مالا تحقق لموضوعه في الخارج والموجبة تستدعي وجود الموضوع في الجملة فيكون في الذهن وما يقال أنا نحكم على الممتنعات بأحكام ثبوتية فمعناه أحكام إيجابية فلا يرد عليه أنه إن أريد الثبوت في الخارج فمحال أو في الذهن فمصاردة على أنه يجوز أن يقال المراد الثبوت في الجملة وكونه منحصرا في الخارجي والذهني لا يستلزم
____________________
(1/77)
أن يراد أحدهما ليلزم المحال أو المصادرة
الثاني أن الكلي مفهوم وكل مفهوم ثابت ضرورة تميزه عند العقل فالكلي ثابت وليس في الخارج لأن كل ما هو في الخارج مشخص فيكون في الذهن
الثالث أن من القضايا موجبة حقيقية وهي تستدعي وجود الموضوع ضرورة وليس في الخارج لأنه قد لا يوجد في الخارج أصلا كقولنا كل عنقاء حيوان وعلى تقدير الوجود لا تنحصر الأحكام في الأفراد الخارجية كقولنا كل جسم متناه أو حادث أو مركب من أجزاء لا تتجزأ إلى غير ذلك من القضايا المستعملة في العلوم فالحكم على جميع الأفراد لا يكون إلا باعتبار الوجود في الذهن وفي المواقف ما يشعر بأن قولنا الممتنع معدوم قضية حقيقية وليس كذلك في اصطلاح القوم وأعترض بأنا لا نسلم أن الإيجاب يقتضي وجود الموضوع قولكم أن ثبوت الشيء للشيء فرع ثبوته في نفسه قلنا معنى الإيجاب أن ما صدق عليه الموضوع هو ما صدق عليه المحمول من غير أن يكون هناك ثبوت أمر لأمر بمعنى الوجود والتحقق فيه وإنما ذلك بحسب العبارة وعلى اعتبار الوجود الذهني بل اللازم هو تميز الموضوع والمحمول عند العقل بمعنى تصورهما فيكون مرجع الوجوه الثلاثة إلى أنا نتصور ونفهم أمورا لا وجود لها في الخارج فتكون ثابتة في الذهن لأن تعقل الشيء إنما يكون بحصوله في العقل بصورته إن كان من الموجودات العينية وإلا فبنفسه وهذا نفس المتنازع لأن القول بكون التعقل بالحصول في العقل إنما هو رأي القائلين بالوجود الذهني وإلا لكان العلم بشيء ما كافيا في إثبات المطلوب والجواب أنه لا بد في فهم الشيء وتعقله وتميزه عند العقل من تعلق بين العاقل والمعقول سواء كان العلم عبارة عن حصول صورة الشيء في العقل أو عن إضافة مخصوصة بين العاقل والمعقول أو عن صفة ذات إضافة والتعلق بين العاقل وبين العدم الصرف محال بالضرورة فلا بد للمعقول من ثبوت في الجملة ولما امتنع ثبوت الكليات بل سائر المعدومات سيما الممتنعات في الخارج تعين كونه في الذهن فإن قيل في رد هذا الجواب أن المعقولات التي لا وجود لها في الخارج لا يلزم أن تكون موجودة في الذهن لجواز أن تكون صورا قائمة بأنفسها كالمثل المجردة الأفلاطونية على ما سيأتي في بحث الماهية وكالمثل المعلقة التي يقول بها بعض الحكماء زعما منهم أن لكل موجود شبحا في عالم المثال ليس بمعقول ولا محسوس على ما سيأتي في آخر المقصد
الرابع أو قائمة ببعض المجردات كما تدعيه الفلاسفة من ارتسام صور الكائنات في العقل الفعال وينبغي أن يكون هذا مراد الإمام بالأجرام الغائبة عنا وإلا فقيام المعدومات بالأجسام مما لا يعقل قلنا الكلام في المعدومات سيما الممتنعات ولا خفاء في امتناع قيامها بأنفسها بحسب الخارج ولا بالعقل الفعال بهوياتها إذ لا هوية للممتنع بل غاية الأمر أن يقوم به تصورها بمعنى تعقله إياها وهو يستلزم المطلوب من جهة استلزامه كون التعقل بحصول الصورة في العاقل فترتسم الصورة في القوة العاقلة وهو المعنى بالوجود
____________________
(1/78)
الذهني ثم إذا كان طريق التعقل واحدا كان تعقل الموجودات أيضا بحصول صورها في العقل وذكر صاحب المواقف أن المرتسم في العقل الفعال إن كان الصور والماهيات الكلية يثبت الوجود الذهني إذ غرضنا إثبات نوع من التميز للمعقولات غيرالتميز بالهوية الذي نسميه بالوجود الخارجي سواء اخترع العقل تلك الصور أو لاحظها من موضع آخر كالعقل الفعال وغيره وفيه نظر لأن غاية ذلك أن يكون للمعقولات تميز عند العقل بالصورة والماهية لكن كون ذلك بحصول الصورة في العقل هو أول المسألة قال تمسك المانعون لما كان مبنى الوجود الذهني على استلزام التعقل إياه اقتصر المانعون على إبطال ذلك وتقريره من وجوه
الأول لو كان تصور الشيء مستلزما لحصوله في العقل لزم من تصور الحرارة والبرودة أن يكون الذهن حارا وباردا وهو محال لما فيه من اجتماع الضدين واتصاف العقل بما هو من خواص الأجسام
الثاني أنه يلزم أن تحصل السموات بعظمها في العقل عند تعقلها الكل وفي الخيال عند تخيلها وهو باطل بالضرورة
الثالث أنه يلزم من تعقل المعدومات وجودها في الخارج لكونها موجودة في العقل الموجود في الخارج مع القطع بأن الموجود في الموجود في الشيء موجود في ذلك الشيء كالماء الموجود في الكوز الموجود في البيت والجواب أن مبنى الكل على عدم التفرقة بين الوجود المتأصل الذي به الهوية العينية وغير المتأصل الذي به الصورة العقلية فإن المتصف بالحرارة ما تقوم به هوية الحرارة لا صورتها والتضاد إنما هو بين هويتي الحرارة والبرودة لا صورتيهما والذي علم بالضرورة استحالة حصوله في العقل والخيال هو هويات السموات لا صورها الكلية أو الجزئية والموجود في الموجود في الشيء إنما يكون موجودا في ذلك الشيء إذا كان الوجودان متأصلين ويكون الموجودان هويتين كوجود الماء في الكوز والكوز في البيت بخلاف وجود المعدوم في الذهن الموجود في الخارج فإن الحاصل في الذهن من المعدوم صورة والوجود غير متأصل ومن الذهن في الخارج هوية والوجود متاصل وبالجملة فماهية الشيء أعني صورته العقلية مخالفة لهويته العينية في كثير من اللوازم فإن الأولى كلية ومجردة بخلاف الثانية والثانية مبدأ للآثار بخلاف الأولى ومعنى المطابقة بينهما أن الماهية إذا وجدت في الخارج كانت تلك الهوية والهوية إذا جردت عن العوارض المشخصة واللواحق الغريبة كانت تلك الماهية فلا يرد ما يقال أن الصورة العقلية إن ساوت الصورة الخارجية لزمت المحالاة وإلا لم تكن صورة لها قال المبحث الرابع قد اختلفوا في أن المعدوم هل هو ثابت وشيء أم لا وفي أنه هل بين الموجود والمعدوم واسطة أم لا والمذاهب أربعة حسب الاحتمالات أعني إثبات الأمرين أو نفيهما أو إثبات الأول ونفي الثاني أو بالعكس وذلك أنه إما أن يكون المعدوم ثابتا أو لا وعلى التقديرين إما أن يكون بين الموجود والمعدوم واسطة أو لا والحق نفيهما بناء على أن الوجود يرادف الثبوت والعدم يرادف النفي فكما أن المنفي
____________________
(1/79)
ليس بثابت فكذا للمعدوم وكما أنه لا واسطة بين الثابت والمنفي فكذا بين الموجود والمعدوم وأما الشيئية فتساوق الوجود بمعنى أن كل موجود شيء وبالعكس ولفظ المساوقة يستعمل عندهم فيما يعم الاتحاد في المفهوم فيكون اللفظان مترادفين والمساواة في الصدق فيكونان متباينين ولهم تردد في اتحاد مفهوم الوجود والشيئية بل ربما يدعي نفيه بناء على أن قولنا السواد موجود يفيد فائدة يعتد بها بخلاف قولنا السواد شيء فصار الحاصل أن كل ما يمكن أن يعلم إن كان له تحقق في الخارج أو الذهن فموجود وثابت وشيء وإلا فمعدوم ومنفي ولا شيء وأما المخالفون فمنهم من خالف في نفي الواسطة وإليه ذهب من أصحابنا إمام الحرمين أولا والقاضي ومن المعتزلة أبو هاشم فقالوا المعلوم إن لم يكن له ثبوت أي في الخارج لأن مبنى الكلام على نفي الوجود الذهني وإلا فالمعلوم موجود في الذهن قطعا فهو المعدوم وإن كان له ثبوت فإن كان باستقلاله وباعتبار ذاته فهو الموجود وإن كان باعتبار التبعية للغير فهو الحال فهو واسطة بين الموجود والمعدوم لأنه عبارة عن صفة للموجود لا تكون موجودة ولا معدومة مثل العالمية والقادرية ونحو ذلك والمراد بالصفة مالا يعلم ولا يخبر عنه بالاستقلال بل بتبعية الغير والذات بخلافها وهي لا تكون إلا موجودة أو معدومة بل لا معنى للموجود إلا ذات لها صفة الوجود وللمعدوم إلا ذات لها صفة العدم والصفة لا يكون لها ذات فلا تكون موجودة ولا معدومة فلذا قيد بالصفة واحترز بقولهم بموجود عن صفات المعدوم فإنها تكون معدومة لا حالا وبقولهم لا موجودة عن الصفات الوجودية مثل السواد والبياض وبقولهم ولا معدومة عن الصفات السلبية قال الكاتبي وهذا الحد لا يصح على مذهب المعتزلة لأنهم جعلوا الجوهرية من الأحوال مع أنها حاصلة للذات حالتي الوجود والعدم قلنا إنما يتم هذا الاعتراض لو ثبت ذلك من أبي هاشم وإلا فمن المعتزلة من لا يقول بالحال ومنهم من يقول بها لا على هذا الوجه ثم قال وأول من قال بالحال أبو هاشم وفصل القول فيه بأن الأعراض التي لا تكون مشروطة بالحياة كاللون والرائحة لا توجب لمن قامت به حالا ولا صفة إلا الكون فإنه يوجب لمحله الكائنية وهي من الأحوال وأما الأعراض المشروطة بالحياة فإنها توجب بمحالها أحوالا كالعلم للعالمية والقدرة للقادرية وزعم القاضي وإمام الحرمين أن كل صفة فهي توجب للمحل حالا كالكون الكائنية والسواد الأسودية والعلم العالمية ومنهم من خالف في نفي كون المعدوم ثابتا وهم أكثر المعتزلة حيث زعموا أن المعلوم إن كان له كون في الأعيان فموجود وإلا فمعدوم فلا واسطة بينهما وباعتبار آخر المعلوم إن كان له تحقق في نفسه وتقرر مثبت وإلا فمنفي وكل ما له كون في الأعيان فله تقرر في نفسه من غير عكس فيكون الموجود أخص من الثابت وكل ما لا تقرر له في نفسه لا كون له في الأعيان وليس كل مالا كون له لا تقرر له فيكون المنفي أخص من المعدوم فيكون بعض المعدوم لا منفيا
____________________
(1/80)
ثابتا ومنهم من خالف في الأمرين جميعا وهم بعض المعتزلة قالوا المعلوم إن كان له كون في الأعيان فإن كان له ذلك بالاستقلال فهو الموجود وإن كان بتبعية الغير فهو الحال وإن لم يكن له كون في الأعيان فهو المعدوم والمعدوم إن كان متحققا في نفسه فثابت وإلا فمنفي فقد جعلوا بعض المعدوم ثابتا وأثبتوا بين الموجود والمعدوم واسطة هو الحال وظاهر العبارة يوهم أن الثابت قسم من المعدوم وليس كذلك بل بينهما عموم من وجه لأنه يشمل الموجود والحال بخلاف المعدوم والمعدوم يشمل المنفي بخلاف الثابت وإن كان المعدوم مباينا للمنفي على ما صرح به في تلخيص ا لمحصل من أن القائلين بكون المعدوم شيئا لا يقولون للممتنع معدوم بل منفي كان الأولى في هذا التقسيم أن يقال المعلوم إن لم يتحقق في نفسه فمنفي وإن تحقق فإن كان له كون في الأعيان فإما بالاستقلال فموجود أو بالتبعية فمحال وإن لم يكن له كون في الأعيان فمعدوم وفي التقسيم السابق أنه إن لم يتحقق فمنفي وإن تحقق فثابت وح إن كان له كون في الأعيان فموجود وإلا فمعدوم ( قال لنا في المقامين ) أي في نفي ثبوت المعدوم وشيئيته وفي الواسطة بين الموجود والمعدوم الضرورة فإنها قاضية بذلك إذ لا يعقل من الثبوت إلا الوجود ذهنا أو خارجا ومن العدم إلا نفي ذلك والشيئية تساوق الوجود فالثابت في الذهن أو الخارج موجود فيه وكما لا تعقل الواسطة بين الثابت والمنفي فكذا بين الموجود والمعدوم والمنازع مكابر وجعل الوجود أخص من الثبوت والعدم من المنفي وجعل الموجود ذاتا لها الوجود والمعدوم ذاتا لها العدم لتكون الصفة واسطة اصطلاح لا مشاحة ( قال واستدل ) منا من جعل نفي ثبوت المعدوم غير ضروري فاستدل عليه بوجوه الأول لو كان المعدوم ثابتا لامتنع تأثير القدرة في شيء من الممكنات واللازم باطل ضرورة واتفاقا وجه اللزوم أن التأثير إما في نفس الذات وهي أزلية والأزلية تنافي المقدورية وإما في الوجود وهو حال أما على المثبتين فإلزاما وأما على النافين فإثباتا بالحجة على ما سيأتي والأحوال ليست بمقدورة باتفاق القائلين بها ولأن عدم توقف لونية السواد وعالمية من قام به العلم على تأثير القدرة ضروري وأما التمسك بأنه لو كان مثل عالمية العالم ومتحركية المتحرك بالفاعل لأمكن بدون العلم والحركة ويؤدي إلى إبطال القول بالأعراض فلا يخفى ضعفه ثم نفي المقدورية لا يستلزم ثبوت الأزلية ليلزم أزلية الوجود بل أزلية اتصاف الذات بالوجود بناء على كونه نسبة بينهما لا يتوقف على غيرهما لأنهم يجوزون الثبوت بلا علة أو بعلة غير قادرة وأجيب بمنع الحصر لجواز أن يكون تأثير القدرة في اتصاف الذات بالوجود لا يقال الاتصاف منتف
أما أولا فلأنه لو ثبت لكان له اتصاف بثبوت وتسلسل
وأما ثانيا فلما سبق من أنه ليس بين الماهية والوجود
____________________
(1/81)
اتصاف بحسب الخارج كما بين البياض والجسم وإنما ذلك بحسب الذهن فقط وإلا لزم اتصاف المعدوم بالوجود لأن الماهية بدون الوجود لا تكون بحسب الخارج إلا معدومة إذ الماهية من حيث هي هي إنما هي في التصور فقط لأنا نجيب عن الأول بأنه لو سلم زيادة اتصاف الاتصاف بالثبوت على نفس الاتصاف فلانم نفي استحالة التسلسل في الثابتات وإنما قام الدليل عليه في الموجودات وعن الثاني بأنا لانم استحالة اتصاف المعدوم الثابت بالوجود وصيرورته عند الاتصاف موجودا بذلك الوجود كالجسم الغير الأسود يتصف بالسواد ويصير أسود بذلك السواد وإنما يستحيل ذلك فيما ليس بثابت في الخارج وهذا ما ذكره الإمام من أن القول بثبوت المعدوم متفرع على القول بزيادة الوجود بمعنى أنهم زعموا أن وجود السواد زائد على ماهيته ثم زعموا أنه يجوز خلو تلك الماهية عن صفة الوجود وأيضا لما اعتقدوا أن الوجود صفة تطرأ على الماهية وتقوم بها ولم يتصور ذلك في النفي الصرف انتج لهم ذلك كون الماهية ثابتة قبل الوجود ويجوز العكس لأن الماهية إذا كانت ثابتة قبل الوجود لم يكن الوجود نفسها وإلا لكان ثبوتها ثبوته وارتفاعها ارتفاعه الثاني أن المعدوم متصف بالعدم الذي هو صفة نفي لكونه رفعا للوجود الذي هو صفة ثبوت والمتصف بصفة النفي منفي كما أن المتصف بصفة الإثبات ثابت وأجيب بأنه إن أريد بصفة النفي صفة هي نفي في نفسه وسلب حتى يكون معنى المتصف به هو المنفي فلانم أن كل معدوم متصف بصفة النفي وإنما يلزم لو كان العدم هو النفي وليس كذلك بل أعم منه لكونه نقيضا للوجود الذي هو أخص من الثبوت وإن أريد بها صفة هي نفي شيء وعليه كاللاتحيز واللاحدوث مثلا فظاهر أن المتصف به لا يلزم أن يكون منفيا كالواجب يتصف بكثير من الصفات السلبية إذ ليس يمتنع اتصاف الموجود بالصفات العدمية كما يمتنع اتصاف المعدوم بالصفات الوجودية
الثالث لو كانت الذوات ثابتة في العدم وعندكم أن ثبوتها ليس من غيرها كانت واجبة إذ لا معنى للواجب سوى هذا فيلزم وجوب الممكنات وتعدد الواجب وتقريرهم أنها لو كانت ثابتة فثبوتها إما واجب فيتعدد الواجب أو ممكن فيكون محدثا مسبوقا بالنفي فتكون الذوات من حيث هي مسبوقة بالنفي وهو مع ابتنائه على كون كل ممكن الثبوت محدثا بمعنى المسبوق بالنفي لا ينفي كون الذوات ثابتة بدون الوجود بل غايته أن ثبوتها في العدم مسبوق بنفيها وأجيب بأن الواجب ما يستغني عن الغير في وجوده لا في ثبوته الذي هو أعم
الرابع أن الذوات الثابتة في العدم غير متناهية عندكم وهذا محال لأن القدر الذي خرج منها إلى الوجود متناه اتفاقا فيكون الكل أكثر من القدر الذي بقي على العدم بقدر متناه وهو القدر الذي دخل في الوجود فيكون الكل متناهيا بكونه زائدا على الغير بقدر متناه وأجيب بأنا لانم أن الزائد على الغير بقدر متناه يكون متناهيا وإنما يكون كذلك لو كان ذلك الغير متناهيا وليس كذلك لأن الباقية
____________________
(1/82)
على العدم أيضا غير متناهية كالكل فإن قيل هي أقل من الكل قطعا فينقطع عند التطبيق فيتناهى ويلزم تناهي الكل فالجواب النقض بمراتب الأعداد ومنع الزيادة والنقصان فيما بين غير المتناهيين ولو سلم فلا يلزم من بطلان القول بعدم تناهيها بطلان القول بثبوتها الخامس أن المعدوم إما مسا وللمنفي أوأخص منه أو أعم إذ لا تباين لظهور التصادق فإن كان مساويا له أو أخص صدق كل معدوم منفي ولا شيء من المنفي بثابت فلا شيء من المعدوم بثابت وإن كان أعم لم يكن نفيا صرفا وإلا لما بقي فرق بين العام والخاص بل ثابتا وقد صدق على المنفي فيلزم كونه ثابتا ضرورة أن ما صدق عليه الأمر الثابت ثابت وهو باطل ضرورة استحالة صدق أحد النقيضين على الآخر هذا تقرير الإمام على اختلاف عباراته وقد اعتبر في بعضها النسب فيما بين العدم والنفي ثم قال وإذا لم يكن العدم نقيا صرفا بل ثابتا وهو صادق على النفي انتظم قياس هكذا كل نفي عدم وكل عدم ثابت فكل نفي ثابت وهو مح وأجيب عنه بعبارات محصلها أنا لانم أنه إذا لم يكن نفيا صرفا كان ثبوتيا محضا لجواز أن يكون مفهوما يكون بعض أفراده ثابتا كالمعدومات الممكنة وبعضها منفيا كالممتنعات وهذا القدر كاف في الفرق وح لا يصدق أن كل معدوم ثابت ليلزم كون المنفي ثابتا وزعم صاحب المواقف أن الاستدلال إلزامي تقريره أنه لو كان المعدوم ثابتا كان المعدوم أعم من المنفي وكان متميزا عنه فكان ثابتا لأن كل متميز ثابت عندكم وقد صدق المعدوم على المنفي فيكون ثابتا ضرورة أن ما صدق عليه الصف الثبوتي فهو ثابت ولا خفاء في أن الجواب المذكور لا يتأتى على هذا التقدير فمن أورده لم يتفطن بمراد المستدل وكون كلامه إلزاميا فنقول الجواب المذكور إنما أورد على تقرير الإمام ولا أثر فيه لحديث الإلزام على أنه لو قصد ذلك لكانت أكثر المقدمات لغوا إذ يكفي أن يقال لو لم يكن المعدوم والمنفي واحدا لكان المنفي متميزا عنه وكان ثابتا على أن الحق أنه لا تعلق لهذا الإلزام بكون المعدوم ثابتا إذ يقال لو كان المنفي مباينا للموجود كان متميزا عنه وكان ثابتا وليت شعري كيف جعل خصوص المعدوم مستلزما لكونه منفيا وعمومه مستلزما لكونه ثابتا مع قيام التميز في الحالين فإن قيل على التقريرين لما كان زعم الخصم ثبوت المعدوم فأي حاجة للمستدل إلى إثبات ذلك بالتكلف ليفرع عليه ثبوت المنفي وهلا قال من أول الأمر لو كان المعدوم ثابتا وهو صادق على المنفي لزم ثبوته قلنا زعمه أن الذوات المعدومة الممكنة ثابتة ومقصود المستدل إثبات أن الوصف الذي هو المعدوم المطلق ثابت ليلزم منه ثبوت موصوفه وإلى هذا يشير قول المواقف لو كان المعدوم ثابتا كان المعدوم أعم بإعادة لفظ المعدوم دون ضميره ألا ترى أن مآل كلامه أنه لو كان المعدوم ثابتا لكان المعدوم ثابتا فلو لم يرد بالأول الموصوف وبالثاني الوصف لكان لغوا ومما يجب التنبيه له أن المراد بالأعم في تقرير الإمام ما يشمل العموم المطلق والعموم من وجه
____________________
(1/83)
ليتم الحصر وفي تقرير المواقف يجوز أن يحمل على المطلق ويبين الملازمة بأنه صادق على كل منفي قال تمسك المخالف القائلون بأن المعدوم الممكن ثابت في الخارج تمسكوا بوجوه
الأول أنه متميز وكل متميز ثابت أما الصغرى فلأنه قد يكون معلوما فيتميز عن غير المعلوم ومرادا فيتميز عن غير المراد ومقدورا فيتميز عن غير المقدور وأما الكبرى فلأن التميز عند العقل لا يتصور إلا بالإشارة العقلية بهذا وذاك والإشارة تقتضي ثبوت المشار إليه ضرورة امتناع الإشارة إلى النفي الصرف
الثاني أنه ممكن وكل ممكن ثابت لأن الإمكان وصف ثبوتي على ما سيأتي فيكون الموصوف به ثابتا بالضرورة والجواب عن الأول أنه إن أريد أن التميز يقتضي الثبوت في الخارج فممنوع وإنما يلزم لو كان التميز بحسب الخارج وإن أريد في الذهن فلا يفيد وعن الثاني أنا لانم كون الإمكان ثبوتيا بمعنى كونه ثابتا في الخارج بل هو اعتبار عقلي يكفي ثبوت الموصوف به في العقل ثم لا خفاء في أن الممتنعات كشريك الباري واجتماع النقيضين وكون الجسم في آن واحد في حيزين بعضها متميز عن البعض وعن الأمور الموجودة مع أنها منتفية قطعا وأن مثل جبل من الياقوت وبحر من الزئبق من المركبات الخيالية متميز وممكن مع أنها غير ثابتة وفاقا فيورد بالأول معارضة أو نقض على الوجه الأول وبالثاني على الوجهين وقد يورد النقض بالأحوال من الوجود وغيره فإنها مع تميزها ليست بثابتة في العدم إذ لا عدم لها ولا وجود لما سبق من أن الحال صفة للموجود لا موجودة ولا معدومة وفيه نظر لأن قاعدة الخصم ليست سوى أن كل متميز ثابت في الخارج فإن كان موجودا ففي الوجود أو معدوما ففي العدم أو لا موجودا أولا معدوما ففي تلك الحال والوجود وغيره من الأحوال ليس لها حالة العدم أصلا فمن أين يلزم ثبوتها في العدم
الثالث أن معنى كون المعدوم الممكن ثابتا في الخارج أن السواد المعدوم مثلا سواد في نفسه سواء وجد الغير أو لم يوجد وبيانه ظاهر لأنه لو كان كونه سوادا بالغير لزم ارتفاع كون السواد سوادا عند ارتفاع الغير واللازم باطل لأنه يستلزم أن لا يبقى السواد الموجود سوادا عند ارتفاع ذلك الغير الذي هو الموجب لكونه سوادا وهو محال والجواب أنا لانم استلزامه لذلك وإنما يلزم لو كان وجود السواد باقيا عند ارتفاع موجب السوادية وهو ممنوع لم لا يجوز أن يكون ارتفاع ذلك الغير كما يوجب ارتفاع سواديته يوجب ارتفاع وجوده لكونه العلة للوجود أو لازمها فإن قيل لو ارتفع عند ارتفاع ذلك الغير سوادية السواد لزم أن لا يكون السواد سوادا وهو بديهي الاستحالة قلنا إن أريد أنه يلزم السلب أي لبس السواد المعدوم سوادا فلانم استحالته وإن أريد العدول أي السواد المتقرر في نفسه لا سواد فلانم لزومه وإنما يلزم لو كان السواد متقررا في نفسه حينئذ فإن قيل الكل شيء ماهية هو بها هو مع قطع النظر عن كل ما عداه لازما كان أو مفارقا فيكون السواد سوادا سواء وجد
____________________
(1/84)
غيره أو لم يوجد قلنا لا يلزم من هذا سوى أن يكون السواد سوادا نظر إلى الغير أو لم ينظر وقطع النظر عن الشيء لا يوجب انتفاءه ليلزم كون السواد سوادا وجد الغير أو لم يوجد وهذا كما أنه يكون موجودا مع قطع النظر عن الغير لا مع انتفائه قال هذا في الشيئية يعني أن ما ذكرنا من الاختلاف والاحتجاج إنما هو في شيئية المعدوم بمعنى ثبوته في الخارج وأما أنه هل يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة فبحث لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال وقد وقع فيه اختلافات نظرا إلى الاستعمالات فعندنا هو اسم للموجود لما نجده شايع الاستعمال في هذا المعنى ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازا كما في قوله تعالى { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } وقوله تعالى { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } لا ينفي الاستعمال المجازي بل الحقيقي وما ذكره أبو الحسين البصري والنصيبي من أنه حقيقة في الموجود مجاز في المعدوم هو مذهبنا بعينه وعند كثير من المعتزلة هو اسم للمعلوم ويلزمهم أن يكون المستحيل شيئا وهم لا يقولون به اللهم إلا أن يمنع كون المستحيل معلوما على ما سيأتي أو يمنع عدم قولهم بإطلاق الشيء عليه فقد ذكر جار الله أنه اسم لما يصح أن يعلم يستوي فيه الموجود والمعدوم والمحال والمستقيم والذي لا قائل به هو كونه شيئا بمعنى الثبوت في الخارج وعند بعضهم هو اسم لما ليس بمستحيل موجودا كان أو معدوما وما نقل عن أبي العباس الناشي أنه اسم للقديم وعن الجهمية أنه اسم للحادث وعن هشام بن الحكم أنه اسم للجسم فبعيد جدا من جهة أنه لا يقبله أهل اللغة ولا تقوم عليه شبهة لا من جهة وقوع استعماله في غير ما ذكره كل منهم فإن له أن يقول هو مجاز كما نقول نحن في مثل قوله تعالى { إنما قولنا لشيء } وكون الأصل في الإطلاق هو الحقيقة مشترك الإلزام فلا بد من الرجوع إلى أمر آخر من نقل أو كثرة استعمال أو مبادرة فهم أو نحو ذلك ( قال احتج المثبتون للحال بوجوه
الأول أن الوجود ليس بموجود وإلا ) لكان له وجود وتسلسل ولا معدوم وإلالاتصف بنقيضه أي بما يصدق عليه نقيضه وذلك لأن العدم على تقدير الواسطة ليس نقيضا للوجود بل أخص منه وإنما نقيضه اللاوجود وأجاب صاحب التجريد بأن الوجود لا يرد عليه القسمة إلى الموجود والمعدوم فلا يكون أحدهما ولا يخفى ما فيه من تسليم المدعي والاعتراف بالواسطة فإن قيل الواسطة يجب أن تكون قسما من الثابت والوجود ليس بثابت كما أنه ليس بمنفي وإنما هو ثبوت وهذا كما أن كلا من الثبوت والنفي ليس ثابتا ولا منفيا ولم يلزم من ذلك كونه واسطة بينهما قلنا العذر أشد من الجزم لأن ما ذكرنا قول بالواسطة بين الثابت والمنفي بارتفاع النقيضين وأجاب الإمام بأنا نختار أن الوجود موجود ووجوده عينه لا زائد ليلزم تسلسل الوجودات فامتيازه عن سائر الموجودات يكون بقيد سلبي هو أن لا ماهية له وراء الوجو وقد يجاب بأنا
____________________
(1/85)
بخيار أنه معدوم واتصاف الشيء بنقيضه إنما يمتنع بطريق المواطأة مثل أن الوجود عدم والموجود معدوم وإما بطريق الاشتقاق مثل أن الوجود ذو عدم فلا نسلم استحالته فإنه بمنزلة قولنا الحيوان ذو لا حيوان هو السواد أو البياض وسائر ما يقوم به من الأعراض والأقرب أنه إن أريد الوجود المطلق فمعدوم أو الخاص كوجود الواجب ووجود الإنسان فموجود ووجوده زائد عليه عارض له هو المطلق أو الحصة منه وليس له وجود آخر ليتسلسل فإن أريد بكونه موجودا بوجود هو نفسه هذا المعنى فحق وإن أريد بمعنى أنه نفسه وجود فلا يدفع الواسطة بين المعدوم والموجود بمعنى ما له الوجود هذا والحق أن الشبهة قوية
الثاني أن الكلي الذي له جزئيات متحققة مثل الإنسان ليس بموجود وإلا لكان مشخصا فلا يكون كليا ولا معدوم وإلا لما كان جزأ من جزئياته الموجودة كزيد مثلا لامتناع تقوم الموجود بالمعدوم وأيضا الجنس كالحيوان ليس بموجود لكليته ولا معدوم لكونه جزأ من الماهية الحقيقية كالإنسان وأيضا جنس الماهيات الحقيقية من الأعراض كلونية السواد ليس بمعدوم لما ذكر ولا موجود لاستلزامه قيام العرض بالعرض قيل اي اللون بالسواد لأنه المحمول طبعا وقيل بالعكس لأن الجنس مقوم للنوع وقيل أي اللون بالمفصل الذي هو قابض البصر مثلا لكونه المحمول وقيل بالعكس لكون الفصل مقوما للجنس والكل فاسد لأن جزء المركب سيما المحمول عليه لا يكون عرضا قائما به ولا بالعكس وكذا المحمول الأعم والنعت لا يلزم أن يكون عرضا للموضوع بل يمتنع لأن العرض لا يكون محمولا على المحل إلا بالاشتقاق وكذا المقوم للشيء بمعنى كونه داخلا في قوامه كالجنس للنوع أو بمعنى كونه علة لتقومه وتحصله ماهية حقيقية كالفصل للجنس لا يقتضي كون ذلك الشيء عرضا قائما به سيما إذا كان محمولا ألا ترى أن الحيوان محمول على الإنسان مقول له ومحمول على الناطق خارج والناطق مقوم له علة لتحصله وكان الغلط من اشتراك لفظ العروض والقيام وإلى ما ذكرنا أشار في المتن بقوله على أن مثل هذا القيام ليس من قيام العرض بالمحل في شيء ولم يتعرض لمنع امتناع قيام العرض بالعرض لأنه ربما ثبت بالدليل أو يكون على طريق الإلزام ولما كان ههنا تحقيق به يخرج الجواب عن هذا الوجه بالكلية جعلناه العمدة وهو أن ليس في الخارج تمايز بين الكلي والتشخص يحصل من تركبهما الشخص ولا بين الجنس والفصل يحصل من تركبهما النوع لظهور أن ليس في الخارج شيء هو الإنسان الكلي وآخر هو خصوصية زيد يتركب منهما زيد وكذا ليس في الخارج شيء هو اللون وآخر هو قابض البصر وآخر مركب منهما هو السواد ليلزم من قيام واحد من الثلاثة بآخر منها على ما مر من التفصيل قيام العرض بالعرض بل في الوجود أمر واحد وإنما التركب والتمايز بحسب العقل فقط فلا يلزم منه إلا كون الكلي أو الجنس موجودا في الذهن ولا استحالة فيه وأنا أتعجب
____________________
(1/86)
منهم كيف ادعوا أن جزء الموجود يجب أن يكون من أفراد اللاموجود الذي هو نقيض الموجود ويمتنع أن يكون من أفراد المعدوم الذي ليس عندهم نقيض الموجود بل أخص منه قال وإنما يلزم الجهل اعترض الإمام على قولهم لا تمايز بين الأجناس والفصول في الأعيان بل في الأذهان بأن حكم العقل إن طابق الخارج عاد كلام مثبتي الحال وثبت المطلوب وإن لم يطابق كان جهلا ولا عبرة به فأجيب بأن الكلام في تصور الأجناس والفصول ولا حكم فيه تعتبر مطابقته ولا مطابقته وإنما يلزم الجهل لو حكم بأنها متمايزة في الخارج ولا تمايز فدفع بأن مراده أن هذه التصورات بل الصور إن طابقت الخارج فذاك وإلا كان جهلا والجواب أنه إن أريد بالمطابقة أن يكون في الخارج بإزاء كل صورة هوية على حدة فلا نسلم لزوم الجهل على تقدير عدمها وإنما يلزم لو أخذت في الذهن على أنها صور لأمور متمايزة في الخارج وإن أريد بالمطابقة أن تكون بإزائها هوية يكون المتحقق بها في الخارج تلك الهوية والمتحقق من تلك الهوية في الذهن تلك الصور فلا نسلم أن المطابقة تستلزم أن يكون هناك أمور متمايزة بحسب الخارج وإنما يلزم ذلك لو لم ينتزع العقل من أمر واحد صورا مختلفة باعتبارات مختلفة على ما سيحقق في بحث الماهية قال ونوقض الوجهان بالحال تقرير
الأول أن الأحوال لو كانت ثابتة لكانت متشاركة في الثبوت متخالفة بالخصوصيات فكان ثبوتها زائدا عليها ضرورة أن ما به الاشتراك مخالف لما به الامتياز وثبوتها ليس بمنفي فيكون ثابتا ويتسلسل لما ذكرتم في الوجود وتقرير
الثاني أن الحال قد يكون كليا محمولا على جزئيات ثابتة فإن كان ثابتا كان متشخصا وإن كان منفيا امتنع كونه جزأ من الثابت وكذا إذا كان جنسا لأنواع وإذا كان من أجناس الأعراض لزم قيام العرض بالعرض على ما ذكرتم فما هو جوابكم فهو جوابنا فإن قيل الحال لا تقبل التماثل والاختلاف لأن ذلك من صفات الموجود فلا يتحقق فيها ما به الاشتراك وما به الاختلاف ليلزم زيادة ثبوتها ويتسلسل ولا يتعين حال للكلية وآخر للجزئية أو حال للحالية وآخر للمحلية ليلزم ما ذكرتم بخلاف الموجودات فإنها قابلة لذلك باعترافكم وأيضا لا نسلم استحالة التسلسل في الأمور الثابتة وإنما قام الدليل على استحالته في الموجودات قلنا قبولها التماثل والاختلاف ضروري لأن المعقول من الشيء إن كان هو المعقول من الآخر فهما متماثلان وإلا فمختلفان وما قيل أنهم جعلوا التماثل والاختلاف إما حالا أو صفة وعلى التقديرين فلا يقوم إلا بالموجود ليس بشيء لأن الصفة قد تقوم بالثابت وإن لم يكن موجودا وإن أريد أنه حال أو صفة موجودة فممنوع واستحالة التسلسل في الأمور الثابتة مما قام عليه بعض أدلة امتناع التسلسل على ما سيجيء وأما ما ذكره الإمام من أنا لو جوزناه انسد إبطال حوادث لا أول لها وإثبات الصانع القديم فضعيف لأنا لا نجوزه في الموجودات وبه يتم إثبات الصانع وتقرير القوم في النقض
____________________
(1/87)
بالحال أن الأحوال متخالفة بخصوصياتها ومتشاركة في عموم كونها حالا وما به المشاركة غير ما به الممايزة فيلزم أن يكون للحال حال آخر إلى غير النهاية ودفعه الإمام بأن الحالية ليست صفة ثبوتية حتى يلزم أن يكون للحال حال آخر وذلك لأنه لا معنى للحال إلا مالا يكون موجودا ولا معدوما وهو صفة سلبية فلا يكون الاشتراك فيها اشتراكا في حال ليلزم تسلسل الأحوال ورده الحكيم المحقق بأن الحال عندهم ليس سلبا محضا بل هو وصف ثابت للموجود ليس بموجود ولا معدوم ولهذا لم يجعلوا المستحيل حالا مع أنه ليس بموجود ولا معدوم فإن ذا الحال يشتمل عندهم على معنى غير سلب الوجود والعدم يختص بتلك الأمور التي يسمونها حالا وتشترك الأحوال فيه وهي لا توصف بالتماثل والاختلاف لأن المثلين عندهم ذاتان يفهم منهما معنى واحد والمختلفان ذاتان لا يفهم منهما معنى واحد والحال ليس بذات لأنها التي تدرك بالانفراد والحال لا تدرك بالانفراد والمشترك ليس بمدرك بالانفراد حتى يحكم بأن المدرك من أحدهما هو المدرك من الآخر أو ليس ( قال الثالث ) أي من وجوه إثبات الحال أن الإيجاد ليس بموجود وإلا احتاج إلى إيجاد له محتاج إلى آخر وهكذا إلى ما لا نهاية له ولا معدوم وإلا لما كان الفاعل موجدا لأنه بعد صدور المعلول عنه لم يحصل له صفة وكما لم يكن قبل الصدور موجدا فكذا بعده لا يقال إيجاد الإيجاد عينه لأنا نقول مثل هذا لا يصح في الأمور الموجودة لأن ذلك إيجاد للمعلول وهذا إيجاد للوصف الذي هو إيجاد والجواب أنا نختار أنه معدوم ولا نسلم لزوم أن لا يكون الفاعل موجدا فإن صحة الحمل الإيجابي لا تنافي كون الوصف الذي أخذ منه المحمول معدوما في الخارج كما في قولنا زيد أعمى في الخارج واجتماع الضدين ممتنع في الخارج مع أن كلا من العمى والامتناع معدوم في الخارج قال ولهم أي للقائلين بكون المعدوم شيئا والحال ثابتا على هذين الأصلين تفريعات مثل اتفاقهم على أن الذوات الثابتة في العدم من كل نوع غير متناهية وعلى أنه لا تأثير للمؤثر في تلك الذوات لأنها ثابتة في العدم من غير سبب وإنما التأثير في إخراجها من العدم إلى الوجود وعلى أنه لا تباين بين تلك الذوات بمعنى أنها متساوية في الذاتية وإنما الاختلاف بالصفات لا في الحقيقة وإلا لصح على كل ما صح على الآخر وهو باطل بالضرورة نعم أفراد كل نوع متساوية في الحقيقة وهو ظاهر وعلى أنه يجوز القطع بأن للعالم صانعا متصفا بالعلم والقدرة والحياة مع الشك في وجوده حتى يقوم عليه البرهان وذلك لأنهم جوزوا اتصاف المعدوم الثابت بالصفات الثبوتية واعترض بأن هذا يستلزم جواز الشك في وجود الأجسام بعد العلم باتصافها بالمتحركية والساكنية لجواز أن تتصف بذلك في العدم فيحتاج وجودها إلى دلالة منفصلة وذلك جهالة عظيمة والجواب بأنا بعدما نتصور ذاتا متصفة بتلك الصفات ونصدق بأن صانع العالم يجب أن يكون كذلك يجوز أن نشك في أن للعالم صانعا كذلك أو بأنا بعد العلم بأن كل ما لو وجد كان صانع العالم
____________________
(1/88)
فهو بحيث لو وجد كان متصفا بتلك الصفات يجوز أن نشك في أنه موجود في الخارج ليس بشيء لأنه لا يتفرع حينئذ على كون المعدوم شيئا وثابتا في الخارج بل يصح على قول النافين أيضا ألا يرى أنا نستدل على وجود الواجب ومعناه أن الذات المتصفة بوجوب الوجود يفتقر التصديق بوجودها إلى الدليل ونقطع بأن الشريك الباري ممتنع ومعناه أن الذات المتصفة بالوجود وسائر صفات الكمال المغايرة للباري تعالى وتقدس تمتنع أن يوجد في الخارج واعلم أنهم وإن جعلوا هذا التفريع متفقا عليه إلا أنه إنما يصح على رأي القائلين بأن للمعدوم صفة ( قال واختلافهم ) من تفاريع القول بكون المعدوم شيئا اختلافهم في أن الذوات المعدومة هل تتصف بصفة الجنس كالجوهر بالجوهرية والسواد بالسوادية إلى غير ذلك وبما يتبع صفة الجنس كالحلول في المحل التابع للسوادية مثلا فقال الجمهور نعم لأنها متساوية في الذاتية فلو لم تتخالف بالصفات لكانت واحدة ولأنها إما متماثلة في العدم فتكون متماثلة في الوجود لأن ما بالذات لا يزول بالعرض وإما متخالفة فتكون بالصفات ضرورة اشتراكها في الذاتية ولأن التحيز اللازم للجوهر حالة الوجود ليس لأنه ذات ولا لأنه موجود وإلا لكان لازما للعرض فتعين أن يكون لصفة يتصف بها في العدم وأجيب بأن التساوي في الذاتية لا يمنع الاختلاف بالحقيقة كالحقائق المتشاركة في الوجود وحينئذ لا يرد شيء مما ذكر وذهب أبو إسحق بن عياش إلى أنها في العدم عارية عن جميع الصفات لأنها لما كانت متساوية في الذات فاختصاص بعضها بصفة معينة لا تكون لذاته وهو ظاهر ولا لصفة أخرى وإلا تسلسل بل لمباين ولا يجوز أن يكون موجبا لأن نسبته إلى الكل على السواء فيكون مختارا وفعل المختار حادث فيلزم كون المعدوم موردا للصفات المتزايلة وهو باطل بالاتفاق فتعين أن يكون ذلك حالة الوجود والجواب أنه يجوز أن يكون لذاته المخصوصة فظهر أن مبنى كلام الطرفين على عدم التفرقة بين العارض الذي هو الذات المطلقة والمعروض الذي هو الذات المخصوصة ومنها اختلافهم في أن التخير هل يغاير الجوهرية فالجمهور على أن الجوهرية صفة تابعة للجوهر حالتي الوجود والعدم والتحيز وهو اقتضاء الجوهر حيزا ما صفة تابعة ثابتة للجوهر الموجود أي صادرة عن الجوهر بشرط الحدوث ويسمونه الكون وحصول الجوهر في الحيز المعين ويسمونه الكائنية معلل بالتحيز بمعنى الكون وذهب الشحام والبصري وابن عياش إلى أن الجوهرية نفس التحيز إذ لا معنى للجوهرية إلا المتحيز بالذات ومنها اختلافهم في أن المعدومية هل هي صفة ثابتة للمعدومات حالة العدم فأثبته أبو عبدالله البصري ونفاه غيره لأنها لافتقارها إلى الذات ممكن فإن كان علتها الذات أو الفاعل الموجب من غير توسط الاختيار أصلا لزم دوامها فلا توجد الذات وإن كان هي الفاعل بالاختيار ابتداء أو انتهاء لزم حدوثها وهو محال ومنها اختلافهم
____________________
(1/89)
في أن الجواهر المعدومة هل هي أجسام في العدم فنفاه الجمهور وأثبته أبو الحسين الخياط ( قال ومثل تقسيم الحال ) من تفاريع القول بالحال تقسيمه إلى حال هو معلل بصفة موجودة في الذات كالعالمية المعللة بالعلم والقادرية المعللة بالقدرة وإلى حال ليس كذلك كلونية السواد فإنها لا تعلل بصفة في السواد وكذا وجود الأشياء ومنها تعليل اختلاف الذوات في العدم بالأحوال فإن القائلين بكون الذوات المعدومة متخالفة بالصفات جعلوا تلك الصفات أحوالا ودل ذلك على أن الحال عندهم لا يجب أن يكون صفة لموجود ومنها تقسيمهم تلك الصفات في الجواهر إلى ما يعود إلى الجملة أعني مجموع ما يتركب عنه البنية كالحينية وما هو مشروط بها كالعلم والقدرة وإلى ما يعود إلى التفصيل أي الإفراد كالجوهرية والوجود والكون والكائنية وفي الإعراض إلى الصفة النفسية كالسوادية والصفة الحاصلة بالفاعل كالوجود وإلى ما يتبع العرض بشرط الوجود كالحلول في المحل ( قال فإن قلت ) لما كان بطلان القول بثبوت المعدوم في الخارج وتحقق الواسطة بينه وبين الموجود جليا بل ضروريا وقد ذهب إليهما سيما الواسطة كثير من العلماء المحققين حاول التنبيه على ما يصلح مظنة للاشتباه في المقامين
أما الأول فهو أن العقل جازم بأن السواد سواد في الواقع وإن لم يوجد أسباب الوجود من الفاعل والقابل فإن أسباب الماهية غير أسباب الوجود على ما سيجيء فعبروا عن هذا المعنى بالثبوت في الخارج لما رأوا فيه من شائبة التقرر والتحقق مع نفيهم الوجود الذهني وهو قريب من قول الفلاسفة أن الماهيات ليست بجعل الجاعل وحاصله انهم وجدوا تفرقة بين الممتنعات والمعدومات الممكنة بأن لها ماهيات تتصف بالوجود تارة وتتعرى عنه أخرى بحسب حصول أسباب الوجود ولا حصولها فعبروا عن ذلك بالشيئية والثبوت في الخارج
وأما الثاني فهو انهم وجدوا بعض ما يتصف به الموجود كوجود الإنسان وإيجاد الله تعالى إياه وعالمية زيد ولونية السواد قد قام الدليل على أنه ليس بموجود ولم يكن لهم سبيل إلى الحكم بأنه لا تحقق له أصلا لما رأوا الموجودات تتصف به سواء وجد اعتبار العقل أو لم يوجد على أنه لو وجد اعتبار العقل وفرضه فهو عندهم ليس بموجود في العقل فجزموا بأن لهذا النوع من المعاني تحققا ما في الخارج وليست بموجودة ولا معدومة بل واسطة وسموه بالحال توضيحه أنه إذا صدر المعلول عن العلة فنحن نجد في كل منهما صفة كانت معدومة قبل الصدور أعني الموجدية والوجود فلا تكون ح معدومة ضرورة التفرقة بين الحالين وقد قام الدليل على أنها ليست بموجودة فتكون واسطة ( قال وأما ابتناء ذلك ) أقول ذكر صاحب المواقف على ما نطق به أصل النسخ أنه يظن ظنا قريبا من اليقين أن مبنى إثبات الواسطة على أنهم وجدوا من المفهومات ما يتصور عروض الوجود لها فسموا تحققها وجودا
____________________
(1/90)
وارتفاعها عدما ومنها ما لا يتصور عروض الوجود لها أصلا كالاعتبارات العقلية التي تسميها الحكماء معقولات ثانية فجعلوها لا موجودة ولا معدومة بمعنى أنها ليست متحققة ولا من شأنها التحقق فعندنا تقابل الوجود والعدم تقابل إيجاب وسلب وعندهم تقابل ملكة وعدم والحق أن هذا الظن لا يغني من الحق شيئا
أما أولا فلأنه إنما يصح لو كان المعدوم عندهم مباينا للممتنع لا يطلق عليه أصلا كما ذكره صاحب التلخيص لا أعم على ما قرره صاحب المواقف وغيره لظهور أنه لا يعرض له الوجود أصلا
وأما ثانيا فلأن الحال حينئذ تكون أبعد عن الوجود من المعدوم لما أنه ليس له التحقق ولا إمكان التحقق وليس كذلك لما أنهم يجعلونه قد تجاوز في التقرر والتحقق والثبوت حدا لعدم ولم يبلغ حد الوجود ولهذا جوزوا كونه جزء الموجود كلونية السواد وأما ثالثا فلأنه ينافي ما ذكره في تفسير الواسطة من أنه المعلوم الذي له تحقق لا باعتبار ذاته بل تبعا لغيره أو الكائن في الأعيان لا بالاستقلال بل تبعا لغيره ويمكن دفع الأخيرين بأن المراد بالتحقق الذي يتصور عروضه للمعدوم دون الواسطة هو التحقق بالاستقلال وأن الواسطة تكون أقرب إلى الوجود من حيث أن التحقق بالتبعية حاصل له بالفعل قال المبحث الخامس قد اشتهر خلاف في تمايز الإعدام فإن أريد أن ليس التمايز أمرا متحققا في الخارج أو ليست للعدمات أو المعدومات هوية عينية متمايزة فضروري لا يتصور فيه نزاع وإن أريد أن ليس لمفهوم العدم أفراد متمايزة عند العقل يختص كل منها بأحكام مخصوصة صادقة في نفس الأمر فباطل لأن عدم العلة موجب لعدم المعلول من غير عكس وعدم الشرط مناف لوجود المشروط وعدم المشروط لا ينافي وجود الشرط وعدم الضد عن المحل يصحح طريان الضد الآخر بخلاف عدم غير الضد ولما لم يكن التمايز إلا بحسب التعقل الذي وقع الخلاف في أنه هل هو وجود ذهني أم لا ذهب صاحب المواقف إلى أن الخلاف في تمايز الإعدام فرع الخلاف في الوجود الذهني فمن أثبته نفاه لأن التمايز لا يكون إلا في العقل أي بحسب التعقل والتصور فإن كان ذلك بوجود في الذهن على ما هو رأي المثبتين لم يتصور معدوم مطلقا أي معدوم ليس له شائبة الوجود لأن كل متصور فله وجود ذهني فلا يكون التمايز إلا للموجودات ومن نفاه أثبته لأن الإعدام ليست لها شائبة الوجود متمايزة في التصور وأنت خبير بأن الأمر بالعكس لأن الفلاسفة المثبتين للوجود الذهني يقولون يتمايز الأعدام وجمهور المتكلمين النافين له هم القائلون بعدم تمايزها فالأولى أن يقال في بيان التفرع أنه لما كان التميز عندهم وصفا ثبوتيا يستدعي ثبوت الموصوف به فمن أثبت الوجود الذهني حكم بتمايز الإعدام عند تصورها لما لها من الثبوت الذهني وإن كانت هي إعداما في أنفسها ومن نفاه حكم بعدم التمايز لعدم الثبوت أصلا قال والعدم قد يعرض لنفسه لما كان الحكم بتمايز الإعدام في التصور مظنة الاعتراض بأن التمايز
____________________
(1/91)
ح يكون للموجودات الذهنية على ما هو رأي المحققين من الحكماء والمتكلمين حاول التنبيه على الجواب بذكر مسائل تدل على أن العدم بالذات لا ينافي الوجود باعتبار منها أن العدم يعرض لنفسه بأن يتصور العدم المطلق الذي هو نفي الكون في الأعيان ثم يزول ذلك عن الذهن فيكون ذلك عروضا للعدم على ما هو عدم في نفسه وإن كان موجودا من حيث حصوله في الذهن ومنها أن زوال العدم عن الذهن نوع من العدم المطلق من حيث كونه مضافا إلى العدم ومقابل له من حيث كونه نفيا له وسلبا ومنها أن المعدوم المطلق أعني ما ليس له ثبوت في الخارج ولا صورة في العقل ثابت من حيث أنه متصور فيصح الحكم عليه بامتناع الحكم عليه وقسيم للثابت من حيث ذاته فيمتنع الحكم عليه لاستدعائه ثبوت المحكوم عليه في الجملة فإن قيل فما لا يكون ثابتا بوجه من الوجوه من حيث أنه لا ثابت يمتنع الحكم عليه والحكم بامتناع الحكم حكم فيتناقض قلنا صحة الحكم عليه بامتناع الحكم ليست من جهة أنه لا ثابت بل من جهة أنه متصور ثابت في العقل وامتناع الحكم من جهة أنه لا ثابت في نفسه وبحسب مفهومه ولا تناقض لاختلاف الجهتين وهذا هو الجواب عن الشبهة المشهورة على قولهم الحكم على الشيء مشروط بتصوره بوجه ما وهي أنه لو صح ذلك لصدق قولنا لا شيء مما انتفى فيه هذا الشرط كالمجهول مطلقا يصح الحكم عليه ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط واللازم باطل لأن موضوع هذه السالبة إن كان ثابتا معلوما بوجه ما صح الحكم عليه في الجملة فيكذب الحكم بعدم صحة الحكم أصلا وإن كان مجهولا مطلقا والحكم بعدم صحة الحكم حكم فتناقض لأن بعض المجهول المطلق صح الحكم عليه وقد يجاب بأن القضية مشروطة أي لا يصح الحكم عليه ما دام مجهولا مطلقا وهي لا تناقض المطلقة وهو مدفوع بأدنى تغير وهو أن يقيد انتفاء الشرط بالدوام أي ما يكون مجهولا مطلقا دائما لا يصح الحكم عليه دائما أو يعتبر إمكان التصور فيقال لو كان الحكم على الشيء مشروطا بتصوره لكان مشروطا بإمكان تصوره ضرورة فيلزم أن لا يمكن الحكم على ما لا يمكن تصوره أصلا والحكم بعدم الإمكان حكم وبالجملة فالشبهة مما يورد في موارد كثيرة مثل قولنا ضرب فعل ماض ومن حرف جر وليس باسم ومالا يتصور أصلا ليس بكلي إلى غير ذلك فينبغي أن يكون الجواب حاسما للمادة وحاصله أن الموضوع في أمثال هذه القضايا متعدد فالمجهول المطلق من حيث ذاته ممتنع الحكم عليه ومن حيث كونه متصورا محكوم عليه وضرب من حيث ذاته فعل ومن حيث كونه هذا اللفظ اسم وهكذا وقد يقال في بيان بطلان قولنا لا شيء من المجهول مطلقا يصح الحكم عليه أن كل مجهول مطلقا فهو شيء أو لا شيء وممكن أو لا ممكن وبالجملة فأما ب أو ليس ب ضرورة امتناع ارتفاع النقيضين وفيه منع ظاهر وهو أنا لانم صدق شيء من هذه
____________________
(1/92)
القضايا وإنما يلزم ارتفاع النقيضين لو سلبا عن شيء واحد وههنا كما لا سلب لا إيجاب لأن كلا منهما حكم مشروط بتصور الموضوع فلذا بينه القوم بطريق الترديد على ما ذكرنا قال وبالجملة فلا حجر زيادة تعميم لتصرفات العقل واعتباراته يعني أن له أن يعتبر النقيضين من المفردات كالموجود واللاموجود أو من القضايا مثل هذا موجود وهذا ليس بموجود ويحكم بينهما بالتناقض بمعنى امتناع صدق المفردين على شيء واحد وامتناع صدق النقيضين في نفس الأمر فيكون النقيضان موجودين في العقل وإن كان أحدهما عبارة عما لا وجود له أصلا وله أن يعتبر عدم كل شيء حتى عدم نفسه مع أن تصور العقل عدمه يستدعي ثبوته فيكون هذا جمعا بين وجوده وعدمه لكن أحدهما بحسب الذات والآخر بحسب التصور وله أن يعتبر تقسيم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه فيكون اللاثابت في الذهن قسيما للثابت فيه بحسب الذات وقسما منه باعتبار كونه متصورا وكذا في تقسيمه إلى ممكن التصور واللاممكن التصور فيكون الثاني قسما من ممكن التصور بل من المتصور وله أن يحكم بالتمايز بين الثابت في الذهن واللاثابت فيه وكذا بين ممكن التصور واللاممكن التصور مع أنه يستدعي أن يكون للمتازين هويتان عند العقل ولا هوية للاثابت في العقل واللاممكن التصور فيكون كل منهما لا هوية له عند العقل من حيث الذات وله هوية عنده من حيث التصور وهذا كما أنه يعتبر الهوية واللاهوية ويحكم بينهما بالتمايز فتكون اللاهوية قسيما للهوية بحسب الذات وقسما منها باعتبار ثبوتها في العقل ولا تناقض في شيء من ذلك وهذه أصول يستعان بها على حل كثير من المغالطة ( قال المبحث السادس كل من الوجود والعدم قد يقع محمولا ) كما في قولنا الإنسان موجود والعنقاء معدوم وقد يقع رابطة بين الموضوع والمحمول كما في قولنا الإنسان يوجد كاتبا أو يعدم أو بين غيرهما كما في وجود زيد في الزمان أو المكان وفي الأعيان أو الأذهان والحمل قد يكون إيجابا وهو الحكم بثبوت المحمول للموضوع وقد يكون سلبا وهو الحكم بانتفائه عنه وحقيقتهما إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة وهو حقيقة عرفية فيهما فلذا قلنا ولا بد في حمل الإيجاب من اتحاد الموضوع والمحمول بحسب الذات والهوية ليصح الحكم بأن هذا ذاك للقطع بأن هذا لا يصح فيما بين الموجودين المتمايزين بالهوية ومن تغايرهما بحسب المفهوم ليفيد فائدة يعتد بها وهي أن هذين المتغايرين بحسب المفهوم متحدان بحسب الذات والوجود للقطع بعدم الفائدة في مثل الأرض أرض والسماء سماء فإن قيل إن أريد الاتحاد في الوجود الخارجي فرب موجبة لا وجود لطرفيها في الخارج كقولنا العنقاء معدوم وشريك الباري ممتنع والوجوب ثبوتي والإمكان اعتباري والجنس مقوم للنوع والنوع كلي والفصل علة للجنس إلى غير ذلك فإنها وإن منع إيجاب بعضها فلا كلام في البعض
____________________
(1/93)
وإن أريد الأعم ليتناول أمثال هذه القضايا لم يستقم لأنه لا يتصور التغاير في المفهوم مع الاتحاد في الوجود الذهني إذ لا معنى للموجود في الذهن إلا الحاصل فيه وهو معنى المفهوم قلنا معنى الاتحاد بالذات والهوية والوجود هو أن يكون ما صدق عليه عنوان الموضوع هو بعينه ما يصدق عليه مفهوم المحمول من غير أن ينفرد كل بوجود بل يكون موجودا واحدا عينيا كما في القضايا المعتبرة في العلوم سيما إذا أخذت بحسب الحقيقة أو الخارج أو ذهنيا كما في القضايا الذهنية على ما قالوا أن معنى قولنا المثلث شكل هو أن الذي يقال له المثلث هو بعينه الذي يقال له الشكل وهذا هو المراد بقولهم المراد بالموضوع الذات وبالمحمول المفهوم للقطع بأنه لو أريد أن ذات الموضوع نفس مفهوم المحمول لم يستقم ولم يتكرر الوسط في الشكل الأول فلم ينتج كما إذا أخذت القضية طبيعية المحمول أو الموضوع كقولنا جزء مفهوم الإنسان ناطق وكل ناطق ضاحك وقولنا بعض النوع إنسان ولا شيء من الإنسان بنوع مع كذب النتيجة لأن المعتبر عندهم في الأحكام من الموجبة المعنى الذي ذكرنا وهذه ليست كذلك وبالجملة فمعنى الإيجاب في الذهنيات أن المعقول الأول الذي يصدق عليه في الذهن عنوان الموضوع هو بعينه الذي يصدق عليه مفهوم المحمول من غير تعدد في ذاته ووجوده العقلي وإنما التعدد في مفهوميهما اللذين كلاهما أو أحدهما من ثواني المعقولات فمعنى قولنا شريك الباري ممتنع أن ما يصدق عليه في الذهن أنه شريك الباري يصدق عليه في الذهن أنه ممتنع الوجود في الخارج وعلى هذا فقس قال ولا يلزم في حملهما على الماهية قد يتوهم أنه كما لا واسطة بين الوجود والعدم لا واسطة بين اعتبارهما فالماهية المحمول عليها الوجود أما مع اعتبار الوجود فيكون الحمل لغوا بمنزلة أن يقال الماهية الموجودة موجودة وأما مع اعتبار العدم فيكون تناقضا بمنزلة أن يقال الماهية المعدومة موجودة وكذا في حمل العدم بل كل وصف كقولنا الجسم أسود فإن الموضوع أما مع اعتبار المحمول فلغو أو مع اعتبار عدمه فتناقض فأزال ذلك الوهم بأن الموضوع وإن كان لايخ عن المحمول أو نقيضه وجودا كان أو عدما أو غيرهما لكن لا يلزم أن يعتبر فيه أحدهما وإنما يجيء تقيده من قبل الحمل فإن حمل عليه الوجود كان موجودا أو العدم فمعدوما أو السواد فأسود أو البياض فأبيض من غير أن يعتبر معه شيء من ذلك وكذا الثبوت الذهني وإن كان لازما من جهة أن الحكم على الشيء يستدعي تصوره وهو ثبوت ذهني لكن لا يلزم اعتباره في الموضوع لأن الحكم إنما هو على الذات من غير اعتبار الأوصاف لازمة كانت أو مفارقة فليس معنى قولنا الماهية موجودة أن الماهية الثابتة في الذهن موجودة حتى لو كان المحمول هو الثبوت الذهني أو نفيه لم يكن لغوا أو تناقضا إلا بالنسبة إلى من يعلم أن المحكوم عليه متصور البتة وأن التصور ثبوت ذهني قال ولا يشترط
____________________
(1/94)
يعني أن الحكم قد يكون صحيحا أي حقا وصدقا وقد يكون فاسدا أي باطلا وكذبا وإن كان غالب استعمال الصدق والكذب في الأقوال خاصة وليست صحة الحكم بمطابقته لما في الأعيان إذ قد لا يتحقق طرفا الحكم في الخارج كما في الحكم بالأمور الذهنية على الأمور الذهنية أو الخارجية كقولنا الإمكان اعتباري ومقابل للامتناع واجتماع النقيضين ممتنع وكقولنا الإنسان ممكن أو أعمى ولا يكفي المطابقة لما في الأذهان لأنه قد يرتسم فيها الأحكام الغير المطابقة للواقع فيلزم أن يكون قولنا العالم قديم حقا وصدقا لمطابقته لما في أذهان الفلاسفة وهو باطل قطعا بل المعتبر في صحة الحكم مطابقته لما في نفس الأمر وهو المراد بالواقع والخارج أي خارج ذات المدرك والمخبر ومعناه ما يفهم من قولنا هذا الأمر كذا في نفسه أو ليس كذا أي في حد ذاته وبالنظر إليه مع قطع النظر عن إدراك المدرك وإخبار المخبر على أن المراد بالأمر الشأن والشيء وبالنفس الذات فإن قيل كيف يتصور هذا فيما لا ذات له ولا شيئية في الأعيان كالمعدومات سيما الممتنعات فالجواب إجمالا أنا نعلم قطعا أن قولنا باجتماع الضدين مستحيل مطابق لما في نفس الأمر وقولنا أنه ممكن غير مطابق وإن لم يعلم كيفية تلك المطابقة بكنهها ولم يتمكن من تلخيص العبارة فيها وتفصيلا أن المطابقة إضافة يكفيها تحقق المضافين بحسب العقل ولا خفاء في أن العقل عند ملاحظة المعنيين والمقايسة بينهما سواء كانا من الموجودات أو المعدومات تجد بينهما بحسب كل زمان نسبة إيجابية أو سلبية تقتضيها الضرورة أو البرهان فتلك النسبة من حيث أنها نتيجة الضرورة أو البرهان بالنظر إلى نفس ذلك المعقول من غير خصوصية المدرك والمخبر هي المراد بالواقع وما في نفس الأمر وبالخارج أيضا عند من يجعله أعم مما في الأعيان على ما بينا فصحة هذه النسبة تكون بمعنى أنها الواقع وما في نفس الأمر وصحة النسبة المعقولة أو الملفوظة من زيد أو عمرو أو غيرهما بين ذينك المعنيين يكون بمعنى أنها مطابقة لتلك النسبة الواقعة أي على وفقها في الإيجاب والسلب ولما لم تتصور للنسبة المسماة بالواقع وما في نفس الأمر سيما فيما بين المعدومات حصول إلا بحسب التعقل وكان عندهم أن جميع صور الكائنات وأحكام الموجودات والمعدومات مرتسمة في جوهر مجرد أزلي يسمى بالعقل الفعال فسر بعضهم ما في نفس الأمر بما في العقل الفعال ويستدل على وجوده بأن الأحكام مع اشتراكها في الثبوت الذهني منها ما هو مطابق لما في نفس الأمر كالحكم بأن الواحد نصف الاثنين ومنها ما هو غير مطابق كالحكم بنقيض ذلك فللأول متعلق خارج عن الذهن يطابقه ما في الذهن ولأن من الأحكام ما هو أزلي لا يلحقه تغير أصلا ولا خروج من قوة إلى فعل ولا يتعلق بوضع أو زمان أو مكان مع أن المطابقة لما في نفس الأمر في الكل معنى واحد لزم أن يكون ذلك المتعلق الخارجي مرتسما في مجرد أزلي مشتمل على الكل بالفعل وليس
____________________
(1/95)
هو الواجب لامتناع اشتماله على الكثرة ولا النفس لامتناع اشتمالها على الكل بالفعل فتعين العقل الفعال ثم قال وهو الذي عبر عنه في القرآن المجيد باللوح المحفوظ والكتاب المبين المشتمل على كل رطب ويابس وأنت خبير بأن ما ذكره مع ضعف بعض مقدماته مخالف لصريح قوله تعالى { وعنده مفاتح الغيب } الآية فليته سكت عن التطبيق ثم القول بأن المراد بما في نفس الأمر ما في العقل الفعال باطل قطعا لأن كل أحد من العقلاء يعرف أن قولنا الواحد نصف الاثنين مطابق لما في نفس الأمر مع أنه لم يتصور العقل الفعال أصلا فضلا عن اعتقاد ثبوته وارتسامه بصور الكائنات بل مع أنه ينكر ثبوته ويعتقد انتفاءه على ما هو رأي المتكلمين وكان المراد أن ما في نفس الأمر على وجه يعم الكل ولا يحتمل النقيض أصلا هو ما في العقل الفعال وأن تغايرا بحسب المفهوم وقد يقال لو أريد بما في نفس الأمر ما في العقل الفعال امتنع اعتبار المطابقة لما في نفس الأمر في علم العقل الفعال لعدم الأثنينية وفي العلم السابق عليه ولو بالذات كعلم الواجب لامتناع مطابقة الشيء لما لا تحقق له معه وفي العلم بالجزئيات مثل هذا الخرف وقيام زيد في هذاالوقت لامتناع ارتسامها في العقل ويمكن الجواب عن الأول بأن صحة الحكم الذي في نفس الأمر لا يكون لكونه مطابقا لما في نفس الأمر بل عينه وعن الثاني بعد تسليم امتناع مطابقة الشيء مع ما هو متأخر عنه بالذات بأن اعتبار المطابقة إنما يكون في العلم الذي هو بارتسام الصورة ولا كذلك علم الواجب على أنهم لا يثبتون له أولا ألا تعقل ذاته وهو عين ذاته وعن الثالث بأن ارتسام الجزئي في العقل على الوجه الكل كاف في المطابقة قال الفصل الثاني في الماهية وهي لفظة مشتقة من ما هو ولذا قالوا ماهية الشيء ما به يجاب عن السؤال بما هو كما أن الكمية ما به يجاب عن السؤال بكم هو ولا خفاء في أن المراد بما هو الذي تطلب الحقيقة دون الوصف أو شرح الاسم وتركوا التقييد اعتمادا على أنه المتعارف واحترازا عن ذكر الحقيقة في تفسير الماهية ومنهم من صرح بالقيد فقال الذي يطلب به جميع ما به الشيء هو هو وأنت خبير بأن ذلك بعينه معنى الماهية وأن هذا التفسير لفظي فلا دور وقد يفسر بما به الشيء هو هو ويشبه أن يكون هذا تحديدا إذ لا يتصور لها مفهوم سوى هذا وزعم بعضهم أنه صادق على العلة الفاعلية وليس كذلك لأن الفاعل ما به يكون الشيء موجودا لا ما به يكون الشيء ذلك الشيء فإنا نتصور حقيقة المثلث وإن لم نعلم له وجود أو لا فاعلا وبالجملة فمبنى هذا التفسير على أن نفس الماهية ليست بجعل الجاعل على ما سيجيء بيانه ثم الماهية إذا اعتبرت مع التحقق سميت ذاتا وحقيقة فلا يقال ذات العنقاء وحقيقته بل ماهيته أي ما يتعقل منه وإذا اعتبرت مع التشخص سميت هوية وقد يراد بالهوية التشخص وقد يراد الوجود الخارجي وقد يراد بالذات ما صدقت عليه الماهية من الأفراد قال وتغاير عوارضها أي ماهية الشيء وحقيقته مغاير جميع عوارضها
____________________
(1/96)
اللازمة والمفارقة كالفردية للثلاثة والزوجية للأربعة وكالمشي للحيوان والضحك للإنسان ضرورة تغاير المعروض والعارض ولهذا يصدق على المتنافيين كالإنسان الضاحك وغير الضاحك فهي في نفسها ليست شيئا من العوارض ولو على طرفي النقيض كالوجود والعدم والحدوث والقدم والوحدة والكثرة وإنما ينضم إليه هذه العوارض موجودا ومعدوما حادثا وقديما واحدا وكثيرا إلى غير ذلك وتتقابل تلك الماهية أي يعرض لها تقابل الأفراد بتقابل الأوصاف فلا يصدق الإنسان الواحد على الإنسان الكثير وبالعكس ولا الجسم المتحرك على الجسم الساكن وعلى هذا القياس فحيث يحمل بعض العوارض على الماهية من حيث هي هي كما يقال الأربعة من حيث هي هي زوج أو ليست بفرد يراد أن ذلك من عوارض الماهية ولوازمها ومقتضياتها من غير نظر إلى الوجود ولو لم يرد ذلك لم يصح إلا حمل الذاتيات فالأربعة من حيث هي هي ليست إلا الأربعة ولهذا قالوا لو سئل بطرفي النقيض فقيل الأربعة من حيث هي هي زوج أو ليست بزوج كان الجواب الصحيح سلب كل شيء بتقديم حرف السلب على الحيثية مثل أن يقال ليست من حيث هي بزوج ولا فرد ولا غير ذلك من العوارض بمعنى أن شيئا منها ليس نفسها ولا داخلا فيها ولا يصح أن يقال هي من حيث هي زوج أو ليست بفرد أو ليست هذا ولا ذاك بتقديم الحيثية لدلالته على أن ذلك الثبوت أو السلب من ذاتياتها والتقدير أنها من العوارض وأما إذا أريد بتقديم الحيثية أن ذلك العارض من مقتضيات الماهية صح في مثل قولنا الأربعة من حيث هي زوج أو ليست بفرد دون قولنا الإنسان من حيث هو ضاحك أو ليس بضاحك فما ذكر في المواقف من أن تقديم الحيثية على السلب معناه اقتضاء السلب وهو باطل ليس على إطلاقه وقال الإمام ولو سئلنا بموجبتين هما في قوة النقيضين كقولنا الإنسان إما واحد أو كثير لم يلزمنا أن نجيب عنه البتة بخلاف ما إذا سئل بطرفي النقيض لأن معنى السؤال بالموجبتين أنه إذا لم يتصف بهذا الموجب اتصف بذاك والاتصاف لا يستلزم الاتحاد بل يستلزم التغاير وهذا ما قال في المواقف لو سئلنا عن المعدولتين فقيل الإنسانية من حيث هي ( ا ) أو لا ( ا ) لم يلزمنا الجواب ولو قلنا قلنا لا هذا ولا ذاك أي ليست من حيث هي ( ا ) ولا لا ( ا ) بتقديم الحيثية لما مر ولا يخفى ما في لفظ المعدولتين من العدول عن الطريق فإن قولنا هذا ( ا ) ليست من المعدولة في شيء وكذا قولنا هذا واحد أي لا كثير وكثير أي لا واحد وبصير أي لا أعمى وأعمى أي لا بصير لم يقل أحد بكونها معدولة وفي قوله تتقابل بتقابلها إشارة إلى جواب سؤال تقديره أن الإنسانية التي في زيد إن كانت هي التي في عمرو لزم أن يكون الشخص الواحد في آن واحد في مكانين وموصوفا بوصفين متضادين وإن كانت غيرها لم تكن الماهية أمرا واحدا مشتركا بين الأفراد وتقرير الجواب أنها عينها بحسب الحقيقة غيرها بحسب
____________________
(1/97)
الهوية ولا يمتنع كون الواحد لا بالشخص في أمكنة متعددة ومتصفة بصفات متقابلة بل يجب في طبيعة الأعم أن يكون كذلك قال المبحث الثاني الماهية قد تؤخذ بشرط مقارنة العوارض وتسمى المخلوطة والماهية بشرط شيء ولا خفاء في وجودها كزيد وعمرو من أفراد ماهية الإنسان وقد تؤخذ بشرط أن لا يقارنها شيء من العوارض وتسمى المجردة والماهية بشرط لا ولا خفاء في امتناع وجودها في الأعيان لأن الوجود من العوارض وكذا التشخص وفي الأذهان أيضا سواء أطلقت العوارض أو قيدت بالخارجية لأن الكون في الذهن أيضا من العوارض التي لحقت الصورة الذهنية بحسب الخارج لا بمجرد اعتبار العقل وجعله إياه وصفا لها وقيدا فيها وزعم بعضهم أنه يجوز وجودها في الذهن إذا قيدت العوارض بالخارجية زعما منه أن الكون في الذهن من العوارض الذهنية وكأنه أراد بالعوارض الخارجية ما يلحق الأمور الحاصلة في الأعيان وبالذهنية ما يلحق الأمور القائمة بالأذهان وعلى هذا فكون الوجود في الخارج من العوارض الخارجية محل نظر على ما سبق في بحث الوجود فلا يتحقق امتناع وجود المجردة في الخارج أيضا وذكر بعضهم أنها موجودة في الأذهان من غير تقييد للعوارض بالخارجية وبينوه بوجهين أحدهما أن للعقل أن يلاحظ الماهية وحدها من غير ملاحظة شيء معها ورد بأن مثل هذا لا يكون مأخوذا بشرط لا وهو ظاهر وثانيهما أن للعقل أن يعتبر عدم كل شيء حتى عدم نفسه فجاز أن يعتبر الماهية مجردة عن جميع العوارض حتى عن الكون في الذهن وإن كانت هي في نفسها مقرونة بها ورد بأن هذا لا يقتضي كونها مجردة بل غاية الأمر أن العقل قد تصورها كذلك تصورا غير مطابق فإن قيل لا معنى للمأخوذ بشرط لا سوى ما يعتبره العقل كذلك قلنا فح لا يمتنع وجوده في الخارج بأن يكون مقرونا بالعوارض والمشخصات ويعتبره العقل مجردا عن ذلك فصار الحاصل أنه إن أريد بالمجرد مالا يكون في نفسه مقرونا بشيء من العوارض مطلقا أو العوارض الخارجية امتنع وجوده في الخارج والذهن جميعا وإن أريد ما يعتبره العقل كذلك جاز وجوده فيهما فإن قيل فكيف يصح على الأول الحكم بامتناع الوجود في الذهن قلنا هي شبهة المجهول المطلق وقد سبقت قال وما نسب إلى أفلاطون قد نقل عن أفلاطون ما يشعر بوجود الماهية المجردة عن اللواحق وهو أنه يوجد في الخارج لكل نوع فرد مجرد أزلي أبدي قابل للمتقابلات أما التجرد وقبول المتقابلات فليصح كونه جزأ من الأشخاص المتصفة بالأوصاف المتقابلة وأما الأزلية والأبدية فلما سيأتي من أن كل مجرد أزلي وكل أزلي أبدي ولما كان هذا ظاهر البطلان بناء على أن القابل للمتقابلات والجزء من الأشخاص يتصف بالعوارض لا محالة وأنه هو الماهية لا بشرط شيء لا الماهية بشرط لا شيء وأن الوجود من العوارض فالقول بوجود المجردة تناقض اللهم إلا أن تقيد العوارض بغيرالوجود
____________________
(1/98)
أو بجعل الوجود نفس الماهية قال الفارابي في كتاب الجمع بين رأي أفلاطون وأرسطو أنه إشارة إلى أن للموجودات صورا في علم الله تعالى باقية لا تتبدل ولا تتغير وقال صاحب الإشراق وغيره أنه إشارة إلى ما عليه الحكماء المتألهون من أن لكل نوع من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها جوهرا مجردا من عالم العقول يدبر أمره حتى أن الذي لنوع النار هو الذي يحفظها وينورها ويجذب الدهن والشمع إليها ويسمونه رب النوع ويعبر عنه في لسان الشرع بملك الجبال وملك البحار ونحو ذلك ومع الاعتراف بكونه جزئيا يقولون أنه كلي ذلك النوع بمعنى أن نسبة فيضه إلى جميع أشخاصه على السواء لا بمعنى أنه مشترك بينها حتى يلزم أن تكون إنسانية مجردة موجودة في الأعيان مشتركة بين جميع الأفراد متحققة في المواد فيكون هناك إنسان محسوس فاسد وآخر معقول مجرد دائم لا يتغير أبدا ثم هذا غير المثل المعلقة التي يسمونها عالم الأشباح المجردة فإنها لا تكون من الجواهر المجردة بل كالواسطة بين المحسوس والمعقول ولا تختص بأنواع الأجسام بل يكون لكل شخص من الجواهر والأعراض على ما سيجيء صرح بذلك صاحب الإشراق فقال والصور المعلقة ليست مثل أفلاطون لأن مثل أفلاطون نورية أي من عالم العقل وهذه مثل معلقة من عالم الأشباح المجردة منها ظلمانية ومنها مستنيرة وذكر أن لكل نوع من الفلكيات والعنصريات التي في عالم المثل أيضا رب نوع من عالم العقول وأن رب النوع إنما يكون للأنواع الجسمانية المستقلة وتدبير الأعراض والأجزاء مفوض إلى رب النوع الذي هو محلها من الأجسام مثلا في عالم العقل جوهر مجرد له هيئات نورية إذا وقع ظله في هذا العالم يكون منه المسك مع رائحته أو السكر مع طعمه أو الإنسان مع اختلاف أعضائه قال وقد تؤخذ لا بشرط شيء لا خفاء في تباين المخلوطة والمجردة وأما المطلقة أعني المأخوذة لا بشرط شيء فأعم منهما لصدقه عليهما ضرورة صدق المطلق على المقيد فإن قيل المشروط بالشيء واللامشروط به متنافيان فكيف يتصادقان قلنا التنافي إنما هو بحسب المفهوم بمعنى أن هذا المفهوم لا يكون ذاك وهو لا ينافي الاجتماع في الصدق كالإنسان المشروط بالنطق والحيوان اللامشروط به وإنما التنافي في الصدق بين المشروط بالشيء والمشروط بعدمه كالمخلوطة والمجردة ثم لا نزاع في أن الماهية لا بشرط شيء موجودة في الخارج إلا أن المشهور أن ذلك مبني على كونها جزأ من المخلوطة الموجودة في الخارج وليس بمستقيم لأن الموجود من الإنسان مثلا إنما هو زيد وعمرو وغيرهما من الأفراد وليس في الخارج إنسان مطلق وآخر مركب منه ومن الخصوصية هو الشخص وإلا لما صدق المطلق عليه ضرورة امتناع صدق الجزء الخارجي المغاير بحسب الوجود للكل وإنما التغاير والتمايز بين المطلق والمقيد في الذهن دون الخارج فلذا قلنا أن المطلق موجود في الخارج لكونه نفس المقيد
____________________
(1/99)
ومحمولا عليه فإن قيل المأخوذ لا بشرط شيء يمتنع أن يوجد في الخارج لأنه كلي طبيعي ولا شيء من الكلي بموجود في الخارج لأن الموجود في الخارج يستلزم التشخص المنافي للكلية وتنافي اللوازم دليل على تنافي الملزومات قلنا لا نسلم أن مجرد المأخوذ لا بشرط شيء كلي طبيعي بل مع اعتبار كونه معروضا للكلية والمأخوذ لا بشرط شيء أعم من أن يعتبر مع هذا العارض أو لا يعتبر فلا يمتنع وجوده فإن قيل فينبغي أن لا يكون الكلي الطبيعي موجودا في الخارج لأن كلية العارضية تنافي الوجود الخارجي المستلزم للتشخص وقد اشتهر فيما بينهم أن الكلي الطبيعي موجود في الخارج قلنا معناه أن معروض الكلي الطبيعي وهو المأخوذ لا بشرط شيء موجود في الخارج ووجوده الخارجي إنما يتحقق عند عروض التشخص فيصير الحاصل أن ما صدق عليه الكلي الطبيعي وهو المخلوط موجود في الخارج وأما المأخوذ مع عارض الكلية فلا يوجد في الخارج كالمجموع المركب من المعروض والعارض المسمى بالكلي العقلي قال وذكر ابن سينا ما ذكرنا من معنى الماهية بشرط شيء وبشرط لا شيء ولا بالشرط هو المشهور فيما بين المتأخرين وذكر ابن سينا أن الماهية قد تؤخذ بشرط لا شيء بأن يتصور معناه بشرط أن يكون ذلك المعنى وحده ويكون كل ما يقارنه زائدا عليه ولا يكون المعنى الأول مقولا على ذلك المجموع حال المقارنة بل جزأ منه مادة له متقدما عليه في الوجود الذهني والخارجي ضرورة امتناع تحقق الكل بدون الجزء ويمتنع حمله على المجموع لانتفاء شرط الحمل وهو الاتحاد في الوجود وقد يؤخذ لا بشرط أن يكون ذلك المعنى وحده بل مع تجويز أن يقارنه غيره وأن لا يقارنه ويكون المعنى الأول مقولا على المجموع حال المقارنة والمأخوذ على هذا الوجه قد يكون غير متحصل بنفسه بل يكون مبهما محتملا للمقولية على أشياء مختلفة الحقائق وإنما يتحصل بما ينضاف إليه فيتخصص به ويصير هو بعينه أحد تلك الأشياء فيكون جنسا والمنضاف الذي قومه وجعله أحد الأشياء المختلفة الحقايق فصلا وقد يكون متحصلا بنفسه كما في الأنواع البسيطة أو بما انضاف إليه فجعله أحد الأشياء كما في الأنواع الداخلة تحت الجنس وهو نوع مثلا الحيوان إذا أخذ بشرط أن لا يكون معه شيء وإن اقترن به ناطق صار المجموع مركبا من الحيوان والناطق ولا يقال إنه حيوان كان مادة وإذا أخذ بشرط أن يكون معه الناطق متخصصا ومتحصلا به كان نوعا وإذا أخذ لا بشرط أن يكون معه شيء من حيث يحتمل أن يكون إنسانا أو فرسا وإن تخصص بالناطق يحصل إنسانا ويقال له أنه حيوان كان جنسا فالحيوان الأول جزء الإنسان متقدم عليه في الوجودين والثاني نفس الإنسان والثالث جنس له محمول عليه فلا يكون جزأ له لأن الجزء لا يحمل على الكل بالمواطاة
____________________
(1/100)
لما مر وإنما يقال للجنس والفصل أنه جزء من النوع لأن كلا منهما يقع جزأ من حده ضرورة أنه لا بد للعقل من ملاحظتهما في تحصيل صورة مطابقة للنوع الداخل تحت الجنس فبهذا الاعتبار يكون متقدما على النوع في العقل بالطبع وأما بحسب الخارج فيكون متأخرا لأنه مالم يوجد الإنسان مثلا في الخارج لم يعقل له شيء يعمه وغيره وشيء يخصه ويحصله ويصيره هو هو بعينه هذا ما ذكره أبو علي في الشفاء ولخصه المحقق في شرح الإشارات وفيه مواضع بحث
( 1 ) أن المفهوم من المأخوذ بشرط أن يكون وحده هو أن لا يقارنه شيء اصلا زائدا كان أو غير زائد وحينئذ يكون القول بكونه جزأ أو منضما إلى ما هو زائد عليه تناقضا إلا أن المراد هو أن لا يدخل فيه غيره على ما صرح به أبو علي في بيانه حيث قال أخذنا الجسم جوهر إذا طول وعرض وعمق من جهة ماله هذا بشرط أنه ليس داخلا فيه معنى غير هذا بل يحيث لو انضم إليه معنى آخر من حس أو اغتذاء كان خارجا عنه
( 2 ) أنه جعل غير المبهم من أقسام المأخوذ بلا شرط شيء وصرح آخرا بأنه مأخوذ بشرط شيء ومبناه على ما مر من كون الأول أعم من الثاني
( 3 ) أن النوع هو مجموع الجنس والفصل فجعل عبارة عن المتحصل بما انضاف إليه والمأخوذ بشرط شيء تسامح مبني على أن الجنس والفصل والنوع واحد بالذات وحقيقة الكلام أن المأخوذ لا بشرط شيء إذا اعتبر بحسب التغاير بينه وبين ما يقارنه من جهة والاتحاد من جهة كان ذاتيا محمولا وإذا اعتبر بحسب محض الاتحاد كان نوعا وهو المراد بالمأخوذ بشرط شيء
( 4 ) أنه كما أن الجنس يحتمل أن يكون أحد الأنواع فكذلك النوع يحتمل أن يكون أحد الأصناف أو الأشخاص فكيف جعل الأول مبهما غير متحصل والثاني متحصلا غير مبهم والجواب أن العبرة عندهم بالماهيات والحقايق فالمراد الإبهام وعدمه بالقياس إليها
( 5 ) أن المادة إذا كانت من الأجزاء الخارجية فمن أين يلزم تقدمها في الوجود العقلي والجواب أن ذلك من جهة أن تصور النوع يتوقف على تصور الجنس والفصل ومعروض الجنسية والجزئية واحد هو الماهية الحيوانية وإنما التغاير بحسب الاعتبار حيث أخذت في الأول بشرط لا وفي الثاني لا بشرط وقد يقال أن هذه المعاني إنما اعتبرت في الصور العقلية من المفهومات الكلية فتكون المادة من المواد العقلية وتقدمها بالوجود العقلي ضروري كتقدم المادة الخارجية بالوجود الخارجي وأما التقدم بالوجود الخارجي فإنما هو بحسب المبدأ فإن المواد العقلية مأخوذة من المبادي الخارجية كالحيوان من البدن والناطق من النفس فكما أن الحيوان المأخوذ مادة عقلية يتقدم الإنسان في الوجود العقلي كذلك مبدأه الذي هوالبدن يتقدمه في الوجود الخارجي حتى لو لم تكن المادة مأخوذة من مبدأ خارجي كاللون للسواد لم يكن له تقدم إلا في العقل واعلم أن الحكيم المحقق مع مبالغته في أن المأخوذ بشرط أن يكون وحده هو الجزء الموجود في الخارج وأن المأخوذ
____________________
(1/101)
لا بشرط شيء هو المحمول وليس بجزء أصلا وإنما يقال له جزء الماهية بالمجاز لما أنه يشبه الجزء من جهة أن اللفظ الدال عليه يقع جزأ من حدها أو رد هذا الكلام في كتاب التجريد على وجه يشهد بأنه ليس من تصانيفه وذلك أنه قال قد تؤخذ الماهية محذوفا عنها ما عداها بحيث لو انضم إليها شيء لكان زائدا عليها ولا يكون هو مقولا على ذلك المجموع الحاصل منها ومن الشيء المنضم إليها والمأخوذ على هذا الوجه هو الماهية بشرط لا شيء ولا يوجد إلا في الأذهان وقد توجد الماهية لا بشرط شيء وهو كلي طبيعي موجود في الخارج هو جزء من الأشخاص وصادق على المجموع الحاصل منه ومما انضاف إليه وهذا حبط ظاهر وخلط لما ذكره في شرح الإشارات بما اشتهر بين المتأخرين وفيه شهادة صادقة بما رمى به التجريد من أنه ليس من تصانيفه مع جلالة قدره عن أن ينسب إلى غيره قال المبحث الثالث الماهية إما بسيطة لا جزء لها أصلا كالواجب والنقطة والوحدة والوجود وإما مركبة لها أجزاء كالجسم والإنسان والسواد ووجود المركبة معلوم بالضرورة ويلزم منه وجود البسيطة أما مطلقا فلأن كل عدد ولو غير متناه فالواحد موجود فيه بالضرورة وأما في المركب العقلي فلأنه لو لم ينته إلى البسيط امتنع تعقل الماهية لامتناع إحاطة العقل بما لا يتناهى وكلاهما ضعيف أما الأول فلأنه مغلطة من باب اشتباه المعروض بالعارض فإن وجود الواحد بمعنى مالا جزء له أصلا إنما يلزم في العدد الذي هوالعارض وأما في معروض العدد فلا يلزم إلا معروض الواحد الذي هو أحد أجزائه فعلى تقدير عدم الانتهاء إلى البسيط تكون الماهية مركبة من مركبات غير متناهية مرارا غير متناهية ويلزمه وجود المركب الواحد بالضرورة وهو لا يثبت المدعي وأما الثاني فلأن معنى المركب العقلي أن لا يكون تمايز أجزائه إلا بحسب العقل وهذا لا يستلزم كونه معقولا بأجزائه فالأولى التمسك في إثبات البسيط أيضا بالضرورة كالوجود ( قال ويدل على التركيب ) يعني إذا اشتركت الماهيتان في ذاتي مع الاختلاف في ذاتي دل ذلك على تركب كل من الماهيتين مما به الاشتراك وما به الاختلاف وكذا إذا اشتركتا في ذاتي مع الاختلاف في عارض هو من لوازم الماهية لأن ذلك الذاتي المشترك لا يكون تمام ماهيتهما وإلا امتنع الاختلاف في لوازمها فيكون جزأ وفيه المطلوب فإن قيل إن أريد بالذاتي جزء الماهية كان هذا لغوا من الكلام بمنزلة أن يقال كل ماله جزء فهو مركب مع الاستغناء عن باقي المقدمات وإن أريد ما ليس بعرضي جاز أن يكون لذاتي المشترك تمام إحدى الماهيتين وجزء الأخرى الممتازة عنها بالذاتي الآخر أو بلوازم الماهية فلا يلزم تركب الماهيتين جميعا كالجوهر مع الجسم المتميز عنه بالذاتي ولوازم الماهية الجسمية قلنا المراد لزوم تركب الماهية الممتازة بالذاتي أو بلوازم الماهية فإن كانت كلتاهما كذلك كما في الإنسان والفرس فكلتاهما وإن كانت إحداهما كما ذكرتم فإحداهما وأما مجرد الاشتراك في ذاتي مع الاختلاف
____________________
(1/102)
في العوارض الثبوتية أو السلبية أو مجرد الاختلاف بالذاتي مع الاشتراك في العوارض فلا يستلزم التركيب لجواز أن يكون الذاتي المشترك تمام ماهيتهما ويستند اختلاف العوارض إلى أسباب غير الماهية كما في أصناف الإنسان وأفراده وأن يكون الذاتيان المختلفان تمام الماهيتين البسيطتين المشتركتين في العوارض كالوحدة والنقطة في العرضية والإمكان ونحو ذلك قال وقد يعتبرالبساطة والتركب بالتفسير السابق وصفان متنافيان لا يصدقان على شيء أصلا ولا يرتفعان لكونهما في قوة النقيضين وقد يؤخذان متضايفين بأن يؤخذ البسيط بسيطا بالقياس إلى ما تركب منه بمعنى كونه جزأ منه والمركب مركبا بالقياس إلى جزئه بمعنى كونه كلا له وهذا المعنى غير معنى كونه ذا جزء في الجملة وهو معنى المركب الحقيقي وإن كان في نفسه من قبيل الإضافة وبين البسيط الحقيقي والبسيط الإضافي عموم من وجه لتصادقهما في بسيط حقيقي هو جزء من مركب كالوحدة للعدد وصدق الحقيقي بدون الإضافي في بسيط حقيقي لا يتركب منه شيء كالواجب وبالعكس في مركب وقع جزء المركب كالجسم للحيوان وبين المركب الحقيقي والإضافي مساواة إن لم يشترط في الإضافي اعتبار الإضافة لأن كل مركب حقيقي فهو مركب بالقياس إلى جزئه وبالعكس وعموم مطلقا إن اشترط ذلك لأن كل مركب بالقياس إلى جزئه فهو مركب حقيقي ولا ينعكس لجواز أن لا تعتبر في الحقيقي الإضافة إلى جزئه فيكون أعم مطلقا من الإضافي وذكر في التجريد أن البسيط الحقيقي أخص مطلقا من الإضافي والمركب الإضافي أخص مطلقا من الحقيقي أما الأول فلأن كل بسيط حقيقي فهو بسيط بالقياس إلى المركب منه ولا ينعكس لجواز أن يكون البسيط الإضافي مركبا حقيقيا كالجسم للحيوان والجدار للبيت وأما الثاني فلأن كل مركب إضافي مركب حقيقي وليس كل مركب حقيقي مركبا إضافيا لجواز أن لا يعتبر فيه الإضافة وفيه نظر لأن البسيط الحقيقي قد لا يكون بسيطا إضافيا بأن لا يعتبر جزأ من شيء أصلا فالقول بأن المركب الحقيقي قد لا يكون إضافيا مع أن له جزأ البتة والبسيط الحقيقي يكون إضافيا البتة مع أنه لا يلزم أن يكون جزأ من شيء فضلا عن اعتبار ذلك باطل قطعا ( قال ولا بد من تقدم الجزء ) يعني أن جزء الشيء يتقدمه وجودا وعدما في الذهن والخارج أما الوجود فبالنسبة إلى كل جزء وأما العدم فبالنسبة إلى شيء ما من الأجزاء بمعنى أن وجود الإنسان مثلا في العقل يفتقر إلى وجود الحيوان والناطق وعدمه إلى عدم أحدهما ووجود البيت في الخارج يفتقر إلى وجود الجدار والسقف وعدمه إلى عدم شيء منهما ويتفرع على الأول الاستغناء عن الواسطة في التصديق بمعنى أن جزم العقل بثبوت الذاتي للماهية لا يتوقف على ملاحظة وسط واكتساب بالبرهان بل يجب إثباته لها ويمتنع سلبه عنها بمجرد تصورها وعلى الثاني الاستغناء عن الوسط في الثبوت بمعنى أن حصول الجزء للمركب
____________________
(1/103)
كالجدار للبيت واللون للسواد لا يفتقر إلى سبب جديد فإن جاعل الجدار هو جاعل البيت وجاعل اللون هو جاعل السواد فظهر أن للجزء خواصا ثلاثا
الأولى التقدم في الذهن والخارج وهي خاصة حقيقية لا تصدق على شيء من العوارض
الثانية الاستغناء عن الواسطة في التصديق بمعنى وجوب الثبوت وامتناع السلب بمجرد إخطار الجزء والماهية بالبال بل بمجرد تصور الماهية وهذه خاصة إضافية لا حقيقية لصدقها على اللوازم البينة بالمعنى الأعم إن اشترط أخطارهما والأخص إن اكتفى بتصور الماهية
والثالثة الاستغناء عن الوسط في الثبوت وهي أيضا إضافية لصدقها على الأعراض الأولوية أعني اللاحقة للشيء لذاته من غير واسطة سواء كان الجزم بثبوتها للموضوع محتاجا إلى وسط كتساوي الزوايا الثلاث للقائمتين بالنسبة إلى المثلث فإنه لازم له لذاته ويفتقر بيانه إلى وسائط أو غير محتاج كالانقسام بالمتساويين للأربعة والبياض لسطح الجسم الأبيض فالاستغناء عن الوسط يجعل القضية أولية والاستغناء عن الواسطة يجعل محمولها أوليا وبينهما عموم من وجه لتصادقهما في انقسام الأربعة وبياض السطح وصدق الأولى بدون الثانية في بياض الجسم وبالعكس في تساوي زوايا المثلث للقائمتين فإن قيل إن أريد بالخاصة الأولى التقدم في الوجودين جميعا على ما هو ظاهر عبارة القوم فباطل لأن الجزء الذهني كالجنس والفصل لا يتقدم في الوجود العيني وإلا امتنع الحمل وإن أريد أن الجزء الذهني متقدم بالوجود الذهني والعيني على ما ذكر فالعلة الفاعلية للشيء متقدمة عليه في الخارج إن كانت علة له في الخارج وفي الذهن إن كانت في الذهن فهذه الخاصة أيضا تكون إضافية لا حقيقية قلنا الظاهر أن مرادهم الأول على ما صرح به الإمام ومبناه على ما تقرر عندهم من وجود الكلي الطبيعي لكونه جزأ من الأشخاص وإذ قد بينا بطلان ذلك فالأول ابتناؤها على ما ذكرنا من أن الجزء أي ما يعرض له الجزئية متقدم بالوجودين أما بالوجود العيني فباعتبار كونه مادة لكونه مأخوذا بشرط لا وأما بالوجود الذهني فباعتبار كونه جنسا أو فصلا لكونه مأخوذا لا بشرط فتكون الخاصة حقيقية غير صادقة على العلة الفاعلية غاية الأمر أنها لا تكون شاملة بناء على أن من الأجزاء مالا تقدم له في الخارج كلونية السواد أو في الذهن كالهيولي والصورة أو الأجزاء التي لا تتجزى إذا جوزنا تعقل حقيقة الجسم بدون ذلك قال والتركيب قد يكون حقيقيا بأن يحصل من اجتماع عدة أشياء حقيقة واحدة بالذات مختصة باللوازم والآثار واحتياج بعض أجزائه إلى البعض ضروري للقطع بأنه لا يحصل من الحجر الموضوع بجنب الإنسان حقيقة واحدة والاحتياج فيما بين الجزئين قد يكون من جانب واحد كالمركب من البسائط العنصرية ومما يقوم بها من الصورة المعدنية أو النباتية أو الحيوانية فإن الصورة تحتاج إلى تلك المواد من غير عكس وكالمركب من الجنس والفصل فإن الجنس محتاج إلى الفصل من جهة
____________________
(1/104)
أنه أمر مبهم لا يتحصل معقولا مطابقا لما في الأعيان من الأنواع الحقيقية إلا إذا اقترن به فصل لأنه الذي يحصل طبيعة الجنس ويقررها ويعينها ويقومها نوعا وهذا معنى علية الفصل للجنس وحاصله أنه الذي به يتخصص الجنس أي يصير حصة ولذا نقل الإمام عن أبي علي أن الفصل علة لحصة النوع من الجنس وإن كان صريح عبارته أنه علة لطبيعة الجنس بمعنى أن الصورة الجنسية ليست متحصلة بنفسها بل مبهمة محتملة لأن تقال على أشياء مختلفة الحقائق وإذا انضافت إليها الصورة الفصلية تحصلت وصارت بعينها أحد تلك الأشياء فالفصل بالحقيقة علة لتحصلها بهذا المعنى وارتفاع إبهامها لا بحصولها في العقل لظهور أن المعنى الجنسي يعقل من غير فصل ولا لحصولها في الخارج لأنه لا تمايز بينهمافي الخارج وإلا امتنع حمل أحدهما على الآخر بالمواطأة ومن البين أن ليس في السواد أمر محقق هو اللون وآخر هو قابضية البصر يجتمعان فيتحصل منهما السواد بل التحقيق أن ليس في الخارج إلا الأشخاص وإنما الجنس والفصل والنوع صور متمايزة عند العقل يحصلها من الشخص بحسب الاستعدادات تعرض للعقل واعتبارات يتعقلها من جزئيات أقل أو أكثر مختلفة في التباين والاشتراك فتدرك من زيد تارة صورة شخصية لا يشاركه فيها غيره وأخرى صورة يشاركه فيها عمرو وبكر وأخرى صورة يشاركه فيها الفرس وغيره وعلى هذا القياس فإن قيل هذا إنما هو في النوع البسيط كالسواد لظهور أن ليس في الخارج لونية وشيء آخر به امتاز السواد عن سائر الألوان ولهذا لا يصح أن يقال جعل لونا فجعل سوادا بل جعلاهما واحد وأما في غيره فالذاتيات المتمايزة في العقل متمايزة في الخارج وليس جعلاهما واحدا كالحيوان فإنه يشارك النبات في كونه جسما ويمتاز عنه بالنفس الحيوانية وجعل الجسم غير جعل النفس حتى إذا زالت عنه النفس بقي ذلك الجسم بعينه موجودا كالفرس الذي يموت وجسميته باقية ولهذا يصح أن يقال جعل جسما فجعل حيوانا قلنا الجسم المأخوذ على وجه كونه مادة غير المأخوذ على وجه كونه جنسا ولا كلام في تميز الأول عن الكل بالوجود الخارجي وإنما الكلام في الثاني لأنه الجزء المحمول المسمى بالذاتي وقد سبق تحقيق ذلك والحاصل أن الذاتيات المتمايزة بحسب العقل فقط قد يكون لها مبادي متمايزة بحسب الخارج كالحيوان من الجسم والنفس الحيوانية والإنسان من البدن والنفس الناطقة وقد لا يكون كالسواد من اللون وقابضية البصر وكالسطح من الكم وقابلية القسمة في الطول والعرض جميعا وهو المسمى بالنوع البسيط ومن ههنا جوز بعض المحققين كون الفصل عدميا فإن المعنى الجنسي من الكم المتصل يتحصل بما له طول وعرض فقط فيكون سطحا وبما له طول فقط فيكون خطا قال وكالهيولي والصورة يعني أن الاحتياج فيما بين الجزئين قد يكون من الجانبين لكن لا باعتبار واحد وإلا يلزم الدور وذلك كالهيولي والصورة للجسم فإن تشخص
____________________
(1/105)
الصورة يكون بالمادة المعينة ومن حيث هي قابلة لتشخصها وتشخص المادة بالصورة المطلقة ومن حيث هي فاعلة لتشخصها وسيجيء بيان ذلك ( قال وقد يكون اعتباريا ) بأن يكون هناك عدة أمور يعتبرها العقل أمرا واحدا وإن لم يكن أمرا واحدا في الحقيقة وربما يضع بإزائه اسما كالعشرة من الآحاد والعسكر من الأفراد ولا يلزم فيه احتياج بعض الأجزاء إلى البعض فإن قيل إن أريد عدم الاحتياج أصلا فباطل لأن احتياج الهيئة الاجتماعية إلى الأجزاء المادية لازم قطعا وإن أريد الاحتياج فيما بين الأجزاء المادية فذلك ليس بلازم في المركب الحقيقي أيضا كالبسايط العنصرية للمركبات المعدنية مثلا قلنا المراد الأول والصورة الاجتماعية في المركبات الاعتبارية محض اعتبار العقل لا تحقق لها في الخارج إذ ليس من العسكر في الخارج إلا تلك الأفراد بخلاف المركبات الحقيقية فإن هناك صورا تفيض على المواد في نفس الأمر وستعرفها وأما في مثل الترياق والسلنجبين فهل يحدث صورة جوهرية هي مبدأ الآثار أو هو مجرد المزاج المخصوص الذي هو من قبيل الأعراض وأن التركيب الحقيقي هل يكون من الجوهر والعرض ففيه تردد قال والأجزاء قد تتداخل أجزاء المركب تنقسم إلى متداخلة ومتباينة أما المتداخلة فهي التي يكون بينها تصادق في الجملة إما على الوجه الكلي من الجانبين بأن يصدق كل من الجزئين على كل ما يصدق عليه الآخر فيكونان متساويين كالمركب من المغتذي والنامي أو من جانب واحد بأن يصدق أحدهما على كل ما يصدق عليه الآخر من غير عكس فيكون بينهما عموم وخصوص مطلقا كالمركب من الحيوان والناطق وإما لا على الوجه الكلي بأن يصدق كل منهما على بعض ما يصدق عليه الآخر فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه كالمركب من الحيوان والأبيض وأما المتباينة فإما متماثلة كما في العشرة من الآحاد وإما متخالفة محسوسة كما في البلقة من السواد والبياض أو معقولة كما في الجسم من الهيولي والصورة أو مختلفة كما في الإنسان من البدن المحسوس والنفس المعقولة وقد تقسم المتخالفة إلى ما تكون للشيء مع ما عرض له من الإضافة إلى الفاعل كالعطاء لفائدة من المعطي أو إلى القابل كالفسطوسة لتقعير في الأنف أو إلى الصورة كالأفطس لأنف فيه تقعير أو إلى الغاية كالخاتم لحلقة يتزين بها الأصبع وإلى ما يكون للشيء مع إضافة له إلى المعلول كالخالق والرازق وإلى مالا يكون فيما بين العلة والمعلول وهو ظاهر وباعتبارآخر الأجزاء إما وجودية كالنفس والبدن للإنسان أو عدمية كسلب ضرورة الوجود والعدم للامكان أو مختلطة من الوجودي والعدمي كالسابقية وعدم المسبوقية للأولية وأيضا إما حقيقية كما في الإنسان من النفس والبدن أو إضافية كما في الأقرب من القرب وزيادته أو ممتزجة بعضها حقيقي وبعضها إضافي كما في السرير من الأجزاء الخشبية والترتيب النسبي ( قال المبحث الرابع ) بعد الاتفاق على أن وجود
____________________
(1/106)
الممكن بالفاعل اختلفوا في ماهيته فذهب المتكلمون إلى أنها بجعل الجاعل مطلقا أي بسيطة كانت أو مركبة وذهب جمهور الفلاسفة والمعتزلة إلى أنها ليست بجعل الجاعل مطلقا بمعنى أن شيئا منها ليس بمجعول وذهب بعضهم إلى أن المركبات المجعولة دون البسائط استدل المتكلمون بوجوه
الأول أن كلا من المركبة والبسيطة ممكن لأن الكلام فيه وكل ممكن محتاج إلى الفاعل لما سيأتي من أن علة الاحتياج هي الإمكان ولما اعترض بأن الإمكان نسبة تقتضي الإثنيئية فتنافي البساطة أشار إلى الجواب بأنه ليس نسبة بين أجزاء الماهية حتى تختص بالمركبة بل بين الماهية ووجودها لكونه عبارة عن عدم ضرورة الوجود والعدم فمع قطع النظر عن الوجود لا يعقل عروض الإمكان للماهية بسيطة كانت أو مركبة ومعنى كونه ذاتيا لها أنها في نفسها بحيث إذا نسبها العقل إلى الوجود يعقل بينهما نسبة هي الإمكان وهذا المعنى كاف في الاحتياج إلى الفاعل وقد يجاب بأنه لو لم تكن البسيطة مجعولة لم تكن المركبة مجعولة لأنه إذا تقرر في الخارج جميع بسائط المركب حتى الجزء الصوري من غير جاعل تقرر المركب ضرورة لا يقال يجوز أن يكون لكل جزء تقرر ويتوقف تقرر المركب على تقرر المجموع كما سبق في مجموع التصورات وتصورالمجموع لأنا نقول الفرق بين مجموع التقررات وتقرر المجموع بحسب الخارج غير معقول وإنما ذلك بحسب العقل بأن يتعلق بالأمور المتعددة تارة تصورات متعددة وتارة تصور واحد من غير ملاحظة التفاصيل
الثاني أن الفاعل لا بد أن يؤثر في الماهية ويجعلها تلك الماهية في الخارج حتى يتحقق الوجود لأن ذات المعلول عند إقنائها الوجود من الفاعل لا يجوز أن يكون حاصلة في الخارج بكمالها بل لا بد أن يبقى شيء منها يحصله الفاعل ولو هيئة اجتماعية وإلا لكان المعلول متحققا سواء تحقق الفاعل أو لا فلا يكون للفاعل تأثير فيه ولا له احتياج إلى الفاعل
الثالث أنه لا تقرر للماهية في الخارج بذاتها لما سبق في بحث العدم فيكون بالفاعل ضرورة ولا معنى لمجعولية الماهية سوى هذا والجواب عن الأول أن معنى احتياج الممكن أن وجوده ليس من ذاته بل من الفاعل وعن الثاني أنه لا يدل إلا على أن ماهية المعلول لا تكون حاصلة متحققة بدون الفاعل والحصول والتحقق هو الوجود وهذا لا ينافي كونها متقررة في نفسها من غير احتياج لها إلى الفاعل ولا تأثير له فيها وعن الثالث أنه إن أريد بالتقرر التحقق والثبوت فهو الوجود وإن أريد كون الماهية في نفسها تلك الماهية في الخارج فلم يسبق ما يدل على أن ذلك بالفاعل فالوجوه الثلاثة على تقدير تمامها لا تفيد إلا كون الوجود بالفاعل
الرابع أنه لا نزاع في أن للعلة جعلا وتأثيرا في الممكن فالمجعول إما الماهية أو الوجود أو اتصاف الماهية بالوجود أو انضمام الأجزاء بعضها إلى بعض في المركب خاصة وكل من الأمور الأربعة
____________________
(1/107)
ماهية من الماهيات فيكون المجعول هو الماهية والجواب أن النزاع في الماهيات التي هي حقائق الأشياء لا فيما صدقت هي عليه من الأفراد فيجوز أن يكون المجعول ذلك المشخص الذي هو من أفراد ماهية الإنسان مثلا أو الوجود الخاص الذي هو من أفراد ماهية الوجود وكذا الاتصاف والانضمام قال قالوا احتج القائلون بعدم مجعولية الماهية بأن كون الإنسان إنسانا لو كان بالفاعل لارتفع بارتفاعه فيلزم أن لا يكون الإنسان إنسانا على تقدير عدم الفاعل وهو محال والجواب أنه إن أريد أنه يلزم أن يكون الإنسان ليس بإنسان بطريق السلب ولا نسلم استحالته فإن عند ارتفاع الفاعل يرتفع الوجود وتبقى الماهية معدومة فيكذب الإيجاب فيصدق السلب وإن أريد بطريق العدول بأن يتقرر الإنسان في نفسه بحسب الخارج ويكون لا إنسانا فلا نسلم لزومه فإن عند ارتفاع الفاعل لا يبقى الإنسان حتى يصلح موضوعا للإيجاب قال فإن قيل يريد التنبيه على ما يصلح محلا للخلاف في هذه المسئلة فإنه معلوم أن ليس للفاعل تأثير وجعل بالنسبة إلى ماهية الممكن وآخر بالنسبة إلى وجوده حتى تكون الماهية مجعولة كالوجود وأن ليس للماهية تقرر في الخارج بدون الفاعل حتى يكون المجعول هو الوجود فقط بل أثر الفاعل مجعولية الماهية بمعنى صيرورتها موجودة وما ذكره الإمام من أن المراد أن الماهية من حيث هي هي ليست بمجعولة كما أنها ليست بموجودة ولا معدومة ولا واحدة ولا كثيرة إلى غير ذلك من العوارض بمعنى أن شيئا منها ليس نفسها ولا داخلا فيها ليس مما يتصور فيه نزاع أو يتعلق بتخصيصه بالذكر فائدة والأقرب ما ذكره صاحب المواقف وهو أن المجعولية قد يراد بها الاحتياج إلى الفاعل وقد يراد بها الاحتياج إلى الغير على ما يعم الجزء وكلاهما بالنسبة إلى الممكن من العوارض والعوارض منها ما يكون من لوازم الماهية كزوجية الأربعة حتى لو تصورنا أربعة ليست بزوج لم تكن أربعة ومنها ما يكون من لوازم الهوية كتناهي الجسم وحدوثه حتى لو تصورنا جسما ليس بمتناه أو حادث كان مجسما ولا خفاء في أن احتياج الممكن إلى الفاعل في المركب والبسيط جميعا من لوازم الهوية دون الماهية وأن الاحتياج إلى الغير من لوازم الماهية المركب دون البسيط إذ لا يعقل مركب لا يحتاج إلى الجزء فمن قال بمجعولية الماهية مطلقا أي بسيطة كانت أو مركبة أراد أن المجعولية تعرض للماهية في الجملة أعني الماهية بشرط شيء وهي الماهية المخلوطة ومرجعها إلى الهوية وإن لم تعرض للماهية من حيث هي ويحتمل أن يراد أنه يعرض للماهية من حيث هي المجعولية في الجملة أي بمعنى الاحتياج إلى الغير وإن لم تكن بمعنى الاحتياج إلى الفاعل ومن قال بعدم مجعولية الماهية أصلا أراد أن الاحتياج إلى الفاعل ليس من عوارض الماهية بل من عوارض الهوية ومن فرق بين المركبة والبسيطة أراد أن الاحتياج إلى الغير من لوازم ماهية المركب دون
____________________
(1/108)
البسيط وإن اشتركا في الاحتياج إلى الفاعل بالنظر إلى الهوية هذا ولكن لم يتحقق نزاع في المعنى قال الفصل الثالث في لواحق الوجود والماهية جعل صاحب التجريد الوجوب والإمكان والامتناع وكذا القدم والحدوث في فصل الوجود وجعل التعين وكذا الوحدة والكثرة في فصل الماهية وجعل العلة والمعلول فصلا على حدة وصاحب المواقف جعل التعيين في فصل الماهية والوجوب ومقابليه فصلا على حدة وكذا الوحدة والكثرة وكذا العلة والمعلول وذكر القدم والحدوث في فصل الوجوب ومقابليه وصاحب الصحايف جعل الوجوب ومقابليه والعلة والمعلول من لواحق الموجود والبواقي من لواحق الوجود فأطلقنا القول بكون الكل من لواحق الوجود والماهية ليصح على جميع التقادير قال المبحث الأول تعين الشيء وتشخصه الذي به يمتاز عن جميع ما عداه غير ماهيته ووجوده وحدوثه لكون كل من هذه الأمور مشتركا بينه وبين غيره بخلاف التعين ولذا يصدق قولنا الكلي ماهية وموجود وواحد ولا يصدق قولنا أنه متعين وإن كان التعين أو المتعين مفهوما كليا صادقا على الكثرة وبين التعين والتميز عموم من وجه لتصادقهما على تشخصات الأفراد إذا اعتبر مشاركتها في الماهية مثلا فإن كلا منها متشخص في نفسه ومتميز عن غيره ويصدق التعين دون التميز حيث لا تعتبر المشاركة وبالعكس حيث تتميز الكليات كالأنواع المعتبرة اشتراكها في الجنس قال المبحث الثاني التعين أمراعتباري لا تحقق له في الأعيان لوجهين الأول أنه لو كان موجودا في الخارج لكان له تعين ضرورة وينقل الكلام إليه ويتسلسل فإن قيل لا نسلم أنه لو كان موجودا لكان له تعين وإنما يلزم ذلك لو كانت التعينات متشاركة في الماهية ليحتاج في التمايز إلى تعين وهو ممنوع بل هي متخالفة بالماهية متمايزة بالذات وإنما يتشارك في لفظ التعين أو في عرضي لها هو مفهوم التعين قلنا ضروري أن لكل موجود ماهية كلية في العقل وإن امتنع تعدد أفرادها بحسب الخارج وهذا في حق الواجب محل نظر فلذا خص الدعوى بالتعين وإن كانت المناقشة باقية فإن قيل لم لا يجوز أن يكون تعين التعين نفسه لا زائدا عليه ليتسلسل قلنا لأن ماهية التعين كلية وإنما التمايز بالخصوصيات العارضة التي لا تقبل الاشتراك وتغاير المعروض والعارض في الأمور الموجودة في الخارج ضروري وإنما يصح الاتحاد وبحسب الواقع في الأمور الاعتبارية كقدم القدم وحدوث الحدوث قال الثاني وقد يستدل أي على كون التعين اعتباريا بأنه لو وجد في الخارج لتوقف عروضه لحصة هذا الشخص من النوع دون الحصة الأخرى منه على وجودها وتميزها فإن كان تميزها بهذا التعين فدور أو بتعين آخر فيتسلسل وهذا هو المراد بقولهم لو وجد لتوقف انضمامه إلى الماهية على تميزها فلا يرد ما قيل أن تميز الماهية بذاتها وبما لها من الفصول لا بهذا التعين
____________________
(1/109)
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المعروض هو الحصة المتميزة بهذا التعين لا يتعين سابق ليلزم المحال كما أن معروض البياض هو الجسم الأبيض به لا بياض آخر وحاصله أن ذلك دور معية فإن الماهية إذا وجدت وجدت متخصصة متميزة بما عرضت له من التعينات كحصص الأنواع من الجنس تتمايز بالفصول ولا يتوقف اختصاص كل فصل بحصة على تميز لها سابق قلنا وجود المعروض متقدم على العارض بالضرورة فكذا تميزه لكونه مقارنا للوجود السابق وهذا بخلاف الفصول وحصص الأنواع من الجنس فإن التمايز هناك عقلي لا غير وفيه نظر لأن تقدم معروض التعين عليه إنما هو بالذات دون الزمان وهو لا يستلزم تقدم ما معه بالزمان لجواز أن يكون الشيء محتاجا إليه ولا يكون مقارنه كذلك فإن قيل المعروض المتقدم هو هذه الحصة فيلزم تقدم الهذية وهو التعين والتميز قلنا نعم بمعنى أنه معروض الهذية فلا يمتنع أن يكون هذيتها بهذا التعين قال احتج المخالف أي القائل بكون التعين وجوديا بوجوه
الأول أنه جزء المتعين لكونه عبارة عن الماهية مع التعين وهو موجود وجزء الموجود موجود بالضرورة وأجيب بأنه إن أريد بالمتعين الموصوف بالتعين فظاهر أن التعين عارض له لا جزء منه وإن أريد المجموع المركب منهما فلا نسلم أنه موجود فإن الوصف إذا كان من الأعراض المحسوسة كما في الجسم الأبيض لم يكن المجموع إلا مركبا اعتباريا فكيف إذا كان مما وجوده نفس المتنازع واعترض صاحب المواقف بأن المراد بالمتعين هو ذلك الشخص المعلوم وجوده بالضرورة كزيد مثلا وليس مفهومه مجرد مفهوم الإنسان وإلا لصدق على عمرو بل الإنسان مع شيء آخر يسميه التعين فيكون جزأ من زيد الموجود فيكون موجودا والجواب أنا سلمنا أن ليس مفهومه مفهوم الإنسان الكلي الصادق على عمرو لكن لم لا يجوز أن يكون هو الإنسان المقيد بالعوارض المخصوصة المشخصة الذي لا تصدق على غيره دون المجموع ولو سلم فجزء المفهوم لا يلزم أن يكون موجودا في الخارج ولو سلم فذلك الشيء هو ما يخصه من الكم والكيف والابن ونحو ذلك مما يعلم وجوده بالضرورة من غير نزاع لكون أكثرها من المحسوسات وهم لا يسمونها التعين بل ما به التعين
الثاني أن الطبيعة النوعية كالإنسان مثلا لا تتكثر بنفسها لما سبق من أن الماهية من حيث هي لا تقتضي الوحدة والكثرة وإنما تتكثر بما ينضاف إليهما من العوارض الموجودة المخصوصة التي ربما تكون محسوسة وهو المراد بالتشخص
الثالث أن التعين لو كان
____________________
(1/110)
عدميا لما كان متعينا في نفسه إذ لا هوية للمعدوم فلم يكن معينا لغيره ضرورة أن مالا ثبوت له لا يصلح سببا لتميز الشيء عما عداه بحسب الخارج والجواب عنهما أن ما ينضاف إلى الطبيعة ويعينها ويكثرها هي العوارض المشخصة ولا نزاع في وجودها على ما سبق
الرابع أن التعين لو كان عدميا وليس عدما مطلقا لكان عدما للاتعين مطلقا أو لتعين إذ لا مخرج عن النقيضين وذلك التعين إما عدمي أو ثبوتي وعلى التقادير يلزم كونه وجوديا أما على الأولين فلأن نقيض العدمي وجودي وأما على الثالث فلأن حكم الأمثال واحد والجواب أنا لانم أن العدمي يلزم أن يكون عدما لأمر ما بل يكون معدوما في الخارج على ما ادعينا من أنه اعتباري ولو سلم فلا نسلم أن نقيض العدمي وجودي كالعمى واللاعمى ولو سلم فإن أريد بالتعين واللا تعين مفهوما هما فلا حصر لجواز أن يكون التعين عدما لمفهوم آخر وإن أريد ما صدق عليه فلانم أن كل ما يصدق عليه اللاتعين فهو عدمي ليكون نقيضه ثبوتيا كيف واللاتعين صادق على جميع الحقائق ولو سلم فلانم تماثل التعينات لم لا يجوز أن تكون متخالفة متشاركة في عارض هو مفهوم التعين
الخامس أن التعين لو كان عدميا لكان عدما لما ينافيه ضرورة كالإطلاق والكلية والعموم وما يجري مجرى ذلك فإن كان عدما للإطلاق أو لما يساويه كالكلية والعموم وبالجملة مالا ينفك عدمه عن عدم الإطلاق كان التعين مشتركا بين الأفراد كعدم الإطلاق لأن التقدير أنه عدم لأمر لا ينفك عدمه عن عدم الإطلاق وعدم الإطلاق متحقق في جميع الأفراد فكذا التعين فلا يكون متميزا فلا يكون تعينا وإن لم يكن التعين عدما للإطلاق ولا عدما لما لا ينفك عدمه عن عدم الإطلاق لزم جواز الانفكاك بين عدم الإطلاق وبين ذلك العدم الذي هو التعين وذلك إما بأن يتحقق عدم الإطلاق بدون التعين فيلزم كون الشيء لا مطلقا ولا متعينا وفيه رفع للنقيضين وإما بأن يتحقق التعين بدون عدم الإطلاق فيلزم كون الشيء مطلقا ومتعينا وفيه جمع للنقيضين والجواب أنه إن أريد بالتعين الذي يجعله عدم الإطلاق مطلق التعين فلانم امتناع اشتراكه بين الأفراد كعدم الإطلاق وإنما يمتنع لو لم يكن تمايز الأفراد بالتعينات الخاصة المعروضة لمطلق التعين وإن أريد التعين الخاص فنختار أنه ليس عدما للإطلاق ولا لما لا ينفك عدمه عن عدم الإطلاق بل لأمر يوجد عدم الإطلاق بدون عدمه الذي هو ذلك التعين وهو لا يستلزم إلا كون الشيء لا مطلقا ولا معينا بذلك التعين ولا استحالة في ذلك لجواز أن يكون معينا بتعين آخر قال خاتمة تصور الشيء بوجه ما وإن كان كافيا في الحكم عليه في الجملة لكن خصوصيات الأحكام ربما تستدعي تصورات مخصوصة لا بد منها في صحة الحكم فلا بد في تحقيق أن التعين وجودي أو عدمي اعتباري أو غير اعتباري من بيان ما هو المراد من هذه الألفاظ
____________________
(1/111)
فنقول الحقيقة النوعية المتحصلة بنفسها أو بما لها من الذاتيات قد يلحقها كثرة بحسب ما يعرض لها من الكميات والكيفيات والأوضاع والإضافات واختلاف المواد وغير ذلك وربما تنتهي العوارض إلى ما يفيد الهذية وامتناع الشركة كهذا الإنسان وذاك وتسمى العوارض المشخصة فلا بد في تحصيل موضوع القضية المطلوبة من بيان أن المراد بالتشخص هو تلك العوارض أو ما يحصل عندها من الهذية أو عدم قبول الشركة أو كون الحصة من النوع بهذه الحيثية أو نحو ذلك ثم لا بد لتحصيل معنى المحمول من بيان المراد بالوجودي والعدمي والاعتباري فقيل العدمي المعدوم وقيل ما يكون عدما مطلقا أو مضافا متركبا مع وجودي كعدم البصر عما من شأنه أو غير متركب كعدم قبول الشركة وقيل ما يدخل في مفهومه العدم ككون الشيء بحيث لا يقبل الشركة والوجودي بخلافه فهو الموجود أو الوجود مطلقا أو مضافا أو ما لا يدخل في مفهومه العدم والعبرة بالمعنى دون اللفظ حتى أن العمى عدمي واللاعدم وجودي وفي المواقف أن الوجودي ما يكون ثبوته لموصوفه بوجوده له أي بحسب الخارج نحو السواد لا أن يكون ذلك باعتبار وجودهما في العقل واتصاف موصوفه به فيه أي في العقل دون الخارج كالإمكان وهو أعم من الموجود لجواز وجودي لا يعرض له الوجود أبدا لكنه بحيث إذا ثبت للموصوف كان ذلك بوجوده له وهذا ما قال القاضي الأرموي إذا قلنا لشيء أنه وجودي لا نعني أنه دائم الوجود بل نعني أنه مفهوم يصح أن يعرض له الوجود الخارجي عند قيامه بموجود وعند قيامه بمعدوم لا يكون له وجود وكأنه يريد الأعم من وجه وإلا فمن الموجود مالا يسمى وجوديا كالإنسان وغيره من المفهومات المستقلة وأما الاعتباري فهو ما لا تحقق له إلا بحسب فرض العقل وإن كان موصوفه متصفا به في نفس الأمر كالإمكان فإن الإنسان متصف به في نفس الأمر بمعنى أنه بحيث إذا نسبه العقل إلى الوجود يعقل له وصفا هو الإمكان ويقابله الحقيقي إذا تقرر هذا فلا خفاء في أن العوارض المشخصة وجودية والهذية اعتبارية وتميز الفرد عما عداه وعدم قبوله الشركة وكونه ليس غيره أو لا يقبل الشركة عدمية قال المبحث الثالث لا بد في التعين من كون المفهوم بحيث لا يمكن للعقل فرض صدقه على كثيرين وهذا معنى امتناع الشركة ذهنا ومعلوم أنه لا يحصل بانضمام الكلي إلى الكلي لأن كلا من المنضم والمنضم إليه والانضمام لكونه كليا يمكن للعقل فرض صدقه على كثيرين بل على مالا يتناهى من الأفراد وإن كان بحسب الخارج ربما لا يوجد منه الأفراد بل يمتنع تعدده كمفهوم الواجب فإن قيل حكم الكلي قد يخالف حكم كل واحد فيجوز أن يكون كل من المنضم والمنضم إليه كليا والمجموع جزئيا قلنا لا معنى للانضمام ههنا سوى أن العقل يعتبر مفهوما كليا كالإنسان ثم يعتبر له وصفا كليا كالفاضل ومعلوم بالضرورة أن الكلي الموصوف بالأوصاف الكلية
____________________
(1/112)
لا ينتهي إلى حد الهذية حتى لو كان ذلك الوصف هو مفهوم الجزئية والتشخص وامتناع قبول الشركة كانت الكلية بحالها وقد يجاب بأن المراد أن انضمام الكلي إلى الكلي وتقيده به لا يستلزم الجزئية والتشخص وإن كان قد يفيدها فيكون حاصل الكلام أن المركبات العقلية مثل الجوهر المتحيز والجسم النامي والحيوان الناطق والإنسان الفاضل لا يلزم أن يكون جزئية بل قد يكون كلية وهذا من الوضوح بحيث لا ينبغي أن يخبر به فضلا عن أن يجعل من المطالب العلمية فإن قيل فعلى ما ذكرتم يلزم أن يكون ما ينضم إلى الكلي وتفيده الجزئية جزئيا وله لا محالة مفهوم كلي يفتقر إلى ما ينضم إليه ويجعله جزئيا ويتسلسل قلنا ليس هناك موجود هو الكلي وآخر ينضم إليه ويجعله جزئيا بل الموجود الأشخاص والعقل ينتزع منها الصور الكلية بحسب الاستعدادات والاعتبارات المختلفة والمقصود أن المعنى الذي بسببه امتنع للعقل فرض صدق المفهوم على الكثيرين لا يصلح أن يكون انضمام الكلي إلى الكلي بل التشخص يستند عندنا إلى القادر المختار كسائر الممكنات بمعنى أنه الموجد لكل فرد على ما شاء من التشخص وعند بعضهم إلى تحقق الماهية في الخارج للقطع بأنها إذا تحققت لم يكن إلا فردا مخصوصا لا تعدد فيه ولا اشتراك وإنما قبول التعدد والاشتراك في المفهوم الحاصل في العقل فإن قيل فيلزم أن لا يتعدد التعين لأن الوجود أمر واحد قلنا هو وإن كان واحدا بحسب المفهوم لكن تتعدد أفراده بحسب الأزمنة والأمكنة والمواد وسائر الأسباب فتتعدد التعينات وأعترض بأن الدور أن لا يفيد العلية فيجوز أن يكون الوجود ما معه التعين لا ما به التعين فإن قيل نحن نقطع بالتعين عند الوجود الخارجي مع قطع النظر عن جميع ما عداه قلنا قطع النظر عن الشيء لا يوجب انتفائه فعند الوجود لا بد من ماهية وأسباب فاعلية أو مادية وبالجملة أمر يستند إليه الوجود فيجوز أن يستند التشخص أيضا إليه ولو سلم فالوجود لا يقتضي إلا تعينا ما والكلام في التعينات المخصوصة فلا يثبت المط مالم يتبين أن وجود كل فرد يقتضي تعينه الخاص وذهبت الفلاسفة إلى أن التعين قد يستند إلى الماهية بنفسها أو بلوازمها كما في الواجب فينحصر في شخص والألزم تخلف المعلول عن علته لتحقق الماهية في كل فرد مع عدم تشخص الآخر وقد يستند إلى غيرها ولا يجوز أن يكون أمرا منفصلا عن الشخص لأن نسبته إلى كل الأفراد والتعينات على السواء ولا حالا فيه لأن الحال في الشخص لافتقاره إليه يكون متأخرا عنه ولكونه علة لتشخصه المتقدم عليه ضرورة أنه لا يصير هذا الشخص إلا بهذا التشخص يكون متقدما عليه وهو محال فتعين أن يكون محلا له وما ذكرنا من نسبة الحال والمحل إلى الشخص دون الماهية أو التشخص أقرب وأوفق بكلامهم والمراد بمحل الشخص معروضه في الأعراض ومادته في الأجسام ومتعلقه في النفوس على ما ذكروا من حدوث النفس بعد البدن وتعينها به فالعقول المجردة تستند تعيناتها
____________________
(1/113)
إلى ماهياتها فينحصر كل في شخص لا إلى مجرد الإضافة كعقل الفلك الأول مثلا على ما قيل لأن هذه الإضافة متأخرة عن وجود الفلك المتأخر عن وجود العقل وتعينه والاستناد إلى المادة أعم من أن يكون بنفسها أو بواسطة ما فيها من الأعراض فلا يرد ما قيل أن غير المنفصل لا ينحصر فيما يكون حالا في الشخص أو محلا له لجواز أن يكون حالا في محله ولما اعترض بأن المادة التي يستند إليها الشخص تكون متشخصة لا محالة فتشخصها إما لماهيتها فلا تتعدد أفرادها أو للتشخص المعلول فيدور أو لمادة أخرى فيتسلسل أجيب بأنه لما فيها من الكميات والكيفيات والأوضاع وغير ذلك من الأعراض التي تتعاقب عليها بتعاقب الاستعدادات حتى لو ذهبت إلى غير النهاية لم يمتنع على ما هو رأيهم فيما لا يجتمع في الوجود كالحركات والأوضاع الفلكية وإذا استند التشخص إلى المادة تكثرت أفراد الماهية بتكثر المواد والمادة قابلة للتكثر بذاتها فلا تفتقر إلى قابل آخر وإنما تفتقر إلى فاعل يكثرها واعترض على ما ذكروا بعد تسليم مقدماته بأن تعين الأعراض الحالة التي في المادة إنما هو بتعين المادة على ما سيجيء فلو تعينت المادة بها كان دورا وأجيب بأن تعين المادة إنما هو بنفس الأعراض الحالة في المادة المعينة بتعين مالا بتعيناتها الحاصلة بتعين المادة وحاصله أن تعيناتها بتعينها وتعينها مع تعيناتها فلا يلزم الدور ولا حصول التشخص من انضمام الكلي إلى الكلي إلا أنه يرد عليه أنه إذا جاز ذلك فلم لا يجوز تكثر الماهية وتعين أفرادها بما لها من الصفات المتكثرة العارضة لها من غير لزوم مادة قال المنهج الثاني في الوجوب والامتناع والإمكان جعل الامتناع من لواحق الوجود والماهية نظرا إلى أن ضرورة سلب الوجود عن الماهية حال لهما أو إلى أنه من أوصاف الماهية المعقولة أو لكونه في مقابلة الإمكان أو لأن المراد بلواحقهما ما جرت العادة بالبحث عنه بعد البحث عنهما المبحث الأول قد تقرر في موضعه أن هل إما بسيطة يطلب بها وجود الشيء في نفسه أو مركبة يطلب بها وجود شيء لشيء فإذا نسب المفهوم إلى وجوده في نفسه أو وجوده لأمر حصل في العقل معان هي الوجوب والامتناع والإمكان لأن حمل الوجود على الشيء أو ربط الشيء بالشيء بواسطته قد يجب كما في قولنا الباري تعالى موجود والأربعة يوجد لها لزوجية وقد يمتنع كما في قولنا اجتماع النقيضين موجود والأربعة يوجد لها الفردية وقد يمكن كما في قولنا الإنسان موجود أو يوجد له الكتابة ولا خفاء في حصولها عند حمل العدم أو الربط بواسطته لكنه مندرج فيما ذكرنا من حمل الوجود أو الربط بواسطته لكونه أعم من الإيجابي والسلبي وتصورات هذه المعاني ضرورية حاصلة لمن لم يمارس طرق الاكتساب إلا أنها قد تعرف تعريفات لفظية كالوجود والعدم فيقال الوجوب ضرورة الوجود أو اقتضاؤه أو استحالة العدم والامتناع ضرورة العدم أو اقتضاؤه أو استحالة
____________________
(1/114)
الوجود والإمكان جواز الوجود والعدم أو عدم ضرورتهما أو عدم اقتضاء شيء منهما ولهذا لا يتحاشى عن أن يقال الواجب ما يمتنع عدمه أو ما لا يمكن عدمه والممتنع ما يجب عدمه أو مالا يمكن وجوده والممكن مالا يجب وجوده ولا عدمه أو ما لا يمتنع وجوده ولا عدمه ولو كان القصد إلى إفادة تصور هذه المعاني لكان دورا ظهر أو ظهر هذه المفهومات الوجود لكونه تأكد الوجود الذي هو أعرف من العدم لما أنه يعرف بذاته والعدم يعرف بوجه ما بالوجود والنزاع في أن مفهوم الوجوب والإمكان وجودي أو عدمي مبني على اختلاف مفهومات الخواص التي باعتبارها يطلقان على الواجب والممكن وأما في الواجب فكاقتضاء الوجود بحسب الذات والاستغناء عن الغير وعدم التوقف عليه وما به يمتاز الواجب عن الممكن والممتنع وأما في الممكن فكالاحتياج إلى الغير والتوقف عليه وعدم الاستغناء عنه وعدم اقتضاء الوجود أو العدم أو ما به يمتاز الممكن عن الواجب والممتنع قال المبحث الثاني كل من الوجوب والامتناع قد يكون بالذات وقد يكون بالغير لأن ضرورة وجود الشيء أو لا وجوده في نفسه أو ضرورة وجود شيء لشيء آخر أو لا وجوده له إن كانت بالنظر إلى ذاته كوجود الباري وعدم اجتماع النقيضين ووجود الزوجية للأربعة وعدم الفردية لها فذاتي وإلا فغيري وهو وإن لم ينفك عن علة لكن قد ينظر إلى خصوص العلة كوجوب الحركة للحجر المرمي وامتناع السكون له وقد ينظر إلى وصف لذات الموضوع كوجوب حركة الأصابع للكاتب وامتناع سكونها له وقد ينظرإلى وقت له كوجوب الانخساف للقمر في وقت المقابلة المخصوصة وامتناعه في وقت التربيع وقد ينظر إلى ثبوت المحمول له كوجود الحركة للجسم المأخوذ بشرط كونه متحركا وامتناع السكون له حينئذ قال والموصوف بالذاتي يعني إذا أخذ الوجود محمولا فالموصوف بالوجوب الذاتي يكون واجب الوجود لذاته كالباري تعالى وبالامتناع الذاتي يكون ممتنع الوجود لذاته كاجتماع النقيضين وإذا أخذ رابطة بين الموضوع والمحمول فالموصوف بالوجوب الذاتي يكون واجب الوجود لموضوعه نظرا إلى ذات الموضوع كالزوجية للأربعة وبالامتناع الذاتي يكون ممتنع الوجود له نظرا إليه كالفردية للأربعة فلازم الماهية كالزوجية مثلا واجب الوجود لذاتها أي واجب الثبوت للماهية نظرا إلى نفسها لا واجب الوجود لذاته بمعنى اقتضائه الوجود بالذات ليلزم الحال وبهذا يسقط ما ذكر في المواقف من أن الوجوب والإمكان والامتناع المبحوث عنها ههنا غير الوجوب والإمكان والامتناع التي هي جهات القضايا وموادها وإلا لكانت لوازم الماهيات واجبة لذاتها وذلك لأنه إن أراد كونها واجبة لذات اللوازم فالملازمة ممنوعة أو لذات الماهيات فبطلان التالي ممنوع فإن معناه أنها واجبة الثبوت للماهية نظرا إلى ذاتها من غير احتياج إلى أمر آخر وكأنه يجعل بعض القضايا خلوا
____________________
(1/115)
عن كون الوجود فيه محمولا أو رابطة كقولنا الإنسان كاتب ويمتنع أن يكون معناه أنه يوجد كاتبا أو توجد له الكتابة بل معناه أن ما صدق عليه هذا يصدق عليه ذاك أو يحمل والمحققون على أنه لا فرق بين قولنا يوجد له ذاك ويثبت ويصدق عليه ويحمل ونحو ذلك إلا بحسب العبارة وما ذكرنا هو الموافق لكلام المحقق في التجريد قال والإمكان ذاتي لا غير إذ لو كان غيريا لكان الشيء في نفسه واجبا أو ممتنعا أي ضروري الوجود أو العدم بالذات ثم يصير لا ضروري الوجود والعدم بالغير فيرتفع ما بالذات وهو محال بالضرورة وهذا معنى الانقلاب قال وقد يؤخذ بمعنى سلب ضرورة الوجود الإمكان بمعنى سلب ضرورة الوجود والعدم هو الإمكان الخاص المقابل للوجوب والامتناع بالذات وقد يؤخذ بمعنى سلب ضرورة الوجود فيقابل الوجوب ويعم الإمكان الخاص والامتناع فيصدق على الممتنع أنه ممكن العدم وقد يؤخذ بمعنى سلب ضرورة العدم فيقابل الامتناع ويعم الإمكان الخاص والوجوب فيصدق على الواجب أنه ممكن الوجود وهذا هو الموافق للغة والعرف ولهذا سمي بالإمكان العامي فإن العامة تفهم منه نفي الامتناع فمن إمكان الوجود نفي امتناع الوجود ومن إمكان العدم نفي امتناع العدم وقد سبق إلى كثير من الأوهام أن للإمكان العام مفهوما واحدا يعم الإمكان الخاص والوجوب والامتناع هو سلب ضرورة أحد الطرفين أعني الوجود والعدم وهو بعيد جدا إذ لا يفهم هذا المعنى من إمكان الشيء على الإطلاق بل إنما يفهم من إمكان وجوده نفي الامتناع ومن إمكان عدمه نفي الوجوب ولهذا يقع الممكن العام مقابلا للممتنع شاملا للواجب كما في تقسيم الكلي إلى الممتنع وإلى الممكن الذي أحد أقسامه أن يوجد منه فرد واحد مع امتناع غيره كالواجب وبهذا ينحل ما يقال على قاعدة كون نقيض الأعم أخص من نقيض الأخص من أنه لو صح هذا لصدق قولنا كل ما ليس بممكن عام ليس بممكن خاص لكنه باطل لأن كل ما ليس بممكن عام ليس بممكن خاص لكنه باطل لأن كل ما ليس بممكن خاص فهو إما واجب أو ممتنع وكل منهما ممكن عام فيلزم أن كل ما ليس بممكن عام فهو ممكن عام قال وقد يعتبر بالنظر إلى الاستقبال بمعنى جواز وجود الشيء في المستقبل من غير نظر إلى الماضي والحال وذلك لأن الإمكان في مقابلة الضرورة وكلما كان الشيء أخلى عن الضرورة كان أحق باسم الممكن وذلك في المستقبل إذ لا يعلم فيه حال الشيء من الوجود والعدم بخلاف الماضي والحال فإنه قد تحقق فيهما وجود الشيء أو عدمه ومنهم من اشترط في الممكن الاستقبال العدم في الحال لأن الوجود ضرورة فيجب الخلو عنه ورد بأن العدم أيضا ضرورة فيجب الخلو عنه أيضا وتحقيقه أنه ممكن في جانبي الوجود والعدم وكما أن الوجود يخرجه إلى جانب الوجود ويشترط الخلو عنه كذلك العدم يخرجه إلى جانب الامتناع فيلزم اشتراط الخلو عنه أيضا فيلزم ارتفاع النقيضين بل اجتماعهما
____________________
(1/116)
والظاهر أن من اشترط ذلك أراد بالإمكان الاستقبالي إمكان حدوث الوجود وطريانه في المستقبل وهو إنما يستلزم إمكان عدم الحدوث لا إمكان حدوث العدم ليلزم اشتراط الوجود في الحال بل لو اعتبر الإمكان الاستقبالي في جانب العدم بمعنى إمكان طريان العدم وحدوثه يشترط الوجود في الحال من غير لزوم محال قال وقد يعتبر إشارة إلى الإمكان الاستعدادي وهو تهيؤ المادة لما يحصل لها من الصور والأعراض بتحقق بعض الأسباب والشرائط بحيث لا ينتهي إلى حد الوجوب الحاصل عند تمام العلة ويتفاوت شدة وضعفا بحسب القرب من الحصول والبعد عنه بناء على حصول الكثير مما لا بد منه أو القليل كاستعداد الإنسانية الحاصل للنطفة ثم للعلقة ثم للمضغة وكاستعداد الكتابة الحاصل للجنين ثم للطفل وهكذا إلى أن يتعلم وهذا الإمكان ليس لازما للماهية كالإمكان الذاتي بل يوجد بعد العدم بحدوث بعض الأسباب والشرائط ويعدم بعد الوجود لحصول الشيء بالفعل قال وعروض الإمكان يعني أن الماهية إذا أخذت مع وجودها أو وجود علتها كانت واجبة بالغير وإذا أخذت مع عدمها أو عدم علتها كانت ممتنعة بالغير وإنما يعرض لها الإمكان الصرف إذا أخذت لا مع وجودها أو عدمها أو وجود علتها أو عدمها بل اعتبرت من حيث هي هي واعتبرت نسبتها إلى الوجود فحينئذ يحصل من هذه المقايسة معقول هو الإمكان فالإمكان ينفك عن الوجوب بالغير والامتناع بالغير بحسب التعقل بأن لا يلاحظ للماهية ولا لعلتها وجود أو عدم لا بحسب التحقق في نفس الأمر لأن كل ممكن فهو إما موجود فيكون واجبا بالغير أو معدوم فيكون ممتنعا بالغير اللهم إلا على رأي من يثبت الواسطة قال والغيريان يعني أن الوجوب بالغير والامتناع بالغير يتشاركان في اسم الضرورة إلا أن الأول ضرورة الوجود والثاني ضرورة العدم وهذا معنى تقابل المضاف إليه وإذا أخذ الوجوب والامتناع متقابلي المضاف إليه بأن يضاف أحدهما إلى الوجود والآخر إلى العدم صدق كل منهما على ما صدق عليه الآخر بطريق الاشتقاق بمعنى أن كل ما يجب وجوده بالغير يمتنع عدمه بالغير وبالعكس وكل ما يجب عدمه بالغير يمتنع وجوده بالغير وبالعكس وإذا أضيف كل منهما إلى الوجود أو إلى العدم امتنع صدق أحدهما على الآخر إذ لا شيء مما يجب وجوده يمتنع وجوده ولا شيء مما يجب عدمه يمتنع عدمه وهو ظاهر فبينهما لمنع الجمع دون الخلو إذ لا يصدق شيء منهما على الواجب بالذات أو الممتنع بالذات لكن جزء هذه المنفصلة المانعة الجمع أعني قولنا إما أن يكون الشيء واجبا بالغير أو ممتنعا بالغير مما يجوز انقلاب أحدهما إلى الآخر بأن ينعدم الموجود الواجب بالغير لانتفاء علته فيصير ممتنعا بالغير ويوجد الممتنع المعدوم بالغير لحصول علته فيصير واجبا بالغير بخلاف الوجوب الذاتي والامتناع الذاتي فإن بينهما أيضا منع الجمع ضرورة امتناع كون الشيء واجبا
____________________
(1/117)
وممتنعا بالذات دون الخلو لارتفاعهما عن الممكن لكن يمتنع انقلاب أحدهما إلى الآخر لأن ما بالذات لا يزول وكذا بين الوجوب بالذات والوجوب بالغير وبين الامتناع بالذات والامتناع بالغير منع الجمع دون الخلو مع امتناع الانقلاب أما منع الجمع فلأن الواجب بالغير أو الممتنع بالغير لا يكون إلا ممكنا وهو ينافي الواجب بالذات أو الممتنع بالذات ولأنهما لو اجتمعا لزم توارد العلتين المستقلتين أعني الذات والغير على معلول واحد هو الوجود أو العدم وأما عدم منع الخلو فلارتفاع الوجوب بالذات والوجوب بالغير عن الممتنع بالذات أو بالغير وارتفاع الامتناع بالذات والامتناع بالغير عن الواجب بالذات أو بالغير وأما امتناع الانقلاب فظاهر وقد يستدل على امتناع كون الواجب بالذات واجبا بالغير بأنه لو كان كذلك لارتفع بارتفاع الغير فلم يكن واجبا بالذات وفيه نظر لأنا لا نسلم أنه لو كان واجبا بالغير لارتفع بارتفاعه وإنما يلزم لو لم يكن واجبا بالذات وهو ظاهر وبين الإمكان والوجوب الذاتي والامتناع الذاتي انفصال حقيقي بمعنى أن كل مفهوم فهو إما واجب أو ممتنع أو ممكن لأنه إما أن يكون ضروري الوجود أو لا والثاني إما أن يكون ضروري العدم أو لا فالثلاثة لا تجتمع ولا ترتفع وهذان في التحقيق منفصلتان كل منهما مركبة من الشيء ونقيضه وكذا كل منفصلة تكون من أكثر من جزئين فهي متعددة على ما تقرر في موضعه والاعتراض بضروري الوجود والعدم ليس بشيء لأنه مفهوم إذا لاحظه العقل لم يكن إلا ضروري العدم وهذا كما يقال على قولنا كل مفهوم إما ثابت أو منفي يفرض مفهوما هو ثابت ومنفي فيجتمعان أو ليس بثابت ولا منفي فيرتفعان فنقول هذا المفهوم منفي لا غير وفيما بين الواجب والممتنع والممكن الانقلاب محال لأن ما بالذات لا يزول فإن قيل لم لا يجوز أن يخلتف مقتضى الذات بحسب الأوقات قلنا لأنه حينئذ لا يكون مقتضى الذات بل مع دخل للأوقات فإن قيل الحادث ممتنع في الأزل لأن الأزلية تنافي الحدوث ثم ينقلب ممكنا فيما لا يزال وكون الحادث مقدورا ممكن قبل وجوده ثم ينقلب بعد وجوده ممتنعا ضرورة امتناع القدرة على تحصيل الحاصل أجيب عن الأول بأن قولكم في الأزل إن كان قيدا للحادث فلا نسلم أنه يصير ممكنا فيما لا يزال بل الحادث في الأزل ممتنع أزلا وأبدا وإن كان قيدا للممتنع فلا نسلم أن الحادث ممتنع في الأزل بل هو ممكن أزلا وأبدا فأزلية الإمكان ثابتة للحادث وإمكان الأزلية منتف عنه دائما ولا انقلاب أصلا وعن الثاني بأنا لا نسلم أن مقدورية الشيء بعد وجوده تصير ممتنعة بالذات بل إنما تمتنع بالغير لمانع هو الحصول حتى لو ارتفع لبقي مقدورا كما كان قال المبحث الثالث إذا جعل الوجود رابطة بين الموضوع والمحمول فالكيفية الحاصلة لتلك النسبة من الوجوب والامتناع والإمكان كما في قولنا الإنسان حيوان أو حجر أو كاتب من حيث أنها الثابتة في نفس الأمر تسمى مادة القضية ومن حيث أنها تتعقل أو تتلفظ تسمى جهة
____________________
(1/118)
القضية سواء طابقت المادة بأن تكون نفسها كقولنا الإنسان حيوان بالوجوب وحينئذ تصدق القضية أو لم تطابقها بأن تكون أعم منها أو أخص أو مباينا وح قد تصدق القضية كقولنا الإنسان حيوان بالإمكان العام وقد تكذب كقولنا الإنسان حيوان بالإمكان الخاص وإنما لم يقتصروا على المواد بل تجاوزوا إلى الجهات بما لها من التفاصيل لأن الغرض من معرفة القضايا تركيب الأقيسة لاستخراج النتائج وهي لا تحصل من المقدمات بحسب موادها الثابتة في نفس الأمر بل بحسب جهاتها المعتبرة عند العقل ثم كلامهم متردد في أن المعتبر في المادة هو الربط الإيجابي حتى تكون مادة نسبة الحيوان إلى الإنسان هو الوجوب سواء قلنا الإنسان حيوان أو ليس بحيوان أو أعم من الإيجابي والسلبي حتى تكون المادة في قولنا الإنسان حيوان هو الوجوب وفي قولنا الإنسان ليس بحيوان هو الامتناع والأظهر الأول ثم المحققون على أن في كل قضية الوجود واللاوجود رابطة والوجوب والامتناع والإمكان جهة سواء صرح بها أو لم يصرح وسواء كان المحمول أحد هذه الأمور أو غيرها حتى أن قولنا الباري تعالى واجب وموجود في معنى يوجد واجبا ويوجد موجودا وقولنا اجتماع النقيضين ممتنع ومعدوم في معنى يوجد ممتنعا ومعدوما أو لا يوجد ممكنا وموجودا وقولنا الإنسان ممكن وموجود في معنى يوجد ممكنا وموجودا فإذا كان المحمول أحد هذه الأمور تتعدد الاعتبارات أي يعتبر وجود هو المحمول وآخر هو الرابطة ووجوب أو امتناع أو إمكان هو المحمول وآخر هو الجهة وتكون نسبة كل من الوجوب والامتناع والإمكان إلى موضوعاتها بالوجوب إذا أخذت ذاتية وإذا أخذ الوجوب والامتناع غير بين فبالإمكان وممكن الوجود لغيره يجب أن يكون ممكن الوجود في نفسه وممكن الوجود في نفسه قد يجب وجوده للغير كلوازم الماهية وقد يمتنع كالذوات المستقلة وقد يمكن كسواد الجسم وهذا معنى قولنا كل ممكن الوجود لغيره ممكن الوجود في نفسه من غير عكس قال المبحث الرابع لا خفاء في أن امتناع اعتبار عقلي وكذاالوجوب والإمكان عند المحققين لأن الوجوب مثلا لو كان موجودا لكان واجبا ضرورة أنه لو كان ممكنا لكان جائز الزوال نظرا إلى ذاته فلم يبق الواجب واجبا وهو محال لما سبق من امتناع الانقلاب والواجب ما له الوجوب فينقل الكلام إلى وجوبه ويلزم التسلسل في الأمور المرتبة الموجودة معا وهو محال وكذا الإمكان ولما كان هذا الدليل بعينه جاريا في الوجود والبقاء والقدم والحدوث والوحدة والكثرة والتعين والموصوفية واللزوم ونحو ذلك جعله صاحب التلويحات قانونا في ذلك فقال كل ما يكون نوعه متسلسلا ومترادفا أي كل ما يتكرر نوعه بحيث يكون أي فرد يفرض منه موصوفا بذلك النوع فيكون مفهومه تارة تمام حقيقته
____________________
(1/119)
محمولا عليه بالمواطأة وتارة وصفا عارضا به محمولا عليه بالاشتقاق يلزم أن يكون اعتباريا لئلا يلزم التسلسل في الأمور الموجودة ولهذا لم تكن الأمور الموجودة متصفة بمفهوماتها فلم يكن السواد أسود والعلم عالما والطول طويلا ونحو ذلك فإن قيل لم لا يجوز أن يكون وجوب الوجوب مثلا عينه ونفس ماهيته لا أمرا زائدا عليه قائما به كبياض الجسم ليلزم التسلسل وكذا البواقي قلنا لأنه لو كان كذلك لكان محمولا عليه بالمواطاة ضرورة واللازم باطل لأن الوجوب إذا كان واجبا كان حمل الوجوب عليه بالاشتقاق دون المواطأة لأنه لا معنى للواجب إلا ما له الوجوب وأما إذا أريد أن الوجود موجود بمعنى أنه وجود والوجوب واجب بمعنى أنه وجوب والإمكان ممكن بمعنى أنه إمكان إلى غير ذلك فلم يكن له فائدة ولم يتصور فيه نزاع نعم يصح ذلك في الأمور الاعتبارية بأن يعتبر العقل له أوصافا متعددة تنقطع بانقطاع الاعتبار من غير تعدد في الخارج وقدره في المطارحات بوجه آخر يندفع عنه هذا المنع وهو أن الوجوب والإمكان والوجود والوحدة والكثرة والتعين ونحو ذلك حالها واحد في أنها أمور موجودة عندكم اعتبارية عندنا وكل موجود فله وحدة وتعين ووجوب أو إمكان وقدم أو حدوث فلو كان الإمكان مثلا موجودا لكان له وحدة موجودة لها إمكان موجود له وحدة موجودة وهلم جرا فيلزم التسلسل في وحدات الإمكان وإمكانات الوحدة التي هي أمور مترتبة مجتمعة في الوجود مع القطع بأن ليست الوحدة نفس الإمكان وكذا يلزم سلسلة من وجودات الإمكان وإمكانات الوجود وأخرى من تعينات الإمكان وإمكانات التعين وعلى هذا فقس ولما كان ههنا مظنة إشكال وهو أنا قاطعون بأن الباري تعالى موجود وواجب ومتعين وواحد وقديم وباق في الخارج لا في الذهن فقط وكذا إمكان الإنسان وحدوثه وكثرته ونحو ذلك أشار إلى الجواب بأن هذا لا يقتضي كون الوجوب والإمكان وغيرهما أمورا متحققة في الخارج لها صور عينية قائمة بالموضوعات كبياض الجسم لأن معنى قولنا الباري تعالى واجب في الخارج أنه بحيث إذا نسبه العقل إلى الوجود حصل له معقول هو الوجوب ومعنى قولنا الإنسان ممكن أنه إذا نسبه إلى الوجود حصل له معقول هو الإمكان ومعنى قولنا الشيء متعين أو واحد أو كثير أو قديم أو حادث في الخارج أنه بحيث إذا نسبه العقل إلى هذه المفهومات كانت النسبة بينهما الإيجاب لا السلب وهذا ما يقال أن انتفاء مبدأ المحمول في الخارج لا يوجب انتفاء الحمل في الخارج كما في قولنا زيد أعمى ( قال وقد يستدل ) كون الامتناع وصفا اعتباريا لا تحقق له في الأعيان مما لا نزاع فيه ولا حاجة إلى الاستدلال وأما الوجوب والإمكان فقد استدل على كونهما اعتباريين بوجوه
الأول أنهما لو كانا موجودين لما صدقا على المعدوم ضرورة امتناع قيام الصفة الموجودة بالمعدوم واللازم باطل لأن الممتنع واجب العدم والمعدوم الممكن ممكن الوجود والعدم ومبناه على أن كلا من الوجوب والإمكان
____________________
(1/120)
مفهوم واحد يضاف تارة إلى الوجود وأخرى إلى العدم ومع ذلك فقد اعترض بأن انتفاء بعض جزئيات المفهوم لا ينافي كونه وجوديا يوجد منه بعض الجزئيات كسائر الكليات
الثاني لو كان الوجوب موجودا لزم إمكان الواجب وهو محال بالضرورة بيان اللزوم من وجهين أحدهما أن الوجوب إذا كان وصفا قائما موجودا بالواجب كان محتاجا إلى موصوفه ضرورة وكل محتاج إلى الغير فهو ممكن وكل ممكن فهو جائز الزوال نظرا إلى نفسه وإن كان لازم الوجود نظرا إلى غيره وزوال الوجوب عن الموجود يستلزم إمكانه ضرورة وثاينهما أن واجبية الواجب تكون للوجوب الممكن في نفسه ضرورة احتياجه إلى الموصوف وما يكون واجبيته لأمر ممكن لا يكون واجبا لذاته بل ممكنا بطريق الأولى لأن المحتاج إلى الواجب ممكن فكيف إلى الممكن والجواب أنا لا نسلم أن الوجوب ما به الواجبية بل نفسها وأن الوجوب على تقدير إمكانه يكون جائز الزوال في نفسه وإنما يكون كذلك لو لم يكن مقتضى ذات الواجب كالوجود ولا معنى للواجب إلا ما يكون وجوده ووجوبه وسائر صفاته لذاته وإن سميت كلا منها ممكنا في نفسه وأما الجواب بأن وجوب الواجب نفسه لا وصف له فضعيف لأن المتنازع هو الوجوب بمعنى ضرورة الوجود واقتضائه ولا خفاء في أنه إذا كان أمرا محققا موجودا كان زائدا في الذهن والخارج جميعا
الثالث أن الوجوب لو كان موجودا لكان ممكنا لما مر فيحتاج إلى سبب متقدم عليه بالوجود والوجوب ضرورة أن الشيء مالم يكن موجودا واجبا بالذات أو بالغير لم يصلح سببا لوجود شيء آخر فذلك الوجوب إن كان نفس هذاالوجوب لزم تقدم الشيء على نفسه وإن كان غيره ينقل الكلام إليه ويتسلسل وفي هذاالتقرير دفع لما يقال أن وجوب الواجب بذات الواجب لا بوجوبه
الرابع لو كان الإمكان موجودا وهو وصف عارض للممكن لزم تقدم وجود الممكن على الإمكان ضرورة تقدم المعروض على العارض ولو بالذات واللازم باطل للقطع بصحة قولنا أمكن فوجد دون العكس والجواب بأنه من عوارض الماهية دون الوجود فلا يلزم إلا تقدم الماهية بمعنى الاحتياج إليها مدفوع بأن المتنازع هو الإمكان الذي هو نسبة بين الممكن ووجوده فيكون متأخرا عنهما
الخامس أن الإمكان لو كان موجودا لزم قيامه بالمعدوم أو بغير ما هو موصوف بالإمكان واللازم ضروري البطلان وجه اللزوم أن إمكان الشيء من أوصافه الذاتية ولا بد للوصف من محل يقوم به فقبل وجود الممكن يكون قيامه إما بالممكن المعدوم وهو الأمر الأول أو بغيره وهو الثاني والجواب أن الوصف الذاتي ما يكون مقتضى الذات ولا يلزم من كونها موجودة أن يوجد قبل الذات
السادس أن الإمكان نسبة بين الممكن ووجوده فيكون متأخرا عنهما فقبل تحققه يكون الممكن إما واجبا أو ممتنعا وبعده يصير ممكنا وهو معنى الانقلاب فإن قيل فعلى تقدير كونه اعتباريا أيضا يكون متأخرا ويلزم المحال
____________________
(1/121)
قلنا إذا لم يكن له تحقق في الخارج لم يكن بينه وبين الماهية تقدم وتأخر إلا بحسب العقل بمعنى أنه إذا لاحظ العقل الماهية والوجود والنسبة بينهما حصل له معقول عارض للماهية هو الإمكان من غير لزوم انقلاب لأن الماهية دائما بهذه الحيثية قال احتج المخالف قد سبقت إشارة إلى الفرق بين الموجود والوجودي والاعتباري والعدمي والتمسكات السابقة إنما دلت على أن ليس الوجوب والإمكان أمرين موجودين في الخارج من غير دلالة على كونهما وجوديين أو عدميين وتمسكات المخالف إنما تدل على أنهما ليسا عدميين من غير دلالة على كونهما موجوديين أو اعتباريين فالظاهر أنهما لم يتواردا على محل واحد إلا أنا اقتفينا أثر القوم
فالوجه الأول من تمسكات المخالف وهو مختص بالوجوب أنه لو كان عدميا لزم كون العدم مؤكدا للوجود ومقتضيا لثباته ضرورة أن الوجوب تأكد الوجود واقتضاؤه واللازم باطل لأن العدم مناف للوجود فكيف يؤكده والجواب أنه ليس عدما محضا ليس له شائبة الوجود بل هو أمر اعتباري مفهومه ضرورة الوجود واقتضاؤه فيصلح مؤكدا له
الثاني أن الوجوب والإمكان لو كانا عدميين لزم ارتفاع النقيضين لأن نقيضيهما أعني اللاوجوب واللاإمكان أيضا عدميان لصدقهما على الممتنع مع القطع بأن الوجودي لا يصدق على المعدوم وكون النقيضين عدميين هو معنى ارتفاعهما والجواب أن صدق الشيء على المعدوم لا ينافي كونه مفهوما يوجد بعض أفراده كاللاإنسان الصادق على الممتنع وعلى الفرس ونحن لا نعنى بالموجود والوجودي ما يكون جميع أفراده الممكنة موجودة البتة ولو سلم فلا نسلم استحالة كون النقيضين عدميين كيف وهو واقع كالامتناع واللاامتناع والعمى واللاعمى وما ذكر من أنه ارتفاع النقيضين ممنوع بل معنى ارتفاع النقيضين في المفردات أن لا يصدقا على شيء حتى لو لم يصدق الوجوب واللاوجوب على شيء بل كانا مسلوبين عنه كان ذلك ارتفاعا للنقيضين وليس معناه خلو النقيضين عن الوجود والثبوت في نفسهما بأن يكون الامتناع معدوما وكذا اللاامتناع لصدقه على المعدوم الممكن فإن استحالة ذلك ممنوعة نعم ارتفاع النقيضين في القضايا هو أن لا تصدق القضيتان المتناقضتان في أنفسهما ولا يثبت مدلولاهما بأن يكذب قولنا هذا ممكن وهذا ليس بممكن وهذا كسائر النسب من المساواة والعموم والخصوص والمباينة فإنها في المفردات تكون باعتبار صدقها على الشيء وفي القضايا باعتبار صدقها في نفسها وثبوت مدلولاتها مثلا إذا قلنا الإنسان أخص من الحيوان فمعناه أن كل ما صدق عليه الإنسان صدق عليه الحيوان من غير عكس وإذا قلنا الضرورية أخص من الدائمة فمعناه أنه كلما صدقت الضرورية في نفس الأمر صدقت الدائمة من غير عكس بمعنى أن كل موضوع
____________________
(1/122)
ومحمول يصدق بينهما الإيجاب الضروري يصدق بينهما الإيجاب الدائمي وليس كل موضوع ومحمول يصدق بينهما الإيجاب الدائمي يصدق بينهما الإيجاب الضروري
الثالث لو كان الوجوب والإمكان عدميين لا تحقق لهما إلا بحسب العقل لزم أن لا يكون الواجب واجبا والممكن ممكنا إلا عند فرض العقل واعتباره وصفي الوجود والإمكان لأن ما لا تحقق له إلا باعتبار العقل لا يقع وصفا للشيء إلا باعتباره واللازم باطل للقطع بأن الواجب واجب والممكن ممكن سواء وجد فرض العقل أو لم يوجد والجواب أنا لا نسلم الملازمة لجواز أن يكون المحمول مما لا تحقق له إلا في العقل ويكون صدقه على الموضوع دائما بل ضروريا في نفس الأمر كقولنا اجتماع النقيضين معدوم وممتنع فإن هذا الحكم ضروري صادق في نفس الأمر مع أنه لا تحقق للعدم والامتناع إلا بحسب العقل فكذا ههنا الوجوب والإمكان عدميان والحكم بأن الشيء واجب أو ممكن ضروري بمعنى أنه في نفس الأمر بحيث إذا نسبه العقل إلى الوجود حصل معقول هو الوجوب أو الإمكان
الرابع أنهما لو كانا عدميين لزم سلب الوجوب عن الواجب والإمكان عن الممكن بحسب الخارج سواء وجد اعتبار العقل أو لم يوجد لأن العدم في نفسه عدم بالنسبة إلى كل شيء وهذا معنى قولهم إمكانه لا في معنى لا إمكان له والجواب المنع فإن معنى قولنا إمكانه لا أن ذلك الوصف الصادق على الموضوع عدمي ومعنى لا إمكان له أنه لا يصدق عليه ذلك الوصف كما صدق العدم والامتناع فإن بنى ذلك على أنه لا تمايز في الإعدام أجيب بأن التمايز العقلي ضروري وهو كاف فإن قيل ثبوت الشيء للشيء فرع ثبوته في نفسه فما لا يكون ثابتا في نفسه لا يكون ثابتا لغيره قلنا نعم بمعنى حصوله للشيء في الخارج كبياض الجسم وأما بمعنى الحمل على الشيء والصدق عليه كما في قولنا زيد أعمى والعنقاء لا موجود واجتماع النقيضين ممتنع فلا فإن الأوصاف الصادقة على الشيء بعضها ثبوتية وبعضها سلبية قال المبحث الخامس من خواص الممكن أنه يحتاج في وجوده وعدمه إلى سبب وأنه لا يترجح أحد طرفيه إلا لمرجح ولتلازم هذين المعنيين بل لتقارب مفهوميهما جدا قد يجعل الثاني تفسيرا للأول والجمهور على أن هذا الحكم ضروري بعد تلخيص معنى الموضوع والمحمول من غير أن يفتقر إلى برهان فإن معنى الممكن مالا يقتضي ذاته وجوده ولا عدمه ومعنى الاحتياج أن كلا من وجوده وعدمه يكون لا لذاته بل لأمر خارج فإن قيل يحتمل أن لا يكون لذاته ولا لأمر خارج بل لمجرد الاتفاق قلنا هذا مما يظهر بطلانه بأدنى التفات ولهذا يحكم به من لا يتأتى منه النظر والاستدلال ثم اختلاف البعض في نفس الحكم أو في بداهته والتفاوت بينه وبين قولنا الواحد نصف الاثنين لا ينافي البداهة على ما سبق وأما ما ذهب إليه الكثيرون من أن الله تعالى خلق العالم في وقت دون سائرالأوقات من غير مرجح وخصص أفعال المكلفين بأحكام مخصوصة من غير أن يكون فيها ما يقتضي ذلك وأن قدرة القادر
____________________
(1/123)
قد تتعلق بالفعل أو الترك من غير مرجح فليس من ترجح الممكن بلا مرجح بل من ترجيح المختار أحد المتساويين من غير مرجح ونحن لا نقول بامتناعه فضلا عن أن يكون ضروريا وإلى هذا يستند عندنا اختلاف حركات الكواكب ومواضعها وأوضاعها وأما الفلاسفة القائلون بالإيجاب دون الاختيار فلا يلتزمون وقوع تلك الاختلافات والاختصاصات بلا سبب بل يعترفون باستنادها إلى أسباب فاعلية لا اطلاع على تفاصيلها ففي الجملة لم يقل أحد ممن يعتد به بوقوع الممكن بلا سبب قال والاستدلال القائلون بأن الحكم بامتناع الترجح بلا مرجح كسبي استدلوا عليه بوجهين
الأول أن الإمكان يستلزم تساوي الوجود والعدم بالنسبة إلى ذات الممكن وهذا معنى اقتضاء ماهية الممكن لتساوي الطرفين ووقوع أحدهما بلا مرجح يستلزم رجحانه وهما متنافيان والجواب أن التساوي بالنظر إلى الذات إنما ينافي الرجحان بحسب الذات وهو غير لازم فإن قيل الترجح إذا لم يكن بالغير كان بالذات ضرورة أنه لا ثالث قلنا نفس المتنازع لجواز أن يقع بحسب الاتفاق من غير سبب
الثاني أن الممكن مالم يترجح لم يوجد وترجحه أمر حدث بعد أن لم يكن فيكون وجوديا ولا بد له من محل وليس هو الأثر لتأخره عن الترجح فيكون هو المؤثر لعدم الثالث فلا بد منه والجواب أن الترجح مع الوجود لا قبله إذ لا يتصور رجحان الوجود مع كون الواقع هو العدم ولو سلم فقيام ترجح وجود الممكن أو عدمه بالمؤثر ضروري البطلان والمذكور في كلام الإمام مكان الترجح الوجوب وهما متلازمان بناء على أن أحد الطرفين يمتنع وقوعه مع التساوي فكيف مع المرجوحية فالراجح لا يكون إلا واجبا وهذا الوجوب متقدم على الوجود على ما سيجيء من أن وجود الممكن محفوف بوجوبين سابق ولاحق وهو نسبة بين المؤثر والأثر يسمى من حيث الإضافة إلى المؤثر إيجابا وإلى الأثر وجوبا فمنع سبقه على الوجود وكونه وصفا للمؤثر ليس بسديد سيما وقد قال الإمام في المباحث المشرقية أنه على تقدير كونه ثبوتيا فمعنى عروضه للمؤثر أنه يصير محكوما عليه بوجوب أن يصدر عنه ذلك الأثر فالأولى منع كونه أمرا محققا مفتقرا إلى ما يقوم به في الخارج بل هو أمر عقلي قائم بالمتصور من الممكن عند الحكم بحدوثه قال ومن أقوى شبه المنكرين ذكر الإمام من جانب المنكرين لامتناع وقوع الممكن بلا سبب كذيمقراطيس وأتباعه القائلين بأن وجود السموات بطريق الاتفاق شبها منها أنه لو احتاج الممكن إلى مؤثر فتأثيره فيه إما أن يكون حال وجوده وهو إيجاد للموجود وتحصيل للحاصل أو حال عدمه وهو جمع بين النقيضين أعني العدم الذي كان والوجود الذي حصل وما ذكر في المواقف من أن كون التأثير حال العدم باطل لأنه جمع بين النقيضين ولأن العدم نفي صرف فلا يصلح أثرا ولأنه مستمر فلا يستند إلى مؤثر الوجود ليس على ما ينبغي لأن الكلام في التأثير بمعنى الإيجاد وإلا لما صح أن التأثير حال الوجود
____________________
(1/124)
إيجاد الموجود وحال العدم جمع النقيضين على أن الوجه الثالث ليس بتام لأن العدم ربما يكون حادثا لا مستمرا لا يقال في الكلام اختصار والمراد أن التأثير أعم من الإيجاد والأعدام إما حال الوجود وهو باطل لأنه إيجاد الموجود ولأن العدم نفي محض وأما حال العدم وهو باطل لأنه جمع النقيضين ولأن العدم نفي محض لأنا نقول لو أريد ذلك لم يكن لقوله فلا يستند معنى الوجود إلى مؤثر لأن العدم على تقدير كونه أثرا إنما يستند إلى مؤثر العدم لا الوجود وبهذا تبين أن ليس قوله ولأنه نفي محض أو قوله ولأنه مستمر ابتداء شبهة على نفي التأثير بمعنى أن الممكن لو احتاج إلى مؤثر في وجوده لاحتاج إليه في عدمه وهو باطل لأنه نفي محض ولأنه مستمر كيف وقد أورد بعد ذلك هذه الشبهة بعينها والمذكور في كلام الإمام أن التأثير حال العدم باطل لأنه لا أثر حينئذ فلا تأثير لأنه إما عين الأثر أو ملزومه بناء على كون المعلول متأخرا عن العلة مع العلة بحسب الزمان والجواب أنا نختار أن التأثير حال الوجود فإن أريد بإيجاد الموجود الموجود بالوجود الحاصل بهذا الإيجاد فلانم استحالته كما في القابل فإن السواد قائم بالجسم الأسود بهذا السواد وإن أريد بوجود آخر سابق فلانم لزومه فإن الوجود الحاصل بالتأثير مقارن له وقد يختار أن التأثير حال العدم ولا جمع بين النقيضين لأن الأثر عقيب آن التأثير بناء على أن المؤثر سابق على الأثر بالزمان أيضا ومعنى امتناع التخلف أنه لا يتخللهما آن وكان هذا مراد من أجاب بأن وجود المؤثر يستتبع وجود الأثر على معنى أن وجود الأثر يحصل عقيب وجود المؤثر بصفة المؤثرية وهو معنى التأثير فيكون في آن عدم الأثر ويكون معنى تأثيره في الممكن إخراجه من العدم إلى الوجود ومنها أنه لو امتنع وقوع الممكن بلا مؤثر وترجحه بلا مرجح لما وقع واللازم باطل بحكم الضرورة في مثل العطشان يشرب أحد المائين والجائع يأكل أحد الرغيفين والهارب من السبع يسلك أحد الطريقين مع فرض التساوي وعدم المرجح والجواب بعد تسليم عدم المرجح عند العقل أصلا أن هذا ليس من وقوع الممكن بلا سبب وترجح أحد طرفيه بلا مرجح بل من ترجيح المختار أحد الأمرين المتساويين من غير مرجح ومخصص وهو غير المتنازع فإن قيل هذا الاختيار والترجيح أمر ممكن وقع بلا سبب وفيه المطلوب قلنا ممنوع بل إنما وقع بالإرادة التي من شأنها الترجيح والتخصيص ومنها أنه لو احتاج الممكن في وجوده إلى المؤثر لاحتاج إليه في عدمه لتساويهما واللازم باطل لأن العدم نفي محض لا يصلح أثرا والجواب أن العدم إن لم يصلح أثرا منعنا الملازمة لجواز أن يتساوى الوجود والعدم بالنظر إلى ذات الممكن لكن لا يحتاج العدم إلى المؤثر لعدم صلوحه لذلك بخلاف الوجود فإن المقتضى فيه سالم عن المانع وإن صلح أثرا منعنا بطلان اللازم وهو ظاهر وتحقيقه أنه وإن كان نفيا صرفا بمعنى أنه ليس له شائبة الوجود العيني لكن ليس نفيا صرفا بمعنى أن لا يضاف إلى ما يتصف بالوجود بل هو عدم مضاف إلى الممكن الوجود فيستند إلى عدم علة وجوده بمعنى
____________________
(1/125)
احتياجه إليه عند العقل حيث يحكم بأنه إنما بقي على عدمه الأصلي أو اتصف بعدمه الطاري بناء على عدم علة وجوده مستمرا أو طارئا فإن قيل العدم لا يصلح علة لأن العلة وجودية لكونها نقيض اللاعلية العدمية فيفتقر إلى موصوف وجودي ولأنه لا تمايز في الأعدام فلا يصلح بعضها علة وبعضها معلولا قلنا مجرد صورة السلب أو الصدق على المعدوم في الجملة لا يقتضي كون المفهوم الكلي عدميا بجميع جزئياته ولو سلم فنقيض العدمي لا يلزم أن يكون وجوديا وقد سبق مثل ذلك وعدم تمايز الأعدام ممنوع والتحقيق أن تساوي طرفي الممكن ليس إلا في العقل فالمرجح لا يكون إلا عقليا وعدم العلة أو عدم الممكن ليس نفيا صرفا بل كل منهما ثابت في العقل ممتاز عن الآخر فيصلح أحدهما علة للآخر في حكم العقل ولا يلزم منه صلوح عليته للوجود ليلزم انسداد باب إثبات الصانع لأن ذلك إنما يكون بحسب الخارج ومنها أن الممكن لو احتاج إلى مؤثر فتأثيره إما في ماهية الممكن أو وجوده أو موصوفيته بالوجود إذ لا يعقل غير ذلك والكل باطل لما مر في نفي شيئية المعدوم ومجعولية الماهية من أن الماهية ماهية والوجود وجود والموصوفية موصوفية سواء وجد الغير أو لم يوجد وأن الوجود حال لا تأثير فيه وأن الموصوفية أمر اعتباري لا تحقق له في الأعيان والجواب أن التأثير في الماهية بأن يجعلها متحققة لا بأن يجعلها ماهية أو في الوجود الخاص بأن يحصله للماهية لا بأن يجعله وجودا ومنها أنه لو وجدت مؤثرية المؤثر في الممكن أو احتياج الممكن إليه لكان كل منهما أمرا ممكنا له مؤثر واحتياج ويتسلسل ولا يندفع بأن مؤثرية المؤثر في الممكن واحتياج الاحتياج عينه لأن ذلك يمتنع في الأمور التي بها تحقق في الأعيان والجواب أن كون المؤثرية أو الاحتياج اعتباريا لا ينافي كون المؤثر مؤثرا والممكن محتاجا على ما سبق غير مرة وما يقال من أنه لو حصل في العقل دون الخارج كان جهلا لانتفاء المطابقة وأن كلا منهما صفة قبل الأذهان فيستحيل قيامها بالذهن فجوابه أن عدم المطابقة للخارج إنما يكون جهلا إذا حكم العقل بالثبوت في الخارج ولم يثبت وأن الحاصل قبل الأذهان هو كون الشيء بحيث إذا تعقله الذهن حصل فيه معقول هو المؤثرية أو الحاجة قال المبحث السادس قد سبق أن الممكن محتاج إلى السبب إلا أن ذلك عند الفلاسفة وبعض المتكلمين لإمكانه وعند قدماء المتكلمين لحدوثه وقيل لإمكانه مع الحدوث وقيل بشرط الحدوث احتجت الفلاسفة على دعواهم بأن العقل إذا لاحظ كون الشيء غير مقتضي الوجود أو العدم بالنظر إلى ذاته حكم بأن وجوده أو عدمه لا يكون إلا بسبب خارج وهو معنى الاحتياج سواء لاحظ كونه مسبوقا بالعدم أو لم يلاحظ واحتجوا على إبطال مذهب المخالف بأن الحدوث وصف للوجود ومتأخر عنه لكونه عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم والوجود متأخر عن تأثير المؤثر وهو عن الاحتياج إليه وهو عن علة الاحتياج وجزئها وشرطها فلو كان الحدوث علة
____________________
(1/126)
للاحتياج أو جزءها أو شرطها لزم تأخر الشيء عن نفسه بمراتب وعارضهم بعض المتكلمين فقالوا سبب الاحتياج هو الحدوث لأن الفعل إذا لاحظ كون الشيء مما يوجد بعد العدم حكم باحتياجه إلى علة تخرجه من العدم إلى الوجود وإن لم يلاحظ كونه غير ضروري الوجود والعدم ولا يجوز أن يكون هو الإمكان لأنه كيفية لنسبة الوجود إلى الماهية فيتأخر عن الوجود المتأخر عن التأثير المتأخر عن الاحتياج إلى المؤثر والحق أن هذه العلة إنما هي بحسب العقل بمعنى أنه يلاحظ الإمكان أو الحدوث فيحكم بالاحتياج كما يقال علة الحصول في الحيز هو التحيز لا بحسب الخارج بأن يتحقق الإمكان أو الحدوث فيوجد الاحتياج وبهذا يظهر أن كلام الفريقين في الإبطال مغالطة وأما في الإثبات فكلام المتأخرين أظهر وبالقبول أجدر واعترض بأنه لو كان علة الاحتياج إلى المؤثر هو الإمكان أو الحدوث وهما لازمان للممكن والحادث لزم احتياجهما حالة البقاء لدوام المعلول بدوام العلة واللازم باطل لأن التأثير حينئذ إما في الوجود وقد حصل بمجرد وجود المؤثر فيلزم تحصيل الحاصل بحصول سابق وإما في البقاء أو في أمر آخر متجدد وهو تأثير في غير الباقي أعني الممكن والحادث فيلزم استغناؤهما عن المؤثر وفي كون الإمكان علة الاحتياج فساد آخر وهو احتياج الممكن إلى المؤثر حال عدمه السابق مع أنه نفي محض أزلي لا يعقل له مؤثر والجواب أن معنى احتياج الممكن أو الحادث إلى المؤثر توقف حصول الوجود له أو العدم أو استمرارهما على تحقق أمر أو انتفائه بمعنى امتناعه بدون ذلك وهو معنى دوام الأثر بدوام المؤثر وإذا تحققت فاستمرار الوجود أعني البقاء ليس إلا وجودا مأخوذا بالإضافة إلى الزمان الثاني وصحة قولنا وجد فلم يبق ولم يستمر لا يدل إلا على مغايرة ا لبقاء لمطلق الوجود ولا نزاع في ذلك قال المبحث السابع الجمهور على أن وجود الممكن وعدمه بالنظر إلى ذاته على السواء لا أولوية لأحدهما عن الآخر وقيل العدم أولى بالممكن جوهرا كان أو عرضا زايلا أو باقيا لتحققه بدون تحقق سبب مؤثر ولحصوله بانتفاء شيء من أجزاء العلة التامة للوجود المفتقر إلى تحقق جميعها ورد بأن الممكن كما يستند وجوده إلى وجود العلة يستند عدمه إلى عدمها ولا معنى لعدم المركب سوى أن لا يتحقق جميع أجزائه سواء تحقق البعض أو لم يتحقق وهذا القدر لا يقتضي أولوية العدم بالنظر إلى ذات الممكن بمعنى أن يكون له نوع اقتضاء للعدم وقيل العدم أولى بالأعراض السيالة كالحركة والزمان والصوت وصفاتها بدليل امتناع البقاء عليها والذي يقتضيه النظر الصائب أنه إن أريد بأولوية الوجود أوالعدم ترجحه بالنظر إلى ذات الممكن بحيث يقع بلا سبب خارج فبطلانه ضروري لأنه حينئذ يكون واجبا أو ممتنعا لا ممكنا فإن قيل هذا إنما يلزم لو لم يكن وقوع الطرف الآخر بمرجح خارجي قلنا فيتوقف وقوع الطرف الأولي إلى عدم المرجح الخارجي وإن أريد بالأولوية كونه أقرب إلى الوقوع لقلة
____________________
(1/127)
شروطه وموانعه وكثرة اتفاق أسبابه فهذه أولوية بالغير لا بالذات وهو ظاهر وإن أريد أن الممكن قد يكون بحيث إذا لاحظه العقل وجد فيه نوع اقتضاء للوجود أو العدم لا إلى حد الوجوب ليلزم كونه واجبا أو ممتنعا فلا يظهر امتناعه واستدل الجمهور على امتناعه بوجوه
الأول أنه لو كان أحد الطرفين أولى بالممكن نظر إلى ذاته فمع تلك الأولوية إما أن يمتنع وقوع الطرف الآخر فيكون الطرف الأولي واجبا لذات الممكن فلا يكون ممكنا بل واجبا أو ممتنعا هذا خلف وإما أن يمكن وحينئذ فوقوعه إما أن يكون بلا سبب يرجحه فيلزم ترجح المرجوح أعني الطرف الغير الأولي أو يكون بسبب يفيد رجحانه فيكون وقوع الطرف الأولي متوقفا على عدم ذلك السبب فلا يكون أولى بالنظر إلى ذات الممكن بل مع عدم ذلك السبب هذا خلف والجواب أنه لا يلزم من توقف الوقوع على أمر توقف الأولوية عليه حتى يلزم كونها غير ذاتية وذلك لأن التقدير أن المراد بها رجحان ما لا إلى حد الوجوب
الثاني أن الممكن يقتضي تساوي الوجود والعدم بالنظر إلى ذاته لما أن كلا منهما لا يكون إلا بالغير فلو اقتضى أحدهما لذاته لزم اجتماع المتنافيين أعني اقتضاء التساوي ولا اقتضاءه والجواب أنا لانم أن الممكن يقتضي تساوي الطرفين بل لا يقتضي وقوع أحدهما وهو لا ينافي اقتضاء أحدهما لا إلى حد الوجوب والوقوع على ما هو المراد بالأولوية
الثالث أنه لو كان أحد الطرفين أولى لذات الممكن فإما أن يمكن زوال تلك الأولوية بسبب أو لا فإن أمكن لم تكن الأولوية ذاتية لتوقفها على عدم ذلك السبب ولأن ما بالذات لا يزول بالغير وإن لم يمكن كان الطرف الأولي ضروريا لذات الممكن فلم يكن ممكنا بل واجبا إن كان هو الوجود وممتنعا إن كان هو العدم والجواب أنه لا يلزم من امتناع زوال أولوية الوجود أو العدم بالمعنى الذي ذكرنا وقوعه فضلا عن كونه ضروريا ليلزم وجوب الممكن أو امتناعه وذلك لأنه يجوز أن يقتضي ذات الممكن الوجود اقتضاء مالا إلى حد الوجوب والوقوع ويقع العدم باقتضاء أسباب خارجية تنتهي إلى حد الوجوب والوقوع أو بالعكس وتكون ا لأولوية الذاتية بحالها باقية غير زائلة قال إذ لا بد من ذلك يعني أنه لا يكفي في الوقوع مجرد الأولوية بل لا بد من انتهائها إلى حد الوجوب بأن يصير الطرف الآخر ممتنعا بالغير إذ لو جاز وقوعه أيضا لكان وقوع الطرف الأول تارة ولا وقوعه أخرى مع استواء الحالين حيث لم يوجد إلا مجرد الأولوية ترجحا بلا مرجح فالممكن يجب صدوره عن العلة ثم يوجد وهذا وجوب سابق وبعدما وجد يمتنع عدمه ضرورة امتناع الوجود والعدم وهذا وجوب لاحق يسمى الضرورة بشرط المحمول فإن قيل سبق الوجوب على الوجود غير معقول أما بالزمان فظاهر وأما بالذات بمعنى الاحتياج إليه فلأنه إما أن يراد الاحتياج في الوجود العيني وهو باطل لأن الوجوب
____________________
(1/128)
والوجود ليسا أمرين متميزين في الخارج يتوقف أحدهما على الآخر ولو كان فالوجوب صفة للوجود فيكون متأخرا عنه لا متقدما أو في الوجود الذهني وهو أيضا باطل لظهور أنه لا يتوقف تعقل الوجود على تعقل الوجوب بل ربما يكون بالعكس قلنا المراد السبق بمعنى الاحتياج في اعتبار العقل عند ملاحظة هذه المعاني واعتبار الترتيب فيما بينهما فإنه يحكم قطعا بأنه مالم يتحقق علة الممكن لم يجب هو وما لم يجب لم يوجد فإن قيل حكم العقل بهذا الترتيب باطل لأنه لا وجوب بالنسبة إلى العلة الناقصة بل التامة والوجوب إذا كان مما يتوقف عليه الوجود كان جزأ من العلة التامة فيكون متقدما عليها لا متأخرا قلنا جزء العلة التامة ما يتوقف عليه المعلول في الخارج لا في اعتبار العقل ولو سلم فالوجوب يعتبر بالنسبة إلى علة ناقصة هي جميع ما يتوقف عليه الوجود سوى الوجوب فإن قيل ما ذكرتم من كون وجود الممكن مسبوقا بالوجوب لا يصح فيما يصدر عن الفاعل بالاختيار لأن الوجوب ينافي الاختيار وحينئذ ينتقض دليلكم قلنا إذا كان الاختيار من تمام العلة لم يتحقق الوجوب إلا بعد تحقق الاختيار وكون المعلول واجبا بالاختيار لا ينافي كونه مختارا بل يحققه قال المنهج الثالث في القدم والحدوث والمتصف بها حقيقة هو الوجود وأما الموجود فباعتباره وقد يتصف بهما العدم فيقال للعدم الغير المسبوق بالوجود قديم وللمسبوق حادث ثم كل من القدم والحدوث قد يوجد حقيقيا وقد يوجد إضافيا أما الحقيقي فقد يراد بالقدم عدم المسبوقية بالغير وبالحدوث المسبوقية به ويسمى ذاتيا وقد يخص الغير بالعدم فيراد بالقدم عدم المسبوقية بالعدم وبالحدوث المسبوقية به وهو معنى الخروج من العدم إلى الوجود ويسمى زمانيا وهذا هو المتعارف عند الجمهور وأما الإضافي فيراد بالقدم كون ما مضى من زمان وجود الشيء أكثر وبالحدوث كونه أقل فالقدم الذاتي أخص من الزماني والزماني من الإضافي بمعنى أن كل ما ليس مسبوقا بالغير أصلا ليس مسبوقا بالعدم ولا عكس كما في صفات الواجب وكل ما ليس مسبوقا بالعدم فما مضى من زمان وجوده يكون أكثر بالنسبة إلى ما حدث بعده ولا عكس كالأب فإنه أقدم من الابن وليس قديما بالزمان والحدوث الإضافي أخص من الزماني والزماني من الذاتي بمعنى أن كل ما يكون زمان وجوده الماضي أقل فهو مسبوق بالعدم ولا عكس وكل ما هو مسبوق بالعدم فهو مسبوق بالغير ولا عكس قال لا قديم بالذات سوى الله تعالى لما سيأتي من أدلة توحيد الواجب وما وقع في عبارة بعضهم أن صفات الله تعالى واجبة أو قديمة بالذات فمعناه بذات الواجب بمعنى أنها لا تفتقر إلى غير الذات وأما القديم بالزمان فجعله الفلاسفة شاملا لكثير من الممكنات كالمجردات والأفلاك وغير ذلك على ما سيأتي والمتكلمون منا لصفات الله تعالى فقط حيث يبنوا أن ما سوى ذات الله تعالى وصفاته حادث بالزمان وأما المعتزلة فقد بالغوا في التوحيد فنفوا القدم الزماني أيضا عما سوى ذات الله تعالى
____________________
(1/129)
ولم يقولوا بالصفات الزائدة القديمة إلا أن القائلين منهم بالحال اثبتوا لله تعالى أحوالا أربعة هي العالمية والقادرية والحيية والموجودية وزعموا أنها ثابتة في الأزل مع الذات وزاد أبو هاشم حالة خامسة علة للأربعة مميزة للذات هي الإلهية فلزمهم القول بتعدد القدماء وهذا تفصيل ما قال الإمام في المحصل أن المعتزلة وإن بالغوا في إنكار ثبوت القدماء لكنهم قالوا به في المعنى لأنهم قاولا الأحوال الخمسة المذكورة ثابتة في الأزل مع الذات فالثابت في الأزل على هذا القول أمور قديمة ولا معنى للقديم إلا ذلك واعترض عليه الحكيم المحقق بأنهم يفرقون بين الوجود والثبوت ولا يجعلون الأحوال موجودة بل ثابتة فلا تدخل فيما ذكره الإمام من تفسير القديم بما لا أول لوجوده إلا أن يغير التفسير ويقول القديم مالا أول لثبوته وكان في قول الإمام ولا معنى للقديم إلا ذلك دفعا لهذا االاعتراض أي لا نعني بالوجود إلا ما عنوا بالثبوت فلا فرق في المعنى بين قولنا لا أول لوجوده ولا أول لثبوته حتى لو نوقش في اللفظ غيرنا الوجود إلى الثبوت وما نقل في المواقف عن الإمام أن الأحوال الأربعة هي الوجود والحياة والعلم والقدرة فلا يخلو عن تسامح ( قال والقديم بالزمان يمتنع استناده إلى المختار ) يعني أن أثر المؤثر المختار لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم لأن القصد إنما يتوجه إلى تحصيل ما ليس بحاصل وهذا متفق بين الفلاسفة والمتكلمين والنزاع فيه مكابرة وما نقل في المواقف عن الآمدي أنه قال سبق الإيجاد قصدا كسبق الإيجاد إيجابا في جواز كونهما بالذات دون الزمان وفي جواز كون أثرهما قديما فلا يوجد في كتاب الأبكار إلا ما قال على سبيل الاعتراض من أنه لا يمتنع أن يكون وجود العالم أزليا مستندا إلى الواجب تعالى ويكونان معا في الوجود لا تقدم إلا بالذات كما في حركة اليد والخاتم وهو لا يشعر بابتنائه على كون الواجب مختارا لا موجبا ولذا مثل بحركة اليد والخاتم واقتصر في الجواب على دفع السند قائلا لا نسلم استناد حركة الخاتم إلى حركة اليد بل هما معلولان لأمر خارج نعم صرح في شرح الإشارات بأن الفلاسفة لم يذهبوا إلى أن القديم يمتنع أن يكون فعلا لفاعل مختار ولا إلى أن المبدأ الأول ليس بقادر مختار بل إلى أن قدرته واختياره لا يوجبان كثرة في ذاته وأن فاعليته ليست كفاعلية المختارين من الحيوان ولا كفاعلية المجبورين من ذوي الطبائع الجسمانية وإلى أنه أزلي تام في الفاعلية وأن العالم أزلي مستند إليه وأنت خبير بأن هذا احتراز عن شناعة نفي القدرة والاختيار عن الصانع وإلا فكونه عندهم موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار أشهر من أن يمنع قال دون الموجب أي لو أمكن مؤثر قديم موجب بالذات على ما يدعيه الفلاسفة لم يمتنع استناد الأثرالقديم إليه بل وجب أن يكون معلوله الأول وسائر ما يصدر عنه بالذات أو بالوسائط القديمة قديما وإلا لكان وجوده بعد ذلك ترجحا بلا مرجح حيث لم يوجد في الأزل ووجد فيما لا يزال مع استواء الحالين نظراإلى تمام العلة واستدل الإمام على امتناع استناد القديم إلى الموجب أيضا بأن تأثيره
____________________
(1/130)
في شيء يمتنع أن يكون حال بقائه وإلا يلزم إيجاد الموجود فتعين أن يكون حال حدوثه أو عدمه فيكون حادثا لا قديما وجوابه ما سبق أن الممتنع إيجاد الموجود بوجود حاصل بغير هذا الإيجاد وهو غير لازم وأن معنى تأثيرالمؤثر في الشيء وإيجاده إياه حال بقائه هو أن وجوده يفتقر إلى وجود المؤثر ويدوم بدوامه من غير أن يكون هناك تحصيل مالم يكن حاصلا ليلزم حدوثه ( قال فالقديم يمتنع عدمه ) لما امتنع استناد القديم إلى الفاعل بالاختيار فما ثبت قدمه يمتنع عدمه لأنه إما واجب لذاته وامتناع عدمه ظاهر وإما ممكن مستند إلى الواجب بطريق الإيجاب إما بلا واسطة كمعلوله الأول أو بوسائط قديمة كالثاني والثالث لما سيأتي من امتناع التسلسل وأيا ما كان يمتنع عدمه لأنه لما كان من مقتضيات ذات الواجب ولوازمه بوسط أو بغير وسط لزم من إمكان عدمه إمكان عدم الواجب وهو محال فإن قيل لم لا يجوز أن يتوقف صدوره عن الموجب على شرط حادث قلنا لأنه حينئذ يكون حادثا والكلام في القديم فإن قيل فالقديم إذا امتنع عدمه كان واجبا لا ممكنا قلنا امتناع عدم الشيء لا ينافي إمكانه الذاتي لجواز أن لا يكون ذلك لذاته بل لتمام علته الموجبة فعندنا لما كان الواجب فاعلا بالاختيار لا موجبا بالذات لم يكن شيء من معلولاته قديما ممتنع العدم وإنما ذلك على رأي الفلاسفة فإن قيل صفات الواجب عندكم موجودات قديمة فيمتنع استناده إليه بطريق الاختيار ويتعين الإيجاب قلنا علة الاحتياج إلى المؤثر عندنا الحدوث لا الإمكان وصفات الواجب وإن كانت مفتقرة إلى ذاته لا تكون آثارا له وإنما يمتنع عدمها لكونها من لوازم الذات ولو سلم فالتأثير والتأثر إنما يكونان بين المتغايرين ولا تغاير ههنا وسيجيء لهذا زيادة بيان قال زعمت الفلاسفة أن كل حادث أي موجود بعدم العدم مسبوق بمادة ومدة وعنوا بالمادة ما يكون موضوعا للحادث إن كان عرضا أو هيولاه إن كان صورة أو متعلقة إن كان نفسا وبالمدة الزمان وبنوا على ذلك قدم المادة والزمان لا بمعنى أن محل هذا السواد وبدن هذه النفس مثلا قديم لظهور استحالته ولا بمعنى أن قبل كل مادة مادة لا إلى بداية كما في الحركة والزمان لأنه يستلزم اجتماع المواد الغير المتناهية في الوجود ضرورة أن كلا منها جزء مما يتركب عنها وهو محال لما سيأتي بخلاف الحركة والزمان فإنهما على التجدد والانقضاء بل بمعنى أنه لا بد أن يكون للمركب مادة بسيطة قديمة هي الحاصل للصور والأعراض الحادثة إذ لو كانت حادثة لكانت لها مادة أخرى وتسلسل واحتجوا على ثبوت المادة بأن الحادث قبل وجوده ممكن لامتناع الانقلاب وكل ممكن فله إمكان وهو وجودي لما سبق من الأدلة وليس بجوهر لكونه إضافيا بحقيقته فيكون عرضا فيستدعي محلا موجودا ليس هو نفس ذلك الحادث لامتناع تقدم الشيء على نفسه ولا أمرا منفصلا عنه لأنه لا معنى لقيام إمكان الشيء بالأمر المنفصل عنه بل متعلقا به وهو المعنى بالمادة وما توهم من أن إمكان الشيء هو اقتدار الفاعل
____________________
(1/131)
عليه فيكون قائما بالفاعل فاسد لأنه معلل بالإمكان وعدمه بعدمه فيقال هذا مقدور لكونه ممكنا وذاك غير مقدور لكونه ممتنعا ولأنه لا يكون إلا بالقياس إلى القادر بخلاف الإمكان فإن قيل الدليل منقوض بالممكن القديم كالمواد والمجردات فإنها ممكنة ولا مادة لها قلنا إمكاناتها قائمة بها إذ ليس للقديم حالة ما قبل الوجود حتى يكون هناك إمكان يستدعي محلا غيره فإن قيل إمكان الشيء صفة له فلا يقوم إلا به ولو سلم قيامه بمحله كما في الصور والأعراض لم يكن ذلك إلا حال وجودهما والكلام فيما قبل الوجود قلنا سنورد من كلامهم ما يدفع هذا الإشكال والجواب أنه إن أريد بالإمكان الإمكان الذاتي اللازم لماهية الممكن فلا نسلم أنه وجودي بمعنى كونه أمرا محققا يستدعي محلا موجودا في الخارج وقد مر بيان ضعف أدلتهم على ذلك وإن أريد الإمكان الاستعدادي فلا نسلم أن كل حادث فهو قبل وجوده ممكن بالإمكان الاستعدادي لجواز أن يحدث من غير أن يكون هناك مادة وأمور معدة لها إلى وجود ذلك الحادث ولا يكون هذا من الانقلاب في شيء لأن المقابل للوجوب والامتناع هو الإمكان الذاتي لا الاستعدادي وفي قوله المخالف له إشارة إلى التغاير بين الإمكانين وذلك من وجوه
أحدها أن الذاتي لا يقتضي رجحان الوجود أو العدم بل كلاهما بالنظر إليه على السواء والاستعدادي يقتضيه لأنه حالة مقربة للمادة إلى تأثير المؤثر فيها وإيجاد الحادث
وثانيها أن الاستعدادي يتفاوت بالقرب والبعد فإن استعداد المضغة للإنسانية أقرب من استعداد العلقة وهو من النطفة وهو من المادة النباتية وهو من المعدنية وهو من العنصرية وهكذا حتى أن الهيولي الأولي أبعد الكل ولا كذلك الإمكان الذاتي فإنه لا يتصور تفاوت واختلاف في إمكان وجود الإنسان لماهيته وما يتوهم من تفاوته عند اعتبار التعلق بأمر خارج كإمكان وجود الإنسان لماهيته بالنظر إلى العلقة والمضغة مثلا فعائد إلى الاستعدادي
وثالثها أن الذاتي اعتبار عقلي لا تحقق له في الأعيان بخلاف الاستعدادي فإنه كيفية حاصلة للشيء مهيئة إياه لإفاضة الفاعل وجود الحادث فيه كالصورة والعرض أو معه كالنفس مختلفة بالقرب والبعد والشدة والضعف بحسب حدوث شرط شرط وارتفاع مانع مانع مسماة بالقوة عند عدم الحادث زائلة عند وجوده ككون الجسم في أوساط الحيز عند الوصول إلى نهايته وهل ذلك الزوال بواجب فيه تردد قال فإن قيل اعلم أن للفلاسفة في التقصي عن هذاالإشكال وجهين أحدهما أن المراد الإمكان الذاتي ومعنى كون إمكان الحادث قبل وجوده وجوديا تعلقه بموضوع موجود في الخارج وتقريره أن الإمكان لا محالة يكون بالقياس إلى وجود والوجود إما بالذات كوجود البياض في نفسه وإما بالعرض كوجود الجسم أبيض أما الإمكان بالقياس إلى وجود بالعرض وهو إمكان أن يوجد شيء شيئا آخر أو يوجد له شيء آخر كالبياض للجسم والصورة للمادة
____________________
(1/132)
والنفس للبدن ولا خفاء في احتياجه إلى وجود شيء حتى يوجد له شيء آخر وأما الإمكان بالقياس إلى وجود بالذات وهو إمكان وجود الشيء في نفسه فذلك الشيء إن كان مما يتعلق وجوده بالغير أي يكون بحيث إذا وجد كان موجودا في غيره كالعرض والصورة أو مع غيره كالنفس فهو كالأول في الاحتياج إلى موضوع يقوم به إمكان ذلك الشيء قبل وجوده بمعنى كون ذلك الشيء في ذلك الموضوع أو معه بالقوة فهو صفة للموضوع من حيث هو فيه كعرض في موضوع وصفة للشيء من حيث هو بالقياس إليه كإضافة المضاف إليه وإن لم يكن ذلك الشيء مما يتعلق وجوده بالغير بل يكون قائما بنفسه من غير تعلق بموضوع أو مادة فمثله لا يجوز أن يكون حادثا وإلا لكان إمكانه قبل حدوثه قائما بنفسه إذ لا علاقة له بشيء من الموضوعات ليقوم به وهو محال لأنه عرض لا جوهر وضعف هذا الوجه ظاهر لأن الإشكال عائد ولأنه لو ثبت أن إمكان الحادث عرض يستدعي محلا أو استدل على ذلك استدلالا فاسدا بأنه لو لم يكن إمكان الحادث أمرا موجودا لم يكن للحادث إمكان وجود فلم يكن ممكن الوجود على ما في الشفاء لم يحتج إلى ما ذكر من التفاصيل وثانيهما أن المراد الإمكان الاستعدادي والدليل قائم على ثبوته لكل حادث وتقريره أن العلة التامة للحادث لا يجوز أن تكون ذات القديم وحده أو مع شرط قديم وإلا لزم قدم الحادث لأن المعلول دائم بدوام علته التامة بالضرورة لما في التخلف من الترجح بلا مرجح بل لا بد من شرط حادث وحدوثه يتوقف على شرط آخر حادث وهكذا إلى غير النهاية ويمتنع توقف الحادث على تلك الحوادث جملة لامتناع التسلسل ولأن مجموعها بحدوثه يفتقر إلى شرط آخر حادث فيكون داخلا خارجا وهو محال بل لا بد من حوادث متعاقبة يكون كل سابق منها معدا للاحق من غير اجتماع في الوجود كالحركات والأوضاع الفلكية ويحصل بحسبها للحادث حالات مقربة إلى الفيضان عن العلة هي استعداداته المتفاوتة في القرب والبعد المفتقرة إلى محل ليس هو نفس الحادث ولا أمرا منفصلا عنه لما تقدم بل متعلقا به هو المعنى بالمادة وهذا أيضا ضعيف لابتنائه على كون الصانع القديم موجبا بالذات إذ الفاعل بالاختيار يوجد الحادث متى تعلق به إرادته القديمة التي من شأنها الترجيح والتخصيص من غير توقف على شرط حادث قال وأما المدة احتجوا على كون الحادث مسبوقا بالزمان بوجهين أحدهما أنه لا بد له من سبق حوادث متعاقبة بمعنى حصول هذا بعد حصول ذاك بحيث لا يجتمع المتقدم والمتأخر وما ذاك إلا بالزمان وثانيهما أنه لا معنى للحادث إلا ما يكون وجوده مسبوقا بالعدم وظاهر أن سبق عدم الشيء على وجوده لا يعقل إلا بالزمان وهذا التقرير لا يبتني على أن التقدم أمر وجودي وأنه هو الزمان حتى يرد الاعتراض بأنا لا نسلم أنه وجودي بل اعتباري يعرض للعدم أيضا والحاكم
____________________
(1/133)
بثبوته الوهم وحكمه مردود كما في تحيز الباري حيث يحكم به الوهم بناء على أن ما يشاهد من الموجودات متحيزة وإنما يبتني على صحة الحكم بأن هذا متقدم على ذاك كقدم الحادث على وجوده ولا خفاء في أنه حكم عقلي ضروري والزمان معروض التقدم لا نفسه والجواب أن مبنى الأول على افتقار كل حادث إلى سبق حوادث متعاقبة وقد مر ما فيه ومبنى الثاني على ما ذهب إليه الفلاسفة من أن أقسام التقدم والتأخر والمعية منحصرة بحكم الاستقراء في خمسة بمعنى أن كلا منها يكون إما بالعلية كتقدم حركة اليد على حركة المفتاح وإما بالطبع كتقدم الجزء على الكل وإما بالزمان كتقدم الأب على الابن وإما بالشرف كتقدم المعلم على المتعلم وإما بالرتبة وهي قد تكون حسية بأن يكون الحكم بالترتيب وتقدم البعض على البعض مأخوذا من الحس لكونه في الأمور المحسوسة وقد تكون عقلية بأن يكون ذلك بحكم العقل لكونه في الأمور المعقولة وكل منهما قد يكون بحسب الطبع وقد يكون بحسب الوضع وذلك كتقدم الرأس على الرقبة وتقدم الإمام على المأموم وتقدم الجنس على النوع وتقدم بعض مسائل العلم على البعض ومعلوم أن تقدم عدم الحادث على وجوده ليس إلا بالزمان والمتكلمون منعوا الحصر وتمام الاستقراء ونقضوه بتقدم بعض أجزاء الزمان على البعض كتقدم الأمس على اليوم فإنه كما ليس بالعلية والطبع والرتبة والشرف ليس بالزمان لأن كلا من الأمس واليوم زمان لا أمر يقع في الزمان وما يقال في بيان الحصر من أن المتقدم والمتأخر إن لم يجتمعا في الوجود فهو بالزمان وإن اجتمعا فإن كان بينهما ترتيب بحسب الاعتبار فهو بالرتبة وإلا فإن لم يحتج المتأخر إلى المتقدم فبالشرف وإن احتاج فإن كان المتقدم مؤثرا في المتأخر فبالعلية وإلا فبالطبع أو أن المتقدم إن توقف وجود المتأخر عليه فبالعلية أو بالطبع كما ذكرنا وإن لم يتوقف فالتقدم إن كان بالنظر إلى كمال للمتقدم فبالشرف وإلا فإن كان بالنظر إلى مبدأ محدود فبالرتبة وإلا فبالزمان أو أن التقدم إما حقيقي يكون بحسب الأمر نفسه فلا يتبدل باعتبار المعتبر وإما اعتباري يقابله والأول إن كان بالنظر إلى الذات فبالطبع وإن كان بالنظر إلى الوجود فإن كان وجود المتأخر مشروطا بانقضاء وجود المتقدم فبالزمان وإلا فبالعلية والثاني يفتقر لا محالة إلى مبدأية الاعتبار فإن كان كمالا في المتقدم فبالشرف وإلا فبالرتبة فلا خفاء في أنه ليس إلا وجه ضبط مع أن التقدم بالطبع قد يكون بالنظر إلى الوجود كما في الشرط وأن التقدم بالزمان قد يكون للعدم دون الوجود وبعد تمام الوجود فالزماني بالمعنى الذي ذكر فيها شامل للتقدم الذي بين أجزاء الزمان والذي بين الأب والابن بواسطة الزمان فيكون من التقدم بغيرالعلية والطبع والرتبة والشرف تقدم لا يفتقر إلى زمان يقع فيه المتقدم والمتأخر فيجوز أن يكون تقدم عدم الحادث على
____________________
(1/134)
وجوده من هذا القبيل فلا يثبت كون كل حادث مسبوقا بالزمان ولا يضرنا في استغنائه عن الزمان تسمية مثل هذا التقدم زمانيا على ما قال بعضهم أن التقدم الزماني على وجهين أحدهما أن يكون المتقدم حاصلا في زمان قبل زمان المتأخر كما بين الأب والابن وثانيهما أن يكون تحقق المتقدم قبل تحقق المتأخر من غير أن يكونا في زمان كما بين الأمس واليوم وقال بعضهم أن التقدم الزماني بالحقيقة هو الذي بين أجزاء الزمامان وإنما يعرض الغير بواسطته إذ لا معنى لتقدم الأب على الابن إلا تقدم زمانه على زمانه حتى لو أريد بالتقدم الحقيقي ما يستغنى عن الواسطة لم يتناول هذا القسم وحصر بعضهم التقدم في الذي بالعلية والذي بالطبع ذاهبا إلى أن التقدم بالرتبة والتقدم بالشرف راجعان إلى الزمان لأن معنى تقدم مكان على آخر أن زمان الوصول إليه قبل زمان الوصول إلى الآخر ومعنى تقدم الجنس على النوع أن زمان الأخذ والشروع في ملاحظته قبل زمان الأخذ في النوع ومعنى تقدم المعلم على المتعلم أن فيه صفة توجب تقدمه في المجلس أو في الشروع في الأمور فيعود إلى الزماني بوسط أو لا بوسط وأن التقدم الزماني راجع إلى التقدم بالطبع لأن السابق من الأجزاء المفروضة للزمان معد لوجود اللاحق وشرطا له كالحركة فالتقدم الحقيقي هو الذي بالعلية أو بالطبع والمعنى المشترك بينهما كون المتأخر محتاجا في تحققه إلى المتقدم من غير احتياج للمتقدم إليه إلا ان المتقدم في الذي بالعلية هو المفيد لوجود المتأخر ولا كذلك في الذي بالطبع والمعتبر هو العلة التامة أم الفاعلية فيه تردد فعلى الأول يكون المتقدم والمتأخر بالعلية متلازمين وجودا وعدما وعلى الثاني قد توجد ذات المتقدم بدون ذات المتأخر بأن ينتفي بعض شروط التأثر والمتقدم بالطبع لا يستلزم المتأخر وجودا بل عدما والمتأخر يستلزمه وجودا لا عدما وأما بالنظر إلى وصفي التقدم والتأخر فبين كل متقدم ومتأخر تلازم وجودا وعدما لكونها متضايفين لكن إذا اعتبرا من قسم واحد فإن تضايف المتقدم بالطبع مثلا إنما هو مع المتأخر بالطبع لا بالعلية أو الزمان أو الرتبة أو الشرف وعلى هذا قياس سائر الأقسام والمعنى المشترك بين التقدم بالعلية والتقدم بالطبع قد يقال له التقدم بالذات وقد يقال له التقدم بالطبع ويخص ما بالعلية باسم الذاتي وقد يسمى القدم بالطبع تقدما بالذات بمعنى أن المتقدم مقوم محتاج إليه باعتبار الذات والحقيقة دون مجرد الوجود كما في العلية فإن ذات الاثنين لا يتم ولا يعقل بدون الواحد ولا خفاء في أن هذا إنما هو في الجزء دون الشرط فالحكم ليس بكلي على ما يشعر به ظاهر عبارة المواقف قال ومن ههنا ترددوا قد اختلفت العبارات في أن مقولية التقدم والتأخر والمعية على الأقسام الخمسة أو الستة بحسب الاشتراك اللفظي بأن يكون موضوعا لكل على حدة أو بحسب التشكيك بأن يكون موضوعا بمعنى
____________________
(1/135)
مشترك بين الكل لا على السواء لكونه في التقدم بالعلية أقدم وفي التقدم بالطبع أولى حيث يكون بالنظر إلى الذات وفي التقدم بالرتبة الحسية أشد منه في العقلية وكائن هذا مبني على أن الكل عائد إلى التقدم بالعلية وبالطبع وبالزمان أو إلى الأولين فقط واللفظ موضوع بإزاء معنى مشترك هو كون الشيء محتاجا إليه وإلا فليس للفظ مفهوم مشترك بين الكل لا يقال الكل مشترك في معنى واحد وهو أن للمتقدم أمرا زائدا لا يوجد للمتأخر كالتأثير في الذي بالعلية وكونه مقوما أو شرطا في الذي بالطبع وكونه مضى له زمان أكثر في الذي بالزمان وزيادة الكمال في الذي بالشرف وقرب الوصول إليه من مبدأ معين في الذي بالرتبة لأنا نقول ليس هذا مفهوم لفظ التقدم ولا لصدق على كل شيء ينسب إلى آخر ضرورة أنه يشتمل على أمر لا يوجد في الآخر وإن أريد اشتماله على أمر زائد هو أحد الأمور المذكورة فمثله يتأتى في كل مشترك لفظي بأن يقال لفظ العين مثلا موضوع بإزاء معنى مشترك بين الكل هو مفهوم أحد المعاني قال المنهج الرابع في الوحدة والكثرة والحق أنهما من الاعتبارات العقلية التي لا وجود لها في الأعيان بمثل ما سبق في الوجوب والإمكان وأن تصورهما بديهي لحصوله لمن لم يمارس طرق الاكتساب فلا يعرفان إلا لفظا كما يقال الوحدة عدم الانقسام والكثرة هي الانقسام وقد يقال الوحدة عدم الانقسام إلى أمور متشابهة والكثرة هو الانقسام إليها ولا خفاء في انتفاضهما طردا وعكسا بالمجتمع من الأمور المتخالفة وأما ما يقال أن الوحدة عدم الكثرة والكثرة هي المجتمع من الوحدات فمبناه على أن الوحدة أعرف عند العقل والكثرة عند الخيال لما أن الوحدة مبدأ الكثرة والعقل إنما يعرف المبدأ قبل ذي المبدأ والكثرة ترتسم صورها في الخيال فينتزع العقل منها أمرا واحدا فيكون تفسير الوحدة بالكثرة عند الخيال وتفسير الكثرة بالوحدة عند العقل تفسيرا بالأعرف لا بالمساوي في المعرفة والجهالة ( قال والقطع ) لما كانت الوحدة مساوقة للوجود بمعنى أن كل ما له وحدة فله وجود ما وكل ما له وجود فله وحدة بوجه ما توهم بعضهم أن الوحدة هي الوجود وهو باطل لأن الكثير من حيث هو كثير موجود وليس بواحد فحاول التنبيه على أن كلا من الوحدة والكثرة مغاير لكل من الوجود والماهية وذلك بوجهين أحدهما لنا أن نتعقل ماهية الشيء ووجوده من غير أن نتعقل وحدته أو كثرته بل مع التردد فيه كما نقطع بوجود الصانع ثم نثبت بالبرهان وحدته ونقطع بوجود الفلك وماهيته ثم نثبت كثرته وثانيهما أنا إذا جمعنا مياه أوان كثيرة في إناء واحد حتى صار ماء واحدا أو فرقنا ماء إناء واحد في أوان كثيرة حتى صارت مياها كثيرة فقد زالت الوحدة والكثرة مع أن الوجود والماهية بحالهما من غير زوال وتبدل قطعا فلو كانت الوحدة أو الكثرة نفس الوجود أو الماهية لما كان كذلك ( قال وقد يستدل ) نقل خلاف بين الفلاسفة والمتكلمين في أن الوحدة والكثرة وجوديتان أو عدميتان وتمسكات من الطرفين يشعر بعضها
____________________
(1/136)
بأن المراد بالوجودي الموجود وبالعدمي المعدوم وبعضها بأن المراد بالعدمي ما يدخل في مفهومه العدم وبالوجودي مالا يدخل فمن تمسكات الفلاسفة أن الوحدة جزء هذا الواحد الموجود وأنها نقيض اللاوحدة العدمية لصدقها على الممتنع وأنها لو لم تكن موجودة لما كان شيء ما واحدا لعدم الفرق بين قولنا وحدته لا وقولنا لا وحدة له والكل ظاهر الفساد ومنها ما أورده الإمام من أن الوحدة لو كانت عدمية لكانت عدم الكثرة لأنها المقابل لها والكثرة إما أن يكون أمرا عدميا ويلزم منه كون الوحدة وجودية لكونها عبارة عن عدم العدم هذا خلف وإما أن يكون أمرا وجوديا وهي عبارة عن مجموع الوحدات فيلزم كون مجموع العدمات أمرا وجوديا وهو محال أو نقول والوحدة جزء منها فتكون وجودية هذا خلف ولما بطل كون الوحدة عدمية ثبت كونها وجودية ولزم منه كون الكثرة وجودية لكونها عبارة عن مجموع الوحدات ورد بأن سلب العدمي قد يكون عدميا كالامتناع واللاامتناع ومن تمسكات المتكلمين أن الوحدة لو كانت موجودة لكانت واحدة لكون الوجود مساوقا للوحدة ولكانت الوحدات مشاركة في الوحدة ومتمايزة بالخصوصيات لتكون للوحدة وحدة ويتسلسل والجواب بأنه ينقطع بانقطاع الاعتبار أو بأن وحدة الوحدة عينها اعتراف بأنها من الاعتبارات العقلية التي لا تحقق لها في الأعيان لما مر في الوجوب وإلا لكان ومنها أنه لا يعقل من الوحدة إلا عدم الانقسام ومن الكثرة إلا التألف من الوحدات ورد بأن هذا عين الدعوى قال معروض الوحدة قد سبق أن الوحدة قد تعرض لنفس الوحدة كما يقال وحدة واحدة ووحدات كثيرة ولغيرها فهذا بيان لأقسامها باعتبار المعروض تنبيها على بعض الاصطلاحات وعلى اختلاف معناها بحسب الأفراد فموضوع الوحدة إما أن يكون معروضا للكثرة بأن يصدق على كثيرين أو لا فإن لم يكن فإما أن يكون له مفهوم سوى عدم الانقسام أو لا فإن لم يمكن له مفهوم سوى عدم الانقسام كما في قولنا وحدة واحدة فهو الوحدة على الإطلاق وإن كان له مفهوم سوى ذلك فإما أن يكون ذلك المفهوم قابلا للانقسام أو لا فإن لم يكن فإما أن يكون بحيث يمكن أن يشار إليه إشارة حسية أو لا فالأول النقطة والثاني المفارق وإن كان قابلا للقسمة فقبوله القسمة إما بالذات وهو الكم أو بالعرض وهو الجسم فإن كان بسيطا متشابه الأقسام فهو الواحد بالاتصال وإن كان مركبا مختلف الأقسام فهو الواحد بالاجتماع والكم أيضا من قبيل الواحد بالاتصال وقد يقال الواحد بالاتصال بمقدارين يلتقيان عند حد مشترك كضلعي الزاوية وكجسمين يتلازم طرفاهما بحيث يتحرك أحدهما بحركة الآخر سواء كان الالتئام طبيعيا كاللحم مع العظم أو لا كأجزاء السلسلة قال الإمام الأجسام المتشابهة إن اعتبر حالها قبل حصول الانقسام فهو الواحد بالاتصال لأن صورته وهيولاه واحدة وإن أمكن أن يعرض فيه أجزاء تتلاقى عند حد
____________________
(1/137)
مشترك وإن اعتبر حالها عند حصول القسمة فإنه لا بد أن تكون تلك الأجزاء من شأنها أن تتحد موضوعاتها بالفعل لا كأشخاص الناس فإنه ليس من شأنها الاتحاد فهذا القسم مع أنه واحد بالنوع واحد بالموضوع يعني أن المياه المتكثرة بالشخص واحدة بالنوع لكونها متماثلة متفقة الحقيقة وبالموضوع أيضا أعني المادة التي هي محل للصور والأعراض لأنها وإن تعددت موادها بالشخص لكن تعود عند الاجتماع في إناء واحدة مادة واحدة وذلك عند من يقول بالمادة وإلا فالجواهر الفردة لا تصير واحدة قط ثم الواحد بالاجتماع قد تكون وحدته بحسب الطبيعة كالشجر الواحد وقد تكون بحسب الصناعة كالبيت الواحد وقد تكون بحسب الوضع والاصطلاح كالدرهم الواحد فإنه عبارة عن مقدار مخصوص من الموزونات مجتمع من ستة أسداس يسمونها درهما واحدا سواء كانت متصلة أو منفصلة والخمسة منها لا تسمى واحدا وإن كانت متصلة ولا فرق في ذلك بين أن يكون من الأجسام المتشابهة الأجزاء أو غيرها إلا أن ما ذكرنا من الأقسام الثلثة إنما يجري في المركبات فلذا خص بالواحد بالاجتماع وفي عبارة الإمام هي أقسام للواحد التام وهو الذي يشتمل على جميع ما يمكن له كخط الدائرة بخلاف الخط المستقيم فإن الزيادة عليه ممكن أبدا والمراد جميع ما يمكن له من الكثرة والأجزاء لا من الأوصاف والكمالات على ما قد يتوهم وما لا يكون تاما في عبارة بعض المتأخرين من الفلاسفة مسمى بالناقص وفي الطوالع بغير التام وفي كتب الإمام بالكثير هذا إذا لم يكن معروض الوحدة معروضا للكثرة وإن كان فلا بد فيه من جهة وحدة وجهه كثرة لامتناع أن يكون الشيء الواحد باعتبار واحد واحدا وكثيرا فجهة الوحدة إما أن تكون مقوما للكثيرين بمعنى كونه ذاتيا غير عرضي وإما أن يكون عارضا وإما أن لا يكون هذا ولا ذاك بأن يكون خارجا غير محمول فالأول إما أن يكون نفس ماهيتها وهو الواحد بالنوع كوحدة زيد وعمرو في الإنسانية أو جزأ مقولا في جواب ما هو على الكثرة المختلفة الحقيقة وهو الواحد بالجنس كوحدة الإنسان والفرس في الحيوانية أو في جواب أي شيء هو في جوهره وهو الواحد بالفصل وإنما تغاير الواحد بالنوع بحسب الاعتبار دون الذات والثاني إما أن تكون الكثرة موضوعات لمحمول واحد كالقطن والثلج للبياض أو محمولات لموضوع كالكاتب والضاحك للإنسان والثالث كوحدة نسبة النفس إلى البدن ونسبة الملك إلى المدينة في التدبير الذي ليس عارضا للنسبتين بل للنفس والملك ولا خفاء في أن التدبير محمول على النسبتين وإن قلنا النفس كالملك في التدبير فالتدبير محمول عارض لهما فهو كالبياض للقطن والثلج وبالجملة جهة الوحدة هو ما به اشتراك وهو لا يكون إلا بحيث يحمل بالمواطأة أو الاشتقاق قال وبعض هذه الأقسام أولى بالوحدة يعني أن الواحد مقول بالتشكيك دون الاشتراك أو التواطئ لكونه مفهوما واحدا متفاوتا بالأولوية
____________________
(1/138)
فإن الواحد بالشخص أولى بالوحدة من الواحد بالنوع وهو من الواحد بالجنس وهو من الواحد بالعرض وفي الواحد بالشخص مالا ينقسم أصلا أولى بالوحدة مما ينقسم إلى أجزاء متشابهة وهو مما ينقسم إلى أجزاء متخالفة ولم يقل أحد بالتفاوت في الأشدية والأقدمية لكونه غير معقول قال وكذا الكثرة يشير إلى أحكام منها أن الكثرة مقول بالتشكيك لكونها في كل عدد أشد منها فيما دونه ومنها أن أول مراتب العدد الإثنينية بمعنى أن الاثنين عدد والواحد ليس بعدد لصدق الحد وهو الكم المنفصل عليهما دونه وما قيل أن الفرد الأول أعني الواحد ليس بعدد فكذا الزوج الأول ليس بشيء ومنها أن الأعداد أنواع مختلفة لاختلاف لوازمها من الزوجية والفردية والأصمية والمنطقية ومنها أنها متألفة من الآحاد فأجزاء العشرة واحد عشر مرات لا خمسة وخمسة أو ستة وأربعة أو سبعة وثلاثة إذ لا رجحان لشيء من ذلك بخلاف الواحد فإنه يترجح بأنه لا أقل منه وأن الاثنين إنما يتألف منه ولأن مجرد زيادة الواحد يوجب حصول نوع آخر من العدد ومنها أنها غير متناهية لأن كل عدد فرض فإنه يمكن زيادة الواحد عليه ومنها أنها أمور اعتبارية متحصلة في العقل دون الخارج لأنا إذا اعتبرنا انضمام واحد في المشرق إلى واحد في المغرب حكم العقل بحصول الإثنينية لهما من غير أن يحصل لهما أمر بحسب الخارج ولأن أجزاءها أمور اعتبارية هي الوحدات ولأنها لو تحققت في الخارج فإذا قلنا لزيد وعمرو مثلا هما اثنان فقيام الإثنينية إما بأحدهما أو بكل منهما وهو ظاهر الاستحالة أو بمجموعهما فيلزم في كل منهما شيء منها وليس سوى الوحدة الاعتبارية ( قال المبحث الثالث يمتنع اتحاد الإثنين ) بأن يكون هناك شيئان فيصير شيئا واحدا لا بطريق الوحدة الاتصالية كما إذا جمع الماآن في إناء واحد أو الاجتماعية كما إذا امتزج الماء والتراب فصار طينا أو الكون والفساد كالماء والهواء صارا بالغليان هواء واحدا أو الاستحالة كلون الجسم كان سواد وبياضا فصار سوادا بل بأن يصير أحدهما الآخر الصائر بعينه إياه وذلك لوجهين
الأول أن الاثنين سواء كانا ماهيتين أو فردين منهما أو من ماهية واحدة فالاختلاف بينهما ذاتي لا يعقل زواله إذ لكل شيء خصوصية ما هو بها هو فمتى زالت الخصوصية لم يبق ذلك لشيء واعترض بأنه إن كان استدلالا فنفس المتنازع وإن كان تنبيها فليس أوضح من الدعوى إذ ربما يقع الاشتباه في كون الاختلاف ذاتيا ممتنع الزوال دون اتحاد الاثنين
الثاني أن الاثنين بعد الاتحاد إن كانا باقيين فهما اثنان لا واحد وإلا فإن بقي أحدهما فقط كان هذا فناء لأحدهما وبقاء للآخر وإن لم يبق شيء منهما كان هذا فناء لهما وحدوث أمر ثالث وأيا ما كان فلا اتحاد واعترض بأنا لانم أنهما لو بقيا كانا اثنين لا واحدا وإنما يلزم ذلك لو لم يتحدا فعدل إلى تقرير آخر وهو أنهما بعد الاتحاد إن
____________________
(1/139)
كانا موجودين كانا اثنين لا محالة وإلا فإما أن يكون أحدهما فقط موجودا أو لا يكون شيء منهما موجودا فكان هذا فناء لأحدهما وبقاء للآخر أو فناء لهما وحدوث ثالث فاعترض بأنا لانم أنهما لو كانا موجودين كانا اثنين لا واحدا وإنما يلزم لو لم يكونا موجودين لوجود واحد فدفع هذا الاعتراض بأنهما لو كانا موجودين فإما بوجودين فيكونان اثنين لا واحدا وإما بوجود واحد فذلك إما أحد الوجودين الأولين فيكون فناء لأحدهما وبقاء للآخر أو غيرهما فيكون فناء لهما وحدوث ثالث فأجيب عن هذا الدفع بأنهما موجودان بوجود واحد هو نفس الوجودين الأولين صارا واحدا فلم يمكن التفصي عن هذا المنع إلا بأن الحكم بامتناع اتحاد الاثنين ضروري والمذكور في معرض الاستدلال تنبيه بزيادة بيان وتفصيل وأنت خبير بحال دعوى الضرورة في محل النزاع وبأن امتناع اتحاد الوجودين ليس بأوضح من امتناع اتحاد الاثنين على الإطلاق قال المبحث الرابع من خواص الكثرة التغاير فإنه لا يتصور إلا بين متعدد وإنما الخلاف في عكسه وهو أن التعدد هل يستلزم التغاير فعند المتقدمين من أهل السنة لا ولذا قالوا الغيران موجودان جاز انفكاكهما فخرج المعدومان وكذا المعدوم والموجود ومبناه على أن التغاير عندهم وجودي كالاختلاف والتضاد فلا يتصف به المعدوم وأما التعليل بأنه لا تمايز بين الأعدام فيخص المعدومين وخرج الجزء مع الكل وكذا الموصوف مع الصفة لامتناع الانفكاك ودخل الجسمان وإن فرضنا كونهما قديمين لأنهما ينفكان بأن يوجد هذا في حيز لا يوجد فيه الآخر وكذا الصفة المفارقة مع موصوفها سواء كان قديما أو حادثا لأنهما ينفكان بأن يوجد الموصوف وتنعدم الصفة فجواز الانفكاك أعم من أن يكون بحسب التحيز أو بحسب الوجود والعدم فلا حاجة إلى التقييد بقولنا في حيز أو عدم على ما ذكره الشيخ وهذا التقرير مشعر بأنه يكفي في التغاير الانفكاك من جانب وأن الصفة التي ليست عين الموصوف ولا غيرها هي الصفة اللازمة النفسية وقيل بل الصفة القديمة كعلم الصانع وقدرته بخلاف مثل سواد الجسم وبياضه إلا أن عمدتم الوثقى في التمسك وهو أن قولنا ليس في الدار أعضاء زيد وصفاته وفي اليد آحاد العشرة واوصاف الدراهم لا يفرق بين الصفات المفارقة واللازمة ويقتضي أن لا يكون ثياب زيد بل سائر ما في الدار من الأمتعة غير زيد وفساده بين وكيف يخفى على أحد أن المراد بهذا الكلام نفي إنسان آخر غير زيد وعدد آخر فوق العشرة واعترض على تعريف المتغايرين بأنه ليس بجامع لأن العالم والصانع متغايران ولا يجوز انفكاكهما لامتناع وجود العالم بدون الصانع وأجاب الآمدي بأنه يكفي الانفكاك من جانب واحد وقد أمكن عدم العالم مع وجود الصانع ورد بأنه ح لا يكون مانعا لأنه يدخل فيه الجزء مع الكل والموصوف مع الصفة
____________________
(1/140)
إذ يمكن وجود الجزء والموصوف مع عدم الكل والصفة وإن امتنع عكسه وأجاب بعضهم بأن المراد جواز الانفكاك من الجانبين لكن بحسب التعقل دون الخارج وكما يمكن أن يعقل وجود الصانع دون العالم كذلك يمكن أن يعقل وجود العالم ولا يعقل وجود الصانع بل يطلب بالبرهان وهذه العناية توافق ما نقل عن بعض المعتزلة أن الغيرين هما اللذان يصح أن يعلم أحدهما ويجهل الآخر ولفظ أحدهما لإبهامه كثيرا ما يقع موقع كل واحد منهما وما قيل أن الشيء قد يعلم من جهة دون جهة كالسواد يعلم أنه لون ويجهل أنه مستحيل البقاء فلو تغايرت الجهتان لزم كون العرض الواحد الغير المتجزي شيئين متغايرين ليس بشيء لأن تغاير جهتي الشيء لا يستلزم تغايره في نفسه فإن قيل العالم من حيث أنه معلول ومصنوع للصانع لا يمكن أن يعقل بدونه فيلزم أن لا يكونا متغايرين قلنا المعتبر في التغاير هو الانفكاك بحسب الذات والحقيقة ولا عبرة بالإضافات والاعتبارات والعالم باعتبار كونه معلولا للصانع من قبيل المضاف وقد أورد على القائلين بأن الغيرين موجودان يجوز انفكاكهما أنه لا انفكاك بين المتضايفين لا بحسب الخارج ولا بحسب التعقل فيلزم أن لا يكونا متغايرين فالتزموا ذلك وقالوا أنهما من حيث أنهما متضايفان ليسا بموجودين والغيران لا بد أن يكونا موجودين فإن قيل تغاير مثل الأب والابن والعلة والمعلول وسائر المتضايفات كالأخوين ضروري لا يمكن إنكاره قلنا الضروري هو التغاير بين الذاتين وأما مع وصف الإضافة فليسا بموجودين والتغاير عندهم من خواص الموجود وبمثل هذا يندفع ما يقال أن تعريف الغيرين لا يشمل الجوهر مع العرض ولا الاستطاعة مع الفعل لعدم الانفكاك وذلك لأنهما باعتبار الذات ممكن الانفكاك في التعقل بل في الخارج أيضا بأن يوجد هذا الجوهر بدون هذا العرض وبالعكس سيما عند من يقول بعدم بقاء الأعراض وأن يحصل هذا الفعل بخلق الله تعالى ضرورة من غير استطاعة العبد وأن يحصل بهذه الاستطاعة غير هذا الفعل سيما عند من يقول بأن الاستطاعة تصلح للضدين واعلم أن تقرير الاعتراض بالباري تعالى مع العالم والجواب بأن المراد الانفكاك تعقلا ورد جواب الآمدي ظاهر على ما ذكرناه وأما على ما نقل في المواقف من تقييد جواز الانفكاك بكونه في حيز أو عدم فينبغي أن يكون تقرير الاعتراض هو أنه يمتنع انفكاك الباري تعالى عن العالم في حيز أو عدم لامتناع تحيزه وعدمه وجواب الآمدي أنه وإن امتنع ذلك لكن لا يمتنع انفكاك العالم عنه لجواز تحيزه وعدمه دون الباري تعالى ورده أنه لا يكفي هذا القدر وإلا لزم تغاير الجزء والكل وكذا الموصوف والصفة لجواز أن ينعدم الكل دون الجزء والصفة دون الموصوف ولا يتأتى الجواب بأن المراد جواز الانفكاك تعقلا مالم يحذف قيد في حيز أو عدم لأن الباري تعالى لا ينفك عن العالم في حيز أو عدم بحسب التعقل أيضا لامتناع تحيزه وعدمه اللهم إلا أن يؤخذ التعقل
____________________
(1/141)
أعم من المطابق وغيره وحينئذ يلزم تغاير الذات والصفة لجواز أن يعقل عدم كل بدون الآخر فما ذكر في المواقف من أنه يرد الباري مع العالم لامتناع انفكاك العالم عن الباري تعالى لا يقال يجوز انفكاك الباري عن العالم في الوجود والعالم عن الباري تعالى في الحيز لأنا نقول لو كفى الانفكاك من طرف لجاز انفكاك الموصوف عن الصفة والجزء عن الكل في الوجود فقيل المراد جواز الانفكاك تعقلا ومنهم من صرح به ولا يمتنع تعقل العالم بدون الباري تعالى ليس على ما ينبغي ثم ههنا بحث آخر وهو أن جواز انفكاك الموصوف عن الصفة في الوجود إنما يصح في الأوصاف المفارقة كالبياض مثلا وفي كلامهم ما يشعر بأن النزاع إنما هو في الصفة اللازمة قال والجمهور على أن الغيرية نقيض الهوية هو بمعنى أن الشيء بالنسبة إلى الشيء إن صدق أنه هو هو فعينه وإن لم يصدق فغيره إن كان بحسب المفهوم كما في نسبة الإنسان إلى البشر والناطق فبحسب المفهوم وإن كان بحسب الذات والهوية كما في نسبة الإنسان إلى الكاتب والحجر فبحسب الذات والهوية وما ذهبوا إليه من الجزء بالنسبة إلى الكل والصفة بالنسبة إلى الموصوف ليس عينه ولا غيره ليس بمعقول لكونه ارتفاعا للنقيضين نعم في الغيرية إضافة بها يصير أخص من النقيض بحسب المفهوم لأن الغيرين هما الاثنان من حيث أن أحدهما ليس هو الآخر إلا أنها حيثية لازمة في نفس الأمر ربما يشعر بها مفهوم النقيض أيضا فلذا أطلقوا القول بأن الغيرية نقيض هو هو وبأن الغيرين هما الاثنان أو الشيئان واعتذر الإمام الرازي عما ذكره المتكلمون من أن الشيء بالنسبة إلى الشيء قد يكون لا عينه ولا غيره بأنه اصطلاح على تخصيص لفظ الغيرين بما يجوز انفكاكهما كما خص العرف لفظ الدابة بذوات الأربع وصاحب المواقف بأن معناه أنه لا هو بحسب المفهوم ولا غيره بحسب الهوية كما هو الواجب في الحمل إذ لو كان المحمول غير الموضوع بحسب الهوية لم يصح الحمل ولو كان عينه بحسب المفهوم لم يفد بل لم يصح أيضا لامتناع النسبة بدون الإثنينية فمن قال بالوجود الذهني صرح بأنهما متحدان في الخارج متغايران في الذهن ومن لم يقل به لم يصرح بل قال لا عين ولا غير لأن المعلوم قطعا هو أنه لا بد بينهما من اتحاد من وجه واختلاف من وجه وأما أن ذلك في الخارج وهذا في الذهن فلا وكلا الاعتذارين فاسد أما الأول فلأن منهم من حاول إثبات ذلك بالدليل فقال لو كان الجزء غير الكل لكان غير نفسه لأن العشرة مثلا اسم لجميع الأفراد متناول كل فرد مع أغياره فلو كان الواحد غير العشرة لصار غير نفسه لأنه من العشرة وأن يكون العشرة بدونه وكذا اليد من زيد وبطلان هذا الكلام ظاهر لأن مغايرة الشيء للشيء لا يقتضي مغايرته لكل من أجزائه حتى يلزم مغايرته لنفسه وزعم هذا القائل أن هذا الدليل قطعي وأن القول بكون الواحد غير العشرة فاسد لم يقل به
____________________
(1/142)
إلا جعفر بن حرث من المعتزلة وعد هذا من جهالاته وأما الثاني فلأن الكلام في الأجزاء والصفات الغير المحمولة كالواحد من العشرة واليد من زيد والعلم مع الذات والقدرة مع الذات ونحو ذلك مما لا يتصور اتحادهما بحسب الوجود والهوية ( قال وبعضهم ) قد سبق أنه لا يكفي في التغاير الانفكاك من جانب وإلا انتقض بالجزء مع الكل والموصوف مع الصفة وزعم بعضهم أنه كاف حتى أن عدم تغاير الشيئين إنما يتحقق إذا كان كل منهما بحيث يمتنع بدون الآخر والنقض غير وارد أما الموصوف مع الصفة فلأن عدم التغاير إنما هو في الصفات التي يمتنع الذات بدونها كما تمتنع هي بدون الذات كصفات القديم لامتناع العدم على القديم وكذا الصفات بعضها مع البعض بخلاف مثل البياض مع الجسم فإنهما غيران وأما الجزء مع الكل فلأنه كما يمتنع العشرة بدون الواحد كذلك الواحد من العشرة يمتنع بدونها إذ لو وجد بدونها لم يكن واحدا من العشرة وحاصله أن الجزء بوصف الجزئية يمتنع بدون الكل وحينئذ يرد سائر الأمور الإضافية كالأب مع الابن والأخ مع الأخ والصانع مع المصنوع ويلزم أن لا يكونا غيرين ويلزم أن لا يكون الغيران بل الضدان غيرين لأن التغاير والتضاد من الإضافات فإن التزموا ذلك بناء على أن الإضافة عدمية ولا تمايز بين الأعدام أجيب بأن الكلام في معروض الإضافة من حيث أنه معروض لا في المجموع المركب من المعروض والعارض قال واعلم يريد أن مشايخنا لما قالوا بوجود الصفات القديمة لزمهم القول بتعدد القدماء وبإثبات قديم غير الله تعالى فحاولوا التفصي عن ذلك بنفي المغايرة بين الصفات وكذا بين الصفة والذات والظاهر أن هذا إنما يدفع قدم غير الله تعالى لا تعدد القدماء وتكثرها لأن الذات مع الصفة وكذا الصفات بعضها مع البعض وإن لم تكن متغايرة لكنها متعددة متكثرة قطعا إذ التعدد إنما يقابل الوحدة ولذا صرحوا بأن الصفات سبعة أو ثمانية وبأن الجزء مع الكل اثنان وشيئان وموجودان وإن لم يكونا غيرين ( قال ومنها ) أي ومن خواص الكثرة التماثل وهو الاشتراك في الصفات النفسية ومرادهم بالصفة النفسية صفة ثبوتية يدل الوصف بها على نفس الذات دون معنى زائد عليها ككون الجوهر جوهرا أو ذاتا وشيئا وموجود أو تقابله المعنوية وهي صفة ثبوتية دالة على معنى زائد على الذات ككون الجوهر حادثا ومتحيزا وقابلا للأعراض ومن لوازم الاشتراك في الصفات النفسية أمران
أحدهما الاشتراك فيما يجب ويمتنع ويجوز
وثانيهما أن يسد كل منهما مسد الآخر وينوب منابه فمن ههنا يقال المثلان موجودان يشتركان فيما تجب ويجوز ويمتنع أو موجودان يسد كل منهما مسد الآخر والمتماثلان وإن اشتركا في الصفات النفسية لكن لا بد من اختلافهما بجهة أخرى ليتحقق التعدد والتميز فيصح التماثل ونسب إلى الشيخ أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه واعترض بأنه لا تعدد
____________________
(1/143)
حينئذ فلا تماثل وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا زيد مثل عمرو وفي الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده وإن اختلفا في كثير من الأوصاف ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم الحنطة بالحنطة مثل بمثل وأراد به الاستواء في الكيل دون الوزن وعدد الحبات وأوصافها والجواب أن المراد التساوي في الجهة التي بها التماثل حتى أن زيدا وعمرا لو اشتركا في الفقه وكان بينهما مساواة في ذلك بحيث ينوب أحدهما مناب الآخر صح القول بأنهما مثلان في الفقه وإلا فلا ( قال وأما اشتراط التغاير فمختلف فيه ) قال الآمدي وأما الصفات فقد اختلفت أصحابنا فيها فمنهم من قال ليست متماثلة ولا متخالفة لأن التماثل والاختلاف بين الشيئين يستدعي مغايرة بينهما وصفات الله تعالى غير متغايرة وقال القاضي أبو بكر بالاختلاف نظرا إلى ما اختص به كل صفة من الصفات النفسية من غير التفات إلى وصف الغيرية وهذا ظاهر في أن القاضي لا يشترط في التخالف الغيرية ففي التماثل أولى وقد يتوهم من ظاهر عبارة المواقف أن التغاير شرط في التماثل والاختلاف البتة فمن يصف الصفات به يصفها بهما ومن لا فلا قال ويمتنع اجتماع المثلين يعني أن المثلين إذا كانا من قبيل الأعراض يمتنع اجتماعهما في محل واحد خلافا للمعتزلة لنا أن العرضين إذا اشتركا في الماهية والصفات النفسية لم يعقل بينهما تمايز إلا بحسب المحل لأن قيامهما به ووجودهما تبع لوجوده فإذا اتحدت الماهية وما يتبعه الهوية ارتفعت الإثنينية ورد بالمنع لجواز أن يختص كل بعوارض مستندة إلى أسباب مفارقة وبهذا يمنع ما ذكر في المحصل من أن نسبة العوارض إلى كل منهما على السوية فلا تعرض لأحدهما خاصة بل لكل منهما وحينئذ لا يبقى الامتياز البتة ويلزم الاتحاد وأما الاعتراض بأن عدم الامتياز لا يدل على الاتحاد بل غايته عدم العلم بالإثنينية فليس بشيء لأن ما ذكر على تقدير تمامه يفيد عدم الامتياز في نفس الأمر لا عند العقل فقط وقد يستدل بأنه لو جاز اجتماع المثلين لجاز لمن له علم نظري بشيء أن ينظر لتحصيل العلم به إذ لا مانع سوى امتناع اجتماع المثلين وبأنه لو جاز لما حصل القطع باتحاد شيء من الأعراض لجواز أن يكون أمثالا مجتمعة واللازم باطل للقطع بذلك في كثير من الأعراض وبأنه لو جاز اجتماعهما لجاز افتراقهما بزوال أحد المثلين ضرورة أنه ليس بواجب وزواله ليس إلا بطريان ضده الذي هو ضد للمثل الآخر الباقي فيلزم اجتماع الضدين ورد الأولان بمنع الملازمة لجواز مانع آخر فانتفاء شرط النظر وهو عدم العلم بالمطلوب ولجواز القطع بانتفاء الممكن ضرورة أو استدلالا والثالث بمنع المقدمات تمسكت المعتزلة بالوقوع فإن الجسم يعرض له سواد ثم آخر وآخر إلى أن يبلغ غاية السواد وأجيب بأنا لا نسلم ذلك بل السوادات المتفاوتة بالشدة والضعف أنواع من اللون متخالفة بالحقيقة متشاركة في عارض مقول عليها بالتشكيك هو مطلق السواد
____________________
(1/144)
يعرض للجسم الذي يشتد سواده على التدريج في كل آن نوع آخر ( قال ومنها ) أي من خواص الكثرة التضاد وهو كون المعنيين بحيث يستحيل لذاتيهما اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة والمراد بالمعنى ما يقابل العين أي مالا يكون قيامه بنفسه وذكر الاجتماع مغن عن وحدة الزمان والتقييد بالمعنيين يخرج العينين والعين مع المعنى والعدمين والعدم مع الوجود ولهذا قالوا بعدم التضاد في الأحكام وسائر الإضافات لكونها اعتبارية لا تحقق لها في الأعيان ولا يخرج القديم والحادث إذا كانا معنيين كعلم الله تعالى وعلم زيد بل ظاهر التعريف متناول له إذ لا إشعار فيه باشتراط التوارد على محل واحد وقد يقال أن معنى امتناع الاجتماع أنهما يتواردان على محل ولا يكونان معا ليخرج مثل ذلك لأن محل القديم قديم فلا يتصف بالحادث وبالعكس ولأن القديم لا يزول عن المحل حتى يرد عليه المقابل واحترز بقيد استحالة الاجتماع عن مثل السواد والحلاوة مما يمكن اجتماعهما في محل واحد وبقيد لذاتيهما عن مثل العلم بحركة الشيء وسكونه معا أي العلم بأن هذا الشيء متحرك والعلم بأن هذا ساكن في آن واحد فإنهما لا يجتمعان لكن لا لذاتيهما بل لامتناع اجتماع الحركة والسكون وأما تصور حركة الشيء وسكونه معا فممكن ولذا يصح الحكم باستحالتهما وبقيد من جهة واحدة عن مثل الصغر والكبر والقرب والبعد على الإطلاق فإنهما لا يتضادان وإن امتنع اجتماعهما في الجملة وإنما يتضادان إذا اعتبر إضافتهما إلى معين ككون الشيء صغيرا وكبيرا بالنسبة إلى زيد ولا خفاء في أنه لا حاجة إلى هذا القيد حينئذ لأن مطلق الصغر والكبر لا يمتنع اجتماعهما وعند اتحاد الجهة يمتنع فالأقرب أن القيد احتراز عن خروج مثل ذلك وربما يعترض على تعريف المتضادين بالمتماثلين في سوادين عند من يقول بامتناع اجتماعهما ويجاب بأن اتحاد المحل شرط في التضاد ولا تماثل إلا عند اختلاف المحل ( قال وعند الفلاسفة ) ما سبق من أقسام الكثرة وأحكامها على رأي المتكلمين وأما على رأي الفلاسفة فالكثرة تستلزم التغاير بمعنى أن كل اثنين فهما غيران فإن كانت الإثنينية بالحقيقة فبالحقيقة أو بالعارض فبالعارض أو بالاعتبار فبالاعتبار ثم الغيران إما أن يشتركا في تمام الماهية كزيد وعمرو في الإنسانية أو لا فالأول المثلان والثاني المتخالفان سواء اشتركا في ذاتي أو عرضي أو لم يشتركا أصلا ثم المتخالفان قد يكونان متقابلين كالسواد والبياض وقد لا يتقابلان كالسواد والحلاوة والمتقابلان هما المتخالفان اللذان يمتنع اجتماعهما في محل واحد في زمان واحد من جهة واحدة فخرج بقيد المتخالف المثلان وإن امتنع اجتماعهما وبقيد امتناع الاجتماع في محل مثل السواد والحلاوة مما يمكن اجتماعهما وربما يفهم من امتناع الاجتماع في محل تواردهما على المحل فيخرج مثل الإنسان والفرس ومثل الإنسان والسواد وفيه بحث سيجيء وأما قيد وحدة الزمان فمستدرك على ما مر وكذا قيد وحدة الجهة إذا قصد به الاحتراز
____________________
(1/145)
عن مثل الصغر مع الكبر والأبوة مع البنوة على الإطلاق والحق أنه احتراز عن خروج مثل ذلك فإنهما متقابلان ولا يمتنع اجتماعهما إلا عند اعتبار وحدة الجهة وأما التقييد بوحدة المحل فلأن المتقابلين قد يجتمعان في الوجود وفي الجسم على الإطلاق كبياض الرومي وسواد الحبشي قال فإن كانا وجوديين يريد حصر أقسام التقابل في الأربعة ومبناه على أن المتقابلين يكونان وجوديين أو وجوديا وعدميا فإن كانا وجوديين فإن كان تعقل كل منهما بالقياس إلى تعقل الآخر فمتضايفان كالابوة والبنوة وإلا فمتضادان كالسواد والبياض وإن كان أحدهما عدميا والآخر وجوديا فإن اعتبر في العدمي كون الموضوع قابلا للوجودي بحسب شخصه كعدم اللحية عن الأمرد أو نوعه كعدم اللحية عن المرأة أو جنسه القريب كعدم اللحية عن الفرس أو جنسه البعيد كعدم اللحية عن الشجر فهما متقابلان تقابل الملكة والعدم وإن لم يعتبر ذلك كالسواد واللاسواد فتقابل الإيجاب والسلب إلا أنه لا دليل على امتناع أن يكون المتقابلان عدميين كيف وقد أطبق المتأخرون على أن نقيض العدمي قد يكون عدميا كالامتناع واللاامتناع والعمى واللاعمى بمعنى رفع العمى وسلبه أعم من أن يكون باعتبار الاتصاف بالبصر أو باعتبار عدم القابلية له فما يقال أن اللاعمى إما عبارة عن البصر فيكون وجوديا وإما عن عدم قابلية المحل للبصر فيكون سلبا لأمر وجودي ليس بشيء وإذا جاز أن يكونا عدميين فالأولى أن يبين الحصر بوجه يشملهما كما يقال المتقابلان إن كان أحدهما سلبا للآخر فإن اعتبر في السلب استعداد المحل في الجملة لما أضيف إليه السلب فتقابلهما تقابل الملكة والعدم وإلا فتقابل الإيجاب والسلب وإن لم يكن أحدهما سلبا للآخر فإن كان تعقل كل منهما بالقياس إلى الآخر فتقابلهما التضايف وإلا فالتضاد وقد يستدل على لزوم كون أحد المتقابلين وجوديا بأنه لا تقابل بين العدم المطلق والمضاف ضرورة صدق المطلق على المقيد ولا بين العدمين المضافين لوجهين
أحدهما أنهما يجتمعان في غير ما وقع الإضافة إليه إما بطريق الصدق فلأنه يصدق على الأحمر أنه لا أسود ولا أبيض وإما بطريق الوجود فلأنه قد وجد فيه الحمرة التي هي لا سواد ولا بياض
وثانيهما أن من شرط المتقابلين أن يكونا متواردين على موضوع واحد كما أشرنا إليه وقد صرح به بعض المتأخرين وموضوع العدمين المضافين كاللاسواد واللابياض متعدد ضرورة أنهما لو أضيفا إلى واحد لم يكونا عدمين وبهذا يخرج التفصي عن إشكالين
أحدهما أن مثل الإنسانية مع الفرسية داخل في حد المتقابلين ضرورة امتناع اجتماعهما مع أنه ليس أحد أقسام الأربعة أما غير التضاد فظاهر وأما التضاد فللإطباق على أنه لا تضاد بين الجواهر لامتناع
____________________
(1/146)
ورودها على الموضوع وثانيهما أن الملزوم وعدم اللازم كالسواد واللالون متقابلان ضرورة امتناع اجتماعهما وليسا أحد الأقسام أما السلب والإيجاب فلاجتماعهما على الكذب كما في البياض وأما غيرهما فظاهر ووجه التفصي أن مثل هذا ليس من التقابل لانتفاء التوارد على موضوع واحد وفي هذا الكلام نظر أما أو لا فلأن ما ذكر من اجتماع العدمين إنما يكون إذا لم يعتبر إضافة أحدهما إلى الآخر كما في اللاسواد واللابياض بخلاف مثل العمى واللاعمى والامتناع واللاامتناع وأما ثانيا فلأن الموضوع في التقابل ليس بمعنى المحل المقوم للحال حتى يلزم أن يكون المتقابلان من قبيل الأعراض البتة للقطع بتقابل الإيجاب والسلب في الجواهر مثل الفرسية واللافرسية بل صرح ابن سينا بالتضاد بين الصور اعتبارا بالورود على المحل الذي هو الهيولي وأما ثالثا فلتصريح ابن سينا وغيره بأن موضوع المتقابلين قد يكون واحدا شخصيا كزيد للعدل والجور أو نوعيا كالإنسان للرجولية والمرئية أو جنسيا كالحيوان للذكورة والأنوثة أو أعم من ذلك كالشيء للخير والشر وأما رابعا فلأن الكلام في اللاسواد واللابياض لا في العدم المضاف إلى السواد والعدم المضاف إلى البياض ألا ترى أنك لا تقول باختلاف الموضوع في البياض واللابياض نظرا إلى أن اللابياض عدم مضاف إلى البياض فيكون موضوعه البياض فإن قيل من التقابل ما يجري في القضايا كالتناقض والتضاد فإن قولنا كل حيوان إنسان نقيض لقولنا بعض الحيوان ليس بإنسان وضد لقولنا لا شيء من الحيوان بإنسان مع أنه لا يتصور اعتبار ورود القضايا على محل فالجواب من وجهين
أحدهما أن ذلك بحسب اشتراك الاسم كسائر النسب من العموم والخصوص والمباينة والمساواة فإنها تكون في المفردات باعتبار الصدق أعني صدقها على شيء وفي القضايا باعتبار الوجود أعني صدقها في أنفسها فالمعتبر في التناقض والتضاد بين المفردين امتناع الاجتماع في المحلا وبين القضيتين امتناع لا اجتماع في الوجود
وثانيهما أن يجعل تقابل الإيجاب والسلب أعم مما في المفردات والقضايا ويعتبر موضوع القضية موردا ومحلا لثبوت المحمول له وعدم الثبوت على ما قال المحققون من الحكماء أن المتقابلين بالإيجاب والسلب إن لم يحتمل الصدق والكذب فبسيط كالفرسية واللافرسية وإلا فمركب كقولنا زيد فرس وزيد ليس بفرس فإن إطلاق هذين المعنيين على موضوع واحد في زمان واحد مح وقال ابن سينا أن من التقابل الإيجاب والسلب ومعنى الإيجاب وجود أي معنى كان سواء كان باعتبار وجوده في نفسه أو وجوده لغيره ومعنى السلب لا وجود أي معنى كان سواء كان لا وجوده في ذاته أو لاوجوده في غيره قال وقد يعتبر في التضاد ما مر من تفسير التضاد وتفسير الملكة والعدم هو الذي أورده قدماء الفلاسفة في أوائل المنطق وأما في مباحث الفلسفة فقد اعتبروا في كل منهما قيدا آخر وهو في المتضادين أن يكون بينهما غاية الخلاف
____________________
(1/147)
كالسواد والبياض بخلاف البياض والصفرة وفي الملكة والعدم أن يكون العدم سلب الوجودي عما هو من شأنه في ذلك الوقت كعدم اللحية عن الكوسج بخلافه عن الأمرد وكل من التضاد والملكة والعدم بالمعنى الأول أعم منه بالمعنى الثاني ضرورة أن المطلق أعم من المقيد إلا أن المطلق من التضاد يسمى بالمشهوري لكونه المشهور فيما بين عوام الفلسفة والمقيد بالحقيقي لكونه المعتبر في علومهم الحقيقية والملكة والعدم بالعكس حيث يسمون المطلق بالحقيقي والمقيد بالمشهوري ولما كان تقابل مثل البياض مع الصفرة والسواد مع الحمرة ونحو ذلك مما ليس بينهما غاية الخلاف وكذا الالتحاء والمرودة وتقابل البصر وعدمه عن العقرب أو الشجر قادحا في حصر التقابل في الأقسام الأربعة لكونه خارجا عن التضاد وعن الملكة والعدم بالمعنى الأخص أجاب المتأخرون بأن الحصر إنما هو باعتبار المعنى الأعم أعني المشهوري من التضاد والحقيقي من الملكة والعدم ليدخل أمثال ذلك وفيه نظر أما
أولا فلأن الضدين في التضاد والمشهوري لا يلزم أن يكونا وجوديين بل قد يكون أحدهما عدما للآخر كالسكون للحركة والظلمة للنور والمرض للصحة والعجمة للنطق والأنوثة للذكورة والفردية للزوجية صرح بذلك ابن سينا وغيره فهو لا يكون قسيما لتقابل الملكة والعدم وتقابل الإيجاب والسلب بل وفي كلامهم أنه اسم يقع التضاد الحقيقي وعلى بعض أقسام الملكة والعدم أعني ما يمكن فيه انتقال الموضوع من العدم إلى الملكة كالسكون والحركة بخلاف العمى والبصر والحق أنه أعم من ذلك إذ لا يمكن الانتقال في النطق والعجمة وفي الذكورة والأنوثة وفي الزوجية والفردية على أن تقابل الزوجية والفردية عند التحقيق راجع إلى الإيجاب والسلب فإن الزوج عدد ينقسم بمتساويين والفرد عدد لا ينقسم بمتساويين فالأول اسم للموضوع أعني العدد مع الإيجاب والثاني اسم له مع السلب كذا ذكره ابن سينا
وأما ثانيا فلأنه صرح ابن سينا وغيره بأن غاية الخلاف شرط في التضاد المشهوري أيضا وحينئذ يكون تقابل مثل البياض والحمرة خارجا عن الأقسام ( قال ومن حكم التقابل ) جواب عن اعتراض تقريره أن التضايف أعم من أن يكون تقابلا أو تماثلا أو تضادا أو غير ذلك مما يدخل تحت المضاف فكيف يجعل قسما من التقابل أخص منه مطلقا وقسيما للتضاد منافيا له وتقرير الجواب أن التضايف أعم من مفهوم التقابل العارض لأقسامه ومفهوم التضاد العارض بمثل السواد والبياض ضرورة أنه لا يعقل المقابل أو المضاد إلا بالقياس إلى مقابل أو مضاد آخر وهذا لا ينافي كون معروض التقابل أعم منه بمعنى أن ما يصدق عليه التقابل قد يكونان متضايفين وقد لا يكونان ومعروض التضاد مباينا له كالسواد والبياض فإنه لا تضايف بينهما قال وإن مقوليته يريد أن من حكم التقابل أنه ليس جنسا لأقسامه إذ لا يتوقف تعقلها على تعقله وهذا ظاهر في التضايف كما أن التوقف ظ في التضاد وأما في الباقيين فتردد وبالجملة فمقوليته على الكل بالتشكيك
____________________
(1/148)
لكونه في الإيجاب والسلب أشد لأن امتناع الاجتماع فيهما ظاهر وبحسب الذات وفي البواقي لاشتمالها على ذلك وأوضح ذلك بأن الخير فيه عقدان عقد أنه خير وهو ذاتي وقد أنه ليس بشر وهو عرضي وكونه ليس بخير ينفي الذاتي وكونه شرا ينفي العرضي ولا خفاء في أن النافي للذاتي أقوى وفي التجريد ما يشعر بأنه في التضاد أشد لأنه قال وأشدها فيه الثالث أي اشد أنواع التقابل في التقابل هو التضاد ووجه بأن التضاد مشروط بغاية الخلاف وهي غاية في امتناع الاجتماع ورد بأنه لا يتصور غاية خلاف فوق التنافي الذاتي بأن يكون أحدهما صريح سلب الآخر بخلاف الضدين فإن أحدهما إنما يستلزم سلب الآخر وقيل معنى كلامه أن أشد الأنواع في التشكيك هو التضاد لأن قبول القوة والضعف في أصنافه من الحركة والسكون والحرارة والبرودة والسواد والبياض وغير ذلك في غاية الظهور بخلاف البواقي قال ومن حكم الإيجاب والسلب أن مرجعهما إلى القول والعقد أي الوجود اللفظي والذهني دون العيني بمعنى أن السلوب اعتبارات عقلية لها عبارات لفظية لا ذوات حقيقية وإلا لكان للإنسان مثلا معان غير متناهية لأنه ليس بفرس ولا ثور ولا ثعلب ولا أشياء غير متناهية كذا ذكره ابن سينا وبه يظهر أن ليس معناه ما فهمه بعضهم أنه ليس في الخارج شيء هو إيجاب أو سلب كيف ولا يعنون بالإيجاب إلا مثل السواد بالسنبة إلى اللاسواد وهو موجود في الخارج قال وإنهما أي ومن حكم الإيجاب والسلب أنهما إذا نقلا إلى الحكم والقضية كان أحدهما صادقا والآخر كاذبا البتة سواء وجد الموضوع أو لم يوجد ضرورة امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما بخلاف سائر الأقسام فإنه يجوز أن يكذب فيه المتقابلان لعدم الموضوع أو لخلوه عنهما إذا حمل الأعمى والبصير أو الأسود والأبيض أو الأب والابن على العنقاء أو على العقل فإن قيل إن أريد بالنقل إلى القضية حمل المتقابلين على موضوع فالإيجاب والسلب أيضا قد يكذبان لعدم الموضوع كما في قولنا العنقاء أسود ولا أسود لاقتضاء المعدولة وجود الموضوع وإن أريد اعتبار التقابل بين القضيتين فهذا لا يتصور في التضايف ولا في الملكة والعدم قلنا المراد الثاني في الإيجاب والسلب والأول في البواقي وقد يقال القضية إنما تكون معدولة مفتقرة إلى وجود الموضوع إذا أريد بالمحمول مفهوم ثبوتي يصدق عليه النقيض عدل في التعبير عنه إلى طريق السلب وأما إذا أريد به نفس مفهوم النقيض فهو موجبة سالبة المحمول مستغنية عن وجود الموضوع لكونها في قوة السالبة فقولنا العنقاء لا أسود إذا أريد باللاأسود نقيض الأسود أعني رفعه فهي صادقة بمنزلة قولنا ليس العنقاء أسود ( قال ومن حكم التضاد ) ظاهر وفيه إشارة إلى أن تعاقب الضدين على الموضوع الواحد ليس بلازم ( قال وإن الحقيقي ) يعني أن من حكم التضاد أن الحقيقي
____________________
(1/149)
منه لا يكون إلا بين نوعين أخيرين من جنس واحد كالسواد والبياض الداخلين تحت اللون ويلزم من هذا الحصر أنه لا يكون بين جنسين كالفضيلة والرذيلة والخير والشر ولا بين نوعين من جنسين كالعفة الداخلة تحت الفضيلة والفجور الداخل تحت الرذيلة إذا فرض كونهما جنسين ولا بين أنواع فوق الاثنين سواء كانت من جنس واحد كالسواد والبياض والحمرة الداخلة تحت اللون أو من جنسين كالشجاعة والتهور والجبن ويلزم من هذا أن لا يكون ضد الواحد إلا واحدا حتى لا يكون السواد ضد هو البياض وآخر هو الحمرة ولا للشجاعة ضد هو التهور وآخر هو الجبن وعولوا في إثبات ذلك على الاستقراء وأما التضاد المشهوري فقد صرحوا بأنه لا ينحصر فيما بين نوعين من جنس بل قد يكون بين جنسين كالفضيلة والرذيلة والخير والشر أو بين نوعين من جنسين كالعفة والفجور أو بين أنواع من جنس كالسواد والبياض والحمرة أو من جنسين كالشجاعة والتهور والجبن وفيه نظر من وجوه
( 1 ) أن معنى الاستقراء في انحصار التضاد بين نوعين من جنس هو أنا وجدناه فيما بينهما دون غيرهما ولا طريق إلى نفيه عما بين الفضيلة والرذيلة أو العفة والفجور سوى أنه لا يكون إلا فيما بين نوعين من جنس وهذان جنسان أو نوعان من جنسين وهذا دور ظاهر
الثاني أنه إن اشترط في التضاد غاية الخلاف فكونه فيما بين نوعين دون أنواع من جنس ضروري لا استقرائي لأن غاية الخلاف إنما يكون بين الطرفين لا بين الطرف وبعض الأوساط وإن لم يشترط فبطلانه ظاهر كما في أنواع اللون
الثالث أنهم أطبقوا على تضاد السواد والبياض على الإطلاق مع أنهما ليسا نوعين أخيرين من اللون بل السوادات المتفاوتة أنواع مختلفة مشتركة في عارض السواد المقول بالتشكيك وكذا البياض فعلى ما ذكروا من أن التضاد الحقيقي لا يكون إلا بين نوعين بينهما غاية الخلاف يلزم أن لا يكون في الألوان إلا بين غاية السواد وغاية البياض الرابع أن ما ذكره ابن سينا من تحقق التضاد المشهوري بين أنواع كالشجاعة والتهور والجبن ينافي ما ذكره من اشتراط غاية الخلاف في التضاد المشهوري أيضا قال قالوا لا تقابل من كلام الفلاسفة أن بين الوحدة والكثرة تقابل التضايف بواسطة ما عرض لهما من العلية والمعلولية والمكيالية والمكيلية وذلك أن الكثرة لما كانت مجتمعة من الوحدات كانت الوحدة علة مقومة للكثرة ومكيالا لها والكثرة معلولا متقوما بالوحدة ومكيلة بها وليس بينهما تقابل بالذات لوجهين
أحدهما أن موضوع المتقابلين يجب أن يكون واحدا بالشخص بما سبق في تفسير التقابل وموضوع الوحدة والكثرة ليس كذلك لأنه إذا طرأت الكثرة على
____________________
(1/150)
الشيء بطلت هويته الوحدانية وبالعكس أي إذا طرأت الوحدة على الأشياء بطلت الهويات المتكثرة وحصلت هوية واحدة وكان هذا مراد الإمام بقوله إذا طرأت الوحدة بطلت الوحدات التي كانت ثابتة فبطل موضوع الكثرة لأن موضوع الكثرة مجموع الوحدات وإلا فمجموع الوحدات نفس الكثرة لا موضوعها
وثانيهما أن الوحدة مقومة للكثرة ولا شيء من المتقابلين كذلك أما فيما يكون أحدهما عدم الآخر فظاهر وأما في التضايف فلأن المقوم للشيء يتقدم عليه وجودا أو تعقلا والمتضايفان يكونان معا في التعقل والوجود وأما في التضاد فلأن المقوم للشيء يجامعه والضد لا يجامع الضد بل يدافعه فإن قيل هذا كاف في الكل لأن الاجتماع في المحل ينافي القابل مطلقا قلنا ممنوع لما سيجيء من أن المتقابلين بالإيجاب والسلب قد يجتمعان في محل إذا كان ذلك بحسب الوجود دون الصدق وكلا الوجهين ضعيف أما الأول فلأن موضوع المتقابلين لا يلزم أن يكون واحدا بالشخص فكيف يتصور ذلك في مثل الفرسية واللافرسية بل صرحوا بأنه قد يكون واحدا بالشخص كالعدل والجور لزيد أو بالنوع كالرجولية والمرئية للإنسان أو بالجنس كالزوجية والفردية للعدد أو بأمر أعم عارض كالخير والشر للشيء ومع ذلك فيكفي الفرض والتقدير كإنسان للفرسية واللافرسية في قولنا الإنسان فرس والإنسان ليس بفرس والإمام رحمه الله جعل عدم اتحاد موضوع الوحدة والكثرة دليل عدم التضاد بينهما فإن من شأن الضدين التعاقب على موضوع واحد ولو بالإمكان كما إذا كان أحدهما لازما كسواد الغراب وأما الثاني فلأنه إن أريد أن ذات الكثرة متقومة بذات الوحدة فممنوع أما بحسب الخارج فلأنهما اعتباران عقليان وأما بحسب الذهن فلأنا نعقل الكثرة وهو كون الشيء بحيث ينقسم بدون تعقل الوحدة وهو كونه بحيث لا ينقسم وإن أريد أن معروض الكثرة متقوم بمعروض الوحدة بمعنى أن الكثير مؤلف يصدق على كل جزء منه أنه واحد وهذا معنى اجتماع الكثرة من الوحدات فمسلم لكنه لا ينافي التقابل الذاتي بين الوحدة والكثرة العارضتين بل بين معروضيهما ولا نزاع في ذلك ألا ترى أنهم اتفقوا على أن المتقابلين بالذات إذا أخذا مع الموضوع كالفرس واللافرس وكالبصير والأعمى وكالأب والابن وكالأسود والأبيض لم يكن تقابلهما بالذات فكيف إذا أخذ نفس الموضوعين فإن قيل المراد الثاني وهو ينافي التقابل لأن كون أحد المعروضين مقوما بالآخر يستلزم اجتماعهما ضرورة اجتماع الكل والجزء وهو يستلزم اجتماع وصفيهما أو إمكانه لا أقل قلنا ممنوع وإنما يلزم لو كان المعروضان في محل وهو ليس بلازم وإنما اللازم اجتماعهما في الوجود ولو سلم فالاجتماع في المحل إنما ينافي جميع أقسام التقابل إذا كان بحسب الصدق أعني حمل المواطأة لا بحسب
____________________
(1/151)
الوجود أعني حمل الاشتقاق لما ذكر في أساس المنطق من أن امتناع المتقابلين في موضوع واحد يعتبر في تقابل الإيجاب والسلب بحسب الصدق عليه وفي البواقي بحسب الوجود فيه كالأبيض الحلو فإن فيه البياض واللابياض لأن اللابياض مقول على الحلاوة الموجودة فيه والمقول على الموجود في الموضوع موجود في الموضوع ثم ما يمتنع اجتماعه بحسب الوجود يمتنع بحسب الصدق من غير عكس وما يجوز بحسب الصدق يجوز بحسب الوجود من غير عكس فظهر أنه لا دليل على نفي تقابل الإيجاب والسلب من الوحدة والكثرة بل تفسيرهم الكثرة بالانقسام مطلقا أو إلى المتشابهات والوحدة بعدمه ظاهر في ثبوت ذلك وأما اتفاقهم على نفي التقابل بينهما فمعناه أن الكثرة أي العدد لما كانت متقومة بالآحاد ومتحصلة من انضمامها مجتمعة مع الواحد في المعدود لم يكن بين العدد والواحد تقابل أصلا وهذا ظاهر فيما هو جزء الكثرة وأما الوحدة التي ترد على الكثرة فتبطلها كما إذا جعلت مياه الكيزان في كوز واحد فقد يوهم تضادهما بناء على تواردهما على موضوع واحد هو ذلك الماء مع بطلان أحدهما بالآخر ونفاه الإمام بأنهما ليسا على غاية الخلاف وبأن موضوع كل من الوحدات الزائلة التي هي نفس الكثرة جزء موضوع الوحدة الطارية لا نفسه والكل ضعيف قال المنهج الخامس في العلية والمعلولية من لواحق الوجود والماهية العلية والمعلولية وهما من الاعتبارات العقلية التي لا تحقق لها في الأعيان وإلا لزم التسلسل على ما مر غير مرة بل هما من المعقولات الثانية وبينهما تقابل التضايف إذ العلة لا تكون علة إلا بالنسبة إلى المعلول وبالعكس فلا يجتمعان في شيء واحد إلا باعتبارين كالعلة المتوسطة التي هي علة لمعلولها معلولة لعلتها قال المبحث الأول قد يراد بالعلة ما يحتاج إليه الشيء وبالمعلول ما يحتاج إلى الشيء وإن كانت العلة عند إطلاقها منصرفة إلى الفاعل وهو ما يصدر عنه الشيء بالاستقلال أو بانضمام الغير إليه ثم علة الشيء أعني ما يحتاج هو إليه إما أن تكون داخلة فيه أو خارجة عنه فإن كانت داخلة فوجوب الشيء معها إما بالفعل وهي العلة الصورية وإما بالقوة وهي العلة المادية وإن كانت خارجة عن الشيء فإما أن يكون الشيء بها وهي العلة الفاعلية أو لأجلها وهي العلة الغائية ويخص الأوليان أعني المادية والصورية باسم علة الماهية لأن الشيء يفتقر إليهما في ماهيته كما في وجوده ولذا لا يعقل إلا بهما أو بما ينتزع عنهما كالجنس والفصل ويخص الأخريان أعني الفاعلية والغائية باسم علة الوجود لأن الشيء يفتقر إليهما في الوجود فقط ولذا يعقل بدونهما وتمام هذا الكلام ببيان أمور
( 1 ) أن ما ذكر في بيان الحصر وجه ضبط لأنه لا دليل على انحصار الخارج فيما به الشيء وما لأجله الشيء سوى الاستقراء
( 2 ) أن المراد بالصورية والمادية الصورة والمادة وما ينسب إليهما من الأجزاء لصدق التعريف عليها وكذا في الفاعلية والغائية وبهذا الاعتبار
____________________
(1/152)
يندرج الشروط والآلات في الأقسام لكونها راجعة إلى ما به الشيء وما ذهب إليه الإمام من أن الشروط من أجزاء العلة المادية بناء على أن القابل إنما يكون قابلا بالفعل معها ليس بمستقيم لأنها خارجة عن المعلول وقد صرح هو أيضا بأن المادية داخلة
( 3 ) أن ما ذكرنا من اعتبار الفعل والقوة في الوجوب وهو الموافق لكلام ابن سينا أولى من اعتباره في الوجود على ما ذكره الجمهور لأن المادة إذا لحقها الصورة يكون وجود المعلول معها بالفعل لا بالقوة فيدخل في تعريف الصورة فلا يكون مانعا ويخرج عن تعريف المادة فلا يكون جامعا بخلاف الوجوب فإنه بالنظر إلى المادة لا يكون إلا بالقوة وبالنظر إلى الصورة لا يكون إلا بالفعل وكان مرادهم أن الصورة ما يكون وجود الشيء معه بالفعل البتة والمادة ما يكون الوجود معه بالقوة في الجملة وحينئذ لا انتقاض
( 4 ) إن الجزء الغير الأخير من الصورة المركبة يكون وجوب المعلول معه بالقوة لا بالفعل فيدخل في تعريف المادية ويخرج عن تعريف الصورية فينتقض التعريفان جمعا ومنعا ولا يجوز أن يراد بالقوة الامكاني بحيث لا ينافي الفعل لأن الفساد حينئذ أظهر
( 5 ) إن حصر الجزء في المادة والصورة مبني على أن الجنس والفصل ليسا جزئين من النوع بل من حده على ما سبق تحقيقه وجعله الإمام مبنيا على أنه لا تغاير بين الجنس والمادة ولا بين الفصل والصورة إلا بمجرد الاعتبار لما مر من أن الحيوان المأخوذ بشرط أن يكون وحده ويكون كل ما يقارنه زائدا عليه ولا يكون هو مقولا على ذلك المجموع مادة والمأخوذ لا بشرط أن يكون وحده أو لا وحده ويكون مقولا على المجموع جنس وهو إنما يتم لو كان الجنس مأخوذا من المادة والفصل من الصورة البتة حتى لا يكون للبسايط الخارجية كالمجردات أجناس وفصول وقد صرح المحققون بخلافه
( 6 ) إن من الشروط ما هو عدمي كعدم المانع فإذا كان من جملة العلة الفاعلية لزم استناد وجود المعلول إلى العلة المعدومة ضرورة انعدام الكل بانعدام الجزء وهو باطل لأن امتناع تأثير المعدوم في الموجود ضروري ولأنه يلزم انسداد باب إثبات الصانع والجواب أن المؤثر في وجود المعلول ليس هو العلة الفاعلية بجملتها بل ذات الفاعل فقط وسائر ما يرجع إلى الفاعل إنما هي شرائط التأثير ولا امتناع في استناد المعلول إلى فاعل موجود مقرون بأمور عدمية بمعنى أن العقل إذا لاحظه حكم بأنه لا يحصل بدونها مع القطع بأن الموجد هو الفاعل الموجود وحينئذ لا ينسد باب إثبات الصانع لأن وجود الممكن يحتاج إلى وجود موجد وإن كان مقرونا بشرائط عدمية وقد يجاب بأن الشرط إنما هو أمر وجودي خفي وذلك الأمر العدمي الذي يظن كونه شرطا لازم له كاشف عنه مثلا شرط احتراق الخشبة ليس بزوال الرطوبة وانعدامها بل وجود اليبوسة الذي ينبىء عنه زوال الرطوبة وكذا سائر الصور فإن قيل نفس عدم الحادث من مبادي وجوده لافتقاره إلى الفاعل المقارن له قلنا
____________________
(1/153)
الاحتياج إلى الشيء لا يقتضي الاحتياج إلى ما يقارنه ولهذا كان تقدم عدم الحادث على وجوده زمانيا محضا لا ذاتيا وكيف يعقل احتياج وجود الشيء إلى عدمه فهو ليس من المبادي إلا بالعرض بمعنى أنه يقارن المبدأ قال ثم جميع ما يحتاج إليه الشيء يسمى علة تامة العلة إما تامة هي جميع ما يحتاج إليه الشيء بمعنى أنه لا يبقى هناك أمر آخر يحتاج إليه لا بمعنى أن تكون مركبة من عدة أمور البتة وإما ناقصة هي بعض ذلك والتامة قد تكون هي الفاعل وحده كالبسيط الموجد للبسيط أيجابا وقد تكون هي مع الغاية كالبسيط الموجد للبسيط اختيارا فإن فعل المختار قد يكون لغرض يدعو إليه وقد يكون هومع المادة والصورة أيضا كالموجد للمركب عنهما أما الغاية أو بدونها وإذا كانت العلة التامة مشتملة على المادة والصورة يمتنع تقدمها على المعلول واحتياج المعلول إليها ضرورة أن جميع أجزاء الشيء نفسه وإنما التقدم لكل جزء منها فما يقال من أن العلة يجب تقدمها على المعلول ليس على إطلاقه بل العلة الناقصة أو التامة التي هي الفاعل وحده أو مع الشرط والغاية قال وكل من الأربع يعني أن كلا من العلل الأربع ينقسم باعتبار إلى بسيطة ومركبة وباعتبار إلى كلية وجزئية وباعتبار إلى ذاتية وعرضية وباعتبار إلى قريبة وبعيدة وباعتبار إلى عامة وخاصة وباعتبار إلى مشتركة ومختصة وباعتبار إلى ما بالقوة وإلى ما بالعفل قال المبحث الثاني يجب وجود المعلول يعني إذا وجد الفاعل بجميع جهات التأثير من الشرط والآلة والقابل يجب وجود المعلول إذ لو جاز عدمه لكان وجوده بعد ذلك ترجحا بلا مرجح لأن التقدير حصول جميع جهات التأثير من غير أن يبقى شيء يوجب الترجح وإذا وجد المعلول يجب وجود الفاعل بجميع جهات التأثير لأن الاحتياج إلى المؤثر التام من لوازم الإمكان والإمكان من لوازم المعلول فلو لم يجب وجود المؤثر التام عند وجود المعلول لزم جواز وجود الملزوم بدون اللازم هف وإذا كان بين المؤثر التام ومعلوله تلازم في الوجود لم يكن للمؤثر تقدم عليه بالزمان بل بالذات بمعنى الاحتياج إليه بحيث يصح أن يقال وجد المؤثر فوجد الأثر من غير عكس فإن قيل لو صح هذا لما جاز استناد الحادث إلى القديم لتأخره عنه بالزمان قلنا من جملة جهات تأثير القديم في الحادث شرط حادث يقارن الأثر الحادث كتعلق الإرادة عندنا والحركات والأوضاع عند الفلاسفة فيكون التقدم بالزمان لذات الفاعل ولا نزاع فيه لا للفاعل مع جميع جهات التأثير فإن قيل الضرورة قاضية بأن إيجاد العلة للمعلول لا يكون إلا بعد وجودها ووجود المعلول أما مقارن للإيجاد أو متأخر عنه فيكون متأخرا عن وجود العلة غاية الأمر أن يكون عقيبه من غير تخلل زمان لئلا يلزم الترجح بلا مرجح قلنا كون الإيجاد بعد وجود العلل مع جميع جهات التأثير بعدية زمانية ممنوع قال فعدم المعول يعني لما ثبت أنه كلما وجدت
____________________
(1/154)
العلة بجميع جهات التأثير وجد المعلول لزمه بحكم عكس النقيض أنه كلما انتفى المعلول انتفت العلة إما بذاتها أو ببعض جهات تأثيرها وأكد الحكم بقوله ولو في غير القار لأنه قد يتوهم أن الإعراض الغير القارة كالحركة والزمان قد ينعدم أجزاؤها مع بقاء العلة بتمامها لكونها بحسب ذاتها على التجدد والانصرام بمعنى أن ذاتها تقتضي عدم كل جزء بعد الوجود وإن بقيت علته وستطلع على حقيقة الحال في بحث الحركة فإن قيل كل من العدمين نفي محض لا ثبوت له فكيف يكون أثرا أو مؤثرا قلنا بل عدم مضاف لا يمتنع كون أحدهما محتاجا والآخر محتاجا إليه وهذا معنى المعلولية والعلية ههنا لا التأثر والتأثير وإذا ثبت أن وجود الممكن يفتقر إلى وجود علته وعدمه إلى عدم علته ظهر أن الفاعل في طرفي الممكن أعني وجوده وعدمه واحد يجب بوجوده وجوده وبعدمه عدمه أما عدمه السابق فبعدمه السابق بمعنى أن عدم حدوث الحادث محتاج إلى عدم حدوث فاعله بجميع جهات التأثير وإما عدمه اللاحق فبعدمه اللاحق يعني أن زوال وجوده يحتاج إلى زوال وجود الفاعل بجميع جهات التأثير فإن قيل ما ذكرتم من انعدام المعلول عند انعدام العلة باطل لما نشاهد من بقاء الابن بعد الأب والبناء بعد البناء وسخونة الماء بعد النار قلنا ذاك في العلل المعدة وكلامنا في العلل المؤثرة فالأب بالنسبة إلى الابن ليس إلا معدا للمادة لقبول الصورة وإنما تأثيره في حركات وأفعال تقتضي إلى ذلك وتنعدم بانعدام قصده ومباشرته وعلى هذا قياس سائر الأمثلة فإن البناء إنما يؤثر في حركات تفضي إلى ضم أجزاء البناء بعضها إلى البعض ووجوده إنما هو أثر التماسك المعلول بيبس العنصر هذا على رأي الفلاسفة وإما على رأي القائلين باستناد الكل إلى الواجب بطريق الاختيار وتعلق الإرادة فالأمر بين قال والمؤثر يريد أن ما يفيد وجود الشيء قد يفيد بقاءه من غير افتقار إلى أمر آخر كالشمس تفيد ضوء المقابل وبقاءه وقد يفتقر البقاء إلى أمر آخر وهذا ما يقال إن علة الحدوث غير علة البقاء كمماسة النار يفيد الاشتعال ثم يفتقر بقاء الاشتعال إلى استدامة المماسة واستمرارها بتعاقب الأسباب ( قال المبحث الثالث وحدة المعلول ) يريد أن الواحد الشخصي لا يكون معلولا لعلتين تستقل كل منهما بإيجاده خلافا لبعض المعتزلة والواحد من جميع الوجوه لا يلزم أن يكون معلوله واحدا بل قد يكون كثيرا خلافا للفلاسفة حيث ذهبوا إلى أن الواحد المحض من غير تعدد شروط والآت واختلاف جهات واعتبارات لا يكون علة إلا لمعلول واحد أما الأول وهو امتناع اجتماع العلتين المستقلتين على معلول واحد فلوجهين
( 1 ) أنه يلزم احتياجه إلى كل من العلتين المستقلتين لكونهما علة واستغناؤه عن كل منهما لكون الأخرى مستقلة بالعلية .
( 2 ) إنه إن توقف على كل منهما لم يكن شيء منهما علة مستقلة بل جزء علة لأن معنى استقلال العلة إن لا يفتقر في التأثير إلى شيء آخر وإن توقف على أحدهما فقط كانت هي العلة دون الأخرى
____________________
(1/155)
وإن لم تتوقف على شيء منهما لم يكن شيء منهما علة وهذا بخلاف الواحد بالنوع فإنه لا يمتنع اجتماع العلتين عليه بمعنى أن يقع بعض أفراده بهذه وبعضها بتلك فيكون المحتاج إلى كل منهما أمرا مغايرا للمحتاج إلى الأخرى وحينئذ لا يلزم احتياج شيء إلى شيء واستغناؤه عنه بعينه ولا يلزم من احتياج النوع إلى كل من العلتين عدم استقلالهما بالعلية للفرد وذلك كجزئيات الحرارة التي يقع بعضها بهذه النار وبعضها بتلك فنوع الحرارة يكون معلولا لهذه النيران وقد تمثل بنوع الحرارة الواقع بعض جزئياتها بالنار وبعضها بالشمس وبعضها بالحركة والمناقشة في كون هذه الحرارات من نوع واحد تدفع بأن المراد بالنوع ما هو أعم من الحقيقي وأورد الإمام أن المعلول النوعي أن احتاج لذاته إلى العلة المعينة امتنع استناده إلى غيرها وهو ظاهر وإن لم يحتج كان غنيا عنها لذاته فلا يعرض له الاحتياج إليها فأجاب بأنه لا يلزم من عدم الاحتياج لذاته إلى العلة المعينة استغناؤه عن العلة مطلقا بل يجوز أن يحتاج لذاته إلى علة ما ويكون الاستناد إلى العلة المعينة لا من جهة المعلول بل من جهة إن تلك العلة المعينة تقتضي ذلك المعلول فالحاجة المطلقة من جانب المعلول وتعين العلة من جانب العلة والحاصل أن الماهية النوعية بالنظر إلى ذاتها ليست محتاجة إلى العلة المعينة ولا غنية عنها بل كل من ذلك بالعارض واعترض صاحب المواقف بأن فيما ذكر من احتياج المعلول إلى علة ما بجيث يكون التعين من جانب العلة التزام أن يحتاج المعلول المعين إلى علة لا بعينها فيجوز أن يكون الواحد بالشخص معلولا لعلتين من غير احتياج إلى كل منهما ليلزم المحال بل إلى مفهوم أحدهما لا بعينه الذي لا ينافي الاجتماع كما هو شأن المعلول النوعي والجواب أن مفهوم أحدهما وإن لم يناف الاجتماع لكن لا يستلزمه فيمتنع فيما إذا كان المعلول شخصيا لأن وقوعه بهذه يستلزم الاستغناء عن تلك والمستغنى عنه لا يكون علة ويجوز فيما إذا كان نوعا لأن الواقع بكل منهما فرد آخر فلا يكون شيء منهما في معرض الاستغناء ولهذا قال فالفرد بعينه يحتاج إلى علة بعينها بمعنى أن الفرد المعين من الحرارة مثلا يحتاج إلى علته المعينة التي أوجبتها ضرورة احتياج المعلول إلى علته وفرد ما أي الفرد لا بعينه يحتاج إلى علة لا بعينها بل بحيث يحتمل أن يكون هذه وتلك لكن يمتنع اجتماعهما عليه لما سبق وهذا ما يقال أن الواحد بالشخص يجوز أن تكون له علتان على سبيل البدل دون الاجتماع والنوع يحتاج إلى علة لا بعينها لكن لا يمتنع الاجتماع بالنظر إلى النوع لأن الواقع بكل منهما فرد مغاير للواقع بالأخرى وبهذا يندفع ما يقال أن القول بالاحتياج إلى علة ما إما أن يكون قولا بتعدد العلة أولا وأيا ما كان فلا فرق بين النوع والفرد بقي ههنا بحث وهوا أن الواحد بعينه وإن كان من حيث وقوعه بالعلة المعينة محتاجا إليها لكن هل يصح استناده إلى علة لا بعينها بأن يقع بكل منهما على سبيل البدل بأن يكون الواقع بهذه هو بعينه الواقع بتلك مثلا حركة هذا الحجر في مسافة معينة في زمان معين إذا وقعت بتحريك زيد فلو فرضناها واقعة بتحريك
____________________
(1/156)
عمرو هل تكون هي بعينها فيه تردد بناء على أن اتحاد الفاعل هل له مدخل في تشخص المعلول وهذا غير ما سيجيء من أنه لا مدخل في تشخص الحركة لوحدة الفاعل حيث تقع الحركة المعينة بعضها بتحريك زيد وبعضها بتحريك عمرو وإنما الكلام في أنا لو فرضناها في ذلك الزمان في تلك المسافة واقعة بتحريك بكر وخالد بدل زيد وعمرو هل تكون تلك بالشخص قال تمسك المخالف أي تمسك القائل بجواز اجتماع العلتين على معلول واحد بالشخص بإنا لو فرضنا جوهرا فردا ملتصقا بيد زيد وعمرو يدفعه زيد ويجذبه عمرو في زمان واحد على حد واحد من القوة والسرعة فالحركة مستندة إلى كل منهما بالاستقلال لعدم الرجحان مع أنها واحدة بالشخص ضرورة امتناع اجتماع المثلين ولذا فرضناها في جوهر الفرد دون الجسم حيث يمكن تعدد المحل والجواب منع استنادها إلى كل واحد بالاستقلال بل إليهما جميعا بحيث يكون كل منهما جزء علة وليس من ضرورة تركب العلة تركب المعلول وتوزيع أجزائه على أجزائها أو إلى الواجب تعالى كما هو الرأي الحق قال وأما الثاني يعني جواز صدور الكثير عن الواحد فلوجهين
أحدهما إقناعي وهو أن العقل إذا لاحظ هذا الحكم لم يجد فيه امتناعا لذاته ولا لغيره فمن ادعى الامتناع فعليه البرهان
وثانيهما تحقيقي وهو إقامة البرهان على صدور الممكنات كلها عن الواجب تعالى على ما سيأتي قال احتجت الفلاسفة على امتناع صدور الكثير عن الواحد بوجوه الأول إنه لو صدر عنه شيئان لكان مصدريته لهذا ومصدريته لذاك مفهومين متغايرين فلا يكونان نفسه بل يكون أحدهما أو كلاهما داخلا فيه فيلزم تركبه هذا خلف أو خارجا عنه لازما له فيكون له صدور عنه وبنقل الكلام إلى مصدريته له وتتسلسل المصدريات مع كونها محصورة بين حاصرين والاعتراض عليه من وجوه
( 1 ) أن المصدرية أمر اعتباري لا تحقق له في الأعيان فلا يلزم أن يكون جزأ من الفاعل أو عارضا له معلولا
( 2 ) أنه إن أريد بتغاير مصدرية هذا لمصدرية ذاك تغايرهما بحسب الخارج فممنوع أو بحسب الذهن فلا ينافي كونهما نفس الفاعل بحسب الخارج
( 3 ) أن المصدرية لو كانت متحققة في الخارج لم يكن الفاعل واحدا محضا في شيء من الصور لأنه إذا صدر عنه شيء فقد تحققت هناك مصدرية مغايرة له منافية لوحدته الحقيقية
( 4 ) إن المصدرية على تقدير تحققها وعدم دخولها في الفاعل لا يلزم أن تكون معلولا له لجواز أن تكون معلولا لآمر آخر اللهم إلا إذا كان الفاعل الواحد هو الواجب تعالى وحينئذ لا تتم الدعوى كلية
( 5 ) إنه لو تحققت المصدرية لزم تكثر
____________________
(1/157)
المعلولات بل لا تناهبها فيما إذا صدر عن الواجب شيء فإن المصدرية حينئذ بعد ما تكون خارجة لا يجوز أن تكون معلولا لأمر آخر بل تكون معلولا للواجب صادرا عنه فتتحقق مصدرية أخرى بالنسبة إليه ويتسلسل
( 6 ) وإنه لو صح هذا الدليل لزم أن لا يصدر عن الواحد المحض شيء اصلا وإلا لكانت هناك مصدرية داخلة فيتركب أو خارجة فيتسلسل وأن لا يسلب عنه أشياء كثيرة كسلب الحجر والشجر عن الإنسان وأن لا يتصف بأشياء كثيرة كاتصاف زيد بالقيام والقعود وأن لا يقبل أشياء كثيرة كقبول الجسم للحركة والسواد لأن مفهوم سلب هذا مغاير لمفهوم سلب ذاك وكذا الاتصاف والقابلية فيلزم إما التركب أو التسلسل وقد يجاب عن هذه الاعتراضات كلها بأن سلب الشيء عن الشيء واتصاف الشيء بالشيء وقابلية الشيء للشيء من الاعتبارات العقلية التي لا تحقق لها ولا تمايز بينها في الأعيان ولو سلم فهي لا تلحق الواحد من حيث هو واحد بل تستدعي كثرة تلحقها هي باعتبارات مختلفة فإن السلب يفتقر إلى مسلوب ومسلوب عنه يتقدمانه ولا يكفي ثبوت المسلوب عنه فقط وكذا الاتصاف يفتقر إلى موصوف وصفة والقابلية إلى قابل ومقبول أو إلى قابل وشيء يوجد المقبول فيه بخلاف الصدور فإنه كما يطلق على الأمر الإضافي الذي يعرض للعلة والمعلول من حيث يعتبر العقل نسبة أحدهما إلى الآخر وليس كلامنا فيه كذلك يطلق على معنى حقيقي هو كون العلة بحيث يصدر عنها المعلول وكلامنا فيه ويكفي في تحققه فرض شيء واحد هو العلة وإلا امتنع استناد جميع المعلولات إلى مبدأ واحد ولما كان الظاهر من كون الشيء بحيث يصدر عنه شيء أيضا أمرا إضافيا اعتباريا زعموا أن المراد به خصوصية بالقياس إلى الأثر بحسبها يجب الأثر وإنه وجودي بالضرورة فإنا إذا أصدرنا حركات متعددة فما لم يحصل لنا خصوصية بالقياس إلى كل حركة وأقلها إرادتها لم يصدر عنا تلك الحركة وهكذا سائر العلل الفاعلية لا يصدر عنها الأشياء الكثيرة إلا إذا كان لها مع كل منها خصوصية لا تكون مع الآخر وإذا صدر الشيء الواحد لم يلزم تعدد الخصوصية بل لم يجز وحينئذ إن كانت العلة علة لذاتها فتلك الخصوصية ذات العلة وإن كانت علة لا لذاتها بل بحسب حالة أخرى فتلك الخصوصية حالة تعرض لذات العلة فلزوم تعدد الجهات وتكثر المعلولات إنما يكون عند صدور الكثير وإما عند صدور الواحد فلا يكون إلا ذات العلة أو حالة لها وعلى هذا لا يرد عليه شيء من الاعتراضات لكن لا يخفى أن أكثر هذه المقدمات تحكمات لا يعضدها شبهة فضلا عن حجة وقد يبين المطلوب بوجه لا يرد عليه الاعتراضات يدعى أنه زيادة تنبيه وتوضيح وإلا فامتناع صدور الكثير عن الواحد الحقيقي واضح
____________________
(1/158)
لأنه لو صدر عنه شيئان فمفهوم عليته لأحدهما مغاير لمفهوم عليته للآخر بالضرورة والشيء مع أحد المتغايرين لا يكون هو مع الآخر فالفروض لا يكون شيئا واحدا محضا بل شيئين أو شيئا موصوفا بصفتين هذا خلف وإذا كان تكثر المعلول مستلزما التكثر في الفاعل كان وحدة الفاعل مستلزمة لوحدة المعلول بحكم عكس النقيض ولا خفاء في أن هذا كلام قليل الجدوى بعيد عن أن يجعل من معارك الآراء وتفسيره على هذا الوجه يهدم أساس المسائل المبنية على أنه لا يصدر من البسيط شيئان فإنه يجوز أن يصدر عنه أشياء ويكون عليته لكل منها مفهوما اعتباريا مغايرا لعليته للآخر ولا يقدح ذلك في وحدته وبساطته الحقيقية وإلا لما جاز أن يصدر عنه شيء أصلالأن عليته لذلك الشيء مفهوم مغاير لذات العلة بحسب التعقل ضرورة كونه نسبة له إلى المعلول .
الوجه الثاني أن الواحد الحقيقي إذا صدر عنه ( ا ) فلو صدر عنه ( ب ) لزم اجتماع النقيضين لأن ( ب ) ليس ( ا ) وليس ( ا ) نقيض ( ا ) بخلاف ما إذا تعددت الجهة فإن كلا من صدور ( ا ) وليس ( ا ) يستند إلى جهة فيكون ما صدر عنه ( ا ) غير ما صدر عنه ليس ( ا ) فلا يكون تناقضا ولما كان فساد هذاالوجه في غاية الظهور فإن نقيض صدور ( ا ) عدم صدور ( ا ) وهو ليس بلازم وإنما اللازم صدور ما ليس ( ا ) وهو ليس بنقيض حتى قال الإمام العجب ممن يفنى عمره في المنطق ليعصمه عن الغلط ثم يهمله في مثل هذا المطلب الأعلى فيقع في الغلط الذي يضحك منه الصبيان قرره بعضهم بأن عدم صدور ( ا ) صادق على صدور ماليس ( ا ) فإذا اجتمع في الواحد صدور ( ا ) وصدور ما ليس ( ا ) فقد اجتمع صدور ( ا ) وعدم صدور ( ا ) وهما نقيضان وهذا أيضا فاسد لأن الممتنع من اجتماع النقيضين هو صدقهما على شيء واحد بطريق حمل المواطأة بأن يصدق على الواحد أنه صدر عنه ( ا ) ولم يصدر عنه ( ا ) لا بأن يوجدا فيه ويحملا عليه بالاشتقاق كالأبيض الحلو الذي يوجد فيه البياض واللابياض الذي هو الحلاوة وههنا كذلك لأنه قد وجد في الواحد صدور ( ا ) وعدم صدوره الذي هو صدور ما ليس ( ا ) ولم يلزم صدق قولنا صدر عنه ( ا ) ولم يصدر عنه ( ا ) وكذا تقرير الصحايف وهو أنه إذا صدر عنه ( ا ) لم يصدر عنه ليس ( ا ) لامتناع اجتماع النقيضين فاسد لأن نقيض قولنا صدر عنه ( ا ) لم يصدر عنه ( ا ) لا قولنا صدر عنه ليس ( 1 )
الوجه الثالث أنه لو جاز صدور الكثير عن الواحد لما كان تعدد الأثر واختلافه مستلزما لتعدد المؤثر واختلافه فلم يصح الاستدلال منه عليه لكن مثل هذا الاستدلال مركوز في العقول مشهور بين العقلاء كما إذا وجدوا النار تسخن المجاور والماء يبرده حكموا قطعا باختلافهما في الحقيقة ورد بأنا لانم ابتناء ذلك على استلزام تعدد الأثر تعدد المؤثر بل على استلزام وجود المؤثر التام وجود أثره ووجود الملزوم وجود لازمه فحين لم يجدوا من الماء أثر طبيعة النار ولازمها الذي هو سخونة المجاور حكموا
____________________
(1/159)
بأن طبيعته غير طبيعة النار قال ثم عورضت أي الشبه المذكورة بوجوه
الأول أن الجسمية وهي أمر واحد تقتضي أثرين هما التحيز أي الحصول في حيز ما وقبول الإعراض أي الإتصاف بها فإن نوقش في استنادهما إلى مجرد الجسمية وجعل للحيز والإعراض مدخل في ذلك بنقل الكلام إلى قابلية الجسم للتحيز وقابليته للاتصاف بالإعراض فإنهما يستندان إلى الجسمية لا محالة وإن نوقش في وحدة الجسمية بأن لها وجود أو ماهية وإمكانا وجنسا وفصلا وغير ذلك قلنا هي بجميع ما فيها ولها شيء واحد يستند إليه كل من الأمرين ولا معنى لاستناد الكثير إلى الواحد سوى هذا وأجيب بأنا لا نم إن التحيز وقبول الإعراض أو القابلية لهما من الأمور الوجودية التي تقتضي مؤثرا إما تحقيقا فظاهر وإما إلزاما فلأن الفلاسفة وإن قالوا بوجود النسب والإضافات لم يعمموا ذلك بحيث يتناول قابلية التحيز مثلا ولو سلم فلا نم استناد كل من الأمرين إلى الواحد المحض بل أحدهما باعتبار الصورة والإبعاد والآخر باعتبار المادة
الوجه الثاني إن كل ما يصدر عن العلة فله ماهية ووجود ضرورة كونه أمرا موجودا وكل منهما معلول فيكون الصادر عن كل علة حتى الواحد المحض متعددا وأجيب بأنا لا نم كون الوجود مع الماهية متعددا بحسب الخارج لما سبق من أن زيادته على الماهية إنما هي بحسب الذهن فقط ولو سلم فلا نسلم أن كلا منهما معلول بل المعلول هو الوجود أو اتصاف الماهية به لأن هذا هو الحاصل من الفاعل
الوجه الثالث أن النقطة التي هي مركز الدائرة مبدأ محاذياته للنقط المفروضة على المحيط وأجيب بأن المحاذاة أمر اعتباري لا تحقق له في الخارج فلا يكون معلولا لشيء ولو سلم فمحاذاة النقطتين إضافة قائمة بهما أو لكل منهما إضافة قائمة بها فلا يكون فاعلا للمحاذيات على ما هو المتنازع ولو سلم فاختلاف الحيثية ظاهر لا مدفع له
الوجه الرابع أنه لو لم يصدر عن الواحد إلا الواحد لما صدر عن المعلول الأول إلا واحد هو الثاني وعنه واحد هو الثالث وهلم جرا فتكون الموجودات سلسلة واحدة ويلزم في كل موجودين فرضا أن يكون أحدهما علة للآخر والآخر معلولا له بوسط أو بغير وسط وهذا ظاهر البطلان أو أجيب بأن ذلك إنما يلزم لو لم يكن في المعلول الأول مع وحدته بالذات كثرة بحسب الجهات والاعتبارات ولو لم يصدر عن الواجب مع المعلول الأول أو يتوسطه شيء آخر وهكذا إلى ما لا يحصى بيانه على ما ذكروه أنه إذا صدر عن المبدأ الأول الذي ليس فيه تكثر جهات واعتبارات شيء كان ذلك الشيء واحدا بالحقيقة والذات لكن يعقل له بحسب الاعتبارات المختلفة أمور ستة هي الوجود والهوية والإمكان والوجوب بالغير وتعقل ذاته وتعقل مبدأه فيجوز أن يصدر عنه بحسب تلك الاعتبارات أمور متكثرة ويظهر ابتداء سلاسل متعددة وكذا يجوز أن يصدر عن ذلك الشيء الواحد الذي هو المعلول الأول معلول ثان وعن المبدأ
____________________
(1/160)
الأول يتوسطه معلول ثالث ويتوسط المعلول الأول والثاني والثالث معلول رابع وهكذا عن كل معلول يتوسط ما فوقه أو ما تحته وعن الواجب يتوسط ما تحته جملة أو فرادى فيكون هناك سلاسل غير محصورة ولبعض المحققين رسالة في تفصيل ذلك وأورد نبذا منه في شرحه للإشارات واعترض الإمام بأن الوجود والوجوب والإمكان اعتبارات عقلية لا تصلح علة للأعيان الخارجية ولما كان ظاهرا أنها ليست عللا مستقلة بل شروطا وحيثيات تختلف بها أحوال العلة الموجودة اعترض بأنه لو كفى مثل هذه الكثرة في أن يكون الواحد مصدرا للمعلولات الكثيرة فذات الواجب تعالى تصلح أن تجعل مبدأ للممكنات باعتبار ماله من كثرة السلوب والإضافات من غير أن يجعل بعض معلولاته واسطة في ذلك ويحكم بأن الصادر الأول عنه ليس إلا واحدا وأجيب بأن السلوب والإضافات لا تعقل إلا بعد ثبوت الغير فلو كان لها دخل في ثبوت الغير لكان دورا واعترض بأن تعقلها إنما يتوقف على تعقل الغير لا على ثبوته والمتوقف عليها ثبوت الغير لا تعقله فلا دور والجواب أن المراد أنه لايصح الحكم بالسلوب والإضافات في نفس الأمر إلا بعد ثبوت الغير ضرورة اقتضاء السلب مسلوبا والإضافة منسوبا فلا يصح الحكم باستناد ثبوته إليها للزم الدور قال المبحث الرابع زعمت الفلاسفة أن الواحد من حيث هو واحد لا يكون قابلا للشيء وفاعلا له وبنوا على ذلك امتناع اتصاف الواجب بصفات حقيقية واحترز بقيد حيثية الوحدة عن مثل النار تفعل الحرارة بصورتها وتقبلها بمادتها وتمسكوا في ذلك بوجهين
الأول أن القبول والفعل أثران فلا يصدران عن واحد لما مر ورد بعد تسليم كون القبول أثرا بأنا لا نسلم أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد على أنه لو صح ذلك لزم أن لا يكون الواحد قابلا لشيء وفاعلا لآخر فإن دفع باختلاف الجهة فإن الفاعلية لذاته وقابليته باعتبار تأثره عما يوجد المقبول قلنا فليكن حال القابلية والفاعلية للشيء الواحد أيضا كذلك فإن قيل الشيء لا يتأثر عن نفسه قلنا أول المسألة ولم لا يجوز باعتبارين كالمعالج لنفسه فإن قيل الكلام على تقدير اتحاد الجهة قلنا فيكون لغوا إذ لا اتحاد جهة أصلا
الثاني أن نسبة الفاعل إلى المفعول بالوجوب ونسبة القابل إلى المقبول بالإمكان لأن الفاعل التام للشيء من حيث هو فاعل يستلزمه والقابل له لا يستلزمه بل يمكن حصوله فيه فيكون قبول الشيء للشيء وفاعليته له متنافيين لتنافي لازميهما أعني الوجوب والإمكان واعترض بأنه إنما هي إمكان عام لأن معنى قابلية الشيء للشيء أنه لا يمتنع حصوله فيه وهو لا ينافي الوجوب وقيل بل معناه أنه لا يمتنع حصوله فيه ولا عدم حصوله وهو معنى الإمكان الخاص ولو فرضناه الإمكان العام فليس معناه أحد نوعيه أعني الوجوب بل معناه مفهومه الأعم بحيث يحتمل الإمكان الخاص فينافي تعين الوجوب الذي لا يحتمله والجواب بعد تسليم ذلك أنه يجوز أن يكون الشيء واجبا للشيء
____________________
(1/161)
من حيث كونه فاعلا له غير واجب من حيث كونه قابلا له قال المبحث الخامس لا تأثير للقوى الجسمانية القائلون باستناد الممكنات إلى الله تعالى ابتداء لا يثبتون للقوى الجسمانية تأثيرا ولا يشترطون في ظهور الأفعال المترتبة عليها بخلق الله تعالى وضعا ولا يمنعون دوام تلك الأفعال كما في نعيم الجنة وعذاب الجحيم وأما الفلاسفة فيثبتون لها تأثيرا ويشترطون فيه الوضع قطعا منهم بأن النار لا تسخن كل شيء والشمس لا يضيء بها كل شيء بل ماله بالنسبة إليهما وضع مخصوص بل ويقطعون بأنه يلزم تناهيها بحسب العدة والمدة والشدة بأن يكون عدد نارها وحركاتها متناهيا وكذا زمانها في جانبي الازدياد والانتقاص بأن لا تزداد إلى غير نهاية ولا تنتقص إلى غير نهاية وذلك أن المتصف حقيقة بالتناهي واللاتناهي هو الكم المتصل أو المنفصل والقوة التي محلها جسم متناه إنما تتصف بهما باعتبار كمية المتعلق أعني الحركات والآثار الصادرة عنها أما كمية انفصالية وهي عدد الآثار وإما كمية اتصالية وهي زمان الآثار وهو مقدار ممكن فيه فرض التناهي واللاتناهي في جانب الازدياد وهو الاختلاف بحسب المدة وفي جانب الانتقاص وهو الاختلاف بحسب الشدة بيان ذلك أن الشيء الذي يتعلق به شيء ذو مقدار أو عدد كالقوى التي يصدر عنها عمل متصل في زمان أو أعمال متوالية لها عدد فيفرض النهاية واللانهاية فيه يكون بحسب مقدار ذلك العمل أو عدد تلك الأعمال والذي بحسب المقدار يكون إما مع قرض وحدة العمل واتصال زمانه أو مع فرض الاتصال في العمل نفسه لا من حيث يعتبر وحدته أو كثرته وبهذه الاعتبارات تصير القوى أصنافا ثلاثة
الأول قوى يفرض صدور عمل واحد عنها في أزمنة مختلفة كرماة تقطع سهامهم مسافة محدودة في أزمنة مختلفة ولا محالة بكون التي زمانها أقل أشد قوة عن التي زمانها أكثر ويجب من ذلك أن يقع عمل غير المتناهية لا في زمان
والثاني قوى يفرض صدور عمل ما فيها على الاتصال في أزمنة مختلفة كرماة تختلف أزمنة حركات سهامهم في الهواء ولا محالة بكون التي زمانها أكثر وأقوى من التي زمانها أقل ويجب من ذلك أن يقع عمل غير المتناهية في زمان غير متناه
والثالث قوى يفرض صدور أعمال متوالية عنها مختلفة بالعدد كرماة يختلف عدد رميهم ولا محالة يكون التي يصدر عنها عدد أكثر أقوى من التي يصدر عنها عدد أقل ويجب من ذلك أن يكون لعمل غير المتناهية عدد غير متناه فالاختلاف الأول بالشدة والثاني بالمدة والثالث بالعدة ولما كان امتناع اللاتناهي بحسب الشدة وهو أن يقع الأثر في الزمان الذي هو في غاية القصر بل في الآن ظاهر الامتناع أن تقع الحركة إلا في زمان قابل للانقسام بحيث تكون القوة التي توقع الحركة في نصف ذلك الزمان اشد تأثيرا اقتصروا على بيان امتناع اللاتناهي بحسب العدة والمدة فقالوا لا شك أن التأثير القسري يختلف باختلاف القابل المقسور بمعنى أنه كلما كان أكبر كان تحريك القاسر له أضعف لكون معاوقته وممانعته
____________________
(1/162)
أكثر وأقوى لأنه إنما يعاوق بحسب طبيعته وهي في الجسم الكبير أقوى منها في الجسم الصغير لاشتماله على مثل طبيعة الصغير مع الزيادة فإذا فرضنا تحريك جسم بقوته جسما من مبدأ معين ثم تحريكه جسما آخر مماثلا له بحسب الطبيعة وأكبر منه بحسب المقدار بتلك القوة بعينها ومن ذلك المبدأ بعينه لزم أن يتفاوت منتهى حركة الجسمين بأن تكون حركة الأصغر أكثر من حركة الأكبر لكون المعاوقة فيه أقل فبالضرورة تنتهي حركة الأكبر ويلزم منه انتهاء حركة الأصغر لأنها إنما تزيد على حركة الأكبر بقدر زيادة مقداره على مقداره إذ المفروض أنه لا تفاوت إلا بذلك والتأثير الطبيعي يختلف باختلاف الفاعل بمعنى أنه كلما كان الجسم أعظم مقدارا كانت الطبيعة فيه أقوى وأكثر آثارا لأن القوى الجسمانية المتشابهة إنما تختلف باختلاف محالها بالصغر والكبر لكونها متجزئة بتجزئتها وأما في قبول الحركة فالصغير والكبير فيه متساويان لأن ذلك للجسمية وهي فيهما على السوية فإذا فرضنا حركة الصغير والكبير بالطبع من مبدأ معين لزم التفاوت في الجانب الآخر ضرورة أن الجزء لا يقوى على ما يقوى عليه الكل فتنقطع حركة الصغير ويلزم منه انتهاء حركة الكبير لكونهما على نسبة جسميهما فقوله لتفاوت الصغير والكبير بيان الاختلاف القسري باختلاف القابل وقوله وتساويهما في القبول بيان لعدم اختلاف الطبيعي باختلاف القابل وقوله فإذا فرض في حركتيهما أي حركتي الصغير والكبير شروع في تقرير الدليل وهو جامع للقسري والطبيعي ولم يقع في كلام القوم إلا بطريق التفصيل على ما شرحناه فإن نوقض الدليل إجمالا بالحركات الفلكية فإنها مع عدم تناهيها عندهم مستندة إلى قوى جسمانية لها إدراكات جزئية إذ التعقل الكلي لا يكفي في جزئيات الحركة على ما سيجيء وتفصيلا بأنه لم لا يجوز أن تكون القوى الجسمانية أزلية لا يكون لحركاتها مبدأ ولو سلم فلا نسلم إمكان ما فرضتم من اتحاد المبدأ بل مبدأ حركة الأصغر أصغر من مبدأ حركة الأكبر ولو سلم فلم لا يجوز أن يكون التفاوت الذي لا بد منه هو التفاوت بالسرعة والبطأ بأن يكون حركة الأصغر أسرع في القسرية وأبطأ في الطبيعية من غير انقطاع ولو سلم فالتفاوت بالزيادة والنقصان لا يوجب الانقطاع كما إذا فرضنا لحركة فلك القمر وفلك زحل مبدأ من موازاة نقطة معينة من الفلك الأعظم فإن دورات القمر أضعاف دورات زحل مع عدم تناهيهما أجيب عن الأول بأن حركات الأفلاك إرادية مستندة إلى إرادات وتعقلات جزئية مستندة إلى نفوسها المجردة في ذواتها المقارنة في أفعالها بالمادة المدركة للجزئيات بواسطة الآلات وكلامنا في تأثير القوى الحالة في الأجسام وعن الثاني والثالث بأن فرض المبدأ الواحد للحركتين بأن يعتبرا من نقطة واحدة من أوساط المسافة يماسها الطرف الذي يليها كاف في إثبات المطلوب ولا خفاء في إمكانه وإن لم يكن للحركة بداية وليس المراد بالمبدأ مجموع حيز
____________________
(1/163)
الجسم حتى يكون مبدأ حركة الأصغر أصغر وعن الرابع بأن الاختلاف بالسرعة والبطاء يكون تفاوتا بحسب الشدة وليس الكلام فيه بل في التفاوت بحسب المدة والعدة ومعناه الزيادة والنقصان في زمان الحركة وعددها وعن الخامس بأن دورات القمر أو زحل ليست جملة موجودة يمكن الحكم عليها بالزيادة والنقصان ولا هناك أيضا قوة موجودة تستند تلك الدورات إليها بل إنما تستند إلى إرادات متجددة متعددة متعاقبة لا توجد إلا مع الحركات بخلاف ما نحن فيه فإن كون جملة الأفعال وإن لم تكن حاصلة في الحال لكن كون القوة قوية عليها أمر حاصل في الحال متفاوت بالزيادة والنقصان بالنسبة إلى تحريك الصغير والكبير وفي هذا نظر وعليه زيادة كلام يذكر في إبطال التسلسل وأجيب عن أصل الدليل بعد تسليم تأثير القوى بأن ما ذكرتم من اختلاف القسرية باختلاف القابل والطبيعية باختلاف الفاعل بحيث يكون تفاوت القوة على المعاوقة أو على التحريك في الجسم الصغير والكبير بنسبة مقداريهما حتى لو كان مقدار الصغير نصف مقدار الكبير كانت قوة معاوقته أو تحريكه نصف قوة معاوقة الكبير أو تحريكه ليلزم أن تكون حركته القسرية ضعف حركة الكبير وحركته الطبيعية نصفها ممنوع لجواز أن تكون القوة من الأعراض التي لا تنقسم بانقسام المحل كالوحدة والنقطة والأبوة قال المبحث السادس يستحيل يريد بيان استحالة الدور والتسلسل وعبر عنهما بعبارة جامعة وهي أن يتراقى عروض العلية والمعلولية لا إلى نهاية بأن يكون كل ما هو معروض للعلية معروضا للمعلولية ولا ينتهي إلى ما تعرض له العلية دون المعلولية فإن كانت المعروضات متناهية فهو الدور بمرتبة إن كانا اثنتين وبمراتب إن كانت فوق الاثنتين وإلا فهو التسلسل إما بطلان الدور فلأنه يستلزم تقدم الشيء على نفسه وهو ضروري الاستحالة وجه الاستلزام أن الشيء إذا كان علة لآخر كان متقدما عليه وإذا كان الآخر علة له كان متقدما عليه والمتقدم على المتقدم على الشيء متقدم على ذلك الشيء فيكن الشيء متقدما على نفسه ويلزمه كون الشيء متأخرا عن نفسه وهو معنى احتياجه إلى نفسه وتوقفه على نفسه والكل بديهي الاستحالة وربما يبين بأن التقدم أو التوقف أو الاحتياج نسبة لا تعقل إلا بين اثنين وبأن نسبة المحتاج إليه إلى المحتاج الوجوب وعكسها الإمكان والكل ضعيف لأن التغاير الاعتباري كاف فإن قيل إن أريد بتقدم الشيء على نفسه التقدم بالزمان فغير لازم في العلة أو بالعلية فنفس المدعي لأن قولنا الشيء لا يتقدم على نفسه بالعلية بمنزلة قولنا الشيء لا يكون علة لنفسه قلنا المراد التقدم بالمعنى الذي يصحح قولنا وجد فوجد على ما هو اللازم في كون الشيء علة للشيء بمعنى أنه مالم توجد العلة لم يوجد المعلول ألا ترى أنه يصح أن يقال وجدت حركة اليد فوجدت حركة الخاتم ولا يصح أن يقال وجدت حركة الخاتم فوجدت حركة اليد ولا خفاء في استحالة ذلك بالنظر إلى الشيء ونفسه فإن قيل
____________________
(1/164)
يجوز أن يكون الشيء علة لما هو علة له من غير لزوم تقدم الشيء على نفسه وسند المنع وجهان
الأول أن المحتاج إلى المحتاج إلى الشيء لا يلزم أن يكون محتاجا إلى ذلك الشيء فإن العلة القريبة للشيء كافية في تحققه من غير احتياج إلى البعيدة والألزم تخلف الشيء عن علته القريبة
والثاني أن يكون الشيء بماهيته علة لشيء هو علة لوجود ذلك الشيء قلنا اللزوم ضروري والسند مدفوع لأنه مالم يوجد العلة البعيدة للشيء لم توجد العلة القريبة ومالم توجد العلة القريبة لم يوجد ذلك الشيء فما لم توجد البعيدة لم يوجد ذلك الشيء وهو معنى الاحتياج والتخلف إنما يلزم لو وجدت القريبة بدون البعيدة من غير وجود المعلول ولأن كون ماهية الشيء علة لما هو علة لوجوده مع أنه ظاهر الاستحالة لما فيه من وجود المعلول قبل وجود العلة ليس مما نحن فيه أعني الدور المفسر بتوقف الشيء على ما يتوقف عليه قال وأما الثاني احتجوا على بطلان التسلسل بوجوه
الأول أنه لو تسلسلت العلل والمعلولات من غير أن ينتهي إلى علة محضة لا يكون معلولا لشيء لكان هناك جملة هي نفس مجموع الممكنات الموجودة المعلول كل من آحادها لواحد منها وتلك الجملة موجودة ممكنة أما الوجود فلانحصار أجزائها في الموجود ومعلوم أن المركب لا يعدم إلا بعدم شيء من أجزائه وأما الإمكان فلافتقارها إلى جزأها الممكن ومعلوم أن المفتقر إلى الممكن لا يكون إلا ممكنا ففي جعلها نفس الموجودات الممكنة تنبيه على أنها مأخوذة بحيث لا يدخل فيها المعدوم أو الواجب لا يقال المركب من الأجزاء الموجودة قد يكون اعتباريا لا تحقق له في الخارج كالمركب من الحجر والإنسان ومن الأرض والسماء لأنا نقول المراد أنه ليس موجودا واحدا يقوم به وجود غير وجودات الأجزاء وإلا فقد صرحوا بأن المركب الموجود في الخارج قد لا يكون له حقيقة مغايرة لحقيقة الآحاد كالعشرة من الرجال وقد يكون إما مع صورة منوعة كالنبات من العناصر وإما بدونها بأن لا يزداد إلا هيئة اجتماعية كالسرير من الخشبات وإذا كانت الجملة موجودا ممكنا فموجدها بالاستقلال إما نفسها وهو ظاهر الاستحالة وإما جزء منها وهو أيضا محال لاستلزامه كون ذلك الجزء علة لنفسه ولعلله لأنه لا معنى لإيجاد الجملة إلا إيجاد الأجزاء التي هي عبارة عنها ولا معنى لاستقلال الموجد إلا استغناؤه عما سواه وأما أمر خارج عنها ولا محالة يكون موجدا لبعض الأجزاء وينقطع إليه سلسلة المعلولات لكون الموجد الخارج عن جميع الممكنات واجبا بالذات ولا يكون ذلك البعض معلولا لشيء من أجزاء الجملة لامتناع اجتماع العلتين المستقلتين على معلول واحد إذ الكلام في المؤثر المستقل بالإيجاد فيلزم الخلف من وجهين لأن المفروض أن السلسلة غير منقطعة وأن كل جزء منها معلول لجزء آخر وبما ذكرنا من التقرير يندفع نقض الدليل تفصيلا بأنه إن أريد بالعلة التي لا بد منها لمجموع
____________________
(1/165)
السلسلة العلة التامة فلانم استحالة كونها نفس السلسلة وإنما يستحيل لو لزم تقدمها وقد سبق أن العلة التامة للمركب لا يجب بل لا يجوز تقدمها إذ من جملتها الأجزاء التي هي نفس المعلول فإن قيل فيلزم أن يكون واجبا لكون وجودها من ذاتها وكفى بهذا استحالة قلنا ممنوع وإنما يلزم لو لم يفتقر إلى جزئها الذي ليس نفس ذاتها سواء سمى غيرها أو لم يسم وإن أريد العلة الفاعلية فلانم استحالة كونها بعض أجزاء السلسلة وإنما يستحيل لو لزم كونها علة لكل جزء من أجزاء المعلول حتى نفسه وعلله وهو ممنوع لجواز أن يكون بعض أجزاء المعلول المركب مستندا إلى غير فاعله كالخشب من السرير سلمنا ذلك لكن لانم أن الخارج من السلسلة يكون واجبا لجواز أن توجد سلاسل غير متناهية من علل ومعلولات غير متناهية وكل منها يستند إلى علة خارجة عنها داخلة في سلسلة أخرى من غير انتهاء إلى الواجب ولو سلم لزوم الانتهاء إلى الواجب فلا يلزم بطلان التسلسل لجواز أن يكون مجموع العلل والمعلولات الغير المتناهية موجودا ممكنا مستندا إلى الواجب وإجمالا بأنه منقوض بالجملة التي هي عبارة عن الواجب وجميع الممكنات الموجودة فإن علتها ليست نفسها ولا جزأ منها لما ذكر ولا خارجا عنها لاستلزامه مع تعدد الواجب معلولية الواجب واجتماع المؤثرين إن كان علة لكل جزء من أجزاء الجملة وأحد الأمرين إن كان علة لبعض الأجزاء ووجه الاندفاع أنا قد صرحنا بأن المراد بالعلة الفاعل المستقل بالإيجاد وأخذنا الجملة نفس جميع الممكنات بحيث يكون كل جزء منها معلولا لجزء فلم يكن الخارج عنها إلا واجبا وأقل ما لزم من استقلاله بالعلية إن يوجد في الجملة جزء لا يكون معلولا لجزء آخر بل للخارج خاصة وهو معنى الانقطاع ولم يمكن أن يكون المستقل بالعلية جزء من الجملة للزوم كونه علة لنفسه ولعلله تحقيقا بمعنى الاستقلال إذ لو كان الموجد لبعض الأجزاء شيئا آخر لتوقف حصول الجملة عليه أيضا فلم يكن أحدهما مستقلا وهذا بخلاف المجموع المركب من الواجب والممكنات فإنه جاز أن يستقل بإيجاده بعض أجزائه الذي هو موجود بذاته مستغن عن غيره وأما السرير ففاعله المستقل ليس هو النجار وحده بل مع فاعل الخشبات نعم يرد على المقدمة القائلة بأن العلة المستقلة للمركب من الأجزاء الممكنة علة لكل جزء منه اعتراض وهو أنه إما أن يراد أنها بنفسها علة مستقلة لكل جزء حتى يكون علة هذا الجزء هي بعينها علة ذلك الجزء وهذا باطل لأن المركب قد يكون بحيث يحدث أجزاؤه شيئا فشيئا كخشبات السرير وهيئته الاجتماعية فعند حدوث الجزء الأول إن لم توجد العلة المستقلة التي فرضناها علة لكل جزء لزم تقدم المعلول على علته وهو ظاهر وإن وجدت لزم تخلف المعلول أعني الجزء الآخر عن علته المستقلة بالإيجاد وقد مر بطلانه وإما أن يراد أنها علة لكل جزء من المركب إما بنفسها أو بجزء منها بحيث يكون كل جزء معلولا لها أو لجزء منها من غير افتقار إلى
____________________
(1/166)
أمر خارج عنها وإذا كان المعلول المركب مترتب الأجزاء كانت علتها المستقلة أيضا مترتبة الأجزاء يحدث كل جزء منه لجزء منها يقارنه بحسب الزمان ولا يلزم التقدم ولا التخلف وهذا أيضا فاسد من جهة أنه لا يفيد المطلوب أعني امتناع كون العلة المستقلة للسلسلة جزأ منها إذ من أجزائها ما يجوز أن يكون علة بهذا المعنى من غير أن يلزم علية الشيء لنفسه أو لعلله وذلك مجموع الأجزاء التي كل منها معروض للعلية والمعلولية بحيث لا يخرج عنها إلا المعلول المحض المتأخر عن الكل بحسب العلية المتقدم عليها بحسب الرتبة حيث يعتبر من الجانب المتناهي ولذا يعبر عن ذلك المجموع تارة بما قبل المعلول الأخير وتارة بما بعد المعلول الأول ففي الجملة هي جزء من السلسلة تتحقق السلسلة عند تحققها ويقع بكل جزء منها جزء منها ولا يلزم من عليتها للسلسلة تقدم الشيء على نفسه فإن قيل المجموع الذي هو العلة أيضا ممكن محتاج إلى علة أجيب بأن علته المجموع الذي قبل ما فيه من المعلول الأخير وهكذا في كل مجموع قبله لا إلى نهاية فإن قيل ما بعد المعلول المحض لا يصلح علة مستقلة بإيجاد السلسلة لأنه ممكن يحتاج إلى علته وهكذا كل مجموع يفرض فلا توجد السلسلة إلا بمعاونة من تلك العلل ولأنه ليس بكاف في تحقق السلسلة بل لا بد من المعلول المحض أيضا قلنا هذا لا يقدح في الاستقلال لأن معناه عدم الافتقار في الإيجاد إلى معاونة علة خارجة وقد فرضنا أن علة كل مجموع أمر داخل فيه لا خارج عنه وظاهر أنه لا دخل لمعلوله الأخير في إيجاده فإن قيل إذا أخذت الجملة أعم من أن تكون سلسلة واحدة أو سلاسل غير متناهية على ما ذكرتم فهذا المنع أيضا مندفع إذ ليس هناك معلول أخير ومجموع مرتب قبله قلنا بل وارد بأن يجعل علتها الجزء الذي هو المجموعات الغير المتناهية التي قبل معلولاتها الأخيرة الغير المتناهية فإن قيل نحن نقول من الابتداء علة الجملة لا يجوز أن تكون جزأ منها لعدم أولوية بعض الأجزاء أو لأن كل جزء يفرض فعلته أولى منه بأن تكون علة للجملة لكونها أكثر تأثيرا قلنا ممنوع بل الجزء الذي هو ما قبل المعلول الأخير متعين للعلية لأن غيره من الأجزاء لا يستقل بإيجاد الجملة على مالا يخفى وعلى أصل الدليل منع آخر وهو أنا لانم افتقار الجملة المفروضة إلى علة غير علل الآحاد وإنما يلزم لو كان لها وجود مغاير لوجودات الآحاد المعللة كل منها لعلته وقولهم أنها ممكن مجرد عبارة بل هي ممكنات تحقق كل منها بعلته فمن أين يلزم الافتقار إلى علة أخرى وهذا كالعشرة من الرجال لا يفتقر إلى غير علل الآحاد وما يقال أن وجودات الآحاد غير وجود كل منها كلام خال عن التحصيل قال الثاني
الوجه الثاني ويسمى برهان التطبيق وعليه التعويل في كل ما يدعى تناهيه أنه لو وجدت سلسلة غير متناهية إلى علة محضة تنقص من طرفها المتناهي واحد فتحصل جملتان إحداهما من المعلول المحض والثانية من الذي
____________________
(1/167)
فوقه ثم تطبق بينهما فإن وقع بإزاء كل جزء من التامة جزء من الناقصة لزم تساوي الكل والجزء وهو محال وإن لم يقع ولا يتصور ذلك إلا بأن يوجد جزء من التامة لا يكون بإذائه جزء من الناقصة لزم انقطاع الناقصة بالضرورة والتامة لا يزيد عليها إلا بواحد على ما هو المفروض فيلزم تناهيها ضرورة أن الزائد على المتناهي بالمتناهي متناه واعترض بوجهين
أحدهما نقض أصل الدليل بأنه لو صح لزم أن تكون الأعداد متناهية لأنا نفرض جملة من الواحد إلى غير النهاية وأخرى من الاثنين إلى غير النهاية ثم نطبق بينهما وتناهي الأعداد باطل بالاتفاق وأن تكون معلومات الله تعالى متناهية للتطبيق بين الكامل وبين الناقص منه بواحد وتناهيها باطل عند المتكلمين وأن تكون الحركات الفلكية متناهية للتطبيق بين سلسلة من هذه الدورة وأخرى من الدورة التي قبلها وتناهيها باطل عند الفلاسفة وثانيهما نقض المقدمة القائلة بأن إحدى الجملتين إذا كانت أنقص من الأخرى لزم انقطاعها بأن الحاصل من تضعيف الواحد مرارا غير متناهية أقل من تضعيف الاثنين مرارا غير متناهية مع لاتناهيها اتفاقا ومقدورات الله تعالى أقل من معلوماته لاختصاصها بالممكنات وشمول العلم للممتنعات أيضا مع لاتناهي المقدورات عندنا ودورات زحل أقل من دورات القمر ضوررة مع لاتناهيها عند الفلاسفة وحاصل الاعتراض أنا نختار أنه يقع بإزاء كل جزء من التامة جزء من الناقصة ولانم لزوم تساويهما فإن ذلك كما يكون للتساوي فقد يكون لعدم التناهي وإن سمي مجرد ذلك تساويا فلانم استحالة ذلك فيما بين التامة والناقصة بمعنى نقصان شيء من جانبها المتناهي وإنما يستحيل ذلك في الزائدة والناقصة بمعنى كون عدد إحداهما فوق عدد الأخرى وهو ليس بلازم فيما بين غير المتناهيين وإن نقصت من أحدهما ألوف وقد يجاب عن المنع بدعوى الضرورة في أن كل جملتين إما متساويتان أو متفاوتتان بالزيادة والنقصان وأن الناقصة يلزمها الانقطاع وعن النقض بتخصيص الحكم أما عندنا فبما دخلت تحت الوجود سواء كانت مجتمعة كما في سلسلة العلل والمعلولات أو لا كما في الحركات الفلكية فإنها من المعدات فلا يرد الأعداد لأنها من الاعتبارات العقلية ولا يدخل في الوجود من المعدودات إلا ما هي متناهية وكذا معلومات الله تعالى ومقدوراته ومعنى لاتناهيها أنه لا تنتهي إلى حد لا يكون فوقه عدد أو معلوم أو مقدور آخر وأما عند الفلاسفة فبما يكون موجودة معا بالفعل مترتبة وضعا كما في سلسلة المقادير على ما يذكر في تناهي الأبعاد أو طبعا كما في سلسلة العلل والمعلولات فلا يرد الحركات الفلكية لكونها متعاقبة غير مجتمعة ولا جزئيات نوع واحد كالنفوس الناطقة على تقدير عدم تناهيها بحسب العدد لكونها غير مترتبة فإن قيل التخصيص في الأدلة العقلية اعتراف ببطلانها حيث يتخلف المدلول عنها قلنا معناه أن الدليل لا يجري في صورة النص بل يختص بما عداها أما عندنا فنظرا إلى أن مالا تحقق له
____________________
(1/168)
في نفس الأمر لا يمكن التطبيق فيه إلا بمجرد الوهم فينقطع بانقطاعه بخلاف ما في نفس الأمر فإنه لا بد أن يقع بإزاء كل جزء جزء أو لا يقع وهو معنى الانقطاع وأما عندهم فنظرا إلى أن التطبيق بحسب نفس الأمر إنما يتصور فيما له مع الوجود ترتب ليوجد بإزاء كل جزء من هذه جزء من تلك فلا يجري في الأعداد ولا في الحركات الفلكية ولا في النفوس الناطقة والحق أن تحصيل الجملتين من سلسلة واحدة ثم مقابلة جزء من هذه بجزء من تلك إنما هو بحسب العقل دون الخارج فإن كفى في تمام الدليل حكم العقل بأنه لا بد أن يقع بإزاء كل جزء جزء أو لا يقع فالدليل جار في الأعداد وفي الموجودات المتعاقبة والمجتمعة المترتبة وغير المترتبة لأن للعقل أن يفرض ذلك في الكل وإن لم يكف ذلك بل اشتراط ملاحظة إجراء الجملتين على التفصيل لم يتم الدليل في الموجودات المترتبة فضلا عما عداها لأنه لا سبيل للعقل إلى ذلك إلا فيما لا يتناهى من الزمان قال الثالث لما اشتملت
الوجه الثالث أنه لو تنته سلسلة العلل والمعلولات إلى علة لا يكون معلولا لشيء لزم عدم تكافؤ المتضايفين واللازم بط لما سيجيء أو نقول لو كان المتضايفان متكافئين لزم انتهاء السلسلة إلى علة محضة والمقدم حق لأن معناه أنهما بحيث إذا وجد أحدهما في العقل أو في الخارج وجد الآخر وإذا انتفى انتفى وجه اللزوم أن المعلول الأخير يشتمل على معلولية محضة وكل مما فوقه على علية ومعلولية فلو لم ينته إلى ما يشتمل على علية محضة لزم معلولية بلا علية فإن قيل المكافي لمعلولية المعلول المحض علية المعلول الذي فوقه بلا وسط لا علية العلة المحضة قلنا نعم إلا أن المراد أنه لا بد أن يكون بإزاء كل معلولية علية وهذا يقتضي ثبوت العلة المحضة وللقوم في التعبير عن هذا الاستدلال عبارتان
أحدهما لو تسلسلت العلل والمعلولات إلى غير النهاية لزم زيادة عدد المعلول على عدد العلة وهو باطل ضرورة تكافؤ العلية والمعلولية وبيان اللزوم أن كل علة في السلسلة فهو معلول على ما هو المفروض وليس كل ما هو معلول فيها علة كالمعلول الأخير
وثانيهما نأخذ جملة من العليات التي في هذه السلسلة وأخرى من المعلوليات ثم نطبق بينهما فإن زادت آحاد إحداهما على الأخرى بطل تكافؤ العلية والمعلولية لأن معنى التكافؤ أن يكون بإزاء كل معلولية علية وبالعكس وإن لم تزد لزم علية بلا معلولية ضرورة أن في الجانب المتناهي معلولية بلا علية كما في المعلول الأخير فلزم الخلف لأن التقدير عدم انتهاء السلسلة إلى علة محضة ( قال الرابع نعزل )
الوجه الرابع أنا نعزل المعلول المحض من السلسلة المفروضة ونجعل كلا من الآحاد التي فوقه متعددا باعتبار وصفي العلية والمعلولية لأن الشيء من حيث أنه علة مغاير له من حيث أنه معلول فتحصل جملتان متغايرتان بالاعتبار إحداهما العلل والأخرى المعلولات ويلزم عند التطبيق بينهما زيادة وصف
____________________
(1/169)
العلية ضرورة سبق العلة على المعلول فإن كل علة لا تنطبق على معلولها في مرتبتها بل على معلول علتها المتقدمة عليها بمرتبة لخروج المعلول الأخير لعدم كونه مفروضا للعلية فيلزم زيادة مراتب العلل بواحدة وإلا بطل السبق اللازم للعلة ومعنى زيادة مرتبة العلية أن يوجد علة لا تكون معلولا وفيه انقطاع للسلسلتين ( قال الخامس )
الوجه الخامس أن السلسلة المفروضة من العلل والمعلولات الغير المتناهية إما أن تكون منقسمة بمتساويين فيكون زوجا أو لا فيكون فراد وكل زوج فهو أقل بواحد من فرد بعده كالأربعة من الخمسة وكل فرد فهو أقل بواحد من زوج بعده كالخمسة من الستة وكل عدد يكون أقل من عدد آخر يكون متناهيا بالضرورة كيف لا وهو محصور بين حاصرين هما ابتداؤه وذلك الواحد الذي بعده ورد بأنا لا نسلم أن كل مالا ينقسم بمتساويين فهو فرد وإنما يلزم لو كان متناهيا فإن الزوجية والفردية من خواص العدد المتناهي وقد يطوي حديث الزوجية والفردية فيقال كل عدد فهو قابل للزيادة فيكون أقل من عدد فيكون متناهيا والمنع ظاهر قال السادس
الوجه السادس أن ما بين هذا المعلول كالمعلول الأخير وكل من علله البعيدة الرافعة في السلسلة متناه ضرورة كونه محصورا بين حاصرين وهذا يستلزم تناهي السلسلة لأنها حينئذ لا تزيد على المتناهي إلا بواحد بحكم الحدس فإنه إذا كان ما بين مبدأ المسافة وكل جزء من الأجزاء الواقعة فيها لا يزيد على فرسخ فالمسافة لا تزيد على فرسخ إلا بجزء هو المنتهي إن جعلنا المبدأ مندرجا على ما هو المفهوم من قولنا سني ما بين خمسين إلى ستين وإلا فبجزئين فيصلح الدليل للنظر وإصابة المطلوب وإن لم يصلح للمناظرة وإلزام الخصم لأنه قد لا يذعن للمقدمة الحدسية بل ربما يمنعها مستندا بأنه إنما يلزم ذلك لو كان مراتب ما بين متناهيا كما في المسافة وإما على تقدير لاتناهيها كما في السلسلة فلا إذ لا ينتهي إلى ما بين لا يوجد ما بين آخر أزيد منه وقد تبين الاستلزام بأن المتألف من الأعداد المتناهية لا يكون إلا متناهيا وهو في غاية الضعف لأنه إعادة للدعوى بل ما هو أبعد منها وأخفى لأن التألف من نفس الآحاد أقرب إلى التناهي من التألف من الأعداد التي كل منها متناهية الآحاد فالمنع عليه أظهر وإنما يتم لو كانت عدة الأعداد المتناهية متناهية وهو غير لازم ومن ههنا يذهب الوهم إلى أن هذا استدلال بثبوت الحكم أعني التناهي لكل على ثبوته للكل وهو باطل ( قال السابع )
____________________
(1/170)
الوجه السابع أنه لو وجدت سلسلة بل جملة غير متناهية سواء كانت من العلل والمعلولات أو غيرهما مجتمعة أو متعاقبة فهي لا محالة تشتمل على ألوف فعدة الألوف الموجودة فيها إما أن تكون مساوية لعدة آحادها أو أكثر وهو ظاهر الاستحالة لأن هذه الآحاد يجب أن تكون ألف مرة مثل عدة الألوف لأن معناها أن يأخذ كل ألف من الآحاد واحدا حتى يكون عدة مائة ألف مائة وإما أن يكون أقل وهو أيضا باطل لأن الآحاد حينئذ تشتمل على جملتين إحداهما بقدر عدة الألوف والأخرى بقدر الزائد عليها والأولى أعني الجملة التي بقدر عدة الألوف إما أن تكون من الجانب المتناهي أو من الجانب الغير المتناهي وعلى التقديرين يلزم تناهي السلسلة هذا خلف وإن كانت السلسلة غير متناهية من الجانبين يفرض مقطعا فيحصل جانب متناهي فيتأتى الترديد أما لزوم التناهي على التقدير الأول فلأن عدة الألوف متناهية لكونها محصورة بين حاصرين هما طرف السلسلة والمقطع الذي هو مبدأ الجملة الثانية أعني الزائد على عدة الألوف على ما هو المفروض وإذا تناهت عدة الألوف تناهت السلسلة لكونها عبارة عن مجموع الآحاد المتألفة من تلك العدة من الألوف والمتألف من الجمل المتناهية الأعداد والآحاد متناه بالضرورة وأما على التقدير الثاني فلأن الجملة التي هي بقدر الزائد على عدة الألوف تقع في الجانب المتناهي وتكون متناهية ضرورة انحصارها بين طرف السلسلة ومبدأ عدة الألوف وهي أضعاف عدة الألوف بتسعمائة وتسعة وتسعين مرة فيلزم تناهي عدة الألوف بالضرورة ويلزم تناهي السلسلة لتناهي أجزائها عدة وآحادا على ما مر ويرد عليه وعلى بعض ما سبق منع المنفصلة القائلة بأن هذا مساو لذاك أو أكثر أو أقل فإن التساوي والتفاوت من خواص المتناهي وإن أريد بالتساوي مجرد أن يقع بإزاء كل جزء من هذا جزء من ذاك فلا نسلم استحالته فيما بين العدتين كما في الواحد إلى مالا يتناهى والعشرة إلى مالا يتناهى وكون أحدهما أضعاف الآخر لا ينافي التساوي بهذا المعنى ولو سلم فمنع كون الأقل منقطعا فإن السلسلة إذا كانت غير متناهية كان بعضها الذي من الجانب الغير المتناهي أيضا غير متناه وكذا عدة ألوفها أو مئاتها أو عشراتها وحديث الجملتين وانقطاع أوليهما بمبدأ الثانية كاذب ( قال المبحث السابع المادة للصورة ) لما كانت الجزئية معتبرة في مفهومي المادة والصورة لم يكونا مادة وصورة إلا باعتبار الإضافة إلى المركب منهما وإما باعتبار إضافة كل منهما إلى الأخرى فالمادة محل وقابل وحامل للصورة والصورة جزء فاعل لها بمعنى أن فيضان وجود المادة عن الفاعل يكون بإعانة من الصورة ضرورة احتياج المادة إليها مع امتناع استقلالها بالعلية لأن المادة إنما تحتاج إلى الصورة
____________________
(1/171)
من حيث هي صورة مالا من حيث هي تلك الصورة المعينة ضرورة بقائها عند انعدام الصورة المعينة والصورة من حيث هي صورة مالا تكون واحدة بالعدد فلا يمكن أن تكون علة مستقلة للمادة الواحدة بالعدد وإنما لم يجعلوا المادة جزء فاعل للصورة بناء على احتياج الصورة إليها لما تقرر عندهم من أن شأن المادة القبول لا الفعل فإن قيل لما احتاجت الصورة إلى المادة امتنع كونها جزأ من فاعلها للزوم الدور لما زعموا أن تشخص الصورة يكون بالمحل المعين ومن حيث هو قابل لتشخصها وتشخص المحل يكون بالصورة المطلقة ومن حيث هي فاعل لتشخصه فلا دور ولا تتقوم المادة بصورتين في درجة إما بطريق الاستقلال بأن يكون كل منهما مقوما فظاهر لأن تقومها لكل منهما يستلزم الاستغناء عن الأخرى وإما بطريق الاجتماع فلأن المقوم ح يكون هو المجموع إلى كل واحد والمجموع أمر واحد ويجوز تقوم المادة بصورتين في درجتين كالصورة الجسمية والنوعية للمادة بمعنى أنها تفتقر في وجودها إلى الصورة الجسمية المفتقرة إلى الصورة النوعية فيقع افتقار المادة إليها في الدرجة الثانية قال وقد يقال كل من الصورة والمادة يقال بالاشتراك بمعنى غير ما سبق فالصورة للهيئة الحاصلة في أمر قابل له وحدة بحسب الذات أو بحسب الاعتبار والمادة لمحل تلك الهيئة كالبياض والجسم وبهذا الاعتبار يصح إضافة كل منهما إلى الآخر والظاهر أن إطلاق الصورة والمادة في المركبات الصناعية مثل السيف والسرير والبيت يكون بهذا المعنى لأن الهيئة التي أحدثها النجار وسموها الصورة السريرية إنما هي عرض قائم بالخشبات لا جوهر حال فيها وكذا صورة السيف والبيت وعلى هذا يندفع اعتراض الإمام على تفسير العلة الصورية بأن الهيئة السيفية صورة للسيف وليست مما يجب معها السيف بالفعل إذ قد يكون في خشب أو حجر ولا سيف وأجاب الإمام بأنا لا نعني بوجوب المركب مع الصورة أن نوع الصورة يوجب المركب بل أن الصورة الشخصية السيفية مثلا توجب ذلك السيف بخلاف مادته الشخصية فإنها لا توجبه بل قد تكون بعينها مادة لشيء آخر والصورة الحاصلة في الحجر ليست بعينها الصورة الحالة في الحديد بل بنوعها وهذا يشعر بأن المراد بالصورة في المركبات الصناعية أيضا الجزء الذي يجب المركب معه بالفعل ولا يستقيم إلا إذا جعلنا السيف مثلا اسما للمركب من المعروض الذي هو الحديد والعارض الذي هو الهيئة فيكون كل منهما داخلا فيه ووجوبه مع الأول بالقوة ومع الثاني بالفعل ( قال وأما غاية الشيء ) يريد بيان علته الغائية دفعا لما يستبعد من كون المتأخر عن الشيء علة له فمعنى كون غاية الشيء علة له أن ذلك الشيء يفتقر في وجوده العيني إلى
____________________
(1/172)
وجودها العقلي بواسطة أنه يحتاج إلى علته الفاعلية وهي في كونها علة تحتاج إلى تصور الغائية ضرورة أن الفاعل مالم يتصور غاية مالا يفعل إلا لغاية لم يفعله ومن ههنا قالوا أن الغاية بماهيتها أي بصورتها الذهنية علة لفاعلية الفاعل وبانيتها أي هويتها الخارجية معلول للفاعل بل لمعلوله الذي هو ما له الغاية فإن النجار يتصور الجلوس على السرير فيوجده ثم يوجد الجلوس عليه وللقوم عبارة أخرى وهو أن الغاية بالوجود الذهني علة وبالوجود العيني معلول وهذا معنى قولهم أول الفكر آخر العمل فإن قيل الغاية قد لا تكون معلولا بل قديما كما يقال الواجب تعالى غاية الغايات وقد لا يكون مقصودا للفاعل وإن كان مختارا كالعثور على الكنز في حفر البئر وقد لا يكون للفاعل قصد واختيار كغاية الحركات الغير الإرادية مثل الوصول إلى الأرض كهبوط الحجر قلنا قد تطلق الغاية على ما ينتهي إليه الفعل وإن لم يكن مقصودا وبهذا الاعتبار أثبتوا للقوى الطبيعية والأسباب الاتفاقية غايات وقالوا ما يتأدى إليه السبب إن كان تأديته دائما أو أكثريا فهي غاية ذاتية وإلا فاتفاقية كمن حفر بئرا فوجد كنزا وتحقيقه أن العلة قد تتوقف عليته على أمور خارجة عن ذاتها غير دائمة ولا أكثرية معها فيقال لها بدون تلك الشرايط علة اتفاقية فإن اتفق حصول تلك الشرائط معها ترتب المعلول عليها لا محالة فيسمى ذلك المعلول باعتبار النسبة إلى العلة وحدها غاية اتفاقية وإن كان باعتبار النسبة إليها مع جميع الشرائط غاية ذاتية قال تنبيه أكثر الأحكام السابقة للعلة الفاعلية لمعنى المؤثر كالانقسام إلى البسيطة والمركبة وإلى الكلية والجزئية وككونها معلولا لأمر آخر وككونها متناهية الآثار إلى غير ذلك إنما هي على رأي من يجعل بعض الممكنات مؤثرا في البعض كالفلاسفة وكثير من المليين وأما على رأي القائلين باستناد الكل إلى الله تعالى ابتداء فمعنى علية الممكن للشيء جرى العادة بأن الله يخلق ذلك الشيء عقيب ذلك الممكن بحيث يتبادر إلى العقل أن وجوده موقوف على وجوده بحيث يصح أن يقال وجد فوجد من غير أن يكون له تأثير فيه فعلة الاحتراق تكون هي النار لا الماء وإن وجد عقيب مماستهما وعلة أكل زيد لا يكون شرب عمرو وإن وجد عقيبه قال المقصد الثالث في الإعراض وفيه فصول خمسة في المباحث الكلية وفي الكم وفي الكيف وفي الابن وفي باقي الأعراض النسبية وجعل الابن فصلا على حدة لكثرة مباحثه وجعل المبحث الأول من الكليات لتقسيم الموجود لينساق إلى بيان أقسام الأعراض أما عند المتكلمين فالموجود إن لم يكن مسبوقا بالعدم فقديم وإن كان مسبوقا به فحادث فالقديم هو الواجب تعالى وصفاته الحقيقية لما سيجيء من حدوث العالم والحادث إما متحيز بالذات وهو الجوهر بأقسامه التي ستأتي وإما حال في المتحيز بالذات وهو العرض
____________________
(1/173)
وإما ما لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز فلم يعدوه من أقسام الموجود لأنه لم يثبت وجوده لما سيأتي من ضعف أدلته وربما يستدل على امتناعه بأنه لو وجد لشاركه الباري في التجرد ويحتاج في الامتياز إلى فصل فيتركب وضعفه ظاهر لأن الاشتراك في العوارض سيما السلبية لا يوجب التركب والعرض إما أن يكون مختصا بالحي كالحياة وما يتبعها من العلم والقدرة والإرادة والكلام والإدراكات أعني الإحساس بالحواس الظاهرة والباطنة وإما أن لا يكون مختصا وهي الأكوان والمحسوسات فالأكوان أربعة الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وزاد بعضهم الكون الأول وهو الحصول في الحيز عقيب العدم والمحسوسات المدركات بالبصر أو السمع أو الشم أو الذوق أو اللمس على ما سيجيء تفصيلها وجعل بعضهم الألوان من المبصرات وأما عند الفلاسفة فالموجود في الخارج إن كان وجوده لذاته بمعنى أنه لا يفتقر في وجوده إلى شيء أصلا فهو الواجب وإلا فالممكن والممكن إن استغنى في الوجود عن الموضوع فجوهر وإلا فعرض والمراد بالموضوع محل يقوم الحال فالصورة الجوهرية إنما تدخل في تعريف الجوهر دون العرض لأنها وإن افتقرت إلى المحل لكنها مستغنية عن الموضوع فإن المحل أعم من الموضوع كما أن الحال أعم من العرض ثم خروج الواجب عن تعريف الجوهر حيث قيد الوجود بالإمكان ظاهر قالوا وكذلك إذا لم يقيد مثل موجود لا في موضوع فإن معناه ماهية إذا وجدت كانت لا في موضوع وليس للواجب ماهية ووجود زائد عليها ومعنى وجود العرض في المحل أن وجوده في نفسه هو وجوده في محله بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر بخلاف وجود الجسم في المكان فإنه أمر مغاير لوجوده في نفسه مرتب عليه زائل عنه عند الانتقال إلى مكان آخر وتحقيق ذلك أن ملاقاة موجود لموجود بالتمام لا على سبيل المماسة والمجاورة بل بحيث لا يكون بينهما تباين في الوضع ويحصل للثاني صفة من الأول كملاقاة السواد للجسم يسمى حلولا والموجود الأول حالا والثاني محلا والحال قد يكون بحيث لا يتقوم ولا يتحصل المحل بدونه فيسمى صورة ومحلها مادة وقد يكون بخلافه فيسمى الحال عرضا والمحل موضوعا ( قال وأجناس الأعراض بحكم الاستقراء تسعة ) الكم والكيف والابن والمتى والوضع والملك والإضافة وأن يفعل وأن ينفعل وعولوا في ذلك على الاستقراء واعترفوا بأنه لا يمكن إثبات كونها ليست أقل أو أكثر وأن كل ما ذكر في بيان ذلك تكلف لابخ عن ضعف ورداءة وإذا كان هذا كلام ابن سينا فلا وجه لما ذكر في المواقف من أنه احتج على الحصر بأن العرض أن قبل القسمة لذاته فالكم وإلا فإن لم يقتض النسبة لذاته فالكيف وإن اقتضاها فالنسبة إما للأجزاء بعضها إلى بعض وهو الوضع أو للمجموع إلى أمر خارج وهو إن كان عرضا فإما كم غير قار فمتى أو قار ينتقل بانتقاله فالملك أولا فالابن وإما نسبة
____________________
(1/174)
فالمضاف وإما كيف والنسبة إليه إما بأن يحصل منه غيره فإن يفعل أو يحصل هو من غيره فإن ينفعل وإن كان جوهرا فهو لا يستحق النسبة له أو إليه إلا لعارض فيؤول إلى النسبة إلى العرض ويندرج فيما ذكرنا ثم اعتراضه بما في التقسيم من الترديدات الناقصة والتعيينات الغير اللازمة وبأنه إن عول على الاستقراء كان هذا التقسيم ضايعا ولزمه الرجوع إلى الاستقراء من أول الأمر طرحا لمؤنة هذه المقدمات ثم اعتذاره بأنه إن أراد الإرشاد إلى وجه ضبط تسهل الاستقراء وتقلل الانتشار فلا بأس قال وزعموا ذهب الجمهور من الحكماء إلى أن الأجناس العالية للممكنات عشرة وهي الأعراض التسعة والجوهر ويسمونها المقولات العشرة ومبنى ذلك على أن كلا منها جنس لما تحته لا عرض عام وما تحته من الأقسام الأولية أجناس لا أنواع وأن ليس الموجود جنسا للجوهر والعرض ولا العرض جنسا للأعراض التسعة ولا النسبة لأقسامها السبعة وبينوا ما يحتاج من ذلك إلى البيان بأن المعنى من الجوهر ذات الشيء وحقيقته فيكون ذاتيا بخلاف العرض فإن معناه ما يعرض للموضوع وعروض الشيء للشيء إنما يكون بعد تحقق حقيقته فلا يكون ذاتيا لما تحته من الأفراد وإن جاز أن يكون ذاتيا لما فيها من الحصص كالماشي لحصصه العارضة للحيوانات وكذا النسبة للنسبيات السبع فإنهم لا يعنون بها ما تدخل النسبة في ذواتها سوى الإضافة فإنها نسبة متكررة على ما سيأتي الكلام في النسبة بأن الموجود لو كان ذاتيا لهما لما كان مقولا بالتشكيك ولما أمكن تعقل شيء من الجواهر والأعراض مع الشك في وجوده ولما احتاج اتصافه بالوجود إلى سبب كحيوانية الإنسان ولونية السواد وتعريفهما بالموجود في موضوع والموجود لا في موضوع رسم باللازم لأحد ومع ذلك فليس اللازم هو الوجود حتى يكون كل جوهر مثلا موجودا البتة لأن معناه أنه ماهية إذا وجدت لم يكن في موضوع وهذا المعنى هو اللازم له وهذا مع ما فيه من ضعف مقدمات إثبات جنسية الجوهر ونفي جنسية العرض لا يفيد تمام المط لجواز أن يكون للكل أو للبعض منها ذاتي مشترك هو الجنس ولا معول سوى الاستقراء وذهب بعضهم إلى أن أجناس الأعراض ثلاثة الكم والكيف والنسبة لأنه إن قبل القسمة لذاته فكم وإلا فإن اقتضى النسبة لذاته فنسبة وإلا فكيف وزاد بعضهم قسما رابعا هو الحركة وقال العرض إن لم يتصور ثباته لذاته فحركة واحترز بقيد لذاته عن الزمان فإنه لا يتصور ثباته بسبب أنه مقدار الحركة وإن تصور ثباته فنسبة أو كم أو كيف على ما مر ثم الجمهور على أن الحركة في الابن من مقولة الابن وقيل من مقولة أن ينفعل لكونها عبارة عن التغير المندرج وإليه مال الإمام الرازي وأما الحركة في الكم والكيف والوضع فظ أنها ليست من الكم أو الكيف أو الوضع فتعين كونها من أن ينفعل إلا أنه يشكل بأن الحركة الموجودة ربما يدعى كونها محسوسة وأن ينفعل اعتبارية ومن ههنا
____________________
(1/175)
ذهب البعض إلى أن الحركة خارجة عن المقولات قال وأما مثل الوحدة والنقطة لما حصروا المقولات في العشر المذكورة بمعنى أن شيئا من الماهيات الممكنة التي تحيط بها العقول لا يخرج عنها بل يكون نفس إحداهما أو مندرجا تحتها ورد الإشكال بالوحدة والنقطة فأجيب بوجوه
( 1 ) أنهما من الأمور العدمية كالعمى والجهل والحصر إنما هو للأمور الوجودية واعترض بأنه لو سلم ذلك في الوحدة فالنقطة وجودية لكونها ذات وضع على ما مر
( 2 ) أنهما من مقولة الكيف لأنها عرض لا يقتضي قسمة ولا نسبة وهذا صادق عليها واعترض بأنهم حصروا الكيف في أقسام أربعة هما خارجتان عنها
( 3 ) التزام أنهما خارجتان عن المقولات العشرة ولا يقدح ذلك في الحصر لأن معناه أن الأجناس العالية لما تحيط به عقولنا من الماهيات المندرجة تحت الجنس هي هذه العشرة وهذا لا ينافي وجود شيء لا يكون جنسا عاليا ولا مندرجا تحت جنس عال والإشكال إنما يرد لو ثبت كون كل من الوحدة والنقطة جنسا عاليا أو تحت جنس آخر وبهذا يندفع ما قال الإمام لا بد في تمام الجواب من إقامة البرهان على أنهما من الطبايع النوعية دون الجنسية ( قال وكذا الوجود والوجوب والإمكان ونحوها ) يعني أنها خارجة عن المقولات العشرة أما الوجود فلأنه ليس بجوهر وهو ظاهر ولا عرض لأن من شأن العرض تقومه بالموضوع دون العكس ومن المحال تقوم الشيء بدون الوجود وأما مثل الوجوب والإمكان فلأنه ليس من الكيف لما فيه من معنى النسبة ولا من غيره وهو ظاهر ومع ذلك فلا يقدح في الحصر لأنها ليست أجناسا عالية وهذا ما قال ابن سينا وأشياعه أن المعاني المعقولة التي هي أعم من هذه المقولات لازمة لأكثر الماهيات كالوجود والوجوب والإمكان والمعاني التي هي مبادي كالوحدة والنقطة والآن فإنما هي أنواع حقيقية غير مندرجة تحت جنس فلا يقدح فيما ذكرنا من الحصر فإن قيل الحصر إنما هو للحقايق الخارجية وهذه اعتبارات عقلية فلا حاجة إلى ما ذكرتم قلنا كثير من المقولات ليست أعيانا خارجية كالإضافة وأن يفعل وأن ينفعل قال وأما صفات الباري يعني أنها لا تقدح في الحصر وإن كانت ممكنة غير داخلة تحت شيء من المقولات العشر إجماعا أما عند الفلاسفة فلأنهم لا يثبتونها وأما عندنا فلأن المنقسم إلى الجوهر والعرض هو الحادث والصفات قديمة غاية الأمر أنه يلزمنا قديم ليس بواجب لذاته ولا جوهر ولا عرض ولا إشكال فيه ( قال المبحث الثاني ) قد يكون من الضروريات ما يشتبه على بعض الأذهان فيورد في المطالب العلمية ويذكر في معرض الاستدلال ما ينبه على مكان الضرورة أو يفيد ببيان الكمية كامتناع قيام العرض بأكثر من محل واحد فإن الضرورة قاضية بأن العرض القائم بهذا المحل يمتنع أن يكون هو
____________________
(1/176)
بعينه القائم بمحل آخر إلا أنه بين لميته بأن تشخص العرض إنما هو بالمحل يعني أن محله مستقل بتشخصه فلو قام بمحلين لزم اجتماع العلتين المستقلتين على معلول واحد هو تشخص ذلك العرض ونبه عليه بأن حصول العرض الواحد في محلين كحصول الجسم الواحد في مكانين فلو جاز ذلك لزم جواز هذا وهو ضروري البطلان وبأنه لو جاز قيام العرض الواحد بمحلين لما حصل الجزم بأن السواد القائم بهذا المحل غير السواد القائم بذلك لجواز أن يكون سوادا واحدا قائما بهما واللازم باطل بالضرورة وقد يكون منها مالا يحتاج إلى التنبيه أيضا كامتناع قيام العرض بنفسه فالقول به كما نقل عن أبي الهذيل أن الله تعالى مريد بإرادة عرضية حادثة لا في محل يكون مكابرة محضة بخلاف قيام العرض الواحد بمحلين ولهذا جوزه بعض القدماء من المتكلمين الفلاسفة زعما منهم أن القرب قائم بالمتقاربين والجوار بالمجاورين والأخوة بالأخوين إلى غير ذلك من الإضافات المتحدة في الجانبين بخلاف مثل الأبوة والبنوة فإن قيام الأبوة بالأب والبنوة بالابن ورد بأنا لا نسلم أن الواحد بالشخص قائم بالطرفين بل القائم بكل منهما فرد مغاير للقائم بالآخر غاية الأمر تماثلهما واتحادهما بالنوع ولا يلزم من اشتراك النوع اشتراك الشخص وهذا كالإضافات المتخالفة مثل الأبوة والبنوة فإن مغايرة القائم بهذا القائم بذاك في غاية الظهور وجوزه أبو هاشم من المعتزلة زعما منه أن التأليف عرض قائم بالجوهرين ويمتنع قيامه بأكثر من جوهرين حتى أنه إذا ألف بين أجزاء كثيرة كان بين كل جزءين تأليف مغاير للتأليف القائم بجزءين آخرين أما الأول فلأن عسر انفكاك أجزاء الجسم لا بد أن يكون لرابط وليس إلا التأليف لأنه لم يحصل عند اجتماعها وصيرورتها جسما أمر غيره فلا يكون عدميا بل ثبوتيا قائما بشيئين ضرورة ورد بالمنع لجواز أن يكون بسبب آخر كإرادة الفاعل المختار وأما الثاني فلأنه لو قام بأكثر من جزئين كالثلاثة مثلا لانعدم بانعدام أحد الأجزاء ضرورة انعدام الحال بانعدام المحل الذي هو جميع الأجزاء واللازم باطل ضرورة بقاء التأليف فيما بين الجزئين الباقيين ورد بأنا لا نسلم أن التأليف الباقي بين الجزئين هو بعينه التأليف القائم بالثلاثة لم لا يجوز أن ينعدم ذاك ويحدث هذا فإن قيل قيام العرض الواحد بالكثير مما قال به الفلاسفة كالوحدة بالعشرة الواحدة والتثليث بمجموع الأضلاع الثلاثة المحيط بسطح والحياة ببنية متجزئة إلى أعضاء والقيام بمجموع أجزاء زيد قلنا المتنازع هو أن يكون العرض القائم بمحل هو بعينه القائم بالمحل الآخر لا أن يكون العرض الواحد قائما بمجموع شيئين صارا بالاجتماع محلا واحدا له كما في هذه الصور والظاهر أن مراد أبي هاشم أيضا هذا المعنى إلا أنه لم يجوز القيام بما فوق الاثنين لما ذكر من لزوم انعدام التأليف عند إزالة أحد الأجزاء من الاجتماع
____________________
(1/177)
وكأنه يدعي القطع ببقاء التأليف دون زوال تأليف وحدوث آخر ( قال المبحث الثالث ) اتفق المتكلمون والحكماء على امتناع انتقال العرض من محل إلى آخر لما سبق من أن معنى قيام العرض بالمحل هو أن وجوده في نفسه هو وجوده في محله فيكون زواله عن ذلك المحل زوالا لوجوده في نفسه فما يوجد فيما يجاور النار من الحرارة أو المسك من الرائحة أو نحو ذلك ليس بطريق الانتقال إليه بل الحدوث فيه بإحداث الفاعل المختار عندنا وبحصول الاستعداد للمحل ثم الإفاضة عليه من المبدأ عندهم وأقوى ما ذكر في كلام القوم من الاحتجاج على هذا المطلوب وجوه
( 1 ) وهو للمتكلمين أن كل عرض غير متخير بالذات ضرورة أنه من خواص الجوهر ولا شيء من غير المتحيز بالذات بمنتقل ضرورة أن الانتقال عبارة عن الحركة الأينية أي الحصول في حيز بعد الحصول في آخر بمعنى الحدوث لا بمعنى الثبات فيه لأنه سكون ورد بأن كون الانتقال عبارة عن الحصول في الحيز بعد الحصول في آخر إنما هو انتقال الجوهر وإما انتقال العرض فعبارة عن الحصول في موضوع بعد الحصول في موضوع آخر ولا نسلم أنه من خواص المتحيز
( 2 ) وهو للحكماء أن تشخص العرض لا يجوز أن يكون لماهيته والألزم انحصار الماهية في شخص ضرورة امتناع تخلف المعلول عن علته الموجبة ولا لما هو حال في العرض والألزم الدور لأن الحال في الشيء محتاج إليه متأخر عنه في الوجود فلو كان علة لتشخصه لكان متقدما عليه ولا لأمر منفصل عنه لأن نسبته إلى الكل على السواء فإفادته هذا التشخص دون ذاك ترجح بلا مرجح ولا لهويته على ما أورده صاحب المواقف سندا لمنع الحصر لأن الهوية تطلق على التشخص وعلى الوجود الخارجي وعلى الماهية من حيث كونها مشخصة وشيء من هذه المعاني ليس بمتقدم على التشخص ليكون علة له فتعين أن يكون تشخص العرض بمحله فإن قيل يجوز أن يكون لأمر حال في محله قلنا ينقل الكلام إلى علة تشخص ذلك الأمر ويرجع آخر الأمر إلى المحل دفعا للدور والتسلسل وإذا كان تشخصه بمحله امتنع بقاؤه بالشخص عند انتقاله عن ذلك المحل ورد بأنا لا نسلم أن نسبة المنفصل إلى الكل على السواء لجواز أن يكون له نسبة خاصة إلى هذا التعين سيما إذا كان مختارا وهو ظاهر
( 3 ) أن العرض محتاج إلى المحل ضرورة فمحله المحتاج إليه إما أن يكون غير معين وهو ليس بموجود ضرورة أن كل موجود معين فيلزم أن يكون غير الموجود محلا للموجود وهو محال وإما أن يكون معينا فيمتنع مفارقته عنه وهو المطلوب ورد بأنه المعين بتعين ما سواء كان هذا أو ذاك كالجسم يحتاج إلى حيز ما كذلك ولا يمتنع انتقاله عنه وهذا هو المعنى بقولهم أن المحتاج إليه محل معين لا بعينه ولا يرد عليه أن ما يكون لا بعينه كان مبهما غير موجود والمرجع بقولهم أنه محل غير معين بمعنى أنه لا يشترط التعين وهو أعم من الذي يشترط اللاتعين فلا يلزم عدمه
( 4 ) أنه لو جاز انتقال العرض فهو حالة الانتقال إما أن يكون في المحل المنتقل عنه
____________________
(1/178)
أو المنتقل إليه وهو باطل لأن هذا استقرار وثبات قبل الانتقال أو بعده لا انتقال أو في محل آخر ضرورة امتناع كون العرض لا في محل فينقل الكلام إلى انتقاله إلى هذا المحل ويعود المحذور ورد أولا بالنقض بانتقال الجسم من حيز إلى حيز فإنه حالة الانتقال إما أن يكون في الحيز المنتقل عنه أو المنتقل إليه أو غيرهما والكل باطل لما ذكرتم فما هو جوابكم فهو جوابنا وثانيا بأنا نختار أنه في حيز ثالث هو بعض من المنتقل عنه وبعض من المنتقل إليه وهكذا حالة الانتقال إلى هذا المحل وإلى ما بينهما إلى مالا يتناهى أو ينتهي إلى جزء لا يتجزأ غاية الأمر أنه يمتنع انتقال العرض الذي يكون في الجوهر الفرد ( قال المبحث الرابع ) جمهور المتكلمين على أنه يمتنع قيام العرض بالعرض تمسكا بوجهين
الأول أن معنى قيام العرض بالمحل أنه تابع له في التحيز فما يقوم به العرض يجب أن يكون متحيزا بالذات ليصح كون الشيء تبعا له في التحيز والمتحيز بالذات ليس إلا الجوهر
الثاني أنه لوقام عرض بعرض فلا بد بالآخرة من جوهر تنتهي إليه سلسلة الأعراض ضرورة امتناع قيام العرض بنفسه وحينئذ فقيام بعض الأعراض بالبعض ليس أولى من قيام الكل بذلك الجوهر بل هذا أولى لأن القائم بنفسه أحق بأن يكون محلا مقوما للحال ولأن الكل في حيز ذلك الجوهر تبعا له وهو معنى القيام واعترض على الوجهين بأنا لا نسلم أن معنى قيام الشيء بالشيء التبعية في التحيز بل معناه اختصاص الشيء بالشيء بحيث يصير نعتا له وهو منعوتا به كاختصاص البياض بالجسم لا الجسم بالمكان والقيام بهذا المعنى لا يختص بالمتحيز كما في صفات الله تعالى عند المتكلمين وصفات الجواهر المجردة عند الفلاسفة فضلا عن أن يختص بالمتحيز لا بالتبعية ثم انتهاء قيام العرض إلى الجوهر مما لا نزاع فيه إلا أنه لا يوجب قيام الكل به لجواز أن يكون الاختصاص الناعت فيما بين بعض الأعراض بأن يكون عرض نعتا لعرض لا للجوهر الذي إليه الانتهاء كالسرعة للحركة والملاسة للسطح والاستقامة للخط فإن المنعوت حقيقة بهذه الأعراض هي تلك لا الجسم فلهذا جوزت الفلاسفة قيام العرض بالعرض وزعموا أن النقطة عرض قائم بالخط والخط بالسطح بمعنى أن ذا النقطة هو الخط وذا الخط هو السطح لا الجسم ومن القائلين بجواز قيام العرض بالعرض من بالغ في ذلك وتمادى في الباطل حتى زعم أن كلا من الوحدة والوجود عرض قائم بمحله فوحدة العرض ووجوده يكون من قيام العرض بالعرض وأجاب المتكلمون بأن مثل النقطة والخط عدمي ولو سلم فمن الجواهر لا الأعراض على ما سيجيء ومثل الملاسة والاستقامة على تقدير كونه وجوديا إنما يقوم بالجسم وبأن السرعة أو البطء ليس عرضا زائدا على الحركة قائما بها بل الحركة أمر ممتد يتخلله سكنات أقل أو أكثر باعتبارها تسمى سريعة أو بطيئة ولو سلم أن البطء ليس لتخلل السكنات فطبقات الحركات أنواع مختلفة والسرعة والبطء عائدا إلى الذاتيات دون العرضيات أو هما من الاعتبارات اللاحقة للحركة بحسب الإضافة إلى حركة أخرى تقطع المسافة المعينة في زمان أقل
____________________
(1/179)
أو أكثر ولهذا يختلف باختلاف الإضافة فتكون السريعة بطيئة بالنسبة إلى الأسرع وبالجملة فليس هناك عرض هو الحركة وآخر هو السرعة أو البطء وأما الوحدة والوجود فقد سبق أن الوحدة اعتبار عقلي بل عدمي وأن الوجود في الخارج نفس الماهية أو هو من الاعتبارات العقلية أو واسطة بين الموجود والمعدوم وبالجملة فجعله من قبيل الأعراض خطأ فاحش لا ينبغي أن يقول به المحصل فإن من شأن العرض أن يفتقر في التقوم إلى المحل ويستغني عنه المحل قال المبحث الخامس ذهب كثير من المتكلمين إلى أن شيئا من الأعراض لا يبقى زمانين بل كلها على التقضي والتجدد كالحركة والزمان عند الفلاسفة وبقاؤها عبارة عن تجدد الأمثال بإرادة الله تعالى وبقاء الجوهر مشروط بالعرض فمن ههنا يحتاجان في بقائهما إلى المؤثر مع أن علة الاحتياج هو الحدوث لا الإمكان احتج أهل الظاهر منهم بوجهين
( 1 ) أن العرض اسم لما يمتنع بقاؤه بدلالة مأخذ الاشتقاق يقال عرض لفلان أمر أي معنى لا قرار له وهذا أمر عارض وهذه الحالة ليست بأصلية بل عارضية ولهذا يسمى السحاب عارضا وليس اسما لما يقوم بذاته بل يفتقر إلى محل يقوم به إذ ليس في معناه اللغوي ما ينبئ عن هذا المعنى
( 2 ) أنه لو بقي فإما ببقاء محله فيلزم أن يدوم بدوامه لأن الدوام هو البقاء وأن يتصف بسائر صفاته من التحيز والتقوم بالذات وغير ذلك لكونها من توابع البقاء وإما ببقاء آخر فيلزم أن يمكن بقاؤه مع فناء المحل ضرورة أنه لا تعلق لبقائه ببقائه وكلا الوجهين في غاية الضعف لأن العروض في اللغة إنما ينبئ عن عدم الدوام لا عن عدم البقاء زمانين وأكثر ولو سلم فلا يلزم في المعنى المصطلح عليه اعتبار هذا المعنى بالكلية ولأن بقاءه ببقاء آخر لا يستلزم إمكان بقائه مع فناء المحل لجواز أن يكون بقاؤه مشروطا ببقاء المحل لوجوده بوجود مو احتج أهل التحقيق بوجهين
( 1 ) أنه لو كان باقيا لكان بقاؤه عرضا قائما به ضرورة كونه وصفا له واللازم باطل لاستحالة قيام العرض بالعرض ورد بمنع الملازمة فإن البقاء عبارة عن استمرار الوجود وانتسابه إلى الزمان الثاني والثالث وليس عرضا قائما بالباقي ومنع انتفاء اللازم إذ لا يتم البرهان على امتناع قيام العرض بالعرض
( 2 ) أنه لو بقي لامتنع زواله واللازم ظاهر البطلان وجه اللزوم أنه لو أمكن زواله بعد البقاء لكان زواله حادثا مفتقرا إلى سبب فسببه إما نفس ذاته فيمتنع وجوده ضرورة أن ما يكون عدمه مقتضى ذاته لم يوجد أصلا وإما زوال شرط من شرائط الوجود فينقل الكلام إلى زوال ذلك الشرط ويتسلسل ضرورة أنه يكون لزوال شرط له وهلم جرا وإما طريان ضد وهو باطل لوجهين أحدهما لزوم الدور فإن طريان أحد الضدين على المحل مشروط بزوال الآخر وهو موقوف عليه فلو توقف
____________________
(1/180)
زوال الآخر على طريانه كان دورا وثانيهما أن التضاد والتنافي إنما هو من الجانبين فدفع الطاري للباقي ليس أولى من دفع الباقي إياه بل الدفع أهون من الرفع لأن فيما يرفع قوة استقرار وسابقة ثبات لا تكون فيما يدفع وأما فاعل مختار أو موجب مع شرط حادث فيلزم أن يكون له أثر ليصح أنه مؤثر إذ حيث لا أثر لا تأثير والعدم نفي محض لا يصلح أثرا ورد بالنقض والقلب والحل إما النقض فتقريره أنه لو صح هذا الدليل لزم أن لا تكون الأجسام باقية وإلا لما جاز عدمها بعين ما ذكر ودفعه بالمناقشة في بقائها كما نسب إلى النظام أو في جواز زوالها كما نسب إلى الكرامية وبعض الفلاسفة يندفع بأن الأول ضروري والثاني مبين في بابه نعم يدفع عند المعتزلة بأن زوال الجسم يكون بأن يخلق الله تعالى فيه عرضا منافيا للبقاء هو الفناء وعندنا بأن ذات الجوهر وإن كان شرطا للعرض إلا أن بقاءه مشروط بالعرض فيجوز أن ينعدم بأن ينقطع تجدد ما لزمه من العرض بأن لا يخلقه الله تعالى ولا يصح هذا في العرض لأنه لا يصلح محلا للعرض حتى يقوم به عرض الفناء أو الذي هو شرط البقاء فإن قيل قيام العرض بالعرض ليس بأبعد من قيام العرض بالمعدوم قلنا مبني على أصلهم في ثبوت المعدوم فإن كان جوهرا يصلح محلا للعرض وإن كان عرضا فلا كما في حال الوجود وأما القلب فلأن العرض لو لم يبق ففناؤه أي عدمه عقيب الوجود إما بنفسه أو بغيره من زوال شرط أو طريان ضد أو وجود مؤثر والكل باطل بعين ما ذكر وأما الحل فيمنع بعض مقدمات بيان إبطال أجزاء المنفصلة وذلك من وجوه
الأول لا نسلم أنه لو كان زواله بنفسه لكان ممتنع الوجود وإنما يلزم لو اقتضى ذاته العدم مطلقا وأما إذا اقتضاه في بعض الأحوال كحال ما بعد البقاء فلا وذلك كالحركة تقتضي العدم عقيب الوجود غاية الأمر أن ترجح بعض الأوقات للزوال يفتقر إلى شرط لئلا يلزم تخلف المعلول عن تمام العلة
الثاني لانم أنه لو كان زواله بزوال شرط لزم الدور أو التس لجواز أن يكون وجود العرض مشروطا بوجود أعراض تتجدد في محالها على سبيل التبادل بأن يصير لاحق بدلا عن سابق في الشرطية إلى أن تنتهي بلاحقهما إلى عرض لا يوجد الفاعل له بدلا فح يزول العرض المشروط بهذا الشرط لزوال شرطه
الثالث لانم أنه لو زال بطريان الضد لزم الدور المحال أو الترجح بلا مرجح أما الأول فلأنه إن أريد بتوقف طريان الضد على زوال الآخر واشتراطه به أن تحققه محتاج إلى تحقق الزوال ولزوال متقدم عليه ولو بالذات ليكون تقدم الطريان عليه بالعلية دورا فاللزوم ممنوع وإن أريد أنه لا يفارقه ويمتنع أن يتحقق بدونه فالاستحالة ممنوعة وذلك كدخول كل جزء من أجزاء الحلقة في حيز الآخر وخروج الآخر عنه فإنه لا يتحقق أحدهما بدون الآخر من غير استحالة نعم يكون للطريان سبق علية وهو لا ينافي المعية الزمانية على أنه يجوز أن تكون العلة طريان الضد على المجاور ويكون طريانه على المحل وزوال الباقي عنه معا بحسب الذات لا تقدم
____________________
(1/181)
لأحدهما على الآخر أصلا وأما الثاني فلجواز أن يكون الطاري أقوى بحسب السبب فيرفع الباقي ولا يندفع به وإن تساويا في التضاد الرابع لانم أن العدم لا يصلح أثرا للفاعل كيف وهو حادث يفتقر إلى محدث والفاعل معدم يلزم أن يكون أثره العدم ولو سلم فنختار أنه بفاعل بمعنى أن لا يفعل العرض أي يترك فعله لا بمعنى أن يفعل عدمه قال والحق يريد أن امتناع بقاء الأعراض على الإطلاق وإن كان مذهبا للاشاعرة وعليه يبتني كثير من مطالبهم إلا أن الحق أن العلم ببقاء بعض الأعراض من الألوان والأشكال سيما الأعراض القائمة بالنفس كالعلوم والإدراكات وكثير من الملكات بمنزلة العلم ببقاء بعض الأجسام من غير تفرقة فإن كان هذا ضروريا فكذا ذاك وإن كان ذاك باطلا فكذا هذا وليس التعويل في بقاء الأعراض على مجرد المشاهدة أو على قيامها على الأجسام حتى يرد الاعتراض بأن الأمثال المتجددة على الاستمرار قد تشاهد أمرا مستمرا باقيا كالماء المصبوب من الأنبوب وبأن القياس على الجسم تمثيل بلا جامع ولا على أنه لما جاز وجود العرض في الزمان الثاني بطريق الإعادة مع تخلل العدم فبدونه أولى لأنه ممنوع بمقدمتيه أعني الملازمة ووضع الملزوم كما أن التعويل في بقاء الأجسام ليس على المشاهدة أو الاستدلال بأنه لولاه لبطل الموت والحياة بناء على أن الحياة عبارة عن استمرار وجود الحيوان والموت عن زوالها لجواز أن تكون الحياة تجدد الأمثال على الاستمرار والموت انقطاعه قال الفصل الثاني في الكم وفيه مباحث ثلاثة لأحكامه الكلية وللزمان وللمكان فمن الأحكام الكلية بيان خواصها وهي ثلاث
الأولى قبول القسمة لذاته حتى أن غيره من الأجسام والأعراض إنما يقبل القسمة بواسطته والقسمة تطلق على الوهمية وذلك بأن يفرض فيه شيء غير شيء وعلى الفعلية بأن ينفصل وينقطع بالفعل أي يحدث له هويتان بعد أن كانت هوية واحدة والجمهور عرفوا الكم بقبول القسمة فقالوا هو عرض يقبل القسمة لذاته والمراد الوهمية لما سيجيء
الثانية قبول المساواة واللامساواة بمعنى أنه إذا نسب إلى كم آخر فإما أن يكون مساويا له أو أزيد أو أنقص وهذه الخاصة فرع الأولى لأنه لما اشتمل على أجزاء وهمية أو فعلية لزم عند نسبته إلى كم آخر أن يكون عدد أجزائهما على التساوي أو على التفاوت وقال الإمام أن قبول الانقسام إنما يلزم الكم بسبب الخاصة الأولى لأنه لما كانت الأجسام يتقدر بعضها بالبعض من غير لزوم المساواة وجب أن يكون فيها ما يقبل المساواة واللامساواة لذاته وهو المقدار ولا يتصور اللامساواة إلا بأن يشتمل أحدهما على مثل الآخر مع الزيادة فلزم أن يقبل القسمة أي فرض شيء غير شيء
الثالثة اشتماله على أمر يعده أي يغنيه بالإسقاط عنه مرارا عاما بالفعل كما في الكم المنفصل فإن الأربعة تعد بالواحد أربع مرات وإما بالقوة كما في المتصل فإن السنة تعد بالشهور والشهور بالأيام واليوم بالساعات وكذلك الذراع يعد بالقبضات والقبضة بالأصابع والأصبع
____________________
(1/182)
بالشعيرات والشعيرة بالشعرات وذكر الإمام أن هذه الخاصة هي التي تصلح لتعريف الكم بها لا الأولى لأن المساواة لا تعرف إلا بالاتفاق في الكمية فيكون تعريف الكم بها دورا إلا أن يقال المساواة واللامساواة مما يدرك بالحس لكن مع المحل لا مفردا فإنه لا ينال إلا بالعقل فقصد تعريف ذلك المعقول بهذا المحسوس ولا الثانية لأن قبول القسمة من عوارض الكم المتصل لا المنفصل فلا يشمله التعريف فلا ينعكس وأرى أنه بني ذلك على أن قبول الشيء عبارة عن إمكان حصوله من غير حصول بالفعل ولا شك أن الانقسام في الكم المنفصل حاصل بالفعل وأما إذا أريد بالقبول أعم من ذلك أعني إمكان فرض شيء غير شيء فلا خفاء في شموله المتصل والمنفصل ولذا قال الإمام أن قبول القسمة من عوارض المتصل دون المنفصل إلا إذا أخذ القبول باشتراك الاسم وأما ما وقع في المواقف من أنه كأنه أخذ القسمة الانفكاكية فسهو ظاهر لأن الإمام قد صرح في هذا الموضع بأن القسمة الانفكاكية يستحيل عروضها للمقدار إذ عندها يبطل المقدار ويحدث مقداران آخران نعم المقدار يهيء المادة لقبول الانقسام لكن لا يلزم حصول ذلك الاستعداد في نفس المقدار ولإبقاء المقدار عند حصول الانقسام كالحركة تهيء الجسم للسكون الطبيعي ولا تبقى معه ( قال والمتصل ) من أحكام الكم انقسامه إلى المتصل والمنفصل ثم المتصل إلى أقسامه فالكم إما أن يكون لأجزائه المفروضة حد مشترك أو لا الثاني المنفصل وهو العدد لا غير لأن حقيقته ما يجتمع من الوحدات بالذات ولا معنى للعدد سوى ذلك وغيره إنما يتصف بذلك لكونه معروضا للعدد لكون أجزائه معروضا للوحدة كالقول الذي توهم أنه كم منفصل على ما سيحقق في بحث الحروف والأول المتصل وهو إما أن يكون قار الذات أي مجتمع الأجزاء في الوجودد أو لا الثاني الزمان والأول المقدار وهو أن قبل القسمة في جهة واحدة فقط فخط وإن قبلها في جهتين فقط فسطح وإن قبلها في جهات فجسم تعليمي فالخط امتداد واحد لا يحتمل إلا تجزية في جهة والسطح امتداد يحتمل التجزية في جهة وأمكن أن يعارضها تجزية أخرى قائمة عليها حتى يمكن فيها فرض بعدين على قوائم ولا يمكن غير ذلك والجسم يحتمل التجزية في ثلاث جهات وحقيقته كمية ممتدة في الجهات متناهية بالسطح الواحد المحيط أو بالسطوح لها باعتبار كل جهة امتداد لازم كما في الفلك أو غير لازم بل متغير كما في الشمعة مثلا بين السطوح الستة للمربع جوهر متحيز هو الجسم الطبيعي وكمية قائمة به سارية فيه هو الجسم التعليمي ويسمى باعتبار كونه حشوما بين السطوح أو جوانب السطح الواحد المحيط تختا وباعتبار كونه نازلا من فوق عمقا وباعتبار كونه صاعدا من تحت سمكا والثلاثة كم متصل لأن الأجزاء المفروضة للخط تتلاقى على نقطة مشتركة وللسطح على خط مشترك وللجسم على سطح مشترك وكذا الزمان إذا اعتبر انقسامه يتوهم فيه شيء
____________________
(1/183)
هو الآن يكون نهاية للمضي وبداية للمستقبل بخلاف الخمسة فإنها إذا قسمت إلى اثنين وثلاثة لم يكن هناك حد مشترك وإن عين واحد من الخمسة للاشتراك كان الباقي أربعة لا خمسة وإن أخذ واحد خارج صارت الخمسة ستة ( قال ويختص ) يعني أن الجسم التعليمي يمكن أن يتخيل بشرط أن لا يكون معه غيره حتى أن أصحاب الخلاف جوزوا وجود ذلك في الخارج أيضا وأما السطح والخط فلا يمكن أخذهما كذلك وإلا لأمكن تخيل السطح بشرط عدم الجسم والخط بشرط عدم السطح وحينئذ يلزم أن يكون للسطح حد من جهة العمق كما له حدان من جهة الطول والعرض وأن يكون للخط حدان من جهة العرض والعمق كما له حد من جهة الطول فيكون المتخيل جسما لا سطحا أو خطا هذا محال ويشترك الثلاثة في إمكان أخذها لا بشرط شيء كما إذا تخيلنا مجموع الأبعاد الثلاثة من غير التفات إلى شيء آخر من المادة وعوارضها كان ذلك المتخيل جسما تعليميا وينتهي بالسطح فإذا تخيلناه من غير التفات إلى غيره كان سطحا تعليميا وينتهي بالخط وإذا تخيلناه من غير التفات إلى شيء من السطوح وغيرها كان خطا تعليميا قال والكم منه قد يقال الكم لما يقبل القسمة فينقسم إلى الذاتي والعرضي لأن قبوله القسمة إن كان لذاته فذاتي كالعدد والزمان والمقدار وإلا فعرضي بأن يكون محلا للذاتي كالمعدود والحركة والجسم أو حالا فيه كالشكل أو في محله كبياض الجسم أو متعلقا بمحله كالقوى التي تتصف بتناهي الآثار ولاتناهيها والكم بالذات لا يقبل الشدة والضعف إذ لا يعقل عدد أو مقدار أشد في العددية أو المقدارية وإنما يقبل الزيادة والنقصان والكثرة والقلة والفرق بينهما أن تعقل كل من الزيادة والنقصان لا يكون إلا بالقياس إلى تعقل الآخر بخلاف الكثرة والقلة والفرق بينهما وبين الاشتداد أن العدد إذا كثر والخط إذا ازداد أمكن أن يشار فيه إلى مثل ما كان مع الزيادة بأن يقال هذا هو الأصل وهذا هو الزائد بخلاف ما إذا اشتد السواد وأيضا الكم بالذات لا يقبل التضاد أما العدد فلأن بعضه داخل في البعض ولا يتصور بين عددين غاية الخلاف ولا اتحاد الموضوع وأما المقدار فلأنه لا يعقل بين مقدارين غاية الخلاف ولا اتحاد الموضوع ولأن كلا منهما قابل للآخر أو مقبول له قال ولا تنافي يعني أن الشيء الواحد قد يكون كما بالذات وكما بالعرض كالزمان فإنه بالذات كم متصل غير قار وبالعرض كم منفصل قار لانطباقه على الحركة المنطبقة على المسافة التي هي مقدار وأيضا قد يكون الشيء الواحد كما بالعرض على وجهين أو أكثر من وجوه العرضية كالحركة فإنها كم بالعرض من جهة كونها حالة في محل الكم أعني الجسم المتحرك ولهذا يقبل التجزي فإن الحركة القائمة بنصف المتحرك نصف الحركة القائمة بالكل ومن جهة كونها منطبقة على الكم المتصل الذي هو المسافة ولهذا تتفاوت قلة وكثرة فإن الحركة إلى نصف المسافة أقل من الحركة إلى منتهاها ومن جهة
____________________
(1/184)
كونها منطبقة على الزمان الذي هو كم متصل غير قار ولهذا تتفاوت بالسرعة والبطء فإن قطع المسافة المعينة في زمان أسرع منه في زمانين وقد يعرض الكم المنفصل للكم المتصل الغير القار أو القار كما يقال هذا اليوم عشر ساعات وهذا الذراع ست قبضات قال والمقدار قد يؤخذ يعني أنه قد يراد بالطول والعرض والعمق نفس الامتداد على ما مر فتكون كميات محضة وقد يراد بالطول البعد المفروض أو لا أو أطول الامتدادين أو البعد المأخوذ من رأس الإنسان إلى قدمه أو الحيوان إلى ذنبه أو من مركز الكرة إلى محيطها وبالعرض البعد المفروض ثانيا أو أقصر البعدين أو البعد الآخذ من يمين الحيوان إلى شماله وبالعمق البعد المفروض ثالثا أو الثخن المعتبر من أعلى الشيء إلى أسفله أو فيما بين ظهر الحيوان وبطنه وحينئذ لا يكون كميات محضة بل مأخوذة مع إضافات ولهذا يصح سلبها عن الامتداد كما يقال هذا الخط طويل وذاك ليس بطويل وهذا السطح عريض وذاك ليس بعريض ( قال وأنكر المتكلمون ) قد اشتهر خلاف من المتكلمين في وجود الكميات على الإطلاق أما العدد فلما مر في باب الوحدة والكثرة وكأنه مبني على نفي الوجود الذهني وإلا فالفلاسفة لا يجعلونه من الموجودات العينية بل من الاعتبارات الذهنية وأما الزمان فلما سيأتي وأما المقادير فبناء على أن الجسم متألف من أجزاء لا تتجزأ مجتمعة على وجه التماس دون الاتصال الرافع للمفاصل والمقاطع والمجتمع من ترتبها على سمت واحد هو الخط وباعتباره يتصف بالطول وعلى سمتين هو السطح وباعتباره يتصف بالعرض والتفاوت راجع إلى قلة الأجزاء وكثرتها ولو سلم أن المقادير ليست جواهر فهي أمور عدمية إذ السطح نهاية وانقطاع للجسم والخط للسطح كالنقطة للخط ولا يثبت للجسم التعليمي ولو ثبت فالمتألف من العدمي عدمي واحتج الحكماء على كون المقادير أعراضا لا جواهر هي أجزاء الجسم إما إجمالا فبأنها تتبدل مع بقاء الجسم بعينه كالشمعة المعينة تجعل تارة مدورا له سطح واحد ولا خط فيه وتارة مكعبا لها سطوح وفيها خطوط والمكعب يجعل تارة مستطيلا يزداد طوله وينتقص عرضه وتارة بالعكس وإما تفصيلا فبأن ثبوت السطح للجسم يتوقف على تناهيه ضرورة أن غير المتناهي لا يحيط به سطح وثبوت التناهي يفتقر إلى برهان يدل عليه كما سيجيء في بيان تناهي الأبعاد فلو كان السطح من أجزاء الجسم لما كان كذلك وثبوت الخط للكرة يتوقف على حركتها الوضعية المستديرة لتحدث نقطتان لا يتحركان هما قطباها وبينهما خط هو المحور وعلى محيطها منطقة هي أعظم الدوائر أو يتوقف على قطعها ليحدث سطح مستدير هو دائرة يحيط بها خط مستدير وما يتوقف ثبوته للشيء على الغير لا يكون نفسه ولا جزأ منه واحتجوا على كون المقادير وجودية بأنها ذوات أوضاع يشار إليها إشارة حسية بأنها هنا ولا إشارة إلى العدم غاية ما في الباب أن عروض السطح للجسم التعليمي وعروض الخط للسطح وعروض النقطة للخط إنما يكون باعتبار
____________________
(1/185)
التناهي وهو عدم الامتداد الآخذ في جهة ما بمعنى نفاذ ذلك الامتداد وانقطاعه وهذا القدر لا يقتضي عدمية هذه الأمور لجواز أن يكون الوجودي مشروطا بالعدمي ومتصفا به وأجيب بأن الذي يتغير ويتبدل مع بقاء الجسم هو وضع الجواهر الفردة بعضها مع بعض فقد يجتمع وقد يفترق ولكل من الاجتماع والافتراق هيئات مخصوصة فإن أريد بثبوت المقادير هذا فلا نزاع وإن اريد إعراض قائمة بالجسم غير أجزائه وهيئات ترتبها فممنوع ولا دلالة لما ذكرتم عليه وإنما يتم لوثبت نفي الجزء الذي لا يتجزأ وما ذكر من توقف السطح والخط على أمر خارج عن الجسم وعما يتوقف عليه الجسم ليلزم كونهما عرضين فراجع إلى ما ذكرنا إذ حقيقتهما عندنا الجواهر الفردة لكن على وضع وترتيب مخصوص بأن يترتب على الطول من غير عرض أو على الطول والعرض من غير عمق والمتوقف على الغير هو تلك الحالة والترتيب المخصوص وما ذكر من كونها ذوات أوضاع فعندنا الإشارة إنما هي إلى نفس الجواهر الفردة المترتبة ترتبا مخصوصا والنهايات أعدام وانقطاعات بمعنى أنه ليست بعد تلك الجواهر جواهر أخر ( قال المبحث الثاني في الزمان ) احتج المتكلمون على نفيه بوجوه
الأول أنه لو وجد لكان بعض أجزائه متقدما على البعض للقطع بأنه ليس أمرا قار الذات مجتمع الأجزاء بحيث يكون الحادث الآن حادثا يوم الطوفان بل لو وجد لم يكن إلا أمرا منقضيا متصرما يحدث جزء منه بعد جزء بعدية زمانية ضرورة امتناع اجتماع المتأخر مع المتقدم ههنا وإمكانه في سائر أقسام التقدم فيكون للزمان زمان وينقل إليه فيتسلسل وأجيب بأن تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض نظرا إلى ذاته من غير أن يجتمعا في الوجود معلوم بالضرورة ككون الأمس قبل اليوم نظرا إلى مجرد مفهوميهما من غير احتياج إلى عارض فإن سمي مثله تقدما زمانيا فلا إشكال وإن اشترط كون كل من المتقدم والمتأخر في زمان فلا حصر لأقسام التقدم في الخمسة بل التقدم فيما بين أجزاء الزمان قسم سادس يناسب أن يسمى التقدم بالذات
الثاني أن الزمان إما ماض أو مستقبل أو حاضر ولا وجود للأولين وهو ظاهر وكذا الثالث لأنه لو وجد فإما أن يكون منقسما وهو محال ضرورة امتناع اجتماع أجزاء الزمان في الوجود أو غير منقسم وينقل الكلام إلى الجزء الثاني الذي يصير حاضرا وهلم جرا فيلزم تركب الزمان من آيات متتالية وهو منطبق على الحركة المنطبقة على المسافة التي هي نفس الجسم ومنطبقة عليه فيلزم تركب الجسم من أجزاء لا تتجزأ وهو باطل إلزاما أو استدلالا بأدلة الثقاة فإن قيل
____________________
(1/186)
لو صح هذا الدليل لزم أن لا تكون الحركة موجودة لجريانه فيها إذ لا وجود للماضي منها والمستقبل ووجود الحاضر لعدم انقسامه يستلزم الجزء الذي لا يتجزأ مع أن وجودها معلوم بالضرورة قلنا هذا النقض لا يتم إلزاما أن المتكلمين يلتزمون وجود الجزء الذي لا يتجزأ ولا استدلالا لأن الموجود من الحركة هو الحصول في الوسط على استمرار من أول المسافة إلى آخرها وهو ليس بمتجزي إلى الماضي والمستقبل والحاضر ليتأتى الترديد المذكور بخلاف الزمان فإنه كم منقسم لذاته وليس بحاصل من المبدأ إلى المنتهى للقطع بأن الحادث يوم الطوفان ليس حادثا الآن وسيجيء لهذا زيادة تحقيق في بحث الحركة وأجيب عن أصل الاستدلال بأنا لا نسلم أنه لا وجود للماضي ولا للمستقبل من الزمان كيف ولا معنى للماضي إلا ما فات بعد الكون ولا للمستقبل إلا ما هو بصدد الكون بل غاية الأمر أنه لا وجود لهما في الحال فإن قيل الماضي لا وجود له في الحال ولا في المستقبل وهو ظاهر ولا في الماضي لأنه إما أن يكون منقسما فيلزم اجتماع أجزاء الزمان أو غير منقسم فيلزم الجزء الذي لا يتجزأ وكذا الكلام في المستقبل أجيب بأن الموجود في أحد الأزمنة أخص من مطلق الموجود وكذب الأخص لا يستلزم كذب الأعم فإن قيل الموجود عام ينحصر أقسامه فيما يكون موجودا في الماضي أو في المستقبل أو في الحال والعام إذ انحصر في أقسام معدودة كل منها معدوم كان معدوما ضرورة أنه لا يوجد إلا في ضمن الخاص أجيب بمنع انحصار الموجود في الأقسام الثلاثة لجواز أن يكون من الموجودات مالا يتعلق وجوده بالزمان فيوجد ولا يصدق أنه موجود في شيء من الأزمنة كالزمان بخلاف الحركة فإنها لا تكون إلا في زمان فلذا قال ابن سينا أن عدم تناهي الحركات الماضية لا يوجب التسلسل لأنها ليست أمورا موجودة متصفة باللانهاية إذ لو كانت موجودة فوجودها إما في الماضي وإما في الحال وإما في المستقبل والكل محال نعم يتم انحصار الزمان في الماضي والمستقبل والحال بل في الأولين لأن الحال ليس قسما برأسه بل حدا مشتركا بين الماضي والمستقبل ويجوز أن يكون كل منهما موجودا في الجملة وإن لم يوجد في شيء من الأزمنة لا بد لامتناع ذلك من دليل فإن قيل الموجود في الجملة إما منقسم فتجتمع أجزاء الزمان أو غير منقسم فيلزم الجزء قلنا منقسم ولا اجتماع لأن معناه المقارنة والمعية أي عدم مسبوقية البعض بالبعض أو غير منقسم ولا جزء لجواز الانقسام بالوهم وإن لم ينقسم بالفعل وقد يجعل هذا جوابا عن أصل الاستلال قال الثالث
الوجه الثالث أنه لو وجد الزمان لامتنع عدمه بعد الوجود لأن هذه البعدية لا تكون إلا زمانية لأن المتأخر لا يجامع المتقدم فيلزم أن يكون للزمان زمان لأن هذا ليس من قبيل التقدم والتأخر فيما بين أجزاء الزمان للقطع بأنه ليس بذاتي وإذا امتنع عدمه كان واجب الوجود وهو محال لأنه متركب يقبل الانقسام ومتقض يحدث وتتقضى أجزاؤه شيئا فشيئا والواجب ليس كذلك وأجيب بأن كون
____________________
(1/187)
العدم بعد الوجود لا يقتضي أن يكون في زمان بل يجوز أن يكون في الآن الذي هو طرف للزمان الذي مضى وانقضى أعني الطرف الذي به انقطع الزمان ولو سلم فامتناع العدم بعد الوجود لا يقتضي الوجود نظرا إلى ذاته غايته أنه يكون دائما بتجدد الأجزاء على سبيل الاستمرار ولا استحالة فيه قال وأثبته تمسكت الفلاسفة في وجود الزمان بوجوه
الأول أنا نقرض حركة في مسافة معينة بقدر من السرعة وحركة أخرى في تلك المسافة مثل الأولى في السرعة فإن توافقنا مع ذلك في الأخذ والترك بأن ابتدأنا معا ووقفتا معا فبالضرورة تقطعان المسافة معا وإن توافقتا في الترك دون الأخذ بأن كان ابتداء الثانية متأخرا عن ابتداء الأولى فبالضرورة تقطع الثانية أقل مما قطعته الأولى وكذا إن توافقتا في الأخذ والترك وكانت الثانية أبطأ فإنها تقطع أقل فبين أخذ السريعة الأولى وتركها إمكان قطع مسافة معينة بسرعة معينة وإمكان قطع مسافة أقل منها ببطء معين وبين أخذ السريعة الثانية وتركها إمكان أقل من الإمكان بتلك السرعة المعينة فهناك أمر مقداري أي قابل للزيادة والنقصان بالذات تقع فيه الحركة وتتفاوت بتفاوته ضرورة أن قبول التفاوت ينتهي إلى ما يكون بالذات وهو الذي عبرنا عنه بالإمكان وسميناه بالزمان فيكون موجودا وليس هو نفس السرعة ولا امتداد المسافة ولا امتداد المتحرك لأنه قد يختلفان كالحركة في تمام المسافة تساوي نصف تلك الحركة في السرعة مع الاختلاف في المقدار وكالحركتين المتساويتين في مقدار المسافة على اختلاف مقدار هذا الإمكان لاختلافهما بالسرعة والبطء أو على العكس بأن تقطع السريعة في ساعة فرسخا والبطيئة نصف فرسخ وكحركة الجسم الصغير والكبير مسافة معينة في ساعة أو حركة الجسمين المتساويين في المقدار بقطع المسافة إحداهما في ساعة والأخرى في نصف ساعة فإن قيل قد بينتم إثبات وجود الزمان على مقدمات يبتنى الحكم فيها على وجود الزمان كالحكم بأن هذه الحركة مع تلك أو متأخرة عنها أي بالزمان وأسرع منها أي تقطع المسافة في زمان أقل أو تقطع في زمان مساو لزمانها مسافة أطول فيكون دورا قلنا لا نسلم توقف صحة هذه الأحكام على كون الزمان موجودا في الخارج فإن المنكرين يعترفون بكون الشيء مع الشيء أو بعده وكون بعض الحركات أسرع من البعض وأجاب الإمام بأن المقصود من هذا البرهان تحقيق ماهية الزمان وكونه مقدارا للحركة لا إثبات أصل وجوده فإنه بديهي
الوجه الثاني أن كون الأب قبل الابن ضروري لا يشك فيه عاقل وليست هذه القبلية نفس وجود الأب وحده لأنها إضافية بخلافه ولأنه قد يوجد مع الابن بخلافها ولا مع عدم الابن أو هو وحده لأنه قد يكون عدما لاحقا لا يتصور كونه قبل الوجود مع اتحاد العدمين في كونهما عدم الابن وهذا معنى قولهم العدم قبل كالعدم بعد وليس قبل كبعد فتعين أن يكون قبلية الأب وبعدية
____________________
(1/188)
الابن لأمر آخر ولا بد من أن ينتهي إلى ما يلحقه القبلية والبعدية لذاته قطعا للتسلسل وهو المراد بالزمان فإنه الذي يكون جزء منه قبل وجزء منه بعد بحيث لا يصير قبله بعد ولا بعده قبل وسائر الأشياء تكون قبلا لمطابقته الجزء القبل وبعد المطابقة الجزء البعد حتى لو وجد الأب في الجزء البعد والابن في الجزء القبل لكان الأب بعد الابن وأجيب عن الوجهين بأن ما ذكرتم من الإمكانات القابلة للتفاوت ومن القبلية المتصف بها وجود الأب من الاعتبارات العقلية دون الموجودات العينية بدليل أنها يتصف بها الأعدام فإن من اليوم إلى رأس الشهر أقل من اليوم إلى رأس السنة وإن عدم الحادث قبل وجوده فزعمت الفلاسفة أن المقصود التنبيه على وجود الزمان لا الاستدلال لأنه ضروري يعترف به العامة ومن لا سبيل لهم إلى الاكتساب ولهذا يقسمونه إلى السنين والشهور والأيام والساعات ويجري إنكاره مجرى إنكار الأوليات وإنما الخفاء في حقيقته قال فزعموا القوم وإن ادعى بعضهم ظهورانية الزمان فقد اتفقوا على خفاء ماهيته فقال كثير من المتكلمين هو متجدد معلوم يقدر به متجدد غير معلوم كما يقال أتيك عند طلوع الشمس وربما يتعاكس بحسب علم المخاطب حتى لو علم وقت قعود عمرو فقال متى قام زيد يقال في جوابه حين قعد عمرو ولو علم وقت قيام زيد وقال متى قعد عمرو يقال في جوابه حين قام زيد ولذلك يختلف تقدير المتجددات باختلاف ما يعتقد المقدر لظهوره عند المخاطب كما تقول العامة للعامة اجلس يوما والقاري اجلس قدر ما تقرأ الفاتحة والكاتب قدر ما تكتب صفحة والتركي قدر ما يطبخ مرجل لحما ولا يخفى أن ليس في هذا التفسير إفادة تصور ماهية الزمان وأما الفلاسفة فذهب أرسطو وأشياعه إلى أنه مقدار حركة الفلك الأعظم واحتجوا على ذلك بأنه مقدار أي كم متصل أما الكمية فلقبوا له المساواة واللامساواة فإن زمان دورة من الفلك مساو لزمان دورة أخرى منه وأقل من زمان دورتين وأكثر من زمان نصف دورة وأما الاتصال فلأنه لو كان منفصلا لانتهى إلى مالا ينقسم أصلا كوحدات العدد لأن هذا حقيقة الانفصال فيكون تألفه من الآنات المتتالية ويلزم منه الجزء الذي لا يتجزأ لانطباقه على الحركة المنطبقة على المسافة ثم أنه مقدار لأمر غير قار الذات وهو الحركة وإلا لكان هو أيضا قار الذات أي مجتمع الأجزاء في الوجود فيكون الحادث في اليوم حادثا يوم الطوفان وهو محال ولا يجوز أن يكون مقدار الحركة مستقيمة لأنها لازمة الانقطاع لما سيجيء من تناهي الأبعاد ومن امتناع اتصال الحركات المستقيمة على مسافة متناهية والزمان لا ينقطع كما مر فتعين أن يكون مقدارا بحركة مستديرة ويلزم أن يكون أسرع الحركات ليكون مقدارها أقصر فيصلح لتقدير جميع الحركات فإن الأقل يقدر به الأكثر من غير عكس كتقدير الفرسخ بالذراع وتقدير المائة بالعشرة وأسرع الحركات الحركة اليومية المنسوبة إلى الفلك الأعظم
____________________
(1/189)
فيكون الزمان مقدارا لها فإن قيل هذا تعريف للزمان وتفصيل لذاتياته فكيف يطلب بالحجة قلنا الشيء إذا لم يتصور بحقيقته بل بوجه مالم يمتنع إثبات أجزائها بالبرهان كجوهرية النفس وتركب الجسم من الهيولي والصورة وههنا لم يتصور من الزمان إلا أنه شيء باعتباره تتصف الأشياء بالقبلية والبعدية وليست المقدارية من ذاتيات هذا المفهوم بل من ذاتيات حقيقته واعترض على هذا الدليل بأنه مبني على أصول فاسدة مثل بطلان الجزء الذي لا يتجزأ ومثل امتناع اتصال الحركات ولزوم السكون بين كل حركتين مستقيمتين ومثل امتناع فناء الزمان ولزوم أن يكون عدمه بعد الوجود مقتضيا لزمان آخر وبعد ثبوت هذه الأصول بالدليل أو التزام الخصم إياها بأن يجعل هذا احتجاجا على باقي الفلاسفة فلا نسلم أن القابل للتفاوت يلزم أن يكون كما مقتضيا لموضوع وإنما يلزم أن لو كان ذلك بحسب الذات وهو ممنوع ودعوى الضرورة غير مسموعة قال ثم عورض أي الدليل المذكور بوجوه أحدها أن الزمان لو كان مقدارا للحركة لامتنع انتساب الأمور الثابتة إليه أما الملازمة فلأنه حينئذ يكون متغيرا غير قار لأن مقدار المتغير أولى بأن يكون متغيرا والمتغير لا ينطبق على الثابت لأن معنى الانطباق أن يكون جزأ من هذا مطابقا لجزء من ذلك على الترتيب في التقدم والتأخر وأما بطلان اللازم فلأنا كما نقطع بأن الحركة موجودة أمس واليوم وغدا كذلك نقطع بأن السكون بل السماء وغيرها من الموجودات الثابتة حتى الواجب وجميع المجردات موجودة أمس واليوم وغدا وإن جاز إنكار هذا جاز إنكار ذاك وبهذا الوجه أبطلوا قول أبي البركات أن الباقي لا يتصور بقاؤه إلا في زمان مستمر ومالا يكون في الزمان ويكون باقيا لا بد أن يكون لبقائه مقدار من الزمان فالزمان مقدار الوجود وذلك لأن المقدار في نفسه إن كان متغيرا استحال انطباقه على الثابت وإن كان ثابتا استحال انطباقه على المتغير وثانيها أن الحركة كما سيجيء تطلق على كون المتحرك متوسطا بين المبدأ والمنتهى وهو أمر ثابت مستمر الوجود وعلى الأمر الممتد في المسافة من المبدأ إلى المنتهى وهو وهمي محض لا تحقق له في الخارج لعدم تقرر أجزائه فالحركة التي جعل الزمان مقدارا لها إن أخذت بالمعنى الأول لزم كون الزمان قارا غير سيال وهو محال وإن أخذت بالمعنى الثاني لم يكن الزمان موجودا ضرورة امتناع قيام الموجود بالمعدوم وثالثها لو كان الزمان مقدار حركة الفلك لكان تصور وجوده بدونها تصور محال واللازم باطل لأنا قاطعون بوجود أمر سيال به القبلية والبعدية والمضي والاستقبال وإن لم يوجد حركة ولا فلك حتى لو تصورنا مدة كان الفلك معدوما فيها فوجد أو ساكنا فتحرك أو يعدم فيها الفلك أو حركته لم يكن ذلك بمنزلة تصورنا عدم حركة الفلك حال وجودها وإن أمكن إنكار هذا الأمر بدون الحركة أمكن إنكاره معها من غير فرق وبالجملة فارتفاع الزمان بارتفاع
____________________
(1/190)
حركة الفلك ليس بديهيا كارتفاع مقدار الشيء بارتفاعه ولهذا لم يذهب أحد من العقلاء إلى بداهة أزلية الأفلاك وأبديتها وبهذا يظهر أن ليس الزمان نفس الفلك الأعظم أو حركته على ما هو رأي البعض وقد يجاب أما عن الأول فبأن النسبة إلى الزمان بالحصول فيه لا يكون إلا للمتغير حقيقة بأن يكون فيه تقدم وتأخر وماض ومستقبل وابتداء وانتهاء كالحركة والمتحرك أو تقديرا كالسكون فإن معنى كونه في ساعة أنه لو فرض بدله حركة لكانت في ساعة وذكر ابن سينا أن معنى قولنا الجسم في الزمان أنه في الحركة والحركة في الزمان وأما غير المتغير أعني ما يكون قار الذات فإنما ينسب إلى الزمان بالحصول معه لا بالحصول فيه إذ ليس له جزء يطابق المتقدم من الزمان وجزء يطابق المتأخر منه وهذا كما أن نسبة استمرار غير المتغير وثباته إلى استمرار غير المتغير كالسماء إلى الأرض تكون بالحصول معه من غير تصور الحصول فيه ولا خفاء في الفرق بين حصول الحركة مع الزمان وحصول السماء مع الزمان وحصول السماء مع الأرض وأنها معان متحصلة لا استنكار في أن يعبر عن كل منها بعبارة يرى أنها مناسبة لها على ما قالوا أن نسبة المتغير إلى المتغير هو الزمان ونسبة الثابت إلى المتغير هو الدهر ونسبة الثابت إلى الثابت هو السرمد ويعمهما الدوام المطلق والذي في الماضي أزل والذي في المستقبل هو الأبد قال الإمام وهذا تهويل خال عن التحصيل لأن ما يفهم من كان ويكون إذا كان موجودا في الأعيان فإما أن يكون متغيرا فلا ينطبق على الثابت أو ثابتا فلا ينطبق على المتغير وهذا التقسيم لا يندفع بالعبارة واعترض بأنه لا استحالة في الانطباق بين المتغير والثابت فإنا نقول عاش فلان ألف سنة فانطبق مدة بقائه على ألف دورة من الشمس والمتكلمون يقولون القديم موجود في أزمنة مقدرة لا نهاية لأولها والجواب أنه لا يصح حينئذ ما ذكر أن الزمان لما كان غير قار استحال أن يكون مقدار الهيئة قارة على أن انطباق مدة البقاء على ألف دورة إنما هو من انطباق المتغير على المتغير لأن المدة زمان والدورة حركة ثم لا يخفى أن ليس الزمان نفس النسبة بل المتغير الذي ينسب إليه المتغير وليس المراد مطلق النسبة بل نسبة المعية على ما صرح به البعض إلا أنه اقتصر من بيان هذه المعية على أنها ليست معية شيئين يقعان في زمان واحد ثم قال وغير الحركة إذ المتحرك إنما ينسب إلى الزمان بالحصول معه لا فيه وهذه المعية إن كانت بقياس ثابت إلى غير ثابت فهو الدهر وإن كانت بقياس ثابت إلى ثابت فهو السرمد وهذا الكون أعني كون الثابت مع غير الثابت والثابت مع الثابت بإزاء كون الزمانيات في الزمان فتلك المعية كأنها متى للأمور الثابتة ولا يتوهم في الدهر ولا في السرمد امتداد وإلا لكان مقدارا بالحركة ثم الزمان كمعلول للدهر والدهر كمعلول للسرمد فإنه لولا دوام نسبة علل الأجسام إلى مباديها ما وجدت الأجسام فضلا عن حركاتها ولولا دوام نسبة الزمان إلى مبدأ الزمان لم يتحقق الزمان وقال ابن سينا أن اعتبار أحوال المتغيرات مع المتغيرات هو الزمان واعتبار أحوال الأشياء الثابتة مع الأشياء المتغيرة هو
____________________
(1/191)
الدهر ومع الأشياء الثابتة هو السرمد والدهر في ذاته من السرمد وهو بالقياس إلى الزمان دهر يعني أن الدهر في نفسه شيء ثابت إلا أنه إذا نسب إلى الزمان الذي هو متغير في ذاته سمي دهرا هذا ما وقع إلينا من شرح هذا الكلام والظاهر أنه ليس له معنى محصل على ما قال الإمام وأما عن الثاني فبأنا نختار أن الزمان مقدار للحركة بمعنى القطع وهي أمر غير قار يوجد منها جزء فجزء من غير أن يحصل جزآن دفعة وهذا معنى وجودها في الخارج وإنما الوهمي هو المجموع الممتد من المبدأ إلى المنتهى فكذا مقدارها الذي هو الزمان يكون بحسب المجموع وهميا لا يوجد منه جزآن دفعة بل لا يزال يتجدد ويتصرم ويوجد منه شيء فشيء وهذا ما يقال أن هناك أمرا غير منقسم بفعل بسيلانه الزمان كما أن في الحركة معنى هو الكون في الوسط يفعل بسيلانه الحركة بمعنى القطع وأعترض بأن هذا قول بتتالي الآنات لأن ذلك الأمر الغير المنقسم ليس غير الآن وأجيب بأنه لا أجزاء هناك بالفعل لأن الزمان كمية متصلة يعرض لها التجزي والانقسام بحسب الفرض والوهم دون الخارج فورد الإشكال بأنه لا وجود للزمان حينئذ لأن نفس الامتداد موهوم والجزء معدوم فماذا يوجد منه وهذا بخلاف المسافة فإن أجزاءها وإن لم تكن بالفعل إلا أن المجموع المتصل الذي يتجزأ في الوهم موجود في الخارج وبخلاف الحركة فإنه يوجد منها أمر مستمر هو الكون في الوسط من غير لزوم محال وأجيب بأن المراد أن في العقل امتدادا لا وجود له في الخارج لكنه بحيث لو فرض وجوده وتجزيه عرضت لأجزائه المفروضة قبليات وبعديات متجددة متصرفة ولا يكون الامتداد في العقل كذلك إلا إذا كان في الخارج شيء غير قار يحصل في العقل بحسب استمراره وعدم استقراره ذلك الامتداد الذي إذا فرض تجزيه كان لحوق التقدم والتأخر لأجزائه المفروضة لذاتها من غير اقتضاء زمان آخر وكذا معيته للحركة وإذ لا وجود للجزئين معا إلا في العقل لزم كون القبلية والبعدية العارضتين لهما كذلك ولهذا يعرضان للعدد كيف ولو وجدتا في الخارج وهما متضايفان لزم وجود معروضيهما معافى الخارج ويلزم كون الزمان قار الذات وما يقال من أن الموجود في الخارج من الزمان معروض للقبلية والبعدية فمجاز والمراد أنه متعلق بهما بمعنى أنهما بسببه يعرضان للأجزاء المفروضة للزمان المعقول هذا غاية تحقيقهم في هذا المقام دفعا للإشكالات الموردة من قبل الإمام مثل أن قبلية عدم الحادث على وجوده لو اقتضت زمانا لكانت قبلية الأمس على الغدو معية الحركة للزمان كذلك وأن القبلية والبعدية لو وجدنا لامتنع اتصاف العدم بهما ولكان وجودهما بالزمان وتسلسل وللزم وجود معروضيهما معا ضرورة كونهما متضايفين فيكون الزمان قار الذات لاجتماع أجزائه المفروضة للقبلية والبعدية ولو كانتا من الاعتبارات العقلية التي لا وجود لها في الأعيان لم يلزم وجود معروضيهما في الخارج فلم تدل على وجود الزمان وأن أجزاء الزمان إما أن تكون
____________________
(1/192)
متماثلة فيمتنع اختلافها بالقبلية والبعدية الذاتيتين أو متخالفة فلا يكون الزمان متصلا وأنت خبير بأن قولهم لا بد في الخارج من أمر غير قار يحصل منه في العقل ذلك الامتداد مجرد ادعاء لجواز أن يحصل لا عن موجود أو عن موجود قار بحسب ما له من النسب والإضافات إلى المتغيرات على ما سيجيء وأما عن الثالث فبأن القطع بوجود امتداد به التقدم والتأخر ومنه الماضي والمستقبل على تقدير أن لا يكون فلك ولا حركة أصلا أو يكون له عدم سابق أو لاحق إنما هو من الأحكام الكاذبة للوهم كحكمه بأن خارج الفلك فضاء لا يتناهي وأعترض بأنا نجد القطع بهذا الامتداد في حالتي وجود الحركة وعدمها على السواء إن حقا فحق وإن وهما فوهم والتفرقة تحتاج إلى البرهان قال وذهب القدماء أي من الفلاسفة إلى أن الزمان جوهر مستقل أي قائم بنفسه غير مفتقر إلى محل يقومه أو حركة تفعله فمنهم من زعم أنه واجب الوجود إذ لا يمكن عدمه لا قبل الوجود ولا بعده لأن التقدم والتأخر بين الوجود والعدم لا يتصور إلا بزمان فإن كان عين الأول لزم وجود الشيء حال عدمه وإن كان غيره لزم تعدد الزمان بل تسلسله ورد بعد تسليم المقدمات بأن امتناع العدم قبل الوجود أو بعده لا ينافي الإمكان الذاتي بمعنى جواز العدم في الجملة ومنهم من اعترف بإمكانه وإليه ذهب أفلاطون واتباعه وعمدتهم التعويل على الضرورة بمعنى أنا قاطعون بوجود أمر به التقدم والتأخر ومنه الماضي والمستقبل سواء وجد جسم وحركة أو لا حتى لو فرضنا أن الفلك كان معدوما فوجد ثم فني كنا قاطعين بوجود ذلك الأمر وبتقدم عدم الفلك على وجوده بمعنى كونه في زمان سابق ماض والوجود في زمان لاحق حاضر والفناء في زمان آخر مستقبل فلا يكون فلكا ولا حركة ولا شيئا من عوارضها بل جوهرا أزليا يتبدل ويتغير ويتجدد ويتصرم بحسب النسب والإضافات إلى المتغيرات لا بحسب الحقيقة والذات ثم أنها باعتبار نسبة ذاته إلى الأمور الثابتة يسمى سرمدا وإلى ما قبل المتغيرات دهرا وإلى مقارنتها زمانا ولما لم يثبت امتناع عدمه في نفسه لم يحكم بوجوبه وأنت خبير بحال دعوى الضرورة في مثل هذا المتنازع الهائل الذي لا يرجى فيه تقرر الآراء على شيء قال المبحث الثالث في المكان لا خفاء في آنية شيء ينتقل الجسم عنه ويسكن فيه أو لا يسع معه غيره وهو المسمى بالمكان والمعتبر من المذاهب أن ماهيته السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي وإليه ذهب أرسطو وأشياعه من المشائيين أو البعد الذي ينفذ فيه بعد الجسم ويتحد به وإليه ذهب كثير من الفلاسفة والمتكلمون فزعموا أن من البعد ما هو مادي يحل في الجسم ويقوم به ويمتنع اجتماعه مع بعد آخر مماثل له قائم بذلك الجسم وهو المسمى بالجسم التعليمي ومنه ما هو مفارق لا يقوم بمحل بل يحل فيه الجسم ويلاقيه بجملته ويجامعه بعد الجسم منطبقا عليه متحدا به إلا أنه عند المتكلمين عدم محض ونفي صرف يمكن أن لا يشغله شاغل
____________________
(1/193)
وهو المعنى بالفراغ المتوهم الذي لو لم يشغله شاغل لكان فارغا وعند بعض الفلاسفة امتداد موجود قد يكون ذراعا وقد يكون أقل أو أكثر وقد يسع هذا الجسم وقد يسع ما هو أصغر منه أو أكبر وتوضيحه أنا إذا توهمنا حلوا لإناء عن الماء والهواء وغيرهما ففيما بين أطرافه امتداد قد يشغله الماء وقد يشغله الهواء فكذا عند الامتلاء ويسمونه البعد المفطور بمعنى أنه مشهور مفطور عليه البديهة فإن كل أحد يحكم بأن الماء فيما بين أطراف الإناء وقيل بمعنى أنه ينشف فيدخل فيه الجسم بما له من البعد ويعبر عنه أفلاطون تارة بالهيولي لتوارد الأجسام عليه توارد الصور على المادة وتارة بالصورة لكونه عبارة عن الأبعاد الممتدة في الجهات بمنزلة الصورة الاتصالية الجسمية التي بها يقبل الجسم الأبعاد ويتميز عن المجردات وعلى هذا لا يرد ما يقال أن امتناع كون حيز الجسم جزأ منه في غاية الظهور فكيف يذهب إليه العاقل ثم إن هذا البعد عند أفلاطون وأتباعه ممتنع الخلو عن شاغل وعند البعض ممكن الخلو عنه فأصحاب الخلاء هم المتكلمون وبعض الفلاسفة ففي هذا المبحث مقامان
أحدهما في أن المكان هو السطح أو البعد
وثانيهما في أن الخلاء ممكن أو ممتنع قال المقام الأول احتج القائلون بكون المكان هو السطح بأنه لا يعقل منه إلا البعد أو السطح والأول باطل لوجوه الأول أنه لو كان هو البعد فإما أن يكون متوهما مفروضا على ما هو رأي المتكلمين وهو باطل لأن المكان موجود ضرورة أواستدلالا بأنه يقبل التساوي والتفاوت حيث يقال مكان هذا مساو لمكان ذاك أو زائد عليه أو ناقص عنه نصف له أو ثلث أو ربع أو غير ذلك وبأنه يقبل الإشارة الحسية وانتقال الجسم منه وإليه حيث يقال انتقل الجسم من هذا المكان إلى ذاك والاتصاف بالصغر والكبر والطول والقصر والقرب والبعد والاتصال والانفصال إلى غير ذلك ولا شيء من العدم المحض والنفي الصرف كذلك وإما أن يكون متحققا موجودا على ما هو رأي أفلاطون ومن تبعه وهو أيضا باطل لأنه إن كان قابلا للحركة الأينية التي هي الانتقال من مكان إلى مكان لكان له مكان وينقل الكلام إليه ليلزم ترتب الأمكنة لا إلى نهاية وهو محال لما مر في إبطال التس ولأن جميع الأمكنة الغير المتناهية لكونها من جنس البعد على ما هو المفروض يكون قابلا للحركة مفتقرا إلى المكان فيلزم أن يكون ذلك المكان داخلا في جملة الأمكنة لكونه واحدا منها وأن يكون خارجا عنها لكونه طرفا لها وذلك محال وإن لم يكن ذلك البعد الذي هو المكان قابلا للحركة لزم أن لا يكون الجسم قابلا للحركة لأنه ملزوم للبعد المنافي لقبول الحركة وملزوم في الشيء مناف لذلك الشيء الثاني أن المكان لو كان هو البعد وهو موجود ضرورة أو استدلالا لزم من تمكن الجسم في المكان تداخل البعدين أي نفوذ البعد القائم به في البعد الذي هو مكانه لأن هذا معنى التمكن عندهم واللازم باطل للقطع بأنه ليس في الإناء المملوء من الماء إلا بعد واحد ولأنه يستلزم اجتماع المثلين أعني البعدين في محل
____________________
(1/194)
واحد هو التمكن ولأنه يستلزم ارتفاع الإمكان عن البديهيات ككون هذا البعد ذراعا واحدا مثلا لجواز أن يكون ذراعين أو أكثر تداخلا وككون المتمكن مساويا بمكانه في المقدار لجواز أن يكون بعد أحدهما أزيد من الآخر حصل من تداخلهما هذا المقدار المشاهد وكل ذلك منتف بالاتفاق الثالث أن البعد في نفسه إما أن يفتقر إلى المحل فيمتنع تجرده عن المادة على ما تدعونه في البعد الذي هو المكان وإما أن يستغنى عنه فلا يحل في المادة على ما هو شأن البعد القائم بالجسم لأن معنى حلول العرض في المحل اختصاصه به بحيث يفتقر إليه في التقوم فلا يرد ما قيل أنه يجوز أن لا يفتقر في نفسه إلى المحل ويعرض له الحلول فيه وأجيب عن الكل بأنه يجوز أن يكون البعد القائم بالجسم مخالفا بالماهية للبعد المفارق وإن اشتركا في ذاتي أو عرضي هو مطلق البعد فلا يمتنع اختصاصه بقبول الحركة واقتضاء المحل واختصاص البعد المفارق بإمكان النفوذ فيه ولا يكون اجتماعهما من اجتماع المثلين على أن ما ذكر من تعدد البعدين في المتمكن واجتماع المثلين ليس بمستقيم لأن أحدهما في المتمكن والآخر فيه المتمكن قال حجة البعد احتج القائلون بكون المكان هو البعد بأنه لو كان هو السطح لزم انتفاء أمور يحكم بديهة العقل بثبوتها منها مساواة المكان للمتمكن فإن الشمعة المدورة إذا جعلناها صفحة رقيقة كان السطح المحيط بها أضعاف المحيط بالمدورة وإذا جعلنا الصفحة مدورة كان السطح المحيط بها أقل من المحيط بالصفحة مع أن الجسم في الحالين واحد وكما إذا جعلنا في المكعب نقرة عميقة يزيد السطح المحيط به مع انتقاص الجسم ومنها كون كل جسم في مكان مع أن الجسم المحيط بالكل لا يحويه جسم ليكون سطحه الباطن مكانا له ومنها سكون الطير الواقف في الهواء عند هبوب الرياح فإنه يتبدل عليه السطوح المحيطة به مع أن تبدل الأمكنة إما نفس الحركة الأينية أو ملزوم لها ومنها حركة القمر الدائر لأن السطح المحيط به من فلكه واحد لا يتبدل وعدم تبدل المكان ملزوم السكون لأن تبدله لازم الحركة أو نفسها ومنها بقاء المكان الذي خرج منه زيد مع أنه قد ملأه الهواء فلم يبق ما كان فيه من السطح المحيط بزيد ومنها كون كل جزء من أجزاء الجسم في حيز مع أن الأجزاء الباطنة من الماء مثلا لا تكون في سطح من الهواء إلا بطريق التبعية والتجوز كما يقال الماء في الفلك ومنها عدم توقف الحكم بكون الجسم ههنا أو هنالك على أنه هل يحيط به جسم أو لا ومنها أنا نتصور جسما لا يماسه شيء بل يوجد وحده مع امتناع أن نتصور جسما لا يكون في حيز ومنها أنا نقطع بأن كلا من القطب الجنوبي والشمالي في حيز آخر وأن كل نقطة على سطح الفلك المحيط تتحرك بحركته من موضع إلى موضع وبالجملة فهذه وأمثالها أمارات تفيد قوة الظن بأن المكان هو البعد لا السطح وإن كان للمناقشة مجال في استحالة بعض اللوازم أو في لزومها على مالا يخفى قال المقام الثاني المتنازع هو الخلاء بمعنى فراغ لا يشغله شاغل سواء سمي بعدا أو لم يسم
____________________
(1/195)
وسواء جعل متحققا موجودا أو موهوما فإن قيل فما معنى القول بإمكانه عند من يجعله نفيا محضا وعدما صرفا لا يتحقق أصلا قلنا معناه أنه يمكن أن يكون الجسمان بحيث لا يتماسان ولا يكون بينهما ما يماسهما احتج القائلون بإمكان الخلاء بوجوه
الأول لو فرضنا صفحة ملساء فوق أخرى مثلها بحيث يتماس سطحاهما المستويان ولا يكون بينهما جسم أصلا ورفعنا إحداهما عن الأخرى دفعة ففي أول زمان الارتفاع يلزم خلو الوسط ضرورة أنه إنما يمتلئ بالهواء الواصل إليه من الخارج بعد المرور بالأطراف والمقدمات أعني إمكان الصفحة الملساء أي الجسم الذي له سطح مستو ليس فيه ارتفاع وانخفاض ولا انضمام أجزاء من غير اتصال واتحاد وكون التماس بين السطحين لا بين أجزاء لا تتجزأ من الجانبين وإمكان رفع العليا من السفلى دفعة بحيث لا يكون ارتفاع أحد الجانبين قبل ارتفاع الآخر ليلزم التفكك وعدم حصول الهواء في الوسط عند الارتفاع بخلق الله تعالى أو بالوصول إليه من المنافذ والمسام بين أجزاء لا تتجزأ مسلمة عندهم مبنية على أصولهم وأجيب بمنع إمكان ارتفاع العليا من السفلى حينئذ بل هو عندنا محال جاز أن يستلزم محالا ولو سلم إمكان الارتفاع في الجملة فإن أريد بكونه دفعة كونه في آن لا ينقسم أصلا فلانم إمكانه كيف والارتفاع حركة تقتضي زمانا وإن أريد كون حركة جميع الأجزاء معا لئلا يلزم التفكك فلانم استلزامه للخلاء فإنه حركة لها زمان يجوز أن يمر الهواء من الأطراف إلى الوسط في ذلك الزمان ففي الجملة الخصم بين منع اللزوم ومنع إمكان الملزوم ولا يتم المطلوب إلا بثبوتهما نعم لو جعل الملزوم هو اللاوصول أعني لا مماسة السطحين الحاصلة عند الارتفاع إلزاما لمن يقول بكون اللاوصول آنيا بتعين منع إمكان الملزوم
الثاني لو لم يكن الخلاء بل لو لم يوجد لامتنع حركة الجسم من مكان إلى مكان لأنه إذا انتقل إلى مكان فالجسم الشاغل لذلك المكان إما أن ينعدم ويحدث جسم آخر يشغل المكان المنتقل عنه وهذا باطل باعترافكم بل بشهادة العقل في كثير من المواضع كحركة عصامير الدولاب كل إلى حيز آخر وإما أن لا ينعدم وحينئذ إما أن يستقر في مكانه أو ينتقل عنه فإن استقر فإما أن يبقى على مقداره فيلزم تداخل البعدين الماديين واجتماع الجسمين في حيز واحد وهذا باطل اتفاقا وضرورة وإما أن لا يبقى بل يتكاثف أي يصغر مقداره بحيث يحصل للجسم المتحرك حيز يسعه وذلك إما بكون الجسم ذا مادة يقبل المقادير المتفاوتة في الصغر والكبر وذلك قول بالهيولي ويستقيم الدلالة على بطلانها أو بكونه ذا أجزاء بينها فرج خلاء قد تقاربت تلك الأجزاء بحيث حصل خلاء يسع الجسم للتحرك فيلزم الخلف لتحقق الخلاء على تقدير عدمه هذا إن استقر الجسم الشاغل للمكان الثاني في
____________________
(1/196)
مكانه وإن انتقل عنه فإما إلى المكان الأول فيلزم الدور لتوقف انتقال كل إلى مكان الآخر على انتقال الآخر عن مكانه لامتناع الاجتماع وتوقف انتقاله عنه على انتقال الأول إليه لئلا يلزم خلوه وإما إلى مكان آخر فيلزم تصادم الأجسام بأسرها وتعاقب الحركات لا إلى نهاية فيؤول إلى الدور ضرورة تناهي الأجسام وبعض هذه الترديدات تجري في المكان الذي ينتقل عنه الجسم فإنه إما أن يبقى خاليا أو يصير مملوا بانتقال جسم آخر إليه أو يتخلخل ما حوله من الأجسام بطريق ثبوت الهيولي أو فرج الخلاء فتعين أن يكون إمكان الذي ينتقل إليه الجسم إما خلاء محضا وإما مملوا بجسم فيه فرج خلاء يقل ويتقارب الأجزاء فيحصل للجسم المنتقل إليه مكان وتكون حركة السمكة في البحر من هذا القبيل فلا يرد نقضا على ما ذكرنا من الدليل وأجيب بأن دليل إبطال الهيولي لا يتم لما سيأتي بل غاية الأمر القدح في مقدمات إثباتها وهو لا يفيد في معرض الاستدلال ولو سلم فإن أريد بتوقف انتقال كل من الجسمين إلى مكان الآخر على انتقال الآخر إلى مكانه امتناع كل منهما بدون الآخر كما في المتضايفين فلانم استحالته لجواز أن لا يكون بصفة التقدم بل المعية كما في عصامير الدولاب فإن انتقال كل منها إلى حيز السابق يتوقف على انتقال اللاحق إلى حيز لئلا يلزم الخلاء بل التفكك وانتقال اللاحق إلى حيزه يتوقف على انتقاله إلى حيز السابق لئلا يلزم اجتماع جسمين في حيز وهذا هو المعنى بدور المعية وإن أريد التوقف بمعنى احتياج كل إلى الآخر احتياج المسبوق إلى السابق حتى يكون دور تقدم فلانم لزومه وما ذكرتم لا يفيد ذلك وربما يمنع ابتناء التخلخل والتكاثف على تحقق الهيولي أو فرج الخلاء الثالث أنه لو لم يوجد الخلاء لكان كل سطح ملاقيا لسطح آخر لا إلى نهاية لأن معنى تحقق الخلاء كون الجسم بحيث لا يماسه جسم آخر واللازم باطل لما سيجيء من تناهي الأجسام وأجيب بمنع اللزوم بل تنتهي الأجسام إلى سطح لا يكون فوقه شيء والعدم الصرف ليس فراغا يمكن أن يشغله شاغل على ما هو المراد بالخلاء المتنازع فيه الرابع أنا نشاهد أمورا تدل على تحقق الخلاء قطعا منها أن القارورة إذا مصت جدا بحيث خرج ما فيها من الهواء ثم كبت على الماء تصاعد إليها الماء ولو لم تصر خالية بل كان فيها ملاء لما دخلها الماء كما قبل المص ومنها أن الزق إذا ألصق أحد جانبيه بالآخر بحيث لا يبقى بينهما هواء وشد رأسه وجميع مسامه بالقار بحيث لا يدخله الهواء من خارج فإذا رفعنا أحد جانبيه عن الآخر حصل فيه الخلاء ومنها أن لزق إذا بولغ في تمديده وتسديد مسامه ثم نفخ فيه بقدر الإمكان فإذا فرز فيه مسلة بل مسلات فإنها تدخله بسهولة ولو لم يكن فيه خلاء لما دخلته لامتناع التداخل ومنها أن ملاء الدن من الشراب إذا جعل في زق ثم جعلا في ذلك الدن فإنه يسعهما ولو لم يكن في الشراب فرج خلاء بقدر الزق لما أمكن ذلك وأجيب بأن شيئا مما ذكر لا يستلزم تحقق الخلاء لجواز أن يتخلخل قليل هواء يبقى في
____________________
(1/197)
القارورة ثم يعود إلى مقداره الطبيعي عند ترك المص فيتصاعد الماء ضرورة امتناع الخلاء وكذا يجوز أن يبقى بين جانبي الزق قليل هواء يتخلخل عند الارتفاع أو أن ينفذ الهواء في المسام وإن بولغ في تسديدها وكذا الزق المنفوخ تدخله المسلة بتكاثف ما فيه من الهواء أو لخروج بعضه من المسام وأما شراب الدن فيجوز أن يتكاثف أو يتبخر ويتخلخل منه بالإعصار شيء يسير على مقدار الزق ( قال حجة الامتناع ) احتج القائلون بامتناع الخلاء أي كون الجسمين بحيث لا يتماسان ولا يكون بينهما جسم يماسهما بل فراغ يمكن أن يشغله شاغل موجودا كان أو معدوما لوجوه
الأول أنه لو تحقق الخلاء لزم أن يكون زمان الحركة مع المعاوق مساويا لزمان تلك الحركة بدون المعاوق واللازم ظاهر البطلان بيان اللزوم أنا نفرض حركة جسم في فرسخ من الخلاء ولا محالة تكون في زمان ولنفرضه ساعة ثم نفرض حركة ذلك الجسم بتلك القوة بعينها في فرسخ من الملاء ولا محالة تكون في زمان أكثر لوجود المعاوق ولنفرضه ساعتين ثم نفرض حركته بتلك القوة في ملاء أرق قواما من الملاء الأول على نسبة زمان حركة الخلاء إلى زمان حركة الملاء الأول أي يكون قوامه نصف قوام الأول فيلزم أن يكون زمان الحركة في الملاء الأرق ساعة ضرورة أنه إذا اتحدت المسافة والمتحرك والقوة المحركة لم تكن السرعة والبطاء أعني قلة الزمان وكثرته إلا بحسب قلة المعاوق وكثرته فيلزم تساوي زمان حركة ذي المعاوق أعني التي في الملاء الأرق وزمان حركة عديم المعاوق أعني التي في الخلاء وأعترض أولا بمنع إمكان قوام تكون على نسبة زمان الخلاء إلى زمان الملاء وإنما يتم لو لم ينته القوام إلى مالا قوام أرق منه وهو ممنوع
وثانيا بمنع انقسام المعاوقة بانقسام القوام بحيث يكون جزء المعاوق معلوقا وإنما يتم لو ثبت أن المعاوقة قوة سارية في الجسم منقسمة بانقسامه غير متوقفة على قدر من القوام بحيث لا يوجد بدونه
وثالثا بمنع امتناع أن ينتهي المعاوق من الضعف إلى حيث يساوي وجوده عدمه
ورابعا وهو المنع المعول عليه إذ ربما يمكن إثبات المقدمات سيما على أصول الفلاسفة أنه لا يلزم من كون المعاوقتين على نسبة الزمانين أن يكون زمان قليل المعاوق مساويا لزمان عديمه وإنما يلزم لو لم يكن الزمان إلا بإزاء المعاوقة وأما إذا كانت الحركة بنفسها تستدعي شيئا من الزمان كالساعة المفروضة في الخلاء فلا إذ في المعاوق القليل تكون ساعة بإزاء نفس الحركة كما في الخلاء ونصف ساعة بإزاء المعاوقة التي هي نصف المعاوقة الكثيرة التي يقع ساعة بإزائها وهذا اعتراض لأبي البركات ومعناه على ما يشعر به كلامه في المعتبر أن كل ما يقع من الحركة فهو من جهة القوة المحركة والجسم المتحرك يستدعي زمانا محدودا بجزم العقل بذلك وإن لم يتصور
____________________
(1/198)
معاوقة المخروق ثم يزداد الزمان إن تحققت المعاوقة فيكون البعض منه بإزاء المعاوقة والبعض بإزاء الحركة وهو زمان الخلاء ويتفاوت بحسب قوة المحرك وخاصية المتحرك والمراد بنفس الحركة حركة ذلك الجسم بتلك القوة من غير اعتبار معاوقة المخروق لا ماهية الحركة من حيث هي هي ليدفع الاعتراض بأنها لو اقتضت قدرا من الزمان لزم ثبوت ذلك القدر لكل من جزئيات الحركة لامتناع تخلف مقتضى الماهية واللازم باطل كما في الحركة المفروضة في جزء من ذلك القدر من الزمان ولا الحركة المجردة من السرعة والبطء ليدفع بما ذكره بعض المحققين من أن الحركة تمتنع أن توجد إلا على حد من السرعة والبطء لأنها لا محالة تكون في مسافة وزمان ينقسم كل منهما لا إلى نهاية فإذا فرضنا وقوع أخرى نقطع تلك المسافة في نصف ذلك الزمان فالأولى أبطأ منها أو في ضعفه فأسرع فالحركة المجردة لا توجد وما لا يوجد لا يستدعي شيئا ويرد على الوجهين أن زمان الحركة قد يكون بحيث لا ينقسم إلا وهما فتكون الحركة في جزء منه محالا والمحال جاز أن يستلزم المحال فلا يكفي في إثبات بطء الأولى ونفي كونها أسرع الحركات فرض وقوع الأخرى مالم يبين إمكانها فإن قيل سلمنا انتفاء البطء لكن لا خفاء في ثبوت السرعة لإمكان وقوع أخرى في زمان أكثر فلا تثبت المجردة من السرعة والبطء قلنا دفع الاعتراض إنما يبتني على ثبوت البطء ليتفرع عليه كون الزمان بحسب المعاوقة وذكر السرعة إنما هو بحكم المقابلة ولهذا عبر في المواقف عن هذا الدفع بأن الحركة لو اقتضت زمانا لذاتها لكانت الحركة الواقعة فيه أسرع الحركات على ما مر وقد يقال في تقرير كلام المحقق أن الحركة لا توجد إلا مع وصف السرعة والبطء وهما بحسب المعاوقة فلا حركة إلا مع المعاوقة فإذا كان الزمان بإزاء الحركة كان بإزاء المعاوقة وإن لم يكن لها دخل في اقتضائه وحينئذ لا يرد الاعتراض بأن امتناع وجود الحركة بدون السرعة والبطء لا ينافي استدعاءها بنفسها شيئا من الزمان ولا النقض باللوازم التي تقتضيها الماهية مع امتناع أن توجد إلا مع شيء من العوارض لكنه لا يدفع اعتراض أبي البركات ولا يثبت دعوى المحقق أن الحركة بنفسها لا تستدعي شيئا من الزمان ( قال الثاني )
الوجه الثاني أنه لو وجد الخلاء لامتنع حصول الجسم فيه لأن اختصاصه بحيز منه دون حيز ترجح بلا مرجح لكونه نفيا صرفا أو بعدا متشابها ليس فيه اختلاف أصلا لكون اختلاف الأمثال بالمواد وأجيب بعد تسليم التشابه بأنه لا رجحان بالنسبة إلى جميع العالم على تقدير تناهي الخلاء لأنه في جميع الأجزاء وأما على تقدير لا تناهية أو بالنسبة إلى جسم جسم فيجوز أن يكون الرجحان بأسباب خارجة كإرادة المختار وكون طبيعة بعض الأجسام مقتضية للإحاطة بالكل وبعضها للقرب من المحيط أو البعد عنه
الوجه الثالث أنه لو وجد الخلاء بين الأرض والسماء لزم في الحجر المرمي إلى فوق أن يصل إلى السماء لأن الرامي
____________________
(1/199)
قد أحدث فيه قوة صاعدة لا تقاومها الطبيعة إلا بمعونة مصادمات من الملاء وأجيب بأنه مع ابتنائه على نفي الفاعل المختار إنما ينفي كون ما بين الأرض والسماء خلاء صرفا ولا ينفي وجود خلاء خارج عما بينهما أو مختلط بالأجزاء الهوائية الوجه
الرابع أنه لو وجد الخلاء لزم انتفاء أمور نشاهدها ونحكم بوجودها قطعا كارتفاع اللحم في المحجمة عند المص فإنه لما انجذب الهواء بالمص تبعه اللحم لئلا يلزم الخلاء وكارتفاع الماء في الأنبوبة إذا غمس أحد طرفيها في الماء ومص الطرف الآخر وكبقاء الماء في الكوز الذي في اسفله ثقبة ضيقة من غير أن ينزل من الثقبة عند شد رأس الكوز لئلا يبقى حيز الماء خاليا ونزوله على ما هو مقتضى طبعه عند فتح الرأس لدخول الهواء وكانكسار القارورة التي جعلت في رأسها خشبة وشدت بحيث لا يدخل فيها ولا يخرج عنها هواء ثم أخرجت الخشبة فإن القارورة تنكسر إلى الداخل لئلا يبقى حيز الخشبة خاليا وإن أدخلت تنكسر القارورة إلى الخارج لما أن فيها ملاء لا يجامع الخشبة وأجيب بأنه يجوز أن يكون ذلك لأسباب أخر فإن غاية هذه الأمور لزومها لانتفاء الخلاء واللازم قد يكون أعم فلا يصح الاستدلال بوجوده على وجود الملزوم نعم ربما يفيد يقينا حدسيا للناظر لكن لا يقوم حجة على المناظر ( قال الفصل الثالث في الكيف ) لا طريق إلى تعريف الأجناس العالية سوى الرسوم الناقصة إذ لا يتصور لها جنس وهو ظاهر ولا فصل لأن التركب من الأمرين المتساويين ليكون كل منهما فصلا مجرد احتمال عقلي لا يعرف تحققه بل ربما تقام الدلالة على انتفائه ولم يظفر للكيف بخاصة لازمة شاملة سوى التركب من العرضية والمغايرة للكم وللأعراض النسبية إلا أن التعريف بها كان تعريفا للشيء بما يساويه في المعرفة والجهالة لأن الأجناس العالية ليس بعضها أجلى من البعض فعدلوا عن ذكر كل من الكم والأعراض النسبية إلى ذكر خاصته التي هي أجلى فقالوا هو عرض لا يقتضي لذاته قسمة ولا يتوقف تصوره على تصور غيره فخرج الجوهر والكم والأعراض النسبية ومن جعل النقطة والوحدة من الأعراض زاد قيد عدم اقتضاء اللاقسمة احترازا عنهما وقيدوا عدم اقتضاء القسمة واللاقسمة بالذات والأولية لئلا يخرج عن التعريف العلم بالمركب وبالبسيط حيث يقتضي القسمة واللاقسمة نظرا إلى المتعلق فإن قيل من الكيفيات ما يتوقف تعلقه على تعقل شيء آخر كالعلم والقدرة والاستقامة والانحناء ونحو ذلك قلنا ليس هذا بتوقف وإنما هو استلزام واستعقاب بمعنى أن تصوره يستلزم تصور متعلق له بخلاف النسبيات فإنها لا تتصور إلا بعد تصور المنسوب والمنسوب إليه وبالجملة فالمعنى بالكيفية ما ذكر فلو كان شيء مما بعد في الكيفيات على خلاف ذلك لم يكن كيفية والمشهور في تعريف الكيفية أنها هيئة قارة لا يوجب تصورها تصور شيء خارج عنها وعن حاملها ولا تقتضي قسمة ولا نسبة في أجزاء حاملها واحترز بالقيد الأخير عن الوضع وبالأول أعني القارة
____________________
(1/200)
عند الزمان وأن يفعل وأن ينفعل واعترض بأن الاحتراز عن أن يفعل وأن ينفعل حاصل بالقيد الثاني وعن الزمان بالقيد الثالث أعني عدم اقتضاء القسمة على أن من الكيفيات ما ليست بقارة كالصوت ومنها ما يوجب تصورها تصور أمر خارج كالعلم والقدرة على ما مر قال وتنحصر بالاستقراء في أربعة اقسام أقسام الكيف في أربعة الكيفيات المحسوسة الكيفيات النفسانية الكيفيات المختصة بالكميات الاستعدادات والتعويل في الحصر على الاستقراء وقد يبين بصورة الترديد بين النفي والإثبات ويحصل بحسب اختلاف التعبير عن كل قسم بما له من الخواص طرق متعددة حاصلها أن الكيف إن كان هو القسم الأول فالأول أو الثاني فالثاني أو الثالث فالثالث وإلا فالرابع والمنع عليه ظاهر فلا يصلح إلا وجه ضبط لما علم بالاستقراء على أن بعض الخواص مما فيه نوع خفاء كتعبير الإمام عن الكيفيات النفسانية بالكمال وتعبير ابن سينا عنها بما لا يتعلق بالأجسام وعن الاستعدادات بما يخص الجسم من حيث الطبيعة وعن المحسوسات بما يكون ثبوتها أنها فعل وبعضها ليس شاملا للأفراد كتعبيره عن المحسوسات بما يكون فعله بطريق التشبيه أي جعل الغير شبيها به كالحرارة تجعل المجاور حارا أو السواد يلقي شبحه أي مثاله على العين لا كالثقل فإن فعله في الجسم التحريك لا الثقل قال الإمام وهذا تصريح منه فإخراج الثقل والخفة عن المحسوسات مع تصريحه في موضع آخر من الشفاء بأنهما منها وذكر في موضع آخر منه أنه لم يثبت بالبرهان أن الرطب يجعل غيره رطبا واليابس يجعل غيره يابسا وكتعبيره عن الكيفيات المختصة بالكميات بما يتعلق بالجسم من حيث الكمية قال الإمام وهذا تضييع للكيفية المختصة بالعدد يعني من جهة أنها قد تتعلق بالمجردات وبهذا اعترض على قولهم أن البحث عن أحوال ما يستغني عن المادة في الذهن دون الخارج هي الرياضيات بأن من جملتها البحث عن أحوال العدد وهو يستغني عن المادة في الخارج أيضا وأجيب بأن البحث فيه قد يقع لا من حيث الافتقار إلى المادة وهو بحث الوحدة والكثرة من الإلهي وقد يقع من حيث الافتقار كالجمع والتفريق والضرب ونحو ذلك مما في الحساب وهو من الرياضي وفيه نظر لا يقال المراد ما يتعلق بالجسم في الجملة وإن لم يختص به وكيفيات العدد كذلك لأنا نقول فحينئذ يكون معنى الكيفيات النفسانية مالا يتعلق بالجسم أنها لا تتعلق به أصلا وفساده بين بل المعنى أنها لا تتعلق به خاصة بحيث تستغني عن النفس قال القسم الأول الكيفيات المحسوسة وهي إن كانت راسخة كصفرة الذهب وحلاوة العسل سميت انفعاليات لانفعال الحواس عنها أو لا ولكونها بخصوصها أو عمومها تابعة للمزاج الحاصل من انفعال العناصر بموادها فالخصوص كما في المركبات مثل حلاوة العسل والعموم كما في البسايط مثل حرارة النار فإن الحرارة من حيث هي قد تكون تابعة للمزاج ولانفعال المواد وهذا معنى قولهم تشخصها
____________________
(1/201)
أو نوعها وإلا فالحرارة ليست نوعا لحرارة النار وغيرها لا حقيقيا ولا إضافيا وكذا البياض لبياض الثلج والعاج على ما سيجيء وإن كانت غير راسخة سميت انفعالات لأنها لسرعة زوالها شديدة الشبه بأن تنفعل فخصت بهذا الاسم تمييزا بين القسمين قال المبحث الأول أصول الكيفيات الملموسة أي التي لا يخلو عنها شيء من الأجسام العنصرية ويقع الإحساس بها أو لا وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ولا خفاء في وجودها فما يقال أن البرودة عدم الحرارة ليس بشيء ولا في ماهيتها فما يذكر في معرض التعريف لها تنبيه على بعض ما لها من الخواص لا إفادة لتصوراتها والمشهور من خواص الحرارة أنها التي تفرق المختلفات وتجمع المتشاكلات إلا أنها تابعة لخاصة أخرى هي التحريك إلى فوق على ما قال في الحدود الحرارة كيفية فعلية محركة لما تكون فيه إلى فوق لإحداثها الخفة فيعرض أن تجمع المتجانسات وتفرق المختلفات وتحدث بتحليلها الكثيف تخلخلا من باب الكيف أي رقة قوام ويقابله التكاثف بمعنى غلظ القوام وبتصعيدها اللطيف تكاثفا من باب الوضع أي اجتماعا للأجزاء الوجدانية الطبع بخروج الجسم الغريب عما بينها ويقابله التخلخل بمعنى انتفاش الأجزاء بحيث يخالطها جرم غريب ومعنى الفعلية ما سبق من جعل الغير شبيها لا مجرد إفادة أثر ما أعم من الحركة وغيرها ليكون قولنا فعلية محركة بمنزلة قولنا جسم حيوان على ما زعم الإمام وبالجملة فالخاصة الأولية للحرارة هي إحداث الخفة والميل المصعد ثم يترتب على ذلك بحسب اختلاف القوابل آثار مختلفة من الجمع والتفريق والتنجيز وغير ذلك وتحقيقه أن ما يتأثر عن الحرارة إن كان بسيطا استحال أولا في الكيف ثم أفضى به ذلك إلى انقلاب الجوهر فيصير الماء هواء والهواء نارا وربما يلزمه تفريق المتشاكلات بأن تتميز الأجزاء الهوائية من الماء ويتبعها ما يخالطها من الأجزاء الصغار المائية وإن كان مركبا فإن لم يشتد التحام بسائطه ولا خفاء في أن الألطف أقبل للصعود لزم تفريق الأجزاء المختلفة وتبعه انضمام كل إلى ما يشاكله بمقتضى الطبيعة وهو معنى جمع المتشاكلات وإن اشتد التحام البسائط فإن كان اللطيف والكثيف قريبين من الاعتدال حدثت من الحرارة القوية حركة دورية لأنه كلما مال اللطيف إلى التصعد جذبه الكثيف إلى الانحدار وإلا فإن كان الغالب هو اللطيف يصعد بالكلية كالنوشادر وإن كان هو الكثيف فإن لم يكن غالبا جدا حدث تسييل كما في الرصاص أو تليين كما في الحديد وإن كان غالبا جدا كما في الطلق حدث مجرد سخونة واحتيج في تليينه إلى الاستعانة بأعمال أخر وعدم حصول التصعد أو التفرق بناء على المانع لا ينافي كون خاصتها التصعيد وتفريق المختلفات وجمع المتشاكلات قال وقد يقال الحار إطلاق الحرارة على حرارة النار وعلى الحرارة الفايضة عن الأجرام السماوية النيرة وعلى الحرارة الغريزية وعلى الحرارة الحادثة بالحركة ليست بحسب اشتراك اللفظ على
____________________
(1/202)
ما يتوهم لأنه لمفهوم واحد هو الكيفية المحسوسة المخصوصة وإن كانت الحرارات متخالفة بالحقيقة واختلاف المفهوم إنما هو في إطلاق الحار على مثل النار وعلى الأجرام السماوية التي تفيض منها الحرارة وعلى الدواء والغذاء اللذين يظهر منهما حرارة في بدن الحيوان وهل في كل من الكواكب والدواء والغذاء صفة مسماة بالحرارة كالكيفية المحسوسة في النار أم ذلك توسع وإطلاق للحار على ما منه الحرارة وإن لم يقم به معنى مسمى بالحرارة فيه تردد واختلفوا في الحرارة الغريزية التي بها قوام حياة الحيوان فاختار الإمام الرازي أنها هي النارية فإن النار إذا خالطت سائر العناصر أفادت حرارتها المركب طبخا واعتدالا وقواما لتوسطها بانكسار سورتها عند تفاعل العناصر بين الكثرة المقتضية إلى إبطال القوام والعلة القاصرة عن الطبخ الموجب للاعتدال فتلك الحرارة هي المسماة بالحرارة الغريزية وحكي عن أرسطو أنها من جنس الحرارة التي تفيض من الأجرام السماوية فإن المزاج المعتدل بوجه ما مناسب لجوهر السماء لأنه ينبعث عنه يعني أنه إذا امتزجت العناصر وانكسرت سورة كيفياتها حصل للمركب نوع وحدة وبساطة بها يناسب البساطة السماوية ففاض عليه مزاج معتدل به حفظ التركيب وحرارة غريزية بها قوام الحياة وقبول علاقة النفس وبعضهم على أنها مخالفة بالماهية للحرارة النارية والحرارة السماوية لاختصاصها بمقاومة الحرارة الغريزية ودفعها عن الاستيلاء على الرطوبات الغريزية وإبطال الاعتدال حتى أن السموم الحارة لا تدفعها إلا الحرارة الغريزية فإنها آلة للطبيعة تدفع ضرر الحار الوارد بتحريك الروح إلى دفعه وضرر البارد الوارد بالمضادة وأجاب الإمام بأن تلك المقاومة إنما هي من جهة أن الحرارة الغريزية تحاول التفريق والغريزية أفادت من النضج والطبخ ما يعسر عنده على الحرارة الغريزية تفريق تلك الأجزاء وبالجملة يجوز أن تكون هي الحرارة السماوية أو النارية ويستند آثاره المختصة بها إلى خصوصية حصولها في البدن المعتدل وصيرورتها جزأ من المزاج الخاص ( قال وأورد ) المذكور في كلام بعض المتقدمين أن الجسم إنما كان رطبا إذا كان بحيث يلتصق بما يلامسه وفهم منه أن الرطوبة كيفية تقتضي التصاق الجسم ورده ابن سينا بأن الالتصاق لو كان للرطوبة لكان الأشد رطوبة أشد التصاقا فيكون العسل أرطب من الماء بل المعتبر في الرطوبة سهولة قبول الشكل وتركه فهي كيفية بها يكون الجسم سهل التشكل وسهل الترك للشكل وأجاب الإمام بأن المعتبر فيها سهولة الالتصاق ويلزمها سهولة الانفصال فهي كيفية بها يستعد الجسم لسهولة الالتصاق بالغير وسهولة الانفصال عنه ولا نسلم أن العسل أسهل التصاقا من الماء بل أدوم وأكثر ملازمة ولا عبرة بذلك في الرطوبة كيف وظاهر أنه ليس أسهل انفصالا فيلزم أن لا يكون أسهل التصاقا وكان مراد الإمام تأويل كلامهم بما ذكر وإلا فاعتراض ابن
____________________
(1/203)
سينا إنما هو على ما نقله من كلامهم لا على تفسير الرطوبة بسهولة الالتصاق والانفصال على ما يشعر به كلام للواقف ومبناه على أنه لا تعرض في كلامهم للانفصال أصلا ولا للسهولة في جانب الالتصاق على ما ذكر من استلزام سهولة الالتصاق وسهولة الانفصال ممنوع وقد يعترض على اعتبار سهولة الالتصاق بأنه يوجب أن يكون اليابس المدقوق جدا كالطعام المحرقة رطبا لكونه كذلك ويجاب بأنه يجوز أن يكون ذلك لمخالطة الأجزاء الهوائية وهذا ما يتم على رأي من يقول برطوبة الهواء وسهولة التصاقه لولا مانع فرط اللطافة لا على رأي الإمام واعترض على اعتبار سهولة قبول الأشكال بوجوه منها أن النار أرق العناصر وألطفها وأسهلها قبولا للأشكال فيلزم أن يكون أرطبها وبطلانه ظاهر وأجيب بأنا لا نسلم سهولة قبول الأشكال الغريبة في النار الصرفة وإنما ذلك فيما يشاهد من النار المخالطة للهواء فإن قيل إذا أوقد التنور شهرا أو شهرين انقلب ما فيه من الهوا نارا صرفه أو غالبه مع أن سهولة قبول الأشكال بحالها بل أزيد قلنا لو أوقد ألف سنة فداخلة الهوا ومخالطة الأجزاء بحالها ومنها أنه يوجب كون الهوا رطبا ويبطله اتفاقهم على أن خلط الرطب باليابس يفيده استمساكا عن التفتت وخلط الهوا بالتراب ليس كذلك والجواب أن ذلك إنما هو في الرطب بمعنى ذي البلة فإن إطلاق الرطوبة على البلة شايع بل كلام الإمام صريح في أن الرطوبة التي هي من المحسوسات إنما هي البلة لا ما اعتبر فيه سهولة قبول الأشكال لأن الهوا رطب بهذا المعنى ولا تحس منه برطوبة ومنها أنه يوجب أن يكون المعتبر في اليبوسة صعوبة قبول الأشكال فلم يبق فرق بينها وبين الصلابة ويلزم كون النار صلبة لكونها يابسة والجواب أن اللين كيفية تقتضي قبول الغمز إلى الباطن ويكون للشيء بها قوام غير سيال فينتقل عن وصفه ولا يمتد كثيرا بسهولة والصلابة كيفية تقتضي ممانعة من قبول الغمز ويكون للشيء بها بقاء شكل وسدة مقاومة نحو اللاانفعال فيتغايران الرطوبة واليبوسة بهذا الاعتبار إلا أنه يشبه أن يكون مرجع قبول الغمز ولا قبوله إلى الرطوبة واليبوسة فعلى ما ذكرنا اللين والصلابة كيفيتان متضادتان وهل هما من الملموسات أو الاستعدادات فيه تردد وبعضهم على أن اللين عبارة عن عدم الصلابة عما من شأنه فبينهما تقابل الملكة والعدم قال وأما مثل البلة قد يعد من الملموسات البلة وهي الرطوبة الغريبة الجارية على ظاهر الجسم فإن كانت نافذة إلى باطنها فهي الانقطاع والأظهر أن الجفاف عدم ملكة البلة واللزوجة وهي كيفية تقتضي سهولة التشكل مع عسر التفرق واتصال الامتداد وتحدث من شدة امتزاج الرطب الكثير باليابس القليل ويقابلها الهشاشة وهي ما يقتضي صعوبة التشكل وسهولة التفرق واللطافة وقد تقال لرقة القوام كما في الماء والهواء ولسهولة قبول الانقسام إلى أجزاء صغيرة جدا كما في القند ولسرعة التأثر من الملاقي كما في الورد
____________________
(1/204)
وللشفافية كما في الفلك والكثافة تقابلها بمعانيها والتخدير وهو تبريد للعضو بحيث يصير جوهر الروح الحامل قوة الحس والحركة إليه باردا في مزاجه غليظا في جوهره فلا يستعملها القوى النفسانية ويجعل مزاج العضو كذلك فلا يفيد تأثير القوى النفسانية واللدع وهي كيفية نفاذة جدا لطيفة تحدث في الاتصاف تفرقا كثير العدد متقارب الوضع صغير المقدار فلا يحس كل واحد بانفراده ويحس بالجملة كالوجع الواحد وإما الملاسة والخشونة فالجمهور على أنهما من الكيفيات الملموسة وقال الإمام بل من الوضع لأن الملاسة عبارة عن استواء أجزاء الجسم في الوضع بحيث لا يكون بعضها أرفع وبعضها أخفض والخشونة عن اختلافها ورد بأنه يجوز أن يكون ذلك مبدأهما لأنفسهما ( قال المبحث الثاني ) قد يراد بالاعتماد المدافعة المحسوسة للجسم لما يمنعه من الحركة إلى جهة فيكون من الكيفيات الملموسة ولا يقع اشتباه في تحققه ومغايرته للحركة وللطبيعة لكونه محسوسا يوجد حيث لا حركة كما في الحجر المسكن في الجو والزق المنفوخ المسكن تحت الماء وينعدم مع بقاء الطبيعة كما في الجسم الساكن في حيزه الطبيعي وقد يراد به مبدأ المدافعة فيفسر بكيفية يكون بها الجسم مدافعا لما يمنعه عن الحركة إلى جهة ما وسيجيء بيان تحققه ومغايرته للطبيعة ويبقى الاشتباه في أنه من أي قسم من أقسام الكيف ( قال وقد يجعل أنواعه ) أي أنواع الاعتماد ستة بحسب الحركات في الجهات الست وقد يدعى تضادها مطلقا إن لم يشترط بين المتضادين غاية الخلاف وإن اشترط انحصر التضاد فيما بين المتقابلين كالاعتماد الصاعد والهابط مثلا وفي جعل أنواع الاعتماد ستا ضعيف من وجهين
أحدهما أن الاعتماد الطبيعي الذي يتصور فيه الاختلاف بالحقيقة إنما هو الصاعد والهابط أعني الميل إلى العلو والسفل اللذين هما الجهتان الحقيقيتان اللتان لا تتبدلان أصلا حتى لو انتكس الإنسان لم يصر فوقه تحت وتحته فوق بل صار رجله إلى فوق ورأسه إلى تحت بخلاف سائر الجهات فإنها إضافية تتبدل كالمواجه للمشرق إذا واجه المغرب صار قدامه خلفا ويمينه شمالا وبالعكس فيتبدل الاعتمادات أي يصير اعتماده إلى قدام اعتمادا إلى خلف وبالعكس وكذا إلى اليمين والشمال فلا يكون أنواعا مختلفة
وثانيهما إن حصر الجهات في الست أمر عرفي اعتبره العوام من حال الإنسان في أزله رأسا وقدما وظهرا وبطنا ويدين يمينا وشمالا والخواص من حال الجسم في أن له أبعادا ثلاثة متقاطعة على زوايا قوائم ولكل بعد طرفين وأما بحسب الحقيقة فالجهات متكثرة جدا غير محصورة بحسب ما للجسم من الأجزاء عند من يقول بالجوهر الفرد أو غير متناهية أصلا بحسب ما يفرض فيه من الانقسامات عند من لا يقول به وبالجملة فالحقيقي من أنواع الاعتماد الذي لا يلحقه التبدل أصلا اثنان هما الثقل والخفة أعني الميل الهابط والصاعد وكل منهما مطلق ومضاف فالثقل المطلق كيفية تقتضي حركة الجسم إلى حيث ينطبق
____________________
(1/205)
مركز ثقله أعني النقطة التي يتعادل ما على جوانبها على مركز العالم كما في الأرض والمضاف كيفية تقتضي حركة الجسم في أكثر المسافة الممتدة بين المركز والمحيط حركة إلى المركز لكنه لا يبلغ كما للماء فإنه ثقيل بالإضافة إلى النار والهواء دون الأرض والخفة المطلقة كيفية تقتضي حركة الجسم إلى حيث ينطبق سطحه على سطح القعر فلك القمر كما للنار والمضافة كيفية تقتضي حركة الجسم في أكثر المسافة الممتدة بين المركز والمحيط حركة إلى المحيط لكنه لا تبلغ المحيط كما للهواء قال وليسا راجعين ما ذكر من كون الثقل والخفة كيفيتين زائدتين على الجسم غير متعلقتين بالرطوبة واليبوسة حيث كان الهواء خفيفا مع رطوبة والأرض ثقيلة مع يبوستها هو رأي الجمهور وذهب الجبائي إلى أن سبب الثقل الرطوبة وسبب الخفة اليبوسة لما يظهر بالنار من رطوبة الثقيل كالذهب وترمد الخفيف كالخشب ورد بأن غايته ظهور الرطوبة واليبوسة في بعض ما هو ثقيل وخفيف من غير دلالة على تحققهما قبل ذلك وسببيتهما وعموم الحكم وذهب الأستاذ أبو إسحق إلى أن الجواهر الفردة متجانسة لا تتفاوت في الثقل والخفة وإنما تفاوت الأجسام في ذلك عائد إلى كثرة الجواهر الفردة في الثقيل وقلتها في الخفيف ورد بعد تسليم التجانس بأنه يجوز أن يحدث في المركب من الأجزاء القليلة صفة الثقل والكثرة صفة الخفة لمحض إرادة المختار أو لغيرها من الأسباب كسائر الأعراض من الألوان والطعوم وغيرهما وقد يستدل على بطلان الرأيين بأن الزق الواحد يسع من الزئبق أضعاف ما يسع من الماء فالزئبق أثقل من الماء الكثير مع زيادة الماء في الرطوبة بالاتفاق وتساويهما في الأجزاء في الصورة المفروضة وهي أن يملأ الزق ماء ثم يفرغ فيملأ زئبقا إذ لو كان أجزاء الزئبق أكثر لزم أن يكون فيما بين أجزاء الماء فرج خلاء بقدر زيادة وزن الزئبق على وزن الماء وإن يحس في زق الماء بالأحياز الفارغة أضعاف ما يحس به من المملوة هذا بعد تسليم وجود الخلاء وعدم انحدار الماء بالطبع إلى الحيز الخالي بناء على إرادة القادر أو أن في الخلاء قوة دافعة ويمكن أن يقال لا يحس بها لغاية الصغر مع فرط الامتزاج بالأجزاء المائية ( قال ومنع القاضي ) اختلف أصحابنا القائلون بالاعتماد فذهب القاضي إلى أن الاعتماد في كل جسم أمر واحد وربما يتعدد أسماؤها بحسب الاعتبار حتى يسمى بالنسبة إلى العلو خفة وإلى السفل ثقلا وليس له بالنسبة إلى الجهات الأخر اسم خاص فما نقل عنه من جواز اجتماع الاعتمادات فمعناه جواز أن يعرض لذلك الأمر الاعتبارات المختلفة والإضافة إلى الجهات الست وذهب بعضهم إلى أنها متعددة غير متضادة لا يقوم بجسم اعتمادا بالنسبة إلى جهتين وبعضهم إلى أنها متعددة غير متضادة لأن من جذب حجرا ثقيلا إلى جهة العلو فإنه يحس منه اعتمادا إلى جهة السفل ولو جذبه غيره إلى جهة السفل يحس منه اعتمادا إلى جهة العلو ولأن كلا من المتجاذبين حبلا على التقاوم والتساوي في القوة يحس من الحبل اعتمادا
____________________
(1/206)
إلى خلاف جهته والحق أن الاعتمادين الطبيعيين أعني الثقل والخفة متضادان لا يتصور اجتماعهما في شيء واحدا باعتبار واحد وأنه لا تضاد بين الاعتماد الطبيعي وغير الطبيعي كما في الحجر الذي يرفع إلى فوق فإن الرافع يحس مدافعة هابطة والدافع مدافعة صاعدة وأما غير الطبيعي من الاعتماد فقيل المختلفان منه متضادان كالاعتماد يمنة ويسرة لأنه مبدأ قريب للحركة فلو جاز الاعتماد إن معا لجاز الحركتان بالذات معا لاستلزام وجود المؤثر وجود الأثر ويلزم منه جواز كون الجسم في آن واحد في حيزين وإنما قيد بالذات لأنه لا يمتنع حركتان إلى جهتين إذا كانت إحديهما بالذات والأخرى بالعرض كراكب السفينة يتحرك إلى خلاف الجهة التي تتحرك إليها السفينة وهذا معنى ما قال الجبائي أن الحركتين إلى جهتين متضادتان فكذا الاعتمادات الموجبان لهما وحينئذ لا يرد ما قال الآمدي أن هذا تمثيل بلا جامع كيف والحركة أثر الاعتماد وتضاد الآثار لا يوجب اختلاف المؤثرات فضلا عن تضاده كالطبيعة توجب الحركة بشرط الخروج من الحيز الطبيعي والسكون بشرط الحصول فيه على أن الفرق قائم فإن اجتماع الحركتين إلى جهتين إنما امتنع لاستلزامه حصول الجسم في حالة واحدة في حيزين ولا كذلك الاعتمادان والجواب أنه إن أريد بالمبدأ القريب تمام العلة فلانم أن الاعتماد كذلك بل لا بد من انتفاء المانع وإن أريد الأعم فلانم أنه يوجب وجود الأثر على أنه لو تم هذا الدليل لزم تضاد الطبيعي وغير الطبيعي لجريانه فيه سلمنا لكنه معارض بأنهما لو كانا متضادين لما جاز اجتماعهما واللازم باطل لأن الحبل المتجاذب بقوتين متساويتين إلى جهتين متقابلتين يجد فيه كل من الجاذبين مدافعة إلى خلاف جهته وقد يقال لا بل هو كالساكن الذي يمتنع عن التحرك لا مدافعة فيه أصلا قال والمعتزلة يسمون الطبيعي من الاعتماد لازما كاعتماد الثقيل إلى السفل والخفيف إلى العلو وغير الطبيعي مجتلبا كاعتماد الثقيل إلى العلو والخفيف إلى السفل قسرا وكاعتمادهما إلى باقي الجهات ولهم اختلافات في باب الاعتماد منها ما قال الجبائي أن في الهواء اعتمادا صاعدا لازما لما يشاهد في الزق المنفوخ المقسور تحت الماء أنه إذا شق خرج الهواء صاعدا ويشق الماء بل لو زال القاسر صعد الهواء بالزق وما تعلق به من الثقيل لا يقال يجوز أن لا يكون ذلك لصعوده اللازم بل لضغط الماء إياه وإخراجه من حيزه بثقل وطأته لأنا نقول لو لم يكن في طبعه الصعود والطفو على الماء لما زاده ثقل وطأة الماء إلا استقرارا وثباتا كسائر الأثقال سيما إذا بقي الزق مسدودا وقال أبو هاشم ليس للهواء اعتماد لازم ولو كان في طبعه صعودا لانفصل عن أجزاء الخشبة التي في الماء وصعد دون الخشبة إذ لا سبب عند الجبائي لصعودها وطفوها سوى تخلخل أجزائها وتثبيت الهواء بها لا يقال يجوز أن يفيده التركيب حالة موجبة للتلازم وعدم الانفصال سيما وهو هواء لم يبق على كيفيته المقتضية للانفصال لانكسار سورتها بالامتزاج لأنا نقول
____________________
(1/207)
الكلام في الأجزاء الهوائية المجاورة للأجزاء الخشبية لا التي صارت جزء الممتزج كما في سائر المركبات على ما يراه الفلاسفة فالأقرب أن يقال أن احتباسها فيما بين الأجزاء الخشبية منعها الانفصال وأوجب الاستتباع ومنها ما قال الجبائي أن الاعتماد غير باق لازما كان أو مجتلبا وقال أبو هاشم بل اللازم باق بحكم المشاهدة كما في الألوان والطعوم تمسك الجبائي بأن الإنسان إذا تحامل على حجر هابط واعتماده المجتلب غير باق فكذا اللازم لاشتراكهما في أخص أوصاف النفس أعني كونه اعتمادا هابطا وبأن مالا يبقى من الأعراض كالأصوات وغيرها لا فرق فيها بين المقدور وغير المقدور فكذا في الاعتمادات التي مجتلبها مقدور ولازمها غير مقدور ورد
الأول بمنع كون أخص الأوصاف الاعتماد الهابط بل الاعتماد اللازم
والثاني بأنه تمثيل بلا جامع ومنها ما قال الجبائي أن الاعتماد لا يولد حركة ولا سكونا وإنما يولدهما الحركة فإن من فتح بابا أو رمى حجرا فما لم تتحرك يده لم يتحرك المفتاح ولا الحجر ثم حركة المفتاح أو الحجر يولد سكونه في المقصد وقال أبو هاشم بل المولد لهما الاعتماد لأنه إذا نصب عمود قائم وأدعم بدعامة فاعتمد عليه إنسان إلى جهة الدعامة ثم أزيلت الدعامة فإن العمود يتحرك إلى جهتها ويسقط وإن لم يتحرك المعتمد وكلاهما ضعيف إذ لا دلالة على الانحصار فيجوز أن يكون المولد هو الحركة تارة والاعتماد أخرى وكذا ما قيل أن حركة الرامي متأخرة عن حركة الحجر لأنه مالم يندفع عن حيزه امتنع انتقال يد الرامي إليه لاستحالة تداخل الجسمين في حيز لأنه إن أريد التأخر بالزمان فاستحالة التداخل لا يوجبه لجواز أن يكون اندفاع هذا وانتقال ذاك في زمان واحد كما في أجزاء الحلقة التي تدور على نفسها بل الأمر كذلك والألزم الانفصال وإن أريد بالذات فالأمر بالعكس إذ مالم تتحرك اليد لم يتحرك الحجر ولهذا يصح أن يقال تحركت اليد فتحرك الحجر دون العكس فالأقرب أن المولد للحركة والسكون قد يكون هو الحركة وقد يكون الاعتماد فإنه يولد أشياء مختلفة من الحركات وغيرها بعضها لذاته من غير شرط كتوليده الحركة على ما سبق من أنه السبب القريب للحركة وبعضها لذاته بشرط كتوليده الأوضاع المختلفة للجسم بشرط حركاته وكتوليده عود الجسم إلى حيزه الطبيعي بشرط خروجه عنه وكتوليده الأصوات بشرط المصاكة وبعضها لا لذاته كتوليده المجاورة المولدة للتأليف وكتوليده تفرق الاتصال المولد للألم ( قال والفلاسفة يسمونه ) أي الاعتماد ميلا ويقسمونه إلى الطبيعي والقسري والنفساني لأن مبدأه وما ينبعث هو عنه إن كان أمرا خارجا عن محله فقسري كميل السهم المرمي إلى فوق وإلا فإن كان مع قصد وشعور فنفساني كاعتماد الإنسان على غيره وإلا فطبيعي سواء اقتضته القوة على وتيرة واحدة أبدا كميل الحجر المسكن في الجو أو اقتضته على وتائر مختلفة كميل النبات إلى التبرز والتربد ومنهم من سمى المقرون بالقصد والشعور إراديا وجعل النفساني أعم منه ومن أحد
____________________
(1/208)
قسمي الطبيعي أعني مالا يكون على وتيرة واحدة لاختصاصه بذوات الأنفس فربما يختلف على حسب اقتضاء النفس فبهذا الاعتبار يسمى ميل النبات نفسانيا ومنهم من جعله خارجا عن الأقسام لكونه مركبا على ما سيأتي في بحث الحركة مع زيادة كلام في هذا الباب ثم أنهم قد ذكروا أحكاما تدل على ترددهم في أن الميل نفس المدافعة المحسوسة أو مبدأها القريب الذي يوجد عند كون الحجر صاعدا في الهواء أو ساكنا على الأرض فمنها أن الميل الطبيعي لا يوجد في الجسم عند كونه في حيزه الطبيعي وإلا فإما أن يميل إليه فيلزم طلب حصول الحاصل أو عنه فيلزم أن يكون المطلوب بالطبع متروكا بالطبع ولا يتأتى هذا في مبدأ الميل إذ ربما يتخلف الأثر عنه لفقد شرط أو وجود مانع ومنها أن الميل الطبيعي لا يجامع الميل القسري إلى جهتين لأن امتناع المدافعة إلى جهة مع المدافعة عنها ضروري فالحجر المرمي إلى فوق لا يكون فيه مدافعة هابطة بالفعل بل بالقوة بمعنى أن من شأنه أن يوجد فيه ذلك عند زوال غلبة القوة القسرية وأما إلى جهة واحدة فقد يجتمعان كما في الحجر المدفوع إلى أسفل فإن فيه مدافعة هابطة يقتضيها الحجر إذا خلي وطبعه وأخرى أحدثها فيه القاسر على حسب قوته وقصده ولهذا يكون حركته حينئذ أسرع مما إذا سقط بنفسه فهبط وتتفاوت تلك السرعة بتفاوت قوة القاسر ومنها ما ذكروا في بيان سبب أن الحجر الذي يتحرك صاعدا بالقسر ثم يرجع هابطا بالطبع أن حركته القسرية تشتد ابتداء وتضعف عند القرب من النهاية والطبيعية بالعكس لأن ميله القسري يزداد ضعفا بمصاكات تتصل عليه من مقاومة الهواء المخروق فيزداد الميل الطبيعي أعني مبدأ المدافعة قوة إلى أن يتعادلا ثم يأخذ القسري في الانتقاص والطبيعي في الغلبة فيأخذ حركته في الاشتداد ومنها استدلالهم على وجود الميل الطبيعي بأن الحجرين المرميين بقوة واحدة إذا اختلفا في الصغر والكبر اختلفت حركتاهما في السرعة والبطء وليس ذاك إلا لكون المقاوم الذي هو الميل الطبيعي أعني مبدأ المدافعة في الكبير أكثر منه في الصغير لأن التقدير عدم التفاوت في الفاعل والقابل إلا بذلك وأجاب الإمام بأن الطبيعة قوة سارية في الجسم منقسمة بانقسامه فيكون في الكبير أكثر وبزيادة المقاومة أجدر والفلاسفة يزعمون أنها أمر ثابت ليس مما يشتد ويضعف أو ما يقل ويكثر في الجسم الواحد حتى أن طبيعة كل الماء وبعضه واحد ولا يتبين الحق من ذلك إلا بمعرفة حقيقة ما هو المراد بالطبيعة ههنا وهم لم يزيدوا على أن الطبيعة قد يقال لما يصدر عنه الحركة والسكون أو لا وبالذات دون شعور وإرادة وقد يقال لما يصدر عنه أمر لا يتخلف عنه ولا يفتقر الصدور إلى علة خارجة عنه كنزول الحجر إلى السفل وقد يخص بما يصدر عنه الحركات على نهج واحد دون شعور وقد تسمى كل قوة جسمانية طبيعة وشيء من ذلك لا يفيد معرفة حقيقية وأما إطلاقها على المزاج أو على الكيفية الغالبة من
____________________
(1/209)
الكيفيات المتضادة أو على الحرارة الغريزية أو على النفس النباتية أو نحو ذلك على ما يذكره الأطباء فمختص بالمركبات ( قال النوع الثاني المبصرات ) ذهبت الفلاسفة إلى أن المبصر أولا وبالذات هو الضوء واللون وإن كان الثاني مشروطا بالأول وقد يبصر بتوسطهما مالا يعد في الكيفيات المحسوسة من الكيفيات المختصة بالكميات من المقادير والأوضاع وغير ذلك كالاستقامة والانحناء والتحدب والتقعر وسائر الأشكال وكالطول والقصر والصغر والكبر والقرب والبعد والتفرق والاتصال والحركة والسكون والضحك والبكاء والحسن والقبح وغير ذلك وأما ما يتوهم من أبصار مثل الرطوبة واليبوسة والملاسة والخشونة فمبني على أنه يبصر ملزوماتها كالسيلان والتماسك الراجعين إلى الحركة والسكون وكاستواء الأجزاء في الوضع واختلافها فيه ( قال المبحث الأول ) حقايق الألوان بل جميع المحسوسات ظاهرة غنية عن البيان ولا خفاء في تضاد السواد والبياض لما بينهما من غاية الخلاف لكونهما طرفي الألوان وأما ما بينهما من الحمرة والصفرة وغير ذلك فعند المحققين أنواع متباينة يختص كل منها بآثار مختلفة وليست بمتضادة إن اشترط بين المتضادين غاية الخلاف وإلا فمتضادة قال والتحقيق الظاهر من كلام القوم أن أنواع اللون هي السواد والبياض والحمرة والصفرة وغير ذلك وأنواع الكيفيات الملموسة هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك إلا أن التحقيق هو أن أنواع اللون هي البياضات المخصوصة التي لا تتفاوت بأفرادها كبياض الثلج مثلا وكذا في السواد وغيره بل في كل ما يقال بالتشكيك حتى أن النوع من الملموسات ليس مطلق الحرارة بل الحرارة المخصوصة التي تكون في أفرادها على السوية كحرارة النار الصرفة مثلا والنوع من المبصرات ليس مطلق الضوء بل الضوء الخاص الذي لا يتفاوت فيه أفراده كضوء الشمس مثلا وإنما يقع الاشتباه من جهة أن الأنواع قد يكون لجملة جملة منها عارض خاص واسم خاص كالبياضات المشتركة في تفريق البصر وفي اسم البياض والسوادات المشتركة في قبض البصر وفي اسم السواد وكالحرارات والبرودات ونحو ذلك فيتوهم أن تلك الجملة نوع واحد بخلاف الأضواء فإنه لا ينفرد جملة جملة منها بعارض واسم فلا يتوهم ذلك فيه بل ربما يتوهم كون المجموع نوعا واحدا واللون والضوء قد وقعا في مرتبة واحدة من البصرات إلا أن اللون جنس الألوان بخلاف الضوء لما فيه من التفاوت والضوء يوهم نوعيته لتقارب أنواعه بخلاف اللون وإنما توهم ذلك في جملة جملة من أنواعه كالبياض مثلا لتقارب أنواع البياض وكالسواد لتقارب أنواع السواد وعلى هذا القياس فصار الضوء بمنزلة البياض مثلا في أنه ليس نوعا لما تحته ولا جنسا بل عارضا ومبنى ذلك على ما تقرر
____________________
(1/210)
عندهم من أن القول بالتشكيك لا يكون إلا عارضا لامتناع التفاوت في الماهية وذاتياتها لأن الأمر الذي به يتحقق التفاوت حيث يوجد في الأشد دون الأضعف إن لم يكن داخلا في الماهية لم يتحقق التفاوت فيها بل كانت في الكل على السواء وإن كان داخلا فيها لم يتحقق اشتراك الأضعف فيها لانتفاء بعض الأجزاء مثلا الخصوصية التي توجد في نور الشمس دون القمر إن كانت من ذاتيات الضوء لم يكن ما في القمر ضوأ وإلا لم يكن تفاوت النورين في نفس الماهية فإن قيل لو صح هذا الدليل لزم أن لا يكون العارض أيضا مقولا بالتشكيك قابلا للشدة والضعف لأن القدر الزائد إما داخل في مفهوم العارض وماهيته فلا اشتراك للأضعف فيه وإما غير داخل فلا تفاوت لأن ما هو مفهوم العارض فيهما على السواء مثلا الخصوصية التي توجد في بياض الثلج دون العاج إن كانت مأخوذة في مفهوم البياض لم يكن ما في العاج من معروضاته وإلا لكان مفهوم البياض فيهما على السواء أجيب بأنه داخل في ماهية المعروض الأشد وإن لم يدخل في ماهية العارض ولا في ماهية المعروض الأضعف ولا يلزم من عدم دخوله في مفهوم العارض تساويه في جميع المعروضات ولقائل أن يقول فيتوجه مثله على الدليل المذكور على امتناع تفاوت الماهية وذلك أنه كما جاز التفاوت في التعارض باعتبار أمر خارج عنه داخل في ماهية بعض المعروضات فلم لا يجوز في الماهية باعتبار أمر خارج عنها داخل في هوية بعض الأفراد مثلا يكون النور تمام ماهية الأنوار أو جنسا لها وتكون الخصوصية التي في نور الشمس أمرا خارجا عن حقيقة النور داخلا في هوية نور الشمس وعلى هذا القياس وتوجيه المنع أنا لانم أن القدر الزائد إذا كان خارجا عن الماهية كانت الماهية في الكل على السواء وإنما يلزم لو لم يكن ذلك زيادة من جنس الماهية وإذا تحققت فلا عبرة بكونه داخلا في ماهية المعروض حتى لو فرضنا الخصوصية التي في نور الشمس من عوارضه كان التفاوت بحاله وإنما العبرة بكونه من جنس العارض وزيادة فيه فإن الخصوصية التي في نور الشمس وبياض الثلج وحرارة النار ليست إلا زيادة نور وبياض وحرارة ولا يمتنع مثل ذلك في الماهية وذاتياتها والحاصل أن عدم دخول القدر الزائد الذي به التفاوت في المعنى المشترك الذي فيه التفاوت إن كان مانعا من التفاوت لزم عدم تفاوت شيء من المفهومات في أفراده سواء كان عارضا لها أو ذاتيا وهو معنى النقض وإن لم يكن مانعا لم يتم الدليل على امتناع تفاوت الماهية وذاتياتها ومن ههنا ذهب بعضهم إلى أن نفي التشكيك مطلقا تمسكا بالدليل المذكور وجوز بعضهم التشكيك والتفاوت في الماهية وذاتياتها نظرا إلى عدم دليل الامتناع بل ادعوا أن تفاوت الخط الأطول والأقصر تفاوت في الماهية الخطية وأنها في الأطول أكمل وفي الأقصر أنقص لأن الزيادة التي في الأطول من جنس الخط وإن لم يكن داخلا في ماهيته وإن ادعى التفرقة بين ما إذا كان ذلك القدر الخارج عن المعنى المشترك داخلا في ماهية الأشد وبين ما إذا كان داخلا في مجرد
____________________
(1/211)
هويته لم يكن بد من البيان مع أن الدليل المذكور لا يتم حينئذ في أجزاء الماهية لجواز أن يكون ما به يتفاوت الجنس خارجا عنه داخلا في ماهية بعض أنواعه قال المبحث الثاني زعم بعضهم أنه لا حقيقة للون أصلا والبياض إنما يتخيل من مخالطة الهواء للأجسام الشفافة المتصغرة جدا كما في الثلج فإنه لا سبب هناك سوى مخالطة الهواء ونفوذ الضوء في أجزاء صغار جمدية شفافة وكذا في زبد الماء والمسحوق من البلور والزجاج الصافي والسواد يتخيل من عدم غور الضوء في الجسم لكثافته واندماج أجزائه وباقي الألوان تتخيل بحسب اختلاف الشفيف وتفاوت مخالطة الهواء وقد يستند السواد إلى الماء نظرا إلى أنه يخرج الهواء فلا يكمل نفوذ الضوء إلى السطوح ولهذا يميل الثوب المبلول إلى السواد والمحققون على أنها كيفيات متحققة لا متخيلة وظهورها في الصور المذكورة بالأسباب المذكورة لا ينافي تحققها ولا حدوثها بأسباب أخر على ما قال ابن سينا أنه لا شك في أن اختلاط الهواء بالمنشف سبب لظهور اللون الأبيض ولكنا ندعي أن البياض قد يحدث من غير هذا الوجه كما في البيض المسلوق فإنه يصير أشد بياضا مع أن النار لم تحدث فيه تخلخلا وهوائية بل أخرجت الهوائية عنه ولهذا صار أثقل وكما في الدواء المسمى بلبن العذراء فإنه يكون من خل طبخ فيه المرداسنج حتى انحل فيه ثم يصفى حتى يبقى الخل في غاية الإشفاف ثم يطبخ المرداسنج في ماء طبخ فيه القلي ويبالغ في تصفيته ثم يخلط الماآن فينعقد فيه المنحل الشفاف من المرداسنج ويصير في غاية البياض ثم يجف وما ذاك بحدوث تفرق في شفاف ونفوذ هواء فيه فإنه كان متفرقا منحلا في الخل ولا لتقارب أجزاء متفرقة وانعكاس ضوء البعض إلى البعض لأن حدة ماء القلي بالتفريق أولى بل ذلك على سبيل الاستحالة وكما في الجص فإنه يبيض بالطبخ بالنار ولا يبيض بالسحق والتصويل مع أن تفرق الأجزاء ومداخلة الهواء فيه أظهر فظهر أن ابن سينا لم ينكر حصول البياض في الثلج وزبد الماء ومسحوق البلور والزجاج ونحو ذلك مما لا سبب فيه سوى مخالطة الهواء بالمشف بل ادعى حصوله بأسباب أخر بعدما كان لا يعلم حصوله إلا بهذا السبب على ما قال في موضع من الشفاء لا أعلم هل يحصل البياض بسبب آخر أم لا وكان صاحب المواقف فهم وحاشاه عن سوء الفهم من بعض عبارات الشفاء حيث يقول وفي بيان سبب البياض في الصور المذكورة أن اختلاط الهواء بالمشف على الوجه المخصوص سبب لظهور لون أبيض ولرؤية لون هو البياض أنه ينكر وجود البياض فيها بالحقيقة فنسبه إلى السفسطة ومما استدل به في الشفاء على حصول البياض من غير اختلاط الهواء بالمشف أمران أحدهما اختلاف طرف الاتجاه من البياض إلى السواد حيث يكون من البياض تارة إلى الغبرة ثم العودية ثم السواد وتارة إلى الحمرة ثم القتمة ثم السواد وتارة إلى الخضرة ثم النبلية ثم السواد فإنه يدل على اختلاف ما يتركب عنه الألوان إذ لو لم يكن إلا السواد والبياض ولم يكن
____________________
(1/212)
البياض إلا بمخالطة الهواء للأجزاء الشفافة لم يكن في تركيب السواد والبياض إلا الأخذ في طريق واحد وإن وقع فيه اختلاف فبالشدة والضعف وثانيهما انعكاس الحمرة والخضرة ونحو ذلك من الألوان فإنه لو كان اختلاف الألوان لاختلاط الشفاف بغيره لوجب أن لا ينعكس من الأحمر والأخضر إلا البياض لأن السواد لا ينعكس بحكم التجربة ودلالة هذين الوجهين على أن سبب اختلاف الألوان لا يجب أن يكون هو التركب من السواد والبياض أظهر من دلالته على أن سبب البياض لا يجب أن يكون هو مخالطة الهواء للأجزاء الشفافة مع أن في الملازمتين نظرا لجواز أن يقع تركب السواد والبياض على أنحاء مختلفة وأن ينعكس السواد عند الاختلاط والامتزاج وإن لم ينعكس عند الانفراد وقد اقتصر بعضهم على نفي البياض وأثبت السواد تمسكا بأن البياض ينسلخ ويقبل محله الألوان بخلاف السواد ورد بعد ثبوت الأمرين بأنه يجوز أن يكون الحقيقي مفارقا والتخيلي لازما لزوال سبب الأول ولزوم سبب التخيلي لا يقال البياض يقبل محله جميع الألوان وكل ما يقبل الشيء فهو عار عنه ضرورة تنافي القبول والفعل لأنا نجيب بمنع الصغرى فإنه إنما يقبل ما سوى البياض الذي فيه فلا يلزم إلا عراؤه عنها وإن أريد بالقبول معنى الإمكان بحيث يجامع الفعل منعنا الكبرى وهو ظاهر وقد يقال لو كان القابل للشيء واجب العراء عنه لكان ممتنع الاتصاف به وهو باطل وليس بشيء لأن القضية مشروطة فلا يلزم إلا امتناع الاتصاف ما دام قابلا وهو حق قال وقيل القائلون يكون السواد والبياض كيفيتين حيقيتين منهم من زعم أنهما أصل الألوان والبواقي بالتركيب لما نشاهد من أن البياض والسواد وإن اختلطا وحدهما حصلت الغبرة وإن خالط السواد ضوأ كما في الغمامة التي تشرق عليها الشمس والدخان الذي يخالطه النار فإن كان السواد غالبا حصلت الحمرة وإن اشتدت الغلبة حصلت القتمة وإن غلب الضوء حصلت الصفرة ثم إن الصفرة إذا خالطها سواد مشرق حصلت الخضرة ثم إن الخضرة إذا انضم إليها سواد آخر حصلت الكراثية وإذا انضم إليها بياض حصلت الزنجارية ثم الكراثية إن خالطها سواد وقليل حمرة حصلت النبلية ثم النبلية إن خالطها حمرة حصلت الأرجوانية وعلى هذا القياس ومنهم من زعم أن الأصل هو السواد والبياض والحمرة والصفرة والخضرة والبواقي بالتركيب بحكم المشاهدة ولا يخفى أنهما إنما يفيدان التركيب المخصوص بقيد اللون المخصوص وأما أن ذلك اللون لا يحصل إلا من هذا التركيب ولا يكون حقيقة مفردة فلا قال المبحث الثالث الضوء غني عن التعريف كسائر المحسوسات وتعريفه بأنه كيفية هي كمال أول للشفاف من حيث هو شفاف أو بأنه كيفية لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر تعريف بالأخفى وكان المراد التنبيه على بعض الخواص والضوء إن كان من ذات المحل بأن لا يكون فائضا عليه من مقابلة جسم آخر مضى فذاتي كما للشمس ويسمى
____________________
(1/213)
ضياء وإلا فعرضى كما للقمر ويسمى نورا أخذا من قوله تعالى { هو الذي جعل الشمس ضياء } أي ذات ضياء والقمر نورا أي ذا نور والعرضى إن كان حصوله من مقابلة المضي لذاته كضوء جرم القمر وضوء وجه الأرض المقابل للشمس فهو الضوء الأول وإن كان من مقابلة المضيء لغيره كضوء وجه الأرض قبل طلوع الشمس من مقابلة الهواء المقابل للشمس وكضوء داخل البيت الذي في الدار من مقابلة هواء الدار المضيء من مقابلة الهواء المقابل للشمس أو لهواء آخر يقابلها فهو الضوء الثاني والثالث وهلم جرا على اختلاف الوسائط بينه وبين المضيء بالذات إلى أن ينتهي الضوء بالكلية وينعدم وهو الظلمة أعني عدم الضوء عما من شأنه فهو عدم ملكة للضوء لا كيفية وجودية على ما ذهب إليه البعض وإلا لكان مانعا للجالس في الغار من إبصار من هو في هواء مضيء خارج الغار كما أنه مانع له من إبصار من هو في الغار وذلك للقطع بعدم الفرق في الحائل المانع من الإبصار بين أن يكون محيطا بالرأي وبالمرئي أو متوسطا بينهما وربما يمنع ذلك بأنه ليس بمانع بل أحاطة الضوء بالمرئي شرط للرؤية وهو منتف في الغار لكنه لا يتأتى على قولهم الظلمة كيفية مانعة من الإبصار تمسك القائلون بكونها وجودية بقوله تعالى { وجعل الظلمات والنور } فإن المجعول لا يكون إلا موجودا وأجيب بالمنع فإن الجاعل كما يجعل الوجود بجعل العدم الخاص كالعمى فإنما المنافي للمجعولية هو العدم الصرف ( قال ولهم تردد ) لا خلاف بين المحققين من الحكماء في إضاءة الهواء وإنما الخلاف في أن محل الضوء هو نفس الهواء الصرف أو ما يخالطه من الأجزاء البخارية أو الدخانية أو نحو ذلك احتج الأولون بما يشاهد من الهواء المضيء في أفق المشرق وقت الصباح وبأنه لو لم يكن مضيئا لوجب أن يرى بالنهار الكواكب التي في الجهة المخالفة للشمس إذ لا مانع سوى انفعال الحس عن ضوء أقوى وضعفهما ظاهر لأن الكلام في الهواء الصرف والأقرب ما ذكره الإمام وهو أن أضاءة الهواء لو كان بسبب مخالطة الأجزاء لكان الهواء كلما كان أصفى كان أقل ضوءا وكلما كان أكدر وأغلظ فأكثر والأمر بالعكس وفيه أيضا ضعف لجواز أن يكون الموجب مخالطة الأجزاء إلى حد مخصوص إذا تجاوزه أخذ الضوء في النقصان وحاصله أنه يجوز أن يضره الإفراط كما يضره التفريط تمسك الآخرون بأنه لو تكيف بالضوء لوجب أن يحس به مضيئا كالجدار واللازم باطل لأن الهواء غير مرئي ورد يمنع الملازمة إذ من شرائط الرؤية اللون ولا لون للهواء الصرف قال وأما الظل فهو ما يحصل أي الضوء الحاصل من الهواء المضيء بالمضيء بالذات كالشمس والنار أو بالغير كالقمر وقد يفسر بالضوء المستفاد والمضيء بالغير ولا خفاء في صدقه على الضوء الحاصل من مقابلة جرم القمر مع أنه ليس بظل وفاقا وما ذكر في المواقف من أن مراتب الظل تختلف قوة وضعفا بحسب اختلاف الأسباب والمعدات كما يشاهد في اختلاف ضوء البيت بحسب
____________________
(1/214)
كبر الكوة وصغرها حتى أنه ينقسم إلى مالا نهاية له انقسام الكوة فمبني على ما يراه الحكماء من عدم تناهي انقسامات الأجسام والمقادير وما يتبعها وإن كانت محصورة بين حاصرين حتى أن الذراع الواحد يقبل الإنقسام إلى ما لا نهاية له ولو بالفرض والوهم وما تقرر من أن المحصور بين حاصرين لا يكون إلا متناهيا فمعناه بحسب الكمية الاتصالية أو الانفصالية لا بحسب قبول الانقسام قال وإذا كان قد يشاهد للضوء ترقرق وتلألؤ على الجسم حتى كأنه شيء يفيض منه ويضطرب مجيئا وذهابا بحيث يكاد يستره فإن كان ذاتيا كما للشمس سمي شعاعا وإن كان عرضيا كما للمرآة سمي بريقا قال المبحث الرابع زعم بعض الحكماء أن الضوء أجسام صغار تنفصل من المضيء وتتصل بالمستضيء تمسكا بأنه متحرك بالذات وكل متحرك بالذات جسم إما الكبرى فظاهرة وإنما قيدنا بالذات لأن الأعراض تتحرك بتبعية المحل وأما الصغرى فلان الضوء ينحدرمن الشمس إلى الأرض ويتبع المضيء في الانتقال من مكان إلى مكان كما نشاهد في السراج المنقول من موضع إلى موضع وينعكس مما يلقاه إلى غيره وكل ذلك حركة والجواب المنع بل كل ذلك حدوث للضوء في المقابل للمضيء والحركة وهم ويدل على بطلان هذا الرأي وجوه
الأول أنه لو كان جسما متحركا لامتنعت حركته إلى جهات مختلفة ضرورة إنها ليست بالقسر والإرادة بل بالطبع والحركة بالطبع إنما تكون إلى العلو أو السفل
الثاني إنه لو كان جسما لامتنعت حركته في لحظة من فلك الشمس إلى الأرض مع خرق الأفلاك التي تحته
الثالث إنه لو كان جسما ولا خفاء في أنه محسوس بالبصر لكان ساترا للجسم الذي يحيط به الضوء فكان الأكثر ضوءا أشد استنارا والواقع خلافه ولو سلم عدم لزوم الاستنار فلا خفاء في أنه مرئي حائل في الجملة فيلزم أن يكون الأكثر ضوءا أقل ظهورا وأصعب رؤية لا أن يكون اعون على إدراك الباصرة السليمة نعم ربما يستعان بالحائل على إبصار الخطوط الدقيقة عند ضعف في الباصرة بحيث يحتاج إلى ما يجمع القوة وقد يجاب بأن ذلك إنما هو شأن الأجسام الكثيفة لا الشفافة وإما هذا النوع من الأجسام فإحاطته بالمرئي شرط للرؤية قال المبحث الخامس الحق أن الضوء كيفية مغايرة للون وليس عبارة عن ظهور اللون على ما يراه بعض الحكماء وأنه شرط لرؤية اللون لا لوجوده على ما يراه ابن سينا ولا تمسك لهما يعتد به فيما ادعيا كيف وأنه قريب من إنكار الضروريات وما ذكره الإمام الرازي من أن قبول الجسم للضوء مشروط بوجود اللون فلو كان وجود اللون مشروطا بوجود
____________________
(1/215)
الضوء لزم الدور ضعيف لأنه إن أراد بالمشروحة توقف السبق فممنوع أو المعية فغير محال على أنه قد صرح بوجود الضوء بدون اللون كما في البلور المرئي بالليل قال النوع الثالث من الكيفيات المحسوسة المسموعات وهي الأصوات والحروف والصوت عندنا يحدث بمحض خلق الله تعالى من غير تأثير لتموج الهواء والقرع والقلع كسائر الحوادث وكثيرا ما تورد الآراء الباطلة للفلاسفة من غير تعرض لبيان البطلان إلا فيما يحتاج إلى زيادة بيان والصوت عندهم كيفية تحدث في الهواء بسبب تموجه المعلول للقرع الذي هو إمساس عنيف والقلع الذي هو تفريق عنيف بشرط مقاومة المقروع للقارع والمقلوع للقالع كما في قرع الماء وقلع الكرباس بخلاف القطن لعدم المقاومة والمراد بالتموج حالة مشبهة بتموج الماء تحدث بصدم بعد صدم مع سكون بعد سكون وليس الصوت نفس التموج أو نفس القرع والقلع على ما توهمه بعضهم بناء على اشتباه الشيء بسببه القريب أو البعيد لأن التموج والقرع والقلع ليست من المسموعات قطعا بل ربما يدرك الأول باللمس والآخران بالبصر وقد يتوهم أنه لا وجود للصوت في الخارج وإنما يحدث في الحس عند وصول الهواء المتموج إلى الصماخ واستدل على بطلان ذلك بأنه لو لم يوجد إلا في الحس لما أدرك عند سماعه جهته وحده من القرب والبعد لأن التقدير إنه لا وجود له في مكان وجهة خارج الحس واللازم باطل قطعا لأنا إذا سمعنا الصوت نعرف أنه وصل إلينا من جهة اليمين أو اليسار ومن مكان قريب أو بعيد لا يقال يجوز أن يكون إدراك الجهة لأجل أن الهواء المتموج يجيء منها ويميز القريب والبعيد لأجل أن أثر القارع القريب أقوى من البعيد وإن لم يكن الصوت موجودا في الجهة والمسافة لأنا نقول لو صح الأول لما أدركت الجهة التي على خلاف الأذن السامعة وليس كذلك لأن السامع قد يسد أذنه اليمنى ويجيء الصوت من يمينه فيسمعه بأذنه اليسرى ويعرف أنه جاء من يمينه مع القطع بأن الهواء المتموج لا يصل إلى اليسرى الا بعد الانعطاف عن اليمين ولو صح الثاني لزم أن يشتبه القوة والضعف بالقرب والبعد فلم يميز بين البعيد القوي والقريب الضعيف وظن في الصورتين المتساويتين في القرب والبعد المختلفتين بالقوة والضعف أنهما مختلفان في القرب والبعد وليس كذلك ولهم تردد في مقام آخر وهو أنه إذا وصل الهواء المتموج إلى الصماخ فالمسموع هو الصوت القائم بالهواء الواصل فقط أو بالهواء الخارج أيضا والحق هو الأخير بدليل إدراك جهة الصوت وحده من القرب والبعد فإنه لو لم يقع الإحساس به إلا من حيث أنه في الهواء الواصل إلى الصماخ دون الخارج الذي هو مبدأ حدوث الصوت أو وسطه لم يكن عند الحس فرق بين هذا وبين ما إذا لم يوجد خارج الصماخ إصلا فلم يعرف جهته ولا قربه أو بعده كما أن اللمس لما لم يدرك الملموس إلا من حيث انتهى إليه لا من حيث أنه في أول المسافة لم يميز بين وروده من اليمين أو اليسار ومن
____________________
(1/216)
القريب أو البعيد فظهر أن في معرفة جهة الصوت وحده من القرب والبعد دلالة على مطلوبين من جهة أنها تدل على أن القائم بالهواء الخارج من الصماخ أيضا مسموع وذلك يدل على أنه هناك موجود وهذا ما قال الإمام أن التمييز بين الجهات والقريب والبعيد من الأصوات لما كان حاصلا علمنا أنا ندرك الأصوات الخارجية حيث هي ولا يمكننا أن ندركها حيث هي إلا وهي موجودة خارج الصماخ وما أورد من الأشكال وهو أن المدرك بالسمع لما لم يكن إلا الصوت دون الجهة لم يكن كون الصوت حاصلا في تلك الجهة مدركا له بل مدركة الصوت الذي في تلك الجهة لا من حيث هو في تلك الجهة بل من حيث أنه صوت فقط وهذا لا يختلف باختلاف الجهات فكيف يوجب إدراك الجهة ليس بشيء لأنهم لا يجعلون كون الصوت في تلك الجهة مدركا بالسمع إلا بمعنى إنا نعرف بسماع الصوت في تلك الجهة أنه هناك كما نعرف بذوق الحلاوة أو شم الرائحة من هذا الجسم أنها منه وإن لم يكن الجسم من المذوقات أو المشمومات وأما السبب في ذلك فحاصل ما ذكروا فيه أنا بعدما أدركنا الصوت عند الصماخ نتبعه بتأملنا فيتأدى إدراكنا من الذي يصل إلينا إلى ما قبله فما قبله من جهته ومبدأ وروده فإن كان بقي منه شيء متأديا أدركناه إلى حيث ينقطع ويفنى وح بدرك لوارد وموروده وما بقي منه موجود أو جهته وبعد مورده وقربه وما بقي من قوة أمواجه وضعفها ولذلك يدرك البعيد ضعيفا لأنه يضعف تموجه حتى لو لم يبق في المسافة أثر ينتهي بنا إلى المبدأ لم يعلم من قدر البعد إلا بقدر ما بقي قال ويدل على كون إدراكه بوصول الهواء
رأى الفلاسفة أنه إذا وجد سبب الصوت في موضع تكيف هواء ذلك الموضع بذلك الصوت ثم المجاور فالمجاور في جميع الجهات إلى حد ما بحسب شدة الصوت وضعفه ولا يسمعه إلا المسامع التي تقع في تلك المسافة ويصل إليها ذلك الهواء وتمسكوا بوجوه
الأول أن الصوت يميل مع هبوب الريح ولا يسمعه من كان الهبوب من جهته لعدم وصول الهواء إلى صماخه فلو لم يكن الهواء حاملا له ولم يتوقف السماع على وصول ذلك الهواء لما كان كذلك .
الثاني أن من وضع طرف أنبوبة في فمه وطرفها الآخر في صماخ إنسان وتكلم منها بصوت عال سمعه ذلك الإنسان دون غيره من الحاضرين وما ذلك إلا بمنع الأنبوبة وصول الهواء الحامل للصوت إلى أصمختهم
الثالث إنا نرى سبب الصوت كضرب الفأس على الخشبة مثلا ويتأخر سماع الصوت عنه زمانا يتفاوت بحسب تفاوت المسافة قربا وبعدا فلولا أن السماع يتوقف على وصول الهواء لما كان كذلك وأجيب عن الكل بأن غايتها الدوران وهو لا يفيد القطع بالسببية فيجوز أن يكون ميل الصوت مع الرياح واختصاص صاحب الأنبوبة بالسماع وتأخر السماع عن ضرب الفأس بسبب آخر فلا يدل توقف السماع على وصول هواء حامل للصوت والحق أن هذه إمارات ربما تفيد اليقين الحدسي للناظر وإن لم تقم
____________________
(1/217)
حجة على المناظر واستدل على بطلان توقف السماع على وصول الهواء الحامل بوجوه
الأول أنه لو كان كذلك لما أدركنا جهة الصوت وحده من القرب والبعد لأن الواصل لا يكون إلا ما في الصماخ والجواب ما سبق من أن المدرك الموقوف إدراكه على وصول الهواء ليس هو القائم بالهواء الواصل فقط كما في اللمس بل البعيد أيضا كما في الإبصار .
الثاني أنا ندرك صوت المؤذن عند هبوب الرياح يميل عن جهتنا إلى خلافها والجواب أن ذلك إنما يكون عند إمكان الوصول في الجملة وإن لم يكن على وجهه ولذا لا يخلو عن تشويش السماع
الثالث إنا نسمع صوت من يحول بيننا وبينه جدار صلب مع القطع بامتناع نفوذالهواء في المنافذ من غير أن يزول عنه ذلك الشكل الذي هو أضعف وأسرع زوالا من الرقم على الماء وقد صار مثلا في عدم البقاء وأجيب بأنه إذا لم يكن للحائل منافذ أصلا ولا يكون هناك طريق آخر للهواء فلا نسلم السماع إلا يرى أنه كلما كانت المنافذ أقل كان السماع أضعف وإما بقاء الشكل فإن أريد به حقيقة التشكل الذي يعرض للهواء فيصير سببا لحدوث الكيفية المخصوصة فلا حاجة لنا إلى بقائه لأنه من المعدات وإن أريد به تلك الكيفية المسببة عنه المسماة بالصوت والحرف فلا استحالة بل لا استبعاد في بقائه مع النفوذ في المضايق والحق أن قيام تلك الكيفية المخصوصة الغير القارة لكل جزء من أجزاء الهواء بدليل أن كل من في تلك المسافة يسمعها وبقاء أجزاء الهواء مع فرط لطافتها على تلك الهيئة والكيفية مع هبوب الرياح ومع النفوذ في منافذ الأجسام الصلبة مستبعد جدا وأبعد منه حديث الصدى وهو أن الهواء إذا تموج وقاومه جسم أملس كجبل أو جدار بحيث يرد ذلك المتموج إلى خلف على هيئته كما في الكرة المرمية إلى الحائط المقاوم لها حدث من ذلك صوت هو الصدى وترددوا في أن حدوثه من تموج الهواء الأول الراجع على هيئته أو من تموج هواء آخر بيننا وبين المقاوم متكيف بكيفية الهواء الراجع وهذا هو الأشبه وكيف ما كان فبقاء الهواء على كيفيته التي لا استقرار لها مع مصادمة الجسم الصلب ثم رجوعه على هيئته وإحداثه كيفية فيما يجاوره وزواله بمجرد الوصول إلى الصماخ من المستبعدات التي تكاد تلحق بالمحالات قال المبحث الثاني قد تعرض للصوت كيفية بها يتميز عن صوت آخر يماثله في الحدة والثقل تميزا في المسموع والحرف هي تلك الكيفية العارضة في عبارة ابن سينا وذلك الصوت المعروض في عبارة جمع من المحققين ومجموع العارض والمعروض في عبارة البعض وكأنه أشبه بالحق وقيد المماثلة بالحدة والثقل أي الزبرية والنمية احترازا عنهما فإن كلا منهما يفيد تميز صوت عن صوت آخر تميزا في المسموع لكن في صوتين يكونان مختلفين بالحدة والثقل ضرورة وقيد التمييز بالمسموع احترازا عن مثل الطول والقصر والطيب وغيره فإن التميز بها لا يكون تميزا في المسموع لأنها ليست بمسموعة إلا أن في كونها من الكيفيات نظرا فالأولى أنه اختراز عن مثل
____________________
(1/218)
الغنة والنحوحة بقي النظر في دلالة قولنا تميزا في المسموع على أن يكون ما به التميز مسموعا وفي أن الحدة والثقل من المسموعات بخلاف الغنة والنحوحة والحق أن معنى التميز في المسموع ليس أن يكون ما به التميز مسموعا بل أن يحصل به التميز في نفس المسموع بأن يختلف باختلافه ويتحد باتحاده كالحرف بخلاف مثل الغنة والنحوحة وغيرها فإنها قد تختلف مع اتحاد المسموع وبالعكس وما وقع في الطوالع من أن الحروف كيفيات تعرض للأصوات فيتميز بعضها عن البعض في الثقل والخفة كلام لا يعقل له معنى وكأنه جعل قوله في الثقل متعلقا بمحذوف أي عن البعض المماثل له في الثقل وأراد بالخفة الحدة وترك قيد التميز في المسموع لشهرته وكفى بهذا اختلالا والحق أن تعريف الحرف بما ذكر تعريف بالأخفى وكان المقصود مزيد تفصيل للماهية الواضحة عند العقل وتنبيه على خصوصياتها قال وينقسم إلى صامت ومصوت الحركات الثلاث تعد عندهم في الحروف وتسمى المصوته المقصورة والألف والواو والياء إذا كانت ساكنة متولدة من حركات تجانسها أعني الألف من الفتحة والواو من الصمة والياء من الكسرة تسمى المصوتة الممدودة وهي المسماة في العربية بحروف المد لأنها كأنها مدات للحركات وما سوى المصوتة تسمى صامتة ويندرج فيها الواو والياء المتحركتان أو الساكنتان إذا لم يكن قبل الواو ضمة وقبل الياء كسرة وأما الألف فلا يكون إلا مصوتا وإطلاقها على الهمزة باشتراك الاسم وليس المراد بالحركة والسكون ههنا ما هو من خواص الأجسام بل الحركة عبارة عن كيفية حاصلة في الحروف الصامة من إمالة مخرجه إلى مخرج إحدى المدات فإلى الألف فتحة وإلى الواو ضمة وإلى الياء كسرة ولا خلاف في امتناع الابتداء بالصوت وإنما الخلاف في أن ذلك بسكونه حتى يمتنع الابتداء بالساكن الصامت أيضا أو لذاته لكونه عبارة عن مدة متولدة من أشباع حركة تجانسها فلا يتصور إلا حيث يكون قبلها صامت متحرك وهذا هو الحق لأن كل سليم الحس يجد من نفسه إمكان الابتداء بالساكن وإن كان مرفوضا في لغة العرب كالوقف على المتحرك والجمع بين الساكنين من الصوامت إلا في الوقف مثل زيد وعمرو وإذا كان الصامت الأول حرف لين والثاني مدغما نحو حويصة فإنه جائز كما إذا كان الأول مصوتا نحو دابة وعدم قدرة البعض على الابتداء بالساكن لا يدل على امتناعه كالتلفظ ببعض الحروف فإن ذلك لقصور في الآلة والاستدلال على الإمكان بأن المصوت أينما كان مشروط بالصامت فلو كان الصامت مشروطا به في بعض المواضع كالابتداء لزم الدور ليس بشيء لأن المصوت مشروط بأن يسبقه صامت والصامت في الابتداء مشروط بأن يلحقه مصوت مقصور فيكونان معا ولا استحالة فيه قوله وينقسم أي الحرف باعتبار آخر إلى آني وزماني لأنه إن أمكن تمديده كالفاء فزماني وإن لم يمكن كالطاء فآني وهو إنما يوجد في أول زمان إرسال النفس كما في طلع أو في آخر زمان حبسه كما في غلظ وما يقع
____________________
(1/219)
في وسط الكلمة مثل بطل يحتمل الأمرين وعروض الآني للصوت يكون بمعنى أنه طرف له كالنقطة للخط ومن الآني ما يشبه الزمان كالحاء والخاء ونحوهما مما لا يمكن تمديده لكن تجتمع عند التلفظ بواحد منها أفراد متماثلة ولا يشعر الحس بامتياز زمان بعضها عن بعض فيظن حرفا واحدا ( قال وإلى متماثل ) يريد أن الحروف التسعة والعشرين الواقعة في لغة العرب وما سواها مما يقع في بعض اللغات أنواع مختلفة بالماهية وقد يختلف أفراد كل منها بعوارض مشخصة كالياء الساكنة التي يتلفظ بها زيد الآن أو في وقت آخر أو يتلفظ بها عمرو أو غير مشخصة كالياء الساكنة أو المتحركة بالفتحة أو الضمة أو الكسرة فمع قطع النظر عن اللافظ تكون أفراد النوع الواحد أما متحددة في السكون والحركة كاليائين الساكنتين أو المتحركتين بالفتحة أو الضمة أو الكسرة وإما مختلفة كالياء الساكنة والمتحركة أو المفتوحة والمضمومة وهذا هو المعنى بالتماثل والاختلاف بحسب العارض وبهذا يندفع ما يقال أنه إن أريد بالتماثل الاتحاد بالحقيقة على ما هو المصطلح لم يكن المختلف بالعارض مقابلا للمتماثل وإن أريد الاتحاد في العارض أيضا كانت الياآن الساكنتان من قبيل المختلفة ضرورة أنه لا يتصور التعدد بدون اختلاف ولو بعارض ( قال والصامت مع المصوت ) قد اشتبه على بعض المتأخرين معنى القطع مع اشتهاره فيما بين القوم فأوردنا في ذلك ماصرح به الفارابي وابن سينا والإمام وغيرهم وهو أن الحرف الصامت مع المصوت المقصور يسمى مقطعا مقصورا مثل ل بالفتح أو الضمة أو الكسر ومع المصوت الممدود يسمى مقطعا ممدودا مثل لا ولو ولى وقد يقال المقطع الممدود لقطع مقصور مع صامت ساكن بعده مثل هل وقل وبع لمماثلته المقطع الممدود في الوزن فإن قيل لا حاجة إلى هذا التفصيل فإن المقطع الممدود ليس إلا مقطعا مقصورا مع ساكن بعده سواء كان مصوتا مثل لا أو صامتا مثل هل ولهذا يقال أن المقطع حرف مع حركة أو حرف متحرك مع ساكن بعده والأول المقصور والثاني الممدود قلنا المقطع الممدود بالاعتبار الثاني صامتان هما الهاء واللام في هل بينهما مصوت مقصور هو فتحة الهاء وبالاعتبار الأول مجرد صامت ومصوت ممدود ليس بينهما مصوت مقصور على ما يراه أهل العربية من أن لا لام وألف بينهما فتحة وذلك لأن المصوت الممدود ليس إلا إشباعا للمصوت المقصور فيكون المقصور مندرجا في الممدود جزأ منه وهذا ما يقال أن الحركات أبعاض حروف المد فلا يكون لا إلا صامتا مع مصوت ممدود ( قال ويتألف من الحروف الكلام ) ويفسر بالمنتظم من الحروف المسموعة المتميزة ويحترز بالمسموعة عن المكتوبة والمتخيلة وبالمتميزة عن أصوات الطيور والكلام ينقسم إلى المهمل والموضوع والموضوع إلى المفرد والمركب والمفرد إلى الاسم والفعل والحرف والمركب إلى التام الذي يصح السكوت عليه وإلى غير التام واللفظ أعم من الحروف والكلام وقد يخص
____________________
(1/220)
الكلام باللفظ المفيد بمعنى دلالته على نسبة يصح السكوت عليها سواء كانت إنشائية مثل قم وهل زيد قائم ولعل زيدا قائم ونحو ذلك أو إخبارية مثل زيد قائم وسواء كان اللفظ مقطعا مقصورا مثل ق أو ممدودا مثل قي وقو أو مركبا من المقاطع كما ذكر وقد يخص اللفظ بما يتألف من المقاطع فيقابله الحرف والمقطع ولذا يقال أجزاء المركب ألفاظ أو حروف أو مقاطع فزيد قائم من لفظين ويادا من مقطعين ويا زيد من مقطع ولفظ ورى في أمر المخاطبة من مقطع وحرف وأرضى واخشوا من لفظ وحرف ويشكل بمثل قي وقو فإن كلا منهما مقطع ممدود فقط إلا أن يقال أنه من حرفين صامت ومصوت وإما مثل ق فمن مقطع مقصور ولفظ هو الضمير المستتر أعني أنت وهذا بخلاف قي وقو فإن كلا من الياء والواو اسم ولا مستتر هناك ( قال وزعم الفارابي ) إن القول من مقولة الكم وأن الكم المنفصل أيضا ينقسم إلى قار هو العدد وإلى غير قار هو القول واحتج بأنه ذو جزء يتقدر بجزئه وكل ما هو كذلك فهو كم وفاقا بيان الصغرى أن أجزاء الأقاويل مقاطع مقصورة أو ممدودة يقع فيها التركيب بأن يردف مقصور بممدود مثل على أو بالعكس مثل كان ثم تركب هذه المقاطع مرة أخرى فيحدث أشياء أعظم مما تقدم فأصغر ما تتقدر به الألفاظ هي المقاطع البسطية المقصورة ثم الممدودة ثم بعدها المركبة وأكملها ما ذكر فيه المقصور أو لا ثم أردف بالممدود والقول ربما يتقدر بواحد منها وربما يحتاج إلى أن يقدر باثنين أو أكثر كسائر المقادير فإن منها ما يقدره ذراع فستعرفه ومنها ما يحتاج إلى ذراعين وأكثر وأجيب بمنع الكبرى وإنما ذلك إذا كان التقدر لذاته وههنا إنما عرض للقول خاصية الكم من جهة الكثرة التي فيه كما أن الجسم يتقدر بالذراع ونحوه لما فيه من الكم المتصل ( قال النوع الرابع المذوقات ) المشهور أن أصول الطعوم أي بسائطها تسعة حاصلة من ضرب أحوال ثلاثة للفاعل هي الحرارة والبرودة والاعتدال بينهما في أحوال ثلاث للقابل هي اللطافة والكثافة والاعتدال بينهما وبيان آنية ما ذكر من التأثيرات ولميتها مذكورة في المطولات ثم يتركب من التسعة طعوم لا تحصى مختلفة باختلاف التركيبات واختلاف مراتب البسائط قوة وضعفا وامتزاج شيء من الكيفيات اللمسية بها بحيث لا تتميز في الحس وهذه المركبات قد يكون لها أسماء كالبشاعة للمركب من المرارة والقبض كما في الحضض بضم الضاد الأولى وفتحها نوع من الدواء هو عصارة شجرة تسمى فيلزهدج وكالزعوقة للمركب من المرارة والملوحة كما في الشيحة وقد لا يكون كالحلاوة والحرافة في العسل المطبوخ والمرارة والتفاهة في الهندبا والمرارة والحرافة والقبض في الباذنجان والفرق بين القبض والعفوصة أن القابض يقبض ظاهر اللسان والعفص ظاهره وباطنه والتفاهة المعدودة في الطعوم هي مثل ما في اللحم والخبز وقد يقال التفه لما لا طعم له أصلا كالبسائط ولما لا يحس بطعمه لأنه لا يتحلل منه شيء بخلط الرطوبة اللعابية إلا بالحيلة كالحديد وما قيل أن هذا هو الذي يعد في الطعوم يبطله
____________________
(1/221)
ما قالوا أن طعم الهندبا مركب من المرارة والتفاهة لا مرارة محضة ( قال النوع الخامس المشمومات ) وليس فيها محل بحث واعلم أنهم وإن أجروا هذه الأوصاف أعني المبصرات والمسموعات والملموسات والمذوقات والمشمومات على الأنواع الخمسة من الكيفيات بل جعلوها بمنزلة الأسماء لها فهي بحسب اللغة متفاوتة في الوقوع على الكيفية أو على المحل أو عليهما جميعا وفي كون مصادرها موضوعة لذلك النوع من الإدراك كالإبصار والسماع أو لما يفضي إليه كالبواقي ومن ههنا يقال أبصرت الورد وحمرته وسمعت الصوت لا مصوته ولمست الحرير لا لينه وذقت الطعام وحلاوته وشممت العنبر ورائحته ( قال القسم الثاني ) أي من الأقسام الأربعة للكيف الكيفيات المختصة بذوات الأنفس الحيوانية بمعنى أنها إنما تكون من بين الأجسام للحيوان دون النبات والجماد فلا يمتنع ثبوت بعضها لبعض المجردات من الواجب تعالى وغيره على أن القائلين بثبوت صفة الحياة والعلم والقدرة ونحوها للواجب لا يجعلونها من جنس الكيفيات والأعراض ثم الكيفية النفسانية إن كانت راسخة سميت ملكة وإلا فحالا فالتمايز بينهما قد لا يكون إلا بعارض بأن تكون الصفة حالا ثم تصير بعينها ملكة كما أن الشخص من الإنسان يكون صبيا ثم يصير شيخا ومثل ذلك وإن كان سبق إلى الوهم ويقع في بعض العبارات أنه هو ذلك الشخص بعينه فليس كذلك بحسب الحقيقة للقطع بتغاير العوارض المشخصة ( قال فمنها الحياة ) سيجيء معنى الحياة في حق الله تعالى وأما حياة الحي من الأجسام فقد اختلفت العبارات في تفسيرها لا من جهة اختلاف في حقيقتها بل من جهة عسر الاطلاع عليها والتعبير عنها إلا باعتبار اللوازم والآثار فقيل هي صفة تقتضي الحس والحركة مشروطة باعتدال المزاج والقيد الأخير للتحقيق على ما هو رأي البعض لا للاحتراز وقيل قوة هي مبدأ لقوة الحس والحركة وكان هذا هو المراد بالأول ليتميز عن قوة الحس والحركة وقيل قوة تتبع اعتدال النوع ويفيض عنها سائر القوى الحيوانية أي المدركة والمحركة على ما سيجيء تفصيلها ومعنى اعتدال النوع هو أن لكل نوع من المركبات العنصرية مزاجا خاصا هو أصلح الأمزجة بالنسبة إليه بحيث إذا خرج عن ذلك المزاج لم يكن ذلك النوع ثم لكل صنف من ذلك النوع ولكل شخص من ذلك الصنف مزاج يخصه هو أصلح بالنسبة إليه ويسمى الأول اعتدالا نوعيا والثاني صنفيا والثالث شخصيا ولهذا زيادة تفصيل وتحقيق يذكر في بحث المزاج فإذا حصل في المركب اعتدال يليق بنوع من أنواع الحيوان فاض عليه قوة الحياة فانبعثت عنها بإذن الله تعالى الحواس الظاهرة والباطنة والقوى المحركة نحو جلب المنافع ودفع المضار فتكون الحياة مشروطة باعتدال المزاج ومبدأ القوة الحس والحركة فتغايرهما بالضرورة وكذا تغاير القوة الغاذية لوجودها في النبات بخلاف الحياة لكن هذا إنما يتم لو ثبت أن الحياة مبدأ لقوة الحس والحركة لا نفسها
____________________
(1/222)
وأن الغاذية في النبات والحيوان حقية واحدة ليلزم من مغايرة تلك الحياة مغايرة هذه لها فاسدلوا على مغايرة الحياة لقوة الحس والحركة ولقوة التغذية الحيوانية بأن الحياة موجودة في العضو المفلوج للحيوان من غير حس وحركة وفي العضو الذابل من غير اغتذاء واعترض الإمام بأن عدم الإحساس والحركة وعدم الاغتذاء لا يدلان على عدم قوة الحس والحركة وعدم قوة التغذية لجواز أن توجد القوة ولا يصدر عنها الأثر لمانع من جهة القائل وأجيب بأن القوة ما يصدر عنه الأثر بالفعل بمعنى أنى نريد أن القوة التي تصدر عنها بالفعل آثار الحياة كحفظ العضو عن التعفن مثلا باقية والقوة التي يصدر عنها بالفعل الحس والحركة والتغذية غير باقية فلا تكون هي هي بهذا يشعر كلام تلخيص المحصل وليس معناه أن القوة اسم لما يصدر عنه الأثر بالفعل فإنه ظاهر البطلان كيف وهو قد صرح بأن في العضو المفلوج قوة الحس والحركة باقية لكنها عاجزة عن الإحساس والحركة نعم يتوجه أن يقال لم لا يجوز أن يكون مبدأ جميع تلك الآثار قوة واحدة هي الحياة وقد يعجز عن البعض دون البعض لخصوصية المانع لكن الحق أن مغايرة المعنى المسمى بالحياة للقوة الباصرة والسامعة وغيرهما من القوى الحيوانية والطبيعية مما لا يحتاج إلى البيان ( قال وعندنا لا يشترط ) ذهب جمهور المتكلمين إلى أن تحقق المعنى المسمى بالحياة ليس مشروطا باعتدال المزاج والبنية والروح الحيواني للقطع بإمكان أن يخلقها الله تعالى في البسائط بل في الجزء الذي لا يتجزأ والمراد بالبنية البدن المؤلف من العناصر الأربعة وبالروح الحيواني جسم لطيف بخاري يتكون من لطافة الأخلاط تنبعث من التجويف الأيسر من القلب ويسرى إلى اليد في عروق نابتة من القلب تسمى بالشرايين وذهب الفلاسفة وكثير من المعتزلة إلى أن هذا الاشتراط بناء على ما يشاهد من زوال الحياة بانتقاض البنية وتفرق الأجزاء وبانحراف المزاج عن الاعتدال النوعي وبعدم سريان الروح في العضو لشدة أو شدة ربط يمنع نفوذه ورد بأن غايته الدوران وهو لا يقتضي الاشتراط بحيث يمنع بدون تلك الأمور واستدل بعض المتكلمين على امتناع كون الحياة مشروطة بالبنية بأنها لو اشترطت فإما أن تقوم بالجزئين من البنية حياة واحدة فيلزم قيام العرض بأكثر من محل واحد وقد مر بطلانه وإما أن يقوم بكل جزء حياة وحينئذ إما أن يكون القيام بكل جزء مشروطا بالقيام بالآخر فيلزم الدور أولا فيلزم الرجحان بلا مرجح لتماثل الأجزاء واتحاد حقيقة الحياة لا يقال لم لا يجوز أن يقوم بالبعض فقط لأسباب مرجحة من الخارج لأنا نقول فيكون الحي هو ذلك البعض لا البنية المؤلفة وأجيب بأنها تقوم بالمجموع الذي هو البنية المؤلفة وليس هذا من قيام العرض بمحلين على ما سبق أو يقوم بكل جزء حياة ويكون اشتراط كل بالآخر بطريق المعية دون التقدم فلا يلزم الدور المحال أو يكون قيامها ببعض الأجزاء
____________________
(1/223)
مشروطا بقيام حياة بالآخر من غير عكس لمرجح يوجد في الخارج وإن لم يطلع عليه لا يقال فحينئذ تكون الحياة غير مشروطة بالبنية حيث تحققت في الجزء الآخر من غير شرط لأنا نقول عدم اشتراط قيام الحياة به بقيام حياة بالجزء الأول لا يستلزم عدم اشتراطه بوجود الجزء الأول الذي به يتحقق البنية ( قال وأما الموت ) فزوال الحياة ومعنى زوال الصفة عدمها عما يتصف بها بالفعل وهذا معنى ما قيل أنه عدم الحياة عما من شأنه أي عما يكون من أمره وصفته الحياة بالفعل فيكون عدم ملكة للحياة كما في العمى الطاري بعد البصر لا كمطلق العمى ولا يلزم كون عدم الحياة عن الجنين عند استعداده للحياة موتا فعلى هذا يكون الموت عدميا وقيل هو كيفية تضاد الحياة فيكون وجوديا وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما ذكره المعتزلة من أن الموت فعل من الله تعالى أو من الملك يقتضي زوال حياة الجسم من غير حرج واحترز بالقيد الأخير عن القتل وحمل الفعل على الكيفية المضادة مبني على أن المراد به الأثر الصادر عن الفاعل إذ لو أريد به التأثير على ما هو الظاهر لكان ذلك تفسيرا للإماتة لا للموت وقد يستدل على كون الموت وجوديا بقوله تعالى { خلق الموت والحياة } فإن العدم لا يوصف بكونه مخلوقا ويجاب بأن المراد بالخلق في الآية التقدير وهو يتعلق بالوجودي والعدمي جميعا ولو سلم فالمراد بخلق الموت إحداث أسبابه على حذف المضاف وهو كثير في الكلام ومثل هذا وإن كان خلاف الظاهر كاف في دفع الاحتجاج ( قال ومنها ) أي من الكيفيات النفسانية الإدراك وقد سبق نبذ من الكلام فيه والذي استقر عليه رأي المحققين من الفلاسفة أن حقيقة إدراك الشيء حضوره عند العقل إما بنفسه وإما بصورته المنتزعة أو الحاصلة ابتداء المرتسمة في العقل الذي هو المدرك أو آلته التي بها الإدراك وهذا معنى ما قال في الإشارات إدراك الشيء هو أن تكون حقيقته متمثلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك على أن المراد بتمثل الحقيقة حضورها بنفسها أو بمثالها سواء كان المثال منتزعا من أمر خارج أو متحصلا ابتداء وسواء كان منطبعا في ذات المدرك أو في آلته والمراد بالمشاهدة مطلق الحضور وفي قوله يشاهدها ما به يدرك تنبيه على انقسام الإدراك إلى ما يكون بغير آلة فيكون ارتسام الصورة في ذات المدرك وإلى ما يكون بآلة فيكون في محل الحس كما في الإبصار بحصول الصورة في الرطوبة الجليدية أو في المجاور كإدراك الحس المشترك بحصول الصورة الخيالية في محل متصل به والمراد بالمشاهدة مجرد الحضور على ما هو معناها اللغوي لا الإبصار وإدراك عين الشيء الخارجي على ما هو المتعارف ليلزم فساد التفسير نعم تضمنت العبارة في جانب الإدراك العقلي تكرارا بحسب اللفظ كأنه قيل هو حضور عند المدرك حال الحضور عنده لأن ما به الإدراك العقلي هو ذات المدرك وفي جانب الإدراك الحسي تكرارا بحسب المعنى حتى كان هناك حضوران أحدهما عند المدرك والآخر عند الآلة وليس كذلك بل
____________________
(1/224)
الحضور عند النفس هو الحضور عند الحس وتحقيق المقام أنا إذا أدركنا شيئا فلا خفاء في أنه يحصل لنا حال لم تكن وتكاد تشهد الفطرة بأنها بحصول أمر لم يكن لا بزوال أمر كان وما ذاك إلا تميزا وظهورا لذلك الشيء عند العقل وليس ذلك بوجوده في الخارج إذ كثيرا ما ندرك ما لا وجود له في الخارج من المعدومات بل الممتنعات وكثيرا ما يوجد الشيء في الخارج ولا يدركه العقل مع تشوقه إليه بل بوجوده في العقل بمعنى أن يحصل فيه أثر يناسب ذلك الشيء بحيث لو وجد في الخارج لكان إياه وهذا هو المعنى بحصول الصورة وحضورها وتمثلها وارتسامها ووصول النفس إليها ونحو ذلك ولا يفهم من إدراك الشيء سواه والاعتراض بأن الإدراك صفة المدرك والحصول ونحوه صفة الصورة مما لا يلتفت إليه عند المحققين سواء جعلنا الإدراك مصدرا بمعنى الفاعل أو المفعول وأما الاعتراض بأن ذكر المدرك وما به يدرك في تعريف الإدراك دور فجوابه أن المراد به الشيء الذي يقال له المدرك وما به الإدراك وإن لم تعرف حقيقة هذا الوصف وقد يجاب بأن هذا ليس تعريفا للإدراك بل تعيينا وتلخيصا للمعنى المسمى بالإدراك الواضح عند العقل ( قال إما بحقيقته ) إشارة إلى ما ذكروا من أن الشيء المدرك إما أن لا يكون خارجا عن ذات المدرك كالنفس وصفاتها وإما أن يكون خارجا وحينئذ فإما أن يكون ماديا أو غير مادي فالأول تكون حقيقته المتمثلة عند المدرك نفس حقيقته الموجودة في الخارج فيكون إدراكه دائما والثاني تكون صورة منتزعة عنه والثالث تكون صورة متحصلة في العقل غير مفتقرة إلى الانتزاع من حقيقة خارجية لكونها صورة لما هو مجرد في نفسه كإدراك المفارقات أو لما تحقق له ولا حقيقة أصلا كإدراك المعدومات واعترض على الأول بوجوه
أحدها أنه يقتضي أن يكون إدراك النفس لذاتها وصفاتها دائما لدوام الحضور واللازم باطل لأن كثيرا من الصفات مما لا نطلع على آنيتها وماهيتها إلا بعد النظر والتأمل وإنما الكلام في ماهية النفس ولا يجوز أن يكون هذا ذهولا عن العلم بالعلم لأنه أيضا مما يلزم دوامه سيما وهم يقولون أن علمنا بذاتنا نفس ذاتنا
وثانيها أن حصول الشيء للشيء وحضوره عنده يقتضي تغاير الشيئين ضرورة فيمتنع علم الشيء بنفسه
وثالثها أن النفس إذا كانت عالمة بذاتها وصفاتها كانت عالمة بعلمها بذلك وهلم جرا لا إلى نهاية فيلزم علوم غير متناهية بالفعل وأجيب عن الأول بمنع مقدمات بطلان اللازم وهو مكابرة وعن الأخيرين بأن التغاير الاعتباري كاف والاعتبارات العقلية تنقطع بانقطاع الاعتبار وحاصله أن ليس هناك إلا شيء واحد هو ذلك المجرد المدرك وهو ليس بغائب عن نفسه فمن حيث يعتبر شاهدا يكون عالما ومن حيث يعتبر مشهودا يكون معلوما ومن حيث يعتبر شهودا يكون علما ومرجعه إلى أن وجود الشيء أعني حصوله وحضوره لا يزيد
____________________
(1/225)
عليه بحسب الخارج ( قال ولما بين صورة الشيء ) إشارة إلى دفع اعتراضات للإمام وغيره منها أن العلم لو كان بحصول الصورة المساوية التي ربما تسمى ماهية الشيء لزم من تصور الحرارة والاستدارة كون القوة المدركة حارة مستديرة وكذا جميع الكيفيات وهو مع ظهور فساده يستلزم اجتماع الضدين كالحرارة والبرودة عند تصورهما وجوابه أن الحار ما قام به هوية الحرارة لا صورته وماهيته وكذا جميع الصفات وفرق ما بينهما ظاهر فإن الهوية جزئية مكفوفة بالعوارض فاعلة للصفات الخارجية والصورة كلية مجردة لا تلحقها الأحكام ولا يترتب عليها الآثار وهذا لا ينافي مساواتها للهوية بمعنى أنها بحيث إذا وجدت في الخارج كانت إياها ثم الماهية والحقيقة كما نطلق على الصورة المعقولة فكذا على الموجود العيني وبهذا الاعتبار يقال تارة من أن المعقول من السماء مساو لماهيتها وتارة أنه نفس ماهيتها فضلا عن المساواة وجواب آخر وهو أن حصول الشيء للشيء يقال لمعان متعددة كحصول المال لصاحبه وبالعكس وحصول السواد للجسم وبالعكس وحصول السرعة للحركة وحصول الصورة للمادة وبالعكس وحصول كل منهما للجسم وبالعكس وحصول الحاضر لما حضر عنده وبالعكس ولزوم الاتصاف إنما هو في حصول العرض بمحله ولا كذلك حصول الحاضر لما حضر عنده وبالعكس ولزوم الاتصاف زائد وهو معلوم لنا بالوجدان ومتحقق كونه حصولا لنا وإن لم نقدر على التعبير عن خصوصيته بغير كونه إدراكا أو علما أو شعورا أو إحاطة بكنه الشيء أو ما يجري مجرى هذه العبارات ولهذا أعني لكون الحصول الإدراكي مغاير الحصول العرضي للمحل المستلزم للاتصاف لا يلزم من إدراك المعاني التي تكون من صفات النفس كالإيمان والكفر والجود والبخل ونحو ذلك اتصاف النفس بها لانتفاء الحصول الاتصافي فكيف يلزم ذلك فيما ليس من شأن النفس الاتصاف بها كالحرارة والاستدارة ونحو ذلك وإنما الكلام في أن الحصول الاتصافي هل يستلزم الحصول الإدراكي حتى يلزم دوام تعقل النفس لصفاتها على ما زعموا ثم أنهم لم يبينوا أن ذلك مبني على أن مجرد الحصول الاتصافي كاف في الادراك النفسي صفاتها أو على أنه مستلزم للحصول الإدراكي والحق أن الكل بوجود غير متأصل هو الصورة وما ذكروا من أنه لو كان كذلك لزم في إدراك النفس لذاتها عدم التمايز بين الصورة وذي الصورة ولصفاتها اجتماع المثلين مدفوع بما مر من التغاير بين الصورة والهوية وبأن التماثل المانع من الاجتماع إنما هو بين الهويتين ولو سلم فبطريق الحصول الاتصافي وبالجملة إذا كان الحصول الإدراكي غير الحصول الاتصافي ولم يتحقق كون الحصول الاتصافي لما من شأنه الإدراك مستلزما للإدراك كان عدم استلزامه فيما ليس من شأنه
____________________
(1/226)
الإدراك كحصول السواد للحجر أولى فلا يرد ما ذكر الإمام من أن الإدراك إذا كان نفس الحصول كان المدرك هو الذي له الحصول وكان الجسم الحار مدركا للحرارة ومنها أنا نعلم قطعا أن المدرك بالحس أو العقل هو الموجود العيني كهذا السواد وهذا الصوت والإنسان فالقول بأنه مثال وشبح من ذلك الموجود لا نفسه يكون سفسطة والجواب أنه لا نزاع في أن المدرك هو ذلك الموجود لكن إدراكه عبارة عن حصول صورة منه ومثال عند المدرك بحصولها فيه أو في آلته ومنها أنكم تجعلون المدرك للمحسوسات هو النفس أو الحس المشترك مع أن حصول الصورة ليس فيهما بل في الخيال أو غيره من الآلات كالرطوبة الجليدية للمبصرات فلو كان الإدراك هو الحصول لكان المدرك ما فيه الحصول والجواب أنا لا نجعل إدراك المحسوسات هو الحصول في الآلة بل الحصول عند المدرك للحصول في الآلة فلا يلزم ما ذكر وبهذا يندفع اعتراض آخر وهو أنه لو كان مجردا لحضور عند الحس على ما هو المراد بالمشاهدة كافيا في الإدراك لكان الحاضر الذي لا تلتفت إليه النفس مدركا وليس كذلك ومنها أن الصورة العلمية عرض قائم بالنفس وقد جعلتموها مطابقة للموجود العيني الذي ربما يكون جوهرا بل نفس ماهيته وامتناع كون العرض مطابقا للجوهر ونفس ماهيته معلوم بالضرورة وأيضا جعلتموها كلية مع أن كون العرض القائم بالنفس الجزئية جزئيا ضروري وأيضا تجعلون العلم تارة حصول الصورة وتارة نفس الصورة مع ظهور الفرق بينهما والجواب أن الممتنع هو كون الشيء الواحد باعتبار واحد جوهرا وعرضا أو كليا وجزئيا وما عند اختلاف الاعتبار فلا فإن كون الصورة العقلية عرضا من حيث كونها في الحال قائمة بالموضوع الذي هو النفس لا ينافي كونها جوهرا من حيث أنها ماهية إذا وجدت في الخارج كانت لا في موضوع وإنما المستحيل كون الشيء جوهرا وعرضا في الخارج بمعنى كونها ماهية إذا وجدت في الخارج كانت في موضوع ولا في موضوع وكذا كونها جزئية من حيث قيامها بالنفس الجزئية لا ينافي كليتها من حيث مطابقتها للأفراد الكثيرة بمعنى أن الحاصل في العقل من كل منها عند التجرد عن العوارض يكون تلك الصورة بعينها ثم نسبة الحصول إلى الصورة في العقل نسبة الوجود إلى الماهية في الخارج فكما أنه ليس للماهية تحقق في الخارج ولعارضها المسمى بالوجود تحقق آخر حتى يجتمعا اجتماع القابل والمقبول كذلك ليس للصورة تحقق في العقل ولعارضها المسمى بالحصول تحقق آخر وإنما الزيادة بمعنى أن المفهوم من هذا غير المفهوم من ذاك فبهذا الاعتبار يصح جعل العلم تارة نفس الصورة وتارة حصولها فإن قيل لا ارتياب في أن العلم عرض موجود في الخارج لمعنى حصوله في النفس حصولا متأصلا موجبا للاتصاف كسائر صفات النفس والصورة ليست كذلك إذ لا حصول لها إلا في النفس وحصولها فيها ليس حصولا اتصافيا
____________________
(1/227)
مثل حصول العرض في المحل على ما سبق قلنا لا كلام في قوة هذا الإشكال بل أكثر الإشكالات الموردة على كون الإدراك صورة وغايتها يمكن أن يقال أن الصورة قد تؤخذ من حيث أن الحصول نفسها فتكون عرضا قائما بالنفس حاصلا لها حصولا متأصلا اتصافيا فيكون موجودا عينيا كسائر صفاتها وقد تؤخذ من حيث أن الحصول غيرها فيكون صورة وماهية للموجود العيني الذي ربما يكون من الجواهر فلا تتصف النفس بها ولا هي تحصل للنفس حصولا متأصلا وهي بهذا الاعتبار مفهوم لا تحقق له إلا في الذهن وإطلاق المعلوم عليها تجوز لأن المعلوم ما له صورة في العقل لا نفس الصورة نعم قد يستأنف لها تعقل وتلحقها أحكام وعوارض لا يحاذى بها أمر في الخارج هي المسماة بالمعقولات الثانية وبهذا الاعتبار يصح جعل الكلية من عوارض المعلوم كما يجعل من عوارض المفهوم وأما المعلوم الذي هو ما له الصورة أعني الموجود العيني فلا يتصف بالكلية إلا بمعنى أن الحاصل منه في العقل كلي ذكر في المواقف عن الحكماء أن الموجود في الذهن هو العلم والمعلوم وأن معنى كون الإنسان كليا هو أن الصورة الحاصلة منه في العقل المجردة عن المشخصات كلية أو أن المعلوم بها كلي ثم قال وهذا إنما يصح على رأي من يجعل العلم والمعلوم هي الصورة الذهنية أو يجعل للأمور المتصورة ارتساما في غير العقل وإلا لكان للمعلوم حصول في الخارج فيكون جزئيا لا كليا وأنت خبير بأنه إذا أريد بالمعلوم الصورة الذهنية لم يكن بين الوجهين فرق ولا لقوله بها معنى ( قال والمتكلمون ) يعني أن من لم يقل بالوجود الذهني وحصول الصورة جعل العلم إما مجرد إضافة وتعلق بين العالم والمعلوم وإما صفة لها تلك الإضافة فالصفة العلم والإضافة العالمية وأثبت القاضي وراء العلم والعالمية إضافة إما لأحدهما فيكون هناك ثلاثة أمور ولكل منهما فتكون أربعة وعلى هذا قياس سائر الإدراكات فإن أورد عليهم علم الشيء بنفس ذاته فإن التعلق لا يتصور إلا بين شيئين أجيب بأن التغاير الاعتباري كاف على ما مر في حصول الشيء للشيء نعم يرد عليهم العلم بالمعدومات من الممكنات ككثير من الأشكال الهندسية والممتنعات كالمفروضات التي يبين بها الخلف فإنه لا تحقق لها في الخارج وإذا لم تتحقق في الذهن أيضا لم تتصور الإضافة بينهما وبين العالم وما يقال من إمكان تحققها قائمة بأنفسها على ما هو رأي أفلاطون أو بغيرها من الأجرام الغائبة عنا فضروري البطلان في الممتنعات لا يقال غاية ما في الباب إثبات الصورة الذهنية في العلم بالمعدومات قلنا الإدراك معنى واحد لا يختلف إلا بالإضافة إلى المدرك والمدرك فإن علم أنه غير نفس الإضافة في موضع علم كونه كذلك مطلقا فإن قيل العلم بالمعدومات وارد على القول بالصورة أيضا لأن الصورة إنما تكون لذي
____________________
(1/228)
الصورة لا للعدم المحض فإما أن تكون في الخارج فلا تكون معدوما والكلام فيه أو في الذهن فيكون فيه من المعدوم أمر هو الصورة وأمر آخر له الصورة وهو باطل لم يقل به أحد قلنا ليس في الذهن إلا أمر واحد هو الصورة ومعنى كونها صورة للمعدوم أنها بحيث لو أمكن في الخارج تحققها وتحقق ذلك المعدوم لكانت إياه ثم أنها من حيث قيامها بالذهن وحصولها فيه علم تتصف به النفس ومن حيث ذاتها وماهيتها العقلية أعني مع قطع النظر عن قيامها بالذهن معلوم له وجود غير متأصل وهذا بخلاف الموجود فإن العلم ما في الذهن والمعلوم ما في الخارج كما مر وبهذا يندفع إشكال آخر وهو أنهم صرحوا بأن الصورة إنما تكون علما إذا كانت مطابقة للخارج وذلك لأن هذا إنما هو في صور الأعيان الخارجية وأما المعدومات من الاعتباريات وغيرها فمعنى مطابقتها ما ذكرنا هذا وفي بعض المواضع من كلام ابن سينا اعتراف بأن العلم بالممتنعات ليس حصول الصورة لأنه ذكر في الشفاء أن المستحيل لا يحصل له صورة في العقل ولا يمكن أن يتصور شيء هو اجتماع النقيضين بل تصور المستحيل إنما يكون على سبيل التشبيه بأن يعقل بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع ثم يقال مثل هذا الأمر لا يمكن بين السواد والبياض أو على سبيل النفي بأن يحكم العقل بأنه لا يمكن أن يوجد مفهوم هو اجتماع السواد والبياض وعلى هذا حمل صاحب المواقف كلام أبي هاشم حيث جعل العلم بالمستحيل علما لا معلوم له بناء على أن المعلوم شيء والمستحيل ليس بشيء وحينئذ لا يرد اعتراض الإمام بأنه تناقض إذ لا معنى للمعلوم سوى ما تعلق به العلم ولا يحتاج إلى ما ذكره الآمدي من أن له أن يصطلح على أن المعلوم ما تعلق به العلم بالأشياء ( قال المبحث الثاني ) الإحساس إدراك للشيء الموجود في المادة الحاضرة عند المدرك على هيئات مخصوصة به محسوسة من الابن والوضع ونحو ذلك والتخيل إدراك لذلك الشيء مع الهيئات المذكورة ولكن في حالتي حضوره وغيبته والتوهم إدراك لمعان غير محسوسة من الكيفيات والإضافات مخصوصة بالشيء الجزئي الموجود في المادة والتعقل إدراك للشيء من حيث هو هو فقط لا من حيث شيء آخر سواء أخذ وحده أو مع غيره من الصفات المدركة هذا النوع من الإدراك فالإحساس مشروط بثلاثة أشياء حضور المادة واكتناف الهيئات وكون المدرك جزئيا والتخيل مجرد عن الشرط الأول والتوهم مجرد عن الأولين والتعقل مجرد عن الجميع بمعنى أن الصورة تكون مجردة عن العوارض المادية الخارجية وإن لم يكن بد من الاكتناف بالعوارض الذهنية مثل تشخصها من حيث حلولها في النفس الجزئية ومثل عرضيتها وحلولها في تلك النفس ومقارنتها لصفات تلك النفس وفي كون هذه من العوارض الذهنية كلام عرفته في بحث الماهية ( قال وعند الشيخ أبي الحسن الأشعري الإحساس بالشيء علم به ) فالإبصار علم بالمبصرات والسماع علم بالمسموعات وهكذا البواقي ورده
____________________
(1/229)
الجمهور بأنا نجد فرقا ضروريا بين العلم التام بهذا اللون وبين إبصاره وهكذا بين العلم بهذا الصوت وسماعه وبين العلم بهذه الرايحة وشمها إلى غير ذلك وأجيب بأنا لا نسلم أن ما يتعلق به الإحساس يمكن تعلق العلم به بطريق آخر ولو سلم فيجوز أن يكونا علمين متخالفين بالماهية أو الهوية وفيه ضعف أما أولا فلأن إمكان تعلق علم آخر به ضروري كيف وأنا نحكم عليه عند عدم الإحساس أيضا وأما ثانيا فلأن مقصود الجمهور نفي أن تكون حقيقة إدراك الشيء بالحس هي حقيقة إدراكه المسمى بالعلم بحيث لا يتفاوت إلا في طريق الحصول كما في العلم بالشيء بطريق الاستدلال أو الإلهام أو الحدس وأما بعد تسليم كونهما نوعين مختلفين من الإدراك فيصير البحث لفظيا مبنيا على أن العلم اسم لمطلق الإدراك أو لنوع منه والحق أن إطلاقه على الإحساس مخالف للعرف واللغة فإنه اسم لغيره من الإدراكات وقد يخص بإدراك الكلي أو إدراك المركب فيسمى إدراك الجزئي أو إدراك البسيط معرفة وقد يخص العلم بأحد أقسام التصديق أعني اليقين منه وهو ما يقارن الجزم والمطابقة والثبات فيسمى غير الجازم ظنا وغير المطابق جهلا مركبا وغير الثابت اعتقاد المقلد وقد لا يعتبر في الاعتقاد المطابقة فينقسم إلى الصحيح والفاسد وقد يطلق على مطلق التصديق فيعم العلم وغيره وقد يراد بالظن ما ليس بيقين فيعم الظن الصرف والجهل المركب واعتقاد المقلد ثم ظاهر عبارة البعض أن اليقين يقارن الحكم بامتناع النقيض والظن الصرف يقارن الحكم بإمكان النقيض وإن كان مرجوحا لكن التحقيق هو أن المعتبر في اليقين أن يكون بحيث لو أخطر النقيض بالبال لحكم بامتناعه وفي الظن أنه لو أخطر لحكم بإمكانه حتى أن كلا منهما اعتقاد بسيط لا يتركب عن حكمين وأعترض على اعتبار الثبات في اليقين بأنه إن أريد به عسر الزوال فربما يكون اعتقاد المقلد كذلك وإن أريد امتناع الزوال فاليقين من النظريات قد يذهل الذهن عن بعض مباديه فيشك فيه بل ربما يحكم بخلافه والجواب أنه إن أريد بالذهول مجرد عدم الحضور بالفعل عند العقل فإمكان طريان الشك حينئذ ممنوع وإن أريد الزوال بحيث يفتقر إلى تحصيل واكتساب فلا يقين حينئذ بالحكم النظري ونحن إنما نحكم بامتناع الشك في اليقين ما دام يقينا فالتصديق على ما ذكرنا ينحصر في العلم والجهل المركب والاعتقاد الصحيح والظن لأن غير الجازم لا بد أن يكون راجحا لأنه أقل مراتب الحكم أعني قبول النفس وإذعانها لوقوع النسبة أو لا وقوعها وما ذكر الإمام وجمع من المتأخرين أن غير الجازم إما أن يكون راجحا فظن أو مساويا فشك أو مرجوحا فوهم محل نظر لأن الشك تردد في الوقوع واللاوقوع والوهم ملاحظة للطرف المرجوح وكلاهما تصور لا حكم معه أصلا فإن قيل المراد بالشك الحكم بتساوي الطرفين عند العقل قلنا هذا تصديق بكون أحد الأقسام الأربعة بمنزلة قولك أنا شاك في كذا ( قال والذهول ) يشير إلى الفرق
____________________
(1/230)
بين السهو والنسيان وقد لا يفرق بينهما ونسبتهما إلى العلم نسبة الموت إلى الحياة بمعنى أنهما عدم ملكة للعلم مع خصوصية قيد الطريان والشك عدم ملكة للعلم التصديقي فيكون جهلا بسيطا بالنظر إليه وإن كان علما من حيث التصور وأما الجهل المركب أعني الاعتقاد الجازم الغير المطابق ويسمى مركبا لأنه جهل بما في الواقع مع الجهل بأنه جاهل به فمضاد للعلم لصدق حد الضدين عليهما لكونهما معنيين يستحيل اجتماعهما لذاتهما ولكونهما متقابلين وجوديين ليس تعقل أحدهما بالقياس إلى تعقل الآخر وقالت المعتزلة هما متماثلان لأن الحقيقة واحدة والاختلاف إنما هو بالعارض أما أولا فلأنهما لا يختلفان إلا بمطابقة الواقع ولا مطابقته وذلك خارج لأن النسبة لا تدخل في حقيقة المنتسبين والاختلاف بالخارج لا يوجب الاختلاف بالذات وأما ثانيا فلأن من اعتقد أن زيدا في الدار طول النهار وقد كان فيها إلى الظهر ثم خرج كان له اعتقاد واحد مستمر لا اختلاف في ذاته مع أنه كان علما ثم صار جهلا والجواب أن المطابقة واللامطابقة أخص صفات النفس للعلم والجهل فالاختلاف فيه يستلزم الاختلاف في الذات وظاهره معارضة ويمكن تنزيله على المنع أي لا نسلم أن الاختلاف بالعارض لا يوجب الاختلاف بالذات وإنما يكون كذلك لو لم يكن لازما ولا نسلم أن الذات واحدة بل الاعتقادات على التجدد فما دام زيد في الدار فالمتجدد علم وحين خرج فجهل ( قال المبحث الثالث العلم ) إما قديم لا يسبقه العدم وهو علم الله تعالى وإما حادث يسبقه العدم فهو علم المخلوق ومراتب الحادث ثلاث
الأولى ما يكون بالقوة المحضة وهو الاستعداد للعلم وحصوله للضروريات يكون بالحواس الظاهرة والباطنة كما يستفاد من حس اللمس أن هذه النار حارة فتستعد النفس للعلم بأن كل نار حارة وعلى هذا القياس وللنظريات يكون بالضروريات بأن يرتب فيكتسب النظري
والثانية العلم الإجمالي كمن علم مسألة فغفل عنها ثم سئل فإنه يحضر الجواب في ذهنه دفعة من غير تفصيل وحقيقته حالة بسيطة إجمالية هي مبدأ تفاصيل المركب
والثالثة العلم التفصيلي وهو حضور صورة المركب بحيث تعرف أجزاؤه متميزا بعضها عن بعض ملاحظا كل منها على الانفراد وذلك كما إذا نظرنا إلى الصحيفة دفعة فلا شك أنا نجد حالة إجمالية من الإبصار ثم إذا حدقنا النظر وأبصرنا كل حرف حرف على الانفراد حصلت لنا حالة أخرى مع أن الإبصار حاصل في الحالين فالأولى بمنزلة العلم الإجمالي والثانية بمنزلة العلم التفصيلي وبهذا يتبين معنى كلامهم أن العلم بالماهية يستلزم العلم بأجزائها لكن إجمالا لا تفصيلا واعترض الإمام بأن الحاصل في العلم الإجمالي إما أن يكون صورة واحدة فيلزم أن يكون للحقايق المختلفة صورة واحدة مطابقة لكل منها على أنها متساوية لها بل نفس ماهيتها وإما أن يكون صورا متعددة لتلك المختلفات فيكون العلم التفصيلي بها حاصلا وغاية التفرقة أن يقال
____________________
(1/231)
أن حصول الصور إن كان دفعة واحدة فعلم إجمالي وإن كان على ترتيب زماني بأن يحضر واحد بعد واحد فتفصيلي لكن على هذا لا يكون الإجمالي مرتبة متوسطة بين القوة المحضة والفعل المحض التفصيلي على ما زعموا ويمكن الجواب بأن الحاصل في الإجمالي صورة واحدة تطابق الكل من غير ملاحظة لتفاصيل الأجزاء وفي التفصيلي صور متعددة يطابق كل منها واحدا من الأجزاء على الانفراد وفهم بعضهم من العلم الإجمالي مجرد تميز الشيء عند العقل ومن التفصيلي ذلك مع العلم بتميزه وقد سبق الكلام في أن العلم بالشيء هل يستلزم العلم بالعلم به وفي أنه على تقدير الاستلزام هل يلزم من العلم بشيء واحد علوم غير متناهية بناء على تغاير العلم بالامتياز وبامتياز الامتياز وهكذا إلى غير النهاية ( قال المبحث الرابع ) قال الإمام لا يجوز انقلاب العلم البديهي كسبيا وبالعكس لأن كون تصور الموضوع والمحمول كافيا في جزم الذهن بالنسبة بينهما أو مفتقرا إلى النظر أمر ذاتي له والذاتي لا يزول وهذا مع ظهور المنع على مقدمته الأولى مختص بالأوليات وذكر الآمدي وغيره أن انقلاب النظري ضروريا جائز اتفاقا بأن يخلق الله تعالى في العبد علما ضروريا متعلقا بما يتعلق به علمه النظري والمعتزلة عولوا في الجواز على تجانس العلوم ومنعوا الوقوع فيما يكون مكلفا به كالعلم بالله وصفاته المقدسة لئلا يلزم التكليف بغير المقدور وأنه قبيح يمتنع وقوعه من الله تعالى فإن قيل فاللازم نفي الجواز دون مجرد الوقوع قلنا ليس معنى كلامهم أن في العلم بالله الانقلاب جائز وليس بواقع بل أنه جائز نظرا إلى كونه علما وإنما امتنع وقوعه لعارض من خارج هو كونه مكلفا به وأما انقلاب الضروري نظريا فجوزه القاضي وبعض المتكلمين لأن العلوم متجانسة أي متماثلة متفقة الماهية بناء على كون التعلق بالمعلومات والتشخص الحاصل بواسطة الخصوصيات من العوارض التي ليست مقتضى الذات وإذا كانت متماثلة وحكم الأمثال واحد جاز على كل منها ما جاز على الآخر كما جاز على الإنسانية التي في زيد ما جاز على التي في عمرو بالنظر إلى نفس الإنسانية فإن قيل قد سبق أن التصور والتصديق مختلفان بالحقيقة قلنا لعله أراد بالعلم ما هو أحد أقسام التصديق على ما اشتهر فيما بين المتكلمين أو ادعى أن حقيقة الكل هي الصفة الموجبة للتميز على ما سبق أو أراد أن التصورات متماثلة وكذا التصديقات فيجوز على الضروري من كل منهما أن ينقلب إلى النظري منه والجواب بعد تسليم التجانس أنه إن إريد بالجواز عدم الامتناع أصلا فمجرد التجانس لا يقتضيه لجواز أن يمتنع بواسطة العوارض والخصوصيات على البعض ما يجوز للبعض الآخر وإن أريد عدم الامتناع نظرا إلى ماهية العلم فغير متنازع وما ذكر الآمدي من أنه لو سلم التجانس فلا شك في الاختلاف بالنوع والشخص فلعل التنوع أو التشخص يمنع ذلك مبني على أنه فهم من التجانس الاشتراك في الجنس على ما هو
____________________
(1/232)
مصطلح الفلاسفة ولا أدري كيف ذهب عليه مصطلح المتكلمين وأن مثل القاضي لا يجعل الاشتراك في الجنس دليلا على أن يجوز على كل من المتشاركين ما يجوز على الآخر والجمهور على أن الضروري لا يجوز أن ينقلب نظريا وإلا لزم جواز خلو نفس المخلوق عنه مع التوجه والالتفات وسائر شرائط حصول الضروريات لأن ذلك من لوازم النظريات وعلى هذا لا يرد الاعتراض بأن الضروري قد لا يحصل لفقد شرط أو استعدادا لا أنهم إنما عولوا في استحالة الخلو عن الضروري على الوجدان وفيه ضعف لأن غايته الدلالة على عدم الخلو دن استحالته سلمنا لكن لا خفاء في أن الخلو عن الضروري إنما يمتنع ما دام ضروريا وبعد الانقلاب لا يبقى هذا الوصف وذهب إمام الحرمين وهو أحد قولي القاضي إلى أنه لا يجوز في ضروري هو شرط لكمال العقل الذي به يستأصل لاكتساب النظريات لأنه لو انقلب نظريا لزم كونه شرطا لنفسه وهو دور فإن قيل هذا التفصيل مشعر بأن القول الآخر للقاضي هو الجواز مطلقا أي في كل ضروري وفساده ظاهر لظهور استحالة النظري بدون ضروري ما قلنا هذا إنما يمنع جواز اجتماع الكل على الانقلاب بحيث لا يبقى شيء من الضروريات لا جواز انقلاب كل على الانفراد ( قال والخلاف ) قد اختلفوا في أن العلم الضروري هل يستند إلى النظري أم لا تمسك المانع بأنه لو استند أي ابتنى وتوقف على النظري المتوقف على النظر لزم توقفه على النظر فيكون نظريا لا ضروريا هف وتمسك المجوز بأن العلم بامتناع اجتماع الضدين ضروري ويتوقف على العلم بوجودهما لأن الاجتماع واللااجتماع فرع الوجود والجواب بمنع تعلق العلم بامتناع اجتماع الضدين ضعيف لأنه إن أريد أنا لا نتصور اجتماعهما ولا تجزم بامتناعه فمكابرة بل مناقضة لأن الحكم بعدم تصوره وعدم الجزم بامتناعه حكم يستدعي تصوره وإن أريد أنا لا نتصور شيئا هو اجتماع الضدين وإنما ذلك على سبيل التشبيه كما سبق نقلا عن الشفاء فلا يضر بالمقصود لأن حكمنا بأن الاجتماع الواقع فيما بين السواد والحلاوة لا يمكن مثله فيما بين السواد والبياض يتوقف على العلم بوجودهما بل الجواب منع ذلك فإن كون الاجتماع واللااجتماع فرع الوجود على تقدير حقيته لا يستدعي توقف العلم بامتناع الاجتماع على العلم بالوجود بل على تصور الضدين بوجه وهو لا يلزم أن يكون بالنظر نعم ربما يكون التصديق المستغني عن النظر فيه مفتقرا إلى النظر في تصور الطرفين فإن سمى مثله ضروريا كان مستندا إلى النظري فمن ههنا قيل أن هذا نزاع لفظي يرجع إلى تفسير التصديق الضروري أنه الذي لا يفتقر إلى النظر أصلا أو لا يفتقر إلى النظر في نفس الحكم وإن كان طرفاه بالنظر والحق أن مراد المتكلمين بالعلم ما هو من أقسام التصديق وبالضروري منه مالا يكون حصوله بطريق الاستدلال عليه والمتنازع هو أنه هل يجوز أن يبتنى على علم حاصل
____________________
(1/233)
بالاستدلال ( قال المبحث الخامس ) اتفق القائلون بأن العلم القديم على أنه واحد يتعلق بمعلومات متعددة واختلفوا في الحادث فذهب الشيخ وكثير من المعتزلة إلى أن الواحد منه يمتنع أن يتعلق بمعلومين وهذا هو المعنى بقولنا يتعدد العلم بتعدد المعلوم وذهب بعض الأصحاب إلى أنه يجوز وجعل الإمام الرازي الخلاف مبنيا على الخلاف في تفسير العلم أنه إضافة فيكون التعلق بهذا غير التعلق بذاك أو صفة ذات إضافة فيجوز أن يكون للواحد تعلقات بأمور متعددة كالعلم القديم ومحل الخلاف هو التعلق بالمتعدد على التفصيل ومن حيث أنه كثير فلا يكون التعلق بالمجموع المشتمل على الأجزاء من هذا القبيل مالم يلاحظ الأجزاء على التفصيل ويرد على الإمام أن الجواز الذهني أعني عدم الامتناع عند العقل بالنظر إلى كون العلم صفة ذات إضافة لا يستلزم الجواز الخارجي أعني عدم الامتناع في نفس الأمر على ما هو المتنازع لجواز أن يمتنع بدليل من خارج كما قيل وإن كان ضعيفا أنه ليس عدد أولي من عدد فلو تعلق بما فوق الواحد لزم تعلقه بما لا نهاية له وكما قال أبو الحسن الباهلي أنه يمتنع في المعلومين النظريين وإلا يلزم اجتماع النظرين في علم واحد ضرورة أن النظر المؤدي إلى وجود الصانع غير المؤدي إلى وحدته وأجيب بمنع اللزوم لجواز أن يكون المعلومان بعلم واحد حاصلين بنظر واحد إذ لا امتناع في أن يحصل بنظر واحد أمور متعددة كالنتيجة ونفي المعارض وكون الحاصل علما لا جهلا وكما قال القاضي وإمام الحرمين أنه يمتنع إن كان المعلومان بحيث يجوز انفكاك العلم بأحدهما عن العلم بالآخر وإلا يلزم جواز انفكاك الشيء عن نفسه ضرورة أن العلم بهذا نفس العلم بذاك والتقدير جواز انفكاكهما وأجيب بأنه يكفي في جواز الانفكاك كونهما معلومين بعلمين في الجملة وهذا لا ينافي معلوميتهما بعلم واحد في بعض الأعيان وحينئذ لا انفكاك فإن قيل الإمكان للممكن دائم فيجوز الانفكاك دائما وفيه المطلوب قلنا نعم إلا إنه لا ينافي الامتناع بالغير وهو المعلومية بعلم واحد فإن عند تعلق العلم الواحد بهما جواز الانفكاك بحاله بأن يتعلق بها علمان فإن قيل نفرض الكلام في المعلومين بجواز انفكاكهما في التعقل كيف ما علمنا قلنا إمكان معلومين بهذه الحيثية نفس المتنازع وقد يستدل بأنه لو جاز كون الصفة الواحدة مبدأ للأحكام المختلفة كالعالمية بالسواد والعالمية بالبياض لجاز كونهما مبدأ للعالمية والقادرية ويلزم استغناء الأشياء عن تعدد الصفات باستناد آثارها إلى صفة واحدة ويجاب بأنه تمثيل بلا جامع كيف والأحكام ههنا متجانسة بخلاف مثل العالمية والقادرية وأما فيما لا يجوز الانفكاك كالمجاورة والمماثلة والمضادة وغير ذلك فيجوز أن يتعلق علم واحد بمعلومين بل ربما يجب كما في العلم بالشيء مع العلم بالعلم به فإن هناك معلومات غير متناهية لأن العلم بالشيء مستلزم للعلم بالعلم به ضرورة وهو العلم بالعلم به وهكذا لا إلى نهاية فلو لم يكن عدة من هذه المعلومات
____________________
(1/234)
حال عدم الحادث بالنسبة إلى وجوده لأنا نقول إنما جاز ذلك من جهة أن الأمس اسم للزمان المأخوذ مع التقدم المخصوص وأما في نفس أجزاء الزمان فلا بل غايته لزوم التقدم والتأخر فيما بينها لكونها عبارة عن اتصال غير قار ولو سلم فالحادث من حيث الحدوث أيضا كذلك إذ لا معنى له سوى ما يكون وجوده مسبوقا بالعدم ولو سلم فالمقصود منع انحصار السبق في الأقسام الخمسة مستندا إلى السبق فيما بين أجزاء الزمان فإنه ليس زمانيا بمعنى أن يوجد المتقدم في زمان لا يوجد فيه المتأخر ولا يضرنا تسميته زمانيا بمعنى آخر وقد سبق تحقيق ذلك في موضعه
( قال هذا والتحقيق 2 )
يريد أن الزمان عندنا أمر وهمي يقدر به المحدات وبحسبه يكون العالم مسبوقا بالعدم وليس أمرا موجودا من جملة العالم يتصف بالقدم أو الحدوث فإن أثبت الفلاسفة وجود الزمان بمعنى مقدار الحركة لم يمتنع سبق العدم عليه باعتبار هذا الأمر الوهمي كما في سائر الحوادث وبهذا يظهر الجواب عن استدلالهم على قدم العالم بأن وجود الباري إما أن يكون متقدما على وجود العالم بقدر غير متناه أو لا فعلى الأول يلزم منه قدم الزمان لأن معنى لا تناهي القدر وجود قبليات وبعديات متصرمة لا أول لها وهو معنى قدم الزمان ويلزم منه قدم الحركة والجسم لكونه مقدارا لها وعلى الثاني يلزم حدوث الباري أو قدم العالم لأن عدم تقدمه على العالم بقدر غير متناه أما بأن لا يتقدم عليه أصلا وذلك بأن يحصل معه في وقت حدوثه فيكون حادثا أو يحصل العالم معه في الأزل فيكون قديما وأما بأن يتقدم عليه بقدر متناه وذلك بأن لا يوجد قبل ذلك القدر فيكون حادثا وهو محال
( قال الفصل الثاني فيما يتعلق بالأجسام على التفصيل 4 )
مثل البحث عن خصوص أحوال البسايط الفلكية أو العنصرية أو المركبات المزاجية أو غير المزاجية أو حال ما هو من أقسام بعض هذه الأربعة
( قال جزؤه المقداري )
احتراز عن الجزء العقلي كالجنس والفصل أو العيني كالهيولي والصورة فإنه لا يكون مثل الكل في الاسم والحد لا في البسيط ولا في المركب
( قال والمأخوذ في كل 3 )
قد ذكر لكل من الجسم البسيط والجسم المركب تفسيرين أحدهما وجودي والآخر عدم له فالآن يشير إلى أن ما جعل مأخذ التفسيرين أعني التألف من الأجسام المختلفة الطبايع وتساوي الجزء والكل في الاسم والحد قد يعتبر من حيث الحقيقة وقد يعتبر من حيث الحس فيحصل لكل من البسيط والمركب أربع تفسيرات مختلفة بالعموم والخصوص متعاكسة في الوجودية والعدمية فللبسيط ما لا يتألف من المختلفات حقيقة ما لا يتألف منها جساما يساوي جزؤه الكل حقيقة ما يساويه حسا وللمركب ما يتألف حقيقة ما يتألف حسا ما لا يساوي حقيقة ما لا يساوي حسا فالمأخوذ من المأخذ الأول للمركب وجوذي وللبسيط عدمي ومن
____________________
(1/234)
معلومة بعلم واحد لزم أن يكون لكل من علم شيئا ما علوم غير متناهية وهو ظاهر البطلان وجوابه منع الاستلزام المذكور لجواز أن يعلم الشيء ولا يلتفت الذهن إلى العلم به ولو سلم فلا تغاير بين العلم بالشيء والعلم بالعلم به إلا بحسب الاعتبار فينقطع بانقطاع الاعتبار ( قال ثم عن التعدد ) لا خفاء في جواز تعلق العلمين بمعلوم واحد وهل هما مثلان فيه خلاف وتفصيل ذلك أن للعلم محلا هو العالم ومتعلقا هو المعلوم فإذا تعدد المحل كعلم زيد وعمرو بأن الصانع قديم فالعلمان مختلفان إن جعلنا اختصاص كل منهما بمحله لذاته وإلا فمثلان وإذا تعدد متعلقهما فالعلمان مختلفان سواء كان المعلومان متماثلين كالعلم ببياضين أو مختلفين كالعلم بالسواد والبياض إذ لو كانا مثلين لم يجتمعا في محل فإذا اتحد متعلقهما فالجمهور على أنهما مثلان سواء اتحد وقت المعلوم أو اختلف أما عند الاتحاد فظاهر وأما عند الاختلاف فلأن اختلاف الوقت لا يؤثر في اختلاف العلمين كما لا يؤثر اختلاف الوقت وتقدمه وتأخره في اختلاف الجوهرين واعترض الآمدي بأن الفرق ظاهر فإن الوقت ههنا داخل في متعلق العلم كالعلم بقيام زيد الآن وقيامه غدا ولا خفاء في اختلاف الكل باختلاف الجزء بخلاف كون الجوهر في زمانين فإنه خارج عنه وإنما نظير ذلك العلم بالشيء في وقتين لا العلم بمعلوم مقيد بوقتين هذا والحق أن المعلوم إذا اختلف وقته كان متعددا لا متحدا وأن اتحاده مع تعدد العلم إنما يتصور عند اختلاف وقت العلم والظاهر أنهما حينئذ مثلان أو عند اختلاف محله وقد سبق الكلام في أنهما حينئذ مثلان أو مختلفان ( قال المبحث السادس ) قد دلت الأدلة السمعية من الكتاب والسنة على أن محل العلم الحادث هو القلب وإن لم يتعين هو لذلك عقلا بل يجوز أن يخلقه الله تعالى في أي جوهر شاء لكن الظاهر من كلام كثير من المحققين أن ليس المراد بالقلب ذلك العضو المخصوص الموجود لجميع الحيوانات بل الروح الذي به امتياز الإنسان وظاهر كلام الفلاسفة أن محل العلم بالكليات هو النفس الناطقة المجردة وبالجزئيات هو المشاعر الظاهرة أو الباطنة إلا أن المحققين منهم على أن محل الكل هو النفس إلا أنه في الكليات يكون بالذات وفي الجزئيات بتوسط الآلات أعني المشاعر وسيجيء بيان ذلك في بحث النفس ( قال المبحث السابع ) لا خلاف في أن مناط التكاليف الشرعية هو العقل حتى لا يتوجه على فاقديه من الصبيان والمجانين والبهائم وسيجيء أن لفظ العقل مشترك بين معان كثيرة فذهب الشيخ إلى أن المراد به ههنا العلم ببعض الضروريات أي الكليات البديهية بحيث يتمكن من اكتساب النظريات إذ لو كان غير العلم لصح انفكاكهما بأن يوجد عالم لا يعقل وعاقل لا يعلم وهو باطل ولو كان العلم بالنظريات وهو مشروط بالعقل لزم تأخر الشيء عن نفسه ولو كان العلم بجميع الضروريات لما صدق على من يفقد بعضها لفقد شرطها من التفات أو تجربة أو تواتر أو نحو ذلك مع أنه عاقل اتفاقا واعترض بمنع الملازمة فإن المتغايرين قد يتلازمان
____________________
(1/235)
مقاطع لخط آخر غير متناه وأن تتحرك تلك الكرة على نفسها فبالضرورة يصير الخط الخارج من مركزها بعد المقاطعة مسامتا ثم موازيا لكن ذلك محال لتوقفه على تخلص أحد الخطين عن الآخر وهو لا بتصور إلا بنقطة هي طرف من أحد الخطين وقد فرضناهما غير متناهيين هف ويرد عليه منع إمكان حركة الخط الغير المتناهي سيما بحيث ينتهي من المقاطعة إلى المسامتة إلى الموازاة وأورد أبو بالبركات هذا المنع على برهان المسامتة وتبعه صاحب الإشراق في المطارحات ولا يظهر له وجه لأن المفروض هناك حركة قطر الكرة وهو متناه وثانيهما برهان الموازاة وهو أن نفرض قطر الكرة مسامتا للخط الغير المتناهي ثم موازيا له بحركة الكرة فلانتهاء المسامتة يلزم في الخط الغير المتناهي نقطة هي آخر نقطة المسامتة وهو محال لأن كل نقطة تغرض كذلك فالمسامتة بما فوقها بعد المسامتة بها وأما على برهان التطبيق فمثل أن نفرض البعد الغير المتناهي أذرعا ثم نعتبر التطبيق بين عدة الألوف منها وعدة الآحاد على ما مر في التسلسل أو يقال ما بين المبدأ المحقق أو المفروض وبين كل ذراع متناه لكونه محصورا بين حاصرين فيتناهى الكل ولأنه لا يزيد على ذلك إلا بواحد أو يقال الأذرع مترتبة في الوضع فنطبق بين قبلياتها وبعدياتها فإن لم يتساويا بطل التضايف وإن تساويا لزم وجود زراع له بعدية لا قبلية لأن للمبدأ قبلية لا بعدية وأيضا إذا طبقنا وقعت قبلية الأول بإزاء بعدية الثاني وقبلية الثاني بإزاء بعدية الثالث وهكذا إلى غير النهاية فتبقى قبلية بلا بعدية فيبطل التضايف وأيضا للأول قبلية بلا بعدية فلو كان لكل ما عداه قبلية وبعدية معا لزم قبلية بلا بعدية
( قال احتج المخالف بوجوه 7 )
فإن قيل الأولان لا يفيدان سوى أن وراء العالم أمرا له تحقق ما من غير دلالة على أنه جسم أو بعد ولو سلم فلا دلالة على أنه غير متناه قلنا يفيدان بطلان رأي من زعم أنه عدم محض ثم يدلان على تمام المطلوب بمعونة مقدمات معلومة مثل أن ما يلاقي طرف العالم لا يكون إلا خلاء وهو بعد أو جسما وهو ذو بعد بل إذا بين استحالة الخلاء تعين أنه جسم ولا يكون متناهيا وإلا لكان له طرف فيعود الكلام ويثبت أن ما ورائه ليس عدما محضا
( قال خاتمة 8 )
جعل بحث الجهة خاتمة بحث تناهي الأبعاد لكونها عبارة عن نهاية الامتداد وذلك أن طرف الامتداد بالنسبة إليه طرف ونهاية وبالنسبة إلى الحركة والإشارة جهة ثم أنها موجودة ومن ذوات الأوضاع لأنها مقصد المتحرك بالحصول فيه ومنتهى الإشارة الحسية والمعدوم أو المجرد يمتنع الحصول فيه أو الإشارة إليه وهذا بخلاف الحركة في الكيف كحركة الجسم من البياض إلى السواد فإن السواد مقصد المتحرك بالتحصيل فلا يجب بل يمتنع أن يكون موجود الامتناع تحصيل الحاصل ثم لا يخفى أن معنى الحصول في الجهة الحصول عنها وصولا وقربا كما أن معنى التحرك في جهة كذا التحرك في سمت يتأتى إليها وذلك لأن كلا من المتحرك والحركة منقسم فلا يقع حقيقة إلا في منقسم والجهة لا تقبل الانقسام أعني في مأخذ الحركة والإشارة إذ لو انقسمت
____________________
(1/325)
كالجوهر مع العرض والعلة مع المعلول وقد يمنع بطلان اللازم فإن العاقل قد يكون بدون العلم كما في النوم وهو ضعيف والأقرب أن العقل قوة حاصلة عند العلم بالضروريات بحيث يتمكن بها من اكتساب النظريات وهذا معنى ما قال الإمام أنها غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات وما قال بعضهم أنها قوة بها يميز بين الأمور الحسنة والقبيحة وما قال بعض علماء الأصول أنها نور يضيء به طريق يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك الحواس أي قوة حاصلة للنفس عند إدراك الجزئيات بها يتمكن من سلوك طريق اكتساب النظريات وهو الذي يسميه الحكماء العقل بالملكة ( قال ومنها ) أي ومن الكيفيات النفسانية الإرادة ويشبه أن يكون معناها واضحا عند العقل غير ملتبس بغيرها إلا أنه تعسر معرفتها بكنه الحقيقة والتعبير عنها بما يفيد تصورها وهي تغاير الشهوة كما أن مقابلها وهي الكراهية تغاير النفرة ولهذا قد يريد الإنسان مالا يشتهيه كشرب دواء كريه ينفعه وقد يشتهي مالا يريده كأكل طعام لذيذ يضره وذهب كثير من المعتزلة إلى أن الإرادة اعتقاد النفع أو ظنه فإن نسبة القدرة إلى طرفي الفعل والترك على السوية فإذا حصل في القلب اعتقاد النفع في أحد طرفيه أو ظنه ترجح بسببه ذلك الطرف وصار مؤثرا عنده وذهب بعضهم إلى أنها ميل يعقب اعتقاد النفع أو ظنه لأن القادر كثيرا ما يعتقد النفع أو يظنه ولا يريده مالم يحدث هذا الميل وأجيب بأنا لا نجعله مجرد اعتقاد النفع أو ظنه بل اعتقاد نفع له أو لغيره ممن يؤثر خبره بحيث يمكن وصول ذلك النفع إليه أو إلى غيره من غير مانع من تعب أو معارضة وما ذكر من الميل إنما يحصل لمن لا يقدر على تحصيل ذلك الشيء قدرة تامة كالشوق إلى المحبوب لمن لا يصل إليه أما في القادر التام القدرة فيكفي الاعتقاد المذكور وذهب أصحابنا إلى أن الإرادة قد توجد بدون اعتقاد النفع أو ميل يتبعه فلا يكون شيء منهما لازما لها فضلا عن أن يكون نفسها وذلك كما في الأمثلة التي يرجح فيها المختار أحد الأمرين المتساويين من جميع الوجوه بمجرد إرادته من غير توقف في طلب المرجح واعتقاد نفع في ذلك الطرف والمعتزلة ينكرون ذلك ويدعون الضرورة بأنه لا بد من مرجح حتى لو تساويا في نفس الأمر لم يستبعد منع اختيار أحد الأمرين وسلوك أحد الطريقين وإنما يستبعد عند فرض التساوي وهو لا يستلزم الوقوع والأصحاب يدعون الضرورة بأن ذلك الترجيح ليس إلا لمحض الإرادة من غير رجحان واعتقاد نفع في ذلك المعين فالإرادة عندهم صفة بها يرجح الفاعل أحد مقدوريه من الفعل والترك وهذا معنى الصفة المخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع وهذا التفسير كما لا يقتضي كونها من جنس الاعتقاد أو الميل كذلك لا ينفيه وكذا لا يقتضي كون متعلقها مقدورا لجواز أن يكون صفة تتعلق بالمقدور وغيره ويكون من شأنها الترجيح والتخصيص لأحد طرفي المقدور ولهذا جاز إرادة الحياة والموت فبطل ما قيل أن متعلق الإرادة على هذا التفسير لا يكون
____________________
(1/236)
إلا مقدورا فيمتنع تعلقها بالإرادة والكراهة وبالعكس إلا إذا جعلناهما من مقدورات العبد بأقدار الله تعالى وصح ما قيل في الفرق بين الإرادة والشهوة بأن الإرادة قد تتعلق بالإرادة وبالكراهة بأن يريد الإنسان إرادته لشيء أو كراهته له وكذا الكراهة ولا يلزم منه كون الشيء الواحد مرادا ومكروها معا لأن إرادة الكراهة وكراهة الإرادة لا يوجب إرادة المكروه وكراهة المراد وهذا بخلاف الشهوة فإنه لا معنى لاشتهاء الإنسان شهوته لشيء إلا بمعنى الإرادة كما قيل لمريض أي شيء تشتهي فقال أشتهي أن أشتهي وكذا النفرة لا تتعلق بالنفرة ( قال والفلاسفة ) يعني أنهم لما ذهبوا إلى أن الله تعالى موجب بالذات لا فاعل بالاختيار والإرادة وعلموا أن في نفي الإرادة عنه تعالى شناعة وإلحاقا لأفعاله تعالى بأفعال الجمادات حاولوا إثبات كونه مريدا على وجه لا ينافي كونه تعالى موجبا فزعموا أن الإرادة عبارة عن العلم بما هو عند العالم كمال وخير من حيث هو كذلك أو عن العلم بكون الفاعل عالما بما يفعله إذا كان ذلك العلم سببا لصدور ذلك الفعل عنه حال كونه غير مغلوب في ذلك ولا مستكره والله تعالى عالم بذلك فيكون مريدا واعترض بأن الإرادة والكراهة لو كانتا نوعين من العلم لاختصتا بذوي العلم واللازم باطل لأن الحركة بالإرادة مأخوذة في تعريف مطلق الحيوان فأجابوا بأن المراد من الإرادة المشتركة بين الحيوانات حالة ميلانية إلى الفعل أو الترك وهي منفية عن الواجب ( قال المبحث الثاني ) ذهب الشيخ الأشعري وأتباعه إلى أن إرادة الشيء نفس كراهة ضده إذ لو كانت غيرها لكان إما مماثلا لها أو مضادا أو مخالفا والكل باطل أما الملازمة فلأن المتغايرين إن استويا في صفات النفس أعني مالا يحتاج الوصف به إلى تعقل أمر زائد كالإنسانية للإنسان والحقيقة والوجود والشيئية له بخلاف الحدوث والتحيز ونحوه فمثلان كالبياضين وإلا فإن تنافيا بأنفسهما فضدان كالسواد والبياض وإلا فمتخالفان كالسواد والحلاوة وإما بطلان اللازم فلأنهما لو كانتا ضدين أو مثلين لامتنع اجتماعهما وهذا ظاهر لزوما وفسادا ولو كانتا خلافين لجاز اجتماع كل منهما مع ضد الآخر ومع خلافه لأن هذا شأن المتخالفين كالسواد المخالف للحلاوة يجتمع مع ضدها الذي هو الحموضة ومع خلافها الذي هو الرايحة فيلزم جواز اجتماع إرادة الشيء مع إرادة ضده لأن ضد كراهة الضد إرادة الضد وأجيب بأن عدم الاتحاد لا يستلزم التغاير ليلزم أحد الأمور الثلاثة سلمناه لكن لانم جواز اجتماع كل من المتخالفين مع ضد الآخر لجواز أن يكونا متلازمين وامتناع اجتماع الملزوم مع ضد اللازم ظاهر أو ضدين لأمر واحد كالشك للعلم والظن فاجتماع كل مع ضد الآخر يستلزم اجتماع الضدين وعورض بأن شرط إرادة الشيء وكراهته الشعور به ضرورة وقد يراد الشيء أو يكره من غير شعور بضده فإرادة الشيء لا تستلزم كراهة ضده فضلا أن تكون نفسها إلا أن يقال المراد أنها نفسها على تقدير
____________________
(1/237)
الشعور بالضد بمعنى أنها نفس كراهة الضد المشعور به وإلا فلا معنى لاشتراط كون الشيء نفس الشيء بشرط واختلف القائلون بالتغاير في الاستلزام فذهب القاضي والغزالي إلى أن إرادة الشيء تستلزم كراهة ضده المشعور به إذ لو لم يكن مشعورا مكروها بل مرادا لزم إرادة الضدين وهو مح لأن الإرادتين المتعلقتين بالضدين متضادتان وأجيب بمنع المقدمتين لجواز أن لا يتعلق بالضد كراهة ولا إرادة ككثير من الأمور المشعور بها ولجواز أن يكون كل من الضدين مرادا من جهة إرادة على السوية أو مع ترجح أحدهما بحسب ما فيه من نفع راجح وأيضا لو صح ما ذكر لكان كراهة الشيء مستلزمة لإرادة ضده المشعور به فيلزم من إرادة الشيء الذي له ضدان أن يكون كل منهما مكروها لكونه ضد المراد ومرادا لكونه ضد المكروه ولا محيص إلا بتغاير الجهتين أو تخصيص الدعوى بما له ضد واحد وإذا جاز ذلك فتجويز إرادة كل من الضدين بجهة لا يصلح في معرض إبطال حكم القاضي بالاستلزام المذكور لجوز أن يكون كل منهما مكروها أيضا بجهة وإنما يصلح في معرض الجواب كما ذكرنا حتى لو دفع بأنكم تجعلون متعلق الإرادة مقارنا لها فيلزم من إرادة الضدين اجتماعهما كان كلاما على السند مع أنه ضعيف لأن القول بأن متعلق الإرادة الحادثة لا يكون إلا مقدورا للمريد مقارنا لإرادته حتى لا يتعلق بفعل الغير وبالمستقبل ويكون كل ذلك من قبيل التمني دون الإرادة مخالف للغة والعرف والتحقيق ( قال ومنها القدرة ) لفظ القوة يقال للصفة التي بها يتمكن الحيوان من مزاولة أفعال شاقة ويقابلها الضعف وقد يقال لصفة المؤثرية فيفسر بصفة هي مبدأ التغير من شيء في آخر من حيث هو آخر فقوله في آخر إشعار بوجوب التغاير بين المؤثر والمتأثر وقيد الحيثية إشعار بأنه يكفي التغاير بحسب الاعتبار كالطبيب يعالج نفسه فيؤثر من حيث أنه عالم بالصناعة ويتأثر من حيث أنه جسم ينفعل عما يلاقيه من الدواء وهذا بالنظر إلى ظاهر الإطلاق وإلا فعند التحقيق التأثير للنفس والتأثر للبدن ولو مثل بالمعالج نفسه في تهذيب الأخلاق وتبديل الملكات لكان أقرب ثم القوة التي هي وصف المؤثرية إما أن تكون مع قصد وشعور بأثرها أو لا وعلى التقديرين فإما أن تكون آثارها مختلفة أو لا
فالأولى وهي الصفة المؤثرة مع القصد والشعور واختلاف الآثار والأفعال هي القوة الحيوانية المسماة بالقدرة
والثانية وهي القوة المؤثرية على سبيل القصد والشعور لكن على نهج واحد من غير اختلاف في آثارها وهي القوة الفلكية
والثالثة وهي المبدأ لآثار وأفعال مختلفة لا على سبيل القصد والشعور وهي القوة النباتية والرابعة وهي مبدأ الأثر على نهج واحد بدون القصد والشعور هي القوة العنصرية وهذه كلها من أقسام العرض على ما يشعر به لفظ الصفة وهي المبادي القريبة للأفعال وإما أن لكل منها أو لبعضها مبادىء من قبيل الجواهر تسمى بالصور النوعية والنفوس فذلك بحث آخر وقد ينازع
____________________
(1/238)
في إثبات القوى الفلكية والنباتية إذا أريد بها غير النفوس والصور إذا تقرر هذا فنقول اعتبر بعضهم في كون القوة قدرة مقارنتها للقصد والشعور ففسر القدرة بصفة تؤثر وفق الإرادة فخرج من الصفات ما لا يؤثر كالعلم وما يؤثر لا على وفق الإرادة كالقوى النباتية والعنصرية وأما النفوس والصور النوعية التي هي من قبيل الجواهر فلا تشملها الصفة واعتبر بعضهم اختلاف الآثار ففسر القدرة بصفة تكون مبدأ لأفعال مختلفة فالقوة الحيوانية تكون قدرة بالتفسيرين لمقارنتها القصد والاختلاف والقوة العنصرية لا تكون قدرة بشيء من التفسيرين لخلوها عن الأمرين والقوة الفلكية قدرة بالتفسير الأول دون الثاني والنباتية بالعكس وهذا ظاهر فبين التفسيرين عموم من وجه فإن قيل القدرة الحادثة غير مؤثرة عند الشيخ فلا تدخل في شيء من التعريفين قلنا ليس المراد التأثير بالفعل بل بالقوة بمعنى أنها صفة شأنها التأثير والإيجاد على ما صرح به الآمدي حيث قال القدرة صفة وجودية من شأنها تأتي الإيجاد والأحداث بها على وجه يتصور ممن قامت به الفعل بدلا عن الترك والترك بدلا عن الفعل والقدرة الحادثة كذلك لكن لم تؤثر لوقوع متعلقها بقدرة الله تعالى على ما سيجيء إن شاء الله تعالى وبهذا يندفع ما يقال لا بد من القول بكون فعل العبد بقدرته على ما هو مذهب المعتزلة أو بنفي قدرة العبد أصلا على ما ذهب إليه جهم بن صفوان مع الفرق الضروري بين حركتي الرعشة والبطش وحركتي الصعود والنزول والحاصل أنا قاطعون بوجود صفة شأنها الترجيح والتخصيص والتأثير ولا امتناع في أن لا يؤثر بالفعل لمانع والنزاع في أنها بدون التأثير بالفعل هل تسمى قدرة لفظي والقول بقدم قدرة الله تعالى مع حدوث المقدورات على ما هو رأينا وبثبوت القدرة الحادثة قبل الفعل على ما هو رأي المعتزلة يؤيد ما ذكرنا ( قال والوجدان يشهد ) تنبيه على أن طريق معرفة القدرة هو الوجدان على ما هو رأي الأشاعرة فإن العاقل يجد من نفسه أن له صفة بها يتمكن من حركة البطش وتركها دون الرعشة لا العلم بتأتي الفعل من بعض الموجودين وتعذره على الغير على ما ذهب إليه بعض المعتزلة لأن الممنوع قادر عندهم مع تعذر الفعل إلا أن يقال الفعل يتأتى منه على تقدير ارتفاع المنع لا يقال ويتأتى من العاجز على تقدير ارتفاع العجز لأنا نقول الفعل يتأتى من الممنوع وهو بحاله في ذاته وصفاته وإنما التغير في أمر من خارج بخلاف العاجز فإنه يتغير من صفة إلى صفة ولا العلم بصحة الشخص وانتفاء الآفات منه على ما ذهب إليه الجبائي لأن النائم كذلك وليس بقادر إلا أن يقال اليوم آفة ثم الوجدان كما يدل عليها يدل على أنها صفة زائدة على المزاج الذي هو وآثارها من الكيفيات المحسوسة وليست بطريق القصد والاختيار وعلى سلامة البنية وليست من قبيل الأجرام على ما نسب إلى ضرار وهشام من أن القدرة على البطش هي اليد السليمة وعلى المشي هي الرجل السليمة وهذا ما قالا القدرة بعض القادر وإن فسر
____________________
(1/239)
بأنها صفة في القادر فهو مذهب الجمهور وما قيل أنها بعض المقدور فإنما يصح في القدرة بمعنى المقدورية أي كون الفعل بحيث يتمكن الفاعل منه ومن تركه وذهب بشر بن المعتمر إلى أنها عبارة عن سلامة البنية من الآفات وإليه مال الإمام الرازي واعترض على ما ذكره القوم من أنا نميز بالضرورة بين حركتي البطش والرعشة وما ذاك إلا بوجود صفة غير سلامة البنية توجد لبعض الأفراد دون البعض كالقدرة على الكتابة لزيد دون عمرو وعلى بعض الأفعال دون البعض كقدرة زيد على القراءة دون الكتابة بأن الاختيار قبل الفعل باطل عندكم ومعه ممنوع لامتناع العدم حال الوجود وأيضا حصول الحركة حال ما خلقها الله تعالى ضروري وقبله محال فأين الاختيار وأيضا حصول الفعل عند استواء الدواعي محال وعند عدم الاستواء يجب الراجح ويمتنع المرجوح فلا تثبت المكنة والجواب أن الضروري هو التفرقة بمعنى التمكن من الفعل والترك بالنظر إلى نفس حركة البطش مع قطع النظر عن الأمور الخارجية بخلاف حركة المرتعش وحاصله أن الوجوب أو الامتناع بحسب أخذ الفعل مع وصف الوجود أو العدم أو بحسب أن الله تعالى خلقه أو لم يخلقه أو بحسب ترجح دواعي الفعل أو الترك لا ينافي تساوي الطرفين بالنظر إلى نفس القدرة ( قال المبحث الثاني ) اختلفوا في أن الاستطاعة أي القدرة الحادثة على الفعل تكون قبله أو معه فذهبت الأشاعرة وغيرهم من أهل السنة إلى أنها مع الفعل لا قبله وأكثر المعتزلة إلى أنها قبل الفعل ثم اختلفوا في أنه هل يجب بقاؤها إلى حال وجود المقدور لنا وجوه
الأول أن القدرة عرض والعرض لا يبقى زمانين فلو كانت قبل الفعل لانعدمت حال الفعل فيلزم وجود المقدور بدون القدرة والمعلول بدون العلة وهو محال ولا يرد النقض بالقدرة القديمة لأنها ليست من قبيل الأعراض وأجيب بعد تسليم امتناع بقاء العرض بأن المحال هو وجود المعلول بدون أن يكون له علة أصلا واللازم هو وجوده بدون مقارنة العلة بل مع سبقها واستحالة ذلك نفس المتنازع ولو سلم فيجوز أن تنعدم القدرة ويحدث مثلها فيكون لها بقاء بتجدد الأمثال على الاستمرار في حال الفعل كما هو شأن العلم والميل والتمني ونحو ذلك مما لا نزاع في جواز سبقها على متعلقاتها وفيه نظر لأن وجود المقدور حينئذ إما بالقدرة الزائلة فيعود المحذور أو الحاصلة وهو المطلوب ثم لا يخفى أن الكلام إلزامي على من يقول بتأثير القدرة الحادثة
الثاني أن الفعل حال عدمه ممتنع لا استحالة اجتماع الوجود والعدم ولا شيء من الممتنع بمقدور وفاقا
الثالث لو كانت القدرة قبل الفعل لكان الفعل قبل وقوعه ممكنا لكنه محال لأنه يلزم من فرض وقوعه كون القدرة معه لا قبله هف والوجهان متقاربان وجوابهما بعد النقض بالقدرة القديمة أنه إن إريد بامتناع الفعل حال العدم وقبل الحدوث امتناعه مع وصف كونه
____________________
(1/240)
معدوما وغير واقع فممنوع لكنه لا ينافي المقدورية فإمكان الحصول من القادر وإن أريد امتناعه في زمان عدمه وكونه غير واقع فممنوع بل هو ممكن بأن يحصل بدل عدمه الوجود كما هو شأن سائر الممكنات وهذا كقيام زيد فإنه ممتنع مع القعود وبشرطه لكنه ممكن حال القعود وفي زمانه بأن يزول القعود ويحصل القيام واحتجت المعتزلة بوجوه
الأول أن القدرة لو لم تتعلق بالفعل إلا حال وجوده وحدوثه لزم محالات
( 1 ) إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل لأن هذا معنى تعلق القدرة
( 2 ) بطلان التكليف لأن التكليف بالفعل إنما يكون قبل حصوله ضرورة أنه لا معنى لطلب حصول الحاصل فإذا كان الفعل قبل الوقوع غير مقدور كان جميع التكاليف الواقعة تكليف مالا يطاق وهو باطل بالاتفاق لأن القائل بجوازه لم يقل بوقوعه فضلا عن عمومه
( 3 ) كون جميع الممكنات الواقعة بقدرة الله تعالى قديمة لأن المقارن للأزلي أزلي بالضرورة فإن قيل المعتزلة لا يقولون بالقدرة القديمة قلنا لا بل إنما ينازعون في كونها صفة زائدة على الذات ولو سلم فيكون إلزاميا والجواب عن الأول بعد تسليم أن معنى تعلق القدرة الحادثة بالفعل إيجاده هو أن المستحيل إيجاد الموجود بوجود حاصل بغير هذا الإيجاد وأما بهذا الإيجاد فلا
وعن الثاني أن من يقول بكون القدرة مع الفعل لا يشترط في المكلف به أن يكون مقدورا بالفعل حال التكليف بل أن يكون جائز الصدور عن المكلف مقدورا له في الجملة كإيمان الكافر بخلاف خلق الأجسام ونحوه مما لا يصح تعلق قدرة العبد به أصلا وقريب من هذا ما يقال أن معنى كون المكلف به مشروطا بالقدرة أن يكون هو أو ضده متعلق القدرة وههنا قد تعلقت القدرة بترك الإيمان بخلاف خلق الأجسام ونحوه مما لا يصح تعلق قدرة العبد به أصلا
وعن الثالث بمنع الملازمة وإنما يتم لو كانت القدرة القديمة والحادثة متماثلتين ليلزم من كون الثانية مع الفعل لا قبله كون الأولى كذلك وقد إيجاب بأن الكلام إنما هو في تعلق القدرة والأزلي إنا هو نفس القدرة وكونها قديمة سابقة لا ينافي كون تعلقها مقارنا حادثا فلا يلزم من كون تعلق القدرة القديمة مع الفعل قدم الحادث أو حدوث القديم ولو حمل ما قال الآمدي أن القدرة القديمة وإن كانت متقدمة على جميع المقدورات فهي إنما تتعلق بالأفعال الممكنة والفعل في الأزل غير ممكن فلا تتعلق به في الأزل بل فيما لا يزال على هذا المعنى لم يرد عليه اعتراض المواقف بأن فيه التزام ما التزمه المعلل مع بيان سبب له في القدرة القديمة فليجز في الحادثة أيضا بسبب آخر وبأن الفعل في الأزل وإن امتنع لكنه أمكن فيما لا يزال في زمان سابق على الزمان الذي وجد فيه فجاز تعلق القدرة به فلو لزمت المقارنة لزم كون الفعل في الزمان السابق دون اللاحق نعم يرد أن الكلام في تعلق القدرة بالمعنى الذي يصحح قولنا فلان قادر على كذا متمكن من فعله وتركه وهو لا يتأخر عن نفس القدرة لا بالمعنى الذي إذا نسب إلى المقدور كان صدوره عن القادر وإذا نسب إلى القدرة كان إيجابها للمقدور وإذا نسب إلى القادر كان خلقه وإيجاده له فإن هذا مقارن بلا نزاع
____________________
(1/241)
حادث في حق القديم أيضا ( قال ويتفرع على كون القدرة مع الفعل أن الممنوع ) أي الذي منع من فعل يصح صدوره عنه في الجملة لا يكون قادرا عليه حال المنع كالزمن الذي هو عاجز عن الفعل وأن القدرة الواحدة لا تتعلق بمقدورين سواء كانا ضدين أو مثلين أو مختلفين فإن ما نجده في نفوسنا عند صدور أحد المقدورين غير ما نجده عند صدور الآخر واعترض بأنه إن أريد المغايرة والاختلاف بحسب التعلق على ما قال الإمام أن مفهوم التمكن من هذا غير مفهوم التمكن من ذاك فغير قادح وإن أريد تغاير الحالتين بالذات والمفهوم أو كون القدرة اسما بمجموع التمكن المشترك مع ما به الاختلاف كان لفظ القدرة مقولا بالاشتراك ولم يقل به أحد وذهبت المعتزلة إلى أن الممنوع قادر والمنع لا ينافي القدرة وإنما ينافي المقدور سواء كان المنع بل ما به المنع عدميا كانتفاء الشرط وقوع المقدور أو وجوديا ضدا له كالسكون للحركة أو مولدا للضد كالثقل المولد للحركة السفلية المضادة للحركة العلوية واستدلوا بأنا نفرق بالضرورة بين المقيد الممنوع من المشي والزمن العاجز عنه وما ذاك إلا بوجود القدرة في المقيد دون العاجز وبأن المقيد لم يلحقه تغير في ذاته ولا صفاته ولم يطرأ عليه ضد من أضداد القدرة وقد كان قادرا حال المشي فكذا مع القيد لأن القدرة من صفات النفس وأجيب عن الأول بأن الفرق عندنا عائد إلى جري العادة بخلق القدرة في المقيد بارتفاع القيد بخلاف الزمن العاجز فإنه وإن كان ارتفاع العجز ممكنا لكن لم تجر العادة بذلك وعن الثاني بمنع عدم التغير في الصفة واتفقت المعتزلة على أن القدرة الواحدة تتعلق بالمتماثلات لكن على مرور الأوقات إذ يمتنع وقوع مثلين في محل واحد بقدرة واحدة في وقت واحد واختلفوا في تعلقها بالضدين فجوز أكثرهم تعلقها بهما على سبيل البدل إذ لو لم يكن القادر على الشيء قادرا على ضده لكان مضطرا إلى ذلك المقدور حيث لم يتمكن من تركه هف وتردد أبو هاشم فزعم تارة أن كلا من القدرة القائمة بالقلب والقدرة القائمة بالجوارح يتعلق بجميع أفعال محلها دون محل الأخرى بمعنى أن القائمة بالقلب تتعلق بالإرادات والاعتقادات مثلا دون الحركات والاعتمادات والقائمة بالجوارح على العكس وتارة أن كلا منهما يتعلق بالجميع إلا أنها لا تؤثر لا في أفعال محله مثلا القائمة بالقلب تتعلق بأفعال القلوب والجوارح لكن يمتنع اتحاد أفعال الجوارح بها لفقد الشرائط والقائمة بالجوارح بالعكس وتارة أن القائمة بالقلب تتعلق بجميع أفعال القلب والقائمة بالجوارح لا تتعلق بجميع أفعال الجوارح وتارة أن القائمة بالقلب تتعلق بأفعال القلوب والجوارح جميعا وإن لم تؤثر في أفعال الجوارح والقائمة بالجوارح لا تتعلق بأفعال القلب وإلى القولين الأخيرين أشار في المتن بقوله وتارة خص الحكمين بالقلبية وأراد بالحكمين التعلق بجميع أفعال محله خاصة والتعلق بجميع أفعال محله ومحل الأخرى وأورد الإمام الرازي كلاما حاصله أنه إن أريد بالقدرة
____________________
(1/242)
القوة التي هي مبدأ الأفعال المختلفة سواء كملت جهات تأثيرها أو لم تكمل فلا شك في كونها قبل الفعل ومعه وبعده وفي جواز تعلقها بالضدين وإن أريد القوة التي كملت جهات تأثيرها فلا خفاء في كونها مع الفعل بالزمان لا قبله وفي امتناع تعلقها بالضدين بل بالمقدورين مطلقا ضرورة أن الشرائط المخصصة لهذا غير الشرائط المخصصة لذاك إلا أن الشيخ لما لم يقل بتأثير القدرة الحادثة بمعنى الإيجاد فسرنا التأثير والمبدائية بما يعم الكسب الذي هو شأن القوة الحادثة وذلك بحصول جميع الشرائط التي جرت العادة بحصول الفعل عندها فصار الحاصل أن القوة مع جميع جهات حصول الفعل بها لزوما أو معها عادة مقارنة وبدون ذلك سابقة ( قال المبحث الثالث ) الجمهور على أن العجز عرض ثابت مضاد للقدرة للقطع بأن في الزمن معنى لا يوجد في الممنوع مع اشتراكهما في عدم التمكن من الفعل وعند أبي هاشم هو عدم ملكة للقدرة وليس في الزمن صفة متحققة تضاد القدرة بل الفرق أن الزمن ليس بقادر والممنوع قادر بالفعل أو من شأنه القدرة بطريق جري العادة على ما سبق ويتفرع على كون العجز ضد القدرة ما ذهب إليه الشيخ الأشعري من أنه إنما يتعلق بالموجود كالقدرة لأن تعلق الصفة الموجودة بالمعدوم خيال محض فعجز الزمن يكون عن القعود الموجود لا عن القيام المعدوم ولا خفاء في أن هذا مكابرة وأن العجز على تقدير أن يكون وجوديا وإن لم يقم عليه دليل فلا امتناع في تعلقه بالمعدوم كالعلم والإرادة ولهذا أطبق العقلاء على أن عجز المتحدين لمعارضة القرآن إنما هو عن الإتيان بمثله لا عن السكوت وترك المعارضة والقول باشتراك لفظ العجز بين عدم القدرة فيكون عدميا يتعلق بالمعدوم دون الموجود وبين صفة تستعقب الفعل لا عن قدرة فيكون وجوديا يتعلق بالموجود دون المعدوم خلاف العرف واللغة ولو سلم فالكلام فيما هو المتعارف الشائع الاستعمال ( قال وفي تضاد النوم للقدرة تردد ) لا خفاء في جواز بعض الأفعال عن النائم وامتناع الأكثر واختلفوا فيما يصدر فذهب المعتزلة وبعض أصحابنا إلى أنه مقدور له وأن النوم لا يضاد القدرة ونفاه الأستاذ أبو إسحق ذهابا إلى التضاد كالعلم والإدراك وتوقف القاضي وبعض الأصحاب وللمعتزلة في القدرة تفريعات وتفاصيل لا نطول الكتاب بذكرها ( قال ويضادها الخلق ) يريد أن من الكيفيات النفسانية الخلق وفسر بملكة تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير تقدم فكر وروية فغير الراسخ من صفات النفس لا يكون خلقا كغضب الحليم وكذا الراسخ الذي يكون مبدأ لأفعال الجوارح بسهولة كملكة الكتابة أو يكون نسبته إلى الفعل والترك على السواء كالقدرة أو يفتقر في صدور الفعل عنه إلى فكر وروية كالبخيل إذا حاول الكرم وكالكريم إذا قصد بالعطاء الشهرة ولما كانت القدرة تصدر عنها الفعل لا بسهولة واستغناء عن روية وكانت نسبتها إلى طرفي الفعل والترك على
____________________
(1/243)
السوية حكم بأنها تضاد الخلق مضادة مشهورة وهذا ما قال في التجريد أن القدرة تضاد الخلق لتضاد أحكامهما ( قال ومنها ) أي من الكيفيات النفسانية اللذة والألم وتصورهما بديهي كسائر الوجدانيات وقد يفسران قصدا إلى تعيين المسمى وتلخيصه فيقال اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم والألم إدراك المنافي من حيث هو مناف والملائم للشيء كماله الخاص أعني الأمر اللائق كالتكيف بالحلاوة للذائقة وتعقل الأشياء على ما هي عليه للعاقلة وقيد بالحيثية لأن الشيء قد يكون ملائما من وجه دون وجه فإدراكه لا من جهة الملائمة لا يكون لذة كالصفراوي لا يلتذ بالحلوى والمراد بالإدراك الوصول إلى ذات الملائم لا إلى مجرد صورته فإن تخيل اللذيذ غير اللذة ولذا كان الأقرب ما قال ابن سينا أن اللذة إدراك ونيل الوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك والألم إدراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر من حيث هو كذلك فذكر مع الإدراك النيل أعني الإصابة والوجدان لأن إدراك الشيء قد يكون بحصول صورة تساويه ونيله لا يكون إلا بحصول ذاته واللذة لا تتم بحصول ما يساوي اللذيذ بل إنما يتم بحصول ذاته وذكر الوصول لأن اللذة ليست هي إدراك اللذيذ فقط بل هي إدراك حصول اللذيذ للملتذ ووصوله إليه والفرق بين الكمال والخير هو أن حصول ما يناسب الشيء ويليق به من حيث اقتضائه براءة ما لذلك الشيء من القوة إلى الفعل كمال له ومن حيث كونه مؤثرا خير ثم المعتبر كماليته وخيريته بالقياس إلى المدرك لا في نفس الأمر لأنه قد يعتقد الكمالية والخيرية في شيء فيلتذ به وإن لم يكونا فيه وقد لا يعتقدهما فيما تحققتا فيه فلا يلتذ به ولهذا يحصل من شيء معين لذة أو ألم لزيد دون عمرو وبالعكس فكل من اللذة والألم نوع من الإدراك اعتبر فيه إضافة إلى ملائم أو مناف يختلف بالقياس إلى المدرك وإصابة ووجدان لذات الملائم أو المنافي من حيث هو كذلك لا للصورة الحاصلة منه وبقيد الحيثية يندفع ما يقال أن المريض قد يلتذ بالحلاوة مع أنها لا تلائمه بل يضره ويتنفر عن الأدوية وهي تلائمه وتنفعه وذكر الإمام بعد الاعتراف بأن اللذة والألم حقيقتان غنيتان عن التعريف أنا نجد من أنفسنا حالة نسميها باللذة ونعرف أن هناك إدراكا للملائم لكن لم يثبت لنا أن اللذة نفس إدراك الملائم أم غيره وبتقدير المغايرة هل هي معلولة له أم لا وبتقدير المعلولية هل يمكن حصولها بطريق آخر ثم قال والأقرب أن الألم ليس هو نفس إدراك المنافي ولا هو كاف في حصوله لأن التجارب الطبية قد شهدت بأن سوء المزاج الرطب غير مؤلم مع أن هناك إدراك أمر غير طبيعي وسنتكلم على ذلك وزعم محمد بن زكريا أن اللذة عبارة عن التبدل والخروج عن حالة غير طبيعية إلى حالة طبيعية وبه صرح جالينوس في مواضع من كلامه وهو معنى الخلاص عن الألم وذلك كالأكل للجوع والجماع لدغدغة المني وأوعيته وأبطله ابن سينا وغيره بأنه قد يحصل اللذة من غير سابقة ألم
____________________
(1/244)
وحالة غير طبيعية كما في مصادفة مال ومطالعة جمال من غير طلب وشوق لا على التفصيل ولا على الإجمال بأن لم يخطر ذلك بباله قط لا جزئيا ولا كليا وكذا في إدراك الذايقة الحلاوة أول مرة وقد يحصل ذلك التبدل من غير لذة كا في حصول الصحة على التدريج وفي ورود المستلذات من الطعوم والروائح والأصوات وغيرها على من له غاية الشوق إلى ذلك وقد عرض له شاغل عن الشعور والإدراك قالوا وسبب السهو أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات فإن الألم واللذة لا يتمان إلا بإدراك والإدراك الحسي خصوصا اللمسي لا يحصل إلا بالانفعال عن الصند ولذلك متى استقرت الكيفية الموجبة لذلك لم يحصل الانفعال فلم يحصل الإدراك فلم تحصل لذة ولا ألم وبالجملة فلما لم تحصل اللذة إلا عند تبدل الحالة الغير الطبيعية ظنوا أنها نفسه ولا خفاء في إمكان معارضة هذا الكلام بالمثل ودفعها بما سبق من الوجهين ( قال ثم كل من اللذة والألم ينقسم إلى الحسي والعقلي حسب الإدراك ) فإنه ينقسم إليهما فينحصر فيهما عند أرباب البحث أما الحسي فظاهر كتكيف العضو الذايق بالحلاوة والقوة الغضبية بتصور غلبة ما والوهم بصورة شيء يرجوه إلى غير ذلك وأما العقلي فلأن للجوهر العاقل أيضا كمالا وهو أن يتمثل فيه ما يتعلقه من الواجب تعالى بقدر الاستطاعة ثم ما يتعلقه من صور معلولاته المترتبة أعني الوجود كله تمثلا مطابقا خاليا عن شوائب الظنون والأوهام بحيث يصير عقلا مستفادا على الإطلاق ولا شك أن هذا الكمال خير بالقياس إليه وأنه مدرك لهذا الكمال ولحصول هذا الكمال له فإذن هو ملتذ بذلك وهذه هي اللذة العقلية وأما الألم فهو أن يحصل له ضد هذا الكمال ويدرك حصوله من حيث هو ضد ثم إذا قايسنا بين اللذتين فالعقلية أكثر كمية وأقوى كيفية أما الأول فلأن عدد تفاصيل المعقولات أكثر بل يكاد لا يتناهى وأما الثاني فلأن العقل يصل إلى كنه المعقول والحس لا يدرك إلا ما يتعلق بظواهر الأجسام فتكون الكمالات العقلية أكثر وإدراكاتها أتم فكذا اللذات التابعة لهما وبحسب هذا يعرف حال الآلام عند التنبه لفقد الكمالات وأما أن العالم قد لا يلتذ بالإدراكات ولا يتألم بالجهالات فلعله لانتفاء بعض الشروط والقيود المعتبرة في كون الإدراك لذة و ألما فإن قيل الحسي من اللذة والألم ينبغي أن يعد في الكيفيات المحسوسة دون الكيفيات النفسانية قلنا المدرك بالحس هو الكيفية التي يلتذ بها أو يتألم كالحلاوة والمرارة مثلا وأما نفس اللذة والألم التي هي من جنس الإدراك والنيل فلا سبيل للحواس الظاهرة إلى إدراكها ( قال والحسي من الألم سيما اللمسي يسمى وجعا ) لا شك أن لفظ اللذة أو الألم بحسب اللغة إنما هو للحسي دون العقلي وأما بحسب العرف فالظاهر أنه بحسب الاشتراك المعنوي حيث يوجد الإدراك أعم من الأحساس والتعقل ولا يرد الاعتراض بأن المدقوق قد يتعقل أن فيه حرارة غير طبيعية ولا يتألم بذلك لأن الحاصل بهذا التعقل صورة الحرارة المطابقة فهو إدراك ملائم لا مناف وإنما المنافي هوية الحرارة
____________________
(1/245)
الغريبة وليست بمدركة وإن كانت حاصلة لأنها صارت بمنزلة الطبيعة فلم يكن هناك انفعال وشعور فلم يكن ألم وقيل الاشتراك لفظي والتفسير إنما هو للحسي خاصة وأما الوجع فمختص بالحسي في العرف أيضا بل الأظهر اختصاصه باللمسي عل ما صرح به البعض وإن كان ظاهر كلام أئمة اللغة أنه يرادف الألم فلذا قلنا الحسي من الألم سيما اللمسي يسمى وجعا واتفقت كلمة الأطباء على أن كلا من تفرق الاتصال وسوء المزاج المختلف يقع سببا للوجع في الجملة وأن لا سبب له سواهما إما بحكم الاستقراء وإما بالاستدلال وإن كان ضعيفا وهو أن كمال العضو صحته وهي بالمزاج المعتدل والهيئة التي بها يتأتى الأفعال على ما يجب فالمنافي لهذا الكمال يكون مبطلا لاعتدل المزاج وهو سوء المزاج أو للهيئة وهو تفرق الاتصال وإنما اختلفوا في أن كلا منهما يصلح سببا بالذات كما يكون بالعرض وهو مذهب ابن سينا أو السبب بالذات هو تفرق الاتصال فقط وسوء المزاج إنما يكون سببا بواسطة ما يلزمه من تفرق الاتصال وهذا هو المشهور من مذهب جالينوس وكثير من الأطباء أو بالعكس أي السبب بالذات هو سوء المزاج فقط والتفرق إنما يكون سببا بواسطته وإلى هذا مال الإمام الرازي وجمع من المتأخرين وعلى كل من المذاهب احتجاجات واعتراضات أعرضنا عنها مخافة التطويل وتفاصيلها في شرح القانون واشترط ابن سينا في سوء المزاج المولم أن يكون حارا أو باردا لا رطبا أو يابسا وأن يكون مختلفا لا متفقا أما الأول فلأن الرطوبة واليبوسة من الكيفيات الانفعالية دون الفعلية وفيه بحث لأنه إن أريد أنهما ليستا فاعليتين والمولم بالذات فاعل فيشكل بجعل اليبوسة سببا لتفرق الاتصال وكليهما لكثير من الأمراض فليكونا سببين للوجع بذلك المعنى من غير توسط تفرق الاتصال فلا ينحصر السبب فيه وفي سوء المزاج الحار أو البارد وأما السبب بالذات بمعنى المؤثر بالطبع فلا دليل على كون الحار والبارد وتفرق الاتصال كذلك وإن أريد أن الوجع إحساس ما والإحساس انفعال والانفعال لا يكون إلا عن فاعل وهما ليسا من الكيفيات الفاعلة فيشكل بتصريح ابن سينا في مواضع من كتبه بل إطباق القوم على أنهما من الكيفيات المحسوسة بل أوائل الملموسات فعند خروجهما عن الاعتدال يكونان متنافيين فإدراكهما من حيث هما كذلك يكون ألما ثم ذكر ابن سينا أن سوء المزاج اليابس قد يكون مولما بالعرض لأنه قد يتبعه لشدة التقبيض تفرق الاتصال المؤلم بالذات واعترض بأن الرطب ايضا قد يستتبعه بواسطة التمديد اللازم لكثرة الرطوبة المحوجة إلى مكان أوسع وأجيب بأن ذلك إنما يكون في الرطوبة التي مع المادة فيكون الموجب هو المادة لا الرطوبة نفسها وأما الثاني فلأن سوء المزاج المتفق غير مولم ولذلك يسمى بالمتفق والمستوي حيث شابه المزاج الأصلي في عدم الإيلام وذلك لأنه عبارة عن الذي استقر في جوهر العضو وأبطل المقاومة وصار في حكم المزاج الأصلي فلا انفعال فيه للحاسة فلا إحساس فلا ألم وأيضا
____________________
(1/246)
المنافاة إنما تتحقق بين شيئين فلا بد من بقاء المزاج الأصلي عند ورود الغريب ليتحقق إدراك كيفية منافية لكيفية العضو فيتحقق الألم وأيضا الدق أشد حرارة من الغب لأن الجسم الصلب لا يتسخن إلا عن حرارة قوية ولأنها تستعمل فيها من ذات أقوى مما يستعمل في الغب ولأنها تؤدي إلى ذوبان مفرط من الأعضاء حتى الصلبة منها وصاحب الدق لا يجد من الالتهاب ما يجده صاحب الغب وما ذاك إلا لكون سوء المزاج المتفق لا يحس به وأيضا المسحم في الشتاء يشمئز بدنه عن الماء الفاتر ويتأذى به ثم أنه بعد ذلك يستلذه ويستطيبه ثم إذا استعمل ماء حارا تأذى به ثم بعد ذلك يستلذه ثم إذا استعمل الماء الأول استبرده وتألم به وذلك لما ذكرنا واعلم أن سوء المزاج المختلف قد لا يوجع بل لا يدرك بالكلية وذلك إذا كان حدوثه بالتدريج فإن الحادث منه أولا يكون قليلا جدا فلا يشعر به وبمنافاته ثم في الزمان الثاني تكون الزيادة على تلك الحالة غير مشعور بها وكذا في كل زمان وهذا بخلاف ما يحدث دفعة فإنه لكثرته يكون مدركا ثم يستمر إدراكه ما دام مختلفا ( قال واعتراض الإمام ) إشارة إلى دفع الشبه التي أوردها الإمام على كون تفرق الاتصال سببا للوجع فمنها أن التفرق يرادف الانفصال وهو عدمي فلا يصلح علة للوجع لأنه وجودي وجوابه أن الانفصال المرادف للتفرق ليس هو عدم الاتصال بل حركة بعض الأجزاء عن البعض فلا يكون عدميا ولو سلم فلا محالة يلزمه كون هيئة العضو فاقدة كماله اللائق به وأمكن إدراكه من هذه الجهة فيكون موجعا بذاته بمعنى أنه ليس يتوسط سوء المزاج وإن كان يتوسط ما يلزمه من خروج الهيئة العضوية عن كمالها ولو سلم فالعدمي لا يلزم أن يكون معدوما ليمتنع كونه علة للوجود ولو سلم فالمراد بالسبب ههنا المعد إلى الفاعل لإعداد العضو لقبول الوجع لا المؤثر الموجد ولا امتناع في أن يكون التفرق العدمي بحيث متى حصل اقتضى الوجع كسوء المزاج ومنها أنه لو كان سببا للوجع لكان الإنسان دائما في الوجع لأنه دائما في تفرق الاتصال بواسطة الاغتذاء والتحلل لأن الاغتذاء والنمو إنما يكون بنفوذ الغذاء في الأعضاء والتحلل إنما يكون بالانفصال عن الأعضاء لا يقال هذا التفرق لكونه في غاية الصغر لا يؤلم أو لا يحس تألمه سيما وقد صار مألوفا بدوامه لأنا نقول كل تفرق وإن كان صغيرا لكن جملتها كثيرة جدا ولو كان التفرق حين ما كان مألوفا غير مؤلم لكان كل تفرق كذلك لأن حكم الأمثال واحد ومنها أن التفرق لو كان سببا بالذات لما تأخر عنه الأثر بحسب الزمان واللازم باطل لأن قطع العضو بآلة في غاية الحدة قطعا في غاية السرعة لا يحس منه بالألم إلا بعد لحظة ربما يحصل سوء المزاج وجوابهما أنا لا نعني بكون تفرق الاتصال سببا للوجع بالذات أنه نفسه تمام العلة بحيث لا يتخلف الوجع عنه أصلا بل نعني أن القدر المحسوس من التفرق فإذا كان في عضو خاص من التفات النفس إليه والشعور به من غير أن يصير مستمرا مألوفا وبشرط أن يدرك من جهة كونه
____________________
(1/247)
منافيا لكيفية العضو فهو مؤلم بالذات بمعنى عدم التوقف على سوء المزاج وإن كان إيلامه بواسطة ما يلزمه من فقدان هيئة العضو كماله اللائق به وحينئذ يجوز أن لا يكون التفرق في الاغتذاء والتحلل قدر ما يدركه الحس أو يكون مألوفا لا يضر ولا يؤلم أو يكون إدراكه لا من جهة كونه منافيا وتفرقا بل من جهة كونه ملائما ونافعا للبدن ببقاء الصحة والقوة وبقاء البدن من الفضول وما ذكر من لزوم استواء التفرقات في الأحكام ظاهر الفساد كيف والتفرق الغذائي طبيعي دائم في أجزاء صغيرة مألوف يترتب عليه للبدن مصالح كثيرة وقطع العضو ليس كذلك وأما قطع العضو سريعا بآلة في غاية الحدة فإن كان مع التفات النفس والشعور فلا نسلم تأخر الألم وإن كان بدونه فلا إشكال ألا يرى أن من انصرف فكرته إلى أمر أهم شريف كالتأمل في مسألة علمية أو خسيس كاللعب بالنرد والشطرنج أو متوسط كالابتلاء بوجع أقوى أو الوقوع في معركة أو الاهتمام بمهم دنيوي ربما لا يدرك ألم الجوع والعطش وكثير من المؤذيات وكذا المستلذات ومنها أنه لو كان سببا لكانت الجراحة العظيمة أقوى إيلاما من لسعة العقرب لكون التفرق في الجراحة أكثر وجوابه أن ذلك إنما يلزم لو كان ألم لسعة العقرب أيضا لتفرق الاتصال وهو ليس بلازم لجواز أن يكون لما يحصل بواسطة السمية من سوء مزاج مختلف أقوى تأثيرا من الجراحة العظيمة ( قال ومنها ) أي من الكيفيات النفسانية الصحة والمرض أما الصحة فقد عرفها ابن سينا في أول القانون بأنها ملكة أو حالة يصدر عنها الأفعال من الموضوع لها سليمة وليست كلمة أو للترديد المنافي للتحديد بل للتنبيه على أن جنس الصحة هو الكيفية النفسانية سواء كانت راسخة أو غير راسخة ولا يختص بالراسخة كما زعم البعض على ما قال في الشفاء أنها ملكة في الجسم الحيواني يصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعية وغيرها على المجرى الطبيعي غير مألوفة فأورد ما هو صحة بالاتفاق وهذا ما قيل أن جنسها هو المسمى بالحال أو الملكة وليس هناك شك في ذاتي للصحة ولا في عرضي على ما قال الإمام أنه لا يلزم من الشك في اندراج الصحة تحت الحال أو الملكة شك في شيء من مقومات الصحة بل في بعض عوارضها لأن المخالفة بين الحال والملكية إنما هي بعارض الرسوخ وعدمه وإنما قدم الملكة على الحال في الذكر مع أنها متأخرة عنه في الوجود حيث تكون الكيفية أولا حالا ثم تصير ملكة لأن الملكة لرسوخها أشرف من الحال ولأنها أغلب في الصحة وقال الإمام لأنها لم يقع اختلاف في كونها صحة بخلاف الحال ولأنها غاية الحال والغاية متقدمة في العلية وهذا التعريف يتناول صحة الإنسان وغيره من الحيوانات وما ذكر الإمام من أنه يتناول صحة النبات أيضا وهو ما إذا كان أفعاله من
____________________
(1/248)
الجذب والهضم سليمة ليست بمستقيم لأن الحال والملكة إنما تكونان من الكيفيات النفسانية أي المختصة بذوات الأنفس الحيوانية على ما صرحوا به وعلى هذا يكون في تعريف الشفاء تكرارا اللهم إلا أن يراد بالملكة والحال الراسخ وغير الراسخ من مطلق الكيفية أو يراد بالأنفس أعم من الحيوانية والنباتية وكلاهما خلاف الاصطلاح وأما ما ذكره في موضع آخر من القانون أن الصحة هيئة يكون بها بدن الإنسان في مزاجه وتركيبه بحيث تصدر عنه الأفعال كلها صحيحة سليمة فمبني على أن الصحة المبحوث عنها في الطب هي صحة الإنسان والمراد بصحة الأفعال وسلامتها خلوصها عن الآفة وكونها على المجرى الطبيعي على ما يناسب المعنى اللغوي فلا يكون تعريف صحة البدن والعضو بها تعريف الشيء بنفسه وهذا ما قال الإمام أن الصحة في الأفعال أمر محسوس وفي البدن غير محسوس وتعريف غير المحسوس بالمحسوس جائز وأما الاعتراض بأن قوله تصدر عنها الأفعال مشعر بأن المبدأ هي تلك الملكة أو الحال وقوله من الموضوع مشعر بأنه الموضوع أعني البدن أو العضو فأجيب عنه بوجهين
أحدهما أن الصحة مبدأ فاعلي والموضوع قابل والمعنى كيفية تصدر عنها الأفعال الكائنة من الموضوع الحاصلة فيه
وثانيهما أن الموضوع فاعل والصحة واسطة بمنزلة العلة الفاعلية والمعنى تصدر لأجلها وبواسطتها الأفعال من الموضوع وتحقيقه أن القوى الجسمانية لا تصدر عنها أفعالها إلا بشركة من موضوعاتها فالمسخن هو النار والنارية علة لكون النار مسخنة فالمراد أن الصحة علة لصيرورة البدن مصدرا للفعل السليم وهذا المعنى واضح في عبارة القانون في التعريف الثاني وأوضح منه في عبارة الشفاء لأن اللام أوضح في التعليل من الباء وهي من عن فاندفاع الاعتراض عنهما في غاية الظهور والإمام إنما أورده على العبارة الأولى فما ذكر في المواقف أن الصحة ملكة أو حالة تصدر بها الأفعال عن الموضوع لها سليمة وأن الإمام أورد عليه هذا الاعتراض ليس على ما ينبغي وأما المرض فقد عرفه ابن سينا بأنه هيئة مضادة للصحة أي ملكة أو حالة تصدر عنها الأفعال عن الموضوع لها غير سليمة وذكر في موضع من الشفاء أن المرض من حيث هو مرض بالحقيقة فهو عدم لست أعني من حيث هو سوء مزاج أو ألم وهذا مشعر بأن بينهما تقابل الملكة والعدم ووجه التوفيق بين كلاميه على ما أشار إليه الإمام هو أن الصحة عنده هيئة هي مبدأ لسلامة الأفعال وعند المرض تزول تلك الهيئة وتحدث هيئة هي مبدأ للآفة في الأفعال فإن جعل المرض عبارة عن عدم الهيئة الأولى وزوالها فبينهما تقابل العدم والملكة وإن جعل عبارة عن نفس الهيئة الثانية فتقابل التضاد وكأنه يريد أن لفظ المرض مشترك بين الأمرين أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وإلا فالإشكال بحاله وقيل المراد أن بينهما تقابل العدم والملكة بحسب التحقيق وهو العرف الخاص على ما مر أو تقابل التضاد بحسب الشهرة وهو العرف العامي لأن المشهور أن الضدين أمران ينسبان إلى موضوع واحد ولا يمكن أن يجتمعا كالزوجية
____________________
(1/249)
والفردية لا بحسب التحقيق ليلزم كونهما موجودين في غاية التخالف تحت جنس قريب وقد صرح بذلك ابن سينا حيث قال أن أحد الضدين في التضاد المشهوري قد يكون عدما للآخر كالسكون للحركة والمرض للصحة لكن قوله هيئة مضادة ربما يشعر بأن المرض أيضا وجودي كالصحة ولا خفاء في أن بينهما غاية الخلاف فجاز أن يجعلا ضدين بحسب التحقيق مندرجين تحت جنس هو الكيفية النفسانية واعترض الإمام بأنهم اتفقوا على أن أجناس الأمراض المفردة ثلاثة سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال ولا شيء منها بداخل تحت الكيفية النفسانية المسماة بالحال أو الملكة أما سوء المزاج فلأنه إما نفس الكيفية الغريبة التي بها خرج المزاج عن الاعتدال على ما يصرح به حيث يقال الحمى حرارة كذا وكذا وهي من الكيفيات المحسوسة وأما اتصاف البدن بها وهو من مقولة ان ينفعل وأما سوء التركيب فلأنه عبارة عن مقدار أو عدد أو وضع أو شكل أو انسداد مجرى مخل بالأفعال وليس شيء منها داخلا تحت الحال والملكة وكذا اتصاف البدن بها وذلك لأن المقدار والعدد من الكميات والوضع مقولة برأسها والشكل من الكيفيات المختصة بالكميات والاتصاف من أن ينفعل ولم يتعرض للانسداد وكأنه يجعله من الوضع أو أن ينفعل وإما تفرق الاتصال فلأنه عدمي لا يدخل تحت مقولة أصلا وإذا لم يدخل المرض تحت الحال والملكة لم يدخل الصحة تحتها لكونه ضدا لها هذا حاصل تقرير الإمام لا ما ذكر في المواقف من أن سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال إما من المحسوسة أو الوضع أو عدم التركيب فإنه اختصار مخل أو العذر بأنه لم يعتد بباقي المحتملات لظهور بطلانها ظاهر البطلان لأن قولنا سوء التركيب إما مقدار يخل بالأفعال أو عدد أو وضع أو انسداد مجرى كذلك ليس بيانا للمحتملات بل للأقسام فليفهم وتقرير الجواب بعد تسليم كون التضاد حقيقيا أن تقسيم المرض إلى سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال تسامح والمقصود أنه كيفية نفسانية تحصل عند هذه الأمور وتنقسم باعتبارها وهذا ما قيل أنها منوعات أطلق عليها اسم الأنواع وذلك كما يطلق الصحة على اعتدال المزاج أو المزاج المعتدل مع أنه من المحسوسات ( قال ثم المعتبر ) قد اختلفوا في ثبوت الواسطة بين الصحة والمرض وليس الخلاف في ثبوت حالة وصفة لا يصدق عليها الصحة ولا المرض كالعلم والقدرة والحياة إلى غير ذلك مما لا يحصى بل في ثبوت حالة لا يصدق معها على البدن أنه صحيح أو مريض بل يصدق عليه أنه ليس بصحيح ولا مريض فأثبتها جالينوس كما للناقهين والمشايخ والأطفال ومن ببعض أعضائه آفة دون البعض ورد عليه ابن سينا بأنه أهمل الشرائط التي يجب أن تراعى في حال ما له وسط وما ليس له وسط وهي أن يفرض الموضوع واحدا بعينه في زمان واحد بعينه وأن يكون الجزء واحدا بعينه والجهة والاعتبار واحدة بعينها فإن فرض إنسان واحد واعتبر
____________________
(1/250)
منه عضو واحد أو أعضاء معينة في زمان واحد وجاز أن لا يكون معتدل المزاج سوى التركيب بحيث يصدر عنه جميع الأفعال التي يتم بذلك العضو أو الأعضاء سليمة وأن لا يكون ليس كذلك فهناك واسطة وإن كان لا بد من أن يكون معتدل المزاج سوى التركيب أو لا يكون معتدل المزاج سوى التركيب إما لثبوت أحدهما دون الآخر أو لانتفائهما جميعا فليس بينهما واسطة هذا كلامه وقد اعتبر في المرض أن لا يكون جميع أفعال العضو سليمة إما لكونه عبارة عن عدم الصحة التي هي مبدأ سلامة جميع الأفعال أو عن هيئة بها يكون شيء من الأفعال مألوفا ولا خفاء في انتفاء الواسطة ح وأما إذا اعتبر في المرض أن يكون جميع الأفعال غير سليمة بأن يجعل عبارة عن هيئة بها يكون جميع أفعال العضو أعني الطبيعية والحيوانية والنفسانية مألوفة فلا خفاء في ثبوت الواسطة بأن يكون بعض أفعال العضو سليما دون البعض وإن اعتبر آفة أفعال جميع الأعضاء فثبوت الواسطة أظهر وعلى هذا يكون الاختلاف مبنيا على الاختلاف في تفسير المرض وكلام الإمام مشعر بابتنائه على الاختلاف في تفسيرهما حيث قال يشبه أن يكون النزاع لفظيا فمن نفى الواسطة أراد بالصحة كون العضو الواحد أو الأعضاء الكثيرة في الوقت الواحد أو في الأوقات الكثيرة بحيث يصدر عنه الأفعال سليمة وبالمرض أن لا يكون كذلك ومن اثبتها أراد بالصحة كون كل الأعضاء بحيث تكون أفعالها سليمة وبالمرض كون كل الأعضاء بحيث تكون أفعالها مألوفة وفي كلام ابن سينا ما يشعر بابتنائه على الاختلاف في تفسير الصحة حيث ذكر في أول القانون أنه لا تثبت الحالة الثالثة إلا أن يجدوا الصحة كما يشتهون ويشترطون شروطا ما بهم إليها حاجة وذلك مثل اشتراط سلامة جميع الأفعال لتخرج صحة من يصدر عنه بعض الأفعال سليما دون البعض ومن كل عضو لتخرج صحة من بعض أعضائه صحيح دون البعض وفي كل وقت لتخرج صحة من يصح شتاء ويمرض صيفا ومن غير استعداد قريب لزوالها لتخرج صحة المشايخ والأطفال والناقهين ( قال ومنها الفرح ) قد تعرض للنفس كيفيات تابعة لانفعالات تحدث فيها لما يرتسم في بعض قواها من النافع والضار كالفرح وهو كيفية نفسانية تتبعها حركة الروح إلى خارج البدن طلبا للوصول إلى الملذ والغم وهو ما يتبعها حركة الروح إلى الداخل خوفا من موذ واقع والغضب وهو ما يتبعها حركة الروح إلى الخارج طلبا للانتقام والفزع وهو ما يتبعها حركة الروح إلى الداخل هربا من المؤذي واقعا كان أو متخيلا والحزن وهو ما يتبعها حركة الروح إلى الداخل قليلا قليلا والهم وهو ما يتبعها حركة الروح إلى الداخل والخارج لحدوث أمر يتصور منه خير يقع أو شر ينتظر فهو مركب من رجاء وخوف فأيهما غلب على الفكر تحركت النفس إلى جهته فللخير المتوقع إلى الخارج وللشر المنتظر إلى الداخل فلذلك قيل أنه جهاد فكري والخجل وهو ما يتبعها حركة الروح إلى الداخل والخارج لأنه كالمركب
____________________
(1/251)
من فزع وفرح حيث ينقبض الروح أولا إلى الباطن ثم يخطر بباله أنه ليس فيه كثير مضرة فينبسط ثانيا وهذه كلها إشارة إلى ما لكل من الخواص واللوازم وإلا فمعانيها واضحة عند العقل وكثيرا ما يتسامح فيفسر بنفس الانفعالات كما يقال الفرح انبساط القلب والغم انقباضه والغضب غليان الدم إلى غير ذلك ( قال القسم الثالث الكيفيات المختصة بالكميات ) هي التي لا يكون عروضها بالذات إلا للكم المتصل كالاستقامة والانحناء للحط والتقعير والتقبيب للسطح وكذا الزاوية على ما سيأتي أو للكم المنفصل كالزوجية والفردية للعدد حتى أن اتصاف الجسم بهذه العوارض لا يكون إلا باعتبار ما فيه من هذه الكميات وقد يعد من الكيفيات المختصة بالكميات الخلقة التي هي عبارة عن مجموع الشكل واللون واستشكل من وجوه الأول أن أحد جزئيه أعني الشكل وإن كان من الكيفيات المختصة بالكم بناء على كونه عبارة عن هيئة إحاطة حداي نهاية بالجسم كما في الكرة المحيط بها سطح واحد أو حدود أي نهايات كما في نصف الدائرة والمثلث والمربع وغيرهما من الأشكال الحاصلة من إحاطة خطين أو أكثر لكن لإخفاء في أن جزءه الآخر أعني اللون من الكيفيات المحسوسة المقابلة للكيفيات المختصة بالكميات والجواب أن مبنى ذلك على ما قيل أن اللون من خواص السطح ومعنى كون الجسم ملونا أن سطحه ملون ولا تنافي بين كون الكيفية محسوسة وكونها مخصوصة بالكم على ما سبقت الإشارة إليه هذا ولكن الأظهر أن اللون قد ينفذ في عمق الجسم الثاني أن الكلام في الكيفية المفردة إذ لو اعتبر تركيب الكيفيات المختصة بالكميات بعضها مع البعض لكان هناك أقسام لا تتناهى مع انهم لم يعتدوا بها ولم يعدوها من أنواعها والجواب أنهم لما وجدوا الاجتماع اللون والشكل خصوصية باعتبارها يتصف الجسم بالحسن والقبح عدوا المركب منهما نوعا واحدا بخلاف مثل اللون أو الضوء مع الاستقامة أو الانحناء أو الزوجية أو الفردية إلى غير ذلك الثالث أن عروض الخلقة لا يتصور إلا حيث يكون هناك جسم طبيعي بخلاف الكيفيات المختصة بالكم فإنها إنما تفتقر إلى المادة في الوجود دون التصور على ما تقرر في تقسيم الحكمة إلى الطبيعي والرياضي والإلهي والجواب أن الأمور العارضة للكمية منها ما هي عارضة لها بسبب أنها كمية كالاستقامة والانحناء والزوجية والفردية وهي المبحوث عنها في قسم الرياضيات ومنها ما هي عارضة لها بسبب انها كمية شيء مخصوص كالخلقة وهذا لا ينافي الاختصاص بالكم واعلم أن كلامهم متردد في أن الخلقة مجموع الشكل واللون أو الشكل المنضم إلى اللون أو كيفية حاصلة من اجتماعهما وهذا أقرب إلى جعلها نوعا على حدة ( قال وبعضهم ) الجمهور على أن الشكل من الكيفيات بناء على أنه الهيئة الحاصلة من إحاطة الحد أو الحدود بالجسم لا نفس السطح المخصوص ليكون من الكم على ما يتوهم من تقسيمه إلى الدائرة والمثلث والمربع وغيرها ثم تفسير الدائرة بأنه سطح محيط به خط
____________________
(1/252)
في وسطه نقطة يكون جميع الخطوط الخارجة منها إلى ذلك الخط متساوية وتفسير المثلث بأنه سطح محيط به ثلاثة خطوط وهكذا وذلك لأن الشكل ههنا بمعنى المشكل وأما حقيقته فإنما تنقسم إلى الاستدارة والتثليث والتربيع وهي الكيفيات الحاصلة للسطوح المذكورة وليس أيضا عبارة عن الهيئة الحاصلة بسبب نسبة أجزاء الجسم بعضها إلى بعض أو إلى الأمور الخارجة ليكون من قبيل الوضع على ما زعم ثابت بن قرة ومال إليه الإمام وذلك لأن الحدود ليست أجزاء للجسم ولا للسطح فإن قيل النسبة مأخوذة في مفهومه ولا شيء من الكيف كذلك أجيب بمنع الصغرى وإنما يتم لو كان المذكور في تعريفه حدا حقيقيا له واعترض على تعريفه بأنه إنما يتناول الأشكال الجسمية دون السطحية وأجيب بأن المراد بالجسم ههنا هو التعليمي لأنه بالذات معروض الحدود السطحية كما أن السطح معروض الحدود الخطية وإنما خص التعليمي بالذكر دون الخط والسطح لأنه الذي يمكن تخيله بشرط لا شيء بخلافهما كما مر فالتحقيق أن الشكل هيئة إحاطة الحد والحدود بالسطح أو الجسم والحدود على الأول خطوط وعلى الثاني سطوح والكمية المعروضة بالذات للشكل هو الحدود المحيطة أم السطح أم الجسم المحاط فيه تردد ( قال والزاوية من الكم ) يعني ذهب بعضهم إلى أن الزاوية من الكميات لكونها قابلة للقسمة بالذات ففسروها بسطح يحيط به خطان يلتقيان على نقطة واحدة من غير أن يتحد الخطان وهذا مراد من قال أنها سطح ينتهي إلى نقطة ولا خفاء في أن هذا صادق على غير موضع تماس الخطين أيضا من الشكل وليس بزاوية فمرادهم أنها ما يلي تلك النقطة من السطح على ما صرح به من قال أنها المتحدب إلى موضع الانحداب من السطح الذي يحيطه به خطان يلتقيان على نقطة وأجيب بأنا لانم أن قبولها القسمة بالذات بل بواسطة معروضها الذي هو السطح ولو سلم فعندنا ما ينفي كونها من الكم وهو إنها تبطل بالتضعيف ولا شيء من الكم كذلك أما الكبرى فلأن التضعيف زيادة في الكم لا ابطال له وأما الصغرى فلأن الحادة تنتهي بالتضعيف مرة أو مرارا إلى قائمة أو منفرجة وكل منهما يبطل بالتضعيف مرة إما القائمة فلالتقاء الخطين على استقامة بحيث يصيران خطا واحدا وأما المنفرجة فلتأديها إلى ذلك لأن تضعيف الكم عبارة عن زيادة مثله عليه ولا يتصور ذلك إلا بزيادة كل ما هو أقل منه فلا بد في تضعيف المنفرجة من زيادة القدر الذي يكون اتصال الخطين عنده على استقامة فتبطل المنفرجة بالضرورة وحدوث الحادة في الجانب الآخر لا ينافي ذلك وأيضا لا شك أن الزاوية جنس قريب للثلاثة فإذا لم تكن القائمة من الكم لم يكن الأخريان منه والمحققون على إنها من الكيفيات المختصة بالكميات فلذا فسروها بالهيئة الحاصلة عند ملتقى الخطين المحيطين بالسطح الملتقيين على نقطة وما يقع في عبارات المهندسين من كونها سطحا وقابلا للتجزي والمساواة والمقاومة بالذات فمبني على أنهم يريدون بالزاوية
____________________
(1/253)
ذي الزاوية كما يريدون بالشكل المشكل فيقولون المثلث شكل تحيط به ثلاثة أضلاع وما ذكر إقليدس من أن الزاوية تماس الخطين فمعناه الهيئة الحاصلة عند تماسهما هذا هو الزاوية المسطحة وأما المجسمة فهي جسم يحيط به سطحان يلتقيان بخط أو الهيئة الحاصلة عند ذلك ( قال القسم الرابع الكيفيات الاستعدادية ) أي التي من جنس الاستعداد لأنها مفسرة باستعداد شديد على أن ينفعل أي تهيؤ لقبول أثر ما بسهولة أو سرعة وهو وهن طبيعي كالممراضية واللين ويسمى اللاقوة أو على أن لا تقاوم ولا تنفعل أي تهيؤ للمقاومة وبطؤ اللاانفعال كالمصحاحية والصلابة وذلك هو الهيئة التي بها صار الجسم لا يقبل المرض ويتأبى عن الانغماز ويسمى القوة فإذا حاولنا ذكر أمر يشمل القسمين ويخصهما قلنا كيفية بها يترجح القابل في أحد جانبي قبوله ومبني ذلك على أن القوة على الفعل كالقوة على المصارعة غير داخلة في هذا النوع من الكيفيات والجمهور على أنها داخلة فيه فالأمر المشترك بين الأقسام الثلاثة هو أنها استعداد جسماني كامل نحو أمر من خارج أو مبدأ جسماني به يتم حدوث أمر حادث على أن حدوثه مترجح به واستدل على كون القوة الشديدة على الفعل غير داخلة في هذا النوع بوجهين
الأول أن المصارعة مثلا يتعلق بالعلم بتلك الصناعة والقوة القوية على تلك الأفعال وهما من الكيفيات النفسانية وبصلابة الأعضاء وكونها في خلقتها الطبيعية بحيث يعسر عطفها ونقلها وذلك عائد إلى القوة على المقاومة واللاانفعال فلا يتحقق قسم ثالث
الثاني أن الحرارة لها قوة شديدة على الإحراق فلو كانت داخلة في هذا الجنس مع دخولها في الجنس المسمى بالانفعاليات أعني الراسخ من الكيفيات المحسوسة لزم تقومها بجنسين ودخولها تحت قسمين متقابلين وكلا الوجهين مبني على أن الكيفيات المحسوسة المسماة بالانفعاليات أو الانفعالات والكيفيات النفسانية المسماة بالملكة أو الحال والكيفيات المختصة بالكميات والكيفيات الاستعدادية أقسام من الكيف متباينة بالذات يمتنع صدق البعض منها على شيء مما صدق عليه الآخر وإلا فلا يمتنع أن تكون القدرة من حيث اختصاصها بذوات الأنفس من الكيفيات النفسانية والحررة من حيث كونها مدركة بالحس من المحسوسات وكل منهما من حيث كونها قوة شديدة فاعلة بالسهولة من الكيفيات الاستعدادية كما ذكروا أن اللون والاستقامة والانحناء ونحو ذلك من المختصة بالكميات مع كونها من المحسوسات ( قال الفصل الرابع في الأين ) وهو النسبة إلى المكان أعني كون الشيء في الحيز وللقوم في تحقيق مباحثه طريقان أحدهما للمتكلمين والآخر للفلاسفة وللقدماء من المتكلمين في طريقهم شعب وتفاريع قليلة الجدوى لا نطول الكتاب بذكرها بل نقتصر على ما يهمنا فنقول المتكلمون يعبرون عن الاين أعني حصول الجوهر في الحيز بالكون ويعترفون بوجوده
____________________
(1/254)
وإن أنكروا وجود سائر الأعراض النسبية وقد حصروه في أربعة أنواع هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون لأن حصول الجوهر في الحيز أما أن يعتبر بالنسبة إلى جوهر آخر أولا وعلى الأول أما أن يكون بحيث يمكن أن يتوسطهما ثالث فهو الافتراق وإلا فالاجتماع واعتبر إمكان تخلل الثالث دون تحققه ليشمل افتراق الجوهرين بتخلل الخلاء فإنه لا ثالث بينهما بالفعل بل بالإمكان وعلى الثاني أن كان مسبوقا بحصوله في حيز آخر فهو الحركة وإن كان مسبوقا بحصوله في ذلك الحيز فالسكون فيكون السكون حصولا ثانيا في حيز أول والحركة حصولا أول في حيز ثان وأولية الحيز في السكون قد لا يكون تحقيقا بل تقديرا كما في الساكن الذي لا يتحرك قطعا فلا يحصل في حيز ثان وكذا أولية الحصول في الحركة لجواز أن ينعدم المتحرك في آن انقطاع الحركة فلا يتحقق له حصول ثان فإن قيل إذا اعتبر في الحركة المسبوقية بالحصول في حيز آخر لم يكن الخروج من الحيز الأول حركة مع أنه حركة وفاقا قلنا إنما يلزم ذلك لو لم يكن الخروج من الحيز الأول نفس الحصول الأول في الحيز الثاني على ما صرح به الآمدي وتحقيقه أن الحصول الأول في الحيز الثاني من حيث الإضافة إليه دخول وحركة إليه ومن حيث الإضافة إلى الحيز الأول خروج وحركة منه ثم الاجتماع لا يتصور إلا على وجه واحد والافتراق يتصور على وجوه متفاوته في القرب والبعد حتى ينتهي غاية القرب إلى المجاوة التي هي الاجتماع ومن أسمائها المماسة أيضا على ما يراه الأستاذ أبو إسحق وهو أقرب إلى الصواب مما ذكره الشيخ والمعتزلة من أن المماسة غير المجاورة بل هي أمر يتبعها ويحدث عقيبها وظاهر عبارة المواقف يشعر بأن المجاورة افتراق حيث قال الافتراق مختلف فيه قرب وبعد متفاوت ومجاورة ( قال وقيامه بواحد ) قد يتوهم أن اجتماع الجوهرين عرض قائم بهما فيلزم قيام العرض الواحد بمحلين فنفى ذلك بأن لكل من الجوهرين اجتماعا يقوم به مغايرا بالشخص للاجتماع القائم بالآخر ( قال وأما الحصول ) لإخفاء في أن قولهم حصول الجوهر في الحيز إذا لم يعتبر بالنسبة إلى جوهر آخر فإما أن يكون مسبوقا بحصوله في ذلك الحيز أو في حيز آخر ليس بحاصر لجواز أن لا يكون مسبوقا بحصول أصلا فلذا ذهب بعض المتكلمين إلى أن الأكوان لا تنحصر في الأربعة كما فرضنا إن الله تعالى خلق جوهرا فردا ولم يخلق معه جوهرا آخر فكونه في أول زمان الحدوث ليس بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق وأجاب القاضي وأبو هاشم بأنه سكون لكونه مماثلا للحصول الثاني في ذلك الحيز وهو سكون بالاتفاق واللبث أمر زائد على السكون غير مشروط فيه وإلى هذا يؤول ما قال الأستاذ أنه سكون في حكم الحركة حيث لم يكن مسبوقا بحصول آخر في ذلك الحيز وعلى هذا لا يتم ما ذكر في طريق الحصر بل طريقه أن يقال أنه إن كان مسبوقا بحصوله في حيز
____________________
(1/255)
آخر فحركة وإلا فسكون ويرد عليه السكون بعد الحركة حيث يصدق عليه أنه حصول مسبوق بالحصول في حيز آخر وإن كان مسبوقا بالحصول في ذلك الحيز أيضا فالأولى أن يقال أنه إن اتصل بحصول سابق في حيز آخر فحركة وإلا فسكون أو يقال أنه إن كان حصولا أول في حيز ثان فحركة وإلا فسكون فيدخل في السكون الكون في أول زمان الحدوث وتخرج الأكوان المتلاحقة في الأحيان الملاصقة أعني الأكوان التي هي أجزاء الحركة فلا تكون الحركة مجموع سكنات وذلك لأنه لا يلزم من عدم اعتبار اللبث في السكون أن يكون عبارة عن مجرد الحصول في الحيز من غير اعتبار قيد يميزه عن أجزاء الحركة اللهم إلا أن يبنى ذلك على أن الكون الأول في الحيز الثاني يماثل الكون الثاني فيه وهو سكون وفاقا فكذا الأول ويكون هذا إلزاما لمن يقول بتماثل الحصول الأول والثاني في الحيز الأول فكذا في الحيز الثاني فالتزم القاضي ذلك وذهب إلى أن الكون الأول في الحيز الثاني وهو الدخول فيه سكون وبنى على ذلك أن كل حركة سكون من حيث أنها دخول في حيز وليس كل سكون حركة كالكون الثاني فإن قيل الحركة ضد السكون فكيف تكون نفسه أو مركبة منه أجيب بأن التضاد ليس بين الحركة والسكون مطلقا بل بين الحركة من الحيز والسكون فيه وإما بين الحركة إلى الحيز والسكون فيه فلا تغاير فضلا عن التضاد لأنها عبارة عن الكون الأول فيه وهو يماثل الكون الثاني الذي هو سكون بالاتفاق واعترض الآمدي بمنع تماثل الحصولين واشتراكهما في كون كل منهما موجبا للاختصاص بذلك الحيز لا يوجب التماثل لأنا لانم أنه أخص صفاتهما النفسية كيف والحصول الأول في الحيز الثاني حركة وفاقا لكونه خروجا من الحيز الأول فلو كان مماثلا للحصول الثاني فيه لزم أن يكون هو أيضا حركة ولا قائل به فإن أجيب بأن عدم المسبوقية بالحصول في ذلك الحيز معتبر في الحركة فيصدق على الحصول الأول دون الثاني قلنا فكذا عدم الاتصال بالحصول في حيز آخر معتبر في السكون فيصدق على الحصول الثاني دون الأول وحاصله أن الكلام إلزامي لمن يقول بتماثل الحصولين وبأن كون الثاني سكونا يستلزم كون الأول كذلك وذكر في المواقف أنه إذا اعتبر في الحركة عدم المسبوقية بالحصول في ذلك الحيز لا المسبوقية بالحصول في حيز آخر بطل قولهم أن الحركة مجموع سكنات فإن أراد أن السكون الذي هو الحصول الثاني لا يكون حينئذ جزءا للحركة فلا يكون عبارة عن مجموع السكنات بل عن بعضها فغلط من باب إيهام العكس لأن معنى قولهم هي مجموع سكنات إن كل جزء لها سكون وهو لا يستلزم أن يكون كل سكون جزءا لها وإن أراد أن مجرد الحصول الأول في الحيز الأول يكون حينئذ حركة مع أنه ليس مجموع سكنات فله وجه فإن قيل هذا وارد على التقدير الآخر أيضا وهو أن يعتبر في الحركة المسبوقية بالحصول في حيز آخر لأن الحصول في هذا
____________________
(1/256)
الحيز سواء قيد بالمسبوقية بالحصول في حيز آخر أو بعدم المسبوقية بالحصول في ذلك الحيز أو لم يقيد بشيء أصلا فهو واحد لا مجموع قلنا مرادهم أن الحركة مجموع الحصولين في الحيزين على ما يفصح عنه قولهم أنها مجموع سكنات لا مجرد الحصول في الحيز الثاني المقيد بالحصول في حيز سابق على ما يفهم من ظاهر العبارة وهذا لا يتأتى إلا على تقدير أن يشترط في الحركة الحصول في حيز سابق وتوجيه اعتراض الآمدي حينئذ أنه لو تماثل الحصول الأول والثاني في حيز واحد لكان الحصول الثاني في الحيز الثاني جزءا من الحركة كالأول ( قال والتحقيق ) سيجيء في طريق الفلاسفة أنه قد يراد بالحركة كون المتحرك متوسطا بين المبدأ والمنتهى بحيث يكون حاله في كل آن على خلاف ما قبله وما بعده قد يراد بها الأمر الموهوم الممتد من المبدأ إلى المنتهي والمتكلمون بالنظر إلى الأول قالوا أنها الحصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر وبالنظر إلى الثاني أنها حصولات متعاقبة في إحياز متلاصقة ويسمى بالإضافة إلى الحيز السابق خروجا وإلى اللاحق دخولا ثم منهم من سمى مثل هذا الحصول سكونا من غير أن يعتبر في مسماه اللبث والحصول بعد الحصول في حيز واحد وكانت الحركة بالمعنى الأول سكونا وبالمعنى الثاني مجموع سكنات وكان الحصول في أول زمان الحدوث سكونا ومنهم من اعتبر ذلك وفسر السكون بالحصول في حيز بعد الحصول فيه فلم تكن الحركة ولا أجزاؤها ولا الحصول في آن الحدوث سكونا ثم ظاهر العبارة أن السكون هو الحصول الثاني من الحصولين في حيز واحد لكن الأقرب أن المراد أنه مجموع الحصولين كما قد يحمل قولهم الحركة حصول في الحيز بعد الحصول في حيز آخر على أنها مجموع الحصولين قال ثم الحق يعني أن إطلاق الأنواع على الأكوان الأربعة مجاز لأن حقيقة الكون أعني الحصول في الحيز واحدة والأمور المميزة حيثيات وعوارض تختلف باختلاف الإضافات والاعتبارات لا فصول منوعة بل ربما لا يوجب تعدد الأشخاص فإن الكون المشخص قد يكون اجتماعا بالنسبة إلى جوهر وافتراقا بالنسبة إلى آخر وحركة أو سكونا من جهة كونه مسبوقا بحصول في حيز آخر أو في ذلك الحيز بل حركة وسكونا إذا لم يشترط في السكون اللبث فإن قيل كيف يصح ذلك والمحققون من المتكلمين كالقاضي وأشياعه قد أطلقوا القول بتضاد الأكوان الأربعة قلنا مرادهم الأكوان المتمايزة في الوجود ومعنى التضاد مجرد امتناع الاجتماع ولو من جهة التماثل لأنهم احتجوا على ذلك بأن الكونين إن أوجبا تخصيص الجوهر بحيز واحد فهما متماثلان فلا يجتمعان كالحصول الأول والثاني في حيز واحد لأن كلا منهما يسد مسد الآخر في تخصيص الجوهر بذلك الحيز وإن أوجب كل منهما تخصيصه بحيز آخر فمتضادان
____________________
(1/257)
ضرورة امتناع اجتماع حصول الجوهرين في آن واحد في حيزين فإن قيل أليس الجوهر الفرد المحفوف بستة جواهر على جهاته الست قد اجتمع فيه أكوان ستة هي مماساته لها فإن من منع ذلك ولم يجوز مماسة جوهر لآكثر من جوهر تفاديا عن لزوم التجزي فقد كابر مقتضى العقل بل الحس فإن تأليف الجسم من الجواهر عند من يقول بها لا يتصور بدون ذلك قلنا القائلون بتضاد الأكوان لا يجعلون المماسة منها بل أمرا اعتباريا ( قال المبحث الثاني ) يشير إلى أمرين اختلفوا في كل منهما أنها حركة أو سكون الأول حال الأجزاء الباطنة من الجسم المتحرك الثاني حال الجسم المستقر المتبدل محاذياته بواسطة حركة بعض ما يحيط به من الأجسام كالحجر المستقر على الأرض في الماء الجاري وكالطير الواقف في الجو عند هبوب الرياح والحق أن الأول حركة والثاني سكون بشهادة العقل والعرف وقد يستدل على الأول بأنه لو كان ساكنا مع حركة باقي الأجزاء لزم الانفكاك أي انفصال بعض الأجزاء عن البعض وبأن الأجزاء الباطنة في الأجزاء الظاهرة وهي في الحيز فتكون الباطنة أيضا فيه وقد انتقل منه إلى آخر وعلى الثاني بأنه لو كان متحركا لزم التحرك في حالة واحدة إلى جهتين مختلفتين عند اختلاف جهات حركات الأجسام المحيطة به عليه بأن يتحرك البعض عليه آخذا من يمنته إلى يسرته والبعض بالعكس والكل ضعيف احتج المخالف في الأول بأن الجزء الباطن لم يفارق حيزه الذي هو الأجزاء المحيطة به ولا حركة بدون مفارقة الحيز وأجيب بأن حيز الكل حيزه وقد فارقه وفي الثاني بأنه حصل في حيز هو ما يحيط به من الجواهر بعد الحصول في حيز آخر ولا معنى للحركة سوى هذا وبأنه قد تبدلت عليه محاذياته وهو نفس الحركة أو ملزومها وأجيب بأن حيزه البعد المفطور وهو بعد حاصل فيه ولوسلم فالحصول في الحيز الثاني إنما يكون حركة إذا كان بزواله عن الأول دون العكس وبأن تبدل المحاذيات إنما يستلزم الحركة إذا كان من جهة المتحيز بأن يزول من محاذاة إلى محاذاة فظهر أن الخلاف في الأول عائد إلى الخلاف في حيز الجزء الباطن أنه حيز الكل أعني البعد المشغول به أو الجواهر المحيطة به أم ماله خاصة من البعد أو الأجزاء المحيطة به وفي الثاني إلى الخلاف في أن الحيز هو البعد المفطور الذي لا يفارقه المستقر بتحرك الجواهر المحيطة وتبدل المحاذيات بذلك أم الجواهر المحيطة به على ما يناسب قول الفلاسفة من أنه السطح الباطن من الحاوي وعلى هذا التقدير هل يتوقف حصول الحركة على أن يكون مفارقة الحيز وتبدل المحاذيات من جهة المتحيز البتة أم يحصل بأن يزول الحيز عنه وعن محاذاته وعلى الأول تمتنع حركة الجسم في حالة واحدة إلى جهتين مختلفتين وعلى الثاني لا يمتنع كما إذا تحرك بعض الجواهر المحيطة يمنة والبعض يسرة على ما يلتزمه الأستاذ أبو إسحق وأن شدد غيره النكير عليه حقا فإن العقل
____________________
(1/258)
جازم بأن ذلك ليس بحركة وإن حركة الجسم في حالة واحدة لا تكون إلى جهتين وما ذكر في المواقف من أن هذا نزاع في التسمية ليس على ما ينبغي لأن ما ذكره الأستاذ وغيره في بيان الحيز أو الحركة إنه هذا أو ذاك ليس اصطلاحا منهم على أنا نجعله اسما لذلك وإلا لما كان لجعله من المسائل العلمية والاستدلال عليه بالأدلة العقلية معنى بل تحقيقا للماهية التي وضع لفظ الحيز أو الحركة وما يرادفه من جميع اللغات بإزائها وإثبات ذاتياتها بعد تصورها لا بالحقيقة حتى يحكم بأن هذا في حيز وذاك في حيز آخر وإن هذا متحرك وذاك ساكن ( قال الطريق الثاني للفلاسفة ) والمبحث الأول منه غني عن الشرح وأما الثاني فبيانه أن بعض الفلاسفة فسر الحركة بالخروج من القوة إلى الفعل على التدريج أو يسيرا يسيرا أولا دفعة وبنى ذلك على أن معنى هذه الألفاظ واضح عند العقل من غير احتياج إلى تصور الزمان المفتقر إلى تصور الحركة ونظر بعضهم إلى أن معنى التدريج أن لا يكون دفعة ومعنى الحصول دفعة أن يكون في آن وهو ظرف الزمان وهو مقدار الحركة فيكون التعريف دوريا ففسرها بأنها كمال أول لما هو بالقوة من حيث هو بالقوة والمراد بالكمال ههنا حصول مالم يكن حاصلا ولا خفاء في أن الحركة أمر ممكن الحصول للجسم فيكون حصولها كمالا واحترز بقيد الأولية عن الوصول فإن الجسم إذا كان في مكان وهو ممكن الحصول في مكان آخر كان له إمكانان إمكان الحصول في ذلك المكان وإمكان التوجه إليه وهما كمالان فالتوجه مقدم على الأصول فهو كمال أول والوصول كمال ثان ثم إن الحركة تفارق سائر الكمالات من حيث أنها لا حقيقة لها إلا التأدي إلى الغير والسلوك إليه فلا بد من مطلوب ممكن الحصول ليكون التوجه توجها إليه ومن أن يبقى من ذلك التوجه ما دام موجودا شيء بالقوة إذ لا توجه بعد الوصول فحقيقة الحركة متعلقة بأن يبقى منها شيء بالقوة وبأن لا يكون المتأدى إليه حاصلا بالفعل فتكون الحركة بالفعل كمالا للجسم المتحرك الذي هو بالقوة من جهة التأدي إلى المقصود الذي هو الحصول في المكان المطلوب فيكون كمالا أول لما بالقوة لكن من جهة أنه بالقوة لا من جهة أنه بالفعل ولا من جهة أخرى فإن الحركة لا تكون كمالا للجسم في جسميته أو في شكله أو نحو ذلك بل من الجهة التي هو باعتبارها كان بالقوة أعني الحصول في المكان الآخر واحترز بهذا عن كمالاته التي ليست كذلك كالصورة النوعية فإنها كمال أول للمتحرك الذي لم يصل إلى المقصد لكن لا من حيث هو بالقوة بل من حيث
____________________
(1/259)
هو بالفعل واعترض
أولا بأن ماهية الحركة وإن لم تكن بديهية واضحة عند العقل لكن لا خفاء في أن ما ذكر في هذا التعريف ليس بأوضح منها بل أخفى
وثانيا بأنه لا يصدق على الحركة المستديرة إذ لا منتهى لها بالفعل فلا يتحقق كمال أول وثان وأجيب بأن هذا ليس تعريفا للحركة يقصد بها تمييزها عما عداها أو تحصيل صورتها عند العقل بل هو تلخيص وتبيين للمعنى المسمى بالحركة أينية كانت أو غير أينية فلا يضره كون تصوره أخفى من تصور ماهية الحركة ولا كون الكمال الأول والثاني في بعض أقسام الحركة أعني المستديرة بمجرد الفرض والاعتبار دون الفعل والحقيقة وذلك لأن كل نقطة تفرض فحال الجسم المتحرك على الاستدارة بالنسبة إليها من حيث طلبها بوجه فيكون كمالا أول ومن حيث الحصول عندها وصول فيكون كمالا ثانيا ( قال وحاصل هذا المعنى ) يشير إلى أن ما ذكر بيان للمعنى المحقق الموجود من الحركة فإن لفظ الحركة يطلق على معنيين أحدهما كيفية بها يكون للجسم توسط بين المبدأ والمنتهي بحيث لا يكون قبله ولا بعده وهي حالة مستمرة غير مستقرة أي يوجد للمتحرك ما دام متحركا ولا يجتمع متقدمه مع متأخره وبها يحصل الجسم في حيز بعدما كان في حيز آخر وحقيقته كون في الوسط ينقسم إلى أكوان بحسب الفرض والتوهم وهو في نفسه واحد متصل على قياس المسافة والزمان فيما يفرض من حدود المسافة لئلا يلزم تركب الحركة من أجزاء لا تتجزأ وثانيهما الأمر المتصل المعقول للمتحرك من المبدأ إلى المنتهى والحركة بهذا المعنى لا وجود لها في الأعيان لأن المتحرك ما دام لم يصل إلى المنتهى لم توجد الحركة بتمامها فإذا انتهى فقد انقطعت الحركة وبطلت بل في الأذهان لأن للمتحرك نسبة إلى المكان الذي تركه وإلى المكان الذي أدركه فإذا ارتسمت في الخيال صورة كونه في المكان الأول ثم ارتسمت قبل زوالها عن الخيال صورة كونه في المكان الثاني فقد اجتمعت الصورتان في الخيال وحينئذ يشعر الذهن بالصورتين معا على أنهما شيء واحد وأما بالمعنى الأول فوجودها ضروري يشهد به الحس فإن قيل الحكم بالوجود في الخارج إما أن يكون على الماضي من الحركة أو على الآتي أو علي الحاضر والكل باطل إما الماضي والآني فظاهر وإما الحاضر فلأنه إن لم يكن منقسما لزم الجزء الذي لا يتجزأ لانطباق الحركة على المسافة وإن كان منقسما عاد الكلام وأجيب بأنا لا نسلم أنه لا وجود للماضي والآني غاية الأمر أنه لا وجود لهما في الحال وهو لا يستلزم العدم مطلقا وكيف لا يكون لهما وجود ومعنى الماضي ما فات بعد الوجود والآتي ما يحصل له الوجود ( قال المبحث الثالث ) الحركة تفتقر إلى ستة أمور
( 1 ) ما منه الحركة وهو المبدأ
( 2 ) ما إليه الحركة وهو المنتهى
( 3 ) ما فيه الحركة وهو المقولة أي الجنس
____________________
(1/260)
العالي الذي ينتقل المتحرك من نوع منه إلى نوع آخر أو من صنف من نوع إلى صنف آخر
( 4 ) ما به الحركة أي سببها الفاعلي وهو المحرك
( 5 ) ماله الحركة أي سببها المادي وهو المتحرك
( 6 ) الزمان الذي يقع فيه الحركة وهذا التعلق بالزمان غير تعلق الحركة التي منها الزمان لأن الحركة هناك بمنزلة المتبوع لكونها معروضا للزمان وههنا بمنزلة التابع لكونها واقعة فيه مقدرة به
أما المبدأ والمنتهى فلكل منهما ذات وعارض أعني وصف كونه مبدأ ومنتهى والعارضان قد يعتبران بالقياس إلى الحركة وهو قياس تضايف لأن المبدأ مبدأ الذي المبدأ وبالعكس وكذا المنتهى وقد يعتبر كل منهما بالقياس إلى الآخر فيتضادان إذ لا خفاء في تقابلهما وليس من عقل للشيء مبدأ عقل له منتهى ولا بالعكس وليس أحدهما عدما للآخر فلم يبق إلا التضاد والمعروضان يتضادان باعتبار هذا العارض سواء كانا متحدين بالذات كما في الحركة المستديرة إذ كل نقطة تعرض من مسافتها فهي مبدأ ومنتهى باعتبارين وبحسب آنين أو متغايرين متضادين بالذات كما في الحركة من البياض إلى السواد وكما في الحركة من غاية الذبول إلى غاية النمو أو باعتبار عارض آخر كما في الحركة من المركز إلى المحيط المتضادين من جهة كون الأول غاية البعد عن الفلك والثاني غاية القرب منه أو غير متضادين بوجه آخر كما في الحركة من نقطة من المسافة إلى نقطة أخرى ( قال وأما المقولة ) أي ما تنسب إليه الحركة من المقولات العشر أعني الجنس العالي الذي يتغير الموضوع بالتدريج من نوع منه إلى نوع أخر أو من صنف من نوع منه إلى صنف آخر واقتصر الإمام على التغير من صنف من المقولة إلى صنف آخر أي سواء كانا من نوعين أو من نوع والحركة الوضعية مما صرح به الفارابي وإن كان في كلام ابن سينا ما يوهم أنه تفرد بالاطلاع عليها وبالجملة فالذي يحققها هو أن للفلك حركة لا يخرج بها عن مكانه وإنما يتبدل بالتدريج نسبة أجزائه إلى أمور خارجة عنه أما محوية فقط كما في الفلك الأعظم وإما حاوية ومحوية كما في غيره فتتبدل الهيئة الحاصلة بسبب تلك النسبة وهو الوضع ولا نعني بالحركة في الوضع إلا التغير من وضع إلى وضع على التدريج من غير تبدل المكان فإن قيل كل جزء قد خرج عن مكانه فكذا الكل لأنه ليس إلا مجموع الأجزاء قلنا لو سلم أن هناك أجزاء بالفعل فثبوت الحكم لكل جزء لا يستلزم ثبوته بمجموع الأجزاء كما مر غير مرة على أن ما ذكر لا يتم في الفلك الأعظم عند من لا يثبت له المكان بناء على أن المكان هو السطح الباطن من الحاوي ولا حاوي له فإن قيل الثابت بالدليل من حركات الأفلاك وبالمشاهدة من حركة الكرة على نفسها ليس إلا تبدل نسبة الأجزاء المفروضة وإذا لم يكن ثبوت الحكم لكل جزء مستلزما لثبوته للكل فلا نسلم أن للفلك أو الكرة حركة وتبدل وضع قلنا هو ضروري فإنه لا معنى لوضع الكل إلا هيئة نسبة أجزائه بعضها
____________________
(1/261)
إلى البعض وإلى الأمور الخارجة ولا معنى لحركته في الوضع إلا تبدل ذلك على التدريج هذا ولكن يؤول الحاصل إلى أن الحركة الأينية للأجزاء الفرضية حركة وضعية بالإضافة إلى الكل ( قال الثالثة الكم ) الحركة في الكم تقع باعتبارين
أحدهما النمو والذبول
وثانيهما التخلخل والتكاثف ويقال في بيان ذلك أن الانتقال في الكم إما أن يكون من النقصان إلى الزيادة أو من الزيادة إلى النقصان والأول إما أن يكون بورود مادة يزيد في كمية الجسم وهو النمو أو بدونه وهو التخلخل كما في هواء باطن القارورة عند مصها والثاني إما أن يكون بنقصان جزء وهو الذبول كما في المدقوق أو بدونه وهو التكاثف كما في هواء باطن القارورة عند النفخ فيها ويتمسكون في إمكان التخلخل والتكاثف بأن الجسم مركب من الهيولي والصورة والهيولي لا مقدار لها في نفسها وإنما هي قابلة للمقادير المختلفة بحسب ما سبق من الأسباب المعدة فيجوز أن ينتقل من المقدار الصغير إلى الكبير وهو التخلخل وبالعكس وهو التكاثف وإنما بنوا ذلك على الهيولي لأنها عندهم محض قابل يتوارد عليه الصور والمقادير المختلفة من غير أن يقتضي معينا من ذلك بخلاف ما إذا جعل الجسم بسيطا واحدا متصلا في نفسه كما هو عند الحس فإنه ربما يختص كل جسم بمقدار معين لا ينتقل عنه وبهذا يندفع ما ذكره الإمام من أنه لا حاجة في ذلك إلى إثبات الهيولي بل يتأتى على رأي من يجعل المقدار زائدا على الجسم عرضا قائما به سواء كان هو بسيطا أو مركبا من الهيولي والصورة لأن نسبته إلى جميع المقادير على السوية كالهيولي ولأنه إذا كان بسيطا كان الجزء والكل متساويين في الطبيعة والحقيقة فجاز اتصاف كل منهما بمقدار الآخر مالم يمنع مانع وانتقال الجزء إلى مقدار الكل تخلخل وعكسه تكاثف نعم لا بد في ذلك من أن يصير الجزء منفصلا إذ مع كونه جزء يمتنع أن يكون على مقدار الكل ضرورة وإما الاعتراض بأنه لو جاز ذلك لجاز أن تصير القطرة على مقدار البحر وبالعكس فجوابه بعد تسليم استحالة ذلك أن انتقال الجسم عن مقداره يكون لا محالة بقاسر فجاز أن يكون للقسر حد معين لا يمكن تجاوزه كما جاز على القول بالهيولي أن يكون لكل مادة حظ من المقدار لا يتجاوزه وبالجملة فالمقصود بيان إمكان التخلخل والتكاثف وهو لا ينافي الامتناع في بعض الصور لمانع على أن اشتراط الانفصال في إمكان انتقال الجزء إلى مقدار الكل محل نظر دقيق وقد يستدل على الوقوع بأن الماء إذا تجمد يصغر مقداره وهو تكاثف والجمد إذا ذاب يعظم مقداره وهو تخلخل وبأن القارورة إذا مصت خرج منها هواء كثير فلو لم يتخلخل الباقي لزم الخلاء وإذا نفخت فيها دخلها هواء كثير فلو لم يتكاثف لزم التداخل أعني اشتغال حيز واحد بجسمين وهو ضروري الاستحالة ( قال وقد يقال ) يعني قد يراد بالتخلخل الانفشاش أي تباعد أجزاء الجسم بحيث تداخلها جسم غريب كالهواء وبالتكاثف الاندماج أي تقارب الأجزاء
____________________
(1/262)
بحيث يخرج ما بينها من الجسم القريب وهما من قبيل الوضع لرجوعهما إلى هيئة نسبة الأجزاء بعضها إلى البعض ثم لا يخفى أن هذا الانتقال بالنظر إلى الأجزاء حركة أينية وأما بالنسبة إلى الكل فحركة في الكم على طريق النمو وإن لم يكن نموا وفي الوضع بحسب الداخل حيث تبدلت نسبة الأجزاء بعضها مع البعض كما للفلك بحسب الخارج حيث تبدلت نسبتها إلى الأمور الخارجة فإن قيل فعلى الأول لا تنحصر الحركة في الكم في الاعتبارات الأربعة قلنا لا كلام في عدم الانحصار وفي أن قولنا الانتقال من النقصان إلى الزيادة لورود المادة نمو ليس على إطلاقه وإلى هذا يشير قولنا وقد يكون ازدياد المقدار بورود المادة لا على تناسب طبيعي وهو الورم أو على تناسب طبيعي لكن لا في جميع الأقطار وهو السمن فإنه وإن كان ازديادا طبيعيا بانضياف مادة الغذاء إلى المتغذي كالنمو لكنه لا يكون في الطول على تلك النسبة ولا يختص بوقت معين ولا يكون له غاية ما يقصدها الطبع بخلاف النمو ومقابل السمن هو الهزال فيكون انتقاصا طبيعيا لكن لا في جيمع الأقطار وقد يقال له الذبول أيضا وتحقيق الكلام إنه إذا ورد على الجسم ما يزيد في مقداره فإذا أحدثت الزيادة منافذ في الأصل فدخلت فيها واشتبهت بطبيعة الأصل واندفعت أجزاء الأصل إلى جميع الأقطار على نسبة واحدة في نوعه فذلك هو النمو وزواله بسبب انفصال تلك الأجزاء عن أجزاء الأصل هو الذبول وإذا لم يقو الغذاء على تفريق الأجزاء الأصلية والنفوذ فيها بل انضم إليها من غير أن تتحرك الأعضاء الأصلية إلى الزيادة وإن كان الجسم متحركا إلى الزيادة في الجملة فذلك هو السمن وانتقاصه الهزال فالمخصوص باسم النمو والذبول حركة الأعضاء الأصلية ( قال الرابعة ) يعني من المقولات التي يقع فيها الحركة الكيف ويسمى استحالة وذلك كانتقال العنب من البياض إلى السواد وانتقال الماء من البرودة إلى الحرارة شيئا فشيئا على التدريج وأنكر بعضهم ذلك فمنهم من زعم أن في الماء مثلا أجزاء نارية كامنة تبرز بالأسباب الخارجة فيحس بالحرارة ومنهم من زعم أنه يرد عليه من الخارج أجزاء نارية ومنهم من زعم أن بعض أجزائه يصير نارا بطريق الكون والفساد والكل فاسد بدلائل وإمارات ربما تلحق الحكم بالضروريات على ما فصل في المطولات أدناها أن جبلا من كبريت يشتعل بقدر يسير من النار فلو كان ذلك لظهور الأجزاء النارية الكامنة لكانت لكثرتها أولى بأن يشتعلها ويحس بها أو الواردة لكانت بقدر الوارد وإن حرارة الماء الشديد السخونة لو كانت بانقلاب بعض أجزائه نارا من غير استحالة لفارقته تلك النارية صاعدة بطبعها أو انطفت ببرد الماء ورطوبته فلم يحس بها على إنك ستعرف في بحث الكون والفساد أن الماء لا يصير نارا لا بعد صيرورته هواء وحينئذ يتصعد بطريق البخار ( قال والحق ) قد سبقت إشارة إلى أن الحركة الوضعية عائدة إلى الحركة الأينية فههنا يريد نفي الحركة في الكم
____________________
(1/263)
والكيف مع التنبيه على منشأ توهمهما وذلك إنا نجد الجسم ينتقل على سبيل التدريج من كمية إلى كمية أخرى أزيد أو أنقص ومن كيفية إلى كيفية أخرى تضاد الأولى أو تماثلها من غير أن يظهر لنا تفاصيل ذلك وأزمنة وجود كل منها فنتوهم أن ذلك حركة إذ لا نعقل من الحركة إلا تغيرا على التدريج لكن لا حركة عند التحقيق لأن معنى التدريج المعتبر في الحركة أن لا يكون دفعة لا بحسب الذات ولا بحسب الأجزاء والانتقال ههنا إنما هو دفعات يتوهم من اجتماعها التدريج لأن ما بين المبدأ والمنتهى من مراتب الكميات أو الكيفيات متمايزة بالفعل ينتقل الجسم من كل منها إلى آخر دفعة كما في صيرورة الأرض ماء ثم هواء ثم نارا مع الاتفاق على أن مجموع ذلك ليس حركة جوهرية من الأرض إلى النار لظهور تفاصيل المراتب وأزمنة وجوداتها ويدل على نفي الحركة في الأمور المتمايزة بالفعل سواء كانت كميات أو كيفيات أو جواهر أن الوسط بين المبدأ والمنتهى إن كان واحدا فظاهر أنه لا حركة وإن كان كثيرا فتلك الكثرة سواء كان اختلافها بالنوع أو بالعدد إما أن تكون غير متناهية وهو محال ضرورة كونها محصورة بين حاصرين وإما أن تكون متناهية وهو يستلزم تركب الحركة من أمور لا تقبل القسمة إذ لو انقسمت إلى أمور متغايرة تنقل الكلام إلى كل واحد منها وهلم جرا فيكون ما فرض متناهيا غير متناه هف وتركب الحركة مما لا يقبل الانقسام باطل لاستلزامه وجود الجزء الذي لا يتجزأ وكون البطء لتخلل السكتات أما الأول فلانطباق الحركة على ما فيه الحركة وأما الثاني فلأن السريع إذا تحرك جزءا فالبطيء إن تحرك مثله دائما لزم تساويهما أو أكثر لزم كونه أسرع أو أقل لزم انقسام مالا ينقسم فلم يبق إلا أن يكون له فيما بين أجزاء الحركة سكنات وسيجيء بيان بطلان اللازمين وهذا بخلاف الحركة الأينية فإن الوسط الذي بين المبدأ والمنتهى أعني امتداد المسافة واحد بالفعل يقبل بحسب الفرض انقسامات غير متناهية فإن قيل يجوز أن يكون كل واحد من تلك الآحاد المتناهية قابلا لانقسامات غير متناهية فلا يلزم تركب الحركة مما لايقبل الانقسام قلنا هذا غير مفيد إذ التقدير أن الانتقال إلى كل من تلك الآحاد دفعي والحاصل أن امتناع تركب الحركة مما لا ينقسم يقتضي أن يكون امتدادها الموهوم منطبقا على أمر قابل لانقسامات غير متناهية على ما هو شأن الكم المتصل سواء كان عارضا بجسم واحد كما في الحركة في الماء أو لأجسام مختلفة كما في الحركة من الأرض إلى السماء لا على كم منفصل متناهي الآحاد سواء كان معروضه جوهرا أو كما متصلا أو كيفا أو غير ذلك وبهذا يندفع ما يتوهم من أنه إذا جازت الحركة في المسافة لكونها معروضة لما يقبل الانقسام لا إلى نهاية ففي الكم القابل لذلك بحسب ذاته أولى ( قال ولا يثبت للحركة في باقي المقولات ) يعني لا دليل على ثبوت الحركة في الجوهر والمتى والإضافة
____________________
(1/264)
والملك وأن يفعل وأن ينفعل بل ربما يقام الدليل على نفيها أما الجوهر فلأنه بعد ثبوت الكون وتوارد الصور على المادة الواحدة فالانتقال إلى كل منها دفعي لأن الجوهر لا يقبل الأشداد فلا يكون حدوثه على التدريج وذلك لأنه لو قبل الاشتداد فإما أن يبقى في وسط الاشتداد نوع الجوهر الذي منه الانتقال فلا يكون التغير فيه بل في لوازمه أو لا يبقى فيكون ذلك انتفاء لااشتدادا وهذا منقوض بالحركة في الكيف وقد يحتج بأن المتحرك لا بد أن يكون موجودا والمادة وحدها غير موجودة لما سيجيء من امتناع وجودها بدون الصورة وتحقيقه أن الحركة في الصور إنما تكون بتعاقب الصور على المادة بحيث لا تبقى صورة زمانا وعدم الصورة توجب عدم المادة لكونها مقومة للمادة بخلاف الكيف فإن عدمه لا يوجب عدم المحل وجوابه ما سيجيء من أن تقوم المادة إنما هو بصورة ما فعدم الصورة المعينة إنما يوجب عدمها لو لم يستعقب حدوث صورة أخرى وأما ما قيل من أن تغيرات الجواهر أعني الأجسام بصورها لا تقع في زمان لأن الصور لا تشتد ولا تضعف بل تقع في آن وتغيراتها بكيفياتها وكمياتها وألوانها وأوضاعها تقع في زمان لأنها تشتد وتضعف ومعنى الاشتداد هو اعتبار المحل الواحد الثابت بالقياس إلى حال فيه غير قار تتبدل نوعيته إذا قيس ما يوجد فيه في آن ما إلى ما يوجد في آن آخر بحيث يكون ما يوجد في كل آن متوسطا بين ما يوجد في الآنين المحيطين به ويتجدد جميعها على ذلك المحل المتقوم دونها من حيث هو متوجه بتلك التجددات إلى غاية ما ومعنى الضعف هو ذلك المعنى بعينه إلا أنه يوجد في آن آخر من حيث هو متصرف بها عن تلك الغاية فالأخذ في الشدة والضعف هو المحل لا الحال المتجدد المتصرم ولا شك أن مثل هذا الحال يكون عرضا لتقوم المحل دون كل واحدة من تلك الهويات وأما الحال الذي تتبدل هوية المحل المتقوم بتبدله وهي الصورة فلا يتصور فيها اشتداد ولا ضعف لامتناع تبدلها على شيء واحد متقوم يكون هو هو في الحالين فجمع بين الوجهين مع تفصيل وتحقيق ويرد عليه ما سبق مع أنا لانم تبدل هوية المادة تبدل الصورة وقد صرح ابن سينا بأن الوحدة الشخصية للمادة مستحفظة بالوحدة النوعية للصورة لا بالوحدة الشخصية وأما المتى فذكر في النحاة أنه لا بد للحركة من متى فلو وقعت حركة في المتى لكان للمتى متى وهو باطل وذكر في الشفاء أن الانتقال فيه دفعي لأن الانتقال من سنة إلى سنة ومن شهر إلى شهر يكون دفعة ثم قال ويشبه أن يكون حالة كحال الإضافة في أن الانتقال لا يكون فيه بل يكون الانتقال الأول في كم أو كيف ويكون الزمان لازما لذلك التغير فيعرض بسببه فيه التبدل كما أن الإضافة طبيعة غير مستقلة بل تابعة لغيرها فإن كان المتبوع قابلا للأشد والأنقص فكذا الإضافة إذ لو بقيت غير متغيرة عند تغير شيوعها لزم استقلالها قال الإمام وهذا هو الحق لأن متى نسبة إلى الزمان والنسبة طبيعة غير مستقلة فهي تابعة لمعروضها في التبدل والاستقرار وكذا
____________________
(1/265)
الملك لأنها مقولة نسبية وقيل لأنها توجد دفعة ثم قال وأما أن يفعل وأن ينفعل فأثبت بعضهم فيهما الحركة والحق بطلانه أما أن يفعل فلأن الشيء إذا انتقل من التبرد إلى التسخن مثلا فإن كان التبرد باقيا لزم التوجه إلى الضدين أعني البرودة والسخونة في زمان واحد وإن لم يكن باقيا بل إنما وجد التسخن بعد وقوف التبرد وبينهما زمان سكون لا محالة فليس هناك انتقال من التبرد إلى التسخن على الاستمرار وما يقال من أن الشيء قد ينسلخ عن اتصافه بالفعل يسيرا يسيرا لا من جهة ينقص قبول الموضوع لتمام ذلك الفعل بل من جهة هيئته فذلك عائد إلى أن فتور القوة أو انفساخ العزيمة أو كلال الآلة تكون يسيرا يسيرا أو بتبعية ذلك يحصل التبدل في الفاعلية فما يوهم من التغير التدريجي في أن يفعل نفسه إنما هو فيما يتم به الفعل كما إذا توهم في أن ينفعل بناء على تحققه فيما يتم به الانفعال كالقابل وهذا ما قال في المواقف الحق أنها تبع الحركة أما في القوة إرادية كانت أو طبيعية أو في الآلة وأما في القابل وأتى في القابل بلفظ أما دون أو تنبيها على ما ذكرنا فإن قيل ما ذكر في الإضافة من عدم استقلالها لكونها من الأعراض النسبية كاف في الجميع على ما أشار إليه الإمام ولا حاجة إلى ما ذكروا من التطويل والتفصيل قلنا ليس معنى عدم استقلال الإضافة مجرد كونها نسبية وإلا انتفض بالاين والوضع بل معناه كونها تابعة لمعروضها في الأحكام ولهذا قال ابن سينا بعد إثبات التضاد في الاين والمتى والوضع وأن يفعل وأن ينفعل أن التضاد لا يعرض الإضافة لأن الإضافات طبايع غير مستقلة بأنفسها فيمتنع أن يعرض لها التضاد لأن أقل درجات المعروض أن يكون مستقلا بتلك المعروضية وأما كون الأحر ضدا للأبرد كالحار للبارد فلأن الإضافة لما كانت طبيعية غير مستقلة بل تابعة لمعروضها وجب أن يكون في هذا الحكم أيضا تابعة وإلا لكانت مستقلة فيه ( قال وأما المتحرك ) غني عن الشرح ( قال وأما المحرك ) يريد انقسام الحركة بالذات إلى الأقسام الثلاثة وأما مطلق الحركة فينقسم إلى أربعة عرضية وقسرية وإرادية وطبيعية وإن كانت العرضية لاتخ عن الأقسام الثلاثة ولهذا قيل الحركة إن كانت تبعا لحركة جسم آخر فعرضية وإلا فإن كان محركها موجودا في غير الجسم المتحرك فقسرية وإن كان موجودا فيه نفسه فإن كان من شأنه الشعور والقصد فإرادية وإلا فطبيعية والمراد بكون المحرك في المتحرك أعم من أن يكون جزأ منه أو متعلقا به التعلق المخصوص كتعلق النفوس الإنسانية بأبدانها والنفوس الفلكية بأفلاكها فيعم تحرك الحجر هبوطا والإنسان يمنة ويسرة والفلك استدارة فإن قيل فعلى رأي من يجعل الممكنات كلها مستندة إلى الله تعالى ابتداء هل يتأتى هذا التقسيم أم تكون الحركات كلها قسرية قلنا بل يتأتى بأن يراد بالمحرك ما جرت العادة بخلق الحركة معه كما يفصح عنه وصفهم بعض الحركات بكونه اختياريا ( قال فحركة النفس إرادية ) قد أشكل الأمر في بعض الحركات أنها
____________________
(1/266)
من أي قسم من الأقسام الثلاثة لا سيما حركة النبض فقد كثر اختلاف الناس في أنها طبيعية أو إرادية وعلى التقديرين فأينية أو وضعية أو كمية ولكل من الفرق تمسكات مذكورة في المطولات سيما شروح الكليات ونحن نقتصر على ذكر ما هو أقرب وأصوب فنقول أما حركة النفس فإرادية باعتبار طبيعية باعتبار على ما قال بعض المتأخرين من الحكماء أنها تتعلق بالإرادة من حيث وقوع كل نفس في زمان يتمكن المتنفس من أن يقدمه على ذلك الزمان وأن يؤخره منه بحسب إرادته لكنها لا تتعلق بالإرادة من حيث الاحتياج الضروري إليها فهو طبيعي من حيث الحاجة إلى مطلق التنفس وإرادي من حيث إمكان تغير التنفسات الجزئية عن أوقات تقتضيها الحاجة ويكون وقوعها في تلك الأوقات على مجراها الطبيعي وهذا معنى ما قال صاحب القانون أن حركة التنفس إرادية يمكن أن تغير عن مجراها الطبيعي والاعتراض بأنه لا إرادة للنائم فيلزم أن لا يتنفس ليس بشيء لأن النائم يفعل الحركات الإرادية لكن لا يشعر بإرادته ولا يتذكر شعوره ولذلك قد تحرك الأعضاء بسبب الملالة عن بعض الأوضاع ويحكها عند الحاجة إلى الحك ولا يشعر بذلك وأما حركة النمو فظاهر أنها طبيعية إذ طبيعة النامي تقتضي الزيادة في الأقطار عند ورود الغذاء ونفوذه فيما بين الأجزاء وكذا النبض عند المحققين فإنها ليست بحسب القصد والإرادة ولا بحسب قاسر من خارج بل بما في القلب من القوة الحيوانية وميل الجمهور إلى أنها مكانية وقيل بل وضعية وقيل كمية فإن قيل الحركة الطبيعية لا تكون إلا إلى جهة واحدة بل لا تكون إلا صاعدة أو هابطة على ما صرحوا به قلنا ذلك إنما هو في البسائط العنصرية وأما الطبيعية النباتية أو الحيوانية فقد تفعل حركات إلى جهات وغايات مختلفة وطبيعة القلب والشرايين من شأنها للروح إحداث حركة فيها من المركز إلى المحيط وهي الانبساط وأخرى من المحيط إلى المركز وهي الانقباض لكن ليس الغرض من الانبساط تحصيل المحيط ليلزم الوقوف ويمتنع العود بل جذب الهواء البارد المصلح لمزاج الروح ولا من الانقباض تحصيل المركز بل دفع الهواء المفسد للمزاج والاحتياج إلى هذين الأمرين مما يتعاقب لحظة فلحظة فيتعاقب الآثار المتضادة عن القوة الواحدة ( قال ومنهم ) يعني هرب بعضهم عن الأشكال المذكورة بمنع انحصار الحركة بالذات في الأقسام الثلاثة وجعل طريق القسمة أن الحركة إما ذاتية أو عارضة والذاتية إن كانت على نهج واحد فبسيطة وإلا فمركبة والبسيطة إن كانت تابعة لإرادة فإرادية كحركة الفلك وإلا فطبيعية كالحركة الهابطة للحجر النازل من الهواء والمركبة إن لم يكن من خواص الحيوانات فنباتية كالنمو وإن كانت فإما أن تكون تابعة للإرادة وهي الإرادية كالشيء أو لا وهي التسخرية كالنبض والعارضة إن كان المحرك كجزء من المتحرك فعرضية إرادية أو مكانا له بالطبع فعرضية طبيعية وإلا فقسرية ( قال ثم العلة ) يعني أن الحركة الطبيعية في البسائط العنصرية
____________________
(1/267)
وإن كانت على نهج واحد بمعنى كونها إلى الحيز الطبيعي لكنها قد تختلف بحسب الأحوال كصعود الماء إذا وقع تحت الأرض وهبوطه إذا وقع فوق الهواء بيان ذلك أن العلة للحركة الطبيعية ليست هي الجسمية المشتركة بين الأجسام وإلا لزم دوام الحركة وعمومها للأجسام واتحاد جهة الحركات الطبيعية ضرورة تحقق المعلول عند تحقق العلة وليست أيضا الطبيعية المختصة بذلك الجسم وإلا لزم دوام الحركة لما ذكرنا بل هي الطبيعة الخاصة بشرط مقارنة أمر غير طبيعي هو زوال حالة ملائمة فيتحرك الجسم بطبعه طلبا لتلك الحالة الملائمة ويقف لطبعه عند الوصول إليه ثم لا خفاء في أن الأحوال الملائمة بطبايع الأجسام مختلفة بحسب اختلاف الطبايع مثلا الحالة الملائمة للأرض أن تكون تحت الماء والهواء والنار وللماء أن يكون فوقها وتحت الأخيرين وعلى هذا القياس فمن ههنا يختلف جهات الحركة ولما كانت الحركة لطلب الحالة الملائمة لا لمجرد الهرب عن الحالة الغير الملائمة كانت أولوية الجهة التي إليها الحركة ظاهرة ولا خفاء في أن معنى طلب الحالة الملائمة ههنا التوجه إليها بحيث إذا حصل الوصول إليها حصل الوقوف كما في الغايات الإرادية كما أن معنى الهرب عن الحالة الغير الملايمة الانصراف عنها فلا يختص هذا بالحركة الإرادية كما يتوهم من ظاهر معناهما اللغوي الموقوف على الشعور والإدراك ثم لما كان زوال الحالة الملائمة كحصول الماء في حيزه مثلا قد يكون بخروجه قسرا إلى فوق فيتوجه عند زوال القاسر إلى تحت وقد يكون بالعكس فبالعكس جاز في الحركة الطبيعية بجسم واحد أن يختلف جهتها فتارة يكون إلى فوق وتارة إلى تحت ( قال المبحث الرابع ) اختلال الحركات قد يكون بالماهية وقد يكون بالعوارض واتحادها قد يكون بالشخص وقد يكون بالنوع وقد يكون بالجنس ثم قد يوصف بالتضاد وقد يوصف بالانقسام فيشير في هذا المبحث إلى بيان ماهية الحركة وقد سبق أن الحركة تتعلق بأمور ستة فاتفقوا على أن تعلقها بثلاثة منها وهي ما فيه وما منه وما إليه بمنزلة الذاتي يختلف باختلافه ماهية الحركة وتعلقها بالثلاثة الباقية بمنزلة العرضي لا يختلف باختلافه ماهية الحركة بل باختلاف المحرك لا يختلف هويتها أيضا فبنوا على ذلك أنه إذا اتحد المبدأ والمنتهى وما فيه الحركة اتحدت الحركة بالنوع وإن اختلف المتحرك أو المحرك أو الزمان لأن تنوع المعروضات أو الأسباب لا يوجب تنوع العوارض والمسببات لجواز قيام نوع منها كالحرارة بموضوعين مختلفي الماهية كالإنسان والفرس وحصوله لمؤثرين مختلفين كالنار والشمس وبهذا يظهر أن لا أثر للاختلاف بالقسر والطبع والإرادة فالحركة الصاعدة للنار طبعا وللحجر قسرا وللطير إرادة لا تختلف نوعا وأما الأزمنة فلا يتصور فيها اختلاف الماهية ولو فرض فلا خفاء في جواز إحاطتها بحقيقة واحدة والتمسك بأنها عارضة للحركة واختلاف العارض لا يوجب اختلاف المعروض ضعيف لما سبق من أن هذا التعلق بالزمان غير
____________________
(1/268)
تعلق الحركة التي جعل الزمان عارضا لها فإنها إنما هي حركة الفلك الأعظم وإذا اختلف المبدأ والمنتهى اختلفت الحركة وإن كان ما فيه واحدا أما في الأين فكالحركة الصاعدة مع الهابطة وأما في الكيف فكالحركة من البياض إلى السواد على طريق التصفر ثم التحمر ثم التسود مع الحركة من السواد إلى البياض على طريق التحمر ثم التصفر ثم التبيض وكذا إذا اختلف ما فيه وإن اتحد المبدأ والمنتهى كالحركة من نقطة إلى نقطة على الاستقامة معها على الانحناء وكالحركة من البياض إلى السواد على طريق الأخذ في الصفرة ثم الحمرة ثم السواد معها على طريق الأخذ في الخضرة ثم النيلية ثم السواد وما ذكر في المواقف من أنه لا بد من وحدة ما فيه وما منه وما إليه إذ لو اختلف ما فيه اختلف النوع كالتسخن والتسود ليس على ما ينبغي لأن هذا إنما يصح للتمثيل دون التعليل وكأنه أراد أنه يختلف النوع عند اختلاف مجرد ما فيه كما يختلف عند اختلاف الأمور الثلاثة مثل التسخن والتسود أو كان الأصل كالتسخن والتبرد فصحف إلى التسود وأما وحدة الحركة بالتشخص فلا بد فيها من وحدة الأمور الستة سوى المحرك للقطع بأن حركة زيد غير حركة عمرو وحركة زيد اليوم غير حركته أمس وحركته من هذا الموضع غير حركته من موضع آخر وحركته من نقطة معينة إلى نقطة غير حركته منها إلى نقطة أخرى وحركته من نقطة إلى نقطة أخرى بطريق الاستقامة غيرها بطريق الانحناء وكذا في الكم والكيف والوضع لكن لا خفاء في أن وحدة ما فيه أعني وحدته الشخصية تستلزم وحدة ما منه وما إليه من غير عكس فلهذا يكتفى بوحدة الموضوع والزمان وما فيه لا يقال ينبغي أن يكتفى بوحدة الموضوع والزمان لاستلزامها وحدة المسافة ضرورة أن حركة زيد في زمان معين لا تكون إلا في مسافة معينة لأنا نقول هذا إنما يكون عند اتحاد جنس الحركة وإلا فيجوز أن ينتقل في زمان معين من أين إلى أين ومن وضع إلى وضع ومن مقدار إلى مقدار ومن كيف إلى كيف بل ومع اتحاد الجنس أيضا لا يصح على الإطلاق لجواز النمو والتخلخل والتسخن والتسود في زمان واحد وأما وحدة المحرك فلا عبرة بها في وحدة الحركة لأن الحركة الواحدة التي لا يكثر فيها بالفعل أصلا قد يقع بمؤثرات متعددة كحركة الجسم في المسافة بتلاحق الجواذب وحركة الماء في الحرارة بتلاحق النيران ولا يلزم من ذلك اجتماع المؤثرين على أثر واحد لأن تأثير كل إنما يكون في أمر آخر هو بمنزلة البعض من الحركة وهذا التبعض والتجزي لا يقدح في وحدتها على الاتصال لأنه بمجرد الوهم من غير انقسام بالفعل وكذا ما يتوهم من تكثرها باعتبار نسبتها إلى المحركات فإنه لا يبطل وحدتها الاتصالية كما يتوهم بحركة الفلك مع اتصالها انقسامات بسبب الشروق والغروب والمسامتات فإن قيل إن أريد الحركة بمعنى القطع أعني الامتداد الموهوم فلا وجود لها في الخارج أو بمعنى الكون في الوسط أعني الحالة المستمرة الغير المستقرة فهو أمر كلي والواقع بهذا المحرك جزئي مغاير للواقع
____________________
(1/269)
بذاك فلا تتصور حركة واحدة بالشخص واقعة بمحركين قلنا الظاهر هو الأول ومعنى كونه وهميا أنه بصفة الامتداد والاجتماع لا يوجد إلا في الوهم وإلا فأبعاضها المتوهمة موجودة في الخارج لكن على التجدد والانقضاء كالزمان لا على الاجتماع والاستقرار كالخط مثلا وهذا المجموع الوهمي قد يتحد بالشخص مع تعدد المحرك كالخط الواحد يقع بعض أجزائه بفاعل وبعضها بفاعل آخر لكن ميل الإمام الرازي إلى الثاني وقد حقق القول فيه بأن الحركة بمعنى التوسط بين المبدأ والمنتهى أمر موجود في الآن مستمر باستمرار الزمان ويصير واحدا بالشخص بوحدة الموضوع والزمان وما فيه وإذا فرضت للمسافة حدود معينة فعند وصول المتحرك إليها يعرض لذلك الحصول في الوسط إن صار حصولا في ذلك الوسط وصيرورته حصولا في ذلك الوسط أمر زائد على ذاته الشخصية وهي باقية عند زوال الجسم من ذلك الحد إلى حد آخر وإنما يزول عارض من عوارضها وليس الحصول في الوسط أمرا كليا يكون له كثرة عددية لأن ذلك إنما يكون لو كان في المسافة كثرة عددية حتى يقال الحصول في هذا الحد من المسافة غير الحصول في ذلك وليس كذلك لأن المسافة متصل واحد لا أجزاء لها بالفعل فالحركة فيها عند اتحاد الموضوع والزمان لا تكون إلا واحدا بالشخص وإن أمكن فرض الأجزاء فيه كالخط الواحد وذلك لأن المعتبر في الكلية إمكان فرض الجزئيات لا الأجزاء وهو غير ممكن ههنا ثم قال هذا ما عندي في هذا الموضع المشكل العسر وأنت خبير بما بين طرفي كلامه فإن قيل كيف جاز الاكتفاء بوحدة الموضوع والزمان وما فيه في الوحدة الشخصية دون النوعية حيث احتيج إلى اعتبار وحدة ما منه وما إليه أيضا قلنا لأن المعتبر في وحدة الحركة بالشخص وحدة هذه الأمور بالشخص وفي وحدتها النوعية وحدتها بالنوع وظاهر أن وحدة ما فيه بالشخص تستلزم وحدة ما منه وما إليه ووحدته بالنوع لا تستلزم وحدتهما بالنوع كما في النمو مع الذبول والتسخن مع التبرد والتسود مع التبيض ونحو ذلك بقي ههنا بحث وهو أن تنوع الحركة وما فيه وما منه وما إليه ظاهر في الكم والكيف والوضع فإن المقادير العارضة لبدن الإنسان من الطفولية إلى الكهولة مثلا أنواع مختلفة وكذا ألوان العنب وأوضاع الفلك وأما في الاين فمشكل لأنهم يجعلون الحركة الصاعدة والهابطة بين نقطتين معينتين من الأرض والسماء مختلفتين بالنوع لاختلاف ما منه وما إليه دون ما فيه والحركة من نقطة إلى نقطة على الاستقامة وأخرى بينهما على الانحناء مختلفتين بالنوع لاختلاف ما فيه دون ما منه وما إليه والحركة على الاستقامة يمنة ويسرة فرسخا أو أكثر متفقة بالنوع لعدم الاختلاف في شيء من الأمور الثلاثة فلم يعتبروا في هذا الاتفاق والاختلاف بحال طبائع الأجسام المحيطة بالمتحرك بل بحال الأيون أنفسها وظاهر أن كون الاين الذي للحجر في أسفل الهواء مخالفا بالنوع للأين الذي في أعلاه
____________________
(1/270)
وكون الأيون التي في الأوساط متفقة بالنوع تحكم إذ لا تفاوت إلا بالقرب من المركز أو المحيط وهو أمر عارض ولو أخذ مجموع المعروض والعارض وجعل نوعا فمثله ثابت في الأوساط غايته أنه لا يكون على تلك الغاية من القرب والبعد وكذا الكلام في الأيون التي تترتب على استقامة المسافة او انحنائها والتي تترتب على الاستقامة يمنة ويسرة فإن الاختلاف النوعي والاتفاق فيها مما ليس بظاهر وغاية ما يمكن في ذلك أن الحركة لما انطبقت على المسافة التي هي امتداد متصل وقد تقرر عندهم أن المستقيم والمنحنى نوعان من الكم كالاستقامة والانحناء من الكيف جعلوا الحركة أيضا كذلك ولهذا توصف هي أيضا بالاستقامة والاستدارة وهذا بخلاف الزمان المنطبق على الحركة لأنه واحد لا يعرض له التكثر والانقطاع بالفعل وأما في الصعود والهبوط فذكر الإمام أن الطرفين وإن لم يختلفا بالماهية لكنهما اختلفا بالمبدأية والمنتهية وهما متقابلان تقابل التضاد وهذا القدر كاف في وقوع الاختلاف بين الحركتين ويرد عليه أن هذا جار في كل حركة من مبدأ إلى منتهى مع الرجوع عنه إلى ذلك المبدأ إلا أن يقال لما كان مبدأ الصعود والهبوط ومنتهاهما في جهتين حقيقتين لا يتبدلان اصلا فلا يصير العلو سفلا أو بالعكس بخلاف سائر الجهات اعتبر ذلك ولهذا لا يمكن اعتبار الصاعدة هابطة أو بالعكس بخلاف الحركة يمنة ويسرة ( قال وأما أن وحدتها الجنسية ) ذكروا أن الوحدة الجنسية للحركة إنما تكون بوحدة ما فيه جنسا أعني المقولة حتى أن الحركة في الكم مع الحركة في الكيف والأين والوضع أجناس مختلفة وحركة النمو والذبول والتخلخل والتكاثف جنس واحد وكذا في الكيف وغيره وصرح الإمام بأن اتحاد حركات المقولة الواحدة اتحاد في الجنس العالي ثم يتناول على ترتيب أجناس المقولة مثلا الحركة في الكيف جنس عال وتحته الحركة في الكيفية المحسوسة وتحتها الحركة في المبصرات وتحتها الحركة في الألوان وعلى هذا القياس ولا خفاء في أن هذا إنما يصح إذا لم يكن مطلق الحركة جنسا لما تحته بل يكون مقولية الحركة على الأربع بالاشتراك اللفظي فلا يتحقق مطلق شامل أو بالتشكيك فيكون المطلق عرضيا للأقسام لا ذاتيا والأول باطل يمثل ما مر في الوجود كيف والتغير التدريجي الذي هو حاصل قولهم كمال أول لما هو بالقوة من حيث هو بالقوة مفهوم واحد يشمل الكل وأما الثاني أعني التشكيك فذهب إليه الكثيرون تمسكا بأن الحركة كمال أي وجود الشيء لشيء من شأنه ذلك والوجود مقول بالتشكيك ورد بأن الكبرى طبيعية لا كلية لأن المقول بالتشكيك مفهوم الوجود لا ما صدق هو عليه من الأفراد ومنعه آخرون لأنه لا يتصور كون بعض أقسام الحركة أولى أو أقدم أو أشد في كونها حركة بل لو أمكن نفي الاتصاف بالوجود كالعدد يكون لبعض أقسامه تقدم على البعض في الوجود لا في العددية فيكون التشكيك عائدا إلى الوجود فإن قيل على تقدير
____________________
(1/271)
التواطؤ لا يثبت الجنسية لجواز أن يكون عارضا كالماشي قلنا هذا مع أنه بعيد غير مقيد أما البعد فلأنه لا يعقل من الحركة في الكيف مثلا إلا تغير على التدريج من كيفية إلى كيفية وأما عدم الإفادة فلأن القول بأن الوحدة الجنسية يتوقف على وحدة ما فيه إنما يتم إذا ثبت عدم جنسية مطلق الحركة ولا يكفي عدم ثبوت الجنسية وقد يقال لو كانت الحركة جنسا لأقسامها لزادت المقولات على العشر لأنها لا محالة يكون جنسا عاليا بل ربما يكون فوق المقولات الأربع فيبطل كونها أجناسا عالية ويجاب بالمنع لجواز أن يكون من مقولة أن ينفعل على ما سبق مع وقوعها في المقولات الأربع بالمعنى الذي ذكرنا وإنما يلزم ما ذكر لو كانت الحركة الواقعة في الكم من الكم وفي الكيف من الكيف وفي الأين من الأين وفي الوضع من الوضع فإنه يمتنع حينئذ كون مطلق الحركة مندرجة تحت شيء من المقولات العشر لامتناع تداخلها نعم لو أريد أن الوحدة الجنسية لما يصدق عليها إنها بعض أقسام الحركة إنما يكون بالوحدة الجنسية لما فيه الحركة لكان وجها ولا ينافيه كون مطلق الحركة جنسا ( قال وأما تضادها ) لا خفاء في أن اختلاف أحوال الحركة إنما يكون لاختلاف متعلقاتها فتضاد الحركة ليس لتضاد المتحرك لأنه جسم ولا تضاد فيه بالذات ولو اعتبرنا التضاد بالعرض فقد يكون متضادا بالعرض فقد يكون متضادا مع تماثل الحركتين كحركة الحار والبارد مثل النار والماء إلى العلو وقد يكون واحدا مع تضاد الحركتين كحركة جسم من العلو إلى السفل وبالعكس أو من البياض إلى السواد وبالعكس أو من غاية نموه إلى ذبوله وبالعكس أو من انتصابه إلى انتكاسه وبالعكس ولا لتضاد المحرك لتماثلها مع تضاد المحركتين كما في الحركة الصاعدة للحجر والنار بالقوة القسرية والطبيعية المتضادتين وتضادها مع اتحاد المحرك كما في حركة الجسم صعودا وهبوطا بالإرادة أو بالقسر ولا لتضاد الزمان لأنه ليس فيه اختلاف ماهية فضلا عن التضاد ولو فرض فتضاد العوارض لا يوجب تضاد المعروضات ولا لتضاد ما فيه لأن الصعود والهبوط متضادان مع اتحاد ما فيه وكذا التسود والتبيض عند اتحاد الطريق فتعين أن يكون تضاد الحركة لتضاد ما منه وما إليه وتضادهما قد يكون بالذات كما في الحركة من السواد إلى البياض وبالعكس ومن غاية النمو الذي في طبيعة الجسم إلى غاية الذبول وبالعكس ومن الانتصاب إلى الانتكاس وبالعكس وما يقال أنه لا تضاد في الحركة الوضعية فمختصة بالمستديرة وقد يكون بالعرض كما في الحركة الصاعدة مع الهابطة بحسب ما بين مبدائهما من التضاد بعارض كون أحدهما في غاية القرب من المركز والبعد من المحيط والآخر بالعكس وكذا المنتهى فإن قيل قد ذكروا أن تضاد العارض لا يوجب تضاد المعروض فكيف أوجب تضاد عارض بعض ما يتعلق به الحركة تضاد الحركة مع أن هذا أبعد قلنا مرادهم أن ذلك بمجرده وعلى إطلاقه لا يوجب تضاد المعروض وأما إذا كان بخصوصه بحيث يوجب صدق حد الضدين على المعروض
____________________
(1/272)
أو على ما يتعلق به فلا استبعاد وههنا قد صدق بتضاد الطرفين حد الضدين على الحركتين لأنهما أعني الصاعدة والهابطة أمران وجوديان يمتنع اجتماعهما في زمان واحد من جهة واحدة مع كونهما نوعين من جنس بينهما غاية الخلاف وهذا بخلاف الحركة المستقيمة من نقطة من المسافة إلى نقطة مع الرجوع عنها إلى الأولى لا بطريق الصعود والهبوط فإنهما نوع واحد وبخلاف المستقيمة والمنحنية أو المنحنيتين وإن كانت إحداهما فوق والأخرى تحت فإنهما ليستا على غاية الخلاف لأن بين كل نقطتين قسيا غير متناهية والعظمى أشد انحناء فأشد مخالفة ولا يجوز أن يعتبر مطلق الانحناء لأنه لا يوجد في الخارج إلا في ضمن معين وكل معين يوجد فما فوقه أشد مخالفة منه وههنا مواضع بحث
الأول أن القوس التي تماس محدب الفلك المحيط في غاية الخلاف فالحركة عليها ينبغي أن تكون ضد الحركة المستقيمة لصدق الحد بجميع شرائطه
الثاني أن الصاعدة والهابطة المستقيمتين أيضا قد لا تكونان على غاية الخلاف كالصعود من وجه الأرض إلى النار والهبوط منها إليه لظهور أن الصعود إلى الفلك أشد مخالفة لذلك الهبوط والهبوط إلى مركز الأرض أشد مخالفة لذلك الصعود
الثالث أن ظاهر كلامهم هو أن المعتبر في تضاد الحركتين تضاد مبدأهما وتضاد منتهيهما جميعا فالصعود والهبوط من المركز والمحيط إلى حيز من الهواء مثلا لا يكونان متضادين لاتحاد المنتهى وكذا الصعود والهبوط منه إلى المحيط والمركز لاتحاد المبدأ وقد صرح ابن سينا بأنه لا تضاد بين حركتي الماء بالطبع من فوق الهواء ومن تحت الأرض لأنهما ينتهيان إلى نهاية واحدة ولا يظهر لهذا سبب سوى ما ذكره الإمام وهو أنهما ليستا على غاية التباعد لأن البعد بين حركة النار وحركة الأرض أكثر من البعد بين صعود الماء من المركز وهبوطه عن المحيط وعلى هذا لا يتحقق التضاد في الحركات الاينية إلا بين الصعود من المركز إلى المحيط والهبوط من المحيط إلى المركز إذ فيما سوى ذلك لا يتحقق ما اعتبروه ههنا في التضاد من غاية التباعد وكون ضد الواحد واحدا وهم مصرحون بأن حركتي الحجر علوا وسفلا بالقسر والطبع متضادتان والجواب أن تضاد الحركة لتضاد ما منه وما إليه ليس من حيث الحصول فيهما إذ لا حركة حينئذ بل من حيث التوجه فيعتبر حال الجهة وجهتا العلو والسفل متميزتان بالطبع مختلفتان بالنوع متضادتان بعارض لازم هو غاية القرب من المحيط والبعد عنه بخلاف سائر الجهات
الرابع أن الإمام قد اعتبر في تضاد الحركة تضاد المبدأ والمنتهى من حيث وصف المبدائية والمنتهية وذكر أن التعلق الذاتي للحركة لما كان بنفس الوصفين دون الذاتين إذ لو لم يعرض للنقطتين كونهما مبدأ وغاية للحركة لم يكن للحركة تعلق بهما أوجب تضاد الأطراف تضاد الحركات فإن قيل موجب تضاد الحركتين تضاد مبدأيهما وتضاد منتهيهما لا تضاد المبدأ والمنتهى قلنا معنى الكلام لأن المبدأ والمنتهى لما كانا متضادين كانت الصاعدة والهابطة مبدأهما متضادين لكونهما مبدأ ومنتهى
____________________
(1/273)
للصاعدة وكذا منتهاهما لكونهما مبدأ ومنتهى للهابطة فإن قيل فيلزم التضاد بين كل حركة مستقيمة من نقطة إلى أخرى مع الرجوع عنها إلى الأولى بل المستديرة أيضا كما إذا تحرك جسم من أول الحمل إلى أول الميزان ثم رجع عنه إلى أول الحمل بحيث يكون ممر الحركتين على الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة وبتحقق البداية والنهاية بالفعل فلا يندفع بما قيل أن الحركة على التوالي لا تضاد الحركة على خلاف التوالي لأن كلا منهما تفعل مثل ما تفعل الأخرى لكن في النصفين على التبادل مثلا المنحدر من السرطان إلى الجدي على التوالي يكون مسافته الأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والمنحدر من السرطان إلى الجدي على خلاف التوالي يكون مسافته الجوزاء والثور والحمل والحوت والدلو والصعود بالعكس فقد فعل كل منهما ما فعله الآخر لكن في النصف الآخر قلنا لو ثبت الاختلاف بالماهية وغاية الخلاف التزم التضاد وهم إنما نفوا التضاد عن الحركات المستديرة الوضعية كحركة الرحى وما ذكرت من الحركتين بين الحمل والميزان حركة أينية على الاستدارة كحركة النمل على الرحى ( قال وأما انقسامها ) لا خفاء في تطابق الحركة والزمان وما يقع فيه التغير من المقادير والكيفيات والأيون والأوضاع فعند انقسام أحد الأمور الثلاثة ينقسم الآخران ضرورة وأمر المبدأ والمنتهى ظاهر وفي المحرك تفصيل وهو أنه قد ينقسم وقد لا ينقسم وبتقدير الانقسام قد يقوى البعض منه على التحريك وقد لا يقوى وبتقدير القوة هل يكون بعض الأثر أثر البعض وبالجملة فالكلام فيه طويل وأما المتحرك فمن حيث أنه محل للحركة وانقسام المحل موجب لانقسام الحال كان ينبغي أن يكون انقسامها بانقسامه ظاهر لكنه خفي من جهة الخفاء في أن القابل للانقسام من الحركة هل هو حال في المتحرك حلول السريان كالبياض في الجسم وقد اختص ذلك في الحركة الأينية بمزيد خفاء فإن أجزاء المتحرك لا تفارق أمكنتها بالكلية بل تشبه أن تكون الأجزاء الباطنة لا تفارق أمكنتها أصلا نعم لو عرض للأجزاء انفصال كان للحركة انقسام شبيه بالانقسام في العرض لكن التغير التدريجي المسمى بالحركة على حاله وعلى امتداده فإن سمي مثل هذا انقساما للحركة بانقسام المتحرك فلا مشاحة وأما الانقسام الكمي الذي هو تكثير امتدادها الوهمي إلى ما له من الأجزاء الفرضية بحيث يحصل اسم النصف والثلث والربع ونحو ذلك فلا يتصور إلا بانقسام المسافة أو الزمان ( قال المبحث الخامس ) لا بد للحركة من زمان ومن امتداد في الأيون أو المقادير أو الكيفيات أو الأوضاع ولا بأس بتسميته مسافة وإن كان الاسم بإطلاقه لما في الأيون وهما أعني الزمان والمسافة يقبلان القسمة فإذا فرضنا قطع مسافة في زمان فقد يقطع تلك المسافة في زمان أقل أو يقطع في ذلك الزمان مسافة أقل مع أن حقيقة الحركة بحالها فلا محالة يكون ذلك نصفه في الحركة يشتد فيقطع المسافة الأطول ويسمى سرعة ويضعف فيقطع المسافة الأقصر ويسمى بطئا ولا نقدر
____________________
(1/274)
على التعبير عنهما إلا بما يلزمهما من قطع المسافة الأطول في زمان مساو والمسافة المساوية في زمان أقل وقطع المسافة الأقصر في زمان مساو والمسافة المساوية في زمان أكثر ويختلفان بحسب الاعتبار فتكون الحركة الواحدة سريعة بالنسبة إلى ما يقطع مسافتها في زمان أكثر أو يقطع في زمانها مسافة أطول وبطيئة بالنسبة إلى عكس ذلك ( قال وسبب البطء ) يعني أن المعاوقة التي تكون من نفس المتحرك كثقل الجسم يصلح سببا لبطء الحركة القسرية كما في الحجر المرمي إلى فوق والإرادية كما في صعود الإنسان الجبل لا الطبيعية لامتناع أن يكون الشيء مقتضيا لأمر ومانعا عنه والمعاوقة التي تكون من الخارج كغلظ قوام ما يتحرك فيه يصلح سببا لبطء الحركة الطبيعية كنزول الحجر في الماء والقسرية والإرادية كحركة السهم والإنسان فيه وقد يكون السبب في بطئهما نفس الإرادة كما في رمي الحجر وتحريك اليد برفق ولا خفاء في سببية هذه الأمور في الجملة لكن عند الفلاسفة من جهة أنها تصير سببيا لضعف الميل الذي هو العلة القريبة للحركة فيضعف المعلول وعند المتكلمين من جهة أنه يكثر حينئذ تخلل السكنات التي لاتخ الحركة عن شوبها وتختلف بالسرعة والبطء بحسب قلتها وكثرتها والفلاسفة نفوا ذلك بوجوه
الأول أنه لو كان البطء لتخلل السكنات لامتنع تلازم حركتين مع اتحاد الزمان واختلاف المسافة بالطول والقصر لأن الحركة التي في المسافة الأقصر تكون أبطأ ضرورة اتحاد الزمان فيكون تخلل السكنات فيها أكثر فيصدق أنه قد لا يتحرك الثاني عند تحرك الأول فلا يصدق أنه كلما تحرك الثاني تحرك الأول وبالعكس على ما هو معنى التلازم هف لكن اللازم باطل لتحقق التلازم مع تفاوت المسافة في صور كثيرة كحركة الشمس مع ما يتخيل من حركة ظلال الأشخاص وإنما قلنا يتخيل لأن الظل عرض لا حركة له بل إنما يطرأ عليه الضوء الأول أعني الضوء الحاصل من مقابلة جرم الشمس فيرى كأنه يتحرك إلى الانتقاص أو يزول الضوء الأول فيحدث الظل شيئا فشيئا فيرى كأنه يتحرك إلى الازدياد وكحركة طوقي الرحى أعني الدائرة العظيمة والصغيرة وكحركتي الشعبتين الخارجة والمتوسطة من الفرجار ذي الشعب الثلاث عند رسمها الدائرة العظيمة والصغيرة وأجيب بأنا لانم تلازم الحركتين بمعنى امتناع الانفكاك عقلا وإنما هو عادي يجوز ارتفاعه بأن تتحرك الشمس مع سكون الظل وكذا في جميع الصور غايته أنه يلزم انفكاك الرحى والفرجار وهو ملتزم
الثاني أن في الحركة البطيئة علة الحركة موجودة بشرائطها والموانع مرتفعة وإلا امتنعت الحركة فلو وقع في أثناء ذلك سكون لزم تخلف المعلول عن تمام العلة وهو محال وأجيب بأن المؤثر في الحركات بل في جميع الممكنات قدرة الفاعل
____________________
(1/275)
المختار فله أن يوجد الحركة في زمان والسكون في آخر مع كون المتحرك بحاله غاية الأمر أن جميع الحركات تكون قسرية بمعنى كونها بإيجاد الغير
الثالث أنه لو كان البطء لتخلل السكنات لزم أن لا يقع الإحساس بشيء من الحركات التي تشاهد في عالم العناصر كعدو الفرس وطيران الطائر ومرور السهم وغير ذلك إلا مشوبة بسكنات هي اضعاف آلافها واللازم ظاهر الانتفاء وجه اللزوم أن تلك الحركات لا تقطع في اليوم بليلته إلا بعض وجه الأرض وجميع الأرض بالنسبة إلى الفلك الأعظم الذي يتم في اليوم بليلته دورة مما ليس له قدر محسوس وبالجملة ففي غاية الصغر فتلك الحركات في غاية البطء فيلزم أن تتخلل حركة الفرس مثلا سكنات بقدر زيادة حركة الفلك الأعظم على حركاته ويكون الحركات مغمورة لا يحس بها أصلا فيرى الفرس ساكنا على الدوام أو يحس بها في زمان أقل من زمان السكنات بتلك النسبة فيرى ساكنا أضعاف آلاف ما يرى متحركا لأن السكون وإن كان عدميا عندهم لكن لا خفاء في أن الجسم قد يرى ساكنا وقد يرى متحركا ويعرف الحس بين الحالين وأجيب بأن تخلل السكنات بين الحركات وامتزاجها بها ليس بحيث يفرق الحس بين أزمنتها بل صارتا بمنزلة شيء واحد لا أن الحركات لكونها وجودية تظهر على الحس شيئا فشيئا تبهر السكنات وتغلبها وإن كانت السكنات في غاية الكثرة فيرى الفرس متحركا على الدوام ولا يخفى على المنصف قوة الأدلة وضعف الأجوبة ( قال ثم كل من السرعة والبطء قابل للشدة والضعف ) لا خفاء في ذلك لكن هل ينتهيان إلى حد حتى تتحقق حركة سريعة لا حظ لها من البطء وبطيئة لا حظ لها من السرعة أم لا بل لكل حركة حظ من السرعة بالنسبة إلى ما هو أبطأ ومن البطء بالنسبة إلى ما هو أسرع فيه تردد والأشبه بأصولهم هو الثاني لأن الحركة لا تكون بدون زمان ومسافة أي امتداد في إحدى المقولات الأربع وكل منهما ينقسم لا إلى نهاية وكل حركة تعرض فهي بالنسبة إلى ما يقطع تلك المسافة في نصف ذلك الزمان بطيئة وبالنسبة إلى ما يقطع في ذلك الزمان نصف تلك المسافة سريعة لكن ميل الإمام إلى الأول تمسكا بأنهما لو لم ينتهيا إلى حد لما كان بينهما غاية الخلاف فلم يتحقق التضاد فلم تتصور الشدة والضعف لكونه انتقالا من ضد إلى ضد وضعفه ظاهر وقد يتمسك بأن انقسام الزمان والمسافة قد ينتهي إلى مالا تمكن الحركة في أقل منه وإن كان قابلا للقسمة بحسب الفرض وحينئذ تتحقق بحسب ذلك الزمان سرعة بلا بطء وبحسب تلك المسافة بطء بلا سرعة وهو أيضا ضعيف لأن تلك السريعة بطيئة بالنسبة إلى ما يقطع في ذلك الزمان ضعف تلك المسافة وتلك البطيئة سريعة بالنسبة إلى ما يقطع تلك المسافة في ضعف ذلك الزمان نعم لما كانت الأبعاد متناهية فقطع أطول مسافة في أقصر زمان ربما يخلو عن البطء وأما كون حركة الفلك الأعظم أسرع الحركات فإنما هو بالنسبة إلى
____________________
(1/276)
ما هو في الوجود دون ما في الإمكان إذ لا يمتنع أن يقع في أقل من ذلك القدر من الزمان ( قال المبحث السادس ) ذهب بعض الفلاسفة والمتكلمين إلى أن بين كل حركتين مستقيمتين زمانا يسكن فيه المتحرك سواء كانت الثانية رجوعا إلى الصوب الأول أو انعطافا إلى صوب آخر ولا خفاء في أن حصول الزاوية إنما يكون على تقدير الانعطاف دون الرجوع لأن الخط واحد فعبارة التجريد وهي أنه لا اتصال لذوات الزوايا ولا انعطاف ليست على ما ينبغي وقد فسرت بأنه لا اتصال للحركات الأينية التي تفعل نقطا هي نقط زوايا الرجوع ولا التي تفعل نقطا هي نقط زوايا الانعطاف والعمدة في احتجاج الفلاسفة أن الوصول إلى النهاية أني إذ لو كان زمانيا ففي نصف ذلك الزمان إما أن يحصل الوصول فلا يكون في ذلك الزمان بل في نصفه أو لا يحصل فلا يكون المفروض زمان الوصول وكذا الرجوع أعني ابتداءه الذي قد يعبر عنه باللاوصول واللامماسة والمباينة والمفارقة فلا يرد ما قيل إن كلا من ذلك حركة وهي زمانية لا آنية ثم الآنان متغايران ضرورة فإن لم يكن بينهما زمان لزم تتالي الآنات فيكون الامتداد الزماني الذي هو مقدار الحركة متألفا من الآنات وهو منطبق على الحركة المنطبقة على المسافة فيلزم وجود الجزء الذي لا يتجزأ وإذا كان بينهما زمان ولا حركة فيه تعين السكون ولما كان منع ضرورة تغاير الآنين ظاهرا بناء على جواز أن يقع الوصول واللاوصول أعني نهاية حركة الذهاب وبداية حركة الرجوع في آن واحد هو حد مشترك بين زمانيهما كالنقطة الواحدة التي تكون بداية خط ونهاية خط آخر وليس هذا من اجتماع النقيضين أعني الوصول واللاوصول في شيء لأن معناه أن يصدق على الشيء أنه واصل وليس بواصل لا أن يحصل له الوصول وابتداء الرجوع الذي هو لا وصول كما يحصل للجسم الحركة والسواد الذي هو لا حركة قرر بعضهم هذه الحجة بوجه آخر وهو أن الحركة إنما تصدر عن علة موجودة تسمى باعتبار كونها مزيلة للمتحرك من حد ما مقربة له إلى حد آخر ميلا وهي العلة للوصول إلى الحد وإن لم يسم باعتبار الاتصال ميلا فتكون موجودة في آن الوصول إذ ليس الميل من الأمور التي لا توجد إلا في الزمان كالحركة ثم اللاوصول أعني المباينة عن ذلك الحد لا يحدث إلا بعد حدوث ميل ثان في آن ثان ضوررة امتناع اجتماع الميل إلى الشيء مع الميل عنه في آن واحد ولا استحالة تتالي الآنين يكون بينهما زمان بكون الجسم فيه عديم الميل فيكون عديم الحركة وهو معنى السكون ويرد عليه بعد تسليم نفي الجزء وثبوت كون الميل علة موجبة للوصول لا معدة ليلزم بقاؤه معه أن الآن عندكم طرف للزمان بمنزلة النقطة للخط فلا تحقق له في الخارج مالم ينقطع الزمان وإنما هو موهوم محض بما يفرض للزمان من الانقسام فكيف يقع فيه الوصول أو الرجوع وإن أردتم به زمانا لا ينقسم إلا بمجرد الوهم فلانم تغاير أني الميلين لجواز أن يقعا في آن واحد بحسب ما له من
____________________
(1/277)
الانقسام الوهمي ولو سلم فلانم استحالة تتالي الآنين بهذا المعنى وإنما يستحيل لو لزم منه وجود الجزء أعني مالا ينقسم بالوهم أيضا ولا خفاء في ضعف المنع الأول وفي أنهم يعنون بالآن مالا ينقسم أصلا حيث يعللون استحالة تتالي الآنات باستلزامه وجود الجزء وكأنهم يجعلون انقسام الزمان إلى الماضي والمستقبل كافيا في تحقق الآن أعني الطرف الذي يكون نهاية الماضي وبداية المستقبل ويحكمون على كثير من الأشياء بأنها آنية لا زمانية فإن قيل ما بال تحقق الآن لم يستلزم وجود الجزء وإلى الآنين استلزامه قلنا لأنه على تقدير التتالي يكون الامتداد الذي هو مقدار الحركة المنطبقة على المسافة متألفا من الآنات بزيادة واحد واحد ولا كذلك تحقق طرف للزمان هو عرض قائم به غير حال فيه حلول السريان وهذا كما أن ثبوت النقطة لا يستلزم الجزء وكون الخط متألفا من نقط تستلزمه وقد يقال لو صحت الحجة المذكورة لزم تتالي الآنات أو تخلل السكنات في كل حركة مستقيمة سيما إذا كانت على أجسام منضودة أو كان المتحرك لا يماس المسافة إلا بنقطة نقطة على التوالي كما إذا أدرنا كرة على سطح مستو أو ركبناها على دولاب دائر فوقه سطح مستو فإن آن الوصول إلى كل نقطة يغاير آن اللاوصول عنه فيجاب بأن انقسام المسافة ههنا سواء كانت على جسم واحد أو أجسام مختلفة محض توهم فلا تحقق للنقطة والآن بخلاف ما إذا انقطعت الحركة فتحققت لها نهاية فإنه لا بد من ذلك في المسافة أيضا لانطباقها عليها وفيه نظر لا يخفى ( قال وزعم الجبائي ) يعني أنه ثبت السكون بين الحركة الصاعدة والهابطة تمسكا بأن الحجر مثلا إنما يصعد بسبب أن اعتماده المجتلب أعني الميل القسري يغلب اعتماده اللازم أعني الميل الطبيعي ثم لا يزال يضعف بمصادمات الهواء المخروق إلى أن يغلب اللازم فيرجع الحجر هابطا والانتقال من الغالبية إلى المغلوبية لا يتصور إلا بعد التعادل وعنده يجب السكون إذ لو تحرك فإما قسرا أو طبعا وكل منهما ترجح بلا مرجح والجواب أنه لو سلم لزوم التعادل فليكن في آن الوصول لا في زمان بين آني الوصول والرجوع يكون الجسم فيه ساكنا على ما هو المدعى وإن سمي عدم الحركة في الآن سكونا كان معنى الكلام أن الحركة الأولى تنقطع وتنعدم فيحدث بعدها حركة أخرى وهذا مما لا يتصور فيه نزاع ( قال احتج المانع ) أي القائل بعدم لزوم سكون بين الحركتين بوجوه
الأول أنه لو لزم انتهاء الصاعدة القسرية إلى زمان سكون لزم بقاؤه من غير تعقب هبوط لأنه لا سبب لضعف القاسرة إلا مصادمة المخروق وهي منتفية عند السكون وأجيب بالمنع بل الطبيعة تندرج إلى القوة والقاسرة إلى الضعف بحسب الذات ولهذا تكون حركة الحجر الهابط عند القرب من الأرض أشد وما ذكر ابن سينا من أنه لولا مصادمات الهواء المخروق للقوة القسرية لوصل الحجر المرمي إلى سطح الفلك في حيز المنع
الثاني أنه لو لزم لكان إما سكونا طبيعيا وهو
____________________
(1/278)
ظاهر البطلان وإما قسريا والتقدير عدم القاسر إلى السكون وأجيب بأن تعادل القوتين قاسر إلى السكون إلى أن تغلب الطبيعة وفي كلام ابن سينا أن القوة القاسرة مسكنة للجسم في بعض الأحياز وإلى أحد هذين المعنيين ينظر ما قال الإمام أن هذا السكون لما كان ضروري الحصول لم يستدع علة كسائر اللوازم
الثالث أنه لو لزم لضرورة تعادل القوتين أو استحالة تتالي الآنين امتنع كونه في زمان ما لأن كل زمان نفرض فأقل منه كاف في دفع تلك الضرورة وأجيب بأنه يقع في زمان لا يقبل الانقسام إلا بمجرد الوهم لأنه الذي يمتنع أن يكون بعضه مقدارا للسكون وبعضه لا
الرابع أنه يستلزم وقوف الجبل الهابط بملاقاته الخردلة الصاعدة وأجيب بأن الخردلة ترجع بمصادمة ريح الجبل فسكونه يكون قبل ملاقاة الجبل فإن قيل قد نشاهد أن الملاقاة كانت حال الصعود دون الرجوع كما في السهم الصاعد بل كما في حركة اليد إلى فوق فإنه نعلم قطعا أن الرجوع لم يكن إلا بعد الملاقاة قلنا لو سلم فوقوف الجبل مستبعد لا مستحيل ( قال المبحث السابع قد يكون للجسم حركتان إلى جهة ) واحدة كالمتحرك في السفينة إلى الصوب الذي تتحرك اليد السفينة فيبعد عن المبدأ بقدر الحركتين وإلى جهتين متقابلتين كالمتحرك في السفينة إلى خلاف جهتها فإن لم يكن لإحدى الحركتين فضل على الأخرى يرى الشخص ساكنا في المبدأ وإن كان فإما لحركة السفينة فيرى بطيئا أو لحركة الشخص فيرى راجعا وعلى هذا تبين سرعة الكوكب وبطؤه ووقوفه ورجوعه إلى جهتين غير متقابلتين كالمتحرك شمالا في سفينة تجري شرقا فيبعد إلى الجهتين بقدر الحركتين وقد يتحرك الجسم إلى جهات مختلفة كحركة الشخص شرقا في سفينة تدفع شمالا في ماء يجري غربا وبحركة الريح جنوبا فيكون متوسطا بين تلك الجهات على حسب ما تقتضيه الحركات ( قال المبحث الثامن السكون ) يقابل الحركة فيقع في المقولات الأربع أما في الأين فنعني به حفظ النسب الحاصلة للجسم إلى الأشياء ذوات الأوضاع بأن يكون مستقرا في المكان الواحد وأما في الثلاثة الباقية فنعني به حفظ النوع الحاصل بالفعل من غير تغير وذلك بأن يقف في الكم من غير نمو وذبول أو تخلخل وتكاثف وفي الكيف من غير اشتداد أو ضعف وفي الوضع من غير تبدل إلى وضع آخر فهو بهذا المعنى أمر وجودي مضاد للحركة وقد يراد به عدم الحركة عما من شأنه فيكون بينهما تقابل العدم والملكة وبقيد عما من شأنه يخرج عدم حركة الأعراض والمفارقات والأجسام في آن ابتداء الحركة أو انتهائها بل في كل آن وكذا الأجسام التي يمتنع خروجها عن أحيازها ككليات الأفلاك والعناصر قال الإمام ومن الأجسام الخالية عن الحركة والسكون الأجسام التي لا تماسها ما يحيط بها أكثر من آن واحد كالجسم الواقف في الماء السيال فإنه ليس بمتحرك لعدم تبدل أوضاعه بالنسبة إلى الأمور الخارجة عنه ولا ساكن لعدم استقراره في مكان واحد زمانا وفيه
____________________
(1/279)
نظر ( قال ثم أنه يقابل الحركة ) لا خلاف في تقابل الحركة والسكون وإنما الخلاف في أنه إذا اعتبرت الحركة في المسافة فالمقابل له السكون في المبدأ أو المنتهى أو كلاهما وإذا اعتبر السكون في المكان فالمقابل له الحركة منه أو إليه أو كلاهما والحق هو الأخير لصدق حد التقابل عليه نعم لو أريد بالسكون المقابل للحركة ما يطرأ على الحركة فهو السكون في المنتهى أو ما يطرأ عليه الحركة فهو السكون في المبدأ وكذا في جانب الحركة فإن ما يطرأ على السكون هو الحركة منه وما يطرأ عليه السكون هو الحركة إليه وما يقال أن السكون في المنتهى كمال للحركة وكمال الشيء لا يقابله وأن الحركة تتأدى إلى السكون في المنتهى والشيء لا يتأدى إلى مقابله فمردود بمنع صغرى الأول وكبرى الثاني فإن السكون كمال للمتحرك لا للحركة والحركة تنتهي إلى عدمها وهو مقابل قطعا وأما احتجاج ابن سينا بأن السكون ليس عدم آية حركة اتفقت وإلا لكان المتحرك في مكان ساكنا من حيث عدم حركته في مكان آخر بل هو عدم الحركة في المكان الذي تتأتى فيه الحركة والحركة في المكان نفسه مفارقة المكان بعينه وذلك بالحركة عنه لا بالحركة إليه فجوابه أن السكون عدم الحركة في مكان ما بمعنى عموم السلب أي لا يتحرك في شيء من الأمكنة فيقابل الحركة في مكان ما ( قال وتضاد السكون ) لتضاد ما فيه إذ لا عبرة فيه بتضاد الساكن والمسكن والزمان على ما مر ولا تعلق للسكون بما منه وما إليه قوله ويكون أي السكون طبيعيا كسكون الحجر على الأرض وقسريا كسكونه معلقا في الهواء أو إراديا كوقوف الطير في الهواء والطبيعي لا يفتقر إلى مقارنة أمر غير طبيعي كما في الحركة بل يستند إلى الطبيعة مطلقا لأن الجسم إذا خلى وطبعه لم يكن له بد من موضع معين لا تطلب مفارقته ولا يتصور في السكون تركب وإنما تعرض البساطة والتركب للحركة كما مر في المبحث السابق فإن قيل سكون الإنسان على الأرض مركب من الطبيعي والإرادي قلنا لا بل هو واحد وإنما يتوهم التعدد في علته والتحقيق أنها الطبيعية فقط وأثر الإرادة ترك إزالته إلى الحركة فإن كلا من الطبيعة والإرادة والقاسر إنما يصير تمام علة السكون عند عدم رجحان علة الحركة وهذا بخلاف الحركة فإنها لما كانت تقبل الشدة والضعف جاز اجتماع علتين على حركة واحدة كما في الحجر المرمي إلى تحت فظاهر أنها ليست من التركيب في شيء وإنما هو اشتداد ( قال الفصل الخامس ) الإضافة التي هي أحد أجناس الأعراض هي النسبة المتكررة أي النسبة التي لا تعقل إلا بالقياس إلى نسبة أخرى معقولة بالقياس إلى الأولى ويسمى هذه مضافا حقيقيا والمجموع المركب منها ومن معروضها مضافا مشهوريا وأما ما وقع في المواقف من أن نفس المعروض أيضا يسمى مضافا مشهوريا فخلاف المشهور نعم قد يطلق عليه لفظ المضاف بمعنى أنه شيء له الإضافة على ما هو قانون اللغة والحكماء تكلموا في هذا الباب أولا في المضاف المشهوري لأن الاطلاع في بادي النظر على
____________________
(1/280)
المركبات أسهل وفسروا المضاف على ما يعم الحقيقي والمشهوري بما تكون ماهيته معقولة بالقياس إلى الغير وأرادوا بالغير أمرا آخر تكون ماهيته معقولة بالقياس إلى الأول وهذا معنى تكرر النسبة فيخرج سائر الأعراض النسبية ومعنى تعقل ماهيته بالقياس إلى الغير أن تعقلها لا يتم إلا بتعقله حتى أن تعقل المضافين معا لا تقدم لأحدهما على الآخر فيخرج ما يكون تعقله مستلزما ومستعقبا لتعقل شيء آخر كالملزومات البينة اللوازم على أن هذا إنما يتوهم وروده إذا كان تعقل اللوازم أيضا مستلزما لتعقل الملزومات وما ذكر في المواقف من أنه ليس معنى قولهم تعقل ماهيته بالقياس إلى الغير أنه يلزم من تعقله تعقل الغير فإن اللوازم البينة كذلك محمول على حذف المضاف أي ملزومات اللوازم أو على أن ذلك إشارة إلى الغير بمعنى أن اللوازم البينة من قبيل الغير الذي يلزم من تعقل الملزوم تعقله وإن لم يكن الملزوم مضافا ( قال وهذا ) أي الذي ذكرنا من معنى تكرر النسبة هو معنى وجوب الانعكاس أي يحكم بإضافة كل من المضافين إلى الآخر من حيث هو مضاف فكما يقال الأب أب الابن يقال الابن ابن الأب وأما إذا لم تعتبر الحيثية لم يتحقق الانعكاس كما إذا قيل الأب أبو إنسان لم يكن الإنسان مضافا إلى الأب فلا يقال إنسان أب وطريق معرفة الانعكاس أن ينظر في أوصاف الطرفين فما كان بحيث إذا وضعته ورفعت غيره بقيت الإضافة وإذا رفعته ووضعت غيره لم تبق الإضافة فهو الذي إليه الإضافة مثلا إذا اعتبرت من الابن البنوة مع نفي سائر الصفات بل الذاتيات كان الأب مضافا إليه وإذا رفعت البنوة مع اعتبار البواقي لم تتحقق الإضافة ثم الانعكاس قد لا يفتقر إلى اعتبار حرف النسبة كالعظيم والصغير وقد يفتقر إما على تساوي الحرف في الجانبين كقولنا العبد عبد للمولى والمولى مولى للعبد أو على اختلافه كقولنا العالم عالم بالمعلوم والمعلوم معلوم للعالم قالوا وعدم الافتقار إنما هو حيث يكون للمضاف بما هو مضاف لفظ موضوع وفيه نظر ( قال والنسبتان ) يعني أن النسبة التي هي المضاف الحقيقي قد تكون متوافقة في الجانبين كالأخوة وقد تكون متخالفة كالأبوة والبنوة والاختلاف قد يكون محدودا كما في الضعف والنصف وقد لا يكون كما في الزائد والناقص والتعبير عن المضافين قد لا يفتقر إلى حرف نسبة وذلك حيث يكون لكل منهما لفظ موضوع يدل بالتضمن على الإضافة مثل الأب والابن والعبد والمولى وما اشبه ذلك وقد يفتقر في ذلك حيث تنتفي تلك الدلالة في المضاف إليه مثل جناح الطير فيعبر عنه بذي الجناح أو في المضاف كعلم العالم فيعبر عنه بما للعالم وعروض الإضافة قد يفتقر إلى حصول صفة في كل من الطرفين كالعاشقية إلى الإدراك والمعشوقية إلى الجمال أو في أحدهما كالعالمية إلى العالم بخلاف المعلومية وقد لا يفتقر أصلا كما في المتيامن والمتياسر فإن الاتصاف
____________________
(1/281)
بذلك لا يكون باعتبار صفة حقيقية في شيء منهما قال ابن سينا يكاد تكون المضافات منحصرة في أقسام المعادلة والتي بالزيادة والتي بالفعل والانفعال ومصدرهما من القوة والتي بالمحاكاة فأما التي بالزيادة فإما من الكم كما يعلم وإما في القوة مثل القاهر والغالب والمانع وغير ذلك والتي بالفعل والانفعال كالأب والابن والقاطع والمنقطع وما أشبه ذلك والتي بالمحاكاة كالعلم والمعلوم والحس والمحسوس فإن بينهما محاكات فإن العلم يحاكي هيئة المعلوم والحس يحاكي هيئة المحسوس على أن هذا لا يضبط تقديره وتحديده هذه عبارته وقد نقلها في المواقف هكذا تكاد الإضافة تنحصر في الاقسام في المعادلة كالغالب والقاهر والمانع وفي الفعل والانفعال كالقطع والكسر وفي المحاكاة كالعلم والحس وفي الاتحاد كالمجاورة والمشابهة ( قال ويعرض ) أي الإضافة لكل موجود فالواجب كالأول والجوهر كالأب والكم كالأقل والكيف كالآخر والأين كالأعلى والمتى كالأقدم والإضافة كالأقرب والوضع كالأشد انتصابا والملك كالأكسى والفعل كالأقطع والانفعال كالأشد تسخنا ( قال وتحصلها يكون بالإضافة إلى المعروض ) يريد ان الإضافة ليس لها وجود مفرد بل وجودها أن يكون أمرا لاحقا للأشياء وتخصصها بتخصيص هذا اللحوق وهذا معنى تنوع الإضافة وتحصلها فإن المشابهة مثلا موافقة في الكيفية وهي نوع من المضاف الحقيقي وأما المجموع المركب من اللحوق والإضافة كالكيف الموافق فإنما هو شيء ذو إضافة لا إضافة ولهذا اتفقوا على أن المقولة هي الأمر الذي يعرض له التقيد واللحوق أعني المضاف الذي لا ماهية له سوى كونه مضافا لا المجموع المركب وإلا لما انحصرت المقولات بل كان كل مشتق من العرض مقولة ( قال ويتكافأ الطرفان ) يعني أن الإضافة إذا كانت في أحد الطرفين محصلة كانت في الطرف الآخر كذلك وإذا كانت مطلقة فمطلقة مثلا الضعف العددي على الإطلاق بإزاء النصف العددي على الإطلاق والضعف الذي هو هذا العدد كالأربعة مثلا بإزاء نصفه كاثنين وكذا إذا كانت في أحد الطرفين موجودا أو معدوما بالقوة أو بالفعل بحسب الذهن أو بحسب الخارج كان في الطرف الآخر كذلك فإن قيل المتقدم والمتأخر متضايفان مع أنهما لا يوجدان معا قلنا التضايف إنما هو بين مفهوميهما لا ذاتيهما بل بين مفهومي التقدم والتأخر وهما معا في الذهن وإنما الافتراق بين الذاتين وذاتا المضافين قد يوجد كل منهما بدون الآخر كالأب والابن وقد يوجد احدهما بدون الآخر من غير عكس كالعالم والعلم وقد يمتنع كل بدون الآخر كالعلة مع معلولها الخاص ( قال هذا ) يعني أن ما ذكر وإن كان مشعرا بأن الإضافة قد توجد في الخارج لكن جمهور المتكلمين وبعض الحكماء على أنه لا تحقق للإضافة في الخارج تمسكا بوجوه
الأول أنها لو كانت موجودة في الخارج لكانت
____________________
(1/282)
في محل وحلولها في المحل إضافة بينها وبين المحل مغايرة لها حالة فيها فينقل الكلام إليه ويلزم التسلسل في الأمور الموجودة
الثاني أنها لو كانت موجودة أي متصفة بالوجود واتصافها بالوجود إضافة خاصة يتوقف وجودها على وجود مطلق الإضافة لزم الدور ولا حاجة إلى ما يقال من أنها لو كانت موجودة لكانت مشاركة لسائر الموجودات في الوجود وممتازة عنها بخصوصيتها ومالم تتصف تلك الخصوصية بالوجود لم تكن الإضافة موجودة لكن الاتصاف إضافة مخصوصة يتوقف وجودها على وجود مطلق الإضافة فيلزم تقدمه على نفسه
الثالث أنه يلزم أن يوجد لكل عدد صفات لا نهاية لها بحسب ما لها من الإضافة إلى الأعداد الغير المتناهية فإن الاثنين مثلا نصف الأربعة وثلث الستة وربع الثمانية وهكذا إلى غير النهاية وقد يجاب عن الوجوه الثلاثة بأن المحالات المذكورة إنما لزمت على تقدير أن يكون كل ما هو من أفراد الإضافة موجودة فيكون المستحيل هذا لا وجود بعض الإضافات وذلك لأن امتناع الإيجاب الكلي إنما يستلزم صدق السلب الجزئي الذي هو سلب الكل لا السلب الكلي الذي هو سلب كل لا يقال الإضافة طبيعة واحدة فلا تختلف أفرادها بامتناع الوجود وإمكانه لأنا نقول بل طبيعة جنسية لا يمتنع وجود بعض الأنواع منها دون البعض وقد يستدل على وجود الإضافة بأنا نقطع بفوقية السماء وتحتية الأرض وأبوة زيد وبنوة عمرو سواء وجد اعتبار العقل أو لم يوجد فيكون كل من ذلك موجودا عينيا لا اعتبارا عقليا والجواب أن القطع إنما هو بصدق قولنا السماء فوقنا كما في قولنا زيد أعمى وهو لا يستدعي وجود الفوقية والعمى ( قال ثم المشهور ) غني عن الشرح ومبناه على ما ذكروا من أن الإضافات لما كانت طبايع غير مستقلة بأنفسها بل تابعة لمعروضاتها كانت تابعة لها في الأحكام لئلا يلزم الاستقلال وما ذكر ابن سينا من أن التضاد لا يعرض للإضافات أراد بطريق الاستقلال بدليل أنه قال كما أن الحار ضد للبارد وكذا الأحر للأبرد إذ لو لم تكن الإضافة تابعة لمعروضها في هذا الحكم لكانت مستقلة فيه لكن احتجاجه بأن تقابل التضاد غير تقابل التضايف فيجب أن يوجد في المتضادين شيء ليس بمتضايف لكن وصف التضاد متضايف فلم يبق إلا موضوع التضاد فلزم أن يكون غير متضايف يدل على أن المتضايفين لا يتضادان لا تبعا ولا استقلالا وحاصله أنه لا يصدق على مثل الأحر والأبرد حد الضدين إذ لا يعقل كل منهما إلا بالقياس إلى الآخر لا يقال الشيء الذي لا تضايف فيه هو موضوع الأحر والأبرد أعني الجسمين لأنا نقول التضاد أو التضايف إنما تعبير فيما يرد على الموضوع كالحرارة والبرودة والأحرية والأبردية فتكون هي موضوع وصف التضاد أو التضايف لا موضوعاتها من النار والماء وغير ذلك مما يمكن
____________________
(1/283)
تعقل كل منهما بدون الآخر ولو في التضايف قال وما تقرر إشارة إلى وجه التوفيق بين قولهم أن الإضافات في نوعيتها تبع لمعروضاتها وقولهم أن تنوع المعروضات لا يوجب تنوع العوارض لكن لا يخفى ما فيه من أخذ المعروض في موافقة الإنسانين في البياض تارة الإنسان وتارة البياض قال ومنها المتى كما أن الأين هو النسبة إلى المكان لا المكان نفسه كذلك المتى هو النسبة إلى الزمان إلا أنها قد تكون بوقوع الشيء فيه وقد تكون بوقوعه في طرفه الذي هو الآن فإن كثيرا ما يسئل عنه بمتى قد يقع في الآن كالوصول إلى منتصف المسافة ميلا والوقوع في الزمان قد يكون بأن يكون للشيء هوية اتصالية ينطبق على الزمان ولا يمكن أن يتحصل إلا فيه وهو معنى الحصول على التدريج وذلك كالحركات وما يتبعها كالأصوات وقد يكون بمعنى أنه لا يوجد في ذلك الزمان آن إلا ويكون ذلك الشيء حاصلا فيه فيكون حصوله دفعة لكن على استمرار الآنات وينقسم إلى ما يكون حاصلا في الآن الذي هو طرف حصوله كالكون وإلى مالا يكون حاصلا في ذلك كالتوسط أعني كون المتحرك على المسافة فيما بين طرفيها ( قال وهذا تصريح ) يريد أن ما ذكروا من وقوع بعض الأشياء في الآن الذي هو طرف للزمان بمنزلة النقطة للخط يدل على أنه موجود لامتناع وقوع الشيء فيما لا وجود له لكن لا خفاء في أنه لا تحقق لطرف الشيء في الخارج إلا بعد انقطاعه وانقسامه بالفعل والزمان إنما ينقسم بالوهم والفرض فقط وأيضا لو وجد الآن ولا شك أنه على الانقضاء دون البقاء وحدوث عدمه لا يكون إلا في آن يلزم تتالي الآنين وجوابهم بأن عدمه يكون في جميع الزمان الذي بعد الوجود لكن لا على التدريج ليصير الآن زمانيا بل بمعنى أنه لا يوجد في ذلك الزمان آن إلا وذلك العدم حاصل فيه على ما مر لا يدفع الإشكال لأن الكلام في حدوث العدم وهو آني وكون هذا الآن مغاير الآن الوجود ضروري ( قال ثم المتى كالأين حقيقي ) وهو كون الشيء في زمان لا يفضل عليه ككون الكسوف في ساعة معينة وغير حقيقي وهو بخلافه ككون الكسوف في يوم كذا أو شهر كذا إلا أن الحقيقي من المتى يجوز فيه الاشتراك بأن يتصف أشياء كثيرة بالكون في زمان معين بخلاف الأين وهو ظاهر ( قال ومنها الوضع وهو ) هيئة تعرض للجسم باعتبار نسبة أجزائه بعضها إلى البعض بحيث تتخالف الأجزاء لأجلها بالقياس إلى الجهات في الموازاة والانحراف ونسبة أجزائه إلى أشياء غير ذلك الجسم خارجة عنه أو داخلة فيه كالقيام فإنه هيئة للإنسان بحسب انتصابه وهو نسبة فيما بين أجزائه وبحسب كون رأسه من فوق ورجله من تحت ولهذا يصير الانتكاس وصفا آخر فالمحيط على الإطلاق يكون له الوضع بحسب الأمور الداخلة فقط والمحاط على الإطلاق بالعكس وما هو محيط ومحاط فباعتبارين وحصول الوضع للجسم قد يكون بالقوة وقد يكون بالفعل وكل منهما قد يكون بالطبع كقيام الإنسان ولا بالطبع كانتكاسه ويجري فيه التضاد فإن القيام
____________________
(1/284)
والانتكاس وجوديان يتعاقبان على موضوع واحد بينهما غاية الخلاف ويقبل الشدة والضعف على ما هو ظاهر في كل من الانتصاب والركوع ( قال ومنها له ويسمى الملك والجدة ) ويفسر بالنسبة الحاصلة للجسم إلى أمر حاصر له أو لبعضه فينتقل بانتقاله كالتقمص والتختم ويكون ذاتيا كنسبة الهرة إلى إهابها وعرضيا كنسبة الإنسان إلى قميصه وقد يقال بحسب الاشتراك لنسبة الشيء إلى الشيء واختصاص له به من جهة استعماله إياه وتصرفه فيه ككون القوي للنفس والفرس لزيد وقال ابن سينا أما أنا فلا أعرف هذه المقولة حق المعرفة لأن قولنا له كم أو له كيف أو له مضاف كقولنا له أين أو له جوهر حاصر لكله كما في له ثوب أو لبعضه كما في له خاتم أو محصور فيه كما في قولنا للدن شراب يقع عليها لفظة له لا بالتواطئ لكن بالتشابه والتشكيك وإن احتيل حتى يقال أن مقولة له يدل على نسبة الجسم إلى شامل إياه ينتقل بانتقاله كالتقمص والتسلح والتنعل لم يكن لهذا المعنى من القدر في عداد المقولات وإن كان التشكيك يزوله ( قال ومنها أن يفعل ) هو تأثير الشيء في غيره على اتصال غير قار كالحال الذي للمسخن ما دام يسخن وأن ينفعل هو تأثر الشيء عن غيره كذلك كالحال الذي للمسخن ما دام يتسخن وأما الحال الحاصل للمستكمل عند الاستقرار أي انقطاع الحركة عنه كالطول الحاصل للشجر وكالسخونة الحاصلة للماء والاحتراق الحاصل للثوب والقعود والقيام الحاصل للإنسان فليس من هذا القبيل وإن كان قد يسمى أثرا أو انفعالا بل من الكم أو الكيف أو الوضع أو غير ذلك وكذلك الحال الحاصل للفاعل قبل التأثير وبعده كقوة النار تسمى إحراقا ويجري في كل من المقولتين التضاد فإن التسخين ضد التبريد والتسخن ضد التبرد ويقبلان الشدة والضعف فإن تسخين النار أشد من تسخين الحجر الحار والأسوداد الذي هو الحركة إلى ا لسواد منه ما هو أقرب إلى الاسوداد الذي هو الغاية في ذلك وأسرع وصولا إليه من اسوداد آخر إليه وذهب الإمام وجمع من المحققين إلى أن ثبوت هاتين المقولتين إنما هو في الذهن إذ لو وجدتا في الخارج لافتقر كل منهما إلى مؤثر له تأثير آخر ضرورة امتناع كون التأثير نفس الأثر على تقدير كونهما من الأعيان الخارجية وحينئذ يلزم التسلسل المحال وترتب أمور لا نهاية لها مع كونها محصورة بين حاصرين والجواب أن ذلك إنما يلزم لو كان كل تأثير وإيجاد حتى الإبداعي الذي لا يفتقر إلى زمان من قبيل أن يفعل وكل تأثر وحصول حتى الدفعي من قبيل أن ينفعل وليس كذلك بل إذا كان الفاعل يغير المنفعل من حال إلى حال على الاتصال والاستمرار فحال الفاعل هو أن يفعل وحال المنفعل أن ينفعل حتى فسر الفارابي أن يفعل بالتغيير والتحريك وأن ينفعل بالتغير والتحرك وقال لا فرق بين قولنا ينفعل وبين قولنا يتغير ويتحرك وأنواع هذا الجنس هي أنواع الحركة ففي الجوهر التكون والفساد وفي الكم النمو والاضمحلال وفي الكيف الاستحالة وفي الأين الثقلة وحقيقة أن ينفعل
____________________
(1/285)
هو مصير الجوهر من شيء إلى شيء وتغيره من أمر إلى أمر ما دام سالكا بين الأمرين على الاتصال فالتكون كابتناء البيت قليلا قليلا وشيئا شيئا وجزأ جزأ على اتصال إلى أن يحصل البيت وعلى هذا قياس البواقي وأن يفعل هو أن ينتقل الفاعل باتصال الفعل على النسب التي له إلى أجزاء ما يحدثه في المنفعل حتى ما ينفعل فالمسخن حين ما يسخن له نسبة إلى جزء جزء من الحرارة التي تحدث فيما يتسخن ينتقل من نسبة إلى جزء من الحرارة إلى نسبته إلى جزء آخر على الاتصال وأنواعه على عدد أنواع أن ينفعل فإن كل تغير وحركة يقابله تغيير وتحريك كالتكوين للتكون والإفساد للفساد وكذا أنواع الأنواع كالبناء للابتناء والهدم للانهدام وعلى هذا قياس التضاد فكما أن ينهدم مضاد لأن يبني وأن يتسخن لأن يتبرد كذلك أن يهدم مضاد لأن يبني وأن يسخن لأن يبرد وعلى هذا قياس البواقي وقال ابن سينا إنما أؤثر لفظ أن ينفعل وأن يفعل على الانفعال والفعل لأنهما قد يقالان للحاصل بعد انقطاع الحركة وإنما المقولة ما كان توجها إلى غاية من وضع أو كيف أو غير ذلك غير مستقر من حيث هو كذلك ولفظ أن ينفعل وأن يفعل مخصوص بذلك ( قال المقصد الرابع في الجواهر ) قد سبق تعريف الجوهر على رأي المتكلمين والحكماء وهذا المقصد مرتب على مقدمة لتقسيمه وما يتعلق بذلك ومقالتين بمباحث الأجسام ومباحث المجردات أما تقسيمه على رأي المتكلمين هو أن الجوهر لما كان عبارة عن المتحيز بالذات فإما أن يقبل الانقسام وهو الجسم أولا وهو الجوهر الفرد وعلى رأي المشائين من الحكماء هو أنه إما عقل أو نفس أو جسم أو هيولي أو صورة ولهم في بيان ذلك طرق مبناها على ما يرون من نفي الجوهر الفرد وتجرد العقل والنفس وتحقق جوهرين حال ومحل هما حقيقة الجسم ونحو ذلك من قواعدهم وإلا فعليها إشكالات لا يخفى الطريق الأول أن الجوهر إن كان حالا في جوهر آخر فهي الصورة وإلا فإن كان محلا له فهي الهيولي وإلا فإن كان مركبا من الحال والمحل فهو الجسم وإلا فإن تعلق بالجسم تعلق التدبير والتصرف فالنفس وإلا فالعقل الطريق الثاني أن الجوهر إن كان مفارقا في ذاته بأن يكون مستغنيا عن مقارنة جوهر آخر فإما أن يكون مفارقا في فعله أيضا وهو العقل أولا وهو النفس وإن لم يكن مفارقا في ذاته بل مقارنا لجوهر آخر فإما أن يكون حالا فيه أو محلا أو مركبا منهما لأن مالا يكون كذلك كان مفارقا لا مقارنا الطريق الثالث أن الجوهر إن كان قابلا للأبعاد الثلاثة فجسم وإلا فإن كان جزأ منه هو به بالفعل فصورة أو بالقوة فمادة وإن لم يكن جزأ منه فإن كان متصرفا فيه فنفس وإلا فعقل وهذا ما قال في الشفاء أن الجوهر إن كان مركبا فجسم وإن كان بسيطا فإن كان داخلا في تقويم المركب فإما دخول الخشب في وجود الكرسي فمادة أو دخول شكل الكرسي فيه فصورة وإن لم يكن داخلا فيه بل مفارقا فإن كان له علاقة تصرف ما في الأجسام بالتحريك فنفس وإلا فعقل فإن قيل
____________________
(1/286)
الجسم يكون مع الهيولي أيضا بالفعل البتة لامتناع انفكاكها عن الصورة كما سيجيء قلنا المراد أن وجود المركب بالنظر إلى المادة نفسها ومن حيث أنها مادة لا يكون إلا بالقوة وبالنظر إلى الصورة بالفعل على ما قال في الشفاء أن المادة هي مالا يكون باعتباره وحدة للمركب وجود بالعقل بل بالقوة والصورة إنما يصير المركب هو ما هو بالفعل بحصولها حتى لو جاز وجود الصورة بدون المادة لكان مستلزما لحصول المركب بالفعل البتة فإن قيل الداخل في قوام الجسم والحال في المادة التي هي أحد الأقسام الخمسة أعني الهيولي الأولى البسيطة إنما هي الصورة الجسمية وأما النوعية فمحلها الجسم نفسه وإن كان يسمى من حيث توارد الصور عليه هيولي ومادة قلنا الصورة النوعية وإن لم تكن داخلة في قوام الجسم المطلق فهي داخلة في أنواعه من الفلكيات والعنصريات وسيجيء ان محلها أيضا هو الهيولي وعند الأقدمين من الحكماء الجوهر إن كان متحيزا فجرماني وهو الجسم لا غير إذ لا يثبت وجود جوهر حال هو الصورة وآخر محل هو الهيولي وإنما الهيولي اسم للجسم من حيث قبوله للأعراض المحصلة للأجسام المتنوعة والصورة اسم لتلك الأعراض وإن لم يكن متحيزا فروحاني وهو النفس والعقل ( قال تنبيه ) قد سبق أن الموضوع هو المحل المقوم للحال فيكون المحل أعم منه وإن الحال قد يكون جوهرا كالصورة وقد يكون عرضا فيكون أعم من العرض وأن العرض لا يقوم بنفسه فلا يقوم غيره وإن جاز كونه محلا للعرض بمعنى الاختصاص الناعت فيكون بين العرض والموضوع مباينة كلية واما بين العرض والمحل فعموم من وجه لتصادفهما في عرض يقوم به عرض وتفارقهما حيث يكون المحل جوهرا أو يكون العرض مما لا يقوم به شيء فإن قيل استناد العرض إلى محل يقومه ضروري وهو معنى الموضوع فالعرض الذي يقوم به عرض يكون موضوعا فلا يكون بينه وبين الموضوع مباينة قلنا استناده إلى الموضوع يجوز ان يكون بواسطة هي العرض والمحل الأولي الذي يتصف بها كاستناد السرعة إلى الجسم بواسطة الحركة فلا يلزم من لزوم استناده إلى الموضوع أن يكون محله الأول موضوعا ( قال وقد توهم ) لما كان معنى الموضوع هو المحل المقوم للحال ومعنى الجوهر هو ما يقوم بنفسه لا بغيره كان استغناؤه عن الموضوع ظاهرا إلا أنه قد يوهم اختصاص ذلك بجزئيات الجواهر دون كلياتها لوجهين أحدهما أنها مفتقرة في الوجود إلى أشخاصها التي هي موضوعات لها لكونها محمولة عليها بالطبع وثانيهما أنها صورة قائمة بالنفس لا قوام لها من حيث هي كليات بدونها ورد الأول بأنه غلط من جهة اشتراك لفظ الموضوع بين المحكوم عليه في القضية وبين المحل المقوم للحال والشخص إنما يكون موضوعا للكلي بالمعنى الأول دون الثاني ورد الثاني بأن معنى كون الصور جواهر أنها في ذاتها طبايع إذا وجدت في الخارج
____________________
(1/287)
كانت لا في موضوع وأما من حيث حلولها في النفس الجزئية وقيامها بها فهي من قبيل الأعراض الجزئية لا الجواهر الكلية ( قال وأما المقالة الأولى ) لا خفاء ولا نزاع في أن لفظ الجسم في لغة العرب وكذا ما يرادفه في سائر اللغات موضوع بإزاء معنى واحد واضح عند العقل من حيث الامتياز عما عداه لكن لخفاء حقيقته وتكثر لوازمه كثر النزاع في تحقيق ماهيته واختلفت العبارات في تعريفه وأدى ذلك إلى اختلاف في بعض الأشياء أنه هل يكون جسما أم لا فعند المحققين من المتكلمين هو الجواهر القابل للانقسام من غير تقييد بأقطار الثلاثة فلو فرضنا مؤلفا من جوهرين فردين كان الجسم هو المجموع لا كل واحد منهما كما زعم القاضي تمسكا بأنه جوهر مؤلف وكل جوهر مؤلف جسم وفاقا ومبنى الصغرى على امتناع قيام التأليف بالجزئين لامتناع قيام العرض الواحد بمحلين بل لكل جزء تأليف قائم به وهو معنى المؤلف والجواب أن التأليف معنى بين الشيئين يعتبر استناده إلى المجموع من حيث هو المجموع فيكون مؤلفا من الشيء وإلى كل واحد فيكون مؤلفا مع الشيء كما يقال في النحو الكلام هو المركب الذي فيه الإسناد والمعرب المركب الذي لم يشبه مبنى الأصل فالجسم هو المؤلف بالمعنى الأول والجزء بالمعنى الثاني فلا تكرر للوسط فإن قيل المراد بالتأليف عرض خاص مغاير لمعناه اللغوي المشعر بالانضمام المقتضي للتعدد وهو السبب عند المعتزلة لصعوبة الانفكاك فالجواب ح منع الكبرى وجعل الآمدي النزاع لفظيا عائدا إلى أن لفظ الجسم بإزاء أي معنى وضع وصاحب المواقف معنويا عائدا إلى أنه هل يوجد عند اجتماع الأجزاء وحصول الجسم عرض خاص هو التأليف والاتصال والسبب لصعوبة الانفكاك على ما يراه المعتزلة أم لا بل الجسم هو نفس الأجزاء المجتمعة فالقاضي يحكم بوجوده لكن يزعم أنه ليس قائما بالجزئين كما هو رأي المعتزلة بل لكل جزء تأليف يقوم به فيكون جسما لما سيجيء من أن الجزء بمنزلة المادة والتأليف بمنزلة الصورة وفيه نظر لأن جمهور الأصحاب أيضا قائلون به وبعدم قيامه بجزئين وان جعل النزاع بينه وبين المعتزلة بمعنى أنهم قائلون بالتأليف دونه ففساده أكثر لأن القاضي يقول بالتأليف وهم لا يقولون بجسمية الجوهرين ( قال وعند المعتزلة ) المشهور بينهم في تعريف الجسم أنه الطويل العريض العميق ولا نزاع لهم في أن هذا ليس بحد بل رسم بالخاصة ومبنى كونها خاصة على انهم لا يثبتون الجسم التعليمي الذي هو كم له للأبعاد الثلاثة ليكون هذا عرضا عاما يشمله فيفتقر إلى ذكر الجوهر احترازا عنه ويكون المجموع خاصة مركبة للجسم الطبيعي كالطائر الولود للخفاش ولا يضره كون الجوهر جنسا لأن المركب من الداخل والخارج خارج على أنه يحتمل
____________________
(1/288)
أن يراد بالطويل مثلا ما يكون الطول أي الامتداد المفروض أو لا عارضا له فلا يشمل الجسم التعليمي لأن هذه الأبعاد أجزاؤه واعترض بأن الخاصة إنما تصلح للتعريف إذا كانت شاملة لازمة وهذه ليست كذلك أما الشمول فلأنه لا خط بالفعل في الكرة ولا سطح فيما يعرض من الجسم الغير المتناهي فإنه جسم وإن امتنع بدليل من خارج بخلاف ما إذا فرض أربعة ليست بزوج فإن الزوجية من لوازم الماهية وأما اللزوم فلأن الشمعة المعينة قد يجعل طولها تارة شبرا وعرضها أصابع وتارة ذراعا وعرضها أصبعا فيزول ما فيها من الأبعاد مع بقاء الجسمية وأجيب بعد تسليم أن انتفاء الخط والسطح بالفعل يستلزم عدم اتصاف الجسم بالطول والعرض والعمق بأن المراد قبول تلك الأبعاد وإمكانها وهذه خاصة شاملة لازمة على أن ما ذكر من زوال مقدار وحدوث آخر مما لا يثبت له عند المتكلمين بل الجواهر الفردة هي التي تنتقل من طول إلى عرض ولو سلم فالمراد مطلق الأبعاد وهي لازمة وإنما الزوال للخصوصيات فإن قيل على تقدير نفي المقادير فالطول خاصة للجسم وعلى تقدير إثباتها فالجوهر الطويل فأي حاجة إلى ذكر العرض والعمق قلنا إنما يصح ذلك لو كان كل منقسم جسما حتى المؤلف من جزئين وهم لا يقولون بذلك بل عند النظام أجزاء كل جسم غير متناهية وعند الجبائي أقلها ثمانية بأن يوضع أربعة بحيث يحصل مربع ثم فوقها أربعة كذلك وعند أبي الهذيل ستة بأن يوضع ثلاثة ثم ثلاثة وقيل الأربعة بأن يوضع جزآن وبجنب أحدهما في سمت آخر جزء آخر وفوق أحد الثلاثة جزء آخر وإنما لم يفرض بالثلاثة على وضع المثلث والثالث على ملتقاهما بحيث يحصل مكعب لأن جواز ذلك عندهم في حيز المنع لاستلزامه الانقسام على ما سيجيء وبالجملة فالجوهر المركب الذي يكون عدد أجزائه أقل من أدنى ما يصح تركب الجسم منه أو يكون تركب أجزائه على سمت واحد فقط وهو المسمى عندهم بالخط وفي سمتين فقط وهو المسمى بالسطح يكون واسطة بين الجسم والجوهر الفرد ويجب الاحتراز عنه بقيد العرض والعمق ( قال وعند الفلاسفة ) التعريف السابق هو الذي ذكره قدماء الفلاسفة وحين ورد على ظاهر فإنه لا بد من ذكر الجوهر احترازا عن الجسم التعليمي وأنه لا عبرة بوجود الأبعاد بالفعل صرح أرسطو وشيعته بالمقصود فقالوا هو الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة أي الذي يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة وزاد بعضهم قيد التقاطع على زوايا قائمة ومعنى ذلك أنه إذا قام خط على آخر فإن كان قائما عليه أي غير مائل إلى أحد جانبيه فالزاويتان الحادثتان تكونان متساويتين وتسميان قائمتين وإن كان مائلا فلا محالة تكون إحدى الزاويتين اصغر وتسمى حادة والأخرى أعظم وتسمى منفرجة فإذا فرضنا في الجسم بعدا كيف اتفق ثم آخر بقاطعة في أي جهة شئنا بحيث تحصل أربع قوائم ثم ثالثا يقاطعهما بحيث تحصل منه بالنسبة إلى كل من الأولين أربع قوائم وهذا الثالث متعين لا يتصور فيه التعدد فهذا معنى تقاطع الأبعاد على زوايا قائمة وهذا
____________________
(1/289)
القيد لتحقيق أن المعتبر في الجسم قبول الأبعاد على هذا الوجه وإن كان هو قابلا لأبعاد كثيرة لا على هذا الوجه فما ذكر في المواقف أن الجوهر القابل للأبعاد لا يكون إلا كذلك والذي يقبل أبعادا لا على هذا الوجه إنما هو السطح ينبغي أن يكون إشارة إلى صحة التقاطع على زوايا قائمة لا إلى التقاطع ولدفع وهم من يتوهم التعريف بالجوهر القابل للأبعاد شاملا للسطح بناء على تركبه من الجواهر الفردة وكان هذا مراد من قال أنه احتراز عن السطح أي على توهم كونه جوهرا ولا يرد الجسم التعليمي لأنهم لا يتوهمونه بل يجعلون الحاصل من تراكم السطوح هو الجسم الطبيعي لا غير وقد يقال أن معنى الاحتراز عن السطح أن لا يبقى القابل للأبعاد شاملا له فيصير خاصة للجسم صالحا في معرض الفصل لصيرورته أخص من الجوهر مطلقا لا من وجه وهذا إنما يتم لو لم يبق مع هذا القيد شاملا للجسم التعليمي وإنما اعتبر الفرض لأن جسمية الجسم ليست باعتبار ما لها من الأبعاد بالفعل لأنها مع بقاء الجسمية بحالها قد تتبدل كما في الشمعة وقد تزيد وقد تنقص بالتخلخل والتكاثف ولأنه قد ينفك الجسم في ماهيته عن السطح والخط كما في تصور جسم غير متناه بل وعن الخط في الوجود أيضا كما في الكرة المصمتة والأسطوانة وذكر الإمكان لأن فعل الفرض أيضا ليس بلازم بل مجرد إمكانه كاف ففي المجردات يستحيل فرض الأبعاد بمعنى أن اتصافها بها من المحالات التي لا يمكن فرضها والظاهر أنه يكفي ذكر الإمكان أو القابلية ولا حاجة إلى اعتبار الفرض وذكروا أن المراد بهذا الإمكان هو الإمكان العام ليشمل ما تكون الأبعاد فيه حاصلة بالفعل لازمة كما في الأفلاك أو غير لازمة كما في العنصريات وما يكون بالقوة المحضة كما في الكرة المصمتة فكلامهم يميل تارة إلى أن المراد بالأبعاد تلك الامتدادات الآخذة في الجهات على ما هو حقيقة الجسم التعليمي أعني الكمية القائمة بالجسم السارية فيه المحصورة بين السطوح حتى أن بين السطوح الستة للجسم المربع جوهرا هو الجسم الطبيعي وعرضا ساريا فيه هو الجسم التعليمي له أبعاد ثلاثة هي أجزاؤه لا بمعنى الخطوط إذ لو كانت فيه بالفعل لكانت في كل جسم بالفعل وهذا غير الامتداد الذي هو الصورة الجسمية الحاصلة في كل جسم بالفعل بحيث لا يلحقه التبدل والتغير أصلا وتارة إلى أنها الخطوط التي لا توجد في الكرة الساكنة إلا بالقوة المحضة بخلاف المتحرك كالفلك فإن المجوز عندهم خط بالفعل وتارة إلى أنها السطوح والخطوط التي هي النهايات حيث نفوها عن الجسم الغير المتناهي ولا خفاء في أنها ليست هي التي تتقاطع على زوايا قائمة والأظهر أن المراد بها الخطوط المتوهمة المتقاطعة التي هي الطول والعرض والعمق وهي ليست بالفعل لا في الطبيعي ولا في التعليمي والانفصال الذي هو أيضا بالقوة ليس مقابلا له ليلزم كون الجسم ليس بمتصل بالفعل ولا منفصل بالفعل بل للاتصال الذي هو حاصل بالفعل وفرق ابن سينا بين البعد والمقدار بأن البعد هو الذي يكون
____________________
(1/290)
بين نهايتين غير متلاقيتين ومن شأنه أن يتوهم فيه نهايات من نوع تينك النهايتين فقد يكون بعد خطي من غير خط وسطحي من غير سطح كما في الجسم الذي لا انفصال في داخله بالفعل فإنك إذا فرضت فيه نقطتين فبينهما بعد خطي ولا خط وإذا فرضت خطين متقابلين فبينهما بعد سطحي ولا سطح وذلك البعد الخطي طول والسطحي عرض فيظهر الفرق بين الطول والخط وبين العرض والسطح حيث يوجد الأول بدون الثاني وإن لم يوجد خط بلا طول وسطح بلا عرض قال والمراد قبول أعيانها أورد الإمام أن الوهم يصح فرض الأبعاد الثلاثة فيه وليس بجسم فأجاب بأن المراد ما يكون كذلك بحسب الوجود الخارجي كما في قولهم الرطب ما يقبل الأشكال بسهولة ولا خفاء في أنه تحقيق للمقصود بحيث لا يرد الاعتراض بالنفس التي هي جوهر مجرد يقبل الأبعاد الثلاثة المتقاطعة وإلا فظاهر أن الوهم خارج بقيد الجوهرية والحاصل أن المراد صحة فرض الأبعاد بحيث يتحقق الاتصاف بها وذلك في الوجود المتأصل لا غير ومن اعتراضاته أن الهيولي جوهر يصح فرض الأبعاد الثلاثة فيها غايته أن قبولها للأبعاد يكون مشروطا بقبولها للصورة الجسمية ولا يجوز أن تكون الصورة جزأ من القابل لما تقرر عندهم من أنها مبدأ الفعل والحصول دون الإمكان والقبول بل الجوهر القابل هو الهيولي لا غير وجوابه أن ما اختص الهيولي بقبوله هو الصور لا الأعراض من الكميات والكيفيات وغيرها كيف وقد صرحوا بأنه لا حظ للهيولي من المقدار وإنما ذلك إلى الصورة فإنها امتداد جوهري به قبول الامتدادات العرضية على أنه قد سبق أن المراد بهذا القبول ما يعم الفعل ولو لزوما ولعل هذا الاعتراض بالنسبة إلى الصورة أوجه ( قال وكلامهم متردد ) الظاهر أن التعريف المذكور رسم بالخاصة المركبة إذ على تقدير جنسية الجوهر فالقابل للأبعاد أعم منه من وجه ولا كذلك حال الفصل ولهذا اتفقوا على أن المركب من أمرين بينهما عموم وخصوص من وجه ماهية اعتبارية وأيضا تحصل حقيقة الجسم بالأبعاد المفروضة غير معقول وأما التمسك بأن تركب الجسم إنما هو من الهيولي والصورة لا من الجوهر وقابل الأبعاد ليكون التعريف بهما حدا فضعيف لما عرفت من الفرق بين الأجزاء الخارجية والأجزاء العقلية التي هي الذاتيات ونقل عن ابن سينا ما يشعر بأنه متردد في أن هذا حد أو رسم وأبطل الإمام كونه حدا بأن الجوهر لا يصلح جنسا للجسم ولا قابلية الأبعاد فصلا أما الأول فلوجوه منها
أن الجوهر هو مفسر بالموجود لا في موضوع والوجود زائد على الماهية لا ذاتي لها بل هو من المعقولات الثانية التي لا تحقق لها إلا في الذهن فلا يصلح جزأ للماهية الحقيقية وعدم الاحتياج إلى الموضوع عدمي لا يصلح ذاتيا للموجود لا يقال جميع الأجناس بل جميع الكليات من المعقولات الثانية لأنا نقول المنطقيات منها لا الطبيعيات كالجسم والحيوان ونحو ذلك ومنها أنه لو كان جنسا للجواهر لكان تمايزها
____________________
(1/291)
لا محالة بفصول على ما هو شأن الأنواع المندرجة تحت جنس فتلك الفصول إما أن تكون جواهر فينقل الكلام إلى ما به تمايزها ويلزم التس وإما أن يكون أعراضا فيلزم تقوم الجوهر بالعرض وهو بط لاستلزامه افتقار الجوهر إلى الموضوع وأيضا يلزم كون العرض محمولا على الجوهر ونفسه بحسب الوجود على ما هو شأن الفصل مع النوع
وأما الثاني فلأن معنى القابلية وإمكان الفرض وصحته ونحوه ذلك من العبارات أمر لا تحقق له في الخارج وإلا لقام بمحل قابل له ضرورة أنه من المعاني العرضية دون الجوهرية فننقل الكلام إلى تلك القابلية ويلزم التسلسل في الأمور الموجودة المترتبة ضرورة توقف تحقق كل قابلية على قابلية أخرى سابقة عليها ومثله باطل بالاتفاق سيما وهذه السلسة محصورة بين حاصرين هما هذه القابلية والمحل
وأجيب عن الأول بأن الموجود لا في موضوع رسم لا حد إذ لا حد للأجناس العالية وعدم جنسية العارض لا يستلزم عدم جنسية المعروض
وعن الثاني بأن كون فصول الجواهر جواهر لا يستلزم افتقارها إلى فصول أخر وإنما يلزم ذلك لو كان الجوهر جنسا لها أيضا لا عرضا عاما كالحيوان للناطق
وعن الثالث بأن الفصل ليس هو القابلية بل القابل أعني الأمر الذي من شأنه القبول كالناطق للإنسان بمعنى الجوهر الذي من شأنه النطق أي إدراك الكليات لا يقال هذا نفس الجسم لا جزء منه فكيف يكن فصلا لأنا نقول هو نفسه بحسب الخارج وجزؤه بحسب الذهن كما في سائر الفصول هذا كله بعد تسليم امتناع كون العدمي جنسا أو فصلا للماهية الحقيقية وأورد صاحب المواقف بعد نقل هذه الأجوبة كلاما قليل الجدوى جدا ( المبحث الثاني ) ذكروا في ضبط مذاهب القوم في تحقيق حقيقة الجسم أن الجسم البسيط أعني الذي لا يتألف من أجسام مختلفة الطبايع إما أن تكون انقساماته الممكنة حاصلة بالفعل أو لا وعلى التقديرين فإما أن تكون متناهية أو لا فالأول مذهب المتكلمين والثاني مذهب النظام والثالث مذهب جمهور الفلاسفة والرابع مذهب محمد الشهرستاني لكن لا خفاء في أن مالا يكون جميع انقساماته بالفعل يحتمل أن يكون بعضها كذلك على ما ذهب إليه ذيمقراطيس من أن الجسم متألف من أجزاء صغار صلبة قابلة للقسمة الوهمية دون الفعلية فلذا جعلنا الأقسام خمسة وأما القول بتألف الجسم من السطوح المتألفة من الخطوط المتألفة من النقاط التي هي جواهر فردة فهو قول المتكلمين مع اشتراط الانقسام في الأقطار الثلاثة بحيث لا يتألف من أقل من ثمانية أجزاء ثم افترقت الفلاسفة القائلون بلا تناهي الانقسامات فرقتين منهم من جعل قبول الانقسام مفتقرا إلى الهيولي ومنهم من منع ذلك وأما ما نسب إلى النجار وضرار من المعتزلة من أن الجسم مؤلف
____________________
(1/292)
من محض الأعراض من الألوان والطعوم والروائح وغير ذلك فضروري البطلان والذي يعتد به من المذاهب في حقيقة الجسم ثلاثة
الأول للمتكلمين أنه من الجواهر الفردة المتناهية العدد
الثاني للمشائين من الفلاسفة أنه مركب من الهيولي والصورة
الثالث للاشتراقيين منهم أنه في نفسه بسيط كما هو عند الحس ليس فيه تعدد أجزاء أصلا وإنما يقبل الانقسام بذاته ولا ينتهي إلى حد لا يبقى له قبول الانقسام كما هو شأن مقدورات الله تعالى وكأنه وقع اتفاق الفرق على ثبوت مادة يتوارد عليها الصور والأعراض إلا أنها عند الإشتراقيين نفس الجسم يسمى من حيث قبول المقادير مادة وهيولي والمقادير من حيث الحلول فيه صورا وعند المشائين جوهر يتقوم بجوهر آخر حال فيه سمي صورة يتحصل بتركبهما جوهر قابل للمقادير وسائر الأعراض هو الجسم وعند المتكلمين هو الجواهر الفردة التي يقوم بها التأليف فيتحصل الجسم فالتأليف عندهم بمنزلة الصورة عند المشائين إلا أنه عرض لا يقوم بذاته بل بمحله والصورة جوهر يقوم بذاته ويتقوم به محله الذي هو الهيولي ( قال المبحث الثالث ) للمتكلمين في كون الجسم من أجزاء لا تتجزأ طريقان أحدهما إثبات أن قبول الانقسام يستلزم لحصول الأقسام وتقرير الكلام أن كل جسم فهو قابل للانقسام وفاقا وكل ما هو كذلك فأقسامه حاصلة بالفعل لوجوه
الأول أن القابل للانقسام لو لم يكن منقسما بالفعل بل واحدا في نفسه كما هو عند الحس لزم قبول الوحدة الانقسام واللازم باطل إذ لا معنى لها سوى عدم الانقسام وجه اللزوم أن الوحدة حينئذ تكون عارضة لذلك القابل حالة فيه سواء جعلت لازمة له أو غير لازمة ضرورة أنها ليست نفسه ولا جزأ منه وانقسام المحل يستلزم انقسام الحال ضرورة أن الحال في كل جزء غير الحال في الآخر وأجيب بأن الوحدة من الاعتبارات العقلية ولو سلم فليست من الأعراض السارية التي تنقسم بانقسام المحل
الثاني أنه لو كان واحدا لكان تقسيم الجسم وتفريق أجزائه إعداما له ضرورة أنه إزالة لهويته الواحدة وإحداث لهويتين أخريين واللازم باطل للقطع بأن شق البعوض البحر بإبرته ليس إعداما له وإحداثا لبحرين آخرين وأجيب بأنه إن أريد بالبحر ذلك الماء مع ما له من الاتصال فلا خفاء في انعدامه عند عروض الانفصال وإن أريد نفس ذلك الماء من غير اعتبار بالاتصال فليس في الشق زوال بحر ولا حدوث بحرين وهذا أنسب بقواعدهم حيث يقولون إن القابل للشيء يجب أن يكون باقيا عنده مجتمعا معه فإن نقل الكلام إلى المادة بأنها إن كانت متعددة فهو المرام وإن كانت واحدة فإن بقيت بعد الانقسام كذلك فظاهر البطلان للقطع بأن ما هو محل لهذه الصورة غير ما هو محل للصورة الأخرى وإن صارت متعددة فقد انعدمت الأولى ضرورة ولزم انعدام الجسم بمادته وصورته جميعا وبطل قاعدة اجتماع القابل مع المقبول فلا محيص إلا بأن يقال المادة استعداد محض ليست في نفسها بواحدة ولا كثيرة ولا متصلة ولا منفصلة
____________________
(1/293)
الثالث أن الأقسام لو لم تكن حاصلة بالفعل متميزة بعضها عن البعض لما اختلفت خواصها ضرورة واللازم باطل لأن مقطع النصف غير مقطع الثلث وكذا الربع والخمس وغيرهما فيكون الجزء الذي هو مقطع النصف متميزا عن الذي هو مقطع الربع وهكذا غيره وأجيب بمنع الملازمة فإن اختلاف الخواص إنما حصل بعد فرض الانقسام وذلك أن النصفية والثلثية والربعية وغير ذلك إضافات واعتبارات يحكم بها العقل عند اعتبار الانقسام وكذا مقاطعهما فإن ادعي أن ما هو قابل لأن يكون مقطع النصف عند فرض الانقسام متميز بالفعل عما هو قابل لأن يكون مقطع الربع مثلا فهو نفس المتنازع وحاصله أنه لا امتناع في اتصاف الأجزاء الفرضية بالصفات الحقيقية كالضوء والظلام في القمر فضلا عن الاعتبارية لا يقال الانقسامات عندهم غير متناهية وهو يستلزم لاتناهي الانقسام وما لا نهاية له لا يتصور له نصف أو ثلث أو ربع أو غيرها لأنا نقول إنما يمتنع ذلك فيما هو غير متناه بحسب كميته المتصلة أو المنفصلة وأما فيما هو متناهي المقدار لكنه قابل لانقسامات غير متناهية فلا وإنما يمتنع لو كانت هناك أقسام بالفعل غير متناهية بالعدد وليس كذلك إذ ليس معنى قبول الجسم لانقسامات غير متناهية أنه يمكن خروجها من القوة إلى الفعل بل أنه من شأنه وقوته أن ينقسم دائما ولا ينتهي انقسامه إلى حد لا يمكن انقسامه كما أن مقدورات الله تعالى غير متناهية بمعنى أن قدرته لا تنتهي إلى حد لا يكون قادرا على أزيد منه فليعتبر حال قابلية الجسم للانقسام إلى الأجزاء بحال فاعلية الباري تعالى للأشياء على أن ما ذكر لو تم فإنما يدل على تناهي الانقسامات لا على حصول الأجزاء بالفعل ( قال وثانيهما ) أي الطريق الثاني للمتكلمين إثبات جوهر في الجسم لا يقبل الانقسام أصلا أي لا قطعا ولا كسرا ولا وهما ولا فرضا والفرق بينها أن القطع يفتقر إلى آلة نفاذة بخلاف الكسر ثم أنهما يؤديان إلى الافتراق بخلاف الوهمي والفرضي والوهمي إذا أريد به ما يكون بمعونة القوة الوهمية التي هي سلطان القوى الحسية قد يقف أي لا يقدر على تقسيمات غير متناهية لما تقرر عندهم من تناهي أفعال القوى الجسمانية بخلاف فرض العقل فإن العقل يتعلق الكليات المشتملة على الصغيرة والكبيرة والمتناهية وغير المتناهية فإن قيل إثبات الجوهر الفرد لا يفيد المطلوب أعني تركب الجسم منها قلنا نعم إلا أنه يكفي لدفع ما يدعيه الفلاسفة من امتناعه على أن بعض الوجوه المذكورة مما يفيد أصل المطلوب وبالجملة فلهم في هذا الطريق مسالك منها ما يبتنى على أن
____________________
(1/294)
قبول الانقسام يستدعي حصول الأقسام بالفعل وفيه وجوه
الأول أن الله تعالى قادر على أن يخلق في أجزاء الجسم بدل اجتماعها الافتراق بحيث لا يبقى اجتماع أصلا وذلك لأن نسبة القدرة إلى الضدين على السواء وإذا حصل الافتراق ثبت الجزء الذي لا يتجزأ إذ لو كان قابلا للتجزئ لكان الاجتماع باقيا هف
الثاني أنه لو لم يثبت الجزء الذي لا يتجزأ لما كان الجبل أعظم من الخردلة لأن كلا منهما حينئذ يكون قابلا لانقسامات غير متناهية فتكون أجزاء كل منهما غير متناهية من غير تفاضل وهو معنى التساوي فإن قيل غايته لزوم الاستواء في عدد الأجزاء بأن يكون أجزاء كل منهما غير متناهية العدد وهو غير محال والمحال استواء مقداريهما وهو غير لازم أجيب بأن الاستواء في الأجزاء يستلزم الاستواء في المقدار ضرورة أن تفاوت المقادير إنما هو بتفاوت الأجزاء بمعنى أن ما يكون مقداره أعظم تكون أجزاؤه أكثر فما لا تكون أجزاؤه أكثر لا يكون مقداره أعظم وقد تقرر هذا الوجه بحيث لا يبتنى على استلزام قبول الانقسام حصول الأقسام وهو أنه لو كان كل من السماء والخردلة قابلا للانقسام من غير انتهاء إلى ما لا يقبل الانقسام أصلا كانت الأجزاء الممكنة حينئذ في كل منهما متساوية للتي في الآخر وأمكن أن يفصل من الخردلة صفائح تغمر وجهي السماء بل أجزاء تغمر الوجهين وتملأ ما بين السطحين وبطلانه ضروري وجوابه بعد تسليم البطلان ما سبق أن ليس معنى قبول الانقسامات الغير المتناهية إمكان خروجها من القوة إلى الفعل فمن أين يلزم إمكان حصول أقسام لا نهاية لها وإمكان انفصالها الثالث أنه لو لم ينته انقسام الجسم إلى ما لا يكون له امتداد وقبول انقسام لزم أن يكون امتداد كل جسم حتى الخردلة غير متناه القدر لتألفه من امتدادات غير متناهية العدد ومنها ما يبتنى على كون الحركة عبارة عن حصولات متعاقبة من غير استقرار والزمان عبارة عن آيات متتالية وهو وجه واحد تقريره أن وجود الحركة في المسافة معلوم بالضرورة مع القطع بأن الماضي منها ليس بموجود الآن بل حين كان حاضرا والمستقبل إنما يصير موجودا حين يصير حاضرا فالموجود منها هو الحاضر لا غير وهو لا يقبل الانقسام وإلا لكان شيء منه قبل أو بعد لكونه غير قار الذات فلا يكون بتمامه حاضرا هف أو نقول لو انقسم الحاضر لكان في الحركة اجتماع أجزاء فيكون قار الذات هف وإذا ثبت في الحركة جزء غير منقسم وهي منطبقة على المسافة بمعنى أن كل جزء منها على جزء منها ثبت في المسافة جزء غير منقسم لامتناع انطباق غير المنقسم على المنقسم وهو المطلوب ثم إذا حاولنا إثبات ما هو المقصود قلنا الحاضر يحصل عقيب انقضائه جزء آخر حاضر غير منقسم يكون هو الموجود من الحركة وهكذا إلى أن ينتهي فإذن الحركة مركبة من أجزاء لا تتجزأ أو قلنا كل جزء من الحركة حاضر حينا ما وكل ما هو حاضر حينا ما هو
____________________
(1/295)
غير منقسم بالضرورة فكل جزء منها غير منقسم وهو معنى تركبها من أجزاء لا تتجزأ فكذا المسافة لانطباقها عليها وقد يستعان في ذلك بالزما لأن عدم الاستقرار فيه أظهر حتى كأنه نفس ماهيته ولا يتوهم فيه ما يتوهم في الحركة من تحلل سكون أو لزوم وقوع أي جزء منها في زمان قابل للانقسام فيقال الموجود منه هو الحاضر الذي لا يقبل الانقسام ولو بالفرض لأن معناه صحة فرض شيء غير شيء وهذا ينافي عدم الاستقرار الذاتي ثم أنه منطبق على الحركة المنطبقة على المسافة فيكونان كذلك والحكماء لا يثبتون الحاضر من الزمان ويجعلون الموجود من الحركة هو التوسط بين المبدأ والمنتهى ويجعلون حالهما في قبول الانقسام كحال الأجسام ومنها ما يبتنى على أن محل النقطة جوهر لا يقبل الانقسام وهو وجوه
الأول أن النقطة موجودة لأنها طرف الخط الموجود وطرف الموجود موجود بالضرورة ولأنها شيء به يتماس الخطوط وتماسها بالعدم الصرف محال ولأنها ذات وضع أي يشار إليها إشارة حسية بأنها هنالك وهذا في المعدوم محال ثم أنها إما أن تكون جوهرا كما هو رأي المتكلمين أو عرضا وحينئذ يفتقر إلى جوهر يحل فيه بالذات إن لم نجوز قيام العرض بالعرض أو بالواسطة إن جوزناه وذلك الجوهر يمتنع أن يكون منقسما وإلا لزم انقسام النقطة ضرورة انقسام الحال بانقسام المحل هف فأيا ما كان يثبت جوهر لا يقبل الانقسام وهو المطلوب
الثاني أنا إذا وضعنا كرة حقيقية على سطح حقيقي مماسة بجزء لا يقبل الانقسام وإلا لكان في سطح الكرة خط مستقيم أو سطح مستو فلا تكون الكرة كرة حقيقية هف فذلك الجزء إما جوهر وهو المطلوب أو عرض وفيه المطلوب ثم إذا أدرنا تلك الكرة على ذلك السطح ظهر كون سطحها من أجزاء لا تتجزأ وبه يتم المقصود والقول بامتناع الكرة أو السطح أو تماسها مكابرة ومخالفة لقواعدهم
الثالث أنه إذا قام خط على خط في أحد جانبيه لقيه بجزء لا ينقسم ثم إذا مر عليه إلى الجانب الآخر ظهر تألفه من أجزاء لا تتجزأ ضرورة أن ما يقع عليه غير المنقسم غير منقسم الرابع أنه برهن إقليدس على أن الزاوية الحاصلة من مماسة الخط المستقيم لمحيط الدائرة أصغر ما يمكن من الزوايا فبالضرورة لا يقبل الانقسام وإلا لكان نصفها أصغر منه فذلك الأمر الغير المنقسم إما جوهر أو حال فيه وفيه المطلوب والحكماء يزعمون أن انقسام الحال بانقسام المحل مختص بما يكون حلوله بطريق السريان كالبياض في الجسم والنقطة إنما تحل في الخط من حيث أنها نهاية له لا سارية فيه وكذا الخط في السطح والسطح في الجسم التعليمي الحال في الجسم الطبيعي بطريق السريان والحق أن حديث الكرة والسطح قوي وتماسهما بجوهريهما ضروري والقول بأن موضع التماس منقسم بالفرض يخالف قواعدهم لأن معناه صحة فرض شيء غير شيء وهذا في النقطة محال إذ به يصير خطا أو سطحا مستويا ضرورة ألا نطبق
____________________
(1/296)
على السطح المستوي وعند زوال التماس من ذلك الموضع إلى موضع آخر يصير الكرة من ذوات الأضلاع على أن النقطة عندهم إنما هي النهاية للخط فلا توجد في الكرة بالفعل ( قال واحتجوا ) احتج القائلون بالجزء على أن أجزاء الجسم متناهية نفيا لقول النظام لوجوه
الأول أنها محصورة بين حاصرين فكل ما هو كذلك عددا كان أو مقدارا فهو متناه بالضرورة
الثاني أن لاتناهي الأجزاء يستلزم امتناع وصول المتحرك إلى غاية ما في المسافة لتوقفه على قطع نصفها ونصف نصفها وهلم جرا إلى ما لا يتناهى وذلك لا يتصور فيما يتناهى من الزمان وقد يعبر عن هذا الوجه بأنه يلزم امتناع قطع المسافة المعينة في زمان متناه وتقرر بأن عدم تناهي أجزاء المسافة يستلزم عدم تناهي أجزاء الحركة المنطبقة عليها وهو يستلزم عدم تناهي أجزاء الزمان المنطبق على الحركة
الثالث أنه يستلزم امتناع لحوق السريع بالبطيء إذ ابتداء الحركة بعده لأنه إذا قطع جزأ فالبطيء أيضا قطع جزأ إذ لا أقل منه ضرورة ولا تخلل للسكنات بشهادة الحس والبرهان وإنما اعتبر البطيء دون الواقف مع أنه كذلك لأنه حينئذ يكون ذكر السرعة لغوا ويصير هذا بعينه طريق امتناع قطع المتحرك مسافة ما ووصوله إلى غاية ما ولا يخفى أن هذا الوجه جار فيما إذا كانت الأجزاء متناهية وأن الوجوه الثلاثة إنما تنتهض على من يقول بلاتناهي الأجزاء في كل امتداد يفرض في الجسم وفيما بين كل طرفين من أطرافه وجهتين من جهاته وأما على القول بلاتناهيها في مجموع الامتدادات وفيما بين جميع الأطراف والجهات فلا إلا إذا بين تناهي عدد الامتدادات
الرابع أنا نفرض اجتماع ثمانية من الأجزاء بحيث يصير المركب منها طويلا عريضا عميقا منقسما في الأقطار الثلاثة متقاطعا امتداداته على الزوايا القائمة فبالضرورة يكون جسما مع تناهي أجزائه ثم إذا حاولنا بيان تناهي أجزاء كل جسم متناهي المقدار اعتبرنا نسبة حجمه إلى حجمه فكانت نسبة متناه إلى متناه لأن نسبة الحجم إلى الحجم نسبة الأجزاء إلى الأجزاء إذ بحسبها يكون الحجم والمقدار ازديادا وانتقاصا فلو كانت الأجزاء غير متناهية كانت نسبة المتناهي إلى المتناهي نسبة المتناهي إلى غير المتناهي وهو محال فإن قيل مذهب النظام أن الجوهر الفرد يمتنع وجوده على الانفراد وإنما يكون في ضمن الجسم وكل جسم فمن جواهر غير متناهية قلنا نفرض الكلام في ثمانية أجزاء من الجسم الخامس أنه لو كان الحجم والمقدار بحسب الأجزاء فلو كانت الأجزاء غير متناهية لزم في كل جسم أن يكون غير متناهي الحجم والمقدار واللازم ظاهر البطلان والمشهور عن القائلين بلا تناهي الأجزاء في التفصي عن حديث زيادة الحجم ولحوق السريع البطيء أمران
أحدهما القول بالتداخل وهو أن ينفذ أحد الجزئين في الآخر ويلاقيه بأسره بحيث يصير حيزاهما واحدا وحاصله منع زيادة الحجم بزيادة الأجزاء فلا يلزم من عدم تناهي الأجزاء أن يكون الحجم غير متناه ولا أن يكون بإزاء كل جزء من
____________________
(1/297)
المسافة جزء من الحركة والزمان ليلزم عدم تناهيهما
وثانيهما القول بالظفرة وهو أن يترك المتحرك حدا من المسافة ويحصل في حد آخر من غير محاذاة وملاقاة لما بينهما وحاصله قطع بعض حدود المسافة من غير ملاقاة لأجزائه وح لا يلزم امتناع أن يصل المتحرك إلى غاية ما أو يلحق السريع البطيء وكلا الأمرين باطل بالضرورة أما التداخل فلأن حاصله تساوي الكل والجزء في العظم وأما الطفرة فلأن معناها يؤول إلى قطع مسافة ما من غير حركة فيها وقطع لأجزائها ومن الشواهد الحسية لبطلانها أنا نمد القلم فيحصل خط أسود من غير أن يبقى في خلاله أجزاء بيض وليس ذلك لفرط اختلاط الأجزاء البيض بالسود بحيث لا يمتاز عند الحس لأن الأجزاء الممسوسة أقل من المطفور عنها بكثير بل لا نسبة لها إليها لكونها غير متناهية فينبغي أن يقع الإحساس بالبيض وقد يستدل على نفي التداخل بأنه إن كان بالأسر بمعنى أن يلاقي الجزء بكليته الجزء الآخر بحيث يصير حيزاهما واحدا لم يكن الوسطاني حاجبا للطرفين عن التماس وبقي الإشكال بالنظر إلى الأجزاء المتماسة بل لو وقع ذلك في جميع الأجزاء لم يحصل هناك حجم وتأليف وامتداد في الجهات فلم يحصل الجسم وإن كان لا بالأسر وذلك بأن يلاقي الجزء الجزء ويداخله بشيء دون شيء لزم التجزيء ولو بالفرض مع بقاء الأشكال بحاله واعلم أن النظام لم يقل بتأليف الجسم من أجزاء غير متناهية لكنه لما قال بالجزء ونظر في أدلة نفيه سيما ما تتعلق بلزوم بطلان حكم الحس كتفكك الرحى ونحوه اضطر إلى الحكم بأن كل جزء فهو قابل للانقسام لا إلى نهاية ولما كان من مذهبه أن حصول الأقسام من لوازم قبول الانقسام لزمه القول بلاتناهي الأجزاء فاضطر في قطع المسافة ولحوق السريع البطيء إلى الطفرة فاستمر التشنيع بطفرة النظام وتفكك رحى أهل الكلام فإن قيل المذكور في كتب المعتزلة أن الجسم عند النظام مركب من اللون والطعم والرائحة ونحو ذلك من الأعراض قلنا نعم إلا أن هذه عنده جواهر لا أعراض وتحقيق ذلك على ما لخصناه من كتبهم أن مثل الأكوان والاعتقادات والآلام واللذات وما أشبه ذلك أعراض لا دخل لها في حقيقة الجسم وفاقا وأما الألوان والأضواء والطعوم والروائح والأصوات والكيفيات الملموسة من الحرارة والبرودة وغيرهما فعند النظام جواهر بل أجسام حتى صرح بأن كلا من ذلك جسم لطيف من جواهر مجتمعة ثم أن تلك الأجسام اللطيفة إذا اجتمعت وتداخلت صارت الجسم الكثيف الذي هو الجماد وأما الروح فجسم لطيف هو شيء واحد والحيوان كله من جنس واحد وعند الجمهور كلها أعراض إلا أن الجسم عند ضرار بن عمرو والحسين النجار مجموع من تلك الأعراض وعند الآخرين جواهر مجتمعة تحلها تلك الأعراض فما وقع في المواقف من أن الجسم ليس مجموع أعراض مجتمعة خلافا للنظام والنجار ليس على ما ينبغي والصواب مكان النظام ضرار على ما في سائر الكتب ويمكن أن يقال الكلام فيما هو جسم اتفاقا
____________________
(1/298)
أعني المتحيز الذي له الأبعاد الثلاثة والنظام يجعله مجموع لون وطعم ورائحة ونحو ذلك مما هو من قبيل الأعراض في الواقع وإن كان هو يسميها جواهر بل أجساما فيوافق النجار في المعنى ويخالف القوم إلا أن الاحتجاج عليهما بأن العرض لا يقوم بذاته بل لا بد من الانتهاء إلى جوهر يقومه ولهما بأن الجواهر متماثلة والأجسام مختلفة فلا تكون جواهر ربما لا ينتظم على رأي النظام حيث يزعم أن كلا من تلك الأمور كالسواد مثلا جسم مؤلف من جواهر متماثلة في أنفسها قائمة بذواتها وإن لم تكن مماثلة لجواهر الآخر كالحلاوة أو الحرارة مثلا وبهذا يظهر أن الاحتجاج بأن الأجسام باقية والأعراض غير باقية لا ينتهض عليه مع أن بقاء الأجسام غير مسلم لديه وأما الجواب بمنع تماثل الجواهر فجدلي لا يتأتى على مذهب المانعين حتى لو قصد الإلزام تم المرام والأقرب منع اختلاف الأجسام بحسب الذات بل بحسب العوارض المستندة إلى إرادة القادر المختار والاختلاف إنما هو مذهب النظام وح يندفع ما ذكر في المواقف من أنه لا محيص لمن يقول بتجانس الجواهر عن أن يجعل جملة من الأعراض داخلة في حقيقة الجسم ليكون الاختلاف عائدا إليها ولا أدري كيف ذهل عما في هذا المخلص من الوقوع في ورطة أخرى هي عدم بقاء الأجسام ضرورة انتفاء الكل بانتفاء الجزء الذي هو جملة الأعراض الغير الباقية باعتراف هذا القائل وقد أشار إليه في تنوير اختلاف الجواهر بذواتها بقوله ولذلك اختلف أن الأعراض لا تبقى والجواهر باقية يعني لو لم تكن الجواهر مختلفة بذواتها لما كانت الأجسام المختلفة محض الجواهر المجتمعة بل مع جملة من الأعراض وحينئذ يلزم عدم بقائها لعدم بقاء الأعراض ولا يخفى أنه كان الأنسب أن يقول والأجسام باقية إلا أنه أراد بالجواهر ما يعم الجوهر الفرد والجسم الذي هو مجموع جواهر مجتمعة ( قال وقطع ما لا يتناهى فيما يتناهى ضلال ) قد يجاب عن أشكال قطع المسافة المعينة بأنه إنما يتوقف على زمان غير متناهي الأجزاء ينطبق كل جزء منها على جزء من الحركة وهو على جزء من المسافة وهذا لا يستلزم عدم تناهي الزمان لأن المحدود من الحركة والزمان يشتمل على أجزاء غير متناهية كالجسم المتناهي وهذا كما أن المسافة المعينة تحتمل عند الفلاسفة الانقسام إلى غير النهاية ولا يمتنع قطعها في زمان متناه مع أن قطعها يتوقف على قطع نصفها ونصف نصفها وهلم جرا إلى ما لا يتناهى وذلك لأن كلا من الحركة والزمان المحدودين أيضا قابل للانقسام إلى غير النهاية ويدفع بأن ما يوجد شيئا فشيئا من بداية إلى نهاية فامتناع كونه غير متناهي العدد معلوم بالضرورة والقول به ضلال عن طريق الحق بخلاف قبوله الانقسام إلى غير النهاية بالمعنى الذي ذكروه على ما مر فإن قيل هذا ليس تمشية لبرهان قطع المسافة بل رجوعا إلى برهان المحصور بين حاصرين قلنا نعم إلا أن هذا لما كان فيما له امتداد طولي فقط كالحركة والزمان في غاية الظهور بين به حال الجسم ( قال وأما الفلاسفة ) يريد أن أدلة نفي الجزء الذي لا يتجزأ على كثرتها ترجع
____________________
(1/299)
إلى عدة أصول يتفرع على كل منها وجوه من الاستدلال فجعلت بمنزلة الطرق وأشير في عنوان كل منها إلى وجه الضعف ومورد المنع فمنها ما يبتنى على أن تعدد جهات الشيء ونهاياته تستلزم الانقسام في ذاته وهي وجوه
الأول أنه لو وجد الجزء أي الجوهر المتحيز الذي لا انقسام فيه أصلا لتعددت جهاته ضرورة فتتعدد جوانبه وأطرافه لأن ما منه إلى اليمين غير ما منه إلى اليسار وكذا الفوق والتحت والقدام والخلف فيلزم انقسامه على تقدير عدم انقسامه وهو محال
الثاني أنه إذا انضم جزء إلى جزء فإما أن يلاقيه بالكلية بحيث لا يزيد حيز الجزئين على حيز الجزء الواحد فيلزم أن لا يحصل من انضمام الأجزاء حجم ومقدار فلا يحصل جسم أو لا بالكلية بل بشيء دون شيء فيكون له طرفان وهو معنى الانقسام
الثالث أنه إذا تماست ثلاثة أجزاء على الترتيب بأن يكون واحد منها بين اثنين فالوسطاني إما أن يمنع الآخرين عن التلاقي والتماس فيكون وجهه الذي يلاقي أحدهما غير الذي يلاقي الآخر فينقسم وإما أن لا يمنعهما فلا يحصل من اجتماع الجزئين حجم ومقدار وهكذا في الثالث والرابع فلا يحصل الحجم
الرابع أنا نفرض صفحة من أجزاء لا تتجزأ بحيث يكون له الطول والعرض فقط فإذا أشرقت عليها الشمس فبالضرورة يكون وجهها المقابل للشمس المضيء بها غير الوجه الآخر فينقسم
الخامس أنه إذا وقع جزء لا يتجزأ على ملتقى جزئين آخرين لزم انقسام الثالث أما الملازمة فلأن التماس بينه وبين كل منهما إنما يكون بالبعض أي يكون شيء منه مماسا لشيء من هذا وشيء آخر مماسا لشيء من ذاك إذ لو ماس أحدهما بالكلية لكان عليه لا على الملتقى وأما بيان حقيقة الملزوم فبوجوه
( 1 ) أن نفرض الجزء على الملتقى وفيه مناقشة لا تخفى
( 2 ) أن يتحرك من جزء إلى جزء فاتصافه بالحركة إنما يكون عند كونه على الملتقى لا على الأول إذ لم تبتدأ الحركة ولا على الثاني إذ قد انقطعت
( 3 ) أن تفرض خطا من أربعة أجزاء فوق الأول جزء وتحت الرابع جزء ثم تفرض مرور الفوقاني والتحتاني على الخط بحركة على السواء مع اتفاق في الابتداء أي تكون الحركتان على حد واحد من السرعة والبطء فيكون ابتداؤهما معا فبالضرورة تتحاذيان على ملتقى الثاني والثالث أي حيث يكون الفوقاني فوق الملتقى والتحتاني تحته
( 4 ) أن نفرض خطا من خمسة أجزاء فوق الأول جزء وفوق الخامس جزء ثم أخذا معا في حركة على السواء إلى حد الالتقاء فبالضرورة يكون ذلك في وسط الخط أعني الجزء الثالث فيكون هو ملتقاهما من تحت ولا يخفى أن هذه البيانات إنما تتم على من يجوز وجود الجوهر الفرد على الانفراد ثم حركته على الإطلاق ثم حركته على الانحناء المخصوصة المؤدية إلى المحال وأما ما ذكر في بعض كتب المعتزلة من أن الوجوه المذكورة إنما تدل على الانقسام بالوهم ونحن نعني بالجزء مالا ينقسم بالفعل فرجوع إلى مذهب ذيمقراطيس ( قوله ومنها ) اي ومن طرق الاحتجاج على نفي الجزء
____________________
(1/300)
الذي لا يتجزأ ما يبتنى على أن تفاوت الحركتين بالسرعة والبطء ليس لتحلل سكنات بين أجزاء الحركة البطيئة إما لكونه مستحيلا في نفسه بما ذكر عليه من الدليل وإما لاستلزامه أمرا معلوم الانتفاء قطعا كتفكك أجزاء الجسم الذي في غاية الاستحكام لحظة فلحظة ثم التئامها وكتخلف المعلول عن العلة أو تحققه بدونها حينا فحينا بيان ذلك أنا نجد المتوافقين في الأخذ والترك قد يتفاوتان في المسافة فيحكم بأن الذي قطع مسافة أطول أسرع حركة والآخر أبطأ فلو كانت المسافة من أجزاء لا تتجزأ فعند قطع السريع جزأ إما أن يقطع البطيء جزأ فيتساويان أو أكثر فأبعد أو أقل فينقسم الجزء فلم يبق إلا أن يكون له في خلال حركاته سكنات ولما كان هذا غير ممتنع عند المتكلمين بل مقررا أعرضنا عنه إلى ما يكون تحلل السكنات فيه مستلزما لما هو معلوم الانتفاء كتفكك أجزاء الجسم الذي هو مثل في الشدة والاستحكام كالحجر أو الذي لو تفككت أجزاؤه لتناثرت كالفرجار أو كان له شعور بذلك بل تبطل حياته وحركته عند الأكثرين كالإنسان أو الذي ذهب جمع من العقلاء إلى امتناع تفككه كالفلك وكوجود العلة بدون المعلول في حركة الشمس مع سكون الظل ووجود المعلول بدون علته في حركة الدلو إلى العلو مع سكون حبل الكلاب فيما إذا فرضنا بئرا عمقها مائة ذراع مثلا وفي منتصفها خشبة شد عليها طرف حبل طوله خمسون ذراعا وعلى طرفه الآخر دلو ثم شددنا كلابا على طرف حبل آخر طوله خمسون ذراعا وأرسلناه في البئر بحيث وقع الكلاب في الحبل الأول على طرفه المشدود في الخشبة ثم جررناه إلى رأس البئر فيكون ابتداء حركة الكلاب من الوسط والدلو من الأسفل معا وكذا انتهاؤهما إلى رأس البئر وقد قطع الدلو مائة ذراع والكلاب خمسين مع أن حركة الكلاب من تمام علة حركة الدلو فلو كان له سكنات في خلال حركته لزم وجود المعلول بدون علته التامة ( قال ومنها ) أي ومن تلك الطرق ما يبتنى على اصول هندسية لا سبيل إلى إثباتها إلا على تقدير انتفاء الجزء كما يظهر للناظر في البراهين المذكورة في كتاب إقليدس ولهذا كانت وجوه هذا الطريق كثيرة جدا ولنذكر عدة منها
الأول أنه يمكن لنا أن نعمل على كل خط شيئا مثلثا متساوي الأضلاع ولا يتصور ذلك في الخط المركب من جزئين إلا بأن يقع جزء على ملتقى الجزئين وقد عرفت أنه يوجب انقسام الثلاثة
الثاني أن كل زاوية فإنه يمكن تنصيفها فيلزم تجزيء الجزء الذي هو الملتقى خط الزاوية
الثالث أن كل خط فإنه يمكن تنصيفه ففي المركب من أجزاء الوتر يلزم انقسام الجزء الذي في الوسط وقد بين ذلك في الهندسة بأن يعمل
____________________
(1/301)
على ذلك الخط مثلث متساوي الأضلاع ثم تنصف الزاوية التي يؤثرها ذلك الخط بخط واصل منها إليه فتكون على منتصفه وبين منتصف الزاوية بأن يجعل خطاها متساويين ثم يوصل بين طرفيهما بخط يكون وترا لها ويعمل عليه من الطرف الآخر مثلث متساوي الأضلاع ثم يخرج خط من زاوية المثلث الأول إلى زاوية المثلث الثاني مارا بالخط الذي هو وتر لهما فينتصف الزاوية وبين عمل المثلث المتساوي الأضلاع على الخط بأن يرسم ببعده دائرتان يكون كل من طرفي الخط مركز الواحدة منهما فيتقاطعان لا محالة فيخرج من كل من المركزين خط إلى نقطة تقاطع الدائرتين ليحصل مثلث متساوي الأضلاع لكونها أنصاف أقطار الدائرتين المتساويتين هذا ولكن لا سبيل إلى إثبات الدائرة على القائلين بالجزء على ما ستعرفه
الرابع أن كلا من الدائرة والكرة ممكن بل متحقق أما الدائرة فلأنا نتخيل على السطح المستوي خطا مستقيما متناهيا نثبت أحد طرفيه ونديره حول طرفه الثابت إلى أن يعود إلى موضعه الأول فيحصل سطح يحيط به خط مستدير حاصل من حركة الطرف المتحرك وفي باطنه نقطة هي الطرف الثابت جميع الخطوط الخارجة من تلك النقطة إلى ذلك المحيط متساوية لكون كل منها بقدر ذلك الخط الذي أدرناه ولا نعني بالدائرة إلا ذلك السطح أو الخط المحيط به وأما الكرة فلأنا إذا أثبتنا قطر الدائرة أعني الخط الخارج من المركز إلى المحيط في الجهتين وأدرناه نصف الدائرة على ذلك الخط إلى أن يعود إلى وضعه الأول حصل سطح مستدير محيط بجسم في باطنه نقطة جميع الخطوط الخارجة منها إلى ذلك السطح متساوية ولا نعني بالكرة إلا ذلك الجسم المحاط والسطح المحيط ثم أن كلا من الدائرة والكرة ينافي كون الأجسام والخطوط والسطوح من أجزاء لا تتجزأ أما الدائرة فلأنها لو كانت من أجزاء لا تتجزأ فإما أن تكون ظواهر الأجزاء متلاقية كبواطنها أو لا فعلى الأول إما أن تكون بواطنها أصغر من الظواهر فينقسم الجزء أو لا فيساوي في المساحة باطن الدائرة أعني المقعر ظاهرها أعني المحدب وهو باطل بالضرورة وإن شئت فبالبرهان وذلك أنه يستلزم تساوي جميع الدوائر المحاطة بها حتى التي يقرب المركز وكذا جميع الدوائر المحيطة بها حتى المحيط بجميع الأجسام وبطلانه ضروري واللزوم بين لأن التقدير تساوي الظاهر والباطن من كل دائرة وباطن المحيط يساوي ظاهر المحاط بحكم الضرورة وبحكم أن بإزاء كل جزء من المحيط جزأ من المحاط لأنه لا اصغر من الجزء ولا فرج بين ظواهر الأجزاء وعلى الثاني وهو أن تكون ظواهر الأجزاء غير متلاقية يلزم انقسام الجزء لأن غير الملاقي غير الملاقي وأيضا فما بينها من الفرج إن لم يسع كل منها جزأ لزم انقسام الجزء وإن وسعه لزم كون الظاهر ضعف الباطن والحس يكذبه وأما الكرة فلأنها لو كانت من أجزاء لا تتجزأ فالمدار الذي يلاصق المنطقة التي هي أعظم الدوائر المتوازية على الكرة إما أن يكون بإزاء
____________________
(1/302)
كل جزء من المنطقة جزء منه فيلزم تساويهما وهكذا جميع ما يوازيهما حتى التي حول القطب وبطلانه ظاهر أو اقل من جزء فيلزم انقسام الجزء إذا تقرر هذا فقد انتظم أنه كلما صح القول بالدائرة أو الكرة لم يصح القول بالجزء لكن المقدم حق أو كلما صح القول بالجزء لم يصح القول بهما لكن التالي باطل ولا خفاء في أن ما ذكروا من حركة الخط ونصف الدائرة محض توهم لا يفيد إمكان المفروض فضلا عن تحققه ولو سلم فإنما يصح لو لم يكن الخط والسطح من أجزاء لا تتجزأ إذ مع ذلك تمتنع الحركة على الوجه الموصوف لتأديها إلى المحال
الخامس برهن إقليدس في شكل العروس على أن كل مثلث قائم الزاوية فإن مربع وتر زاويته القائمة مساو لمربعي ضلعيها بمعنى أن الحاصل من ضربه في نفسه مثل مجموع الحاصل من ضرب كل من الضلعين في نفسه فإذا فرضنا كلا من الضلعين عشرة مثلا كان مجموع مربعيهما مأتين فيكون الضلع الآخر أعني وتر القائمة جذر المأتين وهو أكثر من أربعة عشر لأن مجذورها مائة وستة وتسعون وأقل من خمسة عشر لأن مجذورها مائتان وخمسة وعشرون وكذا في كل ما لا يكون لمجموع مربعي الضلعين جذر منطبق
السادس نفرض خطا من جزئين فنضع فوق أحدهما جزأ فتحصل زاوية قائمة فوترها يجب أن يكون أقل من الثلاثة وأكثر من الاثنين لما بين إقليدس من أن وتر القائمة أقل من مجموع ضلعها وأكثر من كل منهما
السابع نفرض مربعا من أربعة خطوط مستقيمة مضمومة بعضها إلى البعض على غاية ما يكن كل منهما من أربعة أجزاء فقطره خط يحصل من الجزء الأول من الخط الأول والثاني من الثاني والثالث من الثالث والرابع من الرابع فإن كانت متلاقية كان القطر مساويا للضلع ويبطله شكل العروس وإن كان بينها فرج ولا تكون إلا ثلثا فأما أن يسع كل منها جزأ فيكون القطر كالضلعين سبعة أجزاء وهو باطل بالشكل الحماري أو أقل فينقسم الجزء وبما ذكرنا من استقامة الخطوط وتضامها على غاية ما يمكن فظهر امتناع أن تقع الفرج فيما بين بعض الأجزاء دون البعض ( قال ومنها ) أي من تلك الطرق ما يبتنى على مقدمات هي بصدد المنع وهي وجوه
الأول لو كان الجسم من أجزاء لا تتجزأ لكان الجزء ذاتيا له متعقلا قيل تعقله بين الثبوت له غير مفتقر إلى البيان ولا منكرا عند كثير من العقلاء ورد بأن ذلك إنما هو في الأجزاء العقلية كالأجناس والفصول ومع ذلك فيشترط تعقل الماهية بحقيقتها وأما الجزء الخارجي فقد يفتقر إلى البيان كالهيولي والصورة عندكم وكذا العقلي إذا لم تتصور الماهية بحقيقتها كجوهرية النفس وتجردها
الثاني لو وجد الجزء لكان متناهيا ضرورة وكان متشكلا كرة أو مضلعا لأن المحيط به إما حد واحد أو أكثر وكل منهما يستلزم الانقسام أما المضلع فظاهر وأما الكرة فلأنه لا بد عند انضمام الكرات من تخلل فرج يكون كل منها أقل من الكرة ورد بعد تسليم تشكل الجزء بأن
____________________
(1/303)
ذلك إنما هو في الأجسام الكرية دون الأجزاء
الثالث لا شك أن كل جسم يصير ظله مثليه في وقت ما وح يكون بالضرورة نصف ظله ظل نصفه فظل الجسم الذي طوله أجزاء وتر تكون شفعا له نصف هو ظل نصف ذلك الجسم فينتصف الجسم وينقسم الجزء ورد بمنع الكلية وإنما ذلك فيما يكون له نصف ( قال ثم إنهم أبطلوا ) يشير إلى إبطال ما ذهب إليه ذيمقراطيس وجمع من القدماء من أن ما يشاهد من الأجسام المفردة كالماء مثلا ليست بسائط على الإطلاق بل إنما هي حاصلة من تماس بسائط صغار متشابهة الطبع في غاية الصلابة غير قابلة للقسمة الانفكاكية بل للوهمية فقط وبهذا وبتسميتها أجساما يمتاز هذا المذهب عن مذهب القائلين بالجزء وتقريره أن تلك الأجزاء لما كانت متشابهة الطبع باعترافهم جاز على كل منها ما جاز على الآخر وعلى المجموع الحاصل من اجتماعها والقسمة الانفكاكية مما يجوز على المجموع فيجوز على كل جزء إذ لو امتنعت على الجزء نظرا إلى ذاته لامتنعت على المجموع ثم إمكان الانفكاك نظرا إلى الذات لا ينافي امتناعه لعارض تشخص أو غيره من صور نوعية أو غاية صغر أو صلابة أو عدم آلة قطاعة أو نحو ذلك فلا يرد اعتراض الإمام بأن الامتدادات الجسمية غير باقية عند الانفصال ومتجددة عند الاتصال فهي أمور متشخصة ولعلها تمنع الماهية المشتركة عن فعلها وأما اعتراضه بمنع تساوي الأجسام في الماهية فلا يندفع بأن مبنى الكلام على اعترافهم بكون تلك البسائط متساوية في الطبع لأن مراده على ما صرح به في المباحث المشرقية هو أنه لو ادعى مدع أنها متخالفة بالماهية وأنه لا يوجد جزآن متحدان في الماهية لم يثبت أن كل جسم قابل للقسمة والانفكاكية فلم يتم دليل إثبات الهيولي لكن لا خفاء في أنه احتمال بعيد لأن الكلام في الجسم المفرد الذي لا يعقل فيه اختلاف طبيعي وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول من قال أن القسمة بأنواعها تحدث في المقسوم إثنينية تساوي طباع كل واحد منها طباع المجموع على القسمة الواردة على الجسم المفرد وإلا ففساده واضح وفسر الطباع بمصدر الصفة الذاتية الأولية للشيء حركة أو سكونا كان أو غيرهما فيكون أعم من الطبيعة وفسر أنواع القسمة بما يكون بحسب الفك والقطع أو بحسب الوهم والفرض أو بحسب اختلاف عرضين قارين أي ما هو للموضوع في نفسه كالسواد والبياض أو غير قارين أي ما هو له بالقياس إلى الغير كالتماس والتحاذي وذلك لأن الانقسام أن تأدي إلى الافتراق فالأول وإلا فإن كان في مجرد الوهم فالثاني ولا فالثالث وبما ذكرنا من اعتبار مجرد الوهم صار هذا قسما ثالثا وإلا فهو من قبيل الانقسام الوهمي والفرضي بدليل قولهم أن الجزء مالا ينقسم لا كسرا ولا قطعا ولا وهما ولا فرضا من غير تعرض لما يكون باختلاف عرضين وذلك للقطع بأن الجسم الذي يتسخن بعضه أو وقع الضوء على بعضه أو لاقى ببعضه جسما آخر لم يحصل فيه الانفصال بالفعل وبحسب الخارج ولم يصر جسمين ثم إذا زال ذلك التسخن أو الضوء أو الملاقاة عاد جسما واحدا ولو كان كذلك
____________________
(1/304)
لكانت المسافة تصير أقساما غير متناهية في الخارج بحسب موافاة المتحرك حدودا ثم تعود متصلة في نفسها واحدة في ذاتها عند انقطاع الحركة وما يقال أنا قاطعون بأن محل البياض من الجسم غير محل السواد منه مسلم لكن باعتبار اختلاف العرضين لا بالنظر إلى ذات الجسم بحيث يعرض له انفصال وتميز في الخارج بل بالفرض العقلي ولهذا قال في الشفاء ومن الذي بالفرض اختصاص العرض ببعض دون بعض حتى إذا زال ذلك العرض زال ذلك الاختصاص مثل جسم تبيض لا كله فيفرض له بالبياض جزء إذا زال ذلك البياض زال افتراضه فما ذكر في شرح الإشارات من أن الانفصال بحسب اختلاف العرضين انفصال في الخارج من غير تأد إلى الافتراق يحمل على أنه لأمر في الخارج وما ذكر في منطق الشفاء من أنه انفصال بالفعل يحمل على فعل الأذهان دون الأعيان ( قال ثم احتج المشاؤون ) لما بطل كون الجسم متألفا من أجزاء لا تتجزأ أصلا أو تتجزأ وهما لأفعال متناهية أو غير متناهية يكون اتصاله باجتماعها وانفصاله بافتراقها ثبت أنه متصل في نفسه كما هو عند الحس قابل للانفصال نظرا إلى ذاته على ما مر فله امتداد جوهري تتبدل عليه المقادير المختلفة أعني الجسم التعليمي الذي هو من قبيل الكميات كالشمعة التي تجعل تارة مدورا وتارة مكعبا وتارة صفحة رقيقة إلى غير ذلك وزعموا أن حقيقة الجسم لا تعقل بدون تعقله بل لا تدرك في بادي النظر من الجسم غيره أعني الجوهر الذي له الامتدادات العرضية الآخذة في الجهات فليس هو خارجا عن حقيقة الجسم بل عند أفلاطون وأشياعه نفس الجسم ويقبل الانفصال لذاته وعند أرسطو وأتباعه جزء منه حال في جزء آخر هو القابل للانفصال لأن القابل يجب اجتماعه مع المقبول والاتصال يمتنع أن يبقى مع الانفصال فلا بد من جوهر قابل للاتصال والانفصال يبقى معهما ويتبدل عليه الهويات الاتصالية المختلفة بالشخص وهو المسمى بالهيولي والجوهر الحال بالصورة الجسمية وتحقيق ذلك أن أول ما يدرك من الجسم هوية امتدادية لا تنعدم بانعدام مقدار عنها وحدوث آخر ولا تعقل حقيقة الجسم دون تعقلها بل ربما لا يعقل في بادي النظر من الجسم سواها وهم يسمونها بالاتصال والمتصل بمعنى الجوهر الذي شأنه الاتصال ويعنون بالاتصال الذي هو شأن ذلك الجوهر كونه بحيث تفرض فيه الأبعاد الثلاثة المتقاطعة الآخذة في الجهات وإن كان لفظ الاتصال يطلق على معان أخر عرضية إضافية ككون الجسم بحيث يتحرك بحركة جس آخر وككون المقدار متحد النهاية بمقدار آخر كضلعي الزاوية أو غير إضافية ككون الشيء بحيث إذا فرض انقسامه حدث حد مشترك هو بذاته لا حد قسميه ونهاية للآخر كالسطح لقسمي الجسم والخط لقسمي السطح والنقطة لقسمي الخط والمتصل بهذا المعنى فصل
____________________
(1/305)
للكم يميزا حد نوعيه وهو المقدار عن الآخر وهو العدد ويقع على الجسم التعليمي لأنه ذو اتصال بهذا المعنى وعلى الصورة الجسمية لأنها ذات اتصال بمعنى الجسم التعليمي وعلى الجسم الطبيعي لأنه ذو اتصال بمعنى الصورة الجسمية ثم لا خفاء في أن تلك الهوية الاتصالية لا يبقى نفسها عند طريان الانفصال بل تنعدم ويحدث هويتان أخريان مع القطع بأنه يبقى في حالتي الاتصال والانفصال أمر واحد وهو القابل لهما بالذات للفرق الضروري بين أن ينعدم جسم بكليته ويحدث جسمان آخران أو ينعدم جسمان ويحدث جسم ثالث وبين أن ينفصل جسم فيصير جسمين أو يتصل جسمان فيصير جسما واحدا كماء الجرة يجعل في كيزان أو ماء الكيزان يجعل في جرة فذلك أن الأمر الباقي في الحالين هو المراد بالهيولي وهو استعداد محض ليس في نفسه بواحد ومتصل ليمتنع طريان الكثرة والانفصال عليه مع بقائه بحاله ولا كثير ومنفصل ليمتنع طريان الاتصال عليه بل وحدته واتصاله بحلول الصورة الاتصالية فيه وانفصاله وكثرته بطريان الانفصال عليه فإن قلت الهوية الاتصالية بمعنى الامتداد الجوهري مما أنكره المتكلمون وكثير من الفلاسفة فكيف يصح دعوى كونها أول ما يدرك من جوهرية الجسم وإنما ذلك هو المقادير والامتدادات الفرضية قلنا لا نزاع في ثبوت جوهر شأنه الامتداد والاتصال وفي كونه مدركا بالحس ولو بواسطة ما يقوم به من الأعراض وإنما النزاع في أنه هل هو في نفس الأمر متصل واحد كما هو عند الحس أم لا وعلى الأول هل هو تمام الجسم أم لا بل يفتقر إلى جزء آخر يتوارد عليه الاتصال والانفصال وأما الامتدادات العرضية أعني المقادير فهي التي أنكرها المتكلمون وكثير من الفلاسفة أعني القائلين بأنها أمور عدمية لكونها نهايات وانقطاعات فالسطح للجسم والخط للسطح والنقطة للخط وفيما ذكرنا من التقرير دفع لعدة إشكالات نورد في هذا المقام
الأول أن كون الاتصال جوهرا أو جزأ من الجسم ظاهر البطلان إذ لا يعقل منه إلا ما يقابل الانفصال وهما عرضان يتعاقبان على الجسم إذا تحققتهما كانا عائدين إلى وحدته وكثرته وجوابه أنا لا نعني بالاتصال هذا المعنى بل الجوهر الذي شأنه الاتصال وامتداد العرضي وكونه ظاهر الآنية للجسم موقوفا تعقل حقيقة الجسم على تعقله مما لم يشك فيه عاقل ولم ينكره أحد إلا ما نسب إلى البعض من كون الجسم محض الأعراض على أنه أيضا قابل بأنها عند الاجتماع تصير جوهرا قائما بنفسه وإنما النزاع في كونه واحدا في نفس الأمر لا متحصلا من اجتماع الأجزاء وفي كونه جزأ من الجسم لا تمام حقيقته فهذا هو الذي يثبت بالبرهان لا يقال فما ذكر لا يفيد كونه جزأ لجواز أن تكون تلك الهوية الاتصالية الجوهرية التي يجعلونها صورة حالة في مادة نفس الجسم من غير حلول في جزء آخر ويكون قبول
____________________
(1/306)
الانفصال بأن ينعدم ويحدث هويتان اتصاليتان أخريان كيف وقد جعلتموها جوهرا قابلا للأبعاد ومتحيزة بالذات فيكون قيامها بنفسها لا بغيرها لأنا نقول ضرورة التفرقة بين انعدام جسم بالكلية وحدوث جسمين وبين زوال الهوية الاتصالية إلى هويتين هي التي شهدت بوجود جزء آخر باق في الحالين ثم أنهم لم يجعلوا الصورة قائمة به لتنافي جوهريتها بل حالة فيه وقد سبق أن الحال في الشيء أعم من القائم به لكن الشأن في لزوم كون ذلك الأمر الباقي محلا للجوهر الذي سموه الصورة الجسمية وعبروا عنها بالهوية الاتصالية وفي تصور حلول الجوهر في الشيء مع امتناع قيامه به فإن قيل نسبة المقبول إلى القابل اختصاص الناعت وهو معنى الحلول قلنا الكلام في كون الهوية الاتصالية بمعنى الجوهر الذي شأنه الاتصال مقبولا وإنما يظهر ذلك في الاتصال العرضي المقابل للانفصال
الثاني أن الانفصال إنما يفتقر إلى محل باق لو كان وجوديا وهو ممنوع بل هو عبارة عن انعدام الاتصال وزواله والجواب أنه ليس عدم الاتصال مطلقا بل عما من شأنه الاتصال وهو المعنى بالقابل الباقي بل هو عدم اتصال الاتصالين أي زوال هوية اتصالية وحدوث هويتين اتصاليتين فلا بد من أمر قابل للاتصال تارة وللاتصالين أخرى
الثالث لو كان قبول الانفصال محوجا إلى المادة لاحتاجت المادة إلى مادة أخرى لا إلى نهاية ضرورة قبولها الانفصال وجوابه أن المحوج هو قبول الانفصال فيما يكون متصلا بذاته كالصورة والجسم وليست الهيولي كذلك وتحقيقه أن ما يكون متصلا في ذاته ينعدم عند ورود الانفصال فيفتقر إلى أمر لا يكون متصلا في ذاته ولا منفصلا بل يتوارد عليه الاتصال والانفصال وهو هو بعينه في الحالين يصير واحدا متصلا بعروض الوحدة والاتصال ومتعددا منفصلا بعروض الكثرة والانفصال من غير افتقار إلى أمر آخر
الرابع أن كون الاتصال جزأ من الجسم ينافي كون الجسم قابلا للاتصال والانفصال لأن الأول يستلزم انعدام الجسم عند زوال الاتصال والثاني يستلزم بقاءه عند ضرورة اجتماع القابل مع المقبول فحينئذ يتوجه أن يقال لو كان الاتصال جزأ لم يكن الجسم قابلا للانفصال وقد قلتم ببطلان اللازم أو يقال لو كان الجسم قابلا لم يكن الاتصال جزأ وقد قلتم بحقية الملزوم وهكذا في الجانب الآخر لا يقال الاتصال يطلق بالإشراك أو المجاز على امتداد جوهري هو الجزء وليس بزايل عن الجسم بل ينعدم الجسم بانعدامه وعلى عرضي هو الزائل عن الجسم وليس بجزء له بل كمية عارضة لأنا نقول الاتصال الذي يزول بطريان الانفصال إن كان هو الأول لم يكن القابل للانفصال هو الجسم لانعدامه حينئذ فيبطل قولكم في إثبات الهيولي
____________________
(1/307)
أن الجسم قابل للاتصال والانفصال وإن كان هو الثاني لم ينعدم الجسم بانعدامه فلم يمتنع كونه قابلا للانفصال بذاته من غير افتقار إلى الهيولي لا يقال الامتداد العرضي من لوازم الجسمية فزواله بزوالها لأنا نقول الزائل امتداد مخصوص وليس بلازم واللازم امتداد ما وليس بزائل كما يرى في الشمعة من تبدل المقادير مع بقاء الجسمية بعينها لا يقال فكذلك الامتداد الجوهري لأنا نقول هذا لا يضر بالمقصود بل يفيده لأن ما يزول عنه خصوص امتداد جوهري ويطرأ آخر أن هو المعنى بالهيولي ولذا قالوا كما يتبدل المقادير على جوهر باق هو الصورة تتبدل الصور على جوهر باق هو المادة بل الجواب أن ليس معنى قبول الجسم للانفصال أنه بعينه ومع بقائه بجميع أجزائه يقبله بل أن فيه جزأ باقيا بعينه هو القابل بالحقيقة له وللاتصال الذي يقابله إما عدم الزوال بالكلية فلضرورة التفرقة بين انعدام ماء الجرة بالمرة وبين انفصاله إلى مياه جمة وإما عدم البقاء بتمام الماهية واقتصار الزوال على الهوية فلانعدام الجزء الذي هو الاتصال هذا والاتصاف أن انفصال الماء إلى المياه ليس بانعدام جوهر وحدوث آخر وأن الباقي في الحالين هو الماء بحقيقته وإن تبدل في هويته لا جزء منها هو الهيولي
الخامس أن الجسم الواحد إذا انفصل إلى جسمين فإما أن تكون مادة هذا هي مادة ذاك بعينها وهو مع كونه ضروري البطلان يستلزم أن يكون الواحد بالشخص في حيزين ومتصفا بجسميتين وإما غيرها وحينئذ إما أن تكون المادتان قد كانتا موجودتين عند الاتصال فيشمل الجسم على أجزاء بالفعل بل يكون له مواد غير متناهية بحسب قبول الانقسام بل يتألف من أجسام لا تتناهى ضرورة أن كل مادة تستدعي صورة على حدة أو غير موجودتين فيلزم أن يكون انفصال الجسم انعداما له بالكلية لا بمجرد صورته الاتصالية وهو مع بطلانه يبطل مقصود الاستدلال أعني بقاء أمر قابل للاتصال والانفصال وجوابه أن المادتين كانتا موجودتين لكن بصفة الوحدة لوحدة الاتصال والآن بصفة التعدد لتعدده ولا يلزم من تعددها بعد الوحدة انعدامها وافتقارها إلى مادة أخرى لما سبق من أنها استعداد محض ليس بمتصل واحد في نفسه كما ليس بمتعدد وإنما يفرض له ذلك تبعا للصورة فمناط هذا الإشكال وإن أطنب فيه الإمام الرازي راجع إلى الثلاث وههنا إشكال آخر وهو أن المطلوب ثبوت المادة لكل جسم وهذا الدليل لا يتم في الجسم الذي يمتنع عليه الانفصال الانفكاكي كالفلك إذ قبول الانقسام الوهمي لا يستدعي قابلا في الخارج وسيجيء جوابه في فروع الهيولي ( قال وذهب الإشراقيون ) هم قوم من الفلاسفة يؤثرون طريق أفلاطون وما له من الكشف والعيان على طريقة أرسطو وما له من البحث والبرهان ذهبوا إلى أن الجسم متصل واحد في نفسه كما هو عند الحس لا تركيب فيه اصلا لا من أجزاء لا تتجزأ ولا من الصورة والهيولي بل هو مقدار جوهري لا يتغير في ذاته بتبدل المقادير العرضية عليه
____________________
(1/308)
أعني ما يوجد بحسب ذهاب جوانب الجسم في الجهات ويسمى طولا وعرضا وعمقا مثلا المقدار الذي هو الشمعة لا يتغير عن ذلك القدر بتغير الأشكال وإنما يتغير ذهاب آحاد المقادير في الجهات فيزيد الطول على ما كان وينقص العرض أو بالعكس وكذا العمق وليس الانفصال عبارة عن زوال الاتصال بهذا المعنى أعني المقدار الجوهري بل بالمعنى الذي يعتبر بين المقدارين فلا يمتنع قبوله إياه مع بقائه بذاته ومنشأ الغلط إطلاق لفظ الاتصال على المعنيين والأجسام المتشاركة في الجسمية إنما تختلف في المقادير المخصوصة التي هي بإزاء الجسميات المخصوصة لا في المقدار المطلق الذي بإزاء الجسم المطلق ثم الجسم من حيث قبوله للهيئات المتبدلة عليه ومن حيث حصول الأنواع المختلفة منه يسمى هيولي كما تسمى تلك الهيئات من حيث تواردها عليه صورا واعترضوا على الحجة المذكورة التي هي العمدة في إثبات الهيولي بوجوه
الأول أنه إن أريد بالامتداد والاتصال الجوهر الممتد في الجهات القابل للأبعاد فلا نسلم أنه غير الجسم بالامتداد والاتصال وإن أريد ما يفهمه العقلاء من هذين اللفظين فلا نسلم أنه جوهر بل عرض ودعوى كونه جزأ من حقيقة الجسم وأول ما يدرك من جوهريته غير مسموعة والتمسك بأن ما في الشمعة امتدادا باقيا مع تبدل المقادير عليه ضعيف لأن ذلك هو مطلق الامتداد الباقي بتعاقب خصوصياته من غير ثبوت أمر سوى الخصوصيات كما يقطع ببقاء الشكل عند تبدل الأشكال مع القطع بأنه عارض وبالجملة فلا نسلم أن فيها امتدادا معينا ثابتا لا يتغير أصلا فإن قيل نعني به ذلك الأمر الذي لم ينعدم عند تبدل الأشكال والمقادير وانعدم عند انفصال الشمعة إلى الشمعتين قلنا هو ما يقابل الانفصال من اتصال الأجزاء المفروضة بعضها بالبعض وهو عرض والباقي هو الجسم نفسه وحاصل الكلام أنا لا نسلم أن الاتصال والامتداد بالمعنى الذي يقابل الانفصال ويزول بطريانه جوهر وجزء من الجسم بل لا يعقل منه إلا أمر لا قوام له بنفسه ولا غنى له عن الموضوع فلا يكون إلا عرضا غايته أنه لازم للجسم فعند زواله إلى اتصالين يصير الجسم جسمين حتى لو أمكن زواله لا إلى اتصالين انعدم الجسم بالكلية وإما بمعنى الأمر الذي شأنه الامتداد في الجهات وصحة فرض الأبعاد فلا نسلم أنه غير الجسم كيف ولا يعقل منه إلا أمر قائم بنفسه متحيز بذاته مستغن في قوامه عن المحل والتعبير عنه بالهوية الاتصالية أو المتصل بالذات أو نحو ذلك من العبارات لا يفيد
الثاني أن الامتداد طبيعة واحدة فيمتنع كون بعض أفراده أو أصنافه جوهرا والبعض عرضا وإن وقع الاصطلاح على تسمية بعض الجواهر بذلك فلا نسلم أن في المتحيز جوهرا غير نفس الجسم
الثالث أنه لو كان في الجسم امتدادان أحدهما جوهري والآخر عرضي فإن فضل أحدهما على الآخر وقع القدر الذي به التفاضل لا في مادة وهو محال إذ لا عرض بدون الموضوع ولا صورة بدون الهيولي وبالجملة لا حال بدون المحل وإن لم يفضل بل تساويا في جميع الأقطار ارتفع الامتياز
____________________
(1/309)
والإثنينية لأن امتياز أفراد الطبيعة الواحدة الحالة إنما يكون بحسب المحل وهذا مدفوع بأنهما متميزان بالحقيقة مع أن محل العرضي هو الجوهري أو الجسم ومحل الجوهري هو المادة وإن أريد عدم الامتياز في الحس فلا ضير قال وقد يستدل إشارة إلى معارضة أوردها الإمام تقريره أنه لووجدت الهيولي فإما أن يكون متحيزة أو لا وكلامهما محال أما الثاني فلامتناع حلول الجسمية المختصة بالحيز والجهة فيما ليس بمتحيز أصلا ولهذا لا يقع شك في امتناع كون بعض المجردات محلا للأجسام وأما الأول فلأن تحيزها إما أن يكون بطريق الاستقلال أو التبعية ويلزم على الأول أن تكون هي والجسمية مثلين لاشتراكهما في أخص صفات النفس أعني التحيز بالذات فيمتنع أن يجتمعا لاستحالة اجتماع المثلين وأن يختص أحديهما بالمحلية والأخرى بالحالية لأن حكم الأمثال واحد وأن تختص الجسمية بالافتقار إلى المادة بل يجب إما استغناؤهما فلا تكون الجسمية حالة في مادة أو افتقارهما فيكون للمادة مادة ويتسلسل ويلزم على الثاني أن يكون المادة صفة للجسمية حالة فيها دون العكس لأن معنى الحلول التبعية في التحيز ولأنه لو جاز العكس لجاز أن يقال الجسم صفة للون حال فيه والجواب أن عدم كون تحيزها بالاستقلال لا يستلزم وصفيتها وحلولها لجواز أن يكون ذلك باعتبار أن حلول الجسمية فيها شرط لتحيزها ولا نسلم أن كل ما يكون تحيزه مشروطا بشيء كان هو وصفا لذلك الشيء حالا فيه بل ربما يكون بالعكس على أن الاشتراك في التحيز بالاستقلال لا يستلزم تماثلهما إذ لا نسلم أن ذلك أخص صفات النفس ولو سلم فالمتماثلان إنما يتساويان في لوازم الماهية لا في كل لازم لجواز أن يكون عائدا إلى العوارض ( قال المبحث الرابع في تفاريع المذاهب ) من فروع القول بكون الجسم من الجواهر الفردة اختلافهم في أن الجوهر الفرد هل يقبل الحياة والأعراض المشروطة بها كالعلم والقدرة والإرادة فجوزه الأشعري وجماعة من قدماء المعتزلة وأنكره المتأخرون منهم وهي مسألة كون الحياة مشروطة بالبنية وقد مرت ومنها اختلافهم في أنه هل يمكن وقوع جزء على متصل الجزئين فأنكره الأشعري لاستلزامه الانقسام وجوزه أبو هاشم والقاضي عبدالجبار ومنها اختلافهم في أنه هل يمكن جعل الخط المؤلف من الأجزاء دائرة فأنكره الأشعري وجوزه إمام الحرمين وقد سبق بيانهما ومنها اختلافهم في أن الجوهر الفرد هل له شكل فأنكره الأشعري وأثبته أكثر المعتزلة كذا ذكره الإمام ونقل الآمدي اتفاق الكل على نفيه لاقتضائه محيطا ومحاطا فينقسم وإنما الخلاف في أنه هل يشبه شيئا من الأشكال فقال ا لقاضي لا وقال غيره نعم ثم اختلفوا فقيل يشبه الكرة لأن في المضلع اختلاف جوانب وقيل المثلث لأنه أبسط الأشكال المضلعة وقيل المربع لأنه الذي يمكن تركب الجسم منه بلا فرج وهذا قول الأكثرين قال الإمام والحق أنهم شبهوه بالمكعب لأنهم أثبتوا له جوانب ستة وزعموا أنه يمكن أن يتصل به جواهر ستة من جوانب ستة وإنما يكون ذلك
____________________
(1/310)
في المكعب وقد يستدل على وجوب الشكل له بأنه متناه ضرورة فتكون له نهاية وحد يحيط به إما واحد فيكون كرة أو أكثر فيكون مضلعا ويجاب بأنه إن أريد بكونه متناهيا أنه لا يمتد إلى غير نهاية فمم ولا يلزم إحاطة حد به مغاير للمحاط وإن أريد أنه يحيط به نهاية وينتهي إلى جزء لا جزء له وراءه فممنوع بل هو نفس النهاية أعني الجزء الذي إليه ينتهي ومنها أنهم اتفقوا على أنه لا حظ له من الطول والعرض بمعنى أنه لا يتصف بشيء من ذلك وإلا لكان منقسما ضرورة وإنكار ذلك على ما نسب إلى أبي الحسين الصالحي من قدماء المعتزلة جهالة والمحكي في كلام المعتزلة عن الصالحي أنه كان يقول الجزء الذي لا يتجزأ جسم لا طول له ولا عرض ولا عمق وليس بذي نصف وأن الجسم ما احتمل الأعراض ونقل الآمدي اتفاق الكل على أن للجزء حظا من المساحة وحمله على أن له حجما ما على ما في المواقف لا يزيل الاشتباه ولزوم قبول الانقسام بل ربما كان ذلك في الحجم أظهر لأنه اسم لما له امتداد ومقدار ما بحيث إذا كان ذلك في الجهات كان جسما وإن أريد أن له مدخلا في الحجمية والمساحة حيث يزيد ذلك بزيادة الأجزاء فكذا في الطول والعرض والمذكور في كلام المعتزلة أن له حظا من المساحة ومن الطول عند ابن الراوندي واتفق أبو علي وابو هاشم على أن لا حظ له من الطول لأن مرجعه إلى التأليف الذي تذهب به الأجزاء في جهة مخصوصة ثم اختلفا فذهب أبو علي إلى أن لا حظ له من المساحة لأنها أيضا باعتبار التأليف وذهب أبو هاشم إلى أن له حظا من المساحة لأنها اسم لتحيز الجوهر وجرمه الموجب لتكاثفه عند انضمام أمثاله إليه ومنها اختلافهم في أن الجوهر الواحد هل يوصف بالجهات وفي أنه هل يجوز أن يرى وفي أنه هل يجوز أن يصير بثقل الجبل وفي أنه كم يجوز أن يلقاه من الجواهر وفي أنه هل يجوز أن يخلقه الله تعالى على الانفراد وفي أنه هل يجوز أن تحله الحركة والسكون على البدل وفي أنه هل يجوز أن تحله أعراض كثيرة وتفاصيل ذلك مذكورة في المطولات ونحن لا نبالي أن ينسب كتابنا إلى القصور بأعوزة لما لا طائل فيه ونسأل الله سبحانه لمن اجتهد في نفض ذلك الغبار عن الكلام شكر مساعيه ( قال وأما القائلون ) ذكر الإمام أن القائلين بكون الجسم من أجزاء صغار قابلة للانقسام الوهمي دون الفعلي اختلفوا في أشكالها فذهب الأكثرون إلى أنها كرات لبساطتها والتزموا القول بالخلاء وقيل مكعبات وقيل مثلثات وقيل مربعات وقيل على خمسة أنواع من الأشكال فللنار ذو أربع مثلثات وللأرض مكعب وللهواء ذو ثماني قواعد مثلثات وللماء ذو عشرين قاعدة مثلثات وللفلك ذو اثني عشر قاعدة مخمسات وذكر في الشفاء أنهم يقولون أنها مختلفة الأشكال وبعضهم يجعلها الأنواع الخمسة ( قال ثم المشهور من الطائفتين ) أي القائلين بكون الجسم من أجزاء لا تنقسم أصلا والقائلين بأنها تنقسم وهما لا فعلا أنها متماثلة أي جوهرها واحد بالطبع في جميع الأجسام فاختلاف الأجسام إنما يكون بحسب الأعراض دون الماهيات واختلاف
____________________
(1/311)
الأعراض مستند عند المتكلمين إلى الفاعل المختار وعند الآخرين إلى اختلاف الأشكال الأجزاء على ما صرح به في الشفاء وهل يلزم أن يكون بعض تلك الأعراض داخلا في حقيقة الجسم فتكون عوارض للأجزاء وذاتيان للأجسام فيتحقق اختلافها بحسب الماهية فيه كلام سيجيء إن شاء الله
( قال وأما القائلون 6 )
ذكر من فروع القول بتركب الجسم من الهيولي والصورة خمسة الأول ثبوت ذلك لكل جسم وإن لم يكن قابلا للانفصال الانفكاكي كالفلكيات وذلك لأن الجسمية أعني الامتداد الجوهري طبيعة نوعية إذ لا تختلف حيث تختلف إلا بالعوارض والمشخصات دون الفصول وقد ثبت أنها فيما يقبل الانفصال الانفكاكي مفتقرة إلى المادة نظرا إلى ذاتها الاتصالية من غير اعتبار بالتشخصات والأسباب الخارجة فكذا فيما لا يقبله لأن لازم الماهية لا يختلف ولا يتخلف وتحقيق ذلك ما ذكر في الشفاء أن جسمية إذا خالفت جسمية أخرى تكون لأجل أن هذه حارة وتلك باردة وهذه لها طبيعة فلكية وتلك لها طبيعة عنصرية وهي أمور تلحق الجسمية من خارج فإن الجسمية في الخارج موجودة والطبيعة الفلكية موجودة أخرى وقد انضاف إلى تلك الطبيعة القائمة المشار إليها هذه الطبيعة الأخرى في الخارج بخلاف المقدار الذي هو ليس في نفسه شيئا محصلا ما لم يتنوع بأن يكون خطا أو سطحا إذ ليست المقدارية موجودة والخطية موجودة أخرى بل الخطية نفسها هي المقدارية المحمولة عليها فالجسمية مع كل شيء بفرض بشيء متقرر هو جسمية فقط من غير زيادة وأما المقدار فلا مقدار فقط بل لا بد من فصول حتى يوجد ذاتا متقررة إما خطا أو سطحا فإن قيل لا خفاء ولا خلاف في أن الجسم جنس تحته أنواع بل أجناس وإنما الكلام في أنه جنس عال أو فوقه جنس الجوهر فكيف يصح القول بأن الجسمية طبيعة نوعية ثم أي حاجة إلى ذلك في إثبات المطلوب ومعلوم أن لوازم الطبيعة الجنسية أيضا لا يختلف ولا يتخلف قلنا فرق بين الجسم الذي يؤخذ أمرا مبهما لا يتحصل إلا بما ينضاف إليه من الفصول وبين الجسمية المتحصلة في الخارج بحكم الحس واحتيج إلى بيان نوعيتها ليعلم أن احتياجها إلى المادة كما أنه ليس من جهة تشخصها أعني كونها هذه الجسمية أو تلك التخصص بالبعض دون البعض كذلك ليس من جهة فصول بعض الأقسام أو ما هيأتها بأن تكون الجسمية طبيعة جنسية تحتها جسميات مختلفة الخفايق بالفصول ممكنة الافتراق في اللوازم كالحيوانية أو عرضا عاما لجسميات كذلك كالوجود نعم يرد بعد تسليم ما ذكر في بيان نوعيتها أنه لم لا يجوز أن يكون ذلك من جهة بعض العوارض كقبول الانفصال الانفكاكي فلا يجري فيما لا يقبله كالفلكيا وقد أشير في الإشارات إلى الجواب بأن قبول الجسمية للانفصال مع امتناع بقائها معه معرف لاحتياجها في ذاتها إلى المادة فيفتقر إليها حيث كانت يعني أنه ليس علة للاحتياج ليختص الاحتياج بما يقبل الانفصال
____________________
(1/312)
بل علة للتصديق بالاحتياج الذاتي فيعم ولا خفاء في توجه المنع وقد تقرر عموم الهيولي للأجسام بأن كل جسم فهو بالنظر إلى ذاته وامتداده ومقداره قابل للانفصال الانفكاكي وإن امتنع ذلك لأمر زائد لازم كالصورة الفلكية أو غير لازم كغاية الصغر والصلابة وفي شرح الإشارات ما يشعر بأن قبول الانفصال الوهمي كاف في إثبات المادة إذ لا يقال للاتصال مع الانفصال فلا بد من قابل باق واعترض بأن الانفصال الوهمي إنما يرفع الاتصال في الوهم دون الخارج فلا يلزم وجود الهيولي في الخارج على ما هو المطلوب وأجيب بأن معنى إمكان الانفصال الوهمي هو أن يكون الجسم بحيث يصح حكم الوهم بان فيه شيئا غير شيء وجزأ دون جزء لا من الأحكام الكاذبة الوهمية بل الصادقة المبنية على إمكان جزء غير جزء في نفس الأمر وهو معنى إمكان الانفصال الخارجي وحاصله أن القسمة الوهمية وإن لم تستلزم الانفكاكية لكن قبولها يستلزم قبولها وهو يستلزم ثبوت المادة في نفس الأمر
( قال الثاني 2 )
من فروع القول بالهيولي أنها تمتنع أن توجد مجردة عن الصورة لأنها حينئذ إما أن تكون ذات وضع أو لا والمراد بالوضع ههنا كون بحيث يمكن أن يشار إليه بأنه هنا أو هنالك فإن كانت ذات وضع كان جسما لكونه جوهرا الشيء متحيزا قابلا للانقسام في الجهات لما علم في بحث نفي الجزء من أنه يمتنع أن يوجد جوهر متحيز لا ينقسم أصلا بمنزلة النقطة أو ينقسم في جهة دون جهة بمنزلة الخط أو السطح وإنما لم يقل كان جسما أو حالا في جسم كالأعراض والصور لأن الكلام في جوهر قابل للصور وإن لم تكن ذات وضع ولا محالة تصير محلا للصورة في الجملة فعند حلول الصورة إما أن تكون في جميع الاحياز أو لا تكون في حيز أصلا وكلاهما باطل بالضرورة أو تكون في بعض الاحياز وهو تخصيص بلا مخصص لأن نسبة الصورة الجسمية إلى جميع الاحياز على السوية فإن قيل لعل معها صورة نوعية تقتضي الاختصاص قلنا فننقل الكلام إلى خصوصية ذلك المظهر أعني الصورة النوعية دون سائر المظاهر ثم تعين هذا الحيز من بين الأحياز التي هي أجزاء حيز كلية ذلك النوع ولا يرد النقض بهذا الجزء من الأرض مثلا حيث يخصص بهذا الجزء من جزء الأرض لجواز أن يكون ذلك بسبب صورة سابقة مقتضية لهذا الوضع المقتضي بهذا الحيز كما إذا صار جزء من الهواء ماء ثم أرضا فإنه ينزل على استقامة إلى أن يقع في حيز من الماء ثم الأرض وسيجي لهذا زيادة بيان وكذا الكلام في وجه اختصاص المادة بما لها من الصورة النوعية على ما نفصله في الفرع الخامس فلا يرد النقض به نعم يتوجه أن يقال لم لا يجوز أن تكون للهيولي المجردة أوصاف وأحوال غير الصور والأوضاع تعدها الاختصاص عند التجسم ببعض الأوضاع والأحياز على التعيين وأما الدفع بإسناد الاختصاص إلى القادر المختار على ما ذكره الإمام فلا يتأتى على أصول القائلين بالهيولي
( قال الثالث امتناع الصورة بدون الهيولي 9 )
ولهم في بيان ذلك وجود
____________________
(1/313)
أخصرها أنها لو وجدت مجردة لكانت مستغنية في ذاتها عن المحل فيمتنع حلولها فيه لأن ما بالذات لا يزول وأنها تستلزم قبول الانقسام الوهمي المستلزم لقبول الانقسام الانفكاكي المستلزم للمادة ورد الأول بأنه يجوز أن لا تقتضي ذاتها التجرد عن المادة ولا الحلول فيها بل كل منهما يكون لأمر من خارج والثاني بمنع استلزام قبول الانقسام الوهمي الانفكاكي وقد مر الكلام فيه وأشهرها أن الصورة الجسمية مستلزمة للشكل وهو مستلزم للمادة أما الأول فلما سيجيء من تناهي الامتدادات ولا نعني بالشكل إلا هيئة إحاطة نهاية أو نهايات وأما الثاني فلان حصول الشكل لو لم يكن بمشاركة من المادة ولم يكن لها دخل في ذلك فإما أن تكون بمجرد الطبيعة الامتدادية فيلزم تساوي الأجسام في الأشكال أو بحسب فاعل من خارج فيتوقف اختلاف المقادير والأشكال على اتصال وانفصال وعلى قبول وانفعال وقد سبق أن ذلك بدون المادة محال واعترض بوجهين أحدهما منع لزوم الانفصال فإنه قد تختلف المقادير والأشكال بدون الانفصال كما في تبدل مقادير الشمعة وأشكالها مع أن امتدادها بحالها وإن أريد أن إمكان الانفصال الوهمي مستلزم لإمكان الانفكاك المحوج إلى المادة على ما مر كان باقي المقدمات مستدركا في البيان وهو وإن لم يكن قادحا في الغرض لكن لا كلام في استقباحه في دأب المناظرة سيما إذا كان بعض المقدمات المستدركة في غاية الخفاء كتناهي الأبعاد وثانيهما النقض بكل بسيط من الفلكيات والعنصريات حيث كانت طبيعة الكل والجزء واحدة مع أن الجزء ليس على شكل الكل ومقداره وأجيب عن الأول بوجهين أحدهما أن المراد لزوم أحد الأمرين أعني الانفصال كما في تشكلات الماء تجعله مياها أو مجرد الانفعال كما في الشمع وكل منهما يستلزم المادة على ما سبق من برهاني الانفصال والانفعال مع ما عليهما من الأشكال ولا خفاء في أن هذا مع كونه مخالفا لظاهر تقرير القوم مشتمل على استدراك لأن إمكان الانفعال لازم قطعا فلا معنى لضم الانفصال إليه وجعل اللازم أحدهما ولا ينبغي أن يحمل على هذا المعنى عبارة شرح الإشارات حيث قال هذا الاعتراض ليس بقادح في الغرض لأنا لم نجعل لزوم المحال مقصورا على لزوم الفصل والوصل بل عليه وعلى لزوم الانفعال وإنما معناها أنا رتبنا لزوم المحال على لزوم الانفصال ولزوم الانفصال جميعا فإن ثبت كلا اللزومين فذاك وإلا فلا خفاء في لزوم الانفعال وهو كاف في لزوم المادة وثانيهما أن ليس المراد انفصال الجسم في نفسه بل انفصال الأجسام بعضها عن بعض لمعنى عدم الاتصال عما من شأنه الاتصال فإن هذا هو المحوج إلى المادة لا مجرد التمايز والافتراق وللتنبيه على هذا المعنى تعرضوا مع الانفصال للاتصال وإلا فلا دخل لاتصال الأجسام بعضها ببعض في اختلاف أشكالها ومقاديرها وعلى هذا يحمل ما قال في شرح الإشارات أن المغابرة بين الأجسام لا تتصور إلا بانفصال بعضها عن بعض واتصال بعضها
____________________
(1/314)
ببعض وذلك مستلزم للمادة ولما لاح على هذا الطريق أثر الضعف بناء على الهم بنوا ثبوت الماد ة على إمكان الاتصال والانفصال في الجسم نفسه حتى لو لم يوجد إلا جسم واحد كان كذلك لا الاتصال والانفصال فيما بين الأجسام وإن دعوى إمكان الاتصال فيما بين كل جسمين حتى الفلك والغنصر بحسب الطبيعة الجسمية ربما لا يسمع عدل إلى طريق الانفعال فقال وبالجملة لا يمكن أن يحصل الاختلافات المقدارية والشكلية عن فاعلها في الامتداد إلا بعد أن يكون فيه قوة الانفعال المقتضية للمادة وأجيب عن القض أيضا بوجهين أحدهما أن هناك مادة تقبل الكلية والجزئية لقبولها بذاتها الاتصال والانفصال فيعود اختلاف الشكل والمقدار فيما بين الكل والجزء إلى اختلاف القابل وإن كان الفاعل واحدا هو الصورة النوعية بخلاف الصورة الجسمية إذا فرضناها مجردة عن المادة فإنه لا يتصور فيها ذلك لأن حصول الجزئية بالانقسام والكلية بالالتئام من لواحق المادة وثانيهما أن هناك مانعا هو الجزئية فإنه لما حصل للكل ذلك الشكل والمقدار امتنع بالضرورة حصوله للجزء مادام الجزء جزأ والكل كلا ولا يتصور ذلك في الصورة المجردة عن المادة وهذا عائد إلى الأول إلا أنه يرد عليه أن الجزء وإن امتنع كونه على مقدار الكل لا يمتنع كونه على شكله كتدوير الفلك وحامله والمقصود بالنقض هو الشكل وإنما المقدار استطراد وجوابه أن الجزئية تمنع لزوم كون الجزء على شكل الكل ضرورة امتناع كرية جميع أجزاء الكرة وهذا كاف في دفع النقض على أن مقتضى عدم التعدد في الفاعل والقابل هو أن يكون شكل الجزء والكل واحد بالشخص ولا خفاء في أن الجزئية تمنع ذلك
( قال الرابع 6 )
قد ثبت امتناع كل من الهيولي والصورة بدون الأخرى فاحتيج إلى بيان ذلك على وجه لا يدور وذلك أن الهيولي يحتاج في بقائها إلى صورة لا بعينها وتبقى محفوظة بصور متواردة كالسقف يبقى بدعائم تزال واحدة وتقام أخرى نعم قد يلزم صورة واحدة لأسباب خارجية كما في الفلك والصورة تحتاج في تشخصها إلى الهيولي المعينة التي هي محلها لما علم من أن تشكلها إنما يكون بالمادة وما يتبعها من العوارض وليست الصورة علة للهيولي لكونها حالة فيها محتاجة إليها ولكونها مقارنة لما هو متأخر عن الهيولي أعني التناهي والتشكل التابعين للمادة ولكونها جائزة الزوال إلى صورة أخرى مع بقاء الهيولي بعينها ولا يعقل في الشيء المعين أن تكون علته شيئا لا بعينه وليست الهيولي علة للصورة لما تقرر عندهم من أن القابل لا يكون فاعلا ومن أن الهيولي لا تقوم بالفعل إلا بالصورة فتكون محتاجة إليها في الوجود متأخرة عنها ولأنها قابلة لصور غير متناهية فلا تكون علة لشيء منها لعدم الأولوية وأن انضم إليها ما يفيد الأولوية لم يكن للهيولي إلا القبول والحق أن بيان كيفية تعلق الهيولي بالصورة وامتناع علية إحداهما للأخرى ووجوب تقدم الصورة على الهيولي من حيث هي
____________________
(1/315)
صورة ما وتأخرها عنها من حيث هي صورة مشخصة على وجه يندفع عند ماسخ عليه من الإشكالات عسر جدا والمتأخرون قد بذلوا فيه المجهود وبلغوا مداه ولو علمنا فيه خير إلا وردناه
( قال الخامس 7 )
من تفاريع القول بالهيولي والصورة إثبات صور نوعية هي مبادي اختلاف الأنواع بالآثار وبيانه أنه لا خفاء في أن للأجسام آثارا مختلفة كقبول الانفكاك والالتيام بسهولة كما في الماء أو بعسر كما في الأرض أو امتناع عن ذلك كما في الفلك وكالاختصاص بمالها بحسب طبعها من الأشكال والأمكنة والأوضاع وليس ذلك بمجرد الجسمية المشتركة ولا الهيولي القابلة وهو ظاهر ولا بأمر مفارق لتساوي نسبته إلى جميع الأجسام ولأن الكلام في آثار الأجسام فيلزم الخلف فتعين أن تكون بأمور مختصة مقارنة ويجب أن تكون صور إلا أعراضا لأنا ننقل الكلام إلى أسباب تلك الأعراض فيتسلسل ولأن تنوع الأجسام وتحصلها موقوف على الاتصاف بتلك الأمور ومن المحال تقوم الجوهر بالعرض واعترض بأن الترديد المذكور يجري في اختصاص كل جسم بماله من الصورة وقرره الإمام بأن اختصاص الجسم بهذه الصورة مثلا لو كان لأجل صورة أخرى فإما أن يكون ذلك على طريق المساوقة فيلزم استناد كل صورة إلى صورة لا إلى نهاية أو على طريق المسابقة بأن تستند الصورة الحاصلة في الحال إلى صورة سابقة عليها فيندفع أصل الاحتجاج لجواز أن يستند كل عرض إلى عرض سابق عليه فأجاب بأنه على طريق المسابقة ويمتنع مثله في الأعراض لأنها مستندة إلى مبادي موجودة في الأجسام تعيدها عند زوالها بالقسر لوجهين أحدهما أن الماء المسخن بالنار يعود باردا فلو لا أن في جسم الماء شيئا محفوظ الذات عند ملاقاة النار لما كان كذلك بخلاف الصورة المائية فإنها إذا زالت إلى الهوائية لا تعود بالطبع وثانيهما أن كيفيات العناصر تنكسر صرافتها عند الامتزاج ولا كاسر سوى الصورة لما سيجيء في بحث المزاج وأنت خبير بأن هذا إنما يتم لو ثبت أن كل عرض كذلك أي بحيث أن يعود بعد الزوال وينكسر عند الامتزاج وإلا فيجوز أن تكون الأعراض التي كذلك مستندة إلى أمور محفوظة هي أعراض يستند كل منها إلى عرض قبله وهكذا إلى غير النهاية كالصور ولذا قال إمام في موضع آخر أن الذي حصل بالدليل هو استناد هذه الأعراض من الأين والكيف وغيرهما إلى قوى موجودة في الجسم وأما أنها صور لا أعراض فلا بل الأقرب عندنا أنها من قبيل الأعراض والحاصل أنه كما لا يمتنع تعاقب الصور على الإطلاق لا يمتنع تعاقب الأعراض التي يستند إليها ما يعود بعد الزوال فيكون كل سابق معدا للأحق ويرجع اختلافها إلى اختلاف الاستعدادات وإن كان المبدأ واحدا وقد يقال نحن نعلم بالضرورة أن ههنا آثارا صادرة عن الأجسام كالإحراق للنار والترطيب للماء فلو لم يكن فيها إلا الهيولي والصورة الجسمية لما كان كذلك فلا بد فيها من أمور هي مبادي تلك الآثار
____________________
(1/316)
ولا خفاء في أن الأجسام إنما تختلف بحسب آثارها المخصوصة بنوع نوع فتنوعها وتحصلها إنما يكون باعتبار تلك المبادي فتكون صورا لا أعراضا لامتناع تقوم الجوهر بالعرض وحينئذ يندفع ما يقال لم لا يجوز أن تكون تلك الآثار مستندة إلى الفاعل المختار أو يكون لبعض المفارقات خصوصية بالقياس إلى بعض الأجسام دون بعض أو يكون اختلاف الآثار عن المفارق بحسب اختلاف استعدادات الأجسام وهيولياتها وبهذا يظهر أنه يكفي في إثبات الصور النوعية أن يقال نحن نقطع باختلاف حقيقتي الماء والنار مع الاشتراك في المادة والصورة الجسمية فلا بد من الاختلاف بمقوم جوهري نسميه الصورة النوعية ويرد على التقريرين بعد تسليم اختلاف الأجسام بالحقيقة وكون الآثار صادرة عنها وكون هيولياتها متفقة الحقيقة وكذا صورها الجسمية أنا لا نسلم لزوم كون ما به الاختلاف جوهرا حالا في الهيولي ليكون صورة ولم لا يجوز أن يكون عرضا قائما بأحد جزئيه لا بالجسم نفسه ليدفع بأن العرض الحال في الجسم متقوم به متأخر عنه فلا يكون مقوما له متقدما عليه أو يكون جوهرا غير حال في مادته فلا يكون صورة ويكون الاحتياج فيما بينه وبين الجزئين الآخرين على وجه آخر غير الحلول والحق أن إثبات الصور الجوهرية سيما النوعية عسير وأن الذي يعلم قطعا هو أن الماء والنار مثلا مختلفان بالحقيقة مع الاشتراك في الجسمية كالإنسان والفرس في الحيوانية وأما أن في كل منهما جوهرا لا يختلف بالحقيقة هو المادة وآخر كذلك حالا في الأول هو الصورة الجسمية وآخر مختلف بالحقيقة حالا فيه أيضا هو الصورة النوعية وهكذا في سائر مراتب امتزاج العناصر إلى أن تنتهي إلى النوع الأخير كالإنسان مثلا فيكون في مادته جواهر كثيرة هي صور العناصر والأخلاط والأعضاء وآخرها صورة نوعية إنسانية حالة غير النفس الناطقة المفارقة فلم يثبت بعد وما يقال أن الأجزاء العقلية إنما تؤخذ من الأجزاء الخارجية فلا بد في اختلاف أنواع الجنس الواحد من صور مختلفة الحقيقة هي مأخذ الفصول ليس بمستقيم لأنهم جعلوا العقول والنفوس أنواعا بسيطة من جنس الجوهر ولأن الجزء الخارجي قد لا يكون مادة ولا صورة كالنفس الناطقة اللهم إلا بمحجر التسمية ووقع في ديباجة الأخلاق الناصرية ما يشعر بأن على الصورة الإنسانية طراز عالم الأمر أي المجردات وكأنه أراد أنها لغاية قربها من الكمالات وأعدادها البدن لقبول تعلق النفس به شبيهة بالمجردات وإن كانت حالة في المادة أو أراد بكونها من عالم الأمر أن وجودها دفعي لا كالهيولي وما لها من الأطوار في مدارج الاستكمال والاستعداد وأما ما يقال من أنه أراد بها النفس الناطقة بدليل استشهاده بقوله تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره فيكذبه تصريحه بأنها سبب لاستعداد البدن لتعلق النفس به وأن النفس مبدأ لوجودها
( قال المبحث الخامس 2 )
بعد الفراغ من بيان حقيقة الجسم أخذ في بيان
____________________
(1/317)
أحكامه فمنها أن الأجسام متماثلة أي متحدة الحقيقة وإنما الاختلاف بالعوارض وهذا أصل يبتنى عليه كثير من قواعد الإسلام كإثبات القادر المختار وكثير من أحوال النبوة والمعاد فإن اختصاص كل جسم بصفاته المعينة لا بد أن يكون بمرجح مختار إذ نسبة الموجب إلى الكل على السواء ولما جاز على كل جسم ما يجوز على الآخر كالبرد على النار والحرق على الماء ثبت جواز ما نقل من المعجزات وأحوال القيامة ومبني هذا الأصل عند المتكلمين على أن أجزاء الجسم ليست إلا الجواهر الفردة وأنها متماثلة لا يتصور فيها اختلاف حقيقة ولا محيص لمن اعترف بتماثل الجواهر واختلاف الأجسام بالحقيقة من جعل بعض الأعراض داخلة فيها وقد يستدل بأن الأجسام متساوية في التحيز وقبول الأعراض وذلك من أخص صفات النفس وبأن الجسم ينقسم إلى الفلكي والعنصري بما لهما من الأقسام ومورد القسمة مشترك وبأن الأجسام يلتبس بعضها ببعض على تقدير الاستواء في الأعراض ولولا تماثلها في نفسها لما كان كذلك والكل ضعيف ومن أفاضل الحكماء من توهم أن المراد بتماثلها اتحادها في مفهوم الجسم وإن كانت هي أنواعا مختلفة مندرجة تحته فتمسك بأن الحد الدال على ماهية الجسم على اختلاف عباراتهم فيه واحد عند كل قوم من غير وقوع قسمة فيه فلذلك اتفق الكل على تماثله فإن المختلفات إذا جمعت في حد واحد وقع فيه التقسيم ضرورة كما يقال الجسم هو القابل للأبعاد الثلاثة أو المشتمل عليها فيعم الطبيعي والتعليمي ومنشأ هذا التوهم استبعاد أن يذهب عاقل إلى أن الماء والنار حقيقة واحدة لا تختلف إلا بالعوارض كالإنسان دون الفصول والمنوعات الحيوان كيف ولم يسمع نزاع في أن الجسم جنس بعيد ثم قال وقول النظام بتخالفها لتخالف خواصها إنما يوجب تخالف الأنواع لا تخالف المفهوم من الحد
( قال ومنها 2 )
أي من أحكام الأجسام أنها باقية زمانين وأكثر بحكم الضرورة بمعنى أنا نعلم بالضرورة أن كتبنا وثيابنا وبيوتنا ودوابنا هي بعينها التي كانت من غير تبدل في الذوات بل أن كان ففي العوارض والهيئات لا بمعنى أن الحس يشاهدها باقية ليرد الاعتراض بأنه يجوز أن يكون ذلك بتجدد الأمثال كما في الأعراض وقد يفهم من البقاء الدوام وامتناع الفناء وعليه يحمل ما قال في التجريد أن الضرورة قاضية ببقاء الأجسام وتبين بأن غاية أمرها التفرق والانقسام وهو لا يوجب الانعدام وأنت خبير بأن دعوى الضرورة في ذلك في غاية الفساد كيف وقد صرح بجوازه في بحث المعاد واستدل على جواز العدم تارة بالحدوث فإن العدم السابق كالعدم اللاحق لعدم التمايز وقد جاز الأول فكذا الثاني وتارة بالإمكان فإن معناه جواز كل من الوجود والعدم نظرا إلى الذات وأجيب بأن هذا لا ينافي الامتناع بالغير على ما هو المتنازع فإنه يجوز أن يكون الشيء في ذاته قابلا للعدم السابق واللاحق جميعا ويمتنع أحدهما أو كلاهما لعلة والحاصل أن الحدوث لا ينافي إلا بدية كما في النفس
____________________
(1/318)
الناطقة على رأي أرسطو والأمكان لا ينافي الأبدية ولا الأزلية كما في القدماء الزمانية دون الذاتية على رأي الفلاسفة وقد يستدل بنحو قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه وكل من عليها فان وغير ذلك من العمومات مع القطع بأن الهلاك والفناء في المركبات وإن جاز أن يكون بانحلال التركيب وزوال الصور لكن في البسائط وأجزاء الجسم من الجواهر الفردة أو الهيولي والصورة لا يتصور إلا بالانعدام
( قال وحين اقتضت 3 )
يعني أن ما ذكر في عدم بقاء الأعراض من أنها لو بقيت لامتنع فناؤها لما كان جاريا في الأجسام أيضا على ما سبق اعتبر النظام قيام الدليل على صحة فنائها فالتزم أنها لا تبقى زمانين وإنما تتجدد بتجدد الأمثال كالأعراض قولا بانتفاء الملزوم لانتفاء اللازم والكرامية قضاء الضرورة ببقائها فالتزموا امتناع فنائها قولا بثبوت اللازم لثبوت الملزوم وقد سبق في بحث امتناع بقاء العرض بطلان دليل هذه الملازمة فاندفع ما ذكره الفريقان مع إمكان التفصي عن النقض بأنه يجوز أن تفنى الأجسام بعد بقائها بأن لا يخلق الله تعالى فيها الأعراض التي يكون بقاء الجسم محتاجا إليها مشروطا بها كالأكوان وغيرها على ما ذهب إليه القاضي وإمام الحرمين أو بأن لا يخلق فيها العرض الذي هو البقاء كما قال الكعبي أو بأن يخلق فيها عرضا هو الفناء إما متعددا كما قال أبو علي أنه تعالى يخلق لكل جوهر فناء وإما غير متعدد كما قال غيره أن فناء واحدا يكفي لإفناء كل الأجسام وزعم بعضهم أن قول النظام بعدم بقاء الأجسام مبني على أن الجسم عنده مجموع أعراض والعرض غير باق وقد نبهناك على أن ليس مذهبه أن الجسم عرض بل أن مثل اللون والطعم والرائحة من الأعراض الأجسام قائمة بأنفسها وأما الفلاسفة فلا نزاع لهم في فناء الأجسام بزوال الصور النوعية والهيئات التركيبية وإنما النزاع في فنائها بالكلية أعني الهيولي والصورة الجسمية ومبني ذلك عندهم على اعتقاد أزليته المستلزمة لأبديته فإن ما ثبت قدمه امتنع عدمه وسيرد عليك شبههم بأجوبتها
( قال ومنها أن الجسم لا يخلو عن شكل 8 )
لأنه متناه على ما سيجيء وكل متناه فله شكل إذ لا معنى له سوى هيئة إحاطة النهاية بالجسم وأما الافتقار إلى الحيز بمعنى فراغ يشغله فضروري وإنما يذكر هو وأمثاله من الأحكام الضرورية في المباحث العلمية من حيث يفتقر إلى تنبيه أو زيادة تحقيق وتفصيل أو تعقيب تفريع أو يقع فيه خلاف من شرذمة ثم استناد خصوصيات الأشكال والأحياز إلى القادر المختار هو المذهب عندنا كما سيجيء وذهبت الفلاسفة إلى أن لكل جسم شكلا طبيعيا وحيزا طبيعيا لأنه عند الخلو عن جميع القواسر والأسباب الخارجة يكون بالضرورة على شكل معين في حيز معين وهو المعنى بالطبيعي وعلى هذا ألا يرد الاعتراض بأنه يجوز أن يقتضي شكلا ما وحيزا ما ككل جزء من أجزاء الأرض وتستند الخصوصية إلى سبب خارج كإرادة القادر المختار لا يقال لعل من الأسباب ما هو من لوازم ماهيته فيكون فرض الخلو عنه فرض محال فيجوز أن يستلزم
____________________
(1/319)
محالا هو الخلو عن الشكل والحيز لأنا نقول ما يقتضيه لازم الماهية يكون طبيعيا لا قسريا وهو ظاهر ولم يريدوا بالحيز ههنا المكان بمعنى السطح الباطن من الحاوي حتى يرد الاعتراض بأن الجسم قد لا يكون له محل كالمحدد فضلا عن أن يكون طبيعيا ولا الفراغ الذي يشغله الجسم لما قال ابن سينا إن كل جسم له حيز طبيعي فإن كان ذا مكان كان حيزه مكانا وقال أيضا لا جسم إلا وله حيز إما مكان وإما وضع ترتيب فإن قيل الاختصاص بالحيز الطبيعي كما أنه ليس معللا بالأسباب الخارجية كذلك ليس معللا بالجسمية ولوازمها بل لا بد من خصوصية فينقل الكلام إليها ويتس قلنا قد سبق في بحث الصور النوعية ما يزيل هذا الإشكال واتفقوا على أن الحيز الطبيعي لا يكون إلا واحدا لأن مقتضى الواحد واحد ولأنه لو تعدد فعند عدم القاسر إما أن يحصل فيهما وهو مح بالضرورة أو في أحدهما فلا يكون الآخر طبيعيا وأيضا إذا بقي خارجا بالقسر فعند زوال القاسر إما أن بتوجه إليهما وهو مح أو إلى أحدهما وفيه ميل عن الآخر فيصير المط بالطبع مهروبا بالطبع أو لا يتوجه إلى شيء منهما فلا يكون شيء منهما طبيعيا لا يقال يجوز أن يكون الحصول في أحدهما أو الميل إليه بحسب ما يتفق من الأسباب المخصصة مانعا من الآخر لأنا نقول الكلام فيما إذا فرض خاليا عن جميع الأسباب الخارجة نعم يرد عليه أنه يجوز أن لا يحصل في أحدهما ولا يتوجه إليه لامتناع الترجح بلا مرجح وكون كل مانعا من الآخر بل يبقى حيث وجد وجعل صاحب المواقف إثبات الحيز الطبيعي من فروع القول بالهيولي نظرا إلى أن القائلين بالجزء يجعلون الأجسام متماثلة لا تختلف إلا بالعوارض
( قال ومنها أنه يمتنع 4 )
اعلم أن ظاهر مذهبي المنع والتجويز ليسا على طرفي النقيض لأن حاصل الأول وهو مذهب أكثر المتكلمين أنه يجب أن يوجد في كل جسم أحد الضدين من كل عرض أي من كل جنس من أجناس الأعراض إذا كان قابلا له كذا في نهاية العقول وقال إمام الحرمين مذهب أهل الحق أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع أضدادها إن كان له أضداد وعن أحد الضدين إن كان له ضد وعن واحد من جنسه إن قدر عرض لا ضد له ولا خلاف في امتناع الحلو عن الأعراض بعد قبولها وحاصل الثاني أنه يجوز أن لا يوجد فيه شيء من الأعراض أما في الأزل كما هو رأي الدهرية القائلين بأن الأجسام قديمة بذواتها محدثة بصفاتها وأما فيما لا يزال كما هو رأي الصالحية من المعتزلة فرجع الأول إلى إيجاب كلي والثاني إلى سلب كلي والأشبه هو الإيجاب الجزئي بمعنى أنه يجب أن يوجد في كل جسم شيء من الأعراض إلا أن القائلين بالتفصيل منهم من خصه بالألوان بمعنى أنه يجب أن يوجد فيه شيء من الألوان وهم المعتزلة البعدادية ومنهم من خصه بالأكوان بمعنى أنه يجب أن يوجد فيه الحركة أو السكون والاجتماع أو الافتراق وهم البصرية واحتجاج المانعين بأن الجسم متحقق في الزمان ومتكثر بالعدد فلايخ عن حركة
____________________
(1/320)
أو سكون واجتماع أو افتراق على تقدير تمامه إنما يفيد هذا الإيجاب الجزئي لا الإيجاب الكلي المدعى نعم يصلح للرد على القائلين بالسلب الكلي وعلى البغدادية القائلين بجواز الخلو عما عدا الألوان وكذا احتجاجهم بأن الشيء لا يوجد بدون التشخص ضرورة وتشخص الأجسام إنما هو بالأعراض لكونها متماثلة لتألفها من الجواهر المتماثلة فلو وجدت بدون الأعراض لزم وجود الغير التشخص وهو محال لا يفيد العموم أعني امتناع الجسم بدون أحد الضدين من كل عرض لأن البعض كاف في التشخص نعم يفيد عموم الأوقات أعني الأزل وما لا يزال بخلاف الأول فإنه ربما يمنع امتناع خلو الجسم في الأزل عن الحركة والسكون بل إنما يكون ذلك في الزمان الثاني والثالث وعن الاجتماع والافتراق بل إنما يكون ذلك على تقدير تحقق جسم آخر فيحتاج في التعميم إلى قياس ما قبل الاتصاف أعني الأزل على ما بعده أعني ما لايزال كإيقاس بعض الأعراض على البعض تعميما للدليلين في جميع الأعراض وتقريره أن اتصاف الجوهر بالعرض إما لذاته وإما لقابليته له ونسبة كل منهما إلى جميع الأعراض والأزمان على السوية والجواب منع المقدمتين واحتج القائلون بجواز خلو الجسم عن الضد ين في الجملة بوجوه الأول أنه لو لم يجز لكان الباري تعالى مضطرا عند خلق الجسم إلى خلق العرض وهو ينافي الاختيار والجواب أن عدم القدرة على المح كوجود الملزوم بدون اللازم لا يوجب العجز وسلب الاختيار الثاني أنه لو لم يجز خلو الجسم عن الاجتماع والافتراق لما جاز أن يخلق الله تعالى جسما هو أول الأجسام بحسب الزمان واللازم قطعي البطلان الثالث أنه لو لم يجز خلوه عن جميع الألوان لما وقع وقد وقع كالهواء لا يقال لا نسلم خلوه عن اللون بل غايته عدم الإحساس به لأنا نقول عدم الإحساس بما من شأنه الإحساس به مع سلامة الحاسة وسائر الشرائط دليل على عدمه فإن قيل من جملة الشرائط انتفاء المانع وتحققه ممنوع قلنا فتح هذا الباب يؤدي إلى جواز أن يكون بحضرتنا جبال شامخة وأصوات هائلة ولا ندركها لمانع وقد يجاب بأن الشفيف ضد اللون لا عدم
( قال ومنها أنها متناهية الأبعاد 3 )
جعل هذا من أحكام الأجسام نظرا إلى أن البعد الجسمي هو المتحقق بلا نزاع بخلاف الخلاء ونقل القول بلا تناهي الأبعاد عن حكماء الهند وجمع من المتقدمين وأبي البركات من المتأخرين والمشهور من أدلة المانعين ثلثة الأول برهان المسامتة وتقريره ظاهر من المتن وإنما اعتبر حركة الكرة لأن الميل من الموازاة إلى المسامتة هناك في غاية الوضوح لا يتوقف فيه العقل بل يكاد يشهد به الحس ومعنى موازاة الخطين أن لا يتلاقيا ولو فرض امتدادهما لا إلى نهاية والمسامتة بخلافها وإنما اعتبر النقطة بحسب الوهم لأن ثبوتها بالفعل غير لازم ما لم ينقطع الخط بالفعل وفيما أوردنا من تقرير البرهان إشارة إلى دفع اعتراضات نورد عليه فمنها منع لزوم أول نقطة المسامتة مستند بما ذكرنا في باين استحالة اللازم وتقريره على تقدير لا تناهي البعد لا يلزم
____________________
(1/321)
أول نقطة المسامتة لأن الحركة والزاوية تنقسمان لا إلى نهاية فقبل كل مسامتة مسامتة لا إلى أول ولا خفاء في أن هذا بعد الاحتجاج على الملازمة بأن المسامتة حصلت بعد ما لم تكن فيكون لها أول بالضرورة ليس بموجه إلا أن تجعل معارضة في المقدمة وجوابها النقض بكل قياس استثنائي استثنى فيه نقيض التالي فإنه لو صح ما ذكر لصح فيه الاستدلال على نفي الملازمة بما يذكر في بيان استحالة اللازم وفساده بين والحل بأن هذا لا ينفي الملازمة لأن الملزوم محال فجاز استلزامه للنقيضين مثلا لو وجد بعد غير متناه مع الفرض المذكور لزم ثبوت أول نقطة المسامتة لما ذكرنا وعدم ثبوته لما ذكرتم على أنه يتجه أن يقال لو وجد البعد مع الفرض المذكور فإما أن تثبت أو نقطة المسامتة أو لا تثبت وكلاهما محال لما ذكر فيتم الاحتجاج فإن قيل حدوث المسامتة لا يقتضي إلا أن يكون لها بداية بحسب الزمان فمن ابن تلزم البداية بحسب المسافة أعني أول نقطة المسامتة قلنا من جهة أن الزمان منطبق على الحركة المنطبقة على المسافة فلو لم يكن لها أول لم يكن للحركة أول فلم يكن للزمان أول ومنها أن المحال إنما يلزم على تقدير لا تناهي البعد مع الفرض المذكور وهو لا يستلزم استحالة لا تناهي البعد لجواز أن يكون ناشيا من المجموع وجوابه أنا نعلم بالضرورة إمكان ما فرض وإمكان اجتماعه مع البعد الغير المتناهي فنعين كونه المنشأ للزوم المحال ومنها أنا لانم استحالة أول نقطة المسامتة في الخط الغير المتناهي وما ذكر في بيانه باطل لأن انقسام الحركة والزاوية لا إلى نهاية حكم الوهم وهو كاذب وجوابه أن أحكام الوهم فيما يفرض من الهندسيات صحيحة تكاد تجري مجرى الحسيات لكونها على طاعة من العقل بحيث لا يمنع إلا مكابرة ولهذا لا يقع فيها اختلاف آراء وإنما الكاذب هي الوهميات الصرفة مثل الحكم في المعقولات بما يخص المحسوسات كالحكم بأن كل موجود ذو وضع وأما اعتراض الإمام بأن هذا الدليل مقلوب لأنه لما كانت المسامتة لكل نقطة بعد المسامتة لما فوقها لزم عدم تناهي الأبعاد وبيانه على ما في المطالب العالية أن أعظم ما يفرض من الخطوط المستقيمة هو محور العالم أعني الخط المار بمركزه الواصل بين قطبيه فإذا فرضنا كرة يميل قطرها الموازي للمحور إلى مسامته حدثت زاوية قابلة للقسمة ولا محالة يكون الخط الخارج على نصفها مسامتا لنقطة فوق طرف المحور ويكون هناك أبعاد يفرض فيها نقط لا إلى نهاية فجوابه أن هذا من الوهميات الصرفة التي لا يصدقها العقل إذ ليس وراء العالم خلاء أو ملاء يمتد فيه الخط أو ينتهي إليه طرفه وما ذكر الإمام من أن صريح العقل شاهد لمسامتة طرف هذا الخط لشيء ووقوعه خارج العالم وأن إنكاره مكابرة في الضروريات مكابرة
( قال الثاني 7 )
هذا هو البرهان السلمي وحاصله أنه لو كانت الأبعاد غير متناهية لزم إمكان عدم تناهي المحصور بين حاصرين وهو محال وجه اللزوم على ما نقل عن
____________________
(1/322)
القدماء أنا نخرج من نقطة خطين كتنافي مثلث ولا خفاء في أنهما كلما يمتدان يزداد البعد بينهما فلو امتدا إلى غير النهاية كان زيادة البعد بينهما إلى غير النهاية واعترض عليه ابن سينا بأن اللازم منه ازدياد البعد إلى غير النهاية بمعنى أنه لا ينتهي إلى بعد لا يكون فوقه بعد أزيد منه وهو ليس بمح وإنما المحال وجود بعد بينهما يمتد طوله إلى غير النهاية وهو ليس بلازم فقرره بأنا نصل بين نقطتين متقابلتين من الخطين المفروضين خطا ولنسم بالبعد الأصل وامتداد الخطين حينئذ بالامتداد بالأصل فلكون تزايد الأبعاد يحسب تزايد الامتداد لزم من عدم تناهي الامتداد وحود زيادات على البعد الأصلي غير متناهية لأن نسبة زيادة البعد على البعد الأصل نسبة زيادة الامتداد على الامتداد الأصل وإذ قد أمكن تساوي الزيادات فلنفرضها كذلك ولكون كل زيادة مع المزيد عليه موجودة في بعد لزم وجود بعد مشتمل على الزيادات المتساوية الغير المتناهية لأن ذلك معنى حصول كل زياد ة مع المزيد عليه ولزم كونه غير متناه لأن زيادة الأجزاء المقدارية بالفعل إلى غير النهاية توجب عدم تناهي المقدار المشتمل عليها بحكم الضرورة أو بحكم امتناع التداخل وإنما فرض الزيادات متساوية احترازا عما إذا كانت متناقضة فإن انقسام المقدار ربما ينتهي إلى ما لا يقبل الانقسام بالفعل فلا يلزم وجود البعد الغير المتناهي أولا يظهر وأما في صورة التزايد فلا خفاء في أن الزائد مثل وزيادة فاللزوم فيه أظهر ولما كان في هذا التقرير تطويل مع كون استلزام عدم تناهي الزيادات لوجود بعد غير متناه محل بحث ونظر لخص صاحب الإشراق في بعض تصانيفه البرهان بأنا نفرض بعد ما بين الخطين دائما بقدر امتدادهما فلو امتدا إلى غير النهاية كان ما بينهما غير متناه ضرورة أن المتناهي لا يكون مساويا لغير المتناهي وعلى قدره وهذا اللزوم واضح لا يمكن منعه إلا مكابرة لكن لما كان في إمكان المفروض نوع خفاء قرره بعضهم بأنا نفرض زاوية مبدأ الخطين ثلثي قائمة وللزوم تساوي الزاويتين الحادثتين من الخط الواصل بين كل نقطتين متقابلتين من ساقي المثلث ولزوم كون زواياه مساوية لقائمتين لزم أن يكون كل من الزاويتين ثلثي قائمة ولزم من تساوى زوايا المثلث تساوي أضلاعه كل ذلك لما بينه اقليدس فيلزم من عدم تناهي الخطين عدم تناهي ما بينهما وحاول صاحب الإشراق سلوك طريق يوجب كون زاوية مبدأ الخطين ثلثي قائمة فاخترع البرهان الترسي وتقريره أنا نخرج من مركز جسم مستدير كالترس مثلا ستة خطوط قاسمة له إلى ستة أقسام متساوية فيكون كل من الزوايا الست ثلثي قائمة وكذا كل من الزاويتين الحادثتين من الخط الواصل بين كل نقطتين متقابلتين من كل ضلعين فيصير كل قسم مثلثا متساوي الزوايا والأضلاع ويلزم من امتداد الخطين إلى غير النهاية امتداد بعد ما بينهما إلى غير النهاية ومن تردد في لزوم تساوي الزوايا والأضلاع وجوز كون وتر زاوية مبدأ الخطوط الستة أقل
____________________
(1/323)
من الضلعين أو أكثر فلعدم شعوره بالهندسة واعترض على هذه البيانات بأنها إنما تفيد زيادة الأبعاد والاتساعات فيما بين الخطين إلى غير النهاية لا وجود سعة وبعد ممتد إلى غير النهاية وإنما يلزم ذلك لو كان هناك بعد هو آخر الأبعاد يساوي الخطين اللذين هما ساقا المثلث فلا يتصور ذلك إلا بانقطاعهما وتناهيهما فيكون إثبات التناهي بذلك مصادرة على المطلوب ولو سلم فالمحال إنما لزم من المجموع المفروض وهو لا يستلزم استحالة لا تناهي الخطين والجواب أنه لما لزم تساوي أضلاع مثل هذا المثلث كان لزوم عدم تناهي قاعدته على تقدير لا تناهي ساقيه ظاهرا لا يمكن منعه وأما السند قلنا لا علينا لأنه لما لزم مساواة القاعدة للساقين وكانت متناهية لانحصارها بين حاضرين لزم تناهي الساقين على تقدير لا تناهيهما فيكون اللاتناهي محالا وحاصله أن لا تناهي القاعدة ليس موقوفا على تناهي الساقين حتى تلزم المصادرة بل مستلزما له فيلزم الخلف وتقريره أنه لو كان الساقان غير متناهيين لزم ثبوت قاعدة مساوية لهما لما ذكر من الدليل لكن القاعدة لا تكون الامتناهية ضرورة انحصارها بين حاصرين فيلزم تناهي الساقين لأن المتناهي لا يكون مساويا لغير المتناهي وقد فرضناهما غير متناهيين هف وأما كون المحال ناشئا من لا تناهي الخطين فللعلم الضروري بإمكان ما عداه من الأمور المذكورة
( قال الثالث 4 )
هذا برهان الطبيق وتقريره أنه لو وجد بعد غير متناه نفرض نقصان ذراع منه ثم نطبق بين البعد التام والناقص فإما أن يقع بإزاء كل ذراع من التام ذراع من الناقص وهو محال لامتناع تساوي الزائد والناقص بل الكل والجزء أو لا يقع ولا محالة يكون ذلك بانقطاع الناقص ويلزم منه انقطاع التام لأنه لا يزيد عليه إلا بذراع وقد مر في أبطال التسلسل ما على هذا البرهان من الاعتراضات والأجوبة فلا معنى للإعادة
( قال ومبني الأول 2 )
أي برهان المسامتة على نفي الجوهر الفرد ليصبح انقسام الحركة والزاوية إلى غير النهاية ومبنى البرهان السلمي على أن يكون لا تناهي البعد من جهات حتى يفرض انفراج ساقي المثلث لا إلى نهاية بل في الترسي لا بد من فرض اللاتناهي في جميع الجهات وكان طرق السلمي مبنية على طريق إلزام القائلين بلا تناهي الأبعاد في جميع الجهات ومبني برهان الطبيق على مقدمات ضعيفة سبقت الإشارة إليها في أبطال التسلسل مثل اقتدار الوهم على التطبيق ومثل استلزام وقوع ذراع بإزاء ذراع للتساوي ومثل اختصاص ذلك بماله وضع وترتيب ليحصل التفصي عن البعض بمراتب الأعداد وحركات الأفلاك
( قال وقد كثرت الوجوه 6 )
أي وجوه الاستدلال على تناهي الأبعاد بتصرف في البراهين الثلاثة واستعانة ببراهين أبطال التسلسل أما وجوه التصرف في السلمي فقد سبقت وأما في المسامتة فوجهان أحدهما برهان التخلص وتقريره أنه لو أمكن لا تناهي الأبعاد لأمكن أن نفرض كرة يخرج من مركزها خط غير متناه ملازم له
____________________
(1/324)
إلى جزئين مثلا فالجزء الذي يلي المتحرك إما أن لا يتجاوزه المتحرك بحركته إذا وصل إليه فيكون هو الجهة من غير مدخل للجزء الآخر وإما أن يتجاوزه فتلك الحركة إما حركة عن الجهة فالجهة هي الجزء الأول فقط وإما إلى الجهة فهي الثاني فقد لا يقال بل في الجهة لأنا نقول الحركة في الشيء المنقسم لا محالة تكون إما عن جهة أو إلى جهة ويعود المحذور للقطع بأن الجهة هي مقصد المتحرك لا المسافة التي تقطع بالحركة وهذا يدل على أنها لا تقبل الانقسام في مأخذ الحركة والإشارة وهو كاف في إفادة المطلوب أعني امتناع وقوع الجسم أو الحركة فيها ولا يدل على أنها لا تقبل الانقسام أصلا حتى لا تكون إلا نقطة بل ربما تكون خطا أو سطحا بقي الكلام في أن طرف كل امتداد ومنتهى كل إشارة جهة حتى تكون جهات كل جسم أطراف امتداداته فيكون على سطحه أمر الجهة نهاية جميع الامتدادات ومنتهى جميع الإشارات حتى لا يكون إلا على سطح محدد الجهات الحق هو الثاني
( قال ثم أنها 3 )
أي الجهات غير محصورة في عدد لجو أن فرض امتدادات غير متناهية العدد في جسم واحد بالقياس إلى نقطة واحدة إلا أن المشهور أنها ست وسبب الشهرة أمران أحدهما خاصي وهو أنه يمكن أن يفرض في كل جسم أبعاد ثلثه متقاطعة ولكل بعد طرفان فيكون لكل جسم ست جهات وثانيهما عامي وهو اعتبار حال الإنسان فيما له من الرأس والقدم فبحسبهما له الفوق والتحت ومن البطن والظهر فبحسبهما القدام والخلف ومن الجنبين اللذين عليهما يد أقوى في الغالب وهي اليمنى وأخرى أضعف وهي اليسرى فبحسبهما اليمين واليسار ثم اعتبر ذلك في سائر الحيوانات بحسب المقايسة والمناسبة وكان في ذوات الأربع الفوق والتحت ما يلي الظهر والبطن والقدام والخلف ما يلي الرأس والذنب وليس شيء من الاعتبارين بواجب ليصبح انحصار الجهات في الست
( قال والطبيعي منها 7 )
أي من الجهات جهة العلو وهي ما يلي رأس الإنسان بالطبع والسفل ما يلي قدميه بالطبع حيث لا تتبدلان أصلا والأربعة الباقية وضعية تتبدل بتبدل الأوضاع كالتوجه إلى المشرق يكون المشرق قدامه والمغرب خلفه والجنوب يمينه والشمال شماله ثم إذا توجه إلى المغرب صار المغرب قدامه والمشرق خلفه والشمال يمينه والجنوب شماله بخلاف ما إذا صار القائم منكوسا فإنه لا يصير ما يلي رجله تحتا وما يلي رأسه فوقا بل يصير رأسه من تحت ورجله من فوق والفوق والتحت بحالهما فالشخصان القائمان على طرفي قطر الأرض يكون رأس كل منهما فوق ورجلهما تحت
( قال والعلو لا يلزم أن يكون بالإضافة إلى السفل 2 )
يريد دفع ما سبق إلى كثير من الأوهام وهو أن الفوق والتحت متضايفان لا يعقل كل منهما إلا بالقياس إلى الآخر وكذا القدام والخلف واليمين والشمال والحق أن التضايف إنما هو بين الفوق وذي الفوق وكذا البواقي وأما الجهتان فقد تنفكان في التعقل بل في الوجود كما في الأرض فإنه لا تحت لها إلا بالوهم فإن جميع أطراف
____________________
(1/326)
امتداداتها الفعلية إلى السماء فلها الفوق فقط
( قال ومنها 4 )
أي ومن أحكام الجسم أنها محدثة بالزمان والاحتمالات الممكنة ههنا ثلثه الأول حدوث الأجسام بذواتها وصفاتها وإليه ذهب أرباب الملل من المسلمين وغيرهم والثاني قدمها كذلك وإليه ذهب أرسطو وشيعته ونعني بالصفة ما يعم الصور والأعراض وتفصيل مذهبهم أن الأجسام الفلكية قديمة بموادها وصورها وأعراضها من الضوء والشكل وأصل الحركة والوضع بمعنى أنها متحركة حركة واحدة متصلة من الأزل إلى الأبد إلى أن كل حركة نفرض من حركاتها فهي مسبوقة بأخرى فتكون حادثة وكذا الوضع والعنصريات قديمة بموادها وصورها الجسمية وكذا صورها النوعية بحسب الجنس بمعنى أنها لم تزل عنصر أما لكن خصوصية النارية أو الهوائية أو المائية أو الأرضية لا يلزم أن تكون قديمة لما سيجيء من قبول الكون والفساد والثالث قدمها بذواتها دون صفاتها وإليه ذهب المتقدمون من الفلاسفة واختلفوا في تلك الذات التي ادعوا قدمها أنها جسم أو ليست بجسم وعلى تقدير الجسمية أنها العناصر الأربعة جلتها أو واحد منها والبواقي بتلطيف أو تكشيف والسماء من دخان يرتفع من ذلك الجسم أو جوهرة غير العناصر حدثت منها العناصر والسموات أو أجسام صغار صلبة لا تقبل الانقسام إلا بحسب الوهم واختلفوا في أنها كرات أو مضلعات وعلى تقدير عدم الجسمية فقيل هي نور وظلمة والعالم من امتزاجهما وقيل نفس وهيولي تعلقت الأولى بالأخرى فحدثت الكائنات وقيل وحدات تحيزت وصارت نقطا واجتمعت النقط فصارت خطا واجتمعت الخطوط فصارت سطحا واجتمعت السطوح فصارت جسما وبالجملة فللقائلين بقدم العالم مذهب مختلفة مفصلة في كتب الإمام والظاهر أنها رموز وإشارات على ما هو دأب المتقدمين من الحكماء وأما قدمها لصفاتها دون ذواتها فغير معقول
( قال لنا وجوه 3 )
المشهور في الاستدلال على حدوث الأجسام أنها لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث أما الكبرى فظاهرة وأما الصغرى فلوجهين أحدهما أن الأجسام لا تخلو عن الأعراض كما مر والأعراض كلها حادثة إذ لو كانت قديمة لكانت باقية بما تقرر من أن القدم ينافي العدم والأزلية تستلزم الأبدية لكن اللازم باطل لما سبق
____________________
(1/327)
من أدلة امتناع بقاء الأعراض على الإطلاق وثانيهما أن الأجسام لا يخلو عن الحركة والسكون لأن الجسم لا يخلو عن الكون في الحيز وكل كون في الحيز إما حركة أو سكون لأنه إن كان مسبوقا يكون في غير ذلك الحيز فحركة وإلا فسكون لما سبق من أنه لا معنى للحركة والسكون سوى هذا ثم كل من الحركة والسكون حادث أما الحركة فلوجهين أحدهما أنها تقتضي المسبوقية بالغير لكونها تغيرا من حال إلى حال وكونا بعد كون وهذا سبق زماني حيث لم يجامع فيه السابق المسبوق والمسبوق بالغير سبقا زمانيا مسبوق بالعدم لأن معنى عدم مجامعة السابق المسبوق أن يوجد السابق ولا يوجد المسبوق والمسبوقية بالعدم هو معنى الحدوث ههنا وثانيهما أن الحركة في معرض الزوال قطعا لكونها تغيرا وتقضيا على التعاقب والزوال أعني طريان العدم ينافي القدم لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه فما جار عدمه انتفى قدمه وأما السكون فلأنه وجودي جائز الزوال ولا شيء من القديم كذلك لما مر وإنما قيد بالوجودي لأن عدم الحادث قديم يزول إلى الوجود إذ دليل امتناع عدم القديم وهو أنه إما واجب أو مستند إليه بطريق الإيجاب إنما قام في الموجود أما كون السكون وجوديا فلأنه من الأكوان وأما كونه جائز الزوال فلأن كل جسم قابل للحركة أما أولا فلعدم نزاع الخصم في ذلك وأما ثانيا فلأن الأجسام متماثلة فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر فإذا جاز الحركة على البعض بحكم المشاهدة جاز على الكل وأما ثالثا فلأن الأجسام إما بسايط وإما مركبات فالبسايط يجوز على كل من أجزائها المتشابهة الحصول في حيز الآخر وما ذاك إلا بالحركة والمركبات يحوز على كل من بسايطها المتماسة أن يكون تماسها الذي وقع بجزء من هذا يقع بسائر أجزائه المتشابهة وذلك بالحركة واعترض على ما ذكر في بيان امتناع خلو الجسم عن الحركة والسكون بأنه لو صح لزم أن يكون الجسم في أول الكون متحركا أو ساكنا واللازم باطل قطعا لاقتضاء كل منهما المسبوقية بكون آخر وبأنا لا نسلم أن الكون في حيز إن لم يكن مسبوقا بالكون في ذلك الحيز كان حركة وإنما يلزم لو كان مسبوقا بالكون في حيز آخر وهذا في الأزل محال لأن الأزلية تنافي المسبوقية بحسب الزمان وأجيب بأن الكلام في الكون المسبوق بكون آخر للقطع بأن الكون الذي لا كون قبله
____________________
(1/328)
حادث قطعا وفيه المطلوب وعلى هذا فالمنع ساقط لأن معنى ساقط لأن معنى الكلام أن الكون إن لم يكن مسبوقا بالكون في ذلك الحيز بل في حيز آخر كان حركة وما ذكر من أن هذا ينافي الأزلية باطل لأن الأزل ليس عبارة عن حالة زمانية لا حالة قبلها ليكون الكون فيه كونا لا كون قبله بل معناه نفي أن يكون الشيء بحيث يكون له أول وحقيقته الاستمرار في الأزمنة المقدرة الماضية بحيث لا يكون له بداية كما أن حقيقة الأبدية هو الاستمرار في الأزمنة الآتية لا إلى نهاية فإن قيل ما ذكرتم من دليل امتناع الأزلية إنما يقوم في كل جزئي من جزيئات الحركة ولا يدفع مذهب الحكماء وهو أن كل حركة مسبوقة بحركة أخرى لا إلى بداية والفلك متحرك أزلا وأبدا بمعنى أنه لا يقدر زمان إلا وفيه شيء من جزيئات الحركة وهذا معنى كون ماهية الحركة أزلية وحينئذ برد المنع على الكبرى أيضا أي لا نسلم أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وإنما يلزم لو كانت تلك الحوادث متناهية فلا بد من بيان امتناع تعاقب الحوادث من غير بداية ونهاية على ما هو رأيهم في حركات الأفلاك وأوضاعها أجيب أولا بإقامة البرهان على امتناع أن تكون ماهية الحركة أزلية وذلك من وجهين أحدهما أن الأزلية تنافي المسبوقية ضرورة والمسبوقية من لوازم ماهية الحركة وحقيقتها لكونها عبارة عن التغير من حال إلى حال ومنافي اللازم مناف للملزوم ضرورة وثانيهما بأن ماهية الحركة لو كانت قديمة أي موجودة في الأزل لزم أن يكون شيء من جزيئاتها أزليا إذ لا تحقق للكلي إلا في ضمن الجزئي لكن اللازم باطل بالاتفاق وثانيا بإقامة البرهان على امتناع تعاقب الحوادث الغير المتناهيه وذلك أيضا بوجهين أحدهما طريق التطبيق وهو أن نفرض جملة من الحوادث المتعاقبة من الآن وأخرى من يوم الطوفان كل منهما لا إلى نهاية ثم نطبق بهما بحسب فرض العقل إجمالا بأن نقابل الأول من هذه بالأول من تلك وهكذا فإما أن يتطابقا فيتساوى الكل والجزء أولا فتنقطع الطوفانية ويلزم انتهاء الآنية لأنها لا تزيد عليها إلا بقدر متناه وثانيهما طريق التكافؤ وهو أنا نفرض سلسلة من الحادث المعين الذي هو مسبوق بحاث وليس سابقا على حادث آخر بمنزلة المعلول الأخير فلضرورة تضايف السابقية والمسبوقية وتكافؤ المتضايفين في الوجود لزم أن تشتمل السلسلة على سابق غير مسبوق وهو المنتهى وتقرير آخر أنا نفرض سلسلة من المسبوقية وأخرى من السابقية ثم نطبق بينهما فتقع مسبوقية الأخير بإزاء سابقية ما فوقه فيلزم الانتهاء إلى ماله السابقية دون المسبوقية تحقيقا للتضايف
( قال وقد يذكر 7 )
لبيان امتناع تعاقب الحوادث لا إلى بداية ونهاية وجوه أخرى منها أنه لما كان كل حادث مسبوقا بالعدم كان الكل كذلك فإنه إذ كان كل زنجي أسود كان الكل أسود ضرورة ورد بمنع كلية هذا الحكم ألا ترى أن كل زنجي فرد وبعض من المجموع
____________________
(1/329)
بخلاف الكل ومنها أن الحوادث الماضية قابلة للزيادة والنقصان للقطع بأن دورات الفلك من الآن إلى ما لا يتناهى أكثر من دوراتها من يوم الطوفان ودورات الشمس أكثر من دورات زحل وعدد الأيام أكثر من عدد الشهور والسنين وكل ما يقبل الزيادة والنقصان فهو متناه لأن معنى نقصان الشيء من الشيء أن يكون بحيث لا يبقى منه شيء في مقابلة ما بقي من الزائد فيتناهى الناقص ويلزم منه تناهي الزائد حيث لم يزد عليه إلا بقدر متناه ورد بعد تسليم المقدمة الأولى بمنع الثانية وإنما يصح لو لم تكن الزيادة والنقصان من الجانب المتناهي ولا معنى للزيادة والنقصان ههنا إلا أن تحصل في إحدى الجملتين شيء لم يحصل في الأخرى وهو لا يوجب الانقطاع كما في مراتب الأعداد ومنها أنه لو كانت الحركات الماضية غير متناهية لامتنع انقضاؤها لأن ما لا يتناهى لا ينقضي ضرورة واللازم باطل لأن حصول اليوم الذي نحن فيه موقوف على انقضاء ما قبله ورد بالمنع فإن غير المتناهي إنما يستحيل انقضاؤه من الجانب الغير المتناهي ومنها أن الحركة أثر الفاعل المختار وكل ما هو كذلك فهو حادث مسبوق بالعدم أما الكبرى فلما تقدم وأما الصغرى فلأن كل جزء يفرض من الحركة فهو على الزوال والانقضاء ضرورة كونها غير متقررة إلا جزاء ولا شيء من الزئل بأثر للموجب لامتناع انتفاء المعلول مع بقاء علته الموجبة وإذا كان كل جزء من الحركة أثر للفاعل المختار كانت الحركة أثرا له لأن الموجد لكل جزء من أجزاء الشيء موجد له ضرورة وقد سبق الكلام على ذلك في بحث استناد الحادث إلى الموجب القديم وأنه يجوز ذلك بشرط حادث فغاية الأمر لزوم تعاقب حوادث غير متناهية يكون حدوث اللاحق منها مشروطا بانقضاء السابق ومنها أن كل حركة تفرض لا تخلو من أن تكون مسبوقة بحركة أخرى فلا تكون أزلية ضرورة سبق العدم عليها أو لا تكون مسبوقة بأخرى بل يتحقق حركة لا حركة قبلها فتكون أول الحركات فتكون للحركة بداية وهو المطلوب ورد بأنا نختار الأول ولا يفيد إلا حدوث كل من جزئيات الحركة ولا نزاع فيه وإنما النزاع في أن ينتهي إلى حادث لا يكون قبله حادث آخر ومنها أنه لو فرضنا تعاقب الحوادث من غير بداية لكان كل منها مسبوقا بعدم أزلي لأن ذلك معنى الحدوث ويلزم اجتماع تلك العدمات في الأزل إذ لو تأخر شيء منها عن الأزل لما كان أزليا وإذا اجتمعت العدمات في الأزل فإن حصل شيء من الوجودات في الأزل لزم مقارنة السابق والمسبوق بل اجتماع النقتضين وهو محال وإن لم يحصل فهو المطلوب واعترض بأن الأزل ليس عبارة عن حالة مخصوصة شبيهة بالظرف يجتمع فيها عدمات الحوادث حتى لو وجد فيها شيء من وجوداتها لزم اجتماع النقيضين بل معنى أزلية العدمات أنها ليست مسبوقة بالوجودات وهذا لا يوجب تقارنها في شيء من الأوقات وما يقال
____________________
(1/330)
أنها لو لم تكن متقارنة في حين ما لكان حصول بعضها بعد آخر فلا يكون قديما إنما يستقيم فيما يتناهى عدده فالعدمات لا تتقارن في حين ما لعدم تناهيها لا لتعاقبها
( قال ولولا القصد 3 )
يريد أن القوم حاولوا بهذا الدليل التصريح بنفي ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من قدم الأفلاك بحركاتها بمعنى أن كل حركة مسبوقة بأخرى من غير بداية وبعضهم من أن مواد العالم أجسام صغار أزلية لا تقبل الانقسام بالفعل وهي في الأزل ساكنة يعرض لها الحركة فتتكون المركبات من اجتماعها وبعضهم من أنها متحركة تتصادم فتسكن فتتكون الأفلاك والعناصر وإلا فله تقرير أخصر لا يفتقر إلى بيان أن السكون وجودي وأن الجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون فإن للحركة أجزاء مسبوقا بعضها بالبعض وهو أنه لو كان شيء من الأجسام قديما لزم أما كون قديم وأما تعاقب الأكوان من غير بداية وكلاهما محال أما اللزوم فلان حصول الكون للجسم ضروري فإن العقل إذا تصوره وتصور التحيز جزم بثبوته له فإن كان شيء من أكوانه قديما فذاك وإلا كان كل كون مسبوقا بكون آخر لا إلى بداية وهو الأمر الثاني وأما استحالة الأمرين فالأول لما سبق أن كل جسم قابل للحركة من حيز إلى حيز إما بتمامه كما في الحركة المستقيمة أو بأجزائه كما في الحركة المستديرة فيكون كل كون جائز الزوال ولا شيء من جائز الزوال بقديم لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه وينعكس إلى أن ما جاز عدمه انتفى قدمه والثاني لما مر من طريق التطبيق وطريق تضايف السابقية والمسبوقية وغير ذلك
( قال الثاني أن الجسم محل للحوادث 2 )
أي متصف بها بحكم المشاهدة ولا شيء من القديم كذلك لما سيجيء في الألهيات فإن قيل إن أخذت الصغرى كلية فالمنع ظاهر ودعوى الضرورة باطلة وإن أخذت جزئية لم يقد المط أعني حدوث كل جسم فإن حدوث بعض الأجسام كالمركبات العنصرية مما لا نزاع فيه قلنا توجد كلية وتبين بأن الأفلاك والعناصر كلها تتصف بالحركات والأوضاع الحادثة والعناصر خاصة بالأضواء والأحوال الآخر ويلزم من حدوث البسايط حدوث المركبات منها ضرورة
( قال الثالث 3 )
لا خفاء في أن الجسم بل كل ممكن يحتاج إلى مؤثر ولا بد من الانتهاء إلى الواجب تعالى وسيجيء أنه فاعل بالاختيار وقد سبق أن كل ما هو أثر المختار فهو حادث مسبوق بالقصد إلى إيجاده ولا يكون ذلك إلا حال عدمه وبهذا تثبت حدوث ما سوى الصانع من الجواهر والأعراض وليشكل بصفاته القديمة ولا يتم إلا على من يجعل سبب الاحتياج إلى المؤثر مجرد الإمكان وكذا الرابع إلا أنه لا يتوقف على إثبات كون الصانع مختارا لكن يبتني على المغلطة المشهورة وهي أن تأثير المؤثر في الشيء حال وجوده تحصيل للحاصل وقد عرفت حلها وأما الخامس فهو بعينه الأول إلا أنه بين فيه عدم خلو الجسم عن الحادث بأنه لا يخلو عن مقدار مخصوص أو حيز مخصوص وكل منهما حادث لكونه أثر المختار إذ نسبة
____________________
(1/331)
الموجب إلى جميع المقادير والأحياز على السواء ويرد عليه أنه يجوز أن يكون ذلك باعتبار المادة أو الصورة أو عدد الجواهر الفردة أو غير ذلك من الأسباب الخارجة
( قال الرابع 9 )
لو كان الجسم قديما فقدمه زايد على ذاته لكونه مشتركا بينه وبين الواجب وحينئذ إما أن يكون قدمه قديما فينقل الكلام إلى قدم القدم ويتسل أو حادثا فيلزم حدوث القديم بل الجسم لامتناع تحققه بدون القدم وضعفه ظاهر لأن القدم اعتبار عقلي لا يتسل وأيضا قدم القدم عينه وأيضا معارض بأن الجسم لو كان حادثا محدوثة أما حادث فيتسل أو قديم فيكون الجسم الموصوفة به أولى بالقدم
( قال تمسك القائلون 3 )
بقدم العالم بوجوه الأول أن جميع ما لا بد منه لتأثير الصانع في العالم وإيجاده إياه أما أن يكون حاصلا في الأزل أولا والثاني باطل فنعين الأول وهو يستلزم المطلوب وتقريره من وجهين أحدهما أنه لما وجد في الأزل جميع ما لا بد منه بوجود العالم لزم وجوده في الأزل والمقدم حق فكذا التالي أما اللزوم فلامتناع تخلف المعلول عن تمام علته لما مروا ما حقية المقدم ولأنه لو لم يكن جميع ما لا بد منه حاصلا في الأزل بل كان بعضه حادثا ينقل الكلام إليه بأن جميع ما لا بد منه لوجوده أما أن يكون حاصلا في الأزل أو لا ويتسل والجواب النقض إجمالا وتفصيلا أما إجمالا فهو أنه لو صح هذا الدليل لزم أن لا يكون ما يوجد اليوم من الحوادث حادثا لجريانه فيه لا يقال الحادث اليومي يتوقف على استعدادات في المادة مستندة إلى الحركات والأوضاع الفلكية والاتصالات الكوكبية ووجود كل منها مشروط بانقضاء الآخر لا لي بداية على سبيل التجدد والانقضاء دون الترتب في الوجود على ما هو شأن العلل والمعلولات ليلزم التسل المح فإن البرهان إنما قام على استحالة التسلسل في المبادي المترتبة دون المعدات المنصرمة لأنا نقول بعض البراهين كالتطبيق والتضائف بتناول ما يضبطها الوجود مترتبة سواء كانت مجتمعة أو متصرمة كما سبق آنفا ولو سلم فالكلام في العالم الجسماني فيجوز أن يكون حادثا مستندا إلى حوادث متعاقبة لا أول لها كتصورات أو إرادات من ذات مجردة مثل ما ذكرتم في الحادث اليومي لا يقال تعاقب الحوادث إنما يصح في الجسمانيات دون المجردات لما سبق من أن كل حادث مسبوق بمادة ومدة لأنا نقول قد سبق الكلام على ذلك هنالك وأما تفصيلا فهو أنا لا نسلم أنه لو كان جميع ما لا
____________________
(1/332)
بد منه في إيجاد العالم حاصلا في الأزل كان العالم أزليا وإنما يلزم لو لم يكن من جملة ما لا بد منه الإرادة التي من شأنها الترجيح والتخصيص متى شاء الفاعل من غير افتقار إلى مرجح ومخصص من خارج قولكم يلزم تخلف المعلول عن تمام علته وهو باطل لامتناع الترجيح بلا مرجح قلنا لا نسلم بطلان التخلف في العلة المشتملة على الإرادة والاختيار فإنه ليس ترجحا بلا مرجح بل ترجح المختار أحد المقدورين من غير مرجح خارج واستحالته ممنوعة كما في أكل الجائع أحد الرغيفين وسلوك الهارب أحد الطريقين فإن قيل لا نزاع في أن نفس الإرادة لا يكفي في وجود المراد بل لا بد من تعلقها فإن كان قديما وإن كان حادثا كان ذلك الترجيح ترجحا بلا مرجح قلنا لا بل ترجيحا به فإن تعلق الإرادة مما يقع بالإرادة من غير افتقار إلى أمر آخر والحاصل أنا نجعل شرط الحوادث تعلق الإرادة ونلتزم فيه التخلف عن تمام العلة
( قال الثاني 6 )
لما كان إمكان العالم أزليا وكذا صحة تأثير الصانع فيه وإيجاده إياه لزم أن يكون وجوده أيضا أزليا لكن المقدم حق إذ لو كان في الأزل ممتنعا ثم يصير ممكنا فيما لا يزال لزم انقلاب المح فكذا التالي وجه اللزوم أنه إذا كان الإمكان مع صحة التأثير متحققا في الأزل ولا يوجد الأثر إلا فيما لا يزال كان ذلك تركا للجود مدة لا تتناهى وذلك لا يليق بالجواد المطلق والجواب بعد تسليم امتناع ترك الجود أنه إنما يلزم لو أمكن وجود العالم في الأزل على أن يكون الأزل ظرفا للوجود وهو ممنوع والثابت ببرهان استحالة الانقلاب هو أن وجوده ممكن في الأزل على أن يكون الأزل ظرفا للإمكان ألا ترى أن الحادث بشرط الحدوث ممكن أزلا ووجوده في الأزل محال دائما وقد سبق ذلك في بحث الوجوب والإمكان والامتناع
( قال الثالث 7 )
قد سبق الكلام على ما يدعيه الفلاسفة من تركب الجسم من الهيولي والصورة وكون الهيولي قديمة وكونها غير منفكة عن صورة ما
( قال الرابع 3 )
لما كان الزمان أعنى مقدار الحركة القائمة بالجسم قديما كان الجسم قديما أما اللزوم فظاهر وأما حقيقة الملزوم ولأنه لو كان الزمان حادثا أي مسبوقا بالعدم فسبق العدم عليه لا يكون بالعلية أو الشرف أو الرتبة وهو ظاهر ولا بالطبع لأن الزمان ممكن والممكن يقتضي لاستحقاقية الوجود والعدم نظرا إلى ذاته فلا يفتقر بذاته إلى عدمه كيف والمتقدم بالطبع بجامع المتأخر وعدم الشيء لا يجامع وجوده فتعين أن يكون بالزمان وهو أيضا محال لاستلزامه وجود الزمان حين عدمه لأن معنى التقدم بالزمان أن يوجد المتقدم في زمان لا يوجد فيه المتأخر والجواب بعد تسليم وجود الزمان وكونه عبارة عن مقدم الحركة أنا لا نسلم انحصار أقسام السبق في الخمسة المذكورة بالمعاني المذكورة لأن سبق أجزاء الزمان بعضها على البعض خارج عن ذلك فليكن سبق عدم الزمان على وجوده كذلك لا يقال التقدم والتأخر داخلان في مفهوم أجزاء الزمان فإن تقدم الأمس على الغد ظاهر بالنظر إلى نفس مفهومه ولا كذلك
____________________
(1/333)
المأخذ الثاني بالعكس فمثل الحيوان لتألفه حسا وحقيقة من الأجسام المختلفة وعدم مساواة جزئه الكل في الاسم والحد لا حسا ولا حقيقة كان مركبا بأي تفسير فسر وبأي اعتبار أخذ والماء لعدم تألفه منها والمساواة جزئه الكل فيهما كان بسيطا كذلك والفلك لعدم تألفه منها لا حسا ولا حقيقة وعدم مساواة جزئه الكل كذلك كان بسيطا على التفسير الأول بالاعتبارين مركبا على التفسير الثاني بالاعتبارين والذهب لتألفه من الأجسام المختلفة حقيقة لا حسا ولمساواة جزئه الكل حسا لا حقيقة كان على التفسير الأول مركبا إذا أخذ باعتبار الحقيقة بسيطا إذا أخذ باعتبار الحس وعلى التفسير الثاني بالعكس
( قال وليعلم 8 )
يريد أن أكثر المباحث التي تورد في الأقسام الأربعة من هذا الفصل حكاية عن الغلسة غير مسلمة عند المتكلمين لابتنائها على أصول ثبت فسادها مثل كون الصانع موجبا لا مختارا وأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد أو لم تثبت صحتها مثل كون الأجسام مختلفة بالحقيقة ومركبة من الهيولي والصورة
( قال القسم الأول في البسائط الفلكية 6 )
جعل أول المباحث في أثبات فلك محيط بجميع ما سواه من الأجسام يسمى محدد الجهات وتقرير البرهان أنه قد سبق أن الجهات موجودات ذوات أوضاع وأنها حدود ونهايات للامتدادات وأن العلو والسفل منها جهتان معينتان لا تتبدلان وهذا يستلزم وجود محدد به يتعين وضعهما ويلزم أن يكون جسما واحدا كريا محيطا بالكل ليتعين العلو بأقرب حد من محيطه والسفل بأبعد حد منه وهو المركز أما الجسمية فلوجوب كونه ذا وضع وأما الوحدة فلأنه لو تعدد بأن يكون جسمين مثلا فإما أن يحيط أحدهما بالآخر أو لا فإن أحاط كان هو المحدد إذ إليه الانتهاء دون المحاط وإن لم يحط كان كل منهما في جهة من الآخر فيكون متأخرا عن الجهة أو مقارنا لها لا سابقا عليها ليصلح محددا لها وأيضا كل منهما إنما يحدد جهة القرب منه دون البعد فإنه غير متحدد والمطلوب إثبات ما يحدد الجهتين المتقابلتين معا وفيه نظر لجواز أن يكون الجسماني بحيث يكون غاية القرب من كل منهما غاية البعد من الآخر فيتحدد بهما الجهتان فلذا كان المختار هو الوجه الأول وأما وجوب كونه كريا فلأنه بسيط يمتنع زواله عن مقتضى طبعه أعني الاستدارة إذ لو كان مركبا أو بسيطا زال عن استدارته إذ لو كان لزم جواز الحركة المستقيمة على أجزائه وهو محال ضرورة أنها لا تكون إلا من جهة إلى جهة فتكون الجهة قبله أو معه فلا تكون متحددة به وجه اللزوم أما في البسيط الزائل عن الاستدارة فظاهر وأما في المركب فلأن تألفه لا يتصور إلا بحركة بعض الأجزاء إلى البعض ولأن من لوازمه جواز الانحلال لأن كل واحد من بسائطه يلاقي بأحد طرفيه شيأ غير ما يلاقيه بالطرف الآخر مع تساويهما في الحقيقة فيجوز أن يلاقي ذلك الشيء بالطرف الآخر وذلك
____________________
(1/335)
بالحركة من جهة إلى جهة وفي هذا نظر لأنه إنما يستدعي تقدم الجهة على حركة الأجزاء لا على نفس المركب وبهذا يظهر أن الاستدلال بهذا الوجه على بساطة المحدد ليس بتام
( قال لا لما قبل 6 )
إشارة إلى رد وجهين آخرين استدل بهما على كرية المحدد أحدهما أنه لو لم يكن كريا لم يتحدد به إلا جهة القرب لأن البعد عنه غير محدد أورد بالمنع فإن الشكل البيضي أو العدسي بل المضلع أيضا يشتمل على وسط هو غاية البعد عن جميع الجوانب بحيث إذا تجاوزته صرت في القرب من جانب البتة غاية الأمر أن الأبعاد الممتدة منه إلى الجوانب لا تكون متساوية وثانيهما أنه لو لم يكن كريا لزم من حركته خصوصا على الجسم المستدير وقوع الخلاء إذ لا مالى لفرج الزوايا ورد بأنه لو فرض مقعرة مستديرا ومحدبة بيضيا ويتحرك على قطره الأطول أو عدسيا ويتحرك على قطره الأقصر لم يلزم الخلاء فإن قيل طبيعة المحدد واحدة لما سيجيء فيكون محدبه مستديرا كقوه قلنا فيكون ذلك استدلالا برأسه لا يفتقر إلى ذكر الحركة ولزوم الخلاء والشكل البيضي سطح يحيط به وقوسان متساويتان كل منهما أصغر من نصف دائرة والعدسي ما هما أعظم وكل منهما إذا أدبر على نفسه حصل مجسمة وأما كون المحدد محيط بذوات الجهات فلأن غير المحيط إنما يتحدد به القرب منه وهو ظاهر فلا يكون محددا للجهتين هف
( قال ثم معنى تحديده 3 )
جواب سؤال تقريره أن المراد بمحدد الجهة أن كان فاعلها فلا نسلم لزوم كونه ذا وضع فضلا عن الإحاطة وإن كان قابلها فحدد العلو والسفل لا يكون واحدا ضرورة أن المركز لا يقوم بالمحدد وتقرير الجواب أن المراد به ما يتبين به وضع الجهة وظاهر أن تعين الوضع لا يكون إلا بذي الوضع وتعين السفل بوسط الأرض ليس من حيث أنه نقطة من الأرض ليكون للأرض دخل في التحديد فيتعد المحدد بل من حيث أنه مركز لمحيط فلك الأفلاك ومتحدد به ضرورة أن المحيط يتعين مركزه والمركز لا يتعين محيطه لجواز أن يحيط به دوائر غير متناهية فبهذا الاعتبار كان المحدد لجهات هو الفلك دون الأرض ودون كليهما فإن قيل سلما أن المحدد يكون واحدا محيطا بذي الجهة لكن من لين يلزم أن يكون هو المحيط بالكل ولم لا يجوز أن يكون محدد جهة النار هو فلك القمر مثلا كما هو حكم الأمكنة فإن محدد كل مكان إنما هو المحيط به وإن كان محاطا للغير بل أطباقهم على كون النار خفيفة على الإطلاق بمعنى أنها تطلب جهة الفوق مع أنها لا تطلب إلا مقعر فلك القمر بما يدل على أنه محدد جهتها قلنا المحيط إذا كان محاطا للغير لم يكن منتهى الإشارة ضرورة امتدادها إلى الغير فلم يكن محدد للجهة التي هي طرف الامتدادات ومنتهى الإشارات وهذا بخلاف المكان فإنه سطح المحيط المماس لسطح ذي المكان فطلب النار بالطبع النار بالطبع مقعر فلك القمر إنما يدل على أنه مكانه
____________________
(1/336)
الطبيعي لا جهتها فإن العنصر إنما يطلب بالطبع حيزه لا جهته بأن يصل إلى الجسم المشتمل على حقيقة الجهة بل لا يكون ذلك إلا في الماء الطالب للأرض ألا ترى أن النار لو فرضت قاطعة لفلك القمر كانت متحركة إلى فوق لا من فوق ولهذا اتفقوا على أن فوق النار فلك القمر وفوقه فلك عطارد وهكذا إلى المحدد وقولهم أنها تطلب جهة الفوق تجوز بمعنى أنها تطلب المكان الذي يلي جهة الفوق وبعد الاتفاق على أن المحدد فوق الكل اختلفوا في أنه هل ينقسم بحسب الأجزاء المفروضة إلى فوق وتحت كسائر الأفلاك حيث يجعل ما يلي محيط المحدد كالمحدب فوق وما يلي مركزه تحت كالمقعر فجوزه بعضهم بناء على أن المحدد بالذات هو محدبه إذ إليه الانتهاء فتكون الإشارة من مقعره إلى محدبه من تحت ومنعه بعضهم زعما منه أن المحدد هو نفسه فيكون كله لذاته فوق بخلاف الأرض فإن تحتيتها ليست لذاتها بل لكونها في صوب المركز حتى لو تحركت عنه كانت حركة من تحت
( قال للبيه 2 )
لاخفاء في أن إثبات المحدد مبني على امتناع الخلاء والإلجاز أن تنتهي إليه الامتدادات وتتعين به أوضاع الجهات وعلى اختلاف الأجسام بالحقيقة واستناد بعض حركاتها إلى الطبيعة وإلا لما كان من الأجسام ما يقتضي صوب المحيط ويتحرك إليه بالطبع ومنها ما يقتضي صوب المركز ويتحرك إليه بالطبع فلم يكن العلو والسفل جهتين طبيعيتين ولما كان عندنا أن الخلاء ممكن وأن الأجسام متماثلة يجوز على كل منها ما يجوز على الآخر وأن الحركات مستندة إلى قدرة الفاعل المختار لا أثر فيها للطبيعة لم يتم ما ذكروه في إثبات المحدد بالتفسير المذكور ولم تمتنع الحركة المستقيمة على السماوات كما لم تمتنع على العناصر لتحقق الجهات بدونها ولم يثبت ما فرعوا على إثبات المحدد وعدم قبوله الحركة المستقيمة من أن السماوات لا تقبل الخرق والالتئام ولا الكون والفساد ولا الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ولا الألوان والطعوم والروائح ولا اللين والخشونة والملاسة والخفة والثقل إلى غير ذلك مما ورد به الشريعة المطهرة على أنه لو تم ما ذكر ففي المحدد خاصة دون سائر الأفلاك فإن تمسكوا بأنه علم بالرصد أنها تتحرك على الاستدارة فيكون فيها مبدأ ميل مستدير فلا تتحرك على الاستقامة لامتناع اجتماع المثلين قلنا لو سلم ذلك فامتناع انقطاع الاستدارة وحدوث الاستقامة لم يعلم بالرصد ودليل سرمدية الحركات لم يتم كيف وقد جعلوها إرادية لا ذاتية يمتنع انفكاكها وزعم جماعة من قدماء الحكماء المتألهين أن الأفلاك في غاية ما يكون من الصلابة واليبس والملاسة وهي في دوراتها يماس بعضها بعضا فيسمع منها المتلطفون بالحكم والرياضة أصواتا عجيبة غريبة موسيقية مطربة وألحانا ونغماتا متناسة مستحسنة تقف عندها القوى البدنية وتتحير النفوس البشرية
( قال المبحث الثاني 7 )
قد أنجز الكلام ههنا إلى ذكر جل من علم الهيئة الباحث عن أحوال الأجسام البسيطة العلوية والسفلية من حيث كمياتها وكيفياتها
____________________
(1/337)
وأوضاعها وحركاتها اللازمة لها لأن بعض ذلك مما ينتفع به في الشرعيات كتعدد المشارق والمغارب واختلاف المطالع وأمر القبلة وأوقات الصلاة وغير ذلك وبعضه مما يعين على التفكر في خلق السماوات والأرض المؤدي إلى مزيد خبرة يبالغ حكمة الصانع وباهر قدرته وبعضه مما يجب التنبيه لفساده فيحكى كذلك وهذا العلم فيما بينهم أيضا يذكر على طريق الحكاية عن علم آخر فيه براهينه يسمونه المجسطي فلا بأس إن اقتصرنا على مجرد الحكاية لكن على وجهها إن شاء الله تعالى لا كما وقع في المواقف فيتعجب من له أدنى نظر في هذا الفن من قلة اهتمام الحاكي بالمحكي ويتخذ ذلك مغمزا على المتصدي لتحقيق العلوم الإسلامية فنقول لما وجدوا الشمس والقمر وسائر الكواكب متحركة بالحركة اليومية من المشرق إلى المغرب ثم وجدوها بالنظر الدقيق متحركة حركة بطيئة من المغرب إلى المشرق ووجدوا الكواكب السبعة أعني الشمس والقمر وزحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد ذوي حركات غريبة مختلفة غير متشابهة بقياس بعضها إلى البعض وكانت الكواكب عندهم مركوزة في الأفلاك لا كالحيتان في المياه بنوا على ذلك أن الأفلاك الكلية الشاملة للأرض الكائنة على مركزها تسعة اثنان للحركتين الأوليين وسبعة لحركات السبعة السيارة لامتناع الحركتين المختلفتين في زمان واحد من جسم واحد وأما في جانب الكثرة فلا قطع لجواز أن يكون كل من الثوابت على فلك وأن تكون الأفلاك الغير المكوكبة كثيرة محيطا بعضها بالبعض لكنهم لم يذهبوا إلى ذلك لعدم الدليل ولأنهم لم يجدوا في السمويات فضلا لا حاجة إليه وجوز بعضهم كون الأفلاك ثمانية تستند الحركة الأولى إلى مجموعها لا إلى فلك خاص وذلك بأن تتصل بها نفس واحدة تحركها الحركة اليومية قال صاحب التحفة فيجوز أن تكون سبعة بأن تكون الثوابت ودوائر البروج على محدب فلك زحل وتتعلق نفس بمجموع السبعة تحركها الحركة الأولى وأخرى بالسابعة تحركها الحركة الأخرى لكن بشرط أن نفرض دوائر البروج متحركة بالسريعة دون البطيئة لتنتقل الثوابت بها من برج إلى برج كما هو الواقع
( قال وإنه لا كوكب عليه وإنه يتحرك 8 )
إنما جعل ذلك من قبيل زعمهم لأن الذاهبين إلى أن الكواكب سابحة في الأفلاك كالحيتان في المياه لا يقولون بذلك
( قال يسمى معدل النهار 2 )
لتعادل الليل والنهار في جميع البقاع عند كون الشمس عليها والمراد بالمنطقة أعظم الدوائر الحادثة من حركة الكرة على نفسها وبقطبيها النقطتان الثابتتان عند حركة الكرة والدوائر الصغار الموازية للمنطقة تسمى مدارات تلك الحركة وأحد قطبي العالم وهو الذي يلي شمال المواجه للمشرق يسمى الشمالي والآخر الجنوبي
( قال ويتم دوره في قريب من اليوم بليلة 3 )
إنما قال في قريب لأنها تنقص من اليوم بليلته بمقدار الحركة الخاصة للشمس من المغرب إلى المشرق
( قال ويحرك الكل 3 )
يعني أن التاسع
____________________
(1/338)
يحرك جميع الأفلاك الثمانية التي تحته بحكم المشاهدة لكونها بمنزلة جزء منه حيث أحاط بها وقوى عليها حتى صار المجموع بمنزلة كرة واحدة والأفقي الحركة الوضعية تحرك المحاط بتحرك المحيط ليس بلازم إلا إذا كان المحاط في ثخن المحيط كالخارج المركز من الممثل على ما سيجيء إن شاء الله تعالى فإنه جزء منه على الحقيقة
( قال وتحته فلك الثوابت 4 )
سمي بذلك لكونه مكانا للكواكب الثوابت أعني ما عدا السبعة السيارة وتسميتها نوابت إما لبطء حركتها في الغاية بحيث لم تدرك إلا بالنظر الدقيق وإما لثبات ما بينها من الأبعاد على وتيرة واحدة وثبات عروضها عن منطقة حركتها وحكموا يكون حركة الثامن على منطقة وقطبين غير منطقة التاسع وقطبيه لأن حركة الحاوي والمحوي إذا كانت على مناطق وأقطاب بأعيانها لا تحس باختلاف الحركتين بل إنما يحس بحركة واحدة هي مركبة من مجموعها أن اتحدت الجهة أو حاصلة من فضل السريعة على البطيئة إن اختلفت الجهتان والألم يحس بالحركة أصلا بل يرى ساكنا وأيضا يعرف بآلات القياس أن الثوابت لا تختلف أبعادها عن قطبي العالم بل عن نقطة غيرهما واختلفوا في مقدار هذه الحركة فعلى رأي بطلميوس ومن قبله تقطع في كل مائة سنة درجة فتتم الدورة في ست وثلاثين ألف سنة وعلى رأي المتأخرين تقطع في كل ست وستين سنة درجة فتتم الدورة في ثلاثة وعشرين ألف سنة وسبعمائة وستين سنة وبعضهم وجدوها تقطع الدرجة في كل سبعين سنة فتتم الدورة في خمسة وعشرين ألف سنة ومائتي سنة ويوافقه رصد مراغة فيمكن أن يكون ذلك لاختلال في الآلات أو لأسباب لا يطلع عليها إلا خالق السماوات
( قال واستدلالا من الكسف 3 )
يعني أنهم وجدوا القمر يكسف سائر السيارات ومن الثوابت ما يكون على ممره فحكموا بأن فلكه تحت الكل وهكذا الحكم في البواقي إلا الشمس فإنها لا يكسفها غير القمر ولا يدرك كسفها بشيء من الكواكب لاحتراقها عند مقارنتها فالحكم بكونها فوق الزهرة وعطارد استحسانا لما فيه من حسن الترتيب وجودة النظام حيث يكون النير الأعظم في الوسط من السيارات بمنزلة شمسة القلادة وقد تأكد هذا الاستحسان بمناسبات آخر وزعم بعضهم أنه رأى الزهرة كسامة على صفحة الشمس والحكم بكونها تحت الثلاثة العلوية أعني زحل والمشتري والمريخ مأخوذ من اختلاف المنظر وهو بعد ما بين طرفي الخطين المارين بمركز الكواكب الواصلين إلى فلك البروج الخارج أحدهما من مركز العالم والآخر موضع الناظر فإن وجوده يدل على القرب منا وعدمه على البعد وقد وجد للشمس دون العلوية والثوابت فعلم أنها تحتها ولم يعرف وجوده للزهرة وعطارد لأنه إنما يعرف بالة لهم تسمى ذات الشعبتين تنصب في سطح نصف النهار والزهرة وعطارد لكونهما حوالي الشمس دائما لا يصلان إلى نسف النهار ظاهرين ولما كانوا معترفين بأنه لا قطع في جانب كثرة الأفلاك وأنه لا يمتنع كون الثوابت على أفلاك شتى متفقة الحركات وأنهم إنما بنوا الكلام
____________________
(1/339)
على عدم إثبات الفضل المستغنى عنه فلا جهة للاعتراض بأنه لم لا يجوز أن يكون كل من الثوابت على فلك وأن يكون بعضها تحت السيارات أو فيما بينها
( قال وأفلاكها الكلية ممثلات 6 )
يعني أن الفلك الكلي لكل من السبعة السيارة يسمى ممثل ذلك الكوكب بمعنى كونه ممثلا لفلك البروج أي موافقا له بالمركز والمنطقة والقطبين
( قال وفي جوف ممثل القمر 8 )
يريد الإشارة إلى تفصيل الأفلاك الجزئية التي يشتمل عليها الأفلاك الكلية وقد أرشدهم إلى ذلك ما أدركوا بالرصد للسيارات من اختلاف الأوضاع والحركات فن الأفلاك الجزئية ممثل القمر ويسمى الجوزهري لكون المحرك للجوزهرين وستعرفهما ومنها مائل القمر وهو فلك في جوف ممثل القمر مركزه مركز العالم يسمى بذلك لكون منطقته مائلة عن منطقة البروج ميلا ثابتا لا يتغير فالجوزهر يماس بمحدبه مقعر ممثل عطارد وبمقعره محدب المائل المماس بمقعره لمحدب كرة النار ومنها الأفلاك الخارجة المراكز والخارج المركز فلك محيط بالأرض خارج مركزه عن مركزها ويكون في ثحن فلك موافق المركز يماس بمحدبه محدب الموافق على نقطة واحدة هي أبعد نقطة عليه من مركز الأرض ويسمى الأوج وبمقعره مقعر الموافق على نقطة مقابلة للأولى هي أقرب نقطة عليه منه ويسمى الحضيض فبالضرورة يبقى الفضل من موافق المركز بعد انفصال الخارج المركز عنه جسمين مستديرين على مركز العالم غليظي الوسط بقدر ما بين مركزي الموافق المركز والخارج المركز يستدق ذلك الغلظ إلى أن ينعدم عند نقطتي التماس المقابلتين لغايتي الغلظ وهذان الجسمان يسميان بالمتممين ويكون ذلك التدرج من الغلظ إلى الرقة فيهما على التبادل بمعنى أن غاية رقة الحاوي منهما يكون عند الأوج وغاية غلظه عند الحضيض وغاية رقة المحوي عند الحضيض وغلظه عند الأوج وقد يكون الخارج المركز في ثحن خارج مركز آخر كما في عطارد ومنها التداوير والتدوير كرة في ثحن الخارج المركز يماس سطحها محدب الخارج بنقطة يسمى الذروة ومقعرة بنقطة مقابلة لها تسمى الحضيض والكوكب مركوز فيها بحيث يتماس بسطحاهما على نقطة ولم يعتبر لها ولا للكوكب تقعير بل اعتبرا مصمتين فقوله ثم في ثحن المائل إشارة إلى أن الموافق المركز المشتمل على الخارج المركز هو في القمر المائل وفي البواقي ممثلا بها وإن الحامل اسم للخارج المركز إذا كان في ثحنه التدوير لجملة مركز التدوير وإن خارج المركز لعطارد يسمى مديرا لإدارته مركز الحامل وهو الخارج المركز الذي ينفصل عن المدير انفصال المدير عن الممثل ويكون فيه التدوير فلعطارد خارجا مركز وأوجان وحضيضان وأربع متممات والمائل في المتحيزة اسم للخارج المركز الحامل للتدوير إذا تقرر هذا فنقول للشمس ممثل في ثحنه خارج مركز في ثحنه الشمس وللقمر ممثل في جوفه
____________________
(1/340)
مائل في ثخنه خارج مركز هو الحامل لتدوير فيه القمر ولعطارد وممثل في ثحنه خارج مركز يسمى مديرا في ثحنه خارج مركز هو الحامل لتدوير فيه عطارد ولكل من الأربعة الباقية ممثل في ثحنه خارج مركز هو الحامل لتدوير فيه الكوكب وهذه صورها
( قال المبحث الثالث 2 )
لما كانت منطقة البروج ومعدل النهار متقاطعين على نقطتين توهموا دائرة تمر بنقطتي التقاطع ونقطتي البروج وأخرى تمر بالأقطاب الأربعة وتقطع معدل النهار ومنطقة البروج على زوايا قوائم فتقع على غاية بعد ما بين المنطقتين ويسمى الميل الكلي فبحسب هاتين الدائرتين ينقسم فلك البروج أربعة أقسام متساوية فتوهموا على كل واحد من ربعين متلاصقين منها نقطتين بعد كل منهما عن الأخرى كبعد الأخرى عن أقرب طرفي الربع إليها ثم توهموا أربع دوائر تمر بالنقط الأربع بمقابلاتها من الربعين الباقيين وفرضوا الدوائر الست قاطعة للعالم فانقسم الفلك الأعظم وسائر الأفلاك الممثلة إثنى عشر قسما سموا كل قسم منها برجا وجعلوا كل برج ثلاثين قسما سموا كل قسم درجة وكل درجة ستين قسما سموا كل قسم دقيقة وهكذا جعلوا كل دقيقة ستين ثانية وكل ثانية ستين ثالثة بالغا ما بلغ وسموا من نقطتي تقاطع المنطقتين النقطة التي تجاوزها الشمس إلى شمال معدل النهار أعني ما يلي القطب الشمالي اعتدالا ربيعا والنقطة التي تجاوزها الشمس إلى جنوب المعدل اعتدالا خريفيا وسموا نقطة تقاطع منطقة البروج والدائرة المارة بالأقطاب الأربعة في جانب الشمال انقلابا صيفيا وفي جانب الجنوب انقلابا شتويا لأن الربيع اسم لمدة حركة الشمس من الاعتدال الآخذ في الشمال إلى الانقلاب الشمالي أعني زمان قطعها للحمل والثور والجوزاء والصيف لمدة حركتها منه إلى الاعتدال الآخذ في الجنوب أعني زمان قطعها للسرطان والأسد والسنبلة والخريف لمدة حركتها منه إلى الانقلاب الجنوبي أعني زمان قطعها للميزان والعقرب والقوس والشتاء لمدة حركتها منه إلى الاعتدال الربيعي أعني زمان قطعها للجدي والدلو والحوت وهذه الأسامي مأخوذة من صورة توهمت من كواكب وقعت عند القسمة بحذاء الأقسام وحين انتقلت عن محاذاتها بحركة الفلك الثامن أثر وإبقاء الأسماء تيسرا للأمر في ضبط الحركات
( قال وكل من السيارة تقطع هذه البروج على التوالي 8 )
أعني من الحمل إلى الثور إلى الجوزاء وهكذا وهي حركة من المغرب إلى المشرق وعكسه خلاف التوالي أعني من الحمل إلى الحوت إلى الدلو وهكذا ونعني بالحركة إجمالا الحركة المركبة التي بها يعتبر انتقال الكوكب من برج إلى برج من غير أن ينظر إلى جزئيات الأفلاك وتفاصيل الحركات وبالتفصيل خلاف ذلك فالشمس تقطع البروج الإثنى عشر في ثلثمائة وخمسة وستين ويما وربع يوم وهي السنة الشمسية والقمر يقطعها إثنى عشر مرة في ثلاثمائة
____________________
(1/341)
وأربعة وخمسين يوما وسدس يوم وخمس يوم وهي السنة القمرية وزحل في ثلاثين سنة والمشتري في اثنتي عشرة سنة والمريخ في سنتين إلا شهرا أو نصفا وكل من الزهرة وعطارد في سنة جميع ذلك على سبيل التقريب وأما التحقيق فيعرف من الزيجات
( قال وأما تفصيلا 6 )
إشارة إلى بيان الحركات البسيطة للأفلاك الجزئية إلى التوالي أو خلافه فمن الحركة إلى خلاف التوالي حركة مدبر عطارد حول مركزه على غير معدل النهار ومنطقة البروج وغير أقطابهما ويظهر في أوج الحامل وحضيضه ويحدث بسببها لمركز الحامل مدار حول مركز المدير يسمى الفلك الحامل لمركز الحامل وهي في اليوم بليلته تسع وخمسون دقيقة وثماني ثوان وعشرون ثالثة ووجه معرفة المدير وكون حركته على خلاف التوالي وعلى هذا المقدار مشهور فيما بينهم إلا أن في نقل صاحب المواقف سهو قلم لا بد من التنبه له وهو أنه جعل حال مركز التدوير وأوج الحامل في الميزان والحمل المقابلة وإنما هي المقارنة وجعل المدير إسما لمحرك مركز التدوير وإنما هو إسم لمحرك أوج الحامل المحرك لمركز التدوير وجعل بعد عطارد عن الشمس في الصباح والمساء في الميزان أعظم منه في الحمل والأمر بالعكس ومنها حركة ممثل القمر حول مركز العالم على منطقة البروج وقطبيها كل يوم ثلاث دقائق واثنتي عشرة ثانية وبها يتحرك جميع أفلاك القمر فينتقل الرأس والذنب ولذلك ينسب إليهما ويسمى حركة الجوزهر ومنها حركة مائل القمر حول مركز العالم على غير معدل النهار ومنطقة البروج وغير أقطابهما كل يوم إحدى عشرة درجة وتسعة دقائق ويتحرك لها الخارج المركز ومركزه وتسمى حركة الأوج لظهورها فيه وقد يسمى مجموع حركتي الجوزهر والمائل بحركة الأوج وأما حركاتها إلى التوالي فمنها حركات الأفلاك الممثلة سوى ممثل القمر وتظهر في الأوجات والحضيضات وهي على وفق حركة الفلك الثامن حتى ذهب بعضهم إلى أنها بحركته واختار الآخرون كونها حركات الممثلات بذواتها احترازا عن كونها عطلا والتزموا عدم تحركها بحركة الثامن لأن تحريك الحاوي للمحوي ليس بلازم ومنها حركات الأفلاك الخارجة المراكز سوى ما يخص باسم المدبر لعطارد وهو في كل يوم للشمس تسع وخمسون دقيقة وثماني ثوان وعشرون ثالثة على منطقة البروج دون قطبيها ولزحل دقيقتان وللمشتري خمس دقائق وللمريخ إحدى وثلاثون دقيقة وللزهرة كما للشمس ولعطارد درجة ونصف وللقمر أربع وعشرون درجة وثلاث وعشرون دقيقة جميع ذلك على غير معدل النهار ومنطقة البروج وغير أقطابهما ويظهر في مراكز تداوير الكواكب الستة ولذلك تسمى حركة مركز الكوكب ومنها
____________________
(1/342)
حركة النصف الأعلى من تدوير كل من الخمسة المتحيزة على غير منطقة حاملها والنصف الأسفل من تدوير القمر على منقطة الحامل والمائل وهي في كل يوم لتداوير العلوية أعني زحل والمشتري والمريخ فضل حركة الشمس على حركة حواملها ولتدوير الزهرة سبعة وثلاثون دقيقة ولتدوير عطارد ثلاثة أجزاء وست دقائق ولتدوير القمر ثلاثة عشر جزأ وأربع دقائق ولا محالة يكون النصف الأسفل من تداوير المتحيزة والأعلى من تدوير القمر إلى خلاف التوالي
( قال ويقع للقمر 3 )
يعني لما كان حركة تدوير القمر على منطقة الحامل والمائل لم يقع له ميل عن منطقة البروج إلا بحسب المائل ولما كانت حركة تدوير المتحيزة على غير مناطق حواملها المائلة عن منطقة البروج كان لها ميل بحسب المائل عن منطقة البروج وبحسب التدوير عن منطقة المائل وكل من الميلين يسمى عرض الكوكب وحقيقته قوس من الدائرة المارة بقطبي البروج وبرأس الخط المار بمركز الكوكب الخارج من مركز العالم إلى الفلك الأعلى يقع بين المنطقة وبين رأس ذلك الخط وهو في مقابلة الطول وهو قوس من منطقة البروج على التوالي يقع بين نقطة الاعتدال الربيعي وبين الكوكب إن كان عديم العرض أو بين النقطة التي تقطع دائرة عرضه فلك البروج عليها إن كان ذا عرض
( قال ونقطتا تقاطع المائل 6 )
والممثل بالجوزهرين يعني بالمائل مائل القمر والأفلاك الخارجة المراكز للخمسة المتحيزة لما عرفت من أنها ليست في سطح منطقة البروج بل مائلة عنها فلهذا تقاطع الأفلاك الممثلة وسموا من الجوزهرين النقطة التي يجاوزها الكوكب إلى شمال منطقة البروج بالرأس والتي يقابلها بالذنب تشبيها المشكل الحادث بين نصفي المنطقتين من الجانب الأقل بالتنين وجعل الأخذ في الشمال رأسا لأنه أشرف من قبل ظهور القطب الشمالي وميل المساكن إليه وكثرة الكواكب فيه قوله فظهر يعني لما أثبتوا فلكا للحركة اليومية وآخر لحركة الثوابت وتأملوا في أحوال السبعة السيارة واختلافاتها فحكموا بأن للشمس ممثلا وخارج مركز وتدويرا وللقمر مائلا وممثلا وخارج مركز وتدويرا ولكل من العلوية والزهرة ممثلا وخارج مركز وتدويرا ولعطارد ممثلا ومدبرا وخارج مركز وتدويرا ولكل من المذكورات حركة خاصة صارت الأفلاك الجزئية أربعة وعشرين وكذا الحركات البسيطة ومبني ذلك على أنهم اعتقدوا في الفلكيات أنها منتظمة في حركاتها لا يعرض لها وقوف أو رجوع أو سرعة
____________________
(1/343)
أو بطء أو انحراف عن سنتها فحين أدركوا شيئا من ذلك أثبتوا له سببا لا يخل بهذا الانتظام كإثبات الخارج المركز أو التدوير للاختلاف بالسرعة والبطء وإثبات التدوير للرجعة والاستقامة والوقوف مثلا إذا كان الكوكب متحركا حركة متشابهة على محيط فلك خارج مركزه عن مركز العالم الذي نحن بقربه تكون حركته بالقياس إلى مركز العالم مختلفة ويكون في القطعة التي هي أبعد منه بطيئة وفي القطعة التي هي أقرب سريعة لأن القسي المتساوية المختلفة بالبعد والقرب يرى البعيد منها أصغر من القريب وتوضيحه أنه إذا خرج خط يمر بالمركزين ويصل إلى الأوج والحضيض ثم قام عليه عمود يمر بمركز العالم ويصل إلى المحيط من الجانبين انقسم الممثل بهذا الخط قسمين متساويين وخارج المركز قسمين مختلفين أعظمهما ما يكون في النصف الأوجي من الممثل وأصغرهما ما يكون في النصف الحضيضي منه والكوكب لا يقطع كل نصف إلا بقطع ما فيه من الخارج فيكون زمان قطع النصف الأوجي أكثر والحضيضي أقل على تفاوت المسافتين أعني القسمين من الخارج المركز فترى الحركة في النصف الأوجي أبطأ وفي الحضيضي أسرع وعند طرفي الخط متوسطة كما إذا تحرك متحرك في ساعة فرسخين وفي أخرى فرسخا ولهذا كانت مدة فصلى الربيع والصيف أكثر من مدة فصلى الخريف والشتاء مع أن كلا من المدتين زمان لقطع النصف من فلك البروج وإذا كان الكوكب من التدوير في النصف الذي يوافق حركته حركة حامله أعني النصف الأعلى في المتحيزة والنصف الأسفل في القمر ترى حركته سريعة لقطعه فلك البروج بالحركتين جميعا وإذا كان في النصف الذي يخالف حركته حركة حامله أعني أسافل المتحيزة وأعلى القمر فإن كانت حركته أقل من حركة حامله يرى بطيئا لأنه إنما يقطع فلك البروج بفضل حركة الحامل على حركة التدوير وإن انتهت حركته إلى حد التساوي لحركة الحامل وذلك إنما يكون في المنحيزة دون القمر لما عرفت من مقدار حركات التداوير والحوامل ترى الكوكب واقفا لأن الحامل يحركه إلى التوالي جزأ ويرده التدوير إلى خلاف التوالي جزأ فيرى من فلك البروج في موضعه كأنه لا يتحرك وإن زادت حركة التدوير على حركة الحامل يرى راجعا لأن الحامل يحركه جزأ والتدوير يرده جزئين مثلا
( قال وأمثال هذه البيانات 8 )
قد يتوهم أن إثبات الأفلاك الجزئية والحركات البسيطة على الوجوه المخصوصة بناء على ما يشاهد ويدرك بالرصد من الاختلافات اللازمة على تقدير ثبوتها إثبات للملزوم بناء على وجود لازمه وليس بمستقيم إلا إذا علم المساواة وليست بمعلومة إذ لا ضرورة ولا برهان على امتناع أن تكون تلك الاختلافات لأسباب أخر والجواب أنها مقدمات حدسية حيث يحكم العقل الجازم بانتظام السمويات بثبوتها عند أدرك الاختلافات من غير ملاحظة وسط وترتيب وهم معترفون بذلك
____________________
(1/344)
مصرحون به في أمر الخسوف والكسوف ونحوهما ولهذا اختلفوا وترددوا فيما لم يحكم الحدس به كالمجرة ومحو القمر وأن الختلاف الشمس بالسرعة والبطء مبني على التدويرا والخارج المركز وأن حركات أوجات الممثلات بأنفسها أو بالفلك الثامن
( قال كما تحدسوا 9 )
أورد ههنا من الحدسيات المشهورة فيما بينهم إضاءة القمر بالشمس وما يترتب على ذلك من الخسوف والكسوف وذلك أن اختلاف تشكلات القمر بحسب أوضاعه من الشمس يدل على أن جرمه مظلم كثيف صقيل يقبل من الشمس الضوء لكثافته وينعكس عنه لصقالته فيكون أبدا المضيء من جرمه الكري أكثر من النصف بقليل لكون جرمه أصغر من جرم الشمس فيفصل بين المضيء والمظلم دائرة قريبة من العظمة تسمى دائرة النور ويفصل بين ما يصل إليه نور البصر من جرم القمر وبين ما لا يصل دائرة تسمى دائرة الرؤية والدائرتان تتطابقان في الاجتماع ولكونه تحت الشمس يكون النصف المظلم منه حينئذ مما يلي البصر وهذه الحالة هي المحاق وكذا في الاستقبال لكن ما يلي البصر حينئذ هي القطعة المضيئة والقمر حينئذ يسمى بدرا وتتقاطعان في سائر الأوضاع أما في التربيعين فعلى زوايا قائمة فيرى منه الربع وأما في غيرهما فعلى حادة ومنفرجة فيرى الشكل الهلالي إن كان ما يلي الشمس هو القسم الذي يلي الزاوية الحادة والشكل الإهليلجي إن كان هو القسم الذي يلي المنفرجة وأول ما يبدو للناظر بعد الاجتماع يسمى بالهلال وهو حيث البعد بينه وبين الشمس قريب من اثنتي عشرة درجة أو أقل أو أكثر على اختلاف أوضاع المساكن
( قال وإذا كان القمر 7 )
إشارة إلى سبب الكسوف وهو حالة تعرض للشمس من عدم الاستنارة والإنارة بالنسبة إلى الإبصار حين ما يكون من شأنها ذلك بسبب توسط القمر بينها وبين الأبصار وذلك إذا وقع القمر على الخط الخارج من البصر إلى الشمس ويسمى ذلك بالاجتماع المرئي ويكونان لا محالة على إحد ى العقدتين الرأس والذنب أو بقربهما بحيث لا يكون للقمر عرض مرئي بقدر مجموع نصف قطره وقطر الشمس فلا محالة يحول بين الشمس وبين البصر ويحجب بنصفه المظلم نورها عن الناظرين بالكل وهو الكسوف الكلي أو بالبعض فالجزئي ولكونه حالة تعرض للشمس لا في ذاتها بل بالنسبة إلى الإبصار جاز أن يتفق الكسوف بالنسبة إلى قوم دون قوم كما إذا سترت السراج بيدك بحيث يراه القوم وأنت لا تراه وأن يكون كليا لقوم جزئيا لآخرين أو جزئيا للكل لكن على التفاوت وأما إذا كان عرض القمر المرئي بقدر نصف مجموع القطرين فيما بين جرم القمر مخروط شعاع الشمس فلا يكون كسوف
( قال وإذا كان عند الاستقبال 3 )
إشارة إلى سبب الخسوف وذلك أن القمر عند استقباله الشمس إذا كان على إحدى العقدتين وأو بقربها بحيث يكون عرضه أقل من نصف مجموع قطره وقطره مخروط ظل الأرض انحجب بالأرض عن نور الشمس فيرى أن كان فوق الأرض على ظلامه الأصلي
____________________
(1/345)
كلا أو بعضا وذلك هو الاخسوف الكلي أو الجزئي وأما إذا كان عرضه عن منطقة البروج أقل من نصفي القطرين فيماس مخروط الظل فلا ينخسف
( قال هذا ولكنهم وجدوا 9 )
يعني أنهم وأن أثبتوا بحكم الحدس هذه الأفلاك والحركات لكنهم وجدوا في القمر والخمسة المتحيزة اختلافات أخر تورث إشكالات على ما أثبتوا لها من الأفلاك والحركات مثل أشكال المحاذاة وأشكال تشابه الحركة وأشكال عرض السفليين فمنهم من تحير ومنهم من تصدى لحل البعض مع الاعتراف بالخلل فيه وادعى صاحب التحفة حل الجميع وجه أشكال المحاذاة والتشابه أنه إذا تحرك مركز كرة كنقطة
( ا )
التي هي مركز كرة
( ب ح )
على محيط دائرة كدائرة
( ا ء هـ )
وكانت تلك الحركة بسيطة حدثت عند مركز ذلك المحيط وهو
( ز )
في أزمنة متساوية زوايا متساوية كزوايا
( ا ء ء ز هـ )
ويتبع ذلك تساوي قسي المحيط في تلك الأزمنة كقسي
( ا ء ء هـ )
ويلزم أيضا أن تكون أبعاد مركز الكرة المفروضة عن نقطة
( ز )
أيضا متساوية في جميع الأوضاع كخطوط
( ز ا ز ء ز هـ )
إذ كل منها نصف قطر دائرة
( ا ء هـ )
ويلزم أيضا أن يكون قطر
( ب ج )
من الكرة المفروضة أبدا محاذيا لنقطة
( ز )
حتى إذا صار مركز الكرة من
( ا )
إلى
( ء )
كان القطر مثل
( ح ط )
وإذا صار إلى
( هـ )
كان مثل
( ك ل )
فمركز التدوير إذا كان متحركا على محيط حامله الخارج المركز كما قدروه لزم أن تكون الأمور الثلاثة بالنسبة إلى مركز الخارج لكنها بالأرصاد المعتيرة لم توجد كذلك بل وجد في القمر تشابه حركة مركز التدوير أعني أحداث الزوايا المتساوية في الأزمنة المتساوية حول مركز العالم ومحاذاة القطر المار بالذروة والحضيض لنقطة من جانب الحضيض لا الأوج على ما وقع في المواقف سهوا بعدها عن مركز العالم كبعد ما بين مركز العالم ومركز الخارج المركز أعني نقطة تتوسط مركز العالم كبعد ما بين مركز الخارج فاتجه الاشكالان ووجد في عطارد تشابه الحركة حول نقطة على منتصف ما بين مركز العالم ومركز المدير وفي الزهرة والعلوية على منتصف ما بين مركز العالم ومركز الحامل فاتجه على كل أشكال وأما محاذاة القطر في المتحيرة وإن لم يكن لمركز الحامل لكنها لما كانت للنقطة التي بحسبها تتشابه الحركة لم يتجه ههنا أشكال اختلاف المحاذاة كما في القمر ووجه أشكال عرض السفليين أن تقاطع منطقتي المائل والممثل تقتضي أن يكون أحد نصفيه شماليا من الممثل والآخر جنوبيا ولما كان مركز التدوير في سطح المائل لزم أن يكون كذلك لكنهم وجدوه للزهرة دائما إما على العقدة وإما في الشمال ولعطارد دائما إما على العقدة وإما في الجنوب بناء على انطباق المنطقتين وانفصالهما بحيث إذا انتهت حركة مركز تدوير الزهرة من الرأس إلى الذنب وجاز أن ينتقل إلى جانب الجنوب صار نصف مائله الشمالي جنوبيا والجنوبي شماليا فكان انتقاله إلى الشمالي وهكذا أبدا وعطارد
____________________
(1/346)
بالعكس ولا بد لهذا الانطباق والانفصال من محرك ولم يذكروه
( قال المبحث الرابع 6 )
هذه دوائر توهموها بملاحظة السقليات ينتفع بها في استخراج القبلة واختلاف البلاد في طول النهار وقصره وغير ذلك من الخواص فمنها دائرة الأفق وهي الفاصلة بين الظاهر من الفلك والخفي منه فإن اعتبرت بالنسبة إلى مركز الأرض فأفق حقيقي والدائرة عظيمة أو إلى وجه الأرض فأفق حسي والدائرة قريبة من العظيمة وهما متوازيان وقطباهما سمت الرأس وسمت القدم أعني طرفي حط يمر على استقامة قامة الشخص بمركز الأرض وينفذ في الجهتين إلى محيط الكل والظاهر بالأفق الحسي أقل من الخفي بقدر ما يقتضيه نصف قطر الأرض وإنما يحس بالتفاوت في فلك الشمس وما دونها إذ ليس للأرض بالقياس إلى ما فوقها قدر محسوس والدوائر الصغار الموازية للأفق فوق الأرض تسمى مقنطرات الارتفاع وتحتها مقنطرات الانحطاط قان كان قطبا الأفق قطبي العالم انطبقت دائرة الأفق على معدل النهار وكان الدور رحويا وذلك حيث يكون أحد قطبي العالم على سمت الرأس وإن كانا غير قطبي العالم كان الأفق مقاطعا لمعدل النهار على نقطتين تسمى إحداهما نقطة المشرق ومطلع الاعتدال ووسط المشارق والأخرى نقطة المغرب ومغرب الاعتدال ووسط المغارب وتقاطعهما إن كان على زوايا قوائم سمى الأفق أفق الاستواء وإلا فالأفق المائل ولا حصر للآفاق المائلة ومنها دائرة نصف النهار وهي عظيمة تمر بقطبي الأفق أعني سمت الرأس والقدم ولقطبي العالم سميت بذلك لأن النهار ينتصف عند وصول الشمس إليها ولا خفاء في عدم اطراد التعريف إذ قد يصدق على كل دائرة تمر بقطبي العالم عند كونهما سمي الرأس والقدم أعني حيث تنطبق دائرة الأفق على معدل النهار وهذه الدائرة قطباها نقطتا المشرق والمغرب وهي تنصف المعدل وجميع المدارات اليومية الظاهرة منها والخفية وبها يعرف غاية ارتفاع الشمس والكواكب وذلك حين يصل إليها فوق الأرض وغاية انحطاطها وذلك إذا وصلت إليها تحت الأرض
( قال وتوهموا في سطح كل من معدل النهار وأفق الاستواء ونصف النهار دائرة على الأرض 3 )
بأن جعلوا الدوائر الثلث قاطعة للعالم فلا محالة يحدث على بسيط الأرض ثلث دوائر إحداها تسمى خط الاستواء وخط الاعتدال وهو الفاصل بين النصف بالجنوبي من الأرض والشمالي منها والثانية تسمى أفق خط الاستواء وأفق نصف نهار القبة وأفق وسط الأرض وهو الفاصل بين النصف الظاهر من الأرض والنصف الخفي وبهاتين الدائرتين تصير الأرض أرباعا والمكشوف منها أحد الربعين الشماليين وتسمى المعمورة والربع المسكون وإن كان أكثر خرابا والثالثة تسمى خط نصف النهار وهو الفاصل بين النصف الشرقي من الأرض والغربي منها
( قال وسموا من دائرة نصف النهار 7 )
عرض البلد قوس من دائرة نصف النهار ما بين معدل النهار وقطب أفق البلد أعني سمت الرأس ولا
____________________
(1/347)
محالة تساوي ما بين أفق البلد وقطب المعدل أعني ارتفاع القطب ففي أفق الاستواء لا عرض للبلد لأن الخط الخارج من مركز العالم المار تسمى الرأس والقدم يقع على معدل النهار ولا يبعد عنه وفي الأفق المنطبق على معدل النهار يكون العرض في الغاية أعني تسعين وفي غيرهما يكون للبلد عرض بقدر ميل الأفق عن المعدل فإذا أخذنا ارتفاع الشمس في نصف النهار يوم الاعتدال الربيعي أو الخريفي وألقيناه من تسعين كان الباقي عرض البلد وأما طول البلد فهو قوس من معدل النهار ما بين نصف نهار البلد ونصف نهار آخر العمارة في المغرب واعتبر اليونانيون من المغرب لكونه أقرب نهايتي العمارة إليهم وآخر العمارة عند بعضهم ساحل البحر الغربي وعند بطلميوس الجزاير الخالدات الواغلة في البحر وبينهما عشر درجات وهي قريبة من مئتين وعشرين فرسخا
( قال وقسموا المعمورة 8 )
لما لم يكن على خط الاستواء وما يدانيه شمالا وجنوبا عمارة وافرة لفرط الحرارة ولم يكن حوالي القطبين عمارة أصلا لفرط البرودة وقع معظم العمارة في الربع المسكون بين ما يجاوز عشر درجات في العرض عن خط الاستواء إلى أن يبلغ العرض قريب خمسين فقسم أهل الصناعة هذا القدر سبعة أقسام في العرض حسب ما ظهر لهم من تفاوت تشابه الأحوال في الحر والبرد فاعتبروا في الطول الامتداد من المشرق إلى المغرب وفي العرض تفاضل نصف ساعة في مقادير النهار الأطول أعني نهار كون الشمس في الانقلاب الصيفي وكل من الأقاليم ينحصر بين نصفي مدارين موازيين لخط الاستواء أشبه شيء بأنصاف الدفوف ولا محالة يكون أحد طرفيه وهو الشمالي أضيق ومبدأ الإقليم الأول حيث العرض اثنا عشر درجة وثلثا درجة والثاني حيث العرض عشرون وربع وخمس والثالث حيث العرض سبع وعشرون ونصف والرابع حيث الأرض ثلاث وثلاثون ونصف وثمن والخامس حيث العرض تسع وثلاثون إلا عشرا والسادس حيث العرض ثلاث وأربعون وربع وثمن والسابع حيث العرض سبع وأربعون وخمس وآخره حيث العرض خمسون وثلاث ومنهم من جعل مبدأ الأول خط الاستواء وآخر السابع منتهى العمارة
( قال ففي خط الاستواء 6 )
إشارة إلى نبذ من خواص المواضع التي لا عرض لها وإلى التي لها عرض أما البقاع التي لا عرض لها لكونها على خط الاستواء فدور الفلك هناك يكون دولابيا لأن سطوح جميع المدارات اليومية يقطع سطح الأفق على زوايا قائمة كما يقطع سطح الدولاب سطح الماء ويكون الليل والنهار في جميع السنة متساويين لأن الأفق بنصف جميع المدارات اليومية فيكون الظاهر أعني قوس النهار مساويا للخفي أعني قوس الليل فإن كان تفاوت كان بسبب اختلاف المسير بسبب الحركة الثانية مثلا إذا كانت الشمس بالنهار في النصف الأوجي من فلكها الخارج كانت حركتها الثانية أعني التي
____________________
(1/348)
من المغرب إلى المشرق أبطأ فتديرها الحركة الأولى من المشرق إلى المغرب أسرع وإذا انتقلت بالليل إلى النصف الحضيضي كانت الحركة الثانية أسرع فتعيدها الحركة الأولى أبطأ فتفاوت الحركتان في نصفي مدار ذلك اليوم لكن ذلك غير محسوس وتسامت الشمس رؤسهم في السنة مرتين مرة في اعتدال رأس الحمل ومرة في اعتدال رأس الميزان لأن مدار الشمس حينئذ هو المعدل المار بسمت رؤسهم ويبعد عنهم غاية البعد مرتين مرة في انقلاب رأس السرطان وأخرى في انقلاب رأس الجدي ولكون غاية القرب مبدأ الصيف وغاية البعد مبدأ الشتاء يكون لهم صيفان وشتاآن وبين كل صيف وشتاء خريف وبين كل شتاء وصيف ربيع فتكون فصولهم ثمانية كل منها شهرا ونصفا تقريبا وأما في عرض تسعين أعني حيث يكون قطب العالم على سمت الرأس فدور الفلك يكون رحويا لكون معدل النهار هو الأفق ولا يبقى في الأفق مشرف ولا مغرب متميزين بل في جميع الجهات يمكن أن يكون طلوع وغروب ولا نصف النهار أيضا بل في جميع الجهات يمكن أن تبلغ الشمس وغيرها من السيارات غاية الارتفاع والنصف من الفلك يكون أبدي الظهور أعني الذي يكون من معدل النهار في جهة القطب الظاهر والنصف الآخر يكون أبدى الخفاء فالشمس مادامت في النصف الظاهر من فلك البروج يكون نهارا ومادامت في النصف الخفي منه يكون ليلا فتكون السنة كلها يوما وليلة ولا تفاضل إلا من جهة بطء حركة الشمس وسرعتها وأما في المواضع التي يكون عرضها دون تسعين فيكون الدور حمائليا لميل المعدل عن الأفق في جهة القطب الخفي وميل الأفق عنه في جهة القطب الظاهر ولهذا سميت بالآفاق المائلة والأفق يقطع المدارات اليومية على زوايا غير قائمة ويماس البعض ولا يقاطعه أعني الذي يكون بعده عن القطب بقدر عرض البلد ويكون هو وما هو أصغر منه إلى القطب أبدى الظهور في جانب القطب الظاهر وأبدى الحفأ في جانب القطب الخفي وأما التي يقاطعها الأفق فإن كانت في شمال المعدل كانت القسي الظاهرة أعظم في العرض الشمالي وأصغر في العرض الجنوبي والقسي الخفية بالعكس فإذا كانت الشمس في البروج الشمالية أعني من الحمل إلى الميزان كان النهار أطول من الليل في العرض الشمالي لكون القسي الظاهرة أعظم وكان أقصر في العرض الجنوبي لكونها أقصر وإذا كانت في البروج الجنوبية أعني من الميزان إلى الحمل كان الأمر بالعكس أي كان النهار في العرض الشمالي أقصر وفي الجنوبي أطول لما عرفت وإن كانت المدارات التي يقاطعها الأفق في جنوب المعدل كانت القسي الظاهرة أعظم في العرض الجنوبي وأصغر في الشمالي فعند كون الشمس في البروج الشمالية كان النهار أقصر في العرض الشمالي وأطول في الجنوبي وعند كونها في البروج الجنوبية كان الأمر بالعكس وكلما كان عرض البلد أكثر كان مقدار التفاوت بين الليل والنهار أكثر لازدياد ارتفاع القطب الظاهر
____________________
(1/349)
والمدارات التي تليه وازدياد فضل قسيها الظاهرة على الخفية وازدياد انحطاط القطب الخفي والمدارات التي عنده فيزداد فضل قسيها الخفية على الظاهرة ويكون تزائد النهار وتناقص الليل إلى رأس المنقلب الذي يلي القطب الظاهر وتناقص النهار وتزايد الليل إلى رأس المنقلب الآخر ويكون نهار كل جزء مساويا لليل نظيره وبالعكس كنهار أول السرطان لليل أول الجدي وبالعكس
( قال خاتمة 2 )
يريد أن أكثر ما ذكروا من عظم أمر السمويات وعجيب خلقها وبديع صنعها وانتظام أمرها أمر ممكن شهد به الأمارات ودل عليه العلامات من غير إخلال بما يثبت من القواعد الشرعية والعقائد الدينية إلا أنهم بنوا ذلك على أصل هو كون الصانع موجبا لا مختارا وذلك في غاية الفساد وجعلوا له فرعا هو تأثير الحركات والأوضاع فيما يظهر في عالم الكون والفساد من الحوادث وهو أصل الإلحاد ثم أنهم لما ذهبوا إلى أن الفلكيات خالية عن اللون والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك أورد عليهم أنا نشاهد السماء أزرق والقمر عند الخسوف أسود وزحل كمدا والمشتري أبيض والمريخ أحمر وإنهم يجعلون زحل باردا يابسا والمريخ حارا يابسا وكذا في سائر السيارات ودرجات البروج على ما بين في كتب الأحكام فأجابوا بأن الزرقة متخيلة في الجو لا متحققة في السماء وسواد القمر عدم إضاءة جرمه وما يشاهد في المنحيرة ليس اختلاف ألوان بل اختلاف أضواء ومعنى وصف الكواكب أو الدرج بالكيفيات الفعلية والانفعالية ظهور تلك الآثار سببا في عالم العناصر بحسب ما يحدث لها من الحركات والأوضاع ولما ذهبوا إلى أن الفلك بسيط ليس فيه اختلاف أجزاء أصلا أورد عليهم تعين بعض الأجزاء لكونه منطقة وبعضها لكونه قطبا وبعضها لكونه محلا لارتكاز الكواكب أو التدوير فيه إلى غير ذلك من الاختلافات اللازمة على أصولهم فأجيب بأن تشابه الأسباب القابلية لا ينافي اختلاف الآثار لجواز أن يكون عائدا إلى الأسباب الفاعلية وفيه نظر لأن الفاعل إن كان موجبا كما هو مذهبهم فنسبته إلى الكل على السواء فلا يتأتى هذا الاختلاف وإن كان مختارا كما هو الحق فقد سقط جميع ما بنوا من أصول علم الهيئة على نفي الفاعل المختار إذ يجوز أن يكون اختلاف الحركات والأوضاع المشاهدة مستندا إلى مشية القادر المختار فلا يثبت ما أثبتوا من الحركات والأفلاك ثم عليهم اعتراض آخر وهو أنهم جعلوا هذه الحركات المخصوصة على النظام المخصوص مع لزومها أزلا وأبدا من قبيل الحركات الإرادية واقعة بإرادات جزئية من النفوس الفلكية على ما سيأتي مع أنا قاطعون بأن الحركة الإرادية يجوز أن تختلف أو تنقطع بمقتضى الإرادة ولا يلزم أن تستمر على وتيرة واحدة
( قال القسم الثاني في البسايط العنصرية 9 )
____________________
(1/350)
المعول عليه من أقوال الفلاسفة أنها أربعة النار والهواء والماء والأرض لأن الشواهد الحسية والتجريبية والتأمل في أحوال التركيبات والتحليلات قد دلت على أن الأجسام العنصرية بسايطها ومركباتها لا تخلو عن حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة ولم يوجد في البسايط ما يشتمل على واحدة فقط ولم يمكن اجتماع الأربعة أو الثلاثة لما بين الحرارة والبرودة وبين الرطوبة واليبوسة من التضاد فتعين اجتماع اثنتين من الكيفيات الأربع في كل بسيط عنصري فالجامع بين الحرارة واليبوسة هو النار وبين الحرارة والرطوبة هو الهواء وبين البرودة والرطوبة هو الماء وبين البرودة واليبوسة هو الأرض ومبني ما ذكروا في بيان الحصر على هذه الكيفيات الأربع كما يقال العنصر إما حار أو بارد وكل منهما إما يابس أو رطب أو على لوازمها كما يقال العنصر إما خفيف أو ثقيل وكل منهما إما على الإطلاق أو على الإضافة أو يقال لا بد في تركيب الممتزجات من لطيف أو كثيف فاللطيف إما بحيث يحرق ما يلاقيه وهو النار أو لا وهو الهواء والكثيف إما سيال وهو الماء أو لا وهو الأرض أو يقال لا بد فيه من قبول الأشكال وجمع وتفريق للأجزاء فالعنصر إما قابل للأشكال بسهولة أو بعسر وكل منهما إما أن يكون له قوة جامعة أو مفرقة هذا والتعويل على الاستقراء ولابن سينا في ذلك كلام طويل أورده الإمام في المباحث مع جمل من الاعتراضات عليه ثم قال والحق أن من حاول بيان الحصر للعناصر بتقسيم عقلي فقد حاول ما لا يمكنه الوفاء به نعم الناس لما بحثوا بطريق التركيب والتحليل وجدوا تركيب الكائنات مبتدأ من هذه الأربعة وتحليلها منتهيا إليها ثم لم يجدوا هذه الأربعة متكونة من تركيب أجسام أخر ولا منحلة إليها فلا جرم زعموا أن الاسطقسات هي هذه الأربعة
( قال ولم يقو الاشتباه 7 )
يعني أن للفلاسفة في كمية العناصر اختلافات منهم من جعل العنصر واحدا والبواقي بالاستحالة قيل النار وقيل الهواء وقيل الماء وقيل الأرض وقيل البخار ومنهم من جعله اثنين قيل النار والأرض وقيل الماء والأرض وقيل الهواء والأرض ومنهم من جعله ثلاثة قيل النار والهواء والأرض وإنما الماء هواء متكاثف وقيل الهواء والماء والأرض وإنما النار هواء شديد الحرارة ولم يذكروا لهذه الأقوال شبهة تعارض الاستقراء الصحيح فتدفع ظن كون العناصر أربعة على الكيفيات المذكورة ولم يقو الاشتباء إلا في أمور ثلاثة الأول وجود كرة النار فإنه لا سبيل إلى إثباتها والاستدلال بالشهب زعما منهم أنها دخان غليظ يشتعل بالوصول إلى كرة النار ضعيف لجواز أن يكون لها سبب غير ذلك سيما على القواعد الإسلامية وأن يكون ما يشاهد من الشعل والنيران هواء اشتدت حرارته لا عنصرا برأسه الثاني يبوسة النار بمعنى عسر قبول التشكلات وتركها فإن الطريق إلى أمثال ذلك هو التجرية والمشاهدة ولا مجال لهما في النار الصرفة المحيطة بالهواء على زعمهم وأما المخلوطة التي على وجه الأرض فظاهر
____________________
(1/351)
أنها بخلاف ذلك والاستدلال بأن شأن الحرارة إفناء الرطوبات والنار الصرفة في غاية الحرارة فيلزم أن تكون في غاية اليبوسة ضعيف لأن إفناءها للرطوبة الطبيعية المفسرة بسهولة قبول التشكلات وتركها غير مسلم بل إنما تفني البلة والأجزاء المائية وما هو كذلك لا يلزم أن يكون يابسا في نفسه كما في الهواء الصرف الثالث حرارة الهواء الصرف فإنه لا دليل على إثباتها في الهواء الصرف عن انعكاس الأشعة ألا ترى أنه كلما كان أرفع من الأرض كان أبرد إلى أن يصير زمهريرا وما يقال أن ذلك بسبب مجاورة الباردين أعني الماء والأرض مع زوال المانع أعني انعكاس الأشعة فغير مسلم وأما الاستدلال بأن النار حارة فلو كانت رطبة لكانت هواء وبأن الهواء رطب فلو كان باردا لكان ماء ففي غاية الضعف لأن الاشتراك في اللوازم سيما اللوازم المختلفة بالشدة والضعف المختص بكل من الملزومات بعض تلك المختلفات لا يوجب اتحاد الملزومات في الماهية
( قال ثم جعلوا 4 )
يعني ذهب الفلاسفة إلى أن هذه العناصر أركان جميع المركبات العنصرية أعني المسماة بالمواليد أعني المعادن والنبات والحيوان بمعنى أن تركب جميعها إنما هو من هذه الأربعة وتحليل جميعها إنما هو إليها أما التركيب فلأنا نشاهد أنه إذا اجتمع الماء والتراب مع تخلل الهواء وفيضان حرارة من الشمس حدث النبات ثم أنه يصير غذاء للحيوان فيتأدى بحسب ما يتوارد عليه من الاستحالات والانقلابات إلى أن يتكون منه حيوان ولو فقد واحد من الأربعة لم يحدث كالتراب بلا رطوبة أو بلا هواء متخلل أو حرارة طابخة وأما التحليل فلأنا إذا وضعنا مركبا في القرع والأنبيق وأوقدنا عليه نارا من شأنها تفريق المختلفات تصاعد منه أجزاء هوائية وتقاطر أجزاء مائية وبقي أجزاء أرضية ومعلوم أنه لا بد من أجزاء نارية تفيد طبخا ونضجا يوجب حصول مزاج يستتبع صورة نوعية حاصلة تحفظ الأجزاء المجتمعة بالأسباب السابقة عن التفرق والانفصال والمركب عن الانحلال إذ ربما لا يكفي تلك الأسباب لكونها على التقضي والزوال وفيما ذكرنا دفع لما يقال أن شأن الحرارة تفريق المختلفات فكيف تكون جامعة لها وأنه لا بد للتجاور والاجتماع بين الجزء الناري وغيره من سبب يستديمه ريثما يتم التأثير والتأثر فلم لا يكون هو المانع من تفريق الأجزاء من غير افتقار إلى الصورة النوعية نعم يرد أنه لم لا يجوز أن يكون الطبخ والنضج بحرارة الأجزاء الهوائية أو الفائضة من الأجرام السماوية من غير جزء ناري وأن يكون الحافظ محض إرادة القادر المختار أو مجرد امتزاج الرطب باليابس ولو سلم ما ذكر فيما نشاهد بتركيبه وتحليله فلا يدل على أن جميع المركبات كذلك
( قال المبحث الثاني 2 )
زعموا أن هيولي العناصر مشتركة قابلة لصورها النوعية وخصوصيات الصور إنما هي بحسب الاستعدادات الحاصلة بالأسباب الخارجة فعند تبدل الأسباب الخارجة والاستعدادات يجوز أن تزول صورة وهو المراد بالفساد وتحدث صورة أخرى
____________________
(1/352)
وهو المراد بالكون وهذا معنى انقلاب عنصر إلى آخر وقد علم أن النار فوق الكل وتحتها الهواء ثم الماء ثم الأرض وكل من الأربعة ينقلب إلى ما يجاوره فتقع ثلاثة ازدواجات أحدها بين النار والهواء والثاني بين الهواء والماء والثالث بين الماء والأرض وإلى غير المجاور بواسطة واحدة فيقع ازدواجان أحدهما بين النار والماء والثاني بين الهواء والأرض أو بواسطتين فيقع ازدواج واحد هو بين النار والأرض ويشتمل كل ازدواج على نوعين من الكون والفساد أعني انقلاب هذا إلى ذلك وبالعكس فالأنواع الأولية ستة والتي توسط أربعة وبوسطين اثنان فالجميع اثنا عشر حاصلة من ضرب كل من الأربعة في الثلاثة الباقية ويشهد بوقوع الكل الحس والتجربة ولم يقع الاشتباه إلا في انقلاب الهواء ماء فقد قيل أن ركوب القطرات على الإناء المبرد بالجمد يجوز أن يكون للرشح أو لانجذاب الأبخرة إليه على ما قال أبو البركات أن في الهواء المطيف بالإناء أجزاء لطيفة مائية لكنها أصغرها وجذب حرارة الهواء إياها لم تتمكن من خرق الهواء والنزول على الإناء فلما زالت سخونتها لمجاورة الإناء المبرد بالجمد كثفت وثقلت فنزلت واجتمعت على الإناء ورد الأول بأنه لو كان للرشح لكان الماء الحار أولى بذلك لكونه ألطف ولما كان الندا إلا في مواضع الرشح على أن الرشح إنما يتوهم في الإناء المملوء بالجمد دون المكبوب عليه والثاني بأنه لا يتصور بقاء هذا القدر من الأجزاء المائية في الهواء الحار الصيفي بل لا بد من أن يتبخر ويتصعد ولو سلم فينبغي أن ينفد أو ينقص بالنزول فلا تعود قطرات الإناء بعد إزالتها ولو ادعى أنها نزلت من مسافة أبعد لزم أن تكون في زمان أطول والوجود بخلافه على أن النزول إنما يكون على خط مستقيم فكيف يقع على جوانب الإناء
( قال المبحث الثالث 7 )
لما كانت النار شديدة الإحالة لما جاورها إلى جوهرها لقوة كيفية الحرارة النارية وشدتها كانت لها طبقة واحدة وهي صحيحة الاستدارة بمحدبها ومقعرها لبقائها على مقتضى طبعها إلا عند من يجعل النار عبارة عن هواء مسخن بحركة الفلك فلا محالة ترقى في الموضع القريب من القطب لبطء الحركة وتغلظ فيما يلي المنطقة لسرعتها فلا يكون مقعر النار صحيح الاستدارة ثم لا يخفى أن حركة المحيط لا توجب حركة المحاط عند اتحاد المركز لكن قد تتحرك بتبعيته لأسباب خارجة وقد استدلوا بما يشاهد من حركات الشهب وذوات الأذناب على نهج حركة الفلك أن كرة النار تتحرك بتحركة الفلك وإنما لم يتحرك الهواء تبعا للنار لأنه لرطوبته وعدم بقاء أجزائه على أوضاعها ينفصل بسهولة فلا يلازم جرم المحيط به وقيل أن كل جزء يفرض من النار له جزء معين من الفلك كالمكان الطبيعي له وهو ملازم له ملاصق به طبعا فيتبعه في الحركة ورد بأن الفلك لتشابه الأجزاء وكذا النار الملاقية له لكونها بسيطة فيكون حال كل جزء من النار مع كل
____________________
(1/353)
جزء من الفلك كحاله مع سائر الأجزاء فلا يكون البعض منها طالبا للبعض منه بالطبع وأما الهواء فمحدبه صحيح الاستدارة على الرأي الأصح لملاصقية مقعر النار لا مقعرة لما يرى من أمر المياه والجبال والوهاد وله أربع طبقات إحديها الدخانية المجاورة للنار يخالطها أجزاء من النار ويتصاعد إليها أجزاء من الدخان فتكون مركبة من الأرضية والهوائية والنارية وتحتها الصرفة التي يجاورها الدخان ولم يرتفع إليها البخار وذلك لأن الدخان لمخالطته الأجزأ النارية وتصعده من اليابس من حيث أنه يابس يكون أخف حركة وأشد نفوذا وتحتها الطبقة الزمهريرية الباردة حد المخالطة الأبخرة الصاعدة إليها وانقطاع أثر انعكاس الأشعة الحاصلة من أنوار الكواكب وتحتها الطبقة المجاورة للأرض المتسخنة بانعكاس الأنوار من مطرح الشعاع وأما الماء فطبقة واحدة هي البحر المحيط بالأرض ولم يبق على صرافتها لنفوذ آثار الأشعة ومخالطة الأجزاء الأرضية وإنما اختلفت بالعذوبة والملوحة والصفاء والكدورة لاختلاف مخالطة الأجزاء الأرضية قلة وكثرة وأما الأرض فثلث طبقات إحديها الغيرية التي انكشفت بعضها عن الماء وتجففت بحر الشمس والكواكب وبقي بعضها تحت الماء والثانية الطينية الممتزجة من الماء والتراب والثالثة الصرفة القريبة من المركز فتكون طبقات العناصر تسعا وجعلها صاحب المواقف سبعا لأنه أسقط الماء لعدم بقائه على الكرية والإحاطة عن الطبقات وجعل الهواء ثلثا أعلاها المخلوطة من النارية والهوائية وتحتها الزمهريرية وفسرها بالهواء الصرف وتحتها البخارية المخلوطة من الهوائية والمائية ولا أدري كيف خفي عليه أن ما تحت الأعلى مع بعده عن مجاورة الأرض والماء لا يكون زمهريرا وإن الزمهرير لا يكون هواء صرفا
( قال وهي 2 )
أي الأرض مع الماء بمنزلة كرة واحدة مركزها مركز العالم وليست الأرض على حقيقة الاستدارة لما فيها من الجبال والوهاد وما يقال أن ذلك لا يقدح في كريتها معناه أنه ليست لتضاريس الأرض من الجبال والوهاد نسبة محسوسة إليها لأن نسبة أعظم جبل على الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث على ما ذكره بعض المهندسين إلى الأرض كنسبة سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع بالتقريب وأما الكرية بحسب الحقيقة فيقدح فيها أقل من ذلك لأنها لا تقبل الشدة والضعف لأن معناها أن تكون جميع الخطوط الخارجة من المركز إلى المحيط متساوية بحسب التحقيق لا بمجرد التقريب
( قال والذي تقتضيه قواعدهم إحاطة الماء بجميع الأرض 3 )
لأن الأرض ثقيل مطلق والماء ثقيل مضاف بمعنى أن حيزه الطبيعي أن يكون فوق الأرض وتحت الهواء والسبب في انكشاف الربع المسكون قيل هو انجذاب أكثر المياه إلى ناحية الجنوب لكونها أحر لقرب الشمس منها وبعدها عن ناحية الشمال لكون حضيض الشمس في البروج الجنوبية وأوجها
____________________
(1/354)
في الشمالية وكونها في القرب أشد شعاعا من كونها في البعد وكون الحرارة اللازمة من الشعاع الأشد أقوى واحد من الحرارة اللازمة من الشعاع الأضعف ولا خفاء في أن شأن الحرارة جذب الرطوبات كما يشاهد في السراج وعلى هذا تنتقل العمارة من الشمال إلى الجنوب وبالعكس بسبب انتقال الأوج من أحدهما إلى الآخر وتكون العمارة دائما حيث أوج الشمس لئلا يجتمع في الصيف قرب الشمس من سمت الرأس وقربها من الأرض فتبلغ الحرارة إلى حد النكاية والإحراق ولا البعدان في الشتاء فيبلغ البرد إلى حد النكاية والتبجيح وقيل السبب كثرة الوهاد والأغوار في ناحية الشمال باتفاق من الأسباب الخارجة فتنحدر المياه إليها بالطبع وتبقى المواضع المرتفعة مكشوفة وقال بعضهم ليس لانكشاف القدر المذكور سبب معلوم غير العناية الأزلية فإن أرادوا بذلك إرادة الله تعالى أن يكون ذلك مستقرا للإنسان وسائر الحيوانات ومادة لما يحتاج إليه من المعادن والنبات فقد دخلوا في زمرة المهتدين حيث جعلوا الصانع عالما بالجزئيات فاعلا بالاختيار لا موجبا بالذات لكنهم يفسرون العناية بالعلم بالنظام على الوجه الأكمل وهو لا يوجب العلم بالجزئي من حيث هو جزئي ولا الفعل بالقصد والاختيار
( قال والعمدة في كرية الكل 9 )
قد اتفق المحققون على أن العناصر كلها كرية الشكل وأن الأرض في الوسط بمعنى أن وضعها من السماء كمركز الكرة عند محيطها وأنها لا تتحرك لا من المركز ولا إليه ولا عليه واستدلوا على ذلك بحسب النظر التعليمي بأدلة مذكورة في كتب الهيئة تفيد الانية وبحسب النظر الطبيعي بما يفيد اللمية على ما ذكر في علم السماء والعالم مثل أن جميع العناصر بل الفلكيات بسائط والشكل الطبيعي للبسيط هو الكرة لأن مقتضى الطبيعة الواحدة لا يختلف وأن الأرض ثقيل مطلق فتكون تحت الكل وهو ما يلي مركز محدد الجهات وإذا كانت في حيزها الطبيعي لم تتحرك عنه ولا إليه وإن في الأرض مبدأ ميل مستقيم على ما يرى في أجزائها فلا يكون فيها مبدأ ميل مستدير لتضاد الميلين فلا تتحرك على المركز كما ذهب إليه البعض من أن ما يظهر من الطلوع والغروب بالحركة اليومية مستند إلى حركة الأرض على مركزها حركة وضعية من المغرب إلى المشرق والكل ضعيف لأنها لا يفيد كونها كذلك في الوجود لأن مقتضى الطبع قد يزول بالقاسر فيجوز أن لا يبقى على الكرية ولا في الوسط وتتحرك على الاستدارة لا بالطبع كالفلك وأما الأدلة التعليمية فكثيرة مذكورة في موضعها بما عليها من الإشكالات مثل استدلالهم على كرية الماء بأنه لو لم يكن كريا ساترا بتقبيبه لأسافل الجبل الشامخ على ساحل البحر لظهر الجبل كله دفعة للسائر في البحر وليس كذلك لأنه يظهر له رأس الجبل أولا ثم ما تحته قليلا قليلا ويتحقق ذلك بأن توقد نيران على مواضع مختلفة من أعلى الجبل إلى أسفله ومثل استدلالهم على كون الأرض في الوسط
____________________
(1/355)
بأنها لو لم تكن كذلك لزم أن يرى الكوكب في بعض البقاع أصغر لبعده عن السماء وفي البعض أكبر لقربه منها والواقع بخلافه ومثل استدلالهم على كرية الأرض بأنه لو كان امتدادها الطولي أعني ما بين المشرق والمغرب على استقامة لكان طلوع الكواكب على سكانها وكذا غروبها عنهم في آن واحد وعلى تقعير لكان الطلوع على المغربيين قبله على المشرقيين في مساكن متفقة العرض وكذا الغروب فيها ليس كذلك بل الطلوع والغروب للمشرقيين قبلهما للمغربيين بحكم إرصاد الحوادث الفلكية من الخسوفات القمرية وغيرها فإن أوساطها إنما تتفق في آن واحد لا محالة وهي مختلفة بالنسبة إلى أول الليل حتى لو كانت للمغربي بعد مضي ساعتين كانت للمشرقي بعد مضي ثلاث ساعات أن كان ما بين نصفي نهاريهما خمس عشرة درجة وبين مسكنيهما المتفقي العرض ألف ميل وعلى هذا النسق يتعين التحديب ولو كان الامتداد العرضي أعني ما بين الجنوب والشمال على استقامة لبقي ارتفاع أحد القطبين وانحطاط الآخر على حاله بالنسبة إلى السائر كم سار أو على تقعير لانتقص ارتفاع القطب الظاهر وانحطاط الآخر بالنسبة إلى السائر إلى جهة القطب الظاهر وبالعكس للسائر إلى جهة القطب الخفي والوجود بخلاف ذلك إذ يزداد ارتفاع القطب الشمالي وانحطاط الجنوبي للواغلين في الشمال وبالعكس للواغلين في الجنوب بحسب وغولهما فتعين التحديب في هذين الامتدادين وكذا في سائر الامتدادات التي في سموت بين السمتين لتركب الاختلافين حسب ما يقتضيه التحديب دون الاستقامة أو التقعير وإذا ثبت استدارة القدر المكشوف حدس منه أن الباقي كذلك واعترض بأنه يجوز أن يكون وجود الأمور المذكورة على النهج المذكور مبنيا على سبب آخر غير الاستدارة والتوسط وحاصله أن ما ذكرتم استدلال بوجود المسبب على وجود سبب معين ولا يتم إلا إذا بين انتفاء سبب آخر ولو سلم فما ذكر لا يفيد إلا الاستدارة والتوسط بحسب الحس دون الحقيقة ولا محيص إلا بالرجوع إلى أن ذلك تحدس كما في استضاءة القمر بالشمس
( قال القسم الثالث 2 )
بعد الفراغ من مباحث البسائط بقسميها أعني الفلكية والعنصرية شرع في قسمي مباحث المركبات أعني التي لا مزاج لها والتي لها مزاج وقدم ذلك لكونه أشبه بالبسايط من جهة عدم استحكام تركيبه ومن جهة جواز اقتصاره على عنصرين أو ثلاثة وجعله ثلاثة أنواع لأن حدوثه أما فوق الأرض أعني في الهواء وأما على وجه الأرض وأما في الأرض فالنوع الأول منه ما يتكون من البخار ومنه ما يتكون من الدخان وكلاهما بالحرارة فإنها تحلل من الرطب أجزاء هوائية ومائية هي البحار ومن اليابس أجزاء أرضية تخالطها أجزاء نارية وقلما تخ عن هوائية وهي الدخان فالبخار المتصاعد قد يلطف بتحليل الحرارة أجزاؤه المائية فيصير هواء وقد يبلغ الطبقة الزمهريرية فيتكاثف فيجتمع سحابا ويتقاطر مطرا إن لم يكن البرد شديدا وإن أصابه برد شديد فجمد السحاب
____________________
(1/356)
قبل تشكله بشكل القطرات نزل ثلجا أو بعد تشكله بذلك نزل بردا صغيرا مستديرا أن كان من سحاب بعيد لذوبان الزوايا بالحركة والاحتكاك وإلا فكبيرا غير مستدير في الغالب وإنما يكون البرد في هواء ربيعي أو خريفي لفرط التخليل في الصيفي والجمود في الشتوي وقد لا يبلغ البحار المتصاعد الطبقة الزمهريرية فإن كثر صار ضبابا وإن قل وتكاثف ببرد الليل فإن انجمد نزل صقيعا وإلا فطلا فنسبة الصقيع إلى الطل نسبة الثلج إلى المطر وقد يكون السحاب الماطر من بخار كثير يتكاثف بالبرد من غير أن يتصعد إلى الزمهريرية لمانع مثل هبوب الرياح المانعة للأبخرة من التصاعد أو الضاغطة إياها إلى الاجتماع بسبب وقوف جبال قدام الرياح ومثل ثقل الجزء المتقدم وبطاء حركته وقد يكون مع البخار المتصاعد دخان فإذا ارتفعا معا إلى الهواء البارد وانعقد البحار سحابا واحتبس الدخان فيه فإن بقي الدخان على حرارته قصد الصعود وإن برد قصد النزول وكيف كان فإنه يمزق السحاب تمزيقا عنيفا فيحدث من تمزيقه ومصاكته صوت هو الرعد ونارية لطيفة هي البرق أو كثيفة هي الصاعقة وقد يشتعل الدخان الغليظ بالوصول إلى كرة النار كما يشاهد عند وصول دخان سراج منطفىء إلى سراج مشتعل فيسري فيه الاشتعال فيرى كأنه كوكب انقض وهو الشهاب وقد يكون الدخان لغلظه لا يشتعل بل يحترق ويدوم فيه الاحتراق فيبقى على صورة ذوابة أو ذنب أو حية أو حيوان له قرون وربما يقف تحت كوكب ويدور مع النار يدور أن الفلك إياها وربما تظهر فيه علامات هائلة حمر وسود يحسب زيادة غلظ الدخان وإذا لم ينقطع اتصال الدخان من الأرض ونزل اشتعاله إلى الأرض يرى كان تنينا ينزل من السماء إلى الأرض وهو الحريق
( قال وقد تتكاثف الأدخنة 2 )
إشارة إلى أسباب الرياح وذلك أن الأدخنة الكثيرة المتصاعدة قد تتكاثف بالبرد وينكسر حرها بالطبقة الزمهريرية فتثقل وترجع بطبعها فيتموج الهواء فتحدث الريح الباردة وقد لا ينكسر حرها فتصاعد إلى كرة النار ثم ترجع بحركتها التابعة بحركة الفلك فتحدث الريح الحارة وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما وقع في المواقف من أنها تصادم الفلك أي تقارنه بحيث يصل إليها أثر حركته وإلا فلا يتصور أن يقطع الدخان مع ما فيه من الأجزاء الأرضية الثقيلة كرة النار مع شدة إحالتها لما يجاورها حتى يصادم الفلك حقيقة وقد يكون تموج الهواء لتخلخل يقع في جانب منه فيدفع ما يجاوره وهكذا إلى أن يفترو بالجملة فالمتموج من الهواء هو الريح بأي سبب يقع وأما الزوبعة والإعصار أعني الريح المستديرة الصاعدة أو الهابطة فسبب الصاعدة تلاقي الريحين من جهتين متقابلتين وسبب الهابطة أن ينفصل ريح من سحابة فيقصد النزول فيعارضها في الطريق سحابة صاعدة فتدافعها لأجزاء الريحية إلى تحت فيقع جزء من الريح بين دافع إلى تحت ودافع إلى فوق فيستدير وتنضغط الأجزاء الأرضية بينهما فتهبط ملتوية والحق أن ما شوهد من أحوال الرياح القالعة للأشجار والمختطفة للسفن من البحار
____________________
(1/357)
وما تواتر من تخريبها للمدن وما ورد من النصوص القاطعة في ذلك يشهد شهادة صادقة بوجوب الرجوع إلى القادر المختار وغاية ما ذكروه لو ثبت بيان الأسباب المادية
( قال وقد يحول 9 )
يشير إلى سبب الهالة وقوس قزح أما الهالة فسببها إحاطة أجزاء رشية صقيلة كأنها مرايا متراصة بغيم رقيق لطيف لا يستر ما وراءه واقع في مقابلة القمر فيرى في ذلك الغيم نفس القمر لأن الشيء إنما يرى على الاستقامة نفسه لا شبحه ويرى في كل واحد من تلك الأجزاء الرشية شبحه لانعكاس ضوء البصر منها إلى القمر لأن الضوء إذا وقع على صقيل انعكس إلى الجسم الذي وضعه من ذلك الصقيل كوضع المضيء منه إذا لم تكن جهته مخالفة لجهة المضي فيرى ضوء القمر ولا يرى شكله لأن المرآة إذا كانت صغيرة لا تؤدي شكل المرئي بل ضوءه ولونه إن كان ملونا فيؤدي كل واحد من تلك الأجزاء ضوء القمر فيرى دائرة مضية لكون الهيئة الحاصلة بين تلك الأجزاء وبين المرئي واحدة وإنما لا يرى السحاب الذي يقابل القمر لقوة شعاع القمر فإن الرقيق اللطيف لا يرى في ضوء القوى كأجزاء الهباء المتفرقة في الصحراء وأكثر ما تحدث الهالة عند عدم الريح فيستدل بتحرقها من جميع الجهات على الصحو ومن جهة على ريح تأتي الجهة من تلك وببطلانها يثحن السحاب على المطر لتكثر الأجذاء المائية وقد تتضاعف الهالة بأن توجد سحابتان بالصفة المذكورة أحديهما تحت الأخرى ولا محالة تكون التحتانية أعظم لكونها أقرب وذكر بعضهم أنه رأى سبع هالات معا وأما حالة الشمس وتسمى بالطفاوة فنادرة جدا لأن الشمس في الأكثر تحلل السحب الرقيقة وأما قوس قزح فسببه أنه إذا كان في خلاف جهة الشمس أجزاء مائية شفافة صافية وكان وراءها جسم كثيف مثل جبل أو سحاب مظلم حتى يكون كحال البلور الذي وراءه شيء ملون لينعكس منه الشعاع وكانت الشمس قريبة من الأفق فإذا واجهنا تلك الأجزاء المائية انعكس شعاع البصر من تلك الأجزاء الصقيلة إلى الشمس فأدى كل واحد منها لكونه صغيرا ضوء الشمس دون شكلها وكان مستديرا على شكل قوس لأن الشمس لو جعلت بمركز دائرة لكان القدر الذي يقع من تلك الدائرة فوق الأرض يمر على تلك الأجزاء ولو تمت الدائرة لكان تمامها تحت الأرض وكلما كان ارتفاع الشمس أكثر كانت القوس أصغر ولهذا لم يحدث إذا كانت الشمس في وسط السماء وأما اختلاف ألوانها فقيل لأن الناحية العليا تكون أقرب إلى الشمس فيكون انعكاس الضوء أقوى فيرى حمرة ناصعة والسفلى أبعد منها وأقل إشراقا فترى حمرة في سواد وهو الأرجواني ويتولد بينهما كرائي مركب من إشراق الحمرة وكدر الظلمة ورد بأن ذلك يقتضي أن يندرج من نصوع الحمرة إلى الأرجوانية من غير انفصال الألوان بعضها عن بعض على أن تولد الكرائي إنما هو من الأصغر والأسود فليس له مع الأحمر والأرجواني كثير مناسبة واعترف ابن سينا بعدم الاطلاع على سبب اختلاف هذه الألوان
( قال وقد
____________________
(1/358)
شاهدت 2 )
ذكروا أن القمر قد يحدث على الندرة قوسا خيالية لا يكون لها ألوان لكني قد شاهدت بتركستان في سنة ثلاث وستين وسبعمائة في خلاف جهة القمر قوسا على ألوان قوس قزح إلا أنها كانت أصغر منها كثيرا وكانت بحيث تكاد تتم دائرة ولم تكن ألوانها في ضياء صفاء الألوان الشمسية وإشراقها بل أكثف وكان ذلك في ليلة رشية الجو رقيقة السحاب والقمر على قرب من الأفق
( قال النوع الثاني ما يحدث على الأرض 3 )
مثل الأحجار والجبال والسبب الأكثري لتحجر الأرض عمل الحرارة في الطين اللزج بحيث يستحكم انعقاد رطبة بيابسة وقد ينعقد الماء السيال حجرا إما لقوة معدنية محجرة أو لأرضية غالبة على ذلك الماء بالقوة لا بالمقدار كما في الملح فإذا صادف الحر العظيم طينا كثيرا لزجا إما دفعة وإما على مرور الأيام يتكون الحجر العظيم فإذا ارتفع بأن تجعل الزلزلة العظيمة طائفة من الأرض تلا من التلال أو يحصل من تراكم عمارات تخربت تحجر أو بأن يكون الطين المتحجر مختلف الأجزاء في الصلابة والرخاوة فتحفر أجزاؤه الرخوة بالمياه والرياح وتغور تلك الحفر بالتدريج غورا شديدا وتبقى الصلبة مرتفعة أو بغير ذلك من الأسباب فهو الجبل وقد يرى بعض الجبال منضودة سافا فسافا كأنها سافات الجدار فيشبه أن يكون حدوث مادة الفوقاني بعد تحجر التحتاني وقد سال على كل ساف من خلاف جوهره ما صار حائلا بينه وبين آخر وقد يوجد في كثير من الأحجار عند كسرها أجزاء الحيوانات المائية فيشبه أن هذه المعمورات قد كانت في سالف الدهر مغمورة في البحر فحصل الطين اللزج الكثير وتحجر بعد الانكشاف فلذلك كثر الجبال ويكون الحفر ما بينه بأسباب تقتضيه كالسيول والرياح ومن منافع الجبال حفظ الأبخرة التي هي مادة المعادن والسحب والعيون فإن الأبخرة تنفس عن الأرض الرخوة فلا يجتمع منها قدر يعتد به
( قال النوع الثالث ما يحدث في الأرض 7 )
قد يعرض لجزء من الأرض حركة بسبب ما يتحرك تحتها فيحرك ما فوقه ويسمى الزلزلة وذلك إذا تولد تحت الأرض بخار أو دخان أو ريح أو ما يناسب ذلك وكان وجه الأرض متكاثفا عديم المسام أو ضيقها جدا وحاول ذلك الخروج ولم يتمكن لكثافة الأرض تحرك في ذاته وحرك الأرض وربما يشقها لقوته وقد ينفصل منه نار محرقة وأصوات هائلة لشدة المحاكة والمصاكة وقد يسمع منها دوي لشدة الريح ولا توجد الزلزلة في الأراضي الرخوة لسهولة خروج الأبخرة وقلما يكون في الصيف لقلة تكاثف وجه الأرض والبلاد التي يكثر فيها الزلزلة إذا حفرت فيها آبار كثيرة حتى كثرت مخالص الأبخرة قلت الزلزلة بها وقد يصير الكسوف سببا للزلزلة لفقد الحرارة الكائنة عن الشعاع دفعة وحصول البرد الحاقن للرياح في تجاويف الأرض بالتحصيف بغتة ولا شك أن البرد الذي يعرض بغتة يفعل ما لا يفعله العارض بالتدريج
( قال وربما ينقلب البخار 9 )
إشارة إلى أسباب العيون الآبار والقنوات وذلك
____________________
(1/359)
أن الأبخرة التي تحدث تحت الأرض إن كانت كثيرة وانقلبت مياها انشق منها الأرض فإن كان لها مدد حدث منها العيون الجارية وتجري على الولاء لضرورة عدم الخلاء فإنه كلما جرت تلك المياه انجذب إلى مواضعها هواء أو بخار آخر يتبرد بالبرد الحاصل هناك فينقلب ماء أيضا وهكذا إلا أن يمنع مانع يحدث دفعة أو على التدريج وإن لم يكن لتلك الأبخرة مدد حدثت العيون الراكدة وإن لم تكن الأبخرة كثيرة بحيث تنشق الأرض فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب وصادفت منفذا واندفعت إليه حدث منها القنوات الجارية والآبار بحسب مصادفة المدد وفقدانه وقد يكون سبب العيون والقنوات والآبار مياه الأمطار والثلوج لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها
( قال ثم أنهم يعترفون 4 )
يعني أن ما ذكر في الآثار العلوية أي التي فوق الأرض والسفلية أي التي على وجهها وتحتها إنما هو رأي الفلاسفة لا المتكلمين القائلين باستناد جميع ذلك إلى إرادة القادر المختار ومع ذلك فالفلاسفة معترفون بأنها ظنون مبنية على حدس وتجربة يشاهد أمثالها كما يرى في الحمام من تصاعد الأبخرة وانعقادها وتقاطرها وفي البرد الشديد من تكاثف ما يخرج بالأنفاس كالثلج وفي المرايا من اختلاف الصور والألوان وانعكاس الأضواء على الأنحاء المختلفة إلى غير ذلك فهذا وأمثاله من التجارب والمشاهدات يفيد ظن استناد تلك الآثار إلى ما ذكروا من الأسباب وقد ينضم إليها من قرائن الأحوال ما يفيد اليقين الحدسي ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص فيحصل اليقين للبعض دون البعض واعترفوا أيضا بأنه لا يمتنع استنادها إلى أسباب أخر لجواز أن يكون للواحد بالنوع علل متعددة وأن يكون صدوره عن البعض أقليا وعن البعض أكثريا وبأن في جملة ما ذكر من الأسباب ما يحكم الحدس بأنه غير تام السببية بل يفتقر إلى انضمام قوى روحانية لولاها لما كانت كافية في إيجاب ما هي أسبابه فإن من الرياح ما يقلع الأشجار العظام ويختطف المراكب من البحار وإن من الصواعق ما يقع على الجبل فيدكه وعلى البحر فيغوص فيه ويحرق بعض حيواناته وما ينفذ في التخلخل فلا يحرقه ويذيب ما يصادفه الأجسام الكثيفة الصلبة حتى يذيب الذهب الكيس ولا يحرق الكيس إلا ما يحرق عن الذوب ويذيب ضبة الترس ولا يحرق الترس وإن من الكواكب ذوات الأذناب ما يبقى عدة شهور ويكون لها حركات طولية وعرضية إلى غير ذلك من الأمور الغريبة التي لا يكفي فيها ما ذكر من الأسباب المادية والفاعلية بل لا بد من تأثير من القوى الروحانية وقد تواتر في بلاد الترك ونواحي أرس وبلغار من خواص النباتات والأحجار وفي شأن السحب والرياح والأمطار وغير ذلك ما يجزم العقل بأنه ليس صادرا عن النبات والحجر بل عن خالق القوى والقدر وسمعت غير واحد من الثقاة أنهم إذا سافروا في الصيف أصحبوا واحدا من الكفرة
____________________
(1/360)
يقوم باستعمال بعض تلك الأحجار مبتهلا متضرعا في أثناء ذلك إلى الخالق سبحانه وتعالى على طريقتهم وله رياضة عظيمة وترك للشهوات ونسب في جماعة مخصوصة مشهورة باستنزال المطر فيحدث سحابة قدر ما يظل أولئك السفر فيها ريح تدفع عنهم البعوض تسير معهم إذا ساروا وتقف إذا وقفوا وترجع إذا رجعوا وربما تستقبلهم فرقة أخرى معهم سحابة تكفيهم وريح إلى خلاف جهة هذه الريح وإنكار هذا عندهم من قبيل إنكار المحسوسات وأما حديث النبات الذي ينفتح به القيد من الحديد على قوائم الفرس عند إصابته فمشهور ولعمري أن النصوص الواردة في استناد أمثال هذه الآثار إلى القادر المختار قاطعة وطرق الهدى إلى ذلك واضحة لكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
( قال القسم الرابع 7 )
شروع في رابع الأقسام التي رتب عليها الكلام في فصل مباحث الأجسام على التفصيل وهو في المركبات التي لها مزاج وفيه مقدمة لبيان حقيقة المزاج وأقسامه وثلاثة مباحث للإشارة إلى الأقسام الثلاثة للممتزج أعني المعدن والنبات والحيوان وقد سبق أن الكلام في ذلك مبني على قانون الفلسفة وإنما آثر في تفسيره المزاج طريق التفريع على طريق التعريف بأن يقول هو كيفية متوسطة متشابهة حادثة من تفاعل العناصر المجتمعة المتصغرة الأجزاء بقواها المنكسرة سورة كل من كيفياتها الأربع لأن ذكر المتوسطة والمتشابهة إنما يحس بعد ذكر أجزاء العناصر واجتماعها وكيفياتها وفي راعية ذلك فوات حسن انتظام اللفظ ووضوح المعني فإن قيل أي حاجة إلى ذكر المتوسطة قلنا الاحتراز عن توابع المزاج كالألوان والطعوم والروائح لأن معنى التوسط أن يكون أقرب إلى كل من الكيفيتين المتضادتين مما يقابلها بمعنى أن يستحر بالقياء إلى الجزء البارد ويستبرد بالقياس إلى الجزء الحار وكذا في الرطوبة واليبوسة وأما ذكر التشابه على ما سيجيء من معناه فللتحقيق دون الاحتراز ولو ذكر بدلهما الملموسة لكفى وحسن التحديد وعبارة ابن سينا في القانون خارج عن القانون جدا وذلك أنه قال المزاج كيفية تحدث عن تفاعل كيفيات متضادة موجودة في عناصر متصغرة الأجزاء لتماس أكثر كل واحد منها أكثر الأجزاء إذا تفاعلت بقواها بعضها في بعض حدثت عن جملتها كيفية متشابهة في جميعها هي المزاج فسلك طريق التعريف منحرفا إلى طريق التفريع وحينئذ فالشرطية أعني قوله إذا تفاعلت الخ إن كانت صفة العناصر وقع تكرار لا حاجة إليه وكان قوله هي المزاج
____________________
(1/361)
أجنبيا لا يرتبط بما سبق إلا بأن يجعل صفة كيفية متشابهة فيذكر المحدود في الحد وإن جعل الظرف متعلقا بقوله يحدث كان الواقع في معرض الجزاء أجنبيا لا معنى له والظاهر أن قوله إذا تفاعلت الخ أخذ في طريق التفريع بعد تمام التعريف وأسند التفاعل في التعريف إلى الكيفيات على ما هو ظاهر نظر الصناعة وفي التفريع إلى العناصر بواسطة القوى التي هي الكيفيات أو الصور النوعية على ما هو أقرب إلى التحقيق الفلسفي فإن قيل فيدخل في التعريف توابع المزاج قلنا وكذلك إذا جعلنا الشرطية من تمام التعريف لأن إخراجها بقيد المتشابهة تفسيرا لها بما فسروا به المتوسطة تعسف على ما سيجيء إن شاء الله تعالى ثم لا بد لتوضيح المقام من الكلام في مواضع الأول أنه اعتبر في المزاج تصغر أجزاء العناصر لأن تأثير الجسم وإن أمكن بدون المماسة كما في تسخين الشمس للأرض وجذب المغناطيس للحديد لكن لا خفاء في أنه في الامتزاج إنما هو بطريق المماسة وهي تتكثر بتكثر السطوح الحاصل بتكثر الأجزاء الحاصل لتصغرها وكلما كان تصغر الأجزاء أكثر كان الامتزاج أتم ومنهم من جعل المماسة شرطا في تأثير الجسم لأنه إن لم يشترط وضع أصلا فباطل للقطع بأن نار الحجاز لا تحرض حطب العراق وإن اشترط المجاورة ولو بوسط أو وسائط فالبعيد لا ينفعل إلا بعد انفعال القريب القابل للانفعال وحينئذ فالمؤثر في البعيد هو المتوسط بما استفاد من الأثر للقطع بأن سخونة الجسم المجاور للهواء المجاور للنار إنما هو بسخونة الهواء فلا يكون التأثير بدون المماسة والجواب أنه يجوز أن يكون القابل هو البعيد دون القريب فيتأثر بدون المماسة كما في تسخين الشمس للأرض وجذب المغناطيس للحديد الثاني أنه لا بد في حدوث المزاج من العناصر الأربعة لأن في كل منها فائدة لا يتم بدونها الكسر والانكسار وحدوث الكيفية المتوسطة المتشابهة ولهذا يرى المركب من الماء والتراب لا تترتب عليه آثار الأمزجة إلا بعد تخلخل في الأجزاء وحرارة فوق ما في الهواء فعلى هذا لا بد في تحصيل الجزء الناري من الكون والفساد إذ لا ينزل من الأثير إلا بالقاسر ولا قاسر وبعضهم على أنه يجوز حدوث المزاج من اجتماع بعض العناصر فإنها إذا تصفرت أجزاؤها جدا واختلطت تفاعلت لا محالة وحدثت الكيفية المتوسطة الثالث أن عند امتزاج العناصر الفاعل والمنفعل هي الكيفيات الأربع في نظر الطبيب إذ لا ثبت عنده للصورة النوعية وأما الفلاسفة فلما أثبتوها بما سبق من الأدلة جعلوا الفاعل هو الصورة بتوسط الكيفية التي لمادتها بالذات كحرارة
____________________
(1/362)
النار أو بالعرض كحرارة الماء ومعنى فاعليتها أن تخيل مادة العنصر الآخر إلى كيفيتها فتكسر سورة كيفية الآخر بمعنى أن تزول تلك المرتبة من مراتب تلك الكيفية وتحدث مرتبة أخرى أضعف منها أما كون الفاعل هو الصورة فلأنه لا يجوز أن تكون هو المادة لأن شأنها القبول والانفعال ولا الكيفية لأن تفاعل الكيفيتين أي كسر كل منهما سورة الأخرى إن كان معا لزم أن يكون الشيء مغلوبا عن شيء حال كونه غالبا عليه وإن كان على التعاقب بأن تكسر سورة الأخرى ثم ينكسر عنها لزم أن يصير المغلوب عن الشيء غالبا عليه والغالب على الشيء مغلوبا عنه وذلك أن المنكسر عندما كان قويا لم يقو على كسر الآخر فلما انكسر وضعفت قوته قوى على كسر الآخر وهذا مح وأما توسط الكيفية فلأن منشأ الكسر والانكسار هو التضاد وذلك في الكيفيات ولهذا لا تكسر سورة الهواء البارد برودة الأرض ولا سورة الماء الحار حرارة الهواء ونحو ذلك واعترض بأن ما ذكر مشترك الإلزام لأن تفاعل الصورتين بواسطة الكيفيتين إما أن يكون معا فيلزم كون الشيء غالبا مغلوبا معا لأن الكيفية كما أنها غالبة إذا فرضناها الكاسرة فكذا إذا كان لها دخل في ذلك بل يلزم اجتماع الكيفية الشديدة التي بها الكسر والضعيفة الحادثة بالانكسار في آن واحد وهو محال لأنهما مرتبتان مختلفتان وأما أن يكون على التعاقب فتلزم صيرورة المغلوب غالبا وبالعكس ولظهور بطلان هذا ولزوم كون المعلول مقارنا للعلة وشرطها اقتصر في المواقف على الشق الأول فقال الصورة إنما تعقل بواسطة الكيفية فتكون الكيفية شرطا في التأثير فيلزم اجتماع الكيفية الكاسرة أي التي بواسطتها الكسر مع الحادثة أي الضعيفة التي تحدث بعد الانكسار لا يقال الاعتراض مدفوع بوجهين أحدهما أن القول بفاعلية الصورة تجوز والحقيقة أن الصور والكيفيات معدات لفيضان الكيفية المتوسطة من المبدأ المفارق بطريق اللزوم عند الفلاسفة لتمام الفاعل والقابل وبطريق العادة عند غيرهم لكون الفاعل مختارا وح يبطل حديث الغالب والمغلوب وثانيهما أن المنكسر عند الامتزاج من كل كيفية سورتها لأنفسها والكاسر نفس الكيفية المضادة لا سورتها للقطع بأن سورة الماء الشديد الحرارة تنكسر بالماء البارد وإن لم يكن في الغاية بل بالماء الفاتر بل بماء حار هو أقل حرارة وإذا كان كذلك فلا يمتنع أن تكون الكيفية المنكسرة كاسرة لسورة الكيفية المضادة ولا يكون هذا من اجتماع الغالبية والمغلوبية في شيء لأنا نقول فح يصح القول بتفاعل الكيفيات من غير اعتبار للصور وههنا اعتراض آخر وهو أنا نجد حدوث الكيفية المتوسطة بمجرد تفاعل الكيفيات من غير اعتبار أن يكون هناك صورة توجب انكسار سورة الكيفية المضادة كما في امتزاج الماء الحار بالماء البارد للقطع بأن الصورة المائية لا تكسر البرودة فإن زعموا أن ليس ههنا فعل وانفعال أي كسر وانكسار ليلزم
____________________
(1/363)
وجود صورة كاسرة بل تستمد المادة بواسطة اجتماع المائين لزوال كيفيتهما وحدوث كيفية متوسطة من المبدأ الفياض قلنا فليكن الأمر في المزاج أيضا كذلك فإنه لا معنى لاشتداد الكيفية وضعفها إلا بطلان كيفية وحدوث أخرى أشد منها أو أضعف بحسب اختلاف الاستعداد وإنما النزاع في الفاعل وإن زعموا أن الكاسر لسورة برودة الماء هو الصورة النارية التي أحدثت الحرارة في الماء الحار قلنا فقد ظهر أنه ليس بلازم أن يكون الكاسر للكيفية صورة بسيط هو أحد أجزاء المركب فبطل قولكم في المزاج بأن انكسار الكيفيات إنما هو بصور عناصر الممتزج ثم الأشبه أن يقال الكاسر لسورة برودة الماء البارد المختلط بالماء الحار هو الصورة المائية بتوسط الحرارة العارضة لأن من قواعدهم أن صورة كل عنصر تفعل في مادته بالذات وفي مجاوره بواسطة الكيفية ذاتية كانت كبرودة الماء أو عرضية كحرارته فعلية كالحرارة والبرودة أو انفعالية كالرطوبة واليبوسة ومادة كل عنصر تنفعل بالذات عن صورته وبكيفيته الذاتية أو العرضية الفعلية أو الانفعالية عن مجاوره وعلى هذا لا يرد على القائلين بكون الفاعل هو الصورة ما يرد على القائلين بكونه هو الكيفية من لزوم انفعال الكيفية الفعلية فيما إذا كان الكسر والانكسار بين الفعليتين أعني الحرارة والبرودة ولزوم فعلية الكيفية الانفعالية فيما إذا كان الكسر والانكسار بين الانفعاليين أعني الرطوبة واليبوسة فإن قيل إن كان في الفاعلية خفاء فلا خفاء في أن المنفعل عند الامتزاج هو الكيفيات كحرارة النار وبرودة الماء وكذا البواقي قلنا نعم بمعنى أنها تزول وتحدث الكيفية المتوسطة وأما الذي يتأثر ويتغير من حال إلى حال فهو المادة لا غير وكما لا يمتنع انفعالها في الكيفية الفعلية كالحرارة والبرودة لا يمتنع فعل الصورة بالكيفية الانفعالية كالرطوبة واليبوسة للقطع بأن صورة الماء مثلا إنما تكسر يبوسة النار برطوبته لا ببرودته وصورة النار تكسر رطوبة الماء بيبوستها لا بحرارتها الرابع أن معنى تشابه الكيفية المزاجية في الكل أن الحاصل في كل جزء من أجزاء المركبة أو البسيطة للمتزج تماثل الحاصل في الجزء الآخر أي تساويه في الحقيقة النوعية من غير تفاوت إلا بالمحل حتى إن الجزء الناري كالجزء المائي في الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وكذا الهوائي والأرض إذ لو اختلفت الكيفيات في أجزاء الممتزج وكان التشابه في الحس لشدة امتزاج الكيفيات العنصرية الباقية على حالها بحيث لا تتميز عند الحس لما كان هناك فعل وانفعال ولم تتحقق كيفية وجدانية بها يستعد الممتزج لفيضان صورة معدنية أو نباتية أو حيوانية أو نفس إنسانية عليه بل كان هذا مجرد تركيب ومجاورة بين العناصر لا امتزاج لأن الامتزاج هو اجتماع العناصر بحيث تحدث منه الكيفية المتوسطة المتشابهة والتركيب أعم من ذلك وكذا الاختلاط وقد يجعل مرادفا للامتزاج كذا في الشفاء وما ذكر في
____________________
(1/364)
شرح القانون من أن معنى التشابه في جميع الأجزاء أن يستحر بالقياس إلى البارد ويستبرد بالقياس إلى الحار وكذا في الرطوبة واليبوسة قصدا إلى دفع اعتراض الإمام بدخول توابع المزاج في تعريفه فمخالفة لصريح العقل وصحيح النقل وما ذكرنا هو المفهوم من اللفظ والمذكور في كلام القوم
( قال فلا بد من استحالة العناصر في كيفياتها جميعا )
قد عرفت فيما مضى أن الكون والفساد تبدل في الصورة النوعية للعناصر بأن تبطل صورة وتحدث أخرى مع بقاء المادة والاستحالة تبدل في الكيفيات بأن تزول كيفية وتحدث أخرى مع بقاء الصورة ولا خفاء في أن القول بالمزاج بالمعنى المذكور أعني حدوث كيفية متوسطة متشابهة في كل جزء بحسب الحقيقة مبني على جواز استحالة كل عنصر في كيفية الفعلية والانفعالية حتى يكون الجزء الناري من الممتزج في الكيفية المتوسطة بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة كالجزء المائي والهوائي والأرضي على السواء وزعم الإمام أنهم لم يثبتوا ذلك إلا في الماء حيث يستحيل برودة إلى الحر من غير تكون وبروز ولا ورود عليه من خارج وهو لا يستلزم جواز استحالة الكل في الكل وكان الأطباء تركوا بيان هذا الأصل إلى الحكماء لكونه من مبادىء علم الطب والحكماء إلى الأطباء لكونه من فروع الطبيعي وأصول الطب فبقي مهملا ورد بأن جواز الاستحالة من لوازم جواز الكون والفساد فبيانه في كل بيان لجواز الاستحالة في الكل وتقريره على ما أشير إليه في النجاة أن زوال صورة وحدوث أخرى إنما يكون عند تمام استعداد المادة وهو أمر حادث يفتقر إلى زمان فلا بد من تغير واقع على التدريج وليس ذلك في نفس الصورة لأن وجودها وعدمها دفعي فتعين أن يكون في الكيفية بأن تتغير فتضعف الكيفية التي تناسب الصورة التي تفسد وتشتد التي تناسب الصورة التي تكون ولا نعني بالاستحالة إلا تغير الكيفية مع بقاء الصورة وما ذكر في المتن استدلال على ثبوت الاستح الة بوجة آخر وهو أنه لما ثبت فيضان الصور والنفوس لزم حدوث كيفية متوسطة متشابهه في جميع اجزاء الممتزج لتستعد المادة بذلك لقبولها وهذا نفس الاستحالة أعني زوال الكيفيات الصرفة في الأجزاء العنصرية وحصول الكيفية المتوسطة وفيه نظر لجواز أن يحصل الاستعداد بمجرد اختلاط الأجزاء المتصغرة بحيث تحصل الكيفية المتوسطة بحسب الحس مع كون كل من الأجزاء البسيطة على صرافة كيفيتها
( قال ثم التعريف يتناول المزاج الثاني 3 )
أعني الحاصل من امتزاج الأجزاء المتصغرة للمركبات كمزاج الذهب الحاصل من امتزاج الزئبق والكبريت أن جعلناه حادثا من انكسار الكيفيات بصور البسايط العنصرية المحفوظة في الممتزج على ما يظهر بالقرع والأنبيق فإنا إذا وضعنا فيه قطعة من اللحم مثلا تميز إلى جسم مائي قاطر وأرضي متكلس وأما إذا جعلنا حدوثه بواسطة الصور النوعية للمركبات بأن تعد الكيفية المزاجية الأجزاء الممتزجة لفيضان صورة نوعية عليها غير صور العناصر
____________________
(1/365)
ثم تتفاعل الممتزجات المختلفة بواسطة صورها وكيفياتها فتحدث كيفية متوسطة متشابهة في الشكل كما في الذهب بواسطة الصورة الزئبقية والكبريتية فلا يدخل في التعريف لأنها لم تحدث من تفاعل العناصر بقواها أي صورها أو كيفياتها
( قال فالمزاج نوع آخر 2 )
قد علم مما سبق أن المزاج كيفية ملموسة مغايرة بالنوع لما في العناصر من الكيفيات الصرفة حاصلة في كل جزء من الأجزاء الممتزج حتى الأجزاء البسيطة العنصرية وهي باقية على صورها النوعية وإنما استحالت من كيفياتها الصرفة إلى الكيفية المتوسطة وهذا رأي جمهور المشائين فإن قيل لو كانت صور العناصر باقية والصورة الحادثة بعد المزاج سارية في جميع أجزاء الممتزج لزم أن تكون النار مثلا مع الصورة النارية متصفة بالصورة الذهبية وح جاز أن تكون المواليد من عنصر واحد قلنا يجوز أن تكون الصورة الحادثة إنما تسري في الأجزاء المركبة دون البسيطة أو يكون قبول البسيط إياها مشروطا بالامتزاج ثم ههنا مذاهب أخر فاسدة الأولى أن العناصر باقية على صورها وصرافة كيفياتها وإنما تحس بالكيفية المتوسطة لفرط الاختلاط وعدم الامتياز عند الحس ورد بأن عدم بقاء العناصر على صرافة كيفياتها عند تماسها معلوم قطعا الثاني أن امتزاج العناصر وتفاعلها قد أد ى بها إلى أن تخلع صورها ولا تكون لواحد منها صورتها الخاصة وتلبس حينئذ صورة واحدة فيصير لها هيولي واحدة وصورة واحدة ثم منهم من جعل تلك الصورة أمرا متوسطا بين الصور المتضادة للبسائط ومنهم من جعلها صورة أخرى للنوعيات أي صورة توجد لبعض الأنواع الموجودة في الأعيان ورد بوجهين أحدهما أن تفاسد الصور سواء كان على وجه الانكسار أو الزوال بالكلية إما أن يكون معا أو على التعاقب وكلاهما فاسد لما مر في الكيفيات ولا يجوز أن يجعل الفاعل ههنا هو الكيفية كالصورة في انكسار الكيفيات لأن في فساد الصورة فساد آثارها أعني الكيفيات وثانيهما أنه لو كان كذا لما اختلفت أجزاء الممتزج بالتبخر والتقاطر والترمد واللازم باطل بحكم الفرع والأنبيق
( قال ثم المزاج 6 )
بين حقيقة المزاج وكيفية حصوله وهذا بيان أقسامه بحسب الاعتدال الحقيقي أو الفرضي والخارج عنه بكيفية أو أكثر وقد سبق أن المزاج كيفية متوسطة بين الكيفيات الأربع أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وسميت قوى باعتبار كونها مبادىء التغيرات على ما هو ظاهر نظر صناعة الطب والقوة اسم لما هو مبدأ التغير من آخر في آخر من حيث هو آخر فالمزاج إن كان على حد التساوي في مقادير القوى الأربع شدة وضعفا فمعتدل حقيقي وإلا فغير معتدل والتساوي في مقادير القوى لا يستلزم التساوي في مقادير العناصر لجواز أن يكون عنصرا مغلوبا في الكمية قويا في الكيفية وبالعكس وأكد صاحب القانون التساوي بالتقادم حيث قال الاعتدال أن تكون مقادير الكيفيات المتضادة متساوية
____________________
(1/366)
متقاومة فزعم الشارح أن تساوي مقادير الكيفيات إشارة إلى تساوي مقادير العناصر فإن تساوي السوادين مثلا في القذر عبارة عن تساوي محلهما والتقادم إشارة إلى تساوي الكيفيات شدة وضعفا وذلك لأنه حكم بامتناع وجود هذا المعتدل التساوي هيولي عناصره إلى أحيازها فلا يتحقق الاجتماع ريثما يحصل الفعل والانفعال وتساوي الميول لا يمكن بدون تساوي مقادير أجرام العناصر حجما وتساوي كيفياتها قوة وضعفا أما الأول فلأنه ذكر أن الغالب في الكم يغلب في الميل لا محالة وأما الثاني فلأن الميول تختلف باختلاف الكيفيات أيضا فإنها قد تعاون الصورة النوعية في أحداث الميل وقد تعاوقها عنه فإن الماء المبرد بالثلج أميل إلى مكانه من الماء المسخن بالنار فلا بد في المعتدل الذي يمتنع وجوده لتساوي ميوله من تساوي عناصره كما وكيفا ثم قال والخارج عن هذا الاعتدال لا ينحصر في ثمانية ولم يدع أحد هذا الانحصار كيف والمعتدل الفرضي والخارج عنه وهما تسعة على ما سيجيء خارج عن هذا الاعتدال وفيه نظر أما أولا فلأن المفهوم من مقادير الكيفيات مراتبها في الشدة والضعف لامتداداتها بحسب المسافة لتكون بحسب مقادير أجرام العناصر وأما ثانيا فلأن كيفيات العناصر مختلفة في الشدة والضعف حتى جعلوا حرارة النار أضعاف برودة الماء مثلا فكيف يتصور تساوي أجرام العناصر مع تساوي كيفياتها حتى يكون الحكم بامتناع وجوده بناء على تداعي الأجزاء إلى الافتراق بسبب اختلاف الميول وأما ثالثا فلأن ادعاء انحصار الخارج عن هذا الاعتدال في الثمانية صريح في كلام القانون متصلا بكلامه في هذا الاعتدال وجعل الاعتدال الفرضي مع الأقسام الثمانية للخارج عنه قادحا في هذا الانحصار وهم إذ ربما يكون جميع ذلك أحد الأقسام الثمانية للخارج عن هذا الاعتدال أعني الحقيقي
( قال وهو ممنوع 9 )
يعني يجوز أن يكون الاجتماع المؤدي إلى الفعل والانفعال حاصلا بأسباب أخر غير علية الكيفيات كان يكون حدوث الجزء الناري تحت الأرضي مثلا فيمتنع كل منهما صاحبه عن الميل إلى حيز نفسه
( قال أو كيفيتين غير متضادتين فينحصر في ثمانية )
يشير إلى أنه لا يمكن الخروج عن الاعتدال بالحرارة والبرودة جميعا أو بالرطوبة واليبوسة جميعا لأن الميل عن حاق الوسط إلى الحرارة مثلا معناه زيادة الحرارة على البرودة فكيف يتصور مع ذلك زيادة البرودة على الحرارة وبهذا يبطل ما قيل يجوز الخروج بكيفيات ثلاث فيزيد على الأقسام الثمانية أربعة أخرى هي المزاج الحار البارد والرطب أو اليابس والمزاج الرطب اليابس الحار أو البارد نعم يتصور ذلك لو اشترط في المعتدل تساوي أجرام العناصر أيضا بأن يزيد جرم الحار والبارد جميعا أو الرطب واليابس جميعا
( قال وقد يقال المعتدل 8 )
ما مر كان هو المعتدل الحقيقي مشتقا من التعادل بمعنى التساوي وهذا هو المعتدل الفرضي والطبي المستعمل في صناعة الطب مشتقا من العدل في القسمة ومعناه
____________________
(1/367)
المزاج الذي قد توفر فيه على الممتزج من كميات العناصر وكيفياتها القسط الذي ينبغي له ويليق بحاله ويكون أنسب بأفعاله مثلا شأن الأسد الجرأة والإقدام وشأن الأرنب الخوف والجبن فيليق بالأول غلبة الحرارة وبالثاني غلبة البرودة وهذا الاعتدال يعرض له ثمانية اعتبارات لأن أليقية المزاج للممتزج أما أن تكون بحسب الأفعال المطلوبة من النوع أو من الصنف أو من الشخص أو من العضو وكل من ذلك يعتبر إما بالقياس إلى الخارج أعني للنوع إلى سائر الأنواع وللصنف إلى سائر الأصناف من ذلك النوع وللشخص إلى سائر الأشخاص من ذلك الصنف وللعضو إلى سائر الأعضاء من ذلك البدن وإما بالقياس إلى الداخل أعني للنوع إلى ماله من الأصناف وللصنف إلى ماله من الأشخاص وللشخص إلى ما يعرض له من الأحوال وكذا للعضو مثلا للبدن الإنساني مزاج هو أليق به من حيث أنه إنسان من مزاج أي نوع فرض بحيث إذا تغير أو فسد اختلت الأفعال المختصة بهذا النوع وله مراتب يتردد فيها بين طرفي إفراط وتفريط يعبر عنها بسعة المزاج للقطع بأن ليس جميع أفراد الإنسان على مزاج واحد وليس أيضا كل مزاج صالحا للصورة الإنسانية فلنفرض أن حرارته لا تزيد على عشرين ولا تنقص من عشرة بل تتردد بينهما فإذا زادت على عشرين لم يكن الممتزج إنسانا بل فرسا وإذا نقصت من عشرة لم يكن إنسانا بل أرنبا ثم لا محالة تكون هناك واسطة بين هذين الطرفين أعني الإفراط والتفريط هي أليق به من حيث أنه إنسان من مزاج أي فرد فرض من أفراد الإنسان ويكون أفضل أمزجة الإنسان وأقربها إلى الاعتدال الحقيقي ويوجد في شخص في غاية الاعتدال من صنف في غاية الاعتدال في سن بلغ فيه النشو غايته وهو وإن لم يكن الاعتدال الحقيقي الذي حكموا بامتناع وجوده لكنه يعز وجوده إذ لا يوجد إلا في شخص واحد تجعله الأطباء دستورا يقاس إليه سائر الأشخاص وكذا للتركي مزاج خاص هو أليق به من حيث أنه تركي من أمزجة سائر أصناف الإنسان له عرض أي سعة لو خرج الشخص عنها لم يكن تركيا بل صنفا آخر وله واسطة هي أليق به من أي فرد فرض من أفراد التركي هي أفضل أمزجة الصنف وإن لم يلزم أن تكون أفضل أمزجة النوع وكذا لزيد مزاج هو أليق به من حيث هو هذا الشخص المعين أي أنسب بالصفات المختصة به من أمزجة أفراد ذلك الصنف وهو المزاج الذي يجب أن يكون زيد عليه ليكون موجودا حيا صحيحا ثم لا خفاء في أن له سعة ضرورة أن مزاجه وهو شاب غير مزاجه وهو شيخ أو صبي أو كهل ولها طرفا إفراط وتفريط لا تتعداهما ضرورة أن ليس كل مزاج صالحا له مع اختصاصه بمزاج معين وبينهما واسطة إذا حصلت لزيد كان على أفضل ما ينبغي أن يكون عليه بمعنى أن المزاج الذي له في ذلك الوقت أصلح لأفعاله من المزاج الذي له في سائر أوقاته وكذا للقلب مزاج هو أليق به من أمزجة سائر أعضاء البدن عريض له طرفان
____________________
(1/368)
إذا تجاوزهما لم يكن القلب وواسطة إذا حصلت للقلب كان على أفضل ما ينبغي أن يكون عليه فظهر أن عرض مزاج النوع يشتمل على أمزجة أصنافه لأن عرض الصنف بعض عرض النوع وعرض مزاج الصنف يشتمل على أمزجة أشخاصه وعرض مزاج الشخص على أمزجته في حالاته وليس مزاج العضو داخلا في العروض المتقدمة لأنها مأخوذة باعتبار مجموع البدن من حيث هو مجموع إذا تكافأت الأعضاء الحارة بالباردة والرطبة باليابسة فيستحيل أن يكون مزاج مجموع البدن مزاج عضو واحد فإن قيل العضو نوع من أنواع الكائنات مشتمل على أصناف مشتملة على أشخاص فينبغي أن يعتبر له اعتدال نوعي وصنفي وشخصي كل منها بالقياس إلى الداخل والخارج دون أن يجعل قسما برأسه مقابلا لها قلنا نعم إلا أنهم نظروا إلى أن الطب ينظر في أحوال بدن الإنسان وأعضائه من حيث كونها على اعتدالها أو خارجة عنه واعتبار مزاج البدن إنما هو باعتبار تكافىء أعضائه وتعادلها في المزاج بأن تكون حرارة ما هو حار منها كالقلب تعادل برودة ما هو بارد منها كالدماغ ويبوسة ما هو يابس منها كالعظم تعادل رطوبة ما هو رطب منها كالكبد بحيث إذا نسب جميع ما في البدن من الحرارة إلى جميع ما فيه من البرودة كان قريبا من التساوي وكذا الرطوبة مع اليبوسة وبالجملة يكون الحاصل من المجموع قريبا من الاعتدال الحقيقي ثم لا خفاء في أنه ليس ههنا أعني في مزاج جملة البدن المعبر عنه بالمزاج الشخصي اختلاط أجزاء الأعضاء وتصغرها وتماسها وكأنه مجرد وضع وإضافة للبعض إلى البعض أو كيفيات تحصل لجميع الأعضاء من جهة تأثر بعضها من البعض بمجرد المجاورة من غير امتزاج واختلاط للأجزاء
( قال والخارج عن هذا الاعتدال 9 )
يعني الاعتدال الفرضي المعتبر بحسب الطب ينحصر في ثمانية لأنه إما أن يكون بكيفية واحدة من الأربع فيكون أحر مما ينبغي أو أبرد أو أرطب أو أيبس وإما بكيفيتين غير متضادتين فيكون أحر وأرطب أو أيبس أو أبرد وأرطب أو أيبس واعترض الكاتبي في شرح الملخص بأن الخروج عن هذا الاعتدال بكيفيتين متضادتين ممكن بأن تزيد الحرارة والبرودة جميعا على القدر اللايق بالممتزج أو تنقصا عنه وكذا الرطوبة واليبوسة ولا يلزم من ذلك كون المتضادتين غالبتين ومغلوبتين معا في الخارج عن الاعتدال الحقيقي لأن المعتبر ثمة زيادة كل على الأخرى وههنا على القدر اللايق لا على الأخرى وإذا جاز ذلك فالخروج إما أن يكون بكيفية أو كيفيتين أو ثلاث كيفيات أو الكيفيات الأربع جميعا والأول ثمانية أقسام حاصلة من ضرب أربعة أعني الكيفيات في اثنين أعني الزيادة والنقصان والثاني أربعة وعشرون قسما لأن الكيفيتين الخارجتين أما الحرارة مع البرودة أو مع الرطوبة أو مع اليبوسة وأما البرودة مع الرطوبة أو مع اليبوسة وأما الرطوبة مع اليبوسة فهذه ستة نضربها في أربع حالات هي زيادة الكيفيتين ونقصانهما وزيادة الأولى مع نقصان الثانية وبالعكس والثالث اثنان وثلاثون
____________________
(1/369)
قسما لأن الخروج إما بالحرارة مع البرودة والرطوبة أو مع البرودة واليبوسة أي مع الرطوبة واليبوسة وإما بالبرودة مع الرطوبة واليبوسة يصير أربعة نضربها في ثمان حالات هي زيادة الكيفيات الثلاث ونقصانها وزيادة كل من الثلاث مع نقصان الأخريين ونقصان كل مع زيادة الأخريين والرابع ستة عشر قسما على عدد الحالات الممكنة أعني زيادة الكيفيات الأربع ونقصانها وزيادة كل منها مع نقصان الثلاث الباقية وبالعكس فهذه عشرة وزيادة كل اثنتين مع نقصان الأخريين وهذه ستة لأن الاثنتين إما الفاعلتان وأما المنفعلتان وإما كل من الفاعلتين مع كل من المنفعلتين والمعترض قد أخل ببعض هذه الأقسام فجعل الأقسام الممكنة ثلاثة وستين فاستوفاها العلامة الشيرازي ثمانين ثم أجاب بأن معنى هذا الاعتدال هو أن يتوفر على الممتزج من كميات العناصر وكيفياتها القسط الذي هو أليق بحاله وأنسب بأفعاله أعني أن تكون الحرارة والبرودة فيه على نسبة تلائم أفعاله على الوجه الأفضل الأليق وكذا الرطوبة واليبوسة فأدامت هذه النسبة محفوظة كان الاعتدال باقيا وإن فرض زيادة أو نقصان في مقادير الكيفيات مثلا إذا كان اللايق بالممتزج أن يكون الحار ضعف البارد كان يكون الحار من عشرة إلى عشرين والبارد من خمسة إلى عشرة فإذا زادت الفاعلتان فصارت الحرارة اثنتي عشرة والبرودة ستة أو انتقصتا فصارت الحرارة ثمانية والبرودة أربعة فإن الاعتدال باق لبقاء النسبة وإن صارت البرودة ستة مع كون الحرارة أحد عشر فليس هذا خروجا عن الاعتدال بالكيفيتين بل بالبرودة فقط إذ المزاج صار أبرد مما ينبغي لا أحر ومع كون الحرارة ثلاثة عشر فليس إلا خروجا عن الاعتدال بالحرارة حيث صار آخر مما ينبغي وكذا في الرطوبة واليبوسة والحاصل أنه إذا كانت النسبة الفاضلة بأن تكون الحرارة ضعف البرودة مثلا فتغير النسبة أما أن يكون بزيادة الحرارة على الضعف أو نقصانها أو زيادة البرودة عن النصف ولا مع نقصانها عن الضعف زيادة البرودة على النصف وكذا الكلام في كميات العناصر فلا يرد ههنا ما يرد عن الاعتدال الحقيقي من أنه لما اعتبر فيه تساوي العناصر في الكم أيضا جاز الخروج عنه بالعنصر الحار والبارد جميعا بأن يزيد آخر ما على الآخرين وذلك لأن المعتبر ههنا نسبة بين كميات العناصر كالضعف والنصف مثلا فتغير النسبة لا يتصور إلا مثل ما ذكر في الكيفيتين فليتأمل نعم لا يبعد الخروج بالكيفيتين المتضادتين عن الاعتدال الشخصي بالنسبة إلى الداخل بأن يصير مزاج قلب زيد أحر وأيبس من أعدل أحواله ومزاج دماغه أبرد وأرطب أو بالعكس وذلك لأنه ليس هناك كيفية متوسطة بحكم ببقائها ما دامت النسبة محفوظة وإن كانت المقادير مختلفة
( قال واختلفوا في أعدل البقاع 7 )
قد اتفقوا على أنه إذا اعتبرت الأنواع كان أعدل الأمزجة أي أقربها إلى الاعتدال الحقيقي مزاج نوع الإنسان لأن متعلق للنفس الناطقة الأشرف فلا بد أن يكون أشرف أي
____________________
(1/370)
أقرب إلى الوحدة الحقيقية وأبعد عن التضاد والكثرة ولأنه أحوج الأنواع إلى الأفعال المتقنة التي تعين على بعضها الحرارة كالهضم وعلى بعضها البرودة كالإمساك وعلى بعضها اليبوسة كالحفظ وعلى بعضها الرطوبة كالإدراك واختلفوا في أعدل الأصناف بالنظر إلى أوضاع العلويات فقال ابن سينا سكان خط الاستواء أي الموضع الموازي لمعدل النهار وذلك لتشابه أحوالهم في الحر والبرد لتساوي ليلهم ونهارهم دائما ولأنه ليس صيفهم شديد الحر لأن الشمس تزول عن سمت رأسهم بسرعة لما تقرر في موضعه من أن حركتها في الميل أعني البعد عن معدل النهار أسرع عند الاعتدالين وأبطأ عند الانقلابين ولا شتاؤهم شديد البرد لأن الشمس لا تبعد عن سمتهم كثيرا فلا يعظم التفاوت بين صيفه وشتائه ومع ذلك فمدة كل منهما قصيرة وهي شهر ونصف لما مر من كون الفصول هناك ثمانية فالشمس لا تسامتهم عن بعد كثير بل عن قرب من المسامتة فهم دائما متنقلون من حالة متوسطة إلى ما يشابهها فكأنهم في الربيع دائما واستدل بعضهم على فساد هذا الرأي بوجهين أحدهما أن الشمس تسامت رؤسهم في السنة مرتين ثم لا تبعد عن المسامتة بأكثر من ثلاثة وعشرين جزأ ونصفا على ما هو غاية الميل الكلي فهم دائما في المسامتة أو في القرب منها فتكون حرارتهم مفرطة لأن قرب المسامتة في زمان يسير كما في الصيف عندنا مع تقدم برد الشتاء المخرج للهواء عن استعداد التسخن مسخن جدا فهذا أولى وجوابه أن مسامتتهم لسرعة زوالها أقل نكاية وتسخينا للهواء من المسامتة أو القرب منها في البلاد ذوات العروض لأن قرب المسامتة يبقى هناك أياما كثيرة ويكون النهار أطول من الليل طولا ظاهرا والسبب الدائم وإن ضعف قد يكون أكثر تأثيرا من غير الدائم وإن قوي كالحديد في نار لينة مدة وفي نار قوية لحظة وثانيهما أن زمان وصول الشمس إلى أول السرطان شتاء لخط الاستواء لكون الشمس على غاية البعد عن سمت رأسهم وصيف لبقعة عرضها سبعة وأربعون ضعف الميل الكلي كبلدة سراي لكونها على غاية القرب عنها مع أن بعدها عن سمت رأس البقعتين على السواء فيكون حر شتاء خط الاستواء كحر صيف هذه البلدة بل أكثر إذا تأملت لأن ما قبل هذه الحالة لهم من أسباب السخونة ولأهل البلدة من أسباب البرودة وإذا كان حر شتائهم هذا فأظنك بحر صيفهم وجوابه منع تشابه حر الفصلين في البقعتين وإنما يلزم لو انحصر سبب الحر في قرب الشمس من سمت الرأس وهو محال فيجوز أن يشتد حر صيف البلدة المفروضة بسبب تزايد طول النهار على الليل إلى الضعف تقريبا لأن طول نهارها يبلغ ست عشرة ساعة تقريبا وقصر ليلها ثماني ساعات كذلك بخلاف خط الاستواء فإن الليل والنهار فيه دائما على السواء فيتعادل الحر والبرد وأيضا المألوف لا يؤثر فلعل أهل خط الاستواء لا يفهم بالحر لا تتأثر أمزجتهم ولا تتسخن من حر مسامتة الشمس ويستبر دون الهواء
____________________
(1/371)
عند بعد المسامتة أعني كون الشمس في الانقلابين فيبقى الاعتدال بخلاف البلدة المفروضة فإن الحر يشتد على جسمهم ويؤثر فيهم لعدم الفهم به ولانتقالهم إليه من شدة البرد وإن كان على التدريج ولا يخفى على المنصف ضعف هذا الجواب وكذا إسناد حر البلدة إلى الأسباب الأرضية وأما الجواب عن احتجاج ابن سينا على كون سكان الاستواء أقرب الأصناف إلى الاعتدال الحقيقي بالنظر إلى أوضاع العلويات فهو أن تشابه الأحوال بمعنى أنه لا يطرأ عليهم تغير يعتد به ولا تلحقهم نكاية من حر أو برد لا يفيد المطلوب أعني قربهم من الاعتدال الحقيقي الذي تساوى فيه الكيفيات لجواز أن يكون البالغ في الحرارة والبرودة المألوفة كذلك وذهب جمع من الأوائل وكثير من المتأخرين إلى أن أعدل الأصناف سكان الإقليم الرابع استدلالا بالآثار كما هو مذكور في المتن غني عن الشرح وفيه إشارة إلى دفع اعتراضين أحدهما أن كثرة التوالد والتناسل وتوفر العمارات وغير ذلك من الكمالات إنما يتبع الاعتدال العرضي الذي هو توفر القسط الأليق من الكيفيات لا الحقيقي الذي هو تساويها وفيه النزاع ودفعه أن المعتدل الفرضي كلما كان إلى المعتدل الحقيقي أقرب وبالواحد المبدأ أنسب كان بإفاضة الكمال أجدر فيتم الاستدلال بزيادة الكمال على زيادة القرب من الاعتدال الحقيقي على ما هو المطلوب وثانيهما أن قلة الكمالات في خط الاستواء وكثرتها في الإقليم الرابع يجوز أن يكون عائدة إلى الأسباب الأرضية دون أوضاع العلويات ودفعه أن الحدس يشهد بما ذكرنا ويحكم ببطلان أن لا يوجد في خط الاستواء وهو أربعة آلاف فرسخ بقعة خالية عن الموانع الأرضية ولا في الإقليم الرابع على كثرة بلادها بلدة خالصة للأسباب العلوية فإن قيل إذا صح الاستدلال على اعتدال الإقليم الرابع بكونه وسطا بين الأقاليم بعيدا عن الفجاجة الشمالية والاحتراق الجنوبي فأولى أن يستدل على اعتدال خط الاستواء بكونه على حاق الوسط من الشمال والجنوب قلنا التوسط ههنا توسط بين ما هو من أسباب الحر والبرد أعني قرب المسامتة وبعدها بخلاف التوسط بين القطبين فإن نسبة الشمس إليهما على السواء وأهل ذلك الوسط دائما في المسامتة أو القرب منها وإنما يصح الاستدلال لو كان غاية الحر والبرد تحت نقطتي الجنوب والشمال وليس كذلك
( قال وأما المباحث 8 )
بعد الفراغ من مقدمة القسم الرابع من الأقسام الأربعة المرتب عليها الكلام فيما يتعلق بالأجسام على التفصيل وهو في المركبات التي لها مزاج شرع في مباحثه وهي ثلاثة حسب أقسام الممتزج المسماة بالمواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان ووجه الحصر أن الممتزج أن تحقق فيه مبدأ التغذية والتنمية فإما مع تحقق مبدأ الحس والحركة الإرادية وهو الحيوان أو بدونه وهو النبات وإن لم يتحقق ذلك فيه فالمعادن وإنما قلنا مع تحقق مبدأ الحس والحركة لأنه لا قطع بعدمهما في النبات والمعدن بل ربما يدعى حصول
____________________
(1/372)
الشعور والإرادة للنبات لأمارات تدل على ذلك مثل ما نشاهد من ميل النخلة الأنثى إلى الذكر وتعشقها به بحيث لو لم تلقح منه لم تثمر وميل عروق الأشجار إلى جهة الماء وميل أغصانها في الصعود من جانب الموانع إلى القضاء ثم ليس هذا ببعيد عن القواعد الفلسفية فإن تباعد الأمزجة عن الاعتدال الحقيقي إنما هو على غاية من التدريج فانتقاص استحقاق الصور الحيوانية وخواصها لا بد أن تبلغ قبل الانتفاء إلى حد الضعف والخفاء وكذا النباتية ولهذا اتفقوا على أن من المعدنيات ما وصل إلى أفق النباتية ومن النباتات ما وصل إلى أفق الحيوانية كالنحلة وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام أكرموا عمتكم النخلة
( قال والمراد بالحيوان 9 )
إشارة إلى دفع ما يورد على حصر الأجناس في الثلاثة حيث يوجد أشياء ليس فيها مبدأ الحس والحركة مع القطع بأنها ليست من النبات أو المعدن كبعض أجزاء الحيوان ومتولداته كالعظم والشعر واللبن والعسل واللؤلؤ والأبريسم وما أشبه ذلك وأشياء لا يطلق عليها اسم النبات والمعدن كالثمار وما يتخذ منها وكالزنجار والسنجرف ونحو ذلك
( قال المبحث الأول 7 )
أقسام المعدني خمسة ذائب منطرق ذائب مشتعل ذائب غير منطرق ولا مشتعل غير ذائب لفرط الرطوبة غير ذائب لفرط اليبوسة فالأول أي الذائب المنطرق هو الجسم الذي انجمد فيه الرطب واليابس بحيث لا تقدر النار على تفريقهما مع بقاء دهنية قوية بسببها يقبل ذلك الجسم الانطراق وهو الاندفاع في العمق بانبساط يعرض للجسم في الطول والعرض قليلا قليلا دون انفصال شيء والذوبان سيلان الجسم بسبب تلازم رطبه ويابسه والمشهور من أنواع الذائب المنطرق سبعة الذهب والفضة والرصاص والأسرب والحديد والنحاس والخارصيني قيل هو جوهر شبيه بالنحاس يتخذ منه مرايا لها خواص وذكر الحازني أنه لا يوجد في عهدنا والذي يتخذ منه المرايا ويسمى بالحديد الصيني والانقنجوش فجوهر مركب من بعض الفلزات وليس بالخارصيني والذوبان في غير الحديد ظاهر وأما في الحديد فيكون بالحيلة على ما يعرفه أرباب الصنعة وشهدت الأمارات بأن مادة الأجساد السبعة هي الزئبق والكبريت واختلاف الأنواع والأصناف عائد إلى اختلاف صفاتهما واختلاطهما وتأثر أحدهما عن الآخر أما الأمارات فهي أنها سيما الرصاص تذوب إلى مثل الزئبق والزئبق ينعقد برائحة الكبريت إلى مثل الرصاص والزئبق يتعلق بهذه الأجساد ثم الزئبق مركب من مائية وكبريتية وامتحان علم الصنعة أيضا يشهد بذلك واعتراض أبي البركات بأنه لو كان كذلك لوجد كل من الزئبق والكبريت في معدن الآخر وفي معادن هذه الأجساد مدفوع بأنه يجوز أن يكون عدم الوجدان لتغيرهما بالامتزاج أو لعدم الإحساس بواسطة تصغر الأجزاء وأما كيفية تكونها فهي أنه إذا كان الزئبق والكبريت صافيين وكان انطباخ أحدهما بالآخر تاما فإن كان الكبريت مع بقائه أبيض غير محترق تكونت الفضة وإن كان أحمر
____________________
(1/373)
وفيه قوة صباغة لطيفة غير محرقة تكون الذهب وإن كانا نقيين وفي الكبريت قوة صباغة لكن وصل إليه قبل كمال النضج برد مجمد عاقد يكون الخارصيني وإن كان الزئبق نقيا والكبريت رديا فإن كان مع الرداءة فيه قوة إحراقية تكون النحاس وإن كان غير شديد المخالطة بالزئبق بل متداخلا إياه ساقا فساقا تولد الرصاص وإن كان الزئبق والكبريت رديين فإن قوى التركيب وفي الزئبق تخلخل أرضي وفي الكبريت إحراق تكون الحديد وإن ضعف التركيب تكون الأسرب وأصحاب الصنعة يصححون هذه الدعاوي بعقد الزئبق بالكبريت انعقادا محسوسا يحصل لهم بذلك غلبة الظن بأن الأحوال الطبيعية تقارب الأحوال الصناعية وأما القطع فلا يدعيه أحد
( قال وتكونها بالصنعة 7 )
يعني أن الكثير من العقلاء ذهبوا إلى أن تكون الذهب والفضة بالصنعة واقع وذهب ابن سينا إلى أنه لم يظهر له إمكانه فضلا عن الوقوع لأن الفصول الذاتية التي بها تصير هذه الأجساد أنواعا أمور مجهولة والمجهول لا يمكن إيجاده نعم يمكن أن يصبغ النحاس بصيغ الفضة والفضة بصيغ الذهب وأن يزال عن الرصاص أكثر ما فيه من النقص لكن هذه الأمور المحسوسة يجوز أن لا تكون هي الفصول بل عوارض ولوازم وأجيب بأنا لا تم اختلاف الأجسام بالفصول والصور النوعية بل هي متماثلة لا تختلف إلا بالعوارض التي يمكن زوالها بالتدبير ولو سلم فإن أريد لمجهولية الصور النوعية والفصول الذاتية أنها مجهولة من كل وجه فممنوع كيف وقد علم أنها مبادي لهذه الخواص والأعراض وإن أريد أنها مجهولة بحقائقها وتفاصيلها فلأتم أن الإيجاد موقوف على العلم بذلك وأنه لا يكفي العلم بجميع المواد على وجه حصل الظن بفيضان الصور عنده لأسباب لا تعلم على التفصيل كالحبة من الشعر والعقرب من البازروج ونحو ذلك وكفى بصنعة الترياق وما فيه من الخواص والآثار شاهدا على إمكان ذلك نعم الكلام في الوقوع وفي العلم بجميع المواد وتحصيل الاستعداد ولهذا جعل الكيمياء كالعنقاء مثلا في اسم بلا مسمى
( قال والثاني 8 )
أي الذائب المشتعل هو الجسم الذي فيه رطوبة دهنية مع يبوسة غير مستحكم المزاج ولذلك تقوى النار على تفريق رطبه عن يابسه وهو الاشتعال وذلك كالكبريت المتولد من مائية تخمرت بالأرضية والهوائية تخمرا شديدا بالحرارة حتى صارت تلك المائية دهنية وانعقدت بالبرد وكالزرنيخ وهو كذلك إلا أن الدهنية فيه أقل
( قال والثالث 3 )
أي الذائب الذي لا ينطرق ولا يشتعل ما ضعف امتزاج رطبه ويابسه وكثرت رطوبته المنعقدة بالحر واليبس كالزاجات وتولدها من ملحية وكبريتية وحجارة وفيها قوة بعض الأجساد الذائبة وكالأملاح وتولدها من ماء خالطه دخان حار لطيف كثير النازية وانعقد باليبس مع غلبة الأرضية الدخانية ولذا يتخذ الملح من الرماد المحترق بالطبخ والتصفية
( قال والرابع 6 )
____________________
(1/374)
أي الذي لا يذوب ولا ينطرق لرطوبته ما استحكم الامتزاج بين أجزائه الرطبة الغالبة والأجزاء اليابسة بحيث لا تقوى النار على تفريقهما كالزئبق وتولده من مائية خالطته أجزاء أرضية كبريتية بالغة في اللطافة
( قال والخامس 9 )
أي الذي لا يذوب ولا ينطرق ليبوسة ما اشتد الامتزاج بين أجزائه الرطبة والأجزاء اليابسة المستولية بحيث لا تقدر النار على تفريقهما مع إحالة البرد للمائية إلى الأرضية بحيث لا تبقى رطوبة حبة دهنية ولذا لا ينطرق ولما أن عقده باليبس لا يذوب إلا بالحيلة بحيث لا يبقى ذلك الجوهر بخلاف الحديد المذاب وذلك كالياقوت واللعل والزبرجد ونحو ذلك من الأحجار
( قال ومرجع المعدنيات إلى الأبخرة والأدخنة 6 )
فإنها إذا لم تكن كثيرة قوية بحيث تفجر الأرض فتخرج عيونا أو زلازل بل ضعفية تحتبس في باطن الأرض وتمتزج بالقوى المودعة في الأجسام التي هناك على ضروب مختلفة فقد بعد تلك الأجسام لقبول قوى أخرى وصور تكون بها أنواعا هي الجواهر المعدنية ويختص كل نوع ببقعة لمناسبة له معها فإذا زرع في بقعة أخرى لم يتولد منه شيء لأن القوة المولدة له إنما هي في تلك الأرض ولا خفاء في أن بعضها مما يتولد بالصنعة بتهيئة المواد وتكميل الاستعداد كالنوشادر والملح ولا في أن مثل الذهب والفضة واللعل وكثير من الأحجار قد يعمل له شبه بعسر التمييز بينه وبين ذلك الجوهر في بادي النظر وإنما الكلام في عمل حقيقة ذلك الجوهر
( قال واتفقوا 7 )
يريد أن المزاج الثاني ليس كالأول في بقاء الأجزاء أعني البسائط العنصرية على صورها النوعية بل المراد المركبة كالزئبق والكبريت المتكون منهما الذهب لا تبقى على صورها لكونها تابعة للمزاج المتقدم عند تصغر الأجزاء جدا فالتركيب المفضي إلى حصول المزاج التابع لتصغر الأجزاء لا كتركيب الشخص من الأعضاء لا يكون عند التحقيق إلا من البسائط العنصرية ولهذا لا يكون حجم الذهب ووزنه بين حجم الزئبق والكبريت ووزنيهما على ما هو قياس المركب من الأجسام المختلفة في الثقل الباقية على صورها بل حجمه أقل منها بكثير ووزنه أكثر على ما سيأتي
( قال خاتمة 4 )
هذا بحث شريف يتفرع عليه أحكام كثيرة في باب الفلزات والأحجار ومعرفة مقدار كل منهما في المركب مع بقاء التركيب وفي عمل الموازين القريبة جعله خاتمة بحث المعدنيات لأن أمره فيها أظهر واحتياجها إليه أكثر وقد سبقت إشارة إلى أن اختلاف الأجسام في الخفة والثقل عائد إلى اختلافها في الصور والاستعدادات لا إلى كثرة الأجزاء وقلتها مع تخلل الخلاء وبحسب تفاوتها في الخفة والثقل تتفاوت فيما يتبع ذلك من الحجم والحيز والطفو على الماء والرسوب فيه ومن اختلاف أوزانها في الماء بعد التساوي في الهواء مثلا حجم الأخف يكون أعظم من حجم الأثقل مع التساوي
____________________
(1/375)
في الوزن كمائة مثقال من الفضة ومائة من الذهب وحيز الأخف يكون إلى صوب المحيط والأثقل إلى صوب المركز وإن تساويا وزنا أو حجما والأخف قد يعلو الماء وإلا ثقل يرسب فيه كالخشب والحديد وإن كان وزن الخشب أضعاف وزن الحديد وإذا كان في إحدى كفتي الميزان مائة مثقال من الحجر وفي الأخرى مائة مثقال من الذهب أو الفضة أو غيرهما من الأجساد التي جوهرها أثقل من جوهر الحجر ولا محالة يقوم الميزان مستويا في الهواء فإذا أرسلنا الكفتين في الماء لم يبق الاستواء بل يميل العمود إلى جانب الجوهر الأثقل وكلما كان من جوهر أثقل كان الميل أكثر ويفتقر الاستواء إلى زيادة في الحجر حسب زيادة الثقل مع أن وزن الجوهر ليس إلا مائة مثقال مثلا وذلك لأن الأثقل أقدر على خرق القوام الأغلظ وأما إذا أرسلنا أحدهما فقط في الماء فالعمود يميل إلى جانب الهواء لكونه أرق قواما وقد حاول أبو ريحان تعيين مقدار تفاوت ما بين الفلزات وبعض الأحجار في الحجم وفي الخفة والثقل بأن عمل إناء على شكل الطبرزد مركبا على عنقه شبه ميزات منحني كما يكون حال الأباريق وملأ ماء وأرسل فيه مائة مثقال من الذهب مثلا وجعل تحت رأس الميزاب كفة الميزان الذي يريد به معرفة مقدار الماء الذي يخرج من الإناء وهكذا كل من الفلزات والأحجار بعد ما يلغ في تنقية الفلزات من الغش وفي تصفية الماء وكان ذلك من ماء جيحون في خوارزم في فصل الخريف ولا شك أن الحكم يختلف باختلاف المياه واختلاف أحوالها بحسب البلدان والفصول فتحصل معرفة مقدار الماء الذي يخرج من الإناء بمائة مثقال من كل من الفلزات والأحجار وعرف بذلك مقدار تفاوتها في الحجم والثقل فإن ما يكون ماؤه أكثر يكون حجمه أكبر وثقله أقل بنسبة تفاوت المائتين وإذا أسقط ماء كل من وزنه في الهواء كان الباقي وزنه في الماء مثلا لما كان ماء مائة مثقال من الذهب خمسة مثاقيل وربع مثقال كان وزنه في الماء أربعة وتسعين مثقالا وثلاثة أرباع مثقال والماء الذي يخرج من الإناء بإلقاء الجسم فيه إن كان أقل من وزن الجسم فالجسم يرسب في الماء وإن كان أكثر منه فيطفو وإن كان مساويا له فالجسم ينزل في الماء بحيث يماس أعلاه سطح الماء وقد وضع أبو ريحان ومن تبعه جدولا جامعا لمقدار الماء الذي يخرج من الإناء بمائة مثقال من الذهب والفضة وغيرهما ولمقدار أوزانهما عند كون الفلزات التسعة في حجم مائة مثقال من الذهب والجواهر في حجم مائة مثقال من الياقوت الاسمانجوني ولمقدار أوزانها في الماء بعد ما يكون مائة مثقال في الهواء وهو هذا الجدول والله أعلم
____________________
(1/376)
2
____________________
(2/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المبحث الثاني بعد الفراغ من المعادن شرع في النبات ترقيا إلى الأكمل فالأكمل والأعدل فالأعدل ولاختصاص النبات بزيادة اعتدال لا يوجد في المعدني وتقارب ما يوجد في الحيوان صار له شبه بالحيوان في بعض الأعضاء والقوى وذلك أن له مواضع تقوم مقام الرحم والذكر كعقد الأغصان والزرع وفي البزور مواضع متميزة منها تتولد الأغصان وله عروق بها يتغذى ولحاء به يستحفظ وأجزاء كمالية بمنزلة الشعر والظفر كالورق والزهر وله فصول تدر كالصموغ والألبان وله قوى لحفظ الشخص كالغاذية وحوادمها ولتكميل المقدار كالنامية ولتحصيل المثل إبقاء للنوع كالمولدة قال فمنها الغاذية المحققون على أنها قوة مغايرة للجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة وإن كان ظاهر كلام البعض يشعر بأنها نفس الهاضمة والبعض بأنها عبارة عن مجموع الأربع وحاصل الفرق أن الهاضمة هي التي تتصرف فيما يرد على البدن من حين المضغ إلى أن يحصل له كمال الاستعداد لصيرورته جزأ من المغتذي وهذا معنى إحالة الغذاء إلى ما يليق بجوهر المغتذي والغاذية هي التي تتصرف فيما حصل له كمال الاستعداد إلى أن تجعله جزأ بالفعل وهذا معنى إحالة الغذاء إلى مشاكلة المغتذي ففي تفسير الهاضمة أريد بالغذاء ما هو بالقوة كاللحم والخبز وبالإحالة التغير في الكيف كتغير الطعام إلى الكيلوس أو في الجوهر كتغيير الكيلوس إلى الدم والدم إلى اللحم وفي تفسير الغاذية أريد بالغذاء ما هو بالفعل أعني حين ما يصير جزأ من العضو وبالإحالة التغيير في الجوهر ومن المشاكلة المماثلة في الجوهر واللون والقوام واللصوق ثم ههنا مقامان
أحدهما بيان وجود هذه القوى
وثانيهما بيان تغايرهما أما الأول
____________________
(2/2)
فيدل على وجود الجاذبة في المعدة حركة الغذاء من الفم إليها حركة صاعدة كما في البهائم والإنسان المعلق برجليه فإنها قسرية لكونها على خلاف الطبع وعدم الشعور من المتحرك أعني الغذاء وليس القاسر أمرا من خارج للقطع بانتفائه ولا إرادة من الحيوان لوقوعها حيث لا إرادة بل مع إرادة المنع كما إذا كان في الغذاء شعرة أو عظم مثلا فينقلب إلى المعدة لفرط شوقها إليه وإن كنت تريد إخراجه من الفم وأيضا قد ترى المعدة عند شدة شوقها إلى الطعام تصعد وتجذبه ويظهر ذلك بينا في الحيوان الواسع الفم القصير الرقبة كالتمساح فتعين كونها بقوة من المعدة وما ذكر في المواقف من أن هذه الحركة ليست إرادية أما من الغذاء فلعدم شعوره وإما من المغتذي فلوقوعها بلا إرادته فمبني على أنه أراد بالإرادية ما ينسب إلى الإرادة على ما يعم الواقعة بإرادة المتحرك والتابعة لإرادة القاسر نفيا للقسمين بأخصر عبارة ويدل على وجودها في الرحم أنه إذا كان خاليا عن الفضول بعيد العهد بالجماع يشتد شوقه إلى المني حتى يحس المجامع بأنه يجذب الإحليل إلى داخل جذب المحجمة للدم وفي باقي الأعضاء أن الكبد يتولد فيه مع الدم الصفراء والسوداء ثم تجد كل واحد منها يتميز عن صاحبه وينصب إلى عضو مخصوص ويجري الدم في طريق العروق إلى جميع الأعضاء ولا يتصور ذلك إلا بما فيها من الجواذب ويدل على وجود الماسكة أن الغذاء وإن كان في غاية الرقة والسيلان يبقى في المعدة إلى الانهضام والمني مع اقتضائه الحركة إلى أسفل يبقى في الرحم وكذا الدم في سائر الأعضاء وعلى وجود الدافعة أنا نجد المعدة عند القيء ودفع ما فيها تتحرك إلى فوق بحيث يحس بتزعزعها وبحركة الأحشاء تبعا لها وكذا الأمعاء عند دفع ما فيها بالإسهال والرحم عند دفع الجنين وأما في سائر الأعضاء فلا شك أن الدم الوارد عليها مخلوط بغيره من الأخلاط فلو لم يكن فيها ما يدفع غير الملائم لما حصل الاغتذاء على ما ينبغي ويدل على الهاضمة تغير الغذاء في المعدة وظهور طعم الحموضة في الأحشاء ثم تمام الاستحالة ثم تبدل الصورة إلى صورة الأخلاط وأما الثاني وهو بيان تغاير هذه القوى فمبني على ما تقرر عندهم من استحالة صدور الأفعال المختلفة عن قوة واحدة طبيعية ولهذا ترى بعض الأعضاء ضعيفا في بعض هذه الأفعال وقويا في الباقي ولا يخفى أنه لا يدل على تعدد القوى بالذات لجواز أن يكون الاختلاف عائدا إلى اختلاف الآلات والاستعدادات قال وتوجد الأربع يعني الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة في كل عضو لأنه يفتقر في البقاء إلى الاغتذاء المفتقر إلى الأفعال المستندة إلى القوى الأربع وقد يتضاعف في بعض الأعضاء أعني التي هي آلات الغذاء كالمعدة فإن فيها جاذبة للغذاء من الفم وماسكة له فيها ومغيرة إلى ما يصلح أن يصير دما في الكبد ودافعة للفضلات إلى الأمعاء ثم جاذبة للدم التي يصير غذاء لجوهر المعدة كسائر الأعضاء وماسكة له ريثما يغير إلى مشاكلة جوهر المعدة وهاضمة تفعل ذلك ودافعة
____________________
(2/3)
لما يخالط ذلك من غير الملائم وكذا الكبد والعروق قال ولاحصر لمراتب الهضم يعني أن الغذاء من ابتداء المضغ إلى حين تصير جزأ من العضو يعرض له في كل آن تغير واستحالة من غير أن يكون ذلك محصورا في عدد إلا أنهم نظروا إلى أعضاء الغذاء والعضو المغتذي وإلى ظهور التغيرات في الغاية فقالوا هضم الغذاء إما أن لا يلزمه خلع صورته وذلك هو الذي به يتغير إلى أن يصير كيلوسا وهو هضم المعدة وابتداؤه من الفم أو يلزمه خلع صورته فأما أن يلزم من كمال ذلك النضج حصول الصورة العضوية وهو الهضم الرابع ويكون في كل عضو أو لا يلزمه حصول الصورة العضوية فإما أن يلزمه حصول التشبه بها في المزاج وذلك هو الذي به يصير رطوبة ثانية وهو أن يكون في العروق أو لا يلزمه ذلك وهو الذي به تصير خلطا ويكون هذا في الكبد ويستدل على كون ابتداء الهضم المغذي في الفم بأن الحنطة الممضوغة تفعل في إنضاج الدماميل مالا تفعل المدقوقة المبلولة بالماء أو المطبوخة فيه وبأن ما يبقى من الطعام بين الأسنان يتغير وتنتن رائحته ويصير له كيفية مثل كيفية لحم الفم والسبب في ذلك أن سطح الفم متصل بسطح المعدة بل كأنهما سطح واحد بشهادة التشريح ولذلك يجعل ما في الفم والمعدة هضما واحدا لا كما سبق إلى بعض الأوهام من أن أول الهضوم في الفم والثاني في المعدة والثالث في الكبد والرابع في العروق حطا لما هو العمدة والغاية في الهضم أعني التغيير إلى جوهر العضو عن درجة الاعتبار وأما جعل الهضم الكبدي واحدا مع أن ابتداءه في الماساريقا أعني العروق الدقيقة الصلبة الواصلة بين الكبد وبين أواخر المعدة وجميع الأمعاء وليس لها اتحاد بالكبد فلأنه لا يظهر فيها للطيف الكيلوس المنجذب إليها تغيير يعتد به وحالة متميزة عن الكيلوسية التي حصلت في المعدة والخلطية التي تحصل في الكبد ثم لكل من هذه الهضوم فضل تندفع ضرورة أن الهاضمة لا يمكنها إحالة جميع ما يرد إليها من الغذاء إما لكثرته وإما لأن من أجزائه مالا يصلح أن يصير جزأ من المغتذي فالهضم الأول له فضل كثير لأنه يفعل في الغذاء وهو باق على طبيعته وأجزائه الصالحة وغير الصالحة وعلى كثرته الواردة على المعدة باختيار من الحيوان سيما الإنسان المفتقر باعتدال مزاجه إلى تنويع الأغذية وتكثيرها بالتركيب وغيره لا بمجرد انجذاب طبيعي للنافع وحده كما في باقي الهضوم وكما في غذاء النبات فلذا احتاج إلى منفذ يسع كثرة الفضلات وهو المخرج والهضم الثاني تكون فضلاته قليلة لطيفة لأن الغذاء يرد إليه بجذب طبيعي ومن منافذ ضيقة جدا فيخرج أكثرها بالبول والباقي من طريق الطحال والمرارة وأما الهضم الثالث والرابع فاندفاع فضولهما إما إن يكون خروجا طبيعيا أو لا والثاني إما أن يكون باقيا على خلطيته من غير تصرف للهضم الثالث كدم البواسير والدم الفاسد الخارج بالرعاف وغيره وإما أن يكون قد استحال استحالة غير تامة كالصديد
____________________
(2/4)
والقيح أو تامة إما إلى حالة تصلح للتغذية كالثقل النضيج الخارج في البول في حالة الصحة مما فات القوة الغاذية أو لا كالمدة الخارجة من الأورام المنفجرة والأول وهو ما يكون خروجه طبيعيا إما أن يجمع إلى منفعة الانتقاص منفعة أخرى أو لا فالأول إما أن يكون تلك المنفعة توليد جسم متصل بالبدن من جنس الأعضاء وهو مادة الظفر أو لا وهو مادة الشعر أو غير متصل وهو مادة الولد أعني المني أو يكون غير توليد جسم آخر وحينئذ فتلك المنفعة قد تتعلق بالمني كالودي الحافظ لرطوبة المني المسهل لخروجه وقد يتعلق بالجنين حال تكونه كالطمث أو حال خروجه كالرطوبات الكائنة حالة الولادة أو بعد ذلك كاللبن وقد لا تتعلق بهما أو ذلك إما لدفع ضرر شيء يخرج من البدن كالودي الكاسر بلعابيته لحدة البول أو يدخل فيه كوسخ الأذن القاتل بمرارته لما يدخل فيها من الذباب ونحوه وإما لا لدفع ضرر شيء كاللعاب المعين على الكلام بترطيبه اللسان والثاني وهو مالا يجمع إلى منفعة الانتقاص منفعة أخرى إما أن يتكون عنه جسم آخر منفصل كمادة القمل أو غير منفصل كمادة الحصا وإما أن لا يتكون وهو إما أن لا يكون محسوسا البتة كالبخار المتحلل أو يكون محسوسا أحيانا كوسخ البدن الكائن من فضل خذائه فإنه لا يحس إلا أن يجمع أو دائما وخروجه إما أن يكون من منفذ محسوس كالمخاط أو غير محسوس كالعرق قال فتصير الأخلاط الأربعة يعني الدم والبلغم والصفراء والسوداء وذلك بحكم الاستقراء فإن الحيوان سواء كان صحيحا أو مريضا يجد دمه مخالطا لشيء كالرغوة وهو الصفراء أو لشيء كالرسوب وهو السوداء أو لشيء كبياض البيض وهو البلغم وما عدا هذه الثلاثة فهو الدم وقد يقال أن الكيلوس إذا انطبخ فإن كان معتدلا فالدم وإن كان قاصرا فالبلغم والسوداء وإن كان مفرطا فالصفراء وأيضا فإن الأخلاط تتكون من الأغذية المركبة من الأسطقسات الأربعة فبحسب غلبة قوة واحد واحد منها يوجد خلط خلط وايضا الغذاء شبيه بالمغتذي وإن في البدن عضوا باردا يابسا كالعظم وباردا رطبا كالدماغ وحارا رطبا كالكبد وحارا يابسا كالقلب فيجب أن تكون الأخلاط كذلك ليغتذي كل عضو بما يناسبه هذا والحق أن الغازية بالحقيقة هو الدم وباقي الأخلاط كالأبازير المصلحة ولهذا كان أفضل الأخلاط وأعدلها مزاجا وقواما وألذها طعما وفسروا الخلط بأنه جسم رطب سيال يستحيل إليه الغذاء أو لا واحترز بالرطب أي سهل القبول للتشكل عند عدم مانع من خارج عن مثل العظم والغضروف وبالسيال أي ما من شأنه أن ينبسط أجزاء متسفلة بالطبع حيث لا مانع عن مثل اللحم والشحم إن قلنا بكونهما رطبين والمراد بالاستحالة التغير في الجوهر بحرارة البدن وتصرف الغاذية بقرينة التعدية بإلى إذ يقال في العرف استحال الماء إلى الهواء وقلما يقال استحال الماء الحار إلى البارد بل باردا وبه احترز عن الكيلوس الذي يستحيل إليه الغذاء أو لا في كيفيته والمراد بالغذاء ما هو المتعارف
____________________
(2/5)
من مثل اللحم والخبز وسائر ما يرد على البدن فيغذوه واحترز بقيد الأولية عن الرطوبات الثانية وعن المني فإن الغذاء إنما يستحيل إليهما بعد الاستحالة إلى الخلط وقد يرد عليه إشكال بالخلط المتولد من الخلط كالدم من البلغم ويدفع بأن المراد استحالة الغذاء أو لا في الجملة وكل خلط فرض فإن من شأنه أن الغذاء يستحيل إليه أو لا ثم لا خفاء في أن مثل اللحم والعظم وجميع ما عدا الخلط يخرج بهذا القيد فذكر الرطب والسيال يكون مستدركا بل مخلا بالانعكاس إذ يخرج البلغم الحصى والسوداء الرمادية فإنهما غير سيالين بحكم المشاهدة والقول بأن عدم السيلان لمانع ليس بقادح ضعيف قال ثم يتشبه به أي يصير ما يليق بالعضو ويرشح عليه شبيها به في المزاج والقوام واللون والالتصاق أعني صيرورته جزأ من العضو على النسبة الطبيعية من غير أن يبقى متميزا عنه مترهلا كما في الاستسقاء اللحمي فإن ذلك إخلال بفعل الالتصاق كما أن البرص والبهق إخلال بالتشبه في اللون وأما الذبول فإخلال بتحصيل جوهر الغذاء ومن الإخلال بالفعل ما وقع في المواقف أن الاستسقاء اللحمي إخلال بالقوام والذبول إخلال بالالتصاق ولا أدري كيف يقع مثله لمثله واعلم أنه إذا لم يكمل القوام فهي رطوبة رذاذية طلية قد التصقت بالعضو وانعقدت واستحالت إليه من جهة المزاج لكن لقرب عهدها بالانعقاد لم تصلب بعد ولم يحصل لها قوام العضو واعترض بأنها حينئذ لا تكون على مزاج العضو لما فيها من زيادة مائية لا بد من تحللها ورد بأنه يجوز أن تكون الاستحالة إلى قوام العضو لا بتحلل المائية بل بمجرد الانعقاد كاللحم يتولد من منتن الدم ويعقده الحر والشحم من مائيته ودسميه ويعقده البرر قال والمشاكلة المعتبرة بين الغذاء والمغتذى فيه إشارة إلى أمرين
أحدهما أن الغذاء قد يطلق على ما هو بالفعل أعني الجسم الذي ورد على البدن واستحال إلى الصورة العضوية وصارت جزأ منه شبيها به لكن لم يحصل له القوام التام الذي للعضو للقطع بأنه لا يقال للأجزاء الكاملة من العضو أنها غذاء له وقد يطلق على ما هو بالقوة البعيدة أعني الجسم الذي من شأنه إذا ورد على البدن وانفعل عن حرارته أن يستحيل إلى الغذاء بالفعل كالخبز واللحم أو القريبة أعني الجسم المعد في البدن لأن يصير غذاء بالفعل كالأخلاط وبعض الرطوبات الثانية أعني التي تستحيل إليها الأخلاط وهل تطلق على الكيلوس منعه بعضهم
وثانيهما أن المراد بالمشاكلة في قولهم حفظ الصحة تكون بالمشاكل كما أن علاج المريض يكون بالمضاد موافقة مزاج الغذاء حين ما هو غذاء بالفعل لمزاج المغتذي حتى أن غذاء صاحب المزاج الحار ينبغي أن يكون باردا بحيث إذا تصرف فيه طبيعته فصار غذاء بالفعل استحال عن البرد وصار حارا مشاكلا لجوهر بدنه إلا أن يكون حارا مثل مزاجه وإلا لصار عند الهضم أحر مما ينبغي
____________________
(2/6)
وأسقمه وربما صار من قبيل الأدوية بل السموم وكذا غذاء بارد المزاج ينبغي أن يكون حارا ليصير عند الهضم في بدنه البارد باردا مثله وبهذا يندفع الاعتراض بأنه لو كان حفظ الصحة بالمشاكل لزم أن يكون غذاء من هو حار المزاج جدا بالمسخنات مثل العسل والفلفل وبارد المزاج بالمبردات وبطلانه ظاهر قال ومنها أي ومن القوى الطبيعية النامية وهي القوة التي تزيد في أقطار الجسم أعني الطول والعرض والعمق على التناسب الطبيعي بما تدخل في أجزائه من الغذاء فخرج ما يفيد السمن لأنه لا يكون زيادة في الطول وفيه نظر والورم لأنه لا يكون على التناسب الطبيعي أي النسبة التي تقتضيها طبيعة ذلك الشخص والتخلخل لأنه لا يكون بما يدخل في الجسم بل بانبساط جرمه وأما التخلخل بمعنى الانتفاش أعني مداخلة الأجزاء الهوائية فلو سلم تناول الجنس أعني القوة الطبيعية لما يفيده لخرج بقيد الغذاء لظهور أن الأجزاء الهوائية ليست غذاء للمتنفس والأكثرون على أن قيد مداخلة الغذاء في أجزاء الجسم يخرج السمن أيضا لأنه لا يدخل في جوهر الأعضاء الأصلية المتولدة عن المني بل في الأعضاء المتولدة عن الدم ومائيته كاللحم والشحم والسمن وما ذكره الإمام من أن قيد الأقطار يخرج الزيادات الصناعية كما إذا أخذت شمعة وشكلتها بشكل فإنك متى نقصت من طولها زدت في عرضها كلام قليل الجدوى لأن الكلام في القوى الطبيعية وفي أن تكون الزيادة بمداخلة الغذاء وإلا فلا خفاء في أنك إذا ضممت ومزجت بالشمعة قدرا آخر من الشمع حصلت الزيادة في الأقطار وإنما قدمنا في المتن قيد المداخلة نظرا إلى الوجود وفي الشرح قيد الزيادة نظرا إلى الظهور ولا يخفى أن إطلاق النامية على القوة بالنظر إلى الوضع اللغوي من قبيل سيل مفعم على لفظ اسم المفعول وذلك لأن فعلها إنما هو الإنماء والنامي إنما هو الجسم قبل الزيادة التي بها يحصل النمو ليست في الجسم الأصلي ولا الوارد لأن كلا منهما على حاله فإذن كل منهما كما كان وإنما انضاف جسم إلى جسم فصار المجموع أعظم من كل منهما وهذا المجموع لم يكن قبل ذلك صغيرا ثم عظم فإذن ليس ههنا جسم نام وأجيب بمنع المقدمة الأولى على ما قال ابن سينا أن القوة النامية تفرق أجزاء الجسم بل اتصال العضو وتدخل في تلك المسام الأجزاء الغذائية ولا يلزمه الإيلام لأن ذلك إنما هو في التفريق الغير الطبيعي وبالجملة لما كان معنى النمو صيرورة الجسم أعظم مما كان بالطريق المخصوص كان النامي هو ذلك الجسم الذي ورد عليه الغذاء وهو في أول الأمر الجسم الأصلي ثم الحاصل بالتغذية والتنمية وهكذا إلى أن يبلغ كمال النشو قوله وقد يقال إشارة إلى ما ذكره الإمام من أن فعل النامية إيراد الغذاء إلى العضو وتشبيهه به وإلصاقه كالغاذية إلا أن الغاذية تفعل هذه الأفعال بحيث يكون الوارد مساويا للمتحلل والنامية تفعل أزيد من المتحلل ولا شك أن القادر
____________________
(2/7)
على الشيء قادر على مثله والجزء الزائد مشابه للأصل فإذا قويت الغاذية على تحصيل الأصل قويت على تحصيل الزايد وتكون هي النامية إلا أنها في الابتداء تكون قوية على إيراد بدل الأصل والزايد معا لشدة القوة على الفعل وكثرة المادة أعني الرطوبة وقلة الحاجة بواسطة صغر العضو وبعد ذلك يعود الأمر إلى النقصان لضعف في القوة وقلة في المادة وعظم في العضو واعترض بأن التغذية والتنمية فعلان مختلفان فلا يستندان إلى مبدأ واحد حتى أن أمر التغذية والتنمية لما كان بإيراد البدل والتشبيه والإلصاق أسندوه إلى قوي ثلاث وهذا ما قال في الشفاء إن شأن الغاذية أن تؤتى كل عضو من الغذاء بقدر عظمه وصغره وتلصق به من الغذاء بمقداره الذي له على السواء وأما النامية فتسلب جانبا من البدن من الغذاء ما يحتاج إليه الزيادة في جهة أخرى فتلصقه بتلك الجهة لتزيد تلك الجهة فوق زيادة جهة أخرى بيان ذلك ان الغاذية إذا انفردت وقوي فعلها وكان ما تورده أكثر مما يتحلل فإنها تزيد في عرض الأعضاء وعمقها زيادة ظاهرة بالتسمين ولا تزيد في الطول زيادة يعتد بها والنامية تزيد في الطول أكثر كثيرا مما تزيد في العرض ( قال ولهذا لما أدى الضعف ) إشارة إلى ما ذكروا في ضرورة الموت من جهة القوى الفاعلية وفسروا الموت بتعطيل القوى عن الأفعال لانطفاء الحرارة الغريزية التي هي آلتها فإن كان ذلك لانتهاء الرطوبة الغريزية إلى حد لا يفي ما يقوم بها من الحرارة الغريزية بأمر القوى وأفعالها فموت طبيعي وإلا فغير طبيعي وحاصل الكلام أن لبطلان الرطوبة الغريزية أسبابا ضرورية فيكون ضروريا فيكون انطفاء الحرارة ضروريا لبطلان مادته فيكون تعطل القوى ضروريا لبطلان آلتها وتلك الأسباب مثل انتشاق الهواء المحيط للرطوبة من الخارج ومعاونة الحرارة الغريزية من الداخل ومعاضدة الحركات البدنية والنفسانية الضرورية في ذلك مع عجز الطبيعة عن مقاومة تلك المخللات بإيراد البدل دائما لما سبق من تناهي القوى الجسمانية على أن هناك أمرا آخر يعين على إطفاء الحرارة الغريزية بطريق الغمر لغلبته في الكم وبطريق القمر لمضادته في الكيف وهو ما يستولي من الرطوبة الغريبة الباردة البلغمية بواسطة قصور الهضم هذا ولو فرضنا فعل الغاذية أعني إيراد البدل دائما غير متناه فليس التحلل دائما على حد واحد بل يزداد يوما فيوما لدوام المؤثر أعني المحللات المذكورة في متأثر واحد هو الرطوبة الغريزية فالبدل لا يقاومه فبالضرورة يتأدى الأمر إلى إفناء التحلل للرطوبة بل لو فرضنا البدل دائما على مقدار المتحلل فلا خفاء في أنه لا يقاومه لقصوره بحسب الكيفية لأن الرطوبة الغريزية تخمرت ونضجت في أوعية الغذاء ثم في أوعية المني ثم في الرحم والبدل لم يتخمر إلا في الأولى فيكون إبراده بدلا منها كإبراد الماء بدلا من الدهن في السراج قال ومنها المولدة وهي قوة شأنها تحصيل البذر وتفصيله إلى أجزاء مختلفة وهيئات مناسبة وذلك بأن تفرز جزأ من
____________________
(2/8)
الغذاء بعد الهضم التام ليصير مبدأ لشخص آخر من نوع المغتذي أو جنسه ثم تفصل ما فيه من الكيفيات المزاجية فتمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو ثم تفيده بعد الاستحالات الصور والقوى والأعراض الحاصلة للنوع الذي انفصل عنه البذر أو لجنسه كما في البقل والمحققون على أن هذه الأفعال مستندة إلى قوى ثلاث بينوا حالها على ما عرف في الإنسان وكثير من الحيوانات الأولى التي تجذب الدم إلى الأنثيين وتتصرف فيه إلى أن يصير منيا وهي لا تفارق الأنثيين وتخص باسم المحصلة والثانية التي تتصرف في المني فتفصل كيفياتها المزاجية وتمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو فتعين مثلا للعصب مزاجا خاصا وللشريان مزاجا خاصا وللعظم مزاجا خاصا وبالجملة تعد مواد الأعضاء وتخص هذه باسم المفصلة والمغيرة الأولى تمييزا عن المغيرة التي هي من جملة الغاذية أعني التي تغير الغذاء الوارد على البدن إلى مشاكلة أعضائه فإنها إنما تكون بعد تصرف المغيرة الأولى وحصول البدن بأعضائه والثالثة التي تفيد تمييز الأجزاء وتشكيلها على مقاديرها وأوضاع بعضها عند بعض وكيفياتها وسائر ما يتعلق بنهايات مقاديرها وبالجملة تلبس كل عضو صورته الخاصة به فيكمل وجود الأعضاء وهذه تخص باسم المصورة ومحلها المني كالمفصلة وفعلهما إنما يكون في الرحم وكلام القوم متردد في أن المولدة اسم للقوى الثلاث جميعا أو للمحصلة وحدها أولها وللمفصلة معا والأول هو المفهوم من الشفاء والإشارات حيث حصر القوى الطبيعية في الغاذية والنامية والمولدة من غير تعرض للمصورة ولذا قال الشارح الإشارات أن المولدة للمثل تنقسم إلى نوعين مولدة ومصورة والمولدة إلى نوعين محصلة ومفصلة فأراد بالمولدة أو لا المتصرفة لحفظ النوع ليعم الأقسام وثانيا المتصرف لا على وجه التصوير ليكون أخص بل كلام الشفاء صريح فيما ذكرنا لأنه قال المولدة قوة تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزأ هو شبيه بالقوة فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تشبه به من التحليق والتمزيج ما يصيره شبيها به بالفعل وقال للمولدة فعلان أحدهما تخليق البذر وتشكيله وتطبيعه والثاني إفادة أجزائه في الاستحالة الثانية صورها من القوى والمقادير والأعداد والأشكال والخشونة والملاسة وما يتصل بذلك متسخرة تحت قدرة المنفرد بالجبروت عز شأنه والثاني أعني كون المولدة اسما للمحصلة مذهب بعض الأقدمين وبه يشعر ما نقل عن ابن سينا أن القوة المولدة تخدمها القوتان اللتان إحداهما المفصلة والأخرى المصورة والثالث أعني كونها اسما لما يعم المحصلة والمفصلة مذهب الجمهور والمصرح به في القانون حيث قال أن القوة المتصرفة لبقاء النوع تنقسم إلى نوعين إلى المولدة والمصورة والمولدة نوعان نوع يولد المني في الذكر والأنثى ونوع يفصل القوى التي في المني فيمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو قال ونفاها بعضهم إشارة إلى ما ذكره الإمام واختاره بعض الحكماء المتأخرين وهو أن العقل قاطع بامتناع
____________________
(2/9)
صدور هذه الأفعال المختلفة والتركيبات العجيبة الدالة على غاية القدرة والحكمة على قوة بسيطة ليس لها شعور أصلا مع أنها حالة في جسم متشابه الأجزاء أو متشابه الامتزاج على اختلاف الرأيين إذ عند أرسطو جزء المني كالكل في الاسم والحد من غير اختلاف في الحقيقة لكونه منفصلا عن الأنثيين فقط وعند بقراط أجزاء المني مختلفة بالحقائق متمايزة في نفس الأمر إذ يخرج من اللحم جزء شبيه به ومن العظم جزء شبيه به وكذا سائر الأعضاء غاية الأمر أنها غير متمايزة في الحس وهذا معنى تشابه الامتزاج ولكل من الفريقين احتجاجات مذكورة في موضعها فعلى الأول يلزم أن يكون الشكل الحادث من فعل المصورة في المني هو الكرة على ما هو شأن فعل القوة الغير الشاعرة في المادة المتشابهة وعلى الثاني يلزم أن يكون الحاصل كرات مصمونة بعضها إلى بعض وأن لا يبقى وضع الأعضاء وترتيبها على نسبة واحدة لكون المني رطوبة سيالة لا يحفظ الوضع والترتيب فإن قيل إنما يمتنع اختلاف آثار القوة العديمة الشعور في المادة الواحدة لو لم تفد القوة المفصلة فيها تمييزا أجزاء واختلاف مواد للأعضاء قلنا فيعود الكلام إلى القوة المفصلة فإن اعترفوا بأن القوى في مرتبة الوسائط والآلات لا الفواعل والمؤثرات والمؤثر إنما هو خالقها القادر المختار الفعال لما يشاء فقد اهتدوا ولم يبق سبيل إلى إثبات القوى والحاصل أن ما يدرك بعلم التشريح من الصور والكيفيات والأوضاع في بدن الإنسان يمتنع أن يجعل فعل القوة المصورة في مادة المني إما من جهة الفاعل فلكونه عديم الشعور وإما من جهة القابل فلكونه متشابها وقد يجاب عن الأول بأنه استبعاد وإنما يمتنع لو لم يكن ذلك بإذن خالقها بمعنى أنه خلقها لذلك وأوجدها كذلك وعن الثاني بأنه لو سلم بساطة القوة المصورة وتشابه أجزاء المني فلا خفاء في أنه من أجسام مختلفة الطبائع وحينئذ لا يلزم أن يكون الحيوان كرة أو كرات إذ لا يلزم أن يكون فعل القوة في المركب فعلها في واحد واحد من الأجزاء قال وأما الاعتراض قد يورد ههنا سؤال وهو أن الفلاسفة يجعلون المولدة والمصورة وغيرهما قوى للنفس وآلات لها والنفس حادثة بعد حدوث المزاج وتمام صور الأعضاء فالقول باستناد صور الأعضاء إلى المصورة قول بحدوث الآلة قبل ذي الآلة وفعلها بنفسها من غير مستعمل إياها وهو باطل وجوابه بعد تسليم أن النفس ليست بقديمة كما هو رأي بعض الفلاسفة ولا حادثة قبل حدوث البدن كما هو رأي بعض المليين أن ذلك إنما يرد لو جعلت المصورة من قوى النفس الناطقة للمولود وأما لو جعلت من قوى نفسه النباتية المغايرة بالذات لنفسه الناطقة كما هو رأي البعض أو من قوى النفس الناطقة للأم فلا إشكال إلا أن كلامهم مضطرب في ذلك على يشعر به اضطرابهم
____________________
(2/10)
في أن الجامع لأجزاء البدن هل هو الحافظ لها أم لا وفي أنه نفس المولود أم غيرها فذكر الإمام أن الجامع لأجزاء النطفة نفس الوالدين ثم أنه يبقى ذلك المزاج في تدبير نفس الأم إلى أن يستعد لقبول نفس ثم أنها تصير بعد حدوثها حافظة له وجامعة لسائر الأجزاء بطريق إيراد الغذاء ونقل عن ابن سينا أن الجامع لأجزاء بدن الجنين نفس الوالدين والحافظة لذلك الاجتماع أو لا القوة المصورة لذلك البدن ثم نفسه الناطقة وتلك القوة ليست واحدة في جميع الأحوال بل هي قوى متعاقبة بحسب الاستعدادات المختلفة لمادة الجنين وذكر في الشفاء أن النفس التي لكل حيوان هي جامعة اسطقسات بدنه ومؤلفتها ومركبتها على نحو يصلح معه أن يكون بدنا لها وهي حافظة لهذا البدن على النظام الذي ينبغي والأشبه بمقتضى قواعدهم ما ذكر في شرح الإشارات وهو أن نفس الأبوين تجمع بالقوة الجاذبة أجزاء غذائية ثم تجعلها أخلاطا وتفرد منها بالقوة المولدة مادة المني وتجعلها مستعدة لقبول قوة من شأنها إعداد المادة لصيرورتها إنسانا فتصير بتلك القوة منيا وتلك القوة تكون صورة حافظة لمزاج المني كالصورة المعدنية ثم إن المني يتزايد كما لاقى الرحم بحسب استعدادات يكتسبها هناك إلى أن يصير مستعد القبول نفس اكمل يصدر عنها مع حفظ المادة الأفعال النباتية فيحدث الغذاء ويضيفها إلى تلك المادة فيتمها وتتكامل المادة بتربيتها إياها فتصير تلك الصورة مصدرا مع ما كان يصدر عنها بهذه الأفاعيل وهكذا إلى أن تصير مستعدة لقبول نفس اكمل يصدر عنها مع جميع ما تقدم الأفعال الحيوانية أيضا فيصدر عنها تلك الأفعال أيضا فيتم البدن ويتكامل إلى أن يصير مستعد القبول نفس ناطقة يصدر عنها مع جميع ما تقدم النطق وتبقى مدبرة في البدن إلى أن يحل الأجل وقد شبهوا تلك القوى في أحوالها من مبدأ حدوثها إلى استكمالها نفسا مجردة بحرارة تحدث في فحم من نار مشتعلة مجاورة ثم تشتد فإن الفحم بتلك الحرارة يستعد لأن يتجمر وبالتجمر يستعد لأن يشتعل نارا شبيهة بالنار المجاورة فمبدأ الحرارة الحادثة في الفحم كتلك الصورة الحافظة واشتدادها كمبدأ الأفعال النباتية وتجمرها كمبدأ الأفعال الحيوانية واشتعالها نارا كالناطقة وظاهر أن كل ما يتأخر يصدر عنه مثل ما صدر عن المتقدم وزيادة فجميع هذه القوى كشيء واحد متوجه من حد ما من النقصان إلى حد ما من الكمال واسم النفس واقع منها على الثلاث الأخيرة فهي على اختلاف مراتبها نفس البدن المولود وتبين من ذلك أن الجامع للأجزاء الغذائية الواقعة في المنيين هو نفس الأبوين وهو غير حافظها والجامع للأجزاء المضافة إليها إلى أن يتم البدن وإلى آخر العمر والحافظ للمزاج هو نفس المولود قال ثم لهم تردد يعني لما كان كلامهم في باب القوى مبنيا على الحدس والتخمين دون القطع واليقين وقع مترددا في عدة مواضع منها أن الغاذية والنامية والمولدة قوى متعددة بحسب الذات أم بمجرد الاعتبار
____________________
(2/11)
ويكون اختلاف الأفعال والآثار راجعا إلى اختلاف الآلات والاستعدادات مثلا تفعل الغاذية النمو فيما إذا كان الوارد زائدا على المتحلل والتوليد فيما إذا صار صالحا لأن يصير منيا وحاصلا في الأنثيين ويعرض لأفعالها قوة أو ضعف في بعض الأحوال لأسباب عائدة إلى المواد والآلات وزيادة الحرارة الغريزية ونقصانها وكذا تفاوت في الحدوث بأن يحدث التوليد بعد التغذية والتنمية ويبقى اليد دون التنمية وتبقى التغذية دون التنمية والتوليد وما تقرر عندهم من أن أثر الواحد لا يكون إلا واحدا فإنما هو في الواحد بجميع الجهات ومنها أن النفس النباتية اسم لهذه القوى في النبات وكذا الحيوانية في الحيوان أم هي صورة جوهرية مبدأ لهذه القوى في النبات وللحس والحركة أيضا في الحيوان ولإدراك المعقولات ايضا في الإنسان ومنها أن الغاذية هل هي مغايرة بالذات للجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة أم لا بل هي عبارة عنها كما يشعر به كلام جالينوس وغيره وأيضا ذهب بعضهم إلى أن الأربعة واحدة بالذات متغايرة بالاعتبار بمعنى أن هناك قوة واحدة فعلها جذب عند الإدرار إمساك بعد الإدرار هضم بعد الإمساك دفع بعد الانهضام ومنها أن الغاذية على تقدير مغايرتها للبواقي هل هي قوة واحدة فعلها التحصيل والتشبيه والإلصاق أم قوى ثلاث متغايرة بالذات مبادي للأفعال الثلاثة وميل ابن سينا إلى الثاني وهو الظاهر من قواعدهم ثم أنها نفس القوى الثلاث لا قوة أخرى تستخدمها لأنه ليس هناك فعل آخر غير إيراد البدل والتشبيه والإلصاق ومنها أنه كيف تصدر هذه الأفعال المتقنة المحكمة على النظام المخصوص عن القوى التي هي أعراض قائمة بالأعضاء لا يتصور لها قدرة وإرادة أو علم خصوصا إذا تؤمل في الصور العجيبة والأشكال الغريبة والنقوش المؤتلفة والألوان المختلفة الموجودة في أنواع النبات والحيوان فإن العقل لا يكاد يذعن لصدورها عن القوة التي سموها مصورة وإن فرضنا كونها مركبة وكون المواد مختلفة كيف وقد ورد الكتاب الإلهي في عدة مواضع باستناد جميع ذلك إلى الله سبحانه وتعالى وأشار إلى دلالتها على كونه قادرا حكيما وصانعا قديما والفلاسفة أيضا لما رجعوا إلى الفطرة السليمة صرحوا بأن هذه القوى إنما تفعل ذلك بإذن خالقها القدير وموجدها الحكيم الخبير ومنهم من قال نحن نعلم قطعا أن ما في التغذية والتنمية والتوليد من الحركات إلى الجهات المختلفة ومن الإلصاقات ومن التشكيلات لا يصح بدون الإدراك وأن هذا الإدراك ليس للنفس الإنسانية فإن هذه الأفعال دائمة في البدن والنفس غافلة عنها وتحدس حدسا موجبا لليقين أن الحيوانات العجم أيضا لا تدرك أفعال هذه القوى في أبدانها فإذن هو إدراك موجود آخر له اعتبار بهذه الأنواع ( قال خاتمة ) لا خلاف في أن النبات ليس بحيوان لأن المراد به ما علم فيه تحقق الحس والحركة وإنما الخلاف في حياته فقيل هو حي لأن الحياة صفة هي مبدأ التغذية
____________________
(2/12)
والتنمية وقيل لا إذا الحياة صفة هي مبدأ الحس والحركة الإرادية واعترض بأنا لا نسلم انتفاء ذلك في النبات غاية الأمر انتفاء العلم بتحققه فيه ومنهم من ادعى تحققه فيه مستشهدا بالإمارات على ما سبق ومنهم من بالغ في اتصافه بالإدراك حتى أثبت له إدراك الكليات وهو المعنى بالعقل زعما منه أن ما يشاهد من ميل إناث التخيل إلى بعض الذكور دون البعض وميل عروقها إلى الصوب الذي فيه الماء وانحرافها في صعودها عن الجدار المجاور لا يتأتى بدون ذلك وهذا ينسب إلى جمع من قدماء الحكماء قال المبحث الثالث لا خفاء في اشتراك القوى الطبيعية بين النبات والحيوان وإن كان اشتراكا بمجرد المفهوم دون الحقيقة للقطع بأن غاذية الحيوان تخالف بالنوع غاذية النبات بل صرح ابن سينا بأن غاذية كل عضو تخالف بالنوع غاذية عضو آخر ثم الحيوان يختص بقوى أخرى مدركة ومحركة تسمى نفسانية نسبة إلى النفس الحيوانية أو إلى النفس الناطقة لكونها في الإنسان أكمل منها في سائر الحيوانات وذلك لأن الحيوان لزيادة اعتداله قد يختص بما ينفعه ويلائمه وبما يضره وينافيه فاحتاج إلى طلب للنافع وهرب من الضار وذلك بإدراكهما والاقتدار على الحركة إلى النافع وعن الضار بخلاف النبات فإنه ليس في ذلك الاعتدال ولو كان فإنه مركوز في موضعه لا يمكنه التحرك عن شيء إلى شيء فيكون قوة الإدراك والتحريك فيه ضايعا بل ربما يكون ضائرا ثم كلامهم متردد في أن القوى النفسانية جنس للمدركة والمحركة أو بمنزلة الجنس وكذا في انقسام كل منهما إلى ما له من الأقسام بل في جميع الانقسامات الواقعة في باب القوى وذلك لأن معرفة الأجناس والفصول وتمييز الذاتيات والعرضيات عسيرة جدا في الحقائق المدركة بالعيان فكيف فيما لا يعرف إلا من جهة الآثار ولا يعقل إلا بحسب الإضافات والاعتبارات ككون الشيء مبدأ التغير في آخر قال وقد يثبت يعني أن الأطباء يثبتون جنسا آخر من القوى تسمونها القوة الحيوانية ويجعلونها مبدأ القوى النفسانية حيث يفسرونها بالقوة التي إذا حصلت في الأعضاء هيأتها لقبول الحس والحركة وأفعال الحياة كجعل الغذاء بحيث يصلح لتغذية بدن الحيوان وكحركات الانبساط عند الغضب والفرح والانقباض عند الخوف والغم ويستدلون على ذلك بأن في العضو المفلوج أو الذابل قوة تحفظ عليه الحياة وتمنعه النقض والفساد وليست هي قوة الحس والحركة لفقدها في المفلوج ولا قوة التغذية لفقدها في الذابل فهي التي تسميها القوة الحيوانية واعترض عليه من وجهين
أحدهما أنا لانم انتفاء قوة الحس والحركة في المفلوج وقوة التغذية في الذابل لجواز أن توجد القوة ولا يترتب عليها الفعل لفقد شرط أو وجود مانع فإن قيل لو انتفى الشرط أو وجد المانع لما ترتب حفظ الحياة قلنا يجوز أن يكون لبعض الشروط والموانع اختصاص ببعض الأفعال دون البعض فإن قيل القوة الواحدة لا تكون مبدأ إلا لفعل واحد قلنا فأي حاجة إلى ما ذكر
____________________
(2/13)
من المقدمات والجواب أن الفلاسفة معترفون بانتفاء القوتين في المفلوج والذابل وثانيهما أن الحافظ يجوز أن يكون المزاج الخاص أو تعلق النفس بالبدن والجواب أن الكلام فيما يحفظ المزاج الخاص الذي به قوام الحياة في الحيوان الناطق وغيره وفيه نظر لأنهم لا يعنون بالنفس الجوهر المجرد بل مبدأ الحركات والأفاعيل المختلفة أو مبدأ الإدراك والتحريك الإرادي قال أما المدركة فالحواس الظاهرة والباطنه لأن الكلام في القوى التي يشترك فيها الإنسان وغيره من الحيوانات وأما القوة النطقية المدركة للكليات فستأتي في بحث النفس وكل منهما أي من قسمي القوة المدركة جنس أو بمنزلة الجنس لقوى خمسة كما أن المدركة جنس أو بمنزلة الجنس للقسمين وذلك ظاهر في الحواس الظاهرة لما أن كل أحد يجد من نفسه تلك الإدراكات ويعلقها بما يخصها من الآلات وأما الباطنة فتثبت بالبرهان كما سيأتي على التفصيل ثم لا جزم للعقل بامتناع حاسة سادسة من الظاهرة أو الباطنة إذ الممكن قد لا يوجد لانتفاء شرط من شرائط الوجود وما يقال أن الطبيعة لا تنتقل من درجة الحيوان إلى درجة فوقها إلا وقد استكملت جميع ما في تلك الدرجة فلو كان في الإمكان حس آخر لكان حاصلا للإنسان لأنه أعدل ما في هذا العالم ضعيف وكذا ما يقال ان الإدراك كمال للنفس وهي مستعدة لحصول الكمال ولا ضنة من جانب الواهب فلو أمكن وجود قوة أخرى إدراكية لكانت حاصلة للنفس ومنهم من زعم أن مدرك اللذة والألم حاسة أخرى غير العشر فإن من التذ أو تألم يجد من نفسه حالة إدراكية مغايرة لتعقل اللذة والألم وتحيلهما ويشبه أن تكون جميع الوجدانيات من الجوع والعطش والخوف والغضب وغيرهما بهذه المثابة فإنا نجد عند تحقق هذه المعاني حالة إدراكية مغايرة لحالة تعقلها بصورها الكلية أو تخيلها بصورها الجزئية والجواب أن اللذة مثلا من قبيل الإدراكات لأنها إدراك حسي أو عقلي ونيل لما هو عند المدرك كمال وخير لا من قبيل المدركات ليطلب لها حاسة تدركها وفيه نظر وأما المحسوسات المشتركة مثل المقادير والأعداد والأوضاع والحركات والسكنات والأشكال والقرب والبعد والمماسة ونحو ذلك فليست كما يظن أن مدركها حس آخر بل إدراكها إنما هو بالحواس الظاهرة وإن كان بعضها قد يستعين بالبعض أو بضرب من القياس والتعقل قال أما الحواس الظاهرة فمنها اللمس هي قوة تأتي في الأعصاب إلى جميع الجلد وأكثر اللحم والغشاء من شأنها إدراك الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والخشونة والملاسة ونحو ذلك بأن ينفعل عنها العضو اللامس عند المماسة بحكم الاستقراء ولأنها لو أدركت البعيد أيضا لم يحصل التمييز بين ما يجب دفعه ومالا يجب فيفوت الغرض من خلق اللامسة أعني دفع الضارب وجلب النافع واللامسة للحيوان في محل الضرورة كالغاذية للنبات قال ابن سينا أول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس فإنه كما أنه للنبات قوة
____________________
(2/14)
غاذية يجوز أن تفقد سائر القوى دونها كذلك حال اللامسة للحيوان لأن مزاجه من الكيفيات الملموسة وفساده باختلافها والحس طليعة للنفس فيجب أن تكون الطليعة الأولى هو ما يدل على ما يقع به الفساد ويحفظ به الصلاح وأن يكون قبل الطلائع التي تدل على أمور تتعلق ببعضها منفعة خارجة عن القوام أو مضرة خارجة عن الفساد والذوق وإن كان دالا على الشيء الذي به تستبقى الحياة من المطعومات فقد يجوز أن يبقى الحيوان بدونه بإرشاد الحواس الآخر على الغذاء الموافق واجتناب المضاد وليس شيء منها يعين على أن الهواء المحيط بالبدن محرق أو مجمد وبالجملة فالجوع شهوة الحار اليابس والعطش شهوة البارد الرطب والغذاء ما يتكيف بهذه الكيفيات اللمسية وأما الطعوم فتطييبات فلذلك كثيرا ما يبطل حس الذوق أو غيره ويبقى الحيوان حيوانا بخلاف اللمس ولشدة الاحتياج إليه كان بمعونة الأعصاب ساريا في جميع الأعضاء إلا ما يكون عدم الحس أنفع له كالكبد والطحال والكلية لئلا يتأذى بما يلاقيها من الحاد اللذاع فإن الكبد مولد للصفراء والسوداء والطحال والكلية معينان لما فيه لذع وكالرئة فإنها دائمة الحركة فتتألم باصطكاك بعضها ببعض ومولد للأبخرة الحادة ومصيب ومصعد للمواد فيتأذى بذلك وكالعظام فإنها أساس البدن ودعامة الحركات بمعنى أنها تجعل الحركات أشد بجعل أعضائها أقوى فلو احست لتألمت بالضغط والمزاجة وبما يرد عليه من المصاكات قال وأثبتها أي القوة اللامسة بعضهم للفلكيات زعما منهم أنها من توابع الحياة وللأملاك حياة لكون حركاتها نفسانية فيكون لها شعور ولمس بالضرورة والقول بأنها إنما تكون بجذب الملائم ودفع المنافي فيكون وجودها في الفلك الممتنع عليه الكون والفساد معطلا مردود بأن ذلك إنما هو في الأرضيات وأما في الفلكيات فيجوز أن توجد لغرض آخر كتلذذها بالملامسة والاصطكاك والجواب منع كونها من لوازم الحياة على الإطلاق وأما ما ذهب إليه البعض من وجود الملامسة للعنصريات بناء على أن الأرض تهرب من العلو إلى السفل على نهج واحد والنار بالعكس وذلك يدل على شعورهما بالملائم وغير الملائم ففي غاية الضعف قال ومال ابن سينا إلى تعددها الجمهور على أن اللامسة قوة واحدة بها تدرك جميع الملموسات كسائر الحواس فإن اختلاف المدركات لا يوجب اختلاف الإدراكات ليستدل بذلك على تعدد مباديها وذكر ابن سينا في القانون أن أكثر المحصلين على أن اللمس قوى كثيرة بل قوى أربع وقال في الشفاء يشبه أن تكون اللامسة عند قوم لا نوعا أخيرا بل جنسا لقوى أربع أو فوقها منبثا معافى الجلد كله
إحداها حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد
والثانية في التضاد الذي بين الرطب واليابس
والثالثة في الذي بين الصلب واللين
والرابعة في الذي بين الخشن والأملس إلا أن اجتماعها في آلة واحدة يوهم تا حدها في الذات وقال أيضا يشبه أن تكون قوى
____________________
(2/15)
اللمس قوى كثيرة تختص كل واحدة منها بمضادة فيكون ما يدرك به المضادة التي بين الثقيل والخفيف غير ما يدرك به المضادة التي بين الحار والبارد فإن هذه أفعال أولية للحس يجب أن يكون لكل جنس منها قوة خاصة إلا أن هذه القوى لما انتشرت في جميع الآلات بالسوية ظنت قوة واحدة كما لو كان اللمس والذوق منتشرين في البدن كله انتشارهما في اللسان لظن مبدؤهما قوة واحدة فلما تميزا عرف اختلافهما وليس يجب أن يكون لكل واحدة من هذه القوى آلة تخصها يجوز أن تكون آلة واحدة مشتركة لها ويجوز أن يكون هناك انقسام في الآلات غير محسوس ثم قال فإن قيل فالسمع أيضا يدرك المضادة التي بين الصوت الثقيل والحاد والتي بين الصوت الخافت والجهير وغير ذلك فلم لم تجعل قوى كثيرة فالجواب أن محسوسة الأول هو الصوت وهذه أعراض لها وتوابع بخلاف اللمس فإن كل واحدة من المتضادات تحس لذاتها لا بسبب الآخر ولما كان السؤال في الذوق المدرك للطعوم المتضادة ظاهر أجاب الإمام بأن الطعوم وإن كثرت فبينها مضادة واحدة بخلاف الملموسات فإن بين الحرارة والبرودة نوعا من التضاد غير النوع الذي بين الرطوبة واليبوسة والحكماء أوجبوا أن يكون الحاكم على كل نوع من أنواع التضاد قوة واحدة تسمى بالشعور والتمييز وأنت خبير بأن دعوى تنوع التضاد في الملموسات إن كانت من جهة أن تنوع المعروضات يوجب تنوع الإضافات العارضة فالكل سواء وإن كانت بالنظر إلى نفس التضاد العارض فلا يتم بدون برهان وتفرقة ومن سخيف الكلام ما قيل أن تباين الكيفيات الأول أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أشد من تباين الكيفيات الثواني الحادثة من تفاعلها كالروائح والألوان والطعوم فلذلك تعددت قوى اللمس دون باقي الحواس وههنا بحث آخر وهو أن المدرك بالحس هو المتضادات كالحرارة والبرودة دون التضاد فإنه من المعاني العقلية فكيف جعلوا مبنى تعدد اللامسة تعدد أنواع التضاد وجوزوا إدراك القوة الواحدة للمدركات المتضادة كالباصرة للسواد والبياض ولم يجعلوا ذلك أفعالا مختلفة من مبدأ واحد بالذات والاعتبار قال ومنها الذوق هو تال للمس في المنفعة بحيث يفعل ما به يتقوم البدن وهو تشهية الغذاء واختياره ويوافقه في الاحتياج إلى الملامسة ويفارقه في أن نفس الملامسة لا تؤدي الطعم كما أن نفس ملامسة الحار تؤدي الحرارة بل لا بد من توسط الرطوبة اللعابية المنبعثة من الآلة المسماة بالملعبة بشرط خلوها عن طعم والألم تؤد الطعم لصحة كما في بعض الأمراض واختلفوا في أن توسطها بأن يخالطها أجزاء ذي الطعم مخالطة ينتشر فيها ثم ينفذ فيغوص في اللسان حتى يخالط اللسان فيحسه أو بأن يستحيل نفس الرطوبة إلى كيفية المطعوم ويقبل الطعم منه من غير مخالطة فعلى الأول تكون الرطوبة واسطة تسهل وصول جوهر المحسوس الحامل للكيفية إلى الخاص ويكون الإحساس بملامسة
____________________
(2/16)
الحاس للمحسوس بلا واسطة وعلى الثاني يكون المحسوس بالحقيقة هو الرطوبة ويكون بلا واسطة قال وما في اللسان يعني أن المطعومات كما تفيد ذوقا فقد يفيد بعضها لمسا إما مع تميزه في الحس كما في الحلو الحار وإما بدونه وحينئذ يتركب من الكيفية الطعمية ومن التأثير اللمسي شيء واحد يصير كطعم محض مثل الحرافة فإنها طعم مع تفريق وإسخان وكالحموضة فإنها طعم مع تفريق بلا إسخان وكالعفوصة فإنها طعم مع تجفيف أو تكثيف قال ومنها الشم الجمهور على أن إدراك الروائح بوصول الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى آلة الشم وقيل بتبخر وانفصال أجزاء من ذي الرائحة تخالطه الأجزاء الهوائية فتصل إلى الشامة وقيل بفعل ذي الرائحة في الشامة من غير استحالة في الهواء ولا تبخر وانفصال أجزاء ورد الثاني بأن القليل من المسك يشم على طول الأزمنة وكثرة الأمكنة من غير نقصان في وزنه وحجمه فلو كان الشم بالتبخر وانفصال الأجزاء لما أمكن ذلك والثالث بأن المسك قد يذهب به إلى مسافة بعيدة جدا أو يحرق ويفنى بالكلية مع أن رائحته تدرك في الهواء الأول أزمنة متطاولة تمسك الفريق الثاني بأن الشم لو لم يكن بالتبخر وتحلل الأجزاء اللطيفة وانفصالها من ذي الرائحة لما كانت الحرارة وما يهيجها من الدلك والتبخر تذكي الروائح ولما كان البرد الشديد يخفيها ولما ذبلت التفاحة بكثرة التشمم واللازم باطل بحكم المشاهدة والجواب منع الملازمة لجواز أن يكون ذلك من جهة أن التبخر وتحلل الأجزاء يعين على تكيف الهواء بكيفية ذي الرائحة وكثرة اللمس والتشمم على ذبول التفاحة وتحلل رطوباتها وتمسك الآخرون بأن النار مع شدة إحالتها لما يجاورها لا تسخن لا مسافة قريبة منها فكيف يحيل الجسم ذو الرائحة الهواء على مسافة بعيدة ربما تبلغ مسيرة أيام على ما حكى أرسطو أنه وقع ملحمة ببلاد يونان التي لا رخم فيها فسافرت الرخم إليها لروائح الجيف من مسيرة أيام والجواب أنه استبعاد ولا دليل على الامتناع سلمنا لكن وصول الهواء المتكيف إلى المسافات البعيدة على ما حكي يجوز أن يكون بهبوب رياح قوية ( وقال ومن الفلاسفة ) نقل عن أفلاطون وفيثاغورس وهرمس وغيرهم أن الأفلاك والكواكب لها شم وفيها روائح ورد عليهم المشاؤون بأنه لا هواء هنالك يتكيف ولا بخار يتحلل وأجيب بأن اشتراط ذلك إنما هو في العنصريات ومن كلمات بعض المتأخرين أنا عند اتصالنا بالفلكيات في نوم أو يقظة نشم منها روائح أطيب من المسك والعنبر بل لا نسبة لما عندنا إلى ما هناك ولهذا اتفق أرباب العلوم الروحانية على أن لكل كوكب بخورا مخصوصا ولكل روحاني رائحة معروفة يستنشقونها ويتلذذون بها وبروائح الأطعمة المصنوعة لهم فيفيضون على من يرتب ذلك ما هو مستعد له قال ومنها السمع قد سبق في بحث الصوت ما يغني عن شرح هذا الموضع والمراد بالهواء المتوسط هو المتموج الحامل للصوت سواء كان معلولا للقرع أو للقلع
____________________
(2/17)
ومعنى توسطه بين القارع والمقروع كونه بين الجزء الذي يفعل للصدم بعد الصدم وبين تجويف الصماخ وهذا ظاهر وإنما الإشكال في عبارة الشفاء وهو أن السامعة قوة مرتبة في العصب المتفرق سطح الصماخ يدرك صورة ما يتأدى إليه من تموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطا بعنف يحدث منه صوت فيتأدى تموجه إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويحركه بشكل حركته حيث اقتصر في سبب الصوت على القرع مع تصريحه بأنه قد يكون بالقلع قال ولا يمتنع إشارة إلى دفع إشكالين
أحدهما أن الهواء المتموج يمتنع أن يبقى على هيئته من تقطيعات الحروف وتشكيلاتها عند دخوله في المنافذ الضيقة ومصادماته للجدران الصلبة
وثانيهما أن الهواء الحامل للصوت إن قام الصوت بمجموعه لزم أن لا يسمعه إلا واحد من الحاضرين لأنه بمجموعه لا يصل إلا إلى صماخ واحد وإن قال بكل جزء منه لزم أن يسمعه كل سامع مرارا بعدد ما يتأدى إليه من أجزاء الهواء المتموج قال فما يحكى يعني إن كان حدوث الصوت وسماعه مشروطين بالهواء لم يكن لتماس الأفلاك صوت ولو فرض لم يكن وصوله إلينا لامتناع النفوذ في جرم الفلك لكن نسب إلى القدماء من الأساطين أنهم يثبتون للفلكيات أصواتا عجيبة ونغمات غريبة يتحير من سماعها العقل وتتعجب منها النفس وحكي عن فيثاغورس أنه عرج بنفسه إلى العالم العلوي فسمع بصفاء جوهر نفسه وذكاء قلبه نغمات الأفلاك وأصوات حركات الكواكب ثم رجع إلى استعمال القوى البدنية ورتب عليها الألحان والنغمات وكمل علم الموسيقى قال ومنها البصر وقد تقرر في علم التشريح أنه يثبت من الدماغ أزواج سبعة من العصب فالزوج الأول مبدؤه من غور البطنين المقدمين من الدماغ عند جواز الزائدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي وهو صغير مجوف يتيامن الثابت منهما يسارا ويتياسر الثابت منهما يمينا ثم يلتقيان على تقاطع صليبين ثم ينفذ النابت يمينا إلى الحدقة اليمنى والثابت يسارا إلى الحدقة اليسرى والدليل على كون القوى المدركة في المحال المذكورة هو أن الآفة فيها توجب الآفة في تلك القوى واختلفوا في كيفية الإبصار فقيل إنه بانطباع شبح المرئي في جزء من الرطوبة الجليدية التي تشبه البرد والجمد فإنها مثل مرآة فإذا قابلها متلون مضيء انطبع مثل صورته فيها كما ينطبع صورة الإنسان في المرآة لا بأن ينفصل من المتلون شيء ويمتد إلى العين بل بأن يحدث مثل صورته في المرآة وفي عين الناظر ويكون استعداد حصوله بالمقابلة المخصوصة مع توسط الهواء المشف ولما اعترض على هذا بوجهين
أحدهما أن المرئي حينئذ يكون صورة الشيء وشبحه لا نفسه ونحن قاطعون بأنا نرى نفس هذا الملون
وثانيهما أن شبح الشيء مساو له في المقدار وإلا لم يكن صورة له ومثالا وحينئذ يلزم أن لا نرى ما هو أعظم من الجليدية لأن امتناع انطباع العظيم في الصغير معلوم بالضرورة أشار إلى الجواب بأنه إذا كان
____________________
(2/18)
رؤية الشيء بانطباع شبحه كان المرئي هو الذي انطبع شبحه لا نفس الشبح كما مر في العلم وبأن شبح الشيء لا يلزم أن يساويه في المقدار كما يشاهد من صورة الوجه في المرآة الصغيرة إذ المراد به ما يناسب الشيء في الشكل واللون دون المقدار غاية الأمر أنا لا نعرف لمبة إبصار الشيء العظيم وإدرك البعد بينه وبين المرئي بمجرد انطباع صورة صغيرة منه في الجليدية ومادتها بواسطة الروح المصبوب في العصبتين إلى الباصرة وقيل أن الإبصار بخروج شعاع من العين على هيئة مخروطه رأسه عند العين وقاعدته عند المرئي ثم اختلفوا في أن ذلك المخروط مصمت أو مؤتلف من خطوط مجتمعة في الجانب الذي يلي الرأس متفرقة في الجانب الذي يلي القاعدة وقيل لا على هيئة المخروط بل على استواء لكن يثبت طرفه الذي يلي العين ويضطرب طرفه الآخر على المرئي وقيل الشعاع الذي في العين يكيف الهواء يكيفيته ويصير الكل آلة في الإبصار وقيل لا شعاع ولا انطباع وإنما الإبصار بمقابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة صقيلة فإذا وجدت هذه الشروط مع زوال الموانع يقع للنفس علم إشراقي حضوري على المبصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية والحق أن الإبصار بمحض خلق الله تعالى عند فتح العين قال والمشهور من آراء الفلاسفة الانطباع والشعاع أي القول بانطباع شبح المرئي في الرطوبة الجليدية والقول بخروج الشعاع من العين على هيئة المخروط تمسك الأولون بوجوه أحدها وهو العمدة أن العين جسم صقيل نوراني وكل جسم كذلك إذا قابله كثيف ملون انطبع فيه شبحه كالمرآة أما الكبرى فظاهرة وأما الصغرى فلما يشاهد من النور في الظلمة إذا حك المنتبه من النوم عينه وكذا عند إمرار اليد على ظهر الهرة السوداء ولأن الإنسان إذا نظر نحو أنفه قد يرى عليه دائرة من الضياء وإذا انتبه من النوم قد يبصر ما قرب منه زمانا ثم يفقده وذلك لامتلاء العين من النور في ذلك الوقت وإذا غمض إحدى العينين يتسع ثقبة العين الأخرى وما ذاك إلا لأن جوهرا نورانيا يملؤه ولأنه لولا انصباب الأرواح النورانية من الدماغ إلى العين لما جعلت ثقبتا الإبصار مجوفتين وهذا بعد تمامه إنما يفيد انطباع الشبح لا كون الإبصار به وثانيها أن سائر الحواس إنما تدرك بأن يأتي صورة المحسوس إليها لا بأن يخرج منها شيء إلى المحسوس فكذا الإبصار ورد بأنه تمثيل بلا جامع وثالثها أن من نظر إلى الشمس طويلا ثم أعرض عنها تبقى صورتها في عينه زمانا ورد بأن الصورة في خياله لا عينه كما إذا غمض العين ورابعها أن الشيء بعينه إذا قرب من الرائي يرى أكبر مما إذا بعد عنه وذاك إلا لأن الانطباع على مخروط من الهواء المشف رأسه متصل بالحدقة وقاعدته سطح المرئي حتى أنه وتر لزاوية المخروط ومعلوم أن وترا بعينه كلما
____________________
(2/19)
قرب من الزاوية كان الساق أقصر والزاوية أعظم وكلما بعد فبالعكس والشبح الذي في الزاوية الكبرى أعظم من الذي في الصغرى وهذا إنما يستقيم إذا جعلنا موضع الإبصار هو الزاوية على ما هو رأي الانطباع لا القاعدة على ما هو رأي خروج الشعاع فإنها لا تتفاوت ورد بأنا لا نسلم أنه لا سبب سوى ذلك كيف وأصحاب الشعاع أيضا يثبتون سببه على أن استلزام عظم زاوية الرؤية عظم المرئي وصغرها صغره محل نظر وإلى ما ذكرنا من وجوه الرد أشار بقوله وهو ضعيف تمسك القائلون بالشعاع أيضا بوجوه
أحدها أن من قل شعاع بصره كان إدراكه للقريب أصح من إدراكه للبعيد لتفرق الشعاع في البعيد ومن كثر شعاع بصره مع غلظه كان إدراكه للبعيد أصح لأن الحركة في المسافة الطويلة تفيده رقة وصفاء ولو كان الإبصار بالانطباع لما تفاوت الحال
وثانيها أن الأجهر يبصر بالليل دون النهار لأن شعاع بصره لقلته يتحلل نهارا بشعاع الشمس فلا يبصر ويجتمع ليلا فيقوى على الإبصار والأعشى بالعكس لأن شعاع بصره لغلظه لا يقوى على الإبصار إلا إذا أفادته الشمس رقة وصفاء
وثالثها أن الإنسان إذا نظر إلى ورقة قرأها كلها لم يظهر له منها إلا السطر الذي يحدق نحوه البصر وما ذاك إلا بسبب أن مسقط سهم مخروط الشعاع أصح إدراكا من جوانبه
ورابعها أن الإنسان يرى في الظلمة كأن نورا انفصل من عينه وأشرق على أنفه وإذا غمض عينيه على السراج يرى كأن خطوطا شعاعية اتصلت بين عينيه والسراج والجواب عن الكل أنها لا تدل على المطلوب أعني كون الإبصار بخروج الشعاع بل على أن في العين نورا ونحن لا ننكر أن في آلات الإبصار أجساما شعاعية مضيئة تسمى بالروح الباصرة يرتسم منها بين العين والمرئي مخروط وهمي يدرك المرئي من جهة زاويته التي عند الجليدية تشتد حركتها عند رؤية البعيد فيتحلل لطيفها ويفتقر إلى تلطيف إذا غلظ وتكثيف إذا ضعف ورق فوق ما ينبغي ويحدث منها في المقابل القابل أشعة وأضواء تكون قوتها فيما يحاذي مركز العين الذي هو بمنزلة الزاوية للمخروط الوهمي ولشدة استنارته تكون الصورة المنطبعة فيه أظهر وإدراكه أقوى وأكمل ويشبه أن يكون هذا مراد القائلين بخروج الشعاع تجوزا منهم على ما صرح به ابن سينا وإلا فهو باطل قطعا أما إذا أريد حقيقة الشعاع الذي هو من قبيل الأعراض فظاهر وإن أريد جسم شعاعي يتحرك من العين إلى المرئي فلأنا قاطعون بأنه يمتنع أن يخرج من العين جسم ينبسط في لحظة على نصف كرة العالم ثم إذا أطبق الجفن عاد إليها أو انعدم ثم إذا فتحه خرج مثله وهكذا وأن يتحرك الجسم الشعاعي من غير قاسر ولا إرادة إلى جميع الجهات وأن ينفذ في الأفلاك ويخرقها ليرى الكواكب وأن لا يتشوش بهبوب الرياح ولا يتصل بغير المقابل كما في الأصوات حيث تميلها الرياح إلى الجهات ولأنه يلزم أن يرى القمر قبل الثوابت بزمان يناسب تفاوت
____________________
(2/20)
المسافة بينهما وليس كذلك بل ترى الأفلاك بما فيها من الكواكب دفعة وأيضا يلزم أن يرى ما في الخزف لكثرة المسام فيه بدليل الرشح دون ما في الزجاج أو الماء ولو كان رؤية ما فيهما من جهة المسام لوجب أن يكون بقدرها من غير أن يرى الشيء بمجموعه وبمثل هذه الأدلة والإمارات يمكن إبطال القول بأن الإبصار يتكيف الهواء بشعاع العين واتصاله بالمرئي قال هذا والقول بخروج الشعاع يريد أن علم المناظر والمرايا فن على حدة اعتنى به كثير من المحققين وبنوا الكلام فيه على خروج الشعاع بمعنى وقوعه من العين على المرئي كما يقع من الشمس والقمر وسائر الأجسام المضيئة على ما يقابلها على هيئة مخروط رأسه عند المضيء وقاعدته عند المرئي فيرى الشيء إذا بعد أصغر مما إذا قرب لأن المخروط يستدق فتضيق زواياه التي عند الباصرة وتضيق لذلك الدائرة التي عند المبصر وكلما ازداد الشيء بعدا ازدادت الزوايا والدائرة صغرا إلى أن ينتهي في البعد إلى حيث لا يمكن الإبصار ويرى الشيء في الماء أعظم منه في الهواء لأن الشعاع ينفذ في الهواء على استقامة وأما في الماء فبعضه ينفذ مستقيما وبعضه ينعطف على سطح الماء ثم ينفذ إلى المبصر فيرى بالامتداد الشعاعي النافذ مستقيما ومنعطفا معا من غير تمايز وذلك إذا قرب المرئي من سطح الماء وأما إذا بعد فيرى في موضعين لكون رؤيتها بالامتدادين المتمايزين وكذا إذا غمزنا إحدى العينين ونظرنا إلى القمر نراه قمرين لأن الامتداد الشعاعي الخارج منها ينحرف عن المحاذاة فلا يلتقي مؤدى الامتدادين في الحس المشترك على موضع واحد بل موضعين فيرى المرئي اثنين وهكذا في الأحوال وفيما إذا وضعنا السبابة والوسطى على العين مع اختلاف في الوضع ونظرنا إلى السراج فإنا نراه اثنين وكذا إذا نظرنا إلى الماء عند طلوع القمر فإنا نرى في الماء قمرا بالشعاع النافذ فيه وفي السماء قمرا بالشعاع المنعكس من سطح الماء إلى السماء ومن هذا القبيل رؤية الشيء في المرآة وذلك أن الشعاع الممتد من الباصرة إلى الجسم الصقيل ينعكس منه إلى جسم آخر وضعه من ذلك الصقيل كوضع الباصرة منه بشرط أن تكون جهته مخالفة لجهة الرائي وأما السبب في رؤية الشجر على شط النهر منتكسا فهو أن الشعاع إذا وقع على سطح الماء ينعكس منه إلى رأس الشجر من موضع أقرب إلى الرائي وإلى أسفله من موضع أبعد من الرائي إلى أن تتصل قاعدة الشجر بقاعدة عكسه والنفس لا تدرك الانعكاس لتعودها برؤية الأشياء عى استقامة الشعاع فتحسب الشعاع المنعكس نافذ في الماء فترى رأس الشجر أكثر نزولا في الماء لكونه أبعد منه وباقي أجزائه على الترتيب إلى قاعدة الشجر فيرى منتكسا وبيان ذلك بالتحقيق في علم المناظر ( قال وقد يشترط في الإبصار ) زعمت الفلاسفة وتبعهم المعتزلة أن الإبصار يتوقف على شرائط يمتنع حصوله بدونها ويجب حصوله معها أما الأول فلأنا نجد بالضرورة انتفاء الرؤية عند انتفاء شيء من تلك
____________________
(2/21)
الشرائط ورد بأن العدم لا يدل على الامتناع وأما الثاني فلأنه لو جاز عدم الإبصار معها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة ورياض رائقة ونحن لانراها واللازم باطل قطعا ورد بأنه إن أريد باللازم إمكان ذلك في نفسه فلانم بطلانه وإن أريد الاحتمال والتجويز العقلي بحيث لا يكون انتفاؤه معلوما عند العقل على سبيل القطع فلانم لزومه فإن ذلك من العلوم العادية على ما سبق تحقيقه ومنهم من قال أن اشتراط هذه الشروط إنما هو عند تعلق النفس بالبدن هذا التعلق المخصوص أو كون الباصرة على هذا القدر من القوة لا على حد آخر فوقه كما في الآخرة قال أو في حكم المقابل يعني كما في رؤية الوجه في المرآة قال وأما الحواس الباطنة هي أيضا على حسب ما وجدناه خمس وإن احتمل إمكان غيرها وما يقال أنها إما مدركة وإما معينة على الإدراك والمدركة إما مدركة للصور أو للمعاني والمعينة إما حافظة للصور أو للمعاني وإما متصرفة فيها فوجه ضبط وجعل الحافظ والمتصرف مدركا باعتبار الإعانة على الإدراك إما الحس المشترك ويسمى باليونانية بنطاسيا أي لوح النفس فهي القوة التي تجتمع فيها صور المحسوسات الظاهرة بالتأدي إليها من طرق الحواس ويدل على وجودها وجوه
الأول أنا نحكم ببعض المحسوسات الظاهرة على البعض كما نحكم بأن هذا الأصفر هو هذا الحار أو هذا الحلو أو هذا المشموم وكل من الحواس الظاهرة لا يحضر عندها إلا نوع مدركاته فلا بد من قوة يحضر عندها جميع الأنواع ليصح الحكم بينها
الثاني أن النائم أو المريض كالمبرسم يشاهد صورا جزئية لا تحقق لها في الخارج ولا في شيء من الحواس الظاهرة فلا بد من قوة بها المشاهدة
الثالث أنا نشاهد القطرة العازلة بسرعة خطا مستقيما والشعلة الجوالة بسرعة خطا مستديرا أو ما ذاك إلا لأن لنا قوة غير البصر يرتسم فيها صورة القطرة والشعلة ويبقى قليلا على وجه يتصل به الارتسامات البصرية المتتالية بعضها ببعض بحيث يشاهد خطا للقطع بأنه لا ارتسام في البصر عند زوال المقابلة ومنع ذلك على ما ذكره الإمام مكابرة وإلى هذا أشار في المتن ما ذكر من ضرورة أنه لا يرتسم في البصر إلا المقابل أو ما هو في حكمه وأما قوله ومبناه على أن صور المحسوسات لا ترتسم في النفس فإشارة إلى جواب اعتراض آخر وهو أنه لا يلزم من عدم كون الارتسام في الباصرة كونه في قوة أخرى جسمانية لجواز أن يكون في النفس وكذا الصور التي يشاهدها المريض والنائم وصور المحسوسات المحكوم فيها بالبعض على البعض كهذه الصفرة والحرارة وغيرها ألا ترى أنا نحكم بالكلي على الجزئي كحكمنا بأن هذه الصفرة لون وزيد إنسان مع القطع بأن مدرك الكلي هو النفس فإذا كان الحكم بين الشيئين مستلزما لحضورهما عند الحاكم كان الجزئي حاضرا عند النفس مرتسما فيها كالكلي فلا يثبت الحس
____________________
(2/22)
المشترك وتقرير الجواب أنا معترفون بأن مدرك الكليات والجزئيات جميعا والحاكم بينها هو النفس لكن الصور الجزئية لا ترتسم فيها لما سيجيء بل في آلتها فلا بد في الحكم بين محسوسين من آلة مشتركة وفيه نظر لجواز أن يكون حضورهما عند النفس وحكمها بينها لارتسامهما في البين كما أن الحكم في الكلي والجزئي يكون لارتسام الكلي في النفس والجزئي في الآلة فلا تثبت آلة مشتركة غاية الأمر أنه لا يكفي الحواس الظاهرة ليصح الحكم حالتي الغيبة والحضور بل يكون لكل حس ظاهر حس باطن ومن اعتراضات الإمام أنا نعلم قطعا أن الذوق أعني إدراك المذوقات ليس بالدماغ كما أنه ليس بالعصب وكذا اللمس والجواب أن المعلوم قطعا هو أن الدماغ ليس آلة للذوق أو للمس أو لا على وجه الاختصاص وأما أنه لا مدخل له فيه فلا كيف والآفة في الدماغ توجب اختلال الذوق واللمس بخلاف الآفة في العصب ومن ههنا يقال أن ابتداء الذوق في اللسان وتمامه في العصب الآتي إليه من الدماغ وكما له عند الحس المشترك وكذا في سائر الإحساسات قال ومنها الخيال استدل على ثبوتها ومغايرتها للحس المشترك بوجهين
الأول أن لصور المحسوسات قبولا عندنا وحفظا وهما فعلان مختلفان فلا بد لهما من مبدأين متغايرين لما تقرر من أن الواحد لا يكون مصدرا لأثرين ومبدأ القبول هو الحس المشترك فمبدأ الحفظ هو الخيال وإنما احتيج إلى الحفظ لئلا يختل نظام العالم فإنا إذا أبصرنا الشيء ثانيا فلو لم نعرف أنه هو المبصر أو لا لما حصل التمييز بين النافع والضار واعترض بأن الحفظ مسبوق بالقبول ومشروط به ضرورة فقد اجتمعا في قوة واحدة سميتموها الخيال وبأن الحس المشترك مبدأ لإدراكات مختلفة هي أنواع الإحساسات وبأن النفس تقبل الصور العقلية وتتصرف في البدن فبطل قولكم الواحد لا يكون مبدأ الأثرين وأجيب بأن الخيال لا بد أن يكون في محل جسماني فيجوز أن يكون قبوله لأجل المادة وحفظه لقوة الخيال كالأرض تقبل الشكل بمادتها وتحفظه بصورتها وكيفيتها أعني اليبوسة وبأن مبدائية الحس المشترك للإدراكات المختلفة إنما هي لاختلاف الجهات أعني طرق التأدية من الحواس الظاهرة وكذا إدراكات النفس وتصرفاتها من جهة قواها المختلفة ولا يخفى أن هذا الجواب يدفع أصل الاستدلال لجواز أن لا تكون إلا قوة واحدة لها القبول والحفظ بحسب اختلاف الجهات وكذا الجواب بأن القبول والإدراك من قبيل الانفعال دون الفعل فاجتماع القبول والحفظ وأنواع الإدراكات في شيء واحد لا يقدح في قولنا الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد الثاني أن الصور الحاضرة في الحس المشترك قد تزول بالكلية بحيث يحتاج إلى إحساس جديد وهو ا لنسيان وقد تزول لا بالكلية بل بحيث تحضر بأدنى التفات وهو الذهول فلولا أنها مخزونة حينئذ
____________________
(2/23)
في قوة أخرى يستحضرها الحس المشترك من جهتها لما بقي فرق بين الذهول والنسيان واعترض بأنه يجوز أن لا تكون محفوظة إلا في الحس المشترك ويكون الحضور والإدراك بالتفات النفس والذهول بعدمه وأجيب بأنه لو كان كذلك لم يبق فرق بين المشاهدة والتخيل لأن كلا منهما حضور لصورة المحسوس في الحس المشترك من جهة الحواس بالتفات النفس ومعلوم أن تخيل المبصر ليس إبصارا ولا تخيل المذوق ذوقا وكذا البواقي بل المشاهدة ارتسام من جهة الحواس والتخيل من جهة الخيال وفيه نظر لجواز أن يكون الفرق عائدا إلى الحضور عند الحواس والغيبة عنها أو إلى قوة الارتسام وضعفه ولا يكون الإدراك والحفظ إلا في قوة واحدة قال وأضعف منهما الإبطال احتج الإمام على إبطال الخيال بأن من طاف في العالم ورأى البلاد والأشخاص الغير المعدودة فلو انطبعت صورها في الروح الدماغي فإما أن يحصل جميع تلك الصور في محل واحد فيلزم الاختلاط وعدم التمايز وإما أن يكون لكل صورة محل فيلزم ارتسام صورة في غاية العظم في جزء غاية الصغر والجواب أنه قياس للصور على الأعيان وهو باطل فإنه لا استحالة ولا استبعاد في توارد الصور على محل واحد مع تمايزها ولا في ارتسام صورة العظيم في المحل الصغير إنما ذلك في الأعيان الحالة في محلها حلول العرض في الموضوع أو الجسم في المكان ( قال ومنها الوهم ) هي القوة المدركة للمعاني الجزئية الموجودة في المحسوسات كالعداوة المعينة من زيد وقيد بذلك لأن مدركة العداوة الكلية من زيد هو النفس والمراد بالمعاني ما لا يدرك بالحواس الظاهرة فيقابل الصور أعني ما يدرك بها فلا يحتاج إلى تقييد المعاني بغير المحسوسة فإدراك تلك المعاني دليل على وجود قوة بها إدراكها وكونها مما لم يتأد من الحواس دليل على مغايرتها للحس المشترك وكونها جزئية دليل على مغايرتها للنفس الناطقة بناء على أنها لا تدرك الجزئيات بالذات هذا مع وجودها في الحيوانات العجم كإدراك الشاة معنى في الذئب بقي الكلام في أن القوة الواحدة لما جاز أن تكون آلة لإدراك أنواع المحسوسات لم لا يجوز أن تكون آلة لإدراك معانيها أيضا وأما إثبات ذلك بأنهم جعلوا من أحكام الوهم ما إذا رأينا شيأ أصفر فحكمنا بأنه عسل وحلو فيكون الوهم مدركا للصفرة والحلاوة والعسل جميعا ليصح الحكم وبأن مدرك عداوة الشخص مدرك له ضرورة فضعيف لأن الحاكم حقيقة هو النفس فيكون المجموع من الصور والمعاني حاضرا عندها بواسطة الآلات كل منها بآلتها الخاصة ولا يلزم كون محل الصور والمعاني قوة واحدة لكن يشكل هذا بأن مثل هذا الحكم قد يكون من الحيوانات العجم التي لا تعلم وجود النفس الناطقة لها قال ومنها الحافظة هي للوهم كالخيال للحس المشترك ووجه تغايرها أن قوة القبول غير قوة الحفظ والحافظة للمعاني غير الحافظ للصور ويسميها قوم ذاكرة إذ بها الذكر أعني ملاحظة المحفوظ
____________________
(2/24)
بعد الذهول عنه ومتذكرة إذ بها التذكر أعني الاحتيال لاستعراض الصور بعد ما اندرست قال ومنها المتصرفة أي في الصور المأخوذة عن الحس والمعاني المدركة بالوهم بتركيب بعضها مع بعض وتفصيل بعضها عن بعض كتصور إنسان له رأسان أو لا رأس له وتصور العدو صديقا وبالعكس وهي دائما لا تسكن نوما ولا يقظة وبها يقتنص الحد الأوسط باستعراض مافي الحافظة وهي المحاكية للمدركات والهيئات المزاجية وينتقل إلى الضد والشبيه وليس من شأنها أن يكون عملها منتظما بل النفس هي التي تستعملها على أي نظام تريد إما بواسطة القوة الوهمية من غير تصرف عقلي وحينئذ تسمى متخيلة أو بواسطة القوة العقلية وحدها أو مع الوهمية وحينئذ تسمى مفكرة قال خاتمة مما علم بالتشريح أن للدماغ تجاويف ثلاثة أعظمها البطن الأول وأصغرها البطن الأوسط وهو كمنفذ من البطن المقدم إلى البطن المؤخر وقد دل اختلال الحس المشترك بآفة تعرض لمقدم البطن الأول من الدماغ دون غيره من أجزاء الدماغ على أنه محله وهكذا الدليل على كون الخيال في مؤخر البطن الأول وكون المتخيلة في البطن الأوسط وكون الوهم مقدم البطن الأخير وكون الحافظة في آخره وأما الدليل على تعدد هذه القوى فهو اختلاف الآثار مع ما تقرر عندهم من أن الواحد لا يكون مبدأ للكثير فإن قيل القاعدة على تقدير ثبوتها إنما هي في الواحد من جميع الوجوه فلم لا يجوز أن يكون مدرك الكل هو النفس الناطقة أو قوة واحدة باعتبار شرائط وآلات مختلفة قلنا كون المدرك هي النفس والقوى الجسمانية آلات لها مذهب جمع من المحققين إلا أنه يشكل بوجود الإدراكات للحيوانات العجم وأما كون المدرك قوة واحدة جسمانية وهذه المحال آلات لها فمما لا سبيل إليه إذ لا يعقل آلية العضو لقوة جسمانية لا تكون حالة فيه ولا يخفى صعوبة إثبات بعض المقدمات الموردة في المقامين أعني إثبات تعدد القوى وتعيين محالها وقد يقال في تعيين محالها بطريق الحكمة والغاية أن الحس المشترك ينبغي أن يكون في مقدم الدماغ ليكون قريبا من الحواس الظاهرة فيكون التأدي إليه سهلا والخيال خلفه لأن خزانة الشيء ينبغي أن تكون كذلك ثم ينبغي أن يكون الوهم بقرب الخيال لتكون الصور الجزئية بحذاء معانيها الجزئية والحافظة بعده لأنها خزانته والمتخيلة في الوسط لتكون قريبة من الصور والمعاني فيمكنها الأخذ منهما بسهولة ( قال وتردد ابن سينا ) يشير إلى ما قال في الشفاء يشبه أن تكون القوة الوهمية هي نفسها للتذكرة والمتخيلة والمفكرة وهي نفسها الحاكمة فتكون بذاتها حاكمة وبحركاتها وأفعالها متخيلة ومتذكرة فتكون متفكرة بما يعمل في الصور والمعاني ومتذكرة بما ينتهي إليه عملها وله تردد أيضا في أن الحافظة مع المتذكرة أعني المسترجعة لما غاب عن الحفظ من مخزونات الوهم قوتان أم قوة واحدة قال واقتصر الأطباء لما كان نظرهم مقصورا على
____________________
(2/25)
حفظ صحة القوى وإصلاح اختلالها ولم يحتاجوا إلى معرفة الفرق بين القوى وتحقيق أنواعها بل إلى معرفة أفعالها ومواضعها وكانت الآفات العارضة لها قد تتجانس اقتصروا على قوة في البطن المقدم من الدماغ سموها الحس المشترك والخيال وأخرى في البطن الأوسط سموها المفكرة وهي الوهم وأخرى في البطن المؤخر سموها الحافظة والمتذكرة قال وأما المحركة لم يبسط الكلام في القوى المحركة بسطه في القوى المدركة لأن المباحث الكلامية لا تتعلق بهذه تعلقها بتلك والمراد بالمحركة أعم من الفاعلة للحركة والباعثة عليها وتسمى شوقية ونزوعية وتنقسم إلى شهوية وهي الباعثة على الحركة نحو ما يعتقد أو يظن نافعا وغضبية وهي الباعثة على الحركة نحو ما يعتقد أو يظن ضارا وأما الفاعلة فهي قوة من شأنها أن تبسط الفضل بإرحاء الأعصاب إلى خلاف جهة مبدأها لينبسط العضو المتحرك أي يزداد طولا وينتقص عرضا أو تقبضه بتمديد الأعصاب إلى جهة مبدأها لينقبض العضو المتحرك أي يزداد عرضا وينتقص طولا والعضلة عضو مركب من العصب ومن جسم شبيه بالعصب تنبت من أطراف العظام تسمى رباطا وعقبا ومن لحم احتشى به الفرج التي بين الأجزاء المنتفشة الحاصلة باشتباك العصب والرباط ومن غشاء تخللها والعصب جسم ينبت من الدماغ أو النخاع أبيض لدن لين في الانعطاف صلب في الانفصال ( قال وأما مبدأ الشوق ) قد يتوهم أن من القوى المحركة قوة أخرى هي مبدأ قريب للشوقية بعيد للفاعلة كالقوة التي ينبعث عنها شوق الألف بالشيء إلى مألوفه وشوق المحبوس إلى خلاصه وشوق النفس إلى الفعل الجميل فأشار إلى أن ذلك من قبيل القوى المدركة لأن مبدأ الشوق والنزوع تخيل أو تعقل قال ثم بعض هذه القوى يعني المدركة والمحركة قد تفقد في بعض أنواع الحيوان كالبصر في العقرب والخيال في الفراشة أو أشخاصه بحسب الخلقة كالأكمه ومن ولد مفقود بعض الحواس أو الحركات أو بحسب العارض كمن أصابه آفة أخلت ببعض إدراكاته أو حركاته قال المقالة الثانية فيما يتعلق بالمجردات وفيها فصلان
أولهما في النفس
والثاني في العقل لما عرفت من أن الجوهر المجرد إن تعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف فنفس وإلا فعقل وقد تطلق لفظ النفس على ما ليس بمجرد بل مادي كالنفس النباتية التي هي مبدأ أفاعيله من التغذية والتنمية والتوليد والنفس الحيوانية التي هي مبدأ الحس والحركة الإرادية وتجعل النفس الأرضية اسما لهما أو للنفس الناطقة الإنسانية فتفسر بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة والمراد بالكمال ما يكمل به النوع في ذاته ويسمى كمال أول كهيئة السيف للحديد أو في صفاته ويسمى كمالا ثانيا كسائر ما يتبع النوع من العوارض مثل القطع للسيف والحركة للجسم والعلم للإنسان فإن قيل قد سبق أن الحركة كمال أول قلنا نعم بالنظر إلى ما هو بالقوة من حيث هو بالقوة فإنه أول ما يحصل له بعد مالم يكن وإما بالنظر إلى ذات
____________________
(2/26)
الجسم فكمال ثان والمراد بالجسم ههنا الجنس أعني المأخوذ لا بشرط أن يكون وحده أو لا وحده بل مع تجويز أن يقارنه غيره وأن لا يقارنه لأنها الطبيعة الجنسية الناقصة التي إنما تتم وتكمل نوعا بانضمام الفصل إليه لا المأخوذ بشرط أن يكون وحده لأنها مادة متقدمة بالوجود على النوع غير محمولة عليه والنفس بالنسبة إليه صورة لا كمال يجعله نوعا بالفعل وقد سبق تحقيق ذلك في بحث الماهية وإنما أخذ الجسم في تعريف النفس لأنه اسم لمفهوم إضافي هو مبدأ صدور أفاعيل الحياة عن الجسم من غير نظر إلى كونه جوهرا أو عرضا مجردا أو ماديا فلا بد من أخذه في تعريف النفس لا من حيث ذاتها بل من حيث لها تلك العلاقة لها كالبناء في تعريف الباني والمراد بالطبيعي ما يقابل الصناعي وبالآلي ما يكون له قوى وآلات مثل الغاذية والنامية ونحو ذلك فخرج بالقيود السابقة الكمالات الثانية وكمالات المجردات والأعراض وهيئات المركبات الصناعية وبالآلي صور البسائط والمعدنيات إذ ليس فعلها بالآلات لا يقال قيد ذي حياة بالقوة مغن عن ذلك لأنا نقول ليس معناه أن يكون ذلك الجسم حيا ولا ان يصدر عنه جميع أفعال الحياة وإلا لم يصدق التعريف إلا على النفس الإنسانية دون النباتية والحيوانية بل أن يكون بحيث يمكن أن يصدر عنه بعض أفعال الأحياء وإن لم يتوقف على الحياة ولا خفاء في أن البسائط والمعدنيات كذلك وفائدة هذا القيد الاحتراز عن النفس السماوية عند من يرى أن النفس إنما هي للفلك الكلي وأن ما فيه من الكواكب والأفلاك الجزئية بمنزلة آلات له فتكون جسما آليا إلا أن ما يصدر عنه من التعقلات والحركات الإرادية التي هي من أفاعيل الحياة تكون دائما وبالعقل لا كأفاعيل النبات والحيوان من التغذية والتنمية وتوليد المثل والإدراك والحركة الإرادية والنطق أعني تعقل الكليات فإنها ليست دائمة بل قد تكون بالقوة وإما عند من يرى أن لكل كرة نفسا وأنها ليست من الأجسام الآلية فلا حاجة إلى هذا القيد ولهذا لم يذكره الأكثرون وذهب أبو البركات إلى أنه إنما يذكر عوض قولهم آلي فيقال كمال أول طبيعي لجسم ذي حياة بالقوة وعبارة القدماء كمال أول طبيعي لجسم آلي واحترزوا بطبيعي عن الكمالات الصناعية كالتشكيلات الحاصلة بفعل الإنسان ثم قال وقد يقال كمال أول لجسم طبيعي آلي بتأخير طبيعي وهو إما غلط في النقل وإما مقصود به المعنى الذي ذكرنا فظهر أن ما يقال من أن بعضهم رفع طبيعي بصفة الكمال ليس معناه أنه يرفع مع التأخير صفة الكمال ويخفض بعده آلي صفة لجسم فإنه في غاية القبح وكذا لو رفع آلي أيضا صفة لكمال مع ذكر ذي حياة صفة لجسم بل معناه أنه يقدم فيرفع على ما قال الإمام أن بعضهم جعل الطبيعي صفة للكمال فقال كمال أول طبيعي لجسم آلي فإن قيل فعلى ما ذكر من أن قيد ذي حياة بالقوة لإخراج النفس السماوية يكون قولنا كمال أول لجسم طبيعي آلي معنى شاملا للأرضية والسماوية صالحا لتعريفهما به وقد
____________________
(2/27)
صرحوا بأن إطلاق النفس عليهما بمحض اشتراك اللفظ إذ اللفظ الأولي باعتبار أفعال مختلفة والثانية باعتبار فعل مستمر على نهج واحد وأنه لا يتناولهما رسم واحد إذ لو اقتصر على مبدائية فعل ما دخلت صور البسائط والعنصريات وإن اشترط القصد والإرادة خرجت النفس النباتية وإن اعتبر اختلاف الأفعال خرجت الفلكية قلنا مبنى هذا التصريح على المذهب الصحيح وهو أن لكل فلك نفسا وليس للنفوس السماوية اختلاف أفعال وآلات على أنه أيضا موضع نظر لما ذكر في الشفاء من أن النفس اسم لمبدأ صدور أفاعيل ليست على وتيرة واحدة عادمة للإرادة ولا خفاء في أنه معنى شامل لها صالح لتعريفهما على المذهبين لأن فعل النفس السماوية ليس على نهج واحد عادم للإرادة بل على أنهاج مختلفة على رأي وعلى نهج واحد مع الإرادة على الصحيح فإن قيل النفس كما أنها كمال للجسم من حيث أنه بها يتم ويتحصل نوعا كذلك هي صورة له من حيث أنها تقارن المادة فيحصل جوهر نباتي أو حيواني وقوة له من حيث أنها مبدأ صدور أفعاله فلم أؤثر في تعريفهما الكمال على الصورة والقوة وما ذكروا من أنا نجد بعض الأجسام يختص بصدور آثار مختلفة عنها فيقطع بأن ذلك ليس بجسميتها المشتركة بل لمبادىء خاصة نسميها نفسا بل ربما يشعر بأن الأولى ذكر القوة قلنا أما إيثاره على الصورة فلأنها بالحقيقة اسم لما يحل المادة فلا يتناول النفس الإنسانية المجردة إلا بتجوز أو تجديد اصطلاح ولأنها تقاس إلى المادة والكمال إلى النوع ففي تعريف المعنى الذي به يتحصل الجسم فيصير أحد الأنواع ومصدر الأفعال يكون المقيس إلى أمر هو نفس ذلك المتحصل أولى من المقيس إلى أمر بعيد لا يكون هو معه إلا بالقوة ولا ينتسب إليه شيء من الأفاعيل هذا ملخص كلام الشفاء وتقرير الإمام أن المقيس إلى النوع أولى لأن في الدلالة على النوع دلالة على المادة لكونها جزأ منه من غير عكس ولأن النوع أقرب إلى الطبيعة الجنسية من المادة وكان معناه أن النفس تقاس إلى الطبيعة الجنسية المبهمة الناقصة التي إنما تتحصل وتتم نوعا لما ينضاف إليها من الفصل بل النفس فتعريفها بالكمال المقيس إلى النوع الذي هو أقرب إلى الجنس من حيث أنهما متحدان في الوجود لا يتمايزان إلا في العقل بأن أخذ هذا مبهما وذاك متحصلا يكون أولى هذا وقد يتوهم مما ذكره الإمام أن النفس كمال بالقياس إلى أن الطبيعة الجنسية كانت ناقصة وبانضياف الفصل إليها كمل النوع أن الكمال يكون بالقياس إلى الطبيعة الجنسية على ما صرح به في المواقف وحينئذ يكون توسيط النوع وكونه أقرب إلى طبيعة الجنس مستدركا وهو فاسد على مالا يخفى واما إيثاره على القوة فلأنها لفظ مشترك بين مبدأ الفعل كالتحريك ومبدأ القبول والانفعال كالإحساس وكلاهما معتبر في العقل وفي الاقتصار على أحدهما مع أنه إخلال بما هو مدلول النفس استعمال للمشترك في التعريف وكذا
____________________
(2/28)
في اعتبارهما جميعا ولأن الشيء إنما يكون نفسا بكونه مبدأ الآثار ومكمل النوع ولفظ القوة لا يدل إلا على الأول بخلاف لفظ الكمال ولا شك أن تعريف الشيء بما ينبئ عن جميع الجهات المعتبرة فيه يكون أولى ففي الجملة لما أمكن تفسير النفس بما يعم السماويات والأرضيات ثم تمييز كل بما يخصها وكان ذلك أقرب إلى الضبط أثره في المتن فإن قيل قد ذكروا أن للسماويات حسا وحركة وتعقلا كليا فعلى هذا لا يصلح ذلك مميز الحيوانية والإنسانية قلنا ذكر في الشفاء أن المراد بالحس ههنا ما يكون على طريق الانفعال وارتسام المثال وبالتعقل ما هو شأن العقل الهيولاني والعقل بالملكة وأمر السماويات ليس كذلك قال ثم مقتضى قواعدهم يعني أن مقتضى ما ذكروا من أن كل نفس مبدأ لآثار مخصوصة وأن لكل نوع من الأجسام صورة نوعية هي جوهر حال في المادة وأن البدن الإنساني يتم جسما خاصا ثم تتعلق به النفس الناطقة يقتضي أن يكون في الإنسان نفس هي مبدأ تعقل الكليات وكذا في كل حيوان بخواصه وأخرى مبدأ الحركات والإحساسات وأخرى مبدأ التغذية والتنمية وتوليد المثل لكن ذكر في شرح الإشارات وغيره أن ليس الأمر كذلك بل المركبات منها ما له صورة معدنية يقتصر فعلها على حفظ المواد المجتمعة من الاسطقسات المتضادة بكيفياتها المتداعية إلى الانفكاك لاختلاف ميولها إلى أمكنتها المختلفة ومنها ما له صورة يسمى نفسا نباتية يصدر عنها مع الحفظ المذكور جمع أجزاء أخر من الاسطقسات وإضافتها إلى مواد المركب وصرفها في وجوه التغذية والإنماء والتوليد ومنها ما له صورة يسمى نفسا حيوانية يصدر عنها مع الأفعال النباتية والحفظ المذكور الحس والحركة الإرادية ومنها ما له نفس مجردة يصدر عنها مع الأفعال السابقة كلها النطق وما يتبعه قال وأما عندنا يعني لما لم يثبت عند المتكلمين اختلاف أنواع الأجسام واستناد الآثار إليها ليحتاج إلى فصول منوعة ومبادي مختلفة بنوا إثبات النفس على الأدلة السمعية والتنبيهات العقلية مثل أن البدن وأعضاءه الظاهرة والباطنة دائما في التبدل والتحلل والنفس بحالها وأن الإنسان الصحيح العقل قد يغفل عن البدن وأجزائه ولا يغفل بحال عن وجود ذاته وأنه قدير ما يمانعه البدن مثل الحركة إلى العلو وبالجملة قد اختلفت كلمة الفريقين في حقيقة النفس فقيل هي النار السارية في الهيكل المحسوس وقيل الهواء وقيل الماء وقيل العناصر الأربعة والمحبة والغلبة أي الشهوة والغضب وقيل الإختلاط
____________________
(2/29)
الأربعة وقيل الدم وقيل نفس كل شخص مزاجه الخاص وقيل جزء لا يتجزأ في القلب وكثير من المتكلمين على أنها الأجزاء الاصلية الباقية من أول العمر إلى آخره وكان هذا مراد من قال هي هذا الهيكل المحسوس والبنية المحسوسة أي التي من شأنها أن يحس بها وجمهورهم على أنها جسم مخالف بالماهية للجسم الذي يتولد منه الأعضاء نوراني علوي خفيف حي لذاته نافذ في جواهر الأعضاء سار فيها سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم لا يتطرق إليه تبدل ولا انحلال بقاؤه في الأعضاء حياة وانتقاله عنها إلى عالم الأرواح موت وقيل أنها أجسام لطيفة متكونة في القلب سارية في الأعضاء من طريق الشرايين أي العروق الضاربة أو متكونة في الدماغ نافذة في الأعصاب النابتة منه إلى جملة البدن واختيار المحققين من الفلاسفة وأهل الإسلام أنها جوهر مجرد في ذاته متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف ومتعلقه أو لا وهو ما ذكره المتكلمون من الروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بحار الغذاء ولطيفه ويفيده قوة بها تسري في جميع البدن فتفيد كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى المذكورة فيما سبق احتج القائلون بكونها من قبيل الأجسام بوجوه
الأول أن المدرك للكليات أعني النفس هو بعينه المدرك للجزئيات لأنا نحكم بالكلي على الجزئي كقولنا هذه الحرارة حرارة والحاكم بين الشيئين لا بد أن يتصورهما والمدرك للجزئيات جسم لأنا نعلم بالضرورة أنا إذا لمسنا النار كان المدرك لحرارتها هو العضو اللامس ولأن غير الإنسان من الحيوانات يدرك الجزئيات مع الاتفاق على أنا لا نثبت لها نفوسا مجردة ورد بأنا لا نسلم أن المدرك لهذه الحرارة هو العضو اللامس بل النفس بواسطته ونحن لا ننازع في أن المدرك للكليات والجزئيات هو النفس لكن للكليات بالذات وللجزئيات بالآلات وإذا لم يجعل العضو مدركا أصلا لا يلزم أن يكون الإدراك مرتين والإنسان مدركين على ما قيل ويمكن دفعه بأنه يستلزم إما إثبات النفوس المجردة للحيوانات الأخر وإما جعل إحساساتها للقوى والأعضاء وإحساسات الإنسان للنفس بواسطتها مع القطع بعدم التفاوت
الثاني أن كل واحد منا يعلم قطعا أن المشار إليه بأنا وهو النفس متصف بأنه حاضر هناك وقائم وقاعد وماش وواقف ونحو ذلك من خواص الأجسام والمتصف بخاصة الجسم جسم وقريب من ذلك ما يقال أن للبدن إدراكات هي بعينها إدراكات المشار إليه بأنا أعني النفس مثل إدراك حرارة النار وبرودة الجمد وحلاوة العسل وغير ذلك من المحسوسات فلو كانت النفس مجردة أو مغايرة للبدن امتنع أن تكون صفتها عين صفته والجواب أن المشار إليه بأنا وإن كان هو النفس على الحقيقة لكن كثيرا ما يشار به إلى البدن أيضا لشدة ما بينهما من التعلق فحيث توصف بخواص الأجسام كالقيام والقعود وكإدراك المحسوسات عند من يجعل المدرك نفس الأعضاء والقوى لا النفس بواسطتها
____________________
(2/30)
فالمراد به البدن وليس معنى هذا الكلام أنها لشدة تعلقها بالبدن واستغراقها في أحواله الغفل فيحكم عليها بما هو من خواص الأجسام على ما فهمه صاحب الصحائف ليلزم كونها في غاية الغفلة
الثالث أنها لو كانت مجردة لكانت نسبتها إلى جميع الأبدان على السواء فلم تتعلق ببدن دون آخر وعلى تقدير التعلق جاز أن تنتقل من بدن إلى بدن آخر وحينئذ لم يصلح القطع بأن زيدا الآن هو الذي كان بالأمس ورد بأنا لا نسلم أن نسبتها إلى الكل على السواء بل لكل نفس بدن لا يليق بمزاجه واعتداله إلا تلك النفس الفائضة بحسب استعداده الحاصل باعتداله الخاص
الرابع النصوص الظاهرة من الكتاب والسنة تدل على أنها تبقى بعد خراب البدن وتتصف بما هو من خواص الأجسام كالدخول في النار وعرضها عليها وكالترفرف حول الجنازة وككونها في قناديل من نور أو في جوف طيور خضر وامثال ذلك ولا خفاء في احتمال التأويل وكونها على طريق التمثيل ولهذا تمسك بها القائلون بتجرد النفوس زعما منهم أن مجرد مغايرتها للبدن يفيد ذلك وقد يستدل بأنها لا دليل على تجردها فيجب أن لا تكون مجردة لأن الشيء إنما يثبت بدليله وهو مع ابتنائه على القاعدة الواهية بعارض بأنه لا دليل على كونها جسما أو جسمانيا فيجب أن لا تكون كذلك قال احتجوا أي القائلون بتجرد النفس بوجوه
الأول أنها تكون حلا لأمور يمتنع حلولها في الماديات وكل ما هو كذلك يكون مجردا بالضرورة أما بيان كونها محلا لأمور هذا شأنها فلأنها تتعقلها وقد سبق أن التعلق إنما يكون بحلول الصورة وانطباع المثال والمادي لا يكون صورة لغير المادي ومثالا له وأما بيان تلك الأمور وامتناع حلولها في المادة فهو أن من جملة معقولاتها الواجب وإن لم يكن تعقله بالكنه والجواهر المجردة وإن لم نقل بوجودها في الخارج إذ ربما يعقل المعنى فيحكم بأنه موجودا وليس بموجود ولا خفاء في امتناع حلول صورة المجرد في المادي ومنها المعاني الكلية التي لا يمنع نفس تصورها الشركة كالإنسانية المتناولة لزيد وعمرو فإنها يمتنع اختصاصها بشيء من المقادير والأوضاع والكيفيات وغير ذلك ما لا ينفك عنه الشيء المادي في الخارج بل يجب تجردها عن جميع ذلك وإلا لم تكن متناولة لما ليس له ذلك والحاصل أن الحلول في المادي يستلزم الاختصاص بشيء من المقادير والأوضاع والكيفيات وغير ذلك والكلية تنافي ذلك فلو لم تكن النفس مجردة لم تكن محلا للصورة الكلية عاقلة لها واللازم باطل ومنها المعاني التي لا تقبل الانقسام كالوجود والوحدة والنقطة وغير ذلك وإلا لكان كل معقول مركبا من أجزاء غير متناهية بالفعل وهو محال ومع ذلك فالمط وهو وجود مالا ينقسم أصلا حاصل لأن الكثرة عبارة عن الوحدات وإذا كان من المعقولات ما هو واحد غير منقسم لزم أن يكون محله العاقل له غير جسم بل مجردا لأن الجسم والجسماني منقسم وانقسام المحل مستلزم لانقسام الحال فيما يكون الحلول لذات المحل
____________________
(2/31)
كحلول السواد والحركة والمقدار في الجسم لا لطبيعة تلحقه كحلول النقطة في الخط لتناهيه وكحلول الشكل في السطح لكونه ذا نهاية واحدة أو أكثر وكحلول المحاذاة في الجسم من حيث وجود جسم آخر على وضع ما فيه وكحلول الوحدة في الأجزاء من حيث هي مجموع ومنها المعاني التي لا يمكن اجتماعها إلا في المجردات دون الجسم كالضدين وكعدة من الصور والأشكال فإنه لا تزاحم بينها في العقل بل نتصورها ونحكم فيما بينها بامتناع الاجتماع في محل واحد من المواد الخارجية حكما ضروريا وهذا الوجه من الاحتجاج يمكن أن يجعل وجوها أربعة بأن يقال لو كانت النفس جسما لما كانت عاقلة للمجردات أو للكليات أو للبسائط أو للمتمانعات والجواب أن مبنى هذا الاحتجاج على مقدمات غير مسلمة عند الخصم منها أن تعقل الشيء يكون بحلول صورته في الحال لا بمجرد إضافة بين العاقل والمعقول ومنها أن النفس لو لم تكن مجردة لكانت منقسمة ولم يجز أن تكون جوهرا وضعيا غير منقسم كالجزء الذي لا يتجزأ ومنها أن الشيء إذا كان مجردا كانت صورته الإدراكية مجردة يمتنع حلولها في المادي ولم يجز أن تكون حالة في جسم عاقل لكنها إذا وجدت في الخارج كانت ذلك الشيء المجرد ومنها أن صورة الشيء إذا اختصت بوضع ومقدار وكيفية لحلولها في جسم كذلك كان الشيء أيضا مختصا بذلك ولم يجز أن يكون في ذاته غير مختص بشيء من الأوضاع والكيفيات والمقادير ومنها أن الشيء إذا لم يقبل الانقسام كانت صورتها الحاصلة في العاقل كذلك ولم يجز أن تكون منقسمة بانقسام المحل العاقل مع كون الشيء غير منقسم لذاته ولا لحلوله في منقسم ومنها أن الشيئين إذا كانا بحيث يمتنع اجتماعهما في محل كالسواد والبياض كانت الصورتان الحاصلتان منهما في الجوهر العاقل كذلك وقد سبق أن صورة الشيء قد تخالفه في كثير من الأحكام ومنها أن اجتماعهما في العاقل لا يجوز أن يكون لقيام كل منهما بجزء منه ومنها أن انقسام المحل يستلزم انقسام الحال فيه لذاته ليمتنع حلول البسيط في العاقل الجسماني المنقسم البتة بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزأ ولا يخفى أن بعض هذه المقدمات مما قامت عليه الحجة قال الثاني أي من الوجوه الاحتجاج على تجرد النفس أنها متصفة بصفات لا توجد للماديات وكل ما هو كذلك يكون مجردا بالضرورة بيان الأول أنها تدرك ذاتها وآلاتها وإدراكاتها ولا يلحقها بكثرة الإدراكات وضعف القوى البدنية ضعف وكلال بل ربما تصير أقوى وأقدر على الإدراك ولا شيء من القوى الجسمانية كذلك وهذا يمكن أن يجعل وجودها
أحدها أنها تدرك ذاتها وآلاتها وإدراكاتها والمدرك الجسماني ليس كذلك كالباصرة والسامعة والوهم والخيال لأنها إنما تعقل بتوسط آلة ولا يمكن توسط الآلة بين الشيء وذاته وآلته وإدراكاته
وثانيهما أن النفس لا تضعف في التعقل عند ضعف البدن واعضائه وقواه بل تثبت علمه أو تزيد فإن الإنسان في سن الانحطاط يكون أجود تعقلا منه في سن النمو
____________________
(2/32)
لما حصل له من التمرن على الإدراكات واستحضار صور المدركات وكذا عند توالي الأفكار المؤدية إلى العلوم مع ضعف الدماغ بكثرة الحركات وعند كسر سورة القوى البدنية بالرياضات فلو كان تعلقها بآلات بدنية لكانت تابعة لها في الضعف والكلال
وثالثها أنها لو كانت من الماديات لوهنت بكثرة الأفعال والحركات لأن ذلك شأن القوى الجسمانية بحكم التجرية والقياس أيضا فإن صدور الأفعال عن القوى الجسمانية لا يكون إلا مع انفعال لموضوعاتها كتأثر الحواس عن المحسوسات في المدركة وكتحرك الأعضاء عند تحريك غيرها في المحركة والانفعال لا يكون إلا عن قاسر يقهر طبيعة المنفعل ويمنعه عن المقاومة فيوهنه وهم معترفون بأن الوجوه الثلاثة إقناعية لا برهانية لجواز أن تدرك بعض الجسمانيات ذاتها وإدراكاتها من غير توسط آلة وكذا لما هو آلة لها في سائر الإدراكات وأن يكون كمال القوة الجسمانية العاقلة يتعلق بقدر من الصحة والمزاج يبقى مع ضعف البدن أو بعضو لا يلحقه الاختلال أو يتأخر اختلاله وأن يكون حالها بخلاف حال سائر القوى في الكلال والانفعال قال الثالث لو كانت النفس الناطقة جوهرا ساريا في جسم أو عرضا حالا فيه لزم أن يكون تعقلها لذلك الجسم سواء كان تمام البدن أو بعض أعضائه كالقلب والدماغ دائما أو غير واقع أصلا واللازم باطل لأن البدن أو أعضاءه مما يعقل تارة ويغفل عنه أخرى بحكم الوجدان وجه اللزوم أنه إما أن يكفي في تعقل ذلك حضوره بنفسه أو لا بل يتوقف على حضور الصورة منه كإدراك الأمور الخارجة فإن كان الأول لزم الأول لوجوب وجود الحكم عند تمام العلة كإدراك النفس لذاتها ولصفاتها الحاصلة لها لا بالمقايسة إلى لغير ككونها مدركة لذاتها بخلاف ما يكون حصولها للنفس بعد المقايسة إلى الأشياء المغايرة لها ككونها مجردة عن المادة غير حاصلة في الموضوع فإنها لا تدركها دائما بل حال المقايسة فقط وإن كان الثالث لزم الثاني لأنه لو حصل لها تعقل ذلك الجسم في وقت دون وقت كان ذلك لحصول صورته لها بعد مالم تكن وإذ قد فرضنا النفس مادية حاصلة في ذلك الجسم لزم كون تلك الصورة حاصلة فيه فلزم في مادة معينة اجتماع صورتين لشيء واحد أعني الصورة المستمرة الوجود لذلك الجسم حالتي التعقل وعدمه والصورة المتحددة التي تحصل له حال تعقل النفس إياه وذلك محال لأن الصورتين متغايرتان ضرورة والأشخاص المتحددة الماهية يمتنع أن تتغاير من غير تغاير المواد وما يجري مجراها ومبنى هذا الاحتجاج على أن ليس الإدراك مجرد إضافة مخصوصة بين المدرك والمدرك بل لا بد من حضور صورة من المدرك عند المدرك وإلا لجاز أن لا يكون حصول الصورة العينية لذلك الجسم كافيا في تعقله ومع هذا لا يحتاج إلى انتزاع الصورة بل إلى حصول شرائط تلك الإضافة المخصوصة وأيضا لا تماثل بين الصورتين لأن المنتزعة حالة في النفس والأصلية في الجسم بل في مادته
____________________
(2/33)
ولو جعلنا مثلين من جهة كونهما صورة لشيء واحد من غير اختلاف إلا في كون إحداهما منتزعة قائمة بالنفس والأخرى اصلية قائمة بالمادة فاجتماع المثلين إنما يمتنع من جهة ارتفاع التمايز على ما سبق وههنا الامتياز باق وإن جعلا قائمين لشيء واحد لأن قيام المنتزعة بواسطة النفس بخلاف الأصلية على أن الحق أن قيامها بمادة الجسم وقيام المنتزعة بالجسم نفسه وأن ذلك إنما يلزم لو كان حلول النفس في ذلك الجسم حلول العرض في محله لا بطريق مداخلة الأجزاء ( قال ثم بنوا ) يشير إلى أن للأفلاك نفوسا مجردة لتعقل الكليات وقوى جسمانية لتخيل الجزئيات وذلك لأن حركاتها المستديرة ليست طبيعية لأن الحركة الطبيعية تكون عن حالة منافرة إلى حالة ملائمة فلو كانت طبيعية لزم في الوصول إلى كل نقطة أن يكون مطلوبا بالطبع من حيث الحركة إليها ومهروبا عنه بالطبع من حيث الحركة عنها وهو محال ولا يلزم ذلك في الحركة المستقيمة لأن الحركة إلى النقطة التي فيما بين المبدأ والمنتهى ليست لأن الوصول إليها مطلوب بالطبع بل لأن الوصول إلى المطلوب بالطبع أعني الحصول في الحيز لا يمكن بدون ذلك ولا كذلك حال المستديرة أما فيما لا ينقطع عند تمام دوره فظاهر وأما فيما ينقطع فلأن المطلوب بالطبع لو كان هو الوصول إلى نقطة الانقطاع لكان مقتضى طبع كل جزء من أجزاء الجسم الواحد البسيط شيئا آخر وهو الحيز الذي يقع فيه ذلك الجزء عند الانقطاع ولكان مقتضى الطبع إيثار الطريق الأطول على الأقصر ولا قسرية لأنها إنما تكون على خلاف الطبع فحيث لا طبع فلا قسر وعلى وفق القاسر فلا تختلف في الجهة والشرعة والبطؤ فتعين أن تكون إرادية مقرونة بالإدراك ولا يكفي لجزئياتها وخصوصياتها تعقل كلي لأن نسبته إلى الكل على السواء ولا إدراكات جزئية وتخيلات محضة لاستحالة دوامها على نظام واحد من غير انقطاع واختلاف كيف وقد ثبت لزوم تناهي القوى الجسمانية فإذن لا بد لتلك الحركات من إرادات وإدراكات جزئية وقد تقرر أن ذلك لا يمكن إلا بقوى جسمانية ومن إرادات وتعقلات كلية وقد تقرر أن ذلك لا يكون إلا للذات المجردة فثبت أن المباشر لتحريك الأفلاك قوى جسمانية هي بمنزلة النفوس الحيوانية لأبداننا ونفوس مجردة ذوات إرادات عقلية وتعقلات كلية هي بمنزلة نفوسنا الناطقة واعترض بعد تسليم انحصار الحركة في الطبيعية والقسرية والإرادية وأن التعقل الكلي لا يكون إلا للمجردات ولا الجزئي إلا بالجسمانيات بأنا لا نسلم لزوم كون المطلوب بالطبع متروكا بالطبع لم لا يجوز أن يكون المطلوب بالطبع نفس الحركة لا شيأ من الأيون والأوضاع التي تترك ولا نسلم أن القسر لا يكون إلا على خلاف الطبع وأن القاسر لا يكون إلا متشابها ليلزم تشابه الحركات وأن الكلي من الإرادة والإدراك لا يصلح مبدأ لخصوصيات الحركات لم لا يجوز أن تستند الحركات المتعاقبة إلى إرادات وإدراكات كلية متعاقبة لا إرادة وإدراك للحركة على الإطلاق
____________________
(2/34)
وتحقيق ذلك ما أشار إليه ابن سينا في الإشارات من أن المطلوب بالحركة الوضعية لا يكون إلا الوضع المعين ويمتنع أن يكون موجودا لأن الحاصل لا يطلب وأن يكون في الحركة السرمدية جزئيا لأن الحركة المتوجهة إليه تنقطع عنده فمطلوب إرادة الفلك يجب أن يكون وضعا معينا مفروضا كليا تفرضه الإرادة وتتجه إليه بالحركة والتعين لا ينافي الكلية لأن كل واحد من كل كلي فله مع كليته تعين يمتاز به عن سائر آحاد ذلك الكلي واعلم أن المشهور من مذهب المشائيين والمذكور في النجاة والشفاء أن النفوس الفلكية قوى جسمانية منطبعة في المواد بمنزلة نفوسنا الحيوانية وصرح في الإشارات بأن لها نفوسا مجردة بمنزلة نفوسنا الناطقة فقال الإمام فيجب أن يكون لكل فلك نفس مجردة هي مبدأ الإرادة الكلية ونفس منطبعة هي مبدأ الإرادة الجزئية ورد عليه الحكيم المحقق بأن هذا مما لم يذهب إليه أحد وأن الجسم الواحد يمتنع أن يكون ذا نفسين أعني ذا ذاتين متباينتين هو آلة لهما بل الإرادات الجزئية تنبعث عن إرادة كلية ومبدؤهما نفس واحدة مجردة تدرك المعقولات بذاتها والجزئيات بجسم الفلك وتحرك الفلك بواسطة صورته النوعية التي هي باعتبار تحريكها قوة كما في نفوسنا وأبداننا بعينها ولا يخفى أن هذا مناقشة في اللفظ حيث سمى تلك الصورة والقوة نفسا قال المبحث الثاني ذهب جمع من قدماء الفلاسفة إلى أن النفوس الحيوانية والإنسانية متماثلة متحدة الماهية واختلاف الأفعال والإدراكات عائد إلى اختلافات الآلات وهذا لازم على القائلين بأنها أجسام والأجسام متماثلة لا تختلف إلا بالعوارض وأما القائلون بأن النفوس الإنسانية مجردة فذهب الجمهور منهم إلى أنها متحدة الماهية وإنما تختلف في الصفات والملكات لاختلاف الأمزجة والأدوات وذهب بعضهم إلى انها مختلفة بالماهية بمعنى أنها جنس تحته أنواع مختلفة تحت كل نوع أفراد متحدة الماهية متناسبة الأحوال بحسب ما يقتضيه الروح العلوي المسمى بالطباع التام لذلك النوع ويشبه أن يكون قوله عليه السلام الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وقوله عليه السلام الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف إشارة إلى هذا وذكر الإمام في المطالب العالية أن هذا المذهب هو المختار عندنا وأما بمعنى أن يكون كل فرد منها مخالفا بالماهية لسائر الأفراد حتى لا يشترك منهم اثنان في الحقيقة فلم يقل به قائل تصريحا كذا ذكره أبو البركات في المعتبر احتج الجمهور بأن ما يعقل من النفس ويجعل حدا لها معنى واحد مثل الجوهر المجرد المتعلق بالبدن والحد تمام الماهية وهذا ضعيف لأن مجرد التحديد بحد واحد لا يوجب الوحدة النوعية إذ المعاني الجنسية أيضا كذلك كقولنا الحيوان جسم حساس متحرك بالإرادة وإن ادعى أن هذا مقول في جواب السؤال بما هو عن أي فرد واي طائفة تفرض فهو ممنوع بل ربما يحتاج إلى ضم مميز جوهري وقد يحتج بأنها متشاركة في كونها نفوسا بشرية فلو تخالفت بفصول مميزة لكانت
____________________
(2/35)
من المركبات دون المجردات والجواب بعد تسليم كون النفسية من الذاتيات دون العرضيات أن التركيب العقلي من الجنس والفصل لا ينافي التجرد ولا يستلزم الجسمية واحتج الآخرون بأن اختلاف النفوس وصفاتها لو لم يكن لاختلاف ماهياتها بل لاختلاف الأمزجة والأحوال البدنية والأسباب الخارجية لكانت الأشخاص المتقاربة جدا في أحوال البدن والأسباب الخارجة متقاربة البتة في الملكات والأخلاق من الرحمة والقسوة والكرم والبخل والعفة والفجور وبالعكس واللازم باطل إذ كثيرا ما يوجد الأمر بخلاف ذلك بل ربما يوجد الإنسان الواحد قد تبدل مزاجه جدا وهو على غريزته الأولى ولا خفاء في أن هذا من الإقناعيات الضعيفة لجواز أن يكون ذلك لأسباب أخر لا نطلع على تفاصيلها قال واستنادها يعني أن النفوس الإنسانية سواء جعلناها مجردة أو مادية حادثة عندنا لكونها أثر القادر المختار وإنما الكلام في أن حدوثها قبل البدن لقوله عليه السلام خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام أو بعده لقوله تعالى بعد ذكر أطوار البدن { ثم أنشأناه خلقا آخر } إشارة إلى إفاضة النفس ولا دلالة في الحديث مع كونه خبرا واحدا على أن المراد بالأرواح النفوس البشرية والجواهر العلوية ولا في الآية على أن المراد أحداث النفس أو أحداث تعلقها بالبدن وأما الفلاسفة فمنهم من جعلها قديمة لوجهين
أحدهما أنها لو كانت حادثة لم تكن أبدية واللازم باطل بالاتفاق على ما سيجيء وجه اللزوم أن كل حادث فاسد أي قابل للعدم ضرورة كونه مسبوقا بالعدم وقبول العدم ينافي الأبدية لأن معناها دوام الوجود فيما يستقبل ورد بأنه إن أريد أنه قابل للعدم اللاحق فنفس المدعي وإن أريد الأعم فلا ينافي دوام وجوده لدوام علنه
وثانيهما أنها لو كانت حادثة لم تكن مجردة بل مادية لما مر من أن كل حادث مسبوق بالمادة والمدة ورد بمنع الملازمة فإن ما مر على تقدير تمامه لا يفيد لزوم مادة يحلها الحادث بل يحلهما أو يتعلق بها وهذا لا ينافي كونه مجردا في ذاته وذهب أرسطو وشيعته إلى أنها حادثة لوجوه
الأول أنها لو كانت قديمة لكانت قبل التعلق بالبدن معطلة ولا معطل في الطبيعة وجه اللزوم ما سيجيء في بطال التناسخ ولا يلزم ذلك فيما بعد المفارقة عن البدن لأنها تكون ملتذة بكمالاتها أو متألمة برذائلها وجهالاتها فتكون في شغل شاغل ورد بعد تسليم أن لا تعطيل في الطبيعة وأن ليس للنفس قبل البدن إدراكات وكمالات ولا تعلق لجسم آخر بأن الترصد لاكتساب الكمال شغل فلا تكون معطلة
الثاني أنها مشروطة بمزاج خاص في البدن يناسبه نفس خاص
____________________
(2/36)
يفيض عليه لتمام الاستعداد في القابل وعموم القبض من الفاعل والمشروط بالحادث حادث بالضرورة فإن قيل فيلزم أن ينعدم عند انعدام المزاج ضرورة انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط قلنا يجوز أن يكون المزاج شرطا لحدوثها لا لبقائها كما في كثير من المعدات ورد بمنع الصغرى لجواز أن يكون المشروط بالمزاج تعلقها بالبدن لا وجودها الثالث وهو العمدة في إثبات المطلوب أن النفوس لو كانت قديمة فإما أن تكون في الأزل واحدة أو متعددة لا سبيل إلى الأول لأنها بعد التعلق بالبدن إما أن تبقى على وحدتها وهو باطل بالاتفاق والضرورة للقطع باختلاف الأشخاص في العلوم والجهالات وإما أن تتكثر بالانقسام والتجزي وهو على المجرد محال أو بزوال الواحد وحصول الكثير وهو قول بالحدوث ولا إلى الثاني لأن تمايزها إما بذاتها فينحصر كل في شخص ولا يوجد نفسان متماثلان والخصم يوافقنا على بطلانه وإما بالعوارض وهو أيضا باطل لأن اختلاف العوارض إنما يكون عند تغاير المواد ومادة النفس هي البدن ولا بدن في الأزل لأن المركبات العنصرية حادثة وفاقا ولو سلم فالكلام في النفوس المتعلقة بالأبد أن الحادثة الهالكة فتمايزها في الأزل بأبدان قديمة لا تتصور إلا بالانتقال عنها إلى هذه الأبدان وهو تناسخ وقد ثبت بطلانه على ما سنشير إليه فإن قيل لم لا يجوز أن يكون تمايزها بما يحل فيها كالشعور بهوياتها مثلا قلنا لأن هذا إنما يتصور بعد التمايز ليكون الحال في هذه مغايرا للحال في تلك فتعليل التمايز بذلك دور فإن قيل لو صح ما ذكرتم لزم عدم تمايزها بعد مفارقة الأبدان واضمحلالها لانتفاء العوارض المادية قلنا ممنوع لجواز أن يبقى تمايزها بما حصل لكل من خواصها التي لا توجد في الأخرى وأقلها الشعور بهويتها واعترض بوجهين
أحدهما أنا لا نسلم بطلان كون كل فرد من أفراد النفوس نوعا منحصرا في الشخص إذ لم تقم حجة على أنه يجب أن توجد نفسان متحدتان في الماهية
وثانيهما أنا لا نسلم امتناع أن يوجد جسم قديم تتعلق به النفس في الأزل ثم تنتقل منه إلى آخر وآخر على سبيل التناسخ كيف وعمدتهم الوثقى في إبطال التناسخ مبنية على حدوث النفس كما سيجيء فلو بنى إثبات الحدوث على بطلان التناسخ كان دورا فإن قيل نحن نبين امتناع تعين النفس بالعوارض البدنية بوجه لا يتوقف على بطلان التناسخ بأن نقول لو كان تعين هذه النفس بالعوارض المتعلقة بهذا البدن لما كانت متعينه قبله فلم تكن موجودة سواء كان التناسخ حقا لو باطلا قلنا الملازمة ممنوعة لجواز أن تكون قبل هذا البدن متعينة ببدن آخر معين وقبله بآخر وآخر لا إلى بداية فتكون موجودة بتعينات متعاقبة فلا بد من إبطال ذلك وقد يجاب عن الاعتراضين بأن الكلام إلزامي على من سلم تماثل النفوس وبطلان التناسخ قال ثم النفس ناطقة يعني أن كل نفس تعلم بالضرورة أن ليس معها في هذا البدن نفس أخرى تدبر أمره وأن ليس لها تدبير وتصرف في بدن
____________________
(2/37)
آخر فالنفس مع البدن على التساوي ليس لبدن واحد إلا نفس واحدة ولا تتعلق نفس واحدة إلا ببدن واحد أما على سبيل الاجتماع فظاهر وإما على سبيل التبادل والانتقال من بدن إلى بدن آخر فلوجوه
الأول أن النفس المتعلقة بهذا البدن لو كانت منتقلة إليه من بدن آخر لزم أن تتذكر شيئا من أحوال ذلك البدن لأن العلم والحفظ والتذكر من الصفات القائمة بجوهرها الذي لا يختلف باختلاف أحوال البدن واللازم باطل قطعا
الثاني أنها لو تعلقت بعد مفارقة هذا البدن ببدن آخر لزم أن يكون عدد الأبدان الهالكة مساويا لعدد الأبدان الحادثة لئلا يلزم تعطل بعض النفوس أو اجتماع عدة منها على التعلق يبدو واحدا وتعلق واحدة منها بأبدان كثيرة معا لكنا نعلم قطعا بأنه قد يهلك في مثل الطوفان العام أبدان كثيرة لا يحدث مثلها إلا في إعصار متطاولة
الثالث أنه لو انتقل نفس إلى بدن لزم أن تجتمع فيه نفسان منتقلة وحادثة لأن حدوث النفس عن العلة القديمة يتوقف على حصول الاستعداد في القابل أعني البدن وذلك بحصول المزاج الصالح وعند حصول الاستعداد في القابل يجب حدوث النفس لما تقرر من لزوم وجود المعلول عند تمام العلة لا يقال لا بد مع ذلك من عدم المانع ولعل تعلق المنتقلة مانع ويكون لها الأولوية في المنع بمالها من الكمال لأنا نقول لا دخل للكمال في اقتضاء التعلق بل ربما يكون الأمر بالعكس فإذن ليس منع الانتقال للحدوث أولى من منع الحدوث للانتقال واعترض على الوجوه الثلاثة بعد تسليم مقدماتها بأنها إنما تدل على أن النفس بعد مفارقة البدن لا تنتقل إلى بدن آخر إنساني ولا يدل على إنها لا تنتقل إلى حيوان آخر من البهائم والسباع وغيرهما على ما جوزه بعض التناسخية وسماه مسخا ولا إلى نبات على ما جوزه بعضهم وسماه فسخا ولا إلى جماد على ما جوزه آخر وسماه رسخا ولا إلى جرم سماوي على ما يراه بعض الفلاسفة وإنما قلنا بعد تسليم المقدمات لأنه ربما يعترض على الوجه الأول بمنع لزوم التذكر وإنما يلزم لو لم يكن التعلق بذلك البدن شرطا أو الاستغراق في تدبير البدن الآخر مانعا أو طول العهد منسيا وعلى الثاني بمنع لزوم التساوي وإنما يلزم لو كان التعلق ببدن آخر لازما البتة وعلى الفور وإما إذا كان جائزا أو لازما ولو بعد حين فلا لجواز أن لا تنتقل نفوس الهالكين الكثيرين أو تنتقل بعد حدوث الأبدان الكثيرة وماتوهم من التعطل مع أنه لا حجة على بطلانه فليس بلازم لأن الابتهاج بالكمالات أو التألم بالجهالات شغل وعلى الثالث بأنه مبني على حدوث النفس وكون فاعلها قديما موجبا لا حادثا أو قديما مختارا وكون الشرط هو المزاج الصالح دون غيره من الأحوال والأوضاع الحادثة وكون المزاج مع الفاعل تمام العلة بحيث لا مانع أصلا والكل في حيز المنع ( قال وغاية متشبثهم ) يعني ليس للتناسخية دليل يعتد به وغاية ما تمسكوا به في إثبات التناسخ على الإطلاق أن انتقال النفس بعد المفارقة إلى جسم آخر إنساني أو غيره وجوه
الأول أنها
____________________
(2/38)
لو لم تتعلق لكانت معطلة ولا معطل في الوجود وكلتا المقدمتين ممنوعة
الثاني أنها مجبولة على الاستكمال والاستكمال لا يكون إلا بالتعلق لأن ذلك شأن النفس وإلا لكانت عقلا لا نفسا ورد بأنه ربما كان الشيء طالبا لكماله ولا يحصل لزوال الأسباب والآلات بحيث لا يحصل لها البدل
الثالث أنها قديمة لما سبق من الأدلة فتكون متناهية العدد لامتناع وجود مالا يتناهى بالفعل بخلاف ما لا يتناهى من الحوادث كالحركات والأوضاع وما يستند إليها فإنها إنما تكون على سبيل التعاقب دون الاجتماع والأبدان مطلقا بل الأبدان الإنسانية خاصة غير متناهية لأنها من الحوادث المتعاقبة المستندة إلى ما لا يتناهى من الأدوار الفلكية وأوضاعها فلو لم تتعلق كل نفس إلا ببدن واحد لزم توزع ما يتناهى على مالا يتناهى وهو محال بالضرورة ورد بمنع قدم النفوس ومنع لزوم تناهي القدماء لو ثبت فإن الأدلة إنما تمت فيماله وضع وترتيب وضع لا يتناهى الأبدان وعللها ومنع لزوم أن يتعلق بكل بدن نفس وإن أريد الأبدان التي صارت إنسانا بالفعل اقتصر على منع لا تناهيها قال والذي ثبت قد يتوهم أن من شريعتنا القول بالتناسخ فإن مسخ أهل مائدة قردة وخنازير رد لنفوسهم إلى أبدان حيوانات آخر والمعاد الجسماني رد لنفوس الكل إلى أبدان آخر إنسانية للقطع بأن الأبدان المحشورة لا تكون الأبدان الهالكة بعينها لتبدل الصور والأشكال بلا نزاع والجواب أن المتنازع هو أن النفوس بعد مفارقتها الأبدان تتعلق في الدنيا بأبدان آخر للتدبير والتصرف والاكتساب لا أن تتبدل صور الأبدان كما في المسخ أو أن تجمع أجزاؤها الأصلية بعد التفرق فترد إليها النفوس كما في المعاد على الإطلاق وكما في إحياء عيسى عليه السلام بعض الأشخاص قال وما يحكيه بعضهم يعني أن القول بالتناسخ في الجملة أي تعلق بعض النفوس بأبدان آخر في الدنيا محكى عن كثير من الفلاسفة إلا أنه حكاية لا تعضدها شبهة فضلا عن حجة ومع ذلك فالنصوص القاطعة من الكتاب والسنة ناطقة بخلافها وذلك أنهم ينكرون المعاد الجسماني أعني حشر الأجساد وكون الجنة والنار داري ثواب وعقاب ولذات وآلام حسية ويجعلون المعاد عبارة عن مفارقة النفوس الأبدان والجنة عن ابتهاجها بكمالاتها والنار عن تعلقها بأبدان حيوانات آخر تناسبها فيما اكتسبت من الأخلاق وتمكنت فيها من الهيئات معذبة بما يلقى فيها من الذل والهوان مثلا تتعلق نفس الحريص بالخنزير والسارق بالفأر والمعجب بالطاووس والشرير بالكلب ويكون لها تدرج في ذلك بحسب الأنواع والأشخاص أي تنزل من بدن إلى بدن هو أدنى في تلك الهيئة المناسبة مثلا تبتدي نفس الحريص من التعلق ببدن الخنزير ثم إلى ما دونه في ذلك حتى تنتهي إلى النمل ثم تتصل بعالم العقول عند زوال تلك الهيئة بالكلية ثم إن من المنتمين من التناسخية إلى دين الإسلام يروجون هذا الرأي بالعبارات المهذبة والاستعارات المستعذبة ويصرفون إليه بعض الآيات الواردة في أصحاب
____________________
(2/39)
النار اجتراء على الله وافتراء على ما هو دأب الملاحدة والزنادقة ومن يجري مجراهم من الغاوين المغوين الذين هم شياطين الإنس الذين يوحون إلى العوام والقاصرين من المحصلين زخرف القول غرورا فمن جملة ذلك ما قالوا في قوله تعالى { كلما نضجت جلودهم } أي بالفساد { بدلناهم جلودا غيرها } أي بالكون وفي قوله تعالى { كلما أرادوا أن يخرجوا منها } أي من دركات جهنم التي هي أبدان الحيوانات وكذا في قوله تعالى { فهل إلى خروج من سبيل } وقوله تعالى { ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون } وفي قوله تعالى { وما من دابة في الأرض } الآية معناه أنهم كانوا مثلكم في الخلق والمعايش والعلوم والصناعات فانتقلوا إلى أبدان هذه الحيوانات وفي قوله تعالى { كونوا قردة خاسئين } أي بعد المفارقة وفي قوله تعالى { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } أي على صور الحيوانات المنتكسة الرؤوس إلى غير ذلك من الآيات ومن نظر في كتب التفسير بل في سياق الآيات لا يخفى عليه فساد هذه الهذيانات وجوز بعض الفلاسفة تعلق النفوس المفارقة ببعض الأجرام السماوية للاستكمال وبعضهم على أن نفوس الكاملين تتصل بعالم المجردات ونفوس المتوسطين تتخلص إلى عالم المثل المعلقة في مظاهر الأجرام العلوية على اختلاف مراتبهم في ذلك ونفوس الأشقياء إلى هذا العالم في مظاهر الظلمانيات والصور المستكرهة بحسب اختلاف مراتبهم في الشقاوة فيبقى بعضهم في تلك الظلمات أبدا لكون الشقاوة في الغاية وبعضهم ينتقل بالتدريج إلى عالم الأنواع المجردة وستعرف معنى المثل المعلقة قال المبحث الثالث يعني أن فناء البدن لا يوجب فناء النفس المغايرة له مجردة كانت أو مادية أي جسما حالا فيه لأن كونها مدبرة له متصرفة فيه لا يقتضي فناءها بفنائه لكن مجرد ذلك لا يدل على كونها باقية البتة فلهذا احتيج في ذلك إلى دليل وهو عندنا النصوص من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهي من الكثرة والظهور بحيث لا تفتقر إلى الذكر وقد أورد الإمام في المطالب العالية من الشواهد العقلية والنقلية في هذا الباب ما يفضي ذكره إلى الإطناب وأما الفلاسفة فزعموا أنه يمتنع فناء النفس بوجهين
أحدهما أنها مستندة إلى علة قديمة إما بالاستقلال فتكون أزلية أبدية وإما بشرط حادث هو المزاج الصالح فلا تكون أزلية لكنها أبدية لأن ذلك شرط للحدوث دون البقاء وعليه منع ظاهر
وثانيهما أنها لو كانت قابلة للفناء والفساد وهي باقية بالفعل لكان فيها فعل البقاء وقوة الفساد وهما متغايران ضرورة ويمتنع أن يكون محلهما واحدا لأن محل قبول الشيء يكون باقيا معه موصوفا به ومحال أن يكون الباقي بالفعل باقيا مع الفناء والفساد والنفس جوهر بسيط محل للبقاء بالفعل فيمتنع أن يكون بعينها محلا لقوة الفساد أو مشتملة عليه فلا تكون هي ولا شيء من المجردات قابلة للفناء والفساد وإنما يكون ذلك للصور والأعراض ويكون القابل هو المادة الباقية فإن قيل قوة الفناء هي إمكان العدم وهو أمر اعتباري لا يقتضي وجود محل أجيب
____________________
(2/40)
بأن المراد الإمكان الاستعدادي الذي يجتمع مع وجود الشيء لا الإمكان الذاتي الاعتباري ورد هذا الدليل بأنا لا نسلم أن قوة قبول الأمر العدمي كالفناء مثلا يقتضي وجود محل لها يجتمع مع المقبول ولو سلم فقد سبق أن الحدوث أيضا يقتضي مادة ويكفي المادة التي تتعلق بها النفس من غير خلول فلم لا يكفي مثلها في قوة الفناء وقد يجاب بأن القوة الاستعدادية عرض فلا بد له من محل سواء كان استعداد القبول أمر وجودي أو عدمي ثم استعداد بدن الجنين بما له من اعتدال المزاج لأن يفيض عليه من المبدأ نفس تدبره معنى معقول وأما استعداده ببطلان ذلك المزاج لأن ينعدم ذلك المدبر فغير معقول بل غايته أن ينعدم ما بينهما من العلاقة وهو لا يقتضي الفناء ( قال المبحث الرابع ) لا نزاع في أن مدرك الكليات من الإنسان هو النفس وأما مدرك الجزئيات على وجه كونها جزئيات فعندنا النفس وعند الفلاسفة الحواس لنا وجوه
الأول أن ما يشير إليه كل أحد بقوله أنا وهو معنى النفس يحكم بأن هذا الشخص من أفراد الإنسان الكلي وأنه ليس هذا الفرس وأن هذا اللون غير هذا الطعم وأن هذه الصورة الخيالية صورة زيد المحسوس إلى غير ذلك من الحكم بين الكلي والجزئي أو بين الجزئيات والحاكم بين الشيئين لا بد أن يدركهما فالمدرك من الإنسان لجميع الإدراكات شيء واحد
الثاني أن نفس كل أحد تتصرف في بدنه الجزئي وتباشر أفعاله الجزئية وذلك يتوقف على إدراك تلك الجزئيات لأن الرأي الكلي نسبته إلى جميع الجزئيات على السواء ولأن كل عاقل يجد من نفسه أنه لا يحاول تدبير بدن كلي بل مقصوده تدبير بدنه الخاص
الثالث أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه واحد بالعدد يسمع ويبصر ويدرك المعقولات وإن كان يتوقف بعض هذه الإدراكات على استعمال الآلات وليست النفس سوى ذلك الواحد الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا أحتج الخصم بوجوه
الأول أنا قاطعون بأن الإبصار للباصرة والسمع للسامعة وليسا فعلى قوة واحدة وهذا في التحقيق دعوى كون المطلوب ضروريا
الثاني لو لم يكن الإبصار للباصرة والسمع للسامعة والذوق للذائقة وكذا جميع الحواس الظاهرة والباطنة لما كانت الآفة في محال هذه القوى توجب الآفة في هذه الأفعال كما لا توجبها الآفة في الأعضاء الأخر واللازم باطل بالتجربة
الثالث أن إدراك المحسوسات الظاهرة لو كان للنفس لا للحواس لما توقف على حضور المحسوس عند الحاسة لأن حال النفس وإدراكاته لا تتفاوت بالغيبة والحضور
الرابع لو كان التخيل للنفس لا لقوة جسمانية لما أمكن تخيل
____________________
(2/41)
ذوات الأوضاع والمقادير لامتناع ارتسامها في المجرد وقد سبق أنه لا بد في الإدراك من الارتسام
الخامس لو لم يكن التخيل للقوة الجسمانية لم يحصل الامتياز بين المتيامن والمتياسر فيما إذا تخيلنا لا من الخارج مربعا مجنحا بمربعين متساويين في جميع الوجوه إلا في أن أحدهما على يمين المربع والآخر على يساره هكذا إذ ليس امتيازهما بالماهية ولوازمها وعوارضها كالمقدار والشكل والسواد والبياض وغير ذلك لفرض التساوي فيها بل بالمحل وليس المحل الخارجي لأن المفروض أنه لم يؤخذ من الخارج فتعين المحل الإدراكي والمجرد لا يصلح محلا لذلك فتعين الآلة الجسمانية ولا يخفى أنا إذا جعلنا القوى الجسمانية آلات للإحساس وإدراك الجزئيات والمدرك هو النفس على ما صرح به المتأخرون من الحكماء ارتفع نزاع الفريقين وظهر الجواب عن أدلتهم إلا أنه يرد إشكالات
الأول أن غير الإنسان من الحيوانات يدرك المحسوسات فلو كان المدرك هو النفس المجردة كما في الإنسان لما صح ذلك إذ ليست لها نفوس ناطقة وفاقا والجواب أنه لو سلم ذلك يجوز أن يكون المدرك فيها هي القوى الجسمانية وفينا النفس بواسطة القوى وهذا معنى قولنا الاشتراك في اللوازم وهي الإحساسات لا يوجب الاشتراك في الملزوم وهو النفس المجردة
الثاني أنه لو كان إدراك النفس للجزئيات بمعونة الآلات لما أدركت النفس هويتها لامتناع توسط الآلة في ذلك واللازم باطل بالضرورة والاتفاق والجواب أن المفتقر إلى توسط الآلة إدراك الجزئيات التي يمتنع ارتسام صورها في النفس المجردة وأما ما لا يفتقر إدراكها إلى ارتسام صورة كإدراك النفس ذاتها فلا يفتقر إلى توسط آلة
الثالث أنها عند تعلقها بالبدن تتصوره بعينه إذ لا يكفي في ذلك تصور بدن كلي لأن نسبته إلى الكل على السواء وكانت قبل استعمال الآلات مدركة للجزئيات والجواب أن تعلقها بالبدن شوقي طبيعي بمقتضى المناسبة لا إرادي ليتوقف على تصور البدن بعينه
الرابع أنها عند قصد استعمال الآلات للإدراكات والتحريكات تتصورها بأعيانها من غير توسط آلة والجواب أنها تتصورها من حيث هي آلات لهذه النفوس حاصلة في هذا البدن المحسوس فيحصل التخصيص بهذه الإضافة ولا يلزم إدراكها من حيث كونها جزئيات في ذواتها كما إذا حاولنا سلوك طريق نعرفه بصفاته بحيث يتعين في الخارج وإن لم نشاهده بعينه ويجوز أن ندركها بعينها على سبيل التخيل فإن المتخيلات لا يجب أن تتأدى من طرق الحواس البتة بقي ههنا إشكال وهو أنه إذا كان المدرك للجزئيات هو النفس لكن بحصول الصورة في الآلة فإما أن تكون الصورة حاصلة في النفس أيضا على ما يشعر به قولهم ليس الإدراك بحصول الصورة في الآلة فقط بل بحصولها في النفس لحصولها في الآلة وبالحضور عند المدرك للحضور عند الحس من غير أن يكون هناك حضور مرتين وحينئذ يعود المحذور أعني ارتسام صورة الجزئي
____________________
(2/42)
والمحسوس في المجرد وإما أن لا تكون الصورة حاصلة في النفس بل في الآلة فقط على ما هو الظاهر من كلامهم وليست الآلة إلا جزأ من جسم تديره النفس فلا بد من تحقيق أي حالة تحصل للنفس نسميها إدراكا وحضور الشيء عند النفس ولا يحصل بمجرد تحقق ذلك الشيء في نفسه وحصول صورته في مادته وأنها إن كانت إضافة مخصوصة فلم لا يكفي ذلك في إدراك الكليات من غير افتقار إلى حصول الصورة في النفس وبالجملة فقد جاز الإدراك من غير ارتسام صورة في المدرك فلم أوجبتم ذلك في إدراك الكليات مع أنكم تقولون الإدراك معنى واحد يختلف بالإضافة إلى الحس أو العقل قال تنبيه لما كان إدراك الجزئيات مشروطا عند الفلاسفة بحصول الصورة في الآلات فعند مفارقة النفس وبطلان الآلات لا تبقى مدركة للجزئيات ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط وعندنا لما لم تكن الآلات شرطا في إدراك الجزئيات أما لأنه ليس بحصول الصورة لا في النفس ولا في الحس وأما لأنه لا يمتنع ارتسام صورة الجزئي في النفس بل الظاهر من قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات متجددة جزئية واطلاع على بعض جزئيات أحوال الأحياء سيما الذين كان بينهم وبين الميت تفارق في الدنيا ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخبرات واستدفاع الملمات فإن للنفس بعد المفارقة تعلقا ما بالبدن وبالتربة التي دفنت فيها فإذا زار الحي تلك التربة وتوجهت تلقاء نفس الميت حصل بين النفسين ملاقاة وإفاضات قال المبحث الخامس قد سبق أن لفظ القوة كما يطلق على مبدأ التغيير والفعل فكذا على مبدأ التغير والانفعال فقوة النفس باعتبار تأثرها عما فوقها من المبادي للاستكمال بالعلوم والإدراكات تسمى عقلا نظريا وباعتبار تأثيرها في البدن لتكميل جوهره وإن كان ذلك أيضا عائدا إلى تكميل النفس من جهة أن البدن آلة لها في تحصيل العلم والعمل يسمى عقلا علميا والمشهور أن مراتب النظري أربع لأنه إما كمال وإما استعداد نحو الكمال قوي أو متوسط أو ضعيف فالضعيف وهو محض قابلية النفس للإدراكات يسمى عقلا هيولانيا تشبيها بالهيولي الأولي الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة لها بمنزلة قوة الطفل للكتابة والمتوسط وهو استعدادها لتحصيل النظريات بعد حصول الضروريات يسمى عقلا بالملكة لما حصل لها من ملكة الانتقال إلى النظريات بمنزلة الأمي المستعد لتعلم الكتابة وتختلف مراتب الناس في ذلك اختلافا عظيما بحسب اختلاف درجات الاستعدادات والقوى وهو الاقتدار على
____________________
(2/43)
استحضار النظريات متى شاءت من غير افتقار إلى كسب جديد لكونها مكتسبة مخزونة تحضر بمجرد الالتفات بمنزلة القادر على الكتابة حين لا يكتب وله أن يكتب متى شاء يسمى عقلا بالفعل لشدة قربه من الفعل وأما الكمال فهو أن تحصل النظريات مشاهدة بمنزلة الكاتب حين يكتب ويسمى عقلا مستفادا أي من خارج وهو العقل الفعال الذي يخرج نفوسنا من القوة إلى الفعل فيما له من الكمالات ونسبته إلينا نسبة الشمس إلى أبصارنا وتختلف عبارات القوم في أن المذكورات أسامي لهذه الاستعدادات والكمال أو للنفس باعتبار اتصافها بها أو لقوى في النفس هي مبادئها مثلا يقال تارة أن العقل الهيولاني هو استعداد النفس لقبول العلوم الضرورية وتارة أنه قوة استعدادية أو قوة من شأنها الاستعداد المحض وتارة أنه النفس في مبدأ الفطرة من حيث قابليتها للعلوم وكذا في البواقي وربما يقال أن العقل بالملكة هو حصول الضروريات من حيث تتأدى إلى النظريات وقال ابن سينا هو صورة المعقولات الأولى تتبعها القوة على كسب غيرها بمنزلة الضوء للإبصار والمستفاد هو المعقولات المكتسبة عند حصولها بالفعل وقال في كتاب المبدأ والمعاد أن العقل بالفعل والعقل المستفاد واحد بالذات مختلف بالاعتبار فإنه من جهة تحصيله للنظريات عقل بالفعل ومن جهة حصولها فيه بالفعل عقل مستفاد وربما قيل هو عقل بالفعل بالقياس إلى ذاته ومستفاد بالقياس إلى فاعله واختلفوا أيضا في أن المعتبر في المستفاد هو حضور النظريات الممكنة للنفس بحيث لا تغيب أصلا حتى قالوا أنه آخر المراتب البشرية وأول المنازل المكية وأنه يمتنع أو يستبعد جدا ما دامت النفس متعلقة بالبدن أو مجرد الحضور حتى يكون قبل العقل بالفعل بحسب الوجود على ما صرح به الإمام وإن كان بحسب الشرف هو الغاية والرئيس المطلق الذي يخذمه سائر القوى من الإنسانية والحيوانية والنباتية ولا يخفى أن هذا أشبه بما اتفقوا عليه من حصر المراتب في الأربع نعم حضور الكل بحيث لا يغيب أصلا هو كمال مرتبة المستفاد وذكر الإمام في بيان المراتب أن النفس إن خلت عن العلوم مع أنها قابلة لها سميت في تلك الحالة عقلا هيولانيا وإلا فإن حصلت الضروريات فقط سميت حينئذ عقلا بالملك وإن حصلت النظريات أيضا فإن لم تكن حاصلة بالفعل بل لها قوة الاستحضار بمجرد التوجه سميت النفس حينئذ عقلا بالفعل وإن كانت حاضرة سميت النفس عقلا مستفادا فالحالات أربع لا غير حالة الخلو وحالة حصول الضروريات وحالة حصول النظريات بدون الحضور وحالة حصولها مع الحضور والمراتب هي النفس باعتبارها وهو موافق لما قال ابن سينا أن النفس تكون عقلا بالملكة ثم عقلا بالفعل ثم عقلا مستفادا والمعنى أن حالتها مستفادة وأما ما ذكر في المواقف من أن العقل بالفعل هو ملكة استنباط النظريات من الضروريات أي
____________________
(2/44)
ضرورة العقل بحيث متى شاء استحضر الضروريات واستنتج منها النظريات فلم نجده في كلام القوم قال وأما العملي يعني أنها قوة بها يتمكن الإنسان من استنباط الصناعات والتصرفات في موضوعاتها التي هي بمنزلة المواد كالخشب للنجار وتمييز مصالحه التي يجب الإتيان بها من المفاسد التي يجب الاجتناب عنها لينتظم بذلك أمر معاشه ومعاده وبالجملة هي مبدأ حركة بدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرؤية على مقتضى آراء يخصها صلاحية ولها نسبة إلى القوة النزوعية ومنها يتولد الضحك والخجل والبكاء ونحوها ونسبة إلى الحواس الباطنة هي استعمالها في استخراج أمور مصلحة وصناعات وغيرها ونسبة إلى القوة النظرية وهي أن أفاعيله أعني أعماله الاختيارية ينبعث عن آراء جزئية تستند إلى آراء كلية تستنبط من مقدمات أولية أو تجريبية أو ذائعة أو ظنية تحكم بها لقوة النظرية مثلا يستنبط من قولنا بذل الدرهم جميل والفعل الجميل ينبغي أن يصدر عنا أن بذل الدرهم ينبغي أن يصدر عنا ثم نحكم بأن هذا الدرهم ينبغي أن أبذله لهذا المستحق فينبعث من ذلك شوق وإرادة إلى بذله فتقدم القوة المحركة على دفعه إلى المستحق قال ويتفرع على النظري يعني أن كمال القوة النظرية معرفة أعيان الموجودات وأحوالها وأحكامها كما هي أي على الوجه الذي هي عليه وفي نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية وتسمى حكمة نظرية وكمال القوة العملية القيام بالأمور على ما ينبغي أي على الوجه الذي يرتضيه العقل الصحيح بقدر الطاقة البشرية وتسمى حكمة عملية وفسروا الحكمة على ما يشمل القسمين بأنها خروج النفس من القوة إلى الفعل في كمالها الممكن علما وعملا إلا أنه لما كثر الخلاف وفشا الباطل والضلال في شأن الكمال وفي كون الأشياء كما هي والأمور على ما ينبغي لزم الاقتداء في ذلك بمن ثبت بالمعجزات الباهرة أنهم على هدى من الله تعالى وكانت الحكمة الحقيقية هي الشريعة لكن لا بمعنى مجرد الأحكام العملية بل بمعنى معرفة النفس ما لها وما عليها والعمل بها على ما ذهب إليه أهل التحقيق من أن الحكمة المشار إليها في قوله تعالى { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } هو الفقه وأنه اسم للعلم والعمل جميعا وقد قسم الحكمة المفسرة بمعرفة الأشياء كما هي إلى النظرية والعملية لأنها إن كانت علما بالأمور المتعلقة لقدرتنا واختيارنا فعملية وغايتها العمل وتحصيل الخير وإلا فنظرية وغايتها إدراك الحق وكل منهما ينقسم بالقسمة الأولية إلى ثلاثة أقسام فالنظرية إلى الإلهي والرياضي والطبيعي والعملية إلى علم الأخلاق وعلم تدبير المنزل وعلم سياسة المدينة لأن النظرية إن كانت علما بأحوال الموجودات من حيث يتعلق بالمادة تصورا وقواما فهي العلم الطبيعي وإن كانت من حيث يتعلق بها قواما لا تصورا فالرياضي كالبحث عن الخطوط والسطوح وغيرهما مما يفتقر إلى المادة في الوجود لا في التصور وإن كانت
____________________
(2/45)
من حيث لا يتعلق بها لا قواما ولا تصورا فالإلهي ويسمى العلم الأعلى وعلم ما بعد الطبيعة كالبحث عن الواجب والمجردات وما يتعلق بذلك واعترض صاحب المطارحات بأن في الإلهي ما يتعلق بالمادة في الجملة كالوحدة والكثرة والعلية والمعلولية وكثير من الأمور العامة وفي الرياضي ما قد يستغني عنها كالعدد وهو مدفوع بقيد الحيثية فإن العدد إذا اعتبر من حيث هو كان مستغنيا عن المادة ويبحث عنه في الإلهي وإذا اعتبر من حيث هو في الأوهام أو في الموجودات المادية متفرقة ومجتمعة فيبحث عن الجمع والتفريق والضرب والقسمة فهو علم العدد المعدود من أقسام الرياضي وإلى هذا أشار في الشفاء إلا أنه قد يناقش في اختصاص حيثية الجمع والتفريق والضرب والقسمة وبالجملة المباحث الحسابية تغير المجردات والحكمة العملية إن تعلقت بآراء ينتظم بها حال الشخص وزكاء نفسه فالحكمة الخلقية وإلا فإن تعلقت بانتظام المشاركة الإنسانية الخاصة فالحكمة المنزلية والعامة فالحكمة المدنية والسياسة قال وأصول الأخلاق للإنسان قوة شهوية هي مبدأ جذب المنافع ودفع المضار من المآكل والمشارب وغيرها وتسمى القوة البهيمية والنفس الأمارة وقوة عصبية هي مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع وتسمى القوة السبعية والنفوس اللوامة وقوة نطقية هي مبدأ إدراك الحقائق والشوق إلى النظر في العواقب والتمييز بين المصالح والمفاسد وتحدث من اعتدال حركة الأولى العفة وهي أن تكون تصرفات البهيمية على وفق اقتضاء النطقية لتسلم عن أن يستعبدها الهوى وتستخدمها اللذات ولها طرف إفراط هي الخلاعة والفجور أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما ينبغي وطرف تفريط هو الخمود أي السكون عن طلب ما رخص فيه العقل والشرع من اللذات إيثارا لا خلقة ومن اعتدال حركة السبعية الشجاعة وهي انقيادها للنطقية ليكون إقدامها على حسب الرؤية من غير اضطراب في الأمور الهائلة ولها طرف إفراط هو التهور أي الإقدام على مالا ينبغي وتفريط وهو الجبن أي الحذر عما لا ينبغي ومن اعتدال حركة النطقية الحكمة وهي معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر الاستطاعة وطرف إفراطها الجريزة وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي ولا على ما ينبغي وطرف تفريطها الغباوة وهي تعطيل الفكر بالإرادة والوقوف عن اكتساب العلوم فالأوساط فضائل والأطراف رذائل وإذا امتزجت الفضائل حصل من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة فأصول الفضائل العفة والشجاعة والحكمة والعدالة ولكل منها شعب وفروع مذكورة في كتب الأخلاق وكذا الرذائل الست ( قال المبحث السادس ) إشارة إجمالية إلى بيان غرائب أحوال وأفعال تظهر
____________________
(2/46)
من النفوس الإنسانية وهي عندنا بمحض خلق الله تعالى من غير تأثير للنفوس خلافا للفلاسفة والكلام في ذلك يترتب على ثلاثة أقسام
الأول فيما يتعلق بأفعالها
والثاني فيما يتعلق بإدراكاتها الكائنة حالة النوم
والثالث فيما يتعلق بإدراكاتها الكائنة حالة اليقظة فالأول مثل المعجزات والكرامات من الأنبياء والأولياء والإصابة بالعين ممن له تلك الخاصية بلا اختياره ومثل السحر والعزائم ونحو ذلك مما يكون بمزاولة أفعال وأعمال مخصوصة وذلك لأن للنفس تأثيرا في البدن كما للجواهر العالية المجردة في عالم الكون والفساد وليس اقتصار تأثيرها على بدنها لانطباعها فيه بل لعلاقة عشقية بينهما فلا يبعد أن يكون لبعض النفوس قوة بها تقوى على التأثير في بدن آخر بل في حيوان آخر بل في أجسام أخر حتى تصير بمنزلة نفس ما للعالم أو لبعض الأجسام لا سيما الأجسام التي يحصل لها أولوية بها لمناسبتها لبدنها بوجه خاص فلا يبعد أن تحيل الهواء إلى الغيم فتحدث مطرا بقدر الحاجة أو أزيد كالطوفان وأن تفعل تحريكا وتسكينا وتكثيفا وتخلخلا يتبعها سحب ورياح وصواعق وزلازل ونبوع مياه وعيون ونحو ذلك وكذا إهلاك مدن وإزالة أمراض ودفع مؤذيات وغيرها وربما تكون النفس شريفة قوية تطلب خيرا وتدعو الله تعالى فتستحق بهيئتها واستعدادها ترجيحا لوجود بعض الممكنات فيوجد وأمثال هذه إذا صدرت عن نفوس خيرة شريفة فإن كانت مقرونة بدعوى النبوة فمعجزات وإلا فكرامات وقد يكون في بعض النفوس خاصية تحدث فيما أعجبها أذى ظاهرا وهو الإصابة بالعين وقد تستعين النفوس في إحداث الغرائب بمزاولة أعمال مخصوصة وهي السحر أو بقوى بعض الروحانيات وهي العزائم أو بالأجرام الفلكية وهي دعوة الكواكب أو بتمزيج القوى السماوية بالأرضية وهي الطلسمات أو بالخواص العنصرية وهي النيرنجات أو بالنسب الرياضية وهي الحيل الهندسية وقد يتركب بعض هذه مع بعض كجر الأثقال ونقل المياه والآلات الرقاصة والزمارة ونحو ذلك مما يستعان عليها بمجموع الخواص العنصرية والنسب الرياضية قال وقالوا في إدراكاتها المتعلقة بالنوم إشارة إلى القسم الثاني وبيان ذلك أن النفس لاشتغالها بالتفكر فيما تورد عليها الحواس قلما تفرغ للاتصال بالجواهر الروحانية فعند ركود الحواس بسبب انخناس الروح الحاملة لقوة الحس عنها تتصل النفس بتلك الجواهر وينطبع فيها ما فيها من صور الأشياء سيما ما هو أليق بتلك النفس من أحوالها وأحوال ما يقرب منها من الأهل والولد والمال والبلد وتلك الصور قد تكون جزئية في نفسها وقد تكون كلية تحاكيها المتخيلة بصور جزئية ثم تنطبع في الخيال وتنتقل إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة فإن كانت الصورة المشاهدة باقية على حالها بحيث لا تفاوت فيما جعلته المتخيلة جزئية إلا بالكلية والجزئية كانت الرؤيا غنية عن التعبير وإلا فإن كانت هناك مناسبة يمكن الوقوف عليها كما إذا صور المعنى
____________________
(2/47)
بصورة لازمه أو ضده مثلا فهي رؤيا تعبر ومعنى التعبير هو التحليل بالعكس لفعل التخيل حتى ينتهي إلى ما شاهدته النفس عند الاتصال بعالم الغيب فإن المتخيلة لما فيها من غريزة المحاكاة والانتقال تترك ما أخذت وتورد شبهه أو ضده أو مناسبه وربما تبدل ذلك إلى آخر وآخر وهكذا إلى حين اليقظة فالمعبر ينظر في الحاضر أنه صورة لأية صورة وتلك لآية صورة أخرى إلى أن ينتهي إلى الصورة التي أدركتها النفس وإن لم يكن هناك مناسبة توقف عليه فتلك الرؤيا تعد من أضغاث الأحلام وقد يقع ذلك بأسباب أخر مثل أن تبقى صورة المحسوس في الخيال فتنتقل في النوم إلى الحس المتشترك ومثل إن تألف المفكرة صورة فتنتقل منها عند النوم إلى الخيال ثم منه إلى الحس المشترك ومثل أن يتغير مزاج الروح الحامل للقوة المتخيلة فتتغير أفعالها بحسب تلك التغيرات فمن غلب على مزاجه الصفراء حاكته بالأشياء الصفراء والدم فبالحمراء والسوداء فبالسوداء والبلغهم فبالجمد والثلج ( قال وقالوا فيما يتعلق باليقظة ) هذا هو القسم الثالث وهو غرائب تتعلق بالإدراكات حالة اليقظة وذلك أن النفس قد تكون كاملة القوة فنفى بالمتجازيين فلا يمنعها الاشتغال بتدبير البدن عن الاتصال بالمبادي أي المجردات العلوية المفارقة والمتخيلة أيضا تكون قوية بحيث تقدر على استخلاص الحس المشترك عن الحواس الظاهرة فلا يبعد ان يقع لمثل هذه النفس في اليقظة اتصال بالمبادي فينطبع فيها صور بعض المغيات مما كان أو ليكون ثم يفيض الأثر إلى المتخيلة ثم ينتقل إلى الحس المشترك فربما يكون ذلك بسماع صوت لذيذ أو هائل وربما يرد مكتوبا على لوح أو تخاطبا من إنسان أو ملك أو جني أو هاتف غيب أو نحو ذلك وقد يكون مشاهدة صور مالا حضور له عند الحس إلا لشرف النفس كمال قوته بل الفساد في الآلات التي يستعملها العقل كما في المرض والجنون أو لاستيلاء أمر يدهش الحس ويحير الخيال كالعدو بسرعة وكتأمل شيء شاف مرعش للبصر مدهش إياه لشفيفه كسواد وبراق أو لغلبة خوف أو ظن أو وهم تعين التخيل وقد يكون ذلك بالرياضات المضعفة للقوى العليقة للنفس عن اتصالها بالمبادي الجاذبة إياها إلى جانب السفليات إلى غير ذلك من الأسباب المؤثرة عند الفلاسفة والعادية عندنا والخالق هو الله تعالى قال ووقوع بعض الغرائب ذهب جمهور الفلاسفة إلى أنه ليست لغير الإنسان من الحيوانات نفوس مجردة مدركة للكليات وبعضهم إلى أنا لا نعرف وجود النفس لها لعدم الدليل ولا نقطع بالانتفاء لقيام الاحتمال وما يتوهم من أنه لو كانت لها نفوس لكانت إنسانا لأن حقيقته النفس والبدن لا غير ليس بشيء لجواز اختلاف النفسين بالحقيقة وجواز التميز لفصول أخر لا يطلع على حقيقتها وذهب جمع من أهل النظر إلى ثبوت ذلك تمسكا بالعقول والمنقول أما المعقول فهو أنا نشاهد منها أفعالا غريبة تدل على أن لها إدراكات كلية وتصورات عقلية كالنحل في بناء بيوته المسدسة والانقياد لرئيس والنمل في إعداد
____________________
(2/48)
الذخيرة والإبل والبغل والخيل والحمار في الاهتداء إلى الطريق في الليالي المظلمة والفيل في غرائب أحوال نشاهد منه وكثير من الطيور والحشرات في علاج أمراض تعرض لها إلى غير ذلك من الحيل العجيبة التي يعجز عنها كثير من العقلاء وأما المنقول فكقوله تعالى { والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه } وقوله تعالى { وأوحى ربك إلى النحل } الآية وقوله تعالى { يا جبال أوبي معه والطير } وقوله تعالى حكاية عن الهدهد { أحطت بما لم تحط به } الآية وحكاية عن النملة { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } الآية ( قال الفصل الثاني في العقل ) احتجت الفلاسفة على ثبوته بوجوه
أحدها أن المعلول الأول يجب أن يكون جوهرا مفارقا في ذاته وفعله وهو المراد بالعقل أما الجوهرية فلأن العرض لا يمكن بدون المحل فالمحل إما معلول للعلة الأولى أعني الواجب فيلزم صدور الكثير أعني العرض والمحل من الواحد الحقيقي وأما للعرض فيلزم تقدم الشيء على نفسه وأما المفارقة فلأنه لو كان جسما وهو مركب من المادة والصورة لزم المحال المذكور وإن كان مادة أو صورة وكل منهما لا يوجد بدون الآخر فلزم فاعلية أحدهما للآخر مح أما المادة فلأن شأنها القبول دون الفعل وأما الصورة فلأنها إنما تفعل بمشاركة المادة فيلزم تقدمها على نفسها وإن كانت نفسا أي مفارقا في ذاته لا فعله فالبدن الذي هو شرط الفاعلية إما معلول للواجب فيلزم الكثرة أو للنفس فيلزم تقدمه على نفسه فصار الحاصل أن لنا أمر أصح وجوده عن العلة الأولى وإيجاده للمعلول الثاني وما ذاك إلا العقل لأن الجسم لما فيه من الكثرة لا يصلح معلولا للعلة الأولى وغيره لا يصلح علة للمعلول الثاني لأن ما يصلح منه للعلية يفتقر في عليته إلى أمر خارج عن ذاته فإن كان معلولا له لزم تقدم الشيء على نفسه وإن كان معلولا للعلة الأولى لزم صدور الكثرة عنها
وثانيها أن علة أول الأجسام يجب أن تكون عقلا وإلا لكان إما واجبا فيلزم صدور الكثرة عنه وأما غيره فيلزم تقدم الشيء على نفسه أما إذا كان جسما أو عرضا قائما به فظاهر وأما إذا كان نفسا فلأن فعلها مشروط بالجسم وإلا لكان عقلا لا نفسا فذلك الجسم أما الجسم الأول فيتقدم على نفسه بمرتبة وأما الثاني والثالث فيتقدم بمراتب وأما إذا كان مادة أو صورة فلأن كلا منهما لا توجد بدون الأخرى ومجموعهما جسم فلو كان فاعل الجسم الأول أحدهما لكان قبل الجسم الأول جسم وفيه تقدم الشيء على نفسه بمرتبة أو بمراتب واعترض على الوجهين بمنع بعض المقدمات أي لا نسلم امتناع صدور الكثير عن الواحد وقد تكلمنا على دليله ولو سلم فلم لا يجوز أن يكون الواجب مختارا يصدر عنه الكثرة بواسطة الإرادة ولا نسلم أن أول ما يصدر عن الواجب يلزم أن يكون أحد الأمور المذكورة لم لا يجوز أن يكون صفة من صفات الواجب ثم يصدر المعلول الثاني والثالث عن تلك الصفة أو عن الذات بواسطتها ولا نسلم أن المعلول الأول يجب أن يكون موجدا لما بعده لجواز أن يكون واسطة وحينئذ يجوز أن يكون أول ما يصدر
____________________
(2/49)
نفسا أو مادة أو صورة ثم يصدر بواسطته البدن أو الجزء الآخر من الجسم ولا نزاع في جواز صدور الكثير عن الواحد عند اختلاف الجهات والاعتبارات ولا نسلم أن البدن شرط لفاعلية النفس بل لإدراكاتها فإن قيل فتكون مستغنية عن المادة في الذات والفعل ولا نعني بالعقل سوى هذا قلنا المدعي إثبات جوهر مفارق في ذاته وفعله إيجادا كان أو إدراكا ويجوز أن يكون الصادر الأول مستغنيا في فعله الإيجادي دون الإدراكي فإن اشترط في النفس الاحتياج إلى المادة في الإدراك فقط كان هذا نفسا أو فيهما جميعا كان هذا غير العقل والنفس فلا يتم المطلوب ( قال الثالث ) أي ثالث وجوه الاحتجاج على ثبوت العقل أنه قد ثبت أن حركات الأفلاك إرادية فيكون المطلوب محسوسا أو معقولا والأول باطل لأن طلب المحسوس إما أن يكون للجذب أو للدفع وجذب الملائم شهوة ودفع المنافر غضب وهما على الفلك محال لأنه بسيط متشابه الأحوال لا يتغير من حالة غير ملائمة إلى حالة ملائمة فتعين الثاني وهو أن يكون المطلوب معقولا وذلك المطلوب معشوق لأن دوام الحركة إنما يكون لفرط طلب تقتضيه محبة مفرطة هي العشق فالعاشق الطالب إما أن يريد نيل ذاته أو نيل صفاته أو نيل شبه إحداهما وإ لا لما كان له تعلق بالمعشوق والأولان باطلان لأن الذات أو الصفة إما أن تنال في الجملة فيلزم انقطاع الحركة لامتناع طلب الحاصل وهو محال لأنها علة وجود الزمان وإما أن لا ينال أصلا فلا بد من اليأس عن حصول ما هذا شأنه ويلزم الانقطاع أو دوام طلب المحال على أن نيل الصفة محال لامتناع زوالها عن محلها فتعين الثالث وهو أن يكون ا لطلب لنيل شبه بالمعشوق ولا يجوز أن يكون شبها مستقرا وإلا يلزم الانقطاع أو طلب الحاصل بل شبها غير مستقر أي شبها بعد شبه بحيث ينقضي شبه ويحصل آخر ويجب أن يحفظ ذلك بتعاقب الأفراد لا إلى نهاية وإلا يلزم الانقطاع فيثبت أن المطلوب حصول مشابهات غير متناهية تحصل على التدريج في أوقات غير متناهية لئلا يلزم انقطاع الحركة فيكون المعشوق موجودا متصفا بصفات كمال غير متناهية بتحرك الفلك ويستخرج بحركته الأوضاع الممكنة من القوة إلى الفعل ويحصل له بكل وضع شبه بالمعشوق ا لذي هو بالفعل من كل الوجوه ولم يزل يزول وضع ويحصل آخر فيزول شبه ويحصل آخر ويحفظ كل منهما بتعاقب الأفراد والفلك يقبل منه الفيض بواسطة تلك المشابهات ولا يجوز أن يكون ذلك هو الواجب وإلا لم تختلف الحركات فتعين أن يكون عقلا ويثبت بذلك تعدد العقول والاعتراض عليه أنا لا نسلم وجوب دوام حركة السماء وامتناع انقطاعها ولا نسلم أن طلب المحسوس لا يكون إلا للجذب أو الدفع لم لا يجوز أن يكون لمعرفته أو التشبه به أو غير ذلك ولا نسلم استحالة الشهوة والغضب على الأفلاك ولا يلزم من تشابه أجزائها في الحقيقة تشابه أحوالها ولا نسلم أنه يلزم من عدم نيل ذات المعشوق أو حالة حصول
____________________
(2/50)
اليأس ولا من نيله انقطاع الطلب لم لا يجوز أن يدوم الرجاء أو يكون المعشوق أو حاله أمرا غير قار يتحفظ نوعه بتعاقب الأفراد كما ذكرتم في الشبه ولا نسلم أن المعشوق الموصوف بصفات كمال غير متناهية هو العقل وإنما يلزم ذلك لو كان ذلك على الاجتماع دون التعاقب وبعض هذه وإن أمكن دفعه لكن لا يتم المطلوب إلا بدفع الكل قال المبحث الثاني في أحوالها يشير إلى إثبات أحكام تتفرع على إثبات العقول المجردة منها أنها عشرة بمعنى أنها ليست أقل من ذلك وأما في جانب الكثرة فالعلم عند الله تعالى كيف ولا قطع بانحصار الأفلاك الكلية في التسع بل يجوز أن يكون بين الفلك المحيط بالكل وفلك الثوابت أفلاك كثيرة وأن يكون كل من الثوابت في فلك ولو سلم فيجوز أن يكون لكل من الأفلاك الجزئية عقل يدبر أمره ويتشبه هو به بوجه لا يعلم كنهه إلا الله تعالى وحده وإنما تصير عشرة مع كون الأفلاك تسعة لأن الأول مصدر لفلك ونفس وعقل وهكذا إلى الآخر فتكون العقول الصادرة تسعة ومع الأول المصدر عشرة والعاشر الذي هو عقل الفلك الأخير يدبر أمر عالم العناصر بحسب الاستعدادات التي تحصل للمواد العنصرية من تجدد الأوضاع الفلكية والمراد بتدبير العقول التأثير وإفاضة الكمالات لا التصرف الذي للنفوس مع الأبدان ومنها أنها أزلية لما سبق من أن كل حادث مسبوق بمادة يحل فيها كالصور والأعراض أو يتعلق بها كالنفوس والعقول مبرأة عن ذلك ومنها أن كلا من العقول نوع ينحصر في شخص لأن تكثر أشخاص النوع الواحد لا يكون إلا بحسب المواد وما يكتنفها من الهيئات ومنها أن كمالاتها حاصلة بالفعل لأن خروج الشيء من القوة إلى الفعل لا يكون إلا بما له مادة تندرج في الاستعدادات بحسب تجدد المعدات من الأوضاع والحركات ومنها أنها عاقلة لذواتها ولجميع الكليات إما لذواتها فلأنها حاضرة بماهياتها عند ذواتها المجردة وهو معنى التعقل إذ لا يتصور في تعقل الشيء لنفسه حصول المثال المطابق وأما لغيرها فلأنها مجردة وكل مجرد يمكن أن يعقل لبراءته عن الشوائب المادية واللواحق الغريبة المانعة عن التعقل وكل ما يمكن أن يعقل فإنه يمكن أن يعقل مع غيره من الكليات لأن الصور العقلية ليست متعاندة بل متعاونة وكل ما يمكن أن يعقل مع غيره صح أن يقارنه من غير أن تتوقف صحة المقارنة على حصولهما في جوهر العاقل لأن ذلك متأخر عن صحة المقارنة ضرورة تقدم إمكان الشيء على حصوله فلو توقفت صحة المقارنة عليه لزم الدور فإذن صحة مقارنة المجردات وسائر الكليات ثابتة عند حصول المجرد في الأعيان فيثبت صحة تعقله إياها إذ لا معنى له سوى مقارنتها للمجرد وحضورها عنده وكل ما يصح للعقول المجردة فهو حاصل بالفعل لما مر فتكون عاقلة لذواتها ولجميع المعقولات ثم أنك خبير بابتناء هذه الفروع على مقدمات فلسفية غير مسلمة عند المتكلمين فلا حاجة إلى التنبيه قال وإنها مبادي يعني من أحوال العقول أنها مبادي
____________________
(2/51)
لكمالات النفوس الفلكية بمعنى أن الموجب لتلك الحركة السرمدية هو العقل لا بطريق المباشرة وإلا لكان له تعلق بالجسم من طريق التصرف فيه فلم يكن عقلا بل بطريق الإفاضة على النفس المحركة بقوته التي لا تتناهى وبقبولها منه ذلك الفيض وتأثيرها تأثيرا غير متناه عن سبيل الوساطة دون المبدائية لامتناع صدور غير المتناهي عما يتعلق بالأجسام ما لم يكن مستمدا من مبدأ عقل غير متناهي القوة ومنها أن الأخير من العقول وهو المسمى بالعقل الفعال يعطي النفوس البشرية كمالاتها ويخرجها من القوة إلى الفعل في تعقلاتها ونسبته إلى النفوس نسبة الشمس إلى الإبصار بل أتم وهو كالخزانة للمعقولات إذا أقبلنا عليه قبلنا منه وإذا اشتغلنا عنه بجانب الحس انمحت عنا الصورة العقلية كالمرآة فإنها إذا حوذي بها صورة تمثلت فيها فإذا أعرض بها عنها زال ذلك التمثل وربما تمثل فيها غير تلك الصورة على حسب ما يحاذى بها فكذا النفس إذا أعرض بها عن جانب القدس إلى جانب الحس أو إلى شيء آخر من أمور القدس ومنها أن مبدأ النفوس كلها من حيث هي نفوس يجب أن يكون من العقول إذ لا يجوز أن يكون هو الواجب لأن النفوس لا تكون إلا مع الأجسام فلا تصدر عن الواحد الحقيقي ولا أن تكون من الأجسام وأجزائها وأحوالها لأنها إنما تفعل بمشاركة الوضع فلا تؤثر فيما لا وضع له ولا من النفوس لأن الكلام في المبدأ القريب الذي تستند إليه كلية النفوس وإن كان بعضها من البعض وبهذا يتبين أن المبدأ القريب لكلية الأجسام لا يجوز أن يكون هو الواجب ولا الجسم وأجزاؤه وأحواله ولا النفس لأنها من حيث هي نفس إنما تفعل بواسطة الجسم فتعين العقل ولا يخفى ضعف هذه بعض المقدمات وابتنائها على كون الصانع موجبا لا يصدر عنه إلا الواحد قال على ما قيل إشارة إلى ما ذكره الفلاسفة في ترتيب الوجود وكيفية صدور النفوس والأجسام عن العقول وقد سبق أن أول ما يصدر عن الواجب يجب أن يكون عقلا ولا شك أن له وجودا وإمكانا في نفسه ووجوبا بالغير وعلما بذلك وبمبدائه فقيل صدر عنه باعتبار وجوده عقل وباعتبار وجوبه بالغير نفس وباعتبار إمكانه فلك إسنادا للأشرف إلى الأشرف وهكذا من العقل الثاني عقل ونفس وفلك إلى آخر ما ثبت بالبرهان من وجود الأفلاك ثم تفويض تدبير عالم العناصر إلى العقل الأخير بمعونة الأوضاع والحركات وقيل صدر عن العقل الأول باعتبار إمكانه هيولي الفلك الأعظم وباعتبار وجوده صورته وباعتبار علمه بوجوب وجوده بعلته عقله وباعتبار علمه بعلته نفسه واعلم أنه لما ثبت عندهم امتناع صدور الكثير عن الواحد الحقيقي ذكروا طريقا في صدور الكثرة عن الواحد على أنه احتمال راجح في نظرهم من غير قطع به ولم يجعلوا الوجود والإمكان ونحو ذلك عللا مستقلة بل اعتبارات وحيثيات تختلف بها أحوال العلل الموجدة على ما قال في الشفاء نحن لا نمنع أن يكون عن شيء واحد
____________________
(2/52)
ذات واحدة ثم يتبعها كثرة إضافية ليست في أول وجودها داخلة في مبدأ قوامها بل يجوز أن يكون الواحد يلزم عنه واحد ثم ذلك الواحد يلزمه حكم أو حال أو صفة أو معلول ويكون ذلك أيضا واحدا ثم يلزم عنه لذاته شيء وبمشاركة ذلك اللازم شيء فتنبع من هناك كثرة كلها تلزم ذاته فيجب أن يكون مثل هذه الكثرة هي العلة لإمكان وجود الكثرة معا عن المعلولات الأولى ثم العقول ليست متفقة الأنواع حتى يلزم اتفاق آثارها بأن يصدر عن كل منها عقل ونفس وفلك بل يجوز أن تنتهي سلسلة العقول إلى ما يكون مبدأ الهيولي العناصر وما يعرض لها من الصور والأعراض بحسب ما له من الحيثيات وما يحصل للمواد من الاستعدادات بخلاف الواجب فإنه ليس فيه كثرة حيثيات واعتبارات وأما السلوب والإضافات فإنما تعقل بعد ثبوت الغير فلو علل ثبوت الغير بها كان دورا ولم يقطعوا بأن العقول ليست فوق العشرة وأن حيثيات كل عقل تنحصر في الثلاث أو الأربع فلا يمتنع أن يكون مبدأفلك الثوابت عقولا كثيرة أو عقلا واحدا باعتبارات وحيثيات غير محصورة وبما ذكر يندفع اعتراضات
الأول أن الوجود والوجوب والإمكان إن كانت أمورا اعتبارية لا تحقق لها في الأعيان لم تصلح أجزاء من العلة الموجدة وإن كانت وجودية متحققة فسواء صدرت عن الواجب أو عن العقل لزم كون الواحد مصدرا لأكثر من الواحد وكذا لو جعلنا جهات كثرة العقل تعقله للوجوب ونحوه
الثاني أنه يلزم على ما ذكر أن يصدر عن كل عقل فلك ونفس وعقل إلى مالا يتناهى فلا تنحصر العقول في عدد فضلا عن العشرة
الثالث أن حديث إسناد الأشرف إلى الأشرف خطابي لا يليق بالعلوم البرهانية
الرابع أن إسناد فلك الثوابت مع كثرتها إلى العقل الثاني باعتبار إمكانه يثبت صدور الكثير عن الواحد وكذا إسناد الصور والأعراض العنصرية إلى العقل الأخير
الخامس أنه لو كانت الحيثيات العدمية والاعتبارية كافية في صدور الكثير عن الواحد لجاز إسناده إلى الواجب باعتبار ما له من السلوب والإضافات
السادس أنه إذا كانت العقول مختلفة بالنوع حتى كان الأخير مما تنقطع عنده سلسلة العقول والأفلاك بأن لا يصدر عنه فلك وعقل ونفس جاز في جانب الابتداء أن لا يصدر عن العقل الأول إلا عقل ثان وعن الثاني إلا عقل ثالث وهكذا حتى يكون صدور الفلك الأعظم بعد صدور عقول كثيرة وحينئذ لا يصح الجزم بأنه يصدر عن العقل الأول فلك وعقل ونفس وبأن العقول عشرة على عدد الأفلاك مع الأول كيف والأفلاك الجزئية كثيرة يستدعي كل منها مبدأواعترفوا بأنه يحتمل أن يكون بين الفلك الأعظم وفلك الثوابت أفلاك كثيرة وأن يكون كل من الثوابت على فلك هذا ولا يخفى أن كلا مهم في هذا المقام مع ابتنائه على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد يشتمل على مقدمات أخر ضعيفة وأن الاحتمال والأولوية لا يجدي نفعا في المطالب العلمية قال المبحث الثالث
____________________
(2/53)
جعل هذا من مباحث العقول نظرا إلى أن الملائكة عند الفلاسفة هم العقول المجردة والنفوس الفلكية وتخص باسم الكروبيين مالا يكون له علاقة مع الأجسام ولو بالتأثير والقائلون من الفلاسفة بالجن والشياطين زعموا أن الجن جواهر مجردة لها تصرف وتأثير في الأجسام العنصرية من غير تعلق بها تعلق النفوس البشرية بأبدانها والشياطين هي القوى المتخيلة في أفراد الإنسان من حيث استيلائها على القوى العقلية وصرفها عن جانب القدس واكتساب الكمالات العقلية إلى اتباع الشهوات واللذات الحسية والوهمية ومنهم من زعم أن النفوس البشرية بعد مفارقتها عن الأبدان وقطع العلاقة منها إن كانت خيرة مطيعة للدواعي العقلية فهم الجن وإن كانت شريرة باعثة على الشرور والقبائح معينة على الضلالة والانهماك في الغواية فهم الشياطين وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشياطين مما انعقد عليه إجماع الآراء ونطق به كلام الله تعالى وكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحكى مشاهدة الجن عن كثير من العقلاء وأرباب المكاشفات من الأولياء فلا وجه لنفيها كما لا سبيل إلى إثباتها بالأدلة العقلية ( قال وزعموا أن لكل فلك روحا ) يشير إلى ما ذهب إليه أصحاب الطلسمات من أن لكل فلك روحا كليا يدبر أمره وتتشعب منه أرواح كثيرة مثلا للعرش أعني الفلك الأعظم روح يدبر أمره في جميع ما في جوفه يسمى بالنفس الكلية والروح الأعظم وتتشعب منه أرواح كثيرة متعلقة بأجزاء العرش وأطرافه كما أن النفس الناطقة تدبر أمر بدن الإنسان ولها قوة طبيعية وحيوانية ونفسانية بحسب كل عضو وعلى هذا يحمل قوله تعالى { يوم يقوم الروح والملائكة صفا } وقوله تعالى { وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم } وهكذا سائر الأفلاك وأثبتوا لكل درجة روحا يظهر أثره عند حلول الشمس تلك الدرجة وكذا لكل يوم من الأيام والساعات والبحار والجبال والمفاوز والعمران وأنواع النباتات والحيوانات وغير ذلك على ما ورد في لسان الشرع من ملك الأرزاق وملك الجبال وملك البحار وملك الأمطار وملك الموت ونحو ذلك وبالجملة فكما ثبت لكل من الأبدان البشرية نفس مدبرة فقد أثبتوا لكل نوع من الأنواع بل لكل صنف روحا يدبره يسمى بالطباع التام لذلك النوع تحفظه من الآفات والمخافات وتظهر أثره في النوع ظهور أثر النفس الإنسانية في الشخص وقد دلت الأخبار الصحاح على كثرتهم جدا كقوله عليه السلام أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجدا وراكع قال وعندنا ظاهر الكتاب والسنة وهو قول أكثر الأمة أن الملائكة أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأفكار مختلفة كاملة في العلم والقدرة على الأفعال الشاقة شأنها الطاعات ومسكنها السموات هم رسل الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام وأمناؤه على وحيه يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون والجن
____________________
(2/54)