شرح الفتوى الحموية
مقدمة الشارح
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
معاشر الأخوة: لقاؤنا في هذه الليالي سيتجدد مع متن من متون العقيدة، وجرت العادة في بداية مثل هذه المتون هناك وقفات عامة:
الوقفة الأولى: مع مؤلف هذا المتن، ولن أقف عنده كثيرا، فهو علم -كما يقال- على رأسه نار، وشهرته في نطاق البشر، أشهر من أن يعرف، فهو الإمام شيخ الإسلام، تقي الدين علم الأعلام، رافع لواء السنة، قامع أهل البدعة، أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي -رحمه الله-.
ولد سنة إحدى وستين وستمائة في مدينة حران في بلاد العراق، وهاجر به والده سنة ست وخمسين وستمائة بعد هجوم التتار على بغداد، هاجر به إلى دمشق، ونشأ وترعرع وعاش في بلاد الشام، إلى أن توفي -رحمة الله عليه- سنة ثمان وعشرين وسبعمائة.
هذا الإمام -معاشر الأخوة- ابتلي بطائفتين، ابتلي بصنفين من الناس، عارضوه وناصبوه العداء:
الصنف الأول: وهؤلاء عادوه من منطلق بدعي، وهؤلاء هم أهل الأهواء والبدع الذين جردوا تجاهه سيف العداوة، ووقفوا في وجهه بكل ما أوتوا من قوة، وآذوه بشتى الوسائل، حيا وميتا -رحمه الله-، ولعل إحدى المعارك التي جرت بينه وبينهم، ابتدأت من تأليف هذا المتن الذي بين أيدينا، وهؤلاء حاربوه؛ لأنه خالفهم في أصولهم وبين ضلالهم وانحرافهم، وقضى حياته جهادا بلسانه وقلمه تجاه هذا الصنف.(1/1)
أما الصنف الآخر: وهؤلاء الذين لمسنا وجودهم في وقتنا الحاضر، فهؤلاء -وللأسف- ممن ينتسبون إلى المعتقد الصحيح، ولكنهم كما قيل: ببغاوات، يقولون ما لا يفهمون، وينطقون بما لا يعلمون، ناصبوا شيخ الإسلام العداوة بمبدأ فاسد، وذلك أنهم رأوا بعض من ينتسب إلى هذا الإمام، ويأخذ بأقواله، وأخطأ في مفهومه لقول شيخ الإسلام، فحملوا الإمام تبعة هذا الخطأ، وهذا مبدأ فاسد عقلا وشرعا.
ويكفي في فساد هذا المبدأ، أنه يلزم على ذلك أن يخطأ الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ وذلك أن من الناس من فهم بعض نصوص النبي - صلى الله عليه وسلم - فهما خاطئا، وطبقها تطبيقا خاطئا، بل يلزم من ذلك تخطئة كتاب الله - عز وجل - كلام الله - عز وجل - وذلك أن من الناس من فهم كلام الله على غير مراده، فلا يحمل هذا الشيخ -هذا الإمام- تبعة من فهم كلامه على غير مراده، فهو بريء من هذا براءة الذئب من دم يوسف.
أما اسم المتن الذي بين أيدينا، فاختلفت أسماء هذا المتن، وجاءنا ووصل إلينا بعدة أسماء: فسمي بالفتوى الحموية الكبرى، وسمي بالمسألة الحموية، وسمي الحموية، وسمي الحموية الكبرى، والاختلاف في أسماء كتب شيخ الإسلام ورسائله، خاصة المتعلق بجانب الاعتقاد، هذا يكاد يكون منهجا عاما، قلما أن تجد له كتابا في باب العقائد إلا وله عدة أسماء، ما السبب في ذلك؟(1/2)
نعم، ما السبب؟ درء تعارض العقل والنقل وصلنا بعدة أسماء، نقض التأسيس، منهاج السنة، النبوات. ما السبب في ذلك؟ يعني تجد مثلا ابن عبد الهادي يذكر له اسما، ابن القيم يذكر له اسما مخالفا، ابن رجب يذكر له اسما ثالثا، فما السبب في ذلك؟ أحد الإخوان قال: نساه، نعم. أخونا يقول: إن الشيخ لم يسم كتبه، ما السبب؟ لا... أحسنت، ما كتبه شيخ الإسلام في باب الاعتقاد لم يضع له هو أسماء وعناوين، السبب في ذلك ذكره وأشار إليه في مناظرة الواسطية، قال: إنني لم أكتب في هذا الباب ابتداء ولا حرفا واحدا، وكل ما كتبته في هذا الباب -أي باب العقائد- فما هو إلا إجابة لسائل، أو رد على مبطل، وذلك يقول: إن باب العقائد أحكمه السلف -رحمهم الله-، يقول: باب العقائد كتب فيه السلف وشفوا وكفوا، وكل ما كتبته إما إجابة لسائل سألني، وإما رد على مبطل؛ ولهذا كان لا يضع عناوين، فيجتهد تلامذته ومن أتى بعده في وضع عنوان لهذه الرسالة أو هذا الكتاب، ولكن الذي استقر عليه اسم هذه الرسالة التي بين أيدينا، واشتهرت بذلك باسم "الفتوى الحموية الكبرى".
الفتوى: لأنها عبارة عن إجابة لسؤال كما ذكر الشيخ في مطلع الرسالة، وتسميتها بالحموية نسبة إلى أن السؤال -كما ذكره أيضا- ورد إليه من حماه، وهذا ليس بمستغرب على رسائل الشيخ، فكثيرا ما يطلق على بعض رسائله اسم "من سأل عن أصل المسألة"، فهناك التدمرية، نسبة إلى السائلين الذين سألوا الشيخ أن يكتب لهم هذه القاعدة وكانوا من أهل تدمر، أيضا والواسطية؛ لأن أهل واسط طلبوا منه أن يكتب لهم عقيدة أهل السنة والجماعة، وهكذا الحموية.(1/3)
الكبرى: تمييزا لها عن الصغرى، وفي الواقع لم أعثر على من ذكر على ماهية الصغرى، سوى ابن عبد الهادي -رحمه الله-، قال -وابن عبد الهادي من تلامذة الشيخ-: "وله الحموية الكبرى، والحموية الصغرى". ما هي هذه الحموية الصغرى؟ لا زالت مجهولة، أشار محمد عبد الرزاق حمزة -رحمه الله-، وتبعه قصي محب الدين الخطيب في تقدمة إحدى طبعات هذه الرسالة، إلى أن الفتوى الحموية الصغرى هي عبارة عن أصل هذه الفتوى، أجاب بها الشيخ وانتشرت بين الناس، ثم أخذها الشيخ وزاد عليها زيادات، وأضاف عليها إضافات، فخرجت للناس باسم الفتوى الحموية الكبرى.
تاريخ تأليف هذه الرسالة: تكاد المصادر تتفق على أن تأليفها كان في أول شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وستمائة.
موضوعها: موضوع هذه الرسالة: هي ألفها الشيخ في مسألة الصفات؛ للرد على جمهور الأشاعرة؛ ولهذا يحسن أن نعطي نبذة عن مذهب الأشاعرة في باب الصفات؛ لأن هذه الرسالة تدور في الرد على هذه الطائفة، خاصة في الصفات الخبرية وصفة العلو لله - عز وجل - .
مذهب الأشاعرة في صفات الله - عز وجل - المتقدمون منهم يثبتون الصفات التي يسمونها الصفات العقلية، والصفات الخبرية التي جاءت في القرآن: كصفة الوجه، واليدين.
علما بأن الأشاعرة مختلفون في عدد الصفات التي يثبتونها، وأشار الشيخ إليه في آخر هذه الرسالة، فمنهم من يثبت سبع صفات، ومنهم من يثبت ثمان صفات، ومنهم من يزيد إلى أن يثبت خمسة عشر صفة، لكن جمهور الأشاعرة والذي استقر عليه هذا المذهب أنهم يثبتون سبع صفات، وينفون ما عداها، يثبتونها بالجملة، وأقول بالجملة؛ لأن من الصفات التي يثبتونها يثبتونها على خلاف منهج أهل السنة، كصفة الكلام، هم يثبتون في الجملة صفة الكلام، لكن حقيقة هذا الإثبات يخالف إثبات أهل السنة، وهذه الصفات السبع ما هي؟(1/4)
الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. جمهور الأشاعرة يثبتون هذه السبع صفات، وينفون ما عداها، يطلقون على هذه الصفات أيش؟ الصفات المعنوية أو صفات العقلية، يزعمون أن العقل أثبتها إضافة للسمع، وينفون ما عداها لزعمهم أن العقل لم يثبتها، فهم شاركوا الجهمية في جانب، وخالفوهم في جانب، وشاركوا المعتزلة في جانب، وخالفوهم في جانب، شاركوا المعتزلة والجهمية في نفي ما عدا هذه الصفات السبع، وهؤلاء هم رءوس أهل التعطيل، ما عدا هذه الصفات السبع، الجميع يتفق على نفيها.
خالفوا الجهمية في أيش؟ في إثبات الأسماء وإثبات هذه السبع صفات، وافقوا المعتزلة في أيش؟ في نفي ما عدا الصفات السبع، وإثبات الأسماء، المعتزلة يثبتون الأسماء، والأشاعرة يثبتون الأسماء، الأشاعرة ينفون ما عدا الصفات السبع، والمعتزلة ينفون جميع الصفات، وخالفوا المعتزلة في أيش؟ في إثبات هذه الصفات السبع، هذا مذهب الأشاعرة على وجه العموم، والذين توجه الرد عليهم في هذه الرسالة.
الشيخ -رحمه الله- ألفها -كما ذكر ذلك في نقض التأسيس- في جلسة أو في قعدة -كما قال- ما بين الظهر والعصر، وهذا يدل على سعة حفظ هذا الإمام -رحمه الله-؛ لأنكم سترون أنها مليئة بأيش؟ بالنقول، بل أحيانا يقارن بين النسخ، يقول: وردت في نسخة هذه العبارة، ووردت في نسخة أخرى العبارة الفلانية، وهو آية من آيات الله في هذا الجانب، وقد وصفه تلاميذه والعلماء الذين عاصروه وقرءوا عنه، بوصف ينبئ عن حدة ذكاء هذا الرجل الذي ما هو إلا سبب من الأسباب التي حفظ الله بها عقيدة هذه الأمة.
المحن التي واجهت الشيخ في تأليف الحموية
يقول -رحمه الله- في مطلع هذه الفتوى، سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية، وليس هذا من كلامه -هذا من كلام الناسخ- وذلك في سنة ثمان وتسعين وستمائة، وجرى بسبب هذا الجواب أمور ومحن.(1/5)
كما أسلفت أن من أوائل المعارك التي حصلت بينه وبين خصومه، بدأت بتأليف هذه الرسالة، وذكر هذه المحن أو جزءا من هذه المحن ابن كثير -رحمه الله- في "البداية والنهاية"، وابن عبد الهادي في "العقود الدرية"، وكثير ممن ترجم للشيخ يشير إلى المحنة التي حصلت له بسبب تأليف "الحموية"، والسبب يا أخوان في الابتلاء التي حصل لهذا الإمام بسبب تأليف هذه الرسالة، أنها نزلت كالصاعقة على أهل البدع، وذلك أن جمهور الأشاعرة مضى عليهم عشرات السنين وهم يرفعون لواء أيش؟ أهل السنة والجماعة، يزعمون أن هم أهل السنة والجماعة، وأنهم السد المنيع أمام المعتزلة وأمام الجهمية، ويطلقون على أهل السنة ألقابا: كالحشوية، والمجسمة.
وأصبح مطرد هذا عند الناس أن هؤلاء هم أهل السنة والجماعة، ومن هنا يكمن الخطر في هذا المذهب، أنه المذهب الوحيد الذي اشتهر بأنه هو مذهب أهل السنة والجماعة.
جاء الشيخ -رحمه الله- وأوضح للناس أن هذا المذهب مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة جملة وتفصلا، بل القواعد التي أسس عليها هذا المذهب هي القواعد التي انطلق منها المعتزلة، (العدو اللدود للأشاعرة)، فجن جنونهم، خاصة وأنه دعم هذه الرسالة بالنقول التي لا حصر لها، في بيان مذهب أهل السنة والجماعة المذهب الحق، وأنه مخالف لما عليه جمهور الأشاعرة، وأكثر من النقول عن الأئمة الأربعة، وأتباع الأئمة الأربعة، فكأنه يقول: إن كنت أيها الأشعري حنفيا، فهؤلاء أئمتك من الأحناف يخالفون ما تذهب إليه في الأصول، وإن كنت شافعيا فهؤلاء أئمتك يخالفون ما تذهب إليه في الأصول، وهكذا إن كنت حنبليا أو مالكيا، وإن كنت في السلوك من أهل التصوف، فهؤلاء المتقدمة من المتصوفين من الأئمة الذين تنتسب إليهم أيها الصوفي يخالفونك في هذه الأصول.(1/6)
ولهذا بهتوا أمام هذه الرسالة، فما كان منهم إلا أن واجهوا الشيخ كما ذكر -رحمه الله-: أنهم لما عجزوا أن يسلكوا منهج أهل العلم بمقابلة الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، لجئوا إلى طريقة أهل الظلم والبهتان، وهي قابلوه بالعداء، نشروا بين الناس السمعة السيئة، وأشاعوا أن هذا الرجل مجسد، وأنه مشبه، وأنه ممثل، وأنه يريد إفساد عقيدة العوام، وسعوا به إلى القضاة، وأغروا نفوس القضاة والسلطان عليه للوقيعة به، لكن الله - عز وجل -سلمه من ذلك..
ولم يقفوا عند هذا الحد، بل انبرى بعضهم وألف رسالة وهو أحمد القاضي الشافعي (أحمد بن جهبل الحلبي)، فألف رسالة للرد على شيخ الإسلام في هذه الفتوى، وهذه الرسالة ساقها السبكي في "طبقات الشافعية" كاملة، وطبعت مستقلة طبعة قديمة، وطبعت باسم "الحقائق الجلية في الرد على ابن تيمية فيما أورده في الفتوى الحموية". وهذا ليس من وضع المؤلف، بل من وضع الناشر كما نص على ذلك، ملأها بالكذب والافتراء والبهتان، وأشار الشيخ -رحمه الله- أو ألمح إلى هذا الرد.
ولعل كتابه -ذاك السفر العظيم المفقود- المسمى "الأجوبة المصرية على الاعتراضات الحموية" لعله في الرد على هذه الرسالة، لكن هذا الكتاب للأسف لا يزال مفقودا، وأشار هو إلى هذا الكتاب كثيرا، قال: وقد أجبنا عليه تفصيلا في جواب "الأجوبة المصرية على الاعتراضات في الفتوى الحموية"، ذكر ذلك في مقدمة "نقض التأسيس"، وأشار إليه تلميذه ابن عبد الهادي وابن القيم، وذكر ابن القيم أن حجمه قريب من حجم "درء تعارض العقل والنقل"، و"منهاج السنة"، فالكتاب ضخم، والشيخ -رحمه الله- ألف "نقض التأسيس" تكملة لهذا الكتاب الكبير، فألف أولا "جواب الاعتراضات المصرية"، ثم أكمله "بنقض التأسيس في الرد على الرازي في أساس التقديس".(1/7)
مقدمة المؤلف في نصوص الصفات
يقول: وهو جواب عظيم النفع جدا، فقال السائل إلى الآن ما بدأ كلام الشيخ، كل هذا كلام الناسخ : ما قولكم في آيات الصفات كقوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) وقوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } (2) إلى غير ذلك من آيات وأحاديث الصفات كقوله - صلى الله عليه وسلم - , إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن -
ــــــــــــــــــــــ
يلاحظ أن السؤال في أيش؟ حول نصوص الصفات، فالآية الأولى في صفة الاستواء، الآية الثانية في صفة .. في صفة ماذا؟ العلو، { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } (3) يقول ابن القيم: أجمع السلف على أن معنى { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } (4) معناه: علا وارتفع.
الحديث الثالث: إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن الحديث رواه مسلم، أيضا إثبات صفة خبرية ثبتت بصحيح السنة إثبات أيش؟ الأصابع لله - عز وجل - وسيأتي الكلام على هذه الأحاديث وهذه النصوص.
الصفة الرابعة: القدم. وهذا حديث: يضع الجبار قدمه في النار في الصحيحين، ليس المقصود لذات الصفات التي وردت في هذه النصوص، إنما المقصود جنس هذه النصوص، ما قول العلماء؟ ما مذهب السلف؟ ما القول الحق فيها؟ فأجاب -رحمه الله-:
الحمد لله رب العالمين
ــــــــــــــــــــــ
، وكثيرا -رحمه الله- ما يبدأ أجوبته بالحمدلة، وذلك للحديث الحسن الذي في سنن أبي داود: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أبتر " ولأنه -عليه الصلاة والسلام- كما في خطبة الحاجة، يبدأ دائما بالحمد لله.
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة فصلت آية : 11.
(3) - سورة البقرة آية : 29.
(4) - سورة البقرة آية : 29.(1/8)
قولنا: فيها ما قاله الله ورسوله والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء، الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم.
يقول: القول في هذه الصفات وفي هذه النصوص، قولنا هو ما قاله الله ورسوله، وما قاله سلف الأمة ممن تلقوا هذه النصوص عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس لنا فيها قول آخر
ــــــــــــــــــــــ
هذا الآن جواب مجمل، وسيمهد الشيخ قبل أن يبدأ في تفصيل هذا الجواب إلى إيضاح هذه القاعدة العامة: أن الإنسان يجب عليه أن ينطلق في هذا الباب من أيش؟ من كلام الله وكلام رسوله، وسيذكر أنه لا مجال للاجتهاد ولا مجال للقياس في هذا الباب، ما قاله، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وقول الأئمة في هذا الباب هل يخرج عن نصوص الكتاب والسنة؟
الجواب: لا. طيب ما فائدة رجوعنا إلى كلام الأئمة؟ لماذا الشيخ ما قال: الكلام في هذا الباب، أو القول في هذا الباب ما قاله الله ورسوله؟ أكد على قضية ما قاله الله ورسوله والسابقون الأولون، وما قاله أئمة الهدى.
نعم ... أحسنت، باب العقائد معاشر الأخوة المصدر فيه عند أهل السنة والجماعة الكتاب والسنة لا ثالث لهما، طيب إذن ما فائدة الإجماع؟ ما فائدة أحيانا دلالة العقل؟ نلاحظ أن أهل السنة يستدلون على مسائل في العقائد بأيش؟ بالعقل، وأحيانا بالفطرة، ما فائدة هذه الأدلة؟ هذه الأدلة يستفاد منها في جانبين:(1/9)
الجانب الأول: لضبط الفهم، فكثير من أهل البدع يزعم أنه يستدل على بدعة بأيش؟ بنصوص الكتاب والسنة، ولهذا كل يدعي وصلا بليلى، لكن لا بد من ضبط هذه النصوص وفق فهم السلف -رحمهم الله-؛ لأنهم هم الذين عاصروا الوحي، وهم أعلم الناس بمفهوم قول الله وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا ينبغي ويجب أن تضبط نصوص الكتاب والسنة وفق فهم السلف، لا يأتي كل إنسان ويتخبط ويقول: لا، مفهوم الآية هذه تلك، ومفهوم هذا الحديث هذا الأمر، وهذا هو الذي أوقع أهل الضلالة وأهل الانحراف، أنهم اعتمدوا على أيش؟ على أفهامهم، نعم يستدلون أحيانا بنصوص من القرآن، يستدلون أحيانا بنصوص من السنة، لكن وفق مفهوم من؟ وفق عقولهم، لا، أهل السنة يقولون: ينبغي أن تضبط نصوص أهل الكتاب والسنة بفهم السلف، هذه الفائدة الأولى لإجماع السلف في هذا الباب.
الفائدة الثانية: زيادة التأكيد. الآن أي قضية من القضايا تثبت عندنا بشهادة كم؟ بشهادة عدلين، طيب لو جاءنا في المسألة أربعة شهود، لكن هل أصل المسألة وأصل القضية متوقف على ورود هؤلاء الأربعة؟ لا؛ ولهذا أصل القضية تثبت بشهادة عدلين، فعندنا المسألة ثبتت بالكتاب والسنة، لكن مجيء الإجماع، مجيء دلالة الفطرة، ودلالة العقل زيادة في أيش؟ في التأكيد، ولهذا يوردها أهل السنة.(1/10)
مثال: لو حصلت عندنا جريمة، فجاء شاهدان وشهدا بوقوع هذه الجريمة وأنها وقعت من فلان، ثبتت الآن ولّا ما ثبتت؟ ثبتت، لو وجدت عندنا صور قرائن، تثبت هذه الجريمة، أليس هذا فيه زيادة تأكيد؟ نقول: قرائن يستأنس بها، لكن لا تثبت بها أصل الجريمة، واضح، كذلك عندنا الإجماع، ودلالة العقل، ودلالة الفطرة، فالشيخ هنا يؤكد على أنه لا بد من الكتاب والسنة، وقول سلف الأمة، الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، نعم الأئمة الأربعة، السفيانان، الحمادان، الزهري، وبقية هؤلاء الأئمة الذين .. أيش؟ استفاض بين الناس، الأمة تناقلت هذا قرنا عن قرن، جيلا عن جيل، أنهم أمة الهدى، أجمع المسلمون على عدالتهم ودرايتهم، وأن قولهم في هذا الباب قول يعتبر حجة، وهذا هو الواجب.
الآن الشيخ بدأ في جملة اعتراضية؛ ليبين الأصل في هذا الباب أن ينطلق من الكتاب والسنة ومن إجماع السلف.
يقول: وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره
ــــــــــــــــــــــ
أي باب؟ باب العقائد، وما يتعلق بالله - عز وجل - من باب أولى، كمسألة الأسماء والصفات، لماذا؟ لماذا لم يتوسع في باب العقائد فيستخدم في الاجتهاد، في القياس، كما عمل في مسائل الفروع، أو المسائل العملية (مسائل الفقه)، لماذا؟(1/11)
نعم؛ لأن أمور العقائد أمور قائمة على الغيب، فلا مجال للقياس والاجتهاد، أن تقيس وتجتهد في أمور مشاهدة، وأمور محسوسة أمور منظورة، لكن هذه أمور غيبية، فلا يجوز القياس فيها والاجتهاد، أيضا القياس والاجتهاد نحتاج إليه متى؟ إذا جدت مسائل نازلة، لجأ العلماء إلى أيش؟ إلى الاجتهاد والقياس، أما المسائل التي ورد فيها النص بالكتاب والسنة فلا حاجة للقياس والاجتهاد؛ ولهذا مسائل الفروع (المسائل الفقهية) كلما جدت نازلة، كلما حدثت حادثة بحث العلماء عن دليل عليها نص في الكتاب أو في السنة، بعد ذلك إذا لم يجدوا أيش؟ اجتهدوا وقاسوا، لكن أمور العقائد محكمة لا يمكن أن يجد فيها مسألة، بل اتفقت الشرائع، اتفق الأنبياء، اتفقت الكتب المنزلة على أصول العقائد، فلا يزاد فيها ولا ينقص؛ ولهذا النسخ يمكن أن يدخل في الأحكام، يشرع الله - عز وجل - هذا الأمر، هذا الحكم، ثم ينسخه بحكم آخر، أما أمور العقائد فلا، لا يدخلها النسخ؛ لأنها أمور قائمة على الخبر، على الغيب، فلا يدخلها النسخ.
يقول: وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، الواجب في باب العقائد، وحتى في باب الأحكام، في المسائل العملية يجب عليهم أن يصبروا ويردوا على قول الله وقول الرسول، وقول سلف الأمة، فإن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين والحق، هذا هو التعليل، لماذا نقتصر على الكتاب والسنة، وعلى ما قاله سلف الأمة.
يقول: فإن الله بعث محمدا بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، وأمره أن يقول: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (1) فمن المحال في العقل والدين، من المحال بالعقل والشرع أن يكون السراج المنير
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة يوسف آية : 108.(1/12)
لاحظوا عدة صفات يريد أن يؤكد الشيخ -رحمه الله- بها على أنه يستحيل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - أهمل جانب الاعتقاد، أو قصر في جانب الاعتقاد، فاحتجنا معه إلى رأي فلان أو علان، احتجنا معه إلى رأي الغزالي، إلى رأي أبي حامد الغزالي أو رأي الرازي، أو رأي الجويني، أو رأي .. أيا كان، الشيخ يقول: يستحيل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك شيئا من باب العقائد يحتاج إلى أيش؟ إلى بيان، لماذا؟
ذكر عدة أسباب .
يقول: فمن المحال في العقل والدين، أن يكون السراج المنير -هذا التعليل الأول- الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور -هذا التعليل الثاني-، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه - هذا الثالث-، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة -هذا هو الرابع-، وهو يدعو إلى الله إلى سبيله بإذنه على بصيرة - هذا الخامس -، وقد أخبر أنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته.
ــــــــــــــــــــــ
هذه ستة، ستة أسباب ذكرها الشيخ يستحيل معها أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك باب الإيمان بالله مهملا لم يبينه ولم يوضحه.
الأول: أن يكون السراج المنير، الله - عز وجل - وصفه بأيش؟ بأنه سراج منير في قوله: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) } (1) عفوا نعم: { وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) } (2) فكون السراج بمعنى أن الأمة تستضيء بنوره، فكيف تستضيء الأمة بنوره في آداب قضاء الحاجة، في آداب النوم، في آداب الأكل، في آداب النكاح، ولا تستضيء بنوره في أيش؟ في باب العقائد، هل يقول هذا عاقل؟ هذا الأمر الأول.
__________
(1) - سورة الفرقان آية : 1.
(2) - سورة الأحزاب آية : 46.(1/13)
"الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور". أخرجهم من الظلمات إلى النور، من ظلمات أيش؟ كما ذكر المفسرون: من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، وهذا يستلزم أن يكون قد أحكم باب الاعتقاد، معاشر الأخوة، الآن الشيخ يؤسس يقعد هذه قواعد عامة، ينبغي على المؤمن قبل الدخول في تفاصيل أحكام العقيدة
أن يؤسس نفسه في هذه القواعد؛ لأن هذه أسس وقواعد إذا فهمها الإنسان وأدركها، سهل عليه بقية مسائل الاعتقاد، بقية مسائل الاعتقاد هي تطبيق على هذه القواعد، إذن كونه السراج المنير، وكونه الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور.
الأمر الثالث: وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، في قوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } (1) فالله - عز وجل - أمرنا أن نتحاكم إليه، فإذا كنا نتحاكم إليه -عليه الصلاة والسلام- في المسائل العملية: في مسائل الصلاة، في مسائل الصيام، في مسائل الحج، بل حتى في المعاملات: في البيع، والشراء، والنكاح، فمن باب أولى أن نتحاكم إليه في أيش؟ في باب العقائد التي هي متوقفة أصلا على كلامه - صلى الله عليه وسلم - .
نعم
{ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } (2) كون هذا الكتاب الذي جاء به -عليه الصلاة والسلام- حكما فصلا بين الناس، فهو في باب العقائد من باب أولى أن يحكم ويفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه في باب العقائد، كذلك أمرنا أن نرجع إليه عند التنازع، فإذا تنازعنا واختلفنا في مسألة عقدية، فالواجب أن نرجع إليه مباشرة، وأولى من رجوعنا إليه في أحكام البيع والشراء، واضح؟
__________
(1) - سورة النساء آية : 59.
(2) - سورة البقرة آية : 213.(1/14)
"وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة". وأولى ما يدعو إليه أي شيء؟ النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما يدعو إليه الناس إلى أي شيء؟ إلى أصول الاعتقاد؛ ولهذا مكث في مكة أكثر من نصف الدعوة، مكث ثلاثة عشر سنة يدعو الناس إلى أيش؟ إلى لا إله إلا الله، إلى أصول الاعتقاد، يؤسس في نفوس الناس هذه العقيدة، لما فهموها وأدركوها، وتشبعت نفوسهم وقلوبهم منها، هاجر إلى المدينة وبدأ في تفاصيل أحكام الشرع، وقد أخبر أنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته، وذلك في قوله: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (1) سبحان الله! هل يقول عاقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم -أكمل للأمة دينها، لكن باب العقائد تركه ملتبس ومشتبه؟!!
__________
(1) - سورة المائدة آية : 3.(1/15)
إذا كان ترك باب العقائد ملتبس ومشتبه فماذا أكمل؟ ماذا أكمل؟ أهم باب أهم شيء جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو؟ باب العقائد، إذن فنحن نعتقد اعتقادا جازما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل للأمة دينها، أصولا وفروعا؛ ولهذا تقول عائشة -رضي الله عنها-: من زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتم آية، فقد زعم أن الرسول خان الرسالة وهذا لا يقوله مسلم، { * يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } (1) ولهذا تقول -رضي الله عنها-: لو كان كاتما لشيء من القرآن لكتم -أيش؟- قصته مع زيد قصة من خاصة خصوصياته -عليه الصلاة والسلام-، لكن لما كانت وحيا من السماء بلغها للناس، تتلى إلى يوم القيامة، فهل يمكن وهل يقول عاقل أنه ترك شيئا من باب العقيدة ملتبسا مشتبها على الناس؟
صفات الله - عز وجل - ما يجب له منها وما يجوز وما يمتنع
يقول الشيخ بعد هذه المقدمة: محال مع هذا وغيره -محال أن يكون هذا السراج المنير، هذا الذي أخرج الأمة من الظلمات إلى النور- أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها، فلم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه.
ــــــــــــــــــــــ
هذه المسألة التي مدار النقاش في هذه الرسالة صفات الله - عز وجل - ما يجب لله مثل، ما يجب لله من الصفات، كصفات الكمال: الحياة العلم، القدرة، الإرادة، السمع، البصر، العلو، هذه تجب لله، وما يجوز عليه، مثل صفات الفعل: كالمجيء، النزول، الاستواء، هذه جائزة، يجوز أن يتصف بها، ويجوز ألا يتصف بها، لكن لما ثبت النص بإثباتها أثبتناه، ولّا لا، وما يمتنع عليه، ما هو الشيء الممتنع عليه؟ صفات النقص، مثل: النوم، الظلم، التعب، ونحو ذلك، كل صفة نقص فهي ممتنعة عليه سبحانه وتعالى.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 67.(1/16)
فإن معرفة هذا أصل الدين
ــــــــــــــــــــــ
معرفة ماذا؟ باب العقائد، أصل الدين لأن الدين ينقسم إلى قسمين: أعمال ظاهرة، تمثلها أركان الإسلام الخمسة، وأعمال باطنة، يمثلها ماذا؟ أركان الإيمان، أصول الإيمان الستة، جاءت مجتمعة في حديث جبريل المشهور كما في الصحيحين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: , هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم - الدين يشتمل هذا الأمر، وأمور العقائد هي الأصل، وهي الأساس، فهل تنفع الأعمال الظاهرة والباطن فاسد؟ فلو جاءنا إنسان يصلي ويصوم ويحج ويجاهد ويتصدق، لكنه لا يؤمن بالله، ولا بالملائكة، ولا بالكتب، ولا بالرسل، هل ينتفع؟ هذه حال المنافقين، الذين هم في الدرك الأسفل من النار، والأعمال الظاهرة أركان الإسلام دليل على صحة هذا الأمر، الذي هو الباطن، الذي هو الأصل؛ ولهذا يقول الشيخ: فإن معرفة هذا أصل الدين، فالدين قائم على هذا الأساس..
الأعمال الظاهرة، الأعمال التي نسميها الأعمال العملية، ويسميها الفقهاء الفروع، هي كالبناء الظاهر، أما العقائد فهي القواعد والأسس والأصول.(1/17)
فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية؛ لأنه لا يمكن أن يكون الإنسان مهتديا وهو منحرف في مسألة من مسائل الاعتقاد، فأصل الهداية وأساس الهداية، أن يكون الإنسان في عقيدته على وفق ما جاء عن الله وعن رسوله، هذه هي الهداية الحقة، نعم كونه يقصر في بعض الأعمال الظاهرة، هذا نقول أنه مقصر، مرتكب لكبيرة، مرتكب لذنب، لكن كون المعتقد عنده صحيحا فهذا مهتد، فهو أساس الهداية هذه العقيدة، وأفضل ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول، أفضل شيء اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، هو الإيمان بالله - عز وجل - وذلك أن الإنسان يرتقي في درجات العلم والمعرفة والهداية بقدر أيش؟ بقدر معرفته بالله - عز وجل - بل حتى ارتقاء في درجة العبودية لله - عز وجل - فكلما كان بالله أعرف، كان له أعبد وأخوف وأتقى؛ ولهذا أتقى الخلق قاطبة من؟ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد قال في صحيح البخاري: " والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم لله "
ــــــــــــــــــــــ(1/18)
فهذه التقوى وهذه العبادة فرع عن أيش؟ عن هذا العلم { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } (1) يعني الله - عز وجل - يقول: لا يمكن أن نترك هذا الإنسان بلا تكليف، ليش؟ هذا يتنافى مع الصفات الحقة لله - عز وجل - إذا كان الله متصفا بصفات الكمال، فلا بد أن يكلف هذا العبد بهذه العبودية، إذن فأعظم شيء حصلته هذه النفوس وهذه القلوب هي معرفة الله - عز وجل - وبقدر هذا النور في هذا القلب الذي حصل بسبب هذه المعرفة، بقدر هذا الأمر، يكون الإنسان عابدا لله - عز وجل - حقا؛ ولهذا أكثر الناس عبودية لله، وأكثر الناس خشية لله، وأكثر الناس خوفا من الله هم الأنبياء، ثم الذين يلونهم، أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هم أعظم الناس عبودية لله - عز وجل - من هذه الأمة، والسبب أنهم أعرف الناس بالله - عز وجل - .
يقول: فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النبيين من هؤلاء؟ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه عقيدة أهل السنة والجماعة: أن أفضل الناس بعد النبيين هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه العصبة المباركة، الذين اصطفاهم الله واختارهم لصحبة أفضل وأحب الخلق إليه المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، فهم أفضل من حواري عيسى، وأفضل من أصحاب موسى، وأفضل من أتباع نوح وأتباع إبراهيم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
يقول: فيكيف يكون ذلك الكتاب الذي هو القرآن، وذلك الرسول الذي هو أفضل الرسل، الذي أكمل لأمته الدين، وأفضل خلق الله بعد النبيين الذين هم أصحابه -رضي الله عنهم- لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا؟
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة المؤمنون آية : 115-116.(1/19)
اعتقاد بمعنى العلم، والقول أنهم تكلموا وبينوا للناس أمور العقيدة، يقول: ومن المحال أيضا أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أمته كل شيء الخرءة، أو الخراءة، وهذا ثبت في حديث سلمان - رضي الله عنه - عندما سأله اليهودي: علمكم نبيكم كل شيء؟ قال: نعم، قال: حتى الخراءة، قال: نعم، علمنا كل شيء حتى الخراءة، علمنا آداب قضاء الحاجة، فأمرنا ألا نستقبل القبلة ببول ولا غائط، وأمرنا ألا نستنجي باليمين، أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ... إلى آخره، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - علم أمته حتى قضاء الحاجة.
الشيخ يقول: هذا الرسول الذي علم أمته حتى آداب قضاء الحاجة، وقال -عليه الصلاة والسلام-: تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك وهذا الحديث رواه ابن ماجة، والإمام أحمد، وهو حديث صحيح، وقال فيما صح عنه أيضا: ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم والحديث هذا أخرجه مسلم، وقال أبو ذر - رضي الله عنه - لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما وهذا الحديث رواه الإمام أحمد بسند صحيح، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاما، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه . رواه البخاري ومسلم.
ــــــــــــــــــــــ
هذه الأحاديث والنصوص التي أوردها الشيخ للدلالة على ماذا؟ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل هذا الدين وأحكمه أصولا وفروعا، علما واعتقادا، قولا وفعلا.
يقول: محال مع تعليله كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دقت أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــ(1/20)
يستحيل أنه يحكم لهم هذا الباب ويترك هذا الباب، هذا لا يقوله عاقل، فضلا أن يقوله مسلم يفهم ويعقل ما يقول، الذي معرفته وغاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، إذا كانت معرفة الله - عز وجل - هي منتهى المعارف، نهاية المعارف، نهاية ما يعلمه الإنسان، أفضل ما يعلمه الإنسان أيش؟ أن يتعلم ما يتعلق بربه ومعبوده، وعبادته التي هي فرع عن أيش؟ عن معرفته؛ لأنه مهما يكن الإنسان لا يمكن أن يعبد الله حقا العبودية وهو جاهل به، وسبق قلنا: إن الإنسان كلما كان بالله أعرف كان له أعبد، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب،يقول: بل هذه خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، دعوة الناس إلى معرفة الله - عز وجل - ما يجب له وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه، هذه هي أيش؟ هذه خلاصة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه هي زبدة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يمكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم الناس الحواشي، ويترك الأصول، كل هذا الكلام يريد الشيخ أن يقعد به لما بعده، للرد على هؤلاء، الذين تركوا كلام الله وكلام رسوله في هذا الباب جانبا، واعتمدوا على عقولهم، اعتمدوا على قول الرازي، على قول الجويني، على قول ابن سينا، على قول الفارابي، وتركوا الكتاب والسنة.
يقول: بل هذه خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة -أي: بقية- من إيمان وحكمة، ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - على غاية التمام؟!!
ــــــــــــــــــــــ
بمعنى أنه لم يترك في باب العقائد شاردة ولا واردة إلا بينها، وبلغها أصحابه إلينا غضة طرية كما تلقوها، من غير تحريف ولا تبديل، إذا كان قد وقع ذلك منه، فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب، زائدين فيه أو ناقصين.(1/21)
الشيخ يقول الآن: أنت سلمت معي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يترك شيئا من باب العقائد دون أيش؟ أن يوضحها ويبينها للناس، طيب، ربما يقول إنسان: نعم النبي - صلى الله عليه وسلم - بينها، لكن ما وصل إلينا هذا البيان، وهذا لا يقوله من؟ أبرز من يقول هذا الكلام يقولونه بلسان حالهم، وقد يقولونه بلسان مقالهم، من يا أخوان؟
نعم، الرافضة، الذين يطعنون في جمهور الصحابة، هم يزعمون أن الصحابة جمهور الصحابة ضلوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وانحرفوا وغيروا وبدلوا، بل منهم من زعم أنهم كفروا وارتدوا، طيب، من الذي نقل لنا هذا الدين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ هم هؤلاء، فإذا طعن فيهم فقد طعن في أصل هذا الشرع، فقد يقول قائل: نعم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين هذا الأمر، لكنه ما وصل إلينا؛ ولهذا سنلجأ إلى عقولنا، الشيخ أراد أن يرد على هذا الاحتمال الذي ربما يرد لبعض الناس.
قال: إذا كان قد وقع ذلك منهم، ما هو؟ دائما يا إخوان، خذها قاعدة عامة في كلام شيخ الإسلام: من أراد أن يفهم كلامه فليفهم فقط الضمائر، هو الشيخ -رحمه الله- سعة علمه تكثر عنده الجمل الاعتراضية، ويكثر عنده الضمائر، إنسان عقله -رحمه الله- أشبه بالكمبيوتر، فهو يحيل بالضمائر، ويحيل على مسائل تقدمت، فإذا فهم الإنسان هذه الضمائر، سهل عليه فهم كلام الشيخ، في كل كلامه، افهم هذه الضمائر على ماذا تعود، ويسهل عليك فهمها، فقوله: فإذا كان قد وقع ذلك منه، ذلك أيش؟ باب العقائد، منه: من النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني هو بين باب العقائد، أوضح باب العقائد، فصل في باب العقائد، يقول: فمن المحال أن يكون خير أمته، ومن(1/22)
هؤلاء؟ أصحابه، هذا بإجماع المسلمين، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمران بن حصين كما في صحيح البخاري: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم " وللأحاديث الكثيرة التي جاءت في الثناء على أصحابه، والإمساك عما شجر ووقع منهم؛ لئلا يقع في النفس عليهم شيء، ولقوله كما في الصحيحين: " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "
لو جاء إنسان بعد زمن الصحابة، لو جاء من التابعين، من كبار التابعين وأنفق مثل جبل أحد ذهبا، هذا الجبل العظيم الذي يراه الإنسان في أي مكان من المدينة، أنفقه ذهب في سبيل الله، ما بلغ في الأجر والفضل عند الله كنفقة أحد الصحابة مثل هذا الكأس، مد أو نصف مد من تمر، أو أقط، أو شعير؛ ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنه - لمقام أحدهم مع رسول الله تغبر فيه قدماه، يعني مقام أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - :تغبر قدماه في هذا الموقف، خير من عبادة أحدكم لو عمر عمر نوح - إذن هذا الفضل وهذا الشرف لا يمكن أن يبلغه إنسان، كيف يكون هؤلاء الذين هم خير هذه الأمة، وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب؟ هل يقول هذا عاقل؟ زائدين فيه، أو ناقصين عنه، لا يمكن، وسيوضح الشيخ -رحمه الله- استحالة هذا الأمر في الأسطر الباقية، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
إن شاء الله سنستمر على أن الدرس ينتهي في حدود عشرة، ونبقى في حدود عشر دقائق إلى سبع دقائق للإجابة على بعض الأسئلة المتعلقة بالموضوع. نعم.
س: أحسن الله إليكم يا شيخ، هذا سؤال يقول: هل يوجد شروح للحموية؟ وما صحة الشرح الموجود الآن في بعض المكاتب؟
ج: أنا لا أعرف للحموية الآن شرحا مطبوعا، سوى ما كتبه فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين -رحمة الله عليه- "فتح رب البرية" وهو ليس بشرح، إنما صنع -رحمه الله- في الحموية كما صنع مع التدمرية، أخذ المفهوم العام للحموية وصاغه بأسلوبه؛ ولهذا قسمه هذه التقسيمات المعروفة. نعم.(1/23)
س: أحسن الله إليكم، نرجو من فضيلتكم بيان من المشايخ الذين تعلم على أيديهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، والله يحفظكم.
ج: هناك ذكر من ترجم للشيخ مجموعة من المشايخ الذين تتلمذ عليهم، ومن أبرز هؤلاء والده، فإنه تتلمذ عليه، وخلفه في درسه في المدرسة السكرية، ووالده كان من كبار أئمة الحنابلة، وكذلك جده من؟ أبو البركات صاحب المنتقى الذي شرحه الشوكاني -رحمه الله-، فالشيخ نشأ في أسرة علم، فوالده وجده، ووالد جده،
وأيضا إحدى جداته التي يقال أن تيمية هذه اسمها وتنسب هذه الأسرة لها، أنها كانت أيضا طالبة علم، فهو نشأ في هذه الأسرة المباركة، وتتلمذ على يد والده وجده، وحفظ القرآن وعمره عشر سنوات، وجلس للتدريس وعمره قرابة عشرين سنة، جلس في المدرسة السكرية، من الذي يحضرها؟ كان يحضرها كبار القضاة والأئمة -رحمه الله-، نعم.
ويقول ابن كثير: إنني حضرت هذا الدرس، الدرس الأول، ودونت الفوائد والملح التي قالها في هذا الدرس، وقد تعجب الناس منه؛ لأنه أول درس يخلف والده فيه. نعم.
هذا هو الذي يحضرني الآن من شيوخه، وذكر من ترجم له من شيوخه، ويعتبر أيضا من أقرانه المذي -رحمه الله- صاحب "تهذيب الكمال".
س: أحسن الله إليكم، ما هي "الفتاوى المصرية"؟ وهل هي لشيخ الإسلام؟
ج: هناك مختصر الفتاوى المصرية، نعم للشيخ، لكن قد يستغرب الإنسان أن عليها مسحة المذهب الحنبلي، قال بعض العلماء: ربما ألفها في أول حياته لما كان متأثر كثيرا بمذهبه المذهب الحنبلي، لكنه معروف أنه فيما بعد تجرد، وصار له اختيارات خالف فيها أصحاب المذاهب الأربعة. نعم.
س: أحسن الله إليكم، ما مدى انتشار مذهب الأشاعرة في العالم الإسلامي في هذا الزمان؟(1/24)
ج: أما على وجه العموم بين العامة، فلا نقول: أن مذهب العامة مذهب الأشاعرة، الأصل كما ذكر الأئمة والعلماء الأصل في الناس، في عوام الناس أيش؟ صحة المعتقد، سلامة المعتقد، يبقى عندنا الخاص، والكتب التي تدرس في الجامعات وفي الدروس لا شك أن مذهب الأشاعرة منتشر، وعلى نطاق واسع، لكن مما ساعد في انتشاره أن الناس لجهلهم يعتقدون أن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ ولهذا ناقشنا وناظرنا بعض هؤلاء المحققين لما قدموا هنا، أو التقينا بهم خارج هذه البلاد، لما ناظرناهم في بعض مسائل العقيدة، وقلنا: إن هذا خلاف مذهب أهل السنة، وهذا مذهب الأشاعرة، قالوا: والله لقد نشأنا وتربينا وترعرعنا على أن هذه عقيدة أهل السنة؛ ولهذا رجع بعضهم، نعم. فمثلا "جوهرة التوحيد" التي تدرس على نطاق واسع في العالم الإسلامي هي على مذهب الأشاعرة. نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول: هل يصح تكفير الأشاعرة، رغم وجود علماء فيهم لوثة من هذا المذهب؟
ج: الصحيح لا يجوز تكفير الأشاعرة، بل حتى ولا المعتزلة، شيخ الإسلام يقول: أجمع العلماء على عدم تكفير الثلاث وسبعين فرقة، وإنما الذين كفرهم العلماء من هذه الطوائف خاصة من المعطلة، هم الجهمية الغلاة، الذين قال ابن القيم فيهم:
يعني كفرهم أكثر من خمسمائة، وذكر جزءا منهم الإمام اللالكائي -رحمه الله- في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة"، أما الأشاعرة فلا يجوز تكفيرهم، ولم يقل أحد من العلماء أنهم كفار، بل هم أقرب طوائف المعطلة لأهل السنة، نعم، لكن لا يعني هذا، هم أهل بدع، مذهبهم مذهب ضال، مذهب منحرف، خالفوا فيه نصوص الكتاب والسنة. نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول هذا السائل: ما حكم من خرج عن السنة؟(1/25)
ج: السؤال عام، كيف ما حكم من خرج عن السنة؟ من خرج عن السنة، خالف السنة التي هي في مقابل القرآن، فلا شك أن هذا لا يصح له دين؛ ولهذا قال ابن حزم: قل لي بربك من اقتصر على القرآن كم ستصلي؟ ستكتفي بركعة أول النهار وركعة آخر النهار، ويصدق عليك أنك صليت، وكم ستخرج من الزكاة؟ لأن هذه كلها ما وردت في القرآن، أما إن أراد أنه يخالف السنة التي هي في مقابل الواجب، فلا شك أن اتباع السنة من الأمور التي ينبغي للمؤمن أن يلتزمها، والمداومة على مخالفتها باب خطر؛ ولهذا قال الإمام أحمد: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } (1)
مخالفة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فالواجب على المسلم أن يقتفي أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء، كما كان الصحابة -رضي الله عنهم- حتى أحيانا في الأمور المباحة؛ ولهذا لما قال لهم في تأبير النخل، أتى إلى المدينة لما هاجر إلى المدينة وجدهم يؤبرون النخل، معروف أن أهل مكة ليسوا أهل زراعة، البلد ليست بلد زراعية، وأهل المدينة أهل زراعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف شيئا عن الزراعة، رآهم يؤبرون يلقحون النخل، فقال: لو تركتم تأبير النخل، فهم مباشرة سلموا لأمره، علما بأنهم يعلمون علم اليقين أن هذا سيترتب عليه أيش؟ فساد هذه الثمار، لكن، سمعنا وأطعنا. لما فسدت ثمار المدينة تلك السنة، جاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يشتكون، قالوا: فسدت ثمارنا، ما السبب؟ قالوا: تركنا التأبير، لماذا تركتم التأبير؟ قالوا: قلت لنا، قال: إذن أنتم أعلم بأمور دنياكم - إذا كان هذا في الأمور العادية، في الأمور المباحة، فما الظن بجانب العبادة، نعم.....
__________
(1) - سورة النور آية : 63.(1/26)
س: أحسن الله إليكم، يقول هذا السائل: هل يمكن أن نقول: إن هناك فائدة ثالثة لإيراد أهل السنة لأقوال السلف في كتبهم وهي بيان أنهم متبعون لا مبتدعون، وليسوا بدعا من العلماء؟
ج: نعم وهذه داخلة في الفائدة الأولى، فكوننا نلتزم منهج السلف في فهم الكتاب والسنة، بمعنى أنهم ملتزمون بدلالة الكتاب والسنة، ولهذا قلنا: إن أقوالهم لا تخرج عن دلالة الكتاب والسنة، يستحيل أن تخرج عن دلالة الكتاب والسنة في هذا الباب، لكن كيف فهموا هذا النص، يجب علينا أن نفهمه كما فهمه هؤلاء، وإلا أن نفاة صفة اليدين يستدلون بقول الله - عز وجل - { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (1) لكن يقولون: معنى اليد القدرة، أو معنى اليد الإرادة، نحن نقول: لا هذا خطأ، اليد هي الصفة الحقيقية لله - عز وجل - دليلكم؟ هذا دليلنا قول الله - عز وجل - كيف فهمت هذا؟ فهمناه وفقه ما فهمه السلف -رحمهم الله-، فهموا من هذا النص أنه دليل على هذه الصفة، قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (2) هم يقولون معناه: ثم استوى على الملك، أو ثم استولى على العرش، نقول هذا فهم خاطئ، فهم يستدلون بهذه الآية، نحن نقول نستدل بهذه الآية على إثبات صفة الاستواء، كيف فهمتم ذلك؟ لأن السلف -رحمهم الله- فسروا الاستواء بأنه العلو والارتفاع، نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول السائل: ذكرت أن الأشاعرة ينفون ما عدا الصفات السبع، فهل ينفون بقية الصفات أو يؤولونها؟ أرجو التوضيح.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 64.
(2) - سورة الأعراف آية : 54.(1/27)
ج: هذا جمهور الأشاعرة قلنا: إنهم ينفون ما عدا الصفات السبع، لكن هذا النفي هم يسمونه تأويلا، ومنهم طائفة تسميه تفويضا؛ ولهذا الشيخ سيذكر أن أقسام الناس تجاه هذه الصفات ستة أقسام ترجع إلى ثلاثة أقسام: أهل التجهيل، وأهل التأويل، وأهل ... فهم يسمونه تأويلا، وإلا لو جاء إنسان وقال: أنا لا أؤمن بأن الله استوى على العرش، ورد هذا النص هكذا بدون تأويل، نقول: هذا كفر؛ لأنه أيش؟ رد وجحد لآية، لكن هم لا يقولون: تأويل هذه الآية، وهو في حقيقة الأمر نفي لتلك الصفة، سموه تأويلا، يسموه تفويضا، سموه ما شئتم، إنما حقيقته النفي, نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول: ألا يمكن أن يقال: إن الإجماع مستند في باب العقائد، باعتبار أن الإجماع لا بد له من مستند سواء علمناه أو لا؛ ولأن الأمة لا تجتمع على خطأ؟
ج: لا شك، قلنا: إن الإجماع في باب العقائد يستند إلى دليل، عرفناه أو ما عرفناه، الأمة لا يمكن أن تجمع في مسألة؛ ولهذا -وإن كانت مسألة طويلة والبحث فيها- مسألة إجلاس النبي - صلى الله عليه وسلم -على العرش، من قال بها من السلف هم اعتمدوا على أثر مجاهد، من قال بها من السلف قال: يستحيل مجاهد والأئمة الذين وافقوا على هذا الأمر إلا أن يكون مستندهم نص لكن جهلوه.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/28)
مذهب السلف في الصفات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن والاه، أما بعد:قال المصنف -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-: ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة، القرن الذي بعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق، وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع، أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، أعني بيان ما ينبغي اعتقاده، لا معرفة كيفية الرد وصفاته، وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة المجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى -الذي هو أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟ وهذا لا يكاد يقع من أبلد الخلق وأشدهم إعراضا عن الله، وأعظمهم إكبابا على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع من أولئك؟!
ــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
قبل أن نبدأ في درس اليوم، سبق في الليلة الماضية أن ذكرت أن ابن كثير دون الدرس الأول لشيخ الإسلام، والصحيح أنه نقل في "البداية والنهاية" أن تاج الدين، الشيخ تاج الدين الغزالي هو الذي دون هذا الدرس؛ لما رأى فيه من الملح والعجائب.
............................................................................................................
ــــــــــــــــــــــ
أقول وبالله التوفيق: لا زال كلام الشيخ -رحمه الله- في الرد على من زعم أن السلف في القرون المفضلة، وفي مقدمة هؤلاء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا مقصرين في بيان ما يجب اعتقاده، يقول: ثم من المحال أيضا أن تكون
(1/29)
القرون الفاضلة، والقرون الفاضلة كما ذكر بالأمس هي ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خير أمتي -وفي رواية: خير الناس -قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم واختلف أهل العلم في تحديد القرن، فذهب بعضهم إلى أن القرن عشرون سنة، وذهب آخرون إلى أن القرن ثلاثون، وبعضهم قال أربعون، إلى أن بلغوا مائة، ومن العلماء من قال: القرن الأول هم الصحابة، والقرن الثاني الذين يلونهم التابعون، والثالث تابعوهم، ومنهم من قال: القرن الأول هم الصحابة، والقرن الثاني هم أبناؤهم، والثالث أبناء أبنائهم.
وذهب الحافظ ابن حجر -رحمه الله- إلى أن المراد بالقرن هم أهل زمان واحد متقارب، اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، كل أهل زمان اشتركوا في أمر يعتبر هذا قرن، شيخ الإسلام -رحمه الله- ذهب إلى أن الاعتبار في القرون الثلاثة جمهور أهل القرن، فجمهور الصحابة الذين توفوا في زمن الخلفاء الأربعة، وجمهور التابعين أي أكابر التابعين الذين توفوا في آخر عهد الصحابة -رضي الله عنهم-، في آخر زمن صغار الصحابة، والقرن الثالث قال: هم من كانوا في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، والذي رجحه سماحة شيخنا -رحمه الله- الشيخ عبد العزيز، إلى أن القرن الأول هم الصحابة، والقرن الثاني هم التابعون، والقرن الثالث تابعوهم، ولعل هذا يجمع الأقوال كلها.
يقول -رحمه الله-: ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة القرن الذي بعث فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين، يعني: لازم من قال: إن الخلف أعلم من السلف في هذا الباب، باب العقائد، يلزمه أن يكون أن الصحابة أو القرون المفضلة كانوا غير قائلين وغير عالمين، نعم، لماذا؟(1/30)
التعليل يقول الشيخ: لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، يعني من زعم أن السلف لم يكونوا قائلين، أو غير عالمين، يلزمه أحد أمرين لا ثالث لهما، الأمر الأول: إما عدم أيش؟ العلم والقول، بمعنى أنهم غير عالمين بهذا الأمر، ولم يقولوا في شيء من هذا الباب، وإما أنهم يعتقدون نقيض قول الحق، وقالوا في هذا الباب بخلاف قول الصدق، وكلاهما ممتنع، لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون الصحابة على تلك الحال، طيب، لماذا؟ يقول أما الأول: ما هو الأول؟ عدم العلم والقول، يقول: فلأن من في
قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه
أكبر مقاصده، الإنسان الذي في قلبه أدنى محبة للعلم وميل للعبادة، سيكون أعظم مقاصده ماذا؟ معرفة الله - عز وجل - بأسمائه وصفاته، هذه من أبجديات الأمور بالنسبة له.
يقول الشيخ: أعني بيان ما ينبغي اعتقاده، لا معرفة كيفية الرد وصفاته. وهذا سيأتي الكلام عليها لاحقا، أن الكلام، كلام الصحابة وكلام السلف في الصفات، كله يجور على أيش؟ بيان المعنى وليس بيان الكيفية.
الإنسان الذي في قلبه أدنى محبة للعلم وميل للعبادة، سيكون أعظم مقاصده ماذا؟ معرفة الله - عز وجل - بأسمائه وصفاته، هذه من أبجديات الأمور بالنسبة له.
يقول الشيخ: أعني بيان ما ينبغي اعتقاده، لا معرفة كيفية الرد وصفاته. وهذا سيأتي الكلام عليها لاحقا، أن الكلام، كلام الصحابة وكلام السلف في الصفات، كله يجور على أيش؟ بيان المعنى وليس بيان الكيفية.(1/31)
ويقول: وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، النفوس السليمة المؤمنة السالمة من أمراض الشهوات والشبهات، ليس لديها شيء أعظم وأشوق من أن تعرف هذا الأمر، الذي هو ما يجب لله، وما يجوز عليه وما يمتنع.
يقول: هذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، يعني هذا ليس بمكتسب، فهذا الناس مفطورون عليه، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى، ما هو هذا المقتضى، الإشارة هنا أن يكون البحث عن هذا الباب، والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه إلى آخره، هذا هو الآن المقتضى، هذا قائم بالنسبة للصحابة ولا لا، قائم، إن أعظم شيء بالنسبة لهم معرفة هذا الباب والسؤال عنه، إذا كان هذا المقتضى موجود، فيستحيل -وهو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه، الذي هو العلم والقول واضح، أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم، هذا لا يكاد يقع من أبلد الخلق، وأشدهم إعراضا عن الله، وأعظمهم إكبابا على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع من أولئك؟ إذا كان هذا لا يقع ممن أخذت الدنيا جل اهتمامه، وصرف جل وقته في طلب الدنيا وما يتعلق به، فكيف بأولئك الجيل، الذين همهم الأساس الله والدار الآخرة، طلقوا الدنيا بالثلاث، هذا لا يمكن أن يتصور من هؤلاء بحال من الأحوال؛ ولهذا الشيخ قال: هذا أمر مستحيل، يعني غير قابل للنقاش والأخذ والعطاء، الأمور المستحيلة لا تطرح للنقاش، التي تطرح للنقاش الأمور المحتملة أيش؟ فيقول: هذا الأمر مستحيل، ولا يدور في خلد مسلم، نعم.
وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق، أو قائلين، فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل، أرث حال القوم، ثم
الكلام عنهم في هذا الباب أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى، أو أضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه، نعم.(1/32)
الاحتمال الثاني: أن يكونوا اعتقدوا نقيض الحق، وقالوا في هذا الباب خلاف الصدق، يقول الشيخ: وهذا الاحتمال الثاني أشد استحالة من الاحتمال الأول، ولا يمكن هذا أن يقع من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لو افترض أن هذا واقع منهم؛ لكانت الأمة في ضلال من ذاك الوقت إلى يومنا هذا؛ ولهذا قال: لا يمكن أن يقول هذا أو يعتقده مسلم عرف حال القوم، بل لا يقوله عاقل، طيب. هذه الأمور هل تخفى على أولئك أهل الكلام؟ هؤلاء الذين لهم شهرتهم ولهم باعهم في علم الكلام، هل خفي عليهم هذا الأمر؟ الواقع أنهم تحيروا في الأمر، لما وجهوا بهذه الحجة الظاهرة، قيل لهم: هل الصحابة عرفوا هذا الأمر أم ما عرفوا؟ هذه المقدمات العقلي، هذه المقدمات المنطقية التي جعلتموها هي الأصل، وبنيتم عليها مسائل الاعتقاد، هل علمها الصحابة؟ هل قالوا بها؟ بقوا متحيرين في الأمر، لكن ممن بحث عن عذر ومخرج الجويني إمام الحرمين -عفا الله عنا وعنه- فقد نقل عن شيخ الإسلام أنه قال: أن الصحابة لم يعرفوا هذا الأمر، يعني صرح بهذا الشيخ، لماذا؟ قال: لأنهم انشغلوا بالجهاد والقتال في سبيل الله، لكن هذا عذر حقيقة يعني لا يمكن أن يكون له أدنى وجاهة، -سبحان الله- ينشغلون بالقتال والجهاد عن أعظم الأصول، عن أساس الدين، عن جانب الاعتقاد، هذا لا يمكن، وسيأتي مزيد في الأسطر التالية، لبيان أن السلف -رحمهم الله- في هذا الباب كانوا أعلم وأحكم وأسبق، نعم.(1/33)
قوله -رحمه الله-: ثم الكلام عنه في هذا الباب أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى، نعم؛ لأن الفتاوى غالبا ما تكون مختصرة؛ ولهذا الشيخ يقول: سأقتصر بهذه الفتوى على أهم ما يحصل به المقصود؛ ولهذا سيذكر فيما بعد أنه تجنب عرض شبه هؤلاء، والجواب عنها لماذا؛ لأن هذه فتوى يقول: ومن أراد معرفة كلام الأئمة في هذا الباب بتوسع، فليرجع إلى مظانه، ومن مظان ذلك ما ذكر مثلا الإمام اللالكائي -رحمه الله- في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، فقد حرص على جمع أقوال سلف الأمة، من الصحابة والتابعين في باب الاعتقاد، كذلك ما نقله الإمام أبو عبد الله بن بطة في كتابه الإبانة الكبرى، أيضا ما ذكره الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه السنة، فهؤلاء وغيرهم عنوا بنقل كلام الأئمة في باب الاعتقاد، نعم.
ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما يقوله بعض الأغبياء، ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة، المأمور بها من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف على طريقة السلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ } (1) وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، وغرائب اللغات
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة البقرة آية : 78.(1/34)
نعم، هذه العبارة اشتهرت عن هؤلاء المتأخرين من أهل الكلام، هؤلاء لما وجهوا بهذه الآثار الكثيرة، والكم الهائل عن سلف الأمة، التي تخالف ما قعدوه، وذهبوا إليه، وجدوا هذه العبارة مخرج لهم، فقالوا: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، قبل أن نبدأ في مفهوم هذه العبارة، وما سيترتب عليها، لا بد من الإشارة إلى ضابط السلف، وضابط الخلف، هم قالوا الآن: طريقة السلف أسلم، من هم هؤلاء السلف؟ اختلف في ذلك إلى ثلاثة أقوال :
القول الأول: من ذهب إلى أن السلف هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
القول الثاني: من قال: إن السلف هم أصحاب القرون المفضلة الذين امتدحهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجمهور من عاش في القرون المفضلة هم السلف.
القول الثالث: قال: إن السلف كل من كان على مثل من كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا حد زمني لهذا المفهوم؛ ولعل القول الوسط من ذهب إلى أن السلف هم جمهور من عاش في القرون المفضلة، ويدخل في هؤلاء
وفي مقدمتهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشهورون من الأئمة كالأئمة الأربعة؛ وإسحاق بن راهوية والسفيانان وغيرهم، أقول جمهور من عاش في هذه القرون المفضلة؛ لأن من عاش في هذه القرون ممن عاش في هذه القرون من خالف منهج السلف، فيلاحظ مثلا أن بوادر التشيع وبداية الخوارج ظهرت في وقت مبكر، كذلك بدعة الإرجاء، كذلك بدعة القدرية ظهرت في وقت مبكر، لكن كان الغلبة في هذه القرون لسلف الأمة.(1/35)
أما الخلف، فلم أقف حقيقة على ضابط محدد، سوى ما أشار إليه شيخ الإسلام بعض أسطر، قال: ولا سيما والخلف ضرب من المتكلمين الذين كثر اضطرابهم إلى آخره، الخلف في اللغة هو المتأخر في الظهور، وغالبا ما ورد هذا اللفظ في القرآن، بإسكان اللام في معرض الظن، فقال الله - عز وجل - { * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } (1) { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ } (2) ويقول لبيدة اللبيب
ذهب الذين يعاشوا في أكنابهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فيقول العلماء بإسكان اللام غالبا ما يأتي في معرض الذم، فالخلف والخلف هؤلاء هم من كان منهجهم في باب الاعتقاد على خلاف منهج السلف، طيب لماذا سموا خلف؟ لأن هذا الضرب من الناس لم يظهر إلا متأخرا بعد انقضاء القرون الثلاثة، نعم. ظهرت بوادر البدع في القرون المفضلة، لكن هذه البدع لم تتسع ولم يكن لها كيان، ولم يكن لها مؤلفات بالشكل الواسع، إلا بعد انقضاء القرون المفضلة، فكأنهم ظهروا متأخرين، فسموا خلف بالنسبة للسلف؛ لأن السلف في اللغة هو المتقدم في الزمن.
نعود إلى هذه العبارة طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، أولا يحسن هناك التنبيه، أن جل النسخ المطبوعة للفتوى الحموية، وردت هناك عبارة بعد هذه العبارة، وهي العبارة التي جاءت بعد هذه العبارة، وإن
كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء، قد يعني بها معنى صحيحا، في الواقع وبعد البحث والتتبع، وجد أن هذه العبارة مدسوسة في كلام شيخ الإسلام، وذلك للأمور التالية:
__________
(1) - سورة مريم آية : 59.
(2) - سورة الأعراف آية : 169.(1/36)
أولا: أن هناك تسع نسخ خطية للحموية لم ترد بها هذه العبارة، الأمر الثاني: أن ابن عبد الهادي الذي هم تلميذ شيخ الإسلام، ساق في كتابه الكواكب الدرية جزء من الحموية، ولم ترد هذه العبارة، فيما أورده، الأمر الثالث: أنها باطلة بكل المعاني، وليس لها مخرج صحيح، الأمر الرابع: أن هذه العبارة وجدت تعليقا على النسخة الحجرية، التي طبعت لأول مرة لما طبعت الحموية، قديمة طبعت في الهند، وجدت هذه العبارة تعليق في الهامش، فلعل الناشرون الذين طبعوا الحموية، اعتمدوا على هذه النسخة، وأدخلوا هذه العبارة في صلب كلام شيخ الإسلام،
ظنا منهم أنها من كلام شيخ الإسلام، طيب. نعود إلى معنى هذه الكلمة التي اشتهرت عن المتأخرين، قلنا: السبب في ذكر هذه العبارة، أنهم وجدوها مخرج لهم، طيب. ماذا يعنون بهذه الكلمة، طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم.
زعموا أن السلف فوضوا معاني النصوص إلى الله - عز وجل - نصوص، فقالوا: إن طريقة السلف هي التفويض، والتفويض أسلم، لأيش أسلم؟ قالوا: لأن هذه العبارة هذا اللفظ مثلا قول الله - عز وجل - { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } (1)قالوا: يحتمل عدة احتمالات، يحتمل كذا، ويحتمل كذا، ويحتمل كذا، كونك تفوض المعنى إلى الله، هذا أسلم؛ لأنك ربما تختار معنى بيكون خطأ، وقالوا: هذه هي طريقة السلف، طريقة السلف فوضوا معاني نصوص الصفات إلى الله
__________
(1) - سورة الرحمن آية : 27.(1/37)
عز وجل - وهذا -كما سيأتي- كذب وافتراء على السلف، ما معنى التفويض، معنى التفويض: أنك تنفي المعنى الحق الظاهر من هذا النص ماشي، ثم تفوض معنى الآية والنص إلى الله - عز وجل - فتقول قول الله - عز وجل - { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) هذه الآية لا تدل على إثبات اليدين لله - عز وجل - إذا ماذا تدل؟ الله أعلم بمراده في هذه الآية، قالوا: هذا هو التفويض، وهذا هو الذي سلكه السلف، وهذا هو الأسلم، طيب.
وطريقة الخلف قالوا: طريقة الخلف أعلم وأحكم، ليست أسلم، لكن أعلم وأحكم، ما هي طريقتهم؟ أنهم بحثوا في هذه النصوص، والتمسوا لها معاني، وأولوها صرفوها إلى المعاني، التي تتفق مع -كما يزعمون- المقدمات
العقلية، الأدلة العقلية، البراهين العقلية، قالوا: هذه أعلم وأحكم، لكن ليست أسلم، الشيخ سيذكر في هذه الأسطر القادمة، أن هذه العبارة أو هذه الجملة فاسدة، وفيها كذب وافتراء على السلف، بل إن طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم، وهي التي تهدي إلى الطريق الأقوم، أما طريقة الخلف ففيها الضلال والانحراف، وهي التي تدعو إلى الشك والحيرة والانحراف، نعم.
قوله: فإن هؤلاء المبتدعة، الذين قالوا: إن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، يقصدون منها ماذا؟ تفضيل أي الطريقتين، لا شك أن الأعلم والأحكم، أفضل من الأسلم، يعني أيهما أفضل وأجود، كون تعطي هذه العبارة، أو هذا الكتاب لإنسان يقرأه ويشرح لك معانيه، ويبين لك معانيه، ويفصل فيما احتواه هذا
__________
(1) - سورة ص آية : 75.(1/38)
الكتاب، أو إنسان يقرأ لك، ويقول: الله أعلم بمراد هذا الكلام، أيهما أفضل، لا شك الأول، فهم أطلقوا هذه العبارة، لتفضيل طريقة الخلف على طريقة السلف، طيب. لماذا لجؤوا لذلك؟ قال الشيخ: إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، فقط يؤمنون بهذا اللفظ، لكن ما معناه، قالوا: الله أعلم بمراده، فجعلوا السلف جعلوا الصحابة، وكبار الأئمة، بمنزلة الأمي الذي لا يفقه من هذا الكلام حرف واحد ولهذا قال: بمنزلة الأميين الذين قال فيهم: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ } (1) وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص، المصروفة عن حقائقها، بأنواع المجازات وغرائب اللغات، نعم. طريقتهم -كما سيأتي- التأويل الذي هو في واقع الأمر تحريف، وليس بتأويل، يصرفون هذا النص عن حقيقته إلى معنى آخر، ويقولون: إن إطلاق هذا اللفظ على هذه الصفة مجاز، فيقولون -مثلا-: إطلاق الاستواء على العلو والارتفاع هذا مجاز، إنما معنى اللفظ الحقيقي الاستيلاء، أو إلى آخر التأويلات التي ذكروها، نعم..
فهذا الظن الفاسد، أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف
ــــــــــــــــــــــ
نعم، يعني هذه المقالة الفاسدة أوجبت لهم الكذب على السلف -رحمهم الله-، حيث زعموا أن طريقتهم هي التفويض الفاسد، والضلال والكذب والانحراف في تصويب طريقة الخلف، فإن طريقة الخلف -التي هي التأويل- هي الطريقة الفاسدة، وطريقة السلف، التي هي فهم النصوص، ومعرفة معنى هذه النصوص، هي الطريقة الصحيحة، نعم.
شبهات المعطلة لصفات الله - عز وجل -
__________
(1) - سورة البقرة آية : 78.(1/39)
وسبب ذلك، اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، للشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ، وتفويض المعنى، وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معاني بنوع تكلف، وهي التي يسمونها طريقة الخلف، فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية، ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه
ــــــــــــــــــــــ
نعم، السبب في تصويبهم طريقة الخلف، والكذب والافتراء على طريقة السلف، ما الذي حملهم على ذلك؟ ما الذي حملهم على القول بأن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم؛ لأنهم زعموا أن هذه النصوص -نصوص الصفات- لن تدل على صفة من صفات الله - عز وجل - ما الذي حملهم على ذلك؟ الشبهات الفاسدة، وسيرد شيء منها، كقولهم: إن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، أو إثبات الصفات يستلزم التشبيه، نعم. أو كإثبات بعض الصفات كصفة العلو، يستلزم إثبات الحيز والجهة لله عز وجل ونحو ذلك من هذه الشبهات التي اعتقدوا أنها قواطع يقينية عقلية، لا تقبل الأخذ والعطاء، عندهم الآن تعارض النص مع العقل، وعندهم قاعدة عامة أنه إذا تعارض النص مع العقل، قدموا العقل، فعندهم ما دامت هذه النصوص لا تدل على هذه الصفات، لهذه الشبهات التي أوردوها، يقول الشيخ: وشاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، نعم. من ملاحدة الفلاسفة، فملاحدة الفلاسفة ما حرفوا نصوص الكتاب والسنة، حرفوا نصوص اليوم الآخر، ونصوص التي جاءت تثبت الملائكة، نعم. إلا بهذه الشبهات، فهم شاركوا هؤلاء في الإدلاء بهذه الشبهة، ورد هذه النصوص بسبب هذه الشبهات، يقول: فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، بمعنى عندهم قاعدة عامة أن هذه النصوص لا تدل على شيء من الصفات، عندهم هذه القاعدة العامة، طيب.(1/40)
ما العمل مع هذه النصوص الدالة على هذه الصفات؟ القرآن مليء بالنصوص الدالة على هذه الصفات التي ينفونها، صار موقفهم أحد موقفين، إما الإيمان باللفظ وتفويض المعنى إلى الله، وهذا يسمونه طريقة السلف،
وهو التفويض، إذن طريقة السلف هي التفويض، فيقولون: إما أن تفوض، هات معنى هذا اللفظ، وإما أن تصرف هذا اللفظ عن معناه الظاهر إلى معان بعيدة، بنوع تكلف، وهذه هي طريقة الخلف، وهو التأويل الذي اعتمدوا عليه في تحريف هذه النصوص، فصار هذا الباطل مركب من فساد العقل، لأيش؟ لأن هذه الشبهات التي عارضوا بها النصوص، ليست أدلة عقلية، هذه شبهات، وليست أدلة، إذن هذه الشبهات التي يسمونها أدلة عقلية هذه شبهات فاسدة، والكفر بالسمع؛ لأنهم ما آمنوا بالسمع، تلاعبوا بنصوص السمع، يقول: فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية، ظنوها بينات، وهي شبهات.
ولعلي -مثلا- أورد لكم مثال بسيط؛ لأجل أن يتضح هذا الكلام، زعموا أن إثبات -مثلا- اليدين لله يستلزم منه التشبيه، هذا الآن عندهم دليل عقلي يقيني، لا يقبل النقاش، أن إثبات اليدين يستلزم التشبيه، يعني أننا إذا أثبتنا لله اليدين، فقد شبهنا الخالق بالمخلوق، ماشي. وبسبب هذه القاعدة، بسبب هذه الشبهة، نفوا أن يكون الله موصوفا باليدين، طيب. قول الله - عز وجل - { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) قالوا: أنت الآن لك أمام النص أحد أمرين، إما أن تفوض تقول: الله أعلم بمراده بهذه الآية، وهذه طريقة السلف -كما زعموا-، وإما أن تأول، وهي طريقة الخلف، ويكون معنى{ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) لما خلقت بقدرتي، طيب.
__________
(1) - سورة ص آية : 75.
(2) - سورة ص آية : 75.(1/41)
لماذا لا تثبتون الآية على ظاهرها وتثبتون الصفة لله عز وجل - قالوا: لأنه يتعارض مع الدليل العقلي، أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه، الرد عليهم أن هذه الحجة، هذا الدليل الذي زعمتم أنه دليل عقلي، ليس بدليل عقلي، فليس إثبات الصفة يستلزم التشبيه، هذا الدليل دليل فاسد، والدليل على فساده، أنكم معاشر الأشاعرة، ألستم تثبتون السمع لله؟ ولا لا؟ تثبتون لله البصر ولا لا؟ والمخلوق موصوف بالسمع والبصر ولا لا؟ إذن أنتم تشبهون، فإثبات السمع والبصر يستلزم التشبيه، فهذا دليل على أن هذه الشبهة شبهة فاسدة، وبمثل هذه الشبهات عارضوا بها نصوص الوحيين، وأبطلوا بها دلالة نصوص الوحيين على صفات الله - عز وجل - نعم.
أحسن الله إليكم، ثم فائدة شخص أرسل ورقة، يقول: لا تصح قراءة المتن كأنه قرآن، رجاء التنبه.
الأصل فيها الجواز، ومن منع فعليه الدليل، ولقد أدركنا مشايخنا يقرأ عليهم بهذا الأسلوب، وما أنكروا هذا الأمر، نعم.
فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين، كانت النتيجة استجهال الأولين واستبلاههم، واعتقادهم أنهم كانوا قوما أميين، بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتيقنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله
ــــــــــــــــــــــ
يعني يقول الشيخ: فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين، والمقدمتان هما المقدمة الأولى: أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، هذه المقدمة الأولى، المقدمة الثانية: أن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص، المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، وغرائب اللغات، النتيجة ما هي النتيجة؟ استجهال من كانت هذه طريقتهم، كونه يؤمن باللفظ ويكل المعنى لله - عز وجل - (بمعنى أن هذا جاهل؛ ولهذا جعلوا السلف كحال العوام، واستبلاههم بمعنى، الأبله هو الذي لا عقل له، يعني كأنهم لا عقول لهم يفهمون بها هذه النصوص، كما سبق، من السلف الذين يقصدون هم الصحابة، وكبار التابعين، وأنهم بمنزلة الأميين، قوم أميين بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم، يعني بأنهم عباد عامة، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله، حازوا قصب السبق، أي تقدموا عليهم، صاروا أفضل منهم في هذا الأمر، في أعظم أمر فيما يتعلق بالله عز وجل الخلف أفضل من السلف، كما يزعم هؤلاء، حازوا قصب السبق، هذا مثال يردده شيخ الإسلام ابن القيم دائما، وهو أن قديما يوضع قصبة في حلبة المسابقة، فالسابق هو الذي يقتلع هذه القصبة، وهذا من أجل أن يتحقق أنه هو الذي وصل أولا، فالشيخ يقول: أنهم جعلوا الخلف هم الذين فازوا، وهم الذين تقدموا، وهم الذين علو على السلف -رحمهم الله- في هذا الجانب، حازوا قصب السبق، نعم.(1/42)
ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان، وجدهم في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، كيف يكون هؤلاء المتأخرين؟ لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين، الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم، بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول:
وسيرت طرفي بين تلك المعالم على ذقن أو قارعا سن نادم لعمري لقد طفت المعاهد كلها فلم أر إلا واضع كف حائر
وأقروا على نفوسهم بما قالوه متمثلين به، أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم:
وأكثر سعي العالمين ضلال سوى أن جمعنا فيه قيل وقالواوغاية دنيانا أذى ووبال فبادوا جميعا مسرعين وزالوا رجال فزالوا والجبال جبال نهاية إقدام العقول عقال ولم نستفد من بحثنا طول عمرناوأرواحنا في وحشة من جسومنا وكم قد رأينا من رجال ودولة وكم من جبال قد علت شرفاتها(1/43)
ثم قال، لاحظوا من هذا، هذا الرازي، هذا المنظر لمذهب الأشاعرة، هذا الذي يعتبر من أعظم أئمة هذا الفن، الذي قعد هذا المذهب؛ ولهذا الشيخ يقول: لما رأيت، يقوله في -نقض التأسيس- لما رأيت أن جمهورهم -أي جمهور الأشاعرة- يصدرون ويردون على رأي الرازي، رأيت أن أرد على كتابه أساس التقديس، ويعتبر رد على جميعهم، ماذا يقول في نهاية حياته؟ يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، وما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) وقوله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } (2) واقرأ في النفي { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (3) { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) } (4) ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، ويقول الآخر منهم: ولقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، خضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمة منه، فالويل لفلان، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام .
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة فاطر آية : 10.
(3) - سورة الشورى آية : 11.
(4) - سورة طه آية : 110.(1/44)
الشيخ يقول: من تدبر هذا الكلام، الذي فضل طريقة السلف على طريقة الخلف، وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، كيف يكون هؤلاء المتأخرون، لا سيما والإشارة بالخلف، إلى ضرب من المتكلمين، الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، نعم. من أكثر الناس اضطراب اختلاف، هم أهل الكلام، كما ذكر الغزالي في النقل الأخير، الذي ذكره شيخ الإسلام، أكثر الناس شكا عند الموت هم أهل الكلام، والدليل على أنهم أكثر الناس اضطرابا، هذه الأمثلة التي أوردها الشيخ، أوردها عن كبار أئمتهم، الذين يصغون ويردون على آرائهم وأقوالهم، فأول هؤلاء يقول: وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم، بما انتهى إليه من مرامهم، أي بما انتهى إليه نهاية أمرهم، وهو الشهرستاني، الشهرستاني من كبار أئمة المتكلمين، هو الذي قال هذين البيتين، أو نقلهما متمثلا بهما:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضع كف حائر
على ذقن أو قارعا سن نادم
ولهذا علق على هذين البيتين الشيخ -رحمه الله- فقال: فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا مرتابا، أو من اعتقد ثم ندم؛ لما تبين له خطأه، بمعنى أنهم أحد اثنين، هؤلاء الذين تبحروا في هذا العلم -علم الكلام- إما أن يصل أمره إلى الشك والحيرة والاضطراب، وسيرد بعض الأمثلة، وإما أنه يعرف أنه على ضلال، وهذا ما حصل للرازي،
وما حصل للغزالي، عرفوا في نهاية المطاف أن هذا الطريق لا يهدي إلى الحق، ولا يلتمس منه الصواب، فأقروا على أنفسهم بذلك، يقول: وأقروا على نفوسهم بما قالوه، متمثلين به، أو منشئين له، فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم، وهو الرازي، الإمام الفخر الرازي، ذكر ذلك في كتابه أقسام اللذات، والكتاب لا يزال مخطوط، تمثل بهذه الأبيات:(1/45)
نهاية إقدام العقول عقال
وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وغاية دنيانا أذى ووبال
وكم قد رأينا من رجال ودولة
فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها
رجال فزالوا والجبال جبال
ثم قال، لاحظوا من هذا، هذا الرازي، هذا المنظر لمذهب الأشاعرة، هذا الذي يعتبر من أعظم أئمة هذا الفن، الذي قعد هذا المذهب؛ ولهذا الشيخ يقول: لما رأيت، يقوله في -نقض التأسيس- لما رأيت أن جمهورهم -أي جمهور الأشاعرة- يصدرون ويردون على رأي الرازي، رأيت أن أرد على كتابه أساس التقديس، ويعتبر رد على جميعهم، ماذا يقول في نهاية حياته؟ يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا -تشفي مريضا- ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق، طريقة القرآن، إن أردتم الهداية، إن أردتم السلامة، فعليكم بطريقة القرآن، أما طريقة هؤلاء المتكلمين، لا تشفي عليل، ولا تروي غليل، ورأيت أقرب الطرق، أقرب الطرق للهداية، قد يكون عند المتكلمين حق.
وليس معناه أن كل ما عند المتكلمين هو باطل، لا عندهم حق وباطل، لكن الحق صعب المنال، وعَّروا وصعبوا الطريق في الوصول إلى الحق، بهذه المناهج التي سلكوها، أما طريقة القرآن فلا، طريقة سهلة، طريقة يسيرة، فهذا اعتراف من إمام من أئمتهم، أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) إثبات صفة العلو، واقرأ في النفي بمعنى اترك هذه المقدمات الكلامية، المقدمات المنطقية، عليك بطريقة القرآن، اقرأ في النفي
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة فاطر آية : 10.(1/46)
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) } (2)
يقول: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، ويقول في وصيته، التي نقلها صاحب عيون الأنباء، ونقلها السبكي في طبقاته، يقول في وصيته في آخر حياته، الرازي يقول: ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن؛ لأنه يسعى في تسليم العظمة، والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية؛ فلهذا أقول كل ما ثبت بالدلالة الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته وبراءته عن
الشركاء كما في القدم والأزلية والتدبير والفاعلية، فذلك هو الذي أقول به وألقى الله به، وأقول ديني متابعة الرسول - وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما..
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.
(2) - سورة طه آية : 110.(1/47)
هناك أيضا زيادة، فيما ذكره في كلامه السابق، أنه قال: ثم أقول من صميم القلب من داخل الروح، أني مقر بأن كلما هو الأكمل الأفضل الأعظم الأجل فهو لك، وكلما هو عيب ونقص فأنت منزه عنه، يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- تعليقا على كلامه هذا: وهو صادق فيما أخبر به، أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفة، سوى أن جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلا، ولا يروي غليلا، فإن من تدبر كتبه كلها، والشيخ من أكثر الناس دراية وعلما، بما كتبه الرازي، يقول: فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين، موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل لاحظوا الافتراض، بل يذكر في المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه، فلا يذكره، يعني يأتي بهذه المسألة ويذكر أقوال الناس فيها أحيانا يذكر كما ذكر الشيخ إلى عشرة أقوال، والقول الحق لا يذكره؛ لأنه لا يعلمه، والسبب -يا إخوان- هؤلاء لا ينقصهم ذكاء، ولكن كما قال الشيخ في آخر الرسالة: أوتوا ذكاء ولم يؤتوا ذكاء، التمسوا الحق من غير معينه، فضلوا وانحرفوا { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (1) هؤلاء الآن كبار الأئمة، نعم إن صدقت أقوالهم هذه، فنرجو لهم إن شاء الله توبة عند الله
__________
(1) - سورة الصف آية : 5.(1/48)
عز وجل - لكن كما قال شيخ الإسلام: يموتون كما يموت عوام الناس، وشتان بين موت عالم، وموت عامي، هذا إن سلموا من تبعات هذا العلم الذي خلفوه للناس، نعم. وصلوا إلى نهاية الطريق، ولكن وجدوا الطريق مغلق أمامهم، هم سلكوا هذا الطريق يلتمسون الحق لكن، وجدوا أنه لا يوصل إلى الحق؛ ولهذا ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، يقول للناس الذين بعده: التمسوا الحق من الكتاب والسنة، فيهما الهدى والنور، هما أقرب الطرق إلى الحق، ويقول الآخر منهم، وهو إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، من أئمة الأشاعرة، بل من كبار أئمة الأشاعرة، بل هو من أوائل من قال بنفي الصفات الخبرية، التي وردت في القرآن، فالأئمة الأشاعرة المتقدمون، كالباقلاني والبيهقي،
يثبتون الصفات الخبرية التي جاءت في القرآن، الجويني أول من نادى بنفي الصفات الخبرية، التي جاءت في القرآن من الأشاعرة، ماذا يقول؟ يقول: لقد خضت البحر الخضم البحر الواسع، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، نهوه عن ماذا؟ عن الدخول في هذه المضائق، التعمق في المسائل الفلسفية والمسائل المنطقية، عندك دلالة القرآن والسنة واضحة بينة، والآن إن لم يتداركني ربي برحمة منه، فالويل لفلان، وها أنا ذا أموت على عقيدتة أمي، يموت كما يموت العوام على عقيدة مجملة.(1/49)
ويقول الآخر منهم -وذكر الشيخ في غير هذا الموضع، أن القائل هو أبو حامد الغزالي-: أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام، يا خوان الإنسان لو كان في حياته عنده شيء من الشك، لكنه عند الموت أحوج ما يكون إلى اليقين التام، يعني هذا الموقف خلاص انتهى، ما يقبل فيه الشك، هذه الأمور العقائد لا تقبل الشك، لا بد أن تلقى الله - عز وجل - على عقيدة، وأنت مستيقن بذلك مثل الشمس، فهؤلاء لما التمسوا الحق من غير معينه، عاقبهم الله - عز وجل - بهذه المصيبة، أنهم صاروا من أكثر الناس شكا عند الموت؛ ولهذا دخل ابن بادة -وهو رجل من عامة المسلمين- دخل على شمس الدين الخسرو شاهي، وهو من أعز وأجل تلامذة الرازي، دخل عليه هذا الرجل البسيط، سأله شمس الدين، قال: ما تعتقد، قال هذا الرجل: ما أعتقد، أعتقد ما يعتقده المسلمون، قال: وأنت مطمئن مرتاح البال لذلك، قال: أجل ما عندي، أدنى شك ولله الحمد، فقال: أما أنا فوالله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، فبكى وبلل لحيته، طيب. أقول أنه قال: له لما سأله ما تعتقد، قال: ما يعتقده المسلمون، عامة المسلمون، ما عندي أدنى شك، قال: وأنت مرتاح البال مطمئن، قال: أجل، قال: أما أنا هذا الرجل الذي قضى حياته وعمره في البحث، والتنقيب والأخذ والعطاء، وعرض هذه الشبه والإجابة عليها، قال: أما أنا فوالله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد،
حتى بكى.
واصل الحموي، ممن دخل في هذا العلم، يقول: أضع الملحفة على وجهي، ثم أعرض شبهة هؤلاء، وأجيبها بشبهة هؤلاء، ثم هكذا إلى أن يطلع الفجر، لم أهتد إلى الحق، ولم يرتاح وينام كما ينام الناس، والسبب في ذلك، أنهم(1/50)
التمسوا الحق من غير معينه، لاحظوا هؤلاء الأئمة الكبار الذين قضوا حياتهم في قيل وقال، أتعبوا نهارهم، قطعوا أوقاتهم وأعمارهم، انتهوا إلى لا شيء، وكما قال الشيخ: إن صحت توبتهم فهم يموتون كما يموت عوام المسلمين، كيف لو صرفوا هذه الأعمار في قال الله، وقال الرسول، لو صرفوا هذه العقول في تفهم كلام الله، وكلام رسوله، ولكن هكذا { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (1) وكلام هؤلاء ينبغي أن يكون أيش؟ مثار عناية للمسلم المؤمن، ألا يدخل في مثل هذه المزالق، كما دخل هؤلاء، هؤلاء نجاهم الله - عز وجل - في آخر حياتهم -إن صدقت توبتهم-، لكن مئات ممن دخلوا في هذا العلم تاهوا وضلوا، فعلى المسلم أن ينظر كيف طلب السلف هذا العلم؟ كيف بحثوا عن
الحق؟ وليسلك سبيلهم فإن الخير كل الخير فيما انتهجوا، وإن الشر كل الشر فيما خالف منهجهم، وبالله التوفيق، وصل الله وسلم على نبينا محمد.
س: أحسن الله إليك، شيخ أستأذنك في قراءة بعض الأسئلة، يقول هذا السائل: هل هؤلاء تابوا مثل الرازي والغزالي، وهل كلامهم حجة داحضة على أصحابهم؟
__________
(1) - سورة الصف آية : 5.(1/51)
ج: أما توبتهم، فالذي يظهر من كلامهم هذا، أننا نحسن إن شاء الله تعالى النية فيهم، أنهم تابوا، لكن يبقى أن كلامهم الذي سطروه، وهو الآن منشور بين المسلمين، موجود في الكتب، أنه الضلال الذي وضعوه، فتوبتهم لأنفسهم، فهذا لا يمنع من الرد على ما ذكروه في كتبهم، وهذا ما ذكره الشيخ -رحمه الله- يقول: كونهم تابوا، كون توبتهم صحت، هذا أمر، هذا بينهم وبين الله، لكن الذي يهمنا من هؤلاء ما هو؟ الرازي والغزالي شخص كسائر الأشخاص، قدم إلى الله أفضى إلى ما قدم، لكن المهم بالنسبة لنا كمسلمين، هذا التراث الذي خلفوه لنا، أما كلامهم يعتبر حجة على أصحابهم، لا شك؛ ولهذا الشيخ يكثر من إيراد هذه الأمثلة، وسيختم الرسالة في آخر الفتوى الحموية، بأن الناس تجاه علم الكلام ثلاثة أقسام، وذكر قسما الذين دخلوا فيه وبلغوا الغاية،
وعرفوا أنه لا يهدي إلى الحق، ولا يوصل إلى الصواب، كأمثال الرازي والجويني، والشهرستاني وغيرهم، نعم.
س: أحسن الله إليك، كثير من الأحبة يسأل عن الكتاب الذي بين يديك؟
ج: هو الفتوى الحموية، الكتاب الذي بين يدي الفتوى الحموية، لكنها نسخة محققة تحقيق العبد الفقير، نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا سائل من فرنسا يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يجوز لشخص أن يعطي دروسا عبر الإنترنت، وهو لم يدرس عند أي شيخ حيث يعمل على ترجمة كتب كبار العلماء إلى اللغة التي يفهمها القوم.
س: سؤال آخر، هل يجوز لبس ما فيه صورة الطفل؟(1/52)
ج: السؤال الأول: وهو هل يجوز للإنسان أن يعطي دروس عبر جهاز الإنترنت، الشبكة العالمية، وهو لم يدرس عند أي شيخ، نقول: الأصل في العلم معاشر الإخوة أن يؤخذ عن العلماء، وأن يدرس عند ركب العلماء، هذا هو الأصل، لكن قد لا يتيسر للإنسان عالم يدرس عليه، فعند ذلك يبلغ ما يعرف من دين الله - عز وجل - على قدر استطاعته، وعلى وفق حاله،, بلغوا عني ولو آية - أمر آخر أقول: مع وجود هذه الوسائل تيسر ولله الحمد والمنة، أن الإنسان يمكن أن يتلقى العلم عن العلماء، ولو لم يباشر الجلوس معهم، فجل دروس العلماء خاصة في هذه العصور المتأخرة، قد سجلت على أشرطة الكاسيت، فبإمكان الإنسان الذي لا يتيسر له الحضور المباشر، أو المرأة التي لا يتيسر لها الحضور المباشر لهذا الدرس، أن تسمع هذا الدرس عن طريق هذا الشريط، لكن بشرط من أراد أن يستفيد لا بد أن
يكون الكتاب بين يديه، ويتابع مع هذا الشيخ ويدون الفوائد والمُلح التي يسمعها؛ لأجل أن يرسخ هذا الدرس في ذهنه، فإذا أشكلت عليه مسألة، أو أشكلت عليه قضية، فما عليه إلا أن يرفع السماعة، ويسأل أحد المشايخ، نعم. نقول: من تيسر له الحضور المباشر، هذا نور على نور، وهذا لا خلاف فيه، لكن من لم يتيسر له ذلك، نقول: خلاص، إما أن تأخذ الشيء مائة في المائة أو صفر لا، يعمل الإنسان بقدر استطاعته، هناك بعض المناطق في أنحاء العالم، نعم. قد لا يوجد عندهم شيخ، قد يوجد عندهم طالب علم مبتدئ، لكن هذا هو أعلم من عندهم، فلا يمنع أن يجلس هذا الشخص، ويدرس الناس ويعلم الناس، بحسب العلم الذي عنده.
س: هل يجوز لبس ما فيه صورة الطفل؟
ج: والله الأولى ترك هذه الصور جملة وتفصيلا، وأن لا يحمل الإنسان من الصور إلا ما اضطر إليه، أما أن يحمل هذه الصور اختيارا، فنقول: الأولى تركها، هذا هو الأسلم، والله أعلم.(1/53)
س: أحسن الله إليك، هذا سؤال من أشعري تائب، يقول: حفظك الله لو نسلم لكم -جدلا- أن الصحابة كانوا يعلمون مقاصد الآيات، فأين الدليل على هذا؟ فإنه لم يرد لنا قول أحد من الصحابة، أنهم قالوا: نحن نثبت ولا نكيف، بل إن هذا كله منقول عنهم، بل إن ابن تيمية نفسه لم ينقل عن أحد من الصحابة، إذن فالأصل أن المنقول لنا عن الصحابة لا شيء، وهذا لا دليل فيه أنهم أثبتوا الصفات، والله أعلم.
ج: بل أقول له هناك ستة وجوه، ذكرها شيخ الإسلام في الجزء الرابع من الفتاوى، من صفحة مائة وسبعة وخمسين، ذكر ستة وجوه، أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يعلمون معاني هذه النصوص، وأن من زعم أنهم لا يعلمون معاني نصوص الصفات، فقد افترى عليهم غاية الكذب، وذكر الوجوه، ولعلنا إن شاء الله غدا نشير إليها إشارة، نعم. وهناك دليل، الأصل أنهم يفهمون هذه النصوص، وذكر الشيخ أنه من زعم أنهم كحال الأميين والعوام فقد افترى عليهم، كيف يقرؤون نصوص ما يفهمون معناها، وهم يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن معاني أمور بسيطة، أمور أشبه ما تكون بالمسائل الفرعية، إذا أشكل عليهم سألوا عن معناها النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضرني الآن هذا المثال يقول: ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الودود الولود العئود قالوا: يا رسول الله عرفنا الودود الولود، فمن هي العئود؟ يسألون عن هذه الأمور البسيطة، ويتركون أصول الدين ما يسألون عنه، أبو رزين - رضي الله عنه - في الحديث الحسن يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجمع وهو أعرابي على فطرته، لم يدرس، لم يتعلم، يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يضحك ربنا لقنوت عباده وقرب غيابه لاحظوا ماذا قال أبو رزين بفطرته ببساطته؟ قال يا رسول الله: أو يضحك ربنا قال: نعم ما قال كما قال المتأخرون: إذا يلزم عليه أن يكون لله أضراس تعلى الله، لله شفتين يلزم(1/54)
عليه التشبيه، يلزم عليه، لا. بس يريد أن يتأكد أو يضحك ربنا؟ قال: نعم قال: لن نعدم من رب يضحك خيرا هذا فهم النص، ولا ما فهمه، نعم.
س: أحسن الله إليكم، هذا يقول: يمر علينا كثيرا في كتب العقيدة كلمة مجاز، فما معنى هذه الكلمة؟
ج: المجاز: هذا مصطلح اختلف هل هو كان موجود عند العرب، أو غير موجود عند العرب، وهل هو في القرآن، أو غير موجود في القرآن، تعريفه هو استخدام اللفظ في غير ما وضع له أولا.
مثاله: اليد تستخدم في الأصل ليش؟ في اليد الحقيقية، أو لا؟ العرب إذا قالوا: يد، مباشرة يتبادر الذهن إلى اليد الحقيقية، واضح. لكن قد تستخدم في معنى آخر في النعمة، فيقال: فلان له يد عندي، واضح.
الأسد عند العرب يستخدموه لهذا الحيوان المفترس، لكن قد يستخدمونه في الإنسان الشجاع، فيقولون: جاء(1/55)
الأسد، أي ذاك الرجل، جاء الأسد ضاحكا، أي ذاك الرجل الشجاع، فنقل المعنى مما استخدم له إلى معنى آخر، هذا يسمى مجاز، من الجواز، طيب. هل العرب عندهم مجاز المسألة، خلافية كبيرة جدا، أما أهل الأصول، فيزعمون، نعم. أن العرب استخدموا المجاز، طيب. شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم -رحمه الله- ذهبوا إلى أن المجاز لم يعرف إلا بعد انقضاء القرون الثلاثة، وأول من قال به المعتزلة؛ ولهذا انتصر لهذا القول ابن القيم -رحمه الله- انتصارا قويا في مختصر الصواعق، وقال: سمى المجاز الطاغوت، فقال: كسر الطاغوت كذا المجاز، وانتصر أيضا لهذا القول محمد الأمين الشنقيطي -رحمة الله عليه- صاحب أضواء البيان، في رسالة له صغيرة إبطال المجاز، وعلى فرض أنه موجود عند العرب، فالقول الصحيح أنه غير موجود في القرآن؛ وذلك لأن المجاز -لاحظوا هذه أول حجة- لأن المجاز يجوز نفيه ولا يكون من نفاه كاذبا، وبالإجماع لا يجوز نفي شيء من القرآن، فعلى فرض وجوده عند العرب، فهو غير موجود في القرآن، وهذه الشبهة التي هي المجاز، هي التي عول عليها أكثر المتكلمين، في نفي أكثر الصفات، طيب. نقف على هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/56)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، قال المصنف -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف، إذا حقق عليهم الأمر، لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكونوا هؤلاء المحجوبون، المنقوصون المسبوقون، الحيارى المتهوكون، أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب آياته وذاته من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، من ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبهم نطقوا الذين وهبهم الله من العلم والحكمة، ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليهم، لاستحيا من يطلب المقابلة.
ــــــــــــــــــــــ(1/57)
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، لا زال كلام المؤلف، في الرد على من فضل كلام الخلف، على كلام السلف، في باب الأسماء والصفات، يقول -رحمه الله-: ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف، بمعنى أهل الكلام الذين خالفوا السلف في أصول الاعتقاد، إذا حقق عليهم الأمر، لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله، وخالص المعرفة به خبر، بمعنى أنهم لم يستندوا فيما أو في كثير مما ذهبوا إليه، وخالفوا فيه سلف الأمة، لم يستندوا في ذلك إلى خبر، إلى آثارة من العلم، إلى دليل من الكتاب أو السنة، أو إلى قول من أقوال السلف الصالح، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، هذا مثل يضرب لمن ترك شيئا يراه، ثم تبع أثره؛ ولهذا يقال: لا تطلبوا أثرا بعد عين، فهم لم يقفوا لا على عين الحقيقة، ولا حتى على أثر هذه الحقيقة، في هذا الباب، كيف يكون هؤلاء المحجوبون، المنقوصون المسبوقون، هذه صفات لمجموع هؤلاء.
وسيوضح الشيخ فيما بعد، أنه لا يقصد أحدا بعينه، إنما يقصد مجموع هؤلاء المتكلمين الحيارى المتهوكون، المتهوك هو الذي يقع في كل أمر بمعنى، ليس لديه بينة يسير عليها، وهذه صفة هؤلاء في الحقيقة فإذا كان أئمتهم أقروا على أنفسهم أنهم ما وصلوا إلى الحقيقة، وأنهم في حيرة من أمرهم، فما الظن بالأتباع أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم بباب آياته وذاته من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء، وخلفاء(1/58)
الرسل وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى، كل هذه صفات لسلف هذه الأمة، الذين بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبهم نطقوا، لا شك أن كتاب الله - عز وجل - مليء بالثناء على أولئك، والترضي عنهم { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (1)
وهذا الكتاب هم الذين قاموا به، وأوصلوه للناس، وبلغوه للناس، غضا طريا كما سمعوه من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لهذا يقول أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن كعثمان بن عفان، وابن مسعود، أنهم كانوا إذا تعلموا شيئا من القرآن من الرسول - صلى الله عليه وسلم -لم يتجاوزوه حتى يعلموا ما فيه، ويعملوا بما فيه، فجمعوا بين العلم والعمل، ويقول مجاهد -رحمه الله-: لقد عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقفه عند كل آية أساله عند كل آية، يفسرها لي، فذاك الجيل الذين هم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -والتابعون لهم بإحسان، هم الذين بينوا لنا، وحملوا لنا هذين الوحيين، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة، ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم لا شك..
ولهذا كل علم عند الأمم السابقة فهو عند أمة محمد وأزيد، وكل علم عند فرق الأمة فهو عند أهل السنة والجماعة وأزيد، فكل حق عند فرق الأمة فهو موجود عند أهل السنة من باب أولى، وأحاطوا من حقائق المعارف، وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليهم لاستحيا من يطلب المقابلة، لا شك أن هذه الأمة وهبهم الله - عز وجل - من العلم ما برزوا به على سائر الأمم، وليس هناك أدنى مقارنة بينهم وبين غيرهم، من أهل الكتاب فضلا عن الأمم التي لا كتاب لهم، وكذلك أهل السنة والجماعة، نعم.
__________
(1) - سورة التوبة آية : 100.(1/59)
ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة، لا سيما العلم بالله، وأحكام آياته وأسمائه، من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم، أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة، وأتباع الهند واليونان ورثة المجوس، والمشركين وضلال اليهود والنصارى، والصابئين وأشكالهم وأشباههم، أعلم بالله من ورثة الأنبياء، وأهل القرآن والإيمان .
ــــــــــــــــــــــ
نعم أهل الكلام، جل ما عندهم، أو كثير مما عندهم من هذه المقدمات، التي عارضوا بها نصوص الوحيين، من أين أتوا بها؟ متى عرفها المسلمون؟ هل عرفت في زمن الصحابة؟ هل عرفت في زمن كبار التابعين؟ لم يعرفها المسلمون إلا بعد أن خالطوا أهل الأمم الأخرى، وبعد أن عربت الكتب اليونانية، كتب الفلسفة؛ ولهذا لما بعث المأمون إلى ملك الروم، أو والي الروم في اليونان، وكانت اليونان هي معقل تراث الفلاسفة، وطلب منه أن يبعث له كتب الفلاسفة كي يترجمها، وينشرها بين الناس، فتردد في ذلك، ثم جمع بطارقته، ورجال دينه فشاورهم، فقالوا له: ابعث بها إليه، فما دخلت هذه العلوم على أمة إلا أفسدتها، وهذا هو الواقع؛ ولهذا نقل السفريني عن شيخ الإسلام، والحقيقة بحثت كثيرا عن أصل الكلام في كلام الشيخ لم أقف عليه، أنه قال: ولا أظن أن يغفل الله - عز وجل - عن المأمون، فيما جره على المسلمين بسبب ترجمة هذه الكتب، فترجمة هذه الكتب فتحت باب شر على المسلمين، فأصول هؤلاء، والقواعد التي عارضوا بها نصوص الكتاب والسنة استقوها من أولئك؛ ولهذا يقول ابن حزم، يقول: لما زالت حضارة أولئك الكفار فارس والروم، زالت حضارتهم على أيدي المسلمين، حاولوا أن ينالوا من الإسلام وأهله، ورأوا أن الكيد لهم بالطرق العسكرية بالقوة لا يجدي، ولم يستطيعوا فسلكوا طرقا وأساليب أخرى، فحاولوا أن يفسدوا على المسلمين دينهم، فأثاروا هذه الشبهات، وسيذكر الشيخ أن أصل مقالة التعطيل التي لا زال المسلمون يحتسون شرها، أصلها مأخوذ من اليهود، كما أن الرفض أصله من اليهود، أول من نادى بالرفض عبد الله بن سبأ اليهودي، فالشيخ يقول: هؤلاء الذين هم أفراخ المتفلسفة، الذين استقوا علمهم ممن هؤلاء المتفلسفة، وأتباع الهند واليونان إلى آخره، كيف يكون هؤلاء أعلم بالله ممن من ورثة الأنبياء؟ الذين ورثوا العلم عن الأنبياء، هذا لا يقوله عاقل،(1/60)
إلى هنا انتهى كلام الشيخ في الرد على هذه المقولة الباطلة، أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، ولعلي أذكر هنا وجوها، ذكرها الشيخ في نقض التأسيس، يبين فيها أن طريقة السلف هي الأسلم والأعلم والأحكم، وأن طريقتهم كانت على وفق ما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد الله - عز وجل - وأنهم ما كانوا يقرؤون هذه النصوص نصوص القرآن المتعلقة بصفات الله، ولا يفهمون معناها، فذكر وجوها متعددة فمنها أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) } (1) فأمرنا بماذا بتدبر القرآن وقال: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ } (2) { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ } (3) القول والتدبر فرع عن ماذا؟ عن فهم المعنى، فالكلام الذي لا يفهم معناه لا يمكن أن يتدبر والله - عز وجل - أنزل هذا القرآن، وطلب من الناس أن يتدبروا آياته، فإذا كانوا لا يفهمون معناه كما يزعم هؤلاء المتكلمون أن السلف ما كانوا يفهمون، وما كانوا يعرفون معاني نصوص الصفات، فعلى هذا لا فائدة، ولا قيمة لهذا التدبر.
__________
(1) - سورة محمد آية : 24.
(2) - سورة ص آية : 29.
(3) - سورة النساء آية : 82.(1/61)
الوجه الثاني، أن الله تعالى وصف القرآن بأنه شفاء، فقال: { وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } (1) ووصفه بأنه: { هُدًى وَرَحْمَةً } (2) وأنه نور، فقال: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) } (3) فالكلام الذي لا يفهم معناه، هل يمكن أن يكون شفاء أو نور أو رحمة، نعم. يا إخوان، كلام لا يفهم، هل يمكن أن يكون نور للمؤمن؟ أن يكون شفاء للمؤمن، هذا يستحيل، أيضا من الوجوه أن الله تعالى قال: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) } (4) وقال: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) } (5) فبين أنه أنزله عربيا لماذا؟ لأجل ماذا؟ ليعقله الناس، فإذا كان لا يفهم هل يمكن أن يعقل؟ أيضا وهذا أشار إليه الشيخ هنا أن الله - عز وجل - قال: { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) } (6) فذم هؤلاء الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، أي إلا تلاوة بلا فهم، ولا تدبر للمعنى، فإذا كان الله - عز وجل -ذم هؤلاء
__________
(1) - سورة يونس آية : 57.
(2) - سورة يونس آية : 57.
(3) - سورة المائدة آية : 15.
(4) - سورة يوسف آية : 2.
(5) - سورة الزخرف آية : 3.
(6) - سورة البقرة آية : 78.(1/62)
والمتكلمون يقولون: أن السلف كانوا يقرؤون ولا يفهمون المعنى، فقد شاركوا هؤلاء، فهم مذمومون بنص القرآن، وهذا لا يقوله مسلم، والله - عز وجل - أيضا ذم اليهود، وقال: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) } (1) فهم كانوا يقرؤون الكتاب من غير فهم لمعناه، أيضا من الوجوه التي ذكرها أن الله تعالى ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت، دون فهم المعنى، فقال: { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) } (2) وقال: { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } (3) فمن جعل السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، غير عالمين بمعاني القرآن، جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين؛ ولهذا يقول: وإنما يستحق الذم إذا كان الكلام مما يمكن فهمه وفقهه، وما لا يكون كذلك لا يستحق به الذم، وذكر وجوها كثيرة، إلى أن قال في آخر ما ذكر: ومثل هذه الأدلة في القرآن كثيرة يطول تتبعها، وهذه أربعون وجها، وعند التأمل هي أكثر من ذلك، والوجه الواحد يتضمن وجها أو وجوها، والآيات المتماثلة جعلت وجها، أي جعلها هو وجها واحدا، يقول: وكلا منها دليل مستقل، فتكون الدلائل المذكورة أكثر من مائة دليل، وما لم يذكر كثير أيضا -رحمه الله- نعم.
فضل السلف على الخلف
__________
(1) - سورة البقرة آية : 79.
(2) - سورة البقرة آية : 171.
(3) - سورة الفرقان آية : 44.(1/63)
وإنما قدمت هذه المقدمة؛ لأن من استقرت هذه المقدمة عنده، علم طريق الهدى أين هو، في هذا الباب وغيره، وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين؛ بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث به محمدا - صلى الله عليه وسلم - من البينات والهدى، وترقيم البحث عن طريق السابقين والتابعين والتماسهم علم معرفة الله، ممن يعرف الله بإقراره على نفسه، ولشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة، وليس غرضي واحدا، وإنما أصف نوع هؤلاء، ونوع هؤلاء.
ــــــــــــــــــــــ
نعم يقول -رحمه الله- أن الضلال والتهوك الذي هو الوقوع في الأمر من غير معرفة له صفة لازمة لهؤلاء
والسبب أنهم وقعوا في الحيرة والتهوك بما شهدوا هم على أنفسهم بذلك، وشهد عليهم الآخرون بذلك، السبب في ذلك ما هو؟ ها هم صرحوا بذلك، أنهم نبذوا كلام الله وراء ظهورهم، والتمسوا الحق من غير معينه.
ولهذا يقول الشيخ -رحمه الله- : وقد ثبت عندي بالإسناد المتصل عن أحد كبارهم صاحب أسرار المنطق، وهو رجل يقال له الخونجي كذا، أنه قال عند الموت: أموت وما علمت إلا أن الممكن يفتقر للواجب، والافتقار أمر يعرف الإنسان ربه حقيقة المعرفة. عدمي أموت وما علمت شيئا.
فهذه شهادة من أنفسهم على أنهم لم يصلوا -لا أقول إلى علم يقيني- بل ولا إلى علم يسير، يمكن من خلاله أن يقول: وليس غرضي واحدا، وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء، يقول: أنا في هذه الفتوى وفي هذا الكلام، لا أقصد فلان من المتكلمين، ولا أقصد فلان من المتكلمين، إنما أقصد نوع من دخل في هذا العلم، وأقصد نوع السلف، لا أقصد الإمام أحمد، ولا الإمام الشافعي، ولا أقصد الصحابة، أقصد مجموع السلف -رحمهم الله-، نعم.
إثبات صفة العلو لله - عز وجل -
الآيات الدالة على إثبات صفة العلو لله - عز وجل -(1/64)
وإذا كان كذلك فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر، في أن الله سبحانه فوق كل شيء، وعليٌّ على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، مثل قوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (1) { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } (2) وقوله: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } (3) وقوله: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } (4) وقوله: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } (5) وقوله: { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } (6) وقوله: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } (7) وقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (8) في ستة مواضع وقوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (9) وقوله: { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي
أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } (10) وقوله: { تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } (11) وقوله: { مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ } (12)إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة . .
__________
(1) - سورة فاطر آية : 10.
(2) - سورة آل عمران آية : 55.
(3) - سورة الملك آية : 16-17.
(4) - سورة النساء آية : 158.
(5) - سورة المعارج آية : 4.
(6) - سورة السجدة آية : 5.
(7) - سورة النحل آية : 50.
(8) - سورة الأعراف آية : 54.
(9) - سورة طه آية : 5.
(10) - سورة غافر آية : 36-37.
(11) - سورة فصلت آية : 42.
(12) - سورة الأنعام آية : 114.(1/65)
ــــــــــــــــــــــ
نعم، انتهى الشيخ من المقدمة التي أصّل بها، أو قعّد بها، أن الحق على وجه العموم، وفي باب الأسماء والصفات، يجب أن يؤخذ من الكتاب والسنة، ومن أقوال سلف الأمة، وأن أقوالهم فيها الشفاء والنور والهدى.
بدأ الآن يجيب على سؤال السائل فيما يتعلق بالصفات، فبدأ بصفة العلو لله - عز وجل - وهذه الصفة -معاشر الإخوة- من أعظم الصفات التي جاءت فيها الأدلة الصحيحة الصريحة، واجتمع فيها دلالة الكتاب والسنة والإجماع، والعقل والفطرة، جميع أنواع الأدلة، ومع ذلك هذه الصفة أجمع أهل التعطيل على نفيها عن الله - عز وجل - اتفق الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، ومن حذا حذوهم على تعطيل الرب -سبحانه وتعالى- من هذه الصفة، فبدأ الشيخ -رحمه الله- بقوله: فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين ثم سائر كلام الأمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر.
النص عند الأصوليين: هو ما كانت دلالته قطعية لا تحتمل النقيض، يمثلون على ذلك بقول الله - عز وجل - { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } (1) هل يتبادر إلى الذهن معنى آخر لهذه الآية؟ نص قطعي واضح لا نحتاج إلى بيانه بدليل آخر.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 196.(1/66)
أما دلالة الظاهر فهي ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر من الآخر، يأتينا دليل يحتمل هذا المعنى، ويحتمل هذا المعنى، أو يحتمل أكثر من معنى، لكن في دلالته على هذا المعنى أظهر من في دلالته على المعنى الآخر، مثاله ماذا؟ القرء، أحسنت، القرء يحتمل أن يكون هو الطهر، ويحتمل أن يكون هو الحيض، اليد يد كلفظ مطلق مجرد، يحتمل أن يكون اليد الجارحة، ويحتمل أن يكون النعمة أو القدرة، واضح. فالشيخ يقول: هذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وهذا كلام رسوله من أوله إلى آخره، وهذا كلام السلف مدون مكتوب منقول لنا، من أوله إلى آخره، ليس فيه نص واحد، لا نص ولا ظاهر، نعم. يدل على خلاف ما ذهبوا إليه أهل السنة والجماعة، من أن الله فوق عرشه، ثم بدأ يذكر بعض الأدلة على ذلك، فبدأ بقوله سبحانه: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (1) الصعود والرفع معروف في لغة العرب، أنه من أسفل إلى أعلى، والله - عز وجل - نص أن هذا العمل الصالح والكلم الطيب يصعد لمن؟ يصعد للملائكة، نص صريح إليه إلى الله الضمير يعود إلى الله، إليه يصعد، فبمعنى أنه في العلو، أيضا قوله سبحانه: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } (2) وقوله - عز وجل - { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } (3) هذه الآية وما في معناها، اعترض بها أهل التأويل على أهل السنة، قالوا لأهل السنة: ألستم تقولون أن ظاهر النصوص مراد، الظاهر اللائق بالله - عز وجل - قلنا: بلى، قالوا: إذن ظاهر هذه الآية ،وما في معناها من الآيات الأخرى، والأحاديث
__________
(1) - سورة فاطر آية : 10.
(2) - سورة آل عمران آية : 55.
(3) - سورة الملك آية : 16-17.(1/67)
ربنا الله الذي في السماء يدل على أن الله ليس في العلو، كيف ذلك؟
وجه ذلك، نعم. أحسنت، أن في تفيد الظرفية، بمعنى أن السماء محيطة بالل - عز وجل - تعالى الله عن ذلك، قالوا: كذب، ومن قال أن هذا هو ظاهر النص، بل ظاهر النص هذا هو ظاهر النص، رد عليهم شيخ الإسلام -رحمه الله- أن هذا فهم باطل، ومن نقله عن أحد من السلف فقد أن هذه الآية دليل على أن الله في العلو، وأن الله عال على كل الخلق، وأنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، طيب. ما معنى هذه الآية، هذه الآية لا تحتمل إلا أحد معنيين، وكلاهما يدل على الحق، المعنى الأول أن نحمل في على أصلها، ماشي على أصلها، بمعنى أنها تفيد الظرفية، لكن السماء هنا ليس المقصود بها السماء المبنية، إنما المقصود بالسماء العلو، وهذا موجود في القرآن، ونزلنا من السماء ماء طهورا، فليمدد بسبب إلى السماء إلى العلو، فيكون معنى الآية أأمنتم من في العلو واضح.
الاحتمال الثاني: لو قال قائل لنحمل السماء على السماء المبنية، فنقول إذن في تكون بمعنى على، وهذا معروف عند العرب، أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، فيكون معنى الآية أأمنتم من على السماء، وهذا أيضا موجود في القرآن، يقول الله - عز وجل - { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } (1) هل يقول عاقل أن الله - عز وجل - يأمرنا أن نسير في جوف الأرض، أو على الأرض، على الأرض، وقول الله - عز وجل - { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } (2)في وسط جذوع النخل، أو على جذوع النخل.
إذن فهذه الآية بكل المعاني الجائزة في لغة العرب، لا تدل إلا على المعنى الحق، ولا تدل على المعنى الباطل الذي أورده هؤلاء.
أيضا قول الله -سبحانه وتعالى-:
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 137.
(2) - سورة طه آية : 71.(1/68)
: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } (1) نص صريح، وقوله: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } (2) { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } (3) { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } (4) وقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (5) يقول الشيخ في ستة مواضع، في الأعراف ويونس والرعد، والسجدة والفرقان والحديد، وقوله -سبحانه وتعالى-: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (6)
والاستواء يا إخوان، الآيات التي جاءت في إثبات الاستواء، هي دليل على إثبات صفة الاستواء، ودليل على إثبات صفة العلو، فابن القيم لما ذكر أنواع الأدلة الدالة على إثبات علو الله - عز وجل - ذكر منها النصوص المثبتة للاستواء، وما الفرق بين صفة الاستواء وصفة العلو؟ ... نعم. ذكر الشيخ أن الفرق بين الصفتين، أن صفة الاستواء صفة خبرية، بمعنى ثبتت عن طريق الخبر، فلو لم يرد دليل من الكتاب أو السنة على إثبات هذه الصفة لما أثبتناها، فهي متوقفة على ورود ماذا؟ على نصوص الكتاب والسنة، أما العلو فلا، ثبت بالكتاب والسنة، والعقل والفطرة، ثبت بدلالة العقل، كما سيأتي.
الأمر الآخر، أن الاستواء صفة فعليه، متعلقة بالمشيئة؛ ولهذا ثم استوى على العرش، الاستواء أمر متأخر، أما العلو فهو صفة ذاتية، لا تنفك عن الله عز وجل بحال من الأحوال، فهو متصف بالعلو أزلا وأبدا.
الأمر الثالث: أن العلو أعم من الاستواء، فكل من استوى على شيء، فقد علا عليه ولا عكس، وليس كل من علا شيء فقد استوى عليه، واضح؟ فالله عال عن السماوات لكن لم يستو على السماوات، واضح أو غير واضح؟
أقول: العلو أعم من الاستواء، فكل مستوي على شيء فقد علا عليه، ولا عكس فليس كل من علا شيء فهو مستوي عليه، أيضا مما استدل به المؤلف هنا على صفة العلو، قصة فرعون وهامان
__________
(1) - سورة النساء آية : 158.
(2) - سورة المعارج آية : 4.
(3) - سورة السجدة آية : 5.
(4) - سورة النحل آية : 50.
(5) - سورة الأعراف آية : 54.
(6) - سورة طه آية : 5.(1/69)
يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } (1) قال العلماء: فلولا أن موسى أخبره أن الله في العلو، لما رام فرعون الصعود للاطلاع إلى إله موسى، فموسى عليه السلام أخبر فرعون أن إلهه أين؟ في السماء؛ ولهذا حاول جاهدا فرعون -عليه لعنة الله- أن يصعد؛ ليطلع على إله موسى كما زعم.
كذلك الآيات التي فيها أن الله - عز وجل -نزل القرآن، فدائما التنزيل يكون من أعلى إلى أسفل، يقول: إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة، وقد ذكر بعض أصحاب الشافعي، أن في القرآن ألف دليل على إثبات صفة العلو، وقال غيره: فيه أكثر من ثلاثمائة دليل على إثبات صفة العلو، وذكر ابن القيم -رحمه الله- أن الآيات والأخبار الدالة على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه، تقارب الألوف؛ ولهذا ذكر جملة منها في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية، وقال في آخر الكتاب: ولو شئنا لأتينا على هذه المسألة بآلاف الأدلة، نعم.
الأحاديث الدالة على إثبات صفة العلو لله - عز وجل -
وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى، مثل قصة معراج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم، وهو أعلم بهم " وفي الصحيح في حديث الخوارج :
ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء
وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره :
__________
(1) - سورة غافر آية : 36-37.(1/70)
ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين،أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع قال - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له، فليقل ربنا الله الذي في السماء ! وذكره، وقوله في حديث الأوعال " والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه .رواه أبو داود.
وهذا الحديث مع أنه رواه أهل السنن كأبي داود وابن ماجة والترمذي وغيرهم، فهو مروي من طريقين مشهورين، والقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر، وقد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد، الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل، موصولا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله في الحديث الصحيح للجارية أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة وقوله في الحديث الصحيح: إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش، إن رحمتي سبقت غضبي وقوله في حديث قبض الروح: حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله إسناده على شرط الصحيحين وقول عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه -
الشيخ -رحمه الله- لما ذكر جملة من الآيات الدالة على إثبات صفة العلو، انتقل لذكر جملة وأمثلة مما ورد في الصحيح، في إثبات هذه الصفة، فقال: وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى، ومعروف الحديث
الصحيح والحسن عند أهل المصطلح، الصحيح ما رواه العدل الثقة تام الضبط عن مثله، من أول السند إلى منتهاه، وسلم من الشذوذ والعلة القادحة، والحسن مثل الصحيح عدا أنه رواه خفيف الضبط، وكلا الدرجتين من درجات الحديث المقبول الصحيح، ذكر منه قصة معراج رسول الله r إلى ربه، وهذه ثبتت في صحيح مسلم، فمعراجه -عليه الصلاة والسلام- إلى ربه U يدل على أن الله في العلو؛ ولهذا وصل -عليه الصلاة والسلام- سدرة المنتهى، وسمع صريف الأقلام، بل ارتفع إلى درجات أعلى من جبريل، فجبريل لما جاوز السماء السابعة توقف، وقال: لا أتجاوز هذا، هذا هو الحد الذي، فاصعد إلى ربك، فصعد النبي r .
أيضا نزول الملائكة من عند الله U وصعودها إليه، هذا ورد في حديث , إن لله ملائكة سيارة - فكونهم يصعدون وينزلون يدل على أن الله في العلو، وهذا في الصحيحين كذلك وقوله: , الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار - هذا أيضا ثبت في الصحيحين، وحديث الخوارج , ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء - أي كيف لا تأمنوني على دنيا، وأنا أمين الله U على كلامه، على وحيه، وأنا أمين من في السماء يعني الله U وحديث الرقية يقول الشيخ: الذي رواه أبو داود وغيره , ربنا الله الذي في السماء - الحديث في واقع الأمر رواه أبو داود، والإمام أحمد والحاكم، والبيهقي واللالكائي، وابن قدامة في العلو، والدارمي في الرد على الجهمية، لكن مدار الحديث على زياد أو زيادة بن محمد، وقد قال عنه الإمام البخاري: أنه منكر الحديث، وقال عنه ابن عدي: ليس له إلا حديث أو حديثين عفوا، ليس له إلا حديثين أو ثلاثة لا يثاب عليهما، وذكر الذهبي أنه ممن انفرد بحديث الرقية.
وعلى كل حال فصفة العلو ليست متوقفة على هذا الحديث، فحتى لو كان هذا الحديث ضعيفا، فهناك عشرات بل مئات الأحاديث الدالة على هذه الصفة، وأيضا حديث الأوعال، وهو حديث العباس قال: , كنا في بطحاء في عصابة فيهم رسول الله r فمرت سحابة فسألنا ما تسمون هذه قلنا: السحاب، قال: والعنان، قلنا: والعنان، قال: والمزن، قلنا: والمزن - إلى آخر الحديث , وفيه والله فوق العرش يعلم ما أنتم عليه - أيضا الشيخ تكلم عن سند هذا الحديث؛ لأنه هناك من طعن في الحديث؛ وجه الطعن في الحديث أن عبد الله بن عميرة الراوي عن الأحنف؛ والأحنف هو الراوي عن العباس؛ الإمام البخاري أنكر أن يكون عبد الله بن عميرة سمع من الأحنف؛ فالشيخ يقول: البخاري نافي؛ وابن خزيمة الذي أورد الحديث في كتابه؛ أي كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أن لا يرد فيه إلا ما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكأن ابن خزيمة أثبت سماع من عبد الله بن عميرة عن الأحنف؛ والمثبت مقدم على النافي.
ولهذا الشيخ يقول: الحديث صحيح، ولا يرد عليه إنكار الإمام البخاري، الإمام البخاري -رحمه الله- أفاد بما علم أن عبد الله بن عميرة لم يسمع من الأحنف؛ فلهذا يقول: عبد الله بن عميرة لا يعرف له سماع من الأحنف، يقول: إن البخاري في تاريخه التاريخ الكبير ذكر، فقال: عبد الله بن عميرة لا يعرف له سماع من الأحنف، فرد عليه الشيخ -رحمه الله- بأن ابن خزيمة في كتاب التوحيد قد اشترط أن لا يحتج فيه إلا بالصحيح، والإثبات مقدم على النفي، والبخاري إنما نفى معرفة سماعه من الأحنف، ولم ينف معرفة الناس بهذا السماع، فإذا عرفه غيره كابن خزيمة كانت معرفته وإثباته مقدم على نفي غيره، وعدم معرفته، وقد حكم عليه بذلك أن الحديث حسن -رحمه الله-، يقول: وقوله في الحديث الصحيح للجارية , أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله - الحديث ثابت في صحيح مسلم؛ ولهذا شرق به أهل البدع، الحديث صريح لا يحتمل التأويل النبي r يسأل هذه الجارية الأعجمية , أين الله؟ تقول: في السماء - وفي رواية , أنها أشارت إلى السماء - فقال النبي r , أعتقها فإنها مؤمنة -
فوقف أهل البدع من هذا الحديث ثلاثة مواقف، فمنهم من رد الحديث، وهذا ديدنهم دائما مع السنة، القرآن يلجأون إلى التأويل أو التفويض، السنة غالبا ما يلجأون إلى رد الحديث، ولهم في ذلك عدة شبه، أحيانا يقول الحديث آحاد ولا يحتج به في باب العقائد، ومنهم من لا يستطع رد الحديث، لكن حاول أن يؤول هذا الحديث فقال: , إن النبي r سأل الجارية أين الله - وإلا لا يجوز سؤال أين الله؟ أهل الكلام النفاة لصفة العلو لا يجيزون السؤال عن الله بأين؛ لأنك لو سألت عن الله بأين، بمعنى حددت له مكانا، وهم ينفون هذا الأمر.
طيب سؤال النبي r لهذه الجارية، قالوا: لا هو يسألها عن مقام الله U قدر الله U في نفسها، فأخبرته أن قدر الله في السماء، كما تسأل إنسان ما قدر فلان عندك، يقول: في السماء، بمعنى عال ومرتفع وعظيم.
لاحظوا هذا التأويل الفاسد، ومنهم من قال: أنه سألها للامتحان، ولم يقرها على هذا الأمر، ومنهم من قال: نفوض معنى هذا الحديث إلى الله U فلا ندري، لكن لا نثبت صفة العلو ولا نجيز أن يسأل عن الله بأين.
والحديث صريح في إثبات صفة العلو، واشتمل أيضا على جواز السؤال عن الله بأين، وأن إثبات صفة العلو لله دليل على إيمان الشخص، فالنبي r حكم على هذه الجارية بالإيمان؛ لما أثبتت أن الله في العلو، وأنه رسول الله وقوله في الحديث الصحيح: , أن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش - دليل على أن الله فوق العرش، وأن هذا الكتاب عنده، والحديث في الصحيحين , إن رحمتي سبقت غضبي - فهذا الحديث فيه دلالة على إثبات صفة العلو، وفيه دلالة على إثبات صفة الرحمة والغضب، وأيضا إثبات العرش.
وأيضا قوله في حديث: , قبض الروح حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله - الحديث صريح في إثبات صفة العلو لله U والحديث رواه ابن ماجة وأحمد وابن خزيمة، وله شاهد من حديث البراء بن عازب الطويل الذي في السنن، نعم.
قوله "وإسناده على شرط الصحيحين" هذه درجة من درجات الحديث الصحيح، أي درجة؟ اختلفتم منكم من يقول: ثاني، ومن يقول: رابع، ومن يقول: خامس، إذا قيل هذا الحديث على شرط الصحيحين، أي درجة من درجات الصحيح؟ الرابع الدرجة الأولى المتفق عليه، الدرجة الثانية ما رواه البخاري، الثالث ما رواه مسلم، الرابع ما كان على شرطهما، نعم.(1/71)
وقول عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - الذي أنشده النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقره عليه:
شهدت بأن وعد الله حق
وأن النار مثوى الكافرين
وأن العرش فوق الماء طاف
وفوق العرش رب العالمين
وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو وغيره من شعره فاستحسنه، وقال آمن شعره وكفر قلبه:
مجدوا الله فهو للمجد أهل
ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الناس
وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا ما يناله بصر العين
يرى دونه الملائكة صورا
وقوله في الحديث الذي في السنن: إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا وقوله: يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، التي تورث علما يقينيا من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عن الله، القائلة أمته المدعوين أن الله -سبحانه- فوق العرش، وأنه فوق السماء، كما فطر الله جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته.
ــــــــــــــــــــــ(1/75)
نعم. ثم ذكر الشيخ -رحمه الله- من الأدلة الثابتة في السنة على صفة العلو، قصة عبد الله بن رواحة، وقد رواها ابن عبد البر في الاستيعاب، وقال: رويناها من وجوه صحاح، ورواها أيضا الدارمي، وابن عساكر في ترجمته في تاريخ دمشق، فهي صريحة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقره على أن الله - عز وجل - فوق العرش والعرش فوق المخلوقات " وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي، وهذا ممن أدرك الإسلام لكنه لم يسلم، وذكر المؤرخون أنه أراد أن يسلم، لكن لما علم بمقتل أهل بدر من المشركين منعه الكبر -نسأل الله السلامة-، وشعره مليء بالحكمة، وذكر بدء الخلق؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث آمن شعره وكفر قلبه " وثبت عن عمرو بن الشريف عن أبيه قال: " ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيئا، قلت: نعم، قال: هي فأنشدته بيتا، ثم قال: هي فأنشدته بيتا، حتى أنشدته مائة بيت إلى أن قال: كاد أمية أن يسلم " ؛ لما في شعره من إثبات وجود الله - عز وجل - وتعظيم الله - عز وجل - .
وهذا الحديث رواه مسلم، فهو شاهد للحديث الذي أورده المؤلف -رحمه الله-، قوله: الشرجعا، الشرجع هو العالي، ما يناله بصر العين، يرى دونه الملائكة صورا، أي مائل العنق، وقوله: في الحديث الذي في السنن: إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه، أن يردهما صفرا - رفع يديه إليه، العبد يرفع يديه لمن لله - عز وجل - وسيأتي الإشارة إلى أن أهل البدع قالوا: إن رفع اليدين إلى السماء، لا يدل على أن الله في السماء؛ إنما لأن السماء قبلة الدعاء، وهذا قول باطل لم يسبقهم إليه أحد، ولا دليل عليه لا من الشرع ولا من اللغة.(1/76)
وحديث يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب وقوله في الحديث هذا عند أبي داود، والترمذي وابن ماجة، وابن أبي شيبة والحاكم، وقال على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي وحديث يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب هذا في الحديث الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء هذا دليل على أن الله في السماء في العلو، يقول الشيخ: إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، أي من الأحاديث، وقد عُني بعض العلماء في جمع، بعض هذه الأحاديث التي جاءت في العلو، ككتاب العلو للعلي الغفار، للإمام الذهبي، وإثبات العلو لابن قدامة المقدسي، وكتاب اجتماع الجيوش الإسلامية للإمام ابن القيم، وغيرهم -رحمهم الله-، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، معروف ما هو متواتر هو ما رواه جمع عن جمع يستحيل عادة تواطئهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس.
فالشيخ يقول: إن إثبات صفة العلو ثبتت بالتواتر اللفظي والمعنوي؛ لأن التواتر ينقسم إلى قسمين، تواتر لفظي، وهو ما تواتر لفظه، مثل حديث من كذب علي متعمدا، والمتواتر المعنوي أن يختلف اللفظ لكن ألفاظ هذا الحديث تجتمع على معنى واحد، فصفة العلو ثبتت بهذين النوعين، من أنواع التواتر التي تورث علما يقينيا، من أبلغ العلوم الضرورية العلم الضروري عند أهل المنطق، هو ما لا يمكن دفعه، مثل يمثلون الواحد نصف الاثنين، والسماء فوق الأرض، هذا علم ضروري، ما يمكن الإنسان يتبعه، ولا حتى يحصل بالاكتساب.(1/77)
فالشيخ يقول: هذه الأدلة من القرآن والسنة، تدل على إثبات صفة العلو، وتورث لدى الإنسان علم يقيني لا يمكن دفعه، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه فوق العرش، وأنه فوق السماء كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، هذا النوع الثالث من أنواع الأدلة على إثبات علو الله - عز وجل - عرفنا النوع الأول دلالة الكتاب، النوع الثاني دلالة السنة، النوع الثالث الفطرة، وهذا الدليل من أقوى الأدلة التي ووجه بها، هؤلاء الذين أنكروا صفة العلو.
دليل الفطرة، ما هو دليل الفطرة؟ أن الله -كما ذكر الشيخ- فطر الناس عامة، المؤمن والكافر، العربي والأعجمي، الذكر والأنثى، والصغير والكبير، على أنهم يتوجهون بقلوبهم وأيديهم إذا حزبهم أمر أو شدة إلى السماء؛ لمن يتوجهون؟ لو لم يكن أن الله - عز وجل - في السماء، لما توجهوا إليها، وليس هذا أمر مكتسب، هذا أمر ضروري فطري؛ ولهذا لاحظوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأل هذه الجارية، أعجمية لم تدرس لم تتعلم ترعى الغنم، فصكها سيدها ثم ندم؛ لأنه هناك ذئب جاء وعدى هذه الغنم، فأكل شاة فغضب وأسف، فصكها ثم ندم وأتىالنبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل الكفارة فقال: ائت بها إليّ، ثم سألها أين الله؟ قالت: في السماء من أنا؟ قال رسول الله: أعتقها فإنها مؤمنة كيف عرفت أن الله في السماء؟
ويمثل العلماء ويورد هذا شيخ الإسلام كثيرا، في قصة أبي جعفر الهمداني مع أبي المعالي الجويني، أبو المعالي الجويني معروف من أئمة الأشاعرة، وممن ينكر صفة العلو، كان يشرح للناس، يشرح لهم حديث , كان الله ولم يكن شيئا معه، أو كان الله ولا عرش - ويقرر نفي صفة العلو، فقام أبا جعفر الهمداني، وقال له: يا شيخ دعنا من هذا كله، دعنا من هذه الأدلة التي توردها، وهذه الشبه، ومن هذه الاحتمالات، لكن أخبرنا عن شيء واحد أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، ما قال عارف قط يا الله إلا توجه إلى السماء، لم يلتفت يمينا ولا يسارا، فضرب أبا المعالي رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني، ونزل. ما استطاع أن يجيب عن هذا الأمر الفطري.
وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في دائرة عرض العقل والنقل، قال: كان عندي أحد هذه الشيوخ المنكرين لصفة العلو، يريد حاجة فأخرته، أخره عن وقته، ثم بدأ يتشاغل عنه في أمور، يقول: لما ضاق ذرعا رفع بصره إلى السماء، وقال: يا الله يعني كالمتذمر، يقول: فقلت له: لمن ترفع بصرك، أنت تنكر صفة العلو، تنكر أن يكون في العلو، أن يكون الله في العلو، فقال: أستغفر الله، أستغفر الله، يقول الشيخ: فقل سبحان الله، الآن تغالط فطرتك، فبينت له فعرف الحق، فرجع إليه، إذن هذه الفطرة هي من أقوى الأدلة، تسأل الصغير الصبي الذي لم يتعلم، فتقول: أين الله فيقول لك: في السماء، هذا الكافر الذي لا يؤمن بالله حقيقة، إذا نزلت به شدة يتوجه إلى السماء ضرورة.(1/78)
وأذكر في سنة من السنوات، كنا نناظر أحد الأشخاص في الحرم المكي، وكان طالب علم لكنه ممن يذهب إلى مذهب الأشاعرة، وينكر صفة العلو فطال المقام معه والأخذ والرد، فسبحان الله مر صبي صغير لم يدخل المدرسة، صغير، فنادينا الصغير، قلنا له: تعالى أين الله؟ مباشرة بفطرته قال: في السماء ومشى، قلنا له: من علم هذا
الصغير؟ فبهت الرجل.
إذن من الأدلة القوية التي يستدل بها على من أنكر صفة العلو، هذه الفطرة التي أودعها الله في قلوب عباده، نعم.
أقوال السلف في إثبات صفة العلو لله - عز وجل - بالإجماع(1/79)
ثم عن السلف في ذلك من الأقوال، ما لو جُمع لبلغ مئات أو ألوفا، ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من السلف الأمة، لا من الصحابة والتابعين، ولا عن أئمة الدين، الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحدا يخالف ذلك، لا نصا ولا ظاهرا.
ــــــــــــــــــــــ
نعم. هذا هو دلالة النوع الرابع الإجماع، الشيخ يقول: ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جُمع لبلغ مئات أو ألوفا، وذكرت لكم ممن عني بجمع أقوالهم في كتابه العلو، وقد جمع أقوالهم على الطبقات، فقال: من الطبقة الأولى فلان وفلان، ويو، الإمام الذهبي رد أقوالهم من الطبقة الثانية الثالثة الرابعة، وكذلك ابن القيم -رحمه الله- في اجتماع الجيوش، بل إنه تعدى إلى أبعد من هذا، نقل عن الكفار وعن الجن وعن الحيوانات، يثبت أن كل هؤلاء يخالفون هؤلاء المعطلة، ويثبتون صفة العلو، يقول: وليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله، ولا عن أحد من الصحابة، ولا عن أحد من التابعين، ولا عن تابعي التابعين، حرف واحد يخالف هذا الأمر.
قد يورد عليك شخص، ويقول: لأنه ربما ما جاء من يبحث هذه المسألة، الشيخ أشار إلى هذا الاحتمال، فقال: الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف، أدركوا أناسا ينفون عن الله صفة العلو، ويريدون الشبهات، وما بلغنا عن أحد الأئمة أنه وافقهم على ذلك، فالمسألة أثيرت في وقتهم، لكنهم ردوا عليهم، وأثبتوا صفة العلو لله حقيقة، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
س : أحسن الله إليكم، هذا سائل يقول: أعرف مؤذن مسجد يصلي أحيانا بنا، فهل تجوز الصلاة خلفه وماذا نفعل به؟ نشكيه أو ماذا نفعل؟(1/80)
ج : مؤذن ما الإشكال يعني؟ - في عقيدته قال إنه ينكر بعض الصفات - على كل حال إمامة المبتدع هذا تكلم عنها العلماء، والأصل في الناس السلامة، وليس من هدي السلف أنهم إذا أرادوا أن يصلوا خلف إنسان سألوا عن عقيدته، نعم. وإذا ثبت أن هذا الإمام عنده بدعة، فلا يخلو الأمر إن كانت بدعته مكفرة، فلا يصلى خلفه، ولا كرامة، أما إن كانت بدعته دون ذلك، فإن تيسر الصلاة خلف غيره، فهذا أولى، وإن صلى المسلم خلفه ولم يجد غيره فلا بأس، وكان الإمام أحمد يصلي خلف بعض أهل البدع، نعم.
س : هذا سائل ويلح في السؤال، يقول: هل القبور يسمعون من يأتي إليهم من أهلها، ويسلم عليهم ويعرف من هم؟
ج : أما سماع أهل القبور والموتى للنبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا ثابت، وثبت في قصة قتلى بدر، لما رماهم في القليب، وقال
له عمر لما وقف عليهم وقال: يا فلان بن فلان يا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فقد وجدت ما وعدني ربي حقا، فقال له: عمر ماذا تكلم جثثا هامدة، قال: ما أنتم بأسمع لي منه، أما سماع عموم الأموات لعموم الأحياء، فثبت في حالة، ثبت في الحديث أن الميت إذا انصرف عنه أهله المشيعون له، يسمع قرع نعالهم، أما ما عدا ذلك فالمسألة خلافية، ولا أعرف أنا فيها حديث وابن القيم -رحمه الله- في كتابه "الروح" أثبت سماع الأموات للأحياء، وانتصر لهذا كثيرا، والله أعلم.
س : يقول السلام عليكم ورحمة الله، استدل أهل التعطيل بقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (1) استدلوا بها على نفي العلو بالله تعالى، فكيف نرد عليهم، وجزاكم الله خيرا.__________
(1) - سورة الزخرف آية : 84.(1/81)
ج : نعم. استدل المعطلة مما استدلوا به على نفي صفة العلو عن الله عز وجل - آية { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (1) لكن بالرجوع إلى كلام المفسرين، وإلى كلام الأئمة، ممن فسروا هذه الآية، فكلهم مجمعون على أن معنى الآية ليس كما ظنه هؤلاء، أن الله في السماء وأنه في الأرض بذاته تعالى الله عن ذلك، بل معناها أن الله هو المدعو المعبود في الأرض المدعو المعبود في السماء، فهو إله من في السماء، وإله من في الأرض، وهذا هو الذي تشهد له اللغة، فإن إله من أله يأله فهو مألوه، أي عبد يعبد فهو معبود، إله على وزن فاعل، ويأتي معناها على وزن مفعول، مثل ركاب بمعنى مركوب، فإله معناها مألوه، أي معبود، وهذا هو الذي فسر السلف -رحمهم الله-، ولا حجة لهم في ذلك، نعم. سبحان الله لاحظ كيف يتمسكون بما تشابه من هذا القول، علما بأنه لم يسبقهم إليه أحد لا من الصحابة ولا من السلف، ولا حتى لغة العرب تشهد لهم، لكن لاحظوا يتمسكون بما تشابه في هذه الآية، ويدعون مئات الآيات المحكمة الصريحة التي لا تحتمل أي معنى آخر، نعم.
س : أحسن الله إليكم، يقول ما تفسير قول الله تعالى: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (2) وكيف يجمع بين هذه الآية، والأدلة الدالة على علو الله عز وجل؟
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 84.
(2) - سورة البقرة آية : 115.(1/82)
ج : معنى الآية { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (1) فثم جهة الله، وهذه الآية ليست من آيات الصفات، وليس فيها تأويل، كما يزعم أهل البدع، فإن في اللغة الوجهة والوجه كلها تطلق على الجهة، فأين ما تولوا فثم قبلة الله، هذا معنى الكلام، وهذه الآية مما اعترض بها أهل البدع على شيخ الإسلام في مناظرة الواسطية، قالوا له لما اجتمعوا به في المجلس الثاني، قالوا له: أنت تقول أن السلف لا يؤولون، قال: نعم، قالوا: وجدنا آية أولها السلف، قال كأنكم تريدون قول الله - عز وجل - { فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (2) قالوا: نعم، قال: من قال لكم أن هذه فيها تأويل، هذه هي أصل اللغة، الوجه يطلق على الجهة، وأطلق أو حققنا أن هذه اللفظة المقصود بها الجهة، وليس الوجه الذي هو الصفة؛ لأن سياق الكلام يدل على الكلام عن الصفات، أو عن القبلة؟ عن القبلة، إذن عندنا إذا كان اللفظ محتملا مثل الوجه الآن، يحتمل أن يكون الصفة، واحتمال أن يكون الجهة، والعرب أطلقوا الوجه على هذا وذاك، كيف نحدد هذا المعنى في هذه الآية؟ من الأمور التي يحدد بها معنى اللفظ أيش؟ سياق الكلام، شيخ الإسلام يقول: إن سياق الكلام مستلزم لفهم معنى الكلام، ليس فقط في كلام الله، بل حتى في كلام الناس، فأنت لا تفهم كلام المتحدث إلا إذا فهمت السياق الذي ورد به، واضح. فهذه الآية ليست من آيات الصفات، ولا علاقة لها بالصفات، فمعنى فثم وجه الله أي فثم قبلة الله وهذا هو الذي فسرها به السلف فسرها ابن عباس في هذا، نعم.
س: هل هناك سبب ظاهر لبدء المؤلف بصفة العلو؟
ج: لا ليس هناك سبب اللهم إلا أن هذه الصفة من أظهر الصفات التي أولها أهل البدع، ومن أعظم الصفات التي ثبتت بالأدلة القطعية التي اجتمع فيها جميع أنواع الأدلة، نعم.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 115.
(2) - سورة البقرة آية : 115.(1/83)
س: هذا يقول: السلام عليكم ورحمة الله، في حديث كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش، دال على أن غير الله أيضا فوق العرش، وهو الكتاب، إذن فعلوه على العرش يشاركه فيه غيره، بينوا لنا وجه ذلك مأجورين؟
ج : لا يلزم كونه الكتاب عنده فوق العرش هذا من تكرمة الله - عز وجل - لهذا الكتاب، لكن لا يلزم أن يكون مساويا لله - عز وجل - الله فوق العرش مستوي عليه -سبحانه وتعالى- عال ومرتفع عن العرش، لكن استواء يليق بجلاله، وهو ممسك للعرش، وفوق جميع المخلوقات، فلا يساويه مخلوق في علوه -سبحانه وتعالى-؛ لأن الأدلة الصريحة تدل على أن ما فوق العالم ثمة إلا الله، وكل ما سوى الله فهو عالم، نعم.
س : أحسن الله إليكم، يقول: نود أن تورد لنا مثالا من الأمثلة التي ذكرها ابن القيم -رحمه الله تعالى- التي حكاها عن الجن والحيوانات، كما ذكرت حفظك الله.
ج : لا يحضرني حقيقة الآن، قرأتها قديما لكن لعلي غدا؛ لأني نسيت أحضر بعض الأمثلة، ومن أراد الإطلاع يرجع إليها في آخر كتاب اجتماع الجيوش الإسلامية، الحيوانات أذكر أنه ذكر أن المؤرخين والمفسرين ذكروا أن النمل لما أراد سليمان أن يخرج، لما أراد الخروج للاستسقاء طلب نزول المطر، ورأى أن هناك نملة مستلقية على ظهرها رافعة يديها إلى السماء، قال: قد كفيتم ورجع لعله استدل بهذه القصة. وذكر قصة أيضا حول بعض الوعول لكن لا تحضرني تفصيلا وجه الاستدلال منها الآن، نعم.
س : يقول: هل من المستحسن ما يفعله بعض الناس، يسأل طفله أين الله؟ لأننا وجدنا من ينكر هذا الفعل حفظكم الله؟(1/84)
ج : لا، ليس هناك ما يمنع أن يسأل الإنسان طفله أين الله؟ ويعلمه ويربيه على هذه العقيدة الصحيحة، وليس فيه أيضا تشويش على نفس الطفل، ليست مثل بقية المسائل، لما تأتي تريد تثبت له صفة الاستواء فوق مستوى عقل الطفل، لكن صفة العلو مركوزة في فطرته، فأنت الآن فقط تجلي هذه الفطرة، لا أقل ولا أكثر، نعم.
س : أحسن الله إليكم، يقول: القول الذي نقله السفاريني عن ابن تيمية -رحمهما الله تعالى- لا أظن أن الله يغفر إلى نهاية الحديث هذا القول مشكل؟
ج : لا شك مشكل عليك، ومشكل أيضا على غيرك، فأنا حرصت حقيقة أن أجد كلام الشيخ؛ لأني أظن أن هناك سقط في الكلام، لكن على فرض عدم وجود سقط، ولأجل أن نحمل الكلام على أحسن المحامل، خاصة مع ابن تيمية -رحمه الله- فهو أكثر الناس التماس عذر للمخالفين؛ ولهذا تعجب لما تراه يرد على مقولة فلان أو فلان، كما يقولون يمسح بها البلاط، حقيقة يفندها أحيانا ترى أنه يكفر الشخص، ثم إذا أتى إلى ذات الشخص، بدأ يلتمس له الأعذار، بل لكم أن تعلموا أنه لما جاءني ذكر بعض أئمة الأشاعرة، وممن توسع في الرد على أقوالهم، وتفنيد ما ذهبوا إليه، وبيان اللوازم الباطلة للأصول التي أصلوها، ختم كلامه بكلمة جميلة جدا، وينبغي أن تقول: منهج المسلم في التعامل مع المخالفين، قال: ولعل الله - عز وجل - أن يعاملهم على قدر نياتهم، فإنهم ما أرادوا إلا الخير، ما أرادوا إلا تنزيه الله - عز وجل - كلمة طيبة، كلمة جميلة، نعم. ذات الشخص لما أتكلم فيه أكل الأمر إلى(1/85)
الله - عز وجل - وأرجو له رحمة الله، ورحمة الله - عز وجل - واسعة، لكن الذي يهمني من هذا الشخص، ما هو؟ كلامه، فأقول: على فرض ثبوتها عن شيخ الإسلام، أنه ليس هناك كلام سقط، لا يغفر، نعم. معنى أنه سيسأله عن هذا الأمر والله - عز وجل - ذكر أنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها خاصة، وما فعله المأمون فعلا في فعله هذا في ترجمة كتب اليونان، جر على المسلمين شر وبلاء، لا زال المسلمون إلى يومنا هذا يتحثون آثار هذا العمل.
طيب، هذا يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإنه قد وجد سقوط حرف لم في الصفحة التاسعة عشرة من الكتاب الموزع السطر الأخير، وهذا الحرف يغير المعنى، والجملة الصحيحة هي والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله، والله ولي التوفيق والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الرد على النفاة المعطلة لصفات الله - عز وجل -
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد، قال المصنف -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-: ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من سلف الأمة، لا من الصحابة والتابعين، ولا عن أئمة الدين، الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف، حرف واحدا يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا، ولم يقل أحد منهم قط إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصبع ونحوها، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل يقول: ألا هل بلغت فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم، ويقول: اللهم اشهدغير مرة وأمثال ذلك كثير.
ــــــــــــــــــــــ(1/86)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- ولم يقل أحد منهم، أي من سلف هذه الأمة من الصحابة، أو من التابعين أو من تابعيهم، ولا عن أحد من الأئمة المشهورين، لم يقل أحد قط منهم، أن الله ليس في السماء، كما يقوله هؤلاء النفاة، الذين ينفون عن الله صفة العلو، فلم يؤثر عن أحد من هؤلاء السلف أنه أشار إلى إقرار مذهب هؤلاء النفاة، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، القول الأول إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش.
هذا مذهب جمهور نفاة العلو، جمهور المعطلة، ولا أنه بذاته في كل مكان، هذا مذهب الحلولية غالبا، ما ينتشر هذا المذهب عند أهل التصوف، الغلاة من الصوفية يزعمون أن الله حال في كل مكان، وأنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، بمعنى لا يقال: أنه فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل.
وهذا مذهب غلاة النفاة، وكان يقول به الفلاسفة قديما، ثم تبعهم على هذا المذهب متأخر الأشاعرة، ومتأخر الأشاعرة قالوا بذلك؛ للفرار من إلزام أهل السنة لهم بالدليل العقلي، على إثبات صفة العلو، وذلك أن أهل السنة قالوا لهم: هل الله - عز وجل - لما خلق هذا العالم خلقه داخل ذاته، أو خارج ذاته، القسمة العقلية تقول إما أن يكون خلق هذا العالم داخل ذاته، أو خلقه خارج ذاته، هل هناك قسمة ثالثة؟ وهذا ما أورده الإمام أحمد -رحمه الله- في الرد على الجهمية.
فالجواب عقلا أن الله خلق هذا العالم خارج ذاته سبحانه، فإذا كان خلقه خارج ذاته فلا بد أن يكون عاليا عليهم؛ لأن هذه الجهة هي أشرف الجهات بالنسبة له، لما ووجهوا بهذا الدليل العقلي، يعني أنتم تعرفون أنهم سلطوا التأويل على الأدلة النقلية، وردوا كثيرا من الأحاديث المثبتة لصفة العلو؛ بحجة أنه آحاد، لكن الآن هذا دليل عقلي، وأنتم تقولون بالعقل، فقالوا: إذن نقول: أن الله لا داخل العالم ولا خارج العالم، سبحان الله، هل يمكن للعقل أن يتصور موجود، لا داخل العالم ولا خارجه، إذن أين هو؟ ولا متصل بالعالم ولا منفصل بهذا العالم، إذن أين هو؟ ولهذا هم فروا من تشبيه الله U بالموجودات، فشبهوه، يا ليتهم شبهوه بالعدم، شبهوه بأعظم المعدومات وهو الممتنع، معروف أن المعدوم ينقسم إلى قسمين، ممكن الوجود، وممتنع الوجود، فممكن الوجود مثلا هذا الكأس قبل صناعته معدوم، ولا موجود؟ معدوم، ويمكن وجوده ولا ممكن؟ يمكن وجوده.
طيب كون هذا الكأس لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، هذا أمر ممتنع، والممتنع يمثل له العلماء بالجمع بين النقيضين، أو رفع النقيضين، النقيضان هما اللذان لا يجتمعان معا، ولا يرتفعان معا، مثل الوجود والعدم، والحياة والموت، يعني لا يمكن أن يكون الشيء لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، فلا بد من أحد هذين النقيضين، بخلاف الضدين، الضدان هما اللذان لا يجتمعان، لكن ربما يرتفعان معا، مثل السواد والبياض، لا يكون الشيء أسود أبيض في آن واحد، لكن ربما لا يكون لا أسود ولا أبيض، أحمر أصفر واضح. فعندنا كون الله U لا داخل العالم، ولا خارجه، هذا رفع للنقيضين، وهذا من أعظم الممتنعات عقلا.
فهم الآن فروا كونهم ما وصفوا الله U بالعلو؛ خشية الوقوع في التشبيه بماذا؟ بالموجودات فشبهوا الله U بأعظم الممتنعات، وهذا هو غاية الضلال والانحراف، نسأل الله السلامة.
يا إخوان، لاحظوا قد يقول عاقل، قد يقول إنسان: هل يمكن لشخص يؤمن بهذا الشيء، نعم. هؤلاء فطاحل أئمة، ومع ذلك لما تقول: هل الله داخل العالم أو خارجه، يقول لك: لا داخل العالم ولا خارجه، هذا العقل معاشر الإخوة الذي أعطاه الله الإنسان، وميز الله به الإنسان على سائر الكائنات؛ ليكون سببا لهدايته؛ ولهذا نقرأ كثيرا في القرآن(1/87)
{ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) } (1) { أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) }
__________
(1) - سورة البقرة آية : 44.
(2) - سورة الأنعام آية : 50.(1/89)
لكن إذا استخدمه الإنسان في غير ما خلق له، أو أقحمه في أمور فوق طاقته، انقلب هذا العقل -الذي هو في الأصل أساس للهداية- انقلب سببا لبلاء صاحبه، كما حصل مع هؤلاء، هؤلاء أرادوا أن يحملوا عقولهم فوق طاقتها، والعقل -معاشر الإخوة- حاسة كسائر الحواس له حد، وله طاقة.
هذه اليد أعطاك الله إياها، لكن تستخدمها في حدود ما خلقت له، تستطيع ترفع بها هذا الإناء، تستطيع ممكن ترفع بها هذه الطاوية، لكن لو أراد إنسان أن يرفع بهذه اليد هذا المسجد، هل يمكن؟ ولو حاول لتلفت يده، والسبب أنه أراد أن يستخدمها في شيء أعظم من الطاقة التي خلقت لأجله، كذلك العقل هؤلاء أرادوا أن يقحموا عقولهم في كل شيء؛ ولهذا جعلوا العقل هو الميزان، حتى في الأمور الغيبية، حتى في الأمور المتعلقة بالله -عز وجل-؛ ولهذا عادت عقولهم وبالا عليهم، وصارت سببا لضلالهم وانحرافهم، حتى انتهوا إلى مثل هذا المذهب الخبيث، إذا كان الله U ليس بداخل العالم ولا خارجه، أين هو؟ إذن هو العدم.
ولهذا قال محمود بن سبكتكين لذاك النافي لما وصف الله U بهذا النفي، ليس في كذا وليس في كذا، قال: ميز لي بين هذا الرب الذي تعبده وبين العدم، لو قلت لك: صف لي العدم ما وجدت أحسن من هذا الوصف؛ ولهذا قال العلماء: المعطل يعبد عدما، والممثل يعبد صنما، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالإصبع.
وهذا أيضا مذهب المعطلة، أنه لا تجوز الإشارة إلى الله بالإصبع؛ لأنك إذا أشرت إليه فقد حددت مكانه، وعندهم أن الله U لا مكان له ونحوها، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر t وهذا في صحيح مسلم في حجة الوداع، لما قال النبي r وقد اجتمع له في هذا الموقف ما لم يجتمع له في موقف آخر، جمع له من أصحابه أكثر من مائة ألف، وأنزل الله - عز وجل - عليه { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } (1) قال: إنكم مسئولون عني يوم القيامة؛ لأن كل أمة ستسأل عن رسولها، هل بلغت؟ هل قصر في البلاغ؟ فكأنه يقول: إن
كان هناك من تقصير، فأنا الآن موجود حي بين أيديكم بين أظهركم، سلوني أجبكم، إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فاستشهد الله عليهم.
الشاهد أنه قال: : اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد ينكبها بمعنى يميل أصبعه إليهم، فهذا دليل على جواز الإشارة إلى الله حسا، خلافا لمذهب المعطلة، إضافة لحديث الجارية السابق، كما في صحيح مسلم، لما سألها أين الله؟ قالت: في السماء، وأشارت إلى السماء، نعم.
ولا أنه تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصبع.
فإن كان الحق فيما يقولوه هؤلاء السالبون النافون للصفاة الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة، إما نصا وإما ظاهرا، فكيف يجوز على الله ثم على رسوله r ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر، في خلاف الحق الذي يجب اعتقاده، ولا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصا ولا ظاهرا، حتى يجيء أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والفلاسفة يدنون، يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف، أو كل فاضل أن يعتقدها.
نعم. المؤلف يقول: فإن كان الحق هو هذا الذي جاء به هؤلاء النفاة المعطلة، وما قالوه خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة، يعني أننا نعلم أن مذهبهم مخالف لنص القرآن والحديث، كما في الأدلة السابقة، وذكر الشيخ أنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا عن أحد من الصحابة، ولا من التابعين، ولا من سلف الأمة، ما يقوله هؤلاء، إذن عندنا ما يقوله هؤلاء المعطلة خلاف ما جاءنا في الكتاب والسنة، يقول: كيف يتصور أن يتكلم الله U ورسوله بما هو نص، لا يحتمل التأويل، أو بما دلالته دلالة ظاهرة له احتمالات، بخلاف الحق، هم الآن يقولون: إن الحق هو الذي جئنا به، وهو الذي نقول به، نعم: ودلالة الكتاب والسنة على خلاف ما قالوا به، إذن فكل ما في الكتاب والسنة خلاف الحق الذي يجب اعتقاده، والحق متوقف على كلام هؤلاء أنباط الفرس، كما وصفه الشيخ -رحمه الله-، أي أخلاط أنباط الفرس والروم، وفروخ اليهود والفلاسفة، فمذهب هؤلاء كما عرفنا هو مستقى من أي شيء من الكتاب والسنة، أبدا أصوله وقواعده وأسسه مأخوذة من فلسفة اليونان، ومن ديانة اليهود والنصارى، نعم.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 3.(1/90)
فإن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصا أو ظاهرا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين.
ــــــــــــــــــــــ
نعم. يقول الشيخ: لازم قول هؤلاء أن الكتاب والسنة لم يبينا الحق الذي يجب اعتقاده، على كل مكلف، وإنما الحق هو الذي جاء به هؤلاء، فلازم ذلك أن ترك الناس بلا كتاب ولا سنة خير لهم، من مجيء الكتاب والسنة؛ لأن مجيء الكتاب والسنة ما زادت الناس إلا حيرة.(1/91)
لازم قولهم أن الهداية لا تؤخذ من الكتاب والسنة، إذن ما فائدة الكتاب والسنة وسيذكر الشيخ بعد أسطر أن هذا القول صرح به بعضهم، وهو لازم للبعض الآخر، وكون الكتاب والسنة بناء على قولهم ضرر محض لا شك، إذا كانت أدلة الكتاب والسنة ليس فيها هداية للخلق، ولا بيان للحق، وإنما الذي فيها خلاف الحق الذي الآن يظهر من أدلة الكتاب والسنة إثبات العلو، إثبات السمع، إثبات البصر، إثبات الاستواء، وهؤلاء يقولون: الحق نفي العلو، نفي السمع، نفي البصر، نفي المجيء، نفي النزول عن الله - عز وجل -إذن أصبحت دلالة الكتاب والسنة ضرر ولا نفع، ضرر هي تدعو الناس إلى خلاف الحق كما يقوله هؤلاء، نعم.
فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء، أنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله - عز وجل - وما يستحقه من الصفات نفيا ولا إثباتا، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقا له من الأسماء والصفات فصفوه به، سواء كان موجودا في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به، ثم هم هؤلاء فريقان، أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه.
ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم الذي أنتم فيه مختلفون مضطربون، اختلافا أكثر من جميع اختلاف على وجه الأرض فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوه، فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم على طريقة أكثرهم، فاعلموا أني أمتحنكم بتنزيله، لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، وأن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات، هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين.
ــــــــــــــــــــــ(1/92)
نعم. معلوم أن جمهور أهل الكلام عندهم قانون اتفقوا عليه، وهو أنه إذا تعارض النقل مع العقل قدموا العقل، إذا تعارض الدليل النقلي مع الدليل العقلي، قدموا الدليل العقلي، وهذا هو واقعهم فيما يتعلق ما يجب لله - عز وجل - وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه، لم يرفعوا بدلالة الكتاب والسنة رأسا,
بل معولهم في ذلك على أيش؟ على ما يزعمونها الأدلة العقلية، ما نحتته عقولهم؛ ولهذا يقول الشيخ: فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم يا معشر العبّاد -أي: يا معشر المسلمين- لا تطلبوا معرفة الله - عز وجل - وما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا لا من الكتاب ولا من السنة، إذن من أي شيء؟ من عقولكم؛ ولهذا مما أُورِد عليهم، قيل لهم: ما هو العقل الميزان في هذا الأمر؟ هل هو عقل ابن سينا، أو قبله أرسطو أو الفارابي، أو الرازي أو القاضي عبد الجبار، أو ابن حسين البصري، عقل من؟ من نزن بعقله ما يجب لله عز وجل؟
ولهذا صار من أكثر الناس اختلافا وتفرقا هم هؤلاء المعطلة -أهل الكلام-، لماذا؟ لأنهم اعتمدوا على عقولهم وليس عندنا عقل واحد، إذا كانت العقول تتباين في أمور بسيطة، أحيانا في أمور دنيوية، فما الظن إذا حُكّمت هذه العقول في أمور غيبية؛ ولهذا لاحظوا المعتزلة فرقة واحدة أو فرق؟ بدأت فرقة واحدة ثم بدأت تتفرق على نفسها، كلٌّ يقول قولا ويختط رأيا ومنهجا ويذهب إليه، وبعضهم يكفر بعضا؛ الخوارج فرق شتى، الجهمية فرق شتى، المرجئة فرق شتى، الرافضة فرق شتى، والسبب أن المصدر متعدد، المصدر العقل.(1/93)
لكن أهل السنة من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا، بل إلى قيام الساعة، فرقة واحدة، طائفة واحدة، الذي يقول به أبو بكر وعمر هو الذي يقول به الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين؛ لأن الكل يصدر ويرد على مصدر واحد الكتاب والسنة، نعم اختَلفوا في المسائل العملية المسائل الفقهية، لكن مسائل الأصول أمور العقائد الثابتة الواضحة البينة الكل متفق عليها.
فهؤلاء اعتمدوا فيما يجب لله - عز وجل - في النفي والإثبات على عقولهم؛ ولهذا زعموا أن ما أثبته العقل وجب إثباته، وما نفاه العقل وجب نفيه، وما لم يثبته العقل أو ينفه اختلفوا إلى طائفتين: فمنهم من قال: يجب النفي، ومنهم من قال: يتوقف فيه.
فقول الشيخ: "وما نفاه قياس عقولكم الذي أنتم فيه مختلفون مضطربون اختلافا أكثر من جميع اختلاف على وجه الأرض"، هذا هو واقع هؤلاء الذين اعتمدوا على عقولهم، بل الشخص الواحد منهم يقرر مسألة ثم يقرر نقيضها في موضع آخر، كما هي حال الرازي كما ذكر، يقرر مسألة في هذا الموضع ثم يقرر ما يناقضها في موضع آخر، والسبب ليس عنده قاعدة ثابتة، يعتمد على ما يسمى بدلالة العقل.
نعم، نحن لا نخالفهم في أن دلالة العقل دلالة معتبرة، لكن دلالة العقل الصحيح وليست هذه الشبهات التي يقدمونها للناس ويزعمون أنها أدلة عقلية، هذه في واقع الأمر شبهات كما قال الشيخ، بل مجهولات، أما العقل الصحيح، الأدلة العقلية الصحيحة لا يمكن أن تتعارض مع الأدلة النقلية الصحيحة، لكن ما عارضوا به الأدلة النقلية وزعموا أنها أدلة عقلية هي شبهات عقلية وليست أدلة عقلية.
إذن ما فائدة القرآن على رأي هؤلاء، إذا كان العمدة والمعول على العقل فما فائدة القرآن؟ بعضهم قال: فائدة القرآن زيادة شاهد فقط؛ ولهذا هم يقبلون بدلالة القرآن والسنة متى؟ إذا وافقت عقولهم، فجعلوه تحصيل حاصل، وإذا خالف العقل ردوه. طيب إذا أخذتم به هل تعتمدون عليه؟ قالوا: لا، زيادة شاهد فقط،(1/94)
ومنهم من قال: لا، إنما فائدة القرآن والسنة، فائدة القرآن ... وإن السنة غالبا ما يسلطون عليها سيف الرد والطعن بحجة أنها خبر الآحاد، وخبر الآحاد لا يؤخذ به في باب العقائد.
فالقرآن بعضهم يقول: لا، أنزله الله - عز وجل - لامتحان العباد، ولأجل أن يجتهد العباد في صرف ظواهر هذه النصوص
فيكتسبوا بهذا الاجتهاد الأجر عند الله - عز وجل - وممن صرح بهذا -كما ذكره الشيخ- أبو حامد الغزالي -عفا الله عنا وعنه- في أول حياته، وأيضا ابن عقيل الحنبلي قبل رجوعه لما كان على مذهب الاعتزال، وابن رشد الحفيد.
يقول الشيخ: "الجهمية النفاة يقولون: فائدة إنزال هذه النصوص المثبتة للصفات وأمثالها من الأمور الخبرية التي يسمونها هم المشكل والمتشابه"، النصوص المثبتة لصفات الله - عز وجل - وهم يسمونها النصوص المشكلة، النصوص المتشابهة، فائدة هذه النصوص -مجيئها في القرآن- يقول: فائدتها عندهم اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها، صرفها عن ظاهرها، عن دلالتها، بالأدلة المعارضة لها حتى تنال النفوس كدَّ الاجتهاد، يعني: إذن فائدة هذه الآيات الله - عز وجل - أنزل علينا هذه الآيات أيش؟ لنجتهد في صرفها عن ظاهرها، وحتى تنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها الموصلة إلى الحق، فحقيقة الأمر عندهم أن الرسل خاطبوا الخلق بما لم يبيِّن الحق ولا يدل على العلم ولا يفهم منه الهدى، بل يدل على الباطل ويفهم منه الضلال ليكون انتفاع الخلق بخطاب الرسل اجتهادهم في رد ما أظهرته الرسل وأفهمته الخلق.(1/95)
إذن ملخص كلام الشيخ: أن هؤلاء يزعمون أن الآيات والنصوص التي جاءت في إثبات الصفات لله - عز وجل - فقط لأجل أن يجتهد الناس في صرفها عن ظاهرها فيؤجرون على هذا الاجتهاد، أما ظاهرها فهو لا يهدي إلى الحق ولا يوصل إلى المعتقد الصحيح.
وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوما لا محيد عنه، ومضمونه أن كتاب الله لا يهتدَى به في معرفة الله، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول r بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه مَن لا يؤمن بالأنبياء: كالبراهمة والفلاسفة، وهم المشركون والمجوس وبعض الصابئين..
ــــــــــــــــــــــ
نعم، هذا مضمون مقول هؤلاء في اعتمادهم أو دعوة الناس إلى الاعتماد على العقل وترك دلالة الكتاب والسنة: أن كتاب الله - عز وجل - لا يهتدى به في معرفة الله، هذا الكتاب الذي قال الله - عز وجل - فيه: { الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) } (1) هم يقولون فيما يتعلق بأعظم المسائل -مسائل الاعتقاد المتعلقة بالله عز وجل-: هذا الكتاب لا يهتدى به، والرسول- صلى الله عليه وسلم - لم يعلم ولم يبين للخلق ما يجب لله - عز وجل - وأن الناس إذا تنازعوا في مثل هذه المسائل لمن يرجعون؟ للكتاب والسنة كما أمر الله عز وجل؟ لا، يرجعون إلى عقولهم.
وهذا ما كان عليه الناس في الجاهلية قبل مجيء الكتاب والسنة، فكأنهم يريدون من المسلمين أيش؟ أن يعودوا إلى ما كان عليه أهل الجاهلية، الله - عز وجل - لمَّا أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل ماذا؟ لأجل أن يتحاكم الناس إليهما، لأجل أن يهتدي الناس بهما. هؤلاء قالوا: لا، الهداية والحق ليس بالكتاب والسنة إنما بهذه الأدلة العقلية التي جاءوا بها.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 1-2.(1/96)
وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة ولا يرتفع الخلاف به، إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم، وما أشبه حال هؤلاء المتكلفين بقوله سبحانه وتعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) } (1) .
فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول -صلى الله عليه وسلم، والدعاء بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته- أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علما وعملا بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية.
ــــــــــــــــــــــ
الشيخ رحمه الله يقول: وإن كان هذا الرد وهذه اللوازم التي ذكرتها ومضمون مقولة هؤلاء قد لا تزيد الأمر إلا شدة، وذلك أن عامة أتباع هؤلاء يجهلون مثل هذه الأمور؛ ولهذا يزخرفون عليهم بهذه الشبهات التي ظاهرها السلامة لكن السم الزعاف في مضمون هذا الذي جاءوا به.
__________
(1) - سورة النساء آية : 60-62.(1/97)
الشيخ يقول: إن الأمر يزداد شدة بمثل بهذا الرد، لكن لا بد من إيضاح الحق للناس؛ لأنهم إذا قرءوا مثل ذلك سيرجعون إلى معظميهم وإلى طواغيتهم فيلبسون عليهم، وهذه حال المبتدع، ومن هنا تأتي خطورة البدعة، أن صاحب البدعة في كثير من الأحيان خاصة إذا تعمق فيها أنه يستمر -نسأل الله السلامة- فيها؛ ولهذا تكلم العلماء في قضية توبة المبتدع، وهل المبتدع له توبة أم لا، وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك في حديث تتجارى بهم الأهواء وفي حديث الخوارج يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه دليل على أن من تمكنت البدعة من قلبه أن الغالب أيش؟ لا يعود.
ولهذا جاء في الأثر أن إبليس قال: سلطتُ الشبهات على بني آدم فأحرقوني بالاستغفار، يعصون الله ثم يستغفرون
فيغفر الله لهم. وهذه هي حال مرتكب الكبيرة، يفعل الكبيرة لكن وهو يفعلها يعرف ويشعر أنه عاصٍ مقصر في جنب الله عز وجل؛ ولهذا يفعلها وهو خائف، يفعلها وهو يرجو التوبة، إذا انتهى منها بادر أحيانا إلى التوبة، يقول: فسلطت عليهم الشبهات، فهم يعصون الله وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، صاحب البدعة يتزود من هذه البدعة، لأيش؟ لأنه يرى أنه يتعبد الله - عز وجل - بها.
ولهذا الشيخ في آخر الرسالة ذكر أن الناس تجاه علم الكلام ثلاث طوائف، وقال: أشد الطوائف الثلاث خطرا هؤلاء المتوسطون الذين اغتروا بما مع كبرائهم من بهرجة القول، فهم مغترون بما معهم من هذا الكلام، أما من دخل بهذا العلم وبلغ غايته فقد اتضح له الحق، وأن هذا العلم وهذا الطريق الذي سلكه لا يهدي إلى حق، كحال الرازي والجويني والغزالي وأمثالهم ممن أورد الشيخ أمثلة عليهم.(1/98)
أقول: بمثل هذا الأمر يعرف الإنسان خطورة البدعة والحرص على متابعة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والابتعاد عن مخالفة السنة حتى في الأمور الدقيقة؛ لأنه ربما يستجره الشيطان حتى يوقعه في هذه البدعة العظيمة، أحيانا قد يصل إلى درجة الكفر.
ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل إنما تقلدوا أكثرها عن طواغيت المشركين أو الصابئين أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم، مثل فلان وفلان، أو عمن قال كقولهم لتشابه قلوبهم: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } (1) { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } (2) .
ــــــــــــــــــــــ
الشبهات هذه التي يوردونها سيذكر الشيخ الدليل على ذلك أن غالب هذه الشبهات إنما استقوها وأخذوها عن ضلال الصابئين وعن أنباط الفرس ودين الفلاسفة، وسيذكر الشيخ أن مقالة التعطيل أصلها من اليهود، وذكر سلسلة التعطيل أو سيذكرها بعد أسطر، وهم في هذه الشبهات يرجعون إلى هؤلاء الطواغيت الذين أمر الله - عز وجل - أن يكفروا بهم، ونفى الإيمان عن من لم يُحكم الله ورسوله فيما تنازع فيه: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } (3) أقسم الله - عز وجل - بأعظم مقسم به، أقسم بنفسه أن الإنسان لا يؤمن حتى أيش؟ يحكم الرسول
__________
(1) - سورة النساء آية : 65.
(2) - سورة البقرة آية : 213.
(3) - سورة النساء آية : 65.(1/99)
صلى الله عليه وسلم - { حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } (1) هل يكفي؟ لا { ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا } (2) هل يكفي؟ لا { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } (3) .
إذا كان هذا في عامة الأمور المختلف فيها، فما الظن إذا كانت هذه الأمور من الأصول الاعتقادية التي لا يمكن
أن تؤخذ إلا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فمن حكم غير الرسول في ذلك، من حكم من خالف الرسول في ذلك فهو داخل تحت هذه الآية من باب أولى.
ولازم هذه المقالة ألا يكون الكتاب هدى للناس ولا بيانا ولا شفاء لما في الصدور ولا نورا ولا مردا عند التنازع، إنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون أن الحق الذي يجب اعتقاده لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصا ولا ظاهرا، وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (4) وقوله: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (5) وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش ولا فوق السماء ونحو ذلك بقوله: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (6) لقد أبعد النجعة، وهو إما ملحد أو مدلس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين، ولازم هذه المقالة أن يكون تركُ الناس بلا رسالة خير لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمى وضلالا.
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة النساء آية : 65.
(2) - سورة النساء آية : 65.
(3) - سورة النساء آية : 65.
(4) - سورة الإخلاص آية : 4.
(5) - سورة مريم آية : 65.
(6) - سورة مريم آية : 65.(1/100)
نعم، لازم هذه المقالة؛ المقالة التي ذكرها الشيخ أن العقل مقدم على النقل، وأن ظواهر النصوص لا يُهتدَى بها، لازم هذه المقالة أن القرآن الذي هو هدى للناس وبيان وشفاء لما في الصدور ونور ليس كذلك، لماذا؟ لأنه يقول: نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون -أي: من أهل الكلام- أن الحق الذي يجب اعتقاده لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصا ولا ظاهرا، هذا الضلال الذي جاء به هؤلاء -هذا النفي- عرفنا وقرر الشيخ أنه ليس بالكتاب ولا بالسنة لا ظاهرا ولا نصا، وإنما غاية المتحذلق، أي: المتكيس المرتفع على قدره، وهذه صفة هؤلاء أنهم تكايسوا، غاية ما في ذلك أن يستدِل على نفي صفة العلو ونفي كل الصفات التي ينفيها بماذا؟ بقول الله - عز وجل - { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (1) نعم { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (2) .
المعطلة في كل تعطيلهم، في جميع الصفات التي عطلوها، استندوا في ذلك في القرآن إلى هاتين الآيتين وأمثالهما:
__________
(1) - سورة مريم آية : 65.
(2) - سورة الإخلاص آية : 4.(1/101)
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (1) { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (2) نفوا صفة العلو وقالوا : دليلنا { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (3) وجه الدلالة، نَفَوا الاستواء وقالوا: دليلنا من القرآن { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (4) و { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (5) و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (6) المعتزلة نفوا السمع والبصر عن الله وقالوا: دليلنا هذه الأدلة، الجهمية نفوا الأسماء عن الله - عز وجل - وقالوا: هذا هو دليلنا وجه الدلالة؟ قالوا: وجه الدلالة أن إثبات هذه الصفات يستلزم التشبيه، والله- عز وجل - نفى عن نفسه التشبيه بهذه الآيات.
يقول المؤلف: "وبالاضطرار" وقلنا: إن الاضطرار هو ما لا يمكن دفعه، يعني: يُعلَم ضرورة، يَعلَم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش ولا فوق السماوات بقوله: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (7) لقد أبعد النجعة، يعني: جانب الصواب، سبحان الله! هل الله - عز وجل - يريد منا أن ننفي عنه صفة العلو وصفة الاستواء ثم يدلل لنا بهذه الآية، هل يقول هذا عاقل؟! فهذا أمر معلوم بالاضطرار أنه لا يمكن أن يكون الله - عز وجل - أراد نفي هذه الصفات بهذه الآية، وإنما هذا من تلبيس هؤلاء على الناس.
__________
(1) - سورة الإخلاص آية : 4.
(2) - سورة مريم آية : 65.
(3) - سورة الإخلاص آية : 4.
(4) - سورة الإخلاص آية : 4.
(5) - سورة مريم آية : 65.
(6) - سورة الشورى آية : 11.
(7) - سورة مريم آية : 65.(1/102)
ولهذا قال الشيخ: "إن من زعم أن الله نفى عن نفسه الصفات بهذه الآية فهو إما ملغز أو مدلس" يعني: لازم هذا القول أن يكون مَن نفى عنه هذه الصفات بهذه الآية أن يكون مُلغِزا أو مدلَّسا وهذا أيش؟ الله - عز وجل - منزه عنه، هل يريد أن يخادع العباد؟ هل يريد أن يضل العباد؟ لأن العباد ما يمكن أن يستدلوا بنفي هذه الصفات بهذه الآية، وأنت الآن أنزلت علينا هذا القرآن وقلت: إنه نور وهدى، ثم تأتي بهذه الآية لتستدل بها على نفي هذه الصفة، كيف يكون هدى ونورا؟ ولهذا قال المؤلف: لازم هذه المقالة أن يترك الناس بلا رسالة وبلا كتاب خير لهم من هذا الكتاب الذي أوقعهم في هذه الحيرة، وكل هذه اللوازم يريد الشيخ أن يبين بطلان وضلال وانحراف هذا المذهب من أصوله.
يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - يوما من الدهر ولا أحدٌ من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه لكن اعتقدوا ما تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا وكذا فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه وانفوه!
ــــــــــــــــــــــ
نعم، يقول الآن وهذا قرره الشيخ سابقا وهو الآن يؤكده يقول: ابحثوا، هل وجدتم حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أثرا عن سلف الأمة أنهم قالوا: لا تعتقدوا ظواهر هذه النصوص واعتقدوا كذا وكذا، انفوا عن الله صفة العلو، الله ليس في العلو، أو الله - عز وجل - ليس مستويا على عرشه، أو ليس لله يدان، أو الله - عز وجل - لا ينزل، أعطونا أثرا واحدا عن أحد من السلف فضلًا أن تجدوا حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل أحالنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحالنا الله - عز وجل - على عقولنا في هذه الأمور، أن نرجع ونقيس بعقولنا، فما أثبتته هذه العقول أثبتناه وما نفته هذه العقول نفيناه، أنى لكم ذلك؟ أعطونا دليلا، أعطونا آثارا من علم.(1/103)
نشأة الفرق والفرقة الناجية
ثم الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بأن أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا -كتابَ الله، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في صفة الفرقة الناجية: ومن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي .
ــــــــــــــــــــــ
نعم النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في السنن عند أبي داود والترمذي وغيرهما بسند صحيح، عن جمع من الصحابة، عن ابن عمر وأبي هريرة وجابر ومعاوية، أنه أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فقال: افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، واختلفت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة - فعلم -عليه الصلاة والسلام- ما سيكون من افتراق أمته، أن هذه الأمة ستفترق لا محالة، وهذا خبر منه -عليه الصلاة والسلام- ووقع ما أخبر به عليه الصلاة والسلام..
طيب الآن علم أن هذه الأمة ستفترق، ما المخرج؟ كيف تعرف الأمة الفرقة الحق؟ كيف تعرف الفرقة الناجية؟ يعني: كأن هناك سائل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا من لوازم الرسالة؛ لأن الله - عز وجل -أرسله ليبلغ هذا الدين للناس: { * يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } (1) فكأن قائلا يقول: يا رسول الله، إذن أي الفرق الفرقة التي على الحق؟ وكيف نعرف الفرقة التي على الحق من هذه الفرق؟ ما المنهج؟ فقال في الحديث الآخر: : إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتابَ الله وسنتي هل أحالنا على عقولنا؟ هل أحالنا على فلسفة اليونان؟ على منطق أرسطو؟ على قول فلان أو علان؟ لا، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 67.(1/104)
انتبهوا إذا افترقت الأمة فاعتصموا بهذين الحبلين، ومن اعتصم بهما فلن يضل، وفي رواية: قالوا: يا رسول الله، من هي هذه الفرقة الناجية؟ صِفها، جلِّها لنا، قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي .
هذه الرواية جاءت من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي، وهو ضعيف، لكن لها شواهد تتقوى بها، الشاهد: أن من أراد النجاة في باب الاعتقاد وغير باب الاعتقاد فعليه أن يلزم الكتاب والسنة، ويلزم منهج أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فهلا قال: من تمسك بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة، وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، يقول: ما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة؛ لأنه بعد القرون الثلاثة انتشرت مقالة المعطلة وظهرت البدع وتوسعت؛ ولهذا قال الشيخ: وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين على يد الجعد بن درهم فبدايتها كانت في أواخر عصر التابعين، لكن متى انتشرت هذه المقالة وصار لها مُنَظِّرُوها ولها من يدافع وينافح ويحاجج عنها بعد انقضاء القرون الثلاثة.
نشأة مذهب المعطلة لصفات الله - عز وجل -
ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين؛ لأن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه . وقد قيل: إن الجعد أخذقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم . وكان الجعد هذا -فيما قيل- من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، بقايا أهل دين النمرود من الكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم.
ــــــــــــــــــــــ(1/105)
نعم، مقالة التعطيل هذه التي يرد عليها الشيخ يقول: أصلها مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وأورد هذه السلسلة أول من تكلم بالتعطيل في الإسلام الجعدُ بن درهم، الذي قتل في سنة مائتين وأربعين، أو في حدود منتصف القرن الثالث، قتله خالد بن عبد الله القسري، وذلك أنه خطب الناس يوم عيد الأضحى فقال: ضحوا -تقبل الله ضحاياكم- فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا، ثم نزل فذبحه؛ ولهذا يقول فيه ابن القيم رحمه الله:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ
قسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله
أيضا ولا موسى الكليم الداني
الشاهد أول من تكلم وتفوه بمقالة التعطيل هو الجعد بن درهم، من أين أخذها الجعد؟ الجعد أخذها عن بيان بن سمعان أو أبان بن سمعان التميمي، وبيان أخذها من طالوت، طالوت هذا ابن أخت لبيد بن الأعصم، خاله لبيد بن الأعصم، طالوت أخذها من لبيد بن الأعصم، ولبيد بن الأعصم هو الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا ثابت في الصحيحين، ثم جاء الجهم بن صفوان الراسبي وتلقف هذه المقالة عن الجعد ونشرها بين الناس فنسبت إليه؛ ولهذا سمي كل معطل جهميًّا، وقد قبض عليه سلم بن أحوز والي خراسان، فقال له: اعف عني، قال: والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أخرجك وأقتلك، فقتله رحمه الله.الجهم بن صفوان تلقف هذه المقالة عن الجعد ونشرها بين الناس، وربما أنها انقدحت في ذهنه، وازداد البلاء عنده لما ناظر السمنية، طائفة من طوائف الهند، من ملاحدة الهند، هذا سيذكره الشيخ الآن، ناظروه في الله - عز وجل - قالوا له: هل رأيت ربك؟ قال لا، هذه الطائفة لا تؤمن إلا بالمحسوسات، قالوا: هل شممت ربك؟ قال: لا، هل سمعت ربك؟ قال: لا، هل ... هل ... قال: لا، قالوا له: إذن أنت تعبد عدما، فدخل فاحتجب عن الناس أربعين(1/106)
............................................................................................................
ــــــــــــــــــــــ
يوما لا يشهد لا جمعة ولا جماعة، ثم خرج إلى الناس بهذا المذهب الخبيث، وهذه المناظرة ذكرها الإمام أحمد في الرد على الجهمية.
الشاهد: أنه اجتمع عنده هذا البلاء وهذا البلاء فظهر وتمخض للناس بهذا المذهب الذي هو مذهب التعطيل، فنفى عن الله - عز وجل - كل صفة وكل اسم.
والنمرود هو ملك الصابئة الكنعانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك القبط والكفار.
ــــــــــــــــــــــ
قول المؤلف رحمه الله: "والكنعانين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم" هو يلمح إلى الفخر الرازي، فإنه ألف كتابا في أول حياته، وهذا الذي نرجو -إن شاء الله- كما قال الذهبي سماه السر المكتوم في مخاطبة النجوم، أو في السحر ومخاطبة النجوم، لكن يرجى أنه تاب من ذلك، وأن تأليف الكتاب هذا في أول حياته؛ ولهذا الشيخ هنا أبهم، لكن في مواضع أخرى صرح قال: الرازي الذي ألف الكتاب.
والنمرود هو ملك الصابئة الكعانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك القبط والكفار، والنجاشي ملك الحبشة النصارى، فهو اسم جنس لا اسم علم .
ــــــــــــــــــــــ
نعم، يعني: هذه الأسماء التي هي (كسرى والنجاشي والنمرود) ليست علما على شخص، إنما هي اسم جنس، كل من تولى هذا المنصب.. كل من تولى ملك مصر في تلك الفترة يسمى فرعون، وكل من تولى ملك الحبشة يسمى نجاشيا، وكل من تولى ملك الصابئين يسمى نمرودا.
ما الفرق بين اسم الجنس واسم العلم؟
العلم هو الخاص بذات لا يتبادر إلى غيره، بخلاف اسم الجنس فهو اسم عام مثل إنسان، إنسان اسم جنس ينضوي تحته زيد وعمر وخالد، لكن إذا قلت: خالد أو فاطمة، اسم علم يخرج البقية.(1/107)
كانت الصابئة -إلا قليلا منهم- إذ ذاك على الشرك وعلماؤهم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركا؛ بل مؤمنا بالله واليوم الآخر، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) } (1) :
وقال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) } (لكن كثيرا منهم أو أكثرهم كانوا كفارا أو مشركين؛ كما أن كثيرًا من اليهود والنصارى بدّلوا وحرفوا وصاروا كفارا أو مشركين، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك كانوا كفارا مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل .
ــــــــــــــــــــــ
الشيخ -رحمه الله- يقول: الجعد إضافة إلى أنه تلقف هذه المقالة بهذه السلسلة عن اليهود أيضا هو نشأ وعاش في أي مكان؟ في حران، وحران هذه كانت موطن الصابئين وموطن الفلاسفة وموطن عموم الكفار من كل المذاهب، من اليهود والنصارى، بمعنى: أنه اجتمع في هذه المنطقة عدة ديانات وعدة فلسفات، فكأن الجعد تأثر أيش؟ بمقولة هؤلاء، وأن مقالة التعطيل نبتت أين؟ نبتت في المدينة؟ نبتت في مكة؟ نبتت في زمن الصحابة؟ نبتت في بيت النبوة؟ لا، نبتت في هذه البيئة التي هي أخلاط من ديانات وفلسفات أخرى.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 62.
(2) - سورة المائدة آية : 69.(1/108)
ثم جاء بهذه الجملة الاعتراضية التي يبين أن الصابئة هي كاليهودية والنصرانية من الديانات التي تنقسم إلى مؤمن وكافر، لكن الكفر فيها أكثر؛ ولهذا ذكرهم الله - عز وجل - ضمن هذه الديانات: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ } (1) اشتهر عن الصابئة أنهم كانوا يعبدون
الكواكب، يعبدون الشمس والقمر؛ ولهذا بنوا لها الهياكل، بنوا لها المعابد، والفلاسفة تأثروا في فلسفتهم وتعظيم
............................................................................................................
ــــــــــــــــــــــ
الكواكب بدين الصابئة، وهم الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
س : أحسن الله إليكم، هذا السائل يقول: هل كتاب نقض التأسيس هو نفسه كتاب درء تعارض العقل والنقل؟
ج : لا، نقض التأسيس يختلف عن كتاب درء تعارض العقل والنقل، نقض التأسيس ألفه الشيخ للرد على أساس التقديس الذي هو كتاب الرازي، هو كتيب صغير مطبوع (أساس التقديس)، فرد عليه الشيخ في كتابه نقض التأسيس، طبع منه جزآن وجزء منه ملفق، بعناية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله، لكن الكتاب حقق الآن، وفيما أعلم أن مطبعة الملك فهد قد طبعت الكتاب في قرابة ثمانية إلى تسعة أجزاء، أما درء تعارض العقل والنقل فلا، هو كتاب أجاب به الشيخ على سؤال وردَ عليه، جاءه سؤال فقال يا شيخ: إذا تعارض الدليل العقلي مع الدليل النقلي فأيهما نقدم؟
__________
(1) - سورة البقرة آية : 62.(1/109)
فكتب جواب هذا السؤال في هذا الكتاب المطبوع بين أيدينا في تسعة أجزاء، إجابة على هذا السؤال، قد تستكثرون، لكن من قرأ أول الكتاب علم أن هذا ليس بكثير على إجابة السؤال، الشيخ يقول: لأن كل الضلال والانحراف والتفرق بسبب الإجابة على هذا السؤال، فلو وافقنا المخالفون لنا -المخالفون لأهل السنة- وافقونا على إجابة هذا السؤال لسرنا نحن وإياهم على منهج واحد، فهم بنوا ضلالهم وتعطيلهم وانحرافهم على تقديم العقل على النقل.
س : يقول: ما أفضل طبعة للدرء، وهل تنصحون به طالب العلم المبتدئ؟
ج : الدرء الذي أعرفه أنا ليس له إلا طبعتان: الطبعة التي طبعت قديما في حاشية منهاج السنة، والطبعة الثانية هي التي طبعت بعناية دكتور محمد رشاد سالم -رحمه الله- وطبعتها جامعة الإمام محمد بن سعود، وهي الموجودة الآن، وأما هل ينصح به لطالب العلم المبتدئ؟ أقول: لا، لماذا؟ لأنه سيلاحظ أنه سيقرأ عشرات الأوراق ربما لا يفهم منها شيئا، ففيها من المسائل العقلية والمسائل المنطقية الشيء الكثير، فينصح: الكتاب يستفاد منه كمرجع، ومن توسع في فهم كلام شيخ الإسلام وكلام المخالفين بعد ذلك يرجع ويقرأ فيه، وإلا يقرأه على أحد المشايخ، لكن بعد أن يؤسس نفسه في هذا العلم، وأنا أنصح طلبة العلم لمن أراد فهم كلام شيخ الإسلام في باب الأسماء والصفات على وجه الخصوص، وفي باب العقائد على وجه العموم أن يقرأ التدمرية، التدمرية هذه هي الرسالة المختصرة هي عبارة عن قواعد وأسس، مَن فهمها فهم سائر كلام شيخ الإسلام، لكن لا يستطيع الإنسان أن يفهمها بنفسه، فلا بد من قراءتها على أحد المشايخ.
س : أحسن الله إليكم، يقول: ما صحة القول: كل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك؟ وهل هو حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟(1/110)
- لا أعرف أنه حديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من كلام شيخ الإسلام، ونقله عن ابن الماجشون من أئمة السلف، أنه كلما خطر ببالك أو سنح في خيالك مهما تصورت فالله أعظم وأجل، وهناك مثال قريب: الجنة مخلوق من سائر المخلوقات أم لا؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يقول أبو هريرة راوي الحديث : اقرءوا إن شئتم: فلا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة أعين
- مهما تصورت نعيم الجنة لن يدور في ذهنك الحقيقة، فإذا كان هذا في حق المخلوق فما الظن بالخالق!
النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها كم موضع السوط؟ متر في سنتيمرات، هذا الموضع في الجنة خير من الدنيا وما فيها، فكيف يمكن للعقل أن يتصور الجنة، فإذا كان هذا في مخلوق من مخلوقات الله فما الظن بالخالق!
هناك أمر آخر، مثال آخر: ثبت عن ابن عباس أن الكرسي نسبته للعرش كحلقة ملقاة في فلاة، خذ حلقة وألقها في فلاة من الأرض، ما نسبة هذه الحلقة من هذه الفلاة؟ لا شيء، والسماوات والأرض في جوف الكرسي كنسبة هذه الحلقة لهذه الفلاة، فهل يمكن للعقل أن يتصور قدر العرش، والله أعظم من العرش، وهو الممسك للعرش وما دون العرش؛ وعليه فلا يمكن للعقل بل يستحيل أن يتصور العقل حقيقة صفة الله - عز وجل - .ولهذا ابن القيم وهو يتكلم عن حديث اليهودي الذي في صحيح مسلم، الذي دخل على النبي
__________
(1) - سورة السجدة آية : 17.(1/111)
- صلى الله عليه وسلم - وقال: إنا نجد أن الله يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع، ثم يهزهن الحديث، يقول -رحمه الله- هذه هي الأصابع فما الظن بالكف، فما الظن بالمتصف بهذه الكف، تعالى الله عن ذلك! فالواجب على المسلم أن يتأمل هذه الأسماء والصفات، لكن هذا التأمل لا يدعوه إلى محاولة معرفة أيش؟ كيفية هذه الصفات، وكلما تأمل هذه الصفات كلما ازداد خوفا ووجلا من الله - عز وجل - وازداد قربا من الله - عز وجل - .
س : أحسن الله إليك وبارك في علمك، يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ذكرتم عن شيخ الإسلام في تفسير قوله تعالى: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (1) أن السلف لا يذهبون إلى التأويل، فكيف تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم -
إذا قام أحدكم في صلاته فلا يبصق أمام وجهه فإن الله تجاهه - أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - .
هذا ليس فيه تأويل، ومثل العلماء بمثال حسي قالوا: لا يعني أن يكون الله تجاهه أنه موجود بذاته في قبلته، لا، ما يقول هذا مسلم، الله - عز وجل - عال على الخلق، لكن كما أنه معنا وهو فوق سماواته وفوق عرشه فهو أيضا تجاه المصلي وهو فوق عرشه وفوق سماواته، ولله المثل الأعلى لو كان الإنسان يصلي وضوء القمر أمامه، هل معنى أن ذات القمر أمامه؟ أليس يقال: إن القمر أمام هذا الشخص أم لا؟ وليس هذا فيه تأويل، هذه هو حقيقة الكلام، فالعرب كانوا يقولون: مازلنا نسير والقمر معنا، والقمر أين؟ في السماء.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 115.(1/112)
فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الله - عز وجل - تجاهه لا يعني هذا أن يكون موجودا بذاته أمام المصلي ولا مختلطا بالمصلي، وليس في هذا تأويل بل هذا هو ظاهر النص، التأويل يا إخوان ولعلنا نشير إليه في الدروس القادمة، التأويل بمعناه الباطل الذي جاء به المعطلة: هو صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر بعيد، وليس في تفسير هذا الحديث صرف له عن ظاهره حتى نقول: إنه تأويل وأن السلف يؤولون، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن والاه.
قال المصنف رحمه الله تعالى رحمة واسعة: ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب : أنه ليس له إلا صفات سلبية، أو إضافية أو مركبة منها، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل إليهم، فيكون الجعد أخذها عن الصابئة الفلاسفة .
ــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، يقول المؤلف رحمه الله: ومذهب النفاة من هؤلاء -أي: الصابئة الفلاسفة- في الرب -سبحانه وتعالى- أنه ليس له إلا صفات سلبية، والصفات السلبية هي الصفات المنفية، السلب هو النفي، فينفون عن الله - عز وجل - كل صفة ثبوتية، فيقولون: الله ليس بسميع ولا بصير ولا متكلم، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا ينزل ولا يجيء، وإلى آخره يأتون بكل صفة ثم ينفونها بأداة من أدوات النفي، هكذا يصفون الله - عز وجل - فالأصل عندهم السلب، وإذا أثبتوا فلا يثبتون لله - عز وجل - إلا صفات إجمالية، فيقولون: له الوجود المطلق بشرط الإطلاق.
هذا ولا شك باطل، ولا يعني هذا أن الله - عز وجل - لا يوصف بالنفي، يوصف بالنفي لكن بضوابط:(1/113)
الضابط الأول: أن يكون الأصل هو الإثبات، وهذا هو الوارد في الكتاب والسنة، جل ما وصف الله - عز وجل - به صفات ثبوتية أو صفات سلبية؟ ثبوتية؛ فالله وصف نفسه بصفات كثيرة مفصلة، هذا هو الأمر الأول، بخلاف هؤلاء فالأصل عندهم وصف الله بالسلب بالنفي.
الضابط الثاني: أن يكون الإجمال في النفي والتفصيل في أيش؟ في الإثبات؛ فالله - عز وجل - يقول: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) هذا نفي مجمل، بمعنى : الله منزه عن كل صفة نقص في هذا النفي : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (2) إذن النفي المجمل أن يُنفى عن الله صفات النقص والعيب لكن بشكل مجمل والتفصيل يكون في الإثبات؛ ولهذا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (3) نص على ماذا؟ إثبات صفة السمع، إثبات صفة البصر: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } (4) { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (5) ينزل ربنا صفات محددة.
الضابط الثالث: إذا ورد النفي مفصلا في صفات الله فلا بد أن يكون نفيا غير محض، وما الفرق بين النفي المحض والنفي غير المحض، أنا سأضرب لكم مثالين واستخرجوا منهما النفي المحض والنفي غير المحض: { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } (6) هذا نفي، "لا تأخذه"، نفى عن نفسه أيش؟ السنة والنوم، المثال الآخر: إذا قال المعتزلي: الله ليس بسميع، لا يوصف بالسمع، أيهما النفي المحض وأيهما النفي غير المحض؟ قول المعتزلي: الله ليس بسميع، أي: لا يوصف بالسمع، هذا نفي محض، و"لا تأخذه سنة ولا نوم"؟ غير المحض، طيب ما الفرق بينهما؟
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.
(2) - سورة الإخلاص آية : 4.
(3) - سورة الشورى آية : 11.
(4) - سورة الرحمن آية : 27.
(5) - سورة الأعراف آية : 54.
(6) - سورة البقرة آية : 255.(1/114)
خذوها قاعدة عامة: كل نفي مفصل ورد في صفات الله فهو نفي غير محض، والنفي غير المحض هو الذي يتضمن إثبات كمال ضده، فإذا نفيت عنه هذه الصفة فلأجل أن أثبت له ضد هذه الصفة المنفية، فقول الله - عز وجل - { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } (1) لإثبات أيش؟ كمال الحياة والقيومية؛ ولهذا قال: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (2) أراد أن يؤكد هاتين الصفتين فقال: { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } (3) فالحياة التي يعتريها السنة والنوم هل هي حياة كاملة؟ حياة ناقصة.
إذن كل نفي مفصل جاء في صفات الله فهو نفي غير محض، بخلاف النفي المحض، المعطلة يصفون الله - عز وجل - بالنفي لكن غالبا ما يكون هذا النفي نفيا محضا، فقولهم مثلا: الله ليس بسميع، أيش يتضمن هذا؟ لا يسمع، هل يتضمن إثبات صفة أكمل من هذه الصفة المنفية؟ لا.
إذن هذه ثلاث ضوابط في النفي الوارد في صفات الله - عز وجل - هؤلاء المعطلة، هؤلاء الفلاسفة الصابئون يصفون الله بالسلب لكن السلب المطلق؛ ولهذا يأتون بكل صفة ثبوتية وينفونها عن الله - عز وجل - .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 255.
(2) - سورة البقرة آية : 255.
(3) - سورة البقرة آية : 255.(1/115)
يقول المؤلف: إلا صفات سلبية أو إضافية الصفات الإضافية هي التي لا يمكن أن تعقل إلا بمقابلها، يعرفون الإضافة يقولون: هي ماهيتان لا يمكن تعقل أحدهما إلا بالأخرى، أيش معنى الكلام هذا؟ صفة الأبوة أو صفة البنوة، أو صفة القبلية أو البعدية، لا يمكن أن نعقل ونعرف هذه الصفة إلا بأيش؟ بالصفة الأخرى، فالأب متى يسمى أبا، متى يوصف بالأبوة؟ إلا مع وجود الابن، والابن مع وجود الأب، كذلك القبلية والبعدية، لا يقال: الإنسان قبل، إلا أن يكون هناك شيء بعده، ولا يقال لشيء بعد إلا إذا كان هناك شيء قبله.
فهؤلاء يصفون الله - عز وجل - بالصفات الإضافية، يعني: ليست صفات حقيقية، ليست صفات ذاتية قائمة بالله - عز وجل - مثل وصف الفلاسفة له بالعلة؛ الفلاسفة يصفون الله - عز وجل - بأنه العلة الأولى، والعلة لا بد لها من معلول، متى تسمى هذه علة؟ إذا وجد المعلول، فهم يقولون: إن العالم معلول عن الله وهو العلة الأولى، إذن هل هذه الصفة صفة ذاتية قائمة بالله؟ لا، صفة إضافية.
أيضا يمكن أن يمثل لهذه الصفة بوصف أهل الكلام لله - عز وجل - بأنه قديم، بل جعلوا أخص أوصاف الله - عز وجل - القدم، هذه في الحقيقة صفة إضافية؛ لأنه لا يقال للشيء: قديم، إلا مع وجود أيش؟ الجديد، لا يمكن أن نطلق على هذا الشيء أنه قديم إلا إذا وجد الجديد، فهم يقولون: أخص أوصاف الله - عز وجل - القدم، فهذه صفة إضافية، لكن لاحظ الصفة الشرعية البديلة عن هذه الصفة ما هي؟ الأول، الله - عز وجل - وصف نفسه بأنه الأول ولم يصف نفسه بأنه القديم، وهذه الصفة لا يرد عليها ما ورد على صفة القدم، فصفة القدم يمكن أن يطلق عليها أنها صفة إضافية، أو مركبة منهما، يعني: صفة سلبية إضافية، وهم الذين بعث إبراهيم الخليل إليهم، وهؤلاء مَن؟ الصابئة المشركون الذين يعبدون الكواكب والذين بنوا لها الهياكل.(1/116)
فيكون من هو الجعد هذا؟ أول من قال بمذهب التعطيل، فيكون الجعد أخذها عن الصابئة الفلاسفة؛ لأنه عاش في هذه البلاد التي يكثر فيها هؤلاء الذين لا يصفون الله - عز وجل - إلا بالسلب، فهو استفاد التعطيل من هؤلاء، فسلفه في هذا المذهب هؤلاء الكفار.
وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران وأخذ عن الفلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضا -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره- لمَّا ناظر السمنية -بعض فلاسفة الهند- وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات، فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمين والفلاسفة الضالين إما من الصابئين وإما من المشركين .
ــــــــــــــــــــــ
يقول المؤلف: وكذلك أبو نصر الفارابي محمد بن محمد المتوفى سنة ثلاث مائة وتسع وثلاثين، وهو الذي يسمى بالمعلم الثاني، والمعلم الأول هو أرسطو، وهو الذي هذب فلسفة أرسطو، وهو الذي استفاد منه ابن سينا في فلسفته، قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: له تصانيف مشهورة، من ابتغى منها الهدى ضل وحار، منها تخرج ابن سينا، نسأل الله التوفيق، انتهى الكلام.
أبو نصر الفارابي هذا المعلم الثاني والمسمى بفيلسوف الإسلام، دخل هذه البلد التي هي حران، وأخذ فلسفته عن فلاسفة الصابئين، ومعلوم أن المعطلة استفادوا من فلسفة هؤلاء ومنطق هؤلاء وكُتُب هؤلاء، وأيضا الجهم أحد الذين نشروا مذهب المعطلة، ذكر الشيخ أنه ناظر السمنة، وهؤلاء الذين لا يؤمنون إلا بالحسيات، وأشرنا إلى هذا في الدرس الماضي، وذكر ذلك الإمام أحمد في كتابه (الرد على الجهمية) يقول الشيخ: فهذه أسانيد جهم، أسانيد كل معطل عطل الله - عز وجل - عن صفاته أو عن بعضها أسانيده تنتهي إلى من؟ إلى هذه الطوائف: إلى اليهود،إلى النصارى، إلى الصابئين المشركين، إلى الفلاسفة الضالين. .(1/117)
ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المائة الثانية : زاد البلاء، مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم . ولما كان في حدود المائة الثانية : انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية؛ بسبب بشر بن المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، يقول الشيخ: ومما زاد البلاء وساعد في نشر مذهب المعطلة ترجمة كتب الفلسفة، وأشرنا إلى سابقا، أن ممن تولى كبر هذه القضية المأمون، وكان في حدود المائة الثانية، ولعلِّي أشير هنا إلى ملحظ، سُئلت: بعض الإخوان قالوا أو فهموا من كلمة ابن تيمية التي ذكرتها سابقا أنه قال: ما أظن أن يغفل، وليس يغفر، بعضهم فهمها يغفر، وهذا لا يجوز أن يقوله ابن تيمية ولا غير ابن تيمية، حتى الرسل لا يجوز أن تتألى على الله - عز وجل - بهذا الأمر، قضية أن الله يغفر لفلان أو لا يغفر لفلان، لكن إذا ثبتت عنه المقولة هو نقلها السفاريني عن الصلاح الصفدي قال: حدثني من أثق به أن شيخ الإسلام قال: ما أظن أن يغفل الله عن المأمون فيما جره على المسلمين من بلاء بسبب ترجمة هذه الكتب..
فمما زاد البلاء بلاء لما ترجمت هذه الكتب وقرأها الناس فوافقت -كما قال الشاعر- قلبا خاليا فتمكنت منه، وافقت بعض القلوب الخالية من العلم الصحيح فتمكنت منه، خاصة وهي مليئة بالشبه، ولا شك أن الشيطان حريص كل الحرص في إذكاء هذه الشبه في نفوس أولئك؛ ولهذا يقول:زاد البلاء؛ مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم . وإلا من نوَّر الله بصيرته وتسلح بالعلم الشرعي فإنه بإذن الله لا يتأثر بمثل هذه الشبهات، علما بأن الأصل والأولى والأفضل عدم مطالعة مثل هذه الكتب، وعدم مناظرة مثل هؤلاء .(1/118)
وهذا هو منهج السلف على وجه العموم، نعرف سيرة الإمام الشافعي مع جملة من هؤلاء، سيرة الإمام أحمد، بل إنه هجر الحارث المحاسبي لما نقل عنه أنه دخل في شيء من هذا الباب، كان لا يجلس معهم ولا يناظرهم إلا اضطرارا، فهذا هو الأصل لأن الإنسان مهما كان لا يأمن على نفسه الفتنة؛ ولهذا عمران بن حطان رأس من رؤوس الخوارج، كان من أهل السنة ومن المنافحين والمدافعين عن منهج أهل السنة، وكانت له ابنة عم -كما ذكر أصحاب الفرق- كانت على مذهب الخوارج ومتمكنة من هذا المذهب فتزوجها بقصد أن يهديها لمذهب أهل السنة فجرته إلى مذهب الخوارج، وهو الذي يقول في عبد الرحمن بن ملجم الذي وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أشقى الأمة أو أشقى الناس، يصفه عمران بن حطان ويقول:
يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه
أوفى البرية عند الله ميزانا
يمدحه على ماذا؟ على قتل علي - رضي الله عنه - وأرضاه، هذا الجهم بن صفوان، من أسباب ضلاله وانحرافه كونه ناظر هذه الطائفة الملحدة التي لا تؤمن إلا بالحسيات، ولم يكن متسلحا بالعلم.
يقول الشيخ: ولما كان في حدود المائة الثانية انتشرت هذه المقالة، أي مقالة؟ مقالة التعطيل التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، لماذا؟ نسبة للجهم بن صفوان؛ ولهذا أحيانا يطلق على كل معطل جهمي حتى أحيانا يطلق على الأشاعرة جهمية؛ لأن مذهب التعطيل أخذ هذا الاس العام نسبة إلى هذا الرجل.(1/119)
لماذا انتشرت هذه المقالة، أو من أسباب انتشارها؟ بشر بن غياث المريسي المتوفى سنة مائتين وثماني عشرة؛ لأنه نشر هذه المقالة، وهو من كبار المعتزلة، وممن نادى علنا بالقول بخلق القرآن، وأن كلام الله مخلوق؛ ولهذا يقول عنه الذهبي رحمه الله: "نظر في الكلام فغلب عليه وانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن ودعا إليه حتى كان عين الجهمية في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم وكفّره عدة، ولم يدرك جهم بن صفوان بل تلقف مقالته عن أتباعه". فهو أدرك تلامذة الجهم بن صفوان، وكان له حظوة عند السلطان، فكان هذا من أسباب انتشار مقالة الجهمية.
التأويل في صفات الله - عز وجل -
وكلام الأئمة مثل: مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك، وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق، والفضيل بن عياض وبشر الحافي، وغيرهم في هؤلاء كثير، في ذمهم وتضليلهم . وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس، مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك فياب التأويلات، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي أسماه ( تأسيس التقديس ) ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء مثل: أبي على الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني، وأبي الحسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي حامد الغزالي وغيرهم، هي با تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه؛ وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضا.
ــــــــــــــــــــــ(1/120)
الشيخ -رحمه الله- ذكر أن الأئمة ردوا على بشر المريسي ومن في طبقته ومن هو على منهجه، وضرب لذلك أمثلة: كمالك وسفيان بن عيينة، وابن المبارك عبد الله، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة المتوفى سنة مائة واثنتين وثمانين، وأحمد وإسحاق -يعني: إسحاق بن راهويه- والفضيل بن عياض، وبشر الحافي وغيرهم، كلام هؤلاء الأئمة في هؤلاء، في مَن؟ في الجهمية، كثير، وسيورد الشيخ شيئا من هذا، ومن أراد التوسع في ذلك فهناك كتاب (السنة) لعبد الله ابن الإمام أحمد، وأيضا (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) للإمام اللالكائي، والإبانة أو شرح الإبانة) للإمام ابن بطة، و(الرد على الجهمية) للإمام الدارمي، و(الرد على بشر المريسي) أيضا للإمام الدارمي، فمثل هذه الكتب عنيت بنقل أقوال هؤلاء الأئمة في الرد على هؤلاء الجهمية.
يقول: "وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس"، أيُّ تأويلات؟ التأويلات التي بأيدي الأشاعرة، تأويلات بعض الصفات، الصفات التي يؤولها الأشاعرة، وضرب مثلا فقال: مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك المتوفى سنة أربع مائة وست، صاحب كتاب مشكل الحديث) وهو مطبوع، فقد جمع في هذا
الكتاب الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة ثم سلط عليها سيف التأويل، فكل حديث لا يتوافق مع مذهبه بَحَثَ له عن تأويلات.
يقول في كتاب التأويلات: هو (كتاب مشكل الحديث) المطبوع، طبع باسم "مشكل الحديث" وبيانه، يقول: وذكرها أيضا أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي المتوفى سنة ست مائة وست في كتابه الذي سماه (تأسيس
التقديس ) ، وأيضا يسمى "أساس التقديس" هو ليس بكبير الحجم متوسط صغير،ل إلى الصغر أقرب، وهو الذي رد عليه شيخ الإسلام في كتابه (نقض التأسيس) ملأ هذا الكتاب بتأويلات نصوص الصفات.(1/121)
يقول: "ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء، مثل: أبي علي الجبائي محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة ثلاث مائة وثلاث، وهو إمام من أئمة المعتزلة، وهو الذي تربى على يديه مَن؟ أبو الحسن الأشعري؛ لأنه زوج والدته، فتربى عنده صغيرا؛ ولهذا نشأ الأشعري على مذهب الاعتزال قرابة أربعين سنة ثم رجع عنه، والسبب أنه عاش عند زوج والدته وتلقف هذا المذهب عنه.
وعبدِ الجبار بن أحمد الهمداني المتوفى سنة أربع مائة وخمس عشرة هو أيضا إمام من أئمة المعتزلة، بل هو من مُنظِّري مذهب المعتزلة، صاحب كتاب (شرح الأصول الخمسة) ومتشابه القرآن، وهو عمدة عند هؤلاء يرجعون إليه، أيضا ملأ كتابه بتأويل النصوص التي تتعارض مع مذهبه.
وأبي الحسين البصري المتوفى سنة أربع مائة وست وثلاثين، محمد بن علي إمام أيضا من أئمة المعتزلة؛ ولهذا قال عنه ابن كثير: شيخ المعتزلة والمنتصر لهم والمحامي عن ذممهم بالتصانيف الكثيرة.
وأبي الوفاء بن عقيل علي بن عقيل الحنبلي المتوفى سنة خمس مائة وثلاث عشرة، وهو أيضا ممن تأثر بمذهب المعتزلة، لكن يقال: إنه رجع، ورجوعه فيه غبش حقيقة؛ ولهذا منهجه يكتنفه شيء من الغموض، والرجل -رحمه الله- ذكي حاد الذكاء، فمن قرأ في كتبه لاحظ فطنة هذا الرجل، وهو الذي ألف كتابه (الفنون) أكثر من ألف جزء، طُبع منها أجزاء بسيطة، وهو آية في الحفظ، ألّف رسالة صغيرة يتبرأ فيها من مذهب المتكلمين، لكن منهجه حقيقة فيه شيء من الغموض، رحمه الله، الشاهد: أنه ممن تأثر بمذهب الجهمية وأوَّل بعض الصفات.
وأبي حامد الغزالي محمد بن محمد بن محمد المشهور، المتوفى سنة خمس مائة وخمس، من أئمة الأشاعرة، وهذا الرجل أيضا مر بأطوار في حياته، سلك أولا منهج الفلاسفة وألّف رسالته (القسطاس المستقيم) وجعل المنطق هو(1/122)
ميزان العلوم، قال: أي علم حتى علم الكتاب والسنة يوزن بالمنطق، فإن وافقه قُبِل وإن خالفه أُوِّل، ثم رجع عن مذهب الفلاسفة وألف كتابه (تهافت الفلاسفة) الذي رد عليه ابن رشد (تهافت التهافت).
ولهذا يقول ابن العربي: "شيخنا أبو حامد ابتلع الفلاسفة وأراد أن يتقيَّأهم فما استطاع"، ثم انتقل إلى مذهب المتكلمين، ثم انتقل إلى مذهب المتصوفين...
ولهذا يقول ابن العربي: "شيخنا أبو حامد ابتلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع"، ثم انتقل إلى مذهب المتكلمين، ثم انتقل إلى المتصوفة، وألف كتاب إحياء علوم الدين، وهو في هذه المرحلة حتى اعتزل الناس قرابة
عشر سنوات، ثم لعله في آخر حياته رجع إلى مذهب أهل السنة، فقد ذكر شيخ الإسلام عنه أنه توفي وصحيح البخاري على صدره.
يقول عنه القاضي عياض: والشيخ أبو حامد ذو الأنباء الشنيعة والتصانيف العظيمة، غلا في طريقة التصوف وتجرد لنصر مذهبهم وصار داعية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أُخِذ عليه فيه مواضع، وساءت به الظنون، والله أعلم بسره، ونفد أمر السلطان عندنا في المغرب وفتوى الفقهاء بإحراقها والبعد عنها، فامتُثِل لذلك؛ ولهذا أُحرِق كتاب إحياء علوم الدين في بلاد المغرب بفتوى من الفقهاء، والسبب لوجود بعض الصوفيات في هذا الكتاب.(1/123)
يقول: "وغيرهم هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي"، ما السبب في إيراد المؤلف هذه الجملة؛ لأنه معلوم أن بشر المريسي رد عليه الأئمة المتقدم ذكرهم وغيرهم، والأشاعرة أعدى عدو لهم من؟ المعتزلة؛ ولهذا من أعظم من وقف في وجوه المعتزلة الأشاعرة، الشيخ يقول: "هذه التأويلات الموجودة عند بعض أئمتكم هي عينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي رأس الاعتزال" يقول: التي ذكرها في كتابه؛ له كتابان، ذكرهما من ترجم له، التوحيد والمتشابه، لكن لا تزال هذه الكتب مفقودة.
وإن كان يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله، يقول: وإن كان في كلام بعض هؤلاء الذين ذكرناهم سواء الغزالي أو الرازي أو ابن فورك أو ابن عقيل رد لبعض تأويلات المعتزلة والجهمية، لكن عندهم تأويلات هي عينها تأويلات الجهمية والمعتزلة، "ولهم كلام حسن في أشياء" هذا من إنصافه -رحمه الله- لهؤلاء
أنهم وإن كان عندهم تأويلات باطلة ونفوا عن الله بعض الصفات الثابتة فلهم كلام حسن، ومن ذلك الرد على الفلاسفة، حقيقة هم ممن تصدوا لهؤلاء الفلاسفة وردوا عليهم بالأدلة العقلية، كذلك ردودهم على المعتزلة، وإن كان في بعضها ضعف وفي بعضها خطأ، لكن في الجملة ردود هؤلاء كما ذكر شيخ الإسلام أنها تذكر لهم وتحمد، أيضا مما لهم ويذكر قضية أنهم أثبتوا بعض الصفات، فهم خير من المعتزلة وخير من الجهمية الذين نفوا جميع الصفات.(1/124)
فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي، أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري، صنف كتابا سماه : ( رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد ) حكى فيه هذهيلات بأعيانها عن بشر المريسي، بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته، ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من الفهم .
ــــــــــــــــــــــ
نعم، يقول: وإنما بينت أن عين تأويلات هؤلاء هي عين تأويلات المريسي، ويدل على ذلك ما رد به الإمام عثمان بن سعيد الدارمي المتوفى سنة مائتين وثمانين على بشر المريسي في كتابه: ( رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد) هكذا طبع الآن بهذا الاسم، وله كتابان لل على بشر المريسي وعلى الجهمية من أفضل الكتب في هذا الباب، فقد جمع فيه بين المعقول والمنقول، وبيَّن ضلال بشر المريسي فيما ذهب إليه.
ولهذا يصف ابن القيم كتابه هذا فيقول: وكتاباه، أي: رده على بشر المريسي ورده على الجهمية، "وكتاباه" يعني: الرد على المريسي والرد على الجهمية، من أجل الكتب المصنفة في السنة وأنفعها، وينبغي لكل طالب سنة مراده الوقوف على ما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كتابيه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية ويعظمهما جدا: "وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما" انتهى كلامه. والكتابان مطبوعان محققان ولله الحمد والمنة.(1/125)
يقول: "حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها" يعني: حكى فيها تأويلات مَن؟ تأويلات الأشاعرة المتأخرين، "بأعيانها" يعني: كأن الأشاعرة تبعوا المعتزلة في تأويل هذه الصفات بأعيانها عن بشر المريسي، "بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها وأعلم بالمنقول والمعقول" يقول: من خلل رد عثمان بن سعيد على بشر المريسي يتضح أن بشر أقعد، وأيش معنى أقعد؟ لها معنيان: إما من القعدة وهو القرب من الميت، ومعناه: أن أقوال بشر وتأويلاته أقرب إلى المنقول والمعقول من تأويل هؤلاء المتأخرين، وإما أن يكون المعنى أقعد أي: أكثر تقعيدا، أكثر تأصيلا.
"وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته"، اتصلت أيش؟ الضمير يعود على ماذا؟ التأويلات، اتصلت إليهم التأويلات من جهته، فكأنهم استقوا هذه التأويلات واستفادوها ممن؟ من بشر المريسي، وهو بهذا التقرير الشيخ يريد أن يرد على هؤلاء الأشاعرة المتأخرين، يقول: أنتم الآن تزعمون أن المعتزلة هم عدوكم اللدود، وأنكم تخالفونهم جملة وتأصيلا، فهذه التأويلات التي تذهبون إليها هي عينها تأويلات المعتزلة، هي عينها تأويلات بشر المريسي.
يقول: " ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف" يعني: ما كان عليه السلف من أيش؟ من قوة الحجة والبيان والجمع بين المعقول والمنقول؛ لأن عثمان بن سعيد - رحمه الله - رد في كتابه هذا بالعقل والنقل على بشر المريسي، وهذا نهج من مناهج أهل السنة في التأليف في باب العقيدة.(1/126)
أهل السنة لهم مناهج في التأليف في باب العقائد، فهناك الاقتصار على نصوص العقائد من غير التعليق على ذلك، كما صنع ابن أبي عاصم -رحمه الله- في كتابه (السنة) باب "إثبات الاستواء" حدثنا فلان عن فلان عن فلان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - باب "إثبات الوجه لله" حدثنا فلان عن فلان عن فلان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - باب "إثبات السمع لله"، باب "إثبات الشفاعة"، باب "إثبات الصراط"... وهكذا يسوقون النصوص من غير تعليق.
هناك منهج آخر وهو: ذكر هذه النصوص والتعليق عليها وإيراد كلام الأئمة في تفسيرها، كما صنع الإمام الآجُرّي مثلا في (الشريعة)، وكما صنع اللالكائي في (شرح أصول أهل اعتقاد أهل السنة)، وكما صنع الإمام ابن بطة في كتابه (الإبانة).
هناك منهج آخر وهو: عرض مع ذكر النصوص، عرض شُبه الخصوم والرد عليها بالعقل والنقل، كما صنع مَن؟ عثمان بن سعيد رحمه الله، وهو من أوائل من سلك هذا المنهج، وكحال الإمام أحمد -رحمه الله- أيضا في كتابه (الرد على الجهمية) وهذا صنيع شيخ الإسلام مع المخالفين، غالبا سلك هذا المنهج، أنه يعرض شبههم ويرد عليها بالعقل والنقل.
يقول: "وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفهم"، يعني: إذا كان عثمان بن سعيد -رحمه الله- رد على بشر وبيّن ضلال وانحراف وبطلان ما ذكره بشر المريسي وهو أقعد وأقرب إلى المعقول والمنقول من هؤلاء المتأخرين، فما الظن بأيش؟ بهؤلاء المتأخرين، يقول: إذن اضح له ضعف حجة من خالف السلف.
ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم، وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسية تبين الهدى لمن يريد الله هدايته، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب، وإنما أشي إشارة إلى مبادئ الأمور والعاقل يسير فينظر .
ــــــــــــــــــــــ(1/127)
نعم، يقول: ومن نظر في كلام الأئمة في تضليل هؤلاء المريسية وبعضهم كفرهم اتضح له أن هذا القول الساري في المتأخرين الذي هو جزء من قول مَن؟ من قول بشر المريسي ومن على شاكلته، اتضح له أن الهدى والسلامة في طريق هؤلاء الأئمة، ثم ذكر أن الفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب، وإنما نشير إشارة إلى مبادئ الأمور والعاقل يسير فينظر، نعم غالبا الفتاوى -كما ذكرنا في أول الكلام في بداية قراءة هذا المتن- أن الفتاوى تكون غالبا موجزة مختصرة لا تحتمل إيراد الشبه والاعتراض عليها، وأيضا إيراد الاعتراض على الاعتراض والنقد، لكن من راد ذلك فليرجع إلى الكتب الموسعة في هذا الباب.
لِيَعُدْ إلى كلام الشيخ مثلا في "نقض التأسيس" أعجوبة -رحمه الله- في هذا الكتاب، كيف أنه يعرض شبهة الخصم، يعرض قول الرازي ثم لا يجيبه هو، لا يرد عليه، يقول: يعترض عليك خصومك من المعتزلة والفلاسفة في كذا، ويمكن أن ترد عليهم بكذا ويردون عليك بكذا، ثم إذا ذكر شُبه هؤلاء وشًبه هؤلاء وردود بعضهم على بعض انبرى ورد على الجميع، وكما هي الحال أيضا في درء تعارض العقل والنقل، فتوسع -رحمه الله- في قضية الإجابة عن شبه هؤلاء في تعطيلهم وفيما خالفوا فيه أهل السنة، فمن أراد التوسع فليرجع إلى هذه الموسوعات، أما هذه الفتوى فهي لتقرير مذهب أهل السنة على وجه الإجمال، وبيان انحراف هؤلاء ومخالفة هؤلاء لطريقة السلف على وجه الإجمال.
أقوال السلف في صفات الله - عز وجل -(1/128)
وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة لا يمكن أن نذكر هنا إلا قليلا منه؛ مثل كتاب (السنن) للالكائي، و(الإبانة) لابن بطة، و(السنة) لأبي ذر الهروي، و(الأصول) لأبي عمرو الطلمنكي، وكلام أبي عمر بن عبد البر، والأسماء والصفات للبيهقي، وقبل ذلك (السنة) للطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني ولأبي عبد الله بن منده ولأبي أحمد العسال الأصبهاني .وقبل ذلك (السنة) للخلال، و(التوحيد) لابن خزيمة، وكلام أبي العباس بن سريج، (والرد على الجهمية) لجماعة، وقبل ذلك (السنة) لعبد الله بن أحمد، و(السنة) لأبي بكر بن الأثرم، و(السنة) لحنبل وللمروزي ولأبي داود السجستاني ولابن أبي شيبة، و(السنة) لأبي بكر بن أبي عصم، وكتاب (الرد على الجهمية) لعبد الله بن محمد الجعفي شيخ البخاري، وكتاب (خلق أفعال العباد) لأبي عبد الله البخاري، وكتاب (الرد على الجهمية) لعثمان بن سعيد الدارمي، وكلام عبد العزيز المكي صاحب (الحيدة في الرد على الجهمية) وكلام نُعيم بن حماد الخزاعي، وكلام الإمام أحمد بن حنبل، وكلام إسحاق بن راهويه، ويحيى بن يحيى النيسابوري وأمثالهم . وقبل هؤلاء عبد الله بن المبارك وأمثاله وأشياء كثيرة .
ــــــــــــــــــــــ
نعم، ذكر الشيخ هنا كلام أو مظان كلام الأئمة في هذا الباب؛ ليحيل القارئ، من أراد التوسع فليرجع إلى هذه الكتب التي عنيت بذكر كلام الأئمة وبنصوص الوحيين الدالة على ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، فذكر كتاب (السنن) للإمام اللالكائي هبة الله بن الحسن المتوفى سنة أربع مائة وثماني عشرة، والكتاب طبع في أربعة مجلدات، في ثمانية أجزاء، باسم (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة).(1/129)
وهو في الواقع يعتبر من موسوعات أهل السنة هو وكتاب (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية) للإمام ابن بطة يعتبران من موسوعات أهل السنة؛ لأن هذان الكتابان من أوسع الكتب التي جمعت الآثار عن السلف بالإضافة إلى النصوص في باب العقائد، فجمعوا فيهما آلاف الآثار، لكن وللأسف كتاب ابن بطة لم يوجد منه إلا النصف أو أكثر من النصف، ولا زال الباقي مفقودا، وإلا هو في الواقع هو موسوعة أهل السنة؛ لأنه أوسع من (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) للالكائي، هذا الجزء الموجود -ويعتبر تقريبا النصف أو أكثر من النصف قليلا- أكثر مما أورده الإمام اللالكائي.
يقول: (السنن) للالكائي، و(الإبانة) لابن بطة أبي عبد الله عبيد الله بن بطة المتوفى سنة ثلاث مائة وثمان وسبعين. و(السنة) لأبي ذر الهروي عبد الله بن أحمد المتوفى سنة أربع مائة وخمس وثلاثين، وهذا الكتاب مفقود، الذي هو كتاب السنة لأبي ذر الهروي. و(الأصول) لأبي عمرو الطلمنكي أحمد بن محمد المتوفى سنة أربع مائة وتسع وعشرين أيضا لا يزال مفقودا، لكن ينقل منه الشيخ كثيرا، فكان -والله أعلم- في زمن الشيخ موجودا.
وكلام أبي عمر بن عبد البر، الإمام المشهور يوسف بن عبد الله المتوفى سنة أربع مائة وثلاث وستين، صاحب التمهيد والاستذكار والاستيعاب، وكلامه -والله أعلم- في التمهيد.(1/130)
والأسماء والصفات للبيهقي أبي بكر أحمد بن الحسين المتوفى سنة أربع مائة وثمان وخمسين، والكتاب مطبوع له عدة طبعات وعدة تحقيقات، لكن الإمام البيهقي معلوم أنه ممن تأثر بمذهب الأشاعرة في تأويل بعض الصفات، فهو يعتبر من متقدمي الأشاعرة الذين أثبتوا الصفات التي يسمونها الصفات العقلية والصفات الخبرية التي جاءت في القرآن: كالوجه، واليدين، لكنه يؤول الصفات الخبرية التي جاءت في السنة، مثل النزول -على منهج الأشاعرة- الضحك ... كثير من الصفات التي جاءت في السنة كالقدمين يؤولها، لكنه يورد أيضا كثيرا من كلام السلف في الصفات التي يثبتها فيستفاد منه في هذا الباب؛ ولهذا قال بعض العلماء: كتاب البيهقي يستفاد منه -الكتاب الذي هو الأسماء والصفات، ليس السنن، الكلام على كتاب الأسماء والصفات- يستفاد منه مما رواه لا مما تعقب وتكلم به.
يقول: وقبل ذلك (السنة) للطبراني سليمان بن أحمد صاحب المعجم المشهور، له كتاب (السنة) والمتوفى سنة ثلاث مائة وستين، لكن أيضا الكتاب لا يزال مفقودا، وقد حرص بعض إخواننا على جمعه لكن من خلال الكتب الأخرى، يأتي مثلا إلى ما أورده الشيخ، يقول مثلا: رواه الطبراني، ذكر الطبراني في كتاب (السنة) عن فلان عن
فلان، ينقل هذا الشيء، فهو حاول، يعتبر أجود الموجود إلى أن يوجد الكتاب، شيخ الإسلام يحيل إليه كثيرا، وأيضا ابن القيم يحيل إليه كثيرا.
يقول: ولأبي الشيخ الأصبهاني الذي هو عبد الله بن محمد المتوفى سنة ثلاث مائة وتسع وستين صاحب كتاب (العظمة) ولأبي عبد الله بن منده محمد بن إسحاق المتوفى سنة ثلاث مائة وخمس وتسعين وهذا له كتاب (التوحيد) وهو مطبوع، وله أيضا كتاب (الإيمان) مطبوع، ولأبي أحمد العسال محمد بن أحمد المتوفى سنة ثلاث مائة وتسع وأربعين، الأصبهاني كتاب (السنة) وأيضا الكتاب لا يزال مفقودا.(1/131)
وقبل ذلك (السنة) للخلال لأبي بكر أحمد بن محمد المتوفى سنة ثلاث مائة وإحدى عشرة، وكتابه طبع أيضا أخيرا، اعتنى -رحمه الله- بجمع الآثار عن السلف في باب العقائد، و(التوحيد) لابن خزيمة محمد بن إسحاق المتوفى سنة مائة وإحدى عشرة أيضا، وهو أيضا مطبوع، ومن أجلّ الكتب في هذا الفن رحمه الله، وكلام أبي العباس بن سريج أحمد بن عمر المتوفى سنة مائة وست، و(الرد على الجهمية) لجماعة من العلماء ألفوا كتبا في الرد على الجهمية، ذكر منهم الشيخ بعد ذلك الإمام البخاري والإمام الدارمي وشيخ البخاري عبد الله بن محمد الجعفي.
يقول: وقبل ذلك (السنة) لعبد الله ابن الإمام أحمد وهذا مطبوع، و(السنة) لأبي بكر بن الأكرم أحمد بن محمد المتوفى سنة مائتين وثلاث وسبعين هذا لا يزال مفقودا، و(السنة) لحنبل، أيضا حنبل بن إسحاق ابن عم الإمام أحمد المتوفى سنة مائتين وثلاث وسبعين، أيضا الكتاب لا يزال مفقودا، وللمروزي المتوفى سنة مائتين وخمس وسبعين، ولا يزال الكتاب مفقودا، ولأبي داود السجستاني صاحب (السنن) سليمان بن أشعث المتوفى سنة مائتين وخمس وسبعين. ولعل الشيخ يشير بذلك إلى كتاب السنة الذي ألحقه بآخر كتابه (السنن) في الجزء الخامس.
يقول: ولابن أبي شيبة عبد الله بن محمد صاحب المصنف المتوفى سنة مائتين وخمس وثلاثين، و(السنة) أيضا لابن أبي شيبة لعل الشيخ يريد بكتاب (السنة) الملحق بكتاب المصنف، يقول: و(السنة) لأبي بكر بن أبي عاصم أحمد بن عمر، وهذا مطبوع في جزأين، طبع قديما بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه، وأيضا
طبع أخيرا طبعة جديدة بتحقيق الدكتور باسم فيصل، وكتاب (الرد على الجهمية) لعبد الله بن محمد الجعبي، وهذا الكتاب مفقود، وهو شيخ البخاري المتوفى سنة مائتين وتسع وعشرين.(1/132)
وكتاب (خلق أفعال العباد) لأبي عبد الله البخاري، وهذا موجود وحقق أخيرا في رسالة علمية في جامعة الإمام، وكتاب (الرد على الجهمية) لعثمان بن سعيد، وهذا ذكرنا أنه خرج محققا، وكلام عبد العزيز بن يحيى المكي المتوفى سنة مائتين وأربع، والذي ناظر مَن؟ بشر المريسي صاحب كتاب (الحيدة في الرد على الجهمية)، كتاب (الحيدة) ورد حوله كلام، ونسبة الكتاب ليحيى بن عبد العزيز، فالإمام الذهبي -رحمه الله- والسبكي يشككون في نسبة الكتاب لعبد العزيز بن يحيى المكي.
أو الإمام الذهبي قال: ما ثبت عندنا بإسناد متصل. لكن الإمام ابن بطة -رحمه الله- ساق الكتاب بإسناده، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وممن قال وجزم بنسبة الكتاب لعبد العزيز بن يحيى شيخ الإسلام -رحمه الله- في مواضع كثيرة، وابن القيم، والإمام ابن حجر، فالكتاب ثابت لهذا الإمام، ولا يضره تشكيك الإمام الذهبي؛لأنه ما ثبته عنده.
ويقول: "وكلام نعيم بن حماد الخزاعي المتوفى سنة مائتين وتسع وعشرين"، ونعيم -رحمه الله- بن حماد يقول -كما نقل عنه الذهبي-: أنا كنت جهميا؛ فلذلك عرضت كلامهم، فلما طلبت الحديث عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل.
يقول: "وكلام الإمام أحمد بن حنبل، وكلام إسحاق بن راهويه، ويحيى بن يحيى النيسابوري وأمثالهم ، وقبل هؤلاء عبد الله بن المبارك وأمثاله وأشياء كثيرة"، فكلام هؤلاء الأئمة في هذه المصنفات ترد على هؤلاء الجهمية المتقدمين وعلى المتأثرين بهم من المتأخرين، ومليئة بكلام الأئمة في تقرير عقيدة أهل السنة والجماعة وفق المنهج الصحيح .(1/133)
وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره . وأنا أعلم أن المتكلمين لهم شبهات موجودة لكن لا يمكن ذكرها في الفتوى فمن نظر فيها وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه فإنه يسير .
ــــــــــــــــــــــ
نعم الشيخ كما سبق وهذا من إنصافه أيضا يقول هؤلاء المردود عليهم لهم شبه يريدونها علينا إذا أوردنا عليهم هذه الأدلة لكن ليس هذا موطن ذكرها والتوسع في إيرادها فمن أراد الوقوف عليها والإجابة عنها هو قال فإنه يسير بمعنى فليرجع إلى مظان ذلك نعم.
وإذا كان أصل هذه المقالة - مقالة التعطيل والتأويل - مأخوذا عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود فكيف تطيب نفس مؤمن - بل نفس عاقل - أن يأخذ سبل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ؟ !
ــــــــــــــــــــــ
نعم نكتفي بهذا هنا فصل لعلنا نقف عليه إلى الدرس القادم والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد
س : هذا سؤال من سائل رمز لنفسه بالأشعر، فإن كان أشعريا على أشعريته فنسأل الله - عز وجل - أن يمن علينا وعليه بالهداية، وأن يبصرنا وإياه صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، يقول: عند مناظرة سلفي مع أشعري أن يقول السلفي: لم يقل أحد منهم الصحابة بخلاف ظاهر القرآن وهذا دليل على أنهم يثبتون الصفات... إلى آخره، هنا يقول الأشعري: متى كان السكوت دليلا يؤخذ به ثم ما يدريك لعلهم كانوا يؤولونها لأنهم عرب والقرآن عربي، والعرب كما هو معلوم تكني باليد عن القدرة والنعمة... إلى آخر ذلك ما هو معلوم إلى آخر كلامه .(1/134)
ج : نقول: الحجة عليك وليس على أهل السنة، كما قال الشيخ: هذا كلام الصحابة من أوله إلى آخره، وكلام السلف والأئمة من أوله إلى آخره، اذكروا لنا نقلا واحدا أنهم أولوا صفة واحدة من هذه الصفات التي تؤولونها، نعم هم عرب ولهذا فهموا كلام الله وكلام رسوله على ظاهره، وما احتاجوا إلى هذا التأويل الذي جاء به المتأخرون، ومن قال: إن هذه النصوص لها معنى يخالف الظاهر نقول: ما الدليل، ربما قالها الصحابة، نقول هذه ربما احتمالات، بل ما ثبت عنهم يخالف ذلك، فأنتم تؤولون الاستواء بالاستيلاء، أوردوا لنا نقلا واحدا فقط أن أحد الصحابة فسر الاستواء بالاستيلاء، والاستواء في لغة العرب التي نزل بها القرآن وفهم بها الصحابة كتاب الله - عز وجل - معنى الاستواء الاستيلاء أو العلو والارتفاع؟ العلو والارتفاع بإجماع أهل اللغة.
يقول: ثم استدلالكم بقوله { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) نقول: قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } (2) فالأنعام مخلوقة بالأيدي، فما فضل آدم إذن؟
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة ص آية : 75.
(2) - سورة يس آية : 71.(1/135)
هذا رد عليك يا أخي، هو الآن يورد يقول: لماذا ما نحمل آية (ص): { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) لماذا لا نقول: هذه الآية مثل آية يس: { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } (2) نقول: الفرق بين الآيتين لفظا ومعنًى شاسع وكبير، أما الفرق بين الآيتين لفظا فأولا: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (3) أضاف الفعل لمن؟ لنفسه، وهناك { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } (4) أضاف الفعل لمن؟ للأيدي، هذا الفرق الأول، هذه الآن الفروق اللفظية، الفرق الثاني: عدى الفعل هنا { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (5) عداه بحرف الجر، وهناك { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } (6) عداه بنفسه، هذا الفرق الثاني، الفرق الثالث: هنا أفرد الضمير "لما خلقت أنا بيدي"، وهناك { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } (7) أتى بضمير الجمع، الفرق الرابع وهو أظهرها: هنا جاء لفظ اليدين بالتثنية { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (8) وهناك { أَيْدِينَا } (9) بالجمع.
طيب هذه الفروق اللفظية، الفروق المعنوية بين الآيتين الذي أوردته يا أخي، لو كان معنى اليد هي القدرة أو النعمة كما يزعم الأشاعرة لما كان هناك فرق بين آدم وبين سائر المخلوقات، بل لكان أول من اعترض إبليس لما
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة ص آية : 75.
(2) - سورة يس آية : 71.
(3) - سورة ص آية : 75.
(4) - سورة يس آية : 71.
(5) - سورة ص آية : 75.
(6) - سورة يس آية : 71.
(7) - سورة يس آية : 71.
(8) - سورة ص آية : 75.
(9) - سورة مريم آية : 64.(1/136)
أمره بالسجود؛ لأنه قال: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) لقال لو كان هذا المقصود به القدرة لقال إبليس: وأنا خلقتني بقدرتك، ما الفرق بيني وبين آدم، والله - عز وجل - لما ذكر أنه خلق آدم بيديه هذا تشريف وتكريم له على سائر الخلق، وسائر الخلق خلقوا بالقدرة؛ ولهذا موسى -عليه السلام- كما في الصحيحين قال لآدم ماذا؟ , أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده - يعني بمعنى: فضلك واصطفاك على سائر المخلوقات أنه خلقك بأيش؟ بيده، فلو كانت القدرة لما كان لآدم ميزة.الناس يوم القيامة -كما في صحيح البخاري في حديث الشفاعة الطويل- يأتون إلى آدم ويقولون: أنت أبو البشر يميزونه بماذا؟ "خلقك الله بيده"، كرمك بهذا، أيضا الأحاديث الأخرى الكثيرة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم: المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين هل يقول عاقل: إنهم على يمين قدرة الرحمن، وكلتا قدرتيه يمين، وأيضا ورودها بالتثنية الله - عز وجل - كم له من قدرة؟ بإجماع المسلمين قاطبة أن الله U موصوف بالقدرة، وليس له قدرتان، فقوله: "بيدي" بمعنى: بقدرتي، ومن أراد التوسع في هذا فنحيل الأخ إلى ( مختصر الصواعق المرسلة ) في الجزء الثاني فليراجع كلام العلماء على هذه الآية وعلى صفة اليد.
س : يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أشكل عليَّ قولكم بالمنع من وصف الله بالقديم، فكيف نجمع هذا القول مع حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الدخول إلى المسجد: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم
__________
(1) - سورة ص آية : 75.(1/137)
ج : نعم، المنسوب لله - عز وجل - المضاف إلى الله ثلاثة أقسام: الأسماء والصفات والإخبار عنه سبحانه وتعالى، أضيقها باب الأسماء؛ ولهذا لا يشتق من الصفة اسم والعكس هو الصحيح، كل اسم فهو متضمن لأيش؟ لصفة، فمثلا الحي اسم من أسماء الله يُؤخذ منه صفة الحياة، السميع اسم من أسماء الله يؤخذ منه السمع، أما الصفات فلا، فيوصف الله - عز وجل - بالنزول، أنه ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر، لكن هل يسمى بالنازل؟
يوصف بالاستواء، هل يسمى بالمستوي؟ الجواب: لا، وأوسعها باب الإخبار عن الله - عز وجل - فالقديم يُخبَر به عن الله ولا يوصف به الله - عز وجل - كما يخبر عنه بأنه شيء: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } (1) يخبر عنه أنه واجب الوجود لكن ما يوصف بهذه الأمور.
فما أورده الأخ من القديم يخبر عن الله عز وجل؛ ولهذا الشيخ يورِد أحيانا "الله القديم" لكن يوصف بالأوّل بدل القديم؛ لأنه أبلغ في المدح وأكمل في المدح، ومن أراد الوقوف على الفرق بين هذا وهذا والكلام على هذه الأقسام الثلاثة فليرجع لكلام الإمام ابن القيم -رحمه الله- في بدائع الفوائد، فقد أجاد وأفاد في هذا.
س : أحسن الله إليكم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ابن سينا والفارابي والرازي من ضلال المسلمين، فلماذا يسمي بعض المسلمين بعض الأماكن كالمستشفيات والشوارع بأسمائهم؟
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 19.(1/138)
ج : أولا: لا يُسوّى بين الرازي وبين الفارابي وابن سينا، نعم الرازي استفاد مما عند ابن سينا والفارابي، لكن بينهم فرق، الفارابي وابن سينا كفرهم العلماء؛ ولهذا يقال في العبارة الصحيحة: الفلاسفة المنتسبون للإسلام، وقد ذكر ابن القيم في (إغاثة اللهفان) أن ابن سينا إمام الملحدين، وأن حقيقة مذهبهما -وكذا شيخ الإسلام- عدم الإيمان لا بالله ولا بملائكته، ولا بكتبه ولا برسله ولا باليوم الآخر، ولا بالقدر، حقيقة مذهبهم الكفر بهذه الأصول الستة، ولكنهم تظاهروا بالإسلام حفاظا على دمائهم، ومن قرأ في كتبهم تبين له حقيقة الإلحاد الذي جاءوا به.
أما الرازي فلا، الرازي من أئمة الأشاعرة، نعم مبتدع مخالف لأهل السنة لكن ليس في درجة هؤلاء، هو مسلم ويُترَحم عليه، يبقى السؤال تسمية بعض الطرق وبعض المدارس وبعض الأماكن بأسماء هؤلاء، أقول: هذا من الخطأ ومن الجهل، كم كنا ندرس ونحن صغار أن ابن سينا من فلاسفة الإسلام ونعتز أن منا ابن سينا، فهو والله ليس مصدر عز للمسلمين، بل هو مصدر ذلة للمسلمين، والمسلمون في غنى عنه وعن أمثاله.
س : أحسن الله إليكم، يقول: هل كتاب "نقض التأسيس" لشيخ الإسلام موجود كاملا؟
ج : المطبوع لا، المطبوع لا، وذكرنا هذا بالأمس، (نقض التأسيس) المطبوع غير كامل، هو في جزأين وملفق، بمعنى: أن عبد الرحمن بن جاسم -رحمه الله- الذي أخرج الكتاب وجد عنده خروم كثيرة فأكملها من الفتاوى، لكن الكتاب حُقق ولعله كاملا في ثمان رسائل دكتوراه علمية، وطبع الآن في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف،
فلعله أن يرى النور قريبا.
س: أحسن الله إليكم، يقول: هل صحيح أن في كتاب الغزالي صوفيات كثيرة وأحاديث موضوعة بكثرة؟
ج: أما الأحاديث الموضوعة فنعم، فيه أحاديث موضوعة، أحاديث واهية، أحاديث ضعيفة، أما الصوفيات ففيه، لكن ليس بالكثرة التي تغلب عليه، من الانحرافات الموجودة فيه أظنه ينقل عن أحد الصوفية أنه يقول: "لئن ترى(1/139)
أبا يزيد -يعني: أبا يزيد البسطامي- مرة خير لك أن ترى الله أربعين مرة"، ومن أشباه هذه الخزعبلات.
س: أحسن الله إليكم، يقول: على ماذا اتفق المعتزلة والأشعرية، وعلى ماذا اختلفوا؟
ج : اتفق المعتزلة والأشاعرة في نفي ما عدا الصفات السبع، هؤلاء جمهور الأشاعرة، دائما إذا تكلمنا عن الأشاعرة فنقصد جمهور الأشاعرة، المتأخرين من الأشاعرة، الذين اقتصروا في الإثبات فقط على سبع صفات، وافقوا المعتزلة في نفي ما عدا الصفات السبع، وفي إثبات الأسماء، وخالفوا المعتزلة في إثبات هذه الصفات السبع في الجملة، أيضا في مسألة القضاء والقدر الأشاعرة يقولون بالكسب الذي هو حقيقة الجبر، بخلاف المعتزلة الذين يقولون: إن الإنسان هو الذي يخلق فعل نفسه.
س : أحسن الله إليكم، يقول: هل الستار من أسماء الله؟ وما الكتب التي أجد الكلام حوله فيها؟
ج : في حديث إن الله حيي ستير وعلى كل حال لا يحضرني الآن درجة الحديث؛ ولهذا لا أستطيع الجزم بإثبات هذا أو نفيه ولعلي أرجئ الكلام عليه إلى الدرس القادم، وأما الرجوع إلى الكتاب الذي يمكن أن يستفيد منه الإنسان في مثل هذا الباب كتاب الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، كتاب مختصر وموجز وحرص فيه أن يجمع النصوص التي في أسماء الله - عز وجل -وهي (القواعد المثلى).
س: أحسن الله إليكم، يقول فضيلة الشيخ: ما هي المتون التي في العقيدة تنصحون طالب العلم المبتدئ قراءتها وحفظها، والله يحفظكم؟(1/140)
ج : يقول هذا: إن كتاب السنة لأبي بكر بن الأكرم موجود وليس مفقودا، يذكر أنه مخطوط في أم القرى، أقول: إذا كان موجودا فالحمد لله نور على نور، ولعل أحد طلبة العلم المحققين يبادر في تحقيقه وإخراجه، الكتب التي في العقيدة ينصح بها طالب العلم المبتدئ أن يبدأ بالمختصرات والمتون المقتصرة على عرض عقيدة أهل السنة والجماعة مجردة عن ذكر الشبه والإجابة عنها، فمثلا يبدأ بـ (لمعة الاعتقاد) لابن قدامة، (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام، لكتاب (التوحيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، (كشف الشبهات)، (الأصول الأربع)، ثم يرتقي شيئا فشيئا، يرتقي مثلا لكتاب (معارج القبول) جيد، ومن الميزة التي في هذا الكتاب بساطة أسلوبه -رحمه الله-
حافظ، إضافة إلى أنه حاول أن يُكثِر من ذكر الأدلة، وهذه تُقَعِّد للإنسان عقيدته، يعني: أتى بعشرات بل أحيانا بمئات الأدلة في المسألة الواحدة، ثم يرتقي بعد ذلك إلى الكتب المطولة.
أحسن الله إليكم، هذا يسأل عن كلمة (الفلاسفة)، هل تطلق على كل ضال؟
لا، الفلاسفة هي عَلم على من تأثر بالفلسفة، والفلسفة كما هو معلوم مركبة كلمة يونانية مركبة من جزأين:(1/141)
(فيلا) معناها: محب، (صوفيا) معناها: الحكمة، ثم أطلقت على محبة الحكمة، هذا أصل الفلسفة، أصل الفلسفة محبة الحكمة، وكان الفلاسفة القدامى أفلاطون ومن قبله كانوا لا يتعرضون لما وراء الغيب، يسمونها الميتافيزيقا، يتكلمون عن الأمور المحسوسة: الأخلاق، المدينة الفاضلة ...، لكن لما جاء أرسطو وهو مؤسس الفلسفة الإلهية، الفلاسفة الإلهيون، هو الذي أدخل الفلسفة وأقحمها فيما وراء الغيب، ثم أصبح هذا الاسم (الفلسفة والفلاسفة) علم على هؤلاء الذين يكفرون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، الذين يزعمون أن الله لا يوصف بشيء من الصفات، وأنه العلة لهذا العالم، وقالوا بقدم العالم بأنه انبثق عن الله - عز وجل - منذ القدم، وأوغلوا في النفي والتعطيل.
وأما في الملائكة فهم لا يؤمنون أن هناك ذوات محسوسة تذهب وتأتي وتصعد وتنزل، وقالوا: الملائكة عبارة عن أشكال نورانية يتصورها النبي في نفسه، وربما قوي هذا التصور فرآها ماثلة أمامه، لكنْ أشياء حقائق مخلوقة تذهب وتأتي، لا، فهذه أشياء خيالية، ومنهم من زعم أنها هي قوى الخير، قوى الخير التي في النفس هي الملائكة.
وأما الإيمان بالرسل فهم لا يؤمنون أن الرسالة اصطفاء من الله - عز وجل - بل هي مكتسبة، وجعلوا لها شروطا من توفرت فيه هذه الشروط فيمكن أن يكون نبيا.
وأما الإيمان باليوم الآخر وأما الإيمان بالكتب فهم لا يؤمنون أن هناك كتبا نزلت من عند الله - عز وجل - أو أن الله - عز وجل - تكلم بهذه الكتب، بل هو فيض، يزعمون أن هذا القرآن فيض فاض من العقل الفعال على النفس الذكية الذي هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فتكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/142)
وأما الإيمان باليوم الآخر فلا يؤمنون بأن هذا العالم سينتهي وسيكون فيه يومٌ يجتمع فيه الناس ويحيي الله - عز وجل - هذه الأجساد، لا، يقولون: كل هذه خيالات خيّل بها الملائكة على الناس والعامة لأيش؟ لتصلح أحوال الناس، فحقيقة مذهب هؤلاء الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه
وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، قبل أن نبدأ في الدرس هناك تنبيهات:
التنبيه الأول: الحديث الذي سئلت عنه بالأمس
إن الله حيي ستير
الحديث رواه أبو داود والإمام أحمد والنسائي بسند صحيح، وممن صححه من المتأخرين الشيخ ناصر رحمة الله عليه.
الأمر الآخر: بعض الإخوان يحبذون التأني في الشرح، وأقول: لا مانع، لكن الإخوة المنظمون للدورة حقيقة
يرغبون ويلحون في أن نكمل هذا الجزء المطبوع من المتن الذي بين أيديكم، وهذا يستلزم منا السرعة قليلا في التعليق.
الأمر الثالث: هناك بعض المسائل وبعض المصطلحات لولا أن الشيخ أوردها عندنا في المتن لضربنا عنها صفحا؛ لأنها ربما تشوش على بعض الحضور، ولكن لما أوردها الشيخ اقتضى المقام الوقوف مع هذه المصطلحات وبيانها مع الإيجاز، نحن نحاول بقدر ما نستطيع أن نوجز في التعليق عليها بما يجلِّي المعنى.
فصل
القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن والاه.
قال المصنف رحمه الله تعالى رحمة واسعة:(1/143)
فصل: ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو بما وصف به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث، قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو بما وصف به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوز القرآن ولا الحديث، ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي؛ بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه؛ لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد .
ــــــــــــــــــــــــــــ
نعم، المؤلف -رحمه الله- لما فرغ من المقدمة التي أسس بها لهذه الرسالة وبهذا الباب "باب ما يوصف به الله عز وجل"، وأوضح بهذه المقدمة أن الكتاب والسنة فيهما الشفاء التام والنور والهدى في هذا الباب وغيره، وأن مذهب السلف هو الأسلم والأعلم والأحكم، شرع رحمه الله في بيان المذهب الحق في باب ما يوصف به الله - عز وجل - فقال : ثم القول الشامل في جميع هذا الباب، أي: باب ما يوصف به الله - عز وجل - أي: يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث.(1/144)
قوله: "لا يتجاوز القرآن والحديث" تأكيد على أن باب الصفات توقيفي على أيش؟ على الكتاب والسنة، طيب لماذا ذكر "وبما وصفه به السابقون الأولون"؟ كررنا هذا أكثر من مرة؛ لأجل أن تضبط دلالة نصوص الكتاب والسنة بفهم السلف، ولهذا قال: وبما وصفه به السابقون الأولون، ثم أراد التأكيد على أن كل ما ورد في باب صفات الله - عز وجل - هو متوقف على الكتاب والسنة، فقال: لا يتجاوز القرآن والحديث؛ لئلا يتوهم متوهم أن السلف وصفوا الله - عز وجل - بصفات ليس لها أصل في القرآن أو في الحديث.
ثم ساق كلام الإمام أحمد -رضى الله عنه ورحمه- "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو بما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوز القرآن والحديث" انتهى كلام الإمام أحمد، وقد ذكره ابن قدامة -رحمه الله- بمعناه في (لمعة الاعتقاد) ومن طريف ما يذكر هنا أن ابن جهبل الحلبي الشافعي المعاصر لشيخ الإسلام الذي رد على الحموية في كتابه (الحقائق الجلية فيما أورده ابن تيمية في الفتوى الحموية) أنه قال: يا ليته اقتصر على ما ذكره إمامه، يعني: الإمام أحمد، فقد جاء بكلام جميل، ثم ذكر كلام الإمام أحمد هذا وخلطه بكلام شيخ الإسلام، يعني: استمر في إيراد كلام الشيخ في الأسطر التي بعده، فهو أثنى على كلام شيخ الإسلام من حيث لا يدري، فهو يحسب أن كل هذا كلام الإمام أحمد.(1/145)
يقول: ومذهب السلف الآن هذه هي القاعدة العامة فيما يوصف به الله - عز وجل - ما ذكره الشيخ في هذين السطرين، أي: يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، هذه هي القاعدة، يريد أن يوضح ويشرح هذه القاعدة فيقول: ومذهب السلف، هم ينطلقون من تلك القاعدة أنهم يقتصرون على ما ورد في الكتاب والسنة، ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز أن يصف الإنسان ربه بصفة لم ترد في الكتاب والسنة، ومن وصف الله - عز وجل - بصفة ليست في أحد هذين المصدرين فقد تقوَّل على الله أيش؟ بلا علم، يقول الله سبحانه: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } (1)
ويقول سبحانه: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) } (2) فمن وصف الله بصفة ليس لها أصل في القرآن أو في الحديث فقد تقوَّل عليه بلا علم، وقوله: "وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم" إما بقوله، أو بفعله، أو بتقريره، فمن الأمثلة على وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه بقوله، الحديث الذي مر معنا: , ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك - هذا الآن النبي يصف ربه بقوله.
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 33.
(2) - سورة الإسراء آية : 36.(1/146)
ومن الأمثلة على وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - لله - عز وجل - بفعله، النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما كان يخطب كما في سنن البيهقي ثم قال: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) } (1)وأشار إلى سمعه وبصره لتحقق أو لتحقيق إثبات هاتين الصفتين، أيضا فعل النبي- صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم في حديث جابر الطويل، لما استشهد الناس بحجة الوداع قال:إنكم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال: اللهم اشهد - فأشار أيش؟ إلى العلو، هذا فيه إثبات لصفة العلو بفعله.
أما بتقريره -عليه الصلاة والسلام- فكما جاء في صحيح مسلم في حديث اليهودي الذي دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنا نجد أن الله - عز وجل - يضع السماوات على إصبع يوم القيامة والأرضين على إصبع والثرى على إصبع فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وأيضا حديث الجارية الذي مر معنا بصحيح مسلم لما سألها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء.
يقول: "من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل"، التحريف في اللغة هو التغيير، فيوصف الله - عز وجل - بالصفات لكن من غير تحريف، لا تحرف معاني هذه الصفات، والتحريف ينقسم إلى قسمين:
تحريف لفظي: وهذا قليل، بمعنى: أن يحرف المخالف لفظة جاءت في القرآن، والسبب في قلة ذلك أن الله - عز وجل - تكفل بحفظه، فلا يمكن لإنسان أن يزيد فيه حرفا أو ينقص، ويمكن أن يمثل لهذا النوع ما تفوه به بعض الجهمية عندما تلا قول الله - عز وجل - "وكلم اللهَ موسى تكليما" الآية: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } (2) فالمتكلم من؟ الفاعل الله -عز وجل سبحانه وتعالى- والمكلم موسى، هو نصب لفظ الجلالة لأجل أن يكون المكلَّم هو الله، موسى كلَّم الله، وهذا من التحريف اللفظي.
__________
(1) - سورة النساء آية : 58.
(2) - سورة النساء آية : 164.(1/147)
أما التحريف المعنوي: فهو صرف المعنى عن مقتضاه ودلالته بغير دليل، وهذا هو الغالب على صنع المعطلة؛ فإنهم حرفوا النصوص أو حرفوا معاني النصوص عن ظاهرها، وسموا هذا التحريف أيش؟ سموه تأويلا.
طيب لماذا الشيخ ما قال: من غير تأويل ولا تعطيل، لماذا قال: من غير تحريف؟ لأن التأويل منه ما هو حق ومن ما هو باطل، وسيأتينا إن شاء الله التفصيل في ذلك، هو ثلاثة أنواع: نوعان من حق، ونوع باطل وهو
الذي يستخدمه المعطلة؛ لكن التحريف بكل معانيه باطل؛ ولهذا هو اللفظ الذي جاء به القرآن: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } (1)
من الأمثلة على التحريف المعنوي تحريفهم لمعنى قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (2) ثم استولى على العرش، وأيضا تحريف اليد بالنعمة والقدرة، وتحريف النزول: نزول الأمر، أو نزول الملائكة، وغالب تحريفات أو تأويلات المعطلة هو من هذا النوع.
من غير تحريف ولا تعطيل.
التعطيل في اللغة: هو الخلو والفراغ، ومنه قول الله - عز وجل - { وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ } (3) ليس عليها غشاء ولا دلاء، وليس صادر ولا وارد.
وفي الاصطلاح: تعطيل الرب عما يستحقه أو عما يجب له من الأسماء والصفات أو بعضها، ثم قال: "ومن غير تكييف" بمعنى: أن السلف يصفون الله - عز وجل - من غير تحريف للمعنى أو للفظ، يبقون اللفظ على ظاهره كما سيأتي، ومن غير تعطيل لهذا اللفظ لما دل عليه، أو تعطيل الله من هذه الصفة. ومن غير تكييف.
__________
(1) - سورة النساء آية : 46.
(2) - سورة الأعراف آية : 54.
(3) - سورة الحج آية : 45.(1/148)
التكييف: هو حكاية كيفية الصفة، كقول القائل: يد الله كذا وكذا، يُكيّفها، نزول الله كذا وكذا، استواء الله كيفيته كذا وكذا؛ ولهذا يسأل عن ذلك بـ"كيف"، فمثلا يقال: كيف خرج زيد؟ يقال: خرج مسرعا، كيف حجم هذا الشيء؟ يقال: كبير صغير، فتحديد كيفية الشيء هي الكيفية، فالسلف -رحمهم الله- يثبتون لله الصفات، لكن من غير تحديد لكيفية هذه الصفات، طيب، هل لصفات الله كيفية؟ الجواب: نعم، لكن لا نعلمها، لا يعلمها أحد من الخلق.
والدليل على انتفاء العلم بكيفية الصفات النقل والعقل، أما النقل فقول الله - عز وجل - { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) } (1) ومعرفة كيفية الشيء فرع عن الإحاطة بالعلم بهذا الشيء، أيضا الله - عز وجل - يقول: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (2) { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) } (3) فمن حدد كيفية صفة من صفات الله - عز وجل - فقد تقوَّل على الله بلا علم، والسبب.. ما السبب؟ أنه ليس في الكتاب ولا في السنة دليل على إثبات كيفية هذه الصفات، نعم فيها إثبات الصفة، لكن ليس فيها كيفية الصفة؛ ولهذا اشتهر عن الإمام مالك وقيل عن ربيعة وقيل عن أم سلمة -سيأتي إن شاء الله- أن الاستواء معلوم والكيف مجهول، وقول السلف أمروها كما جاءت بلا كيف.
__________
(1) - سورة طه آية : 110.
(2) - سورة الإسراء آية : 36.
(3) - سورة البقرة آية : 169.(1/149)
كما أن العلم بكيفية صفات الله - عز وجل - منتفٍ عقلا؛ وذلك أن كيفية الشيء لا تُعلَم ولا تعرف إلا بأحد طرق ثلاث: إما رؤية هذا الشيء، أو رؤية مثيله، أو الخبر الصادق، فلو أخبرنا إنسان أو سمعنا عن مدينة من المدن فكيف نعرف كيفية هذه المدينة؟ إما أن نشاهدها، أو نشاهد مثيلها إن كان لها مثيل، عند ذلك يمكن أن يتصور الإنسان كيفية هذه المدنية لما يقال: هذه المدينة مثل هذه المدينة التي رأيت، يكون عنده تصور ومعرفة لكيفية هذه المدينة، طيب إذا لم يتيسر هذا ولا ذاك يأتيك صادق ويخبرك عن كيفية هذه المدينة: تفاصيلها طرقها أنهارها، أشجارها سكانها، فإذا لم يأت صادق خلاص انتفى العلم بكيفية هذه المدينة، ولله المثل الأعلى.
فهل أحد من الخلق رأى الله - عز وجل - أو رأى شيئا من صفاته؟ الجواب: لا، إذن الطريق الأول مسدود، تعذر الوصول عن طريقه، حتى الأنبياء؟ حتى الأنبياء، حتى الملائكة؟ حتى الملائكة، النبي - صلى الله عليه وسلم - أكرم وأعز الخلق وبلغ درجة لم يبلغها أحد من الخلق قاطبة ليلة الإسراء، ومع ذلك لما سأله أبو ذر: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه وفي رواية , حال بيني وبينه النور - والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: واعلموا أن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت - فرؤية الله - عز وجل - في الدنيا متعذرة.
ولهذا لما سألها موسى ماذا قال الله - عز وجل - { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ } (1) إن قَوِيَ هذا الجبل لرؤتي فسترى { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } (2)
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 143.
(2) - سورة الأعراف آية : 143.(1/150)
فهذه الأجسام التي ركبت في الدنيا للفناء لا يمكن أن تصمد لرؤية الباقي الدائم سبحانه وتعالى، فإذا أعيدت هذه الأجسام يوم القيامة وأعادها الله - عز وجل -للبقاء عند ذلك يمكن للمؤمنين أن يروا ربهم.
الطريق الثاني : هل لله مثيل؟ لا، تعالى الله عن ذلك: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (2) إذن متعذر الرؤية، ومتعذر رؤية المثيل.
هل جاءنا خبر صادق عن بيان كيفية الصفات؟ لا، هل الرسل أخبرتنا عن كيفية هذه الصفات؟ أخبرتنا عن الصفات ، أثبتت الصفات ، لكن كيفية هذه الصفات متعذر ، عند ذلك فالعلم بكيفية الصفة متعذر شرعا وعقلا.
ومن غير تكييف ولا تمثيل.
التمثيل: هو التسوية بين الشيئين، وهو تسوية الخالق بالمخلوق في صفاته أو بعض صفاته، هذا خلاف لمذهب مَن؟ المشبهة الممثلة، "من غير تكييف ولا تمثيل، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي"، وهذه العبارة أراد المؤلف أن يرد بها على من زعم أن ظاهر النصوص لا يدل على أيش؟ على هذه الصفات المفهومة منها، فيقول: كلام الله - عز وجل -وما وصف الله به نفسه فهو حق على حقيقته، ليس فيه إلغاز، تعمية للمراد وإظهار خلاف المعنى الحقيقي، وليس في أحاجي مخالفة المعنى للفظ، لا، بل هو حق، على حقيقته، على ظاهره، فإذا قال:
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (3) عرفنا المقصود بالاستواء، الاستواء معلوم، العلو والارتفاع، { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (4) نعرف معنى اليد وأنها يد حقيقية، لكن الله أعلم بكيفيتها.
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.
(2) - سورة مريم آية : 65.
(3) - سورة الأعراف آية : 54.
(4) - سورة المائدة آية : 64.(1/151)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما يقول: ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل - نعرف معنى النزول فهو حق، على حقيقته، على
ظاهره، بخلاف المفوضة الذين قالوا: الذي يظهر من نصوص الصفات ليس المراد، والمراد معنى آخر، ما هو هذا المعنى؟ قالوا: الله أعلم به، وخلافا لمذهب المعطلة المحرفة المؤولة الذين قالوا: ظاهر هذا النص ليس يدل على العلو والارتفاع، إنما هناك معنى بعيد أراده النص، ما هو المعنى البعيد الذي أراده النص؟ قالوا: الاستيلاء أو الملك، فيقال: كلام الله - عز وجل - على ظاهره حق على حقيقته ليس فيه إلغاز ولا تعمية للمراد، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه.
أراد أن يؤكد الشيخ على هذه الحقيقة فقال: لاسيما إذا كان المتكلم، يعني: الأصل في كلام الناس، الأصل في كلام عموم الناس العرب والعجم، الأصل فيه ما هو؟ ظاهره؛ ولهذا يتعامل الناس في الدنيا وفي كل شيء بظاهر الكلام، يقول: لاسيما إذا كان المتكلم مَن؟ أفصح الخلق، أفصح من أقلت الغبراء، فأفصح من نطق بالضاد هو المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو المتكلم بهذه النصوص، هو المبلغ لهذه النصوص، لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق وأفصح الخلق وأنصح الخلق.
ثلاثة أمور يستحيل معها أن يكون الكلام له معنى آخر؛ لأنه لو كان للكلام معنى آخر للزم لهذا الشخص المتكلم الذي هو النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي اتصف بأنه أعلم الخلق وأنصح وأفصح أن يبين أيش؟ أنه لا يريد هذا المعنى الظاهر إنما يريد معنى آخر، وسيأتي أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فإذا كان يتلو على المسلمين ويبلغهم قول الله - عز وجل - { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (1) { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) نعم ثم يسكت ويعلم ويتيقن أن هؤلاء السامعين الذين هم من العرب لا يعرفون من اليد على إطلاقها إلا اليد الحقيقية التي هي الصفة.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 64.
(2) - سورة ص آية : 75.(1/152)
ثم يقول قائل: لا، هو يريد القدرة أو النعمة، نقول: لو أراد ذلك لوجب عليه أيش؟ بيان، لقال أمام الناس: أنا أريد هذا المعنى، أو أتى في الكلام بقرينة يدل على أنه لا يريد هذا المعنى الظاهر إنما يريد معنى آخر، وهذا من أقوى ما يرد به على هؤلاء؛ لأن كلامهم هذا -هم يقولون: إن ما يظهر من اللفظ ليس مرادا- هذا فيه اتهام لمن؟ اتهام للنبي - صلى الله عليه وسلم -أنه عمَّى عن الخلق، وفي ماذا؟ في العبادات، في أعظم ما دعا الناس إليه، في أصول العقيدة، يتكلم عليهم بكلام وهو يريد معنى آخر ثم يسكت لا يبين!
هذا لا يفعله ولا يقوله آحاد الناس بل أبلد الناس، فضلا عن أن يحصل من هذا الذي جمع الله - عز وجل - ثلاث صفات: العلم، أعلم الخلق؛ لأنه لو لم يكن أعلم الخلق -نعم ربما بسبب الجهل- ما بين للناس، فإذا اجتمع مع العلم الفصاحة أنه يستطيع أن يبين، قد يكون عند الإنسان علم لكن ما يستطيع أن يبين مراد علمه، ثم النصح، كيف تترك الخلق، تترك الناس يخفى عليهم الحق، ويضطربون ويختلفون ولا تبين لهم الحق.
س: أحسن الله إليك يا شيخ، يقول: ما رأيك فيمن يقول: أن عندنا دليلا نقليا عن النبي -عليه السلام- في إثبات كيفية الله - عز وجل - وهو قول النبي عليه السلام: خلق الله آدم كصورته، أو كصورة الرحمن(1/153)
ج : لا، ليس هذا فيه يسأل الأخ يقول: من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر لنا في الحديث كيفية صفة من صفات الله - عز وجل - وهو الحديث الذي ورد في صحيح مسلم: إن الله خلق آدم على صورته وعند ابن خزيمة وغيره على صورة الرحمن على كل هذا الحديث ليس فيه بيان لكيفية الصفة، وسيأتي إن شاء الله الحديث عليه تفصيلا، بل هو حق على ظاهره، وليس فيه ما يدعو للنُفرة، فالصورة كما قال ابن قتيبة -رحمه الله- الصورة كسائر الصفات، مثل اليد، مثل الوجه، مثل الاستواء فلا فرق بين هذا وتلك، والإمام أحمد يقول: من صرف هذا اللفظ عن ظاهره فهو جهمي، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه تفصيلا فلا نستعجل في الحديث عنه.
وهو -سبحانه- مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله، فكما يتيقن أن الله -سبحانه- له ذات حقيقة وله أفعال حقيقة فكذلك له صفات حقيقة، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصا أو حثا فإن الله منزه عنه حقيقة، فإنه -سبحانه- مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم؛ ولافتقار المحدَث إلى المحدِث، ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى .
ـــــــــــــــــــــــ
نعم في الجملة الأولى: "وهو -سبحانه- مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله" يقول: مع أن أهل السنة يثبتون لله هذه الصفات فهم ينفون عنه مماثلة المخلوقات، ثم أوضح وجها من وجوه الرد على هؤلاء الذين نفوا بعض الصفات، وهذه من القواعد العامة التي يمكن أن يُرَد بها على كل من أثبت شيئا ونفى مثيله، فيرد بها على الجهمية ويرد بها على المعتزلة، ويرد بها من باب أولى على الأشاعرة، أن القول في الصفات كالقول في الذات.(1/154)
فالشيخ يقول: "وهو -سبحانه- ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله، فكما يتيقن أن الله -سبحانه- له ذات حقيقة" أنتم معاشر الأشاعرة، أنتم معاشر المعتزلة، أنتم معاشر الجهمية، ألستم تثبتون لله ذات وإلا لا، نعم يقولون: لله ذات؛ لأنهم إذا نفوا أن يكون لله ذات قالوا: إنه عدم، فكما أن لله ذات وهذه الذات أيضا لها أفعال، أنتم ألستم تثبتون أن الله خالق رازق، يحيي ويميت، ينفع ويضر، وإلا لا، هذه أفعال الله؛ إذن فكما أنه له ذات لا تماثل بقية الذوات، وله أفعال لا تماثل أفعال المخلوقين، فكذلك هذه الذات موصوفة بصفات لا تماثل سائر الصفات، صفات الخلق، فكما أن له ذات حقيقة فله صفات حقيقة، وذاته لا تماثل ذوات المخلوقين، فصفاته لا تماثل صفات المخلوقين. واضح؟
فصفاته لا تماثل صفات المخلوقين، ولهذا قال الأئمة: إذا قال الجهمي لك أيها السني: كيف استوى الله - عز وجل - أو كيف ينزل؟ فاعكس عليه السؤال، قل له: كيف ذاته؟ إذا قال: الله أعلم، قل: الله أعلم بكيفية استوائه، إذا كنت تجهل الذات فأنا أجهل كيفية استواء الله - عز وجل - أنت تثبت ذات وأنا أثبت صفة لهذه الذات، لكن لا أكيّف، لا أمثّل، لا أشبّه، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا فإن الله منزه عنه حقيقة، فإنه -سبحانه- مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، نعم.
عندنا قاعدة عامة: أن الله منزه عن كل نقص، موصوف بالكمال المطلق -سبحانه وتعالى-، ولهذا كل صفة
استلزمت نقصا فنحن ننزه الله - عز وجل - عنها، وهنا ينبغي التنبه إلى أن ليس كل صفة كمال بالنسبة للمخلوق هي صفة كمال بالنسبة للخالق.(1/155)
ولهذا القاعدة الجامعة المانعة: لا نقول كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أولى به، الأفضل ولأجل أن نحترز ألا ترد علينا بعض صفات المخلوق التي هي كمال من جهة لكنها نقص من جهة أخرى أن نقول: كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به.
فقد يأتينا قائل ويقول: أنتم تقولون أن الله له الكمال المطلق، الأكل والشرب بالنسبة للمخلوق صفة كمال أم صفة نقص؟
- نقص، والله ما أدري، أخوكم يقول صفة نقص، بمعنى هذا الذي لا يأكل ولا يشرب وعلى السرير وموضوع له المغذي هذا أكمل من هذا الذي يأكل ويشرب، كذا.
- وكمال، نقص وكمال.
إذن هي بالنسبة للمخلوق صفة كمال، مثل النوم، الإنسان الذي ينام أكمل من ذاك الشخص الذي أصيب بمرض الأرق فلا ينام أبدًا، لكن هل هما صفة كمال من كل الوجوه؟
الجواب لا، هي صفة كمال من جهة، لكن صفة نقص من جهة أخرى، مثل الولد، من يولد له أكمل من العقيم، لكن ليست هذه صفات كمال من كل الوجوه، فالأكل والشرب والنوم والولد دليل على الحاجة، الإنسان محتاج للنوم، فهذا صفة كمال أم صفة نقص؟ صفة نقص، الحاجة صفة نقص، واضح؟ مثل الأكل، الشرب.
إذن الله - عز وجل - له الكمال المطلق المنزّه عن كل نقص.
ثم قال الشيخ: القاعدة: كل كمال ثَبَتَ للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به.
مثاله: الحياة بالنسبة للمخلوق، كمال أم نقص؟ الحياة كمال من كل الوجوه، العلم كمال من كل الوجوه، فالخالق أولى بالاتصاف بها، يقول: فإن الله منزه عنه حقيقة إنه -سبحانه- مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث.
لماذا لا يمتنع عليه الحدوث؟ هذه مصطلح أو أدلة عقلية لامتناع العدم عليه؛ لأن الحادث هو المسبوق بماذا؟ بالعدم، فهذا المخلوق، كل المخلوقات حادثة أم واجبة الوجود بنفسها؟ حادثة، إذن هي وُجِدت من لا شيء.
ويمتنع عليه الحدوث، لماذا يمتنع عليه الحدوث؟ لامتناع العدم عليه، كونه لم يسبق بالعدم -سبحانه-، فهو -(1/156)
إذن- ليس بحادث، وصفاته تبع له سبحانه.
واستلزام الحدوث سابقه العدم. هي تفسير نفس العبارة السابقة.
والافتقار المحدَث إلى محدِث، يعني لو قلنا أن الله - عز وجل - محدَث -تعالى الله عن ذلك- لاستلزمَ أن يكون له محدِث، هذه قاعدة عقلية: كل محدَث لا بد له من محدِث، { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) } (1) ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه فالله - عز وجل - واجب الوجود بنفسه، وواجب الوجود بنفسه هو الذي لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم.
وقول المؤلف بنفسه احترازًا من ماذا؟ واجب الوجود بغيره، ما هو واجب الوجود بغيره؟
نحن الآن عرّفنا أن واجب الوجود هو الذي لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، وقد يعترض علينا معترض ويقول: الجنة وأهل الجنة، باقية أم يلحقها الفناء؟ باقية إلى أبد الآباد، لكن هل بقاؤها بنفسها أم بإبقاء الله - عز وجل - لها؟ بإبقاء الله - عز وجل - لها. هذا دليل على أنها مخلوقة، واضح؟ فالله هو الواجب الوجود بنفسه. نعم.
ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - فيعطلون أسماؤه الحسنى وصفاته العلا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسماء الله وآياته.
نعم، أهل السنة والجماعة وسط بين المعطلة والممثلة، مذهبهم التوسط كحال هذه الأمة،
__________
(1) - سورة الطور آية : 35.(1/157)
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (1) فهم لم يغلوا كغلو المعطلة، ولم يجفوا كجفاء الممثلة، يثبتون خلافًا لمذهب المعطلة، وينزهون خلافا لمذهب الممثلة، يجمعون بين قول الله - عز وجل - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (2) .
فالمعطّلة اقتصروا على جانب من النصوص التي فيها ماذا؟ أدلة المعطلة ما هي؟ من القرآن، الأدلة التي فيها التنزيل كقوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (3) { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (4) { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } (5) { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } (6) يأخذون هذا الجانب ويغمضون أعينهم عن الجانب الآخر الذي فيه الإثبات.
الممثّلة قابلوهم على النقيض؛ فأخذوا بالنصوص التي فيها إثبات: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (7)
{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (8) { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (9) نعم، وأغمضوا أعينهم عن الجانب الآخر.
أهل السنة والجماعة جمعوا بين نصوص هؤلاء ونصوص هؤلاء، ولهذا أخذوا بالحق الذي عند المعطلة، وهو ماذا؟ ما هو الحق الذي عند المعطلة؟ التنزيل، والحق الذي عند الممثلة، ما هو؟ الإثبات. وجمعوا بينهما، أثبتوا مع التنزيل.
المعطلة: كل من عَطَّلَ ما وصف الله به نفسه ووصفه بها رسوله، سواء من الصفات أو الأسماء أو عطل بعضها، وقلنا إن رءوس أهل التعطيل ثلاثة فرق: الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 143.
(2) - سورة الشورى آية : 11.
(3) - سورة الشورى آية : 11.
(4) - سورة الإخلاص آية : 4.
(5) - سورة مريم آية : 65.
(6) - سورة النحل آية : 74.
(7) - سورة الشورى آية : 11.
(8) - سورة المائدة آية : 64.
(9) - سورة الفتح آية : 10.(1/158)
المشبهة الممثلة: هذا في الواقع ليس له مذهب له كيان كحال المعطلة، وإنما مذهب التمثيل ومذهب التشبيه انتشر في بعض الفرق، وأبرز من ظهر عندهم التشبيه والتمثيل الرافضة وغلاة الصوفية الحلولية، ومن أوائل من قال بالتشبيه -وكفَّرهم العلماء على ذلك- هشام بن الحكم الرافضي، وهشام بن سالم الجواليقي وداود الحواري.(1/159)
المؤلف يقول السلف -رحمهم الله-: لا يلحدون في أسماء الله وآياته، والإلحاد في اللغة هو الميل، ولهذا سمي اللحد لحدًا لأنه مائل عن وسط القبر، أما في الاصطلاح فهو العدول بآيات الله - عز وجل - أو بما دلت عليه عن حقائقها، والإلحاد -كما ذكر المؤلف- ينقسم إلى قسمين: إلحاد في أسماء الله - عز وجل - وهو الذي جاء في قوله: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } (3) .
وللإلحاد في أسماء الله صور ذكرها ابن القيم -رحمه الله- منها: تسمية الله - عز وجل - بما لم يسمِّ به نفسه، كتسمية النصارى له بماذا؟
__________
(1) - سورة المائدة آية : 64.
(2) - سورة الفتح آية : 10.
(3) - سورة الأعراف آية : 180.(1/160)
- أب ، أب. وكتسمية الفلاسفة له بالعلة الأولى أو العلة الفاعلة.
من صور الإلحاد في أسماء الله - عز وجل - تعطيلها، تعطيل الرب عنها، كما صنع من؟ من الذي نفوا عن الله الأسماء؟ الجهمية.
هذا نوع من الإلحاد في أسماء الله، أن يعطل الرب -سبحانه وتعالى- عن هذه الأسماء.
من أنواع الإلحاد في أسماء الله - عز وجل - تعطيلها عن معانيها وجعلها أعلام محضة، كما صنع المعتزلة، يقولون: الله سميع لكن لا يتصف بالسمع، يجردونها عن معناها، علم محض، كما أنني أسمي هذا خالدا وليس بخالد، وهذا محمودا وليس بمحمود، نعم، وهذه المرأة جميلة وهي ليست بجميلة، يقولون أيضا أسماء الله - عز وجل - علم على الله، لكن لا تدل على صفات، الله سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، حكيم بلا حكمة، قوي بلا قوة، هذا مذهبهم، وهذا نوع من الإلحاد في أسماء الله - عز وجل - .
ومن الصور التي ذكرها ابن القيم للإلحاد في أسماء الله أيضا قال: تسمية المخلوق بها، ومثّل باشتقاق المشركين العزى من العزيز، واللات من الإله.
الشاهد أي عدول بأسماء الله - عز وجل - عن المعنى الذي أراد الله وأراد رسوله يعتبر إلحادا فيها.
النوع الثاني يقول: ويلحدون في أسمائه وآياته. والإلحاد بآيات الله - عز وجل - ينقسم إلى قسمين أيضا، وجاء ذكر الإلحاد في آياته في قول الله - عز وجل - { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } (1)
فهناك إلحاد في آيات الله الشرعية الذي هو كلام الله المنزل، والإلحاد في آيات الله إما إنكار هذه الآيات أو إنكار بعضها، كمن أنكر أن يكون هذا القرآن كلام الله - عز وجل - أو جحد شيئا من آيات الله - عز وجل - قال هذه الآية ليست من القرآن، فهذا نوع من الإلحاد في آيات الله الشرعية.
__________
(1) - سورة فصلت آية : 40.(1/161)
كذلك من أنواع الإلحاد في آيات الله الشرعية تحريف معانيها، كما هي حال الباطنية الذين قالوا: هذه النصوص لها معان، ليست هذه المعاني التي تظهر منها.
أيضا من التحريف في آيات الله - عز وجل - الشرعية: تعطيل الأوامر والنواهي التي تضمنها هذا الكلام، كلام الله - عز وجل - .
كذلك من أنواع التحريف لآيات الله - عز وجل - الشرعية عدم تحكيم هذا الكتاب، هذا الكتاب أنزله الله - عز وجل - لتدبره، لفهم معانيه، والعمل بمقتضاه وتصديق أخباره وأيضا ليكون شرعا ودستورا للأمة.
والنوع الثاني من الإلحاد في آيات الله الآيات الكونية: السماوات والأرض، كل ما خلقه الله - عز وجل - في الكون، ومن صور الإلحاد في آيات الله الكونية: أن ينسب التصرف فيها لغيره -سبحانه وتعالى- كحال غلاة عباد
القبور، غلاة عباد الأولياء الذين يزعمون أن هذا الكون الذي يتصرف فيه من؟ الأولياء، نعم.(1/162)
- وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل، فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، مثّلوا أولا وعطّلوا آخرا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو -سبحانه- من الأسماء والصفات اللائقة بالله -سبحانه وتعالى-.
فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم أن يكون إما أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا، وكل ذلك محال ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال الله ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها.
ـــــــــــــــــــــــ(1/164)
نعم، يقول: كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، يعني كل من المعطل والممثل قد جمع بين التعطيل والتمثيل، فالمعطل معطل ممثل، والممثل ممثل معطل، وبيان ذلك أن المعطل لن يصل إلى مرحلة التعطيل إلا بعد أن مثل، فهو مثلا جاء لقول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1)ففهم من هذا النص أنه إن أثبته على ظاهره فيلزم من هذا أن يكون استواء الله كاستواء المخلوق.إذن الآن مثّل أم لم يمثّل؟ هو الآن مثل، ثم انتقل بعد ذلك إلى التعطيل فعطل صفة الاستواء، ولهذا يقول: أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق.
جاءوا بهذه الأسماء والصفات التي جاءت في القرآن والسنة، وفهموا أن هذا النزول الثابت لله - عز وجل - هو مثل نزول المخلوق وأن هذا المجيء الثابت لله - عز وجل - مثل مجيء المخلوق، وأن هذه الرحمة الثابتة لله - عز وجل - هي مثل الرحمة الثابتة للمخلوق، ثم بعد ذلك شرعوا في نفي تلك المفهومات.
الذي ظهر من هذا النص إثبات الاستواء، هو المفهوم من هذا النص نفوه؛ لأنهم اعتقدوا أن هذا فيه تمثيل وتشبيه، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، هم فروا من التمثيل، لكنهم في واقع الأمر ماذا؟ مثلوا.
أيضا هناك وجه آخر للتمثيل ما ذكره الشيخ هنا، لكن ذكره في مواضع أخرى عند هؤلاء المعطلة، وأي معطل أي كان تعطيله حتى غلاة المعطلة، هؤلاء الذين نفوا عن الله الصفات فرارا من ماذا؟
- التشبيه.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.(1/165)
من التشبيه، التشبيه بماذا؟ بالمخلوق، بهذا المخلوق، يعني مثلا معتزلي لما نفى عن الله - عز وجل - السمع والبصر لأجل ألا يشبهه ويمثله بهذا المخلوق الذي يسمع ويبصر، نقول له: أنت الآن فررت من تمثيل فوقعت في تمثيل أشد وأنكى، مثلت الله - عز وجل - بماذا؟ بالجمادات التي لا تسمع ولا تبصر، أنت تقول: الله ليس له سمع ولا بصر، والذي ليس له سمع ولا بصر هو الجماد، واضح؟
كذلك الأشاعرة، كذلك الجهمية، فعندهم نوعان من التمثيل: كونهم أولا مثلوا ثم عطلوا، وأيضا كونهم لما عطلوا الرب -سبحانه وتعالى- فروا من تشبيه الله بهذا المخلوق، فوقعوا في تشبيه أشد وأنكى، وأشرنا إلى هذا في مذهبهم لما قالوا: إن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه، فروا من تشبيه الله - عز وجل - بالمعدوم ممكن الوجود، إلى تشبيهه بالمعدوم مستحيل الوجود، متعذر الوجود.
يقول: وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو -سبحانه- من الأسماء والصفات اللائقة بالله -سبحانه وتعالى-، فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم أن يكون إما أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا.
هذه حقيقة شبهة يوردها الأشاعرة على أهل السنة في إثبات الاستواء، يقولون: وممن أوردها الغزالي في (قواعد العقائد) عنده رسالة صغيرة، وأيضا أوردها الرازي في كتابه (أساس التقديس)، وأوردها النيسابوري في كتابه (الغُنية في أصول الدين)، هذه إحدى الشبه التي نفوا بها صفة الاستواء لله - عز وجل - قالوا: يا أهل السنة إذا أثبتم الاستواء فيلزمكم أن تثبتوا أن الله إما أن الله أكبر من العرش أو أصغر أو مساوٍ، وهذا فيه تحديد وفيه تشبيه، وكل ذلك محال، يقول: لبيان كيف وردت لهم هذه الشبهة، وأنها ما وردت لهم إلا بسبب أنهم وقعوا في التشبيه أولا ثم عطلوا.
يقول: فإنه لم يفهم من كون الله - عز وجل - على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان.(1/166)
لما سمع قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) وسمع أن أهل السنة يثبتون الاستواء على العرش تبادر إلى ذهنه أن استواء الله على العرش مثل استواء المخلوق على المخلوق، استواء كائن على كائن، هذا الذي تبادر إلى ذهنه، هذا الذي فهمه من النص.
يقول: وهذا اللازم، ما هو اللازم؟ الذي ألزم أهل السنة وألزم نفسه به لأجل أن لا يثبت الاستواء، فقال: إني إذا أثبت الاستواء فيلزم أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساو، هذا اللازم تابع لهذا المفهوم، يعني كيف جاء هذا اللازم؟ لما فهم أن كل استواء ما هو إلا استواء كائن على كائن، استواء مخلوق على مخلوق، هذا المفهوم الباطل هو الذي جرّه لهذا اللازم الباطل، واضح؟ واضح أم غير واضح؟
يقول: وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم. وهو في واقع الأمر وقع في أربع محاذير، هو بهذا اللازم وبهذا المفهوم الباطل وقع في أربع محاذير
المحذور الأول: أنه مثّل ما فهمه من النص بصفات المخلوقين، وظن أن هذا هو ظاهر النص، يعني الآن لما سمع قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (2) ظن أن ظاهر النص يدل على ماذا؟ أجيبوني.
ظاهر قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (3) ظن أنه يدل على ماذا؟ على التشبيه، إذن يعتقد أن ظاهر النص هو التشبيه، هذا هو المحذور الأول: أنه جعل ظاهر النصوص التشبيه.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.
(2) - سورة الأعراف آية : 54.
(3) - سورة الأعراف آية : 54.(1/167)
المحذور الثاني: لأجل أن يفر من هذا المحذور ماذا فعل؟ عطل النص عن مدلوله، النص دال على الاستواء، فلأجل أن يفر من هذا المحذور عطّل النص عن دلالته، قال: النص هذا لا يدل على الاستواء الذي هو العلو والارتفاع، عند ذلك صار عندنا النص معطل أم معمل؟ معطل، إذن هذا في المحذور الثاني.
المحذور الثالث: أنه عطل الله - عز وجل - عن هذه الصفة، الله موصوف بالاستواء، فعطل، قال: الله - عز وجل - ليس مستويا على عرشه، ثم وقع في المحذور الرابع وهذا في الصفات الأخرى، يمكن أن تمثلها في الصفات الأخرى
أنه وصف الله - عز وجل - بنقيض هذه الصفة، فإذا نفى عنه السمع فيلزم أن يثبت له أنه ليس بسميع وإلا لا، فهو وقع في أربع محاذير بسبب هذا المفهوم الباطل.
يقول: أما استواء يليق بجلال الله ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها.
لو أثبت الاستواء كما أثبته الأنبياء والرسل والسلف والأئمة والصحابة استواء يليق بجلال الله وعظمته، لَمَا حصلت عنده هذه اللوازم الباطلة التي وقع بسببها في محاذير متعددة، ألحد في آيات الله وفي ماذا؟ وفي أسمائه، هوالآن بهذه المحاذير الأربعة وقع في نوعين من الإلحاد: إلحاد في أسماء الله وصفاته، وهي تعطيل الرب ووصفه بنقيضها، وإلحاد في آيات الله؛ أنه اعتقد أن ظاهر النص التشبيه، وعطل النص عن دلالته، فهو جمع بين الإلحاد في آيات الله والإلحاد في أسمائه، والسبب أنه لم يثبت الاستواء اللائق بالله - عز وجل - .
وسيوضح المؤلف -إن شاء الله- في الأسطر السابقة أنه ليس هناك أي تشبيه إذا أثبتنا لله الاستواء كما يليق به -سبحانه وتعالى-، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/168)
هذا سؤال يقول: ابتلي كثير من الشباب بلبس البنطلون أو البنطال، ويدعي أنه صار من لباس المسلمين وليس على منعه دليل من الكتاب ولا من السنة.
أقول: الأصل في اللباس الإباحة أم المنع؟ الإباحة، كما أن الأصل في العبادات المنع، فالأصل في كل لباس أنه جائز إلا ما استثناه الشرع، لبس الحرير على الرجال، لبس الذهب على الرجال، لبس المرأة لملابس الرجل، أو لبس الرجل لملابس المرأة، كذلك اللباس الذي فيه تشبه بالكفار من الجنسين سواء من الذكور أو الإناث.
يبقى عندنا بعض الملابس هل فيها تشبه أو ليس فيها تشبه؟ فأظن أن الكلام يدور في قضية لبس البنطال أو عدم لبس البنطال حول علة ماذا؟ التشبه.
فيقال: عندنا قاعدة في التشبه، هناك أشياء هي من خصائص الكفار لا تتغير بمرور الزمن ولا بتغير المكان، من ذلك: مثل الأعياد البدعية عندهم، عيد الميلاد وإلى آخره، هذه باقية، ومن عملها في أي زمان أو مكان فهو متشبه بالكفار، وعندنا أشياء قد تكون في بدايتها خاصة بالكفار، ثم ماذا؟ تصبح عامة، تصبح ليست علما على الكفار، فهذا اللباس نعم ربما أول ما جاء للمسلمين جاءهم من الغرب، لكنه في هذه العصور المتأخرة في واقع الأمر صار لباسا مستساغا بين المسلمين، فيطبق في حقه ما يطبق في اللباس الآخر، الضوابط الشرعية، نعم، لا يكون رقيقا بحيث إنه يصف العورة، الضوابط التي في عموم اللباس تطبق على البنطال.
أيضا ينظر في البيئة التي يعيش فيها هذا المسلم، فإن كانت البيئة الأصل فيهم اللباس هذا المعتاد، مثل لباس أهل هذه المنطقة، فيأتي رجل من أهل هذه المنطقة ويلبس بين ظهراني الناس البنطال والقميص نقول: هذا أمر(1/169)
مستنكر، قد يكون فيه جانب آخر من المخالفة وهي الشهرة، واضح؟ لكن إنسان يعيش في بعض هذه البلاد الذي هذا هو اللباس المعتاد، ما فيها أي استنكار لشخص لبس هذا اللباس، فالذي يظهر أنه لا شيء في ذلك، وأيضا يأتي في قضية أخرى بحسب قصد من لبس هذا اللباس، إن لبسه تشبهًا بالكفار فالحكم باقٍ، وإن لبسه لا على أنه لباس كسائر اللباس فالأمر فيه السعة، ولا يُضيق على الناس واسع، والله أعلم.
هذا غير، هو الآن السؤال يأتي بقضية لبس النساء للبنطال، والسؤال لبس الرجل للبنطال، أما لبس المرأة للبنطال ففتوى الشيخ نعم هذه موجودة، هو يمنع منها -رحمه الله-، لكن يطبق في حقها ما يطبق، فإذا كان ساترا فضفاضا، ليس فيه تشبه وليس فيه إبداء للزينة فما المانع، نعم الشيخ منعه من منطلق أنه تشبه، أقول: إذا كان تشبه حتى للمرأة عند زوجها الذي يجوز أن تتعرى عنده، نقول: لا يجوز أن تلبسه، أما إذا لبسته على أنه مظهر من المظاهر التي تتجمل به لزوجها فالمسألة فيها سعة، والله أعلم. نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول: ما رأيكم فيمن تعلم علم المنطق كحفظ متن إيثاغوجي ثم ما بعده، وذلك لمن ضبط منهج أهل السنة، وذلك لفهم شيخ الإسلام وغيره وإفهام الخصوم؟
ج: علم المنطق -يا إخوان- علم آلة، لا شك الشيخ -رحمه الله- في أول كتابه الرد على المنطقيين أنه لا يستفيد منه الغبي ولا ينتفع به الذكي أو العكس، لكنه يبقى علم آلة، فإذا سلم من المحاذير فلا مانع أن الإنسان يتعلمه بشرط ألا يدفعه ذلك إلى التشكيك في بعض المسلمات الشرعية. نعم.
س: السلام عليكم، هل يجوز للإنسان إذا وصف صفات الله كالسمع والبصر، هل يجوز له أن يشير إلى أذنيه أو عينيه؟(1/170)
ج: هذه مسألة -يا إخوان- فيها تفصيل، النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم ثبت كما ذكرت لكم في سنن البيهقي أنه قال على المنبر: { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) } (1) وأشار على سمعه وبصره - وقال العلماء: إن الإشارة هنا لبيان إثبات حقيقة الصفة لله- عز وجل - والإمام أحمد -رحمه الله- كما عند اللالكائي رأى واعظًا يتكلم وذكر حديث: إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن وأشار بإصبعيه وحركهما، فغضب الإمام أحمد وقال: قطعها الله، قطعها الله، قطعها الله، وانصرف.
فكيف نجمع بين هذا؟ أيضا النبي- صلى الله عليه وسلم - لما ذكر هذا الحديث حرّك أصابعه، فالجمع أن المتكلم إذا أمن على المستمعين ورود التشبيه عندهم، نعم، وكان أيضا هو ممن يوثق أنه ليس عنده مبدأ تشبيه، فلا مانع، بشرط ألا يشوش هذا على المستمعين، أما إن انتفى أحد الأمرين، بمعني أن المستمعين ربما يشوش عليهم هذا الأمر، أو ربما يفهم أن هذا فيه تشبيه، أو كان المتكلم عنده مظنة التشبيه والتمثيل فلا، لا يجوز. نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول: قال الله تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } (2) .
__________
(1) - سورة النساء آية : 58.
(2) - سورة الزمر آية : 68.(1/171)
ج: هذا نفس المسألة، يقول: كيف نرد على من زعم أن مذهبنا هو التشبيه والتمثيل، ويستدل على ذلك بحديث بن عمر عند مسلم، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبض الله السماوات بيد والأرض بيد فيهزهن ويقول: إلى آخر الحديث. أقول: هذا مثل قضية النبي عمل هذا لتحقيق إثبات هذا الأمر وليس بتشبيه يده بيد الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. نعم.
س: السلام عليكم، يقول: قال الله تعالى: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } (1) هل يدخل في قوله { إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } (2) الحور العين الذين في الجنة بحيث أن الجنة موجودة الآن.
ج: هذه المسألة تكلم عليها العلماء، وذكروا أن مما استثني أو مما يدخل في هذا الاستثناء الحور العين بأن الله - عز وجل - .خلقهن للبقاء، ولهذا النبي في حديث التفضيل، حديث اليهودي الذي قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فلطمه الصحابي، وقال: أتقول هذا ورسول الله بين أظهرنا، ثم جاء يشتكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الحديث وفيه: فأكون أول من أفاق أو من يفيق، فإذا أنا بموسى باطش بقائم من قوائم العرش، فلا أدري أهو ممن استثنى الله أم جوزي بصاعقة الطور ؟ نعم.
س: السؤال عليكم يقول: ما أصل هذه المقولة: الله لم نره ولكننا بالعقل عرفناه؟
ج: يظهر أنها على ظاهرها، وليس فيها محظور، نعم، الله - عز وجل - لم يره أحد من الخلق، ولن يراه أحد من الخلق في الحياة، لكن عرفناه بعقولنا، الله - عز وجل - أعطانا هذا العقل، ويمكن عن طريقه أن نثبت وجوده، نثبت أنه واحد لا شريك له، نثبت أن له صفات الكمال على وجه العموم، وأنه منزه عن صفات النقص. نعم.
__________
(1) - سورة الزمر آية : 68.
(2) - سورة النمل آية : 87.(1/172)
كيف؟ عُرف بالعقل والشرع، ولهذا إثبات وجود الله - عز وجل - ثبت بالأدلة العقلية التي جاء بها الشرع
{ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) } (1) هذا دليل عقلي، خاطب الله - عز وجل - عقول هؤلاء المنكرين بهذا الدليل العقلي وهم لا يؤمنون بالقرآن. نعم.
س: يقول: هل يجوز تسمية المخلوق بكريم وعزيز وحميد؟
ج: تسمية المخلوق بأسماء الله - عز وجل - التي لا يختص بها، هذا جائز والله - عز وجل - ذكر ذلك في القرآن، فسمى نفسه عزيزا وسمى ملك مصر العزيز، وسمى نفسه ملكا وسمى المخلوق بالقرآن ملك، لكن الأسماء الخاصة به -سبحانه- مثل الله والرحمن، هذه لا يجوز أن يتسمى بها مخلوق.
وهذا الاشتراك لا يزال من التشبيه، هذا الاشتراك والتشابه بين اسم المخلوق واسم الخالق هذا في المعنى العام، وكل له ما يخصه من هذا المعنى، نعم.
س: السلام عليكم، يقول: أنا أخوكم من أفريقيا، بعض الأشاعرة عندنا يقولون: إن أشرنا بأصابعنا إلى السماء فهذا يقتضي التجسيم، كيف نرد على هذا؟
__________
(1) - سورة الطور آية : 35.(1/173)
ج: هذه نعم إحدى الشبه التي نفوا بها صفة العلو لله - عز وجل - شبهة من شبه الأشاعرة أننا إذا أثبتنا لله العلو فهذا يستلزم التجسيم، ورد عليهم العلماء أن هذا قول باطل، ولا يلزم من إثبات العلو التجسيم، كما أن لفظ التجسيم ولفظ الجسم من الألفاظ المجملة التي لا بد فيها من بيان المعنى المراد، فقد يطلق الإنسان هذه اللفظة مثل لفظ الحيز، لفظ الجهة، لفظ العرض، حلول الحوادث، كل هذه من الألفاظ المجملة، الألفاظ المحدثة التي لم ترد بالكتاب ولا بالسنة، لا بنفي ولا بإثبات، فمن أطلقها على الله سُئل عن مراده، ما مرادك من هذه اللفظة، فإن أراد حقًا أُثبت المعنى دون اللفظ، وإن أراد باطلا كما هو الحال عند هذا الأشعري رد المعنى واللفظ، فإثبات العلو لا يستلزم التجسيم بالمعنى الباطل الذي أراده هؤلاء، وهو أن الجسم هو المركب من الجواهر المفردة، واضح؟ نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول: ربما يقول قائل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ونصح، ولكن لم يصلنا بيانه في الصفات، فماذا نرد عليه؟
ج: يقال إذا قلت هذا الكلام فأنت تشك أن هذا الدين نعم لم يحفظ، إذا كنا نعتقد أن ديننا محفوظ بحفظ الله - عز وجل - في كل دقيقة وجليلة فمن باب أولى أن يحفظ لنا في هذه المسائل الكبار، فهذه الاحتمالات لا حد لها،ربما يقول إنسان يقول من قال لكم إن هذه الصلوات خمس؟ ربما النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع سبع صلوات! نسخ هذا الحكم، فربما واحتمال لا ترد عندنا في شرعنا فإن ثبت فما دليلك؟ وإن لم يثبت فنحن على الأصل، نعم.(1/174)
والأصل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلغنا هذا الدين وبلغنا هذا القرآن، ونقله لنا الصحابة والسلف -رحمهم الله- مئات وآلاف النصوص وليس هناك نص واحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة الذين سمعوا منه أنه قال أنا لا أريد هذا المعنى إنما أريد المعنى آخر، أين نقول؟ أنى لكم هذا؟ فمن أثبته فعليه الدليل، كيف نترك هذه النصوص التي لا حصر لها لهذه الاحتمالات الباطلة؟! والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
إثبات صفة العلو والاستواء لله - عز وجل -
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد عليه وعلى صحبه وآله وسلم، قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
"وصار هذا مثل قول الممثل إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهرا أو عرضا، إحداهما محال؛ إذ لا يعقل موجودا إلا هذان، أو قوله إذا كان مستويا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك؛ إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كلاهما مثل وكلاهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين" .
ـــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء المرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
لا زال كلام المؤلف في بيان أن كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل جامع بين التعطيل والتمثيل، وبيّن -رحمه الله- في الكلام السابق كيف جمع المعطل بين التعطيل والتمثيل، وأورد على ذلك استدلالا أنه قال: إذا كان الله مستويا على العرش للزم على ذلك أن يكون أكبر أو أصغر، أو مساويا للعرش، وبين الشيخ أن هذا اللازم هو بسبب أيش؟ مفهومه من أن الاستواء كاستواء أي كائن على كائن مخلوق على مخلوق، هذا الباطل منبنٍ على هذا الباطل.(1/175)
ثم انتقل لبيان ما يورده الممثل الذي جمع أيضا بين التمثيل والتعطيل، فقال: وصار هذا -يعني هذه اللوازم الباطلة- مثل قول الممثل إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهرا أو عرضا، والجوهر والعرض من الألفاظ المحدثة التي جاء بها المتكلمون، معنى العرض، نبدأ بالعرض؛ لأنه إذا فُهم العرض سهل فهم الجوهر، العرض قالوا: هو الذي لا يصح بقاؤه في ثاني حاله، يعني الذي لا يقوم بنفسه بعبارة مختصرة، العرض الذي لا يقوم بنفسه، يقوم بغيره، يقوم بجوهر، مثاله: العلم، العلم يعبر عنه المتكلمون أنه عرض، هل يمكن أن يقوم العلم بنفسه؟ لا يمكن، لا يقوم إلا بعالم، فالعلم عرض، والجوهر هو الذي يقابل العرض، هو الذي يقوم بذاته.
ويقسمونه إلى جوهر فرد وجوهر مركب، لا علاقة لنا بالدخول في تفاصيل تعريف هذه المصطلحات، إنما الذي نريد أن نفهمه هنا أن الجوهر هو الذي يقوم بنفسه، طيب سنطبق هذا على صفات المخلوق، هو هذا
الممثل يقول: أنا لا أشاهد مخلوقا موصوفا بصفة إلا أن تكون هذه الصفة إما أن تكون هذه الصفة إما عرضا أو جوهر، فعرفنا أن العلم عرض أم جوهر؟ عرض. الوجه؟ الوجه جوهر قائم بنفسه. اليد؟ جوهر. القدم؟ القدرة؟ القدرة عرض، الحياة عرض لا تقوم بنفسها، لا بد من حي، الكلام عرض، السمع، البصر، العين جوهر.
إذن هذا الممثل يقول أنا لا أشاهد، ولا أعرف من هذه الصفات، إلا ما كان عرضا أو جوهرا، المؤلف جاء بجملة معترضة قال: وكلاهما هذا محال على الله - عز وجل - لكن الممثل لا يحيل هذا الأمر.(1/176)
وبناء عليه جعل صفات الله - عز وجل - كصفات المخلوق، نقول في مثل هذه الألفاظ -وسبق الإشارة إلى ذلك-: إنها ألفاظ محدثة، لا يجوز إثباتها بإطلاق بالنسبة لله، ولا نفيها بإطلاق، فلا يقال: علم الله هو عرض أو ليس بعرض، ولا يقال: وجه الله هو جوهر أو ليس بجوهر، هذه الألفاظ مما ابتدعه المتأخرون من أهل الكلام، ولم ترد لا في الكتاب ولا في السنة، لا بنفي ولا بإثبات.
فمنهج أهل السنة والجماعة تجاه مثل هذه الألفاظ أنها لا تثبت بإطلاق ولا تُنفَى بإطلاق، فمن أطلقها على الله سُئل: ما مرادك من هذا اللفظ؟ فإن أراد حقا نقبل ماذا؟ نقبل المعنى ونقول له عبر بالألفاظ الشرعية، بالألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، وإن أراد باطلا رُدّ المعنى واللفظ، مثاله أيضا: لفظ الجهة، لفظ الحيز، لفظ المركب، لفظ حلول الحوادث، كل هذه من الألفاظ المحدثة التي شغَّب به المتكلمون على الناس لتمويه باطلهم.
يقول: إذ لا يعقل موجود إلا هذا، هذا الممثل المشبه، يقول: أنا لا أعقل شيئا موجودا إلا ما عرض أو جوهر، إذن فالله - عز وجل - مماثل لما أشاهده.
أو قوله -هذا مثال آخر يريده الشيخ-: إذا كان مستويا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير والفلك، يقول إذا كان الاستواء ثابت لله - عز وجل - كما جاء في القرآن، إذن هو كاستواء المخلوق على السرير، أو على الفلك، على المركب، فيلزم على ذلك -كما ذكر الشيخ في موضع آخر- أنه لو سقطت الدابة لسقط من عليها، ولو انكسر المركب لخر من عليه، فيلزم على قول هذا الممثل لو عُدِمَ العرش لسقط الرب، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
يقول: إذ لا يُعلَم الاستواء إلا هكذا، هذا الممثل يقول: أنا لا أعلم الاستواء إلا هذا الاستواء، استواء المخلوق على المخلوق.
طيب كيف جمع الممثل بين التعطيل والتمثيل؟
كونه مثّل هذا ظاهر ما يحتاج إلى بيان، يعني كونه جعل استواء الخالق كاستواء المخلوق، ويد الخالق كيد(1/177)
المخلوق، وعلم الخالق كعلم المخلوق سواء بسواء، هذا ظاهر التمثيل، أما وجه كون هذا الرجل عطّل أنه عطّل الرب عما يستحقه -سبحانه- من الصفات اللائقة به.
هل الاستواء الثابت لله - عز وجل - هو الاستواء الثابت للمخلوق؟ لا، استواء يليق بجلاله وعظمته، الوجه الموصوف به الرب وجه يليق بجلاله وعظمته، ليس كوجه المخلوق، فحقيقة الصفة التي يستحقها الله -سبحانه وتعالى- عطلها هذا الممثل، لم يثبتها، فجمع بين أيش؟ التعطيل والتمثيل كحال أخيه ذاك المعطل الذي جمع أيضا بيت التعطيل والتمثيل.
يقول: فإن كلاهما الذي من؟ المعطل والممثل، عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه، المعطل لم يثبت لله الصفة اللائقة به -سبحانه وتعالى- أولها، والممثل أثبت لكن أثبت صفة تناسب صفة المخلوق، فكلاهما عطل الصفة التي يستحقها الرب -سبحانه وتعالى-، وامتاز الأول، مَن الأول؟ المعطل بتعطيل كل مسمى للاستواء الحقيقي، الاستواء الحقيقي هو أيش؟ العلو والارتفاع، فعطل مطلق الاستواء، قال: أنا لا أثبت شيئا اسمه استواء، وحقيقة الاستواء في لغة العرب التي نزل بها القرآن ما هو؟ العلو والارتفاع، { عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ } (1) أي: علت وارتفعت على الجودي { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } (2) تعلوا على ظهوره، وامتاز الثاني -الذي هو الممثل- بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين..
إذن ذاك المعطل عطل حقيقة الاستواء وهذا غلا فأثبت استواءً من جنس استواء المخلوق، نعم.
__________
(1) - سورة هود آية : 44.
(2) - سورة الزخرف آية : 13.(1/178)
والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، كما أنه موصوف بأنه على كل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي كعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو -سبحانه- فوق العرش ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها .
ـــــــــــــــــــــــ
نعم هنا الشيخ كأنه يرد على من أوّل بعض الصفات وأثبت البعض بالقاعدة العامة التي هي أن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها، فيقول: والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط في هذه المسألة ويقاس عليها أيش؟ جميع الصفات المنسوبة لله - عز وجل - إنما أورد الشيخ الاستواء فقط للتمثيل، فيقول: والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط، أمة محمد- صلى الله عليه وسلم - وأهل السنة -كما ذكرنا في الدرس الماضي أيضا- وسط بين فرق الأمة من أن الله مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله ويختص به، استواء يليق بجلاله خلافا لمذهب الممثلة، ويختص به خلافا لمذهب المعطلة.
فالله - عز وجل - موصوف بالاستواء، لكن هذا الاستواء لا يماثل استواء المخلوق على المخلوق، فكما أنه موصوف أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، وهذه الصفات يثبتها مَنْ مِن المعطلة؟ الأشاعرة وينفيها المعتزلة والجهمية، يقول: بما أنكم -معاشر الأشاعرة- الذين عطلت صفة الاستواء تصفون الله - عز وجل - بأيش؟ بالعلم والسمع والبصر والقدرة ونحو ذلك، وهذه الصفات -التي هي العلم والقدرة والسمع والبصر نعم- ليست كخصائص المخلوقين، يعني لا نقول إنها أعراض، كما هي الحال للمخلوق، فكذلك الاستواء، أثبِتُوا الاستواء كما أثبتم العلم والقدرة والسمع والبصر.(1/179)
ولهذا من أثبت شيئا لله - عز وجل - ونفَى مثيله لزمه فيما نفاه نظير ما أثبته، فإن كان إثبات الاستواء يلزم منه التشبيه والتمثيل فكذلك إثبات السمع والبصر والعلم والحياة والقدرة، صنف الجميع، وإن قلتم لا إثبات العلم والسمع والقدرة لا يلزمنا التشبيه والتمثيل، يقال لكم: فإثبات الاستواء والوجه واليدين لا يلزم من التشبيه والتمثيل. فإما أن تثبتوا الجميع أو أن تنفوا الجميع.
فهذا فيه تفريق بين أيش؟ المتماثلات، وهذا ما لا يُقبَل عقلا، العقل يقتضي التفريق بين المختلفات والتسوية بين المتماثلات، لكن كونك تأتي وتفرق بين المتماثلات، هذا يتنافى مع العقل، يتنافى مع دلالة العقل، فالله - عز وجل - الذي أثبت لنفسه العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام، هذه الصفات التي تثبتونها -معاشرالأشاعرة- هو الذي أثبت لنفسه الاستواء والمجيء والوجه واليدين سواء بسواء.
فكذلك يقول هو -سبحانه- فوق العرش ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية مخلوق على المخلوق وملزوماتها، أنتم تزعمون أنكم إذا شبهتم الاستواء فقد شبهتم الخالق بالمخلوق، يقال: من أين لكم هذا أصلا؟ هذا اللازم متى يرد؟ يرد لو كان هذا الاستواء مطلقًا، لكن كونه خص به الله - عز وجل - بمعنى أن هذا الاستواء الخاص بالله اللائق به غير مماثل لاستواء المخلوق.(1/180)
ثم أيضا هناك جواب آخر -ولو لم يذكره الشيخ نشير إليه- أنه لا يلزم، هم الآن فهموا أن الله إذا كان مستوٍ على العرش بمعنى أنه محتاج إلى العرش أم لا هذا الذي جعلوا كما أن المخلوق إذا كان مستوٍ على شيء فهو محتاج له، وكيف نصف الله - عز وجل - بالاستواء ونجعله محتاجا إلى العرش؟! هذا باطل، نقول لهم: كذلك في حق المخلوق لا يلزم من علو الشيء على الشيء أن يكون محتاجا إليه، فهذه السماوات أين مكانها بالنسبة إلى الأرض؟ فوق الأرض، هل هي محتاجة إلى الأرض؟ الجواب: لا، السحاب، أليس فوق الأرض؟ هل هو محتاج إلى الأرض؟ الجواب: لا.
فإذا كان هذا في حق المخلوق ففي حق الخالق من باب أولى، فلا يلزم من قولنا أنه مستوٍ على العرش عال مرتفع عن العرش أن يكون محتاجا إلى العرش فنأتي بهذه اللوازم الباطلة، نعم.
واعلم أن ليس في العقل الصريح ولا في النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلا، لكن هذا الموضع لا يتسع لجواب عن الشبهات الواردة على الحق، فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير.
ـــــــــــــــــــــــ
نعم الشيخ هنا يعيد ويقول: إن طريق السلف ومذهبهم في صفات الله - عز وجل - هو الذي يدل عليه صحيح المنقول، وصريح المعقول، فأنتم نفيتم عن الله - عز وجل - ما يستحقه من الصفات بحجة أن هذا يتنافى مع العقل، يقول: من أين لكم هذا؟ واعلم أن ليس في العقل الصريح ولا في النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية، أعطونا دليلا نقليا صحيحا واحدا يدل على ما ذهبتم إليه ويخالف ما ذهب إليه السلف.(1/181)
أعطونا دليلا عقليا صريحا، والدليل العقلي الصريح هو السالم من أيش؟ من الشبهات، أما كونكم تأتون بكلام نسجته عقولكم وتقولون هذا دليل عقلي، من قال لكم؟ الدليل العقلي هو السالم من المعارض، الدليل العقلي الذي اتفق عليه العقلاء، ولهذا سيذكر الشيخ بعد أسطر أنهم ليس لهم في هذا قاعدة مطردة، هذه الأدلة التي يزعمون أنها أدلة عقلية ويوردونها هم فيها أيش؟ مختلفون مضطربون، كيف الآن تحتجون علينا بأدلة لم تتفقوا عليها؟! الدليل العقلي هو الدليل السالم من الشبهات، السالم من المعارضات، الذي اتفق عليها العقلاء نعم.
يكرر الشيخ مرة بعد مرة كون هذه الرسالة جوابا أو إجابة لسؤال، ولا تحتمل البسط، لا تحتمل عرض الشبه والإجابة عليها. نعم.
مذهب المؤولين لصفات الله - عز وجل -
ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج، فإن من ينكر الرؤيا يزعم أن العقل يحيلها، وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علما وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك، يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل مَن ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك، وأنه مضطر إلى التأويل.
ومن زعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ويكفيك دليل على فساد قول هؤلاء أن ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوّز أو أوجب ما يدعيه الآخر، أن العقل أحاله".
ـــــــــــــــــــــــ
يقول -رحمه الله-: إن المخالفين للكتاب والسنة وسلف الأمة في هذا الباب، باب ما يوصف الله - عز وجل - به- من المتأولين، من أهل التأويل، والشيخ سيبين أن المخالفين لأهل السنة في هذا الباب ثلاثة أقسام: أهل التأويل، وأهل التجهيل، وأهل التخيير، فهو يقول: المخالفون لأهل السنة من أهل التأويل في أمر مريج، أمر مختلط، أمر مضطرب، ليس لهم قاعدة.(1/182)
ثم يضرب على ذلك أمثلة، يضرب على أنهم ليسوا متفقين على أيش؟ على قاعدة مطردة في باب ما يوصف الله - عز وجل - به، ليسوا متفقين على ما يجوز تأويله وما لا يجوز تأويله، مثال ذلك: يقول: فإن من ينكر الرؤيا، والذين ينكرون الرؤيا هم المعتزلة والجهمية، وتبعهم على ذلك الرافضة والخوارج، هؤلاء الذين أنكروا أن يكون الله يُرَى يوم القيامة زعموا أن العقل أيش؟ يحيل ذلك، أنه لا يجوز عقلا أن يُرَى الله - عز وجل - وأنهم اضطروا إلى التأويل، فكل آية أو حديث جاء فيه إثبات الرؤية قال المعتزلة والجهمية: لا بد من التأويل، لماذا يؤولون؟
قالوا: لأن العقل يتعارض مع هذا النص، { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)يقولون: إلى ثواب ربها، نعم.هل تضامون في رؤيته هل تضامون في رؤية ثوابه ورؤية نعيمه؟ يقولون: نحن مضطرون لهذا التأويل لماذا؟
لأن العقل يحيل أن الله يرى، الأشاعرة بالطبع يخالفون الجهمية والمعتزلة في أيش؟ في الرؤية، فهم يثبتون الرؤية.
يقول: ومن يحيل أن لله علما وقدرة وأن يكون كلامه غير مخلوق، أي يستحيل أن يكون كلامه غير مخلوق، أي يزعم أن العقل أحال ذلك، وهؤلاء أيضا الجهمية والمعتزلة خصوم مَن؟ خصوم الأشاعرة، والأشاعرة على النقيض منهم، الأشاعرة يثبتون العلم والقدرة والكلام لله - عز وجل -فيقول: هؤلاء خصومكم ينفون هذه الصفات عن الله ويزعمون أن العقل يحيل ذلك، وأنهم اضطروا اضطرارا للتأويل.
__________
(1) - سورة القيامة آية : 22-23.(1/183)
ثم يتدرج الشيخ، يقول: بل خصومكم أنتم أيها الأشاعرة وخصومكم أنتم أيها الجهمية والمعتزلة استخدموا التأويل فيما أثبتم أنتم، فيقول: بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة، وهؤلاء هم الفلاسفة، ومن تبعهم من غلاة الباطنية، هؤلاء يزعمون أنه لا يمكن حشر الأجساد يوم القيامة، وليس هناك جنة ولا نار ولا نعيم، ولا أنهار ولا أشجار ولا حور، كل هذا تخييل كما سيأتي، لماذا لا تثبتون هذه الحقائق حجتهم أيش؟ العقل يحيل إثبات ذلك، هذا مستحيل عقلا، وأننا مضطرون للتأويل، لا بد تأويل هذه الحقائق، نقول الجنة وما ذكر فيها من نعيم هذه كله تخييل، إنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أراد الله - عز وجل - معنى آخر بعيدا كل البعد.
أيضا أنتم معاشر الأشاعرة ومن على مذهبكم في قضية نفي الاستواء من جهمي ومعتزلي لما نفوا هذه الصفات زعموا أن العقل أحال ذلك، طيب بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟ الآن نحن أمام كل هذه الطوائف المؤولة، هؤلاء الطوائف الذين تلاعبوا حقيقةً بنصوص الكتاب والسنة وكلهم يتكئ على شيء واحد، ويزعم أن العقل أحاله، فبأي عقل نزن ذلك؟ عقولكم معاشر الأشاعرة؟ ما يقبل المعتزلة والجهمية، وإن أخذنا عقول المعتزلة والجهمية إذن أيضا ننفي الصفات التي تثبتونها أنتم معاشر الأشاعرة، وإن أخذنا العقول التي قاس بها الفلاسفة نفينا كل ما في القرآن من حقائق عن الجنة والنار والأوامر والنواهي.
يقول: ويكفيك دليل على فساد قول هؤلاء أن ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة.(1/184)
فعلا لا نقول طائفة مع طائفة أخرى، بل الطائفة الواحدة هم مختلفون فيما بينهم، المعتزلة مضطربون فيما بينهم فيما يجوز أو يستحيل عقلا، وأضرب لكم مثالا واحدا: القاضي عبد الجبار لما جاء في مسألة إثبات عذاب القبر قال: وذهب بعض المعتزلة، بعض أهل طائفته، إلى إنكار عذاب القبر، وزعم أن العقل يحيل ذلك، هو القاضي عبد الجبار وبعض المعتزلة خالفوا، فأثبتوا عذاب القبر، وزعموا أن العقل لا يحيل ذلك، فطائفة واحدة هم فيما بينهم هم ليسوا متفقين على قواعد عقلية مطردة، فكيف تكون نصوص الكتاب والسنة -نعم- مجالا بعرضها على هذه العقول المضطربة المختلفة؟
............................................................................................................
ــــــــــــــــــــــ
يقول: ويكفيك دليل على فساد قول هؤلاء أن ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوّز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله، تأتي قضية واحدة، هؤلاء يقولون: هذا يستحيل عقلا، ويقول الآخرون: بل هذا يجوز إثباته عقلا، وهذا دليل على فساد أيش؟ هذا المنهج، نعم.
فيا ليت شعري بأي عقل شيء يوزن الكتاب والسنة، فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاءنا به جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - D,/D G$D'!!
ـــــــــــــــــــــــ
نعم الإمام مالك -رحمه الله- ينكر أن تكون نصوص الكتاب والسنة مطروحة لعقول الناس يتحكمون فيهما كيف شاءوا، فيقول: أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل -يعني أكثر جدلا وأكثر خصومة- تركنا قول الله وقول الرسول الذي ثبت وصوله إلينا يقينا لجدل هؤلاء! وهذا الأثر روي عنه بسند صحيح كما أخرجه الإمام اللالكائي وأبو نعيم، وحكم عليه بالصحة الشيخ ناصر -رحمه الله- في كتاب العلو للذهبي. نعم.
وكل من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر، وهو من وجوه :(1/185)
أحدها: بيان أن العقل لا يحيل ذلك.
الثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل.
الثالث: أن عامة هذه الأمور قد عُلِم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها بالاضطرار، كما علم أنه جاء بالصلوات الخمس، وجاء بصوم رمضان، فالتأويل الذي يحيلها أن هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصوم والصلاة، وسائر ما جاءت به النبوات.
الرابع: أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص، وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن ترك تفصيله، وإنما عقله مجمل إلى غير ذلك من الوجوه، على أن الأساطين من هؤلاء والفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية، وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه.
ـــــــــــــــــــــــ
الشيخ يؤكد هنا على القاعدة السابقة أن كل واحد من هؤلاء المتأولين مخصوم، يعني يمكن أن يرد عليه بما هو رد على أيش؟ خصمه، فنأخذ على سبيل المثال الأشاعرة: أليسوا يردون على المعتزلة في تأويل السمع والبصر والحياة والعلم والقدرة ويقولون: هذا لا يجوز تأويله وإلا لا؟ نقول لهم: وأيضا الاستواء والعلو والوجه واليدين والقدمين لا يجوز تأويله، الحجة التي تستخدمونها في الرد على المعتزلة نرد عليكم بها، واضح؟
كذلك المعتزلة في ردهم على الجهمية في نفي الأسماء نرد عليهم في أيش؟ في ماذا؟ في نفي الصفات، أليس المعتزلة يثبتون الأسماء وينفون الصفات؟ والجهمية ينفون الأسماء والصفات، هم الآن يقولون للجهمية: لا يجوز تأويل الأسماء، فنقول لهم: وأيضا لا يجوز تأويل الصفات، فنحتج عليهم بما احتجوا هم على خصومهم.
يقول: ويتضح ذلك من وجوه :(1/186)
الوجه الأول: بيان أن العقل لا يحيل ذلك، لا يحيل إثبات هذه الصفات لله - عز وجل - من قال لكم إن العقل يحيل ذلك؟ أعطونا الدليل، أما هذه المقدمات التي توردونها ما هي إلا شبهات، ومجال بيان أن العقل لا يحيل ذلك الشيخ فصّله في مواضع أخرى لا نحب أن ندخل لكي لا يطول بنا المقام، بل نأخذها قاعدة عامة أن العقل لا يحيل إثبات هذه الصفات.
الأمر الثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل، هذه النصوص التي أثبتت لله هذه الصفات صراحة، أثبتت لله هذه الصفات حقيقة، لا تقبل التأويل بحال من الأحوال، ولا يجوز أن يُسلَّط عليها سيف التأويل كما صنعتم.
الأمر الثالث: أن عامة هذه الأمور قد عُلِمَ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بها بالاضطرار، بمعنى أنه مما يُعلَم اضطرارا، الذي لا يمكن دفعه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بنصوص أيش؟ الصفات لله - عز وجل - فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي تلا على رءوس الأشهاد ورءوس الناس وأثبت أن الله عالٍ على خلقه، وأن الله مستوٍ على عرشه، وأنه خلق آدم بيديه، وهذا معلوم بأيش؟ بالاضطرار، وجاء بأساليب متعددة، خذوا على سبيل المثال: إثبات اليدين لله - عز وجل - أثبت أنه خلق آدم بيديه، وأن صنفا من أهل الجنة على يمينه يوم القيامة، وأنه يقبض السماوات والأرض بيديه إلى غير ذلك من التصاريف التي لا تحتمل ولا تقبل التأويل.
يقول: كما عُلِمَ أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، كما أننا نعلم اضطرارا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي جاء بنصوص الشرع، نصوص الأحكام، كصيام شهر رمضان، وكوجوب الصلوات، وكالحج وكالجهاد وكالصدقة، وكأحكام الأسرة، وأحكام النكاح، وأحكام البيع والشراء، فهو الذي جاء بنصوص أيش؟ الصفات.(1/187)
فالتأويل الذي يحيلها عن هذا، يعني التأويل الذي يحيل نصوص الصفات عن ظاهرها، عن حقيقتها إلى معانٍ بعيدة باطلة، هي بمنزلة تأويل الباطنية لنصوص الأحكام، الباطنية أَوَّلُوا نصوص الأحكام، وزعمُوا أن النصوص لها أيش؟ ظاهر وباطن، ظاهرها هو المفهوم لدى العامة، وقالوا: هم المخاطبون بها عامة الناس، أما الخاصة فهم مخاطبون ببواطن هذه النصوص.
ولهذا يزعمون أن هذه الآية جاءت في هذا الأمر { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (1) قالوا: الأغلال والإصر هي ظاهر هذه النصوص، صحيح ظاهر { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ } (2) معناها إقامة الصلاة والزكاة المعهودة، لكن هذه للعوام، أما الخاصة فلهم بواطن هذه النصوص، ما بواطن هذه النصوص؟ قالوا: معانٍ أخرى بعيدة، فالصوم معناه حفظ الأسرار، تحفظ سر الشيوخ، الحج زيارة المشاهد، إلى غير ذلك من الخزعبلات ومن الكفر والإلحاد في نصوص الوحيين.
إذا كان هذا مما يُعلَم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام، نعم تأويل هذه النصوص إلى هذه المعاني البعيدة
فكذلك تأويل نصوص الصفات، لماذا نمنع في هذا الجانب ونجيز في هذا الجانب؟ ولهذا من أعظم ما فتح للفلاسفة والباطنية الباب لتأويل نصوص القرآن هم المتكلمة، لما جاءوا وأوَّلوا قال لهم الباطنية: لماذا تجيزون لأنفسكم بهذا النوع من النصوص وتمنعوننا من تأويل النصوص الأخرى؟ فنحن نأوّل نصوص الصلاة، ونصوص الحج، ونصوص الزكاة، والبيع والشراء، بل حتى نصوص الجنة والنار، ونصوص المعاد، والمجال ما دام أنكم فتحتم لأنفسكم في هذا الجانب فنحن ما الذي يمنعنا؟ إذا جاز التأويل في هذا الجانب جاز في هذا الجانب، واضح؟
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 157.
(2) - سورة البقرة آية : 43.(1/188)
يقول: بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصوم والصلاة وسائر ما جاءت به النبوّات.
الرابع: أن يُبيَّن أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص نعم.
نقول: هذه الصفات ثبتت بالنص، وهذا لا يقبل النقاش. وأيضا -يقول الشيخ-: وثبتت بالعقل الصريح، العقل السالم من المعارض، العقل السالم من الشبهات، وإن كانت العقول لا يمكن أن تُثبِت كل التفاصيل التي جاءت في أيش؟ في نصوص الوحيين، يمكن بالعقل أن نثبت أن الله عالٍ على خلقه، يمكن أن نثبت بالعقل أن الله موصوف بالكمال، يمكن بالعقل أن نثبت أن الله منزه عن كل نقص، لكن تفاصيل هذه الأمور لا بد من الرجوع إلى نصوص الوحيين، فمثلا صفة الاستواء: لا يمكن أن نثبتها بالعقل، وإنما يقتصر في ذلك على إثبات النص؟
يقول: وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن دركه تفصيلا مثل اليوم الآخر سواء بسواء، أليس يمكن أن نثبت بالأدلة العقلية جواز قيام الناس ليوم الدين أم لا؟
ولهذا الله - عز وجل - خاطب المنكرين للبعث بالأدلة العقلية { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } (1) هذا دليل عقلي، الذي خلق هذا الخلق من لا شيء قادر -من باب أولى- أن يعيده مرة أخرى.
ويأتي بدليل آخر { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) } (2) ولهذا ذكر ابن كثير أن أبا طالب -أظنه أبا طالب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان مات على الشرك- سائر في إحدى شعاب مكة، فرأى شجرة أورقت وسارت الحياة فيها بعدما يبست في فصل من فصول السنة، الآن تأخذ بعض الأشجار في
إحدى فصول السنة وتكسرها خشبا، فإذا جاء الفصل الثاني سارت الحياة من جديد، قال: والله لولا أن تلومني قريش لقلت: إن الذي أحيا هذه الشجرة من لا شيء قادر على أن يحيي العظام مرة أخرى، فاستنتج بعقله جواز القيامة واليوم الآخر.
__________
(1) - سورة يس آية : 78-79.
(2) - سورة يس آية : 80.(1/189)
الشاهد أن العقل يمكن أن يثبت هذه الأمور، لكن تفاصيل ما يقع في هذا اليوم قد يعجز العقل عن إثباته، فالعقل لا يمكنه أن يدرك أن هذه الجوارح ستنطق، العقل لا يمكن أن يدرك أن هذا الإنسان سيمر على الصراط الذي هو أحد من السيف وأحر من الجمر وأدق من الشعرة، لأن هذه الأمور فوق طاقة العقل.
فالعقل يمكن أن يثبت اليوم الآخر على وجه العموم، لكن تفاصيل ما يرد في اليوم الآخر فهذا أمره إلى الشرع، إلى غير ذلك من الوجوه.
على أن الأساطين من هؤلاء والفحول، أي المقدمين والأئمة وأئمة هؤلاء الفلاسفة والمتكلمين معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية، وعندهم قاعدة عامة أن عامة ما يتعلق بالله - عز وجل - فلا سبيل للعقل في إدراك هذا الأمر يقينا، لماذا؟ لأنه أمر غيبي، أمر غائب عن العقل.
وإذا كان هكذا فالواجب تلقي ذلك من النبوات على ما هو عليه، إذا كان العقل لا يمكن أن يدرك تفاصيل الأمور الغيبية، ولا يمكن أن يُدرَك به ما في الغيب أو ما يتعلق بالله يقينا، فالواجب الاعتماد في هذا الباب في أمر الغيب على وجه العموم، وفيما يتعلق بالله - عز وجل - على ورود النصوص التي طريقها فقط عن طريق النبوات، نعم نحن يمكن أن نستعين بالعقل، لكن لا نعتمد عليه، ولهذا الأنبياء لم يأتوا بما تحيله العقول، لكن ربما تحار فيه العقول، لكن يستحيل عقلا فلا .(1/190)
ولا بد أن نستصحب هذه القاعدة دائما، خاصة في باب الأسماء والصفات، أن النقل الصحيح يستحيل أن يتعارض مع العقل الصريح؛ لأن الذي أنزل النقل مَن؟ الله، ومن الذي خلق العقل؟ الله، فالمصدر واحد، ويستحيل على أحكم الحاكمين وأعلم العالمين أن ينزل ما يتعارض مع ما خلق، سبحانه وتعالى، نعم .
الإيمان بالبعث
ومن المعلوم للمؤمنين أن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأنه بيَّن للناس ما أخبرهم به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بالمبدأ والمعاد، وهو الإيمان بالخلق والبعث كما جمع بينهما في قول الله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) } (1) وقال تعالى : { مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } (2) وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } (3) وقد بيَّن الله -تعالى- على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما هدى الله به عباده وكشف به مراده .
ومعلوم للمؤمنين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بذلك من غيره، وأنصح للأمة من غيره، وأفصح من غيره عبارة وبيانا، بل هو أعلم الخلق بذلك، وأنصح الخلق للأمة وأفصحهم، وقد اجتمع في حقه - صلى الله عليه وسلم - كمال العلم والقدرة والإرادة، ومعلوم أن المتكلم والفاعل إذا كمل علمه وقدرته وإرادته كمل كلامه وفعله، وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه، وإما من عجزه عن بيان علمه، وإما لعدم إرادته البيان.
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة البقرة آية : 8.
(2) - سورة لقمان آية : 28.
(3) - سورة الروم آية : 27.(1/191)
نعم، ومن المعلوم للمؤمنين أن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنه - صلى الله عليه وسلم - بين للناس ما أخبرهم به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر يعني بالمبدأ الذي هو الله - عز وجل - هو الأول والآخر الآخر بالنسبة للخلق الذي هو اليوم الآخر، فبين هذين الأمرين -اللذين هما غيب عن حواس الناس- غاية البيان، وهو لما بين هذين الأصلين للناس قصد بذلك هداية الخلق وبيان الحق.
ثم أوضح المؤلف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحيل أن يكون بيّن للناس خلاف الحق المراد، وأوضح ذلك بهذا الدليل
العقلي، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتمع في حقه ثلاثة أمور: أعلم الخلق، وأنصح الخلق للأمة، وأفصح الخلق عبارة، ومن اجتمعت فيه هذه الصفات الثلاث يستحيل أن يقصّر في بيان الحق الذي يجب اعتقاده.
إيضاح ذلك أنه يقال لهؤلاء المؤولة: هذا التأويل الذي جئتم به، تأويل النصوص، هل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بذلك أم غير عالم؟ الجواب: لا بد أن يقولوا أنه يعلم هذا الأمر، وإن قالوا إنه لا يعلمها ونحن علمناها فهذا كفر والعياذ بالله، فنحن عندنا قاعدة عامة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق بما يجب لله وبما ينزه عنه -سبحانه وتعالى- .(1/192)
فإذا كان عالما بهذه المعاني التي تدعون الناس إليها، تقولون: الاستواء معناه الاستيلاء، النبي - صلى الله عليه وسلم - عالم بذلك أم غير عالم؟ سيقولون: عالم، طيب فإذا كان عالما فلا يخلو الأمر أن يكون قادرا على التعبير بعباراتهم أو غير قادر؟ والجواب: لا يقول عاقل أن هؤلاء أنباط الفرس، هؤلاء الأخلاط، هؤلاء المتهوكون، هؤلاء المضطربون، أقدر في التعبير من النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هذا معلوم بالاضطرار ليس من أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى من أعدائه، فقد شهدوا له أنه أفصح الناس عبارة.
إذن هو الآن هذا من باب الإلزام لهم، نقول لهم: هو الآن عالم بهذه المعاني التي جئتم بها، تأولتم بها نصوص الكتاب والسنة، وقادر على التعبير بهذه المعاني، إذا كان الآن عالم وقادر وتكلم بخلاف ذلك فهل نصح الأمة أم خان الأمة؟
- قد يكون هذا امتحانا لنا كما قالوا من قبل.
هذا لا يجوز أن يقولوا إنه امتحان، وسيأتي -إن شاء الله- الرد عليه أنه يمتحن الناس في هذه النصوص، لكن نقول الآن: هو عالم بعباراتكم، وقادر على التعبير بها، ثم يأتي ويردد على الأمة، خذوا على سبيل المثال: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) في سبعة مواضع، ما قال في موضع واحد "ثم استولى"، ولم يقل مرة واحدة إنني أردت ليس الاستواء الذي هو العلو والارتفاع الذي تفهمونه، إنما أردت معنى آخر، فهل يعتبر هذا ناصحا للأمة؟ لا يقول هذا العاقل.
إذن ما دام هو أعلم الأمة، وأفصح الأمة عبارة، وأنصح الأمة للأمة، فلا بد لو كان يريد غير هذه المعاني التي تظهر للناس ويريد معنى آخر أن يوضحها للناس، فلما لم يقل ولم يذهب إلى ما ذهب هؤلاء تبين أن الحق الذي لا مرية فيه ولا يقبل النقاش، الحق الذي تطمئن إليه النفوس، الحق الذي يتوافق مع الأدلة العقلية هو ما جاء به -عليه الصلاة والسلام- وما فهمه عامة المسلمين من ضواحي هذه النصوص. نعم.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.(1/193)
الإيمان بأن الرسول هو الغاية في كمال العلم والبلاغ المبين
والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الغاية في كمال العلم، والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين، والغاية في القدرة على البلاغ المبين، ومع وجود القدرة التامة والإرادة الجازمة يجب وجود المراد، فعُلِم قطعا أن ما بيّنه من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر حصل به مراده من البيان، وما أراده من البيان هو مطابق لعلمه، وعلمه بذلك هو أكمل العلوم، فكل مَن ظن أن غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم بهذه منه أو أكمل بيانا منه، أو أحرص على هدي الخلق منه، فهو من الملحدين لا من المؤمنين، والصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيل السلف هم في هذا الباب على سبيل الاستقامة .
ــــــــــــــــــــــ
نعم، وهذا قول المؤلف الأخير ومن زعم أن هناك أكمل من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالبيان أو العلم، هذا من باب الإلزام لهم، وهو لازم لهم على حد قولهم، وسيأتي منهم من صرح بذلك، قال: نعم، أئمتنا أعلم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - بحقائق الأمور، لكن هذا ملحد بإجماع المسلمين.
ونحن نعلم أن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - علم هذه الأمور وعبّر عنها بهذا اللفظ وأراد معنى آخر، فهل بين البيان المبين ؟ الجواب: لا، إذن ما حصل البيان، ولهذا يقول: والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الغاية في كمال العلم، والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين، والغاية في القدرة على البلاغ المبين، يعني اجتمع في حقه هذه الثلاث صفات، ومع وجود القدرة التامة والإرادة الجازمة يجب وجود المراد، هذا لازم لذاك، يعلم هذا الأمر، ويقدر على التعبير عنه، ويريد هذا الأمر، فلا بد من وجوده، فإذا لم يوجد، فدل على أنه باطل، واضح ؟(1/194)
إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم هذه النصوص على ما هي عليه، وعبر عنها بأفصح عبارة، إذن هي على ما هي عليه، وهذا هو المراد؛ لأنه لو أراد معنى آخر لعبر عنه بنفس اللفظ.
يجب وجود المراد، فعُلِم قطعا أن ما بيّنه من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر حصل به مراده من البيان، هذا البيان الذي وصلنا وليس فيه تأويل، وليس فيه صرف لظاهره على حد مذهب هؤلاء هو المراد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل هو المراد من الله؛ لأن الرسول مبلغ عن الله - عز وجل - وما أراده من البيان هو مطابق لعلمه، البيان الذي
وصلنا هو ماذا؟ هو المطابق لعلمه، بمعنى أنه لم يخبرنا بشيء يعمله خلافه، لم يقل لنا ثم استوى على العرش وهو يعلم أن معنى الاستواء الاستيلاء.
وعلمه بذلك هو أكمل العلوم، فكل من ظن أن غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم بهذه منه، أو أكمل بيانا منه، أو أحرص على هدي الخلق منه، فهو من الملحدين لا من المؤمنين، والصحابة والتابعون من سلك سبيلهم من السلف هم في هذا الباب على سبيل الاستقامة، بمعنى أن مذهب السلف تلقوا هذه النصوص عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما هي، وعلموها كما علمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يكتموا شيئا خلاف ما نقلوه لنا.
إذن فمذهبنا مذهب أهل السنة، مذهب سلف هذه الأمة متلقى عن أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل، عن الله - عز وجل - وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد.
س : هذا استشكال من بعض الإخوان على ما جاءت الإجابة عليه في اللقاء السابق في مسألة لبس البنطال.(1/195)
ج : أقول: يا إخوان، الكلام على قضية لبسه للرجل، هو يذكر أنه قد يوجد في هذه البلاد من يلبس البنطال ويخالف الشيء السائد، فنقول: القاعدة السابقة التي ذكرت أمس: الأصل في اللباس الإباحة إلا ما ورد الشرع باستثنائه، كالحرير للرجل، الذهب للرجل، اللباس الذي فيه تشبه بالكفار أو تشبه أحد الجنسين بالآخر، أو فيه نوع من التعري، وما عدا ذلك إذا توافرت فيه ضوابط اللبس الشرعي فلا نحجر على الناس، فإذا كان هذا اللباس هو اللباس السائد، وهو اللباس المتعارف عليه عند أهل بلده فنقول هذا اللباس جائز، وله ذلك، نعم هناك شيء يقال الأولى والأفضل أن طالب العلم يلبس من الملابس ما يتناسب مع الوقار ونحو ذلك، فهذا لا خلاف فيه، أما أن نأتي ونحرم على الناس أمورا أباحها الله - عز وجل - لهم فهذا لا يجوز، قال تعالى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } (1) { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) } (2) ولا نضيق على الناس أمورا وسعها الله عليهم . هذا شرع الله عز وجل - والله أعلم.
س : أحسن الله إليكم، سمعت يا شيخنا أنه يوجد على شيخ الإسلام خطأ في باب المعية حينما مثّل بالقمر معنى وهو مرتفع، فهلا فصلتم ما حدث وبينتم الخلاف مع ذكر قول الشيخ والرد عليه؟
ج : مسألة المعية، أنا ما أعرف من شغّب على شيخ الإسلام أو على غيره من أئمة أهل السنة في هذه المسألة إلا أهل البدع، نعم ربما حصل هناك إشكال في قول الشيخ والله معنا حقيقة وهو مستوٍ على عرشه حقيقة، والله
__________
(1) - سورة النحل آية : 116.
(2) - سورة الإسراء آية : 36.(1/196)
معنا حقيقة وهو عال على خلقه حقيقة، وليس في كلامه هذا ما يقتضي المخالطة أو الامتزاج، يعني لا يفهم من كلامه أن الله إذا قلنا معنا حقيقة أنه مختلط بالخلق، ممازج للخلق، كما يقول ذلك أهل الحلول والاتحاد، لا، مثل الشيخ لهذا بمثال، وهذا ليس من كلام الشيخ هذا أسلوب العرب الذي نزل به القرآن، كلام العرب الذي نزل به القرآن يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا، والقمر أين هو ؟ في السماء، ويقولون : زوجة الرجل معه، وإن كان هو في أقصى المشرق وهي في أقصى المغرب.
فالمعية هنا تقتضي مطلق المصاحبة، ولا تستلزم الاختلاط والامتزاج، أليس الأمير يقول لجنده اذهبوا وأنا معكم، بل القرآن مليء بذكر المعية التي لا تستلزم المخالطة { وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } (1) مَن الذي هاجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ أبو بكر فقط، وإنما هنا مطلق المصاحبة، ففرْق بين الاثنين .
أحسن الله إليك، يقول: بعض المشايخ لا يوافقون على كلمة عطل الرب عن صفاته، فلا أحد يستطيع تعطيل الرب عن صفاته، ولكن نقول نفوا صفات الرب.
هو الله - عز وجل - لا يشك مسلم أن كلام وإلحاد من ألحد في أسمائه وصفاته لا يغير من حقيقته كما أنه -ولله المثل الأعلى- لو وجد عندنا إنسان كريم، ونفى عنه إنسان الكرم، هل يغير هذا من حقيقة هذا الرجل أن الكرم صفة له؟ أو طويل وقال هو قصير هل يغير من حقيقته؟ فإذا قيل: فلان عطل الرب عن صفته بمعنى أنه نفاها عنه، وهذا لا يغير من الحقيقة الثابتة لله - عز وجل - . نعم .
س : سؤال يقول : السلام عليكم، هل يكفر أهل السنة المعتزلة الجهمية والأشاعرة، وهل الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة ؟
__________
(1) - سورة الأحزاب آية : 50.(1/197)
ج : أما المعتزلة والأشاعرة ومن حذا حذوهم فلم يقل أحد بتكفيرهم، وإنما العلماء لما تكلموا في قصة تكفير الفرق تكلموا في تكفير الجهمية الغلاة، وهم الذين حكى الإمام اللالكائي عن أكثر من خمسمائة عالم أنه كفرهم، أما المعتزلة والخوارج والمرجئة فلم يكفرهم أهل السنة، نعم هم أهل بدعة وضلال وانحرفوا، بل إن الاثنين وسبعين فرقة من هذه الأمة كما قال شيخ الإسلام القول الراجح أنهم مسلمون، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، هم من أهل القبلة، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يلزم الخلود ولا يلزم التكفير، ومن أكثر الناس وردت فيهم النصوص الخوارج، نصوص صريحة " يمرقون من الدين، شر قتلى تحت أديم السماء، وخير قتيل من
قتلوه، اقتلوهم فإن في قتلهم أجر عظيم ومع ذلك أجمع الصحابة على عدم تكفيرهم.
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: إخواننا بغوا علينا، فقاتلونا فقاتلناهم، فلما قيل له أمنافقون ؟ فقال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا، هؤلاء يذكرون الله كثيرا، قالوا: أكفار ؟ قال : من الكفر فروا، فإذا كان هذا في حق الخوارج فما الظن بالطوائف الأخرى؟
وهذا من منهج أهل السنة، أن الطوائف الأخرى تكفرهم وهم لا يكفروهم، لا يكفرون إلا من استحق الكفر صراحة، مثل غلاة الجهمية؛ لأن قولهم يستلزم أن الله عدم.(1/198)
أما هل يسمى الأشاعرة والماتريدية أهل السنة، فالشيخ -رحمه الله- ذكر في نقض التأسيس في الجزء الثاني، وأظنه في الفتاوى في الجزء الخامس والثلاثين، أن الأشاعرة هم أقرب الطوائف لأهل السنة، بل قال: إنهم يسمون أهل السنة في مقابل الرافضة، وإذا كان في بلد ليس فيه إلا أهل البدع كالمعتزلة والرافضة فالأشاعرة هم أهل السنة إذا لم يوجد ناس من أهل السنة، لكن في مقابل أهل السنة هم أهل بدعة، وليسوا أهل سنة، واضح؟ نعم.
س : أحسن الله إليك يقول : ما موقف الخوارج والشيعة وغيرهم من باب الأسماء والصفات .
ج : أما الرافضة في باب الأسماء والصفات فهم تبع للمعتزلة، ذهبوا إلى ما ذهب إليه المعتزلة، ولهذا تبعوا المعتزلة في الأسماء والصفات والقدر، وتبعهم المعتزلة في الإمامة، فبينهم تداخل، ولهذا يذكر المقدسي أن غالب رافضة العراق معتزلة، فهم رافضة في جانب الإمامة والصحابة، ومعتزلة في جانب الأسماء والصفات والقدر.
أما الخوارج فهم يثبتون بعض الصفات وينفون البعض الآخر، مثل الرؤية ينفونها، ومتأخروهم -متأخروا الخوارج- سلكوا مسلك المعتزلة في الجملة في الأسماء والصفات بخلاف المتقدمين.
س : أحسن الله إليكم، هذا يقول : ما الجمع بين آيتي { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) } (1) والآية الأخرى { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) } (2) ؟
ج : الله أعلم. نذكر -إن شاء الله- في الدرس القادم الجمع بين الآيتين.
__________
(1) - سورة المعارج آية : 4.
(2) - سورة السجدة آية : 5.(1/199)
س : أحسن الله إليكم، يقول: لماذا نصّ شيخ الإسلام على التحريف في قوله: من غير تحريف ولا تعطيل، مع أن التحريف مسلك من مسالك التعطيل ؟
ج : ذكرنا أن الشيخ اختار لفظ التحريف، وترك لفظ التأويل؛ لأن لفظ التأويل منه ما هو صحيح ومنه ما هو فاسد، والتحريف بكل صوره مذموم، وورد في القرآن مذموما، ما العلاقة بينه وبين التعطيل؟ ولماذا لم يكتف الشيخ بأحدهما التحريف في الدليل والتعطيل في المدلول، مفهوم أم غير مفهوم ؟
التحريف يكون في الدليل في النص، والتعطيل متعلق بالمدلول الذي هو الله - عز وجل - . نعم.
س : أحسن الله إليكم، يقول : ما الصحيح في التسمية الشيعة بالرافضة وإن كانت التسمية الصحيحة الرافضة فلماذا سموا بذلك ؟
ج : الرافضة أصلهم شيعة، والتشيع أصله المناصرة، لكن كما هي الحال في سائر الفرق، هؤلاء الذين زعموا مناصرة علي ومناصرة آل البيت، وأنهم من شيعة علي من أنصار علي، لما تقدم العهد افترقوا على أنفسهم، فحصل بينهم وبين زيد بن علي مناظرة في مسألة التبري من أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فطلبوا منه أن يتبرأ منهما فقال: معاذ الله وزيرا جدي، فرفضوا، فسموا الرافضة، فانقسمت الشيعة إلى رافضة وزيدية.
العلماء الذين كتبوا في الفرق، كالأشعري والشهرستاني والبغدادي وغيرهم، ذكروا طوائف الشيعة، وذكروا أن الشيعة تنقسم إلى كذا وكذا وكذا، فهم يحبون أن يسموا بالشيعة، لكن واقع أمرهم إما زيدية، وإما رافضة، وإما كيسانية، وإما قرامطة، وإما إسماعيلية، وإما نصيرية إلى آخره .
س : هنا سؤال الأخ يقول : أنا شاب متزوج ولدي مشكلة وهي الاستمناء، ولقد حاولت الإقلاع عن هذا الذنب ولكن كلما ابتعدت رجعت إليه .(1/200)
ج : أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يمن عليك بالهداية، وأن يعينك على نفسك للإقلاع من هذا الذنب، على كل حال الواجب عليك أن تبادر إلى التوبة بشروطها، وأن تسعى إلى الابتعاد عن الأمور التي توقعك في هذا العمل، ولا شك أن الاستمناء باليد معصية، فالله - عز وجل - يقول : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } (1)فاستثنى هذين الشيئين، والنبي صلى الله عليه وسلم - يقول : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ولو كان الاستمناء
جائزا لأرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه يطفئ حدة الشهوة.
فنقول: ما دام أن هذه معصية عليك أن تبادر، من أيسر الأمور الابتعاد عن كل سبب يوقعك في هذا الأمر، وذكر العلماء وأهل الاختصاص من أصحاب علم النفس والتربية قالوا: من أسباب ذلك الفراغ؛ لأن الاستمناء يتولد من التفكير، فالواجب عليك أن تشغل نفسك بطاعة الله - عز وجل - فإن لم تستطع فأشغلها حتى بالمباحات، بالقراءة، وأيضا إذا ورد عندك هذا الهاجس فمباشرة قم وانتقل إلى مكان آخر، إلى مكان عام؛ لأنك لا يمكن أن تزاول هذا الذنب أمام الناس، وما دمت متزوجا فالحمد لله، فالله - عز وجل - أعطاك البديل، وإن كانت هذه الزوجة لا تفي بالغرض، فالله جعل لك فسحة من أمرك { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } (2) نعم ربما تكون الزوجة هذه عندها مرض، ربما تكون غير مؤهلة، مقصرة في جوانب الاستعداد لزوجها، عندها عندها، المهم عندها قصور في حق الزوج، فالله سبحانه جعل لك مخرجا، لكن لا تقع في هذا الذنب، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .__________
(1) - سورة المؤمنون آية : 5-6.
(2) - سورة النساء آية : 3.(1/201)
أقوال بعض الفرق فيما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- : وأما المنحرفون عن طريقهم فهم ثلاث طوائف: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل.
فأهل التخييل: هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم، كمتكلم ومتصوف، فإنهم يقولون: إن ما ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بين به الحق، ولا هدى به الخلق، ولا أوضح الحقائق، ثم هم على قسمين:
منهم من يقول: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم الحقائق على ما هي عليه، ويقولون: إن من الفلاسفة الإلهية من علمها، وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم أولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة أو الأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين، وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية، باطنية الشيعة وباطنة الصوفية.
ومنهم من يقول: بل الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمها لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق .
ــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
يقول المؤلف : وأما المنحرفون عن طريق السلف في باب الأسماء والصفات فهم ثلاث طوائف: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل.(1/202)
وبدأ بالطائفة الأولى الذين هم أهل التخييل، وهم غلاة الفلاسفة والباطنية ومن سلك سبيلهم من غلاة الصوفية، وهؤلاء زعموا أن ما ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بالأمر بالإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر إنما هو تخييل، هذه المعاني التي ذكرها ليست الحق التي اشتملت عليه هذه النصوص، فالحق لم يبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما أظهر للناس خلاف الحق، أظهر لعامة المسلمين خلاف الحق، جاء بخيالات وليس بحقائق.
ذكر الجنة وما فيها من أنهار من لبن وعسل وخمر، لكن كل هذا من باب التخييل، وإلا ليس ثمة هناك جنة ولا نار، ولا يوم آخر ولا بعث، وليس هناك رب موصوف بالعلو أو بالسمع أو بالبصر أو بالكلام، وإنما ما أورده الرسول، بل أورده الأنبياء إنما هو تخييل خيلوا به على عموم الناس، قيل لهم: إذن الرسل كذبوا على الناس ؟ قالوا : لا، كذبوا ولكن ما كذبوا على الناس، ولكن كذبوا لمصلحة الناس؛ لأجل أن يستميلوا قلوب الناس، ولأجل أن ينتظم أمر هذا العالم جاءوا بهذه الأمور والخيالات.
يقول : فإنهم يقولون إن ما ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، يعني لينتظم أمر هذا العالم، فإن عامة الناس لما تأمرهم بأوامر وتنهاهم عن نواهٍ لا بد أن تقول لهم : إن من أطاع هذه الأوامر سيجازَى يوم القيامة بجنة فيها كذا وكذا، ومن خالف فله النار، فيها كذا وكذا من أصناف العذاب، وإلا في واقع الأمر قالوا ليس هناك جنة ولا نار، بل ليس هناك بعث.
لا أنه يبين به الحق، ولا هدى به الخلق، ولا أوضح الحقائق.
ثم هم على قسمين، هذه الطائفة -أهل التخييل- على قسمين:(1/203)
قسم يزعم أن الرسل -عليهم الصلاة والسلام- لم يعلموا الحقائق على ما هي عليه، حتى الرسل يجهلون هذا الأمر.
ثم منهم من زعم ظلما وزورا أن الفلاسفة وبعض ما يسمونهم أولياء علموا الحق على ما هو عليه، ومن هؤلاء ابن عربي المكي الطائي صاحب الفصوص والفتوح المكية، ولهذا فضل الولي على الرسول، فقال :
مقام النبوة في برزخ
فُوَيق الرسول ودون الولي
فجعل أولى المراتب الولاية، ثم يليها النبوة، ثم آخر درجة الرسالة، ولهذا زعموا أن الأولياء يعلمون الحقائق على ما هي عليه، أما الرسل فيجهلون هذا.
ومن هؤلاء أيضا ابن سبعين والسهروردي المقتول والحلاج يقول: ويقولون: إن من الفلاسفة الإلهية من علمها، وعرفنا من الفلاسفة الإلهية، وهم أتباع أرسطو؛ لأنه أول من أقحم الفلسفة في مسائل الألوهية، وفي مسائل ما وراء الغيب، فأتبعه الفلاسفة المنتسبون للإسلام كابن سينا والفارابي وأضرابهم هم تبع له في هذا، يقول: إن من الفلاسفة الإلهية من علمها وإن من الأشخاص الذين يسمونهم أولياء من علمها.
ويزعمون أن من الفلاسفة أولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين؛ لأنهم زعموا أن هؤلاء هم الذين عندهم علم الحقيقة، وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية، باطنية الشيعة، كالقرامطة وباطنية الصوفية كغلاة الحلولية أتباع ابن عربي.(1/204)
الطائفة الثانية زعمت أن الرسل علموا هذه الحقائق، لكنهم أظهروا للناس خلاف الحق لأجل استمالة قلوب العامة، لهذا يقول المؤلف : ومنهم من يقول: بل الرسول علمها لكنه لم يبينها وإنما تكلم بما يناقضها. بمعنى أن ما أظهره للناس في الكتاب والسنة نقيض أيش؟ الحق الذي يعلمه، الحق الذي تضمنته هذه النصوص على حد زعمهم، ولكن هذه النصوص لها ظاهر وباطن كما قالوا، وإنما تكلم بما يناقضها وأراد من الخلق فهم ما يناقضها، لما أظهر للناس هذه النصوص المشتملة على أمور الإيمان باليوم الآخر وأمور الإيمان بالله - عز وجل -أراد من الناس أن يؤمنوا ويصدقوا بنقيض الحق، فكأن الرسول -علي الصلاة والسلام- غش الناس ولبّس على الناس، وهذا لازم قولهم، ولهذا سماهم الشيخ أهل التخييل، زعموا أن الرسل خيلوا على الناس، ولم يبينوا لهم الحق . .
وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق، قالوا : لأن الناس لو قال لهم إن ربكم هذا الذي تعبدونه ليس فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا محايد ولا ممتزج، قالوا : ما قبلها الناس، ولما صدقوه، ولهذا قال لهم: الله - عز وجل - فوق السماوات وهو يريد الأمر الآخر، هو أظهر لهم الاعتقاد الباطل لأجل فقط أن يصدقوا، أما الحق فلم يظهره للناس، نعم .
ويقول هؤلاء: يجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل، ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل؛ لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد، فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر .
ــــــــــــــــــــــ(1/205)
قالوا: إنه يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم؛ لأنهم يزعمون أن إثبات هذه الصفات أيش؟ يستلزم التجسيم، والتجسيم عندهم كفر، لكن لا بد أن يدعو الناس إلى هذا الكفر والباطل لمصلحتهم، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل، الأبدان هذه لن تعود يوم القيامة، طيب الرسول أخبرنا يقينا في نصوص ظاهرة واضحة أن هناك يوم ستعاد فيه هذه الأبدان، قالوا : نعم، كذب لمصلحة العباد وإلا في واقع الأمر هذا باطل، ليس هناك معاد .
ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن هذا باطل، بمعنى أخبر أن في الجنة ملاذا، وأن المؤمنين سيتمتعون في الجنة بما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وكلها باطل لا حقيقة له؛ لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد، فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر، في نصوص الغيب.
طيب موقفهم من النصوص التي جاءت في مسائل الأحكام، في المسائل العملية وليست العلمية، يذكرها الآن المؤلف، نعم .
وأما الأعمال فمنهم من يقرها، ومنهم من يجريها هذا المجرى، ويقول: إنما يؤمر بعض الناس دون بعض ويؤمر بها العامة دون الخاصة،وهذه طريقة الباطنية والملاحدة والإسماعيلية ونحوهم .ــــــــــــــــــــــ
نعم، الأعمال الظاهرة، الصلاة، الزكاة، الحج، من هؤلاء من يقرها على ظاهرها، ويجريها على هذا المجرى، لكن يزعمون أيش؟ أن الرسول لم يرد هذه الأعمال التي يفهمها الناس، لما قال للناس: أقيموا الصلاة لم يرد إقامة هذه الصلاة بوضوئها وشروطها وأركانها والهيئة المعروفة عند جمهور المسلمين، وإنما أراد أمرا آخر، وإذا قال { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } (1) لم يرد قصد مكة لأداء عمل مخصوص في وقت مخصوص كما هو مستقر عند عامة المسلمين، لا، إنما أراد أمرا آخر، وهكذا في الصيام، وهكذا في سائر الأحكام..
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 97.(1/206)
ومنهم من يقول لا، هذه الأوامر وهذه الأحكام هي لفئة من الناس، وليست لعموم الناس، هي للعامة، أما الخاصة الذين يسمونهم أولياء فليسوا معنيين بهذه الأوامر وهذه النواهي، ولهذا يكثر عند من يسمونهم بالأولياء والأقطاب والأغواث، نعم، يكثر عندهم الإلحاد والفساد، تجد أحدهم لا يشهد الجمعة ولا الجماعة، لا يصلي، لا يصوم، يرتكب الزنا، يشرب الخمر، ويقول: ارتفعت عني التكاليف.
ويتأولون قول الله - عز وجل - { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) } (1) فإذا وصل إلى درجة اليقين ارتفعت عنه التكاليف.
أما أهل التأويل فيقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معانٍ وبين لهم تلك المعاني ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم إتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته، وهذا قول المتكلمة الجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك .
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الحجر آية : 99.(1/207)
نعم، هذه الطائفة الثانية، وهم أهل التأويل المؤولة، وهم جمهور المعطلة، كالجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم كالأشاعرة ومن حذا حذوهم في مسألة التأويل، تأويل نصوص الصفات، وهذا الصنف هم الذين ألّف الشيخ هذه الرسالة للرد عليهم، يقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يعتقد الناس الباطل، هذه النصوص التي جاءت في صفات الله - عز وجل - يزعمون أن ظاهرها التجسيم والتشبيه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - وسلم لا يريد من الناس أن يعتقدوا هذا الاعتقاد، طيب أين الحق إذ كان الذي يظهر من هذه النصوص هو الباطل؟ والتجسيم والتشبيه أين هو؟ في التأويل، في صرف هذه النصوص عن حقائقها، في المعاني البعيدة وليس في المعاني القريبة التي ظهرت من هذه النصوص.
طيب لماذا لم يبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
آلاف النصوص، ليس مئات، آلاف النصوص كلها الذي يظهر فيها -على حد زعم هؤلاء- التجسيم والتشبيه، لماذا لم يوضح الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نص واحد ذاك المعنى البعيد؟ قالوا : لأجل أن يترك الأمر للناس فيبحثوا هم عن الحق، فيجتهدوا، فيحصل لهم أجر هذا الاجتهاد وأجر هذا الكد، يعني يُظهر للناس الباطل ويجعل عموم المسلمين على مر العصور يتخبطون في أعظم مسألة من مسائل الإيمان بالله لأجل أن يحصل لهم اجتهاد البحث، وربما يصلون إلى هذا الحق الذي يزعمون، وربما لا يصلون إليه، ولم يصل إليه إلا آحاد من الناس؛ لأن مَن الذي يستطيع أن يفهم من هذا النص خلاف ظاهره؟ من الذي يستطيع أن يؤول النص التأويل الذي أراده هؤلاء ؟ أناس محدودون .
وهذه النصوص المخاطب بها الجميع أم خاصة من الناس ؟ المخاطب بها الجميع، الكبير والصغير، الذكر والأنثى، المتعلم وغير المتعلم، ولما خاطبنا الله - عز وجل - على لسان رسوله بهذه النصوص أراد من العباد أن يتعبدوه(1/208)
بما ظهر من معاني هذه النصوص، هؤلاء يقولون لا، الذي يظهر من نصوص الصفات هو التشبيه والتجسيم، والحق هناك معانٍ بعيدة، فاجتهِدُوا بعقولكم للوصول إلى الحق.
............................................................................................................
ــــــــــــــــــــــ
يقول : ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف هذه النصوص عن مدلولها.
الآن قول الله - عز وجل - { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) وقول الله - عز وجل - { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ } (2) مدلول هذا النص ما هو؟ إثبات ماذا؟ صفة الغضب لله - عز وجل - غضب الله عليه، نسب الغضب لنفسه { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (3) الذي يظهر من هذا النص، دلالة هذا النص على أيش؟ إثبات اليدين لله - عز وجل - .
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (4) دلالة هذا النص؟ الاستواء على العرش { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (5) دلالة هذا النص؟ إثبات الرحمة .
{ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } (6) دلالة هذا النص؟ إثبات العلو .
يقولون: إنه أراد من الخلق صرف هذه النصوص عن مدلولها الذي دلت عليه، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم إتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته.
الحق يُعرَف من أيش؟ جهته، وما هي جهته ؟ الكتاب والسنة جميل، هؤلاء زعموا أن الحق يكمن في العقول؛ لأن التأويل الذي جاءوا به هل جاء في الكتاب أو السنة؟ لا، بل نحتته عقولهم { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (7) .
__________
(1) - سورة ص آية : 75.
(2) - سورة النساء آية : 93.
(3) - سورة ص آية : 75.
(4) - سورة الأعراف آية : 54.
(5) - سورة الأعراف آية : 156.
(6) - سورة آل عمران آية : 55.
(7) - سورة الأعراف آية : 54.(1/209)
تأويلهم ثم استولى على العرش، هل هناك نص في الكتاب والسنة يدل على هذا المعنى؟ من أين أتى؟ من عقول
هؤلاء المؤولة، من عقول هؤلاء المعطلة، { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) لما خلقت بقدرتي أو نعمتي .
من أين أتى هذا المعنى؟ من عقول هؤلاء.
فالشيخ يقول : إن لازم قولهم بل ظاهر قولهم أن الحق يعرف ويؤخذ من غير جهته، من غير مصدره، من غير الكتاب والسنة؛ لأن الذي يظهر من الكتاب والسنة هو أيش؟ هو التشبيه والتجسيم .
وهذا قول المتكلمة الجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء، من ذلك -كما قلت لكم- كالأشاعرة والكُلابية والسالمية والشيعة ومن نحا نحوهم من كل معطل، نعم .
والذي قصدنا الرد عليهم في هذه الفتيا هم هؤلاء إذ كان نفور الناس -يعني الأولين-
مشهورا، بخلاف هؤلاء فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة، وهم في الحقيقة لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا، ولكن أولئك الفلاسفة ألزموهم في نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات، فقالوا: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بمعاد الأبدان، وقد علمنا الشبه المانعة منه .
ــــــــــــــــــــــ
نعم، الشيخ يبين هنا أن الذين قصد الرد عليهم في هذه الرسالة هم هذه الطائفة الثانية أهل التأويل، والسبب في ذلك قال: لأن نفور الناس من الطائفة الأولى أهل التخييل الفلاسفة وغلاة الباطنية ظاهر، ولهذا -ولله الحمد- شرهم وكفرهم وإلحادهم معروف لدى عامة المسلمين فضلا عن علمائهم.
__________
(1) - سورة ص آية : 75.(1/210)
يقول : بخلاف هؤلاء فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة، نعم، هم زعموا أنهم ينصرون سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنهم يقفون في وجوه هؤلاء الفلاسفة، لكن الشيخ يقول: هم بهذا المنهج الباطل لا هم للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا، لا نصروا الإسلام في مقابل أعدائه من اليهود والنصارى، ولا أيضا ردوا عساكر الفلاسفة واستطاعوا الوقوف في وجه الفلاسفة، لماذا ؟
لأن الشبه التي أوّلوا بها النصوص احتج عليهم بها من؟ هؤلاء الذين ردوا عليهم الفلاسفة، قالوا : أنتم الآن أوّلتم نصوص الصفات، وقلتم إن ظاهرها ليس هو المراد، ودلالة هذه النصوص ليس هو الحق الذي أراده الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنحن نقول لكم: وأيضا ظواهر النصوص التي جاءت فيما يتعلق باليوم الآخر ليست مرادة، فأجزتم لأنفسكم التأويل فأجيزوه لنا، لماذا تمنعوننا من تأويل نصوص اليوم الآخر وتجيزونه لأنفسكم؟
ولهذا أصبح موقفهم ضعيفا تجاه هؤلاء؛ لأن هذا فيه تناقض، النصوص واحدة، ومصدرها واحد .
وكما سيذكر الشيخ فالنصوص المتعلقة بالله - عز وجل - أضعاف أضعاف المتعلقة باليوم الآخر، ما دمتم أجزتم لأنفسكم تأويل هذه النصوص فما المانع أن نؤول نصوص اليوم الآخر؟ ما المانع أن نؤول نصوص الأحكام والمسائل العملية؟ وهذا هو عين التناقض، أن تجيز لنفسك التأويل في بعض النصوص وتمنع التأويل في البعض الآخر نعم .
وأهل السنة يقولون لهؤلاء : ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات،ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد، ويقولون لهم : معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وناظروه عليه، بخلاف الصفات؛ فإنه لم ينكر شيئا منها أحد من العرب.(1/211)
فعُلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، وكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به؟ .
ــــــــــــــــــــــ
وهذا فيه إلزام لهؤلاء المؤولة الذين أنكروا على الفلاسفة تأويل نصوص المعاد، الشيخ يقول: معلوم بالاضطرار أن الكتب الإلهية جاءت فيما يتعلق بصفات الله - عز وجل - أضعاف أضعاف ما تضمنته من نصوص اليوم الآخر، بل إن مشركي العرب منهم من أنكر كما حكى الله - عز وجل - عنهم في القرآن، أنكر المعاد، لكن لم ينقل عنهم أنهم أنكروا شيئا من الصفات.
يقول الشيخ : وعلى ذلك يُعلَم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد؛ لأننا وجدنا طوائف كثيرة تنكر المعاد ولم تنكر الصفات، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، فإذا جاز تأويل نصوص الصفات فمن باب أولى يجوز تأويل نصوص المعاد، هذا من باب الإلزام لهؤلاء المؤولة، نعم.
وأيضا فقد عُلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قد ذَمَّ أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه، ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات، فلو كان هذا مما حُرّف وبُدل لكان إنكار ذلك عليهم أولى، فكيف وكانوا إذا ذَكروا بين يديه الصفات يضحكون تعجبا منه وتصديقا، ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة لأهل الإثبات مثل ألفاظ التجسيم والتشبيه ونحو ذلك، بل عابهم بقوله: { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } (1) وقولهم: { إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } (2) وقولهم : استراح لخلق لما السماوات والأرض فقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) } (3)والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن، فإذا جاز أن نتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى، والثاني مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول
__________
(1) - سورة المائدة آية : 64.
(2) - سورة آل عمران آية : 181.
(3) - سورة ق آية : 38.(1/212)
- صلى الله عليه وسلم - أنه باطل، فالأول أولى بالبطلان .
ــــــــــــــــــــــ
هذا إلزام ثانٍ لهؤلاء المؤولة، يقول : فقد عُلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ذم أهل الكتاب على ما بدلوه وغيروه وحرفوه من الكتاب، ومعلوم أن التوراة مملوءة بصفات الله - عز وجل - بذكر الصفات، فلو كان هذه الصفات مما حرفه وبدله أهل الكتاب لكان أولى بأيش؟ بالإنكار.
بل يقول إنهم كانوا يذكرون بين يديه صفات الله - عز وجل - كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود لما دخل الحبر من أحبار اليهود فقال يا محمد، إنا نجد أن الله يوم القيامة يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع ... إلى آخر الحديث فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - تصديقا لقوله وتلا قوله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } (1) .
فكانوا يذكرون صفات الله - عز وجل - بين يديه ويقرهم على هذا الأمر، ويصدقهم على هذا الأمر، ولم يعترض عليهم كما اعترض النفاة على أهل السنة، إذا ذكروا هذه الصفات ماذا يقول النفاة ؟ يقولون : أنتم مجسمة، أنتم مشبهة، لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الحبر ولغيره من اليهود إذا ذكروه بين يديه الصفات أو يلزم على قولكم هذا أن يكون الله جسما، أو أنتم شبهتم الله - عز وجل - بخلقه.
__________
(1) - سورة الزمر آية : 67.(1/213)
فلهذا يقول المؤلف : ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة لأهل الإثبات، مثل لفظ التجسيم والتشبيه؛ لأن هذه من الشبه التي دائما ما يعترض بها النفاة على أهل السنة في إثبات الصفات، بل عابهم بقولهم { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } (1) الرد عليهم، لما جاء القرآن يرد عليهم في باطلهم هذا، هل رد عليهم في إثباتهم اليد أم في وصف اليد ؟ في وصف اليد.
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (2) المعطلة قالوا : لاحظوا أن الله - عز وجل - أنكر على اليهود لما أثبتوا لله اليد، سبحان الله! أين العقول ؟ أنكر عليهم في وصف اليد مغلولة وصف الله- عز وجل - بأنه بخيل، تعالى الله عن ذلك، لكنه له اليدين، وأثبت أنهما مبسوطتان وقولهم : { إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } (3) وقولهم: استراح لما خلق السماوات والأرض .
الشاهد أنه أنكر عليهم ليس إثبات الصفات، وإنما أنكر عليهم وصف الله - عز وجل - بالنقائص، فلما وصفوه في هذه الآية بالتعب، أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استراح في السابع رد عليهم { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) } (4) يقول : التوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن، التوراة التي بأيدي اليهود مملوءة بذكر صفات الله - عز وجل - المطابقة للصفات المذكورة في القرآن الكريم، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن، وليس في التوراة تصريح بذكر نصوص المعاد كما هي الحال في القرآن.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 64.
(2) - سورة المائدة آية : 64.
(3) - سورة آل عمران آية : 181.
(4) - سورة ق آية : 38.(1/214)
يقول : فإذا جاز أن نتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان، يعني الآن التوراة مليئة بنصوص الصفات، والقرآن مليء بنصوص الصفات، والقرآن مليء بنصوص المعاد، والتوراة ليس فيها إلا نصوص محدودة، فإذا جاز أن نتأول النصوص الواردة في الصفات التي اتفق عليها الكتابان فمن باب أولى أن نتأول نصوص المعاد التي انفرد بها القرآن .
وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة من دين الرسل، وهذا تأويل نصوص المعاد، فيكون تأويل نصوص الصفات من باب أولى مما يعلم بطلانه من الدين بالضرورة.
إذن يقول: فإذا جاز أن نتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدها أولى، والثاني مما يعلم بالاضطرار من دين الرسل، الثاني ما هو؟ تأويل نصوص المعاد مما يعلم بالاضطرار من دين الرسل أنه باطل، فالأول أولى بالبطلان، الأول ما هو؟ نصوص الصفات .
هذا من باب الإلزام لهم، نعم .
وأما الصنف الثالث، وهم أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف يقولون إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعرف معاني ما أنزل الله عليه من معاني الصفات، ولا جبريل يعرف معاني الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك .
وكذلك قولهم في أحاديث الصفات إن معناها لا يعلمه إلا الله، مع أن الرسول تكلم بهذا ابتداء، فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه .
ــــــــــــــــــــــ
نعم هؤلاء الطائفة الثالثة والصنف الثالث ممن خالفوا أهل السنة والجماعة في باب صفات الله - عز وجل - وهم أهل التجهيل، وهم من يسمون بالمفوضة.
وعرفهم ابن القيم -رحمه الله- بقوله : الذين قالوا نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها، ولكن نقرؤها ألفاظا لا معاني لها، ونعلم أن لها تأويلا لا يعلمه إلا الله.
هؤلاء زعموا أن هذه النصوص، نصوص الصفات(1/215)
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (2) { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (3) { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (4) ينزل ربنا يلقى في النار حتى تقول هل من مزيد حتى يضع فيها الرب قدمه إلى آخر هذه النصوص .
يقولون: هذه النصوص ليس لها معنى، بل نقرؤها ونتبعد بها ألفاظا جوفاء، ما معانيها؟ قالوا: الله أعلم، حتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف معاني هذه النصوص، وحتى جبريل الذي نزل بالوحي لا يعرف معاني هذه النصوص، فهذه النصوص مثل ما يردد الإنسان الكلام الأعجمي الذي لا يفقه منه حرفا.
يورد الشيخ أحيانا مثالا يقول: ضع ثلاث حروف مثل: الدال والياء والزاي، ديز، ماذا تفهم؟ لا شيء، فكما أنك الآن تنطق ديز ولا تفهم فيها، فكذلك تقرأ قول الله { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (5) ولا تفهم منه شيئا،
............................................................................................................
ــــــــــــــــــــــ
يقول : يقولون إن الرسول لم يكن يعرف ما أنزل عليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني تلك الآيات، ولا السابقون الأولون، هذا من باب أولى.
وكذلك قولهم في أحاديث الصفات أن معناها لا يعلمه إلا الله مع أن الرسول تكلم بهذا ابتداء، يعني الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: , ضحك ربنا - ولا يفهم معنى هذا الكلام، يقول: , يد الله سحاء - ولا يفهم معنى هذا الكلام، يقول : , المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين - ولا يفهم معاني هذا الكلام، سبحان الله! ولهذا سماهم المؤلف أهل التجهيل، يعني نسبوا الجهل إلى الرسول r وللسابقين ولعموم المؤمنين؛ لأن الذي يردد كلاما لا يفقه معناه هل هو عالم أم جاهل ؟ جاهل، يجهل معنى هذا الكلام، نعم، وسيورد الشيخ الآن الرد عليهم واستدلاله . نعم .__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.
(2) - سورة المائدة آية : 64.
(3) - سورة الأعراف آية : 156.
(4) - سورة الفجر آية : 22.
(5) - سورة الأعراف آية : 54.(1/216)
معنى التأويل الذي لا يعلمه إلا الله والتأويل المذكور في كلام المتأخرين
وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } (1) فإنه وقف كثير من السلف على قوله : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } (2) وهو وقف صحيح، لكن لم يفرقوا بين معنى الكلام وتفسيره وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعلمه، وظنوا أن التأويل المذكور في كلام الله هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين، وغلطوا في ذلك، فإن التأويل يراد به ثلاث معانٍ، فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين.
ــــــــــــــــــــــ
قبل أن ندخل في قضية تفصيل التأويل، المؤلف يقول: هؤلاء أهل التجهيل استدلوا بآية آل عمران، قول الله - عز وجل - { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } (3) استدلوا بهذه القراءة على الوقف على لفظ الجلالة { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } (4) ثم يستأنف الكلام { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ } (5).
__________
(1) 1- سورة آل عمران آية : 7.
(2) 2- سورة آل عمران آية : 7.
(3) 3- سورة آل عمران آية : 7.
(4) 4- سورة آل عمران آية : 7.
(5) 5- سورة آل عمران آية : 7.(1/217)
وهذه قراءة صحيحة، وهي قراءة الجمهور، قرأ بها ابن عباس في رواية، وابن عمر، وعائشة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وأبو الشاث، وإليه ذهب الكسائي والفراء والأخفش، وأبو عبيد، والأصمعي وكثير من العلماء على الوقف على لفظ الجلالة، هم يستدلون، يقولون : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } (1) هذه هي نصوص الصفات.
............................................................................................................
ــــــــــــــــــــــ
يقول الشيخ: نعم هو وقف صحيح، وهو وقف كثير من السلف، لكن هؤلاء أتوا من حيث أنهم لم يفرقوا بين التأويل الذي هو اصطلاح كثير من المتأخرين وبين التأويل في الكتاب والسنة، سبب ضلال هؤلاء وسبب خطأ هؤلاء أنهم أخذوا لفظ التأويل هذا { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } (2) واعتقدوا أن هذا التأويل هو التأويل المتعارف عليه عند المتكلمين.
والتأويل، نستبق كلام الشيخ، نقول: التأويل له ثلاثة معانٍ: معنيان شرعيان وردا في الكتاب والسنة، والمعنى الثالث اصطلاح اصطلح عليه المتأخرون ليس له مستند لا في الكتاب ولا في السنة.
فالتأويل يطلق في القرآن والسنة ويراد به التفسير، وهذا كثيرا ما يستخدمه الإمام ابن جرير -رحمه الله- في تفسيره : القول في تأويل هذه الآية، وممن ذهب إلى تأويل هذه الآية، بمعنى تفسيرها، ومنه قول الله - عز وجل - { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } (3) أي نبئنا بتفسيره، وفيه أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل أي التفسير، هذا هو النوع الأول، يأتي بمعنى التفسير .
وهذا وارد في الكتاب والسنة أم لم يرد ؟ وارد، وأوردنا لكم الأمثلة.
__________
(1) 1- سورة آل عمران آية : 7.
(2) 2- سورة آل عمران آية : 7.
(3) 3- سورة يوسف آية : 36.(1/218)
النوع الثاني: يُطْلَق التأويل في الكتاب والسنة ويراد به الحقيقة التي يؤول إليها الأمر أو الخبر، بمعنى: الأمر أو الخبر يكون خبرا ثم أيش؟ يظهر في الخارج عيانا.
كالأمر، إذا أمرك الله - عز وجل - بالصلاة، ثم أديت الصلاة فعلا، فهذا تأويل أمر الله - عز وجل - والخبر أن يخبرنا الله - عز وجل - عن أمر، عن شيء، ثم يوجد في الخارج، فيكون وجوده في الخارج هو التأويل، مثال: قول الله - عز وجل - { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تاويله يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } (1) .
{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } (2) يوم يأتي تأويل هذا القرآن، إذا جاء يوم القيامة فالآن ما في القرآن من الخبر عن المعاد وعن يوم القيامة هو خبر، ما تأويله؟ وقوعه فعلا يوم القيامة.
وهناك مثال أقرب من هذا: قول الله - عز وجل - عن يوسف: { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } (3) رأى الرؤيا وهو في الصغر، رأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رآهم له ساجدين، لما تولى ملك مصر،
ودخلوا عليه { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } (4) فماذا قال؟ { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ } (5) من الآن وقعت فعلا ظهرت للعين، واضح؟ الآية لما أقول: غدا أو بعد غد سيحضر فلان من الناس، هذا الآن خبر، ما تأويل هذا الخبر؟ إذا حضر هذا الشخص، قلنا: خلاص هذا تأويل هذا الخبر.
__________
(1) 1-- سورة الأعراف آية : 53.
(2) 2-- سورة الأعراف آية : 53.
(3) 3- سورة يوسف آية : 100.
(4) 4- سورة يوسف آية : 100.
(5) 5-- سورة يوسف آية : 100.(1/219)
ومن هذا النوع: قول السيدة عائشة -رضي الله عنها- لما أنزل الله - عز وجل - على رسوله: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) } (1) قالت: كان يُكثر -أنأي يقول- في ركوعه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن " ما معنى يتأول القرآن؟ أي يطبقه، ينفذه، هذا تأويل هذا الأمر.
فـ"سبِّحْ" هو سبحَ، الآن هذا تأويل هذا الأمر، إذًا هذا النوع الثاني من أنواع التأويل، وهذان النوعان هما اللذان جاءا في الكتاب والسنة.
بقي النوع الثالث وهو الذي اضطرب واختلف على هؤلاء، هم نزلوا معنى هذا التأويل{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } ((2) على أنه هو المعنى الثالث.
المعنى الثالث: وهو حرف صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهو
التأويل في اصطلاح المتأخرين، هذا ليس له مستند في بالكتاب والسنة، لكن هو المصطلح السائد عند المتأخرين من أهل الكلام، إذا أطلقوا التأويل فهم يريدون هذا المعنى، وهو المعنى الثالث: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، من الاحتمال الظاهر البين إلى الاحتمال البعيد مثاله.. من يمثل لي؟ "استوى" استولى، هذا يقولون: تأويل .
فهؤلاء المفوضة استدلوا بهذه الآية على أن التأويل الوارد بهذه الآية هو التأويل المعروف عند المتأخرين: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح.
__________
(1) 6-- سورة النصر آية : 1.
(2) 1- سورة آل عمران آية : 7.(1/220)
والصحيح أن التأويل الوارد في هذه الآية: إما أن يراد به التفسير وهذا على قراءة الوصل، من لم يقطع ويقف، من عطف أولو العلم على لفظ الجلالة { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } (1) يكون معنى التأويل هنا التفسير، يعني: وما يعلم تفسيره إلا الله والراسخون من أولي العلم.
وعلى قراءة القطع -قراءة الوصل هي قراءة مجاهد ورواية عن ابن عباس، وقراءة القطع هي قراءة الجمهور- وعلى قراءة القطع يكون معنى التأويل في هذه الآية: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام وهذه الحقيقة لا يعلمها إلا الله، فحقيقة ما في المعاد لا يعلمه إلا الله، وحقيقة هذه الأسماء والصفات، وكيفية هذه الأسماء والصفات لا يعلمها إلا الله، واضح؟ نعم.
فإن التأويل يراد به ثلاث معان: فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك.
ـــــــــــــــــــــــــ
نعم، إذا كان هناك دليل صحيح يقترن بهذا التأويل فالتأويل صحيح، وإذا كان الدليل فاسدا فالتأويل فاسد، التأويل الفاسد مثل: كجل تأويلات المعطلة لنصوص الصفات هو من باب التأويل الفاسد، لا أقول: "جُلّ"، كل تأويل المعطلة لنصوص الصفات هو من باب التأويل الفاسد.
أما التأويل الصحيح أن يكون فعلا هناك دليل يدل على صرف اللفظ من هذا الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، والأمثلة على هذا قليل، منها قول الله - عز وجل - أن بعض العلماء يستدل بعض العلماء بقول الله -عز وجل: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } (2) ظاهر اللفظ ما هو؟ "أتى" يدل على أنه أتى وانتهى، لكن المعنى الصحيح أو التأويل الصحيح أنه سيأتي، أين الدليل؟ { فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } (3) واضح؟
__________
(1) 2- سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة النحل آية : 1.
(3) - سورة النحل آية : 1.(1/221)
وأيضًا قول الله -عز وجل تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ } (1) ظاهر اللفظ يدل على أن الإنسان لا يستعيذ إلا إذا فرغ من القراءة { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ } (2) لكن نحن صرفناه عن ظاهره إلى أن الإنسان إذا أراد أن يقرأ فليستعذ لدليل؛ لأنه ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأ استعاذ واضح؟ فهذا الذي يمكن أن يمثَّل له بالتأويل الصحيح على اصطلاح المتأخرين، نعم.
فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلات عن اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلا مخالفا لمدلولها لا يعلمه إلا الله أو يعلمه المتأولون.
ـــــــــــــــــــــــــ
نعم، يقول: "فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلا على اصطلاح هؤلاء" المعنى الذي يظهر من نصوص الصفات ليس بتأويل على اصطلاح هؤلاء، بل لا بد أن يبحثوا له عن معنى بعيد، هم يزعمون أن الدليل المقترن الذي حملهم على صرف ذلك هو العقل: الأدلة العقلية التي جاءوا بها، وظنوا أن مراد الله بلفظ التأويل ذلك، يعني: ظنوا أن التأويل الذي جاء في الآية المقصود به هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح.
ونحن قلنا: إن الصحيح أن التأويل الذي جاء في الآية إما أن يراد به التفسير، أو يراد به الحقيقة التي يؤول إليها الأمر، نعم.
ثم إن كثيرا من هؤلاء يقولون: تُجرى على ظاهرها فظاهرها مراد، مع قولهم: إن لها تأويلا بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله، وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى لالسنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــ
نعم، هؤلاء المفوضة قالوا: تُجرى هذه النصوص على ظاهرها، ظاهرها مراد أو غير مراد؟ قالوا: مراد، يعني: مراد من الشارع، مراد من الله -عز وجل، أراد ظاهر هذا النص، طيب هل هو معلوم؟ قالوا: لا.
__________
(1) - سورة النحل آية : 98.
(2) - سورة النحل آية : 98.(1/222)
سبحان الله!! وتعالى هذا تناقض ظاهر واضح، كيف تقول لي: إن ظاهرها مراد، وتقول: لا يعلمه إلا الله، أنت لما قلت: إن ظاهرها مراد فيدل هذا على أنك فهمت المعنى، أنت الآن حكمتَ على هذا اللفظ، قلت: أجري اللفظ على ظاهره، وظاهره مراد! الآن حكمت عليه، حكمت عليه بناء على ماذا؟ على أنك فهمت معنى هذا اللفظ.
ثم تأتي -في نفس الكلام- وتقول: المعنى لا يعلمه إلا الله! لو كان المعنى لا يعلمه إلا الله فلا يجوز لك أن تقول: أجره على ظاهره أو غير ظاهره، ولا تقول: مراد ولا ليس مرادا؛ لأنك ما تفقه أصلا من شيء، لا تحكم عليه لا من قريب ولا من بعيد، فإذا حكمت عليه بأي حكم فأنت فهمت منه معنى، فتكون متناقضا إذا قلت: إن معناه لا يعلمه إلا الله .
وهذا ظاهر التناقض في مذهب هؤلاء، الذين هم من؟ المفوضة الذين يقولون: أجرِ النصوص على ظاهرها، لكن لا بد تعتقد أن ظاهرها لا يعلمه إلا الله، أن معناها لا يعلمه إلا الله.
من قال لك: إن معناها لا يعلمه إلا الله، لماذا لا يكون معناها هو ما يظهر منها، لماذا؟ فإن قلت: لا، فأنت الآن حكمت، وإذا حكمت بمعنى أنك فهمت من النص، وإذا فهمت من النص فأنت ناقضت قولك، أن تقول: إن هذا النص لا يعلمه إلا الله، مثل ما قلت لكم، مثل لفظ "ديس" هل تفهم منه شيءئا، لا يجوز أن تقول لهذا الإنسان: أجْرِه على ظاهره، أو لا تجره على ظاهره، ولا له معنى ولا ليس له معنى؛ لأنك أصلا ما تفقه من شيءئا .
فهؤلاء المفوضة متناقضون فيما ذهبوا إليه، وهذا قول الشيخ: وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم.
ونقف على هذا، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلم أجمعين.
قبل أن نبدأ بالأسئلة السؤال الذي طُرح بالأمس: الجمع بين آية المعارج وآية السجدة؟(1/223)
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن الألف { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } (1) الألف التي جاءت ذكرها في سورة الحج هي أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، والألف التي جاء ذكرها في سورة السجدة هي لعروج الأمر ونزوله من الله -عز وجل، والخمسين ألف التي جاء ذكرها في المعارج هي يوم القيامة.
وهناك وجه آخر ذكره محمد الأمين الشنقيطي -رحمة الله عليه- صاحب "أضواء البيان" وهي أن الألف، والخمسين ألف سنة، هي: يوم القيامة بحسب حال المؤمن والكافر؛ فالمؤمن تكون عليه يسيرة وقصيرة، والكافر تكون عليه طويلة وعسيرة، والله أعلم، نعم.
س: أحسن الله إليك، يقول: ما هو الفرق بين القسم الأول من أهل التخييل، والصنف الثاني وهم أهل التجهيل، علما أنهم يقولون بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم: لا يعلم معاني هذه النصوص.
ج: الفرق بينهما: أن أهل التخييل جعلوا لهذه النصوص معاني، قالوا فعلا أن الرسول لا يعلمها، لكن من الفلاسفة وممن يسمونهم أولياء علم معناها، واضح، أما أهل التجهيل فلا، عندهم لا أحد يعلم معاني هذه النصوص، لا يعلمها إلا الله؛ لا جبريل، ولا النبي -صلى الله عليه وسلم، ولا المؤمنين، ولا العرب، ولا العجم. لا أحد يعلم معناها،.
منهم من قال: إن الرسول لا يعلمها لكن نحن نعلمها، ومنهم من قال: إن الرسول يعلمها ونحن نعلمها، ولها باطن يخالف الظاهر، فهذا هو الفرق بين الطائفتين، نعم.
__________
(1) - سورة السجدة آية : 5.(1/224)
س: أحسن الله إليكم، يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وفقكم الله! ما تقولون في رسالة الإمام الذهبي في الرد على شيخ الإسلام في مسائل عقدية، هذا وقد عثرت على إسنادها، وما وجدته أن رجاله ثقات من بالذهبي إلى الحافظ، ووقفت على كلام أنه للسخاوي -رحمه الله- يثني على هذه الرسالة والمخطوط موجود في ثلاث ورقات، إضافة إلى أني وقفت على كلام للذهبي في "الدرر الكامنة" بشأن شيخ الإسلام -رحمه الله وفيه: "ونخالفه في باقي بعض الأصول والفروع" أفلا يكون ذلك شاهدا لما في الرسالة من مضمون، وقد صنف بعض الأشاعرة في إثبات هذه الرسالة وإحاطتها ببعض القرائن.
ج: الإمام الذهبي -رحمه الله- معروف موقفه من شيخ الإسلام أو من قرينه، ويعتبر من أقران الشيخ، أثنى عليه كثيرا، وذكره بعبارات حقيقة قلما من وصف الشيخ بها، قال: رأيت رجلا كأن العلوم نُصبت بين عينيه يأخذ منها ما شاء ويذر.
ولعلي أورد شيئا من عباراته التي أثنى بها على شيخ الإسلام ثناء عاطرا في الدرس القادم، لكن يبقى أن الإمام الذهبي نعم له موقف في دخول شيخ الإسلام وتعمقه في علم الكلام؛ فالإمام الذهبي يرى أن الأولى تجنب التوسع في هذا الباب على مذهب أو على رأي السيوطي ومن على شاكلته.
أما أنه اعترض على شيخ الإسلام، أو خالفه في مسألة من مسائل الصفات فأنا لا أعلم شيئا من ذلك، بل المشهور والمعروف عن الإمام الذهبي أنه في باب الأسماء والصفات على منهج أهل السنة والجماعة، نعم هناك عنده -لا نستطيع أن نقول- مآخذ فيما يتعلق بجانب توحيد العبارة العبادة، لكن ليست بذاك بحيث يشنع عليه بها لكن عنده، أما في توحيد الأسماء والصفات فلا، والله أعلم.(1/225)
وأنا لا أعرف هذه الرسالة، نعم أعرف أنه هناك من أهل البدع من شنع على شيخ الإسلام، وزعم أن الإمام الذهبي قال فيه وقال، لكن الذي بين أيدينا من كلام الإمام الذهبي أبدا هو الثناء العاطر على شيخ الإسلام والتزكية التي قلما زكي بها الشيخ بمثل عبارات الإمام الذهبي، لكنه ما وافقه على قضية.. قال: يا ليته ما دخل في هذا العلم؛ علم الفلسفة وعلم المنطق ومناظرة هؤلاء.
نحن نقول ابتداء: نعم ينبغي للإنسان ألا يدخل في هذا العلم؛ لأنه قلما إنسان دخل فيه فسلم، ولكن هذه تعتبر منقبة لهذا الإمام؛ لأنه دخل فيه وخرج كما دخل لم يعلق منه شيء، بل إن الله - عز وجل - هيأه للرد على هؤلاء وهلهلة هؤلاء وفضح هؤلاء بالأدلة النقلية والأدلة العقلية، نعم .
س: أحسن الله إليكم، يقول: كيف نجمع بين قوله : وكلتا يديه يمين وفي الحديث الآخر إثبات الشمال لله -تعالى.
ج: نعم، جمع العلماء بينهما أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم: الله - عز وجل - له يد يمين وله يد شمال، كما جاء في الحديث، لكن في قوله في الحديث: : وكلتا يديه يمين كما ذكره الإمام ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث"، قال: ذكر ذلك دفعًا لتوهم النقص، اليد الشمال بالنسبة لحق المخلوق ليست كاليد اليمين، فهي أضعف من اليد اليمين، واليد اليمين دائما تستخدم في الأشياء المحترمة بخلاف اليد الشمال، فلما كان هناك احتمال أن يرد لذهن بعض الناس أنه إذا أُثبت الله اليد الشمال أن تكون اليد الشمال أقل من اليد اليمين
كما هي الحال في المخلوق أراد النبي - صلى الله عليه وسلم -دفع هذا التوهم فقال:وكلتا يديه يمين بمعنى: كلتا يديه يُمن وبركة، ليس فيها نقص في وجه من الوجوه، نعم.(1/226)
س: أحسن الله إليكم، يقول: معلوم أن الله في السماء مستو على عرشه، وهل عرشه على الماء، والله يحفظكم.
ج: نعم، هذا هو الذي جاء في حديث العباس، وإن كان ضعفه بعض العلماء: أن ما بين السماء كذا إلى كذا، ثم قال: وفوق السماء السابعة ماء وفوقه العرش نعم، وجاء ذلك في قول الله -عز وجل: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } (1) وفسرت هذه الآية بحديث العباس.
س: أحسن الله إليكم، يقول: أُشهد الله أني أحبك فيه، وسؤالي هو: يستدل المبتدعة على تأويل الصفات الفعلية كالنزول والمجيء والإتيان بقوله -تعالى: { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } (2) نرجو بيان الجواب عن ذلك.
ج: جعلنا الله وإياكم وإياه من المتحابين فيه! أقول: كما ذُكر سابقا أنه دائما لفهم الكلام لا بد من فهم السياق الذي ورد فيه، وهذا هو أسلوب العرب، وهذا هو كلام العرب الذي جاء به القرآن، القرآن نزل بلغة العرب، والعرب يطلقون هذه اللفظة ويكون لها عدة معان، متى يتعدد يتحدد هذا المعنى، ويراد هذا المعنى ولا يراد هذا المعنى؟ بالسياق، فسياق هذه الآية ليس في مجيء الله - عز وجل - إنما مجيء العذاب، والكلام حول العذاب.بخلاف الآيات الأخرى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (3) صريح في مجيء الله عز وجل - فلماذا نؤولها ونقول: مجيء الملائكة، أو مجيء الرحمة؛ السياق لا يحتمله، أما هذا فالسياق يحتمله مثل قول الله -عز وجل: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (4)والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) - سورة هود آية : 7.
(2) - سورة النحل آية : 26.
(3) - سورة الفجر آية : 22.
(4) - سورة البقرة آية : 115.(1/227)
أن وافق ظاهره أو لم يوافق، وهذا هو التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، وهو موافق لوقف من وقف من السلف على قوله -تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } (1) كما نُقل لك عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم. وكلا القولين حق باعتبار كما قد بسطناه في مواضع آخر؛ ولهذا نقل عن ابن عباس هذا، أو وهذا وكلاهما حق.
ـــــــــــــــــــــــ
نعم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
لا زال كلام المؤلف -رحمه الله- في الرد على المفوضة واستدلالهم بآية آل عمران وهي قوله سبحانه: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } (2) وذكر أنهم أوتوا من حيث أنهم لم يفهموا من التأويل إلا ما جاء عن المتأخرين، وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح.
وذكر أن هذا الاصطلاح ليس له أصل في الكتاب والسنة، وإنما التأويل الوارد في الكتاب والسنة هو أحد معنيين، هو المعنى الثاني الذي ذكره بقوله: والمعنى الثاني أن التأويل هو تفسير الكلام سواء وافق ظاهره أو لم يوافقه؛ بمعنى: إذا فُسر هذا الكلام سواء كان هذا التفسير بما يتوافق مع الظاهر أو يختلف مع الظاهر فهو المراد بالتأويل .
وذكرت لكم بالأمس أمثلة على ذلك من الكتاب والسنة: من القرآن: قول الله -عز وجل { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } (3) بمعنى: نبئنا بتفسيره، ومن السنة حديث: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل أي: التفسير
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة آل عمران آية : 7.
(3) - سورة يوسف آية : 36.(1/228)
وهو وهذا هو الاصطلاح الذي يستخدمه ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسيره، فيقول: "القول في تأويل هذه الآية..." بمعنى: في تفسير هذه الآية، يقول: وهذا هو التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، التفسير مما يعلمه الراسخون في العلم.
وبناء على ذلك هو موافق لوقف من وقف على قوله: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } (1) كقراءة ابن عباس ومجاهد وغيرهم، فمن وقف على "أولي العلم" يعني عطف "أولي العلم" على الله على لفظ الجلالة أراد بالتأويل في هذه الآية أي المعاني؟: التفسير، كأن معنى الكلام: وما يعلم تفسيره إلا الله والراسخون في العلم، واضح؟
يقول: كما نقل ذلك عن ابن عباس ومجاهد، يعني قراءة الوقف، وهي قراءة صحيحة -كما نقل ذلك عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن إسحاق بن يسار وابن قتيبة الذي هو عبد الله بن مسلم المتوفى سنة مائتين وست وسبعين وغيرهم.
"وكلا القولين حق باعتبار" أي القولين؟ التفسير والحقيقة التي..، - ليس معنى القول الأول اللي هو المعنى الأول والمعنى الثاني، لا، وكلا القولين حق، أي: قراءة من قرأ بالوقف على لفظ الجلالة { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ } (2) انتهى الكلام، { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ } (3) فالواو هنا قالوا: وهنا على قراءة من قرأ بالوقف تكون عاطفة أو استئنافية؟ تكون استئنافية. ويكون "راسخون" مبتدأ، ابتدأ الكلام.. استأنف الكلام من جديد، وقراءة الوقف هي قراءة الجمهور، لكن لا تعارض بين القولين .
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 7.
(2) - سورة آل عمران آية : 7.
(3) - سورة آل عمران آية : 7.(1/229)
لو قلنا: إن التأويل ليس له إلا معنى واحد لكان هناك تعارض، كيف؟ جماعة يقولون: إن تأويله يعلمه الله والراسخون في العلم، وجماعة أخرى يقولون: لا يعلمه أولوي العلم.
لكن لما تبين أن التأويل له أكثر من معنى اتضح أن كلا القراءتين حق، فمن وقف أراد معنى، ومن وصل أراد المعنى الآخر، وبهذا تجتمع الأقوال ولا يكون هناك تعارض أو تناقض، نعم؛ ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا.
وكلاهما حق" يعني: ابن عباس نفسه - رضي الله عنه - قرأ بالوقف، وقرأ بالوصل؛ فإذا قرأ بالوقف أراد المعنى الأول الذي سيأتينا، وإذا قرأ بالوصل أراد المعنى الثاني الذي هو التفسير.
والمعنى الثالث: هو أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، وإن وافقت ظاهره فتأويل ما أُخبر به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك هو الحقائق الموجودة أنفسها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان ويعبر عنه باللسان.
وهذا هو التأويل في لغة القرآن كما قال -تعالى- عن يوسف -عليه السلام- أنه قال: { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } (1) وقال -تعالى: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } (2) وقال -تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) } (3) وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله.
ـــــــــــــــــــــــــ
نعم، هذا هو المعنى الثالث، ولعل الشيخ يقول: هذا هو الأكثر ورودا في القرآن وهو أن التأويل يأتي ويراد به: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام.
__________
(1) - سورة يوسف آية : 100.
(2) - سورة الأعراف آية : 53.
(3) - سورة النساء آية : 59.(1/230)
وكما ذكرت بالأمس أن الكلام إما طلب أو إنشاء، والإنشاء هو الخبر، والطلب: إما فعل أمر أمر أو طلب ترك، فالأخبار مثل لو أقول لكم كما ذكرت بالأمس: غدا سيحضر زيد، هذا خبر، تأويله: حضور زيد، فعلا إذا حضر نقول: هذا تأويل الخبر الذي بالأمس، حقيقة وجود هذا الكلام في الخارج هو التأويل.
أما الطلب: فهو إما طلب فعل أو طلب ترك، لما أقول لأحدكم: قم، تأويل هذا الطلب القيام نفسه، لا تخرج تأويله عدم القيام الخروج واضح؟ .
فإذا قال الله - عز وجل - لرسوله: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } (1) فما تأويل هذا؟ فعلُ النبي - صلى الله عليه وسلم - تطبيق النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا عائشة تقول: " كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن " يطبق القرآن، واضح ؟
وإذا نهانا الله - عز وجل - عن الغيبة وعن النميمة فامتنعنا عن هذا الأمر فهذا تأويل هذا الطلب، واضح ولا ما هو واضح ؟
ضرب المؤلف على ذلك أمثلة يقول: والمعنى الثالث: أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول الكلام إليها وإن وافق ظاهره، فتأويل ما أخبر به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك هو الحقائق الموجودة أنفسها.
بمعنى: الله - عز وجل - أخبرنا أن القيامة سيكون فيها كذا وكذا وكذا، وأن هناك جنة فيها أنهار من لبن وأنهار من عسل وأنهار من ماء، وفيها أشجار، نعم وفيها قصور وفيها حور، وأخبرنا عن النار وما فيها. تأويل هذه الأخبار هي الحقائق نفسها، هي حقيقة هذه الأمور، حقيقة ما في الجنة، حقيقة ما في النار، حقيقة ما في القيامة، لا ما يُتصور من معانيها في الأذهان .
__________
(1) - سورة النصر آية : 3.(1/231)
أليس لأن الآن الله أخبرنا عن الجنة وما فيها، فعندنا تصور ذهني عن هذه الأمور وإلا لا؟ عندنا تصور عن أنهار الجنة، وعن قصور الجنة، وعن عذاب النار -أعاذنا الله وإياكم منها.
هناك تصور ذهني عنها، هذا التصور الذهني ليس هو التأويل، إنما التأويل هو عينها، حقيقتها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان ويُعبر عنه باللسان.
الله - عز وجل - عبر مثلا عن الأنهار أن فيه ا أنهار من لبن في الجنة، ونحن نقول: في الجنة أنهار من لبن، تأويل هذا الخبر هو ذات النهر الذي من لبن في الجنة.
وهذا هو التأويل في لغة القرآن كما قال -تعالى- عن يوسف : { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } (1) فيوسف أخبر في صغره أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا رآهم يسجدون له، هذا الآن خبر ولا واقع؟ خبر ما وقع منه شيء، لما تولى مُلك مصر ودخل أخوته وأبواه عليه وخروا له سجدا قال: { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ } (2) الآن وقعت في الخارج ظهرت في العيان، هذا حقيقة تلك الرؤيا، فهذا تأويلها.
وقال -تعالى: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ
__________
(1) - سورة يوسف آية : 100.
(2) - سورة يوسف آية : 100.(1/232)
قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } (1) الرسل جاءت للأمم أن هناك يوما آخر يجازى فيه الناس، يجازى فيه المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته، وهناك جنة ونار، هذه الأمور كذب بها بعض الأمم وقابلوا رسلهم بالتكذيب، فالله - عز وجل - يقول: انتظروا { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } (2) إذا وقع فعلا يوم القيامة ماذا يقول هؤلاء المكذبون ؟ { يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } (3) هذا ما جاءت به الرسل وهذا ما أخبرنا به الرسل فعلا وقع كما أخبروه فهذا هو تأويل تلك الأخبار التي أخبرت بها الرسل.
ثم مثّل أيضا المؤلف في قوله -سبحانه: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) } (4) التأويل هنا يحتمل المعنى الثاني ويحتمل المعنى الثالث، يحتمل أن يكون المعنى: "ذلك خير وأحسن تفسيرا" كونكم رددتم هذا الأمر الذي تنازعتم فيه إلى الله والرسول تنازعتم في معناه، فهذا أفضل وأحسن من تفسيركم ومن اجتهاداتكم.
ويحتمل أن يكون المعنى: الحقيقة، هذا حقيقة الإيمان أنك ترجع عند التنازع إلى الله ورسوله، وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله، حقيقة ما أخبر الله به عن الجنة وعن النار وعن نفسه من الأسماء والصفات، هذه الحقيقة هل يعلمها أحد من البشر؟ الجواب لا، فهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله المتوافق مع وقف من وقف على لفظ الجلالة، نعم.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 53.
(2) - سورة الأعراف آية : 53.
(3) - سورة الأعراف آية : 53.
(4) - سورة النساء آية : 59.(1/233)
فتأويل الصفات هو الحقيقة التي انفرد فرض الله بعلمها وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السلف كمالك وغيره: الاستواء معلوم والكيف مجهول، فالاستواء معلوم يُعلم معناه وتفسيره ويترجم بلغة أخرى، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله -تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــ
إذن تأويل صفات الله - عز وجل - هي الحقيقة وهذه الحقيقة هي الكيفية التي استأثر الله بعلمها، وأمسك السلف عن تحديدها، فهم يثبتون الصفة ويعلمون معناها لكن الكيفية هي التأويل التي استأثر الله بعلمها يقول: فتأويل الصفات هي الحقيقة التي انفرد الله بعلمها، ما هي هذه الحقيقة؟ وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السلف كمالك وغيره كالإمام ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك كما سيأتي: الاستواء معلوم والكيف مجهول.
فالاستواء معلوم، يُعلم معناه ويفسر ويترجَم، فلو لم يكن معلوما -كما زعم المفوضة- لما جاز إيضاح معناه ولا ترجمة معناه، إنما العرب تعرف أن معنى الاستواء هو العلو والارتفاع، طيب، كيفية هذا الاستواء المضاف إلى الله - عز وجل - هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، نعم.
وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- كما ذكره عبد الرزاق وغيره في تفسيرهم عنه أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يكفر يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله -عز وجل، من ادعى علمه فهو كاذب، وهذا كما قال -تعالى: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر -
__________
(1) - سورة السجدة آية : 17.(1/234)
نعم، يقول المؤلف: وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما ذكره عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة مائتين وإحدى عشر صاحب "المصنف" الإمام الحافظ وغيره في تفسيرهم، تفسيره مطبوع الآن ولا بأس أن نذكر هناك لطيفة يذكرها العلماء في ترجمة عبد الرزاق وإن لم تكن متصلة بالموضوع لكن نروح بها عن النفوس:
معلوم أن عبد الرزاق شيخ للإمام أحمد -رحمه الله، وقد رحل إليه الإمام أحمد ويحيى بن معين ليسمعا منه وبقي عنده معه الإمام أحمد مدة وأدرك معه عيد الفطر، فقال الإمام أحمد ليحيى بن معين: انظر إذا خرج الإمام عبد الرزاق فإن كبّر كبرنا وإن سكت سكتنا، يعني: في مسألة مشروعية التكبير في صبيحةاح يوم العيد قبل الصلاة.
فخرج وخرجا معه فما كبر وما كبرا، لما انقضى من الصلاة دعاهما للغذاء فسألهما قال: رأيت منكما عجبا! قالوا: ما رأيت؟ قال: أنكما لم تكبرا لما خرجتما إلى المصلى، فقالا له: إنا قد أحرزنا في أنفسنا أنك إن كبرت كبرنا وإن لم تكبر لم نكبر، وفقال: وأنا كذلك أحرزت في نفسي إن رأيتكما كبرتما كبرت وإن سكتما سكت.
لاحظوا يا إخوان هذا التكامل بين هؤلاء، بين أستاذ وتلاميذ بين أئمة في الواقع، في منتهى الأدب، في منتهى التقدير، علما بأن كل واحد منهم إمام بحد ذاته.
أيضا من لطيف ما يذكر في ذلك الإمام أحمد -رحمه الله- جاء وكان -يعني- يريد البقاء أياما محدودة يسمع من عبد الرزاق ويرجع إلى بغداد لكنه بقي عنده مدة فطالت المدة، ونفذدت النقود التي معه، فأراد عبد الرزاق أن يعطيه شيئا من المال يتقوى به فأبى وخرج إلى السوق -رحمه الله- وبدأ يشتغل بنفسه، ماذا يشتغل؟
يحمّل للناس بأجرة، من هذا ؟! الإمام أحمد، في سبيل ماذا ؟ يبحث عن تجارة ؟ عن منصب ؟ ذهب يتسوح!! في سبيل هذا العلم.(1/235)
ولهذا لا نتصور أن هذا العلم الذي وصل إلينا وصل إلينا بتلك السهولة التي يتصورها كثير من الناس، هذا العلم وصل إلينا عن طريق هؤلاء الصيارفة، هؤلاء الأئمة الذين بذلوا في سبيله أغلى ما يملكون. بذلوا أوقاتهم حياتهم جهدهم في سبيل أن يقدموا لنا هذا العلم غضا طريا. تعرضوا للأخطار، هجروا وتركوا بلادهم وأموالهم وأولادهم.
بقي بن مخلد صاحب المسند المشهور الذي يقول عنه الإمام الذهبي: أكبر مسند في الدنيا، رحل من بلده في الأندلس وهو شاب يفع في مقتبل العمر، رحل إلى المشرق ليطلب العلم، وما رجع إلى بلده إلا بعد مضي أكثر من أربعين سنة، يسمى رحالة الإسلام، رجع وقد شاخ وشاب، لكن رجع ومعه سبع وعشرون جملا محملة بالكتب التي كتبها بيده.
الإمام البخاري -رحمه الله- كتب تاريخ "التاريخ الكبير" الذي يعتبر نادرا في فنه، رحمه الله- كتبه على ضوء المصابيح؟ كتبه على ضوء القمر في الليالي القمرية.
هذه الأمور حقيقة تجعل عند ا المسلم الإحساس بقيمة هذا العلم وألا يستكثر الإنسان مهما بذل في سبيله، فهو من أجلّ العبادات بل عده الإمام أحمد أفضل من الجهاد في سبيل الله.
نعود إلى ما نحن فيه بيقول ما ذكره عبد الرزاق وغيره في تفسيرهم عنه عن ابن عباس أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وذلك مثل: غريب القرآن الذي لا يمكن أن يفهم إلا من خلال معرفة لغة العرب، ماذا أرادوا بهذا اللفظ؟ مثل: الزرابي، النمارق، الأحقاب، الشاهد أن هناك مؤلفات ألفت في غريب القرآن.
النوع الثاني: وتفسير لا يعذر أحد بجهالته؛ كالمعاني الشرعية المتعلقة بما يجب على العبد؛ كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج، والتوحيد، فهذا لا يعذر أحد أنه يجهله،.(1/236)
لا يمكن أن يقول إنسان: والله لا أفهم قول الله -عز وجل: { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } (1) { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } (2) { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } (3) { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) } (4) فهذه مفهومة لعامة المسلمين.
وتفسير يعلمه العلماء؛ كتفسير العام والخاص والمقيد والمطلق والناسخ والمنسوخ ونحو ذلك، فهذا لا يعلمه إلا العلماء، معلوم أن القرآن اشتمل على عام وخاص ومقيد ومطلق وناسخ ومنسوخ فمن يميز بين هذه الأمور ؟ أهل العلم. يقول لك: هذه الآية منسوخة بتلك الآية، هذه الآية مقيدة بتلك الآية، هذه الآية مخصصة بتلك الآية.
وتفسير لا يعلمه إلا الله - عز وجل - مَن ادعى علمه فهو كاذب، وما هو هذا التفسير؟ حقائق ما أخبر الله به، حقيقة ما أخبر الله به عن الجنة، حقيقة ما أخبر الله به عن النار، عن يوم القيامة، حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء والصفات.
هذه الحقائق لا يعلمها إلا الله، استأثر الله بعلمها وضرب على ذلك مثالا في قوله: وهذا كما قال تعالى: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } (5) لا يمكن لنفس أن تعلم حقيقة ما أخفاه الله - عز وجل - من نعيم الجنة .
واستدل على ذلك بما ثبت في الصحيحين في الحديث القدسي " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ولهذا ابن عباس يقول: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 72.
(2) - سورة طه آية : 14.
(3) - سورة الإخلاص آية : 1.
(4) - سورة الإخلاص آية : 3.
(5) - سورة السجدة آية : 17.(1/237)
أخبر الله - عز وجل - أن في الجنة أنهار من لبن، ونحن نعلم ما هو اللبن، ليس كالعسل وليس كالماء، لكن حقيقة هذا اللبن الله أعلم به. إذا كان نوع من أنواع ماء الجنة من شرب منه لم يظمأ أبدا، فما الظن بالعسل ؟ ما الظن بالخمر ؟ ما الظن باللبن؟ الشاهد أن حقيقة حقائق هذه الأمور الأشياء مما استأثر الله بعلمه. نعم.
الرد على المفوضة في الأسماء والصفات
وإن كنا نفهم معاني ما خوطبنا به ونفهم من الكلام ما قُصد إفهامنا فها هنا إياه كما قال -تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) } وقال -تعالى: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } (2) (1فأمر بتدبر القرآن كله لا بتدبر بعضه.وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما: أنهما كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا،..
وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس -رضي الله عنهما- من فاتحته إلى خاتمته، أقف عند كل آية أسأله عنها، وقال الشعبي: ما ابتدع أحد بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها، وقال مسروق: ما قال أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه، وهذا باب واسع قد بسط في موضعه.
ـــــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة محمد آية : 24.
(2) - سورة المؤمنون آية : 68.(1/238)
نعم، عاد المؤلف ليؤكد في الرد على هؤلاء المفوضة الذين يقولون: إن نصوص الأسماء والصفات لا يعلم أحد معناها، وأن معناها لا يعلمه إلا الله، قال: فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، أي: حقائق الأمور، وإن كنا نفهم معاني ما خوطبنا به، بمعنى: إذا خاطبنا الله - عز وجل - بأن في الجنة قصورا وحورا وأنهارا فيها لبن وعسل وماء، يُفهم هذا أو لا يفهم ؟ يفهم، لكن حقيقته هي الغائبة.
كذلك إذا أخبرنا عن نفسه أنه سميع بصير وأنه مستو على العرش، وأن له رحمة وأنه يغضب وأنه يجيء يوم القيامة وأنه ينزل كل ليلة، نحن نفهم هذه المعاني، فنفرق بين السمع والبصر، ونعلم أن السمع يختلف عن البصر، كما أنا أن القدرة تختلف عن الإرادة، والنزول يختلف عن الصعود والعلو يختلف عن السفول .
ثم أورد المؤلف الدليل على أن كل ما في القرآن مفهوم المعنى، وأن ما خوطبنا به نفهم معناه، ورد على هؤلاء المفوضة الذين زعموا أن في القرآن ما لا يفهم معناه، استدل عليهم بقوله أو بالآيات التي فيها الأمر
بتدبر القرآن، فقال -تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) } (1) { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } (2) { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ } (3) { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) } (4) { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) } (5) .
__________
(1) - سورة محمد آية : 24.
(2) - سورة المؤمنون آية : 68.
(3) - سورة النساء آية : 82.
(4) - سورة النساء آية : 82.
(5) - سورة ص آية : 29.(1/239)
فالله أمر بتدبر القرآن أم بتدبر بعض القرآن ؟ نعم يا جماعة. هذه الآيات عامة أمرنا بتدبر القرآن كله، ولم يستثن من ذلك شيئا، ولو كان في القرآن ما لا يفهم معناه لكان الأمر بتدبره من باب اللغو الذي لا فائدة منه، بل من باب التعجيز ومن باب التكليف بما لا يطاق.
وهذا ينزه الله - عز وجل - عنه، كيف تأمرني بتدبر كلام لا أفهم معناه؟ هذا فيه تعجيز للعباد فيه تكليف لهم بما لا يستطيعون؛ لأن التدبر مستلزِم للفهم فإذا جئتني بكلام أعجمي وأنا لا أعرف حرفا من حروف كلام الأعاجم، ثم قلت لي: تدبر هذا الكلام، كان أمرك لي لغوا، أيش أتدبر كلاما ما أفهمه! لا بد أولا أن أفهم الكلام ثم أتدبر معناه .
فإذا أمرنا الله - عز وجل - بتدبر القرآن ولم يستثن من ذلك شيءئا، وفي مقدمة ذلك ما تضمن أسماءه وصفاته دل هذا على أن نصوص الصفات مفهومة المعاني أو غير مفهومة المعاني؟ مفهومة المعاني.
ثم استدل أيضا بأثر أبي عبد الرحمن السلمي الذي رواه الإمام أحمد وابن جرير والحاكم وصحح إسناده، قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن من الصحابة؛ عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما: أنهم كانوا -أي كان الصحابة- إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا.
الشاهد من الأثر: أن الصحابة تلقوا هذا القرآن وتعلموه من النبي - صلى الله عليه وسلم - دون استثناء، فهموا معانيه وطبقوا
أوامره، امتثلوا أوامره وانتهوا عن نواهيه، فجمعوا بين العلم والعمل ولم يذكروا أن هناك آيات في القرآن أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يضربوا عنها صفحا، قال: يتجاوزونها؛ هذه لا يفهم معناها، هذا كما يقوله هؤلاء المفوضة.(1/240)
يقول: وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس -رضي الله عنهما- من فاتحته إلى خاتمته، أقف عند كل آية وأسأله عنها، وفي رواية أنه قال: ثلاث مرات أعرضه على ابن عباس آية آية، أما العرض العام فثبت عنه أنه قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاثين مرة، لكن الذي وقفه عند كل آية ثلاث مرات، ولم يستثن من ذلك شيئا، بمعنى: أن ابن عباس فسر له القرآن كاملا، ومجاهد يعتبر من أجل تلامذة ابن عباس .
يقول: وقال الشعبي عامر بن شراحيل المتوفى سنة مائة وأربع: ما ابتدع أحد بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها، يريد أن يوضح أن القرآن اشتمل على كل شيء، فهؤلاء المعطلة وهؤلاء المفوضة القرآن جاء في الرد عليهم.
وقال مسروق: ما قال أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن شيء إلا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصر عنه، بمعنى أن كل ما في القرآن مفهوم، وأن ما قاله الصحابة، إنما استندوا في ذلك إلى كتاب الله -عز وجل، نعم.
والمقصود هنا التنبيه على أصول المقالات الفاسدة التي أوجبت الضلالة في باب العلم والإيمان بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم، وأن من جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير عالم بمعاني القرآن الذي أنزل إليه ولا جبريل جعله غير عالم بالسمعيات لم يجعل القرآن هدى ولا بيانا للناس.
ثم هؤلاء ينكرون العقليات في هذا الباب بالكلية، فلا يجعلون عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته في باب معرفة الله - عز وجل - لا علوما عقلية ولا سمعية، وهم قد شاركوا في هذا الملاحدة من وجوه متعددة.
وهم مخطئون فيما نسبوه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلى السلف من الجهل، كما أخطأ في ذلك أهل التحريف والتأويلات الفاسدة وسائر أصناف الملاحدة.
ــــــــــــــــــــــ(1/241)
هذه هي اللوازم الباطلة المترتبة على قول المفوضة الذين سماهم الشيخ "أهل التجهيل"، فمن هذه اللوازم: أنهم لم يجعلوا القرآن هدى ولا بيانا للناس؛ لأن الكلام الذي لا يفهم هل يمكن أن يكون هدى وبيانا؟
ولهذا جردوا كتاب الله - عز وجل - عن أخص أوصافه، فالله أنزل هذا القرآن ليكون هدى للناس وبينات، فلازم مذهبهم أن القرآن ليس بهدى ولا بيان؛ لأنهم يزعمون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم معاني هذه الآيات التي في الصفات ولا حتى جبريل، فالكلام الذي لا يفهم معناه لا يمكن أن يكون هدى؛ هذا اللازم الأول.
اللازم الثاني: أنكروا الجانب العقلي، دلالة العقل، في هذا الباب، باب الأسماء والصفات كلية، على النقيض تمامًا من أهل التأويل، أهل التأويل اعتمدوا على العقل كلية في هذا الباب، أولئك فألغو العقل تماما، ولهذا لا تستخدم عقلك، لا تستخدم فهمك ولا شيءئا، اقرأ هذه الآيات وأمِرّها كما جاءت دون فهم للمعنى، هذا اللازم الثاني. من اللوازم.
ولهذا قال: ولا يجعلون عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته في باب معرفة الله - عز وجل - لا علوما عقلية ولا سمعية، هذا اللازم الثالث: أنهم نفوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته أن يكون عندهم شيء من العلم العقلي والسمعي في باب الأسماء والصفات.
اللازم الرابع: على مذهبهم: أنهم شاركوا الملاحدة من وجوه متعددة، وأبرز ما شاركوهم في ذلك أيش الملاحدة؟ أهل التخييل شاركهم هؤلاء في ماذا ؟(1/242)
مر علينا أهل التجهيل ومذهبهم، الشيخ يقول: من اللوازم الباطلة أن هؤلاء شاركوهم، شاركوهم في ماذا ؟ يعني حولها تدندن، أليس أهل التجهيل زعموا أن الرسول لا يفهم، منهم من قال أنه الرسول لا يفهم معناها، ومنهم من قال: فهم معناها لكن لم يعبر بذلك، وهذا غاية في الإلحاد، فهؤلاء شاركوا أهل التجهيل في هذا الجانب، ذلك كونهم جعلوا الرسول غير عالم بمعاني هذه النصوص التي جاء بها.
اللازم الخامس: أنهم نسبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح إلى الجهل، إنسان يقرأ كلاما لا يفهم معناه فهو في حقيقة الأمر جاهل وليس بعالم، يقول: كما أخطأ بذلك أهل التحريف والتأويلات الفاسدة وسائر أصناف الملاحدة، أخطئوا في هذا الجانب، هؤلاء أخطئوا في جانب وأولئك أخطئوا في الجانب الآخر، نعم.
الإيمان بالسمعيات وبأن الله فوق العرش
ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها، وألفاظ من نقل مذهبهم بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يُعلم به مذهبهم، روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات، بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله -تعالى ذكره- فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته، فقد حكى الأوزاعي وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين الذين هم: مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق، حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله فوق العرش وبصفاته السمعية.
وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة، عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث، فقال: أَمرّوها كما جاءت، وروى أيضا عن الوليد بن مسلم قالت: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمرّوها كما جاءت، وفي رواية قالوا: أمرّها كما جاءت بلا كيف.(1/243)
فقولهم -رضي الله عنهم- أمروها كما جاءت رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة.
والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون هم أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور أمر جهم المنكر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف كان خلاف ذلك، ومن طبقتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، الشيخ الآن -رحمه الله- بدأ في ذكر الآثار عن السلف في إثبات هذه الصفات الخبرية التي أنكرها هؤلاء المعطلة، وبدأ بقول الأوزاعي عبد الرحمن بن عمر المتوفى سنة مائة وسبع وخمسين: كنا والتابعون متوافرون
نقول: إن الله -تعالى ذكره- فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته من الصفات الخبرية .
يقول: فقد حكى الأوزاعي وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين، أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين أربعة هؤلاء الذين ذكرهم الشيخ: الأوزاعي، ومالك إمام أهل الحجاز، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق، والأوزاعي إمام أهل الشام، هذه هي أقطار العالم الإسلامي آنذاك.
فهؤلاء الأئمة كأنهم متفقون على ما ذكره الأوزاعي من أن الله على عرشه.. فوق عرشه، ومن إثبات الصفات التي ينكرها هؤلاء؛ ولهذا قال المؤلف: وبصفاته السمعية.. الصفات السمعية التي وردت من طريق السمع التي تسمى الصفات الخيبرية التي لا مجال للعقل في إثباتها كالوجه واليدين والاستواء والمجيء والنزول والرحمة والغضب ونحو ذلك.
هذه هي مدار النقاش بين أهل السنة وهؤلاء وجمهور المعطلة فهؤلاء أئمة الدنيا في وقتهم كانوا يثبتون ذلك دون أدنى تحرج ودون نكير من غيرهم.(1/244)
ثم ذكر أن الخلال في كتابه "السنة" وكتابه هذا مطبوع، روى عن الأوزاعي أنه قال: سئل مكحول والزهري، وهما من التابعين عن تفسير الأحاديث التي جاءت في الصفات، فقالا: أمِرُّوها كما جاءت، بمعنى: لا تؤولوها كما أولها المعطلة، لا تقولوا: "استوى": استولى.
وليس معنى قولهما وقول غيرهما من الأئمة إذا قالوا: أمروها كما جاءت معناه: أنه لا يفهم معناها، لا؛ لأنه لو كان لا يفهم لها معنى لما قالوا: أمروها كما جاءت، لقالوا لنا: أمروها كما جاءت لكن إياكم أن تفهموا ما دل عليه ظاهرها. واضح ؟
ولهذا مما يبين ذلك أنهم في الآثار الأخرى قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فلو كان كما يقول المفوضة: أنه لا معنى لها لما قيدوها بلا كيف، فالشيء الذي ليس له معنى لا يحتاج أن يقال بلا كيف. واضح ؟
يقول: وروي أيضا أي الخلال عن الوليد بن مسلم أنه قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي وهم أئمة تابعي التابعين عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا: أمروها كما جاءت، وفي رواية قالوا: أمرها كما جاءت بلا كيف، وعباراتهم هذه فيها رد على المفوضة، ورد على المعطلة ورد على أيضا على المشبهة أيضا.
إذن فكلامهم هذا رد على كل من ألحد في صفات الله - عز وجل - يقول: فقولهم -رضي الله عنهم- أمِرُّوها كما جاءت رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف رد على الممثلة، والكلام بمجموعه أيضا يتضمن الرد على المفوضة؛ لأن الكلام الذي لا معنى له ولا يفهم منه معنى لا يقال فيه: بلا كيف أو بكيف .
يقول: وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور أمر جهم المنكر لكون الله فوق عرشه والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف كان خلاف ذلك، .(1/245)
يعني: الأوزاعي متى تكلم بهذا ؟ تكلم في وقت وقد ظهر قول جهم لئلا يقول لنا إنسان: لا، هم يريدون المعنى الذي قاله المعطلة، نقول: هذا الكلام قالوه للرد على الجهم بن صفوان زعيم المعطلة ومن تبعه في نفي الصفات ونفي العلو عن الله -عز وجل، فأوضحوا أن مذهب السلف خلاف ما جاء به الجهم بن صفوان، نعم.
روى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرف بن عبد الله، قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذُكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد من خلق الله تغييرها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، مالك -رحمه الله: إذا سمع أحدا يؤول هذه الصفات التي جاءت في القرآن وفي السنة يرد عليه بهذا الأثر المشهور عن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله،: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر بعده سننا.. ولاة الأمر مَن؟ الخلفاء الأربعة الذين قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي فقولهم سُنة فيما وافقوا فيه قول الله وقول الرسول، وفيما لم يصلنا فيه شيء من كلام الله وكلام الرسول؛ لأن قولهم يعتبر سنة بنص هذا الحديث، ولا يقولون بقول إلا لفهمٍ من نص إما لم تدركه أفهامنا أو لم يصل إلينا.
الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد من خلق الله تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.(1/246)
فكأن الإمام مالك يقول لهؤلاء الذين دفعوا الصفات، نفوا عن الله الصفات، عطلوا عن الله الصفات: أنتم سلكتم سبيلا غير سبيل المؤمنين؛ فسبيل المؤمنين إثبات هذه الصفات، وهذا هو الوارد عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي التمسك بهديهم استكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، نعم.
وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة، قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله -تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق. وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة من غير وجه.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، هذا الأثر روي عن ربيعة، وروي عن أم سلمة، وروي عن مالك، أما الرواية عن أم سلمة ففيها مقال، أما ما أورده الشيخ هنا عن ربيعة شيخ مالك فهو ثابت رواه اللالكائي والبيهقي وغيرهما، وصحح إسناده شيخ الإسلام كما هو معنا الآن وفي مواضع أخر، وممن صححه من المعاصرين أيضا الشيخ ناصر -رحمه الله، وثبت أيضا عن الإمام مالك واشتهر عن الإمام مالك؛ ولهذا نسب له -رحمه الله.
وكلامهما في صفة الاستواء جعلها أهل السنة قاعدة عامة في كل الصفات، وسبحان الله! العبارة هذه كأنها من مشكاة النبوة، فعلا فيها من جوامع كلم: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
كلام متناسق، ثم يصلح قاعدة في كل صفة من صفات الله -عز وجل، قل مثل ذلك في الوجه: الوجه غير مجهول أو معلوم والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، العلو معلوم والكيف مجهورل، اليدين معلومة والكيف مجهول، الرحمة معلومة والكيف مجهول.
__________
(1) - سورة طه آية : 5.(1/247)
فقولهما -رحمهما الله : الاستواء غير مجهول بمعنى: أنه معلوم يفهم من حيث يفهم مراد المخاطب بكلامه، فإذا خاطبنا الله ورسوله بلفظ الاستواء علمنا أن الاستواء هو العلو والارتفاع، والكيف مجهول، نعم؛ لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا يمكن إدراكه بالعقل كيفية هذا الاستواء، كيف استوى ؟ الله أعلم، كيف يديه ؟ الله أعلم، كيف رحمته ؟ الله أعلم، كيف يغضب ؟ الله أعلم.
هو يغضب، والغضب ضد الرضا، فهو يغضب ويرضى، ونعلم معنى الغضب ونعلم معنى الرضا، لكن كيفية هذا الغضب ؟ الله أعلم.
لا يأتينا المعطل ويقول: الغضب هو غليان دم القلب ؟ نقول: هذا هو غضب المخلوق واللائق المخلوق، أما الخالق فالله أعلم بكيفية غضبه.
والإيمان به واجب، الإيمان بهذه الصفة.. بالاستواء: بالوجه واليدين بكل صفة ثبتت في الكتاب أو في السنة يجب
إثباتها، ويجب الإيمان بها على حقيقتها، والسؤال عنه عن إيش ؟ عن الكيفية بدعة، نعم.
وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة من غير وجه، منها ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل، فقال: يا أبا عبد الله، { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا، فأمر به أن يُخرج.
فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة .
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة طه آية : 5.(1/248)
نعم كما قلت: الأثر هذا مروي عن ربيعة، ولعل الإمام مالك أيضا قد استخدمه في مقابل هذا الرجل الذي لمس عنده مبدأ بدعة؛ وذلك أنه سأل عن أصل الاستواء أم كيفية الاستواء ؟ عن الكيفية، قال له : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) كيف استوى ؟ فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرُحَضَاء، والرُّحضاء هو العرق وذلك لشدة السؤال، لماذا ؟ لعظم المسؤول عنه، والإمام مالك كما هو معلوم مهيب -رحمه الله- في دروسه، ثم رفع رأسه وأجاب بهذا الجواب الشافي الكافي.
وقوله: السؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنه ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، ليس عندنا دليل في الكتاب والسنة عن كيفية هذه الصفات، ولا هو أيضا مما يمكن معرفته بالعقل، فأصبح السؤال عنه بدعة ؟ تسأل عن شيء لا يمكن معرفته.
ولما لمس فيه هذا الجانب أمر به فأخرج، يقول: فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الباقين: أمِرُّوها كما جاءت بلا كيف، يعني: كأن السلف متفقون، لكن اختلفت عباراتهم.
الجميع متفق على إثبات أصل الصفة مع نفي العلم بكيفية الصفة، لكن لا يفهم من كلامهم هذا لا من قريب ولا من بعيد أنهم ينفون حقيقة الصفة، وإلا لقال الإمام مالك وقال ربيعة: الاستواء غير معلوم، لو كانوا يريدون عدم العلم بحقيقة الصفة لأجابوا فقالوا: الاستواء غير معلوم، لكنهم يقولون الاستواء غير مجهول.
وفي رواية: الاستواء معلوم، إنما المجهول هو الكيفية، وهذا هو مذهب أهل السنة يثبتون الصفة لكن يكِلُون علم الكيفية إلى الله -عز وجل، نعم.
__________
(1) - سورة طه آية : 5.(1/249)
ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله، لما قالوا الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل مجهول بمنزلة حروف المعجم، وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية، إذ لم يفهم من اللفظ معناه، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات .
ــــــــــــــــــــــ
نعم، يعني الإنسان الذي لا يثبت الصفة ليس بحاجة أن تقول له بلا كيف؛ ولهذا المعطلة لا يعرفون هذه الكلمة، لماذا؟ لأنهم لا يثبتون أصل الصفة، أما مذهب السلف لما كانوا يثبتون الصفة احتاجوا إلى نفي العلم بالكيفية بلا كيف، أثبت لكن لا تكيف، نعم.
النفاة لصفات الله - عز وجل -
وأيضا فإن من ينفي الصفات الخبرية، أو الصفات مطلقا لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله سبحانه ليس على العرش لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف .
ــــــــــــــــــــــ
نعم، الذي ينفي الصفات الخبرية، أو ينفي الصفات سابقا، وهي التي وردت عن طريق السمع، كما ذكرت سابقا، أو ينفي الصفات مطلقا، كما هي الحال عند الجهمية والمعتزلة لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان السلف ينفون الصفات، كما يزعم هؤلاء، لما احتاجوا أن يقيدوا ذلك، بنفي الكيفية، فالذي يقول: الله ليس بمستو على العرش، لا يحتاج أن تقول: بلا كيف، الله ليس له وجه، لا يحتاج أن تقول: بلا كيف، نعم.
إثبات صفات الله - عز وجل - على ما جاءت عليه(1/250)
وأيضا فقولهم: أمروها كما جاءت، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظا دالة على معانٍ، فلو كانت دلالتها منفية، لكان الواجب أن يقال: أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ: بلا كيف، إذ نفي الكيفية عن ما ليس بثابت لغو من القول .
ــــــــــــــــــــــ
نعم، وهذا الكلام رد على المؤولة وعلى المفوضة، الآن المفوضة والمؤولة كلهم قد يحتجون بما تشابه، أو بكلام السلف هذا، ويفسرونه حسب مذهبهم، فالشيخ يبين أن أقوال السلف هذه، تدل على إثبات الصفات حقيقة، مع نفي العلم بالكيفية؛ ولهذا يقول: فقولهم أمرها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، دلالتها تدل على إثبات حقيقة الصفات، قال الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) .
هذه الآية تدل على أن الله مستو على العرش، إبقاء الدلالة، ليس كما يزعم المفوضة، ليس لها دلالة، ولا كما يزعم المؤولة، أن دلالتها ليست هذا المعني الذي يظهر منها، إنما لها معنى آخر، لا. فإنها جاءت ألفاظا دالة على معاني، هذه الألفاظ ألفاظ النصوص دالة على معاني هذه الصفات، يعني ليست ألفاظا مجردة كما يزعم المفوضة، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال، يعني لو كان هذه الألفاظ ليس لها دلالة كما يزعم هؤلاء، لقال السلف: أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن مفهومها، أن المفهوم منها غير مراد، ولما لم يرد عن أحد منهم، مثل هذا الكلام دل على أنهم يثبتون ألفاظ هذه النصوص، ويثبتون المعاني التي دلت عليها هذه الألفاظ، خلافا لمذهب هؤلاء وأولئك، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
ترجمة الإمام الذهبي
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.(1/251)
قبل أن نبدأ في الأسئلة، ذكرت لكم بالأمس أني سأذكر لكم شيئا من ترجمة الإمام الذهبي، وكلامه في شيخ الإسلام، يقول -رحمه الله- في كلام طويل: وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي صار بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين، من صدره في أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ،ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه، فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه، ومذاهب الصحابة والتابعين، فضلا عن المذاهب الأربعة، فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام، فلا أعلم له فيه نظيرا .
وقال أيضا: كان آية في الذكاء وسرعة الإدراك، رأسا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحرا في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علما وزهدا .
إلى أن قال: وقرأ وحصل وبرع في الحديث والفقه، وتأهل للتدريس والفتوى، وهو ابن سبع عشرة سنة، وتقدم في علم التفسير والأصول، وجمع علوم الإسلام أصولها وفروعها، ودقها وجلها، سوى علم القراءات، فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، وسرد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمي المتكلمون، فهو فردهم وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة، فلهم وتيسهم، وهتك أستارهم، وكشف عوارهم، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن يصفه كلمي، أو ينبه على شأوه قلمي.(1/252)
ثم قال: وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتاب والسنة والمسن،د بحيث يصدق عليه أن يقال كل حديث لا يعرفه ابن تيمية، فليس بحديث، ولكن الإحاطة لله، غير أنه يغترف من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي .
وقال: فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت أني ما رأيت -يعني مثله- لا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم، انتهى كلامه .
هذا كلام الإمام الذهبي، أنا أقول هذا الكلام معاشر الأخوة؛ لأننا الآن في وقت بدأنا نسمع من يشغب على هذا الإمام، ويبرز مثل هذه الأمور، التي جزء منها مكذوب، وليس القصد ذات الرجل، إنما القصد ما جاء به هذا الرجل؛ ولهذا في زمن الفتن، نعم. يمتحن الناس بمحبة الأئمة، ففي زمن الإمام أحمد كان السلف يقولون: إذا رأيت الرجل يبغض أحمد، فاعلم أنه مبتدع، نعم. نحن لا ندعي العصمة في ابن تيمية، ولا في الذهبي، نقول: كل منهم يؤخذ من قوله ويرد، وكل منهما جائز عليه الخطأ، بل واقع منه فعلا؛ لأن الكمال لله، والعصمة لرسله، ولكن ينبغي أن نتنبه إذا جاءنا مبتدع يريد الطعن في أئمتنا، أن نأخذ الحذر والحيطة، نعم.
س: هذا أحسن الله إليكم، يسأل عن بعض الكتيبات التي يكون عنوانها الجنة أو النار في وصفها، ويرسم عليها أشجار أو نار، ما حكم هذا ؟
ج: هذا حقيقة فيه توسع، وفيه نوع من التألي، ونوع من تأويل هذه الأخبار، التي لا يعلم تأويلها إلا الله - عز وجل -
أن يصور الإنسان بعض ما سيحدث يوم القيامة في صور محسوسة، في رسومات أو نحو ذلك، هذا لا يجوز، وإن قال: أنا لا أقصد حقيقة هذه الأمور، ولكن نقول: هذه تقدح في نفوس القراء شيئا من الصورة الحقيقة، وحقائق هذه الأمور لا يعلمها إلا الله، فلا يجوز تصوير الغيب بصورة محسوسة، نعم.(1/253)
س: أحسن الله إليكم، يقول: أنا قدمت من بلاد غير هذه البلاد والمدينة التي نحن فيها كان فيها مدرسة لأهل السنة والجماعة، ومدرسة لأهل البدعة، أي ما يعرف بطائفة الأحباش، ولكن أغلقت مدرستنا، مدرسة أهل السنة والجماعة، من قبل الحكومة حسدا من أنفسهم، وبقيت مدرسة الأحباش، والسؤال هل يجوز أن نرسل أطفالنا إلى مدرسة الأحباش، بدلا من المدارس العامة، علما أنهم يعلمون الأطفال بأن الله موجود في كل مكان، وما شابه ذلك، والمدارس العامة يعلمون الأطفال بعقيدة الإلحاد والتنصير، يزعمون أنهم يعطون الأطفال بهذا للعلم وليس للتنصير .
ج: نعم، طائفة الأحباش هذه الفرقة التي ظهرت في هذا العصر المتأخر، أتباع عبد الله الحبشي الهروي، عليه من الله ما يستحق، هذه طائفة من الطوائف الضالة الفاسدة، وجل ما ذهبوا إليه هو مستقى من عقيدة أهل الحلول والاتحاد، وأخذوا من كل شر طرف، ووجدوا من يساندهم بالمال والجاه، ووجدوا دولا تفتح أبوابها لهم، واغتر بهم كثير من الجهال، وذلك أن المذهب الذي جاءوا به يوافق شهوات الناس، يغلب عليه الجانب الإباحي.
وعلى كل حال، فلا يجوز أن يرسل الإنسان ابنه للدراسة في هذه المدارس، التي يقوم عليها هؤلاء، ويدرسون فيها مناهجهم، ومن ألحق ابنه في هذه المدارس، فقد خان هذه الأمانة التي حمل إياها، فليتق الله - عز وجل - ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا، ويحاول المسلمون أو الجالية المسلمة في هذه البلاد أن يسعوا جاهدين لإيجاد مدرسة على وفق المنهج الصحيح، فإن تيسر ذلك، وإلا فليسعوا إلى إرسال أبنائهم إلى أقرب مدينة أو دولة، يمكن أن يدرسوا فيها، إن لم يتيسر ذلك فليمسكوا أبناءهم في بيوتهم، وليدرسوهم بأنفسهم، وليقيموا لهم حلقات في المساجد، وسيفرج الله عنا وعنهم إن شاء الله، نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول حفظك الله ورعاك، قلت: إن التدبر زائد عن الفهم، فكيف نتدبر آيات ومعاني الصفات، جزاكم الله خيرا ؟(1/254)
ج: لا أقول التدبر مستلزم للفهم، يعني لا يمكن أن تتدبر كلاما لا تفهم معناه، فتدبر آيات الصفات وأحاديث الصفات، هو أن تفهم معناها الشرعي الذي أراده الله ورسوله، وأن تتعبد الله - عز وجل - بهذه الصفات، تدعوه بها، بهذه الأسماء، أن يكون لهذه الصفات أثر في عبادتك، أثر في تعاملك مع الله - عز وجل - أثر في تعاملك مع
عباد الله - عز وجل - فالذي يؤمن أن الله - عز وجل - يسمعه ويطلع عليه يراه، لا بد أن يراقبه في كل ما يفعل أو يذر؛ ولهذا لما حبس عمر الناس بسبب امرأة، مسكته في الطريق، وهو في أثناء الخلافة، وطال وقوف الناس وهو يسمع ويتفاهم مع المرأة العجوز، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست الناس بسبب هذه المرأة، فغضب والتفت عليه، وقال: اسكت، هذه المرأة التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، ألا يسمع لها عمر، والله لو بقيت إلى الصباح، لوقفت معها، نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول هل الحروف المقطعة مما فسره الصحابة، وابن عباس ومجاهد ؟
ج: الخلاف في هذا بين العلماء ظاهر في قضية الحروف المقطعة، التي في أوائل السور { أَلَمْ } (1) { حم (1) } (2) { ص } (3) { كهيعص (1) } (4) .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 33.
(2) - سورة غافر آية : 1.
(3) - سورة ص آية : 1.
(4) - سورة مريم آية : 1.(1/255)
هل هي من الحروف التي فسرها السلف، أو من الحروف التي وكل السلف علمها إلى الله، والآراء فيها كثيرة جدا، لكن من العلماء من قال: إنها مما وكل علمه إلى الله، لكن لا تعد آيات، ليست كلمات هي حروف، والتحدي والكلام على الكلام، وليس الحروف، لكن رأي شيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن هذه الحروف لها معنى، وأنها حروف من جنس كلام العرب، تحدى الله بها العرب، هذه حروف جاءت من جنس كلامكم، الذي تتكلمون به؛ ولهذا يقول غالبا بل كل الآيات أو السور التي جاءت في مطلعها، هذه الحروف المقطعة يعقبها ذكر القرآن، إلا في سورتين، وذكر أن هاتين السورتين أيضا تضمنتا ذكر القرآن، فهي حروف تحدى الله بها العرب، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
مذهب الجهمية في صفات الله - عز وجل -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والسلام على رسول الله، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن والاه، وروى الأثرم في السنة، وأبو عبد الله ابن بطة في الإبانة، وأبو عمر الطلمنكي وغيرهم بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة الذين هم: مالك بن أنس، وابن الماجشون بن أبي ذئب، وقد سئل فيما جحدت به الجهمية، أما بعد:(1/256)
فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتايعت الجهمية، ومن خالفها في صفة الرب العظيم، الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير، وكلت الأنفس عن تفسير صفته، وانحسرت العقول دون معرفة قدره، ردت عظمته العقول، فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة، وهي حسيرة، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال: كيف لمن لم يكن ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول، ولم يزل وليس له مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ، ومن لم يمت، ولا يبلى، وكيف يكون للصفة شيء منه حد أو منتهى، يعرفه عارف أو يحد قدره واصف، على أنه الحق المبين، لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته، عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، لا تكاد تراه صغرا يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، لما يتقلب به، ويحتال من عقله أعضل بك، وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، وخالقهم وسيد السادات وربهم، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (1) .
ــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة، وأتم التسليم .
ذكر الشيخ -رحمه الله- هذا الأثر الثابت عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، المتوفى سنة مائة وأربعة وستين، وهو أحد فقهاء المدينة، بل إنه نودي بأمر الخليفة المنصور ألا يفتي بالمدينة إلا مالك وابن الماجشون -رحمه الله-، يقول: وقد سئل فيما جحدت به الجهمية، أما بعد:
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.(1/257)
فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتايعت، التتايع هو ركوب الأمر على خلاف الناس، والوقوع في الشر من غير فكر ولا روية، الإنسان الذي يسلك سبيلا يخالف فيه جمهور الناس، ويقع في الشر من حيث لا يدري، يقال له تتايع، فيما تتايعت الجهمية ومن خالفها، في صفة الرب العظيم، الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير، وكلت الألسن عن تفسير صفته، وسيأتي أن معنى تفسير الصفة التفسير الباطل، أو بيان حقيقة الصفة، أو بيان كيفية الصفة، وانحسرت العقول دون بيان معرفة قدره، ردت عظمته العقول، فلم تجد مساغا، فرجعت خاسئة وهي حسيرة، بمعنى أن الإنسان لو حاول أن يقحم عقله فيما غاب من صفات الله - عز وجل فلن يعود عليه العقل إلا بالضرر؛ لأن ذلك فوق طاقة العقل، وسيضرب مثالا على ذلك، يعني يقرب المسألة بميزان حسي، أن العقول تعجز عن تحديد حقيقة بعض الأشياء الصغيرة المخلوقة، فإذا عجزت عن تحديد هذا الأمر فعجزها عنت، تحديد حقيقة صفة الرب من باب أولى، والشيخ -رحمه الله -كثيرا ما يضرب على ذلك بالروح، فهذه الروح التي هي أقرب شيء للإنسان، وبها قوام حياته، وثبت أنها تصعد وتنزل، وتخاطب فتسمع، وبها يكون الإنسان كائنا حيا، وتسل من جسمه، أو تنتزع عند الموت، ومع ذلك لا يستطيع العقل عن تحديد كنهها.
فإذا كان العقل عاجزا عن تحديد حقيقة هذا الشيء القريب من الإنسان، المخلوق مثله، فعجز العقل عن تحديد حقيقة صفة الرب، الذي فاقت عظمته العقول، من باب أولى، يقول: وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدي،ر الشيء المخلوق أمامك والمقدر، المعروف له حد وله نهاية، أمرت بالتفكر فيه، كخلق السماوات والأرض والجبال والبحار، وخلق الإنسان، لكن هذا الشيء الذي غاب عن أنظارنا، ولم تدركه عقولنا، ينبغي أن تقف العقول عند حدها؛ لأن الإنسان إذا استرسل مع عقله كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - سيورده المهالك، من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ إلى أن يقول: من خلق الله؟ .(1/258)
وإنما يقال: كيف لمن لم يكن ثم كان، يسأل بكيف للشيء المخلوق، الذي كان عدما ثم وجد، ومآله إلى الفناء، يقول: فأما الذي لا يحول ولا يزول، ولم يزل وليس له مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو؛ ولهذا قلت لكم مرارا: إن المعطل إذا سأل عن كيفية الصفة، ينبغي أن نعكس السؤال عليه، إذا قال: كيف استوى؟ نقول له: كيف الله؟ كيف هو؟ إذا قال: الله أعلم، نقول له أيضا: الله أعلم، بكيفية الاستواء، فالعلم بكيفية الصفات فرع عن العلم بكيفية الذات، فإذا جهلت كيفية الذات، فالجهل بكيفية الصفة من باب أولى .
فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ، ومن لم يمت ولا يبلى، الله - عز وجل - ليس له بداية، فهو الأول السابق المتقدم على جميع المخلوقات، مهما افترض العقل من أزمنة مضت، فالله سابق لها، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، كما فسر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء .
ومن لم يمت ولا يبلى، وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى، يعرفه عارف أو يحد قدره واصف، على أنه الحق المبين لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه، الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته، عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، لا تكاد تراه صغرا يحول ويزول، نعم. هناك من المخلوقات التي بين أيدينا، تعجز العقول عن تحديد كنهها، فإذا كان هذا المخلوق الذي بين يديك، فالخالق من باب أولى .
لما يتقلب به، ويحتال من عقله أعضل بك، أي أعضل استغلظ، ووقف الإنسان أمامه حائرا، أعضل بك، وأخفى عليك، مما ظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، نعم.
الإيمان بما وصف الله - عز وجل - به نفسه(1/259)
تبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم، وسيد السادات وربهم، { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (1) .
اعرف -رحمك الله- غناك تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف بها، إذا لم تعرف قدر ما وصف، فما تكلفك علم ما لم يصف، هل تستدل بذلك على شيء من طاعته، أو تنزجر به عن شيء من معصيته .
ــــــــــــــــــــــ
بمعنى أن الإنسان إذا أراد أن يقحم عقله بهذا الأمر، لن يعود عليه بالنفع لا في دينه، ولا في دنياه من باب أولى؛ ولهذا قال المؤلف: محاولتك إقحام العقل في هذا الأمر الذي خفي وأخفاه الله سبحانه وتعالى عن عباده، انظر هل هذا سيكون سببا لزيادة طاعة الله، أو سببا للحد من الوقوع في معصيته، الجواب لا، إنما الذي يكون سببا في زيادة طاعة الله - عز وجل - وسببا في عدم الوقوع في معصيته هي التفكر والتأمل فيما ظهر لك، فيما أخبر الله به عن نفسه، نعم. المؤمن يتفكر ويتأمل في صفات الله - عز وجل - هذا الذي ظهرت لك تتأمل في عظمة الله، تتأمل في قدرة الله، في سمع الله، في بصر الله، في حياته، أما أن يتأمل، أو يحاول أن يتفكر في أمر غائب عنه، وليس فيه أثارة من علم، لا عن الله، ولا عن رسوله، فهذا لن يزيد الإنسان إلا بعدا عن الله سبحانه وتعالى، نعم.
الرد على الجهمية النفاة لصفات الله - عز وجل -
فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا، فقد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب، وسمى من نفسه، بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البين بالخفي، وجحد ما سمى الرب من نفسه، بصمت الرب عما لم يسم منها، فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الرب - عز وجل - { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } (2) .
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.
(2) - سورة القيامة آية : 22-23.(1/260)
فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد والله أفضل كرامة لله، التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة، من النظر إلى وجهه ونظرته إياهم، { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) } (1) .
وقد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينظرون .
ــــــــــــــــــــــ
نعم، فهو يرد على الجهمية النفاة، ويبين أن السبب في جحدهم وتعطيلهم، هذه الشبه التي أوردوها ويوردونها، أنه يلزم من إثبات كذا أن يكون كذا، يقولون: يلزم من إثبات الاستواء أن يكون الله جسما والأجسام متماثلة، يلزم من إثبات السمع والبصر التشبيه، يلزم من إثبات العلو التحيز، ثم يأتون بهذه اللوازم الباطلة، ويبنون عليها نفي الصفات، هذا هو الذي أوقعهم في هذا التعطيل، لكنهم لو وقفوا عند النص، ووقفوا عند ما حد لهم ما وقعوا في هذا الباطل .
يقول: فعمي عن البين بالخفي، عمي عن البين، ما هو الشيء البين ؟ هذه النصوص هي التي أثبتت هذه الصفات نصوص واضحة بينة، لا لبس فيها ولا غموض؛ ولهذا لم يستشكلها الصحابة لما سمعوها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستشكلها التابعون لما سمعوها من الصحابة، ولم يستشكلها تابعو التابعين، لما سمعوها من التابعين، وإنما استشكلها هؤلاء بهذه الشبه الخفية، وجحد ما سمى الرب من نفسه، جحد هذه الأسماء وهذه الصفات، التي سمى الله بها نفسه .بصمت الرب عما لم يسم، منها إطلاق الصمت على الله تعالى هو من باب الإخبار، وإنما الذي يوصف
__________
(1) - سورة القمر آية : 55.(1/261)
الله - عز وجل - به السكوت، والسكوت كما قال شيخ الإسلام وصف الله - عز وجل - بالسكوت، ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة منها وسكت عن أشياء رخصة لكم ليس بنسيان، فلا تبحثوا عنها .والحديث الآخر . وما سكت عنه فهو عافية، وما سكت عنه فهو مما عوفي له، أو مما عفي عنه .
الشاهد أن إطلاق عبد العزيز بن الماجشون لفظ الصمت على الله - عز وجل - هذا هو من باب الإخبار، وباب الإخبار باب واسع، لكن الذي ورد به النص السكوت .
يقول: فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله - عز وجل - { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } (1) .
وهذا كما عرفنا مما جحدته الجهمية والمعتزلة، جحدت رؤية الله - عز وجل - يوم القيامة .
فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد والله أفضل كرامة التي أكرم بها أوليائه يوم القيامة، من النظر إلى وجهه، ونظرته إياهم { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) } (2) .
لا شك أن أعظم ما يؤتاه المؤمنون يوم القيامة، النظر إلى وجه الله الكريم، بنص قول الله - عز وجل - { * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (3) .
فسرت الزيادة، بأنها النظر إلى وجه الله، ليس هناك شيء فوق نعيم الجنة إلا النظر إلى وجه الله، وهذا لما جاء الزمخشري، والزمخشري معروف أنه معتزلي في تفسيره الكشاف، عند قوله: { * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (4) .
في سورة يونس، قال وأي زيادة أعظم من نعيم الجنة؛ لأنه ينكر رؤية الله - عز وجل - أيضا في الحديث إذا كشف الحجاب في الموعد الذي بين أهل الجنة وبين الله - عز وجل - إذا كشف الحجاب بينهم وبينه، في الحديث فما أعطوا
__________
(1) - سورة القيامة آية : 22-23.
(2) - سورة القمر آية : 55.
(3) - سورة يونس آية : 26.
(4) - سورة يونس آية : 26.(1/262)
شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل - .
ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية { * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (1) نعم.
رؤية الله تعالى للمؤمنين في الآخرة
إلى أن قال: وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة، إقامة للحجة الضالة المضلة بأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة، رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين، وكان له جاحد .
ــــــــــــــــــــــ
بمعنى أن المؤمنين إذا رأوا الله - عز وجل - يوم القيامة، لا شك أنهم سيرونه بالصفات التي وصف نفسه بها؛ ولهذا في الحديث الطويل الذي في عرصات القيامة، فيأتيهم في صورة غير التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، يقول: هؤلاء جحدوا رؤية الله -عز وجل-؛ لأنهم لو أثبتوا الرؤية، لعلموا أن المؤمن سيرى هذه الصفات، التي جحدها هؤلاء؛ ولهذا يقول: إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين، وكان هذا المعطل له جاحدا، أي رأوا هذه الصفات التي ذكر لهم في كتابه، نعم.
حديث رؤية الله في الآخرة
وقال المسلمون: يا رسول الله هل نرى ربنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل تضارون في رؤية الشمس، ليس دونها سحاب، قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر، ليس دونه سحاب، قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك .
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة يونس آية : 26.(1/263)
نعم، هذا الحديث المتفق عليه، صريح في إثبات رؤية الله - عز وجل - يوم القيامة، فالصحابة -رضي الله عنهم- سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - هل نرى ربنا؟ فماذا أجابهم؟ هل عاتبهم كما عاتب الله أصحاب موسى؟ الجواب: لا، بشرهم وأخبرهم أنهم سيرونه يوم القيامة، وضرب لهم مثالا في آلاء الله في خلق الله -عز وجل-؛ لأنه جاء بحديث آخر، أن بعض الصحابة قالوا: كيف وهو واحد؟ ونحن جمع، يعني هذا أحيانا بالمقاييس البشرية يستحيل، إذا كان الشيء الذي سينظر إليه واحدا، والذي سيراه لا نقول آلافا، ملايين من البشر، فبعض الصحابة استشكل هذا الأمر، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقرب هذا بمثال في آلاء الله، في خلق الله، قال: هذه الشمس هل تضارون، هل يصيبكم الضرر في رؤيتها، بسبب الازدحام، وهذا القمر، هل يصيبكم الضرر في رؤيته ؟ الجواب: لا، قال: فإنكم سترون ربكم كذلك .
طيب. لو قال قائل: هذا تشبيه لله - عز وجل - بالشمس والقمر، والجواب. وهذا ما قاله المعطلة، قالوا: أنتم تستدلون بالأحاديث أخبار الآحاد، التي فيها تشبيه الله - عز وجل - بالشمس والقمر، فالجواب هذا الحديث ليس فيه تشبيه؛ لأمرين اثنين :
الأمر الأول: أن السؤال الذي جاء من الصحابة، سؤال عن ماذا ؟ عن الرؤية، فهنا إذن الجواب عن الرؤية، فتشبيه رؤيتنا لله - عز وجل - كرؤيتنا للشمس والقمر، فالسؤال عن الرؤية، وليس عن المرئي هذا أمر .
الأمر الثاني: إنكم سترون الله كما ترون، فكاف التشبيه دخلت على ماذا ؟ على الرؤية، وليس على المرئي، فقال: إن هذا الحديث فيه دليل على تشبيه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي . أقول أصحاب موسى، سألوا موسى أن يريهم الله - عز وجل - فماذا كان الجواب عاقبهم الله - عز وجل - بالصاعقة لماذا ؟ وهؤلاء أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - سألوا رسولهم(1/264)
عن رؤية الله، فبشرهم أنهم سيرونه، الفرق بين الطائفتين، أولئك سألوا موسى تعنتا، كلما جاءهم بأمر تعنتوا بسؤال جديد، وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - سألوه سؤال مستزيد مستفيد، الأمر الآخر أصحاب موسى سألوا موسى رؤية الله، متى؟ في الدنيا، وأصحاب محمد علموا أن الله لا يمكن رؤيته في الدنيا، فسألوه عن رؤيته في الآخرة، نعم.
حديث لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول: قطٍ قط، وينزوي بعضها إلى بعض .
ــــــــــــــــــــــ
وهذا الحديث متفق عليه، وتقدم الكلام عليه، وفيه إثبات القدم لله - عز وجل - وهي صفة ذاتية ثابتة له بصحيح السنة، نعم.
حديث لقد ضحك الله مما فعلت الليلة البارحة
وقال لثابت بن قيس - رضي الله عنه - لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة " .
ــــــــــــــــــــــ
وهذه أيضا صفة ذاتية خبرية، ثبتت بصحيح السنة، والحديث متفق عليه، إثبات صفة الضحك لله .
حديث لا نعدم من رب يضحك
وقال فيما بلغنا: إن الله ليضحك من أزلكم، وقنوطكم وسرعة إجابتكم، فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك، قال: نعم، قال: لا نعدم من رب يضحك خيرا .
ــــــــــــــــــــــ
نعم، الحديث فيه مقال، رواه ابن ماجه، والإمام أحمد، وأبو عاصم والطبراني في المعجم الكبير، لكن معناه ثبت بأحاديث صحيحة أخرى وإن الله ليضحك من أزلكم .(1/265)
الأزل هو الضيق والشدة، وقنوطكم اليأس، بمعنى أن الأرض أحيانا تجدب، ويشتد بالناس هذا الجدب، فيدخلهم شيء من اليأس والقنوط، فيخرجون يستسقون يدعون الله - عز وجل - فيطلع الله - عز وجل - عليهم وهم في هذه الحالة فيضحك؛ لأنه يعلم بسرعة تغير الحال من الجدب إلى الخصب، فقال له رجل من العرب في الحديث، هو أبو رزين - رضي الله عنه - إن ربنا ليضحك، قال: نعم، قال: لن نعدم من رب يضحك خيرا .
هذا أيضا حديث فيه إثبات صفة الضحك، وأنه يحمل على ظاهره، دون تأويل أو تعطيل، كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، سبحانه وتعالى، وليس كما يزعم هؤلاء، أولوا الضحك، وقالوا: لأن الضحك خفة في النفس، أو خفة في الروح، فيقال لهم هذا ضحك من؟ ضحك المخلوق، والكلام عن ضحك الخالق وهو ضحكه لا يشبه ضحك المخلوق، نعم.
إثبات صفتي السمع والبصر لله تعالى
في أشباه لهذا مما لم يحصه، فقال الله تعالى: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (1) .
وقال الله تعالى: { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } (2) .
وقال تعالى: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) } (3) .
وقال: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (4) .
وقال: { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } (5) .
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.
(2) - سورة الطور آية : 48.
(3) - سورة طه آية : 39.
(4) - سورة ص آية : 75.
(5) - سورة الزمر آية : 67.(1/266)
نعم. هذه النصوص التي ذكرها عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، هي للاستدلال على بعض الصفات؛ للتمثيل، فذكر قول الله - عز وجل - { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (1) لإثبات السمع والبصر، وقوله سبحانه: { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } (2) .
وقوله: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) } (3) إثبات العينين لله - عز وجل وإثبات أن لله عينين، أو فسر هذا الإجمال بهاتين الآيتين، الحديث الذي في الصحيحين في صفة الدجال وأن ربكم ليس بأعور .
فهذا دليل على أن لله - عز وجل - عينين اثنتين، ولا منافاة بين الحديث وبين هذه الآية التي فيها إثبات الأعين وإثبات العين.
وذكر قوله: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (4) وقوله: { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } (5) إثباتا لصفة اليدين لله - عز وجل - وأحد الإخوان استشكل في الدرس الماضي، حديث إثبات الشمال لله - عز وجل - لا شك الحديث فيه مقال، فمن صححه قال: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الثابت: وكلتا يديه يمين معناه يمن وبركة؛ لدفع ما توهم من صفة النقص؛ لأنه عادة في حق المخلوق أن الشمال أنقص من اليمين، ومن لم يثبت الرواية التي عند البيهقي فيها إثبات الشمال، نعم. قال: يحمل على ظاهر الحديث ويقال الله - عز وجل - له يدين وكلتا يديه يمين، والكيفية الله أعلم بمرادها، نعم.
الإيمان بما وصف الله به نفسه
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.
(2) - سورة الطور آية : 48.
(3) - سورة طه آية : 39.
(4) - سورة ص آية : 75.
(5) - سورة الزمر آية : 67.(1/267)
فوالله ما دلهم عليه عظم ما وصف من نفسه، وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم، إن ذلك الذي ألقي في روعهم، وخرق على معرفة قلوبهم، فما وصف الله به من نفسه فسماه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، لا هذا ولا هذا، لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف .
ــــــــــــــــــــــ
نعم. عظمة الله - عز وجل - يظهر منها، أو يمكن أن تظهر عظمة الله - عز وجل - عندما يقرأ الإنسان هذه النصوص { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } (1) بمعنى أنه سيقبض السماوات والأرض بيديه، فمتى تظهر عظمة الله -عز وجل-؟ إذا أجرى الإنسان هذا النص على ظاهره، وحمله على حقيقته، وأثبت لله اليدين الحقيقة، هنا تظهر هذه العظمة، أن هذه السماوات على عظمها، وهذه الأرض وما فيها سيقبضها الله - عز وجل - وسيطويها بيديه، ثم أكد قال: ينبغي للمؤمن أن يقف مع النص، فما ثبت بالكتاب والسنة ما سمى الله به نفسه، وسماه به رسوله، فليسمه المؤمن، وما لا فلا، إذا ما ثبت يثبته المؤمن، وما لم يثبت لا يتكلف إثباته، لا يجحد ما ثبت، ولا يتكلف صفة ما لم يثبت، نعم.
اعلم -رحمك الله- أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك ولا تجاوز ما حد لك، فإنه من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة، وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارث علمه الأمة، فلا تخافن في ذكره، وصفته من ربك ما وصفه من نفسه أيضا، ولا تكلفن لما وصف لك من ذلك قدرا.
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الزمر آية : 67.(1/268)
نعم، يعني لا تتحرج في وصف الله - عز وجل - بصفة وصف بها نفسه، هو أعلم وهو أخبر بما يليق به، وبما لا يليق به، لا تأتي وتتحكم، وتقول: هذا لا يليق بالله وهذا يليق بالله، فإذا أثبت الله فأثبت، قف مع النص ودر مع النص، حيث دار ولا تتكلف لتحديد كيفية هذه الصفة؛ لا لأن هذا لم يرد به النص، نعم.
وما أنكرته نفسك، ولم تجد ذكره في كتاب ربك، ولا في الحديث عن نبيك من ذكر ربك، فلا تتكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه .
ــــــــــــــــــــــ
نعم. الشيء الذي لم يرد في الكتاب والسنة لا تأت وتقحم عقلك، يلزم من إثبات الكلام إثبات الشفتين، لا يا أخي، هذا في حق المخلوق، أما في حق الله - عز وجل - لا تأت بهذه اللوازم، يلزم من إثبات السمع الأذن والصماغ، يلزم من إثبات العين إثبات الجفن، كما يقوله المشبهة، وكما يقوله المعطلة، فابن الماجشون -رحمه الله -يقول: لا، قف مع النص، لا تقحم عقلك في هذه الأمور، لا تتكلف ما لم يرد به النص، نعم.
فإن تكلفك معرفة ما لم يصف نفسه، كإنكارك ما وصف منها.
ــــــــــــــــــــــ
يعني إثبات شيء لم يثبت، تماما سواء بسواء، مثل جحد وإنكار ما وصف الله من نفسه، نعم.
فكما أعظمت ما جحد الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون، مما لم يصف منها .
ــــــــــــــــــــــ
نعم. هناك من قابل هؤلاء المعطلة لكنه غلى، أثبت لله صفات لم تثبت لا في الكتاب ولا في السنة، فهذا غلو في الإثبات، في مقابل هذا الغلو في التعطيل، نعم.
فقد والله عز المسلون الذين يعرفون المعروف، وبمعروفهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، ويسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن .
ــــــــــــــــــــــ(1/269)
نعم. هذا ابن الماجشون -رحمه الله -في القرن الثاني، يصف حال أهل زمانه، فيقول: فقد والله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعروفهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، فماذا يقوله المسلمون في هذه العصور المتأخرة، هؤلاء الذين عز وجودهم في زمن الماجشون، هم الذين يصفهم، يقول: يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما يبلغهم مثله عن نبيهم، بمعنى أنهم يقفون مع النص، يستسلمون للنص، لا يعتمدون على أقيستهم، ولا على اجتهاداتهم في هذا الباب، فما مرض من ذكر هذا، وتسميته قلب مسلم، لا شك.
قلب المؤمن الحي المستسلم لله - عز وجل - الذي تربى على مائدة القرآن، لا يستشكل ما أثبته الله لنفسه بخلاف هؤلاء الذين مرضت قلوبهم من ذلك، فحملهم على تعطيل الله - عز وجل - نعم. ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن، المؤمن لا يتكلف بأن يصف الله - عز وجل - بصفة لم يصفها هو سبحانه، نعم.
وما ذكر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه سماه من صفة ربه، فهو بمنزلة ما سمى وما وصف الرب من نفسه .
ــــــــــــــــــــــ
نعم. بمعنى يرد على بعض من اقتصر بإثبات الصفات على ما ورد في القرآن، هناك بعض متقدمي الأشاعرة كما سبق بيانه، وإن كان ابن الماجشون سابقا عليهم، لكن ربما كان موجودا عنده من يذهب إلى هذا المذهب، الذين اقتصروا في إثبات الصفات الخبرية التي وردت في القرآن الوجه، اليدين، الاستواء، لكن لا يثبتون الأصابع قالوا: إنها ليست ثابتة في القرآن، لا يثبتون الضحك؛ لأنه غير ثابت في القرآن، نعم. فابن الماجشون يقول: ما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في وصف الله - عز وجل - مثل ما ثبت في القرآن سواء بسواء، نعم.(1/270)
فالراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم بما وصف به نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها، لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدا، ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقا؛ لأن الحق ترك ما ترك وتسمية ما سمى { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } (1) .
وهب الله لنا ولكم حكمة، وألحقنا بالصالحين -الكلام الأخير هذا تأكيد لما تقدم، أن الراسخين في العلم، هم الذين يقفون مع النص إثباتا ونفيا، نعم- وهذا كله كلام ابن الماجشون، فتدبر وانظر كيف أثبت الصفات، ونفى علم الكيفية، موافقة لغيره من الأئمة، وكيف أنكر على من نفى الصفات، بأنه يلزم من إثباتها كذا وكذا، كما تقوله الجهمية، أنه يلزم أن يكون جسما أو عرضا فيكون .
ــــــــــــــــــــــ
نعم. وهذه قلنا: شبهة من شبهات القوم، أنهم ينفون الصفات بحجة أنك إذا أثبت لله الصفات، فيلزم أن يكون الله جسما أو عرضا؛ لأنهم يقولون: إن هذه الصفات هي في الأصل إما جسم أو عرض، وسبق أن قلنا: إن هذه الألفاظ من الألفاظ المبتدعة، التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة، لا بنفي ولا إثبات، فلا يجوز إطلاقها على الله - عز وجل - أو إضافتها إلى الله - عز وجل - بإطلاق، ولا نفيها بإطلاق؛ لأنها تحتمل حقا وباطلا، نعم.
النهي عن التكفير بالذنب
__________
(1) - سورة النساء آية : 115.(1/271)
وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة، الذي رووه بالمسند عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي، قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر، فقال: لا تكفرن أحدا بذنب، ولا تنف أحدا من الإيمان، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا توال أحدا دون أحد، وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله - عز وجل - .
ــــــــــــــــــــــ
نعم. هذا نقل ثان، نقله الشيخ عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، الإمام المشهور صاحب المذهب، في كتاب الفقه الأكبر، وكتاب الفقه الأكبر مشهور، وله عدة شروح، شرحه ملا علي القاري، وشرحه أيضا أبو منصور الماتريدي وغيرهما، لكن في ثبوته عن الإمام أبي حنيفة نظر، فالإمام الذهبي ينسب الكتاب إلى أبي مطيع، والكتاب وصل إلينا برواية رجلين، برواية أبي مطيع هذا، وبرواية حماد بن أبي حنيفة، وكلاهما متكلم فيه من جهة الرواية، ولعل القول الوسط أنه من إملاء أبي حنيفة، لكن ما جمع إلا بعد وفاته، جمعها أبو مطيع، وابنه حماد .
يقول: رووه بالإسناد عن أبي مطيع، الحكم بن عبد الله البلخي، والمتوفى سنة مائة وسبع وتسعين، قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر، وهذا تمييز عن فقه الأحكام، المشهور الآن عندنا بالفقه، قديما كان يسمى علم العقائد، بالفقه الأكبر؛ لأنه هو الفقه الأكبر، بهذا الفقه يعرف الإنسان ربه سبحانه وتعالى، ويعرف أصول دينه بهذا العلم، يعرف أركان الإيمان الستة، التي لا يستقيم إيمان العبد إلا بها .(1/272)
فقال: لا تكفرن أحدا بذنب، في الفقه الأكبر لا تكفرن أحدا من أهل القبلة، ولعل هذا هو الظاهر، والشيخ اختصر ربما بعض هذه العبارات، أو ربما غالبا؛ لأنه أملاها من حفظه، فربما سقطت لا تكفرن أحدا بذنب، وهذا هو المعنى الصحيح، أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، أما ما عداهم فلا، من فعل مكفرا، وزالت الموانع، كفر. فاليهودي كافر، والنصراني كافر، والمشرك كافر، لا تكفرن أحدا بذنب؛ لأن من ثبت من أهل القبلة إيمانه بيقين، فلا يزول عنه إلا بيقين، أما الذين كفروا أهل القبلة بالذنوب، فهم من ؟ الخوارج، والمعتزلة أخرجوه من الإسلام، لكن لم يدخلوه في الكفر، وجعلوا حكمه في الآخرة حكم الكافر، خالدا مخلدا في النار، الشاهد أن الوعيدية من الخوارج ومن تبعهم كفروا أهل القبلة بكل ذنب .
ولا تنف أحدا به من الإيمان بمعنى لا تخرج أحدا بهذا الذنب من الإيمان، ما دام ثبت أنه مؤمن فلا يخرج عن الإيمان إلا بيقين، إلا بمكفر مع زوال المانع، وقيام الحجة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، هذا هو حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر، أو من لوازم الإيمان بالقضاء والقدر، أن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا جاء به النص صريحا .(1/273)
ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، تولي جمهور أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نتبرأ من أحد منهم، لا من معاوية، ولا من عمرو بن العاص، ولا من غيرهما، ولا من علي، ولا من الحسن والحسين، نتولى الجميع، فمن ثبتت صحبته توليناه، بأمر الله، وبأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (1) .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا .
وقال في الحديث الآخر: لا تتخذوا أصحابي غرضا من بعدي والله الله أوصيكم في أصحابي .
ولا توالِ أحدا دون أحد، لا شك. لا نفوض إلا من فضله النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضله الله - عز وجل - لكن لا نتدخل في هذا بأهوائنا، وعقولنا وأقيستنا، كما عمل أهل البدع، فلان أفضل من فلان، وفلان أفضل من فلان، بناء على شبهات لا، نحن نعم، نعتقد أن من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أفضل ممن أسلم من بعد الفتح، والعشرة أفضل الصحابة، وأفضلهم الأربعة، وأفضل الأربعة أبو بكر - رضي الله عنه - فأفضل من طلعت عليه الشمس وغربت بعد النبيين هذا الرجل، وأهل بدر يفضلون على غيرهم، والمهاجرون يفضلون على غيرهم، وأهل بيعة الرضوان يفضلون على غيرهم، فنفاضل بينهم وفق ما ورد به النص.
وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله - عز وجل - لعل أبا حنيفة يشير هنا إلى مسألة المفاضلة بين علي وعثمان، وهذه المسألة من المسائل التي جرى فيها الخلاف قديما، وذلك أن الأقوال فيها أربعة، أقوال أهل السنة حاشا أقوال أهل البدع، في المفاضلة بينهما، فمن أهل السنة من يفضل أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم يسكت، ومنهم من يربع بعلي،
__________
(1) - سورة التوبة آية : 100.(1/274)
............................................................................................................
ــــــــــــــــــــــ
يقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومنهم من يقول: نفضل أبا بكر ثم عمر ثم علي ثم عثمان، يقدم عليا على عثمان، ومنهم من يسكت، ويقول: لا نفضل هذا على هذا لا نفضل عثمان على علي، بالنسبة للخليفتين أبي بكر وعمر هذا بإجماع أهل السنة، ولم يقع فيه خلاف في تقديمهما، إنما الخلاف في عثمان وعلي، فذهب الجمهور إلى تقديم عثمان على علي، وذهب مالك في رواية وشعبة ويحيى القطان وبه قال ابن حزم من المتأخرين إلى الإمساك، وعدم المفاضلة بينهما، وهو المفهوم الآن من كلام أبي حنيفة، لكن الذي استقر عليه مذهب الإمام مالك، ورجع عنه صراحة كما نقل عنه البيهقي، وكذلك شعبة، وكذلك يحيى القطان، أنهم رجعوا إلى رأي الجمهور في تقديم عثمان على علي.
هناك الرأي الآخر، وهو تقديم علي على عثمان، وهذا ينسب إلى أبي حنيفة، ويروى عن ابن خزيمة، وسفيان الثوري، لكن أيضا الذي ثبت صراحة عن أبي حنيفة في الفقه الأكبر، أنه يقدم عثمان على علي، وقال: ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وأيضا سفيان الثوري، والإمام ابن خزيمة، ثبت عنهما بما لا يدع الشك، أنهما رجعا إلى قول الجمهور، وبناء على ذلك، فالذي استقر عليه أمر أهل السنة، وجمهور أهل السنة أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، نعم.
وجوب التفقه في أصول الدين
قال أبو حنيفة: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم؛ ولأن يفقه الرجل كيف يعبد ربه، خير من أن يجمع العلم الكثير، انتهى .
ــــــــــــــــــــــ
لا شك وهذا سبق الإشارة إليه، أن الإنسان يتفقه في أصول دينه، وفي معرفة كيفية عبادة الله - عز وجل - ويعبده على يقين، وعلى بصيرة من أمره، خير من أن يجمع مسائل الفروع، لكنه جاهل في مسائل الأصول، نعم.
مسألة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1/275)
قال أبو مطيع: قلت: أخبرني عن أفضل الفقه، قال: تعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود، واختلاف الأئمة، وذكر مسائل الإيمان، ثم ذكر مسائل القدر، والرد على القدرية، بكلام حسن ليس هذا موضعه، ثم قال: قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فيتبعه على ذلك أناس، فيخرج على الجماعة، هل ترى ذلك؟ قال: لا، قلت: ولم؟ وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو فريضة واجبة، قال: كذلك، ولكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون، من سفك الدماء، واستحلال الحرام .
ــــــــــــــــــــــ
نعم، سأله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن طائفة من الناس، يلمح إلى المعتزلة، الذين يرون وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولازم ذلك الخروج على جماعة المسلمين، الخروج عليهم بالسيف، الخروج عليهم بالقوة، نعم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فريضة من فرائض الإسلام، وشريعة من شرائع الإسلام، لكن بالوسائل الشرعية، وبالضوابط المرعية ولهذا سأله هل للإنسان أن يأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر؟ نعم. ما فيه إشكال، لكن يخرج على جماعة المسلمين، بحجة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ الجواب قال: لا، فقال: ولم؟ وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو فريضة، هذا لا خلاف فيه، أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من شعائر هذه الأمة، ومما أمر الله ورسوله به، ولكن كونه نهى أن يخرج الإنسان على جماعة المسلمين، بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، السبب في ذلك أنه ما يفسد أكثر مما يصلح .(1/276)
وهذه حال الخوارج والمعتزلة، خرجوا بالقوة على جماعة المسلمين، بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأفسدوا أكثر مما أصلحوا، وهناك قاعدة عامة أن درء المفاسد، مقدم على جلب المصالح، فإذا كان هذا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، سيجلب مفسدة، فتركه أولى؛ ولهذا لما مر شيخ الإسلام بجماعة من التتر، وهم يشربون الخمر، أراد بعض تلامذته أن يزجرهم وينهاهم، فقال له: دعهم، شربهم للخمر أهون من كونهم يقومون
ويتسلطون على المسلمين، فهنا درء للمفسدة مقدم على جلب المصلحة، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وأستأذنكم اليوم في الإجابة على الأسئلة لعلها تكون غدا، والله أعلم.
كفر من أنكر صفة العلو لله - عز وجل -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن والاه، أما بعد:
قال المصنف -رحمه الله -تعالى رحمة واسعة قال:
وذكر الكلام في قتال الخوارج والبغاة إلى أن قال: قال أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر؛ لأن الله تعالى يقول: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) وعرشه فوق سبع سماوات، قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى، ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء، أم في الأرض، قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وفي لفظ سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء، أم في الأرض؛ قال: قد كفر؛ لأن الله تعالى يقول: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (2) وعرشه فوق سبع سماوات، قال: فإنه يقول: على العرش استوى، ولكن لا يدري العرش في الأرض، أو في السماء، قال: إذا أنكر أنه في السماء، فقد كفر، ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة.
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة طه آية : 5.(1/277)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
لا زال المؤلف يذكر كلام الإمام أبي حنيفة، كما رواه أبو مطيع البلخي -رحمه الله -ففي هذا الكلام الأخير، يلاحظ أن الإمام أبا حنيفة كفر من أنكر صفة العلو لله - عز وجل -والكلام في هذا صريح، لا يحتمل التأويل، بل إنه -رحمه الله -كفر من توقف في هذه المسألة، فقال: لا أدري الله في السماء أم في الأرض، لكن ينبغي التنبه أن كلام الأئمة في تكفير من خالف في بعض هذه المسائل، أنه من باب التكفير المطلق، وفرق بين التكفير المطلق، وتكفير الشخص المعين، فالتكفير المطلق، مثل الوعيد المطلق، وهذه قاعدة عامة، أن التكفير المطلق، مثل الوعيد المطلق، الله - عز وجل - توعد الذين يأكلون أموال اليتامى بالنار، فلا يجوز أن تقول لإنسان تعلم أنه أكل أموال اليتامى إنه في النار، توعد آكل الربا بالنار، فلا يجوز أن تقول لإنسان يأكل الربا إنه في النار، توعد القاتل المتعمد بالنار، ولا يجوز أن تحكم على مسلم قاتل بعينه أنه في النار، ففرق بين التكفير المطلق، والتكفير المعين .(1/278)
ويدل على ذلك أن الأئمة يكفرون ببعض المقالات، لكن يلاحظ أنهم إذا نظروا إلى الشخص المعين، فإنهم لا يحكمون بكفره، مثل الإمام أحمد، الإمام أحمد اشتهر عن أنه قال من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر، ومع ذلك يلاحظ أنه يصلي خلف من يقول: القرآن مخلوق، فلو كان يكفر هذا الشخص بعينه، ويخرجه من الملة، لما صلى خلفه؛ لأن الصلاة خلفه لا تصح، وذلك أن التكفير المعين له شروط وموانع، فقد تنتفي في حق هذا الشخص المعين، إما لتأويل أو لجهل، أو لأمر آخر، وهذا مما يكثر الخطأ فيه، خاصة عند الشباب، يأخذون هذه النصوص العامة عن الأئمة، وأحيانا حتى من الكتاب والسنة، ويطبقونها على الأشخاص المعينين، وهذا خلاف المنهج الصحيح.
أنا أسألكم الآن: ما حكم من شك في قدرة الله؟ كافر، ولا شك في ذلك،. ما حكم من شك في اليوم الآخر؟ كافر.
ثبت في صحيح البخاري: " أن رجلا أسرف على نفسه، فلما حضرته الوفاة جمع أبناءه وأوصاهم بأن قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذُرُّوني؛ فوالله لئن قدَر الله عليّ ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، فجمعه الله - عز وجل - وأقامه وقال: ما حملك على ذلك؟ قال: مخافتك، فغفر الله له ".
يقول شيخ الإسلام: هذا عنده نوعان من أنواع الكفر الأكبر: الشك في قدرة الله، والشك في اليوم الآخر، ولكن غفر الله له بسبب الجهل، والأمثلة كثيرة.
الشاهد: أن كلام الإمام أبي حنيفة هنا لا يعني أن كل من جاءنا وأنكر صفة العلو نقول: أنت كافر خارج من الملة ونتعامل معه على أنه كافر، لا، كلام الأئمة يؤخذ على عمومه، لكن لا يطبق على الأشخاص إلا بعد قيام الحجة، وزوال المانع، ومعرفة مستند هذا الشخص الذي ذهب إلى هذا القول.(1/279)
الأمر الآخر أقول: ينبغي أن نحرص على فهم أو حفظ مثل هذا الأثر عن الإمام أبي حنيفة، ولمَ؟ لأن كلامه صريح في إثبات صفة العلو والإنكار على من أنكرها، لا يحتمل التأويل، ويمكن أن نحتج بكلامه هذا على من؟ على أتباعه، ومعلوم وليس بخاف أن من أكثر المذاهب تعصبا لأئمتهم الأخوة الأحناف.
فإذا وجدنا حنفيا ينفي مثل هذه الصفة، فنقول: هذا كلام إمامنا وإمامكم الإمام أبي حنيفة، وهذا ما جعل أعداء الشيخ يشغبون عليه بسبب تأليف هذه المسألة، أنه احتج عليهم بقول أئمتهم.: أنتم الآن تتعصبون لأئمتكم في الفروع تعصبا أعمى فهذا قولهم في الأصول، فلماذا لا تأخذون به؟ نعم.
ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه أنه كفّر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول: ليس في السماء، أو ليس في الأرض ولا في السماء.
واحتج على كفره بقوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) قال: وعرشه فوق سبع سماوات، وبيّن بهذا أن قوله -تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (2) يبين أن الله فوق السماوات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله نفسه فوق العرش، ثم أردف ذلك بتكفير من قال: إنه على العرش استوى ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض، قال: لأنه أنكر أنه في السماء؛ لأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.
وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء، واحتج على ذلك بأن الله -تعالى- في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل.
وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، وإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو، وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وقد جاء اللفظ صريحا عنه بذلك فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة طه آية : 5.(1/280)
وروى هذا اللفظ عنه بالإسناد شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي بإسناده في كتاب "الفاروق".
ــــــــــــــــــــــ
نعم، الشيخ هنا يشير أن الإمام أبا حنيفة استدل على إثبات صفة العلو لله - عز وجل - بالفطرة والعقل، وأشار إلى ذلك بقوله: أنه في بأعلى عليين، وكونه في أعلى عليين هذا ثابت بالعقل والفطرة كما سلف الكلام عن ذلك، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل وهذا أيضا دليل فطري على إثبات صفة العلو.
............................................................................................................
ــــــــــــــــــــــ
يقول: وروى هذا اللفظ عنه بالإسناد أي أن من أنكر أنه في السماء فقد كفر، يعني: جاء صريحا في كتاب "الفقه الأكبر" وهذا من أشهر الكتب المنسوبة لأبي حنيفة، وأيضا روى عنه هذا اللفظ أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الأنصاري المتوفى سنة 481 صاحب "منازل السائرين" في كتابه "الفاروق" .
وكتابه "الفاروق" لا يزال مفقودا، وينقل عن شيخ الإسلام كثيرا وله أيضا كتاب "ذم الكلام" وقد حُقق أخيرا، وله كتاب "منازل السائرين" الذي شرحه الإمام ابن القيم في "مدارج السالكين"، قال عنه الذهبي -رحمه الله: كان أثريا قُحًّا، وكان سيفا مسنونا على المتكلمين، هذا في جانب توحيد الأسماء والصفات.
أما في جانب توحيد العبادة وخاصة في جانب السلوك فعليه ما عليه؛ ولهذا ألف كتابه "منازل السائرين" على منهج الصوفية، قال عنه الذهبي: ولكنه له نفس عجيب لا يشبه نفَس أئمة السلف في كتابه "منازل السائرين" ففيه أشياء مطْربة وفيه أشياء مشكلة.(1/281)
وروى هو أيضا وابن أبي حاتم أن هشام ابن عبيد الله الرازي صاحب محمد بن الحسن قاضي الري حبس رجلا في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام ليطلقه، فقال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه هشام فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري "ما بائن من خلقه"، فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب.
وروى أيضا عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي ردئ ضليل وهالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقدار والأنتان.
ــــــــــــــــــــــ
إذن لا بد من إثبات العلو وإثبات أن الله بائن من الخلق، والعلماء جاءوا بهذه اللفظة "بائن" للرد على الجهمية الحلولية الذين زعموا أن الله مختلط وممتزج بالخلق؛ ولهذا هذا الرجل قال: الحمد لله على التوبة، فامتحنه محمد بن الحسن -رحمه الله - صاحب أبي حنيفة المتوفى سنة مائة وتسعة وثمانين، قال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه لكن ما أدري "ما بائن من خلقه" فقال: ردوه إلى السجن، إلى الآن ما تاب، فلا بد أن تعتقد أن الله بائن بمعنى: منزه أن يختلط بالخلق، نعم.
وروى أيضا عن ابن المديني لما سُئل ما قول أهل الجماعة قال: يؤمنون بالرؤية والكلام، وأن الله فوق السماوات على العرش استوى، فسئل عن قوله -تعالى : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } (1) فقال: اقرأ ما قبلها : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (2).
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 7.
(2) - سورة المجادلة آية : 7.(1/282)
نعم، وهذا أيضا قول ابن المديني علي بن عبد الله شيخ الإمام البخاري المتوفى سنة مائتين وأربعة وثلاثين، وقد قال الإمام البخاري ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني.
يقول -رحمه الله- قول أهل الجماعة أي قول أهل السنة والجماعة: أنهم يؤمنون بالرؤية والكلام، أي: يثبتون رؤية الله - عز وجل - وكلامه، وأن الله فوق السماوات -هذا الشاهد- على العرش.
فسئل عن قوله -تعالى: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } (1) وهذه آية المجادلة التي هي حجة يحتج بها دائما مَن ينكرون أن صفة العلو ويحتج بها من يقول بالحلول: أن الله حال ومختلط بخلقه بالخلق.
فردّ عليه ابن المديني -رحمه الله- قال: اقرأ أول الآية: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (2) فافتتح الآية بالعلم، واختتمها بالعلم، فقال: { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } (3) فدل على أن المراد بالمعية هنا: معية الذات أم معية العلم؟ معية العلم .
وبنفس الاحتجاج احتج الإمام أحمد في كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة" لما سئل عن هذه الآية قال: اقرأ أولها وآخرها، لا تأخذ جزءًا من الآية وتسكت؛ ولهذا حكى ابن كثير -رحمه الله- عن بعض الأئمة أنهم حكوا الإجماع أن المراد بالمعية في هذه الآية معية العلم والإحاطة، وليست معية الذات، وليس في هذا تأويل كما يزعم المعطلة يقولون: أنتم أهل السنة تؤولون، وسيأتي الكلام -إن شاء الله- على هذه المسألة في نهاية الرسالة، نعم.
وروى أيضا عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه، وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان.
ــــــــــــــــــــــ
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 7.
(2) - سورة المجادلة آية : 7.
(3) - سورة المجادلة آية : 7.(1/283)
هذا لإثبات صفة معية العلم، وهي المعية العامة يقابلها المعية الخاصة وهي معية النصر والتأييد { لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا } (1) { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (2) هذه معية خاصة، وهناك معية مع سائر الخلق، نعم.
وروى عن أبي زرعة الرازي أنه سئل عن تفسير قوله -تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (3) فقال: تفسيره كما تقرأ: هو على العرش وعلمه في كل مكان، من قال غير هذا فعليه لعنة الله.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، هذا أبو زرعة -رحمه الله- عبيد الله بن عبد الكريم رحمه الله المتوفى سنة مائتين وأربعة وستين، لما سئل عن هذه الآية قال: هي كما تقرأ، { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (4) تفسيرها كما تقرأ كما يظهر من الآية، ألست عربيا؟! ألا تفهم قول الله -عز وجل-؟! "استوى" بمعنى: علا وارتفع، وعلمه في كل مكان، فهو علا على الخلق بذاته -سبحانه- لكن علمه شامل لكل شيء، نعم.
الإيمان بما وصف الله به نفسه في القرآن والأحاديث
وروى أبو القاسم اللالكائي صاحب أبي حامد الإسفراييني في أصول السنة بإسناده عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب - عز وجل - من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه.
فمن فسر اليوم شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ فإنه قد وصفه بصفة لا شيء.
__________
(1) - سورة التوبة آية : 40.
(2) - سورة طه آية : 46.
(3) - سورة طه آية : 5.
(4) - سورة طه آية : 5.(1/284)
محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء، وقد حكى على هذا الإجماع، وأخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالبا أو دائما، وقوله: "من غير تفسير"، أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الإثبات.
ــــــــــــــــــــــ
نعم وهذا النقل عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة الإمام المشهور، وقد قيل للإمام أحمد: من أين لك دقائق المسائل؟ قال: استفدتها من محمد بن الحسن.
وأقول أيضا: هذه من الآثار التي ينبغي العناية بها للرد على أتباعه في نفي ما وصف الله به نفسه، فقد ذكر أن الفقهاء اتفقوا جميعا على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقاتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب -عز وجل.
أما قوله: "من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه" فكما بين الشيخ أنه أراد تفسير الجهمية وتأويل المعطلة، "استوى" استولى { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) بقدرتي.. ونحو ذلك.
............................................................................................................
ــــــــــــــــــــــ
وذكر الشيخ أن كلام محمد بن الحسن هذا فيه حكاية للإجماع على أن السلف أثبتوا هذه الصفات من خلال أدلة الكتاب والسنة من غير أن يتعرضوا لها بشيء من تفسيرات الجهمية.
وذكر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالبا أو دائما، وذكرنا هذا سابقا: أن مذهب الجهمية السلب وهو النفي: الله ليس بكذا وليس بكذا وليس بكذا وليس بكذا.. إلى أن يصل أن ينفوا الله - عز وجل - وهذا سيأتي بعض الآثار عن أئمة أن نهاية قول الجهمية ينتهي إلى نفي الله -عز وجل، نعم.
__________
(1) - سورة ص آية : 75.(1/285)
وروى البيهقي وغيره بأسانيد صحيحة عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: هذه الأحاديث التي يقول فيها: " ضحك ربنا من قنوط عباده وقُربِ غِيَرِهِ، وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع الجبار قدمه فيها " والكرسي موضع القدمين، وهذه الأحاديث في الرؤية هي عندنا حق حمله الثقات بعضهم عن بعض، غير أنا إذا سألنا عن تفسيرها ولا نفسرها، وما أدركنا أحدا يفسرها.
أبو عبيد أحد الأئمة الأربعة الذين هم: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد، وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل ما هو أشهر من أن يوصف، وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء، وقد أخبر أنه ما أدرك أحدا من العلماء يفسرها، أي: بتفسير الجهمية.
ــــــــــــــــــــــ
نعم وهذا الأثر أيضا عن أبي عبيدة القاسم بن سلام صاحب "تأويل مختلف الحديث" المتوفى سنة مائتين وأربعة وعشرين قال: هذه الأحاديث التي يقول فيها النبي -صلى الله عليه وسلم: ضحك ربنا من قُنوط عباده وقُرب غِيَرِهِ أي: قُرب تغيّر الحال من الجدب إلى الخصب. وذكرنا الكلام على هذا الحديث سابقا.
وإنه وإن كان فيه مقال ولكن المعنى الذي اشتمل عليه تشهد له أحاديث صحيحة أخرى وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك قدمه فيها وهذا سبق أنه في الصحيحين .
"والكرسي موضع القدمين" هذا ثبت موقوفا عن ابن عباس وأبي موسى، فقد رواه جمع من الأئمة، منهم: أبو شيبة وعبد الله بن الإمام أحمد، وابن منده وابن خزيمة والطبراني والدارقطني وغيرهم.
والأثر صحيح كما حكم عليه الإمام الحاكم في "المستدرك"، ووافقه الذهبي، وحكم عليه أيضا من المعاصرين بالصحة الشيخ ناصر -رحمه الله- كما في "مختصر العلوم" .(1/286)
وهذه الأحاديث في الرؤية يقول: هي عندنا حق، حملها الثقاتة بعضهم عن بعض، غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها، وشرح الشيخ معنى قوله: "لا نفسرها" أي: تفسير الجهمية.. تأويل الجهمية، لكن كما هو معلوم متواتر مشهور عن السلف أنهم يثبتون هذه النصوص على ظاهرها، لكن لا يتعرضون لها بتأويل كما هي الحال عند المعطلة، وما أدركنا أحدا يفسرها .
ثم أوضح الشيخ في عبارة أو في جملة اعتراضية مكانة أبيو عبيد -رحمه الله- صاحب هذا الأثر فقال: هو أحد الأئمة الأربعة، يعني هو من أقران الإمام الشافعي وأحمد وإسحاق، وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل ما هو أشهر من أن يوصف.
وهنا فائدة لطيفة قول الشيخ: ما هو أشهر من أن يوصف، هناك تحرج من بعض الإخوان إذا وصف أحد العلماء تقول فلان أشهر من أن يوصف، فالبعض يتحرج ويقول: هذه العبارة لا تصح إلا في حق الله، فإذا أطلقها مثل شيخ الإسلام فيكون للإنسان سلف في هذا، وقول الإنسان: فلان أشهر من أن يوصف مفهوم أنه في حق وفي حدود البشر، وهذا دليل على جوازها.
يقول: وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء لأنه عاش في الفترة من مائة وسبع وخمسين إلى مائتين وأربع وعشرون، وقد أخبر: أنه ما أدرك أحد من العلماء تفسيرها يفسرها، أي: تفسير الجهمية.. تأويلات الجهمية.
وروى اللالكائي والبيهقي عن عبد الله بن المبارك: أن رجلا قال له: يا أبا عبد الرحمن، إني أكره الصفة -عَنَى: صفة الرب- فقال له عبد الله بن المبارك: أنا أشد الناس كراهة لذلك، ولكن إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه، ونحو هذا.
أراد ابن المبارك: أننا نكره أن نبتدأئ بوصف الله من ذات أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار.
ــــــــــــــــــــــ(1/287)
نعم، وهذا ظاهر، هذا الرجل هو أفلح بن محمد كما جاء مصرحا به عند الإمام اللالكائي في رواية اللالكائي أنه قال: أكره الصفة، يعني: صفة الرب، فقال له عبد الله بن المبارك: وأنا أشد الناس كراهة لذلك، ولكن إذا جاء النص.. إذا نطق الكتاب.. إذا ورد في القرآن والسنة فليس لنا إلا الإثبات والتسليم، نعم.
الإيمان بأن الله في السماء بائن من خلقه
وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له: لبماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية: أنه هاهنا في الأرض، وهكذا قال الإمام أحمد وغيره.
ــــــــــــــــــــــ
وهذا أيضا ظاهر عن ابن المبارك وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- أن هذا الأثر ثابت عن ابن المبارك ثبوتا قريبا من التواتر، وهو مشهور عند الأئمة: أنا نعرف ربنا بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية: أنه هاهنا في الأرض.
الشيخ يسرد هذه الآثار ليبين أن مذهب متأخري الأشاعرة الذين نفوا صفة العلو هو مذهب متقدمي الجهمية الذي أنكره السلف واشتد نكيرهم عليه سواء بسواء، وأن اللوازم التي ذكرها الأئمة المتقدمون، اللوازم الباطلة التي تلزم على مذهب الجهمية هي اللوازم التي تلزم على مذهب متأخري الأشاعرة في نفي صفة الرب، علمًا بأن الأشاعرة يزعمون أن عدوهم اللدود هم الجهمية والمعتزلة.
الشيخ يبين من خلال هذه الآثار أن مذهبكم مثل مذهب الجهمية في هذه المسألة سواء بسواء نعم.
وروى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام: سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: إن ما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء.
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة...
ــــــــــــــــــــــ(1/288)
نعم حماد بن زيد -رحمه الله- يقول: لازم مذهب الجهمية ومنتهى قولهم: أنه ليس في السماء شيء، أي ليس ثَّم هناك الله، ابن القيم -رحمه الله- نقل عن شيخ الإسلام أن هذا الذي كان يحاول الجهمية قوله قد صرح به المتأخرون منهم بعد أن ضعفت السنة وانقرضت الأئمة.
الأوائل لم يجسروا على هذا الكلام، لكن المتأخرون من خلال كلامهم يتضح نفي وجود الله - عز وجل -أو أنه ليس هناك في السماء إلاه يُعبد.
وسبق ذكرت أمثلة أن مذهبهم يقولون: الله ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل ولا محايد ولا مباين.. إذًا ما هذا؟ هذا هو العدم وعين العدم، بل أشد من العدم؛ لأن المعدوم منه ما يكون جائز الوجود، أما هذا الشيء الذي وصفوه فهو مستحيل الوجود، نعم.
يقول: وروى ابن أبي حاتم في كتاب "الرد على الجهمية" عن سعيد بن عامر الضبعي المتوفى سنة مائتين وثمانية، إمام أهل البصرة علما ودينا من شيوخ أحمد: أنه ذكر عنده الجهمية، فقال: هم شر قول من اليهود والنصارى.
لما ذكر عنده قول الجهمية في نفي العلو عن الله ونفي الصفات عن الله سعيد بن عامر الضبعي قال: قولهم هذا شر قول من اليهود والنصارى، لماذا؟
يقول: وقد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وقالوا هم: ليس عليه شيئنا.
وهذا وجه قولهم هذا شر قول من قول اليهود والنصارى.
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة: من لم يقل: إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وجب أن يُستتاب فإن تاب وإلا ضُربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة، وذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، ذكره في معرفة علوم الحديث؛ وهذا لبيان شناعة هذا القول، يعني: كأنه حكم عليه بالكفر المخرِج عن الملة، يقول: من قال هذا القول الواجب أن تضرب عنقه ولا يدفن لا مع المسلمين ولا حتى مع أهل الذمة.(1/289)
وقد روى عبد الله بن أحمد عن عباد بن العوام الواسطي إمام أهل واسط، من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد، قال: كلمت بشر المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا: ليس في السماء شيء.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، وهذا قول عباد بن العوام الواسطي يبين ويوضح أن لازم قول هؤلاء المعطلة ومنهم بشر بن غياث المريسي الذي رد عليه الإمام الدارمي، وهو إمام من أئمة المعتزلة وممن ينفي الصفات عن الله - عز وجل -يقول: إنني ناظرتهم، وتبين لي أن كلامهم ينتهي إلى أن الله أو إلى أنه ليس ثمة شيء في السماء.
الشيخ أكثر هنا من الجمل الاعتراضية في بيان مكانة ومنزلة من يذكر كلامه؛ ليبين أنني الآن أحتج عليكم معاشر المعطلة بقول أئمة ليس بقول نكرات من الناس، نعم.
وعن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال: ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا: ليس في السماء شيء! أرى والله ألا يناكحوا ولا يورثوا.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، وهذا أيضا من بيان شناعة قول هؤلاء أن عبد الرحمن بن مهدي -رحمه الله- كأنه كفّر من قال بهذا ؛ فالذي لا يُناكَح: لا تجوز مناكحته، ولا التوارث هم الكفار، فهو يقول: إنني نظرت في أقوال أصحاب الأهواء فما وجدت شرا أشر من قول أصحاب جهم الذين هم الجهمية.
نعم، والشيخ كما قلت يكرر ليبين أن متأخري الأشاعرة على مذهب هؤلاء الذين شنع الأئمة عليهم، الذين كفرهم الأئمة بسبب مقولتهم هذه وغيرها، أن قولهم مثل قولهم سواء بسواء نعم.
وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الرحمن بن مهدي قال: أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: إن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء وأن الله ليس على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.(1/290)
وعن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فنزلت الدباغين، فقال رجل عندها: الله على عرشه، فقالت: محدود على محدود، وقال الأصمعي: كافرة بهذه المقالة.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، قول الأصمعي هنا: إن امرأة جهم قدمت فنزلت الدباغين، "الدباغين" هذا لعله موضع.. مكان، فقال رجل عندها: الله على عرشه، فقالت: محدود على محدود، كأنها تنكر استواء الله على عرشه، فمعنى قولها أنه يلزم من إثبات الاستواء أن يكون الله محدودا على محدود.
فالأصمعي قال: كافرة بهذه المقالة، بأي مقالة؟ بإنكار هذه الصفة، قولها: "محدود على محدود": الحد في الواقع من الألفاظ المجملة التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة لا بنفي ولا بإثبات؛ ولهذا روي عن بعض الأئمة إثبات ذلك، وروي عن بعضهم نفي ذلك، فروي عن الإمام أحمد إثبات الحد، وروي عنه نفي الحد، كذلك ممن روي عنه إثبات الحد الدارمي وابن المبارك.
فمن أطلق الحد على الله - عز وجل - وأراد بالحد ما يتميز به الشيء عن غيره فهذا المعنى صحيح، والعلماء الذين أطلقوا على الله الحد أرادوا الرد على الجهمية الذين قالوا: إن الله مختلط ممتزج بعباده، فقالوا: لا، الله له حد يتميز به عن خلقه، منفصل مباين عن الخلق، غير مختلط كما يزعم الجهمية
أما من أراد بالحد: أن الله - عز وجل - يحيط به شيء من مخلوقاته فلا شك أن نفي الحد بهذا المعنى هو الصحيح؛ ولهذا الإمام أحمد نفى الحد بهذا المعنى وأثبت الحد بالمعنى الآخر التميز؛ أن الله متميز عن خلقه مباين لخلقه منفصل عن الخلق عال على الخلق سبحانه وتعالى، أما الجهمية فلا.
ولهذا الدارمي يقول: علمتُ مرادك أيها الأعجمي -يعني: بشر المريسي- لمّا نفيت عن الله الحد، تريد أن الله ممتزج بالخلق، فأنكر عليه نفي الحد بهذا المعنى.(1/291)
نعم. المعنى الباطل في الحد: من اعتقد أن هناك شيء شيئا من الخلق يحيط بالله -عز وجل، فلا شك أنه على هذا المعنى ليس لله حد، ليس لله شيء يحيط بالله عن الخلق نعم.
وعن عاصم بن علي بن عاصم شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما قال: ناظرت جهما فتبين من كلامه: أنه لا يؤمن أن في السماء ربا.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، قبل الانتقال من الحد هناك رسالة حُققت أخيرا لأحد طلبة العلم المعاصرين باسم "الحد" للدشتي -رحمه الله، تكلم على مسألة إثبات أو نفي الحد، ومن أثبتها ومن نفاها، وتوسع أيضا شيخ الإسلام في نقض التأسيس للكلام عن هذه المسألة، ونقل كلام الإمام أحمد في إثباته ونفيه، ونقل كلام ابن المبارك، وعن عاصم بن علي بن عاصم المتوفى سنة مائتين وإحدى وعشرين، ويقال: إنه كان يحضر مجلسه في مسجد الرصافة أكثر من مائة ألف رحمه الله.
شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما قال: ناظرت جهما فتبين من كلامه: أنه لا يؤمن أن في السماء ربا، بمعنى: ناقشت الجهم بن صفوان وناظرته في مسألة الصفات فتبين لي أنه ينفي أن يكون في السماء رب يُعبد، نعم.
وروى الإمام أحمد قال حدثنا سريج بن النعمان، قال: سمعت عبد الله بن نافع الصائغ قال: سمعت مالك بن أنس يقول: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، وهذا الأثر صحيح عن الإمام مالك ويمكن أن نحتج به على أتباعه ممن ينفون صفة العلو، هذا إمامكم وإمامنا الإمام مالك يصرح بكلام لا يقبل التأويل أن الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان، نعم.
وقال الشافعي: خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - حق قضاها الله في سمائه، وجمع عليه قلوب عباده.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، قال هذا الأثر أيضا عن الإمام الشافعي يمكن أن يحتج به على أتباعه ممن ينكرون صفة العلو؛ فهذا الإمام الشافعي يثبت صراحة أن الله في السماء. نعم.(1/292)
وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات . وهذا مثل قول الشافعي.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، وهذا الحديث الذي في البخاري صريح في إثبات صفة العلو لله - عز وجل -وهو مما استدل به العلماء من السنة على إثبات هذه الصفة.).
وقصة أبي يوسف صاحب أبي حنيفة مشهورة في استتابة بشر المريسي حتى هرب منه، لما أنكر الصفات وأظهر قول جهم، ذكرها ابن حاتم وغيره.
ــــــــــــــــــــــ
نعم، أبو يوسف جيء ببشر المريسي إليه شيخا كبيرا ولما استنطقه تبين أنه ينفي عن الله - عز وجل - صفة العلو، وقد جيء به شيخا، فقال: لولا هذه الشيبة لفعلت بك كذا وكذا، فأمر به فسجن.
خاتمة
هذا آخر ما تيسر من إيراد متن الفتوى الحموية في هذه الدورة المباركة، أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بما قلنا وبما سمعنا، وأن يجعله حجة لنا لا علينا، كما نسأله سبحانه بأسمائه العلا وصفاته الحسنى أن يغفر لإمامنا شيخ الإسلام على ما بذله في سبيل الدفاع عن عقيدة الأمة، ومنافحة أهل الباطل ممن ألحدوا في آيات الله وفي أسمائه وصفاته.
فنسأله -جل وعز- أن يجزيه خير الجزاء وأن يرفع درجته في عليين، وأن يجمعنا به مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء .
ورحم الله الشيخ شهاب الدين أحمد بن المري الحنبلي أحد اللذين عاصروا شيخ الإسلام لكن لم يتيسر له اللقاء به، وقد حرص على أن يلتقي به وذلك أنه كما صرح بنفسه: أن الله من عليه بالهداية لعقيدة أهل السنة والجماعة بسبب مطالعته لكتاب "درء تعارض العقل والنقل".(1/293)
فلما وصله خبر وفاة الشيخ كتب لتلامذة الشيخ كتابا يوصيهم فيه بالحرص على جمع كلام هذا الإمام والمحافظة على مؤلفاته؛ وذلك أن الوقت الذي توفي فيه شيخ الإسلام كان وقت فتنة، وكان من وُجد عنده شيء من كتب الشيخ عوقب وسجن؛ ولهذا كلٌ أخفى ما عنده، فكتب إليهم رسالة يوصيهم بالحرص على كلام الشيخ، والرجوع إلى ابن القيم في ذلك فقد ذكر أنه أعلم الناس بكلام الشيخ.
ثم قال كلمة قال: ووالله إن شاء الله ليقيمن الله مَن يجمع هذا الكلام ويحققه ويستخرج غرائبه وفوائده، رجالا هم الآن في أصلاب آبائهم، فهذه سنة الله في الحياة... إلى آخر ما ذكر أو كلاما نحوا من ذلك.
وقد بُرّ قسمُه فهاهم طلبة العلم يتسابقون لاستخراج كلام هذا الإمام، وليس هناك رسالة ولا كتاب مخطوط لهذا الشيخ إلا وتسابق الناس إلى تحقيقه واقتنائه، وهذا لعله -إن شاء الله- من أمارات حسن وصدق نية هذا الرجل، فكم الذين ناوءوه، وكم الذين عادوه، ذهبوا نسيا منسيا.
أما هذا الرجل فذكره يتجدد بتجدد الأيام، بل إن قوله واختياره دائمًا مما يعزز في ترجيح المسألة، فيلاحظ أن المحققين وأن العلماء إذا ذكروا الأقوال قالوا: وهذا هو القول الراجح وهو الذي رجحه شيخ الإسلام.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يخلف علينا وعليه بمقعد صدق عند مليك مقتدر، وسبحانك الله وبحمدك نشهد أن لا إلاه إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
س: أحسن الله إليكم، يقول: كيف نقول أن تكفير الأئمة في مقالتهم تكفيرا مطلقا، والأصمعي أن يقولوا: كافرة بهذه المقالة؟
ج: نعم، نحن نقول: إذا ورد عن الأئمة أن من قال كذا فهو كافر ومن قال كذا فهو كافر فيؤخذ على عمومه ولا ينزل على الأشخاص، إلا بعد قيام الحجة وزوال المانع.(1/294)
نأتي إلى مسألة إطلاق التكفير المعين على بعض الأشخاص من قِبَل بعض الأئمة كما هي الحال عن الأصمعي، وكما هي الحال عن بشر المريسي، يلاحظ أن بعض الأئمة كفره صراحة، بل بعض الأئمة كفر حتى حسين الكرابيسي.
لكن يحمل قولهم هذا على أمرين كما ذكر الإمام البغوي في "شرح السنة" وكما ذكر أو نقل الإمام البيهقي عن الإمام الشافعي وعلل ذلك، وكما ذكره أبو سليمان الخطابي -رحمه الله- قال: يحمل كلامه في تكفير هؤلاء الأشخاص على أمرين:
الأمر الأول: أنهم أرادوا كفرا دون كفر، يعني: كفر لا يخرج عن الملة.
الأمر الثاني: أنهم قالوا ذلك تنفيرا منهم وتشنيعا على مقالاتهم، نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول: ما الفرق المعنوي بين القدرة والإرادة؟
ج: القدرة والإرادة بينهما عموم وخصوص، وكلاهما متعلق بأفعال الله -عز وجل، وهناك ملحظ لطيف ذكره -إن لم تخنني الذاكرة- ابن القيم لا يحضرني الآن، الملحظ في الفرق بينهما وإنما الشاهد بينهما عموم وخصوص، ويشتركان أنهما فيما يتعلق بأفعال الله - عز وجل - والله أعلم.
هذه المهاجرة من الكويت تقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من هو القائل: أن ما سماه الله من صفاته الخبرية هي أبعاض وأجزاء بالنسبة لنا، وهل هي كذلك بالنسبة لله بدون تكييف، وما معنى حديث: خلق الله آدم على صورته ؟
أما مسألة أن الأسماء والصفات بالنسبة لنا هي أبعاض وأجزاء لا شك فاليد والوجه بعض من الإنسان وجزء من الإنسان، وبناء على ذلك يمكن أن يجزأء ويمكن أن يبعض.
نعم أقول: إن هذه الصفات بالنسبة لنا هي أبعاض وأجزاء؛ فاليد البصر القدم الوجه بعض وجزء من هذا الإنسان، أما بالنسبة لله(1/295)
- عز وجل - فإطلاق البعض والجزء على صفاته من الألفاظ المجملة التي لم ترد لا في الكتاب ولا في السنة؛ ولهذا لا تُرد بإطلاق ولا تقبل بإطلاق.
بل لا بد من الاستفسار عن معناها ممن أطلقها، فمن أطلقها على الله وقال: صفاته أبعاض وأجزاء، وأراد أنها مركبة ويمكن تقسيمها، فالكلام هذا باطل لفظا ومعنى، ومن أطلقها وأراد أنها أبعاض وأجزاء، بمعنى: أن تتميز بعضها عن بعض؛ فاليد ليست هي القدم، والقدم ليست الوجه، والسمع ليس البصر، فهذا صحيح المعنى صحيح، لكن لا يعبر عنه بهذا اللفظ المحتمل لهذا المعنى الباطل.
أما حديث إن الله خلق آدم على صورته فهذا ثابت في الصحيح، وحمله الأئمة على ظاهره، وعند ابن خزيمة وغيره بلفظ: إن الله خلق آدم على صورة الرحمن من الناس مَن أوّل هذا الحديث وقال: إن الله خلق آدم على صورته أي: على صورة آدم، لكن الإمام أحمد أنكر على من أول الحديث بهذا التأويل، وعد هذا نوعا من التجهم.
وممن تأول هذا الحديث الإمام ابن خزيمة -رحمه الله، لكنه أخطأ؛ ولهذا قال الذهبي في ترجمته لما ذكر كتابه "التوحيد" قال: وتأول فيه حديث الصورة فأخطأ، ولكن ليس كل من أخطأ بدّعناه وضللناه؛ لأنا لو عملنا هكذا لم يسلم لنا أحد من الأئمة.
فالصحيح أنه يُحمل على ظاهره: أن الله خلق آدم على صورته، لكن بدون كيف وبدون تشبيه وبدون تمثيل.
من العلماء من قال: يمكن أن تكون الإضافة إضافة تشريف (على صورته) أي: على إضافتها إلى الله - عز وجل إضافة تشريف مثل: بيت الله وناقة الله، كون الله هو الذي خلق فأضافه إلى نفسه لتشريفه على سائر المخلوقات.(1/296)
ومنهم من قال: لا يُحمل على ظاهره وليس هناك ما يدعو لنفرة النفوس من ذلك، بل إن الإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث قال: ليس فيه ما يدعو إلى صرف هذا اللفظ عن ظاهره، يقول: وإنما وقعت الوحشة في هذا الحديث بسبب أنه ما جاء في القرآن، وإلا ما الفرق بين الصورة والفرق بين اليدين؟ ما الفرق بين الصورة والفرق بين الوجه؟! ألسنا نثبت لله وجها والمخلوق له وجه، لكن كل منهم له صفة تليق به نعم.
وهناك رسالة للشيخ محمود عبد الله التويجري -رحمه الله- في خلْق آدم على صورة الرحمن، رسالة قيمة حقيقة في هذا الباب جمع فيها أقوال الأئمة وردهم على من أوّل هذه الصفات، كذلك شيخ الإسلام تكلم على هذا الحديث في "نقض التأسيس" لكن في الجزء المخطوط في قرابة تسعين صفحة للرد على من أول هذا الحديث.
س: أحسن الله إليكم، الكرسي موضع القدمين، قاله ابن عباس - رضي الله عنه - بسند صحيح، وذكرت أنه موقوف، وأهل العلم يقولون: إن ابن عباس ينقل عن بني إسرائيل، فإن لم يرفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا يؤخذ بالعقائد، فما هو الصحيح، وجزاكم الله خيرا؟
ج: نعم، هذا الأثر روي موقوفا على ابن عباس وأبي موسى، ليس فقط ابن عباس، لكن العلماء قالوا: إن هذا القول مما لا يقال بالرأي فله حكم الرفع نعم.
يقول: قام أحد الأساتذة وهو يشرح في إثبات صفة اليدين لله قام برفع يده يريد الإيضاح لطلابه، فأنكر عليه أحد طلبته فما رأيكم في ذلك؟(1/297)
هذا سبق الكلام عليه في قضية مَن ذكر صفة فذكر ما يماثلها بالنسبة للإنسان أو حرك مثلا ذكر صفة اليدين وحرّك اليدين، ذكر صفة الأصابع وحرك أصابعه، نقول: هذا ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد في حديث ابن عباس في تفسير قول الله - عز وجل - لما فسره النبي -صلى الله عليه وسلم: { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) } (1) وأشار إلى سمعه وبصره، ولما قال:إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن أشار إلى أصبعيه وحركهما.ولما جاء في حديث: إن الله يأمر السماوات والأرض قبض وبسط .
فقال العلماء: إنه إذا كان المتكلم يؤمَن عليه أنه ليس من المشبهة وأيضًا يؤمن من المستمعين ألا يفهم من ذلك التشبيه فلا مانع، لكن إذا وجد أحد المحذورين فالأوْلى الترك، ويحمل عليه ما ذكره الإمام اللالكائي: أن الإمام أحمد سمع شخصا يتكلم على الناس في المسجد فذكر حديث: إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن فحرّك أصبعيه فغضب الإمام أحمد، وقال: قطعهما الله! قطعهما الله! قطعهما الله! وقام وانصرف.
قالوا: يحمل فعل وكلام الإمام أحمد على أن هذا الرجل إما مشبه وعنده ملحظ تشبيه أو أنكر عليه؛ لأنه رأى أن الناس عامة وربما ينقدح في أذهانهم التشبيه المحذور، نعم.
وهذا سؤال يتكرر يقول: ما هو رأي فضيلتكم في التصرف في حالنا هنالك في ألبانيا يقول: حيث إن هناك المدارس مختلطة ذكورا وإناثا، حتى المدارس الإسلامية فيها المناهج على عقيدة الأشاعرة، ولا نستطيع أن نبني مدارس إسلامية؛ لأن هذا ممنوع من الحكومة، فماذا نفعل، وكيف نربي أبناءنا هناك، هل نهاجر أم ندخل في الوضع بشكل طبيعي؟
__________
(1) - سورة النساء آية : 58.(1/298)
لا شك -يا أخوان- أن من يعيشون في تلك البلاد ممن يدرس في مدارسهم هذه المناهج المنحرفة التي نعتقد أنها خلاف أهل السنة والجماعة، نقول: إن تيسر أولا إنشاء مدارس على وفق المنهج الصحيح فهذا نور على نور.
وعليهم أن يسعوا جاهدين ويحرصوا ويطالبوا، ويطالبوا، أولا يقفوا أمام أول عقبة، فنقول لا، لا بد من المتابعة والبحث عن مخرج في إنشاء مدارس يكون لها صفة الديمومة، فإذا لم يتيسر يبحث عن مخرج آخر كإرسال أبنائهم أو الهجرة هم وأبناؤهم إلى مكان التعليم فيه مأمون.
فإن لم يتيسر ذلك إن كانت هذه المدارس يدرس فيها على منهج الأشاعرة وهم مضطرون لإدخال أبنائهم، فنقول: لا مانع يدخلون أبناءهم، لكن بشرط أن يقيموا لهم دروسا موازية كما تسمى في مساجدهم في مراكزهم في بيوتهم، يدرسون أبناءهم العقيدة الصحيحة ويبينون لهم أن هذا الذي يدرسونه في هذه المسائل أنه خلاف المعتقد الصحيح، نعم.
س: أحسن الله إليكم، يقول: هل انفرد أبو حنيفة -رحمه الله- بتكفير منكري العلو، وهل ينسحب كلامكم عن التكفير حتى على الجهمية؛ كجهم وبشر والجعد وغيرهم؟
ج: لا، ليس هو وحده الذي انفرد وحده بتكفير من أنكر العلو، فكلام الأئمة الذي ذكر جزء منه يدل على ما ذهب إليه الإمام أبي حنيفة، أما مسألة أنه ينجر تكفيره أو ينجر حكمه هذا على هؤلاء الأعيان فلان وفلان بشر وغيره، نقول كما قلنا في الدرس: إن التكفير المطلق يختلف عن التكفير المعين، مثل الوعيد المطلق، نعم، من قامت عليه الحجة وزال المانع وعاند نعم.
وهناك قاعدة -يا أخوان- لازم القول ليس بقول، بمعنى: إذا تكلم الإنسان بكلام ويلزم على كلامه باطل، فلا تلزمه بهذا الباطل.(1/299)
مثاله شيخ الإسلام في أول "نقد التأسيس" وهو يناظر الرازي يقول: يلزم على قولك هذا الكفر، ولكني لا أكفرك، ولو قلت أنا بهذا القول لكفرت، لماذا؟ لأنه يقول: أنا أعرف ما يلزم على قوله، فإذا قلت وأنا أعرف باللازم فلا شك أني وقعت في هذا المحذور.
لكن أنت عندما تكلمت بهذا الكلام ويلزم على كلامك هذا باطل أكبر لا ألزمك باللازم، لكن أقول: يلزمك هذا الأمر من باب إقامة الحجة.
فكون هذا الإنسان -مثلا- نفى صفة العلو ويلزم من نفي صفة العلو مثلا نفي أن يكون الله ألا يكون في السماء شيء لا نلزمه بهذا اللازم، لكن نقول: يلزم من قولك هذا الكفر؛ ولهذا لا نحكم عليه بلازم قوله، هذه قاعدة عامة: لا يحكم على الناس بلوازم أقوالهم. نعم.
وذكرت لكم حديث هذا الرجل الذي في الصحيحين، وقصة الذين جيء بهما إلى عمر وقد شربا الخمر، قال: ما حملكما على ذلك؟ قالا قول الله -عز وجل: { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا } (1) هم الآن شربوا الخمر مستحلين لها، قال: ولولا ذلك لضربت رقابكما، لولا أن عندكم تأويل وشبهة وإلا استحلال الخمر كفر مخرج عن الملة شربه مع الإقرار أنه كبيرة هذا كبيرة ويقام عليه حد الجلد لكن كون الإنسان يشرب الخمر ويستحلها هذا من باب استحلال ما علم من الدين بالضرورة بتحريمه نعم.
يقول: قال الله -تعالى- على لسان جبريل في سورة مريم قال: { قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) } (2) كيف يهب جبريل لمريم غلاما؟
__________
(1) - سورة المائدة آية : 93.
(2) - سورة مريم آية : 19.(1/300)
جبريل كسائر الملائكة أنهم ينفذون ما أمر الله به وأنهم يقومون بالأعمال الموكلة إليهم، "فأهب لك" بأمر الله - عز وجل - وإلا فجبريل وغير جبريل لا يهب من نفسه ولا يعمل ولا يتصرف بنفسه نعم.
يقول: هل يسوغ للمرأة المسلمة أن تقرأ القرآن وترتله بواسطة الهاتف ثم يبث عبر الشاشة على مرأى ومسمع من خلال برنامج وضع بحسن نية لتعليم التلاوة يبث في التلفاز بحسن نية بواسطة الهاتف؟
نعم، بالنسبة للمرأة الأولى لها في مسألة الترتيل وتحسين الصوت ألا تسمعه إلا بني جلدتها بني جنسها عند النساء، أما أن يسمعه الرجل فلا؛ لأنه من باب خدع القوم الخضوع بالقول، وربما أوقع الشيطان في نفوس المستمعين، "والأذن تعشق قبل العين أحيانا".
فنقول: إن كانت عند النساء ولا يسمعها إلا نساء فلتُرتل ولتُحسن صوتها ما شاءت، أما أمام الملأ فلا، نعم.
يقول: أحسن الله إليكم، أرجو منكم شرح هذه العبارة: "معنى خلاف الإثبات المفصل والنفي المجمل"؟
النفي المفصل والإثبات المجمل هذا خلاف منهج الوحيين فيما يتعلق بصفات الله -عز وجل، وهو منهج أهل البدع أنهم
يفصلون في النفي؛ يقولون يعني يذكرون الصفات بعينها وينفونها عن الله، الله ليس بسميع ولا ببصير ولا متكلم، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا جسم ولا جوهر ولا عرض، يأتون بكل الصفات وينفونها عن الله.(1/301)
والإثبات المجمل يقولون: الله له الكمال المطلق، فهذا إثبات مجمل ونفي مفصل، فما هذا الكمال الذي تثبتونه لله؟! هل تثبتون لله السمع؟ قالوا: لا، منهج القرآن على خلاف ذلك، منهج القرآن الأصل فيه الإثبات المفصل أن ينص على كل صفة بعينها { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (1) { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (3) { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } (4) تذكر الصفة بذاتها، أما النفي لا يأتي مجملا غالبا { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (5) { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (6) { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } (7) .
هذا نفي مجمل يدخل تحته كل صفة نقص هذا معنى الإثبات المجمل والنفي المفصل، والنفي المفصل والإثبات المجمل، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
مقدمة عن الفتوى الحموية الكبرى(الجزء الثاني)
وبيان منهج الشيخ فيها
بسم الله الرحمن الرحيم, إن الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.
(2) - سورة ص آية : 75.
(3) - سورة الأعراف آية : 54.
(4) - سورة الفتح آية : 6.
(5) - سورة الإخلاص آية : 4.
(6) - سورة الشورى آية : 11.
(7) - سورة النحل آية : 74.(1/302)
اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, إنك أنت السميع العليم, بادئ ذي بدء نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعظم الأجر والمثوبة للإخوة القائمين على هذا المسجد؛ حيث كان لهم قصب السبق في إقامة مثل هذه الدورات, فأول دورة انطلقت في هذه البلاد المباركة انطلقت من هذا المسجد, وعلى يدي هؤلاء الإخوة, ثم توالت هذه الدورات -كما تشاهدون, وكما تسمعون- ليس فقط في أنحاء هذه البلاد, بل تعدى ذلك إلى البلاد الأخرى, فنسأله سبحانه وتعالى أن لا يحرمهم الأجر والمثوبة, وأن يجعل لهم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من سن في الإسلام سنة حسنة أوفر الحظ والنصيب.
ولعلي هنا أذكر نفسي وإخواني أن لا يحتقر الإنسان عملا قدمه, فإني أجزم بأن الإخوان هنا لما بدأوا هذه الدورات ما كانوا يتوقعون أن تمتد وتنتشر هذا الانتشار, ولكن { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } (1) ولعل هذا -إن شاء الله- من أمارات وعلامات صدق النية, فإن من علامات حسن النية أن يكتب لعمل الإنسان ولمشروع الإنسان القبول.
ثم نعود لموضوع المتن الذي بين أيدينا الذي هو: "الفتوى الحموية الكبرى", لشيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية, وقد بدأنا هذا المتن في الدورة السابقة في العام الماضي, وسنكمل بإذن الحي القيوم الجزء المتبقي في هذه الدورة, ولا بأس من الإشارة إلى ما تضمنه الجزء الأول؛ لكي يتم الربط بين القسمين.
__________
(1) - سورة المائدة آية : 54.(1/303)
فمعلوم أن الفتوى هي: جواب لشيخ الإسلام, وقد سأله أناس من مدينة حماة عن مذهب السلف في الأسماء والصفات عموما, وما يتعلق بالصفات الخبرية على وجه الخصوص, ولعل مجال الخلاف آن ذاك هي: صفة العلو؛ ولهذا تركز كلام الشيخ في هذه الفتوى على الصفات عموما, وعلى صفة العلو على وجه الخصوص, وقد بدأ الشيخ فتواه ببيان إحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لباب: الإيمان بالله اعتقادا, وقولا, ثم بين منزلة العلم بالله, ثم أوضح استحالة تقصير السلف -رحمهم الله- في أصول الدين, وأنهم تلقفوا هذه المسائل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عارفين لمعناها, وبلغوها للأمة كما أراد المصطفى -عليه الصلاة والسلام-.
ثم رد على مقولة مشهورة موجودة عند أهل الكلام وهي: أن طريقة السلف أسلم, وطريقة الخلف أعلم, وأحكم, ففند هذه المقولة, وبين أن طريقة السلف هي: الأسلم, والأعلم, والأحكم, ثم أوضح -رحمه الله- منشأ الخطأ عند من فضل طريقة الخلف على طريقة السلف, وبين ما المقصود بالسلف, هؤلاء الذي يطعن فيهم أولئك, ومن هم الخلف, وأوضح أن هؤلاء الخلف هم ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب العلم بالله اضطرابهم, وغلظ عن معرفة الله حجابهم, وأن أكثرهم وقع في: الحيرة, والشك, والتردد.
يقول: كيف تفضل طريقة هؤلاء على طريقة أولئك السلف, الذين هم: أعلم الناس بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه تبارك وتعالى, خاصة وأنهم عاصروا نزول الوحي, وأنهم أفصح الأمة لسانا, وأفقه الأمة علما, وأقل الأمة تكلفا ؟.
ثم ذكر شيئا من أدلة علو الله - عز وجل - على خلقه من الكتاب والسنة, ثم أوضح أنه لا يوجد في كلام السلف ما يخالف ظاهر هذه النصوص, ومفهوم هذه النصوص, لا نصا ولا ظاهرا.(1/304)
ثم أوضح منهج النفاة في نفي الصفات, واللوازم الباطلة المترتبة على قولهم, ثم أشار إلى أصل مقالة التعطيل, وأن أصلها نابع من اليهود, فسند التعطيل الجهم بن صفوان, عن الجعد بن درهم, عن ها من؟ بيان بن سمعان التميمي, عن طالوت, عن لبيد بن الأعصم, الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أوضح أن تأويلات الأشاعرة المبثوثة في كتبهم ككتاب "أساس التقديس" هي عينها: تأويلات المعتزلة, تأويلات بشر المريسي الذي رد عليه الأئمة, والذي يعتبره الأشاعرة, أو يعتبرون المعتزلة هم: عدوهم اللدود, فالشيخ بين أن التأويلات الموجودة عند الأشاعرة هي عينها: التأويلات الموجودة عند المعتزلة.
ثم أوضح أو ذكر بعض المصادر التي عنيت بكلام السلف في باب الاعتقاد, ثم أوضح الطوائف المنحرفة عن طريقة السلف, وأنهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: أهل التخييل, وأهل التأويل, ها والقسم الثالث؟ أهل التشبيه.
ثم بدأ يذكر بعض النقول عن السلف في تحقيق صفات الله - عز وجل - وذكر جملة من هذه النقول, وتوقفنا على النقل, عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين, نعم.
بسم الله الرحمن الرحيم, ننبه الإخوة على أن لا يكون هناك أسئلة تطرح على الشيخ رغبة في إنهاء المتن, وذلك بناء على اتفاق مسبق مع الشيخ, وتستأنف الأسئلة - بمشيئة الله تعالى - في الوقت الذي يراه الشيخ.
نعم, لعلنا نلتمس منكم عذرا, أننا نؤجل الأسئلة والإجابة عليها إلى الدروس المتأخرة, إلى أن نقطع شوطا في المتن؛ لأن عندنا الأصل إنهاء هذا المتن, والأسئلة أمر طارئ, إضافة إلى أن الأسئلة يمكن الإجابة عليها عن طريق الهاتف, يمكن الإجابة عليها عن طريق المشائخ الشيخ عبد الله بن جبرين, الشيخ عبد العزيز الراجحي, بقية المشائخ, فإذا قطعنا مرحلة لا بأس بها من المتن, عدنا -إن شاء الله- إلى الأسئلة, نعم.
الإيمان بالعرش(1/305)
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زَمَنِين -الإمام المشهور من أئمة المالكية- في كتابه الذي صنفه في أصول السنة, قال فيه: باب: الإيمان بالعرش. قال: ومن قول أهل السنة: أن الله - عز وجل - خلق العرش, واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق, ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) وقوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } (2) فسبحان من بعد, وقرب بعلمه، فسمع النجوى، وذكر حديث أبي رزين العقيلي؛ قلتُ: يا رسول الله, أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال: في عماء ما تحته هواء, وما فوقه هواء, ثم خلق عرشه على الماء قال محمد: العماء: السحاب الكثيف المُطْبِق - فيما ذكره الخليل - وذكر آثارا أخر.
ــــــــــــ
نعم. يقول الشيخ: وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زَمَنِين, المتوفى سنة ثلاثمائة وتسعة وتسعين, الإمام المشهور من أئمة المالكية, وكما ذكرت لكم سابقا, مما زاد هذه الفتوى قوة, وشرق بها أعداء الشيخ, ولهذا وقفوا منها موقف العداء, بل إن بداية الفتن التي افتتن بها الشيخ: من السجن, ومن التشهير, ابتدأت بتأليف هذه الرسالة, والسبب في ذلك: القوة الذي تضمنه, أو تضمنته هذه الفتوى, وذلك أن الشيخ رد على هؤلاء المتكلمين هؤلاء المعطلة بكلام أسلافهم ممن يعظمونهم.
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة الحديد آية : 4.(1/306)
ولهذا نلاحظ الشيح نقل عن أئمة الحنفية: كالإمام أبي حنيفة, ومحمد بن يوسف, أيضا نقل عن أئمة المالكية: كالإمام مالك, وابن أبي زمنين, كذلك عن أئمة الشافعية, أئمة الحنابلة, فإن كان هذا المخالف شافعيا قيل: هذا كلام أئمتك, وإن كان مالكيا قيل: هذا كلام أئمتك الذين تعظمهم, الذين تقلدهم في باب الفروض, فلم لا تقلدهم في باب الأصول ؟! توافقهم في مسائل: الصلاة, والطهارة, والحج, وأحكام النكاح, وتخالفهم في مسائل الاعتقاد, في باب: الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله؟! هذا تناقض, وإن كان صوفيا هذا المتأول فقد رد عليه بكلام أئمة الصوفية المعظمين عند الصوفية, وسيأتي طرف من ذلك.
الشاهد أن هذا المنهج ينبغي على طالب العلم أن يتسلح به في الموقف من المخالف, وذلك أن يرد على المخالف بكلام من يعظمه, ومن يقدمه هذا المخالف, فهذا المنهج فيه من القوة الشيء الكثير, وذلك أنه ربما يخالفك هذا المخالف لما تقول مثلا -إذا كان حنفيا- وقلت له: هذا كلام الله, وهذا كلام رسوله, قال: أنت لا تفهم كلام الله, ولا تفهم رسوله, أنت فهمت هذه الآية, أو فهمت هذا الحديث على غير مراده, قلت له: قال الإمام أحمد, قال: نعم, أن تستدل مثلا -إذا صنفك أنك حنبلي, أو شافعي- قد تستدل بكلام الأئمة, لكن إذا قلت له: قال الإمام أبو حنيفة النعمان بالذات, إمامك, عن هذه الآية, أو عن هذه الصفة, لا شك أنه سيقف, إما أن يسلم, أو يحيد.
فهذا المنهج ينبغي أن يتنبه إليه طالب العلم, خاصة من ابتلي ببعض المخالفين في باب الاعتقاد, ويتمذهب بأحد هذه المذاهب.(1/307)
يقول -رحمه الله- في كتابه الذي صنفه في "أصول السنة", وهذا الكتاب قد طبع, وحقق برسالة علمية, قال فيه: باب الإيمان بالعرش. العرش الذي جاء ذكره في نصوص الكتاب والسنة, والذي هو في لغة العرب: سرير الملك, وهذا العرش جاءت بعض صفاته في نصوص الوحيين أنه أعظم المخلوقات, وأنه أعلى وأرفع المخلوقات, بل هو سقف المخلوقات على الإطلاق, فلا مخلوق فوقه, وأنه كما جاء في السنة أنه كالقبة على المخلوقات, وأن له قوائم, كما جاء في الحديث: فإذا أنا بموسى باطش بقائمة من قوائم العرش, وممسك بقائمة من قوائم العرش
وأن الله - عز وجل - تمدح به { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) } (1) { رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } (2) { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) } (3) وفي هذا رد على من أوله بالملك, فكيف يكون؟! هل موسى ممسك بقائمة من قوائم الملك؟!
بعض المعطلة أول العرش, قال: معناه: الملك, وهذا قول باطل, ترده الأدلة.
قول أهل السنة بأن الله خلق العرش, واختصه بالعلو
يقول: قال: ومن قول أهل السنة: إن الله - عز وجل - خلق العرش, واختصه بالعلو, والارتفاع فوق ما خلق, بمعنى أنه أعلى المخلوقات؛ ولهذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن سقف الفردوس عرش الرحمن, ثم استوى عليه كيف شاء, والاستواء في لغة العرب, وما ورد عن السلف هو: العلو, والارتفاع, والصعود, والاستقرار, فكلمات السلف تدور على هذه الأربع ألفاظ: علا, وارتفع, واستقر, وصعد, لكن يجب أن يعتقد المسلم أن هذا الاستواء استواء يليق بجلال الله, وعظمته, ليس كاستواء المخلوق على المخلوق, فإن الله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (4) .
__________
(1) - سورة التوبة آية : 129.
(2) - سورة المؤمنون آية : 116.
(3) - سورة البروج آية : 15.
(4) - سورة الشورى آية : 11.(1/308)
بل تثبت هذه الصفة على حد قول الإمام مالك -رحمه الله-: الاستواء معلوم, والكيف مجهول, والإيمان به -أي: بالاستواء- واجب, والسؤال -أي: السؤال عن الكيفية- بدعة, كما أخبر عن نفسه في قوله تعالى:
{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) وقوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ } (2) وجاء ذكر استواء الله على عرشه فى القرآن في سبعة مواضع.
القرب وأقسامه
فسبحان من بعد, وقرب بعلمه, سبحان من بعد, بمعنى: أنه بان من خلقه,لم يمتزج بالخلق, لم يختلط بالخلق كما يزعم الحلولية, من بعد بذاته سبحانه وتعالى, وقرب بعلمه فسمع النجم.
المؤلف هنا كأنه يميل إلى أن القرب ينقسم إلى قسمين, القرب الموصوف به الله - عز وجل - كأنه يذهب إلى قول من قال: إن القرب ينقسم إلى قسمين, كحال أيش ها؟ المعية, كحال المعية, المعية تنقسم إلى قسمين: معية عامة: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (3) بالعلم, الإحاطة, القدرة, الاطلاع, ومعية خاصة, خاصة بالمؤمنين { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (4) { لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا } (5) بالنصر.
هناك من العلماء من قال: إن القرب أيضا ينقسم إلى قسمين: قرب عام: أن الله قريب من الخلق عموما بعلمه وقدرته, وقرب خاص, لكن القول الراجح -والذي قرره شيخ الإسلام -رحمه الله-: أن القرب لم يرد في الكتاب ولا في السنة إلا قربا خاصا, ليس هناك ثمة قرب عام, قريب ممن دعاه بالإجابة: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة الحديد آية : 4.
(3) - سورة الحديد آية : 4.
(4) - سورة طه آية : 46.
(5) - سورة التوبة آية : 40.(1/309)
عَنِّي } (1) أيش؟ { فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (2) قريب ممن؟ ممن دعاني, ولهذا لما قال الصحابة -رضي الله عنهم-: أقريب ربنا فنناجيه, أم بعيد فنناديه؟ ها ماذا قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ إن الله أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته فهو قريب ممن دعاه, كذلك قريب ممن عبده وأطاعه بالإثابة, وذلك في قول الله - عز وجل - { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) } (3) .
شيخ الإسلام -رحمة الله عليه- يقول: القرب في الكتاب والسنة لم يرد إلا من هذا النوع؛ ولهذا يقول: أخطأ من أثبت قربا عاما من جميع الخلق, كما هي الحال في المعية العامة, ولعل سائل يسأل, ويورد ويقول: إذن قول الله - عز وجل - { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } (4) .
أجاب الشيخ عن هذا, وأوضحه, وجلاه تلميذه ابن القيم في "مختصر الصواعق" في الجزء الثاني, أن القرب هنا ليس قرب الله - عز وجل - إنما قرب الملائكة, وهذا سائر, فإن العظيم من الناس -ولله المثل الأعلى- أحيانا ينسب عمل الجند إلى نفسه, فيقول: نحن فتحنا, والذي فتح وباشر الفتح: الجند, والله - عز وجل - يقول في كتابه: { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) } (5) مَنْ الذي قرأ على النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ جبريل, ويقول في الملائكة, نعم, لا في القتل, في القتل في بدر, لا ليس هذا.
(1) - سورة البقرة آية : 186.
(2) - سورة البقرة آية : 186.
(3) - سورة هود آية : 61.
(4) - سورة ق آية : 16.
(5) - سورة القيامة آية : 18.(1/310)
الشاهد أن الله - عز وجل - نسب إلى نفسه { أَنِّي مَعَكُمْ } (1) الشاهد أن الله - عز وجل - ينسب فعل الملائكة إلى نفسه, وهذه عادة العظماء, فقول الله - عز وجل - { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } (2) هذا قرب الملائكة, يدل على ذلك تكملة الآية التي تليها: { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } (3) لو كان المقصود قرب الرب -سبحانه وتعالى- لم يقيد بهذا الوقت فقط, الظرف متعلق بالمعنى الذي في قول الله -سبحانه وتعالى-: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } (4) يقول: وقرب بعلمه, فسمع النجوى.
حديث: كان في عماء
وذكر حديث أبي رزين العقيلي, قلت: يا رسول الله, أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء, وما فوقه هواء, ثم خلق عرشه على الماء الحديث مداره على وكيع بن حَدْس, أو حَدَس, أو عَدْس, وهو ضعيف, لكن معناه صحيح, فقوله: في عماء فسر ابن أبي زمنين -رحمه الله- هذا العماء بأنه السحاب الكثيف المطبق, ونقل ذلك عن الخليل بن أحمد.
وقيل: هو: السحاب الرقيق, وقيل: العماء هو: السحاب الممطر, وقيل: السحاب الأسود, الشاهد أن العماء بالمد هو: السحاب, في عماء بمعنى: على العماء, على السحاب, وسيأتي الكلام -إن شاء الله- بعد
قليل في أن في بمعنى: على, وهذا تكلمنا عليها أيضا في العام الماضي, في عماء ما تحته هواء الضمير يعود على العماء, ما تحته أي: تحت العماء, تحت السحاب هواء, وما فوقه هواء, ثم خلق عرشه على الماء .
__________
(1) - سورة الأنفال آية : 12.
(2) - سورة ق آية : 16.
(3) - سورة ق آية : 17.
(4) - سورة ق آية : 16.(1/311)
وكما قال أبو عبيد -رحمه الله-: نحن نؤمن أن الله - عز وجل - قبل أن يخلق السماوات والأرض كان في عماء, على هذا السحاب, مثل ما قال الله سبحانه وتعالى: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } (1) والله أعلم مقدار, وحجم هذه الظلل, وكيفية هذه الظلل, كذلك هذا العماء, نحن نثبت كما جاء في النص, كيفيته مقداره, ما هو؟ الله أعلم.
الإمام الترمذي -رحمه الله- روى الحديث, لكنه رواه مقصورا: في عما وقال: معنى العما: العدم, أن الله كان في لا شيء, وهذا القول مرجوح لأن الحديث جاء بالمد في عماء نعم.
باب الإيمان بالكرسي
قال -رحمه الله- ثم قال: باب: الإيمان بالكرسي. قال محمد بن عبد الله: ومن قول أهل السنة: أن الكرسي بين يدي العرش، وأنه موضع القدمين. ثم ذكر حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة، وفيه: فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه، ثم يحف بالكرسي منابر من ذهب مكللة بالجواهر، ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها .
وذكر ما ذكره يحيى بن سلام صاحب التفسير المشهور: حدثني المعلى بن هلال, عن عمار الدهني, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إن الكرسي الذي وسع السماوات والأرض لموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه.
وذكر حديث أسد بن موسى, حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم, عن زر, عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة البقرة آية : 210.(1/312)
نعم, ثم ذكر بعد ذلك محمد بن أبي زمنين -رحمه الله- قال: باب: الإيمان بالكرسي, والكرسي كما جاء عن ابن عباس, وغيره: أنه الذي بين يدي العرش كالمرقاة, كالمرقاة بالعرش, كالدرجة للعرش, وأنه موضع القدمين, ثم استدل على ذلك بحديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة, وهذا رواه جمع من الأئمة, ممن رواه: ابن أبي شيبة -رحمه الله- في مصنفه, والشافعي في "الأم", وفي مسنده, وعبد الله بن الإمام أحمد ب "السنة", وأبو يعلى في مسنده, والطبري في تفسيره, والدارمي في "الرد على الجهمية", وغيرهم, وقد صححه جمع من الأئمة منهم: الإمام الذهبي, والهيثمي, وشيخ الإسلام, وتلميذه ابن القيم, والحافظ الضياء.
وعلى كل حال ففي هذا الحديث تصريح بأيش؟ بإثبات الكرسي, ثم ذكر ما ذكره يحيى بن سلام صاحب التفسير المشهور, وتفسيره لا يزال مفقودا, وله مختصر طبع قد اختصره ابن أبي زمنين -صاحبنا هذا- ساق أثرا عن عمار الدهني, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن الكرسي الذي وسع السماوات والأرض لموضع القدمين, ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه, وهذا الأثر سبق معنا في الجزء الأول, فقد رواه: ابن أبي شيبة, وابن أبي حاتم في تفسيره, وابن جرير أيضا في تفسيره, وعبد الله بن الإمام أحمد ب "السنة", وابن منده في "التوحيد", وعبد الرزاق في مصنفه, والحاكم في مستدركه, وصححه, ووافقه الذهبي.
وممن صححه أيضا: ابن أبي حاتم -رحمه الله- والهيثمي, وقد أيضا صححه من المعاصرين: الشيخ ناصر -رحمة الله عليه- في "مختصر العلو" للإمام الذهبي, ويروى أيضا هذا الأثر عن أبي موسى, وهو من المسائل التي لا يقال فيها بالرأي, فلها حكم أيش؟ الرفع.(1/313)
إذن أوضح ابن عباس - رضي الله عنه - أن الكرسي الذي بين يدي العرش قد وسع السماوات والأرض, وهو موضع القدمين, فإذا كان هذا الكرسي, فما الظن بالعرش؟ لِلَّهِ لهذا جاء في الأثر الآخر أن نسبة السماوات والأرض للكرسي كحلقة ملقاة في فلاة, فإذا كان هذا الكرسي فما الظن بالعرش؟ لِلَّهِ والله فوق العرش, وأعظم من العرش, بل هو الممسك بالعرش سبحانه وتعالى.
ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنه - ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه, يعني: لا يمكن للعقل أن يتصور قدر وحقيقة هذا العرش, نعم, نحن نثبته على ما ورد به النص, لكن كيفية هذا العرش, حقيقة هذا العرش, واقع هذا العرش -الله أعلم- لا يمكن للعقل أن يتصور ذلك, كما أن العقل لا يمكن أن يتصور حقيقة ما في الجنة, وحقيقة ما في النار: فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر .
وذكر حديث أسد بن موسى: حدثنا حماد بن سلمة, عن عاصم, عن زر, عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: ما بين السماء الدنيا والتي تليها, الشاهد من الحديث إثبات الكرسي, وأيضا يؤخذ من الحديث هذا: أن الله فوق المخلوقات, عال على المخلوقات؛ لأنه قال في آخر الحديث: والله فوق العرش, وهو يعلم ما أنتم عليه الحديث أخرجه: ابن خزيمة, والدارمي في "الرد على الجهمية", والبيهقي في "الأسماء والصفات", وغيرهم, وحكم عليه الهيثمي بأن رجاله رجال الصحيح, وأورده الحافظ ابن حجر في "الفتح", وسكت عنه , نعم.
الإيمان بالحجب
قال -رحمه الله- ثم قال: باب: الإيمان بالحجب، قال: ومن قول أهل السنة: أن الله بائن من خلقه, يحتجب عنهم بالحجب, فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) } (1) وذكر آثارا في الحجب.
__________
(1) - سورة الكهف آية : 5.(1/314)
ــــــــــــ
نعم, من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الله محتجب عن الخلق بحجب؛ ولهذا قال سبحانه: { * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } (1) وجاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم, عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس, وذكر منها: إن الله - عز وجل - لا ينام, ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار, وعمل النهار قبل عمل الليل, حجابه النور, -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .
والمؤلف أورد ذلك للرد على من ها؟ ولهذا قال: فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا, { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) } (2) يرد على الحلولية؛ الحلولية يزعمون أن الله مختلط مع البشر, تعالى الله عن ذلك, ممتزج بالبشر, ممتزج بالخلق, مختلط مع الخلق, فالمؤلف قال: من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الله - عز وجل - محتجب.
وقال الدارمي: لا يقدر أحد قدر هذه الحجب, ولهذا لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في "صحيح مسلم": هل رأيت ربك؟ ماذا قال؟ نور أنى أراه وفي رواية: حال بيني وبينه النور الذي هو: الحجاب الذي بين الله وبين الخلق, وذلك أن الخلق خلقهم الله - عز وجل - في الدنيا للفناء, خلقهم بأيش؟ ركبهم للفناء, ليس ثمة هناك من سيخلد, ستنتهي كل هذه المخلوقات, هذا الكون, ومن على هذا الكون, فهي لا يمكن أن تتحمل الباقي الدائم سبحانه وتعالى, ولهذا لما سأل موسى ربه أن ينظر إليه -لما سمع صوته مباشرة- طمع فيما هو أعلى من ذلك, وهو: الرؤيا.
__________
(1) - سورة الشورى آية : 51.
(2) - سورة الكهف آية : 5.(1/315)
تأكد أن هذا هو الله. هذا صوت الله - عز وجل - { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } (1) { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } (2) فطمع في رؤية الله - عز وجل - فقال: { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي } (3) في الدنيا, { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } (4) أعطاه دليلا حسيا مشاهدا, هذا الجبل أعظم منك خلقا, وأصلب منك خلقا, { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } (5) أيش؟ { جَعَلَهُ دَكًّا } (6) صار ترابا, ما استطاع هذا الجبل بقوته وصلابته أن يصمد لرؤية الله - عز وجل - مباشرة, فكيف بهذا المخلوق البسيط الضعيف؟ لِلَّهِ فإذا ركبت الأجسام يوم القيامة للبقاء, ركبت للخلود, احتملت رؤية الباقي الدائم سبحانه وتعالى, ولهذا من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الله محتجب بهذه الحجب, لا يمكن أن يختلط بالخلق, فهو بائن من الخلق, والخلق منه بائنون, نعم.
الإيمان بالنزول
ثم قال في باب: الإيمان بالنزول، قال: ومن قول أهل السنة: أن الله ينزل إلى السماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا، وذكر حديثا من طريق مالك, وغيره. إلى أن قال: وأخبرنا وهب, عن ابن وضاح, عن زهير بن عباد, قال: من أدركت من المشايخ: مالك, وسفيان الثوري, وفضيل بن عياض, وعيسى, وابن المبارك, ووكيع, كانوا يقولون: النزول حق.
قال ابن وضاح: سألت يوسف بن عدي, عن النزول؟ قال: نعم. أؤمن به, ولا أحد فيه حدا. وسألت عنه ابن معين؟ فقال: أُقِرُّ به, ولا أحد فيه حدا.
__________
(1) - سورة طه آية : 12.
(2) - سورة طه آية : 14.
(3) - سورة الأعراف آية : 143.
(4) - سورة الأعراف آية : 143.
(5) - سورة الأعراف آية : 143.
(6) - سورة الأعراف آية : 143.(1/316)
قال محمد: وهذا الحديث يبين أن الله - عز وجل - على عرشه في السماء دون الأرض، وهو أيضا بين في كتاب الله, وفيما غير حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } (1) وقال تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) } (2) وقال تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (3) وقال تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } (4) وقال تعالى: { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } (5) وقال تعالى: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } (6) .
وذكر من طريق مالك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للجارية: أين الله؟, قالت: في السماء. قال: من أنا؟, قالت: أنت رسول الله. قال: فأعتقها؛ فإنها مؤمنة .
وقال: والأحاديث مثل هذا كثيرة جدا، فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض، لا إله إلا هو العلي العظيم.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة السجدة آية : 5.
(2) - سورة الملك آية : 16-17.
(3) - سورة فاطر آية : 10.
(4) - سورة الأنعام آية : 18.
(5) - سورة آل عمران آية : 55.
(6) - سورة النساء آية : 158.(1/317)
نعم, ذكر بعد ذلك باب في النزول, أو في الإيمان بالنزول, والنزول: صفة من الصفات التي ثبتت بما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح السنة, فقد روى حديث النزول جمع من الصحابة, ولهذا ألف أهل العلم في هذا الحديث بعض المؤلفات المستقلة, كما صنع الإمام الدارقطني في كتابه "النزول", وساق في هذا الحديث روايات, حديث النزول الثابت في الصحيحين من حديث أبي هريرة, وغيره - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا, حيث يبقى ثلث الليل الآخر, فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ .
وصفة النزول كسائر الصفات, تثبت لله - عز وجل - لكن بلا كيف, نعم, النزول من أعلى إلى أسفل, هذا هو النزول المعهود في كلام العرب, والذي جاء القرآن بلغته, وجاءت السنة أيضا بلغته, فنحن نثبت لله - عز وجل - أنه ينزل كل ليلة, وجاء أيضا في حديث آخر عند البيهقي: ينزل عشية عرفة وفي رواية أخرى: "يدنو", فهذا النزول لائق به سبحانه وتعالى, وقد أنكر ذلك المعطلة, وزعموا أن الذي ينزل أمره, أو ينزل ملك من الملائكة, لكن آخر الحديث كاف في الرد عليهم في هذا التأويل الباطل, وذلك أن الله - عز وجل - يقول إذا نزل: من يدعوني فأستجيب له هل يمكن أن يقول ملك هذا الكلام؟ لِلَّهِ هل يمكن لملك أن يقول: من يستغفرني فأغفر له؟ لِلَّهِ
فنحن نثبت أن الله ينزل, لكن نزول يليق بجلاله, لا يلزم منه أن يكون كنزول المخلوق من المخلوق, يعني: المخلوق إذا نزل من شيء إلى شيء صار هذا الشيء الذي نزل منه أعلى منه, لكن نحن نعتقد أن الله هو: العلي(1/318)
الأعلى, وإذا نزل لا يكون شيء من مخلوقاته أعلى منه, لأنه نزول ليس كنزول المخلوق, نزول يليق بجلاله سبحانه وتعالى كسائر الصفات, كما أننا نثبت له العلم وليس كعلم المخلوق, ونثبت له السمع وليس كسمع المخلوق, نثبت له القدرة والإرادة وليس كقدرة وإرادة المخلوق, كذلك نثبت أنه ينزل كما أخبر عنه أعلم الناس به نبيه - صلى الله عليه وسلم - النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ينزل ربنا فيأتي هؤلاء يقولون: لا, الله لا ينزل, يعني: كأنهم يردون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا واقع حالهم ومقالهم.
بعضهم قال أصلا: لا أقبل بهذا الحديث, حديث آحاد, وأنا لا أقبل بها في باب العقائد, فهذا رد على رسول الله بقوله, والآخر أوله فرد على رسول الله بحاله, يقول: قال: ومن قول أهل السنة: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا, يؤمنون, ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا, بمعنى: من غير أن يكيفوه, أي: يبينوا كنه هذا النزول, الله أعلم, يثبتون أنه ينزل, ينزل كما جاء النص, وذكر الحديث من طريق مالك, وغيره.
الحديث الذي ذكر إلى أن قال: وأخبرنا وهب, يعني: وهب بن مسرة الأندلسي الحجازي, عن ابن وضاح, عن زهير بن عباد, قال: من أدركت من المشايخ, نعم, لاحظ هؤلاء الأئمة: مالك, الذي هو: مالك بن أنس, وسفيان الثوري, وفضيل بن عياض, وعيسى بن يونس, عيسى يعني: عيسى بن يونس المتوفى مائة وسبع وثمانين, وابن المبارك: عبد الله, ووكيع, يعني: ابن الجراح, كانوا يقولون أيش؟ النزول حق, بمعنى: أنهم يثبتون النزول, يثبتونه كما جاء, من غير أن يحدوا فيه حدا, يعني: لا يكيفون, لا يحددون كنه هذا النزول, أو كيفية هذا النزول.(1/319)
قال ابن وضاح: سألت يوسف بن عدي - يعني: ابن زريق, المتوفى سنة مائتين واثنين وثلاثين - عن النزول؟ قال: نعم, أؤمن به, ولا أحد فيه حدا, يعني: أقر بالنزول, أثبت النزول, وسألت عنه ابن نعيم؟ فقال: أقر به, ولا أحد فيه حدا, فكل هؤلاء الأئمة وغيرهم أثبتوا حقيقة النزول لله - عز وجل - .
يقول: قال محمد: وهذا الحديث يبين أن الله - عز وجل - على عرشه في السماء دون الأرض, يعني: يؤخذ من حديث النزول إثبات صفة النزول, هذا واحد.
ثانيا: إثبات صفة العلو؛ لأن النزول دائما من أعلى إلى أسفل, فكون الله - عز وجل - ينزل بمعنى: أنه عال على الخلق؛ ولهذا قال: وهذا الحديث يبين أن الله - عز وجل - على عرشه في السماء دون الأرض, لا كما يقول الحلولية: أن الله معنا في الأرض بذاته.
يقول: وهو أيضا بين في كتاب الله, وفي ما غير حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هو هذا الشيء البين؟ وهو الضمير يعود على ماذا؟ لا العلو, انتهى من الكلام على النزول, الآن انتقل للكلام على صفة العلو, هذه الصفة الثابتة لله - عز وجل - بالكتاب, والسنة, والإجماع, ودلالة العقل, ودلالة الفطرة, بل في كتاب الله - عز وجل - -كما قال بعض أصحاب الشافعي-: في القرآن أكثر من ثلاثمائة دليل يدل على إثبات صفة العلو لله.
فشيخ الإسلام نقل عن بعض الأئمة, أنه قال: هناك أكثر من ألف دليل, وابن القيم قال: لو شئنا لأتينا على هذه المسألة بألوف الأدلة على إثبات صفة العلو, هذه الصفة التي أنكرها أهل التعطيل, أنكرها: الجهمية, والمعتزلة, والأشاعرة, ومن حذا حذوهم, أنكروها, وأولوها, ثابتة: بصريح القرآن, وبصريح السنة, وبصريح العقل, وبصريح الفطرة,
يذكر الآن ابن أبي زمنين بعض الأدلة على إثبات صفة العلو من القرآن.(1/320)
ذكر من السنة حديث النزول, من القرآن قال: قال تعالى: { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } (1) هذا الأمر ينزل منه, ويعرج إليه, فالنزول دليل على أنه في العلو, والعروج إليه دليل على أنه في العلو, لاحظ { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ } (2) يدبر من؟ الله, الضمير يعود على الله سبحانه وتعالى, { ثم يعرج إليه} (3) ِ أي: إلى الله, وقال تعالى: {ءامنتم من في السماء } (4) هذه الآية صريحة أن الله في السماء, وتكلمنا على هذا في القسم الأول, ولا بأس أن نعيده باختصار.
__________
(1) - سورة السجدة آية : 5.
(2) - سورة السجدة آية : 5.
(3) - سورة السجدة آية : 5.
(4) - سورة الملك آية : 16-17.(1/321)
قد يقول قائل -وهذا ما أورده المعطلة-: إنكم إن أخذتم بظاهر هذه الآية, أن الله في السماء, بمعنى: أن السماء تحيط به, وبناء عليه فلا يكون الله له العلو المطلق؛ فوقه السماوات, أنت تقول: الله في السماء, بمعنى: في جوف السماء, رد عليهم شيخ الإسلام, قال: هذا قول باطل, ولا يمكن ليتبادر إلى ذهن وعقل إنسان عربي, يعرف ما يقول, ويقول ما يعرف؛ وذلك أن الله - عز وجل - لما قال: {أأمنتم من في السماء} (1) فأنتم بين أحد أمرين: القرآن يفسر بلغة من؟ بلغة الجهم بن صفوان ها, أو بلغة ابن سينا, أو بلغة الرازي, أو بلغة بشر المريسي الأعجمي؟ ! يفسر بما نزل به, نزل بأي لغة؟ باللغة العربية, يقال: { أأمنتم من في السماء} (2) أنتم بين أحد الأمرين: إما أن نفسر السماء بأن المقصود بها: العلو, فكل ما علاك يسمى عند العرب: سماء, ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: { وينزل من السماء} (3) من العلو, وبناء عليه تكون الآية { أأمنتم} (4) ها؟ من في العلو؛ لأنا فسرنا السماء بالعلو, وهذا سائر عند العرب.
فإن قال لنا هذا المعطل: لا, أنا أريد أن تحمل السماء على هذه السماء المبنية المعهودة, قلنا: ويمكن حمل ذلك على هذه السماء المبنية, لكن نأتي إلى في, ف في تأتي في لغة العرب بمعنى: على, فحروف الجر ينوب بعضها عن بعض في المعنى, فيكون معنى الآية: أأمنتم من على السماء, فإن قال لنا: ما دليلكم أن معنى في تأتي بمعنى:
__________
(1) - سورة الملك آية : 16.
(2) - سورة الملك آية : 16.
(3) - سورة النور آية : 43.
(4) - سورة الملك آية : 16.(1/322)
على؟ قلنا له: قول الله - عز وجل - { ِولأصلبنكم في جذوع النخل}1.هل سيصلبهم في جوف جذوع النخل, أو على جذوع النخل؟ على جذوع النخل, وقول الله - عز وجل - { فسيروا في الارض} أيش معناه؟ خاطب أي عربي, قل: ما معنى قول الله - عز وجل - { فسيروا في الارض}ي جوف الأرض؟ من على الأرض, إذن على أي شكل حملت هذه الآية لا تأتي إلا بمعنى: أن الله عال إلى السماء, ولا يتبادر إلى الذهن هذا المعنى الباطل الذي تبادر إلى ذهن هذا المعطل.
ثم قال: وقال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب} (5) لمن؟ إلى الله, صريح, الصعود من أسفل إلى أعلى, ثم قال: وقال تعالى: { وهو القاهر فوق عباده } (6) الفوقية هنا: فوقية الذات, وفوقية العلم, وفوقية القهر, وفوقية القدر, جميع أنواع الفوقية نثبتها لله - عز وجل - في هذه الآية, { وهو القاهر فوق عباده } (7) فوقية الذات, العلو المطلق لله, وفوقية القدر, وفوقية القهر, المعطلة فقط قصروها على أيش؟ القدر, والقهر, قالوا: نعم, الله فوق, لكن فوق بمعنى: بقدره, بقهره, قلنا: وبذاته, بالأدلة الصريحة, وما فيه ما يمنع من ذلك, لا عقل, ولا نقل, فلماذا لا نحمل هذه النصوص على ظاهرها؟ وهذا هو اللائق بالله سبحانه وتعالى, أن الله عال على الخلق.
__________
(1) - سورة طه آية : 71.
(2) - سورة آل عمران آية : 137.
(3) - سورة آل عمران آية : 137.
(4) - سورة فاطر آية : 10.
(5) - سورة فاطر آية : 10.
(6) - سورة الأنعام آية : 18.
(7) - سورة الأنعام آية : 18.(1/323)
ثم قال: وقال تعالى: { ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي } (2) الله - عز وجل - ما قال رافعك إلى الجنة, أو إلى الملائكة, أو إلى الفردوس, { ورافعك إلي } (3) فهذا أيضا صريح في إثبات صفة العلو لله - عز وجل - وقال تعالى: { بل رفعه الله إليه } (4) ثم قال: وذكر من طريق مالك, قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للجارية: أين الله ؟ قالت: في السماء, قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله, قال: فأعتقها, فإنها مؤمنة الحديث ثابت في "صحيح مسلم", ولهذا شرق به المعطلة.
الحديث صريح, النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل هذه الجارية الأعجمية, أين الله ؟ مباشرة, في السماء, وهذا دليل على أن كون الله - عز وجل - في السماء أمر مركوز في مين؟ في الفطر, في الفطرة, لا يمكن للإنسان أن يتمرد على فطرته, ولهذا وقفوا من هذا الحديث مواقف شتى؛ لأنهم عندهم لا يجوز أن تسأل عن الله أين؛ لأنك لو سألت عن الله أين؟ بأين؟ فقد حددت له مكانا, وهم ليس لله عندهم مكان, فلا يسأل عن الله بأين عندهم !! النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل بأين؟ وهم يقولون: لا يمكن السؤال عن الله بأين!
طيب هذا الحديث منهم من رده, وهذا ديدنهم دائما: رد الحديث, قال: الحديث آحاد, ولا نقبله, منهم من قال: الحديث من المتشابه, والمتشابه يوكل علمه إلى الله, ومنهم من فوضه جملة وتفصيلا, ومنهم من أوله تأويلات باطلة, فقيل: فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل هذه الجارية عن مكانة الله, وقدر الله في نفسها, فقالت: في السماء, يعني: مكانته وقدره في السماء, هذا تأويل بعيد, منهم من قال: لا, إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألها أين الله ؟ يعني: أين يتجه
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 55.
(2) - سورة آل عمران آية : 55.
(3) - سورة آل عمران آية : 55.
(4) - سورة النساء آية : 158.(1/324)
الإنسان إلى الله في دعائه؟ قالت: إلى السماء, إلى غير ذلك من التأويلات البعيدة كل البعد, التي لا دليل عليها: لا من النقل, ولا من العقل, ولا من لغة العرب.
ثم قال: قال: والأحاديث مثل هذه كثيرة جدا, نعم, متواترة, بل ألف العلماء في مسألة العلو مؤلفات مستقلة, ألف الإمام الذهبي كتابه "العلو", أو ألف ابن قدامة كتابه "العلو", ألف ابن القيم كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية", وساقوا في هذه الكتب بعض - وليس كل - الأدلة الدالة على إثبات علو الله - عز وجل - على خلقه, يقول: فسبحان من علمه بمن في السماء كعلمه بمن في الأرض, بمعنى: أن علم الله - عز وجل - شامل لكل شيء, لكنه بذاته عال على الخلق, لا إله إلا هو العلي العظيم, ونقف على هذا؛ لأن المؤلف سيدخل في باب الصفات, ونستأنف ذلك -إن شاء الله- غدا, وبالله التوفيق, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/325)
الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, قال المصنف -رحمه الله تعالى- وقال قبل ذلك: باب في الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه، قال: واعلم بأن أهل العلم بالله, وبما جاءت به أنبياؤه ورسله، يرون الجهل بما لم يخبر به تعالى عن نفسه علما، والعجز عن ما لم يدع إليه إيمانا، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - .(1/326)
وقد قال الله تعالى - وهو أصدق القائلين -: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } (1) وقال تعالى: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } (2) وقال تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } (3) وقال: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } (4) وقال: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } (5) وقال: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) } (6) وقال تعالى: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (7) وقال تعالى: { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (8) وقال: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (9) وقال تعالى: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } (10) وقال تعالى: { * اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (11) وقال تعالى: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (12) وقال تعالى: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } (13) ومثل هذا في القرآن كثير.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة القصص آية : 88.
(2) - سورة الأنعام آية : 19.
(3) - سورة آل عمران آية : 28.
(4) - سورة الحجر آية : 29.
(5) - سورة الطور آية : 48.
(6) - سورة طه آية : 39.
(7) - سورة المائدة آية : 64.
(8) - سورة الزمر آية : 67.
(9) - سورة طه آية : 46.
(10) - سورة النساء آية : 164.
(11) - سورة النور آية : 35.
(12) - سورة البقرة آية : 255.
(13) - سورة الحديد آية : 3.(1/327)
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد, عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم, لا زال المؤلف -رحمه الله- ينقل كلام ابن أبي زمنين -رحمة الله عليه- يقول: وقال قبل ذلك - أي: قبل الأبواب التي ذكرها سابقا -: باب: في الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه.
قال: واعلم بأن أهل العلم بالله, وبما جاءت به أنبيائه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به تعالى عن نفسه علما, والعجز عن ما لم يدع إليه إيمانا, فقوله: أهل العلم بالله, وبما جاءت به أنبيائه ورسله, يرون الجهل بما لم يخبر به تعالى عن نفسه علما, هذا كما قال الإمام أبو يوسف -رحمه الله-: الجهل بالكلام هو: العلم, والعلم به هو: الجهل, وأراد بالجهل بالعلم, أراد بالجهل بعلم الكلام: الإعراض عن هذا العلم, أو اعتقاد أنه لا ينفع, فالإعراض, والاعتقاد بأنه لا ينفع هو في حد ذاته علم.
ومعلوم أن العلم ينقسم إلى قسمين: شيء معلوم يتعلمه الإنسان, ويقول به, وشيء مجهول يقف الإنسان عنده, ويقول: لا أدري, والله أعلم, إذن الجهل والإعراض عن الشيء الذي لم يخبر الله - عز وجل - به ككيفية الصفات هذا في حد علمه, أو هذا في حد ذاته: علم, كذلك الدخول في هذه المسائل الشائكة التي شغب بها المتكلمون
.................................................................................. ـــــــــــــــ
على الناس, وأحدثوها, وابتدعوها: مسألة الجسم, ومسألة العرض, ومسألة الحيز, ومسألة حلول الحوادث, وهل إثبات هذه الصفة يلزم منها هذا, أو لا يلزم؟ كل هذه مسائل, ومحارات, أعرض عنها السلف -رحمهم الله- لأن هذا هو العلم, إذ لو كان علما ينفع الإنسان في الدنيا والآخرة لأرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولحرص عليه أصحابه -رضي الله عنهم-.(1/328)
ثم قال: والعجز عن ما لم يدع إليه إيمانا, نعم, كون الإنسان يقف عند النصوص, ويسلم لها, فهذا دليل على إيمان هذا الشخص, فإذا أخبر الله - عز وجل - عن نفسه بهذه الصفات, وآمن بها الإنسان, ولم يحاول أن يبحث عن الكيفية, وعن حقيقة, وكنه هذه الصفات, فهذا هو: حقيقة الإيمان, كذلك ما أخبر الله به - عز وجل - عما يجري في يوم القيامة, لا يأتي ويقول إنسان: هذا لا يمكن عقلا أن يكون, أو هذا يستحيل عقلا أن يحدث, أو هذا لا يمكن للعقل أن يتصوره, بل يؤمن, ويسلم, ويسلم لعجز العقل في هذه المسائل؛ لأن العقل ليس له مطلق العلم, بمعنى: أنه يعلم كل شيء.
العقل عضو كسائر أعضاء ابن آدم, له حد وطاقة, خلقه الله - عز وجل - ليكون سببا لهداية الشخص, سببا لمعرفة ما هو في حدوده, فإذا استخدمه الإنسان فوق هذا الأمر, وحاول أن يقحمه في أمور لا مجال للعقل فيها, عاد عليه هذا العقل بالضرر والضلال, ثم قال: وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه, وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - نعم, وهذه هي القاعدة العامة, والأصل الأصيل في باب الأسماء والصفات, أن الأسماء والصفات أيش؟ توقيفية, ما معنى: توقيفية؟ متوقفة على ورود النص.
وهذا أعظم ما ميز منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب, أنهم يدورون مع النص حيث دار, ويقفون مع النص حيث وقف, أثبت الله لنفسه في كتابه, وعلى لسان رسوله أنه استوى على العرش, يثبتون, كيفية هذا الاستواء لم يرد في الكتاب, ولا في السنة, فأمسكوا, هل علم الله - عز وجل - عرب, أو ليس بعرب؟ لم يرد في الكتاب, ولا في السنة إثبات ذلك, ولا نفيه, فتوقفوا, وهذا معنى التوقيف, بمعنى: أن الإنسان يسلم لنصوص الوحيين,
.................................................................................. ـــــــــــــــ(1/329)
وإذا التزم المؤمن هذا المنهج سلم - بإذن الله - في دينه, سلم في معتقده, ولهذا تميز أهل السنة والجماعة بقلة الاختلاف والتفرق.
والسبب في ذلك: أن المصدر الذي يردون عليه واحد, ولهذا منذ زمن الصحابة إلى يومنا هذا, بل - إن شاء الله - إلى قيام الساعة قولهم قولا واحدا في باب الاعتقاد, لا تجد عندهم اختلاف, لا تجد عندهم تفرق, نعم, هناك مسائل وقع فيها شيء من الاختلاف, لكن لا يلزم من هذا الاختلاف التبديع, أو التفرق, مسائل بسيطة, مسائل محدودة, لكنهم في الجملة اتفقوا في مسائل الاعتقاد, بخلاف أهل البدع, أهل البدع لما تعددت مصادرهم اختلفوا, وتفرقوا في وقت مبكر, فالمعتزلة منذ أن نشأت افترقت على نفسها, تفرقوا إلى فرق وأحزاب, كل فرقة تكفر الفرقة الأخرى, كذلك الخوارج, كذلك الرافضة, كذلك المرجئة, كذلك الجهمية, حتى الأشاعرة تفرقوا فيما بينهم, والسبب؟ أبرز سبب لذلك: أنهم لم يلتزموا مصدرا واحدا, كما هي الحال عند أهل السنة.
ثم انتقل -رحمه الله- وقال: وقد قال الله تعالى - وهو أصدق القائلين -, يريد أن يورد بعض الأمثلة على بعض الصفات التي جاء النص عليها في كتاب الله - عز وجل - فقال: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } (1) هذه الآية دليل على إثبات صفة الوجه لله - عز وجل - فأهل السنة يثبتون لله وجها حقيقيا, لكن كيفية هذا الوجه؟ الله أعلم, لا يماثل, ولا يشابه وجه المخلوق, وجه يليق بجلاله, وعظمته, وجاء أيضا إثبات الوجه في السنة في أحاديث متعددة, ثم قال: وقال تعالى: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } (2) .
أورد المؤلف هذه الآية لأحد احتمالين: إما للاستدلال على أن الله - عز وجل - يخبر عنه بأنه شيء؛ خلافا لمذهب الجهمية.
__________
(1) - سورة القصص آية : 88.
(2) - سورة الأنعام آية : 19.(1/330)
الجهمية النفاة نفوا أن يكون الله شيئا, قالوا: لأنا إذا قلنا: إن الله شيء, والمخلوق شيء, شبهنا الخالق بالمخلوق, فربما أنه أورد هذه الآية للرد على هؤلاء, أن الله يخبر عنه بأنه شيء, وهذا ما صرح به الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه, واستدل بهذه الآية, وذكر ذلك أيضا الأئمة بعده وقبله, وإما أنه أورد هذه الآية للاستدلال على أن الله يسمى, أيش؟ الشهيد, ويوصف بذلك, ومعنى الشهيد: المطلع على كل شيء, الذي لا يغيب عنه شيء, وقد جاء أيضا في آية أخرى: { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) } (1) .
ثم قال: وقال: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } (2) يفهم من إيراد ابن أبي زمنين لهذه الآية أنه يثبت النفس لله - عز وجل - كصفة من الصفات, وهذا قول طائفة من أهل العلم, وممن ذهب إلى هذا الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت, صاحب المذهب -رحمة الله عليه- وكذلك الإمام ابن خزيمة, صاحب الصحيح, وصاحب كتاب "التوحيد", وممن ذهب أيضا إلى إثبات النفس كصفة لله - عز وجل - أبو عبد الله بن الخطيب, من الأئمة المتقدمين, ومن المعظمين عند الصوفية, وكذلك ابن قدامة الموفق, صاحب "المغني".
وذهب بعض العلماء إلى أن النفس الواردة في النصوص المنسوبة لله - عز وجل - أو المضافة لله - عز وجل - كما جاء في هذه الآية: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } (3) وكقوله تعالى: { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } (4)
__________
(1) - سورة النساء آية : 79.
(2) - سورة آل عمران آية : 28.
(3) - سورة آل عمران آية : 28.
(4) - سورة المائدة آية : 116.(1/331)
وقوله سبحانه: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } (1) وقوله جل وعز: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) } (2) وما جاء في الحديث الصحيح: إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي .
ذهب بعض العلماء إلى أن النفس هنا المقصود والمراد بها: الذات, وهذا ما ذهب إليه الإمام الدارمي, وهو الذي رجحه شيخ الإسلام -رحمة الله عليه- ثم قال: وقال: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } (3) لعله أورد هذه الآية لإثبات صفة الخلق, التي هي: صفة فعل لله -عز وجل-؛ بأن معنى { سَوَّيْتُهُ } (4) بأن معنى قوله: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } (5) أي: فإذا خلقته, { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } (6) الروح هي: الروح المخلوقة المعروفة, ونسبها الله - عز وجل - لنفسه في هذه الآية تشريفا وتكريما لها على سائر الأرواح, كما نسب إلى نفسه, ها؟ { نَاقَةُ اللَّهِ } (7) وبيت الله, قال العلماء: إن الله - عز وجل - إذا نسب لنفسه بعض الأعيان المخلوقة فالمقصود بذلك, أيش؟
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 54.
(2) - سورة طه آية : 41.
(3) - سورة الحجر آية : 29.
(4) - سورة الحجر آية : 29.
(5) - سورة الحجر آية : 29.
(6) - سورة الحجر آية : 29.
(7) - سورة الأعراف آية : 73.(1/332)
التشريف, والتكريم, والتمييز, فقوله: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } (1) نسب الروح له سبحانه وتعالى تشريفا لهذه الروح, وإلا فهي من سائر الأرواح التي خلقها الله - عز وجل - وقد استدل في هذه الآية من قال: إن الروح قديمة, وهذا قول فاسد شرعا وعقلا, ولهذا رد عليه الإمام ابن القيم ردا وافيا في كتابه "الروح", و هذا هو مذهب النصارى, النصارى يقولون: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } (2) أي: من روح الله - عز وجل - الذي هو جزء من الإله حل في عيسى, ثم قال: وقال: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } (3) هذه الآية تدل على إثبات الرؤية والعين لله - عز وجل - وعقيدة أهل السنة والجماعة: أن لله عينين, العين جاءت في القرآن مفردة ومجموعة, ففي هذه الآية { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } (4) جاءت بصيغة الجمع, وفي الآية التي تليها { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) } (5) جاءت بصيغة المفرد, لكن جاء في صحيح السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المسيح الدجال في وصفه: وإنه أعور, وإن ربكم ليس بأعور فهذا دليل صريح على أن لله عينين.
ثم قال: وقال: { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (6) هذا فيه دليل على إثبات صفة اليدين لله - عز وجل - وجاء التصريح أيضا في آية أخرى { مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (7) هذا لا يقبل التأويل الذي سلكه أهل التعطيل, فالآية صريحة في إثبات اليدين الحقيقيتين لله - عز وجل - .
__________
(1) - سورة الحجر آية : 29.
(2) - سورة الحجر آية : 29.
(3) - سورة الطور آية : 48.
(4) - سورة الطور آية : 48.
(5) - سورة طه آية : 39.
(6) - سورة المائدة آية : 64.
(7) - سورة ص آية : 75.(1/333)
ثم قال: وقال تعالى: { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (1) لعل المؤلف استدل بهذه الآية إما على إثبات صفة القبض لله, فالله - عز وجل - هو: القابض, الباسط, وهي: صفة فعلية, ولهذا جاء في الآية الأخرى: { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } (2) وجاء في الحديث الذي في الصحيحين: " يقبض الله الأرض يوم القيامة " وإما أنه أورد الآية لإثبات اليد لله - عز وجل - أو اليدين لله -عز وجل-؛ لأن هذه الآية جاءت مفسرة في السنة, فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا يكون يوم القيامة عندما يقبض الله السماوات بيمينه, ويقبض الأرض باليد الأخرى, ويهزهن, ويقول: " أنا الله" أو يكون المؤلف أورد الآية للاستدلال بهاتين, أو على هاتين الصفتين.
ثم قال: وقال تعالى: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (3) هذه الآية تضمنت إثبات ثلاث أنواع من الصفات, الصفة الأولى: المعية, والمعية - كما قلنا بالأمس -: إنها تنقسم إلى قسمين, من أي أنواع المعية هذه الآية؟ الخاصة, التي هي معية: النصر, والتأييد, وأيضا تضمنت الآية إثبات صفة السمع, وأيضا الرؤية لله - عز وجل - وقال تعالى: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) } (4) إثبات صفة الكلام لله - عز وجل - بهذا رد على الجهمية والمعتزلة الذين يمحون عن الله صفة الكلام, وقال تعالى: { * اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (5) استدل بهذه الآية على
__________
(1) - سورة الزمر آية : 67.
(2) - سورة البقرة آية : 245.
(3) - سورة طه آية : 46.
(4) - سورة النساء آية : 164.
(5) - سورة النور آية : 35.(1/334)
أن من أسماء الله - عز وجل - النور, وأنه موصوف سبحانه بالنور, ولهذا ثبت في الصحيحين أن من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات " ثم قال: وقال تعالى: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (1) إثبات صفة الحياة, والقيومية لله - عز وجل - إضافة لإثبات اسمي: الحي, القيوم, وكذا ختمت فقال تعالى: { هُوَ الْأَوَّلُ } (2) إثبات صفة: الأولية لله, والآخرية, والظاهر, والباطن, ومثل هذا في القرآن كثير, بمعنى: أن ما أورده المؤلف فقط للتمثيل, لا للحصر, نعم.
إثبات الصفات بلا تكييف ولا تحديد ولا تشبيه
وقال -رحمه الله-: فهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض، كما أخبر عن نفسه، وله وجه, ونفس, وغير ذلك مما وصف به نفسه، ويسمع, ويرى, ويتكلم، الأول ولا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية, ولا شيء بعده، الظاهر العالي فوق كل شيء, والباطن بَطَنَ علمُه بخلقه, فقال: { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) } (3) حي قيوم, { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } (4) .
قلنا: هذه الأسطر تقرير للنصوص التي سبق أن أوردها, نعم.
ذكر أحاديث الصفات, ثم قال: فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - وليس في شيء منها: تحديد, ولا تشبيه, ولا تقدير، قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (5) لم تره العيون فتحدَّه كيف هو، ولكن رأته القلوب في حقائق الإيمان، وكلام الأئمة.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة البقرة آية : 255.
(2) - سورة الحديد آية : 3.
(3) - سورة البقرة آية : 29.
(4) - سورة البقرة آية : 255.
(5) - سورة الشورى آية : 11.(1/335)
يقول: هذه النصوص تضمنت إثبات ما وصف الله به نفسه, ووصفه بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - وليس في شيء من هذه النصوص تحديد, أي: تكييف, أو تشبيه, تشبيه لله - عز وجل - بخلقه, ولا تقدير, بمعنى: تحديد كنه هذه الصفة { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (1) وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.
في مثل هذه الصفات؛ أنهم يثبتون على وفق ما جاء به النص.. من غير تكيف, ولا تمثيل, ولا تشبيه. على حد قول الله - عز وجل - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (2) لم تره العيون فتحده كيف هو؟ بمعنى: أن الله - عز وجل - لم تره العيون في الدنيا فتعرف كيفية هذه الصفات.
ولعلنا ذكرنا في العام السابق -إن كنتم تذكرون- أن كيفية الصفة, أو كيفية الشيء, يدرك عقلا بأحد طرق ثلاثة:
إما برؤية هذا الشيء. يعني: كيف تعرف كيفية -مثلا- هذا الكأس عقلا؟ إما أن تراه, أو ترى شبيهه ومثيله إذا لم يتيسر رؤيته, ترى شيء فيقال لك: إن الكأس الذي تسمع عنه هو شبيه ومثيل لهذا الشيء. ففي هذه الحالة يمكن للعقل أن يتصور كيفية هذا الكأس ولا ما يمكن؟ يمكن.
الطريق الثالث: الخبر الصادق. أن يأتي صادق فيخبرك -تحديدا- بكيفية هذا الكأس.
إذا لم تتأت هذه الطرق الثلاثة.. لا يمكن معرفة كيفية هذا الشيء.
فالمؤلف يقول: هذه الصفات.. لا يمكن لمخلوق أن يدرك كيفيتها, لماذا؟ لأن العيون لم ترى الله - عز وجل - والله لم يخبر عن كيفية صفاته, وليس له مثيل ولا شبيه. إذن.. فلا يمكن عقلا ولا شرعا إدراك كيفية هذه الصفات.
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.
(2) - سورة الشورى آية : 11.(1/336)
ثم قال: ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. هذا ما يسمى بالرؤية الإيمانية, والرؤية القلبية. وقد ذكر شيخ الإسلام أنها -أحيانا- الرؤية القلبية أشد من الرؤية البصرية. وتتأتى هذه الرؤية القلبية.. إذا قوي إيمان الشخص؛ ولهذا.. كل ما ازداد الإنسان علما بأسماء الله وصفاته كلما أزاد إيمانا, وهذا مما حرم منه هؤلاء المعطلة, هؤلاء المعطلة لن يوفقوا إلى هذا الطريق الذي هو من أعظم الطرق للإيمان بالله - عز وجل - ولخشيته؛ لأن الإنسان كلما ازداد بالله معرفة كلما ازداد خشية له سبحانه؛ ولهذا يروى أن عروة بن الزبير خطب من ابن عمر
-رضي الله عنهما- ابنته وهو يطوف, فقال: أتكلمني في ابنتي, أو في أمر من أمور الدنيا, ونحن نتراء الله؟! ما معنا نتراء الله؟
هذه هي الرؤية القلبية, الحقائق التي تقوم بالقلب, فيزداد الإنسان علما ومعرفة بالله -عز وجل-؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإيمان الطويل, أو في حديث جبريل الطويل, ماذا قال عن الإحسان: أن تعبد الله -أيش؟- كأنك تراه ؛ ولهذا أعظم الناس خشية لله - عز وجل - وتقى لله - عز وجل - من؟ الأنبياء, لماذا؟ لأنهم أعلم الناس بالله؛ ولهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال النفر الثلاثة الذين جاءوا إلى بيته, وسئلوا عائشة عن عبادته -كما في صحيح البخاري-, الحديث طويل, فلما قام خطيبا في الناس لأن هؤلاء الثلاثة قالوا: هذا رسول الله, أو ذاك رسول الله, غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبا في الناس, وقال: أما والله إني لأعلمكم بالله, وأخشاكم لله, وأتقاكم لله هذا العلم يولد الخشية, يولد التقى, يولد الإيمان. نعم
مذهب السلف في الصفات
كلام الخطابي في الصفات
إثبات الصفات وإجراؤها على ظواهرها
قال -رحمه الله-:(1/337)
وكلام الأئمة في هذا الباب أطول وأكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره، وكذلك كلام الناقلين لمذهبهم, مثل ما ذكره أبو سليمان الخطَّابي في رسالته المشهورة في "الغنية عن الكلام وأهله", قال:
فأما ما سألت عنه من الصفات, وما جاء منها في الكتاب والسنة, فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف؛ وإنما القصد في السلوك: الطريقة المستقيمة بين الأمرين، دين الله تعالى بين الغالي فيه, والمقصر عنه.
ــــــــــــ
نعم. يقول: وكلام الأئمة في هذا الباب -أي- باب الأسماء والصفات, وباب ما يجب لله - عز وجل - ما يجوز عليه, وما يمتنع, أطول وأكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره, وكذلك كلام الناقلين لمذهبهم -يعني- ليس هذا مجال ذكر كلام هؤلاء الأئمة, وذكر كلام من نقل مذهبهم؛ لأن الكتاب عبارة عن أيش؟ فتوى, والفتوى -دائما- تقوم على الاختصار؛ ولهذا -رحمه الله- أورد شيئا من كلام هؤلاء الأئمة في كتبه المطولة الأخرى, كمثلاً: "نقض التأسيس", "درء تعارض العقل والنقل", أطال النفس, وأورد عشرات النقول عن هؤلاء الأئمة, وعمن نقل كلامهم.
ومع ذلك يقول: لا يمكن حصرهم, ومن رجع لبعض المطولات التي اعتنت بنقل كلام السلف في هذا الباب؛ وقف على كثرة هذه الآثار, كمثلا: "السنة" للإمام اللالكائي, قد ساق مئات الآثار في أبواب الاعتقاد, كذلك "الإبانة الكبرى" للإمام ابن بطة -رحمه الله-, وهو أوسع من "السنة" لللالكائي, وككتاب "السنة" للخلال, وككتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد؛ وإن كان أقل منهما.(1/338)
ثم قال: مثل ما ذكره أبو سليمان الخطابي, ابن محمد المتوفى سنة ثلاثمائة وثمان وثمانون, صاحب "غريب الحديث", و"معالم السنن" الذي شرح فيه سنن أبي داود, وكذلك له شرح على صحيح البخاري.
الخطابي -رحمه الله- في الجملة أثبت كثير من الصفات؛ لكنه أول بعض الصفات, ومن رجع لكتابه "شرح صحيح البخاري" لاحظ هذه التأويلات, كتأويل -مثلا- صفة الضحك, وصفة النزول, وصفة الفرح, ونحو ذلك.
يقول في رسالته المشهورة في "الغنية عن الكلام وأهلها". هذه الرسالة لا زالت مفقودة.
يقول: فأما ما سألت عنه من الصفات, وما جاء منها في الكتاب والسنة؛ فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها. بمعنى: إثبات هذه الصفات وإجراؤها على ظاهرها من غير تعرض أيش؟ لتحريفها, أو تأويلها, أو صرفها عن هذا المعنى الظاهر.
فإذا قرؤوا قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) أجروا هذه الآية على ظاهرها, استوى: علا, ارتفع, صعد. أجروا الآية على ظاهرها.
كذلك قول الله - عز وجل - { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) أجروا هذا النص على ظاهره, فإن مذهب السلف: إثباتها وإجراؤها على ظواهرها. يثبتون الاستواء, يثبتون اليدين, يثبتون الغضب, يثبتون الرحمة. نعم. ونفي الكيفية والتشبيه عنه. وهذا يدل -هذه العبارة: ونفي الكيفية والتشبيه عنه- هذا يدل على أن مذهب السلف ليس هو التفويض كما ظنه بعض الناس, زعموا أن مذهب السلف هو التفويض, قالوا:
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.
(2) - سورة ص آية : 75.(1/339)
قولهم: إجراء النص على ظاهره, هذا يدل على أنهم يفوضون معنى النص؛ لكن لو كان هذا الكلام صحيحا لما قالوا, أو قيدوا ذلك ما نفي التكيف والتشبيه؛ لأن الذي يفوض النص لا يحتاج إلى أنه يقيد: مع نفي التكيف والتشبيه, خلاص أنت لا تفهم من النص شيء , كيف تقول: من غير تكيف ولا تشبيه؟
التفويض معناه: أن يقول: نفوض هذا النص, نترك هذا النص لله, لا نعلم منه شيء, لا ندري ما الله أراد بهذا النص, الله - عز وجل - يقول: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) ما ندري معنى الاستواء, طيب من كان يذهب إلى هذا القول, هل يقول: مع نفي الكيفية والتشبيه؟ لا؛ ولهذا أخطأ من زعم أن مذهب السلف هو التفويض؛ بل إن التفويض -ذكره بعض العلماء- شر من التأويل, سماه شيخ الإسلام: مذهب أهل التجهيل.
فقول المؤلف: والنفي الكيفية والتشبيه: هذا يدل على أن السلف لم يفوضوا هذه النصوص.
ثم قال: وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله. نفاها قوم -أي- نفوا هذه الصفات, نفوا دلالة هذه الصفات, فأبطلوا ما أثبته الله - عز وجل - الله - عز وجل - يقول: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (2) هم يقولون: لم يستوي الله -عز وجل-؛ بل استولى على العرش.
فحقيقة هؤلاء, أو حقيقة قول هؤلاء أنهم أبطلوا ما أثبته الله, الله - عز وجل - أثبت لنفسه يدين, وهؤلاء نفوا اليدين عن الله - عز وجل - قالو: المقصود باليد هنا: القدرة.
وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله. وهؤلاء المعطلة. وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف. وحققها, بمعنى: غلا في إثباتها. وهؤلاء هم المشبهة.
لاحظ.. أهل التعطيل, وأهل التشبيه على طرفي نقيض.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.
(2) - سورة الأعراف آية : 54.(1/340)
هؤلاء نفوها؛ حتى أفضى بهم هذا الأمر إلى إبطال ما أثبته الله, هم -لا شك- لا يصرحون بالنفي؛ وإنما يلبثون هذا النفي باسم آخر؛ وهو التأوليل, أو التنزيه؛ لكن حقيقة الأمر.. هو إبطال دلالة هذا النص, صرف لهذا النص عن معناه الذي أراد الله وأراد رسوله إلى معنى آخر.
الطرف الآخر غلا في الإثبات, حققها, قال: لا. أنا أثبت لله الوجه, أثبت لله اليدين, أثبت لله القدم, أثبت لله الغضب؛ لكني لا افهم وجها, ولا يدين, ولا غضب؛ إلا من جنس غضب المخلوق, ووجه المخلوق, ويد المخلوق. إذن.. فيد الله كيد المخلوق -تعالى الله عن ذلك علو كبيرا-, وهذا مذهب من؟ المشبهة, ويكثر مذهب التشبيه عند الرافضة.
ومن أوائل من قال بمذهب التشبيه: هشام بن الحكم الرافضي, وهشام بن سالم الجواليقي, وداود الجواربي.
وممن -أيضا- يكثر عندهم مذهب التشبيه: غلاة الصوفية؛ ولهذا يزعمون أنهم يصافحون الله, ويعانقونه, ويسامرونه, ويجالسونه -تعالى الله عن ذلك علو كبيرا-.
إذاً.. مذهب التشبيه يكثر عند هاتين الطائفتين.
ثم قال: وإنما القصد.. العدل في السلوك, في سلوك الطريقة السليمة بين الأمرين. بمعنى: العدل. أن يتوسط الإنسان بين التشبيه, وبين التعطيل. يثبت, وينزه.
ينزه؛ لكن لا يغلو في التنزيه, فيفضي به هذا التنزيه إلى الخروج لمذهب المعطلة, فينفي ما أثبته الله.
ويثبت؛ لكن لا يغلو في الإثبات, فيفضي به هذا الأمر إلى تشبيه الخالق بالمخلوق, كما هي الحال عند المشبه.(1/341)
فيجمع بين الإثبات, والتنزيه. يقول: أثبت لله وجها, وأثبت لله يدين, وأثبت لله مجيء, وأثبت لله نزولا؛ لكن على الوجه اللائق به -سبحانه وتعالى-, لا كما ينزل المخلوق, وليس كوجه المخلوق, وليس كيدي المخلوق, كما جمع الله بينهما في قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } (1) إثبات, وتنزيه.
ودين الله تعالى بين الغالي فيه, والمقصر عنه. نعم. في جانب العبادة, في جانب الاعتقاد, في جانب السلوك تجد أن الهدي النبوي, والمنهج الذي عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - دائم وسط بين غالي وبين مقصر, كما أن هذه الأمة وسط بين الأمم, وسط بين الملل الأخرى بين اليهودية والنصرانية فكذلك أهل السنة والجماعة, وهذا هو دين الله - عز وجل - دائما. نعم.
الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات
قال -رحمه الله-:
والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. يُحتذى في ذلك حذوه وأمثاله.
فإذا كان معلوما أن إثبات الباري -سبحانه- إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف.
فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها؛ فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: إن معنى اليد: القوة, أو النعمة. ولا معنى السمع, والبصر: العلم. ولا نقول: إنها جوارح. ولا نشبهها بالأيدي, والأسماع, والأبصار التي هي جوارح, وأدوات للفعل. ونقول: إنما وجب إثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنه؛ لأن الله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (2) وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات. هذا كله كلام الخطابي.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.
(2) - سورة الشورى آية : 11.(1/342)
نعم. ثم ذكر -رحمه الله- قاعدة من أقوى القواعد في الرد على المعطلة؛ ولهذا ذكرها -أيضا- الخطيب البغدادي -كما سيأتي-, وذكرها شيخ الإسلام -هذه القاعدة- في "التدمرية", جعلها قاعدة مستقلة, وهذه القاعدة ما هي؟
قالوا: والأصل في هذا.. أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. القاعدة عندنا: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. هذه القاعدة يمكن أن ترد بها على كل معطل؛ أياً كان تعطيله, ابدء
بالجهمي, المعتزلي, الأشعري, أكثر أو أقل من هؤلاء, فكل من عطل صفة لله - عز وجل - يمكن أن يرد عليه بهذه القاعدة.
قاعدة عقلية: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. ما معنى هذا الكلام؟ أنه يقال لهذا المعطل؛ الذي -مثلا- نفترض أن هذا المعطل الذي أمامنا أشعري, ينفي أن يتصف الله -سبحانه وتعالى- بالغضب, فيقول: أنا لا أثبت لله صفة الغضب. طيب, نقول له: هل تثبت لله ذات؟ فلا بد أن يقول: ها. نعم؛ لأنه إذا نفى الذات عن الله - عز وجل - نفى وجود الله - عز وجل - قال: إن الله عدم. طيب, هل ذات الله - عز وجل - مثل ذات المخلوق؟ المخلوق له ذات, سيقول: لا. فنقول: لا, كذلك صفة هذه الذات, هذه الذات تغضب, فإذا كان ذات الرب لا تماثل ذات المخلوق؛ فكذلك غضب الرب لا يماثل غضب المخلوق. الصفة التي تتصف بها هذه الذات لا تماثل الصفة التي لذات المخلوق.(1/343)
هي قاعدة مختصرة؛ لكنها من القوة بمكان؛ ولهذا نرد بها على أكبر معطل, أكبر معطل: الجهمي الذي ينفي عن الله كل الأسماء والصفات, نقول له: تثبت لله وجود, ولا ما تثبت لله وجود؟ فلا بد أن يقول: نعم. أثبت لله وجود؛ لأنه إذا قال: الله - عز وجل - لا وجود له. في معنى: أنه عدم, عند ذلك انتكص من الإسلام إلى الكفر, من الإيمان إلى الإلحاد, فإذا أثبت لله وجود, نقول: كذلك المخلوق موجود ولا ما موجود؟ قطعا المخلوق موجود. هل وجود المخلوق مثل وجود الخالق؟ سيقول: لا. وجود الخالق وجود يليق به -سبحانه-, هو واجب الوجود, أزلي, دائم. نقول: كذلك بقية الصفات. خذ أي صفة تعطلها وطبق عليها نفس القاعدة, إذا كان وجود الخالق ليس كوجود المخلوق فكذلك صفة الخالق ليست كصفة المخلوق.
يقول: أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. يحتذى في ذلك الحذو وأمثاله.
فإذا كان معلوما أن إثبات الباري -سبحانه- إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية: نحن نثبت هذه الصفة لله - عز وجل - ونثبت وجوده من غير أيش؟ تكييف, كيفية وجود الله -عز وجل-؟ الله أعلم. كيفية هذه الصفة؟ الله أعلم.
يقول: فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحريف وتكييف. نعم. لو كنا نثبت هذه الصفة على وفق المعنى الثابت للمخلوق يلزمنا المحذور الذي يذهب إليه المعطلة؛ لكن نحن نقول: نثبت لله هذه الصفة؛ لكن على وجه يليق به -سبحانه وتعالى- لا نكيف, لا نحدد.(1/344)
ثم ضرب أمثلة على ما سبق تقريره, فقال: فإذا قلنا: يد, وسمع, وبصر, وما أشبهها؛ فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه, ولسنا نقول: إن معنى اليد: القوة أو النعمة: وهذا تأويل المعطلة على وجه العموم, أنهم يؤولون اليد التي جاء ذكرها في النصوص المنسوبة لله - عز وجل - المتصف بها, يأولونها بالقوة, أو النعمة, أو القدرة. ولا معنى السمع والبصر: العلم كما أول ذلك المعتزلة, أولوا السمع والبصر المنسوب لله - عز وجل - الموصوف به, أولوه بالعلم. ولا نقول: إنها جوارح كما يقول ذلك من؟ المشبهة, يزعمون أن اليد الثابتة لله - عز وجل - كاليد الثابتة للمخلوق.
ولا نشبهها بالأيدي, والأسماع, والأبصار التي هي الجوارح, وأدوات الفعل, ونقول: إنما وجب إثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها؛ لأن النص ورد بها, ونحن متعبدون بما ورد به النص, جاءت النصوص بإثبات هذه الصفات, فنحن نثبتها, وننفي عن الله التشبيه, لماذا؟ لأن الله نفى عن نفسه التشبيه؛ ولهذا قال: ووجب نفي التشبيه عنه؛ لأن الله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات, بمعنى: في كل أحاديث الصفات. نعم.
كلام الخطيب البغدادي في إثبات الصفات
تماثل كلام الخطيب البغدادي مع كلام الخطابي
قال -رحمه الله-:
وهكذا قال أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له, أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.(1/345)
نعم. الخطيب: اللي هو أحمد بن علي البغدادي, المتوفى سنة أربعمائة وثلاثة وستين, صاحب "التاريخ", و"الفقيه والمتفقه", و"الرحلة في طلب الحديث", وله مؤلفات كثيرة, وهو على مذهب السلف -رحمه الله- في إثبات الصفات. وله كلام قريب جدا مما ذكره المؤلف عن الخطابي؛ بل إنه شبه متماثل, أورد هذا الكلام عنه الإمام الذهبي في كتابه "العلو للعلي الغفار". نعم. والكلام متماثل تماما مثل كلام الخطابي, يعني: لولا التماثل لأوردته؛ لكن اختصارا للوقت نكتفي بالإشارة إليه. نعم.
موافقة كلام كثير من العلماء لما ذكره الخطّابي
قال -رحمه الله-:
وهذا الكلام الذي ذكره الخطّابي قد نقل نحوا منه من العلماء ما لا يحصى, مثل: أبي بكر الإسماعيلي، والإمام يحيى بن عمار السجزي، شيخ شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، ومثل: أبي عثمان الصابوني شيخ الإسلام, وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب، وغيرهم.
ــــــــــــ
نعم. هذا الكلام الذي ساقه المؤلف وأورده عن الإمام الخطابي, ذكر عن غيره, أو مضمونه ذكر عن غيره من الأئمة المتقدمين.
ومثل لذلك الشيخ: بأبي بكر الإسماعيلي الذي هو أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي, المتوفى سنة ثلاثمائة وإحدى وسبعين.
وكذلك الإمام يحيى بن عمار السجزي, المتوفى سنة أربعمائة واثنين وعشرين, شيخ شيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري عبد الله بن محمد, صاحب كتاب "منازل السائلين" الذي شرحه ابن القيم في أيش؟ في "مدارج السالكين", وصاحب كتاب "ذم الكلام".
ومثل: أبي عثمان الصابوني شيخ الإسلام المعروف إسماعيل بن عبد الرحمن, المتوفى سنة أربعمائة وتسع وأربعين, صاحب الرسالة التي هي صغيرة الحجم؛ لكن كبيرة القدر: "عقيدة السلف أصحاب الحديث".
يقول: وأبي عمر بن عبد البر النمري الذي هو يوسف بن عبد الله صاحب "التمهيد في شرح الموطأ", المتوفى سنة أربعمائة وثلاثة وستين, وغيرهم. نعم.
كلام أبي نعيم الأصبهاني في الصفات(1/346)
إثبات الصفات بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه
وقال أبو نعيم الأصبهاني -صاحب "الحلية"- في عقيدة له, في أولها: طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة.
قال: فمما اعتقدوه: أنّ الأحاديث التي ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرش واستواء الله يقولون بها, ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم, ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه.
ــــــــــــ
نعم. هذا الكلام أبو نعيم أحمد بن عبد الله, المتوفى سنة أربعمائة وثلاثين, صاحب الكتاب "الحلية" المشهور؛ ولعل المؤلف أورد الكلام عنه -هنا-؛ للرد على الصوفية؛ وذلك أن أبا نعيم ممن يعظمه أهل التصوف, فأراد أن يرد عليهم بقوله في مسألة العلو؛ وذلك أن الصوفية ينفون عن الله العلو, ويقولون بالحلول, وأن الله مختلط, حال, ممتزج بالخلق -تعالى الله عن ذلك علو كبيرا-.
يقول: في عقيدة له, في أولها: نقل ابن كثير عن ابن الجوزي أن أبا نعيم كان يميل إلى مذهب الأشعري في الاعتقاد, وذكر ابن عساكر أنه من أصحاب أبي الحسن الأشعري؛ لكن إذا نظرنا إلى عقيدته التي نقلها شيخ الإسلام وأوردها في مواضع متعددة ونقلها -أيضا- ابن القيم؛ نلاحظ أنه على عقيدة أهل السنة في الجملة. فربما أنه كان يميل إلى تأويل بعض الصفات, ويوافق الأشاعرة؛ ولهذا صنفه هؤلاء ضمن الأشاعرة, وربما أنه كان يقول بهذا القول في أول حياته ثم رجع عن ذلك. الشاهد: أن هذا القول المنقول إلينا الذي بين أيدينا هو على مذهب أهل السنة والجماعة.
يقول: في عقيدة له, في أولها: طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهذا هو منهج السلف الصالح. أنهم يلتزمون الكتاب والسنة على وفق مفهوم سلف الأئمة.(1/347)
قال: فمما اعتقدوه: أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرش واستواء الله يقولون بها, ويثبتونها من غير تكيف ولا تمثيل ولا تشبيه. بمعنى: يثبتون الاستواء لله - عز وجل - من غير تشبيه ولا تكييف كما يثبتها جمهور أهل السنة.
وأن الله بائن من خلقه, والخلق بائنون منه. بمعنى: ليس بحال, ولا ممتزج بالخلق؛ ولهذا قال: لا يحل فيهم, ولا يمتزج بهم, وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه. هذا تصريح من أبي نعيم -رحمه الله- في إثبات صفة الاستواء, وفي إثبات صفة العلو؛ خلافا لما يذهب إليه كثير من مدعي التصوف. نعم.
إثبات صفة الاستواء والعلو لله - عز وجل -(1/348)
وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه "محجة الواثقين ومدرجة الوامقين" -تأليفه-: وأجمعوا أنّ الله فوق سماواته, عالٍ على عرشه, مستو عليه، لا مستول عليه كما تقول الجهمية, أنه بكل مكان خلافا لما نزل في كتابه: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) } (1) { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (2)، { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (3) له العرش المستوي عليه, والكرسي الذي وسع السموات والأرض، وهو قوله تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } (4) وكرسيه جسم، والسموات السبع والأراضون السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة، وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية؛ بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، كما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفا صفا، كما قال تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (5) وأنه -تعالى وتقدس- يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده, فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين، ويعذب من يشاء, كما قال تعالى: { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } (6) .
نعم. ثم انتقل أيضا -رحمه الله- ليورد نقل آخر عن أبي نعيم في كتابه "محجة الواثقين ومدرجة الوامقين" -أي- المحبين, وهذا الكتاب وهذه الرسالة لا تزال مفقودة.
__________
(1) - سورة الملك آية : 16.
(2) - سورة فاطر آية : 10.
(3) - سورة طه آية : 5.
(4) - سورة البقرة آية : 255.
(5) - سورة الفجر آية : 22.
(6) - سورة آل عمران آية : 129.(1/349)
يقول: وأجمعوا أن الله فوق سماواته, عال على عرشه, مستو عليه. وهذا -أيضا- تصريح منه في إثبات صفة الاستواء والعلو لله - عز وجل - لا مستول عليه كما تقول الجهمية, الجهمية يؤولون الاستواء: بالاستيلاء؛ ولهذا تبعهم على هذا كثير من الأشاعرة, وأنكر بعض الأشاعرة هذا التأويل, فالبغدادي في "أصول الدين" قال: وتأول بعض أصحابنا الاستواء: بالاسيتلاء؛ موافقة للمعتزلة. ولهذا خالفه -رحمه الله- هذا التأويل, وأول بتأويل آخر.
يقول: كما تقول الجهمية: إنه بكل مكان. ذكر شيخ الإسلام أن الجهمية ينقسمون إلى قسمين:
قسم يرون أنه بكل مكان. وهذا يغلب على الصوفية والعباد منهم.
وقسم يذهب إلى النفي المطلق, فينفون عن الله - عز وجل - الوصفين المتقابلين, فيقولون: لا هو فوق ولا تحت, ولا يمين ولا شمال, ولا داخل العالم ولا خارجه. وهذا فيه رفع للنقيضين.
يقول: خلافا لما نزل في كتابه. بمعنى: أن الجهمية زعمت أن الله في كل مكان, خلاف ما ورد في النصوص.
ثم أورد الأدلة: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) } (1) وسبق الكلام عليها بالأمس, { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (2) هذا في التصريح أن الله في العلو, { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (3) له العرش المستوي عليه, والكرسي الذي وسع السماوات والأرض,
وسع السماوات والأرض, وهو قوله تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } (4) وكرسيه: جسم. وسبق -أيضا- الكلام عليه, أنه جسم, وأنه بين يدي العرش كالمرقاة كما ذكر ابن عباس.
__________
(1) - سورة الملك آية : 16.
(2) - سورة فاطر آية : 10.
(3) - سورة طه آية : 5.
(4) - سورة البقرة آية : 255.(1/350)
والسماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي كحلقة في فلاة. وهذا جاء في حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكرسي, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده.. ما السماوات والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة, وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة وجاء موقوفا, وهو أصح عن ابن عباس وأبي موسى -كما ذكرنا بالأمس-.
وليس كرسيه وعلمه كما قالت الجهمية, الجهمية يؤولون الكرسي: بالعلم؛ بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه كما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا جاء في حديث, بمجموع طرقه صالح -إن شاء الله- كما ذكر الذهبي, وكما ذكره من المعاصرين الشيخ ناصر -رحمه الله-, والحديث جاء عن جابر - رضي الله عنه - قال: لما رجعت مهاجرة الحبشة سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروني عن أعجب ما رأيتم؟ فقالوا: بلى. أو قال: فتية منهم؟ بلى يا رسول الله, بينما نحن جلوس.. مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلة من ماء, فمرت بفتى منهم, فجعل إحدى يديه بين كتفيها, ثم دفعها, فخرت على ركبتيها, فانكسرت قلتها, فلما ارتفعت التفتت إليه, فقالت: سوف تعلم يا غُدر إذا وضع الله الكرسي, وجمع الأولين والآخرين, وتكلمت الأيدي والأرجل.
قال: يقول رسول الله: أقرها على هذا الكلام, ثم قال: صدقت.. صدقت.. كيف يقدس الله أمة لا يأخذ لضعيفهم من شديدهم؟! فالشاهد من الحديث: إثبات أن الكرسي يوضع يوم القيامة لمجيء الله - عز وجل - لفصل القضاء بين الخلق.(1/351)
ثم قال: وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده, والملائكة صفا صفا, كما قال تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (1) فمن عقيدة أهل السنة: إثبات مجيء الرب -سبحانه وتعالى-؛ لكن على الوجه اللائق به -سبحانه وتعالى-, وأنه -تعالى وتقدس- يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده, فيغفر لمن يشاء من مذنب الموحدين, ويعذب من يشاء, كما قال تعالى: { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } (2) وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
كلام العارف الأصبهاني في أسماء الله وصفاته
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني -شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده- قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة, وموعظة من الحكمة, وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر, وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين.
قال فيها: وأن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل. والاستواء معقول, والكيف فيه مجهول.
وأنه - عز وجل - بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول ولا ممازجة، ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه المنفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق.
وأن الله - عز وجل - سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى, ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء، فيقول: هل من داعٍ فأستجيبَ له؟ هل من مستغفرٍ فأغفرَ له؟ هل من تائبٍ فأتوبَ عليه؟ حتى يطلع الفجر. ونزول الرب إلى السماء بلا كيف, ولا تشبيه، ولا تأويل، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال. وسائر الصفوة من العارفين على هذا.
ــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم.
__________
(1) - سورة الفجر آية : 22.
(2) - سورة آل عمران آية : 129.(1/352)
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ينقل المؤلف -رحمه الله- هنا عمن وصفه: الإمام العارف معمر بن أحمد الأصفهاني, المتوفى سنة أربعمائة وثمانية عشر.
يقول الشيخ: يصف معمر بأنه: شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده, وكما أسلفت الشيخ حرص أن ينقل عن أئمة متعددين, فهنا ينقل -وما سيأتي من النقول- عن بعض الأئمة المعظمين عند طائفة أهل التصوف؛ وذلك كي يرد على هذه الطائفة التي تعتقد أن الله في كل مكان, فيقول الإمام معمر: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة, وموعظة من الحكمة, وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر, وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين.
قال فيها: وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل. والاستواء معقول, والكيف فيه مجهول. هذا هو مذهب أهل السنة في هذه الصفة؛ على حد قول الإمام مالك- الذي سبق ذكره مرارا-: الاستواء معلوم, والكيف مجهول, والإيمان به واجب, والسؤال عنه بدعة. فهذا تصريح من هذا الإمام بإثبات صفة الاستواء, وأن الله عال على العرش.
ثم قال: وأنه - عز وجل - بائن من خلقه, والخلق منه بائنون, بلا حلول ولا ممازجة, ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ خلافا لمذهب الحلولية, وهذا المذهب ينتشر كثيرا عند أهل التصوف.(1/353)
معنى بائنون بمعنى: منفصل. البينونة: هي الانفصال, بان الشيء من الشيء: انفصل عنه. فالله - عز وجل - بائن: منفصل عن الخلق, غير ممتزج, غير حال في الخلق, والخلق -أيضا- منفصلون عنه -سبحانه وتعالى- بلا حلول ولا ممازجة, ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه المنفرد البائن من خلقه, الواحد الغني عن الخلق. وأن الله - عز وجل - سميع بصير, عليم خبير, يتكلم, ويرضى, ويسخط, ويضحك, ويعجب, ويتجلى لعباده يوم القيامة. وهذا جاء في أحاديث متعددة, أن الله - عز وجل - يتجلى للعباد يوم القيامة, يتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا؛ وذلك في الجنة, وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء, بمعنى: أنه موصوف بهذه الصفات التي يتأولها المعطلة. كيف يشاء, بمعنى: ب بالكيفية التي لا يعلمها البشر.
ثم قال: فيقول: هذا في الحديث -الذي سبق ذكره- الثابت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر, فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر وقلنا: هذا لا يجوز أن يتأول؛ لأن الذي ينزل ملك من الملائكة كما تأول ذلك بعض أهل التعطيل, أو ينزل أمره؛ لأن هذه الأمور لا يجوز, ولا يعقل, أنها تقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ والحديث صريح, ينزل ربنا, ينزل الله, النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أفصح الخلق, وأحرص الخلق على بيان الحق للأمة, يستطيع أن يقول: ينزل أمره, أو ينزل ملك من الملائكة؛ لو كان يريد هذا المعنى الذي أراده أولئك المعطلة؛ لكن لما قال: ينزل الله, أو ينزل ربنا. دل على أن الله حقيقة ينزل, ففي كيفيه هذا النزول الله أعلم.(1/354)
ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه. يعني: لا يكيف ولا يشبه, ليس كنزول المخلوق من المخلوق, المخلوق إذا نزل من شيء إلى شيء صار هذا الشيء الذي نزل منه أعلى منه, أما الله - عز وجل - فإنه ينزل نزولا يليق بجلاله وعظمته؛ ومع ذلك لا يعلوه شيء من خلقه, فهو العلي الأعلى. ولا تأويل, يعني: لا نشبه نزول الله - عز وجل - بنزول الخلق, ولا نأول نزول الله - عز وجل - كما أول ذلك المعطلة, فمن أنكر النزول, أو تأول فهو مبتدع ضال, بمعنى: من زعم أن الله لا ينزل, ورد هذا الحديث, ودلالة هذا الحديث؛ بناء على -مثلا- أنه خبر آحاد؛ علما بأنه من الأحاديث المتواترة, أو تأوله, بمعنى: صرفه عن ظاهره. فحكمه: أنه مبتدع ضال, لماذا؟ لأنه فهم النص, أو تعامل مع هذا النص على خلاف ما فهمه الصحابة -رضي الله عنهم-, وليس له مسوغ لا في الشرع, ولا في العقل, ولا في لغة العرب؛ أن يصرف هذا النص عن ظاهره.
ثم قال: وسائر الصفوة من العارفين على هذا. يعني: سائر أئمة الصوفية, الأئمة المعتبرون, ليس أولئك الذين أحدثوا هذه البدع, كابن عربي المكي الطائي, وكالحلاج, وكابن سبعين, وكالسهرودي, أولئك الذين جاءوا للأمة بعقيدة الحلول والاتحاد, هؤلاء ليسوا في الواقع ممن يعنيهم أو ليس من النوع الذي يعنيهم معمر -رحمه الله-؛ إنما يقصد بأئمة الصوفية العارفين المتقدمين؛ الذين كانت التصوف عندهم عبارة عن أيش؟ الزهد, كان التصوف أول ما ظهر في أمره عبارة عن الزهد والانقطاع عن الدنيا, ولم يختلط بالمفاهيم الفلسفية؛ إلا في وقت متأخر؛ ولهذا ظهر عند المتصوفة عقيدة الحلول, عقيدة الاتحاد, هذه العقائد الفاسدة. نعم.
كلام الفضيل بن عياض في أسماء الله وصفاته(1/355)
وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتاب "السنة":حدثنا أبو بكر الأثرم، حدثنا إبراهيم بن الحارث -يعني العبادي- حدثنا الليث بن يحيى، قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث، قال أبو بكر -وهو صاحب الفضيل- قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؛ لأن الله تعالى وصف نفسه بأبلغ فقال: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (1)، فلا صفةَ أبلغُ مما وصف به نفسه.
وكل هذا: النزول، والضحك، وهذه المباهاة، وهذا الإطلاع، كما يشاء أن ينزل، وكما يشاء أن يباهي، وكما يشاء أن يضحك، وكما يشاء أن يطَّلع, فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف؟ فإذا قال الجهمي: أنا أكفر بربٍّ يزول عن مكانه. فقل: بل أومن برب يفعل ما يشاء.
ونقل هذا عن الفضيل جماعة؛ منهم البخاري في "خلق أفعال العباد"، ونقله شيخ الإسلام بإسناده في كتابه "الفاروق", فقال:حدثنا يحيى بن عمار,حدثنا أبي، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا حرمي بن علي البخاري, وهانئ بن النضر عن الفضيل.
ــــــــــــ
نعم. وهذا -أيضا- نقل عن إمام من الأئمة الذين يعظمهم الصوفية؛ وهو الإمام الفضيل بن عياض أبو علي, المتوفى سنة مائة وثمان وسبعين, نقل عنه أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال, المتوفى سنة ثلاثمائة وإحدى عشرة في كتابه "السنة", وهذا الكتاب طبع جزء منه؛ ولا يزال, منه أجزاء لا زالت مفقودة, يقول الفضيل:
__________
(1) - سورة الإخلاص آية : 1-4.(1/356)
ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؟ لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ, فقال: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (1) ليس للمسلم أن يتوهم كيفية صفات الله -عز وجل-؛ لأن هذا مما استأثر الله بعلمه. نعم. صفات الله لها كيفية؛ لكن الله اعلم بكيفيتها. يقول: لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ, بمعنى: أبلغ في الوصف, وساق على ذلك سورة الإخلاص التي تضمنت الإثبات والنفي؛ وذلك أن وصف الله - عز وجل - ينقسم إلى قسمين:
أن يوصف بالإثبات, كأن يوصف بالسمع, البصر, الكلام, العلم، القدرة, الإرادة, الضحك, النزول, المجيء, الاستواء. هذه صفات ثبوتية.
ويوصف بالنفي, بأن ينفى عنه صفات النقص, كأن ينفى عنه صفة السنة -النوم- { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } (2) صفة الظلم, صفة التعب.
فسورة الإخلاص تضمنت الإثبات, والنفي:
فقوله سبحانه: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } (3) هذا صفة ثبوتية.
{ اللَّهُ الصَّمَدُ (2) } (4) -أيضا- صفة ثبوتية, والصمد معناه -كما ذكره بعض أهل العلم-: هو الذي لا جوف له. أو لا يأكل, ولا يشرب. أو السيد الذي كمل في السؤدد. أو الباقي الدائم. وكل هذه المعاني تصلح أن تكون معنى للصمد.
ثم قال: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) } (5) هنا نفى عن نفسه -سبحانه وتعالى- أن يكون مولودا, أو أن يلد؛ وذلك أن الولادة تدل على الحاجة, والله هو الغني -سبحانه وتعالى-.
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (6) هذا نفي مجمل -أي- ليس لله مثيل, ليس له مكافئ.
__________
(1) - سورة الإخلاص آية : 1-4.
(2) - سورة البقرة آية : 255.
(3) - سورة الإخلاص آية : 1.
(4) - سورة الإخلاص آية : 2.
(5) - سورة الإخلاص آية : 3.
(6) - سورة الإخلاص آية : 4.(1/357)
يقول: فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه. فالله أعلم بنفسه؛ ولهذا هو أعلم بما يجوز عليه, وما يمتنع عليه. فلا يجوز أن نتحكم في ذلك, فنقول: هذه الصفة.. لا يجوز أن يوصف الله بها؛ لأنه يلزم ويلزم ويلزم كما قال المعطلة. لا. الله - عز وجل - أعلم بما يجوز عليه, وما يلزم؛ ولهذا وصف نفسه بهذه الصفات, ونفى عن نفسه هذه الصفة.
يقول: وكل هذا النزول. يعني: كل هذه الصفات التي ثبتت, النزول, والضحك, وهذه المباهات التي جاءت في حديث عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح مسلم, أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفه, وأنه ليدنو, ثم يباهي بهم الملائكة, فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟ فالشاهد: أن الله - عز وجل - يباهي بهم الملائكة. والمباهاة في لغة العرب: هي المفاخرة.
ثم قال: وهذه المباهات والاطلاع كما جاء -أيضا- في الصحيحين من حديث حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - الطويل, الذي فيه: فقال عمر: دعني أضرب عنقه؛ فقد نافق. فماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: لا يا عمر؛ إنه شهد بدرا؛ ولعل الله اطلع على أهل بدر, فقال: اعملوا ما شئتم.. فقد غفرت لكم هذا الحديث يدل على أن الله موصوف بأيش بالاطلاع, كما أنه موصوف بالضحك والنزول والمباهاة, أيضا موصوف بأنه يطلع, اطلاعا يليق بجلاله وعظمته, لا نكيف ولا نشبه.
يقول: كما يشاء أن ينزل, وكما يشاء أن يباهي, وكما يشاء أن يضحك, وكما يشاء أن يطلع. بمعنى: على الوجه اللائق به -سبحانه وتعالى-, كيف شاء, ومتى شاء.
ثم قال: فليس لنا أن نتوهم كيف.. وكيف؟ يعني: لا يأتينا قائل ويقول: كيف يضحك؟ الضحك يلزم منه كذا, ويلزم منه كذا, كيف يلزم؟ يلزم منه أن يكون شيء من الخلق أعلى منه. نقول له: أثبت ما ثبت, ودع ما خفي إلى الله - عز وجل - . لست متعبد بهذه الاعتراضات, أنت متعبد أن تثبت ما أثبته الله لنفسه وأثبته له للرسول.(1/358)
أما ما لم يرد فأمسك كما أمسك أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا رووا هذه الأحاديث إلى الأمة, وسمعوها قبل ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقبلوها دون أي اعتراض, كما هي الحال عند هؤلاء المتأخرين, عند هؤلاء الذين استقوا هذه العقائد, أو أصول هذه العقائد من غير المسلمين, تقول له: يقول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) يقول لك: لا. لا يجوز أن نصف الله بالاستواء؛ لماذا؟ لأنه يلزم أن يكون الله جسم, أن يكون الله متحيز, أن يكون.. أن يكون.., أين هذه اللوازم الباطلة؟
لم يردها الصحابة على النبي - صلى الله عليه وسلم - . أبو رزين -رضي الله عنه وأرضاه- يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الحسن, يقول: يضحك ربنا لقنوت عباده, وقرب . لم يكن الصحابة يعترضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: كيف نصف الله - عز وجل - بالضحك, والضحك: خفة في النفس, أو خفة في الروح -كما قاله المتأخرون-؟! لا. سلموا, أبو رزين فقط يريد أن يتأكد, هل الله فعلا يوصف بهذه الصفة؟ فيقول: أو يضحك ربنا.. يا رسول الله؟! فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم. لا حظ ماذا قال, هل قال ما قاله المتأخرون؟ قال: لن نعدم من رب يضحك خيرا فهم هذه الصفة على ظاهرها, وأجراها على ظاهرها, لم يعترض عليها, ثم أثبت أن لهذه الصفة آثار, من آثارها: رحمة الله - عز وجل - الرحمة بالعباد, وهكذا المؤمن مع مثل هذه النصوص.
ثم قال: فإذا قال الجهمي: هذه قاعدة يمكن أن تستخدم مع المعطل.
يقول: فإذا قال الجهمي: -أي- المعطل, أنا أكفر برب يزول عن مكانه. ماذا يقصد هذا الجهمي من هذا الكلام؟ نفي الصفات المتعلقة بالفعل, كالنزول, والمجيء, ونحو ذلك. لا حظ هذا الجهمي, هذا المعطل, كما قال
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.(1/359)
شيخ الإسلام -رحمه الله-: المعطل يجمع بين التشبيه والتعطيل؛ وذلك أنه لم يعطل إلا بعد أن شبه. لما تبادر إلى ذهنه, أول ما تبادر إلى ذهنه من ظاهر هذا النص التشبيه؛ انتقل إلى مرحلة أيش التعطيل, هذا الجهمي لما سمع الله - عز وجل - يقول: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (1) وسمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ينزل ربنا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ما الذي تبادر إلى ذهنه من ظاهر هذا النص؟ أنه إذا نزل, أو جاء فقد زال عن مكانه. واضح, وهذا عين التشبيه.
ثم انتقل بعد ذلك إلى التعطيل, قال: لا. إذن لا أثبت لله صفة النزول, لا أثبت لله صفة المجيء. يقول الفضيل: يمكن أن نرد على هذا؛ ولهذا جاء بهذا الكلام المبهم: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. ماذا قال؟ فقل له: وأنا أؤمن برب يفعل ما يشاء. ينزل كما يشاء, ويجيء كما يشاء؛ لكن هل يتحرك من مكانه؟ هل يزول من مكانه؟ الله أعلم. هذا نزول البشر, وهذا مجيء البشر, أما نزول رب البشر فيختلف تماما, ليس هناك أدنى تشابه أو أدنى تماثل بين صفة المخلوق وصفة الخالق؛ لأجل أن يرد إلى أذهاننا هذا المعنى الفاسد. يقول: فقل: بل أؤمن برب يفعل ما يشاء. يعني: أعكس عليه القضية, قل: أنت تريد أن تتحكم في صفات الله - عز وجل - الله - عز وجل - يثبت له نبيه ويقول: ينزل ربنا. وأنت تقول: لا ينزل.
__________
(1) - سورة الفجر آية : 22.(1/360)
ثم ذكر أن هذا الأثر نقله جماعة عن الفضيل بن عياض, منهم: الإمام البخاري: محمد بن إسماعيل, صاحب "الصحيح" في كتابه "خلق أفعال العباد", وهذا الكتاب طبع عدة طبعات, وأيضا نقله شيخ الإسلام -يعني- أبا إسماعيل الهروي, صاحب "منازل السائرين" في إسناده في كتابه "الفاروق", وقلت لكم بالأمس: أن هذا الكتاب لا يزال -أيضا- مفقودا, وينقل عنه الأئمة كثيرا. نعم. قول الفضيل: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل: بل أؤمن برب يفعل ما يشاء. وهذا ما حصل -أيضا- مع أحد القدرية النفاة, وأظنه القاضي عبد الجبار, لما دخل في مجلس الخليفة, وقال: سبحان من تنزه عن الفحشاء. ففهم منه الإمام -أظنه- الاسفراييني, فهم أنه أراد بهذه الكلمة نفي أن الله يخلق أفعال العباد, نفي عموم مشيئة الله, نفي عموم خلق الله -عز وجل-؛ لأنه بزعمه أن الله إذا خلق فعل العبد, وحاسبه عليه؛ يكون ظالم له, فقال: سبحان من تنزه عن الفحشاء.
مباشرة رد عليه أبو إسحاق الاسفراييني, فقال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء, يعني: كأنك تريد أيها القدري.. أن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه, بمعنى: أنه يخلق أمر لا يستطيع الله - عز وجل - عليه, ويقع في ملك الله ما لا يريده الله -عز وجل-؛ لأنه على حد قول هذا القدري أن الله - عز وجل - لا يريد كفر الكافر, والعبد أراد كفر نفسه, فغلبت أي الإرادتين -على حد قول القدري-؟ غلبت إرادة العبد إرادة الرب -سبحانه وتعالى-؛ ولهذا مباشرة رد عليه قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. نعم.
كلام عمرو بن عثمان المكي في الصفات
التحذير من وسوسة الشيطان بالتشكيك في توحيد الله أو صفاته(1/361)
وقال عمرو بن المكي في كتابه الذي سماه: "التعرف بأحوال العباد والمتعبدين", قال: ما يجيء به الشيطان للتائبين. وذكر أنه يوقعهم في القنوط، ثم في الغرور, وطول الأمل, ثم في التوحيد.
فقال: من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكيك, أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل.
قال بعد ذكر حديث الوسوسة: واعلم -رحمك الله تعالى- أن كل ما توهمه قلبك، أو سنح في مجارى فكرك، أو خطر في معارضات قلبك من حسن, أو بهاء، أو ضياء, أو إشراق، أو جمال، أو شبح ماثل، أو شخص متمثل: فالله تعالى بغير ذلك؛ بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر؛ ألا تسمع إلى قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) وقوله: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (2) -أي- لا شبيه, ولا نظير, ولا مساوي, ولا مِثل. أو لم تعلم أنه تعالى لما تجلَّى للجبل تدكدك؛ لعظم هيبته، وشامخ سلطانه، فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك، كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك، فَرُدَّ بما بيّن الله في كتابه من نفيه عن نفسه التشبيه والمثل والنظير والكفْء.
نعم. هذا -أيضا- نقل عن عمرو بن عثمان المكي, المتوفى سنة مائتين وسبع وتسعين, وهو -أيضا- من الأئمة الذين لهم مكانة وقدر عند عموم أهل التصوف, يقول في كتابه الذي سماه: "التعرف بأحوال العباد المتعبدين", وهذا الكتاب -أيضا- لا يزال مفقودا؛ علما بأن بعض الأئمة ينقل عنه, يقول: قال: ما يجيء به الشيطان للتائبين. يعني الطرق التي يوسوس بها الشيطان, ويتسلل منها الشيطان إلى نفوس التائبين.
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.
(2) - سورة الإخلاص آية : 4.(1/362)
يقول: وذكر أنه يوقعهم في القنوط: وهو اليأس من رحمة الله - عز وجل - ثم في الغرور وطول الأمل. بمعنى: أنه يحاول أن يوقع هذا الإنسان في اليأس, وهذا باب شر على الإنسان؛ فإن ظفر بذلك؛ وإلا انتقل إلى نقله إلى المقابل إلى الضلال الآخر وهو أيش؟ الغرور؛ ولهذا المؤمن الحق بين هذين الطرفين, ويحذر هذين الداءين العضالين: الغرور, واليأس. اليأس داء, والغرور داء؛ ولهذا صار المؤمن الحق في مسيره إلى الله والدار الآخرة بين الخوف والرجاء, انظر إلى قول الله - عز وجل - وهو يصف صفوة عباده: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا } (1) فهم متوسطون, وقال في وصف أنبيائه: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } (2) ؛ ولهذا قال العلماء: يجب أن يكون المؤمن بين هذين الأمرين: بين الخوف, والرجاء.
كالطائر, إذا رأى من نفسه يأساً ونصباً في عبادة الله - عز وجل - استحضر نصوص الرجاء, نصوص الوعد. وإذا رأى من نفسه تخاذلا وتكاسلا عن طاعات الله, أو دعته نفسه للوقوع في معصية من المعاصي, أو في كبيرة من الكبار استحضر نصوص الخوف, نصوص الوعيد. كذلك الحال في قضية اليأس والغرور, الشيطان يضل طائفة من الناس باليأس؛ ولهذا يغلب عليهم جانب الوعيد, لا ينظرون إلى نصوص الوعد, إلى سعة مغفرة الله - عز وجل - إلى رحمته؛ ولهذا جاء عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه وفي الحديث الآخر: أنا عند حسن ظن عبدي بي, فليظن بي ما شاء .
__________
(1) - سورة السجدة آية : 16.
(2) - سورة الأنبياء آية : 90.(1/363)
فالمؤمن مطلوب منه أن يحسن ظنه بالله - عز وجل - . وهناك طائفة من بني آدم قد يوقعهم الشيطان في الغرور, وهذا -أيضا- داء؛ ولهذا جاء عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: هنيئا لمن لم يَعرف ولا يُعرف. وذلك لخشيته على نفسه من هذا الباب الخطير, الإمام الشافعي يقول: وددت أن الناس استفادوا من العلم الذي عندي وأنا في شعب من الشعاب. لا يعرفني أحد, فلا يغتر المسلم لا بعبادة أداها, ولا بعمل قدمه, لا يغتر بدعوته إذا رأى كثرة المستجييبن له, لا يغتر بعلمه إذا رأى كثرة الأتباع؛ لأنها -كما قال ابن عباس-: فتنة للتابع والمتبوع. فباب الغرور باب خطير, وداء عضال, وكم أرضى الشيطان طوائف من بني آدم من هذا الباب, قد يوفق -مثلا- بشيء من العلم, بشيء من الفهم, بشيء من الفصاحة؛ لكن يعود عليه ذلك وبالا؛ لأنه يغتر بما معه من العلم, يغتر بما معه من هذه العبادة, أو كذا, فنسأل الله السلامة, يدلي على الله - عز وجل - بهذا الأمر, فيصير هذا سبب لانحرافه وضلاله.
وغالبا مسألة الغرور قد تردي كثيرا بعض الذين آتاهم الله - عز وجل - أو حباهم بشيء من العلم؛ مع ذكاء في أول العمر, فلا يحكم هذا الأمر بالعلم الشرعي الصحيح, وأيضا لا يحاول أن يعقل هذا الجموح عنده بالقرب من أهل العلم, وبمطالعة سير العلماء المتقدمين, فيعود عليه هذا الشيء وبالا؛ ولهذا كارهون, هناك ممن برع في أول حياته في جانب العلم الشرعي, هناك من ألف كتاب الآن -الكتاب موجود ومتداول- لما ألفه قال بعض أهل العلم: قدم فلان مهره إلى الجنة. فعلا كتاب إذا قرأته ونظرت فيه كتبه بقلم سيال؛ لكنك تلحظ في كتاباته الأخرى جانب الاعتزاز بالنفس؛ ولهذا صارت نهاية هذا الشخص-نسأل الله السلامة- نهاية مأساوية؛ إنْ لم يتداركه الله - عز وجل - برحمته, تنكر لما كتبه في أول حياته, ورأى أن ما كتبه في أول حياته هو عين الضلال؛ علما أنه عين الحق, والسبب؟ الغرور, والاغترار بالنفس.(1/364)
وقصة الإمام أحمد مع الشيطان, لما سأله ابنه عبد الله -والقصة معروفة مشهورة- وهو في النزع, في سكرات الموت؛ لما جاءه وقال: فتني يا أحمد. وهو يقول: لا. بعد.. لا. بعد.., أراد أن يوقعه في الغرور في هذه اللحظة؛ لكن سلم الله الإمام أحمد من ذلك.
يقول: ثم في التوحيد. بمعنى: أن الشيطان يوقع هذا المتعبد في الغرور, أو في اليأس, ثم ينتقل بعد ذلك ليحاول أن يوسوس له في التوحيد, في هذا الباب الخطير -باب الاعتقاد-.
فمن أنواع هذه الوسوسة التي يوسوس بها الشيطان على هؤلاء المتعبدين يقول: من أعظم ما يوسوس في التوحيد في التشكيك. بمعنى: الشك, والاضطراب. وأمور العقائد لا تقبل الشك, أمور العقائد مبناها على أيش؟ على اليقين: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } (1) لم يشكوا, لم يترددوا. الشك والتردد ربما يقبل في المسائل العملية, قد يشك الإنسان, قد يتردد هل يجب الوضوء من أكل لحم جذور أو لا؟ ولا يؤثر هذا على دينه, قد يتردد ويشك هل المبيت ليلة مزدلفة ركن من أركان الحج أو واجب من واجبات الحج؟ لا يؤثر هذا على دينه, قد يشك هل هذا المال حرام أو حلال؟ هل هذا الطعام حلال أو حرام؟ لا يؤثر هذا على أصل دينه؛ لكن يشك هل موسى نبي أو رجل صالح؟ هذا كفر؛ إذا وصل إلى مرحلة الشك في هذا الأمر, يشك في وجود الجنة والنار أو لا؟ يشك في عذاب القبر أو لا؟ يشك في وجوب صرف العبادة لله أو لا؟ لا.
__________
(1) - سورة الحجرات آية : 15.(1/365)
هذه الأمور لا تقبل الشك, لا بد فيها من اليقين التام؛ ولهذا سمي هذا الباب: باب الاعتقاد. عقيدة, يعني: لا بد فيها من الجزم التام, مأخوذة من عَقَدَ, كقول القائل: عقدت البيع, وعقدت النكاح. أمور لا تقبل, أمور مبناها على الجزم والاستيثاق, كذلك أمور العقيدة, أمور العقيدة لا تقبل الشك والتردد. فالشيطان يأتي للإنسان من هذا الباب, يحاول أن يشككه في عقيدته, يشككه في توحيده, وهذا ما أوقع بعض من تعمق في علم الكلام؛
أوقعهم الشيطان في أيش؟ في الشك والحيرة؛ ولهذا أخذنا أمثلة في القسم الأول لبعض أساطين علماء أهل الكلام, الذين بلغوا درجة عالية في هذا العلم؛ ومع ذلك صرحوا أنهم لم يصلوا إلى اليقين الذي كانوا ينشدونه, كالرازي, الشهرستاني, الغزالي. الغزالي يقول: أكثر الناس شكاً عند الموت: أهل الكلام.
ثم يقول: أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه. بمعنى: أن التشبيه, تشبيه صفات الرب بصفات الخلق باب من أبواب وسوسة الشيطان, مما يمليه الشيطان على ابن آدم, فهذا نوع من الإلحاد.
أو بالجحد لها والتعطيل. بمعنى: أن يأتي الشيطان إلى هذا الإنسان فيوقعه: إما في التشبيه, أو في التعطيل. وكلاهما انحراف في باب الاعتقاد.
يقول: فقال بعدما ذكر حديث الوسوسة الذي جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أناساً جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله.. إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: وقد وجتموه؟ قالوا: نعم. قال: فذاك صريح الإيمان وفي رواية: الحمد لله الذي رد أمرهم إلى الوسوسة .(1/366)
يقول: فقال -بعد ذكر حديث الوسوسة-: واعلم -رحمك الله تعالى- أن كل ما توهمه قلبك. لاحظ.. أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءوا يشكون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الواحد منهم قد يختلج في قلبه وفي صدره ما إن يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به, فذكر -الآن- الشيخ -هنا- بعض هذه الوساوس التي ممكن أن يأتي الشيطان إلى الإنسان بها.
فقال: أن كل ما توهمه قلبك, أو سنح في مجاري فكرك. أي: عرض في مجاري فكرك, عرض في فكرك. أو خطر في معارضات قلبك من حسن, أو بهاء, أو ضياء, أو إشراق, أو جمال, أو شبح مائل, أو شخص متمثل. يعني: كل هذه الأمور لو جاء الشيطان ومثلها في قلبك على أن هذا هو الله, أو هذه هي صفة الله - عز وجل - يقول:
فالله تعالى بغير ذلك؛ بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر؛ ألا تسمع إلى قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) بمعنى: مهما تصورته في نفسك, مهما تمثلته في نفسك, مهما تخيلته في عقلك, فالله - عز وجل - .
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.(1/367)
قال: ومثلها في قلبك على أن هذا هو الله, أو هذه هي صفة الله - عز وجل - يقول: فالله تعالى بغير ذلك؛ بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر؛ ألا تسمع إلى قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) بمعنى: مهما تصورته في نفسك, مهما تمثلته في نفسك, مهما تخيلته في عقلك, فالله - عز وجل - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (2) لا يمكن أن يماثله شيء, وضرب شيخ الإسلام مثالا لذلك -ذكرته أنا مرارا-: موجودات الجن, وهي مخلوق من مخلوقات الله - عز وجل - أنهار الجنة الله - عز وجل - ذكر أن في الجنة لبنا وعسلا وماء وأنهارا وفاكهة. نعم. الاسم هو الاسم, العسل كعسل هو الموجود عندنا كمسمى عسل؛ لكن حقيقة هذا العسل الذي في الجنة, هل يمكن للعقل أن يتصور حقيقة ذلك؟ الجواب: لا؛ ولهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, اقرءوا إن شئتم: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } (3) يعنى: مهما تصورت حقيقة نعيم الجنة لا يمكن أن تصل إلى الحقيقة, إذا كان هذا مخلوق مع مخلوق فما الظن بأيش؟ بالخالق -سبحانه وتعالى-.
يقول: وقوله: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (4) أي: لا شبيه, ولا نظير, ولا مساو, ولا مثل. لا شبيه لله, ولا نظير بالله, ولا مثيل لله, ولا مساو لله - عز وجل - وكل هذه الأمور نفاها الله - عز وجل - عن نفسه؛ لقطع الطريق على النفس أن تصل إلى أن تتصور حقيقة الله - عز وجل - .
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.
(2) - سورة الشورى آية : 11.
(3) - سورة السجدة آية : 17.
(4) - سورة الإخلاص آية : 4.(1/368)
ثم ذكر دليلا على ذلك: أنه لا يمكن للعقل, ولا يمكن للنفوس أن تصل إلى حقيقة ذلك, بقوله: أو لم تعلم أن الله -تعالى- لما تجلى للجبل تدكدك؛ وذلك في قصة موسى -عليه السلام-, لما قال: { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } (1) إذا كان هذا الجبل بصلابته وقوته ما استطاع أن يصمد لله - عز وجل - فما الظن بهذا المخلوق؟ لا يمكن لعقل المخلوق, ولا لخيال المخلوق, أن يتصور حقيقة هذا الرب -سبحانه وتعالى-؛ لعظم هيبته, وشامخ سلطانه, فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك؛ كذلك لا توهمه أحد إلا هلك. بمعنى: لو جاء الإنسان, وأراد أن يتوهم صفات الله - عز وجل - أن يتوهم استواء الله - عز وجل - بصر الله -عز وجل-؛ لهلك, بمعنى: لأنه شبه الخالق بالمخلوق, ومن شبه الخالق بالمخلوق فقد هلك, فرد بما بين الله, يعنى: يخاطب هذا المتكلم, أو المكلم.
يقول: فرد بما بين الله في كتابه من نفيه عن نفسه التشبيه والمثل والنظير والكفء. بمعنى: إذا سنح في عقلك هذا التشبيه؛ فمباشرة ارجع إلى هذه الأدلة الصريحة النافية عن الله - عز وجل - التمثيل والتشبيه ونحو ذلك. نعم.
وجوب الإيمان بأسماء الله وصفاته كما وردت
فإن اعتصمت به, وامتنعت منه, أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب -تبارك وتعالى وتقدس- في كتابه, وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال لك: إذا كان موصوفا بكذا, أو وصفته, أوجب لك التشبيه. فأكذبه؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستذلك ويغويك ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفات الرب -تعالى-.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 143.(1/369)
فاعلم -رحمك الله تعالى-: أن الله واحد -تعالى-, لا كالآحاد, فرد صمد, لم يلد, ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد... إلى أن قال: خلصت له الأسماء السنية, فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق, لم يستحدث -تعالى- صفة كان منها خليا, أو اسما كان منه بريا -تبارك وتعالى-, فكان هاديا سيهدي, وخالقا سيخلق, ورازقا سيرزق, وغافرا سيغفر, وفاعلا سيفعل, لم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل, فهو يسمى به في جملة فعله, كذلك قال الله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (1) فمعنى: أنه سيجيء, فلم يستحدث الاسم بالمجيء, وتخلف الفعل لوقت المجيء, فهو جائي سيجيء, ويكون المجيء منه موجودا بصفة لا تلاحقه الكيفية ولا التشبيه؛ لأن ذلك فعل الربوبية, فتحصر العقول, وتنقطع النفس عن إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود, فلا تذهب في أحد الجانبين: لا معطلا, ولا مشبها.
وارض لله بما رضي به لنفسه, وقف عند خبره لنفسه مسلما مستسلما مصدقا, لا مباحثة التنفير ولا مناسبة التنقير.
نعم. على كل حال.. ستلاحظون في هذا النقل, وفي الذي يليه عن الحارث المحاسبي, وعن أبي عبد الله بن خفيف شيء من الغموض في بعض العبارات, وربما -أحيانا- عدم الترابط الواضح بين العبارات؛ وذلك أنه غلب على مثل هؤلاء العبارات الصوفية -رحمهم الله-.
يقول: فإن اعتصمت به, وامتنعت منه, أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب -تبارك وتعالى وتقدس-. بمعنى: إن سلمت من التشبيه نقلك إلى المقابل إلى التعطيل, وحاول أن يدخل عليك من هذا الباب.
__________
(1) - سورة الفجر آية : 22.(1/370)
يقول: فقال لك: إذا كان موصوفا بكذا, أو وصفته, أوجب لك التشبيه. فأكذبه. بمعنى: كما هي الحال عند المعطلة, المعطلة لماذا نفوا عن الله هذه الصفات؟ لماذا عطلوا؟ لأنهم قالوا: نخشى أننا إذا وصفنا الله بالاستواء, أو بالمجيء, أو بالنزول, أو بأن له يدين. نعم. وقعنا في التشبيه. فهذا مدخل من مداخل الشيطان, وحاول أن يوقعهم في التشبيه بادئ ذي بدء, ثم نقلهم إلى التعطيل؛ بحجة الخوف من الوقوع في التشبيه؛ ولهذا يقول: فأكذبه. بمعنى: لا تقبل منه هذا الأمر, رد إليه هذا الاعتقاد الفاسد, فأثبت لله ما يجب له من الصفات, ونزه الله - عز وجل - عن مماثلة المخلوقات, وعند ذلك تسلم من التشبيه, وتسلم من التعطيل, ويحفظك الله من وسوسة الشيطان.
يقول: فأكذبه؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستذلك, ويغويك, ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفات رب العالمين. يعني: يريد أن يوقعك في جحد ما وصف الله به نفسه.
ثم قال: فاعلم -رحمك الله تعالى-: أن الله واحد -تعالى- لا كالآحاد. بمعنى: أن نثبت له الأحدية؛ لكن تفرده بذلك ليس كتفرد المخلوق بذلك.
فرد صمد, لم يلد, ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد. يعني: لاحظ هذه الصفات لا يتصف بها المخلوق؛ وإن كان واحدا, ليس بفرد, ولا صمد, ولم يلد, ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد, هذه لا يجوز أن يوصف بها المخلوق, فدل على أن أحدية الله - عز وجل - لائقة به سبحانه, ولا تماثل أحدية المخلوق.
يقول: إلى أن قال: خلصت له الأسماء السنية. السنية: من السناء: وهو الضوء والنور؛ ولهذا قال سبحانه: { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) } (1) .
__________
(1) - سورة النور آية : 43.(1/371)
خلصت له الأسماء السنية. لا شك أن الله - عز وجل - له الأسماء الحسنى التي بلغت الغاية في الحسن والجمال. فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق -تبارك وتعالى-. واقعة في قديم الأزل, بمعنى : أن الله متسم بهذه الأسماء منذ الأزل, يعني: لم يتجرد عن هذه الأسماء في وقت من الوقات -كما سيبينه-, ثم حدثت له هذه الأسماء, لا. فالله بأسمائه وصفاته هو الأول, واضح؟ يعني: سيورد المعتزلة, ويقولون: هل الصفات قديمة أو ليست بقديمة؟ وإذا كانت قديمة والله قديم, إذن. يلزم منه تعدد القدم. هذه من الشبه الفاسدة التي يوردونها, المؤلف, أو الإمام يريد أن يرد عليهم, فيقول: فكانت واقعة في قديم الأزل, فالله بأسمائه وصفاته هو الأول. بمعنى: لا يمكن أن نتصور أن الله في وقت من الأوقات كان مجرد عن هذه الأسماء, أو مجردا عن هذه الصفات.
لم يستحدث -تعالى- صفة كان منها خليا, أو اسما كان منه بريا. بمعنى: خليا: أنه كان خال من هذه الصفة. وبريا: من برأ, يبرأ: وهو كمعنى خليا, بمعنى: أنه لم يكن متبري من هذه الأسماء, لم تكن له هذه الأسماء والصفات في وقت من الأوقات, لا. لا يمكن أن نتصور ذلك؛ بل الله, أن لا نفرق بين الصفة والموصوف في هذه المسألة, نقول: الله بأسمائه وصفاته هو الأول. فكان هاديا سيهدي, وخالقاً سيخلق, ورازقا سيرزق, وغافرا سيغفر, وفاعلا سيفعل. بمعنى: أن الله - عز وجل - متصف بهذه الصفات أزلا وأبدا؛ سواء وجد المخلوق أو لم يوجد المخلوق, فالله موصوف بأنه خالق؛ ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) } (1) وعند قوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) } (2) قال: كان ولم يزل ولا يزال. كان عليما, كان ولا يزال عليما,
__________
(1) - سورة النساء آية : 96.
(2) - سورة النساء آية : 17.(1/372)
ولم يزل, ولن يزل مستقبلا, كذلك كونه خالق رازق فهو موصوف بذلك -سبحانه وتعالى- في كل وقت؛ سواء وجد هذا الشيء أو لم يوجد هذا الشيء.
ثم قال: وفاعلا سيفعل, لم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل, فهو يسمى به في جملة فعله كذلك, قال الله تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (1) بمعنى: أنه سيجيء, فلم يستحدث الاسم بالمجيء, وتخلف الفعل لوقت المجيء, بمعنى: أن الله - عز وجل - موصوف بذلك -بالمجيء- وإن كان هذا المجيء لم يأت بعد, فقوله سبحانه: { وَجَاءَ رَبُّكَ } (2) وصف سبحانه بالمجيء؛ لتحقق وقوع هذا الأمر؛ كقوله سبحانه: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } (3) متى سيأتى؟ يوم القيامة. وعبر عنه بالفعل الماضي وهذا سائر في لغة العرب, عندما يريد الإنسان أن يعبر عن أمر متحقق, نعم. فيمكن أن يستخدم الفعل الماضي, فالله - عز وجل - لما قال: { وَجَاءَ رَبُّكَ } (4) وهو سيأتي؛ فهذا لتحقق وقوع هذا الشيء منه -سبحانه وتعالى-, فهو جاء, سيجيء, ويكون المجيء منه موجوداً بصفة لا تلاحقة الكيفية ولا التشبيه. بمعنى: أن نثبت له صفة المجيء على الوجه اللائق به سبحانه؛ لأن ذلك فعل الربوبية, فتحصر العقول, وتنقطع النفوس عن إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود. بمعنى: أن العقول مهما حاولت معرفة كيفية هذه الصفة فستعود على نفسها خاسئة أيش؟ وهي حسير. فإذا كان البصر لا يمكن أن يدرك هذه السماوات, يحيط بهذه السماوات, فكيف يمكن للعقل وللنفس أن تدرك حقيقة خالق السماوات والأرض, خالق الخلق؟!
__________
(1) - سورة الفجر آية : 22.
(2) - سورة الفجر آية : 22.
(3) - سورة النحل آية : 1.
(4) - سورة الفجر آية : 22.(1/373)
وتنقطع النفس عن إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود, فلا تذهب في أحد الجانبين: لا معطلا, ولا مشبها. بمعنى: احذر أن يوقعك الشيطان في أحد هذين الطريقين المنحرفين, في أحد هذين الضلالين: التعطيل, أو التشبيه.
لا معطلا, ولا مشبها, وارض لله بما رضي به لنفسه. بمعنى: لست أعلم بالله من الله, الله - عز وجل - أعلم بنفسه, فوصف نفسه بهذه الصفات, ونفى عن نفسه مشابهة المخلوقات.
فارض بما رضي الله لنفسه, وقف عند خبره لنفسه؛ مسلما مستسلما مصدقا بلا مباحثة التنفير. بمعنى: لا تفرق، وهذه حقيقة المؤمن.. الإيمان بهذه الأمور الغيبية, هذه هي المحك التي يتضح فيها المؤمن من الملحد, المؤمن من المخالف, أن الإنسان يقف أمام هذه النصوص -كما قال المؤلف-؛ مسلما مستسلما مصدقا بلا مباحثة التنفير. بمعنى: ألا يفرق, لا يفرق بين نصوص العبادات ونصوص العقائد, يقبل بهذه ويحرف تلك, لا يثبت لله بعض الشيء وينفي عنه بعض الشيء, يفرق بين المتماثلات؛ كما هي الحال عند المعتزلة عندما أثبتوا لله الأسماء ونفوا عنه أيش؟ الصفات, فهذا تفريق بين متماثلات, الله المتسمي بهذه الأسماء هو الموصوف بهذه الصفات, وأيضا لا تكون حاله كحال الأشاعرة الذين أثبتوا لله بعض الصفات ونفوا البعض الآخر, ففرقوا بين المتماثلات, فالذي يقتضيه العقل أن تجمع بين المتماثلات, وتفرق بين المتفرقات أو المتباينات.
ولا مناسبة التنقير. التنقير: التفتيش, والبحث في دقائق الأمور, لماذا كذا؟ ولماذا كذا؟ وكيف؟ إذا أثبتنا لله الاستواء كيف استوى؟ وإذا أثبتنا لله النزول كيف ينزل؟ ويلزم منه كذا.. نعم.
إثبات ما أثبته الله لنفسه(1/374)
إلى أن قال: فهو -تبارك وتعالى- القائل: أنا الله.. لا الشجرة, الجائي قبل أن يكون جائيا, لأمره المتجلي لأوليائه في الميعاد, فتبيض به وجوههم, وتفلج به على الجاحدين حجتهم, المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان -تبارك وتعالى-, الذي كلم موسى تكليما, وأراه من آياته, فسمع موسى كلام الله؛ لأنه قربه نجيا, تقدس أن يكون كلامه مخلوقا أو محدثا أو مربوبا, والوارث لخلقه, السميع لأصواتهم, الناظر بعينه إلى أجسادهم, يداه مبسوطتان وهما غير نعمته, خلق آدم, ونفخ فيه من روحه وهو أمره, تعالى وتقدس أن يحل بجسم, أو يمازج بجسم, أو يلاصق به -تعالى عن ذلك علوا كبيرا-, الشائي له المشيئة, العالم له العلم, الباسط يديه بالرحمة, النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا؛ ليتقرب إليه خلقه بالعبادة؛ وليرغبوا إليه بالوسيلة, القريب في قربه من حبل الوريد, البعيد في علوه من كل مكان بعيد, ولا يشفع في الناس... إلى أن قال:
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (1) القائل: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } (2) تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما في السماء -جل عن ذلك علوا كبيرا-.
ــــــــــــ
نعم. يقول: إلى أن قال: فهو -تبارك وتعالى- القائل: أنا الله.. لا الشجرة. في هذا رد على المعتزلة النافين لصفة الكلام لله - عز وجل - الزاعمين أن الله خلق الكلام في الشجرة عندما كلم موسى؛ وذلك في قوله سبحانه:
__________
(1) - سورة فاطر آية : 10.
(2) - سورة الملك آية : 16-17.(1/375)
{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) } (1) زعموا أن الله خلق الكلام في الشجرة؛ لكن يرد عليهم: بأنه لا يمكن ذلك؛ لأنه قال: إنني أنا الله.. إني أنا ربك فاخلع..، فهل يمكن للشجرة أن تقول هذا الكلام؟ لا يمكن.
إذاً.. يقول: الجائي قبل أن يكون جائيا. نعم. سبق الكلام على ذلك أنه موصوف بالمجيء. لا أمره المتجلي لأوليائه في الميعاد. بمعنى: أن الله يتجلى لعباده, وليس أمره -كما يزعم المعطلة-، المعطلة يؤولون هذا التجلي بأنه: تجلي الأمر, أو تجلي ملك من الملائكة. فتبيض به وجوههم -أي- عباده المؤمنين, وتفلج به على الجاحدين حجتهم, المستوي على عرشه بعظمة جلاله, فوق كل مكان -تبارك وتعالى-. وفي هذا رد على من نفى عن الله صفة العلو, أو قال بالحلول والاتحاد -كما هي الحال عند غلاة المتصوفة-.
الذي كلم موسى تكليما, وأراه من آياته, فسمع موسى كلام الله. بمعنى: سمعه مباشرة, سمعه بصوت, لم يخلق في الشجرة, ولم يخلق في الهواء, ولم يفهمه موسى فهما دون أن يسمع كلامه -كما قال الأشاعرة والكلابية-. يقول: لأنه قربه نجيا. يعني: ناجاه ربه -سبحانه وتعالى- وناداه. تقدس أن يكون كلامه مخلوقا أو محدثا أو مربوبا -كما يزعم المعتزلة والجهمية-.
__________
(1) - سورة القصص آية : 30.(1/376)
قوله: أو مربوبا -أي- أن يكون كلام الله مملوكا له, الرب هو المالك, وليس بصفة من صفات الله - عز وجل - فيقول: الكلام صفة لله, وليس مخلوق مملوك لله كسائر المملوكات, هذا معنى قوله: مربوبا. والوارث لخلقه؛ لقوله: { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } (1) ؛ وذلك أن الله - عز وجل - إذا أفنى العباد, ونادى: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } (2) فلا أحد يجيب, فكأنه هو الوارث لهذا الملك.
الوارث لخلقه, السميع لأصواتهم. بمعنى: إثبات السمع لله حقيقة. الناظر بعينه إلى أجسادهم. فتثبت لله - عز وجل - صفة النظر؛ لما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم أيضا إثبات العينين لله -كما ذكرنا بالأمس, وذكرنا الأدلة على ذلك-.
{ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (3) إثبات اليدين حقيقة لله - عز وجل - وهما غير النعمة؛ وذلك أن المعطلة أولوا اليدين المنسوبتين لله - عز وجل - بالنعمة, أو القدرة, فلا يجوز أن تؤول اليدان بذلك, فهل يقول عاقل: أن قول الله - عز وجل - { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (4) أي: بنعمتي, أو بقدرتي, الله - عز وجل - له قدرة.
ثم قال: خلق آدم, ونفخ فيه من روحه, وهو أمره. وهذا سبق الكلام عليه بالأمس, وقلنا: أن نسبة الروح لله - عز وجل - هذا من باب التشريف كما قال سبحانه: { نَاقَةُ اللَّهِ } (5) وبيت الله .
__________
(1) - سورة مريم آية : 40.
(2) - سورة غافر آية : 16.
(3) - سورة المائدة آية : 64.
(4) - سورة ص آية : 75.
(5) - سورة الأعراف آية : 73.(1/377)
تعالى وتقدس أن يحل بجسم, أو يمازج بجسم. وربما استدل الحلولية, واستدل النصارى بمثل هذه الآيات: { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } (1) فقالوا: فيه جزء من الإله. وقلت لكم بالأمس: أن الإمام ابن القيم رد على ذلك ردا وافيا في كتابه "الروح".
أو يلاصق به -تعالى عن ذلك علوا كبيرا-. بمعنى: أن يلاصق بهذه الأجسام, أو يمازج هذه الأجسام, أو يحل بهذه الأجسام.
الشائي له المشيئة. -أي الموصوف بالمشيئة -سبحانه وتعالى-, العالم له العلم -الموصوف بالعلم-, الباسط يديه بالرحمة, النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا؛ ليتقرب إليه خلقه بالعبادة؛ وليرغبوا إليه بالوسيلة -أي يتقربوا إليه
بأنواع القرب-, القريب في قربه من حبل الوريد. وتكلمنا على هذا -أيضا- بالأمس, قضية مسألة القرب, وهل هو عام وخاص كما هي الحال في المعية؟ وقلنا: أن الرأي الراجح الذي رجحه شيخ الإسلام: أن القرب لم يرد في الكتاب ولا في السنة إلا خاصا.
البعيد في علوه عن كل مكان بعيد. وفي هذا رد على هؤلاء الحلولية. ولا يشبه بالناس... إلى أن قال:
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (2) القائل: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } (3) تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما في السماء, جل عن ذلك علوا كبيرا. كأنه يقول: هذه الأدلة.. صريحة في إثبات أن الله عال على الخلق, وأنه لا يجوز أن يقول قائل: أنه بذاته في الأرض -كما يزعم هؤلاء الحلولية-. وبالله التوفيق.
وصلى الله على وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) - سورة الحجر آية : 29.
(2) - سورة فاطر آية : 10.
(3) - سورة الملك آية : 16-17.(1/378)
كلام الحارث المحاسبي في الصفات
عدم دخول النسخ في أسماء الله وصفاته
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
وقال الإمام أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي في كتابه المسمى "فهم القرآن", قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ: وأن النسخ لا يجوز في الأخبار. قال: لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وأسمائه وصفاته يجوز أن ينسخ منها شيء... إلى أن قال: وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا أن يخبر بعد ذلك أنها دنية سفلى, فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب, بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب, وأنه لا يبصر ما قد كان, ولا يسمع الأصوات, ولا قدرة له, ولا يتكلم, ولا الكلام كان منه, وأنه تحت الأرض لا على العرش -جل وعلا عن ذلك-.
ــــــــــــ
نعم. بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ينقل المؤلف -رحمه الله- عن الإمام أبي عبد الله الحارث به إسماعيل بن أسد المحاسبي, المتوفى سنة مائتين وثلاثة وأربعين, الإمام المشهور, وهذا الإمام قد دخل في شيء من علم الكلام, وكان يقول بقول ابن كلاب في
نفي الصفات الاختيارية عن الله, إضافة لدخوله في بعض مسائل التصوف؛ ولهذا هجره الإمام أحمد, ويقال: أنه رجع عن رأي ابن كلاب, فالله أعلم.
وقد أورد المؤلف كلامه الآتي؛ ليبين أن الحارث المحاسبي كان يثبت صفة العلو لله - عز وجل - وينفي أن يكون الله حالا في الخلق -كما يزعم الحلولية من أهل التصوف-, فإيراده لكلام الحارث المحاسبي؛ لأجل أن يرد على هؤلاء الصوفية, فيقول: هذا إمام ممن تعظمونه, وتذهبون إلى أقواله, وهو يخالفكم الرأي في هذه المسألة. يقول:(1/379)
قال في كتابه المسمى "فهم القرآن". وهذا الكتاب مطبوع, نعم. فيه بعض الغموض في بعض عباراته؛ لأن الرجل -كما قلت لكم- دخل في شيء من علم الكلام, وفي شيء من علم التصوف, فأثر هذه على عباراته, يقول: قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ, وأن النسخ لا يجوز في الأخبار, نعم. الخبر الخالص لا يجوز نسخه, لماذا؟ لأنه يستلزم الكذب؛ بخلاف الإنشاء, الأمر أو النهي, فإذا قلت لكم: حضر زيد البارحة. هذا خبر ولا إنشاء؟ خبر, ثم قلت لكم اليوم: لم يحضر زيد البارحة. نسخت كلامي السابق, فهذا يعتبر كذب, يعني: كأني كذبت في المرة الماضية, فلا يجوز نسخ الأخبار؛ بخلاف الإنشاء, إذا قلت لأحدكم: تذهب كل يوم إلى السوق, أو إلى المسجد الساعة -مثلا- الرابعة عصرا, ثم بعد مدة قلت له: لا تذهب. قال: ألم تأمرني سابقا أذهب في هذا الوقت؟ فقلت له: نسخت أمري السابق. هذا يجوز فيه النسخ, ولا يترتب عليه الكذب.
إذاً.. الأخبار الخالصة لا يجوز أن يدخلها النسخ؛ ولو دخلها النسخ لكان هذا كذبا, والله - عز وجل - منزه عن ذلك. سيأتي مناسبة ذكر هذا الكلام, أن نصوص العلو لم تنسخ, يقول الحارث المحاسبي: النصوص المثبتة لصفة العلو هي من باب الإخبار, أو من باب الإنشاء؟ من باب الإخبار, فهي خبر,لم تنسخ بالنصوص المثبتة للمعية, أو القرب, ونحو ذلك, وسيأتي الكلام -إن شاء الله-.
يقول: قال: لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وأسماءه وصفاته يجوز أن ينسخ منها شيء, لماذا؟ لماذا لا يجوز نسخ شيء من أسماء الله وصفاته وأفعاله؟ لأنها من باب الخبر, فالكلام ينقسم إلى: خبر, وإنشاء. كذلك التوحيد(1/380)
ينقسم إلى: خبر، وإنشاء. فالله - عز وجل - إذا أمرنا بإخلاص العبادة له, فهذا من باب الخبر أو من باب الإنشاء؟ من باب الإنشاء, والإنشاء: أمر, أو نهي, أو إباحة. أما الخبر: فكما يخبر عن نفسه, وكما يخبر عن أسمائه وصفاته, وكما يخبر عن اليوم الآخر, وكما يخبر عن أحوال الأمم السابقة, والرسل السابقين, هذا كله من باب الخبر.
فيقول: إذا مدح الله نفسه بأسمائه وصفاته فلا يجوز أن ينسخ من ذلك شيء. لا يجوز أن يثبت له -سبحانه وتعالى- السمع, ثم يأتي فيما بعد وينسخ هذا الأمر, وينفي عنه صفة السمع, لماذا؟ لأنه من باب الخبر, فلو نسخ ذلك لكان هذا كذبا, والله منزه عن الكذب. كذلك إذا أخبر أنه يتكلم, فلا يجوز أن يأتي فيما بعد خبر آخر وينسخ هذا الخبر المتقدم؛ بخلاف الأوامر, فنحن نلاحظ أن الله - عز وجل - أمر ببعض الأمور في أول الإسلام, ثم نسخها في الآخر, واضح؟
يقول: إلى أن قال: وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا أن يخبر بعد ذلك أنها دنية سفلى, فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب. بمعنى: أن هذا كله من باب الخبر, ولا يدخله النسخ, وأنه لا يبصر ما قد كان, ولا يسمع الأصوات, ولا قدرة له, ولا يتكلم, ولا الكلام كان منه, وأنه تحت الأرض لا على العرش -جل وعلا عن ذلك-. سيوضح هذا الكلام في الأسطر القادمة. نعم.
نفي استئناف علمه تعالى(1/381)
فإذا عرفت ذلك واستيقنته, وعلمت ما يجوز عليه النسخ, وما لا يجوز, فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون: { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ } (1) وقال تعالى: { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ } (2) وقال: قد تأول قوم أن الله تعالى عنى أن ينجيه ببدنه من النار؛ إذ قد آمن عند الغرق, وقالوا: إنما ذكر الله قوم فرعون يدخلون النار دونه, وقال: { فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } (3) وقال: { وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) } (4) ولم يقل بفرعون, وقال: وهكذا الكذب على الله؛ لأن الله تعالى يقول: { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) } (5) وكذلك قوله تعالى: { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } (6) فأقر التلاوة على استئناف العلم من الله - عز وجل - عن أن يستأنف علما بشيء؛ لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر عليه أن يصنعه نجده ضرورة.
ــــــــــــ
نعم. يقول: فإذا عرفت ذلك واستيقنته. بمعنى: عرفت أن النسخ لا يدخل باب الأخبار. عملت ما يجوز عليه النسخ, وما لا يجوز, فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره؛ كقوله عن فرعون.
__________
(1) - سورة يونس آية : 90.
(2) - سورة محمد آية : 31.
(3) - سورة هود آية : 98.
(4) - سورة غافر آية : 45.
(5) - سورة النازعات آية : 25.
(6) - سورة العنكبوت آية : 3.(1/382)
قول الله - عز وجل - وإخباره عن فرعون هو من باب الإخبار: { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ } (1) وقال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ } (2) هذا سيأتي الكلام عليه, بدأ الكلام على الآية الأولى, قال: وقد تأول قوم أن الله تعالى عنى أن ينجيه ببدنه من النار؛ إذ قد آمن. هناك آيات ذكرت أن فرعون كفر, وأنه ادعى الربوبية, نعم. كالآية -مثلا- التي أوردها المؤلف: { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) } (3) فهل يقول قائل: إن هذه الآيات منسوخة بقوله سبحانه: { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ } (4) ؟ الجهمية, أو غلاة المرجئة, أو حتى المرجئة بعضهم يزعم أن فرعون مؤمن, وقالوا: أن الله - عز وجل - توعد آل فرعون, ولم يتوعد فرعون, وألف ابن كمال باشا في هذا رسالة مستقلة؛ في إيمان فرعون, المؤلف يقول: لا يمكن أن يحصل النسخ في أخبار الله - عز وجل - وهذه الآيات التي ذكرها هؤلاء: { فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } (5) { وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) } (6) لا يدل على أن فرعون آمن, وأنه نجا من العذاب, أما قوله سبحانه: { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } (7) ذكر ابن كثير أن بني إسرائيل شكوا في موت فرعون, يعني: شككوا في حقيقة وفاة فرعون, فأراد الله - عز وجل - أن يبين لهم حقيقة هذا الأمر, فأخرج لهم أو أمر البحر أن يقذف بجسد فرعون دون روحه, روحه خلاص, توفي, هلك, أما إيمانه في هذه اللحظة فالله - عز وجل - أخبره -أخبر في سورة يونس- أنه لا ينفعه هذا الإيمان, إذن.. ليس هناك نسخ في هذا الخبر.
__________
(1) - سورة يونس آية : 90.
(2) - سورة محمد آية : 31.
(3) - سورة النازعات آية : 25.
(4) - سورة يونس آية : 90.
(5) - سورة هود آية : 98.
(6) - سورة غافر آية : 45.
(7) - سورة يونس آية : 92.(1/383)
ثم قال: وكذلك قوله تعالى. هذا هو الشاهد, ما يتعلق بصفات الله - عز وجل - يعني: الشاهد من إيراد المؤلف لكلام الحارث المحاسبي, يقول: وكذلك قوله تعالى: { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } (1) فأقر التلاوة على استئناف العلم من الله - عز وجل - عن أن يستأنف علما بشيء. الكلام الذي سيأتي الآن, سيأتي بعد أسطر ستلاحظون فيه شيء من صعوبة العبارة, وهذه من عبارات المتكلمين, وهذا مما وقع فيه الحارث المحاسبي -عفا الله عنا وعنه-. الآن ظاهر الآية: { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا } (2) الحارث يقول: أن ظاهر الآية يدل على أن علم الله - عز وجل - مستأنف, بمعنى: أنه لم يكن عالما في الوقت الماضي, { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ } (3) مستقبلا { الَّذِينَ صَدَقُوا } (4) ؛ ولهذا جاء تكملة العبارة في "فهم القرآن": فظاهر التلاوة على استئناف العلم من الله بجهاد المجاهدين, وصدق الصادقين, وكذب الكاذبين, وجل الله أن يستأنف علما بشيء. بمعنى: الحارث يقول: يستحيل, ولا يمكن أن يكون الله عالما بشيء قد جهله سابقا, وقد أخبر في آيات أخرى أنه عالم بكل شيء, عالم بما مضى وما سيأتي, إذن.. لا يمكن أن يكون هناك نسخ, إذن.. ما تأويل هذه الآية؟ ما معنى هذه الآية؟ يقول: لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر عليه أن يصنعه نجده ضرورة. يقول: الله - عز وجل - متصف بالعلم السابق, ولا يمكن أن يخلق أو يوجد شيئا إلا وقد سبق به علمه؛ لأن الشيء المجهول, الشيء الذي تجهله أنت -ولله المثل الأعلى- لا يمكن أن تصنعه, أو توجده, الآن هل يمكن للإنسان أن يؤلف كتابا متناسق المعاني, مترابط الألفاظ وهو لا يجيد
__________
(1) - سورة العنكبوت آية : 3.
(2) - سورة العنكبوت آية : 3.
(3) - سورة العنكبوت آية : 3.
(4) - سورة العنكبوت آية : 3.(1/384)
الكتابة, ولا يعرف الكتابة؟ هل يمكن؟ إذن.. لا بد أن يسبق ذلك العلم بالشيء المكتوب, ثم يكتبه الإنسان, والله - عز وجل - أجل وأعلم, فعلمه ليس مستأنف -هنا-, يعني: ليس أنه علم بشيء لم يكن عالما به سبحانه, نعم.
بيان معنى قوله تعالى: حتى نعلم المجاهدين
قال: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } (1) قال: وإنما قوله: { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ } (2) إنما يريد حتى نراه, فيكون معلوما موجودا؛ لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوما من قبل أن يكون, ويعلمه موجودا كان قد كان, فيعلم في وقت واحد معدوما موجودا؛ وإن لم يكن, وهذا محال.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة الملك آية : 14.
(2) - سورة محمد آية : 31.(1/385)
نعم. يقول: فقول الله - عز وجل - { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } (1) هذا رد على هذا الوهم الفاسد, هذا الوهم الذي يتوهمه أو ربما يتوهمه بعض الناس أن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وجوده, يقول: الله - عز وجل - يرد عليه بقوله: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } (2) لا يمكن أن يخلق وهو لا يعلم هذا الشيء, إذن.. علمه سبحانه سبق الخلق. طيب, إذن.. ما معنى قوله: { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ } (3) المؤلف فسرها, أو الحارث المحاسبي فسرها بقوله: إنما يريد حتى نرى. وهذا هو الذي فسره ابن عباس -رضي الله عنه-؛ وذلك أن العلم يتعلق بالشيء المعدوم والشيء الموجود, فأنا -الآن- أعلم أن غدا -بإذن الله- سنجتمع في هذا المسجد, هذا -الآن- موجود في علمي, وإذا اجتمعنا بالغد فهذا علم, نعم. علم بشيء محسوس وهو الشيء الواحد؛ بخلاف الرؤية, الرؤية لا تكون إلا في الشيء الموجود ليس في الشيء المعدوم؛ ولهذا لم يقل الله - عز وجل - حتى نرى المجاهدين منكم؛ لو قال: حتى نرى المجاهدين؛ لتعلق هذا الأمر فقط بالشيء الموجود المحسوس؛ لكن لما قال: { حَتَّى نَعْلَمَ
__________
(1) - سورة الملك آية : 14.
(2) - سورة الملك آية : 14.
(3) - سورة محمد آية : 31.(1/386)
الْمُجَاهِدِينَ } (1) دل هذا على أن علم الله كان في الشيء المعدوم قبل أن يوجد, وبالشيء الموجود إذا وجد, نعم. يقول: نعم. إنما يريد حتى نرى, بمعنى: حتى نعلم المجاهدين -أي- حتى نرى فعلا صدق هؤلاء المجاهدين؛ حتى يظهر صدق هؤلاء, يتبين أن هؤلاء هم المجاهدون حقا, وأن أولئك هم المنافقون؛ وإلا فالله - عز وجل - سبق علمه بذلك؛ ولهذا ابن جرير فسرها بتفسير آخر, قال: { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ } (2) حتى يعلم أوليائي المجاهدين. الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل غزوة أحد, هل ظهر له المنافقون؟ ها. الجواب: لا. لما دعاهم إلى الخروج لغزوة أحد نكص عبد الله بن أبي بثلث الجيش, فظهر أهل النفاق للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه, فابن جرير فسره بهذا التفسير { حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ } (3) أي: حتى يعلم أوليائي، ويعلم عباد الله المؤمنين المجاهدين حقا ويعلم المنافقين.
__________
(1) - سورة محمد آية : 31.
(2) - سورة محمد آية : 31.
(3) - سورة محمد آية : 31.(1/387)
يقول: فيكون معلوما موجودا؛ لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوما من قبل أن يكون ويعلمه موجودا كان قد كان, فيعلم في وقت واحد معدوما موجودا؛ وإن لم يكن, وهذا محال. يعني: يستحيل أن يعلم الله - عز وجل - الشيء الواحد في آن واحد معدوم موجود؛ لأنه جمع بين النقيضين, إذن.. علمه الله - عز وجل - معدوما, ثم لما وجد علمه موجودا, ولا يعني هذا أن الله علم بالشيء بعد أن لم يكن عالما به -سبحانه وتعالى-, نعم. على كل.. هذه من المحارات نرى الإخوان ربما يعني ثقل عليهم فهم مثل هذا الكلام, هذه من الأمور التي أنكرها الإمام أحمد على الحارث المحاسبي, دخوله في مثل هذه المباحث العقلية الصرفة التي الأصل أن المسلم في غنى عنها حقيقة؛ ولو كان المسلم بحاجة لمثل هذا العلم لبين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا العلم, وأعرض عنه الصحابة, دل على أن الدخول في هذا العلم لا فائدة فيه؛ لكن لما ابتلي المسلمون بمن دخل في هذا العلم, وجاءوا إلى الناس بهذه البدع, وهذه المحدثات, اضطر أهل العلم أن يردوا عليهم، نعم.
الله تعالى لا يستحدث سمعا أو بصرا محدثا
وذكر كلاما في هذا في الإرادة إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: { إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) } (1) ليس معناه: أن يحدث له سمعا, ولا تكلف لسمع ما كان من قولهم, وقد ذهب قوم من أهل السنة أن لله استماعا حادثا في ذاته, فذهبوا إلى أن ما يعقل من الخلق أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقد فهم عما أدركته أذنه من الصوت, وكذلك قوله: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } (2) لا يستحدث بصرا محدثا في ذاته؛ وإنما يحدث الشيء فيراه مكونا كما لم ينزل, يعلم قبل كونه.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة الشعراء آية : 15.
(2) - سورة التوبة آية : 105.(1/388)
نعم. هذه العبارات.. عبارات مستحدثة, قضية هل سمع الله - عز وجل - هل بصر الله - عز وجل - يستلزم من إثباته حلول الحوادث لله -عز وجل-؟ وهل الله محل الحوادث؟ كل هذا الكلام من بدع أهل الكلام, فنحن نثبت لله السمع, ونثبت لله البصر, ونثبت لله العلم, ونثبت لله الرؤية على الوجه اللائق به -سبحانه وتعالى-, ولا يلزم من ذلك أن يكون الله محلا للحوادث؛ ولهذا.. الإعراض عن مثل هذه العبارات هو الأولى, فهو الآن يحاول أن يقرر أن إثبات السمع, وإثبات البصر, وإثبات الرؤية لله - عز وجل - لا يلزم منها أن يحدث ذلك شيء في ذات الله -عز وجل-؛ بخلاف المخلوق؛ ولهذا قال: إلى أن قال: ما يعقل من المخلوق أنه يحدث منهم علم استماع لما كان من قوله؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقد فهم... إلى آخر هذا الكلام, الشاهد: أن هذه من المسائل التي أنكرها السلف -رحمهم الله-, وقالوا: هذه مسائل لم يتكلم الله - عز وجل - بها, ولم يتكلم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يتكلم بها الصحابة, فالأولى.. الإعراض عنها, ومن أطلقها على الله ابتداء دخلنا معه في الاستفسار عن مراده؛ ولهذا لا نطيل الكلام
في هذه الأسطر, ومن كان عنده إشكال أنا موجود في أي وقت أشرح له نفس العبارة؛ لكن ما بودي أن ندخل في تفصيل هذه العبارات؛ ربما بعض الإخوان يصعب عليهم فهمها, وأيضا يضيع علينا الوقت في أمر أهم من ذلك, نعم. الشاهد من إيراد المؤلف في النقل عن الحارث المحاسبي: هذه الأسطر القادمة, شيخ الإسلام أورد هذا النقل عن الحارث المحاسبي؛ لأجل هذه الأسطر القادمة, نعم.
عدم نسخ صفة العلو(1/389)
إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } (1) وقوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (2) وقوله: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (3) وقوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (4) وقال تعالى: { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } (5) وقال تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } (6) وقال لعيسى: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } (7) وقال تعالى: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } (8) وقال { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } (9) وذكر الآلهة, أن لو كانوا آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا, إلى طلبه حيث هو
حيث: الله - عز وجل - يعني: الله - عز وجل - فوق العرش؛ لو كان هؤلاء آلهة لراموا الوصول إلى العرش, إلى الله - عز وجل - .
فقال: { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) } (10) وقال تعالى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) } (11) قال أبو عبد الله: فلن ينسخ ذلك أبدا. كذلك قول.
ـــــــــــــــ
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 18.
(2) - سورة طه آية : 5.
(3) - سورة الملك آية : 16.
(4) - سورة فاطر آية : 10.
(5) - سورة السجدة آية : 5.
(6) - سورة المعارج آية : 4.
(7) - سورة آل عمران آية : 55.
(8) - سورة النساء آية : 158.
(9) - سورة الأعراف آية : 206.
(10) - سورة الإسراء آية : 42.
(11) - سورة الأعلى آية : 1.(1/390)
نعم. هذا هو الشاهد من إيراد المؤلف, هذه النصوص التي أثبت بها الحارث المحاسبي صفة العلو لله - عز وجل - حقيقة, وهذه النصوص مرت معنا سابقا: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } (1) { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (2) { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (3) هذه نصوص صريحة في إثبات صفة العلو لله - عز وجل - وهذه من الأدلة الدالة على إثبات علو الله - عز وجل - علو الذات, وعلو القدر, وعلو القهر, جميع أنواع العلو ثابتة له -سبحانه وتعالى- بهذه الأدلة, يقول الحارث: فلن ينسخ ذلك أبدا؛ لأنه من باب أيش؟ الخبر, الله أخبر عن نفسه أنه عال عن الخلق, فلا يمكن أن ينسخ. طيب, الآيات اللي الآن سيوردها المؤلف هل يمكن أن تنسخ ما سبق؟ لا. نعم.
إثبات العلو لا يتعارض مع النصوص الدالة على القرب ونحوه
كذلك قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (4) وقوله تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } (5) وقوله تعالى: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } (6) وقوله تعالى: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } (7) فليس هذا بناسخ لهذا, ولا هذا ضد لذلك.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 18.
(2) - سورة طه آية : 5.
(3) - سورة فاطر آية : 10.
(4) - سورة الزخرف آية : 84.
(5) - سورة ق آية : 16.
(6) - سورة الأنعام آية : 3.
(7) - سورة المجادلة آية : 7.(1/391)
نعم. هذه النصوص الأخيرة التي: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (1) وقوله سبحانه: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } (2) وقوله جل وعز: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } (3) وقوله تعالى: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } (4) الآيات, أو الآية. هذه الآيات ليست بناسخة لآيات ماذا؟ العلو السالفة الذكر التي -الآن- أوردها, وليست بضد, يعني: ليس هناك تعارض ولا نسخ, إذن.. ما معنى قوله سبحانه: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ } (5)
؟ أحسنت. وهو المعبود في السماء, المعبود في الأرض؛ لأن معنى: "إلاه": من أله, يأله, فهو مألوه. إلاه على وزن فعال, والعرب تأتي باللفظ الذي على وزن فعال ويكون معناه على وزن مفعول, إلاه -أي- مألوه, معبود, مثال ذلك: "ركاب" الذي يوضع على ظهر الجمل, على وزن فعال, ومعناه: مركوب, فمعنى الآية: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (6) أي: المعبود المدعو في السماوات وفي الأرض. قد استدل الحلولية بهذه الآية وأمثالها على أن الله حال في كل مكان, وهذا استدلال باطل؛ أولا: لأن ظاهر الآية لا يدل على هذا المعنى الفاسد. الأمر الثاني: أنه لو حملناه على هذا المعنى لأبطلنا أيش؟ عشرات؛ بل مئات الأدلة الدالة على علو الله - عز وجل - على خلقه.
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 84.
(2) - سورة ق آية : 16.
(3) - سورة الأنعام آية : 3.
(4) - سورة المجادلة آية : 7.
(5) - سورة الزخرف آية : 84.
(6) - سورة الزخرف آية : 84.(1/392)
وقوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } (1) هذا تقدم الكلام عليها مرارا, أن القرب -هنا- قرب الملائكة؛ ولعل الحارث المحاسبي يميل -أيضا- إلى أن القرب في هذه الآية قرب الرب -سبحانه وتعالى-.
وقوله تعالى: { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } (2) أيضا كقوله: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ } (3) بمعنى: أن الله هو المعبود في السماوات وفي الأرض, نعم. وأما قوله: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } (4) هذه مسألة المعية, وسيتكلم عليها المؤلف استقلالا في نهاية الكتاب, فنرجئ الكلام عليها هنا, نعم.
نفي حلول الله تعالى بشيء من خلقه أو اتحاده به
واعلم أن هذه الآيات ليس معناها: أن الله أراد الكون بذاته, فيكون في أسفل الأشياء, أو ينتقل فيها لاستفالها, ويتبعض فيها على قدرها, ويزول عنها عند فنائها -جل وعز عن ذلك-. وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال, فزعموا أن الله تعالى في كل شيء بنفسه كائنا كما هو في العرش, ولا فرق بين ذلك عندهم, ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأن كل من نثبت شيئا في المانع ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه, واحتجوا بهذه الآيات, أن الله -تعالى- في كل شيء بنفسه كائنا, ثم نفوا معنى ما أثبتوه, فقالوا: لا كالشيء في الشيء.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة ق آية : 16.
(2) - سورة الأنعام آية : 3.
(3) - سورة الزخرف آية : 84.
(4) - سورة المجادلة آية : 7.(1/393)
نعم. يقول: فهذه الآيات ليس معناها كما ذهب إليه الحلولية: أن الله أراد بها أن ذاته في أسفل الأشياء -تعالى الله عن ذلك-, أو أنه يتنقل فيها لاستفالها, بمعنى: إذا انتقلت من أعلى إلى أسفل فهو ينتقل؛ لأنه حال فيها, أو يتبعض, بمعنى: أن هؤلاء, أو هذه المخلوقات أبعاض, فهو يتبعض بأبعاضها -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-, ويتبعض فيها على أقدارها, ويزول عنها عند فنائها, بمعنى: أنها إذا فنيت انتقل منها إلى شيء آخر -جل وعز-, وقد نزغ بذلك بعض أهل الضلال. المراد بهم: حلولية الجهمية, والصوفية كما جاء ذلك في "فصوص ابن عربي", و"فتوحاته المكية", وممن ذهب إلى ذلك -أيضا-: ابن سبعين, والحلاج, وغيرهم من أرباب أهل الحلول والاتحاد؛ ولهذا يروى عن بعضهم أنه قال: ما في الجبة إلا أنا, وما في الجبة إلا الله -تعالى الله عن ذلك-. والتفت أحدهم إلى تلاميذه, وقال: لا إله إلا أنا.. فاعبدون. -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-؛ لأنه يزعم أن الله حال في ذاته؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام: ليس هناك ثمة كفر أعظم من هذا الكفر, ولا إلحاد أعظم من هذا الإلحاد؛ لأن هذا الكلام, أو هذا الاعتقاد يلزم عليه.. أنه ليس هناك ثمة شرك على وجه الأرض, فكل ما عبد من دون الله فهو عبادة لله على حد قول هؤلاء, فالذين عبدوا العجل قالوا: ما عبدوا إلا الله, الذين عبدوا الأصنام, الذين عبدوا
عزير, الذين عبدوا المسيح, الذين عبدوا الأشجار, والذين عبدوا الأحجار, وأي شرك أعظم من هذا الشرك؟ وأي كفر أعظم من هذا الكفر؟ يقول: وقد نزغ بذلك بعض أهل الضلال فزعموا أن الله -تعالى- في كل شيء بنفسه كائنا كما هو في العرش. يزعمون أن الله فوق العرش وفي كل مكان, في هذا المسجد, في السوق, في السيارة -كما سيأتي-؛ حتى في الحشوش -تعالى الله عن ذلك-.(1/394)
يقول: ولا فرق بين ذلك عندهم. يعنى: ما فيه فرق, كونه فوق العرش, أو في أسفل الأشياء. ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه, بمعنى: أنهم أرادوا أن يلبسوا على الناس, فقالوا: أن الله في كل شيء؛ لكن ليس كالشيء في الشيء, أيش الكلام ده؟ من كان في الشيء فهو مثل هذا الشيء؛ ولهذا قال: أحالوه بألفاظهم. يعني: أرادوا أن يدفعوا أو يلبسوا على الناس بأقوالهم؛ لكن معنى كلامهم يؤدي إلى هذا الشيء الفاسد؛ لأن كل من يثبت شيئا في المعنى, ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه؛ لأن المقصود والمراد المعنى ولا اللفظ؟ المعنى الذي يؤدي إليه هذا اللفظ.
يقول: واحتجوا بهذه الآيات -أي- احتجوا على حلول الله - عز وجل - في خلقه بهذه الآيات السابقة, أن الله تعالى في كل شيء بنفسه -أي- بذاته -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- كائنا, ثم نفوا معنى ما أثبتوا, فقالوا: لا كالشيء في الشيء؛ ولهذا قال في "فهم القرآن": فأحالوا, يعني: هذا أمر محال, لا يمكن, إذا أثبت أن الشي في الشيء فقد جعلت هذا الشيء كهذا الشيء ولا لا؟ ولهذا قال: لأن ما كان في الأشياء فهو كالشيء, وإن نفوه بألسنتهم. نعم.
بيان معنى قوله: حتى نعلم، وقوله: فسيرى الله
أما قوله: { حَتَّى نَعْلَمَ } (1) و { فَسَيَرَى اللَّهُ } (2) و { إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) } (3) فإنما معناه: حتى يكون الموجود فيعلمه موجودا, ويسمعه مسموعا, ويبصره مبصرا, لا على استحداث علم, ولا سمع, ولا بصر.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة محمد آية : 31.
(2) - سورة التوبة آية : 105.
(3) - سورة الشعراء آية : 15.(1/395)
نعم. وهذا الأولى ترك مثل هذه المسائل, هل الله - عز وجل - يستحدث بصر, أو لا يستحدث بصر؟ نحن نعتقد كما جاء النص, أن الله يسمع, ويرى, ويعلم ما كان وما يكون, نعم. إذا وجدت الأشياء رآها, وإذا تكلم المتكلم, أو حدثت الأصوات سمعها -سبحانه وتعالى-, كيف يسمعها؟ وكيف يراها؟ وكيف يعلمها؟ ها, ماذا نقول؟ الله أعلم. نثبت ولا نكيف, قضية يحدث أو لا يحدث هذا أمره إلى الله, والله - عز وجل - منزه عن مشابهة المخلوقين, إذا كان رؤية المخلوق للشيء, وسماع المخلوق للشيء يحدث له هذا الأمر شيء جديد هذا بالنسبة للمخلوق, أما الله - عز وجل - فسمعه, ورؤيته, وعلمه لائق به -سبحانه وتعالى- على الوجه الذي أراد, نعم.
إثبات أن الله - عز وجل - على عرشه بائن من خلقه(1/396)
وأما قوله تعالى: { وَإِذَا أَرَدْنَا } (1) إذا جاء وقت الكون المراد فيه, وأما قوله: { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (2) { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } (3) { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } (4) { إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) } (5) فهذا وغيره مثل قوله: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } (6) { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (7) هذا منقطع, يوجب أنه فوق العرش, فوق الأشياء كلها, منزه عن الدخول في خلقه, لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أن ذاته بنفسه فوق عباده؛ لأنه قال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (8) يعني: فوق العرش, والعرش فوق السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء, وقد قال مثل ذلك, قال: { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ } (9) يعني: على الأرض, لا يريد الدخول في جوفها, وكذلك قوله: { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } (10) يعني: فوقها, عليها.
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 16.
(2) - سورة طه آية : 5.
(3) - سورة الأنعام آية : 18.
(4) - سورة الملك آية : 16.
(5) - سورة الإسراء آية : 42.
(6) - سورة المعارج آية : 4.
(7) - سورة فاطر آية : 10.
(8) - سورة الملك آية : 16.
(9) - سورة التوبة آية : 2.
(10) - سورة طه آية : 71.(1/397)
نعم. إذاً.. هذه الآيات التي ذكرها الحارث المحاسبي على العرش: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } (1) { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (2) كلها أدلة صريحة في إثبات أن الله عال بذاته على خلقه؛ ولهذا قال: يوجب أنه فوق العرش, فوق الأشياء كلها, منزه عن الدخول في خلقه, لا يخفى عليه منهم خافية. نعم. هو عال عن الخلق؛ لكنه مطلع عليهم, عالم بهم -سبحانه وتعالى-؛ لأنه أبان في هذه الآيات أن ذاته بنفسه فوق عباده. وهذا تصريح من الحارث المحاسبي -رحمه الله- أن الله بذاته, عال على خلقه؛ خلافا لحلولية الصوفية, ومن نحا نحوهم؛ لأنه قال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (3) يعني: فوق العرش, { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (4) أي: على السماء, على العرش؛ لأن الله - عز وجل - أخبر أنه مستو على العرش, والعرش فوق السماء؛ لأنه من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء, وقد قال مثل ذلك. هو يبين أن معنى "في" -هنا- لا تدل على أن الله داخل السماوات, كما توهمه بعض أهل البدع -وتكلمنا على هذا سابقا-, أن قول الله - عز وجل - { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (5) معناها: أأمنتم من على السماء, واضح؟ أو أأمنتم من في العلو. اللغة العربية لا تقتضي غير هذين المعنيين في هذه الآية.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 18.
(2) - سورة الملك آية : 16.
(3) - سورة الملك آية : 16.
(4) - سورة الملك آية : 16.
(5) - سورة الملك آية : 16.(1/398)
وضرب على ذلك أمثلة, كقوله تعالى: { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ } (1) يعني: على الأرض, ومنه -أيضا- قوله الله -سبحانه تعالى-: { يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ } (2) أي: يتيهون على الأرض, وكذلك قوله: { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } (3) يعني: فوقها, عليها. نعم.
دلالة قوله: "أأمنتم من في السماء..." على ذلك العلو
وقال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (4) ثم فصل فقال: { أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } (5) ولم يصل, فلم يكن لذلك معنى؛ إذ فصل بقوله: { مَنْ فِي السَّمَاءِ } (6) ثم استأنف التخويف بالخسف؛ إلا أنه على عرشه فوق السماء.
ــــــــــــ
ولهذا.. يعني: لو كان في السماء والأرض لما كان لتمييز كونه في السماء -هنا- فائدة: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } (7) بمعنى: أن الأرض شيء, والسماء شيء آخر, والله - عز وجل - على السماء؛ ولهذا هو يهدد ويخوف العباد أن يخسف بهم الأرض, نعم.
دلالة قوله: "..ثم يعرج إليه" على ذلك العلو
__________
(1) - سورة التوبة آية : 2.
(2) - سورة المائدة آية : 26.
(3) - سورة طه آية : 71.
(4) - سورة الملك آية : 16.
(5) - سورة الملك آية : 16.
(6) - سورة الملك آية : 16.
(7) - سورة الملك آية : 16.(1/399)
وقال تعالى: { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } (1) وقال: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } (2) فبين عروج الأمر, وعروج الملائكة, ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إلية, فقال: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) } (3) فقال: صعودها إليه, وفصله من قوله: إليه, كقول القائل: اصعد إلى فلان في ليلة أو يوم؛ وذلك أنه في العلو, أن صعودك إليه في يوم, فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله - عز وجل - وإن كانوا لم يروه, ولم يساووه في الارتفاع في علوه؛ فإنهم صعدوا من الأرض, وعرجوا بالأمر إلى العلو, قال الله تعالى: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } (4) ولم يكن عنده.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة السجدة آية : 5.
(2) - سورة المعارج آية : 4.
(3) - سورة المعارج آية : 4.
(4) - سورة النساء آية : 158.(1/400)
نعم. { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ } (1) وقوله: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } (2) دليل على أن هناك انفصال, الروح، الملائكة، المخلوقات منفصلة عن الله -عز وجل-؛ ولو كانت -كما يزعم هؤلاء- أن الله حال فيها, إذن.. يصعدون لمن؟ الله يصعد لنفسه؟ يعرج لنفسه؟ واضح ولا ما هو واضح؟ فكونه خص هؤلاء بالصعود والعروج إليه دل على أن المخلوقات منفصلة عنه -سبحانه وتعالى-, ليس بحال فيها, إذن.. عندنا شيء يعرج, وشيء يصعد, وشيء يصعد إليه ويعرج إليه, الله - عز وجل - هو الذي يصعد إليه, ويعرج اليه, فلو كان أو لم يكن ثم إلا الله لم يكن هناك صاعد ولا مصعود إليه, واضح ولا ما هو واضح؟ ولهذا يقول: وضح ذلك.. وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه, فقال: { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) } (3) ومثل لذلك بقول القائل: اصعد إلى فلان في ليلة أو يوم, بمعنى: يبين أن هناك انفصال, ومباينة تامة بين الخالق والمخلوق.
يقول: وأما كون هؤلاء, أو هذه الأشياء صعدت إلى الله - عز وجل - فهذا لا يلزم منه أن يكونوا ساووا الله - عز وجل - في علوه, أو رأوه -سبحانه وتعالى-؛ لأنه -كما سيأتي, وكما سبق- أن الله احتجب في هذه الدنيا عن الخلق, لا يمكن أن يراه مخلوق في الدنيا. يقول: نعم. قال تعالى: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } (4) إذن.. عندنا شيء مرفوع, وشيء مرفوع إليه, الله - عز وجل - هو الذي رفع عيسى إليه, إذن.. ليس هناك ثم حال ولا محلول فيه -سبحانه وتعالى-.
__________
(1) - سورة السجدة آية : 5.
(2) - سورة المعارج آية : 4.
(3) - سورة المعارج آية : 4.
(4) - سورة النساء آية : 158.(1/401)
يقول: ولم يقل عنده. جاءت في بعض الروايات تثبت أن بعض المخلوقات عند الله - عز وجل - كما جاء في حديث: إن الله كتب في كتاب عنده أن رحمتي سبقت غضبي وجاء في قول الله - عز وجل - { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ } (1) يعني: الملائكة, واستدل أهل العلم بهذه النصوص على إثبات صفة العلو لله -عز وجل-؛ إذ لو لم يكن عال على الخلق لما خص هذه المخلوقات بالعندية, واضح؟ لو كانت المخلوقات كلها سواء عند الله - عز وجل - على قول الحلولية, فهل يكون لتخصيص هذه المخلوقات وجه؟ الجواب: لا. لكن لا يلزم من كون هذه المخلوقات عند الله - عز وجل - أن تكون مساوية له -سبحانه وتعالى- في علوه. نعم.
دلالة قوله: "ابن لي صرحا..." على ذلك العلو
وقال تعالى: { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } (2) ثم استأنف الكلام فقال: { وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } (3) فيما قال لي أن إلهه فوق السماوات, فبين الله سبحانه أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال, وعمد لطلبه؛ حيث قال هو من الظن بموسى أنه كاذب؛ ولو أن موسى قال: إنه في كل مكان بذاته؛ لطلبه في بيته أو بدنه أو حشه.
ــــــــــــ
يعني: موضع قضاء الحاجة -تعالى الله عن ذلك-؛ لأن أصل الحش: البستان. وأطلق على مكان قضاء الحاجة الحش؛ لأنهم سابقا لم يكن عندهم أماكن مخصصة لذلك في البيوت التي تسمى سابقا الكنف, وفي الوقت الحاضر الحمامات, كانوا يقضون الحاجة في البساتين, فأطلق على مكان قضاء الحاجة: حش.
ولو أن موسى قال: إنه في كل مكان بذاته؛ لطلبه في بيته أو بدنه أو حشه -فتعالى الله عن ذلك-, ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 206.
(2) - سورة غافر آية : 36-37.
(3) - سورة غافر آية : 37.(1/402)
نعم. هذه الآية الصريحة في إثبات علو الله - عز وجل - وأن موسى أخبر فرعون أن ربه فوق السماوات؛ وإلا لما رام فرعون طلوع السماوات, والصعود إلى السماوات ليطلع إلى إله موسى؛ لو أن موسى أخبره أن الله في كل مكان؛ لبحث عنه في هذه الأماكن؛ لكن لما قال: { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } (1) فهم من ذلك أن موسى أخبره أن ربه فوق السماوات, نعم.
نفي دلالة آية المعية على الحلول
قال أبو عبد الله: وأما الآية التي يزعمون أنها قد وصلها ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه, فقال: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (2) فأخبره بالعلم, ثم أخبر أنه مع كل مناج, ثم ختم الآية بالعلم بقوله: { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) } (3) فبدأ بالعلم, وختم بالعلم, فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا لا يخفون عليه, ولا يخفى عليه مناجاتهم؛ ولو اجتمع القوم في أسفل ونظر إليهم في العلو فقال: إني لم أزل أركم, وأعلم مناجاتكم؛ لكان صادقا -ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق-, فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة, وقالوا: هذا منكم دعوى. خرجوا عن قولهم: في ظاهر التلاوة؛ لأن من هو مع الاثنين أو أكثر هو معهم لا فيهم, ومن كان مع الشيء فقد خلا منه جسمه, وهذا خروج من قولهم.
ــــــــــــ
نعم. هذه الآية التي هي آية المعية, أو هي العمدة في مسألة معية الله - عز وجل - لخلقه, وهذا سيتكلم عنها المؤلف استقلالا؛ لكن لا بأس الإشارة إليها -هنا- باختصار.
__________
(1) - سورة غافر آية : 36-37.
(2) - سورة المجادلة آية : 7.
(3) - سورة الأنفال آية : 75.(1/403)
يقول: فإن استدلوا بهذه الآية -آية المجادلة-: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } (1) استدلوا بظاهر هذه الآية على أن
الله حال في الخلق. المؤلف, أو الحارث المحاسبي رد عليهم, قال: لا. الله معنا بالعلم؛ ولهذا بدأ بالعلم { أَلَمْ تَعْلَمْ } (2) { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (3) وختم بالعلم: { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } (4) فدل على أن المعية -هنا- معية العلم. وهذا ما أجاب به الإمام أحمد لما سأله سائل عن هذه الآية, قال: اقرأ أول الآية وآخر الآية, ويتضح لك معنى الآية, بدأها بالعلم وختمها بالعلم. وكذلك قبل الإمام أحمد الإمام مالك -رحمه الله- ذكر أن كون هذه الآية بدأت بالعلم وختمت بالعلم فدل على أن المعية -هنا- معية العلم, وسيأتي -إن شاء الله- أدلة عقلية, وإن أشار إليها -هنا- الحارث المحاسبي, أو أدلة حسية تدل على أن المعية -هنا- معية العلم.
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 7.
(2) - سورة البقرة آية : 106.
(3) - سورة المجادلة آية : 7.
(4) - سورة المجادلة آية : 7.(1/404)
يقول: فإن قالوا: هذا منكم دعوى. يعني: لا نقبل منكم تفسير المعية -هنا- بمعية العلم؛ بل لا بد أن نحمل الآية على ظاهرها, ونقول: أن الله معنا حقيقة بذاته. يقول: خرجوا عن قولهم: في ظاهر التلاوة. يعني: هذا فيه نقض -أيضا- لمذهبهم؛ حتى لو سلمنا لكم جدلا أن الله معنا بذاته فهذا لا يدل على مذهبكم, ولا على اعتقادكم, لماذا؟ لأنهم ذهبوا أن الله أيش؟ حال في كل شيء, وكون الشيء مع الشيء هذا يدل على أنه ليس حال فيه, إذن.. هذه الآية -أيضا- ترد عليكم, وتنقض مذهبكم. يقول: لأن من هو مع الاثنين أو أكثر هو معهم لا فيهم. هم مذهبهم: أن الله حال في الخلق -تعالى الله عن ذلك-, فهذه الآية -أيضا- تنقض مذهبهم؛ لأنه معهم ليس فيهم.
يقول: ومن كان مع الشيء فقد خلا منه جسمه. كون هذا الجهاز معي هذا يدل على أنه ليس في, واضح؟ فكون الله -ولله المثل الأعلى- مع الخلق, مع الاثنين والثلاثة والأربعة فهذا يدل -لو سلمنا لكم جدلا- على أن الله مع هؤلاء وليس فيهم, فلا يدل على ما ذهبتم إليه, وهذا خروج من قولهم. نعم.
نفي دلالة قوله: "ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" على الحلول
وكذلك قوله تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } (1) ؛ لأن ما قرب من الشيء ليس هو في الشيء, ففي ظاهر التلاوة على دعواهم أنه ليس في حبل الوريد.
ــــــــــــ
نعم. لو قالوا -أيضا- على قول من قال: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } (2) أن القرب -هنا- قرب الله - عز وجل - لو قالوا: نريد -أيضا- أن نستدل بهذه الآية, ونحملها على ظاهرها. قال المؤلف, أو قال الحارث المحاسبي: هذه الآية -أيضا- لا تدل على مذهبكم؛ وذلك أن كون الشيء قرب الشيء لا يدل على أنه فيه. نعم.
__________
(1) - سورة ق آية : 16.
(2) - سورة ق آية : 16.(1/405)
نفي دلالة قوله: "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله" على الحلول
وكذلك قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (1) لم يقل: في السماء ثم قطع, كما قال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (2) ثم قطع فقال: { أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } (3) فقال: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (4) إله أهل السماء وإله أهل الأرض؛ وذلك موجود في اللغة, تقول: فلان أمير في خراسان, وأمير في بلخ, وأمير في سمرقند؛ وإنما هو في موضع واحد, ويخفى عليه ما وراءه, فكيف العالي فوق الأشياء لا يخفى عليه شيء من الأشياء يدبره؟! فهو إله فيهما إذا كان مدبرا لهما, وهو على عرشه فوق كل شيء -تعالى عن الأمثال-.
ــــــــــــ
نعم. كذلك رجع للكلام على آية: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } (5) يرد على هؤلاء الحلولية الذين استدلوا بهذه الآية على أن الله حال في كل شيء, فقال: معناها: إله أهل السماء, وإله أهل الأرض. وهذا محسوس, تقول: فلان أمير هذه البلد, وأمير هذه البلد, وأمير هذه البلد, وهو في مكان واحد, ويخفى عليه ما وراء هذه البلاد, نعم. فكيف بالله - عز وجل - العالي على خلقه, المطلع عليهم, العالم بأحوالهم -سبحانه وتعالى-؟!
إذاً.. فلا دلالة في هذه الآية على مذهب الحلولية, وبهذا نأخذ أن الحارث المحاسبي -رحمه الله- يقرر ويصرح بإثبات صفة العلو؛ خلافا لحلولية الصوفية, ومن نحا نحوهم, أو اعتقد مذهبهم؛ لعلنا نقف على نهاية النقل عن الحارث المحاسبي. وبالله التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) - سورة الزخرف آية : 84.
(2) - سورة الملك آية : 16.
(3) - سورة الملك آية : 16.
(4) - سورة الزخرف آية : 84.
(5) - سورة الزخرف آية : 84.(1/406)
حقيقة.. أخذ علينا الكلام السابق شيئا من الطول؛ لعل الكلام اللاحق يكون فيه يسر وسهولة في العبارات؛ مما يساعد -إن شاء الله- أن نقطع مرحلة أكثر مما مضى. والله أعلم.
كلام الإمام محمد بن خفيف في الأسماء والصفات
بيان أن الصحابة لم يختلفوا في ذلك
وَقَالَ اَلْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ كتابه الذي سماه اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات. قال في آخر خطبته: فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله - عز وجل - ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه؛ قولا واحدا، وشرعا ظاهرا.
وهم الذين نقلوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك حين قال: عليكم بسنتي ؛ وذكر الحديث. وحديث: لعن الله من أحدث حدثا، أو آوى محدثا .
وقال: كانت كلمة الصحابة على اتفاق من غير اختلاف، وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم؛ إذ لم يختلفوا -بحمد الله تعالى- في أحكام التوحيد، وأصول الدين من الأسماء والصفات؛ كما اختلفوا في الفروع.
ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنقل إلينا كما نقل سائر الاختلاف؛ فاستقرت صحة ذلك عن خاصتهم وعامتهم؛ حتى أدوا إلى التابعين لهم بإحسان؛ فاستقرت صحة ذلك عند العلماء المعروفين؛ حتى نقلوا ذلك قرنا بعد قرن؛ لأن الاختلاف كان في الأصل عندهم كفر. ولله المنة.
ــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ينقل شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- عن الإمام أبي عبد الله محمد بن الخطيب الضبي الفارسي؛ المتوفى سنة ثلاثمائة وإحدى وسبعين، وهو من الأئمة الذين ينتسب إليهم الصوفية ويعظمونه؛ فقد عرف بالعبادة، وله مؤلفات كثيرة.(1/407)
يقول في كتابه الذي سماه (اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات)؛ هذا الكتاب لا يزال مفقودا- يقول: قال: في آخر خطبته: فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله - عز وجل - ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه -أي: في القضاء والقدر- قولا واحدا، وشرعا ظاهرا.
وهم الذين نقلوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ أي نقلوا عنه هذه المسائل؛ حتى قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وذلك في حديث العرباض بن سارية الصحيح الذي رواه الأئمة الأربعة وأحمد، وابن أبي عاصم، والدارمي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وغيرهم.
وذكر الحديث؛ الحديث عليكم بسنتي ثم قال: وحديث لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا وهذا الحديث في الصحيحين. وقال: فكانت كلمة الصحابة على اتفاق من غير اختلاف، وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم.
الشاهد أنه في هذه الأسطر يقرر أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يختلفوا في هذه الأبواب؛ باب الأسماء، وباب الصفات، وباب القضاء والقدر؛ كما اختلفوا في مسائل الأحكام.
وقد أشار الإمام ابن القيم -رحمه الله- في (أعلام الموقعين) إلى ذلك؛ فقال: وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام؛ أي: في المسائل العملية، في المسائل الفرعية. وهذا معروف، ودواوين السنة مليئة بذلك.
يقول: وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيمانا. ولكن -بحمد الله- لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال؛ بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم. إلى آخر ما قال.(1/408)
وذكر في أول ( مختصر الصواعق ) كلاما نحوا من ذلك. فقد ذكر أن الصحابة والتابعين اتفقوا على إقرار آيات الصفات وأخبارها، وإمرارها مع فهم معانيها، وإثبات حقائقها. ولم ينقل عنهم أنهم تنازعوا في ذلك في موضع واحد؛ مع اختلافهم في كثير من الأحكام.
يقول: وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانا؛ بمعنى: هناك نصوص في الأحكام، ونصوص في الأسماء والصفات، وما يتعلق بالقضاء والقدر؛ فيقول: نصوص الأسماء والصفات والقضاء والقدر أعظم بيان؛ لأنهم لم يتنازعوا في ذلك كما تنازعوا في أيش؟! في نصوص الأحكام.
يقول: وهذا يدل على أنها أعظم النوعين بيانا، وأن العناية ببيانها أهم؛ لأنها من تمام تحقيق الشهادتين. وآيات الأحكام لا يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس. آيات الأحكام ونصوص الأحكام غالبا لا يتكلم فيها إلا أهل العلم.
ثم قال: وأما آيات الصفات فيشترك في فهمها الخاص والعام؛ ولهذا أشكل على بعض الصحابة قوله تعالى: { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ } (1) وهذا معروف. ولم يشكل عليه وعلى غيره قوله سبحانه { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } (2) ؛ فدل على أن آيات الصفات، وآيات الأسماء، وآيات القضاء والقدر- كانت مفهومة لدى الجميع. وقد اتفق عليها جميع الصحابة؛ فلم ينقل عن أحد أنه خالف في ذلك بخلاف نصوص الأحكام نعم.
بيان سبب خروج أهل الفرق عن ما كان عليه الصحابة
__________
(1) - سورة البقرة آية : 187.
(2) - سورة البقرة آية : 186.(1/409)
ثم إني قائل -وبالله أقول-: إنه لما أحدثوا في أحكام التوحيد، وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين من الصحابة والتابعين؛ فخاض في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار، ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار؛ فصار معولهم على أحكامها، وهجس النفوس المستخرجة من سوء الطوية ما وافق على مخالفة السنة، والتعلق منه بآيات لم يسعدهم فيها؛ فتأولوا على أهوائهم، وصححوا بذلك مذاهبهم؛ احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين، ومأخذ المؤمنين منهاج المؤولين؛ خوفا من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، ومنع المستجيبين له؛ حتى حذرهم.
ثم ذكر أبو عبد الله خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يتنازعون في القدر وغضبه وحديث: لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته وحديث ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وأن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه.
ــــــــــــ
نعم. ذكر أنه حدث بعد زمن الصحابة -في القرون المفضلة- أن ظهرت هذه الفرق التي نظرت في هذه النصوص بعقولها، ولهذا لم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار؛ بمعنى لم يستندوا في ذلك لنصوص الوحيين، بل صار معولهم على أحكام هواجس النفوس المستخرجة من سوء الطوية.
بمعنى صار عمدتهم -معولهم أي: عمدتهم- فقط على عقولهم، على أقيستهم، على اجتهاداتهم؛ فخالفوا السنة، وخالفوا النصوص بذلك؛ ولهذا تأولوا نصوص الوحيين التي لم توافق عقولهم. تأولوا نصوص القرآن، ونصوص السنة، وصححوا بذلك مذاهبهم.
يقول: لما خرجت هذه الطائفة، أو خرج هذا النوع من الناس؛ احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين؛ أي: عن منهج الصحابة، ومنهج التابعين في هذه المسائل التي خاض فيها أولئك بعقولهم -هؤلاء المبتدعة-؛ خوفا من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، ومنع المستجيبين له حتى حذرهم.(1/410)
ثم ذكر خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يتنازعون في القدر. وذلك ما ثبت عند ابن ماجة، والإمام أحمد، واللالكائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب؛ فقال: بهذا أمرتم؟! ولهذا خلقتم؟! تضربون القرآن بعضه ببعض؟!! بهذا هلكت الأمم قبلكم ثم ذكر حديثا أيضا: لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته؛ يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري. ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه .
وهذا الحديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والإمام أحمد، وصححه جمع من العلماء. ومعناه أنه سيأتي أناس من هذه الأمة؛ من يرد أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ويزعم أنه لا يقبل إلا بالقرآن، وهذا وقع من هؤلاء؛ فإنهم ردوا أكثر أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة في باب الاعتقاد؛ بحجة أنها أيش؟!! أنها من باب الآحاد. ولا يقبلون خبر الآحاد في باب الاعتقاد.
ثم ذكر وقال: وحديث ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة وهذا ثبت عن ابن عمر وغيره، كما في السنن الأربع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر افتراق الأمم: افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافتراق النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، قال: وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة. قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي نعم.
النجاة منوطة بمعرفة منهج الصحابة
ثم قال: فلزم الأمة قاطبة معرفة ما كان عليه الصحابة، ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة التابعين لهم بإحسان المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة. فيتصل ذلك قرنا بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة، والأمانة الحافظين على الأمة ما لهم وما عليهم من إثبات السنة.
ــــــــــــ(1/411)
نعم. يقول: لما ذكر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أن الفرقة الناجية التي ستنجو من عذاب الله - عز وجل - من بين ثلاث وسبعين فرقة؛ أنها هي التي تكون على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ قال: فلزم الأمة قاطبة معرفة ما كان عليه الصحابة.
لماذا؟ لأن النجاة منوط بأيش؟! بمنهج هؤلاء، بطريقة هؤلاء، بمذهب هؤلاء. فيلزم الأمة أن يعرفوا مذهب هؤلاء؛ ليلحقوا بهذا الركب؛ ليسلموا من عذاب الله - عز وجل - . ولا طريق لمعرفة ما كان عليه الصحابة إلا عن طريق من؟ إلا عن طريق التابعين؛ لأنهم هم الذين نقلوا عن الصحابة هذا الأمر.
ممن لا يقبل المذاهب المحدثة؛ فيتصل ذلك قرنا بعد قرن. وهذا مما ميز الله - عز وجل - هذه الأمة به؛ أن خصها بأيش؟ بالإسلام. وهذا لا يوجد في جميع الأمم سوى هذه الأمة؛ أن شرعها، أن دينها منقول بالإسناد؛ بمعنى أن كل طائفة تسمع هذا الشرع وهذا الدين من الطائفة التي قبلها، وتبلغه لمن بعدها، إلى أن يصل إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
إلى أن دونت السنة، ودونت الآثار، ممن عرفوا بالعدالة والأمانة الحافظين على الأمة مالهم وما عليهم من إثبات السنة. لا شك أن نقلة هذا الدين إلينا هم هؤلاء العدول الأخيار؛ ولهذا وجد ما عرف بعلم (الإسناد)، وبعلم (الجرح والتعديل)، وبعلم (المصطلح) لتمحيص الصحيح من الضعيف، السليم من السقيم.
ولهذا ينقلون لنا أحيانا الاختلاف في كلمة، في اللفظ؛ علما أن المعنى واحد، لكن لدقة النقل، ولشدة عنايتهم بهذا الأمر أنهم ينقلون لنا أحيانا اختلاف الألفاظ التي ليس بينها اختلاف في المعنى؛ فيقولون: رواه فلان عن فلان عن فلان بهذا اللفظ، ورواه فلان عن فلان عن فلان بهذا اللفظ نعم.
أسماء الله وصفاته لا ترد إلى أحكام العقول(1/412)
إلى أن قال: فأول ما نبتدي به مما أوردنا هذه المسألة من أجلها ذكر أسماء الله - عز وجل - وصفاته، مما ذكر الله في كتابه، وما بين - صلى الله عليه وسلم - من صفاته في سنته، وما وصف به - عز وجل - نفسه، مما سنذكر قول القائلين بذلك، مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك، مما قد أمرنا بالاستسلام له.
ــــــــــــ
نعم. يقول: أول ما سنبتدئ بنقله وذكره؛ مما نقل عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل القرون الأولى صفات الله - عز وجل - التي لا مجال للعقل فيها، ولا يجوز أن ندخل فيها بالتكييف أو التشبيه، وإنما المعول في ذلك على ورود النص نعم.
قبول ما وصف الله به نفسه كقبول أوائل التوحيد
إلى أن قال: ثم إن الله تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية وإقرار الألوهية؛ ذكر تعالى في كتابه بعد التحقيق بما بدا به من أسمائه وصفاته، وأكد عليه السلام بقوله فقبلوا منه؛ كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قول: لا إله إلا الله.
ــــــــــــ
إلى أن تم أن الله - عز وجل - جاءنا في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإثبات الوحدانية له، والنهي عن الشرك؛ كذلك جاءنا بأسمائه وصفاته؛ ولهذا قبل الصحابة -رضي الله عنهم- من النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأخبار التي جاءت في الأسماء والصفات، كما قبلوا تلك الأخبار التي جاءت في إثبات الوحدانية، والنهي عن الشرك نعم.
إثبات صفة النفس(1/413)
إلى أن قال: بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل؛ فقال لموسى عليه السلام: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) } (1) وقال: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } (2) ولصحة ذلك واستقراره ناجى المسيح -عليه السلام- فقال: { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } (3) وأكد -عليه السلام- صحة إثبات ذلك في سنته؛ فقال: يقول الله - عز وجل - من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي .
وقال - صلى الله عليه وسلم - كتب كتابا بيده على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي وقال: سبحان الله رضا نفسه وقال في محاجة آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه وقد صح بظاهر قوله: أنه أثبت لنفسه نفسا، وأثبت له الرسول ذلك؛ فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر الله به عن نفسه؛ ويكون ذلك مبنيا على ظاهر قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (4) .
ــــــــــــ
نعم. ابتدأ بإثبات صفة النفس لله - عز وجل - وهذا سبقت الإشارة إلى أن هذا محل خلاف بين أهل العلم؛ منهم من يثبت هذه الصفة على أنها صفة زائدة على الذات، ويستدل بهذه النصوص التي استدل بها
المؤلف هنا؛ قول الله - عز وجل - { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) } (5) { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } (6) و { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } (7) .
__________
(1) - سورة طه آية : 41.
(2) - سورة آل عمران آية : 28.
(3) - سورة المائدة آية : 116.
(4) - سورة الشورى آية : 11.
(5) - سورة طه آية: 41.
(6) - سورة آل عمران: 28.
(7) - سورة المائدة آية : 116.(1/414)
وحديث يقول الله - عز وجل - من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي والحديث في الصحيحين. وحديث كتب كتابا بيده على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي وهذا أيضا في صحيح مسلم وحديث سبحان الله رضا نفسه وهذا أيضا في صحيح مسلم. وقال في محاجة آدم وموسى: أنت الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه وهذا في الصحيحين.
فاستدل بهذه النصوص على إثبات صفة النفس لله - عز وجل - . وممن قال بهذا ابن خزيمة -رحمه الله-، والإمام أبو حنيفة، وغيرهم. لكن شيخ الإسلام ذكر أن رأي الجمهور هو أن النفس هنا المقصود بها الذات؛ ولهذا قال -رحمه الله- في موضع آخر: فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس لما ذكر النصوص التي جاءت بذكر النفس؛ قال-: فهذه المواضع المراد فيها بلفظ النفس- عند جمهور العلماء- الله نفسه التي هي ذاته المتصفة بصفاته؛ ليس المراد بها ذاتا منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة للذات.
ثم ذكر قال: وطائفة من الناس يجعلونها من باب الصفات، كما يظن طائفة أنها الذات المجردة عن الصفات، وكلا القولين خطأ. وعلى كل حال من أثبتها لله على أنها صفة؛ فيثبتها كما ذكرها؛ كما
ذكر أبو عبد الله بن خفيف؛ يثبتها كسائر الصفات؛ بمعنى يثبت لله نفسا لا تشبه سائر النفوس على حد قول الله - عز وجل - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) نعم.
إثبات صفة النور
__________
(1) -سورة الشورى آية : 11.(1/415)
ثم قال: فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه -عليه السلام- بنقل العدل عن العدل، حتى يتصل به عليه السلام. وأن مما قص الله علينا في كتابه، ووصف به نفسه، ووردت السنة بصحة ذلك أن قال: { * اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (1) ثم قال: عقيب ذلك: { نُورٌ عَلَى نُورٍ } (2) وبذلك دعاه - صلى الله عليه وسلم - أنت نور السماوات والأرض " .
ثم ذكر حديث أبي موسى " حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " وقال: " سبحات وجهه جلاله ونوره " ؛ نقله عن الخليل وأبي عبيد. وقال: قال عبد الله بن مسعود: نور السماوات من نور وجهه.
ـــــــــــــــ
نعم. يقول: ثم قال: فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه -عليه السلام- بنقل العدل عن العدل؛ بمعنى يجب على الأمة إذا ثبت هذا النص نعم أن يقبلوه، ويثبتوا المعنى الذي تضمنه هذا النص؛ بغض النظر عن كون هؤلاء النقلة جماعة، أو واحدا، أو ثلاثة، أو أربعة؛ لأن المعول في ذلك على صحة النقل.
فإذا صح النقل وجب قبوله؛ سواء في مسائل الأحكام، أو في مسائل الاعتقاد؛ فالصحابة -رضي الله عنهم- ما كانوا يفرقون بين هذا ولا ذاك؛ بل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رسله إلى الأمم يبلغونهم دين الله آحادا ولا جماعات؟ آحادا.
أرسل إلى اليمن معاذا وعليا، وأرسل إلى هرقل، وأرسل إلى كسرى، وأرسل إلى ملك مصر؛ أشخاصا أفرادا؛ يبلغونهم دين الله عز وجل؛ فدل على وجوب قبول خبر الآحاد في أمور العقيدة، وفي أمور الأحكام.
__________
(1) - سورة النور: 35.
(2) - سورة النور آية : 35.(1/416)
والله - عز وجل - قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } (1) فأمر بالتبين إذا كان الناقل فاسقا. فالمفهوم إذا كان الناقل عدلا؛ فيجب قبول خبره من غير تثبت.
ثم ذكر أن مما جاء في كتاب الله، ووردت به السنة إثبات صفة النور، وقلنا: إن النور من أسماء الله - عز وجل - وهي صفة له ثابتة سبحانه وتعالى، واستدل على ذلك بقوله سبحانه: { * اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (2) .
وأيضا استدل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت نور السماوات والأرض وهذا في الصحيحين. وأيضا استدل بحديث أبي موسى المتقدم: حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وهذا الحديث في صحيح مسلم. وقال: " سبحات وجهه " هذا هو الشاهد؛ جلاله ونوره، نقله عن الخليل؛ أي: الخليل بن أحمد، وأبي عبيد القاسم بن سلام، صاحب " غريب الحديث "، و"غريب القرآن"، و"تأويل مختلف الحديث".
يقول: وقال: عبد الله بن مسعود" نور السماوات من نور وجهه" وذلك في الأثر الذي رواه عنه ابن جرير، وابن منده وغيرهم. أنه قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار؛ إنما نور السماوات من نور وجهه. نعم وقد رد ابن القيم -رحمه الله- من أربعة عشر وجها في كتابه "مختصر الصواعق" على من أول هذا الاسم- وهذه الصفة- الذي هو النور نعم.
إثبات صفات الحياة والقيومية والوجه
ثم قال: مما ورد به النص أنه حي، وذكر قوله تعالى: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (3) والحديث: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث قال: ومما تعرف الله إلى عباده أن وصف نفسه أن له وجها موصوفا بالجلال والإكرام، فأثبت لنفسه وجها، وذكر الآيات.
__________
(1) - سورة الحجرات آية : 6.
(2) - سورة النور آية : 35.
(3) - سورة البقرة آية : 255.(1/417)
ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم؛ فقال: في هذا الحديث من أوصاف الله - عز وجل - (لا ينام)، موافق لظاهر الكتاب { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } (1) وأن له وجها موصوفا بالأنوار، وأن له بصرا. كما أعلمنا في كتابه أنه سميع بصير. ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه، وفي إثبات السمع والبصر، والآيات الدالة على ذلك.
ثم قال: ثم إن الله تعرف إلى عباده المؤمنين، وأنه قال: له يدان قد بسطهما بالرحمة، وذكر الأحاديث في ذلك. ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت، ثم ذكر حديث يلقى في النار، وتقول: هل من مزيد حتى يضع فيها رجله.. وهي رواية البخاري، وفي رواية أخرى: يضع عليها قدمه .
ــــــــــــ
نعم هذه النصوص التي أوردها لإثبات هذه الصفات: صفة الحياة، وصفة القيومية، وأيضا إثبات صفة الوجه. واستدل على ذلك بحديث أبي موسى الآنف الذكر حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه
يقول: وفي هذا الحديث -أيضا- إثبات صفة الوجه، وإثبات صفة النور، وإثبات أن الله لا ينام؛ وأن هذا الحديث موافق لظاهر الكتاب في قوله تعالى: { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } (2) وأن له وجها موصوفا بالأنوار.
وقد أثبت أهل السنة والجماعة هذه الصفة لله - عز وجل - على ظاهرها؛ على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى؛ بخلاف المعطلة الذين أولوا الوجه. منهم من أول الوجه الوارد في هذه النصوص بالذات، ومنهم من أولها بالوجود، ومنهم من أولها بالرضا والثواب. وقد رد عليهم ابن القيم، أو أبطل هذه التأويلات من ستة وعشرين وجها في كتابه "مختصر الصواعق".
__________
(1) - سورة البقرة آية : 255.
(2) - سورة البقرة آية : 255.(1/418)
ثم ذكر أيضا أن له بصرا؛ أي موصوفا بالبصر؛ كما أعلمنا في كتابه أنه سميع بصير. وأيضا ذكر أن له يدين قد بسطهما بالرحمة. وهذا تقدم الكلام عليه في أول الكتاب. يقول: وذكر الأحاديث الدالة على إثبات صفة اليدين لله - عز وجل - . ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت، وقد تقدم أيضا الذي من شعره:
ربنا أمسى في السماء كبيرا وسوى فوق السماء سريرا مجدوا الله فهو للمجد أهل بالبنا الأعلى الذي سبق الناس
وأمية بن أبي الصلت -هذا- أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقال: إنه أراد أن يسلم، لكن لما علم بمقتل عتبة وربيعة أبناء شيبة -وهما أبناء خاله- نكث على عقبيه -نسأل الله السلامة-. لكن شعره كان مليئا بتعظيم الله - عز وجل - وتقديس الله عز وجل؛ ولهذا قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - آمن شعره، وكفر قلبه وفي الحديث الآخر: كاد أمية أن يسلم .
ولهذا كان يسأل بعض الصحابة أن يسمعه شيئا من شعر أمية بن أبي الصلت. نعم، وذكر حديث يلقى في النار وتقول: هل من مزيد حتى يضع فيها رجله هذه رواية البخاري. ورواية مسلم يضع عليها قدمه فأهل السنة يثبتون لله القدم على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى استنادا لهذا النص نعم.
إثبات صفة القدمين
ثم ما رواه مسلم البطين عن ابن عباس أن الكرسي موضع القدمين، وأن العرش لا يقدر قدره إلا الله. وذكر قول مسلم البطين نفسه، وقول السدي، وقول وهب بن منبه، وأبى مالك. وبعضهم يقول: موضع قدميه، وبعضهم يقول: واضعا رجليه عليه. ثم قال: فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة؛ موافقا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - متداولا في الأقوال، ومحفوظا في الصدور، لا ينكره خلف عن سلف.(1/419)
ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم. نقلتها الخاصة والعامة مدونة في كتبهم؛ إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم؛ ممن حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مجالستهم، ومكالمتهم، وأمرنا ألا نعود مرضاهم، ولا نشيع جنائزهم.
فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه، وعمدوا إلى الأخبار؛ فعملوا في دفعها على أحكام المقاييس، وكفَّروا المتقدمين، وأنكروا على الصحابة، وردوا على الأمة الراشدين؛ فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل. ثم ذكر المأثور عن ابن عباس وجوابه لنجدة الحروري.
ــــــــــــ
نعم. ذكر بعد ذلك المؤلف للاستدلال على إثبات صفة القدمين لله - عز وجل - بالآثار الثابتة عن ابن عباس، ومسلم البطين نفسه، والسدي المتوفى سنة مائة وسبع وعشرين، ووهب بن منبه المتوفى سنة مائة وعشرة، وأبي مالك غزوان الغفاري؛ كلهم يدور كلامهم حول كون الكرسي موضع القدمين. ثم قال: فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة.
وقبل أن أنتقل إلى الأسطر التي تليها؛ هذه الآثار هي من باب الإخبار عن الله - عز وجل - وقال العلما: هذا مما لا يسوغ الاجتهاد فيه. ولهذا لما ذكر هؤلاء هذه الآثار أن الكرسي موضع القدمين؛ فإنهم بنوا هذا على ما سمعوه، أو ما نقل لهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن هذا لا يسوغ فيه الاجتهاد.
جاء في حديث عن ابن عباس أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكرسي؛ فقال: موضع القدمين لكن الحديث فيه ضعف، وإنما الصحيح الموقوف على ابن عباس؛ لكن نحن نقول: إن هذا مما لا يسوغ الاجتهاد فيه؛ لأنه من باب الإخبار عن الله - عز وجل - والإخبار عن الله متوقف على ورود النص.(1/420)
ثم قال: فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة موافقا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - . هذا الحديث الذي ذكرته لكم أن الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره أحد؛ لأنه لم يرفعه إلا شجاع بن مخلد، وقد خطأه العلماء في روايته هذه. قالوا: الصحيح أنه موقوف على ابن عباس.
يقول: متداولا في الأقوال، ومحفوظا في الصدور، لا ينكره خلف عن سلف، ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم. بمعنى أن الأئمة والتابعين نقلوا هذه النصوص عن الصحابة، ولم ينكروا هذه النصوص، ولم يتحرجوا من روايتها، ولم يتحرجوا من معناها. نقلتها الخاصة والعامة؛ بمعنى أن هذه النصوص نقلها العلماء، ونقلها العامة؛ نقلة الحديث.
لا يلزم من ناقل الحديث أن يكون عالما؛ فليس كل نقلة هذه الأخبار من العلماء؛ ومع ذلك نقلوها دون أدنى تحرج، مدونة في كتبهم؛ إلى أن حدث في آخر هذه الأمة من قلل الله عددهم؛ أي من هؤلاء؛ من أهل البدع. وقد ظهروا -أو بان ظهورهم- بعد انقضاء القرون المفضلة ممن حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مجالستهم، ومكالمتهم، وأمرنا ألا نعود مرضاهم، ولا نشيع جنائزهم.
وهذا جاء في أحاديث مرفوعة عند أبي داود، وابن ماجة، وابن أبي عاصم في "السنة"، والآجري في "الشريعة". وكلها تدور حول القدرية؛ لكن ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله- ذكر أن المرفوع من هذه الأحاديث لا يصح، وإنما الصحيح ما ورد موقوفا عن الصحابة كابن عمر وغيره. لكن الشيخ ناصر الألباني -رحمه الله- استدرك على ابن أبي العز ذلك، وذكر أن هذه الأحاديث بمجموع طرقها ترتقي إلى درجة الصحة.(1/421)
يقول: فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه؛ بمعنى: زعموا أن ظاهرها أيش يدل؟ على التشبيه. وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها على أحكام المقاييس؛ بمعنى عرضوا هذه النصوص على مقاييس عقولهم؛ فما وافق عقولهم قبلوه، وما خالف عقولهم ردوه؛ متأولين، أو محرفين، أو رادين هذا النص جملة وتفصيلا. وكفَّروا المتقدمين، وأنكروا على الصحابة، وردوا على الأئمة الراشدين؛ فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.
نعم. ثم ذكر المأثور عن ابن عباس وجوابه لنجدة الحروري. نجدة ابن عامر الحنفي؛ زعيم فرقة النجدات من الخوارج؛ الذي قتل سنة تسعة وستين. كانت هذه الفرقة ضمن فرقة الأزارقة؛ لكن نجدة ظهر على فرقة الأزارقة، وخالفهم في بعض المسائل، وتبعه على ذلك بعض الخوارج؛ فظهرت هذه الفرقة التي تسمى النجدات.
نجدة الحروري جاء يناظر ابن عباس. وأصل هذه المناظرة ثابت في صحيح مسلم؛ فقد قال له -قال لابن عباس-: كيف معرفتك بربك؛ لأن من قبلنا اختلفوا علينا؟ فقال له ابن عباس: إن من ينصب دينه للقياس لا يزال الدهر في التباس، مائلا عن المنهاج طاعنا في الاعوجاج. أعرفه بما عرف به نفسه؛ أي: أعرف الله - عز وجل - بما عرف به نفسه من غير روية؛ أي: من غير تردد، وأصفه بما وصف نفسه إلى آخر ما ذكر نعم.
حديث: إن الله خلق آدم على صورته
ثم ذكر حديث الصورة، وَذَكَرَ أَنَّهُ صَنَّفَ فِيهِ كِتَاباً مُفْرَداً، وَاخْتِلَافِ اَلنَّاسِ فِي تَأْوِيلِهِ. ثم قال:
ــــــــــــ
نعم. حديث الصورة من الأحاديث -أو من النصوص- التي جرى الاختلاف في معناه. وحديث الصورة هو ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورته هذه الرواية التي في الصحيحين.(1/422)
وهناك رواية أخرى عن ابن عمر رواها عبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة" والدارقطني، وابن أبي عاصم، وابن خزيمة، وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقبحوا الوجه؛ فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن .
ابن خزيمة -رحمه الله- ضعف هذه الرواية؛ ولهذا أول الرواية التي قبلها إن الله خلق آدم على صورته قال: الضمير يعود في ذلك على المضروب؛ خلق آدم على صورة هذا المضروب. وأما الرواية التي فيها التصريح بالرحمن؛ فذهب إلى أن هذه الرواية ضعيفة، لكن الأئمة تعقبوا ابن خزيمة -رحمه الله-.
أولا: في تضعيف هذه الرواية؛ فأثبتوا أن الرواية ثابتة من طريق صحيح، ثم تعقبوه في تأويل هذا الحديث. ولهذا نقل شيخ الإسلام عن أبي الحسن محمد بن عبد الملك الشافعي أنه قال في كتابه" الفصول في الأصول ": فأما تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة فغير مقبول، وإن صدر ذلك التأويل عن إمام معروف غير مجهول؛ نحو ما ينسب إلى أبي بكر محمد بن خزيمة تأويل الحديث: خلق آدم على صورته .
ونقل أيضا عن أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي؛ صاحب كتاب " الترغيب والترهيب " قال: أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة، ولا يطعن عليه بذلك؛ بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب. قال أبو موسى: أشار بذلك إلى أنه قل من إمام إلا وله زلة؛ فإذا ترك ذلك الإمام لأجل زلته ترك كثير من الأئمة؛ وهذا لا ينبغي أن يفعل.
وقال الإمام الذهبي -رحمه الله- عند ترجمته لابن خزيمة: والكلام على كتابه" التوحيد " قال: وقد تأول في ذلك -يعني: ابن خزيمة- وقد تأول في ذلك حديث الصورة؛ فليعذر من تأول بعض الصفات. ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده؛ مع صحة إيمانه، وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه؛ لقل من يسلم من الأئمة معنا. رحم الله الجميع بمنه وكرمه.(1/423)
وعلى كل حال؛ فإن الحديث يؤخذ على ظاهره، وكما قال ابن قتيبة -رحمه الله- حول هذا الحديث- قال: والذي عندي -والله أعلم- أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لتلك؛ أي لإثبات صورة اليدين والأصابع والعين.
يقول: وإنما وقع الإلف لتلك؛ لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه؛ لأنها لم تأت في القرآن. ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حذف. وقال شيخ الإسلام بعد إيراد روايات هذا الحديث؛ حديث الصورة؛ قال: والكلام على ذلك أن يقال: هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله؛ فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك.
ثم قال: ولكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة؛ جعل طائفة الضمير فيه عائدا إلى غير الله تعالى؛ حتى نقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم كأبي ثور، وابن خزيمة، وأبي الشيخ الأصبهاني، وغيرهم. ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة. انتهى كلامه.
وقد ذكر الإمام أحمد أن من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، ونقل ذلك عنه الخلال وغيره في نقول كثيرة؛ أنه أنكر على من صرف هذا النص عن ظاهره. وبناء عليه فيحمل النص على ظاهره من
غير تشبيه، ولا تمثيل ولا تكييف؛ كما حملنا قول الله - عز وجل - { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } (1) { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (3) .
__________
(1) - سورة الرحمن آية : 27.
(2) - سورة ص آية : 75.
(3) - سورة الأعراف آية : 54.(1/424)
كل هذه نصوص تثبت لله صفات حقيقية. فنحن نجرى هذا النص على ظاهره، ونكل كيفية هذا الأمر، وكنه هذا الأمر إلى الله - عز وجل - . وقد -حقيقة- تكلم شيخ الإسلام على هذا الحديث في أكثر من مائة وثلاثين ورقة من المخطوط في نقل التأسيس؛ بمعنى: لو طبع هذا الجزء لخرج في قرابة ثلاثمائة صفحة. يتكلم على تقرير هذا الحديث، والكلام حول هذا الحديث. فمن أراد الاستزادة؛ فليرجع إلى كلامه فقد أجاد وأفاد -رحمه الله- نعم.
كلام ابن خفيف في أصول السنة
اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم الصديق
ثم قال: وسنذكر أصول السنة، وما ورد من الاختلاف فيما نعتقده فيما خالفنا فيه أهل الزيغ، وما وافقنا فيه أصحاب الحديث من المثبتة إن شاء الله. ثم ذكر الخلاف في الإمامة، واحتج عليها. وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم الصديق - رضي الله عنه - وأنه أفضل الأمة. ثم قال:
ــــــــــــ
طبعا؛ المسألة مسألة خلافية بين أهل السنة وبين الرافضة؛ فأهل السنة يرون أن الخليفة والإمام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الصديق قولا واحدا. لا خلاف بين الصحابة في ذلك، وأنه الأحق بذلك بإشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقديمه للصلاة، وغير ذلك. وخالف في ذلك الرافضة؛ فزعموا أن الأحق بالإمامة هو علي - رضي الله عنه - نعم.
أفعال العباد مقدرة معلومة
ثم قال: وكان الاختلاف في خلق الأفعال؛ هل هي مقدرة؟ أم لا؟ قال: وقولنا فيها أن أفعال العباد مقدرة معلومة، وذكر إثبات القدر.
ــــــــــــ
نعم. وهذا مذهب أهل السنة والجماعة؛ أنهم يثبتون أن أفعال العباد مخلوقة لله - عز وجل - مقدرة لله - عز وجل - تحت مشيئته. وخالف في ذلك القدرية النفاة؛ ويمثلهم المعتزلة؛ فزعموا أن العبد يخلق فعل نفسه. والنصوص المثبتة لعموم خلق الله - عز وجل - ولعموم مشيئة الله - عز وجل - ترد على هذه الطائفة نعم.
أهل الكبائر مؤمنون(1/425)
ثم ذكر الخلاف في أهل الكبائر، ومسألة الأسماء والأحكام. وقال: قولنا أنهم مؤمنون على الإطلاق، وأمرهم إلى الله تعالى؛ إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم.
ــــــــــــ
نعم. ثم ذكر مسألة الخلاف في أهل الكبائر؛ المرتكبون للكبائر من هذه الأمة، ومسألة الأسماء والأحكام. أي: الاسم الذي يستحقه هؤلاء الذين ارتكبوا هذه الكبيرة؛ هل هم مسلمون؟ هل هم كفار؟ والأحكام؛ أحكامهم في الدنيا؛ هل هم كفار؟ أم مؤمنون؟ وأحكامهم في الآخرة؛ هل يدخلون الجنة من أول وهلة؟ أم يخلدون في النار؟
نعم. فمذهب أهل السنة والجماعة، أن أهل الكبائر من هذه الأمة مؤمنون بإيمانهم، فساق بمعاصيهم. وأما أمرهم في الآخرة فإلى الله عز وجل؛ إن شاء عفا عنهم من أول وهلة، وأدخلهم الجنة؛ وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم، ثم أدخلهم الجنة. الشاهد أنهم لا يخلدون في النار؛ كما يزعم الوعيدية؛ الذين هم الخوارج والمعتزلة.
فاتفق الخوارج والمعتزلة على أن مرتكب الكبيرة يخرج عن دائرة الإسلام؛ لكن الخوارج زعموا أنه يدخل في الكفر، والمعتزلة قالوا: لا. يبقى في منزلة بين المنزلتين؛ لا مؤمن ولا كافر؛ هذا في الدنيا. أما في الآخرة فاتفق الجميع -المعتزلة والخوارج- أن مرتكب الكبيرة خالد مخلد في النار.
ثم قال. قال: وقولنا: إنهم مؤمنون على الإطلاق؛ بمعنى أنهم يوصفون بمطلق الإيمان، لا الإيمان المطلق. عندنا فرق بين مطلق الإيمان؛ فهذا يسمى مؤمن على وجه العموم، لكن ليس الإيمان الكامل، ليس الإيمان المطلق. الإيمان الكامل -هذا- يوصف به من لم يرتكب كبيرة. أما من ارتكب كبيرة فهو مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته؛ ولهذا يوصف بمطلق الإيمان، لا الإيمان المطلق.
يقول: وأمرهم إلى الله تعالى؛ إن شاء عذبهم، وإن شاء عفا عنهم؛ هذا في الآخرة. في الدنيا يوصفون بمطلق الإيمان؛ أنهم مؤمنون لكن إيمانهم ناقص، لا يخرجون عن دائرة الإيمان بارتكاب هذه الكبائر. ما لم يرتكب مكفرا(1/426)
فهو مؤمن في دائرة الإيمان؛ لكن إيمانه ناقص، ليس كإيمان جبريل، أو إيمان النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إيمان أبي بكر؛ كما يزعم الجهمية الذين قالوا: الناس في الإيمان سواء؛ ولهذا مرتكب هذه الكبيرة لا تؤثر عليه كبيرته؛ ولهذا إيمان أتقى الناس عندهم كإيمان أفسق الناس؛ إذ هم على حد سواء.
لا. هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته؛ ولهذا يحب بقدر ما فيه من الإيمان، ويبغض بقدر ما فيه من المعصية. أما في الآخرة فأمرهم إلى الله { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (1) داخلون تحت المشيئة. إن شاء الله عفا عنه من أول وهلة، وأدخلهم الجنة؛ برحمته، بشفاعة الشافعين.
وإما أن يعذبهم بقدر ذنوبهم لكن لا يخلدون في النار؛ لأنهم لم يرتكبوا ما يلزم عليه التخليد في النار، لم يرتكبوا مكفرا. لم يخرجوا عن دائرة الإسلام؛ مهما عملوا من المعاصي؛ مهما عملوا من الكبائر. ما دام هذا الرجل أو هذا الشخص لم يرتكب مكفرا يخرجه عن دائرة الإسلام؛ فإنه لا يخلد في النار للوعد الذي أخذه الله - عز وجل - على نفسه نعم.
أصل الإيمان وبيان زيادته ونقصانه
وقال: أصل الإيمان موهبة يتولد منها أفعال العباد؛ فيكون أصله التصديق والإقرار والأعمال. وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه، وقال:
ــــــــــــ
نعم. وهذه مسألة جرى الخلاف فيها بين أهل السنة ومخالفيهم من أهل البدع، وأيضا جرى فيها الخلاف بين أهل السنة أنفسهم؛ فالخلاف في هذه المسألة ذو شقين. الشق الأول: بين أهل السنة ومخالفيهم من أهل البدع.
__________
(1) - سورة النساء آية : 48.(1/427)
فذهب الجهمية إلى أن الإيمان هو المعرفة؛ فمن عرف الله بقلبه فهو أيش؟ مؤمن؛ وإن عمل ما عمل. ولهذا عندهم فرعون مؤمن كامل الإيمان؛ لأنه عرف الله - عز وجل - بقلبه. { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (1) أبو طالب عندهم مؤمن. اليهود الذين قال الله - عز وجل - فيهم { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } (2) مؤمنون.
وذهب الكرامية؛ هؤلاء أيضا ممن خالف أهل السنة من أهل البدع؛ إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط؛ فالمنافقون عندهم أيش؟ مؤمنون. وهناك خلاف بين أهل السنة، وبين مرجئة الفقهاء الذين هم الأحناف. فأهل السنة قالوا: الإيمان -كما قال المؤلف:- موهبة يتولد منها أفعال العباد؛ يعني: أصلها بالقلب؛ لكن الإيمان اعتقاد وقول وعمل. هذا هو مذهب جمهور أهل السنة؛ أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل.
أما مرجئة الفقهاء فذهبوا إلى أن الإيمان أيش؟ قول واعتقاد. الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان؛ ولهذا ذهب أهل السنة خلافا لجميع المرجئة بأصنافهم؛ مرجئة الفقهاء، أو المرجئة الغلاة؛ الذين هم الجهمية. ذهب أهل السنة إلى أن الإيمان يزيد وينقص. يزيد بأيش؟ بالطاعة، وينقص بالمعصية. والنصوص في هذا لا حصر لها؛ ولهذا قال الإمام البخاري: كتبت عن ألف شيخ لم أكتب إلا عمن قال: إن الإيمان قول وعمل؛ يزيد وينقص.
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 102.
(2) - سورة البقرة آية : 146.(1/428)
وقال الإمام أحمد: أدركت سبعين من الأئمة المعتبرين كلهم يقول: الإيمان قول وعمل؛ يزيد وينقص. وهنا جاء الخلاف بين أهل السنة والخوارج. أهل السنة والخوارج يتفقون على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ لكن خالف الخوارج أهل السنة، أنهم زعموا أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. الإيمان شيء واحد؛ فإذا ذهب بعضه ذهب كله؛ ولهذا عندهم من وقع في كبيرة ذهب إيمانه كاملا.
أهل السنة قالوا: لا. الإيمان اعتقاد وقول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويتباعد. يكون الإنسان في إيمان وفسق. هذا ما يتعلق بمسألة الإيمان على وجه الإجمال، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
القرآن كلام الله غير مخلوق
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ومن والاه.
قال المصنف -رحمه الله تعالى؛ وقال-: قولنا: إنه يزيد وينقص. قال: ثم كان الاختلاف في القرآن؛ مخلوق أو غير مخلوق؟ فقولنا وقول أئمتنا أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه صفة الله؛ منه بدأ قولا، وإليه يعود حكما. ثم ذكر الخلاف في الرؤية، وقال: قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد: إن الله يرى في يوم القيامة، وذكر الحجة.
ــــــــــــ
بسم الله الحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء المرسلين؛ نبينا محمد؛ عليه وعلى آله وصحبه، أفضل الصلاة وأتم التسليم.
لا زال النقل من كلام الإمام أبي عبد الله بن الخطيب -رحمه الله- قال: ثم كان الاختلاف في القرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ فقولنا وقول أئمتنا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنه صفة منه بدأ قولا، وإليه يعود حكما.
مسألة القرآن من المسائل التي جرى الخلاف فيها بين أهل السنة، وبين الجهمية والمعتزلة. فذهبت الجهمية والمعتزلة أن القرآن مخلوق؛ أما أهل السنة فذهبوا إلى ما ذكره المؤلف؛ أنه منزل من الله - عز وجل - تكلم به حقيقة.(1/429)
فهو صفة من صفاته سبحانه وتعالى منه بدأ؛ أي: تكلم به ابتداء. لم يخلقه في الهواء؛ كما زعم الجهمية والمعتزلة، ولم يخلقه في اللوح المحفوظ، ولم يتكلم به ابتداء جبريل، ولا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ بل الله هو الذي تكلم به ابتداء. يعني: بدأ الكلام من الله، وإليه يعود حكما؛ أي يعود في آخر الزمان؛ حيث يرفع أو يمحى من المصاحف، ويرفع من القلوب؛ كما ثبت ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنه - .
نعم. وقوله: ثم ذكر الخلاف في الرؤية. وقال: قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد: أن الله يرى في يوم القيامة، وذكر الحجة. وهذه المسألة سبق الكلام عليها في القسم الأول؛ في إثبات رؤية الله - عز وجل - يوم القيامة عيانا بالأبصار. وهذا ما ثبت بصريح الكتاب، وصحيح السنة، مما أجمع عليه أهل العلم؛ بل ثبت حتى بدلالة العقل؛ خلافا لما ذهب إليه الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهما من الخوارج والرافضة من إنكار رؤية الله - عز وجل - يوم القيامة.
أما الأشاعرة فقد أثبتوا رؤية الله يوم القيامة؛ موافقين في ذلك أهل السنة، لكنهم خالفوا أهل السنة؛ لأنهم قالوا: يرى إلى غير جهة. أرادوا التوسط بين المعتزلة وبين أهل السنة. المعتزلة تنفي الرؤية وأهل السنة يثبتونها؛ يثبتونها أن الله - عز وجل - يرى من فوق؛ يراه المؤمنون من فوقهم كما جاء صريحا في السنة. الأشاعرة لا يثبتون صفة العلو، ولهذا بقوا متحيرين؛ كيف يثبتون صفة الرؤية؟!! فجاءوا بهذه البدعة التي تستحيل عقلا، فضلا عن استحالتها شرعا؛ أن الله يرى إلى غير جهة.
إذا كيف يرى؟! ليس هناك ثم ما يرى إلا إما أن يرى من الأمام أو الخلف، أو فوق أو تحت أو يمين أو شمال، والنصوص تشهد أن الله - عز وجل - يرى يوم القيامة من فوق. نعم.
ذكر ابن خفيف للمسائل الاعتقادية التي ورد فيها الخلاف(1/430)
ثم قال: واعلم -رحمك الله-: أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدثين في كل الأزمنة، وقد بدأت أن أذكر أحكام الجمل من العقود؛ فنقول ونعتقد أن الله - عز وجل - ...
ــــــــــــ
يعني: ذكر سابقا مسائل الكبار في الاعتقاد كما جاءت مرتبة؛ عند أهل الحديث، عند أهل السنة، ثم قال: وأنا أذكر الآن بعض المسائل المتعلقة أيضا بأمور الاعتقاد مما جرى فيه الاختلاف نعم.
إثبات أن الله في السماء على عرشه
فنقول ونعتقد أن الله - عز وجل - له عرش، وهو على عرشه فوق سبع سماواته بكمال أسمائه وصفاته؛ كما قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) وقال تعالى : { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } (2) ولا نقول: إنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه؛ لأنه عالم بما يجرى على عباده. إلى أن قال: ونعتقد أن الله خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء لا للفناء.
ــــــــــــ
نعم. ذكر أولا مسألة العلو والاستواء على العرش. وهذا هو مذهب السنة، وتقدم مرارا مخالفا بذلك ما ذهب إليه حلولية الصوفية، وذكر الأدلة على ذلك.
ثم قال: ولا نقول: إنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه. ذكر شيخ الإسلام أن هذا مذهب طائفة السالمية من الصوفية؛ أرادوا الجمع بين النصوص المثبتة للعلو، والنصوص المثبتة للمعية والقرب؛ فقالوا: إن الله على العرش، والله في كل مكان. وهذا مذهب باطل؛ مذهب فاسد ترده الأدلة.
ثم قال: لأنه عالم بما يجري على عباده، كأنه يشير أن النصوص التي فيها أن الله مع عباده؛ أن هذه المعية هي معية أيش؟ معية العلم. ثم قال: ونعتقد أن الله خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء لا للفناء.
الجنة والنار مخلوقتان دائمتان
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة السجدة آية : 5.(1/431)
وهذا أيضا مذهب أهل السنة والجماعة؛ أن الجنة والنار مخلوقتان دائمتان أبد الآباد، لا تفنيان، ولا يفنى أهلهما؛ خلافا لمذهب الجهم بن صفوان، وأبي الهذيل العلاف؛ اللذين زعما أن الجنة والنار تفنيان.
ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وقد اتفق سلف الأمة وأئمته،ا وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك. ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام والمبتدعين كالجهم بن صفوان، ومن وافقه من المعتزلة؛ يعني أبا الهذيل العلاف إلى آخر ما قال رحمه الله نعم.
المعراج كان بالروح والجسد
إلى أن قال: ونعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرج بنفسه إلى سدرة المنتهى. إلى أن قال: ونعتقد أن الله قبض قبضتين؛ فقال: هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار ونعتقد أن للرسول - صلى الله عليه وسلم - حوضا، ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفع.
ــــــــــــ
نعم. ذكر هذه المسائل العقدية؛ فمنها قال: نعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرج بنفسه إلى سدرة المنتهى، وهذا هو القول الراجح؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرج بجسده وروحه؛ يقظة لا مناما مرة واحدة. هذا هو الذي قامت عليه الأدلة. أما أصل العروج والإسراء، فهذا ثابت في القرآن { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } (1) .
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 1.(1/432)
وأما مسألة أن العروج كان بالروح والجسد فهذا هو الذي تعضده الأدلة. ذلك أن العبد في قول الله - عز وجل - { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } (1) يشمل الروح والجسد. وأيضا يقظة لا مناما؛ لأن العروج مناما هذا لا جديد فيه، ولا يتأتى أن ينكره المشركون. وإنما تظهر الآية إذا كان العروج بالروح والجسد في ليلة واحدة، ويرجع إلى مكة؛ ولهذا كذب المشركون بذلك، وهذا هو القول الذي تعضده الأدلة، وهو الذي ذهب إليه جمهور أهل السنة.
لكن من الناس من ذهب إلى أن الإسراء كان بروحه دون جسده، ومنهم من ذهب إلى أن الإسراء كان مناما لا يقظة، ومنهم من ذهب إلى أن الإسراء كان مرتين: مرة يقظة، ومرة مناما. وكل هذه الأقوال مرجوحة.
الله قبض قبضتين؛ فقال: هؤلاء إلى الجنة، وهؤلاء إلى النار
إلى أن قال: ونعتقد أن الله قبض قبضتين؛ فقال: هؤلاء إلى الجنة، وهؤلاء إلى النار وهذا قد ورد في حديث مرفوع بألفاظ وطرق متعددة؛ كما عند الإمام أحمد، وابن أبي عاصم، والدولابي في " الكنى"، والعقيلي في " الضعفاء " .
وأحاديث القبضتين أحاديث صحيحة بمجموعها؛ فقبض قبضة إلى الجنة؛ ممن كتب الله - عز وجل - وقدر أنهم من أهل الجنة، ويعملون بعمل أهل الجنة. وقبض قبضة إلى النار؛ ممن كتب وقضى وقدر أنهم من أهل النار، ويعملون بعمل أهل النار؛ لكن لا يؤخذ من هذا العمل الاتكال على ما سبق في علم الله.
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 1.(1/433)
ولهذا استشكل هذا الصحابة فقال: يا رسول الله، إذن أفلا نَدَعُ العمل؟! خلاص ما دام أنه معروف أهل الجنة من أهل النار؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا. اعملوا فكل ميسر لما خلق له فأما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون لعمل أهل الشقاوة، وتلا قول الله - عز وجل - { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) } (1) .
فالمؤمن مطلوب منه العمل، وليس مطلوب منه النظر إلى ما كُتب عليه، وقُدر عليه. هذا أمره إلى الله، وهذا فعل الله - عز وجل - وله. أما المؤمن فمطلوب منه أن يعمل؛ أن يوحد الله - عز وجل - أن يمتثل أمره، ويجتنب نهيه.
إثبات حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه أول شافع وأول مشفع
ثم قال: ونعتقد أن للرسول - صلى الله عليه وسلم - حوضا. وهذا مما تواترت به السنة؛ إثبات حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء في صفاته أحاديث كثيرة؛ منها: أن طوله شهر وعرضه شهر، وأن ماءه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج. من شربه لا يظمأ بعد ذلك أبدا.
.................................................................................. ـــــــــــــــ
وثبت أن لكل نبي حوضا، وأن أكبر وأوسع هذه الأحواض وأكثرها واردا حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - . وأنكر الخوارج والمعتزلة؛ أو بعض المعتزلة هذا الحوض؛ متعللين بعلل واهية لا تقوم عليها حجة.
__________
(1) - سورة الليل آية : 5-10.(1/434)
ثم قال: ونعتقد أنه أول شافع، وأول مشفع؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - . هذا من عقيدة أهل السنة والجماعة؛ وذلك لما ثبت في الصحيحين؛ أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: لما نهس نهسة من الذراع قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر ثم ساق حديث الشفاعة الطويل، وأن الناس يفزعون إليه في الموقف يوم القيامة إذا طال وقوفهم؛ فيأتون آدم، ثم يأتون نوحا، ثم يأتون موسى، ثم يأتون إبراهيم وموسى وعيسى.
كل واحد يحيلهم إلى الآخر، ويذكر خطيئة له، ويقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله. يتبرأ من الشفاعة في هذا الموقف. إلى أن يأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: أنا لها ثم يذهب؛ فيسجد تحت العرش، ويفتح الله - عز وجل - عليه من المحامد؛ كما قال: ما لا أحسنه الآن فيقال: ارفع رأسك، وسل تعطى، واشفع تشفع.
هذه الشفاعة العظمى التي يحمده عليها الناس، وهي التي جاءت في قول الله - عز وجل - { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) } (1) ؛ فقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بالشفاعة العظمى كما في صحيح البخاري. نعم.
إثبات الصراط والميزان
وذكر الصراط والميزان والموت، وأن المقتول قتل بأجله، واستوفي رزقه؛ إلى أن قال: ومما نعتقد أن الله ينزل كل ليلة من السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر؛ فيبسط يده فيقول: هل من سائل... الحديث. وليلة النصف، وعشية عرفة. وذكر الحديث في ذلك. قال: ونعتقد أن الله كلم موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا وأن الخلة غير الفقر لا كما قال أهل البدع.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 79.(1/435)
نعم. ثم ذكر الصراط. الصراط الذي هو الجسر الذي على متن جهنم، وجاءت الإشارة إليه في قول الله - عز وجل - { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا } (1) وجاء التصريح به في صحيح وصريح السنة. وهو أيضا مما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنكر ذلك الجهمية، وبعض المعتزلة، والخوارج، وزعموا أن الصراط الوارد في النصوص هو الطريق، وليس هذا المذكور في الأحاديث؛ الجسر الممدود على متن جهنم.
ثم ذكر أيضا من عقيدة أهل السنة إثبات الميزان؛ وهو ميزان حسي حقيقي لا معنوي ذو كفتين؛ توزن فيه الأعمال على خلاف؛ ما الشيء الذي يوزن؟ ولعل الراجح أن الأعمال توزن، والعامل يوزن، وصحف الإنسان التي كتب فيها أعماله -أيضا- توزن. وأنه ميزان واحد، وليس بموازين متعددة.
وما جاء من جمع هذه الموازين في قوله سبحانه: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ } (2) إنما هو باعتبار جمع الموزون. أما الميزان فهو ميزان واحد؛ كما ثبت ذلك صريحا في السنة. أنكرت الجهمية وبعض المعتزلة الميزان، وأولوا النصوص الواردة في ذلك؛ بناء على القاعدة العامة عندهم؛ عرض نصوص الوحيين على عقولهم، وزعموا أن الميزان لا يحتاج إليه إلا -تعالى الله عن ذلك- إلا البقال ونحو ذلك. قال العلماء: لو لم يكن في إثبات الميزان إلا إظهار عدل الله - عز وجل - للخلق.
حقيقة الموت والقتل
ثم ذكر الموت، وأن المقتول قتل بأجله، واستوفى رزقه؛ خلافا لمذهب المعتزلة الذين زعموا أن المقتول قطع عليه أجله. والصحيح أن المقتول مات بأجله؛ فالقتل سبب. الله - عز وجل - جعل هذا الرجل يموت بالقتل، وذاك يموت بالمرض، وهذا يموت بالحادث، وذاك يموت من غير سبب؛ يموت على فراشه.
__________
(1) - سورة مريم آية : 71.
(2) - سورة الأنبياء آية : 47.(1/436)
ومن مات فقد استوفى رزقه وأجله؛ ولهذا قال الله - عز وجل - { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) } (1) وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس إلا وقد استكملت رزقها وأجلها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب .
ويُرد على هؤلاء الذين زعموا أن المقتول قطع عليه أجله؛ الذين هم المعتزلة؛ أن الله - عز وجل - وضع لهذا الإنسان أجلين لا يدري أيهما يموت إليه. واضح؟! وأيضا مما رد عليهم البغدادي في كتاب " أصول الدين" قال: أيضا جعلوا العباد قادرين على إنقاص -أيش؟- أجل وعمر هذا الإنسان، ومن كان قادرا على إنقاص عمر الإنسان؛ فهو قادر أيضا على زيادة عمر هذا الإنسان، وهذا مما يدل على بطلان هذا المذهب.
نزول المولى - عز وجل - إلى السماء الدنيا
إلى أن قال: ومما نعتقد أن الله - عز وجل - ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر فيبسط يده؛ فيقول: ألا هل من سائل الحديث. وهذا سبق الكلام عليه، وإثبات النزول حقيقة لله - عز وجل - على الوجه اللائق به سبحانه.
وليلة النصف؛ أي يعني: وينزل ليلة النصف من شعبان، وجاء هذا في أحاديث متعددة عن أبي بكر، وعائشة، وغيرهما. منه ما روي عن أبي بكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ينزل الله - عز وجل - ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا؛ فيغفر لكل نفس إلا إنسان في قلبه شحناء أو شرك بالله - عز وجل - .
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 34.(1/437)
والأحاديث الأخرى نحو من ذلك. فمن العلماء من طعن في أسانيدها، وتكلم في أسانيدها وقال: إنه لا يخلو إسناد من مقال. حقيقة هي جاءت بأسانيد، وطرق متعددة، ولا يخلو طريق منها من مقال. لكن الشيخ ناصر -رحمه الله- ذهب إلى أن هذه الأحاديث بمجموع هذه الأسانيد ترتقي؛ أو يرتقي درجة هذا الحديث إلى الصحة أو الحسن.
وعلى فرض صحة هذا الحديث؛ فلا متمسك فيه لأهل البدع الذين يخصون هذه الليلة بالقيام أو بشيء من العبادة والذكر؛ فلا دليل في ذلك. نعم ينزل كما ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا؛ لكن هذا نزول مخصوص ليلة النصف من شعبان.
لكن لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه، ولا عن أهل القرون المفضلة، ولا عن الأئمة المعتبرين أنهم خصوا هذه الليلة -بأيش؟- بشيء من العبادة، أو بشيء من الذكر. فلا يجوز أن تخص هذه الليلة عن سائر الليالي بشيء من العبادات.
ثم قال: وعشية عرفة؛ أي: وينزل عشية عرفة. وجاء التصريح بلفظ النزول في عشية عرفة عند أبي يعلى في مسنده، وعند ابن مَنْدَهْ في التوحيد، وابن خزيمة في صحيحه، وابن بطة في الإبانة وغيرهم. ثم قال: ونعتقد أن الله كلم موسى تكليما أي: إثبات صفة الكلام لله - عز وجل - واتخذ إبراهيم خليلا.
وذكر أن الخلة غير الفقر؛ لا كما قال أهل البدع، وذلك أن المعتزلة والجهمية زعموا أن الخلة هي الفقر والحاجة؛ لكن أهل السنة قالوا: لا. نثبت لله - عز وجل - حقيقة المحبة وحقيقة الخلة. والخلة أكمل من المحبة بل هي غاية المحبة؛ ولهذا قال شيخ الإسلام في تعريف الخلة: أنها كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله، ومن الرب كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه. نعم.
اختصاص نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية(1/438)
ونعتقد أن الله تعالى خص محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية، واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. ونعتقد أن الله تعالى اختص بمفاتح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } (1) ونعتقد المسح على الخفين ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم.
ــــــــــــ
نعم. يقول: ونعتقد أن الله تعالى خص محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية، واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا؛ بمعنى أن الله - عز وجل - خص موسى -عليه السلام- بماذا؟ بالكلام مباشرة. وشاركه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخاصية، وقد كلم ربه ليلة الإسراء دون واسطة.
وخص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخلة، وشاركه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخصلة؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما ثبت في الصحيحين: إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا .
المؤلف ذهب إلى أنه خص محمدا دون سائر الأنبياء بالرؤية؛ بمعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأي ربه من غير حجاب. وهذه المسألة -كما أسلفت- مسألة خلافية فيها ثلاثة أقوال. القول الأول: إنكار رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه، وهذا قول عائشة، وابن مسعود، وأبو هريرة -رضي الله عنهم-. ولهذا ثبت في الصحيحين أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ثلاث من حدثك بهن فقد ك: من حدثك أن رسول الله رأى ربه؛ فقد كذب.
وذهب فريق ثان إلى إثبات رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه.
القول الأول إنكار الرؤية الذي هو قول عائشة، وأبو هريرة، وابن مسعود.
__________
(1) - سورة لقمان آية : 34.(1/439)
القول الثاني إثبات الرؤية؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ليلة المعراج. وممن ذهب إلى هذا القول ابن عباس، وأنس، وعكرمة تلميذ ابن عباس، والحسن البصري، والربيع بن سليمان، وابن خزيمة، والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وأبو إسماعيل الهروي، والزهري، وعروة بن الزبير، ومعمر وغيرهم، وهو الذي رجحه الإمام النووي.
وقد ذكر الإمام النووي أن نفي عائشة -رضي الله عنها- لرؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو باجتهاد منها؛ فلو كان عندها حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذكرته.
القول الثالث؛ وهو قول القاضي عياض، وأيضا رجحه القرطبي: التوقف في المسألة؛ يعني: لا يثبتون الرؤية، ولا ينفونها؛ لأنه يقول: ليس هناك دليل صريح في المسألة، وليس في العقل ما ينفي ذلك؛ ولهذا التوقف. هناك أدلة متكافئة أو أقوال متكافئة.
ولعل القول الراجح، وهو الذي رجحه الإمام ابن حجر -رحمه الله- ومال إليه شيخ الإسلام؛ وإن لم يصرح به: إثبات الرؤية القلبية دون الرؤية؛ أيش؟ البصرية.
يقول شيخ الإسلام: وبهذا تجتمع الأقوال، وحتى تجتمع الأدلة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بفؤاده، ولم يره بعيني رأسه. يقول: ويدل على ذلك أن المروي عن ابن عباس مرة بإطلاقه؛ رأى ربه، ومرة....(1/440)
إثبات الرؤية القلبية دون الرؤية أيش؟ البصرية، يقول شيخ الإسلام: وبهذا تجتمع الأقوال، وحتى تجتمع الأدلة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بفؤاده ولم يره بعيني رأسه، يقول: ويدل على ذلك أن المروي عن ابن عباس مرة بإطلاق يقول: رأى ربه، والمرة الأخرى يقول: رآه بفؤاده، فدل على أنه أراد بالرؤية هذه رؤية الفؤاد، يقول: وكذلك المروي عن الإمام أحمد روايتان: رواية يثبت الرؤية يقول: رآه بفؤاده، ومرة ينفي الرؤية، فما ورد من نفي الرؤية فإنه قصد أيش؟ الرؤية البصرية، وما ورد عنه في إثبات الرؤية فأراد إثبات الرؤية القلبية، وهذا هو الذي أيضا رجحته اللجنة الدائمة برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمة الله عليه-.
قد يقول قائل: ما معنى رآه بفؤاده أو بقلبه؟ يوضح ذلك ابن القيم -رحمه الله-، أو يضبط ذلك ابن القيم في كلمات يقول: "الرؤية القلبية هي انكشاف صورة المعلوم له بحيث تكون نسبته إلى القلب كنسبة المرئي إلى العين". صورة هذا الشيء المعلوم تنطبع في القلب فتكون صورتها في القلب كصورة الشيء المرئي بالعين -ولله المثل الأعلى-.
اختصاص المولى - عز وجل - بمفاتيح الغيب
ثم قال: "ونعتقد أن الله تعالى اختص بمفاتح خمس من الغيب لا يعلمها إلا هو". وهذا جاء صريحا في قوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } (1) وجاء أيضا في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مفاتح الغيب خمسة ثم قرأ هذه الآية.
__________
(1) - سورة لقمان آية : 34.(1/441)
وكأنه يرد بهذه الجملة على بعض أهل التصوف الذين يزعمون أنهم أيش؟ يعلمون ما في الغيب، ولهذا يزعمون أنهم يخبرون بالشيء الذي لم يقع، ويخبرون عن الأمور التي ستقع مستقبلا، فكأنه يرد عليهم يقول: إن علم الغيب من اختصاص الله - عز وجل - فمن ادعاه فهو كاذب، وأيضا يمكن يرد بذلك على السحرة وعلى الكهان، وعلى كل من زعم أنه يعلم الغيب.
إثبات المسح على الخفين
ثم قال: "ونعتقد المسح على الخفين ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم". هذه المسألة من المسائل الفقهية، فلماذا أوردها ابن خفيف هنا في مسائل الاعتقاد؟ بل إن الأئمة دائما يوردون مثل هذه المسألة في كتب الاعتقاد، أوردوها لماذا؟
أحسنت، للرد على الرافضة الذين ينكرون المسح على الخفين؛ فصارت كأنها من المسائل الفاصلة بين أهل السنة وبين أهل البدعة من الرافضة، نعم.
الصبر على السلطان من قريش ما أقام الصلاة
ونعتقد الصبر على السلطان من قريش ما كان من جور أو عدل ما أقام الصلاة من الجمع والأعياد، والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة، والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب إذا لم يكن عذر مانع.
ــــــــــــ(1/442)
نعم قال: "ونعتقد الصبر على السلطان من قريش ما كان من جور أو عدل". هذا هو عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يصبرون على هذا الإمام وعلى هذا السلطان وعلى هذا الأمير سواء كان عادلا أو جائرا؛ لما ثبت في صحيح مسلم: اسمع وأطع وإن جلد ظهرك وإن أخذ مالك وفي صحيح البخاري: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم -أي تدعون لهم ويدعون لكم-، وشرار أئمتكم الذين تلعنونهم ويلعنونكم، وتبغضونهم ويبغضونكم لاحظ هذه العداوة بينهم، فقال الصحابة: أفلا ننابذهم بالسيف؟ ألا نخرج عليهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة ؛ وذلك لما يترتب على الخروج على هؤلاء الأئمة من المفاسد العظيمة التي لا يعلم مداها إلا الله -سبحانه وتعالى-.
ثم قال: "ما أقام الصلاة من الجمع والأعياد، والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة". نعم، يجب أن يكون الجهاد تحت رايتهم، حتى وإن كانوا ظلمة، حتى وإن ظهر منهم شيء من الفسق، فيجب أن ينضوي المسلم تحت طاعتهم وتحت رايتهم، إذا كان هناك راية للجهاد ينبغي أن ينضوي تحت هذه الراية، وخالف في ذلك الخوارج والمعتزلة والرافضة، أما الخوارج والمعتزلة فأوجبوا الخروج على الإمام إذا ظلم وجار، وأما الرافضة فزعموا أن الجمع والأعياد والجهاد لا تجب إلا تحت راية الإمام المعصوم عندهم، والإمام المعصوم عندهم انقطع أو انتهى بانتهاء الإمام الثاني عشر؛ ولهذا هم ينتظرون من ذاك الوقت إلى هذا الوقت، ليس لهم إمام معصوم.
ولهذا جاء في هذه العصور المتأخرة بدعا جديدة عندهم "ولاية الفقيه"، وهي أن الفقيه يمكن أن يقوم بالأعمال أو ينوب عن هذا الإمام المختفي في سرداب سامراء، فيمكن أن يصلَّى خلف هذا الفقيه، وأيضا يجاهَد تحت رايته، وهذا قول جديد لهم في مذهبهم.
وجوب صلاة الجماعة(1/443)
ثم قال: "والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب إذا لم يكن عذر مانع". أي ذا يرد على من؟ على الرافضة الذين زعموا أن صلاة الجماعة لا تجب إلا خلف الإمام المعصوم، مسألة وجوب صلاة الجماعة مسألة من مسائل الأحكام ومسألة خلافية، ذهب طائفة من أهل العلم إلى القول بوجوبها على الأعيان، وهو الذي نص عليه المؤلف هنا، وإلى هذا القول ذهب عطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وأبو عمرو الأوزاعي، وأبو ثور، والإمام أحمد في ظاهر مذهبه، ونص عليه الشافعي في بعض أقواله، وابن خزيمة، وابن المنذر، وابن حبان، وداود الظاهري، وتبعه على ذلك أيضا ابن حزم، وهو قول الإمام البخاري، ونص عليه التهانوي من الحنفية، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، بل هناك قول عن شيخ الإسلام أن الجماعة شرط لصحة الصلاة، وإن كان هذا القول مرجوح.
القول الثاني أنها فرض على الكفاية، وهو الراجح من مذهب الشافعي، وقول بعض أصحاب مالك، وهو قول في مذهب الإمام أحمد، وبه قال كثير من الحنفية، ورجح هذا القول الإمام النووي، لكن الذي تعضده الأدلة القول بالوجوب؛ فالنصوص صريحة في وجوب صلاة الجماعة: من ذلك أولا وجوب صلاة الخوف، فإذا كان الله - عز وجل - لم يعذر المؤمنين بترك صلاة الجماعة والحرب قائمة والعدو أمامهم، فما الظن بالسلم؟ فهذا من الأدلة على وجوب صلاة الجماعة، وأيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لقد هممت أن آمر بالصلاة. .. والأحاديث والنصوص في هذا كثيرة، من أراد الوقوف عليها فليرجع لكتب الفقه، نعم.
صلاة التراويح سنة
والتراويح سنة، ونشهد أن من ترك الصلاة عمدا فهو كافر، والشهادة والبراءة بدعة، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، ولا ننزل أحدا جنة ولا نارا حتى يكون الله ينزلهم، والمراء والجدال في الدين بدعة.
ــــــــــــ(1/444)
نعم، التراويح سنة أيضا، هذا من المسائل الفقهية، لكن العلماء أوردوها هنا للرد على الرافضة الذين زعموا أن التراويح بدعة، وأن الذي أحدثها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهذا قول باطل؛ فعمر لم يحدث أمرا في الدين، بل إنه أحيا سنة، وذلك أنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بأصحابه ثلاث ليال، لما ضاق بهم المسجد وخشي أن تفرض عليهم هذه السنة ترك ذلك شفقة بهم، لما توفي -عليه الصلاة والسلام- وانقطع الوحي واستحال أن يفرض على المسلمين أمر لم يفرض عليهم من قبل، ورأى عمر أن الناس يصلون أوزاعا -يعني جماعات- كل ثلاثة أربعة خلف إمام، رأى أن يجمعهم على إمام واحد، وأن يعود إلى ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأصل، فمن قال إن صلاة التراويح بدعة وإنها من عمر فقوله باطل.
من ترك الصلاة عمدا فهو كافر
ثم قال: "ونشهد أن من ترك الصلاة عمدا فهو كافر". من تركها جاحدا لوجوبها فهذا كافر بإجماع المسلمين، كافر بإجماع المسلمين، اللهم إلا إن كان حديث العهد بالإسلام أو ممن يعذر بالجهل، أما من تركها تهاونا وكسلا مع الإقرار بوجوبها فذهب طائفة إلى أنه يكفر بذلك، وهذا القول مروي عن علي، وإليه ذهب إبراهيم النخعي وابن المبارك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وذكر صاحب الإنصاف أنه المذهب -أي مذهب الحنابلة- وعليه جمهور الأصحاب، واختاره أبو بكر الخرقي من الحنابلة، وابن شاقلا وابن حامد، وهو قول سعيد بن جبير وإسحاق بن راهويه والشعبي والأوزاعي وأيوب السختياني، وأيضا إليه ذهب عبد الملك بن حبيب من
.................................................................................. ـــــــــــــــ
المالكية، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام الشافعي، وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه، وذكر شيخ الإسلام أن أكثر السلف على هذا، على القول بأيش؟ بكفر تارك الصلاة.(1/445)
وذهب فريق آخر إلى أن تارك الصلاة تهاونا وكسلا لا يكفر بذلك، وهو مذهب أكثر الفقهاء.
لكن القول الراجح الذي تعضده الأدلة أنه يكفر إذا كان عالما ذاكرا، وليس ثمة هناك عذر وأصر على تركها، وهذا هو الذي رجحه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمة الله عليه-، والشيخ محمد بن عثيمين، وأكثر مشايخنا في العصر الحاضر لصراحة الأدلة: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ولم يرد في حديث واحد النص على أيش؟ أن: "من تركها جاحدا لوجوبها"، أما الفريق الأول فيستدلون بعموم النصوص التي فيها أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة إلى غير ذلك.
الشهادة بالجنة أو بالنار بدعة
ثم قال: "والشهادة والبراءة بدعة، والصلاة على من مات من أهل القبلة...". يعني الشهادة بالنار أو بالجنة أو البراءة -عفوا- أولا الشهادة بالجنة أو النار بدعة إلا من شهد له النص، من جاء فيه النص أن هذا من أهل النار وهذا من أهل الجنة نعم، أما الشهادة بمجرد التحكم فهذا من البدع، كذلك البراءة، يعني البراءة من عائشة -رضي الله عنها-، وهذا رد على الرافضة الذين يتبرءون من أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-.
الصلاة على من مات من أهل القبلة
ثم قال: "والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة". بمعنى أن كل من مات من أهل القبلة -حتى وإن كان مبتدعا، حتى وإن كان عاصيا- فيصلى عليه، ولا تترك الصلاة عليه بسبب معصية ارتكبها أو بسبب بدعة، -بس- بشرط ألا تكون هذه البدعة مكفرة.(1/446)
ثم قال: "ولا ننزل أحدا جنة ولا نارا حتى يكون الله ينزلهم". المسألة خلافية -الشهادة بالجنة- فمن أهل العلم من ذهب أنه لا يُشهد ولا يُقطع لأحد بالجنة إلا للأنبياء، وهذا قول الأوزاعي ومحمد بن الحنفية، القول الثاني أنه يُشهد لكل من ثبت بالنص أنه من أهل الجنة ولمن شهد له المؤمنون؛ لحديث لما أثنوا عليه خيرا -أثنوا على الجنازة خيرا- قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبت وجبت وجبت ولما أثنوا على الأخرى شرا قال: وجبت وجبت وجبت وجبت لهذا الجنة، ووجبت لهذا النار، هذا هو القول الثاني، القول الثالث وهو القول الوسط وهو الذي تشهد له الأدلة أنه لا يُشهد لأحد بجنة إلا من شهد له النص، لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - كالعشرة وعكاشة وبلال ونحوهم -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
وقوله: "والمراء والجدال في الدين بدعة". نعم، إذا كان هذا الجدال وهذا المراء يقصد منه التعنت والانتصار للباطل نعم والانتصار للنفس فهذا مذموم، وهذا ما ورد عن السلف في ذم الجدال والمراء يحمل على هذا النوع، النقاش الذي يسمى بلغة اليوم "الجدال البيزنطي"، الذي لا ينتهي صاحبه إلى نتيجة، أو يكون الحامل على هذا النقاش الهوى وحب الانتصار للنفس، لكن إذا كان هذا الجدال لأجل إحقاق الحق وإظهار الحق فهذا أمر محمود بل أمر مطلوب شرعا؛ لأنه من باب إنكار المنكر، ومن باب التعاون على البر، ومن باب نشر العلم الشرعي، نعم.
الكف عما شجر بين أصحاب النبي
ونعتقد أن ما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم إلى الله، ونترحم على عائشة ونترضى عنها، والقول في اللفظ والملفوظ وكذلك في الاسم والمسمى بدعة، والقول في أن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة.
ــــــــــــ(1/447)
نعم، "ونعتقد أن ما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم إلى الله". هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة: الكف عما شجر بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - معلوم أنه حصل بعض الفتن بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بين علي ومن معه وبين معاوية ومن معه، وبين علي والزبير وعائشة وطلحة، لكن عقيدة أهل السنة ومذهب أهل السنة: الكف عما شجر بينهم، وأن يوكل أمرهم إلى الله { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ } (1) .
ونعتقد أنهم أحد رجلين: مجتهد مصيب له أجران ومجتهد مخطئ له أجر واحد، وأن أولى الطائفتين بالحق هو علي - رضي الله عنه - ومن معه، لكن لا يعني هذا الوقوع في معاوية أو في عمرو بن العاص أو في عائشة أو في الزبير أو في طلحة كما حصل من الرافضة والخوارج -عليهم من الله ما يستحقون-، فهؤلاء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيهم وكرر في أكثر من موقف: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا وقال: الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا من بعدي .
فمن الذي ينصب نفسه حكما بين طائفة عدَّلهم الله - عز وجل - من فوق سبع سماوات، ورضي عنهم من فوق سبع سماوات وتاب عليهم جميعا؟ من أنت حتى تقول فلان مخطئ وفلان فاعل كذا وفلان...؟ ولهذا صار مذهب أهل السنة والجماعة الكف والإمساك، بل إن الإمام أحمد أنكر على من قرأ في الكتب التي عنيت بهذه الحوادث وهذه الفتن، وهذا هو القول الصحيح؛ لأن أغلب ما كتب فيها كذب، وكثر الدس فيها من الرافضة، فإذا قرأ الإنسان في مثل هذه الأخبار حمله على أن يجد في نفسه على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - سورة البقرة آية : 134.(1/448)
والخير كل الخير أن يسلم الإنسان بلسانه وقلبه تجاه هذا الجيل، هذا الجيل الذي اصطفاهم الله، واختارهم الله من بين سائر الخلق -ليس من بين سائر هذه الأمة- ليكونوا أصحاب أحب الخلق إليه وهو النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا قال ابن عباس كلمته المشهورة، قال: "إذا ذكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمسِكوا؛ فلمقام أحدهم مع رسول الله تَغْبَرُّ فيه قدماه -موقف واحد- خير من عبادة أحدكم لو عبد الله عمره". ولهذا شرف الصحبة لا يدانيه شرف.
قد يوجد من كان بعد الصحابة أكثر عملا وأكثر عبادة، عمر بن عبد العزيز أطلق عليه أهل العلم خامس الخلفاء الراشدين لعلمه وعبادته وعدله، لكنهم قالوا: لا يداني معاوية في الفضل؛ لأن معاوية - رضي الله عنه - يدلي بالصحبة، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه المنزلة وهذه المرتبة لا يدانيها مرتبة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خير الناس قرني خير الناس -عموما- قرني، أصحابي، وقال في الفرقة الناجية: من كان على مثل ما كنت عليه اليوم وأصحابي .
أثنى الله عليهم، أثنى الله عليهم وهو يعلم ما سيقع منهم، هل جهل الله - عز وجل - أنهم سيقتتلون؟ هل جهل الله - عز وجل - أنه ستقع بينهم فتن؟ ومع ذلك رضي عنهم وتاب عنهم جملة وعدَّلهم، ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوقوع فيهم، وأمر بالإمساك إذا ذكروا، فهذا هو منهج أهل السنة والجماعة خلافا لمن؟ مذهب الرافضة والخوارج.
الترضي عن عائشة(1/449)
ثم قال: "ونترحم على عائشة ونترضى عليها". خلافا لمذهب الرافضة والخوارج الذين أجازوا سب أم المؤمنين، التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري لما سأله عمرو بن العاص: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة فأتى هؤلاء الأصاغر الأراذل ليقعوا في زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، هذه عقيدة أهل السنة: أن أمهات المؤمنين هن زوجاته في الدنيا وهن زوجاته في الآخرة -رضي الله عنهن وأرضاهن-.
القول في اللفظ والملفوظ بدعة
"والقول في اللفظ والملفوظ". هذه المسألة من المسائل البدعية التي كان المسلمون في غنى عنها، وهي ما تسمى بالبدعة اللفظية، وهي هل لفظنا بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ وأول من تكلم فيها حسين الكرابيسي وتلميذه داود الأصفهاني زمن الإمام أحمد، ولهذا قال الإمام أحمد: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع". ولهذا ذهب أهل العلم إلى الإمساك في هذه المسألة، لا يقول الإنسان: "لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق" لماذا؟ لأن كل لفظة أو كل إطلاق يحتمل حقا وباطلا، هذه من الكلمات المجملة.(1/450)
فإذا قال الإنسان: "لفظي بالقرآن مخلوق" ربما يقصد أيش؟ الملفوظ المتكلم به الذي هو كلام الله وهذا مذهب الجهمية، واضح؟ وإذا قال: "لفظي بالقرآن غير مخلوق" ربما يقصد فعل العبد الذي هو صوت العبد وحركة العبد وحركة لسانه وحركة شفتيه، وهذه مخلوقة ولّا غير مخلوقة؟ مخلوقة، فإذا قال غير مخلوق ربما تبادر إلى الذهن أنه يقول إن أفعال العباد غير مخلوقة، واضح؟ ولهذا نهى العلماء من إطلاق اللفظين، وألف الإمام البخاري -رحمه الله- كتابه "خلق أفعال العباد" في هذه المسألة، لكن من أطلقها فيستفسر ويبين، يقال: إن كنت تقصد الملفوظ الذي هو كلام الله الذي أنزله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فهذا غير مخلوق، وإن كنت تقصد حركة القارئ، حركة التالي؛ فأفعال العباد مخلوقة.
القول في الاسم والمسمى بدعة
ثم قال: "وكذلك في الاسم والمسمى". وهذه أيضا من البدع التي شغَّب بها أهل البدع على عامة الناس، هل الاسم هو المسمى أو الاسم غير المسمى؟ الجهمية قالوا: "الاسم غير المسمى"، وأرادوا بذلك أن أسماء الله مخلوقة
وأن كلام الله مخلوق؛ لأن كل ما سوى الله فهو مخلوق، والقول الصحيح في هذه المسألة أن الاسم للمسمى كما قال تعالى: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } (1) الاسم للمسمى، لا نقول غير المسمى، ولا نقول هو المسمى، والأولى الإمساك عن هذه المسألة كما قال ابن جرير -رحمه الله-، ذكر أن هذه المسألة ليس فيها أثر، وليس فيها قول عن الأئمة المتقدمين سوى ما نقل عن الإمام أحمد أنه أمر بالإمساك عنها.
القول في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة
__________
(1) - سورة الإسراء آية : 110.(1/451)
ثم قال: "والقول في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة". أيضا هذه المسألة متعلقة بالمسائل السابقة؛ لأن الجهمية قالوا: "الإيمان مخلوق"، وأرادوا بذلك كلام الله - عز وجل - وأرادوا بذلك الإيمان الذي منه اسم الله - عز وجل - "المؤمن"، ولهذا لا يقال: "الإيمان مخلوق ولا غير مخلوق"، إن كان المقصود به أسماء الله - عز وجل - وصفاته فهذا غير مخلوق، وإن كان المقصود به الذي هو فعل العبد كالصلاة، الحج، الزكاة، التي هي من الإيمان، قول لا إله إلا الله، فهذا لا شك أنه مخلوق، نعم.
بيان مسائل عقدية نسبت إلى المتصوفة
واعلم أني ذكرت اعتقاد أهل السنة على ظاهر ما ورد عن الصحابة والتابعين مجملا من غير استقصاء؛ إذ قد تقدم القول عن مشايخنا المعروفين من أهل الإبانة والديانة، إلا أنني أحببت أن أذكر عقود أصحابنا المتصوفة فيما أحدثته طائفة نسبوا إليهم ما قد تخرصوا من القول بما نزه الله المذهب وأهله من ذلك.
ــــــــــــ
نعم، يعني ذكر في الكلام السابق المسائل المتعلقة بمذهب أهل السنة والجماعة، وقوله واعتقاده الذي يعتقد ويدين الله - عز وجل - به، ثم رأى أن يذكر بعض المسائل المنسوبة لأهل التصوف؛ لأنه ينتسب هو -رحمه الله- إلى هذه الطائفة، فيرى أن هناك مسائل نسبت إلى المتصوفة وهم برءاء من ذلك، وسيبين ذلك -وهو العدل- أنه لا ينسب للطائفة قول أحد المخالفين لهذه الطائفة، وهو يتكلم عن أهل التصوف المتقدمين، ولهذا سينكر على الصوفية المتأخرين الذين أحدثوا أمورا بدعية لم يكن عليها المتقدمون من أهل هذه الطائفة، نعم.
بطلان ما نسب إلى الصوفية من القول برؤية الله في الدنيا والآخرة(1/452)
إلى أن قال: وقرأت لمحمد بن جرير الطبري في كتاب سماه "التبصير"، كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم؛ وسألوه أن يصنف لهم ما يعتقده ويذهب إليه، فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية الله تعالى، فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة ونسب هذه المقالة إلى الصوفية قاطبة، ولم يخص طائفة دون طائفة، فتبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المحصلين منهم، وكان من نسب إليه ذلك القول -بعد أن ادعى على الطائفة- ابن أخت عبد الواحد بن زيد، والله أعلم بمحله عند المحصلين، فكيف بابن أخته، وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولا نسب إلى الجملة؛ كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولا في الفقه أو لبس فيه حديثا ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين.
ــــــــــــ
نعم هو الآن ذكر أنه قرأ لمحمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ثلاثمائة وعشرة صاحب التفسير وصاحب التاريخ الإمام المشهور يقول: "قرأت في كتاب سماه التبصير في الدين -وهذا الكتاب طبع عدة طبعات- كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم.." إلى أن قال: "أن يصنف لهم ما يعتقده ويذهب إليه فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية الله تعالى، فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة، ونسب هذه المقالة إلى الصوفية قاطبة".
هذا هو ما أنكره أبو عبد الله ابن خفيف على ابن جرير، قال: كيف تنسب هذا القول إلى الصوفية قاطبة علما بأن هذا القول لم يقل به إلا طائفة منهم؟ وذكر أنه نسب هذا القول إلى ابن أخت عبد الواحد بن زيد، وابن أخت عبد الواحد لا شك أنه مجهول، أما عبد الواحد بن زيد فهو من مشايخ الصوفية، توفي بعد الخمسين ومائة، وهو يقول: "والله أعلم بمحله عند المحصلين" أي المحققين منهم، يعني يقول: الله أعلم بمحله ومكانته عند(1/453)
أهل التصوف، فإذا كنت تنسب هذا القول إلى ابن أختك وهو مجهول، وعبد الواحد بن زيد ليس له مكانة في الصوفية أو عند طائفة المتصوفة، فكيف تنسب هذا القول إلى جميع هذه الطائفة؟
ثم ذكر هذه القاعدة: "وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولا نسب إلى الجملة".
صحيح، العدل مطلوب حتى مع المخالف، ليس إذا قال أحد المعتزلة قولا قلنا إن هذا قول المعتزلة قاطبة، وإذا قال أحد الشيعة قولا قلنا هذا قول الشيعة قاطبة لا، نقول: هذا قول فلان من الشيعة، أو هذا قول الطائفة الفلانية من المعتزلة، بخلاف ما لو إذا أجمعوا على أمر كحال مثلا الخوارج لما أجمعوا على أصول أربعة أو أصول خمسة، كذلك المعتزلة أجمعوا على أصول خمسة فنقول هذا قول المعتزلة، الرافضة أجمعوا على أصول خمسة.
لكن إذا قال إنسان قولا فلا ينسب إلى كل هذه الطائفة، كما هي الحال عند الفقهاء، وكما هي الحال عند المحدثين من أهل السنة، من خالف في مسائل فهل ينسب هذا لكل أهل السنة؟ لا. يقول: "كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولا في الفقه، أو لبس فيه حديثا ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين". وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
اختلاف ألفاظ الصوفية وعلومهم
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن والاه، قال المصنف -رحمه الله تعالى-:(1/454)
واعلم أنّ ألفاظ الصوفية وعلومهم تختلف، فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجري فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه رجع عنهم خاسئا وهو حسير، ثم ذكر إطلاقهم لفظ الرؤية بالتقييد فقال: كثيرا ما يقولون: رأيت الله، وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل هل رأيت الله حيث عبدته؟ قال: رأيت الله ثم عبدته. فقال السائل: كيف رأيته؟ فقال: لم تره العيون بتحديد العيان، ولكن رأته القلوب بتحقيق الإيقان. ثم قال: يُرى في الآخرة كما أخبر في كتابه وذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا قولنا وقول أئمتنا دون الجهال من أهل الغباوة فينا.
ــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
لا زال النقل عن أبي عبد الله بن خفيف -رحمه الله- من أئمة الصوفية المتقدمين يقول: "واعلم أنّ ألفاظ الصوفية وعلومهم تختلف". معلوم أن تسمية الصوفية بهذا الاسم -على القول الصحيح الذي تشهد له الأدلة- نسبة للبس الصوف؛ وذلك أن شعار هذه الطائفة كان لبس الصوف من باب الزهد وترك التنعم بلبس الناعم من الملابس، قيل نسبة إلى أهل الصفة، وقيل نسبة إلى الصفاء، وقيل نسبة إلى رجل يقال له صوفة من بني إسرائيل عابد، وقيل إلى صوفة الرأس، إلى غير ذلك من الأقوال الضعيفة.(1/455)
يقول: "واعلم أنّ ألفاظ الصوفية وعلومهم تختلف، فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم ومرموزات وإشارات تجري فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق ونازل ما هم عليه رجع عنهم خاسئا وهو حسير". بمعنى كأنه يقول: إن الصوفية لديهم مصطلحات يختلف معناها الحقيقي عما يظهر منها، لكن يقال: يمكن أن يسلم هذا للمتقدمين ممن كان تصوفهم أميل إلى الاعتدال، وهو عبارة فقط عن الزهد.
أما المتأخرون فلا يسلم لهم ذلك -وإن زعموه-؛ لأن كلامهم وكتبهم تأبى أن يكون لها معنى غير هذه المعاني الباطلة، كما هي الحال مثلا في "فصوص الحكم" لابن عربي، و"الفتوحات المكية"، وكتب الحلاج وكتب ابن سبعين وكتب السهروردي وكل هؤلاء المتأخرين؛ فإنها تفوح بالإلحاد والضلال، ولا يسلم لهم أن هذه رموز ومصطلحات؛ لأنها أمور لا تحتمل إلا هذه المعاني الباطلة.
فكلام ابن خفيف يمكن أن يقال عن المتقدمين، ولهذا استدل بما روي عن جعفر بن محمد -يعني الخواص- وهو من شيوخ الصوفية المتقدمين، المتوفى سنة ثلاثمائة وثمان وأربعين. نعم إذا أطلق مثلا أني رأيت الله ثم عبدته شرح معنى هذه الرؤية، ومثل بهذا المثال فيقول: إطلاقهم لفظ الرؤية بالتقييد فقال: كثيرا ما يقولون رأيت الله. وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل هل رأيت الله حين عبدته قال: "رأيت الله ثم عبدته. فقال السائل: كيف رأيته؟ فقال: لم تره العيون بتحديد العيان لكن رأته القلوب بتحقيق الإيقان".(1/456)
وهذا ما ذكره ابن القيم في قضية معاينة القلب، وهي أن تنكشف صورة المعلوم له بحيث تكون نسبته إلى القلب كنسبة المرئي إلى العين، ولهذا يقول ابن القيم: "وقد جعل الله سبحانه القلب يبصر ويعمى كما تبصر العيون وكما تعمى قال: { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } (1) فالقلب يرى ويسمع ويعمى ويصم، وعماه وصممه أبلغ من عمى البصر وصممه"، ثم ذكر أن مشاهدة القلب لجلال الرب وجماله وكماله وعزه وسلطانه وقيوميته وعلوه فوق عرشه وتكلمه بكتبه، وذكر شيئا من نعوته وصفاته.
ثم قال: "فصاحب هذا الشاهد سائر إلى الله في يقظته ومنامه، وحركته وسكونه، وفطره وصيامه، له شأن وللناس شأن آخر". الشاهد أنه يقول: إن الإنسان كلما ازداد علما وكلما ازداد معرفة بالله - عز وجل - كلما قوي إيمانه، وكلما انفتحت له من أبواب الإيمان وأبواب المشاهدة التي لا تنفتح لغيره، لكن لا يُسلَّم هذا، هذا التأويل لا يُسلَّم للمتأخرين الصوفية لماذا؟ لأن المتأخرين أطلقوا عبارات لا تحتمل إلا المعنى الباطل، يعني عندما يقول قائلهم إنه يجلس مع الله، ويسامر الله، ويصافح الله، ويعانق الله، ويسمع من الله كفاحا بلا واسطة -كما سيأتي-، فهل هذا له احتمال آخر؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لكن أيضا أبو عبد الله ابن خفيف يؤكد على هذا المعنى: أن المتأخرين من أهل هذه الطائفة -التي هم الصوفية- أدخلوا في هذا المذهب ما أفسده ونقله إلى الحلول والإلحاد، نعم.
الرد على الصوفية المتأخرين القائلين بإسقاط التكاليف عن العبد
__________
(1) - سورة الحج آية : 46.(1/457)
وإن مما نعتقده أن الله حرم على المؤمنين دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وذكر ذلك في حجة الوداع، فمن زعم أنه يبلغ مع الله إلى درجة يبيح الحق له ما حظر على المؤمنين -إلا ما اضطر على حال يلزمه إحياء النفس وإن بلغ العبد ما بلغ من العلم والعبادة- فذلك كفر بالله، والقائل بذلك قائل بالإلحاد وهم المنسلخون من الديانة.
ــــــــــــ
نعم كل هذه -الآن- الأسطر التي قرأناها الآن، والتي سيذكرها، كلها يرد على المتأخرين من الصوفية، ويبين أن الصوفية الأوائل لا يوافقون هؤلاء المتأخرين، فذكر مثلا أن: "مما نعتقد -يعني كما يقول نحن معاشر الصوفية المتقدمين- أن الله حرم على المؤمنين دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وذكر ذلك بحجة الوداع -كما بالصحيحين-، فمن زعم أنه يبلغ مع الله درجة يبيح الحق له ما حظر على المؤمنين" غلاة الصوفية يزعمون أن الإنسان عندهم قد يصل إلى درجة تسقط عنه التكاليف.
يقولون: هذه التكاليف المعنيّ بها عامة الناس، لكن عندهم الإنسان يرتقي في درجات المعرفة والعلم والولاية إلى أن يصل إلى درجة تسقط عنه التكاليف وخلاص، الصلاة ليس هو مخاطبا بها، المخاطب بها عامة الناس، كذلك الزكاة، كذلك استماع ما حرم الله، والوقوع في الكبائر كالوقوع في الزنا، ويتأولون على ذلك قول الله - عز وجل - { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) } (1) .
الآية تدل { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ } (2) ما هو اليقين؟ الموت، هم لا، اليقين عندهم الحقيقة، ما هي هذه الحقيقة؟ هي القول بوحدة الوجود، عندما الإنسان خلاص تنتهي هذه الموجودات أمام ناظريه، ويفنى -كما يقولون- عن وجود السوى، أول شيء يفنى عن مراد السوى، ثم شهود السوى، ثم وجود السوى، إذا وصل إلى
__________
(1) - سورة الحجر آية : 99.
(2) - سورة الحجر آية : 99.(1/458)
هذه المرتبة سقطت عنه التكاليف، أبو عبد الله ابن خفيف يقول: "من قال بذلك فهو من أهل الإلحاد المنسلخ من الديانة". نعم. فالعبد لا تسقط عنه التكاليف البتة حتى يلقى الله - عز وجل - ولهذا لا يمكن أن يبيح الله - عز وجل - لإنسان ما حرم عليه إلا في حالة مستثناة، وقد نص الله عليها في كتابه "إلا المضطر" { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } (1) قد يضطر الإنسان ليشرب كأسا من الخمر ليستنقذ به حياته، إذا لم يكن ثَم عنده ما ينقذ به حياته إلا كأس هذا الخمر جاز له أن يشرب بقدر ما تحصل به الحياة، أن يأكل من الميتة بقدر ما تحصل له الحياة، أما ما عدا ذلك فالمحرم محرم إلى أن تقوم الساعة، والمباح مباح إلى أن تقوم الساعة، نعم.
ترك إطلاق العشق على الله
وأن مما نعتقده ترك إطلاق العشق على الله؛ وبيَّن أن ذلك لا يجوز لاشتقاقه، ولعدم ورود الشرع به، وقال: أدنى ما فيه أنه بدعة وضلالة، وفيما نص الله من ذكر المحبة كفاية.
ــــــــــــ
نعم، من البدع التي موجودة عند أهل التصوف إطلاق العشق على الله - عز وجل - والعشق لا يجوز إطلاقه على الله لأمرين: الأمر الأول لعدم ورود النص بذلك، الله - عز وجل - وصف نفسه بأيش؟ بالمحبة وبالخلة، ولم يصف نفسه بهذه الصفة. الأمر الثاني قال المؤلف: "ولاشتقاقه" قال: لا يجوز لاشتقاقه، لماذا؟ لأن العشق محبة مع أيش؟ مع شهوة، وهذا لا يليق به -سبحانه وتعالى- نعم.
الله لا يحل في المرئيات
وأن مما نعتقده أنَّ الله لا يحل في المرئيات، وأنَّه المنفرد بكمال أسمائه وصفاته، بائن من خلقه، مستو على عرشه، وأن القرآن كلامه غير مخلوق، حيثما تلي وحفظ ودرس.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة البقرة آية : 173.(1/459)
وهذا تصريح منه -رحمه الله- لإثبات صفة العلو لله - عز وجل - وأنه بائن من الخلق وأن الخلق بائنون منه، وأنه لا يحل في شيء من المخلوقات ولا يمتزج بشيء أيضا من هذه المخلوقات، وفي هذا رد على أهل الحلول والاتحاد من غلاة الصوفية، وغيرهم كبعض طوائف الرافضة والجهمية الذين زعموا أن الله حالٌّ في كل شيء -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- نعم.
الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلا واتخذ نبينا محمدا خليلا وحبيبا
ونعتقد أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلا، واتخذ نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - خليلا وحبيبا، والخلة لهما منه على خلاف ما قاله المعتزلة أن الخلة الفقر والحاجة.
ــــــــــــ
نعم، وهذا تقدم، ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وأيضا لا يقال إن الخلة هي الفقر والحاجة كما قالت المعتزلة والجهمية، بل الخلة صفة له -سبحانه وتعالى- على الوجه اللائق به، وهي أعلى درجات المحبة، نعم.
الخلة والمحبة صفتان لله ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه
إلى أن قال: والخلة والمحبة صفتان لله هو موصوف بهما، ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخلة جائز عليها الكيف، فأما صفات الله تعالى فمعلومة في العلم، وموجودة في التعريف، قد انتفى عنهما التشبيه، فالإيمان به واجب، واسم الكيفية عن ذلك ساقط.
ــــــــــــ
معنى هاتين الصفتين أن هاتين الصفتين تثبتان لله - عز وجل - على الوجه اللائق به -سبحانه وتعالى-، وهما أيضا صفتان ثابتتان للعبد، لكن يوصف العبد منهما بالوجه الذي يليق بالعبد، ويوصف الله - عز وجل - بهما على الوجه اللائق به سبحانه، من غير أن نكيف هذه الصفة أو نشبهها، نعم.(1/460)
الله تعالى أباح المكاسب والتجارات والصناعات وحرم الغش والظلم
ومما نعتقده أنّ الله أباح المكاسب والتجارات والصناعات وإنما حرم الله الغش والظلم، وأما من قال بتحريم المكاسب فهو ضال مضل مبتدع؛ إذْ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء، وإنما حرم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الفساد لا الكسب والتجارة، فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة.
ــــــــــــ
نعم، وفي هذا رد على أهل التصوف الذين يزعمون أن حقيقة التوكل على الله ترك الاكتساب وترك الاتجار، فذكر أن الله أباح المكاسب والتجارات والصناعات، وإنما حرم من ذلك الغش، لم يحرم مطلق التجارة ولا مطلق طلب الرزق والكسب الحلال؛ ولهذا ألف بعض أهل العلم بعض الرسائل في الرد على هؤلاء الصوفية في هذا الاعتقاد الباطل، فألف الخلال كتابه "الحث على التجارة والصناعة" وهو مطبوع، والعمل والإنكار على من يدعي التوكل وترك العمل، وألف أيضا محمد بن حسن الشيباني -وهو أيضا رسالة مطبوعة- كتاب "الاكتساب في الرزق المستطاب"، نعم.
ترك الاكتساب والاتجار وطلب الرزق بزعم أن هذا ينافي التوكل
وأن مما نعتقده أن الله لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة، والمعتقِد أنَّ الأرض تخلو من الحلال والناس يتقبلون في الحرام فهو مبتدع ضال، إلا أنه يقل في موضع ويكثر في موضع؛ لا أنه مفقود من الأرض.
ــــــــــــ
نعم، وفي هذا رد على بعض أهل التصوف، يعني بعضهم منع الاكتساب والاتجار وطلب الرزق بزعم أن هذا ينافي أيش؟ التوكل، وبعضهم قال -أضاف إلى ذلك علة أخرى- قال: ولأن الأرض تخلو من الكسب الحلال، لا يمكن للإنسان أن يقوم ويتجر ويكتسب ويسلم من الحرام.(1/461)
فالمؤلف يقول: ومما نعتقده أن الله لا يأمر بأكل الحلال.. الله - عز وجل - أمرنا في كتابه بأيش؟ { كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا } (1) وأمرنا بطلب الرزق، فكيف يأمرنا بأكل الحلال وبطلب الرزق ثم أيش؟ يعدم هذا الشيء، يقول هذا الشيء مفقود على وجه الأرض، هذا فيه أمر بأيش؟ بما لا يستطيعه الإنسان، تكليف ما لا يستطاع، وهذا الله - عز وجل - منزه عنه، فهذا رد على هؤلاء، ولهذا يقول: "لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة". نعم الأرض فيها الرزق الحلال والتجارة المباحة، لكنه يكثر في مواضع ويقل في مواضع أخرى، وهذا أمر مشاهد معلوم، بعض أنواع التجارات يكثر فيها الغش، يكثر فيها التدليس، يكثر فيها الكذب، وبعض أنواع التجارات يقل فيها هذا الأمر، بعض الأماكن يكثر فيها الغش والكذب والتدليس، وبعض الأماكن يخف فيها، نعم.
عدم جواز اتهام من ظهرت عليه آثار النعمة بأن هذا حصل له من طريق محرم
ومما نعتقده أنَّا إذا رأينا مَنْ ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه، جائز أن يؤكل طعامه، والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عن ماله، فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط جاز إلا من داخل الظَّلَمة، ومن لا يزغ عن الظلم وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك: فالسؤال والتوقي؛ كما سأل الصديق غلامه، فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا، فلا يطلق عليه اسم الحلال ولا الحرام إلا أنه مشتبه؛ فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق، وأجاز ابن مسعود وسلمان وقالا: "كل منه وعليه التبعة". والناس طبقات والدين الحنيفية السمحة.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة البقرة آية : 168.(1/462)
نعم، هنا مسألة أنه لا يجوز أن يتهم من ظهر عليه آثار النعمة أن هذا حصل من طريق محرم، فالمؤلف يقول: لا يجوز اتهامه بل ويجوز أن يؤكل طعامه والمعاملة معه والاتجار معه، وليس علينا الكشف عن ماله، بمعنى ليس من المشروع أنك كل من جئت ستبيع أو تشتري منه أو تأكل من طعامه سألته ما مصدر طعامك؟ ما مصدر رزقك؟ هذا خلاف ما عليه الشرع الحنيف والملة الحنيفية السمحة، الأصل في مكاسب الناس الإباحة، والأصل في مطاعم الناس الإباحة، يقول: إلا من سأل على سبيل الاحتياط، إذا وُجد هناك شبهة ومظنة المال الحرام، والمسألة خلافية كما سيذكر ذلك.
يقول "إن سأل من باب الاحتياط فلا مانع كما سأل الصديق". وهذا ثابت في صحيح البخاري أن أبا بكر من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان لأبي بكر غلام، فكان يجيء بكسبه فلا يأكل منه حتى يسأله، فأتاه ليلة بكسب فأكل منه ولم يسأله، ثم سأله قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته فأعطاني بذلك فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه فعْل أبي بكر - رضي الله عنه - هذا من باب الورع وليس من باب الوجوب.(1/463)
ولهذا ذكر الأثرين عن ابن مسعود وسلمان أنهما قالا: "كل منه وعليه التبعة". طيب من كان ماله مختلط يعني فيه حلال وفيه حرام، فيه ربا وفيه غير ربا نعم، فهل يؤكل طعامه؟ المسألة خلافية، ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن كان أكثر ماله حراما فينبغي اجتنابه، على خلاف بينهم هل هذه الكراهة للتحريم أو للتنزيه، وهذا مروي عن الإمام الشافعي والإمام أحمد، وأما إن كان أكثر ماله حلالا جاز أكل طعامه والتعامل معه، وذهب الزهري ومكحول إلى أنه لا بأس أن يؤكل منه ما لم يُعرف أنه حرام بعينه، إذا عرفت أن هذا نعم الذي قُدَّم لك هو الحرام أو من الكسب الحرام بعينه فلا يجوز، فإن لم يعرف في ماله الحرام بعينه ولكن علم أن فيه شبهة فلا بأس بالأكل منه، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد برواية عنه.
وذهب إسحاق بن راهويه والحسن البصري وابن سيرين إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان في الرخصة مطلقا، وهذا ما أفتى به فضيلة شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-؛ وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من مال اليهود، أكل طعامهم وقَبِل دعوتهم، وأكثر أموالهم -كما ذكر الله - عز وجل - عنهم- أكثر أموالهم من الربا، نعم أموالهم هذه مختلطة، لكن كثير فيها من الربا، فالصحيح أن الإنسان يأكل كما قال سلمان وكما قال ابن مسعود: "كل منه وعليه التبعة". لك مغنمه وعليه مغرمه، نعم.
عدم سقوط الخوف والرجاء عن العبد
وأن مما نعتقده أن العبد ما دام أحكام الدار جاريةً عليه فلا يسقط عنه الخوف والرجاء، وكل من ادعى الأمن فهو جاهل بالله، وبما أخبر به عن نفسه قال تعالى: { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) } (1) وقد أفردت كشف عوار كل من قال بذلك.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 99.(1/464)
نعم، أيضا مما ذهب إليه بعض أهل التصوف: التعبد إلى الله - عز وجل - بالمحبة دون الخوف والرجاء، ولهذا قال المؤلف: "إن العبد ما دام أحكام الدار جاريةً عليه -أحكام الدار الدنيا يعني إلى الآن ما انتقل إلى الدار الآخرة- فإنه لا يسقط عنه الخوف والرجاء"، وذلك أن أهل التصوف -أو بعض أهل التصوف- جعلوا الخوف والرجاء من مقامات العامة، يقولون: الذي يعبد الله - عز وجل - بالخوف ويعبده بالرجاء هذا عامة الناس، أما الأولياء عندهم فهم الذين يتعبدون الله - عز وجل - بالمحبة.
ولهذا قال بعضهم: "لم أعبدك شوقا إلى جنتك ولا خوفا من نارك". والنبي - صلى الله عليه وسلم - عبَد الله -وهو أعبد الناس وأعلم الناس- عبَد الله شوقا إليه ورغبة في جنته وخوفا من ناره، ولهذا قال العلماء: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، كما أن من عبد الله وحده بالرجاء فهو مرجئ، ومن عبد الله وحده بالخوف فهو حروري، أما المؤمن فهو الذي يعبد الله - عز وجل - خوفا ورجاء ومحبة له -سبحانه وتعالى- نعم.
العبودية والتكاليف لا تسقط عن العبد ما عقَل وعلم ما له وما عليه
ونعتقد أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقَل وعلِم ما له وما عليه، فيبقى. على أحكام القوة والاستطاعة؛ إذ لم يسقط ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن زعم أنه قد خرج من رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية والخروج إلى أحكام الأَحدية المبدئية بعلائق الآخرية؛ فهو كافر لا محالة.
ــــــــــــ(1/465)
نعم، وهذا أيضا من الاعتقادات الفاسدة التي وجدت عند غلاة الصوفية: أن الإنسان إذا وصل إلى درجة من العلم واليقين سقطت عنه -كما أسلفت- سقطت عنه التكاليف، وأنه الآن خرج من رق العبودية إلى فضاء الحرية، وقوله: "والخروج إلى أحكام الأحدية المبدئية" الأحدية المقصود بها عند أهل التصوف -هذا من مصطلحاتهم- القول بوحدة الوجود، بمعنى أن هذه الفوارق وهذه القواسم وهذه الاختلافات التي أمام عينيه تنتهي وتصبح شيئا واحدا، يصبح الرب عبدا والعبد ربا -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-، إذا وصل إلى هذه الدرجة خلاص انتهت التكاليف ولم يعد مكلفا.
ولهذا قال الشيخ: هذا كفر لا محالة، وتلاحظون أن بعض الطوائف والفرق التي ظهرت متأخرا كالأحباش أتباع عبد الله الهرري، التي الآن انتشرت في بعض أقطار العالم الإسلامي، أصول هذا المذهب هو مذهب أهل الحلول والاتحاد، إسقاط التكاليف، ولهذا يقِلُّ عندهم الشيء المحرم، الأصل عندهم الإباحة، فأصول هذا المذهب مأخوذ من مذهب أهل الحلول والاتحاد، نعم.
كفر من قال بسقوط التكاليف والعبودية عن العبد
فهو كافر لا محالة، إلا من اعتراه علة أو رأفة فصار معتوها أو مجنونا أو مبرسما، وقد اختلط في عقله أو لحقه غشية، ارتفع عنه أحكام العقل، وذهب عنه التمييز والمعرفة، فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة.
ــــــــــــ
نعم، يقول: إن هذا القول لا يقول به ولا يعتقده إلا كافر معلوم الكفر خارج عن الملة، إلا في حالة إذا كان هذا المتكلم أو هذا المعتقد أنه وصل إلى درجة ارتفع عنه التكليف بأيش؟ بسبب أيش؟ ليس بسبب اليقين الذي يزعمه هؤلاء، إنما بسبب الجنون، مرض كما قال: "إلا من اعتراه علة أو رأفة فصار معتوها أو مجنونا أو مبرسما". علة، المبرسم هي العلة -أو علة- نوع من العلل تصيب الرأس يفقد الإنسان معها وعيه، فاختلط عقله أو لحقه ما يغشى عقله، فتكلم بهذا الكلام الذي لا يقوله عاقل.(1/466)
ولهذا شيخ الإسلام -رحمه الله- التمس لبعضهم أو جعل هناك احتمال، قال: إن كان.. لما نقل عن بعضهم كلام كفر بواح من هؤلاء -غلاة الصوفية- الذين يزعمون بهم الولاية، قال: لا يقول هذا مسلم، ما يقوله إلا كافر معلوم الكفر أو معلوم كفره من الدين بالضرورة، إلا أن يكون هذا الرجل تكلم بهذا الكلام أو قال هذا القول في حالة افتقد عقله، بمعنى وصل إلى درجة مما يسمونه -كما سيأتي- الوجد أو التواجد كيف؟ فقد عقله فأصبح يطرق هذه العبارات التي لا يعقلها، قال: ربما هذا يعامل معاملة من رفع عنه التكليف، نعم.
كفر من قال أنه يعرف مآل ومصير أحد من الناس وبماذا سيختم له ومنزلته
ومن زعم الإشراف على الخلق حتى يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند الله بغير الوحي المنزل من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو خارج عن الملة، ومن ادعى أنه يعرف ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد باء بغضب من الله، ومن ادعى أنه يعرف مآل الخلق ومنقلبهم وأنهم على ماذا يموتون ويختم لهم بغير الوحي من قول الله وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد باء بغضب من الله.
ــــــــــــ(1/467)
نعم، كل هذه الاعتقادات الباطلة موجودة عند بعض غلاة الصوفية، والقاسم المشترك بينها ادعاء علم الغيب، فبعضهم يزعم أنه وصل إلى درجة من الولاية بحيث إنه يعرف مآل هذا ومصير ذاك وبماذا سيختم لهذا ومنزلته، ويعلم ما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلمه أو يقوله، وكل هذا لا شك أنه باطل وكفر؛ لأن فيه ادعاء لعلم الغيب، وعلم الغيب من الأمور التي استأثر الله بها { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } (1) والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كما أخبر الله عنه: { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } (2) إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي ينزل عليه الوحي لا يعلم الغيب ولا يعرف مآل الناس ولا ماذا سيختم لهم إلا بوحي من الله، فكيف بمن دونه من الناس؟ نعم.
الفراسة ليست من ادعاء علم الغيب
والفراسة حق على أصول ذكرناها، ليس ذلك مما سميناه في شيء.
ــــــــــــ
نعم، يعني كأن أبو عبد الله ابن خفيف أجاب على سؤال ربما يرد، طيب الفراسة هل هي من ادعاء علم الغيب؟ قال: لا، الفراسة مستثناة من ذلك، والفراسة اختُلف في تعريفها، ما المقصود بها أو ما هي الفراسة؟ عرفها ابن القيم -رحمه الله- قال: "هي خاطر يهجم على القلب ينافي ما يضاده، يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة"، وعرفها أيضا بتعريف آخر قال: "هي نور يقذفه الله في القلب فيخطر له الشيء فيكون كما خطر له، وأحيانا ينفذ هذا النور إلى العين فيرى ما لا يراه غيره، وهذا موهبة من الله -عز وجل-".
__________
(1) - سورة النمل آية : 65.
(2) - سورة الأعراف آية : 188.(1/468)
وهذه هي الفراسة الإيمانية التي تحصل بالإيمان وبالتقوى، وقد حصلت لبعض الصحابة كعمر - رضي الله عنه - فكانت فراسته قلما تخطئ، ينظر بنور الله - عز وجل - ولعله يُستدل لذلك بالحديث الذي في البخاري: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وقال في آخر الحديث: وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها فهو ينظر بنور الله فيوفق.
يستدل العلماء للفراسة بقول الله - عز وجل - { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) } (1) فسرها مجاهد وغيره أنها: للمتفرسين، ونقل أو نسب ذلك ابن القيم إلى ابن عباس، ويستدل العلماء أيضا بالحديث الحسن: اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله هذا الحديث رواه الترمذي والطبراني وابن جرير وأبو نعيم في الحلية، وحسنه جمع من أهل العلم كالهيثمي والعجلوني والكناني في تنزيه الشريعة والشوكاني الشاهد أن هذه الفراسة ليست من ادعاء علم الغيب، إنما هي نور يقذفه الله - عز وجل - في قلوب بعض عباده، فربما انكشف لهم شيء مما غاب عن غيرهم.
__________
(1) - سورة الحجر آية : 75.(1/469)
أحيانا هذه الفراسة -كما ذكر ابن القيم هناك نوع آخر- مكتسبة، تحصل بالانقطاع عن الناس، الجوع، الرياضة -الرياضة النفسية- نعم، فقد يكون عنده شيء من الحدة وشيء من الذكاء بحيث أنه يعرف أو يدرك أمورا لا يدركها غيره، وهناك أيضا نوع من الفراسة يقال لها الفراسة الخَلقية، وهي الاستدلال بالخَلْق على الخُلُق، وهذا يوجد عند بعض من تمرس في علم النفس وعلم الطبائع، قد يستدل بخَلق هذا الشخص على شيء من أخلاقه، على شيء من طباعه، فمثلا يستدل بهذا الخَلق على أن هذا مرح أو هذا سريع الغضب أو هذا.. الشاهد أن الفراسة ليست من ادعاء علم الغيب، نعم.
كفر من قال أن صفاته قائمة بصفات الله - عز وجل -
ومن زعم أن صفاته قائمة بصفاته ويشير في ذلك إلى غير الأيد والعصمة والتوفيق والهداية وأشار إلى صفاته - عز وجل - القديمة فهو حلولي قائل باللاهوتية والالتحام، وذلك كفر لا محالة.
ــــــــــــ
نعم، ومن زعم أن صفاته قائمة بصفاته، أن صفات الله - عز وجل - قائمة بصفات هذا المخلوق، ويشير ذلك إلى غير الأيد -أي القوة- أو العصمة أو التوفيق والهداية التي هي من الله - عز وجل - العصمة كون الله - عز وجل - يعصم هذا الشخص أو يوفق هذا الشخص أو يهدي هذا الشخص ليس معناه أن هناك شيء من الإله حل في هذا المخلوق لا، لكن من زعم أن شيئا من صفات الله - عز وجل - سمع الله، بصر الله، قوة الله نعم حلت فيه، يقول المؤلف: فهو حلولي من أهل الحلول القائلين إن الرب حالٌّ في المخلوق، "قائل باللاهوتية" اللاهوتية نسبة إلى اللاهوت، ومراد المؤلف أن من زعم أن صفات الله قائمة بصفاته فهو قائل بمذهب فرقة النسطورية -كما سيأتي-، النسطورية يزعمون أن اللاهوت الذي هو الجزء الإلهي حل في الناسوت الذي هو الجزء البشري الذي يمثله عيسى -عليه السلام- نعم.
الأرواح كلها مخلوقة(1/470)
ونعتقد أن الأرواح كلها مخلوقة، ومن قال إنها غير مخلوقة فقد ضاهى قول النصارى النسطورية في المسيح، وذلك كفر بالله العظيم.
ــــــــــــ
نعم، و"أن الأرواح كلها مخلوقة" بمعنى أنها ليست قديمة، وفي هذا رد على بعض الرافضة وزنادقة الصوفية والفلاسفة الذين زعموا أن هذه الروح قديمة وليست مخلوقة، يقول: "فقد ضاهى قول النسطورية في المسيح وذلك كفر بالله العظيم". وذلك أن النسطورية وهي فرقة من النصارى تُنسب إلى نسطور الحكيم، وهو أول من حرف الأناجيل، زعم أن الكلمة -التي هي الروح- قديمة وليست محدثة، يعني ليست مخلوقة، فهي قديمة بقدم الله - عز وجل - نعم، يزعم أن هذه الروح لا زالت متولدة من الله - عز وجل - لكن اتحادها بجسد المسيح تأخر، واضح؟ تأخر إلى ولادة المسيح، أما أصل الكلمة التي هي الروح -روح المسيح عليه السلام- فهي قديمة بقدم الله - عز وجل - نعم.
كفر من قال إن شيئا من صفات الله - عز وجل - حالٌّ في العبد
ومن قال إن شيئا من صفات الله - عز وجل - حالٌّ في العبد وقال بالتبعيض على الله فقد كفر.
ــــــــــــ
نعم، من زعم أن شيئا من صفات الله -أي بعض صفات الله عز وجل- حالٌّ في شيء من المخلوقات فقد كفر، نعم.
القرآن كلام الله غير مخلوق
والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ولا حالٌّ في مخلوق، وأنه كيفما تُلي وقرئ وحُفظ فهو صفة الله - عز وجل - وليس الدرس من المدروس ولا التلاوة من المتلو؛ لأنه - عز وجل - بجميع أسمائه وصفاته غير مخلوق، ومن قال بغير ذلك فهو كافر.
ــــــــــــ
وهذا تقدم الكلام أن القرآن كلام الله غير مخلوق حيثما تلي أو حفظ أو درس نعم أو كتب فهو كلام الله، وكلام الله ليس هو هذا الصوت، وليس هو هذا المداد الذي كتب به الكلام، كلام الله الذي تكلم به حقيقة، ونزل به جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلَّغه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أمته، فهو كلام الله حيثما تصرَّف صفة له -سبحانه وتعالى- نعم.(1/471)
القراءة الملحنة بدعة وضلالة
وأن القصائد بدعة مجراها على قسمين.
ــــــــــــ
ونعتقد أن القراءة الملحنة بدعة وضلالة، هذه تكلم عليها الإمام ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد فوَفَّى في هذه المسألة، القراءة الملحنة التي تخرج عن الحد الشرعي ويبالغ فيها لا شك أنها بدعة، لم تؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم تؤثر عن أصحابه -رضي الله عنهم-، التكلف في التلحين في قراءة القرآن، والخروج بها عن الحد الشرعي الثابت عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لا شك أن ذلك بدعة، نعم.
التعبد لله بالقصائد بدعة
وأن القصائد بدعة ومجراها على قسمين، فالحسن من ذلك من ذكر آلاء الله ونعمائه، وإظهار نعت الصالحين وصفة المتقين فذلك جائز، وتركه والاشتغال بذكر الله والقرآن والعلم أولى به، وما جرى على وصف المرئيات ونعت المخلوقات فاستماع ذلك على الله كفر، واستماع الغناء والرباعيات على الله كفر، والرقص بالإيقاع ونعت الرقاصين على أحكام الدين فسق، وعلى أحكام التواجد والمغاني لهو ولعب.
ــــــــــــ
نعم، كل هذه مما ابتلي بها بعض المنتسبين لهذه الطائفة -أعني الصوفية-، وهي التعبد لله - عز وجل - بطرق ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة، ولم يعرف ذلك عن سلف الأمة، بل هو مما فتح به الشيطان عليهم بابًا، فتعبد الله - عز وجل - أو عبد الله - عز وجل - بما لم يشرعه رسوله، قال: إن القصائد بدعة، المقصود بالقصائد التعبد لله - عز وجل - بهذه القصائد، لا شك أنه بدعة.
ثم ذكر أن هذه القصائد مجراها على قسمين، فالحسن منها حسن والقبيح منها قبيح، ولهذا قال: فالحسن من ذلك من ذكر آلاء الله ونعمائه وإظهار نعت الصالحين وصفة المتقين فذلك جائز، لكن تركه والاشتغال بغيره أو الاشتغال بذكر الله - عز وجل - وبقراءة القرآن وبالعلم الشرعي لا شك أن ذلك أفضل وأولى.(1/472)
يقول: "وما جرى على وصف المرئيات ونعت المخلوقات فاستماع ذلك على الله كفر" بمعنى أن وصف الله - عز وجل - بصفات المخلوقات من المرئيات وغيرها أن هذا كفر، وسيوضح هذا الكلام المجمل الأسطر القادمة، هذا معنى قوله: "وما جرى على وصف المرئيات ونعت المخلوقات فاستماع ذلك على الله كفر" بمعنى أن يوصف الله - عز وجل - بصفات المخلوقين في هذه الأبيات الشعرية، ثم يبدأ هؤلاء يترنمون بالأصوات ويزعمون أنهم يتعبدون الله - عز وجل - بذلك، يقول: هذه كفر لأنهم وصفوا الله بصفات البشر، بصفات الخلق، بصفات المحدثات.
يقول: "واستماع الغناء والرباعيات". الرباعيات هي منظومة شعرية تتألف من أربعة أشطر، كل أربعة أبيات تكون قافيتها واحدة، فهذه الأربعة قافيتها النون، ثم بعدها الميم، كانوا -أو بعض أهل التصوف- يرددون هذا الغناء وهذه الرباعيات ويسمونه استماع، يتعبدون الله - عز وجل - بهذه الأعمال المبتدعة.
يقول: "واستماع الغناء والرباعيات على الله كفر" بمعنى أن تكون وصف هذه المخلوقات بهذه الهيئة بهذا الغناء وبهذه الطريقة هذا كفر، حتى وإن زعموا أنهم يتقربون إلى الله - عز وجل - بذلك؛ لأنهم وصفوا الله بما يتنزه عنه.
يقول: "والرقص بالإيقاع ونعت الرقاصين على أحكام الدين فسق" بمعنى: والرقص على الإيقاع، الرقص على إيقاع الدفوف وما شابهها، وهذا أيضا موجود عند طوائف من أهل التصوف، يضربون الدفوف ويقومون يتراقصون مع أنغام هذه الدفوف، ويزعمون أنهم في حالة تواجد، تعبُّد إلى الله - عز وجل - قال: هذا الأمر فسق.(1/473)
وأيضا "نعت الرقاصين على أحكام الدين فسق" بمعنى: وصف هؤلاء الرقاصين أنهم من الأولياء أو الأتقياء أو المؤمنين أو العباد أو الزهاد هذا فسق لا يجوز؛ لأن هؤلاء حقيقة فسقة؛ لأن هذه الصفات صفات الفساق، "وعلى أحكام التواجد" التواجد أيضا من مقامات الصوفية، ومصطلح من مصطلحات الصوفية، وهو: يقولون من وَجَدَ وَجْدا أو وِجْدا، بالفتح يعني الحب وبالكسر يعني الحزن، عندهم التواجد عند الصوفية استجلاب الوجد بالذكر والتفكر، يجتمعون وإما أن يغنوا ويرقصوا ويطربوا أو يقومون يرددون بعض الأذكار جماعيا أو حتى فرديا ذكر مخصوص، يزعمون أنهم يستجلبون بذلك -تعالى الله- الروح الإلهية، وأنهم يرتفعون عن هذا العالم، ويحلقون عن هذا الوجود إلى عالم آخر.
ولهذا أحيانا عن طريق هذا الوجد يصلون إلى حالة ما يسمى أيش؟ الإسطيلان السكر مصطلحات صوفية، يغيب الواحد عن الحالة الموجودة والناس الموجودين، ويعيش في عالم آخر حتى أحيانا يزعم أنه خلاص الآن بدأ يعيش مع الحضرة الإلهية، وكل هذا مما لبس به الشيطان على هؤلاء، نعم.
حكم سماع هذه القصائد الملحنة
وحرام على كل من سمع القصائد والرباعيات الملحنة الجاري بين أهل الأطباع على أحكام الذكر إلا لمن تقدم له العلم بأحكام التوحيد ومعرفة أسمائه وصفاته وما يضاف إلى الله تعالى من ذلك لما لا يليق به - عز وجل - مما هو منزه عنه فيكون استماعه كما قال: { يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ } (1) .
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة الزمر آية : 18.(1/474)
نعم، من سمع هذه القصائد وهذه الرباعيات كسماع سائر الشعر وسائر الأبيات، فكما سبق أن ذكره المؤلف: الحسن منه حسن والقبيح منه قبيح، -بس- بشرط أن لا يتعبد الله - عز وجل - بهذا الأمر، وبشرط أيضا ألا تتضمن هذه الأبيات وصف الله - عز وجل - بما يتنزه عنه، ولهذا قال: فيكون استماعه كما قال تعالى: { يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } (1) كسائر القول يستمعه المؤمن فيأخذ بالحسن ويدع القبيح، نعم.
عدم جواز اشتمال هذه القصائد على وصف لله توصف به المخلوقات
وكل من جهِل ذلك وقصد استماعه على الله - عز وجل - على غير تفصيله فهو كفر لا محالة، فكل من جمع القول وأصغى بالإضافة إلى الله فغير جائز إلا لمن عرف ما وصفت من ذكر الله ونعمائه وما هو موصوف به - عز وجل - ما ليس للمخلوق فيه نعت ولا وصف بل ترْك ذلك أولى وأحوط.
ــــــــــــ
هذا كله شرح للكلام المتقدم أن الرباعيات إذا اشتملت على وصف الله بما يتنزه عنه من وصف المخلوقات فهذا لا يجوز وهذا هو الكفر، نعم.
التعبد إلى الله بهذا الاستماع مما أنكره الأئمة والعلماء
والأصل في ذلك أنها بدعة.
أي التعبد إلى الله - عز وجل - بهذه القصائد وبهذا الرقص وبهذا التواجد وبهذا الاستماع أن الأصل فيه أنه أقل ما فيه أنه بدعة، نعم.
ــــــــــــ
والفتنة فيها غير مأمونة إلى أن قال: واتخاذ المجالس على الاستماع والغناء والرقص بالرباعيات بدعة، وذلك مما أنكره المطلبي ومالك، والثوري ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق، والإقتداء بهم أولى من الإقتداء بمن لا يُعرفون في الدين، ولا لهم قَدَم عند المخلصين.
نعم يعني أن التعبد إلى الله - عز وجل - بهذا الاستماع المحدث المبتدع مما أنكره الأئمة والعلماء وذكر منهم الشافعي ومالك والثوري ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وغيرهم. نعم.
قول بشر بن الحارث في هذه القصائد
__________
(1) - سورة الزمر آية : 18.(1/475)
وبلغني أنه قيل لبشر بن الحارث: إنّ أصحابك قد أحدثوا شيئا يقال له القصائد، قال: مثل أيش؟ قال: مثل قوله:
تسكني دار الجليل اصبري يا نفس حتى
فقال: حسن، وأين يكون هؤلاء الذين يستمعون ذلك؟ قال: قلت: ببغداد. فقال: كذبوا والله الذي لا إله غيره، لا يسكن ببغداد من يسمع ذلك.
ــــــــــــ
نعم. يقول: بلغني أنه قيل لبشر بن الحارث لبشر الحافي الذي يعظمه الصوفية لزهده وعبادته وعلمه قد أثنى عليه الإمام أحمد وهو من الزهاد الذي زهدهم يوافق للسنة، إن أصحابك قد أحدثوا شيئا يقال له القصائد قال مثل أيش؟
قال: مثل قولهم يعني يرددون هذا الكلام يترنمون به:
تسكني دار الجليل اصبري يا نفس حتى
أي دار الجنة فقد حصل لكن أين يكون هؤلاء الذي يستمعون لذلك قال قلت ببغداد قال: كذبوا والذي لا إله غيره لا يسكن بغداد من يسمع ذلك؛ وذلك أن بعض أهل الزهد وأهل العلم كانوا ينكرون السكنى ببغداد آنذاك، والسبب أن بغداد كان الغالب على أهلها الترف والفسق واللهو؛ ولهذا كانوا يرون أن السكنى في مثل هذه المدن ليست من صفات الصالحين الزهاد؛ لأنه لا بد أن يتأثر بهذه الحياة المترفة.
نعم. ولعلنا نقف على ذلك، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الفقير يصبر فإذا عجز عن الصبر كان السؤال أولى به
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، لعلنا نكمل كلام أبي عبد الله بن الخطيب إلى أن يحضر أخونا القارئ.
يقول: قال أبو عبد الله: ومما نقول وهو قول أئمتنا أن الفقير إذا احتاج وصبر لم يتكلف إلى وقت يفتح الله له كان أعلى فمن عجز عن الصبر كان السؤال أولى به على قوله - صلى الله عليه وسلم - لأن يأخذ أحدكم حبله الحديث.
ــــــــــــ(1/476)
يقول: ومما نقول وهو قول أئمتنا أن الفقير، والفقير مرتبة من مراتب الصوفية، ولهذا سئل سهل بن عبد الله التستري عن الفقير الصادق فقال: هو من لا يسأل ولا يرد ولا يحدث.
وقال ابن الجلاء: الفقر ألا يكون لك، فإذا لك فلا يكون لك حتى تؤتيه الشاهد أن مصطلح الفقير أو مسمى الفقير هذه مرتبة من مراتب الصوفية.
يقول: إذا احتاج وصبر ولم يتكلف إلى وقت يفتح الله له كان أعلى فمن عجز عن الصبر.
لا شك أن الفقر ليس مطلوبا لذاته وليس بمستحسن بالنظر إليه كصفة بل هي حكاية واقع حادث والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتمنَ الفقر. هذا ما غلط فيه الصوفية، ولا شك أن الغني المنفق نفعه أكثر من نفع هذا الفقير المعدم.
. الغني المنفق في سبيل الله - عز وجل - أثره في الأمة وأثره على المسلمين أحسن حال من هذا الفقير يقول: على هذا الفقير أن يصبر حتى يفتح الله - عز وجل - له فمن عجز عن الصبر كان السؤال أولى به على قوله - صلى الله عليه وسلم - لأن يأخذ أحدكم حبله الحديث في الصحيحين.
وذلك لأن -النبي صلى الله عليه وسلم- قال من حديث أبي هريرة: والذي نفسي بيديه لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه .
فالتكفف عما في أيدي الناس والضرب في الأرض وفعل الأسباب هذا هو الأمر ..
يقول، ونقول: إن ترك المكاسب غير جائز إلا بشرائط مرسومة من التعفف والاستغناء عما في أيدي الناس.
ومن جعل السؤال حرفة وهو صحيح فهو مجنون في الحقيقة خارج، أي خارج عن الطريقة الصوفية ولا شك أن أهل التصوف يرون أن الجلوس وترك التكسب أن هذا أمر . وأمر مطلوب وهذا خطأ ولهذا أنكر عمر-رضي الله عنه- على أولئك الذين جلسوا في المسجد يتعبدون انقطعوا للعبادة فسألهم أو سأل من أين لهم هؤلاء الرزق؟(1/477)
قالوا: هؤلاء المتوكلون على الله، فضربهم -رضي الله عنهم- بالدرة، وقال: هؤلاء المتواكلون، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطانا هذا هو التوكل الصحيح، وهذا هو التوكل الشرعي.
التوكل مع فعل السبب وليس بترك الأسباب.
فكون هؤلاء يجلسون بالمساجد أو يجلسون في الزوايا يسألون الناس يتكففون الناس ويزعمون أنهم منقطعون للعبادة وأنهم تركوا التكسب وطلب الرزق زهدا في الدنيا، يقال لهم: ليس هذا هو الأمر المشروع بل الأمر المشروع البيع والشراء، نعم من الطرق المباحة، وفعل الأسباب.
فسق المستمع إلى الغناء والملاهي
ثم قال: ونقول إن المستمع إلى الغناء والملاهي فإن ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: الغناء ينبت النفاق في القلب وإن لم يكفر فإنه فسق لا محالة.
ــــــــــــ
لا شك أن استماع الغناء وأدوات اللهو أن ذلك ضرب من ضروب الفسق؛ وذلك لثبوت الأدلة الدالة على تحريم الغناء، ذكر المؤلف هذا الحديث وهو عن ابن مسعود مرفوعا رواه أبو داود والبيهقي وابن أبي الدنيا لكن نقل المناوي في فيض القدير عن العراقي قوله: رفعه غير صحيح؛ لأن في إسناده من لم يسم وهذا هو الصحيح، فإن هذا الحديث لا يصح مرفوعا، بل يصح موقوفا عن ابن مسعود-رضي الله عنه- كما رواه عنه ذلك البيهقي في السنن الكبرى.
أما قوله: إن لم يكفر فلعله أراد الكفر الأصغر، الكفر بالنعمة حتى وإن قال قائل: لعله أراد أن من استباح الغناء، من استحله فإنه يكفر فيقال له حتى . فإن المستحل الغناء لم يستحل أمرا معلوما تحريمه من الدين بالضرورة لأجل أن يكفر، فإن المستمع للغناء فاسق عاصي، لكن لا يصل إلى حد الكفر.
كفر من زعم أن الرسول واسط يؤدي وأن المرسل إليه أفضل
ثم قال: والذين اختاروا قول أئمتنا: ترك المراء في الدين والكلام في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، وهذا كله تقدم الكلام عليه.(1/478)
ومن زعم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - واسط يؤدي، وأن المرسل إليه أفضل فهو كافر بالله.
ــــــــــــ
وهذا مذهب غلاة المتصوفة الذين زعموا أن الرسالة عبارة عن واسطة فقط للتبليغ؛ ولهذا الولي عندهم أفضل من الرسول.
ويقول ابن عربي في ذلك وقد ذكرت ذلك سابقا بيتا من الشعر:
فويق الرسول ودون الولي مقام النبوة في برزخ
ولهذا الترتيب عنده أن أعلى الدرجات الولاية ثم يليه النبوة ثم يلي ذلك الرسول، ويروى عنه أنه قال ابن عربي وحقيقة الرسالة إبلاغ كلام من متكلم إلى سامع فهي حال لا مقام ولا بقاء لها بعد انقضاء البلاغ، ولهذا يقول: فقط هي إبلاغ كان فإذا انتهى هذا البلاغ انتهت هذه الصفة، فهي حال لا مقام باقي مثل الولاية كما يزعم، ويروى عنه أنه قال: إن الولي يعلم علمين علم الشريعة وعلم الحقيقة أي الظاهر والباطن والتنزيل والتأويل حيث إن الرسول من حيث هو رسول ليس له علم إلا بالظاهر والتنزيل والشريعة.
وقيل لبعضهم بعض هؤلاء الغلاة: إن لواء الناس جميعا أو إن الخلق كلهم تحت لواء محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة هذا يدل على فضل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فرد عليهم وقال: والله إن لوائي أعظم من لواء محمد - صلى الله عليه وسلم - لوائي من نور تحته الجان والإنس.
فهذا غلو وخروج عن الدين، فمن اعتقد أنه في درجة مماثلة لدرجة الرسل فقد كفر، فكيف بمن زعم أنه أفضل من الرسل؟
كفر من قال بإسقاط الوسائط على الجملة
ولهذا قال المؤلف: فهو كافر بالله، ومن قال بإسقاط الوسائط على الجملة فقد كفر.
ــــــــــــ
الوسائط التي بين الخلق وبين الله فمن الوسائط؟
الوسائط الرسل والملائكة هم الوسائط، لكن حلولية وغلاة الصوفية يزعمون أنهم يأخذون عن الله بلا واسطة ويسمعون من الله بلا واسطة. وقد روي عن ابن عربي أنه قال: الولي يستمد المعرفة من حيث يأخذها الملك الذي يؤدي بدوره إلى الأنبياء والرسل.(1/479)
يقول: المكان والمعدن الذي يأخذ منه الملك يأخذ من جبريل ويؤديه إلى الرسل، الولي يأخذ من هذا المكان مباشرة أي يسمع من الله مباشرة فهم يسقطون الوسائط بينهم وبين الله؛ ولهذا كفَّر المؤلف من ذهب إلى هذا القول، نعم.
كلام الشيخ عبد القادر الجيلي في إثبات الصفات
ومن متأخريهم الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي، قال في كتاب الغنية: أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد.
إلى أن قال: وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء، { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (1) .
{ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) } (2) .
ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (3) وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش.
قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف، وذكر كلاما طويلا لا يحتمله هذا الموضع، وذكر في سائر الصفات نحو هذا.
ــــــــــــ
نعم. وهذا -أيضا- قول أحد الأئمة الذين ينتسب إليهم هؤلاء الصوفية الذين ينفون عن الله صفة العلو ويزعمون أن الله في كل مكان بذاته سبحانه وتعالى، وهذا الإمام يعظمونه وينتسبون إليه وهو الإمام عبد القادربن أبي صالح الجيلي المقصود به الجيلاني وهناك الآن طريقة مشهورة ومنتشرة تنتسب إلى الشيخ عبد القادر وهي الطريقة القادرية.
__________
(1) - سورة فاطر آية : 10.
(2) - سورة السجدة آية : 5.
(3) - سورة طه آية : 5.(1/480)
والشيخ عبد القادر هو المتوفى سنة خمسمائة إحدى وستين كما قال فيه الإمام الذهبي وصفه بأنه الإمام العالم الزاهد العارف القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء، ثم قال: وفي جملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن وعليه مآخذ في بعض أقاويله ودعاويه والله الموعد وبعض ذلك مكتوب عليه.
ونقل شيخ الإسلام -رحمه الله- عن عبد القادر أنه سئل هل كان لله ولي على غير طريقة الإمام أحمد أو على غير اعتقاد الإمام أحمد؟
فقال: لا، لا كان ولا يكون.
وعلى كُلٍّ كما قال أهل العلم، وذكر ذلك الإمام الشاطبي في الاعتصام أن كثيرا مما نقل عن الشيخ عبد القادر أو ما نسب إليه ونسب إلى غيره من الأئمة المتقدمين الذين ينتسب إليهم المتصوفة الذين عرفوا بالتصوف المعتدل، نعم وقع منهم أخطاء، وربما وقع من بعضهم بعض الزلات وهم ليسوا بمعصومين، لكن كثير مما ينسب لهؤلاء مكذوب، إنما هو من افتراء وصنع أتباعه ممن أتى بعدهم، كنقلهم بعض الشطحات التي لا يقول بها مسلم؛ ولهذا يروى أن عبد القادر -رحمه الله- رأى في المنام عرشا بين السماء والأرض وهناك من يناديه من فوق العرش يقول: يا عبد القادر قد وضعت عنك التكاليف، أنا ربك قد وضعت عنك التكاليف. بماذا أجاب؟
قال: اخسأ عدو الله.
فقيل له لما قص الرؤيا: كيف عرفت أنه الشيطان؟
قال: لا يمكن أن يضع الله - عز وجل - التكاليف عن أحد من عباده.
فهذا مما أوقع الصوفية في ما أوقعهم فيه، يتلبس لهم الشيطان بصور ويزعم أنه الله - عز وجل - وأنه يخاطبهم وأنه يأمرهم بكذا ويضع عنهم كذا.
فهذا يدل على سلامة منهج هذا الرجل -رحمه الله- فذكر في كتابه الغنية وهذا الكتاب مطبوع، ذكر هذا الكلام أن معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاتصاف، وهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد إلى أن قال: وهو بجهة العلو.(1/481)
الشاهد أن هذا الكلام فيه تصريح بإثبات صفتي العلو والاستواء على العرش حقيقة لله - عز وجل - وهذا فيه رد على هؤلاء الحلولية الصوفية المنتسبين لهذا الإمام، فهو يخالفهم صراحة، وهذا كتابه بين أيدينا نعم.
كلام العلماء في إثبات الصفات لا يحصى
ولو ذكرتُ ما قال العلماء في ذلك لطال الكتاب جدا.
ــــــــــــ
نعم، رحمه الله يقول يعني لو ذكرت كل ما قاله العلماء في إثبات هذه الصفات أو إثبات جنس هذه الصفات لطال هذا الكتاب وليس هذا هو المقصود؛ لأن الكتاب عبارة عن جواب، عن إجابة فقط لفتوى ولهذا سيذكر فيما بعد أنه بسط الكلام في هذه المسألة في مواضع أخرى كما بسطها -رحمه الله- في درء تعارض العقل والنقل كما بسط ذلك في . التأسيس في الرد على أساس التقديس للرازي، كما بسط ذلك -أيضا- في كتابه جواب الاعتراضات المصرية عن الفتوى الحموية.
وهذا الكتاب مفقود يسر الله -عز وجل-العثور عليه وهو كبير وهو كتاب كبير الحجم كثيرا ما يحيل عليه الشيخ، حسب وصف تلامذته ابن القيم والذهبي أنه قريب الحجم من درء تعارض العقل والنقل، أو منهاج السنة نعم.
كلام أبي عمر بن عبد البر في إثبات الصفات
بيان مذهب الأئمة في أحاديث الصفات
قال أبو عمر بن عبد البر:
رُوِّينا عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت، قال أبو عمر: ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نقل الثقات، أو جاء عن الصحابة- رضي الله عنهم- فهو علم يُدان به؛ وما حدث بعدهم ولم يكن له أصلٌ فيما جاء عنهم فهو بدعة وضلالة.
ــــــــــــ
نعم. وهذا نقل عن أبي عمر بن عبد البر وسفيان بن عبد الله المتوفى سنة أربعمائة وثلاثة وستين.(1/482)
هذا الإمام العلم الشارح من موطأ مالك في كتابه التمهيد الذي يعتبر فريدا من نوعه وله كتاب -أيضا- الاستذكار، وله جامع بيان العلم وفضله وله كتب كثيرة، رحمة الله عليه قال: روينا يعني روى عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت، بمعنى لا تتعرضوا لها بالتحريف كما هي حال المعطلة أو التشبيه.
أمروها كما جاءت على ظاهرها قال أبو عمر ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نقل الثقات وجاء عن الصحابة- رضي الله عنهم- فهو علم يدان به.
لا شك أن هذا هو العلم الذين يدين المرء به ربه- سبحانه وتعالى- ما نقل عن هؤلاء ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نقل عن صحابته يقول: أما ما حدث بعدهم ولم يكن له أصل، أما ما جاء بعدهم وليس له أصل في الكتاب ولا في السنة ولا عن أحد من الصحابة نعم فهو بدعة وضلالة يجب رده نعم.
إثبات صفة العلو
وقال في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال: هذا حديث ثابت من جهة النقل، صحيح الإسناد، ولا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو منقول من طرق سوى هذه، من أخبار العدول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله في كل مكان.
قال: والدليل على صحة قول أهل الحق قول الله وذكر بعض الآيات، إلى أن قال: وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم.
ــــــــــــ(1/483)
نعم. ثم ذكر في كتابه الكلام السابق نقل شيخ الإسلام عن كتاب الجامع بيان العلم وفضله ثم نقل عن ابن عبد البر -أيضا- في شرح الموطأ الذي هو التمهيد كلامه عن حديث النزول، وأنه أثبت هذا الحديث؛ لأنه وصل إلينا بإسناد صحيح، ثم ذكر أن في هذا الحديث دليل على أن الله في السماء على العرش؛ لأن النزول يكون من أعلى إلى أسفل فلو كان الله - عز وجل - في كل مكان أو ليس في العلو كما يزعم المعطلة.
لم يكن لهذا الحديث دلالة ظاهرة، يقول: كما قالت الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله في مكان وهذا قول حلولية الجهمية.
ثم قال: والدليل على صحة قول أهل الحق قول الله ثم ذكر يقول بعض الآيات إلى أن قال: وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكاية يعني ذكر الأدلة النقلية.
ثم أراد أن يشير إلى الدليل الفطري على إثبات صفة العلو كأنه يقول لهؤلاء النفاة: هب أنكم طعنتم في هذه الأدلة النقلية الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وطعنتم في دلالة الآيات على صفة العلو وسلطتم عليها سيف التحريف الذي سميتموه أيش تأويلا؟
سلمنا لكم ..
لكن ماذا تصنعون في هذه الضرورة التي يجدها كل إنسان، المتعلم وغير المتعلم، العجائز والصبيان والأعراب والأطفال في الكتاتيب، بل حتى الكفار يجدون هذه الضرورة في أنفسهم ما قال عارف قط: يا الله.
أين يتجه قلبه؟
يمين شمال أسفل؟
لا يتجه إلا إلى السماء.(1/484)
وهذا دليل فطري لم يجتمعوا عليه سواء بقول الإمام أو قول قائل: إنما فطروا على هذا الأمر، وهذا من أقوى الأدلة التي يستدل بها على نفاة العلو وهو الدليل الذي اعترض به الهمذاني على الجويني، نعم لما قام يتكلم ويشرح للناس حديث: كان الله ولم يكن شيء معه أو قبله ويقرر نفي صفة العلو عن الله - عز وجل - بالطرق الكلامية المعتادة عند المتكلمين.
المعروف أن الجويني أشعري ينفي صفة العلو، فقام إليه الهمذاني وقال: يا شيخ دعنا من هذا كله، دعنا من هذه المقدمات وهذه الأدلة التي تذكرها وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ما قال عارف قط: يا الله إلا اتجه إلى السماء، فضرب الجويني رأسه وقال: حيرني الهمذاني حيرني، ما استطاع أن يجيب إن هذا أمر فطري أمر جبلي.
فالإمام ابن عبد البر -رحمه الله- هنا يشير إلى هذا الدليل أو هذا النوع من الأدلة على إثبات صفة العلو يقول: لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم، يعني هذا الأمر الفطري ما قلدوا فيه قول فلان أو قول فلان أو قول فلان ولم ينكر مسلم على أحد أنه يجد في نفسه هذه الضرورة نعم.
إجماع علماء الصحابة والتابعين أن الله على العرش وعلمه في كل مكان
وقال أبو عمر بن عبد البر أيضا: أجمع علماءُ الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } (1) هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله.
وقال أبو عمر أيضا أهل السنة مجمعون.
ــــــــــــ
أهل السنة مجمعون سيأتي هذا الكلام إن شاء الله بعد صفحات.
إجماع أهل السنة على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة وحملها على الحقيقة
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 7.(1/485)
وقال أبو عمر أيضا أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز؛ إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدّون فيه صفة محصورة.
وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرونها ولا يحملون شيئا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون: بما نطق به كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم أئمة الجماعة.
ــــــــــــ
نعم. ثم ذكر أبو عمر بن عبد البر -رحمه الله- أن أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة أي صفة ثبتت في القرآن والسنة فيجب الإقرار بها والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز. وسبق في القسم الأول أن ذكرنا أن المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة، بمعنى أن يصرف هذا اللفظ عن المعنى الذي وضع له في الأصل إلى معنى بعيد آخر، يصرف معنى اليد من اليد الحقيقية إلى القدرة أو النعمة فقد يجب حمل هذه النصوص الواردة في الصفات على حقيقتها- لا على المجاز كما صنع المعطلة- إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة بمعنى أنهم يثبتون هذه الصفات كما جاءت في النصوص لكن من غير تكييف، من غير تحديد لِكُنْه هذه الصفة لأن هذا مما استأثر الله بعلمه.
يقول: وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج وكل من ينكرها ينكر هذه الصفات ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة بل يحملونها على المجاز، ويزعم أن من أقر بها مشبه، يعني يزعم كل واحد من هؤلاء أن من أقر بشيء من هذه الصفات الثابتة فيكم بالكتاب والسنة فهو مشبه عندهم، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود والحق في ما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة، بمعنى أن الحق هو ما جاء بالكتاب(1/486)
والسنة صريحا وما فهمه سلف الأمة الذين هم الجماعة من هذه النصوص، هذا كلام ابن عبد البر، وهذا نوجهه إلى إخواننا ممن ينتسبون لمذهب الإمام مالك ويعطلون الله - عز وجل - عن بعض صفاته فالإمام ابن عبد البر عندهم إمام مسلم بإمامته، ولا يناقشون ولا يناظرون في ذلك ويعظمونه، ويعظمون أقواله فنقول لهم: هذا كلامه في مسائل أصول الدين، تقبلون قوله في أحكام الوضوء وأحكام الطهارة، تقبلون قوله في أحكام النكاح وأحكام البيع ثم تعترضون على قوله في مسائل أصول الدين! هذا عين التناقض نعم.
كلام الحافظ أبو بكر البيهقي في صفات الله - عز وجل -
وفي عصره الحافظ أبو بكر البيهقي مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري، وذبه عنهم، قال في كتاب الأسماء والصفات: باب ما جاء في إثبات اليدين صفة . لا من حيث الجارحة لورود خبر الصادق به، قال الله تعالى: { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) وقال: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (2) .
وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب، مثل قوله في غير حديث، في حديث الشفاعة يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه ومثل قوله في الحديث المتفق عليه : أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده وفي لفظ: وكتب لك التوراة بيده ومثل ما في صحيح مسلم : وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة .
وذكر أحاديث مثل قوله: بيدي الأمر والخير بيديك .
والذي نفس محمد بيده و إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل .
__________
(1) - سورة ص آية : 75.
(2) - سورة المائدة آية : 64.(1/487)
وقوله: المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين وقوله: يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وقوله: يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع وكل هذه الأحاديث في الصحيح.
وذكر -أيضا- قوله: إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة وحديث: إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع.
ثم قال البيهقي: أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب، وكذلك قال في الاستواء على العرش وسائر الصفات الخبرية مع أنه يحكى قول بعض المتأخرين.
ــــــــــــ
يقول: وفي عصر ابن عبد البر الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي أحمد بن حسين البيهقي الإمام المعروف المشهور المتوفى سنة أربعمائة وثمان وخمسين صاحب السنن الكبرى وصاحب دلائل النبوة وصاحب الأسماء والصفات وصاحب البعث المنشور وله كتب كثيرة -رحمه الله- وهو شافعي المذهب، ولهذا قال بعض أهل العلم: كل شافعي فالمنة للإمام الشافعي عليه إلا البيهقي فإن المنة للبيهقي على الشافعي؛ لأنه ممن نشر مذهب الشافعي رحمهما الله.
البيهقي على مذهب الأشاعرة وقد تتلمذ على يد ابن فورك وأبو الحسن الطبري الذين من تلامذة تلامذة أبي الحسن الأشعري والبيهقي والبغدادي يمثلون الطبقة الثالثة أو المرحلة الثالثة من مراحل تدوين مذهب الأشاعرة. المرحلة الأولى يمثلها أبو الحسن الأشعري وابن كُلَّاب، المرحلة الثانية يمثلها الباقلاني وابن فورك، المرحلة الثالثة يمثلها أبو بكر البيهقي والبغدادي.(1/488)
ألف كتابه الأسماء والصفات وروى بهذا الكتاب النصوص المثبتة في صفات الله - عز وجل - بإسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه أول بعض الصفات على مذهب الأشاعرة المتقدمين، لكنه خالف جمهور الأشاعرة، وهم الأشاعرة المتأخرون والذين استقر المذهب على رأيهم وذلك أنه أثبت كثير من الصفات الخبرية خاصة الذاتية الوارد منها في القرآن
كإثبات الوجه العين اليدين خلافا لمذهب جمهور الأشاعرة، وأول بعض الصفات، ولهذا نقل في تأويله في بعض هذه الصفات عن بعض أئمة الأشاعرة كما ذكر الشيخ.
يقول: وفي عصره الحافظ أبو بكر البيهقي أي في عصر ابن عبد البر مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن. نعم لأنه متأثر بل يعد من الأشاعرة من أئمة الأشاعرة.
أبو الحسن الأشعري سيأتي إن شاء الله الكلام عليه عند النقل عنه والمراحل وأطوار المراحل المذهبية التي مر بها، يقول: وذبه عنهم أي يعني دفاعا عن مذهب وعن أصحاب أبي الحسن الأشعري قال في كتابه الأسماء والصفات- وهذا الكتاب له عدة طبعات- باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين لا من حيث جارحة لورود خبر الصادق به يعني إثبات اليدين لله حقيقة، لا على الوجه الثابت للمخلوق هذه اليد الجارحة للمخلوق لكن نثبتها حقيقة لله على الوجه اللائق به سبحانه.
ثم ذكر الأدلة على ذلك ذكر آية يا إبليس { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) وآية { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (2) ثم ذكر هذه الأحاديث الكثيرة التي كما قال ابن القيم: مهما صرفتها لا تتصرف إلا على الحق الذي أثبته أهل السنة ما تقبل التأويل لو قبل منها نص لو قبلت، قبل هذا النص أو نصين أو ثلاثة هذا التأويل الذي جاء به هؤلاء لكن ما يمكن أن جميع هذه النصوص تقبل هذا التأويل.
__________
(1) - سورة ص آية : 75.
(2) - سورة المائدة آية : 64.(1/489)
وهذا نموذج لما ذكره الإمام البيهقي فذكر منها حديث الشفاعة يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيديه هذا هو الشاهد، والحديث في الصحيحين والحديث الآخر -أيضا- في الصحيحين أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده إثبات صفة اليد حقيقة لله - عز وجل - يقول: وفي لفظ: وكتب لك التوراة بيده ومثل ما في صحيح مسلم وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - تكون الأرض يوم
القيامة خبزة واحد يتكفاها الجبار بيده وهذا حديث البخاري وحديث بيدي الأمر أيضا الحديث في البخاري والخير بيدي الحديث في مسلم والذي نفس محمد بيده جاء في أحاديث كثيرة منها ما هو متفق عليه.
إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وهذا في مسلم وقوله: المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين وهذا أيضا في مسلم إثبات اليدين لله حقيقة على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين وأيضا ويطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك وهذا في صحيح مسلم ثم ذكر يطوي الأرضين بشماله.
ويطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك وهذا في صحيح مسلم ثم ذكر يطوي الأرضين بشماله وذكرنا في القسم الأول الجمع بين هذين الحديثين وما قاله الإمام ابن قتيبة -رحمه الله- من أنه لا تعارض بين هذين الحديثين كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت هنا الشمال، وفي الحديث الذي قبله قال: وكلتا يديه يمين فقوله: وكلتا يديه يمين أي كلتا يديه يمن وبركة بمعنى لئلا يتبادر إلى الذهن أنه إذا قيل له شمال أن الشمال أنقص من اليمين كما هي الحال في المخلوق.(1/490)
المخلوق الشمال أنقص من اليمين في كل شيء حتى في القوة؛ ولهذا اليمين للشيء المحترم والشمال لما سوى ذلك، لكن يدي الجبار سبحانه وتعالى كلتيهما يمين مباركة.
ثم قال: وقوله: يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار هذا أيضا فيه تصريح إثبات اليمين لله.
ثم ذكر إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان اختر أيهما شئت ويداه مقبوضتان صريحة في إثبات اليدين لله - عز وجل - قال: اخترت يمينا اخترت يمين ربي وكلتا ربي يمين مباركة والحديث أخرجه الترمذي
وحديث: إن الله لما خلق آدم مسح ظهره وأيضا هذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع.
أي أحاديث أخرى تثبت اليدين لله حقيقة، ثم قال البيهقي: أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب وذكرنا سابقا أن معنى قولهم: لم يفسروا، أي تفسير الجهمية، أي التأويل لم يفسروا هذه النصوص تفسير الجهمية المعطلة.
من الآيات والأخبار في هذا الباب وكذلك قال في الاستواء على العرش بمعنى أنه أثبت الاستواء لله حقيقة وسائر الصفات الخبرية مع أنه سيحكي قول بعض المتأخرين، يعني قول بعض الذين أولوا هذه الصفات من الأشاعرة بمعنى أنه يخالفهم في تأويل هذه النصوص أن الإمام البيهقي مع أنه إمام من أئمة الأشاعرة إلا أنه يخالف أولئك الأشاعرة الذين يؤولون هذه النصوص. نعم.
كلام القاضي أبي يعلى محمد بن حسين محمد البغدادي الحنبلي في صفات الله - عز وجل -
وجوب قبول الأخبار التي وردت في صفات الله وحملها على ظاهرها(1/491)
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق، ولا نعتقد التشبيه فيها؛ لكن على ما روى عن الإمام أحمد وسائر الأئمة.
وذكر بعض كلام الزهري، ومكحول، ومالك، والثوري، والأوزاعي، والليث، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن عيينة، والفضيل بن عياض، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، وأسود بن سالم، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، ومحمد بن جرير الطبري، وغيرهم في هذا الباب. وفي حكاية ألفاظهم طول.
ــــــــــــ
نعم. ثم نقل عن القاضي أبي يعلى محمد بن حسين محمد البغدادي الحنبلي المشهور بالقاضي المتوفى سنة أربعمائة وثمانية وخمسين صاحب كتاب إبطال التأويلات، وهو من أئمة الحنابلة ولهذا هو في الفروع على مذهب الإمام أحمد، أما مذهبه في الأصول فهو من الأئمة الذي حصل عندهم شيء من الاضطراب -رحمه الله- ولهذا قال عنه شيخ الإسلام: ونوع ثالث سمعوا الأحاديث والآثار وعظموا مذهب السلف وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة في القرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها.
ولهذا هو في كتابه إبطال التأويلات لما أخذ عليه إيراد بعض الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة والمبالغة -أحيانا- في إثبات بعض الصفات يقول: ولا من جهة الفهم لمعانيها بمعنى أنه لم يكن لدى هؤلاء ما كان لأئمة السلف لا من جهة تمييز هذه الأحاديث الصحيح منها والسقيم ولا من جهة فهم المعنى الحق الدال عليه هذه الأحاديث.(1/492)
يقول: وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية ورأوا ما بينها من التعارض، وهذا حال أبي بكر بن فورك والقاضي هذا هو الشاهد والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأمثالهم، فحقيقة مذهبه في الأصول فيه شيء من الاضطراب.
يقول: لا يجوز.
كتاب إبطال التأويلات طبع جزء منه، وكما قلت لكم هو ألفه للرد على ابن فورك في كتابه مشكل الحديث.
ابن فورك ألف كتاب مشكل الحديث وهو مطبوع أول فيه الأحاديث الدالة على الصفات على أصول الأشاعرة فجاء أبو يعلى في كتابه إبطال التأويلات ليرد على كتاب ابن فورك لكنه أخطأ في كونه -رحمه الله- أولا- أنه جمع بهذا الكتاب الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة. وأيضا أحيانا يبالغ في إثبات بعض الصفات التي لم يثبتها أهل السنة والجماعة.
يقول: لا يجوز رد هذه الأخبار، أي الأخبار الثابتة في صفات الله - عز وجل - ولا التشاغل بتأويلها كما هي الحال عند المعطلة، بمعنى صرف هذه النصوص عن ظاهرها إلى معان بعيدة، والواجب حملها على ظاهرها، على ظاهرها اللائق بالله سبحانه وتعالى غضب الله عليه نثبت أو نحمل هذا النص على ظاهره فنثبت لله الغضب على الوجه اللائق به سبحانه { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (1) نثبت هذا اللفظ على ظاهره على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، وأنها صفات لله،وأنها صفات الله لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق ولا نعتقد التشبيه فيها لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة، وذكر كلام الزهري ومكحول ومالك والثوري،وقد ذكر بعض هذه النقوش في الإسلام في أول هذه الرسالة التي بين أيدينا فكلهم قالوا عن هذه الأحاديث لما سئلوا عنها عن أحاديث الصفات ماذا قالوا؟
أمروها كما جاءت بلا كيفية.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 156.(1/493)
بمعنى أمروها على ظاهرها مع نفي التكليف، بمعنى لا تفيد أثبتوا حقيقة الصفة التي دل عليها ظاهر هذا النص، فلم يعطلوا كما هي الحال عند المعطلة ولم يشبهوا ويمثلوا كما هي الحال عند الممثلة نعم.
دلائل إبطال التأويل
إلى أن قال: ويدل على إبطال التأويل : أنّ الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفوها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغا لكانوا إليه أسبق لما فيه من إزالة التشبيه ورفع التشبيه.
ــــــــــــ
نعم، يقول: ما يدل على إبطال التأويل، الذي هو التأويل الفاسد الذي استخدمه المعطلة لنفي الصفات الثابتة بهذه النصوص، وهو صرف النص عن ظاهره عن معناه الظاهر بلا معنى آخر بعيد.
يقول: هذا التأويل باطل ما الدليل على بطلان هذا التأويل؟
الذي هو سلاح المعطلة تجاه هذه النصوص، المعطلة يتسلحون بالتأويل الإمام أبو يعلى يقول: هذا النوع من التأويل ضار. ما دليلك؟
قال: دليلي أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين وهم الذين عاصروا نزول الوحي وهم أعلم الأمة بمعنى هذه النصوص؛ لأنهم أفصح الأمة وأحرص الأمة على الفهم الصحيح، وأحرص الأمة على إبلاغ الدين الصحيح ومع ذلك حملوا هذه النصوص على ظاهرها، ولم يتعرضوا لتأويلها كما صنع المتأخرون.
نعم، لا يمكن أن تجد نصا واحدا عن أولئك أنه سلط عليه التأويل أو أول هذا النص، يستحيل، لا يعرف عن أحد من الصحابة أو أحد من التابعين أنه أول نصا من نصوص الصفات مما لا يسوغ فيه التأويل كما هي الحال عند هؤلاء المعطلة، بل إنهم حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغا لكانوا إليه أسبق.
لو كان التأويل هذا صحيح لاستخدمه هؤلاء؛ لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة، بمعنى لو كان ظاهر هذا النص يدل على التشبيه لبادر الصاحبة وبادر التابعون لتأويل هذه النصوص لإزالة هذا التشبيه الذي يتبادر إلى الأذهان كما يزعم هؤلاء نعم.(1/494)
كلام أبي الحسن الأشعري في صفات الله - عز وجل -
الإقرار بما جاء عن الله ورسوله من الصفات بلا كيف
قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم، صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين، وذكر فرق الروافض والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم.
ثم قال مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث جملة: قول أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون شيئا من ذلك، وأن الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى: { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) وكما قال تعالى: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (3) أن له عينين بلا كيف كما قال تعالى: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } (4) وأن له وجها كما قال تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } (5) .
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة ص آية : 75.
(3) - سورة المائدة آية : 64.
(4) - سورة القمر آية : 14.
(5) - سورة الرحمن آية : 27.(1/495)
نعم. انتقل بعد ذلك إلى النقل عن إمام الأشاعرة عن الإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري الذي تنتسب إليه طائفة الأشاعرة؛ ولهذا قال الشيخ المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام والإمام الأشعري نشأ أول ما نشأ على مذهب الاعتزال وذلك أنه تربى على يد أبي علي الجبائي زوج أمه في اليمن، وأبو علي الجبائي إمام من أئمة المعتزلة ولهذا نشأ على مذهب الاعتزال، يقال: إنه بقي على مذهب المعتزلة أربعين سنة ثم رجع عن هذا المذهب وأعلن براءته من مذهب المعتزلة فاختُلف إلى أي شيء انتقل؟
فمن أهل العلم من قال: إنه مر بعد الاعتزال بطور واحد، انتقل بعد الاعتزال لمذهب ابن كُلَّاب متوسطا بين ذلك، بين أهل السنة وبين المعتزلة. وهناك قول آخر ذهب إلى أن الإمام أبي الحسن مر بعد الاعتزال بطورين ما هما هذان الطوران؟
قالوا: انتقل بعد الاعتزال إلى مذهب ابن كُلَّاب، ثم انتقل بعد ذلك إلى مذهب أهل السنة يعني استقر على مذهب أهل السنة.
الأشاعرة يعكسون القضية يقول: لا انتقل كردة فعل إلى مذهب أهل السنة إلى مذهب الإمام أحمد ثم استقر أمره على مذهب ابن كُلَّاب.
وعلى كل حال فهو-رحمه الله- أعلن أنه على مذهب الإمام أحمد، والمنقول في كثير من كتبه يخالف ما عليه جمهور الأشاعر لكنه تأثر بابن كُلَّاب في بعض المسائل وبعض الأصول؛ ولهذا من نظر إليه من جهة قربه بابن كُلَّاب انتسب إليه من هذه الطريقة وقال: إنه على هذا المذهب وإنه على مذهب الأشاعرة وإنه...
ومن نظر إليه من الجانب الذي اقترب فيه إلى مذهب أهل السنة قال: إنه من أهل السنة وعلى مذهب أهل السنة.
يقول-رحمه الله- في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين، وهذا الكتاب مطبوع وهو من أوائل الكتب التي ألفت في الفِرَق بل هو عمدة لمن أتى بعده ممن لف في الفرق، يقول: وذكر فرق الروافض(1/496)
والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم، ثم قال: مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث جملة، يعني مذهب أهل السنة وأهل الحديث ثم ذكر هذا الكلام واضح . كلام المتقدم.
الشاهد من إيراد المؤلف لكلام أبي الحسن قوله: وأن الله على عرشه كما قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) وأنه له يدين بلا كيف كما قال تعالى: { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) وكما قال تعالى: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } (3) وأن له عينين بلا كيف كما قال تعالى: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } (4) وأن له وجها كما قال تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } (5) .
فهذا يخالف فيه جمهور الأشاعرة الصراح، يثبت لله الاستواء والأشاعرة وجمهور الأشاعرة ينفون عن الله صفة الاستواء، يثبت لله صفة الوجه وجمهور الأشاعرة ينفون عن الله صفة الوجه، يثبت لله صفة اليدين وجمهور الأشاعرة ينفون عن الله صفة اليدين، يثبت لله العينين وجمهور الأشاعرة ينفون عن الله صفة العينين.
نعم. بل إنه كما سيأتي أن نقل عنه في كتاب الإبانة أنه يرد على الأشاعرة في تأويله اليدين بالنعمة وهذا يدل على أنه يثبت هذه الصفة لله حقيقة كما أثبتها أهل السنة نعم.
إثبات أسماء الله تعالى وصفاته خلافا للخوارج والمعتزلة
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة ص آية : 75.
(3) - سورة المائدة آية : 64.
(4) - سورة القمر آية : 14.
(5) - سورة الرحمن آية : 27.(1/497)
وأن أسماء الله- تعالى- لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله عِلما كما قال تعالى: { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } (1) وكما قال تعالى: { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ } (2) وأثبتوا له السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة كما قال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَن اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } (3) وذكر مذهبهم في القدر.
إلى أن قال: ويقولون القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في اللفظ والوقف، من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال غير مخلوق.
ــــــــــــ
نعم، ثم ذكر أن أسماء الله-تعالى- لا يقال إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج هذا سبق الكلام عليه في مسألة الاسم والمسمى وقلنا الصحيح أنه لا يقال الاسم هو المسمى، ولا الاسم غير المسمى، بل الصحيح أن الاسم ها؟ للمسمى { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } (4) كما جاءت، لكن الجهمية والخوارج والمعتزلة عندما قالوا: إن أسماء الله غير الله أرادوا بذلك أن أسماءه مخلوقة.
ثم ذكر الدليل على إثبات صفة العلم وإثبات صفة السمع والبصر، نعم رادا بذلك على المعتزلة الذين لا يثبتون شيئا من هذه الصفات، وأثبت لله القوة، نعم. ثم قال: والقرآن كلام الله غير مخلوق وهذا -أيضا- تقدم الكلام عليه والكلام في اللفظ والوقف، اللفظ أيضا تقدم الكلام عليه، وهم اللفظية الذين قالوا: لفظنا بالقرآن
__________
(1) - سورة النساء آية : 166.
(2) - سورة فاطر آية : 11.
(3) - سورة فصلت آية : 15.
(4) - سورة الإسراء آية : 110.(1/498)
مخلوق الذين أنكر عليهم الإمام أحمد وقال هؤلاء جهمية؛ ولهذا أنكر على من قال لفظي بالقرآن مخلوق، وأنكر على من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهذا جهمي وذاك مبتدع أو هذا مبتدع وذاك جهمي.
ثم قال: والوقف أي والوقف في القرآن وهو المذهب أو ما يسمى بمذهب الواصفة الذين يقولون القرآن كلام الله ويسكتون لا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، أنكر عليهم الإمام أحمد قال: أما قبل أن يتكلم الناس فيسوغ لهم أن يقفوا، أما لما تكلم الجهمية وزعموا أن القرآن كلام الله مخلوق فيجب أن يعتقد المسلم ويصرح بهذا الأمر أن كلام الله غير مخلوق.
ولهذا ذكر الإمام أحمد أن الجهمية انقسموا إلى ثلاثة أقسام منهم من صرح وقال القرآن كلام الله مخلوق عفوا القرآن مخلوق ليس بكلام الله. ومنهم الصنف الثاني من قال: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.
والصنف الثالث قالوا: القرآن كلام الله وسكتوا، فجعل هذا النوع وهذا الصنف قسما من الجهمية.
ثم قال: والوقف من قال أيضا باللفظ، وهي المسألة اللفظية الذي تقدم الكلام عليها الذين يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق أو لفظنا بالقرآن غير مخلوق، يقول: فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ في القرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق، ثم ذكر أنهم يقرون أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر خلافا لمذهب المعتزلة والجهمية والخوارج والرافضة، قال: ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال الله - عز وجل - { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) } (1) هذه الآية استدل بها الإمام الشافعي على إثبات رؤية الله - عز وجل - وكذلك استدل بها الإمام أحمد، ووجه الدلالة أن الله لما احتجب عن هؤلاء حال السخط دل على أن أولياءه يرونه حال الرضا وإلا لما كان لتمييز هؤلاء لأنهم عن ربهم محجوبون معنى، نعم.
إنكار الجدال والمراء في الدين
__________
(1) - سورة المطففين آية : 15.(1/499)
وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء.
إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار.
إلى أن قال: وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة فيه والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، ويسلمون للروايات الصحيحة، ولما جاءت بها الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقولون كيف ولا لم؟ لأن ذلك بدعة.
إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (1) وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } (2) .
إلى أن قال: ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه مع الاستكانة والتواضع، وحسن الخلق مع بذل المعروف، وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية، وتفقد المآكل والمشارب، قال: فهذه جملة ما يأمرون به، ويستسلمون إليه، ويرونه بكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان.
ــــــــــــ
نعم. يقول: وذكر قوله من قول أهل السنة في الإسلام والإيمان والخلاف في ذلك والحوض والشفاعة وأشياء إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
__________
(1) - سورة الفجر آية : 22.
(2) - سورة ق آية : 16.(1/500)
قلنا: هذا مذهب جمهور أهل السنة والجماعة ولا يقولون مخلوق خلافا لمذهب الجهمية، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار كما هي الحال عند الخوارج، إلى أن قال: وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة فيه والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، قلنا: هذا الجدل الذي نعم الذي لا يؤدي أو لا ينتصر فيه للحق ويتنازعون فيه من دينهم ويسلمون للروايات الصحيحة بمعنى يسلمون لكل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما جاءت بها الآثار التي جاء بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقولون كيف ولم؟
بمعنى لا يعترضون على ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ذلك بدعة.
الاعتراض على الله وعلى رسوله بلما وكيف، نعم أو المجادلة في مسائل أصول الدين بما لا فائدة فيه كل هذه من البدع والمحدثات، إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (1) وهذا صريح في مخالفة جمهور الأشاعرة الذين ينفون عن الله صفة المجيء.
ثم قال: وأن الله يقرب من خلقه كيف يشاء تقدم الكلام على هذا وأن الآية المراد بها قرب الملائكة على القول الراجح، لكن الله - عز وجل - يقرب من الداعين بالإجابة ويقرب من العابدين بالإثابة كما ثبت في القرآن والسنة { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } (2) فنحن نثبت لله - عز وجل - صفة القرب لكن من الداعين وصفة القرب من العابدين إلى أن قال: ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن.
نعم. وهذا مشهور عن أئمة السلف- رحمهم الله- أنهم أمروا بمجانبة أهل البدع؛ لضررهم وتأثيرهم على عقيد المسلم، لو لم يكن في ذلك إلا التشويش وقد تجنبهم كبار الأئمة، الإمام الشافعي والإمام أحمد أنكر على من
__________
(1) - سورة الفجر آية : 22.
(2) - سورة البقرة آية : 186.(1/501)
يجلس إلى هؤلاء ويستمع إلى أقوالهم إلا في حالات الضرورة في حالات إقرار أو إحقاق الحق وإعلان الحق والرد على باطل هؤلاء وبيان زيفهم وبيان شبهتهم وإزالة ما يعلق من ذلك على الناس وعلى العامة. ابتداء لا ينبغي ابتداء- معاشر الإخوة- لا ينبغي عقد المناظرة مع هؤلاء خاصة المناظرات العلنية، لكن إذا ابتلي المسلمون بوجود هؤلاء علنا والظهور علنا أمام الناس فلا بد أن يتصدى لهم أهل السنة أهل العلم ليزيلوا هذه الشبه عن العامة ولئلا ينطلي هذا على عموم المسلمين.
ثم قال: ذكر شيئا من آداب وأخلاق ومنهج وسلوك أهل السنة والجماعة في عموم حياتهم فقال: مع الاستكانة والتواضع وحسن الخلق مع بذل المعروف وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والسعاية يعني السعاية أو الوشاية بين الناس وتفقد المآكل والمشارب.
قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه.
نعم. وينبغي على المتمسك بمنهج أهل السنة المقتدي بسلف السنة أن يلتزم منهجهم حتى في مثل هذه الأمور البعد عن الغيبة، البعد عن النميمة الحرص على الأكل الحلال، بذل المعروف الحرص على الناس على هداية الناس كما قال شيخ الإسلام: أرحم الناس بالناس أهل السنة.
أرحم الناس بالناس أهل السنة والجماعة، هذا الذي ينبغي أن نكون أقرب الناس إلى عموم المسلمين بقضاء حوائجهم، بلين الجانب بذل المعروف لهم، البعد عن التطاول عليهم، البعد الوقيعة فيهم بالألسن أو حتى بالأقلام والتماس المعاذير لمن أخطأ منهم.
إذا علمنا أن هذا مسلم فالأصل فيه السلامة ولا ينتقل عن إسلامه ولا عن إيمانه إلا بيقين؛ لأن إسلامه الآن ثابت بأيش؟
بيقين فهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، منهج أهل السنة والجماعة ليس فقط اعتقاد صرف كما يظنه البعض.(1/502)
المنهج السلفي الذي عليه سلف الأمة لا، في البيع والشراء في التعامل مع الناس في العبادات في الدعوة.
ينبغي أن نكون على أعلى درجة من الخلق؛ لأجل أن نحبب الناس إلى هذا المنهج، وهذا هو منهج أسلافنا- رحمهم الله- وهذا المنهج هو الذي تلقفوه عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين تلقفوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو منهج محمدي، منهج الأثر.
ثم قال: وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب، وهذا حجة صريحة حجة قائمة على جمهور الأشاعرة الذين يخالفون إمامهم في هذه الصفات التي يثبتها.
ثم قال: وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. ===
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
لا زال النقل مستمرا عن الإمام أبي الحسن الأشعري -رحمه الله- الذي تنتسب إليه طائفة الأشاعرة، فقد نقل عنه الشيخ كما سمعنا بالأمس كلاما من كتابه نعم؟ مقالات الإسلاميين، وقلنا: إن هذا الكتاب من أوائل ما كتب في الفرق ولهذا من أتى بعده عالة عليه.
يقول: وقال الأشعري -أيضا- اختلاف أهل القبلة في العرش.
وهذا -أيضا- في نفس الكتاب قال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس يجسم ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش، يعني العرش ليس بجسم لا يشبه الأشياء وذكرنا سابقا أن لفظ الجسم من الألفاظ المجملة التي ينبغي الإمساك عنها، لا تنفى ولا تثبت، ومن أطلقها فلا بد أن يفصل في ذلك؛ ولهذا نحن نثبت العرش على ما جاء في النص وأنه أعظم المخلوقات وأعلى المخلوقات وأن له قوائم وأنه مقبب مثل القبة.
نعم، وأن الله تمدح به في آيات عدة.
نعم. تفضل.
اختلاف أهل القبلة في العرش(1/503)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن والاه.
قال -رحمه الله تعالى-:
وقال الأشعري -أيضا- في اختلاف أهل القبلة في العرش: قال أهل السنة وأصحاب الحديث أن الله ليس بجسم ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش كما قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) ولا نتقدم بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في القول؛ بل نقول: استوى بلا كيف، وأن له وجها كما قال تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } (2) وأن له يدين كما قال تعالى: { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (3) وأن له عينين كما قال تعالى: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } (4) وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (5) وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش بمعنى استولى وذكر مقالات أخرى.
ــــــــــــ
نعم. يلاحظ في هذا النقل أنه صرح بإثبات صفات ينكرها متأخرو الأشاعرة فأثبت الاستواء على العرش وأثبت أن لله وجها، وأثبت له يدين، وأثبت العينين، وأثبت المجيء، وأثبت النزول ثم أعطاها هذه القاعدة العامة التي هي لم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكأنه يقول: إن أهل السنة التزموا ما ثبت في الكتاب والسنة، فما جاء في هذين المصدرين أثبتوه وما لم يرد امسكوا عنه.
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة الرحمن آية : 27.
(3) - سورة ص آية : 75.
(4) - سورة القمر آية : 14.
(5) - سورة الفجر آية : 22.(1/504)
ثم ذكر قول المعتزلة: إن الله استوى على العرش بمعنى استولى، والعجيب أن هذا التأويل للاستواء في الأصل أن الذي قال به من؟
المعتزلة الذين هم أعداء الأشاعرة والذين وقف الأشاعرة في وجوههم وردوا عليهم وبينوا زيف مقالاتهم، لكن المتأخرين من الأشاعرة سلكوا منهج المعتزلة في تأويل الاستواء، ولهذا البغدادي الذي يعتبر من طبقة البيهقي أنكر على بعض الأشاعرة قال: وقال بعض أصحابنا أن معنى الاستواء هو الاستيلاء، وهذا قول المعتزلة ولا يصح تأويل الاستواء في هذا المعنى، وأوله بتأويل آخر والرد على من أول الاستواء بالاستيلاء تقدم في القسم الأول يقولوا نعم.
مذهب أبي الحسن الأشعري في كتابه الإبانة عن أصول الديانة
موافقته لما ورد عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث
وقال -أيضا- أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه الإبانة في أصول الديانة وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه، فقال: فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة.
فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرِّفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل؛ الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلالة، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين؛ فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهَّم.
ــــــــــــ(1/505)
نعم. وهذا النقل الثاني عن أبي الحسن من كتابه الذي هو أشهر من الكتاب الذي قبله، وهو كتاب الإبانة عن أصول الديانة، وقد طبع عدة طبعات منها أو من أشهرها الطبعة التي خرجت عام سبع وتسعين وثلاثمائة وألف بتحقيق الدكتورة فوقية حسين، وهذه الطبعة وإن اعتمدت على أكثر من نسخة لكن وقعت المحققة في غلط منهجي، بل غلط علمي ينبغي التنبه له. أولا كثرة الأخطاء المطبعية والإملائية، هذه لا تهم، الذي يهم أن المحققة أدخلت في صلب الإبانة بعض الكلمات التي وجدتها في إحدى النسخ خلافا لجميع النسخ، وهذه الكلمات تخالف منهج الكتاب العام، المنهج السلفي في مسألة الاستواء، وفي مسألة اليدين فسرت الاستواء بالاستيلاء وفسرت اليدين بالقدرة وأدخلت هذا الكلام في صلب كلام الأشعري، وهذا مخالف لجميع النسخ، فكان الأولى بها كمنهج علم إذا جاءت مثل هذه الزيادات في نسخة واحدة مخالفة لجميع النسخ أن تثبت ذلك في الهامش وتشير إليه، لكنها أدخلت هذا في صلب كلام الأشعري وهو ليس من كلام الأشعري بل من كلام بعض النساخ.
يقول: وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه وعليه يعتمدون في بالذب عنه عند من يطعن عليه، فقال: فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية.
القدرية إذا أطلق هذا الاسم فالمقصود به المعتزلة في كتب الفرق وكتب العقائد إذا قالت القدرية أو هذا مذهب القدرية فالمقصود المعتزلة النافون لعموم خلق الله - عز وجل - وعموم مشيئته، لكن إذا عطفت المعتزلة على القدرية صار المقصود بالقدرية هم من؟(1/506)
الجبرية؛ لأن المعتزلة ضد الجبرية في مسألة القضاء والقدر، ويطلق على الجبرية أنهم قدرية بمعنى أنهم غلوا في إثبات القدر، لكن هذا قليل، الأصل إطلاق هذا الاسم على المعتزلة، لكن إذا مثل الأشعري -رحمه الله- وقال: هذا قول المعتزلة وقول القدرية أو إلى هذا ذهب المعتزلة والقدرية. فنعلم أن القدرية المقصود بهم الجبرية.
ثم قال والجهمية والحرورية يعني الخوارج نسبة إلى حروراء المدينة التي انحازوا إليها بعد أن خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. والرافضة والمرجئة تعرفون قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له يعني أجاب الأشعري قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل نضرالله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مخالفون، لاحظ لو لم يذكر الإمام الأشعري إلا هذه العبارة بمعنى لو لم يفصل في الإثبات لقلنا: إنه على مذهب أهل السنة ومخالف لطريقة أتباعه.
المتأخرين، كيف وقد أكد ذلك بالتصريح بإثبات ما نفاه أولئك؛ لأنه الآن يصرح أنه على مذهب الإمام أحمد ولم يستثن شيئا، لم يقل إلا في مسألة إثبات كذا فإني أخالفه، أو في مسألة إثبات كذا فإني أخالفه، أعطى هذه القاعدة العامة أنه على مذهب الإمام أحمد، والإمام أحمد هو إمام أهل السنة في هذا الباب، وبهذا يتبين أن أتباعه خالفوه في كثير من مسائل الأسماء والصفات، ثم أثنى على الإمام أحمد -رحمه الله-، وهو أهل لهذا الثناء. نعم جملة قولنا.
الإقرار بالله وملائكته ورسله وبما جاءوا به من عند الله(1/507)
وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نردّ من ذلك شيئا؛ وأن الله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) وأن له وجها كما قال تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } (2) وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى: { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (3) وكما قال تعالى: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } (4) وأن له عينين بلا كيف كما قال: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } (5) وأنَّ من زعم أن أسماء الله غيرُه كان ضالا. وذكر نحوا مما ذكر في الفِرَق إلى أن قال:
ــــــــــــ
نعم ذكر أولا الجملة أو الأسطر الأولى وهي معروفة وظاهرة، مثلا (أننا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله)، وذكر القاعدة العامة أننا نقر ونثبت كل ما جاء عن الله، وما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (وأن الله مستوعلى عرشه) هذا هو الشاهد كما قال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (6) نسخة فوقية حسين وضعَتْ بعد هذا: (وأن الاستواء هو العلو بالقهر والقدرة).
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة الرحمن آية : 27.
(3) - سورة ص آية : 75.
(4) - سورة المائدة آية : 64.
(5) - سورة القمر آية : 14.
(6) - سورة طه آية : 5.(1/508)
هذا كلام مدسوس على كلام الإمام الأشعري -رحمه الله-، ثم ذكر أن له وجها، واستدل على ذلك، ثم ذكر (وأن له يدين بلا كيف كما قال: { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) وكما قال: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } (2)) ، ثم جاءت نسخة فوقية حسين وأيضا وأدخلت هنا عبارة: (وأن اليدين هما النعمة). (وأن له عينين بلا كيف كما قال: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } (3) وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا، وذكر نحو مما ذكر في الفرق)، وهذه المسألة تقدم الكلام عليها نعم.
الفرق بين الإسلام والإيمان
ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا، وندين بأن الله يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله - عز وجل - وأنه - عز وجل - يضع السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، كما جاءت الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . إلى أن قال: والإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلّم الروايات الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
إلى أن قال: ونصدّق بجميع الروايات التي يُثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب - عز وجل - يقول: "هل من سائل؟ هل من مستغفر؟" وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل.
__________
(1) - سورة ص آية : 75.
(2) - سورة المائدة آية : 64.
(3) - سورة القمر آية : 14.(1/509)
ونعوِّل فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (1) وأن الله يقرُب من عباده كيف شاء كما قال تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } (2) وكما قال: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) } (3) .
إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره باباً بابا، ثم تكلم على أن الله يُرى واستدل على ذلك، ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك، ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال: لا أقول أنه مخلوق ولا غير مخلوق، ورد عليه.
نعم ثم ذكر: (إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا)، وهذه المسألة من المسائل الخلافية التي جرى الخلاف فيها أيضا بين أهل السنة أنفسهم، فاختلف أهل السنة هل الإسلام هو الإيمان أو الإسلام يختلف عن الإيمان؟ والقول الوسط الذي تشهد له الأدلة: أن الإسلام إذا ذكر وحده أو ذكر الإيمان وحده دخل الآخر فيه؛ بمعنى إذا ذكر الإسلام دخل فيه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان في النص دخل فيه الإسلام، وإذا ذكرا معا عطف أحدهما على الآخر.
__________
(1) - سورة الفجر آية : 22.
(2) - سورة ق آية : 16.
(3) - سورة النجم آية : 8-9.(1/510)
فالإسلام المقصود به: الأعمال الظاهرة؛ كما فسر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة... إلى آخر الحديث الصلاة الحج الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بر الوالدين الأعمال الظاهرة هي الإسلام. والإيمان: الأعمال المتعلقة بالقلب التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ولهذا قال أهل العلم: أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. كحال الفقير والمسكين، والبر والتقوى ونحو ذلك من هذه الألفاظ.
ثم قال: إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا، نعم قد يكون الإنسان مسلما وليس كل إسلام إيمانا نعم كما ذكرنا، قد يكون الإنسان عنده أعمال ظاهرة فيسمى مسلم في الظاهر؛ لكنه ليس مؤمن؛ لأنه ليس بمؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله كحال المنافقين.
الله يقلب القلوب بين إصبعين من أصابعه سبحانه
ثم قال: (وندين بأن الله يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل)، وهذا ثبت في صحيح مسلم وتقدم الكلام عليه، (وأنه - عز وجل - يضع السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) كما في حديث الحبر كما في صحيح مسلم أيضا.
الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
إلى أن قال: (والإيمان قول وعمل يزيد وينقص) وهذا هو قول أهل السنة والجماعة، (ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) خلافا لمن رد الأحاديث الصحيحة بحجة أنها خبر آحاد، نلاحظ أن الأشعري هنا يقول المعول فقط على الثبوت؛ ولهذا لم يذكر هل هذا خبر آحاد أو متواتر كما صنع جمهور أصحابه.(1/511)
إلى أن قال: (ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب - عز وجل - يقول هل من سائل هل من مستغفر، وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل) يعني يثبت صفة النزول لله - عز وجل - على الوجه اللائق به.
ثم قال: (ونعول أي ونعتمد فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه) بمعنى أن المرجع لنا في هذه المسائل وفي غيرها من المسائل التي جرى بها الخلاف؛ المعول في ذلك ليس إلى قول فلان أو قول فلان أو رأي فلان أو قياس فلان إنما المعول كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة، (ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم، ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (1) ) إثبات صفة المجيء، (وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال تعالى) نعم نثبت لله القرب الخاص: ( { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } (2) ) قلنا أن القول الراجح أن هذه الآية دليل على قرب الملائكة، (وكما قال: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) } (3) ) وهذا أيضا على القول الراجح أنه جبريل -عليه السلام- إلى أن قال: (وسنحتج لما ذكرناه) بمعنى سنستدل لما ذكره وما
سيذكره من الأبواب التي ذكرها في كتابه الإبانة نعم، وتكلم على مسألة أو ذكر مسألة القرآن مخلوق أو غير مخلوق ومن وقف في القرآن، وكل هذا تقدم الكلام عليه نعم.
إثبات الاستواء على العرش
ثم قال: باب في ذكر الاستواء على العرش.
__________
(1) - سورة الفجر آية : 22.
(2) - سورة ق آية : 16.
(3) - سورة النجم آية : 8-9.(1/512)
فقال: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: إن الله مستو على عرشه كما قال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) وقد قال الله: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (2) وقال: { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } (3) وقال: { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } (4) وقال تعالى حكايةً عن فرعون: { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } (5) .
كذَّب موسى في قوله: إن الله فوق السماوات، وقال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } (6) فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (7) لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، فكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، ليس إذا قال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (8) يعني جميع السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، ألا ترى أن الله - عز وجل - ذكر السماوات فقال: { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا } (9) فلم يرد أن القمر يملؤهن وأنه فيهن جميعا.
ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله على العرش الذي فوق السماوات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة فاطر آية : 10.
(3) - سورة النساء آية : 158.
(4) - سورة السجدة آية : 5.
(5) - سورة غافر آية : 36-37.
(6) - سورة الملك آية : 16.
(7) - سورة الملك آية : 16.
(8) - سورة الملك آية : 16.
(9) - سورة نوح آية : 16.(1/513)
نعم ذكر إثبات صفة الاستواء وإثبات صفة العلو لله - عز وجل - واستدل عليها بما استدل به أهل السنة والجماعة، ثم تكلم على آية: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } (1) فكأنه فسر السماء هنا بمن فسر السماء بالعلو، وأن المقصود بالسماء هنا العرش؛ لأنه يقول: أن أعلى المخلوقات العرش والله فوق العرش، نعم.
ثم ذكر الدليل الفطري الذي تقدم قبل صفحات: (ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء) كما قلنا هذا أمر فطري جِبِلّي جبَل الله - عز وجل - عليه بني آدم، سواء كان هذا الداعي مسلما أو كافرا، إذا دعا توجه بقلبه ويديه إلى أي جهة؟ إلى جهة السماء نعم، ثم قال: (لولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش) نعم.
الرد على المعتزلة ومن تبعهم في تأويل الاستواء بالاستيلاء
ثم قال: فصل: وقد قال القائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية أن معنى قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (2) أنه استولى وملك وقهر، وأن الله - عز وجل - في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن الله قادر على كل شيء والأرض، فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم.
فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو - عز وجل - مستولٍ على الأشياء كلها- لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار؛ لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادرا على الأشياء كلِّها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الحشوش والأخلية؛ لم يجز أن يكون الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء الذي هو عامّ في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يخص العرش دون الأشياء كلها.
__________
(1) - سورة الملك آية : 16.
(2) - سورة طه آية : 5.(1/514)
وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل.
ثم قال: باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين.
ــــــــــــ
نعم في هذه الأسطر رد على المعتزلة ومن تبعهم في تأويل الاستواء بالاستيلاء، وما ذكره -رحمه الله- وجه من الوجوه التي يرد بها على هؤلاء، فذكر أنه لو كان معنى الاستواء هو الاستيلاء لما كان هناك فرق بين العرش وبين سائر المخلوقات؛ لأن جميع المخلوقات قد استولى الله - عز وجل - عليها، ليس هناك شيء خارج عن استيلاء
الله - عز وجل - وهل يقول مسلم أن الله مستو على الجبال أو مستو على الأشجار أو على الأنهار، فكونه سبحانه خص الاستواء بالعرش فهذا دليل على أن هذا الاستواء معناه العلو والارتفاع وليس معناه الاستيلاء؛ إذ لو كان معناه الاستيلاء لما كان هناك فرق بين العرش وغير العرش، فإن قالوا ربما أو اعترضوا هم وقالوا: لا؛ خص العرش بالاستواء لأنه أعظم المخلوقات ويدخل ما دونه من باب أولى.
واضح الإجابة؛ يعني لما قال لهم أهل السنة: أنتم تقولون معنى استوى استولى، إذن ما الفرق بين العرش وبين الجبال والأشجار والأحجار؟ قالوا: لا، هو خص الاستواء بالعرش لأنه أعظم وأكبر المخلوقات فغيره من باب أولى. قيل لهم: وهذا لا يمنع لو كان هذا هو المعنى المقصود لم يمنع أن يذكر الاستواء على غير العرش وإن كان العرش أعظم المخلوقات، وذلك كنسبة الربوبية، لما قال: { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) } (1) نعم.
__________
(1) - سورة التوبة آية : 129.(1/515)
لم يمنع لما كانت الربوبية جائزة أن تنسب إلى العرش وما دون العرش نسبها إلى المخلوقات الأخرى { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } (1) { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) } (2) { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) } (3) فلم يمنع من نسبة الربوبية للعرش أي ينسبها لما دون العرش، فلو كان الاستواء معناه الاستيلاء لنسب الاستواء لما دون العرش، فدل على أن المقصود بالاستواء هو العلو والارتفاع، وهذا هو ظاهر النص، وهذا هو المعروف من لغة العرب، وهذا هو اللائق بالله سبحانه وتعالى نعم.
الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين
ثم قال: باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين.
وذكر الآيات في ذلك، ورد على المتأولين لها بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته، مثل قوله: فإن سئلنا أتقولون لله يدان؟ قيل نقول ذلك، وقد دل عليه قوله تعالى: { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (4) وقوله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (5) وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته وقد جاء في الخبر المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده .
وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي. ويريد بها النعمة، وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهوما من كلامها، ومعقولا في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي. ويعني به النعمة؛ بطل أن يكون معنى قوله تعالى: { بِيَدَيَّ } (6) النعمة.
وذكر كلاما طويلا في تقرير هذا ونحوه.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة الرعد آية : 16.
(2) - سورة الشعراء آية : 26.
(3) - سورة الأعراف آية : 122.
(4) - سورة الفتح آية : 10.
(5) - سورة ص آية : 75.
(6) - سورة ص آية : 75.(1/516)
نعم وهذا فيه أيضا التصريح بإثبات صفة اليدين لله - عز وجل - التي يؤولها جمهور الأشاعرة فضلا عن المعتزلة والجهمية، واستدل لذلك بقوله تعالى: { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (1) وقوله: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) ثم ذكرحديث: إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته والحديث تقدم رواه أبو داود والترمذي والإمام أحمد ومالك في الموطأ ، ثم ذكر حديث: إن الله خلق آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده حقيقة لم أقف على حديث بهذا اللفظ، وإنما جاء بمعناه في أحاديث منها ما رواه البيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الله بن الحارث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله - عز وجل - خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده وروى أيضا أبو نعيم في صفة الجنة والحاكم في مستدركه عن ابن عمر بلفظ: خلق الله أربعة بيده: العرش وجنات عدن وآدم والقلم .
ثم قال: (وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيديّ ويريد به النعمة) يرد على من فسر اليد أو أول اليد بالنعمة، وكذلك من أول اليد بالقدرة، فيقول هذا ليس سائغا في كلام العرب، ولا يجوز في كلام العرب أن يقول القائل: فعلت هذا الشيء بيديّ ويريد بالنعمة، نعم يجوز في كلام العرب أن يقول: لي يد على فلان؛ بمعنى: لي نعمة على فلان؛ لكن لا يُعرف في كلام العرب أن يقول: بنيت هذا البيت بيدي، ويقول قائل: يريدون النعمة، أو صنعت هذا الأمر بيدي، ويقول قائل: إنهم يريدون النعمة؛ فهذا ليس من كلام العرب.
__________
(1) - سورة الفتح آية : 10.
(2) - سورة ص آية : 75.(1/517)
وذكر أن الله - عز وجل - إنما خاطب العرب بلغتها، وبناء عليه فيفهم القرآن على وفق لغة العرب، ولهذا ذكر أهل العلم أنه لا يجوز للمفسر أن يفسر كلام الله إلا بعد أن يكون عالما بلغة العرب؛ لأن القرآن نزل بهذه اللغة، نعم.
(وما يجري مفهوما من كلامها ومعقولا في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أي أهل اللسان العربي أن يقول القائل: فعلت بيدي ويعني به النعمة، بطل أن يكون معنى قوله تعالى: { بِيَدَيَّ } (1) النعمة، وذكر كلاما طويلا في تقرير هذا ونحوه)، وهذا فيه رد صريح لا يحتمل التأويل على أولئك الذين فسروا هذه الصفات بهذه التفسيرات، وهذا نموذج وعلى غيرها فقِسْ نعم.
القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقِلاني وقوله في صفات الله
إثبات الوجه واليد والرد على من تأول ذلك
وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقِلاني المتكلم وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري؛ ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده- قال في كتاب الإبانة تصنيفه: فإن قال: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قيل له: قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } (2) وقوله تعالى: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (3) فأثبت لنفسه وجها ويدا.
فإن قال: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إن كنتم لا تعقلون وجها ويدا إلا جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه، وكما لا يجب في كل شيء كان قائما بذاته أن يكون جوهرا؛ لأنّا وإياكم لا نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، وكذلك الجواب لهم إن قالوا: فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرَضا واعتلوا بالوجود.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة ص آية : 75.
(2) - سورة الرحمن آية : 27.
(3) - سورة ص آية : 75.(1/518)
نعم وهذا النقل عن الرجل الثاني في مذهب الأشاعرة وهو الإمام القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة أربعمائة وثلاثة، ويعتبره العلماء المؤسس الثاني لمذهب الأشعري، هو تتلمذ على تلامذة أبي الحسن الأشعري؛ لكنه يعد في الحقيقة المؤسس الثاني بعد أبي الحسن، وذلك لأنه وضع القواعد العقلية لمذهب الأشاعرة، والرجل - كما وصف شيخ الإسلام - ليس في هؤلاء المتكلمين لا قبله ولا بعده مثله، يعتبر صاحب -كما يقال- عقلية فذة، وكتبه تشهد بذلك، ولهذا كان حاضر الحجة حاضر البديهة، وناظر النصارى كثيرا، وأيضا رد على المعتزلة والجهمية والكرّامية، وفي ردوده قوة؛ خاصة ما يتعلق منها بجانب العقل، ولهذا قال العلماء أنه فعلا هو المؤسس الثاني لمذهب الأشاعرة.
يقول: (وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده)، فعلا هو مقَعِّد، يعني الرازي يعتبر من الأشخاص المبرزين في مذهب الأشعري؛ لكنه كثيرا - كما قال شيخ الإسلام - ما يقع في التناقض؛ لعدم التزامه القواعد العقلية التي أصلها، بخلاف الباقلاني نادرا ما يقع في التناقض لأنه اعتمد على قواعد عقلية، وكثير من القواعد التي اعتمد عليها الأشاعرة في تقعيد مذهبهم بعد الباقلاني اعتمدوا فيها على ما أسسه هذا الرجل.
جاء بمسألة الجوهر الفرد، وجاء بمسألة أن العَرَض لا يقوم بنفسه، وجاء بمسألة بُطلان المدلول إذا بطل الدليل، مسائل كثيرة يعتبر هو أول من قعدها -رحمه الله-.(1/519)
يقول: قال في كتابه الإبانة - وللأسف هذا الكتاب لا يزال مفقودا - لكن له كتاب آخر التمهيد وهو مطبوع، ونقل منه شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وسيشير إليه الشيخ هنا، ومما يحسن التنبيه إليه أن محققي هذا الكتاب؛ وهما الخضيري ورجل يقال له أبو ريدة اعتمدوا على نسخة واحدة، وأشاروا إلى أن هذه النسخة ليست بكاملة، وكانت هذه النسخة لا تشتمل على ما نقله شيخ الإسلام ونقله ابن القيم من كلام الباقلاني في إثبات الاستواء والعلو.
فعرض هذا الأمر على الكوثري -عليه من الله ما يستحق - فقال ابن القيم: الآن أنتم تعرفون وأنتم تحققون هذا الكتاب على نسخة واحدة والنسخة أيضا أشرتم إلى أنها ناقصة، فيقول الكوثري يجيب عن ذلك: - ابن القيم وابن تيمية نقلوا عن الباقلاني كلام في الاستواء وكلام في العلو ما وجدناه قال لهم: إما أن يكونا دسوا هذا
الكلام على الباقلاني لينصروا به مذهبهم، وحسب هذا المسكين أن ابن تيمية أو ابن القيم أو غير ابن تيمية وابن القيم من أهل السنة بحاجة إلى كلام الباقلاني في تقرير مذهب أهل السنة والجماعة.
أهل السنة والجماعة مستغنين بالكتاب والسنة، لكن نعم نستشهد بكلام الباقلاني وبكلام الأشعري لأجل الرد على من؟ على الخصوم، قال: إما أن يكونا دسا هذا الكلام على الباقلاني، وإما أن يكونا نقلا هذا الكلام من كتاب ظنا أنه كتاب الباقلاني الذي هو التمهيد. لكن لما أراد الله إظهار الحق خرج الكتاب بتحقيق مستشرق اسمه مكارثي حققه على مجموعة من النسخ الخطية، وجميع النسخ اشتملت على هذا النقل الذي ذكره شيخ الإسلام وابن القيم، فظهر الحق وزهق الباطل.(1/520)
يقول في كتابه الإبانة: فإن قال: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قيل له: قوله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } (1) وقوله: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) فأثبت لنفسه وجها ويدا، وهذا خلاف -أيضا- مذهب الأشاعرة، فإن قال: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذ كنتم لا تعقلون وجها ويدا إلا جارحة؟
هذه من الشبه التي يقول بها من ينفي عن الله صفة الوجه وصفة اليد. يقول: كيف تثبت لله وجها ولله يدين ونحن لا نعقل وجها ولا يدين إلا هذه الجوارح التي هي صفات البشر؟ -واضح وجه الاعتراض- فرد عليهم الباقلاني بقوله: قلنا: لا يجب هذا؛ يعني لا يلزم؛ لا يلزم من إثبات الوجه واليد لله - عز وجل - أن يكون كيد ووجه الإنسان؛ لأننا لا نعقل وجها ولا يدا إلا هذا الوجه واليد المعهود.
(قلنا: لا يجب هذا، كما لا يجب إذا لم نعقل حيا) -أنتم معاشر الأشاعرة تثبتون أن الله حي أو ما تثبتون؟ - يثبتون أن الله حي، (عالما) - تثبتون لله العلم - (قادرا) - تثبتون لله القدرة - (إلا جسما) يعني أنتم معاشر
المعتزلة ألستم تسمون الله - عز وجل - حيا عالما قادرا؟ وإلا لا؛ المعتزلة يسمون الله - عز وجل - بهذه الأسماء لكن لا يثبتون الصفات، وأنتم معاشر الأشاعرة تثبتون لله الحياة والسمع والبصر؛ هل تعقلون: حي عالم قادر غير هذا الجسم الذي تشاهدون؟ الجواب: لا. إذًا كيف أثبتم لله - عز وجل - هذه الأسماء وهذه الصفات؟ فإن قالوا: أثبتناها على الوجه الذي يليق بالله سبحانه وتعالى. قلنا لهم: ونحن نثبت الوجه واليدين وبقية الصفات على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى.
__________
(1) - سورة الرحمن آية : 27.
(2) - سورة ص آية : 75.(1/521)
وهذه قاعدة من أقوى القواعد التي يرد بها على من يثبت شيئا وينفي ما يماثله, وهذه القاعدة هي ما ذكرها شيخ الإسلام: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، هذه القاعدة تستخدمها للرد على كل شخص أثبت شيئا ونفى ما يماثله، ولهذا نستخدم هذه القاعدة مع الجهمية في نفي الأسماء والصفات، ونستخدمها مع المعتزلة الذين يثبتون الأسماء وينفون الصفات، ونستخدمها مع الأشاعرة الذين يثبتون بعض الصفات وينفون بعضا، وهي من أقوى القواعد التي يرد بها على الأشاعرة؛ لأنهم الآن يثبتون لله العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام.
نقول: أنتم الآن تثبتون لله سبع صفات ونحن لا نعقل متصف بهذه الصفات إلا ما هو جسم. قالوا: لا. نحن نثبت هذه الصفات على الوجه اللائق به سبحانه. قلنا لهم: ونحن نثبت النزول والمجيء واليدين والوجه والقدم والأصابع والغضب والرحمة كلها نثبته على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى.
وهذا معنى كلام الباقلاني في هذه الأصل؛ أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، يقول: (قلنا: لا يجب هذا؛ كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه).
يقول: نحن لا نقول أن الله جسم لأنه يسمى حيا عالما قادرا أو يوصف بهذه الأشياء، كذلك نثبت أن له وجه ولا نقول أنه يماثل وجوه المخلوقين، وكما لا يجب في كل شيء كان قائما بذاته أن يكون جوهرا؛ الجوهر من الألفاظ أيضا المجملة التي جاء بها المتكلمون، وهي أو يعرفون الجوهر: ما قام بنفسه، يقابل ماذا؟ العَرَض: القائم بغيره. الرحمة هل تقوم بنفسها؟ الغضب، العلم، الحياة؟ هذه يسمونها أعراض لأنها لا يمكن أن تقوم بنفسها، لا بد أن تقوم بجوهر، لكن اليد جوهر قائم له ذات. واضح، فالجوهر هو الشيء الذي يقوم بنفسه.(1/522)
يقول: (وكما لا يجب في كل شيء قائم بذاته) يعني يقول: هل تقولون أن الله قائم بذاته ولا ليس بقائم بذاته؟ الجواب: المعتزلة والأشاعرة يقولون: الله قائم بذاته. طيب يقول: هو: لا نعقل شيئا قائما بذاته إلا ما كان جوهرا، وهم والمعتزلة ينفون أن يكون الله جوهرا، ونحن لا نثبت ولا ننفي لأنها من العبارات المجملة ولا بد فيها من الاستفسار.
فالشاهد أنه من باب الإلزام، الباقلاني يلزم هؤلاء الذين نفوا بعض الصفات وأثبتوا بعضا، (لأنا لا نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، وكذلك الجواب لهم) بمعنى أننا نثبت لله اليد اليدين والوجه ولا نقول أنها جوارح، ولا يلزم أن تكون جوارح كما هي ثابتة لبني آدم، إن قالوا: فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفاته عرضا واعتلّوا بالوجود، نعم هؤلاء المعتزلة، المعتزلة ينفون هذه الصفات عن الله - عز وجل - خلافا للأشاعرة - ينفون عن الله العلم والحياة والكلام والسمع والبصر وسائر الصفات، وعلتهم في ذلك أو من شبههم أنها أعراض وهذا لا يجوز أن ينسب لله عز وجل؛ لأن العرض لا يقوم إلا بجوهر، وعندهم الجواهر متماثلة، والأجسام متماثلة، إلى آخر شبه عقلية لا منتهى لها.
الشاهد أنه يقول: أنه يلزمكم في كل ما أثبتموه نظير ما نفيتموه حتى تصلوا إلى صفة الوجود، آخر المطاف سننتهي نحن وإياكم إلى صفة الوجود، هل تثبتون لله صفة الوجود ولا لا؟ فإن قالوا: لا. فقد حكموا على الله بأنه عدم وهذا غاية الإلحاد، وإن قالوا لا؛ نثبت لله أنه موجود وصفة الوجود، قيل: وهل تعقلون وجودا في هذا الشاهد غير وجود هذا المخلوق؟ فإن قالوا: لا. وجود الله لائق به سبحانه. قلنا لهم: وسمعه وبصره وكلامه وحياته وعلمه ووجهه ويديه كلها لائقة به سبحانه وتعالى لا فرق بين هذا وذاك. نعم.
إثبات صفة الاستواء لله - عز وجل -(1/523)
وقال: فإن قال: تقولون إنه في كل مكان. قيل له: معاذ الله؛ بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) وقال الله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } (2) وقال: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) } (3) قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يُرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خَلَق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصحَّ أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله.
ــــــــــــ
يقول: فإن قال قائل: تقولون إنه في كل مكان. قال: معاذ الله؛ يعني لا يمكن أن نثبت ذلك؛ بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه، وهذا تصريح منه -رحمه الله- بإثبات صفة الاستواء، وأنه عالٍ على الخلق، ثم ذكر هذه الأدلة النقلية: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (4) و { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } (5) وقلنا: إن هذه الأدلة الصريحة في إثبات العلو.
ثم ذكر دليلا عقليا يرد على من قال: إنه في كل مكان. فقال: لو كان في كل مكان للزم أن يكون في بطن الإنسان وفمه؛ يعني لا يخلو منه مكان لأنه في كل مكان، كل ما صدق عليه أو كل ما صدق أن يطلق عليه مكان
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة فاطر آية : 10.
(3) - سورة الملك آية : 16.
(4) - سورة طه آية : 5.
(5) - سورة فاطر آية : 10.(1/524)
فيلزم أن يكون في هذا المكان، ولزاد بزيادة هذه الأمكنة، فإذا ولد مولود - تعالى الله - صار في هذا المكان، وإذا فني هذا المخلوق ذهب من هذا المكان، وهذا لا يقوله عاقل، ولهذا قال: يزيد بزيادة الأمكنة إذا خَلَقَ منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها، كل هذه أدلة عقلية للرد على هؤلاء.
والدليل الثاني - أيضا العقلي -: ولصلح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، نحن قلنا أن الله - عز وجل - فطر الخلق أنهم يتوجهون إلى أي جهة؟ إلى جهة العلو، فيقول: لو لم يكن في العلو وكان في كل مكان؛ لتوجه الناس إليه بقلوبهم وأيديهم؛ أمام وخلف ويمين وشمال وتحت وفوق لأنه في كل مكان، وهذا أيضا لا يقوله عاقل. ولهذا قال: وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله؛ بل ذكر شيخ الإسلام أنه حتى الكفار لا يقولون بهذا القول، الكفار إذا حزبهم أمر توجهوا بقلوبهم إلى السماء، وذكر ابن القيم حتى الحيوانات تتوجه بأعينها ورؤوسها إلى السماء، فهذا مما فطر عليه الخلق قاطبة نعم.
إثبات الصفات الذاتية لله - عز وجل -
وقال أيضا في هذا الكتاب: صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان والغضب والرضا.
وقال في كتاب التمهيد كلاما أكثر من هذا، وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في هذا الباب مِثل هذا كثير لمن يطلبه، وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام.
ــــــــــــ(1/525)
نعم. يقول: وقال أيضا بهذا الكتاب الذي هو كتاب الإبانة: صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها، وقلنا أن الصفات الذاتية تقابل الصفات الفعلية وهي اللازمة لله - عز وجل - أزلا وأبدا، لا يمكن أن ينفك عنها بحال من الأحوال كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر؛ بمعنى أننا لا نتصور أن الله - عز وجل - يمكن أن يتجرد عن هذه الصفة فهي لازمة له، هذه الصفات الذاتية، ذكر أو مثّل على ذلك بالحياة العلم القدرة السمع البصر الكلام الإرادة البقاء، هذا لا خلاف فيه، الوجه هذا مما يخالف فيه الأشاعرة، والعينان واليدان.
لكن كيف جعل الغضب والرضا من الصفات الذاتية؟ جعلهما من الصفات الذاتية لأنه أوّلهما بالإرادة، لأنه قال في كتابه: والغضب والرضا هما الإرادة، والإرادة صفة ذاتية.
ثم قال: وقال في كتاب التمهيد - وهو الكتاب المطبوع الآن المتداول - كلاما أكثر من هذا؛ يعني أكثر مما ذكره هنا في كتابه الإبانة ثم قال: وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في هذا الباب مثل هذا كثير لمن يطلبه؛ يعني يقول ليس المقصود هنا جمع كل كلام المتكلمين؛ وإنما المقصود الإشارة، وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام، نعم.
يعني لسنا أو ليس أهل السنة والجماعة في عقيدتهم يتوقفون على إثبات فلان أو فلان أو فلان لهذه المسائل؛ يعني لسنا متوقفين على إثبات هذه الصفات لله - عز وجل - على إثبات أبي الحسن، أو إثبات البيهقي، أو إثبات أبي بكر بن فورك، أو إثبات أبي عبد الله بن خفيف، نعم أو إثبات الباقلاني في التمهيد؛ لأننا مستغنين بالكتاب والسنة وكلام السلف ففيهما الغُنية؛ لكن الشيخ أورد كلام هؤلاء للرد به على أتباعهم، للرد به على الخصوم، كأنه يقول: معاشر الأشاعرة هؤلاء أئمتكم، هذه نصوص الكتاب والسنة صريحة.(1/526)
فإن قلتم: أنتم لم تفهموا الكلام؛ كلام الله ولا كلام رسوله، قيل لهم: هذا كلام أئمتكم الذين إليهم تنتسبون، ولهم تعظّمون، وتزعمون أن مذهبكم امتداد لأقوالهم، هذه أقولهم صريحة لا تحتمل النقاش، فإن قالوا: قالوا هذا أول الأمر ورجعوا عنه.
قلنا لهم: هذه دعوى، { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) } (1) هذه كتبهم متداولة بين أيدينا وكلامهم صريح، فإذا لم تقبلوا لا كلام الله ولا كلام رسوله ولا كلام السلف ولا كلام أيضا من تعظّمونه ومن تنتسبون إليه إذاً ستقبلون كلام مَنْ؟ ولكن هو الهوى كما سيذكره الشيخ، إذا ابتلي الإنسان بالهوى أصيب بالعمى والصمم، عمي قلبه عن الحق، وكما قال الله - عز وجل - عن حال هؤلاء: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } (2) نعم.
قبول الحق ونبذ التعصب
وملاك الأمر أن يهب الله للعبد حكمة وإيمانا بحيث يكون له عقل ودين، حتى يفهم ويدين، ثم نور الكتاب والسنة يغنيه عن كل شيء؛ ولكن كثيرا من الناس قد صار منتسبا إلى بعض طوائف المتكلمين، ومحسنا للظن بهم دون غيرهم، ومتوهما أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم، فلو أُتي بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 111.
(2) - سورة الصف آية : 5.(1/527)
ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم، فلو أنهم أخذوا بالهدى الذي يجدونه في كلام أسلافهم لرُجي لهم مع الصدق في طلب الحق أن يزدادوا هدى، ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة، ثم لا يستمسك بما جاءت به من الحق ففيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) } (1) فإنَّ اليهود قالوا: لا نؤمن إلا بما أنزل علينا.
قال الله لهم: فلمَ قتلتم الأنبياء من قبل إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم، يقول سبحانه: لا ما جاءتكم به أنبياؤكم تتبعون، ولا لما جاءتكم به سائر الأنبياء تتبعون، ولكن إنما تتبعون أهواءكم، فهذا حال من لم يتبع الحق لا من طائفته ولا من غيرهم؛ مع كونه يتعصب لطائفة دون طائفة بلا برهان من الله ولا بيان.
ــــــــــــ
نعم يقول: ملاك الأمر أن يهب الله للعبد حكمة وإيمانا، نعم. إذا أراد الله - عز وجل - لعبده خيرا وهب له حكمة، وهب له عقلا يزن به الأمور، وإيمانا يدين الله - عز وجل - به، يقول: ثم نور الكتاب والسنة يغنيه عن كل شيء، نعم.
هذا هو الأصل وهذا هو المفترض أن الإنسان يستكمل بنور الكتاب والسنة، أن الإنسان يستنير بنور الكتاب والسنة، أن الإنسان يدين الله - عز وجل - بهذين الأصلين.
يقول: ولكن كثير من الناس قد صار منتسبا إلى بعض طوائف المتكلمين؛ يعني ينتسب إلى طائفة الأشعرية أو المعتزلة أو الكلابية أو الكرّامية، نعم.
__________
(1) - سورة البقرة آية : 91.(1/528)
ومحسنا للظن بهم دون غيرهم؛ يعني محسنا للظن بأسلافه المتقدمين وبأئمة هذا المذهب دون غيرهم؛ يعني لأنه لو أتي مثلا بكلام الإمام الشافعي أو كلام الإمام أبي حنيفة أو كلام الإمام مالك ما قبل، ولا يقبل إلا إذا جاء الكلام عن إمامه هذا المعظم، وهذا خلاف المنهج العلمي الصحيح، وذلك أن المسلم مطلوب منه أن يقبل الحق ممن أتى به بغض النظر عن نحلة ومذهب هذا الشخص؛ لأن المقصود هذا الحق؛ فيقبل ممن جاء به.
هؤلاء لا؛ زاد عندهم التعصب فعميت أبصارهم فلا يقبلون إلا عن أهل نحلتهم، يقول: (ومتوهما أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم)؛ بمعنى أنه مغتر لما مع هؤلاء من زخرفة القول ومن هذه المقدمات ومن هذه الجدليات ومن هذه السفسطات، جاءوا بزخرف من القول اغتر به هؤلاء الجهال الأتباع، وحسبوا أن هذه المسائل لم يعرفها حق المعرفة إلا أولئك الأئمة الذين ينتسب إليهم ويعظمهم.
يقول: (فلو أتي بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم)، وهذه نتيجة التعصب والتقليد الأعمى؛ يعني يرد كلام الله وكلام رسوله، نعم ويقبل كلام فلان وعلان لأنه من أهل نحلته وملته، ويروى عن بعضهم؛ وإن كان في مسائل الفروع في مسائل الفقه، لكنها كلمة خطيرة وتدل على أثر التقليد الأعمى على بعض الناس، قال بعضهم: كل آية وحديث على خلاف ما قال به الإمام فهي إما مؤولة أو منسوخة؛ يعني جعل كلام إمامه هو الأصل، وهذا أحد أئمة الأحناف - عفا الله عنا وعنهم- جعل كلام الإمام هو الأصل والكتاب والسنة يعرضان على كلام هذا الإمام، وهذه نتيجة التعصب الأعمى.(1/529)
يقول الشيخ: (ثم هم مع هذا) يعني مع هذا التعصب ومع هذا التقليد الأعمى لأئمتهم (مخالفون لأسلافهم)، هؤلاء الأشاعرة مخالفون لأسلافهم لأن هذا كلام أسلافهم، هذا كلام الأشعري، هذا كلام الباقلاني، هذا كلام البيهقي، يخالف ما عليه الأتباع، يقول: (ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم، فلو أنهم أخذوا بالهدى الذي يجدونه في كلام أسلافهم لرجي لهم مع الصدق في طلب الحق أن يزدادوا هدى)؛ يعني لو قلبوا هذا الحق الذي جاء به أسلافهم مع صدق النية في الحرص على اتباع الحق لرجي لهم أن يوفقوا للحق.
يقول: ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة ثم لا يستمسك بما جاءت به من الحق)؛ يعني لا يقبل هذا الأشعري لا يقبل إلا بما جاء به الأشاعرة، وهذا المعتزلي لا يقبل إلا بما جاء به أئمة المعتزلة، ثم لا يقبل الحق الذي جاء به هؤلاء الأئمة الذين ينتسب إليهم، يقول: من كانت حاله كهذه الحالة ففيه شبه ممن؟ ممن؟ من اليهود؛ الذين ما قبلوا الحق في الكتب المنزلة الأخرى، ولا قبلوا الحق الذي أنزل عليهم، يقول: (ففيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } (1) الآية فإن اليهود قالوا: لا نؤمن بما أنزل الله علينا، قال الله لهم: فلمَ قتلتم الأنبياء من قبل إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم، يقول سبحانه: لا ما جاءتكم به أنبياؤكم تتبعون، ولا لما جاءتكم به سائر الأنبياء تتبعون، ولكن إنما تتبعون أهواءكم، فهذا حال من لم يتبع الحق لا من طائفته ولا من غيرهم، مع كونه يتعصب لطائفة دون طائفة بلا برهان من الله ولا بيان)، كونك تتعصب لهذه الطائفة أو هذا المذهب أو هذه الملة أو هذه النحلة، هذا تعصب مبتدع ليس عليه دليل وليس عليه برهان من الله - عز وجل - نعم.
أبو المعالي الجويني وقوله في صفات الله - عز وجل -
اختلاف العلماء في ظواهر نصوص الصفات
__________
(1) - سورة البقرة آية : 91.(1/530)
وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتاب الرسالة النظامية : اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب.
قال: والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا اتِّباع سلف الأمة، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستندُ مُعْظَم الشريعة.
ــــــــــــ
نعم وهذا أبو المعالي الجويني المتوفى سنة ثمان وسبعين وأربع مائة؛ عبد الملك بن عبد الله بن يوسف؛ الملقب بإمام الحرمين، يعتبر من أئمة الأشاعرة؛ بل يعتبره بعض أهل العلم أنه من أوائل من قرّب أصول مذهب المعتزلة لمذهب الأشاعرة، ذكر الذهبي -رحمه الله- أنه رجع في آخر حياته إلى مذهب السلف، ولهذا أثر عنه أنه قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام. ويروى عنه أيضا أنه قال في مرض موته: اشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة تخالف السنة، وإني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور، فنرجو له صدق التوبة، وقدم وأفضى إلى ما قدَّم.
يقول -رحمه الله- في كتاب له باسم الرسالة النظامية وطبعت باسم العقيدة النظامية بتحقيق الكوثري يقول: (اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر) أيّ ظواهر؟ ظواهر نصوص الصفات: قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1)
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.(1/531)
{ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } (1) { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } (2) { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (3) نعم { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (4) { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ } (5) ونحو ذلك، ظواهر نصوص الصفات. يقول: (اختلفت مسالك العلماء) يعني اختلفت مواقف العلماء تجاه هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتأويل: قلنا في اصطلاح المتأخرين وهو الذي يريده هنا الجويني ما هو؟ صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، عن المعنى الظاهر إلى معنى بعيد. هم يقولون: لدليل يقترن بذلك. نحن نقول: إذا كان الدليل صحيحا فالتأويل صحيح، وإذا كان الدليل فاسدا فالتأويل فاسد.
يقول: (فرأى بعضهم تأويلها) أي تأويل ظواهر هذه النصوص، لما يأتي قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (6) يقول: لا، نحن نؤول الاستواء فنقول: الاستيلاء، إذا جاءت نصوص العلو يقول: نؤولها بعلو القدر علو القهر، باليدين نؤولها بالقدرة بالنعمة ونحو ذلك، هذا الذي يسميه هؤلاء تأويلا.
يقول: (فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن) يعني يؤولون ظواهر القرآن وظواهر نصوص السنة التي جاءت في صفات الله - عز وجل - .
(وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل)؛ بمعنى ترك التأويل بهذا المعنى الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، (وإجراء الظواهر على مواردها) بمعنى إجراء هذا الظاهر على معناه الظاهر.
__________
(1) - سورة النساء آية : 158.
(2) - سورة الرحمن آية : 27.
(3) - سورة ص آية : 75.
(4) - سورة الأعراف آية : 156.
(5) - سورة النساء آية : 93.
(6) - سورة الأعراف آية : 54.(1/532)
(وتفويض معانيها إلى الرب) لنا هنا وقفة: فإن كان يريد أبو المعالي -رحمه الله- التفويض الذي هو التفويض في اصطلاح المتأخرين؛ فنقول: لا وكلا واتهمت السلف بذلك وحاشا السلف أن يقولوا بذلك، التفويض الذي هو أيش؟ لا، التفويض الذي يريده أبو المعالي؛ تفويض المعنى؛ بمعنى تفويض معنى هذه الآية أو هذا النص إلى الله - عز وجل - تقرأ قول الله - عز وجل - { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } (1) يقول ما ندري ما الله أراد بهذا اللفظ، ربما أراد به الصلاة، ربما أراد به الزكاة، ربما أراد به السفر، ربما أراد به الحج، ما نفقه من هذا اللفظ شيئا، ويسمون هذا يسمونه أيش؟ تفويض، فهذا ليس هو مذهب السلف ولا يقول به السلف، ومن نسبه للسلف فقد افترى عليهم إثما عظيما، حاشا السلف أن يقولوا بهذا القول، حاشا السلف أن يكونوا أمام هذه النصوص كالأعاجم؛ يسمع اللفظ ولا يفقه منه شيئا، إذًا ما فائدة إنزال هذا النص؟ الله - عز وجل - أخبرنا أنه أنزل هذا القرآن لأيش؟ للتدبر, والتدبر متوقف على أيش؟ فهم المعنى، ولهذا مجاهد يقول: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات أقفه عند كل آية أسأله عن معناها. فهل يمكن أن يترك نصوص الأسماء والصفات؟ والقرآن مليء بنصوص الأسماء والصفات.
وإن أراد تفويض المعاني التي هي الكيفية وحقيقة هذه الصفات وكُنه هذه الصفات فصدق، نعم السلف تركوا التأويل وأجروا اللفظ على ظاهره نعم وفوضوا الكيفية؛ لمن؟ لله - عز وجل - فقالوا: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) هذه الآية نجريها على ظاهرها، فتدل على إثبات صفة اليدين حقيقتين لله عز وجل؛ لكننا نفوض كيفية هذه اليد لله - عز وجل - لا نعلم كيفيتها، وهذا هو المذهب الحق.
اتباع سلف الأمة
__________
(1) - سورة الرحمن آية : 27.
(2) - سورة ص آية : 75.(1/533)
قال: (والذين نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا)؛ العقدة عند العرب هي الحائط الكثير النخل، كأن الرجل إذا اتخذ ذلك اتخذ هذا النخل فقد أحكم أمره ونفسه واستوثق من حاله، ثم أطلق على عقد القلب على الشيء واستيثاق القلب على الشيء، فقوله: (الذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقدا)؛ أي عقيدة مستوثقين بهذا الأمر (اتباع سلف الأمة) في أي شيء؟
في إجراء هذه النصوص على ظاهرها، وتفويض الكيفية إلى الله - عز وجل - (والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة)، يقول: إن السلف أجمعوا على إجراء هذه النصوص على ظاهرها من غير تعرض لتأويلها هذه التأويلات الباطلة، وإجماعهم حجة، ومَن { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } (1) فالإجماع حجة، فما دام أنهم أجمعوا على هذا الأمر، فيقول: هذا هو الحق الذي يجب اتباعه، (وهو مستند معظم الشريعة)؛ أي الإجماع.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
إعراض الصحابة عن تأويل هذه النصوص وَدَركِ مَا فِيهَا
__________
(1) - سورة النساء آية : 115.(1/534)
وَقَدْ دَرَجَ صَحْبُ رَسُولِ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى تَرْكِ اَلتَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا، وَدَركِ مَا فِيهَا- وَهُمْ صَفْوَةُ اَلْإِسْلَامِ، وَالْمُسْتَقِلُّونَ بِأَعْبَاءِ اَلشَّرِيعَةِ، وَكَانُوا لَا يَأْلُونَ جَهْداً فِي ضَبْطِ قَوَاعِدِ اَلْمِلَّةِ، وَالتَّوَاصِي بِحِفْظِهَا، وَتَعْلِيمِ اَلنَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا- فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ اَلظَّوَاهِرِ مُسَوَّغًا أَوْ مَحْتُومًا: لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهَا فَوْقَ اِهْتِمَامِهِمْ بِفُرُوعِ اَلشَّرِيعَةِ، وَإِذَا اِنْصَرَمَ عَصْرُهُمْ وَعَصْرُ اَلتَّابِعِينَ عَلَى اَلْإِضْرَابِ عَنْ اَلتَّأْوِيلِ: كَانَ ذَلِكَ هُوَ اَلْوَجْهُ اَلْمُتَّبَعُ، فَحَقٌّ عَلَى ذِي اَلدِّينِ أَنَّ يَعْتَقِدَ تَنْزِيهَ اَللَّهِ عَنْ صِفَاتِ اَلْمُحْدَثِينِ وَلَا يَخُوضَ فِي تَأْوِيلِ اَلْمُشْكِلَاتِ، وَيَكِلَ مَعْنَاهُ إِلَى اَلرَّبِّ; فَلْيُجْرِ آيَةَ اَلِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ. وَقَوْلَهُ: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } (2) وَقَوْلَهُ: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } (3) وَمَا صَحَّ مِنْ أَخْبَارِ اَلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - كَخَبَرِ اَلنُّزُولِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
ــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
لا زال هذا الكلام هو كلام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين يقول: (قد درج صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها)، كلامه حول مسألة إعراض الصحابة عن تأويل هذه النصوص.
__________
(1) - سورة ص آية : 75.
(2) - سورة الرحمن آية : 27.
(3) - سورة القمر آية : 14.(1/535)
وذكر في الكلام السابق أن هذا هو الأولى، هنا يقول: درج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها، إن كان يقصد ترك المعاني من جهة التكييف فهذا حق، فالصحابة رضي الله عنهم لم يتعرضوا لكيفية الصفات، ولم يحاولوا أن يبحثوا في هذه المسألة؛ لأنهم علموا أن هذا مما استأثر الله بعلمه ولا يمكن أن يدرك بالعقل المجرد، أما إن أراد أنهم تركوا التعرض لمعانيها؛ بمعنى أنهم كانوا يقرءون هذه النصوص ويسمعون هذه النصوص كأنها ألفاظ أعجمية لا يفقهون منها شيئا؛ فحاشا وكلا، وأنهم يفوضون المعنى على المذهب الباطل؛ الذي يزعم بعض المتكلمين أنه مذهب الصحابة.
التفويض تفويض المعاني؛ بمعنى أنهم لا يعرفون معنى قوله سبحانه: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } (1) ولا يعرفون معنى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) بل يفوضون معنى هذا النص إلى الله، فهذا قول باطل ولا يسلم لقائله؛ بل ينزه الصحابة وينزه كلام الله - عز وجل - عن أن يكون منه ما لا يفهم معناه، وهذا سيأتي بيانه إن شاء الله.
(ودرك ما فيها) يعني معرفة كنه وحقيقة هذه الصفات، (وهم صفوة الإسلام والمستقلون بأعباء الشريعة وكانوا لا يألون جهدا) أي لا يقصرون ولا يدعون جهدا (في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها)، بمعنى أنهم كانوا أحرص الناس على تبليغ شرع الله - عز وجل - لمن بعدهم، فإن الله - عز وجل - ائتمنهم على حفظ دينه فأدوا هذه الأمانة على أتم وأعلى الوجوه، أدوا هذا الشرع كما سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة ولا نقصان.
__________
(1) - سورة الرحمن آية : 27.
(2) - سورة ص آية : 75.(1/536)
يقول: (فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما) التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، يعني صرف معاني هذه الألفاظ عن معانيها الظاهرة معانيها القريبة معانيها المعهودة
المعروفة عند أهل اللسان عند العرب { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) العرب يعرفون ما معنى اليدين. فيقول: لو كان التأويل يعني صرف هذه الظواهر وهذه النصوص عن معناها إلى معنى بعيد سائغا أو متحتما (لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة).
__________
(1) - سورة ص آية : 75.(1/537)
إذا كانوا حرصوا يبلغون الأمة حركة إصبع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، وحرصوا أن يبلغوا الأمة وينظروا للأمة اضطراب حركة لحيته في الصلاة، ونقلوا للأمة كيف كان يقضي حاجته - صلى الله عليه وسلم - وكيف كان ينام، بل نقلوا للأمة أنه لما انتقل من مزدلفة إلى عرفة وقف في أثناء الطريق ونقض وضوءه وتوضأ، نقلوا الحركات والسكنات، نقلوا حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - العلمية والعملية كاملة، فلو كان هذا التأويل سائغا أو متحتما لكان اهتمامهم به أعظم من اهتمامهم بفروع الشريعة؛ لأن هذا متعلق بماذا؟ متعلق بأهم المهمات متعلق بالعقيدة متعلق بالتوحيد متعلق بالشيء الذي يترتب عليه السعادة الحقيقة للمسلم في الدنيا والآخرة، يعني كون المسلم يجهل بعض أحكام الوضوء أو يجهل بعض أحكام الصلاة أو بعض أحكام الزكاة أو بعض أحكام البيع أو بعض أحكام النكاح أهون من أن يجهل مسألة واحدة من مسائل أصول الدين، فكيف يقول عاقل: إن الصحابة تركوا تأويل هذه النصوص لأن هذا كلامهم موجود؟ ما نقل عن واحد منهم أنه أول نصا واحدا من نصوص الصفات، فلو كان هذا هو المتحتم وهذا هو الواجب لبادروا إليه كما بادروا لتبليغ سائر أحكام الشرع؛ بل أعظم مما بادروا لتبليغ سائر أحكام الشرع.
(أو يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل) فهذا كلامهم منقول مبسوط في دواوين السنة، في مصنفات الأئمة، وكذلك كلام التابعين لم ينقل عن شخص واحد منهم أنه قال: إن معنى قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) ثم استولى على العرش،
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.(1/538)
{ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) بقدرتي أو بنعمتي، أو { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } (2) أراد عقابهم أو { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (3) أي أردت الإثابة.لم ينقل عن واحد منهم ولا عن التابعين، فإضرابهم عن هذا الأمر دليل على أنه ليس بمشروع، وأنه باطل لأنه لو كان حقا لكانوا أسبق إليه.
(كان ذلك هو الوجه المتبع)؛ بمعنى إذا كان الصحابة والتابعون أضربوا عن التأويل فالأولى لمن أتى بعدهم والأولى بنا... أيش؟ الأولى اتباعهم بهذا الأمر، فنترك تأويل هذه النصوص كما تركوها، ونجريها كما أجراها أولئك على ظاهرها من غير التعرض لمعرفة كيفيتها أو التعرض لتشبيهها بصفات الخلق.
(فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الله عن صفات المحدثين) نعم يجب على المسلم أن ينزه الله - عز وجل - عن صفات المخلوقين؛ بمعنى إذا أثبت لله اليدين أو أثبت لله العينين أو أثبت لله الوجه أو أثبت لله المجيء أو النزول فلا بد أن أعتقد أن هذه الصفات تليق بجلاله وعظمته.
يقول: (ولا يخوض في تأويل المشكلات) هو عدّ هذه النصوص من النصوص المشكلة؛ لكن الصحيح أنها ربما تشكل على بعض الناس لكن ليست بمشكلة على الإطلاق بل هي من النصوص المحكمة النصوص البينة النصوص الظاهرة.
(ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناه إلى الرب) يكل معناه من حيث الكيفية أما المعنى الحقيقي فلا، فالله - عز وجل - بين لنا معنى هذه النصوص، كيف بينها؟ كيف بين لنا معنى هذه النصوص؟ أبو المعالي يقول: ويكل معناها إلى الله. نحن نقول: معناها من جهة الكيفية؛ لكن من جهة المعنى فإن الله بينه ولم يخفه عن عباده، كيف بين ذلك؟ أحسنت, نقول: بينها لأن الله - عز وجل - أنزل إلينا هذا الكتاب باللسان العربي وأمرنا بتدبره؛ فدل على أن
__________
(1) - سورة ص آية : 75.
(2) - سورة المجادلة آية : 14.
(3) - سورة الأعراف آية : 156.(1/539)
معناه مقبول نعم من حيث يُفهم اللسان العربي فليس فيه تعمية وليس فيه إلغاز وليس فيه أحاجي بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه.
(فليجرِ آية الاستواء والمجيء وقوله: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (1) { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } (2) وقوله: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } (3) وما صح من أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - كأخبار النزول وغيره على ما ذكرنا) أي ليجري هذه النصوص من غير تعرض أيش؟ لتأويلها كما صنع المتأخرون وليجرها على ظاهرها، لأن الذي يؤول هذا النص هل أدى النص على ظاهره؟ لا. الظاهر هو المعنى القريب المفهوم، فهذا الذي أول النص نقل النص من ظاهره إلى معنى... أيش؟ إلى معنى آخر بعيد، فالمؤلف هنا يقول: طريقة الصحابة وطريقة التابعين أنهم أجروا هذه النصوص على ظاهرها ولم يتعرضوا لها بالتأويل كما صنع المتأخرون نعم.
مراد شيخ الإسلام من جواب الفتوى الحموية
__________
(1) - سورة ص آية : 75.
(2) - سورة الرحمن آية : 27.
(3) - سورة القمر آية : 14.(1/540)
قُلْتُ: وَلْيَعْلَمِ اَلسَّائِلُ أَنَّ اَلْغَرَضَ مِنْ هَذَا اَلْجَوَابِ ذِكْرُ أَلْفَاظِ بَعْضِ اَلْأَئِمَّةِ اَلَّذِينَ نَقَلُوا مَذْهَبَ اَلسَّلَفِ فِي هَذَا اَلْبَابِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْ قَوْلِهِ مِنْ اَلْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُ بِجَمِيعِ مَا نَقُولُهُ فِي هَذَا وَغَيْرِه؛ِ وَلَكِنَّ الْحَقَّ يُقْبَلُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ; كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ فِي كَلَامِهِ اَلْمَشْهُورِ عَنْهُ، اَلَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: (اِقْبَلُوا الْحَقَّ مِنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ بِهِ; وَإِنْ كَانَ كَافِرًا -أَوْ قَالَ فَاجِرًا- وَاحْذَرُوا زَيْغَةَ اَلْحَكِيمِ، قَالُوا: كَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّ اَلْكَافِرَ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: إِنَّ عَلَى اَلْحَقِّ نُورًا) أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ.
ــــــــــــ
نعم انتهى كلام الجويني، ثم قال الشيخ أي شيخ الإسلام: (قلت: وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب) الذي هو هذه الرسالة التي بين أيدينا؛ لأنها في الأصل جواب لسائل، يقول: (وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب)؛ أي جواب الفتوى الحموية (ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب) بمعنى ليس المقصود هنا حصر جميع أقوال الأئمة، هذا يتعذر في كتابة جواب لسائل.
يقول: (وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله من المتكلمين وغيرهم يقول بجميع ما نقوله في هذا وغيره) نعم وهذا أمر مهم، وهو أن الشيخ نقل فيمن نقل عنهم نقل عن بعض المتكلمين نعم كما نقل أبي الحسن الأشعري، وكما نقل عن أبي المعالي الجويني، وعن أبي بكر بن فورك، وعن البيهقي وغيرهم، فهؤلاء لا يقولون بكل ما يقوله أهل السنة، ولا يذهبون إلى كل ما يذهب إليه أهل السنة، فعندهم مخالفات في أمور أخرى.(1/541)
ولكن الشيخ يقول: (ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به) وهذا هو المنهج الصحيح، هذا هو المنهج العلمي الذي درج عليه الأئمة: أن الحق يقبل ممن جاء به حتى وإن كنت لا أتفق معه في كل ما يقوله أو في كل
ما .يقدح فيه، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا هريرة - رضي الله عنه - أن يقبل الحق من الشيطان نعم من الشيطان؛ فكيف لا يقبل الحق من غيره؟! ولهذا لما وافق مثلا الباقلاني والجويني أهلَ السنة في إثبات بعض نصوص الصفات.
أو ترك التأويل بالمعنى الموجود عند المتكلمين؛ استشهد بهذا المؤلف استشهد بكلامهم واحتج بكلامهم لأن كلامهم هنا أيش؟ حق. وهذا هو -كما أسلفت- المنهج الحق، وهذا خلاف ما عليه بعض الإخوة -عفا الله عنها وعنهم- في هذا الوقت، إذا أخطأ شخص أهدر جميع حسناته، إذا أخطأ في مسألة فكأن هذا الرجل لا يتكلم بصواب ألبتة، فكل ما يقوله باطل، حتى أحيانا يقول قولا ظاهره ومفهومه ومنطوقه هو الحق؛ لكن يذهب هذا الرجل ليلتمس معنى بعيد جدا لهذا الكلام ليلويه ويدلل أن الرجل ما أراد الحق، يا أخي لا يضر أن نقبل الحق من هذا الشخص وإن كنا لا نوافقه مثلا في هذه المسألة أو في تلك أو في هذا الرأي أو في هذا المذهب.
لاحظ عندنا شيخ الإسلام استدل بكلام أو احتجّ؛ لا أقول استدل؛ إنما احتج بكلام هؤلاء المتكلمين؛ بكلام الجويني وقد سود شيخ الإسلام كتبه في الرد على الجويني؛ في كتابه الإرشاد وغيره، لكن الحق يقبل ممن جاء به، رد على أبي بكر بن فورك، واستشهد بقوله، وربما رد على بعض المتصوفة لكنه استشهد بأقوالهم هنا، فإذا كان قولهم يوافق الحق فما المانع أن أستشهد به خاصة إذا كان في مجال الرد على من؟ على الخصوم، وسبق أن ذكرت لكم أن هذا المنهج هو من أقوى المناهج في الرد على المخالف.(1/542)
وربما رد على بعض المتصوفة، لكنه استشهد بأقوالهم هنا، فإذا كان قولهم يوافق الحق؛ فما المانع أن نستشهد به؟ خاصة إذا كان في مجال الرد على من؟ على الخصوم.
وسبق أن ذكرت لكم أن هذا المنهج هو من أقوى المناهج في الرد على المخالف؛ أنك تحتج عليه، وتستشهد عليه بقول من يعظمه، بقول من يقلده فلا يبقى له أدنى عذر، وهذا ما سلكه الشيخ هنا، وفي غير هذا الموضع في كتبه الأخرى.
ثم يقول: ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به، كان معاذ بن جبل - رضي الله عنه - يقول في كلامه المشهور عنه الذي رواه أبو داود في سننه: "اقبل الحق من كل من جاء به، وإن كان كافرا" حتى لو كان المتكلم بالحق كافرا يقبل؛ لأن العبرة أيش؟ بما يقول . لا العبرة بحاله حالهم أبغض .
إذا جئت أناقش مظهر الشخص، وحكم هذا الشخص نعم أنظر إلى أقواله الأخرى، لكن إذا تكلم بالحق فأقبل عليه أو قال فاجرا واحذروا زيغة الحكيم؛ قالوا كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال إن على الحق نورا أو كلاما هذا معناه الشيخ اختصره.
وإنما هو عند أبي داود عن أبي إدريس الخولاني قال: أن يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ بن جبل أخبره، قال: كان لا يجلس مجلسا للذكر -يعني معاذ- حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يوما: إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن؛ حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر -ملاحظ الآن واقع اليوم- قلما أن تجده لا يقع، ثم يقول: فيوشك قائل أن يقول:
ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، واحذروا زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق.(1/543)
قال: قلت لمعاذ: ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها ما هذه، ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع وتلقى الحق إذا سمعته أي اقبل الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا نعم.
إثبات الصفات الخبرية واستوائه سبحانه وعلوه بالدليل والرد على الشبه
فأما تقرير ذلك بالدليل، وإماطة ما يعرض من الشبه، وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المهامة، فما تتسع له هذه الفتوى، وقد كتبت شيئًا من ذلك قبل هذا، وخاطبت ببعض ذلك بعض من يجالسنا، وربما أكتب - إن شاء الله - في ذلك ما يحصل المقصود به.
ــــــــــــ
نعم، يقول تقرير ذلك أي تقرير هذه المسألة، مسألة الصفات الخبرية ومسألة إثبات علو الله - عز وجل - على خلقه نعم. تقرير ذلك بالدليل وإماطة ما يعرض من الشبه.
معلوم أن لهؤلاء المخالفين شبها، وما صرفهم عن هذا الحق إلا الشبه التي علقت الهانة فإماطة ما يعرض من هذه الشبه، وتقرير هذا الأمر بالأدلة الواضحة يقول: وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين، ويقف على مواقف آراء العباد بهذه المهامه أي المفازة البعيدة، فما تتسع له هذه الفتوى بمعنى: أن مجال ذلك الكتب المطولات، وهذه فتوى عبارة عن إجابة لسائل.
يقول: وقد كتبت شيئا من ذلك قبل هذا، وخاطبت ببعض ذلك بعض ما يجالسنا، وربما أكتب إن شاء الله في ذلك ما يحصل المقصود به، وقد كتب رحمه الله فوفى وأحسن كتب كتابه درء تناقض العقل والنقل، وككتابه منهاج السنة، وككتابه نقض التأسيس، وككتابه جواب الاعتراضات المصرية عن الفتوى الحموية، وقلت لكم سابقا: إن هذا الكتاب لا يزال مفقودا، وكتب غير ذلك في تقرير هذه المسائل بشيء من البسط، وعرض الأدلة وعرض شبه الخصوم والإجابة عنها، نعم.(1/544)
جماع الأمر في باب الأسماء والصفات أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن قصد الحق
وجِماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وقصد اتِّباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته.
ــــــــــــ
وهذه قاعدة عامة يقول: لكن هناك قاعدة جماع الأمر في هذا، في هذا الباب وفي غيره في باب الأسماء والصفات، وفي غيره من أبواب الاعتقاد، بل وفي غيره من أبواب الشرع، جماع الأمر أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور، بمعنى من أراد الكمال من أراد الشرع كما أراد الله - عز وجل - فيلتزم بهذين الأصلين؟ ففيهما النور وفيهما الهدى لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسمائه وآياته.
الكتاب والسنة الجميع يقرأه، حتى هؤلاء المخالفون يقرءون نصوص الكتاب والسنة، فلماذا لم يكن الكتاب لهم نورا كما كان لغيرهم؟ هه، لا هناك الهوى، الهوى أحيانا يحول بين الإنسان وبين الحق وبين نور الحق الصادر من هذا المصدر الأصلي، ولهذا اشترط الشيخ هنا قال: لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه وقصد اتباع الحق بعيدا عن الهوى، بعيدا عن الأغراض الشخصية، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسمائه الله وأمره.
.............................. وإلا فكل يدعي وصلا بليلى(1/545)
كل يزعم أنه يأخذ من هذا الكتاب، لكن هذا الكتاب لم ينتفع به حقيقة إلا من أخذه بتجرد عن الهوى، وتسليم لنصوص الوحيين؛ التسليم التام على حد قول الله - عز وجل - { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } (1) .
من أخذ نصوص الكتاب والسنة على أنها زيادة في الاحتجاج وليس أصلا بالاحتجاج
هل من أخذ نصوص الكتاب ونصوص السنة على أنها زيادة في الاحتجاج، وليس أصلا بالاحتجاج، هل هذا فعلا حكم الكتاب والسنة؟
لا، ولهذا: الأصل عنده العقل، الأصل عنده هذه المقاييس التي وضعوها فيعرضون نصوص الكتاب والسنة على هذه المقاييس، ما وافقها قبلوه وما خالفها رده، فهؤلاء في واقع الأمر لم ينظروا بالكتاب والسنة النظر الشرعي الذي أراد الله عز وجل؛ إذ لو نظروا فيهما كما أراد الله لانتفعوا ولسلموا من الضلال والانحراف. نعم.
نصوص الكتاب والسنة لا يناقض بعضها بعضا في مسألة الاستواء والمعية
معنى المعية والرد على شبهة؛ أن أهل السنة يصرفون اللفظ عن ظاهره بالتأويل
__________
(1) - سورة النساء آية : 65.(1/546)
ولا يحسب الحاسب أنَّ شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة؛ مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه في الظاهر من قوله تعالى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الله قِبل وجهه ونحو ذلك فإن هذا غلط، وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة؛ كما جمع الله بينهما في قوله تعالى: { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) } (2) .
فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأوعال: والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه .
وذلك أن كلمة "مَعَ" في اللغة إذا أُطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين وشمال، فإذا قُيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك؛ فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة.
__________
(1) - سورة الحديد آية : 4.
(2) - سورة الحديد آية : 4.(1/547)
نعم، هنا مسألة مهمة، وهي أن المؤلف -رحمه الله- ذكر هذه النصوص الكثيرة الدالة على إثبات صفة العلو لله - عز وجل - و أن الله عال على الخلق، له العلو المطلق، لكن هناك نصوص تدل على أن الله مع خلقه، وهذه النصوص جاءت في الكتاب والسنة من الكتاب قول الله - عز وجل - { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (1) وقوله سبحانه: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ } (2) الآية.
، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الله قِبل وجهه وهذا الحديث في الصحيحين، فهل هناك تعارض أو تناقض بين نصوص العلو وبين نصوص المعية؟
الجواب: لا، ولهذا قال المؤلف: ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك أي من نصوص العلو يناقض بعضه بعضا ألبتة؛ مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه في الظاهر قوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (3) وقوله: إذ قام أحدكم إلى الصلاة ونحو ذلك فإن هذا غلط.
طيب إذن، ما معنى هذه المعية؟ لأجل أن لا يكون هناك تعارض، وقبل أن أذكر كلام المؤلف في مسألة المعية، المتكلمون اعترضوا على أهل السنة في الإنكار عليهم في التأويل، اعترضوا عليهم بنصوص المعية، وممن اعترض أبو المعالي قال: إذا أنكرتم تأويلنا لنصوص العلو، في علو القدر والقهر أوردنا عليكم أو أنكرنا عليكم تأويل المعية بمعية العلم، فإذا جاز لكم أن تؤولوا المعية بالعلم، تقولون: الله معنا أي بعلمه.
نحن نقول: أيضا الله مستو على عرشه بقدرته بقوته، واضح وجه الاعتراض واضح، ولهذا الشيخ أورد هنا الرد عليهم، لكن من غير أن يورد الشبهة.
__________
(1) - سورة الحديد آية : 4.
(2) - سورة المجادلة آية : 7.
(3) - سورة الحديد آية : 4.(1/548)
فالجواب أن ليس في تفسير المعية بالعلم تأويل، من قال لكم: إن قولنا الله معنا أي بعلمه، أن هذا تأويل صرف للفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، فالقرآن نزل بلغة من؟ بلغة العرب، نرجع إلى كلام العرب إذا أطلقوا المعية: ماذا يريدون؟ العرب إذا أطلقوا المعية أرادوا مطلق المصاحبة مطلق المصاحبة.
ولا يلزم من ذلك المخالطة والمماسة هذا كلام العرب، والدليل على ذلك قول الله - عز وجل - { وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) } (1) هل يقول قائل: إن مع هنا تقتضي المخالطة والمماسة، وأوضح من ذلك قوله سبحانه: { وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - من صحبه وخالطه في الهجرة اثنان فقط: أبو بكر وعامر بن فهيرة، بنات خاله ما هاجرن إنما لحقنه أو سبقنه، ومع ذلك قال الله - عز وجل - { وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ سةL"9$# هَاجَرْنَ مَعَكَ } (3) ؛ وقول الله سبحانه وتعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ } (4) .
هل معنى هذا: أنهم فقط الذين خالطوه أم كل مؤمن اتبعه يدخل في هذه الآية؟ كل مؤمن، وهذا بالإجماع، وقول الله - عز وجل - { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ } (5) لو قال: قائل أن المعية تقتضي فقط المخالطة والمماسة لأخرج ما عدا الصحابة من هذه الآية وهذا لم يقله أحد.
أما في لغة العرب فحدث ولا حرج، العرب اشتهر عنهم أنهم يقولون: ما زلنا نسير والقمر معنا، هل يقول قائل أو عاقل: إن القمر مخالط، مماس لهم وهو في السماء وهم في الأرض، ويقول القائل: فلان زوجته معه، وربما يكون هو في الصين وهي في أقصى الأرض.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 193.
(2) - سورة الأحزاب آية : 50.
(3) - سورة الأحزاب آية : 50.
(4) - سورة الفتح آية : 29.
(5) - سورة التحريم آية : 8.(1/549)
فمعنى المعية هنا مطلق المصاحبة ولا يلزم منها المخالطة، ويقول القائل: كأسي معي هنا مخالط.
فالذي يحدد المعنى ما هو؟ ما الذي يحدد المعنى؟ السياق؛ ينظر إلى سياق الكلام؛ ولهذا يقال: فلان ماله معه وماله أرقام فقط التي معه، أما حقيقة المال فهي عقار، مزارع، أرصدة في البنوك، ويقولون: فلان ماله معه، ومع ذلك ليس بمخالط لماله ولا مماس لماله، بل الأمير يرسل إلى الجند وهم في أرض المعركة وبينهم آلاف الأميال.
ويقول: أنا معكم فاثبتوا، معكم بماذا؟ معكم بالتأييد، معكم بالإعانة معكم؛ فلم يلزم من هذا الكلام المخالطة والمماسة إذن ننتهي إلى أن تفسير المعية بمعية العلم ليس فيه تأويل كما يزعم هؤلاء، ليس فيه صرف للفظ عن ظاهره.
ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذه الآية قال للسائل: اقرأ أول الآية وآخر الآية، وهذا تفسيرها؛ لأن الآية افتتحت بماذا؟ بالعلم: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } (1) { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ } (2) إلى أن قال: { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } (3) كذلك الإمام مالك قال: اقرأ أول الآية وآخر الآية.
ولهذا قال ابن كثير: أجمع السلف على أن المعية في هذه الآية وبغيرها معية العلم، وليس معية الذات؛ وبناء على ذلك؛ فليس هناك صرف اللفظ عن ظاهره.
نعم، وليس هناك تعارض بين نصوص المعية ونصوص العلو، يقول وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة، نعم فوق العرش، عال حقيقة ومعنا حقيقة، وحقيقة هذه المعية هل يلزم منها المخالطة والمماسة؟ لا المعية
__________
(1) - سورة المجادلة آية : 7.
(2) - سورة المجادلة آية : 7.
(3) - سورة المجادلة آية : 7.(1/550)
الحقيقية هنا.. هي معية أيش؟ معية العلم؛ كما جمع الله بينهما في قوله تعالى: { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) أثبت الاستواء العلو على العرش.
ثم قال: { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) } (2) ؛ فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأوعال والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه ؛ ليثبت أن المعية هنا معية علم لا معية مخالطة.
وذلك أن كلمة " مع " الشيخ أراد أن يرد على هؤلاء الذين قالوا: أنتم أولتم ما في تأويل لأن ما نرجع إلى كلام العرب: ماذا أرادوا بها؟ نقول: لأن كلمة " مع " في اللغة إذا أطلقت وليس بظاهرها في اللغة إلا المقارن المطلقة من غير وجوه مماسة أو محاذاة هن يمين وشمال يعني: مطلق المصاحبة.
" مع " إذا أطلقت في لغة العرب فالمراد بها أيش؟ مطلق المصاحبة، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى؛ فإنه يقول: ما زلنا أو يقال ما زلنا ونسير والقمر معنا أو النجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة، فليس في هذا تأويل. نعم.
المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد
أمثلة على أن المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.
(2) - سورة الحديد آية : 4.(1/551)
ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال تعالى: { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (1) دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطَّلِع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
نعم، ليس هناك من تأويل هذا هو ظاهر النص ظاهر الخطاب. نعم.
ــــــــــــ
وكذلك في قوله: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } (2) إلى قوله: { هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } (3) ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه في الغار: { لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا } (4) كان هذا أيضا حقا على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم المعية هنا مع الاطلاع النصر والتأييد.
نعم، وذلك أن المعية تنقسم إلى قسمين:
معية عامة، وهي التي دلت عليها آية المجادلة وآية الحديد: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (5) { إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } (6) { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } (7) هذه المعية العامة ومقتضاها الاطلاع، الإحاطة. واضح.
__________
(1) - سورة الحديد آية : 4.
(2) - سورة المجادلة آية : 7.
(3) - سورة المجادلة آية : 7.
(4) - سورة التوبة آية : 40.
(5) - سورة الحديد آية : 4.
(6) - سورة المجادلة آية : 7.
(7) - سورة المجادلة آية : 7.(1/552)
هناك المعية الخاصة، وهي التي تكون لبعض الناس، وتكون بالنصر يعني: يكون مقتضاها النصر، التأييد ومن هذا قوله سبحانه: { لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا } (1) وقوله أيضا لموسى وهارون: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (2) .
فهؤلاء لهم معية خاصة إضافة إلى المعية العامة، فالله محيط ومطلع عليهم، وأيضا أيش؟. . مؤيد وناصر لهم بهذه المعية، وكالمثال الذي سيورده المؤلف أيضا: { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) } (3) مع هؤلاء خاصة إضافة إلى معيته العامة. نعم.
أمثلة أخرى على أن المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد
وكذلك قوله: { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) } (4) وكذلك قوله لموسى وهارون: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } (5) هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذا الموطن النصر والتأييد.
وقد يدخل على صبي من يخيفه، فيبكي فيشرف عليه أبوه من فوق السقف ويقول: لا تخف أنا معك، أو أنا حاضر ونحو ذلك. ينبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه؛ ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها، فتختلف باختلاف المواضع.
ــــــــــــ
إذن الذي يحدد مقتضى المعية، نعم، ما هو؟ السياق، مورد الكلام سياق الكلام هو الذي يحدد هل هي معية عامة معية خاصة معية مخالطة معية علم نعم معية اطلاع معية نصر الذي يحدد ذلك هو سياق الكلام لكن مع مجردة تدل على مطلق المصاحبة نعم.
لفظ المعية من الألفاظ المتواطئة
__________
(1) - سورة التوبة آية : 40.
(2) - سورة طه آية : 46.
(3) - سورة النحل آية : 128.
(4) - سورة النحل آية : 128.
(5) - سورة طه آية : 46.(1/553)
لفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع، يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها، وامتاز كل موضع بخاصية فعلى التقديرين: ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب مختلطة بالخلق؛ حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها.
ــــــــــــ
نعم، لفظ المعية كما سيذكر المؤلف من الألفاظ المتواطئة، تستعمل في الكتاب والسنة في مواضع متعددة لكن الذي يحدد معناها سياق هذا اللفظ الذي وردت فيه، كلمة "مع".
يقول: وعلى كل حال وبكل التقادير، فإن المعية المنسوبة لله - عز وجل - في هذه النصوص لا تقتضي أيش؟ المخالطة ولا المماسة؛ وبناء على ذلك إذا قيل: إن الله معنا بعلمه، لا يقول قائل: أنتم صرفتم اللفظ عن ظاهره بل هذا هو ظاهره، وهذا هو مقتضاه، وهذا هو معناه الحقيقي. نعم.
نظير المعية من بعض الوجوه مسألة الربوبية والعبودية
ونظيرها من بعض الوجوه الربوبية والعبودية، فإنهما وإن اشتركتا في أصل الربوبية والتعبيد فلما قال: { قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) } (1) كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق، فإن من أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره: فقد ربَّه وربَّاه وربوبيته وتربيته أكمل من غيره.
وكذلك قوله: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) } (2) وقوله: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } (3) .
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 121-122.
(2) - سورة الإنسان آية : 6.
(3) - سورة الإسراء آية : 1.(1/554)
فإن العبد تارة يعني به المعبد فيعم الخلق؛ كما في قوله: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) } (1) وتارة يعنى به العابد فيُخَص، ثم يختلفون فمن كان أعبد علما وحالا، كانت عبوديته أكمل، فكانت الإضافة في حقه أكمل، مع أنها حقيقة في جميع المواضع.
ــــــــــــ
نعم، يقول: ونظيرها أي: نظير المعية من بعض الوجوه مسألة الربوبية والعبودية، فهي تنقسم إلى ربوبية عامة وربوبية خاصة، وعبودية عامة وعبودية خاصة، فالربوبية العامة؛ كقوله سبحانه: { بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) } (2) فرب العالمين هذه ربوبية عامة، كون الله - عز وجل - هو الذي رب هذا الخلق، قام على هؤلاء الخلق وقوله سبحانه: { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) } (3) .
هذه ربوبية خاصة، لا يشاركهما فيها سائر الخلق إلا من استثناه الله - عز وجل - ولهذا قال: كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق، فإن من أعطاه الله من الكمال، وهذا موسى وهارون أكثر مما أعطى غيره، فقد ربه ورباه وربوبيته وتربيته أكمل من غيره؛ فعلم أن الربوبية المنسوبة لموسى وهارون أخص من الربوبية المنسوبة لجميع الخلق من المعية.
وكذلك العبودية: هناك عبودية عامة، وهي عبودية القهر والملك، وهذه شاملة لجميع الخلق؛ فكل الخلق تحت أيش؟ قهر الله، وتحت ملك الله، ولهذا قال سبحانه: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) } (4) الكل عبد لله - عز وجل - تحت ملكه تحت قهره تحت سلطانه، لكن هناك عبودية خاصة امتاز بها بعض الخلق؛ وهي عبودية الطاعة.
__________
(1) - سورة مريم آية : 93.
(2) - سورة الأعراف آية : 121.
(3) - سورة الأعراف آية : 122.
(4) - سورة مريم آية : 93.(1/555)
عبودية الامتثال، تختلف عن العبودية الأخرى المنسوبة لسائر الخلق كقوله سبحانه: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } (1) هؤلاء نسبة العبودية لهم تختلف عن العبودية التي جاءت في قوله: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ } (2) وقوله سبحانه: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } (3) وهذه أعلى { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } (4) { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } (5) { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا } (6) .
قاله في الأنبياء؛ فهذه العبودية تسمى عبودية خاصة، مثل قضية المعية، معية عامة ومعية خاصة يقول: فمن كان أعبد علما وحالا، كانت عبوديته أكمل، فكانت الإضافة في حقه أكمل أي: إضافتها إلى الله - عز وجل - مع أنها حقيقة في جميع المواضع يعني: الخلق كلهم عبيد لله حقيقة ولا مجاز؟ هه حقيقة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد لله حقيقة لا يقول قائل أنها هنا حقيقة وهنا ليست بحقيقة لها معنى آخر. نعم.
المعية والربوبية والعبودية والاستواء والوجه واليدين هل هي من قبيل الأسماء المتواطئة، أو من قبل المشتركة في اللفظ
ومثل هذه الألفاظ يسميها بعض الناس مشككة، لتشكيك المستمع فيها، هل هي من قبيل الأسماء المتواطئة، أو من قبل المشتركة في اللفظ فقط، والمحققون يعلمون أنها ليست خارجة عن جنس المتواطئة؛ إذْ واضع اللغة إنما وضع بإزاء القدْر المشترك، وإن كانت نوعا مختصا من المتواطئة فلا بأس بتخصيصها بلفظ.
ــــــــــــ
__________
(1) - سورة الإنسان آية : 6.
(2) - سورة مريم آية : 93.
(3) - سورة الإسراء آية : 1.
(4) - سورة الكهف آية : 1.
(5) - سورة الفرقان آية : 1.
(6) - سورة ص آية : 45.(1/556)
يعني لفظ المعية، ولفظ العبودية، ولفظ الربوبية، ولفظ السمع، لفظ الوجه، نعم، لفظ الاستواء لفظ اليدين؛ هذه الألفاظ يسميها أهل المنطق ألفاظ مشككة، والألفاظ المشككة عبارة عن اللفظ الذي يدل على أشياء باعتبار معنى واحد تختلف فيما بينها إما بشدة أو ضعف أو تقدم أو تأخر أو يمكن أن نقول: هو اللفظ الدال على معنى يوجد بأفراده بنسب مختلفة.
اللفظ الدال على معنى يوجد في أفراده بنسب مختلفة، عندنا نور لفظ مشكل نعم، لو نزلنا كلمة نور على أفراد هذا النور؛ لوجدنا أن هذا النور يختلف بنسب بحسب ما أضيف له، فعندنا نور الشمس، ونور القمر ونور المصباح ونور الشمعة نعم، ونور المؤمن. الجميع اشترك في أيش؟
في كلمة نور، لكن هل يقول قائل: إن نور الشمس مثل نور الشمعة، لا، هذه العبارات تسمى في لغة المناطقة مشككة، لماذا سموها مشككة؟ لأنهم اختلفوا يعني دائرة أو في دائرة الشك: هل هي من قبيل المتواطئ؟ أم من قبيل المشترك اللفظي؟
فما معنى المتواطئ؟ ما اتفق لفظه، ومعناه العام، المتواطئ ما اتفق لفظه ومعناه العام، والمشترك اللفظي: هو ما اتفق لفظه وتباين أو تباين معناه أو اختلف معناه، التباين أفضل من الاختلاف، تباين معناه مثل المشترك اللفظي؛
العين تطلق يعني: كلمة عين لو قلت لكم: عين ماذا يتبادر إلى ذهنك؟ عين الإنسان، والعين الجارية، وأحيانا يطلق على الجاسوس عين.
ولهذا نقول: حضر عين الأمير؛ إذن اللفظ واحد؛ عين ثلاثة حروف نطقها واحد، لكن المعنى هل هو سواء؟ متباين تماما.
مثال آخر: المشتري لما أقول لكم المشتري كلام مجرد ماذا تفهمون؟ يعني الاحتمالات اللي تدور في ذهنه إما أن يكون: الكوكب المسمى بالمشتري أو يكون المبتاع هل بينهما أي توافق علما أنهما اشتركا في لفظ واحد؟ فاتفقا في اللفظ وتباينا في المعنى.(1/557)
لو قلت لكم: " سهيل " ما هي الاحتمالات التي تدور في أذهانكم؟ سهيل بن عمرو اسم رجل، النجم. هل بينهما توافق؟
الجواب: لا، هذا يسمى مشترك لفظي طيب هل لفظ المعية والربوبية والعبودية كلفظ، وكذلك استواء كلفظ، ووجه كلفظ، وعين كلفظ الواردة في القرآن: هذه تسمى مشككة؟
تسمى ألفاظا مشككة؛ لأنها تشمل عدة معاني واحتمالات، لكن هل الاشتراط فيها من قبيل المتواطئ أم من قبيل المشترك اللفظي؟
نعم، أنتم معي وإلا طيب، هل هي من قبيل المشترك اللفظي أو المتواطئ؟ هذه القاعدة لو سلم لها المتكلمون قاطبة، المعطلة قاطبة لما خالفوا أهل السنة، لسلموا من المخالفة، هذه المسألة: هل هي من قبيل المشترك اللفظي أم من قبيل المتواطئ؟
أجيبوا! مشترك،كل هذه الألفاظ أنا ذكرت الاستواء والوجه واليدين، عبد رب، من قبيل المتواطئ بالاتفاق، متواطئ. الجواب صحيح، وهذا هو القول الصحيح: أن الاشتراك فيها من قبيل التواطؤ بمعنى الاتفاق
في اللفظ والمعنى العام، لكنها تختلف في المعنى الخاص بحسب الإضافة، وسياق الكلام؛ فإذا قيل: يد الله خلاص تخصصت بمعنى أبعدت المعنى العالق في الذهن أنه يد المخلوق.
إذا قال الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) .
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.(1/558)
نسب الاستواء لمن؟ لله، خلاص انتهت كل معاني الاستواء الأخرى، وبقي الاستواء الخاص بالله، وإذا قال: { عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ } (1) انتهى معاني الاستواء المنسوبة لله وغير الله، وفهمنا أن الاستواء هنا هو استواء المخلوق، كذلك هنا المعية، وكذلك هنا الربوبية، هي من قبيل المتواطئ المتفق في اللفظ والمعنى العام واضح لكن المتكلمين أو المعطلة على وجه العموم قالوا: لا، الاشتراك هنا من قبيل المشترك اللفظي، اللفظ صحيح واحد، لكن المعنى متباين تماما، وهذا قول باطل منقوض بالشرع والعقل.
وهذا معنى قول المؤلف هنا: ومثل هذه الألفاظ يسميها بعض الناس مشككة، لتشكيك المستمع بها هل هي من قبيل الأسماء المتواطئة؟ وعرفتم ما هو المتواطئ، معروف؟ ولا ما هو معروف؟، طيب أو من قبيل المشتركة في اللفظ المشترك اللفظي فقط، والمحققون يعلمون أنها ليست خارجة عن جنس المتواطئة أي: من قبيل أيش؟ المتواطئ، إذا واضع اللغة إنما وضع اللفظ بإزاء القدر المشترك، يعني الله - عز وجل - لما أنزل علينا هذا القرآن، وأنزله بلغة العرب، وأنزله بهذه الألفاظ، أراد منا فهم المعنى أو أراد منا أن نقرأ هذه الألفاظ ولا نفقه منها أحد؟
أجيبوا، أراد أن نفهم، نتدبر هذا الكلام، ونفهم معناه، طيب كيف سنفهم معناه إلا أن يكون هناك قدر مشترك بين الشيء الذي نفهمه والشيء الذي ذكره، ولهذا ما جاء للعرب بألفاظ جديدة جاء إليهم بلفظ السماء، السماء الموجودة عندهم، الأرض الأرض، الشجر الشجر، البحر البحر، الصلاة عندهم ما هي الدعاء فزاد عليهم .
فكذلك جاء بألفاظ الأسماء والصفات جاء بنفس الألفاظ التي يفهمونها، لما قال لهم { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) خاطبهم بلسانهم، بما يفهمون ويعرفون معنى اليد عنده.
__________
(1) - سورة هود آية : 44.
(2) - سورة ص آية : 75.(1/559)
ولهذا صار عندهم قدر مشترك يفهمون به اللفظ، فلو لم يكن هذا القدر المشترك موجودا لأصبح هذا الكلام الذي أنزل عليهم كلاما أعجميا لا يفقهون منه حرفا واحدا، ولقالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنت تطلب منا مستحيل، تطلب منا أن نهتدي ونسلم بهذا القرآن ونحن لا نفقه منه حرفا واحدا؛ ولهذا من دعي إلى الإسلام ممن كانت لغته غير العربية لا بد أن نترجم له معني الشهادة بلغته؛ لأجل يتشهد أن يقولها، وهو أيش؟ عالم بها، عالم بمعناها، عالم بمقتضاها
يقول: إذ واضع اللغة إنما وضع اللفظ بإزاء القدر المشترك، وإن كانت نوعا مختصا من المتواطئة؛ فلا بأس بتخصيصها بلفظ بمعنى: أن المتواطئ أليس هو فيه معنى عام؟ ما الذي يخصصه؟ اللفظ، السياق إذا نسب العين لله؟ خلاص تحدد معنى العين بمعنى انتقلت من كونها متواطئة إلى كونها خلاص واضحة، بينة، ليست مشككة، مشككة قبل الإرادة، ولهذا الذي يحدد معنى الكلام السياق والإضافة، السياق؛ سياق الكلام وإضافة هذا اللفظ؛ فإذا أضيف اللفظ وجاء في سياق فهم معنى هذا الكلام. نعم.
المعية تضاف إلى كل نوع من أنواع المخلوقات
ومن علم أن المعية تضاف إلى كل نوع من أنواع المخلوقات كإضافة الربوبية مثلا، وأنَّ الاستواء على الشيء ليس إلا للعرش، وأن الله يوصف بالعلو والفوقية الحقيقية، ولا يوصف بالسفول ولا بالتحتية قط، لا حقيقة ولا مجازا: علم أن القرآن على ما هو عليه من غير تحريف.
ــــــــــــ
نعم، ومن علم أن المعية تضاف إلى كل نوع من أنواع المخلوقات تضاف إلى عموم الخلق، وتضاف إلى المؤمنين، وتضاف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأضيفت إلى موسى وهارون كإضافة الربوبية مثلا، وأنَّ . نسبة المعية والربوبية والعبودية فقط للتمثيل ولتقرير المعنى للمسألة الأم التي يناقشها رحمه الله، وهي قضية الأسماء والصفات التي عطلها المعطلة.(1/560)
يقول: وأن الاستواء على الشيء ليس إلا على العرش، هذا الاستواء الموصوف به الله - عز وجل - هل هو عام وإلا خصه بالعرش؟ خصه بالعرش، فعلمنا أن هذا الاستواء خاص، وأنه العلو والارتفاع، نعم، والصعود على هذا العرش، وأن الله يوصف بالعلو والفوقية الحقيقية ولا يوصف بالسفول ولا بالتحتية قط، لا حقيقة ولا مجازا.
يعني: لا ينسب له هذه الصفات بل ينزه عنها سبحانه وتعالى حقيقة ومجازا، علم أن القرآن على ما هو عليه من غير تحريف بمعنى: أن دلالة القرآن على ظاهره من غير أن يتعرض له بتأويل، ولسنا بحاجة إلى هذا التأويل أو هذا التحريف الذي سموه تأويلا. نعم.
من توهم أن كون الله في السماء معناه أن السماء تحيط به وتحويه
فهو كاذب وضال
ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه، فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحدا يفهمه من اللفظ، ولا رأينا أحدا نقله عن أحد، ولو سئل سائر المسلمين هل تفهمون من قول الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إن الله في السماء أن السماء تحويه؟ لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا.
ــــــــــــ
نعم، ثم قال: ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه، فهو كاذب يعني: إن توهم إنسان أن قول الله - عز وجل - { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (1) أن المفهوم من هذا اللفظ أن السماء محيطة بالله - عز وجل - فيقول الشيخ: فهذا كذب، ولا يمكن لمسلم أن يتوهم هذا الوهم الفاسد، إن نقله عن غيره بمعنى إن قال: قاله فلان أو قاله الإمام الفلاني أو قاله آحاد الناس قاله فلان أنا والله فهمت أن هذا النص يدل على أن السماء تحيط به .، ولا يمكن أن يفهم إنسان من هذا النص أن السماء تحيط به.
__________
(1) - سورة الملك آية : 16.(1/561)
وضال إن اعتقده في ربه، إن اعتقد هو أن السماء تحيط بالله عز وجل؛ فهذا أيضا ضلال؛ لأن هذا يتنافى مع علو الله - عز وجل - على خلقه.
سيأتي يمثل المؤلف كيف يمكن للمسلم أن يعتقد هذا الاعتقاد؟ وهو يعتقد أن السماوات والأرض بجوف الكرسي الذي هو تحت العرش، ونسبته إلى العرش كحلقة ملقاة، كيف يعتقد أن الله - عز وجل - في السماء؟ بمعنى: أن السماء تحيط به، هذا لا يمكن أن يقوله عاقل.
يقول: وما سمعنا أحدا يفهمه من اللفظ، يقول: ما سمعنا أحدا فهم من هذا اللفظ أن السماء تحيط بالله - عز وجل - ولا رأينا أحدا نقله عن أحد، هذه كتب الناس وهذا كلامهم، ولو سئل سائر المسلمين: هل تفهمون من قول الله تعالى ورسوله: إن الله في السماء أن السماء تحويه، لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله أن يخطر ببالنا.
بل الظاهر من هذا اللفظ ومقتضى هذا اللفظ، والذي فهمه صاحب العقل السليم، صاحب الفهم السليم الذي لم يتلوث بالشبه، فهم أن الله في السماء، أن الله بأيش؟ على السماء أو في العلو، ولعلنا نقف على هذا، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على محمد.
من التكلف أن نجعل ظاهر اللفظ شيئا محالا لا يفهمه الناس منه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد، عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن والاه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:(1/562)
وإذا كان الأمر هكذا، فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئا محالا لا يفهمه الناس منه، ثم يريد أن يتأوله بل عند المسلمين أن الله في السماء وهو على العرش واحد إذْ السماء إنما يراد به العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وسع السماوات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقا يحصره ويحويه؟
وقد قال سبحانه: { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } (1) وقال تعالى { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } (2) بمعنى على ونحو ذلك، وهو كلام عربي حقيقة لا مجازا، وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني الحروف، وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة.
ــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
يقول المؤلف رحمه الله: وإذا كان الأمر هكذا بمعنى أن قول الله - عز وجل - { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (3) أن هذا اللفظ لا يدل ظاهره على أن الله تحويه السماء أو تحيط به السماء، يقول: فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئا محالا لا يفهمه الناس منه. بمعنى: من التكلف أن نجعل ظاهر قول الله - عز وجل - { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (4) نعم، أن ظاهر هذا اللفظ يدل على ماذا؟ على أن السماء محيطة بالله - عز وجل - .
__________
(1) - سورة طه آية : 71.
(2) - سورة آل عمران آية : 137.
(3) - سورة الملك آية : 16.
(4) - سورة الملك آية : 16.(1/563)
يقول: هذا فيه تكلف، لأن هذا شيء يستحيل، يستحيل أن تحيط السماء به سبحانه، وسيبين وجه استحالة ذلك أن السماء والأرض أصلا في جوف الكرسي، ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة، والله - عز وجل - أعظم من العرش، فكيف يكون هناك شيء يحيط بالله عز وجل؟!!
هذا لا يمكن أن يتوهمه مسلم، شيء محال لا يفهمه الناس منه ثم يريد أن يتأوله. نعم، يجعل هذا المعنى الباطل هو ظاهر النص، يجعل المعنى الباطل هو ظاهر النص ثم يقول: إذن لا بد لهذا النص من تأويل، وسيأتينا الكلام إن شاء الله في قضية: هل ظاهر النص مراد؟ أو ليس بمراد؟
الشاهد هنا: أنه يستحيل أن يكون هذا المعنى الباطل هو ظاهر النص لأجل أن يقول: ما دام إن هذا هو ظاهر النص نعم، وهو معنى باطل إذن هذا الظاهر يحتاج إلى تأويل، إلى أن نصرفه إلى معنى آخر، فيقال لهم: من قال لك: إن هذا هو ظاهر النص بل عند المسلمين أن الله في السماء وهو على العرش واحد.
يعني المسلمون إذا سمعوا قول الله - عز وجل - { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } (1) { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (2) فالمعنى عندهم واحد بمعنى: أنه على السماء، على العرش فالعرش أرفع وأعلى المخلوقات، والله فوق العرش إذ السماء إنما يراد به العلو وهذا قلنا لكم في اللغة العربية سائغ أن السماء تطلق ويراد بها العلو، فالمعنى أن الله في العلو لا في السفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وسع السماوات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة.
__________
(1) - سورة الملك آية : 16.
(2) - سورة الأعراف آية : 54.(1/564)
وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته بمعنى: لا تناسب أصلا بين العرش وبين عظمة الله - عز وجل - ومع ذلك فالعرش أعظم من الكرسي، والسماوات والأرض في جوف الكرسي، فكيف يتوهم متوهم أن السماء تحيط بالله عز وجل؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
يقول: وقد قال سبحانه: { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } (1) هذا دليل على أن "في" تأتي في اللغة العربية بمعنى "على" وقال: { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } (2) بمعنى "على" ونحو ذلك، وهو كلام عربي حقيقة لا مجازا بمعنى أن ظاهر النص وحقيقة النص يدل على أن الله على السماء وليس داخل السماء، وليس في هذا مجاز، وليس في هذا تأويل.
واضح. وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني الحروف، وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة؛ كما قلنا بالأمس: إن مثل هذه الألفاظ هي من باب المتواطئ لا من باب المشترك اللفظي. نعم.
أمثلة لبيان أن ظاهر بعض النصوص لا يدل إلا على الحق ولا يحتاج إلى تأويل
وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبل وجهه، فلا يبصق قِبل وجهه الحديث حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قبل وجه المصلي؛ بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه. وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل بذلك ولله المثل الأعلى.
__________
(1) - سورة طه آية : 71.
(2) - سورة آل عمران آية : 137.(1/565)
ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مَخْلِيًّا به، فقال له أبو رزين العُقَيْليْ: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - سأنبئك مثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخليا به، وهو آية من آيات الله، فالله أكبر أو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال: إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر شبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي، فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه؛ كما يرى الشمس والقمر، ولا منافاة أصلا.
ــــــــــــ
نعم، ثم مثل أيضا النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثال آخر ليبين أن ظاهر بعض النصوص لا يدل إلا على الحق، لا يدل على المعنى الباطل الذي توهمه هؤلاء وبنوا على ذلك أنه يلزم أن يؤول هذا الظاهر فيقول: كذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قِبل وجهه، فلا يبصق قِبل وجهه الحديث في الصحيحين ، يقول: الحديث حق على ظاهره.
الحديث هذا حق على ظاهره؛ وظاهره لا يدل إلا على الحق لكن لا يتوهم إنسان أن ظاهر هذا الحديث أن الله موجود بذاته أمامه في الحائط الذي يصلي فيه ليس هذا هو ظاهر النص، ثم قال: نعم، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قبل وجه المصلي؛ بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات مثل بمثال ليقرب المعنى إلى الأذهان فيما يتعلق بخلق من المخلوقات.(1/566)
والمسألة الأصل متعلقة بالخالق ولا مقاربة بين الخالق والمخلوق، لكن يقول: إذا جاز هذا في حق المخلوق مع المخلوق فمن باب أولى الخالق مع المخلوق، يقول: هذه الشمس وهذا القمر وهذه السماء يمكن الإنسان أن يناجي الشمس أو يناجي القمر أو يناجي السماء. نعم، والسماء قبل وجهه، والشمس قبل وجهه، والقمر قبل وجهه، ومع ذلك أين ذات الشمس؟ وذات السماء؟ وذات. ؟ فوق.
يقول: بل هذا الوصف ليثبت المخلوقات، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء ويناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضا قبل وجهه. يقول: وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل بذلك، ولله المثل الأعلى، ولكن المقصود بالتمثيل: بيان جواز هذا وإمكانه لا تشبيه الخالق بالمخلوق.
النبي - صلى الله عليه وسلم - . أن يضرب مثالا ليقرب هذه الحقيقة إلى الأذهان، وليس مقصوده نعم تشبيه الخالق بالمخلوق، فيقول في حديث أبي رزين: ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به بمعنى خاليا به ليس هناك ازدحام، ليس هناك غيب، ليس هناك مضايقة، فقال له أبو رزين العقيلي، كيف يا رسول الله، وهو واحد ونحن جميع؟
جميع أهل الجنة سيرون الله - عز وجل - وهو واحد وهؤلاء كثر، كيف يمكن هذا؟ فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقرب هذا بهذا المثال؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - سأنبئك مثل ذلك في آلاء الله - أي في خلق الله - هذا القمر كلكم يراه مخليا به، وهو آية من آيات الله، فالله أكبر .
القمر أليس الناس الآن على وجه الأرض، بلايين الناس يرونه وكل يراه خاليا به؟ وإلا لا، والله أعلم والله سبحانه وتعالى أجل وأعظم. الحديث جاء بمعناه عند أبي داود وابن ماجة والإمام أحمد والحاكم وصححه وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .(1/567)
وقال: إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر وهذا متفق عليه مثل رؤية الناس أو رؤية المؤمنين لله - عز وجل - في الجنة كرؤية الناس الآن للشمس والقمر بوضوحها وبيانها وعدم ازدحام الناس، وعدم لحاق الضرر بأحد عند رؤيته سبحانه وتعالى.
يقول المؤلف: فشبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئي مشابها للمرئي، النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه رؤيتنا لله يوم القيامة كرؤيتنا الآن لأيش؟ للقمر لكنه لم يشبه الله سبحانه وتعالى بالقمر، هو شبه الرؤيا بالرؤيا، وليس في هذا تشبيه كما يدعي المعطلة.
يقول: فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه كما يرى الشمس والقمر ولا منافاة أصلا، لا منافاة بين نصوص العلو ونصوص المعية، وهذه النصوص التي فيها أن الله قبل وجه المصلي. نعم.
مذهب السلف في الصفات
إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد
ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله يكون إقراره بالكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد.
واعلم أن من المتأخرين من يقول: مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا لفظ مجمل فإن قوله ظاهرها غير مراد، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين؛ مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلي، أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، وأن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا، ونحو ذلك، فلا شك أن هذا غير مراد.
ــــــــــــ
نعم، يقول: من كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله يكون إقراره بالكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد بمعنى: إثبات دلالة الكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد في نفسه وأظهر وأبين لرسوخه ومعرفته بدلالة الكتاب والسنة.(1/568)
ثم انتقل للكلام على هذه المسألة المتعلقة بما تقدم فقال: واعلم أن من المتأخرين أي: من أهل الكلام من يقول: مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به، إقرار ماذا؟ نصوص الصفات، نصوص الصفات، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا لفظ مجمل، لفظ الظاهر من الألفاظ المجملة؛ ولهذا إذا قال قائل: هل ظاهر النص مراد أو غير مراد؟ فلا بد من التفصيل، ولا بد من الاستفسار بمراده بهذا الظاهر، وبالتفصيل يزول الإشكال ويزول الإجمال.
أولا: ما المقصود بظاهر النص؟ ظاهر النص هو مدلول النص المفهوم بمقتضاه الخطاب العربي، ظاهر النص هو مفهوم النص أو مدلول النص المفهوم بمقتضى الخطاب العربي فقول الله - عز وجل - { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } (1) ما ظاهر هذا النص؟ هه وجوب الحج، الحج الذي هو قصد مكة.
هذا ظاهر النص، هل هو مراد ولّا غير مراد هذا المعنى؟ مراد مباشرة.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } (2) ظاهر النص: وجوب الصيام الذي هو الإمساك، هذا هو مدلول النص المفهوم بمقتضى اللسان العربي.
__________
(1) - سورة آل عمران آية : 97.
(2) - سورة البقرة آية : 183.(1/569)
{ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (1) ظاهر النص واضح بيع وربا، هذا حلال وهذا حرام؛ طيب قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (2) وقوله سبحانه: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (3) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ينزل ربنا نعم، وقوله سبحانه: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (4) إلى آخر نصوص الصفات، ما ظاهر هذا النص؟ مدلوله؟ دلالة هذا النص المفهوم بأيش بمقتضى اللغة العربية؟ هل هذا الظاهر، هذا المفهوم مراد ولا غير مراد؟
يعني الله - عز وجل - لما جاءنا بهذا النص، هل أراد منا أن نفهم ظاهر هذا النص على ما هو عليه أو أراد معنى آخر؟ واضح الإشكال ولا ما واضح.
يقول الشيخ: واعلم أن من المتأخرين من يقول: مذهب السلف إقرارها، إقرار هذه النصوص، يقول: أنا أقر وأعترف وأثبت هذا النص، يقول: مذهب السلف أنهم يقرون بهذه النصوص، نصوص أيش؟ الصفات على ما جاءت كما جاءت، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد.
هل هذا الكلام سليم؟ طيب يقول: وهذا لفظ مجمل فإن قوله: ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين يعني: ربما هذا الشخص الذي نسب للسلف أنهم قالوا: إن ظاهر النصوص غير مراد أنه أراد بالظاهر، أيش؟
__________
(1) - سورة البقرة آية : 275.
(2) - سورة الأعراف آية : 54.
(3) - سورة ص آية : 75.
(4) - سورة المبينة آية : 8.(1/570)
المفهوم مما يفهمه من صفات المخلوق بمعنى: إذا سمع قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) فهم من هذا النص أو قال: إن ظاهر هذا النص يدل على أن هذا الاستواء كاستواء المخلوق على المخلوق؛ كاستوائي الآن على الكرسي بمعنى: لو سقط الكرسي لسقطت من فوقه، قال: هذا ظاهر النص؛ ولهذا السلف قالوا: ظاهر النص غير مراد.
يقول: إن كان يقصد هذا الأمر يقصد أن ظاهر النص هو التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم، إن كان قصد بالظاهر هذا المعنى فكلامه صحيح، ولا ما هو صحيح، أن ظاهر النص غير مراد.
لا شك أن ظاهر النص ليس معناه - أو قبل أن نقول هذا الكلام- إذا كان ظاهر النص هو إثبات هذه الصفة؛ كما هي الحال بالنسبة للمخلوق فظاهر النص غير مراد، لكن هل هذا هو فعلا ظاهر النص أو ليس بظاهر؟
يأتي الكلام، لا نريد أن.. هو الصحيح أن ليس هذا بظاهر النص، ويستحيل أن يكون ظاهر النص، ظاهر نصوص الكتاب والسنة لا يدل إلا على الكفر والإلحاد؛ لأن إذا كان { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (2) أن هذا الاستواء يعني ظاهر النص دلالة النص، هذا يدل على استواء كاستواء المخلوق، هذا إلحاد.
إننا لا نثبت لله - عز وجل - استواء كاستواء المخلوق ويستحيل أن يكون ظاهر كلام الله لا يدل إلا على الكفر والإلحاد بل الله أعلم وأحكم أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال، وهذا افتراء على السلف، وكذب على السلف أنهم قالوا: إن ظاهر النص يدل على أيش، التشبيه!!
ولهذا ظاهر النص غير مراد؛ فالقول الصحيح أن ظاهر النص لا يدل إلا على المعنى اللائق بالله عز وجل؛ إذن فظاهر النص مراد. واضح ولا ما هو واضح؟
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.
(2) - سورة الأعراف آية : 54.(1/571)
هذه المسألة هل ظاهر النص مراد أو ليس بمراد عقد لها شيخ الإسلام رحمه الله قاعدة مستقلة في التدمرية وتكلم عليها يقول: قوله ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين يعني: أراد بظاهر هذا النص الصفات المنسوبة للبشر؛ استواء المخلوق، يد المخلوق، وجه المخلوق، كل هذا ظاهر النص لا يدل على إلا على أيش؟!
استواء كاستواء المخلوق أو يدين كيدي المخلوق، مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلي، أنه مستقر في الحائط، يكون ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله قبل وجهه ظاهر هذا النص ما هو أن الله بذاته أمامه في الحائط يقول: هذا هو ظاهر النص أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، وأن الله معنا ظاهره وأنه إلى جانبنا أنه بذاته مخالط مماس لا، لا يكون هذا هو ظاهر قوله سبحانه: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } (1) ونحو ذلك، فلا شك أن هذا الإشارة إلى أيش؟ هه؟ نعم؟ أن هذا الإشارة إلى أيش؟
وقلت لكم في القسم الأول: شيخ الإسلام، إذا فهمت الضمائر والإشارات التي يطلقها فهمت نصف الكلام غالبا يعتمد على الضمائر والإشارات لقوة حافظته - رحمه الله - أحيانا يترك المسألة بعد عشر صفحات ثم يحيل إليها بضمير فقوله: فلا شك أن هذا أي: هذا المعنى الباطل، هذا المعنى الباطل غير مراد، ليس ظاهر النص غير مراد الشيخ دقيق في عباراته يقول فلا شك أن هذا المعنى الباطل، ما هو المعنى الباطل؟ أن الله أمام المصلي بذاته في الحائط، أن الله بجانب الإنسان مماس له، أن هذا الاستواء كاستواء المخلوق على المخلوق. واضح؟ فهذا المعنى مراد ولا غير مراد؟ لا شك أنه غير مراد. نعم.
من قال إن مذهب السلف أن ظاهر النصوص غير مراد أصاب في المعنى لكن أخطأ في إطلاق القول
__________
(1) - سورة الحديد آية : 4.(1/572)
ومن قال: إن مذهب السلف إن هذا غير مراد، فقد أصاب في المعنى لكن أخطأ في إطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث، فإن هذا هو المحال ليس هو الأظهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس؛ فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار، معذورا في هذا الإطلاق.
فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية، وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا ليس هو الظاهر، حتى يكون أعطى كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - حقه لفظا ومعنى.
ــــــــــــ
نعم، ومن قال: إن مذهب السلف أن هذا غير مراد فقد أصاب، أن هذا أي: هذا المعنى الباطل الذي زعم أيش؟ أنه ظاهر النص أن هذا غير مراد أي: هذا المعنى الباطل؛ التشبيه. واضح ولا ما هو واضح؟
طيب، فقد أصاب في المعنى، أصاب في المعنى ليش؟، أصاب أن الله - عز وجل - منزه عن التشبيه، أن الله منزه عن التشبيه، يعني لا يثبت له استواء كاستواء المخلوق، ولا يثبت لله وجه كوجه المخلوق، ولا يثبت لله نزول كنزول المخلوق، لكن أخطأ في إطلاق القول بأن هذا هو ظاهر الآيات والأحاديث، خطأ هذا الرجل في كونه جعل ظاهر نصوص الكتاب والسنة يدل على أيش؟ يدل على التشبيه، وقلنا: هذا يستحيل أن يكون ظاهر كلام الله يدل على الإلحاد والكفر.
يدل على التشبيه. واضح؟ فإن هذا هو المحال، ليس هو الأظهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع بمعنى أن نصوص الكتاب والسنة ظاهرها لا يدل على التشبيه، الذي تبادر إلى ذهن هذا المتكلم، اللهم -استثنى الشيخ- قال: اللهم إما أن يكون هذا المعنى الممتنع، ما هو المعنى الممتنع؟ التشبيه، المعنى الممتنع التشبيه الذي ظهر أو زعم(1/573)
هذا الشخص أنه ظهر من هذا اللفظ أو هو ظاهر هذا اللفظ، صار يظهر ببعض الناس يعني: الناس ليسوا على درجة واحدة من الفهم والعلم ولهذا الشيخ قال: مسألة الظهور والبطون أمر نسبي وليس مضطردا بين الناس، فقد يظهر لبعض الناس بسبب قلة العلم، بسبب الشبه التي علقت ذهنه.
نعم، قد يظهرله أن ظاهر هذا النص هو أيش؟ هو التشبيه!! يعني: يفهم من قوله سبحانه: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) أن هذا الاستواء كاستواء المخلوق على المخلوق، فلا شك يقال لهذا: ظاهر النص أيش؟ غير مراد، ظاهر النص بهذا المعنى الذي ظهر لك غير مراد، لكن أفضل من هذا الشيخ يقول: أفضل من أن نقول له ظاهر النص غير مراد أن نقول له: هه، إن ظاهر النص لا يدل على هذا المعنى الذي تبادر إلى ذهنك، أنت فهمت النص بمعنى باطل، فهمت النص بمعنى لا يريده الله ولا يريده الرسول، هذا التشبيه الذي تبادر إلى ذهنك ليس هو ظاهر النص؛ بل ظاهر النص إثبات هذا الاستواء اللائق بالله عز وجل؛ لأن الاستواء هنا هل ذكر مطلقا أو منسوبا؟ مضافا إلى الله - عز وجل - منسوبا إلى الله - عز وجل - إذن خلاص انتهى استواء المخلوق.
لو ذكر الاستواء مطلقا، لقلنا: نعم؛ ربما يتبادر إلى الذهن هذا الأمر؛ لأن الاستواء المطلق، نعم قد يتبادر ذهن الإنسان أنه استواء كاستواء المخلوق على الكرسي؛ كاستواء المخلوق على ظهر الدابة لكن لما ذكر الله هذا الاستواء مضافا إليه سبحانه وتعالى علمنا أن هذا الاستواء يختلف عن استواء المخلوق؛ لأن الله ليس كمثله كل شيء؛ لأن الله { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } (2) واضح.
يقول: فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار. مصيبا؛ لأن ظاهر هذا النص إذا فهمه هذا الشخص على المعنى الثابت للمخلوق فهو مصيب أن هذا ليس مرادا، معذورا في هذا الإطلاق في أي إطلاق؟
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.
(2) - سورة الإخلاص آية : 4.(1/574)
أن ظاهر النص ليس بمراد فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أقوال الناس وهو من الأمور النسبية، وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر ما هو الإضافة إلى الضمير هنا يعود على أيش؟ أن هذا هو التشبيه، أن هذا هو التشبيه يعني: المعنى الدال على التشبيه أن هذا ليس هو الظاهر؛ حتى يكون أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظا ومعنى.
سابقا أعطى كلام الله حقه بأيش؟ هذا الشخص الذي فهم من هذا النص أن ظاهره التشبيه؛ فقال ظاهر النص غير مراد، هذا أعطى كلام الله حقه بأيش؟ بالمعنى، لأن اللفظ، ظاهر النص غير مراد.
الصحيح أن ظاهر النص مراد، ظاهر النص لا يدل على التشبيه لكن المعنى الباطن الذي تبادر إلى فهم هذا الشخص هو الذي الآن ننفيه فنقول: فعلا ظاهر النص ليس مرادا بهذا المعنى الذي فهمته أنت ولهذا أنت أعطيت كلام الله حقه في المعنى دون اللفظ، لكن إذا قلنا لك: إن ظاهر نصوص الصفات لا يدل على التشبيه؛ وبناء على ذلك فظاهر النص مراد، مراد ولا غير مراد؟ مراد، أعطينا كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - حقه لفظا ومعنى. نعم.
كذب من ينسب إلى السلف التفويض الباطل
وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله: الظاهر غير مراد عندهم أن المعاني التي ظهرت من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته لا يختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازا ذهنيا، أو جوازا خارجيا غير مراد، فقد أخطأ فيما نقله عن السلف، أو تعمد الكذب، فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل لا نصا ولا ظاهرا أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع وبصر ويد حقيقة.
ــــــــــــ(1/575)
نعم، الاحتمال الأول أجاب عليه الشيخ. هذا القائل أن مذهب السلف أنهم كانوا يقولون: ظاهر النص غير مراد، ويقصدون أن ظاهر النص هو التشبيه. واضح؟
فيقول: هذا صحيح في المعنى لكن أخطأ في اللفظ، لكن إذا كان الناقل عن السلف هذا الذي يزعم أن السلف يقولون: ظاهر النص غير مراد، ويقصد بظاهر النص المعنى اللائق بالله سبحانه وتعالى؛ الاستواء اللائق بالله، الوجه اللائق بالله، اليدان اللائقتان بالله - عز وجل - المجيء اللائق بالله، النزول اللائق به. نعم. قال: هذا هو ظاهر النص، ماشي والسلف يقولون: ظاهر النص غير مراد وينسب إلى السلف في ذلك التفويض الباطل وهذا هو مقصوده، هذا الذي ينسب هذا القول للسلف، نعم يقصد أن السلف كانوا مفوضة، ولهذا يقولون: ظاهر هذه النصوص غير مراد.
يقول الشيخ ردا عليه: فهذا كاذب، قد نعود لتحليل كلام الشيخ. يقول: وإن كان الناقل عن السلف، الناقل عنهم أنهم كانوا يقولون: هه، ماشي خليكوا معي، الظاهر غير مراد، ظاهر النص غير مراد، يقول مذهب السلف أنهم يرون أن ظاهر نصوص الصفات غير مراد. طيب يقول: إن أراد إن كان الناقل عن السلف أراد بقوله: الظاهر غير مراد عندهم وأن..
المعاني التي ظهرت من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته، يعني الذي يظهر من نصوص الصفات هو على ما يليق به -سبحانه- الاستواء اللائق به الوجه اللائق به، لا يختص بصفة المخلوقين بمعنى لا تماثل صفة المخلوقين.
هذا الاستواء خاص بالله - عز وجل - لائق به سبحانه وتعالى.
يقول: هذا هو ظاهر النص، وكانوا يقولون: إن هذا الظاهر أيش؟
غير مراد فيقول: هو كاذب أو جاهل؛ لأنه لم ينقل عن أحد من السلف أنه قال: ظاهر النصوص لهذا المعنى أنه غير مراد، ك(7) إن نقله عن غيره وهذا كلامهم مكذوب.(1/576)
أعطونا نقلا واحدا عن أحد السلف، عن أحد الصحابة، عن أحد التابعين عن أحد الأئمة أنه قال: ظاهر قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) أنه غير مراد فهو إما كاذب أو جاهل، لكنهم أرادوا أن ينسبوا السلف للجهل فقالوا مذهبهم التفويض أنهم يقولون: ظاهر النص هذا غير مراد والله أعلم بما أراد لهذا النص.
يقول: بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازا ذهنيا، أو جوازا خارجيا. هذه الصفات اللائقة به -سبحانه وتعالى- غير مراد يعني ظاهر هذه النصوص، وهذا المعنى هذا المعنى اللائق بالله -سبحانه وتعالى- يقول غير مراد، يقول: فقد أخطأ فيما نقله عن السلف، أو تعمد الكذب يعني لا تخلو حاله عن أحد أمرين: إما أن يكون أخطأ يعني فهم من قول مثلا الإمام أحمد أمروها كما جاءت بلا كيف، فهم من هذا النص أنه يقول: إن ظاهر النصوص غير مراد، فيقال له ماذا يقال له؟
أخطأت . ليس هذا هو مراد الإمام أحمد، ولا مراد الإمام مالك لما قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة أنه أراد أن ظاهر نص الاستواء غير مراد، وأن معناه لا يعلمه إلا الله.
نقول: أخطأت في فهم هذا النص وإن أو تعمد الكذب أو قول السلف ما لم يقوله، يقول والله السلف يقولون بالتفويض يقولون: إن ظاهر أن الله - عز وجل - { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) } (2) ظاهر هذا النص على المعنى اللائق بالله - عز وجل - غير مراد والله أعلم بما أراد بهذا النص، يقال له: أنت كاذب . يعني واحد منهم أنه قال هذا لهذا المفهوم الباطل الذي تزعمون.
يقول: فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل لا نصا ولا ظاهرا، وعرفنا دلالة النص، ودلالة الظاهر بالقسم الأول.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.
(2) - سورة الفجر آية : 22.(1/577)
فدلالة النص ما كانت دلالته قطعية لا تحتمل النقيض ولا تحتمل التأويل كقوله سبحانه: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } (1) هل يتبادر إلى الذهن معنى آخر؟ ها من هذا النص، هل يتبادر إلى الذهن { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } (2) هل يتبادر إلى الذهن معنى آخر بخلاف دلالة النص، دلالة النص ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر يعني يكون النص يدل على معنيين لكن في أحدهما أظهر، مثل القرء يدل على الطهر، ويدل على الحيض مثل -أيضا- قول الله - عز وجل - { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } (3) يحتمل أن يكون المراد الملامسة مجرد الملامسة، ويحتمل أن يكون الجماع، فهذا تسمى دلالة هذا النص بالظاهر والأول من نص الشيخ يقول: لا يمكن لأحد أن ينقل عن أحد من السلف لا نصا كلام قطعي ولا حتى ظاهر أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق السماوات فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع وبصر ويد حقيقي نعم.
القول بأن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف
وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف، بمعنى أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله -سبحانه- لكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة تأويلها، لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقول: الفرق أن هؤلاء يعينون المراد بالتأويل، وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره.
ــــــــــــ
نعم. يقول: ورأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف . بعض الأشاعرة يزعم أن السلف والمؤولة كلهم متفقون، متفقون على ماذا؟
يقول: هؤلاء نحن الذين أولنا نصوص الصفات والسلف المتقدمون نحن جميعا متفقون، متفقون على ماذا؟
__________
(1) - سورة البقرة آية : 196.
(2) - سورة البقرة آية : 275.
(3) - سورة النساء آية : 43.(1/578)
متفقون على أن ظاهر هذه النصوص لا تدل على هذه الصفات، ظاهر قول الله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) لا يدل على الاستواء نحن والسلف جميعا متفقون على ذلك { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } (2) نحن والسلف اتفقنا على أن هذه الآية لا تدل على إثبات صفة الوجه { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (3) اتفقنا نحن والسلف على أن هذه الآية لا تدل على إثبات صفة الرحمة. نعم. إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله نحن والسلف متفقون على أن هذا النص لا يدل على إثبات صفة الغضب إذن ما الفرق بينكم وبين السلف معاشر المؤولة؟
قالوا: الفرق فقط أن السلف فوضوا معاني هذه النصوص كانوا يقرءونها مثل ما نحو نتهجى كلام الأعجمي لا يفقهون من حرف. واضح؟
أما نحن الذين أولنا النصوص فنحن بحثنا المعنى، بحثنا في معاني هذه النصوص وأولناها، السلف رأوا المصلحة الإضراب عن البحث في هذه النصوص واستخراج معانيها المعاني الصحيحة.
أما الخلف فلا أجهدوا عقولهم أجهدوا أنفسهم حتى استخرجوا هذه المعاني، استخرجوا أن معنى استوى أيش؟ استولى، وغضب أراد العقاب، والوجه الذات أو الرضا؛ ولهذا قالوا مقولتهم الكاذبة الخاطئة: طريق السلف أسلم وطريقة الخلف أو وطريقتنا أعلم وأحكم.
طريقة السلف أسلم . النص وتترك هذا النص ولا تتعب . لا تتعب نفسك في البحث عن معاني هذه أسلم، لكن طريقة الخلف الذين بحثوا في هذه النصوص وبينوا المراد منها وبينوا المعاني منها هذه أعلم وأحكم، وقد رد عليها الشيخ ردا وافيا في القسم الأول، وبين أن طريقة السلف هي الأسلم والأعلم والأحكم، وأن هذا افتراء منهم على السلف.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.
(2) - سورة الرحمن آية : 27.
(3) - سورة الأعراف آية : 156.(1/579)
أن مذهبهم هو التفويض وأنهم كانوا يقرءون هذه النصوص ولا يفقهون منها حرفا حتى اختلفوا فيما بينهم هل النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا يعلم معناها أو لا يعلم معناها؟
فجمهورهم قالوا: النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم معناها، ومنهم من قال: لا النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم معناها، لكنه أمسك عن بيان ذلك.
سبحان الله!
النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسك عن بيان ذلك، والسلف يعرضون عن ذلك، وأنتم تسبقونهم فتحددون المعنى وتبينونه للناس!
هذا غاية الفساد وغاية الضلال، وغاية الانحراف؛ ولهذا قال: وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف ويقول: إن طريقة أهل التأويل أي الذين يصرفون هذه النصوص عن ظاهرها إلى معنى آخر هي في الحقيقة طريقة السلف بمعنى أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تَدُل على صفات الله -سبحانه- ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة تأويلها؛ لمسيس الحاجة إلى ذلك.
عجيب!
السلف تركوا ذلك لعدم الحاجة، يعني بينوا لنا آداب قضاء الحاجة وبينوا لنا آداب النوم، وبينوا لنا آداب الأكل، وآداب الخروج، نعم، وآداب الركوب، وتركوا هذه مسيس الحاجة إليها وتركوا أعظم ما حصلته القلوب والنفوس، تركوا الأمور المتعلقة بماذا؟
بالإيمان بالله المتعلقة بعقيدة الإنسان المتعلقة بأصول الإيمان تركوا ذلك لعدم مسيس الحاجة إذا كان المسجد ما هو محتاج لهذا بأي شيء يحتاج؟
يحتاج لأداء قضاء الحاجة؟
أي تناقض هذا ثم أنتم علمتم أن الناس محتاجون لذلك فأولتم والسلف لم يعلموا أن الناس محتاجون لهذا فأضربوا عن ذلك.
ويقول: الفرق أن هؤلاء يعينون المراد بالتأويل وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيرهم.(1/580)
كل هذا -أيضا- تجهيل للسلف، على حد قول هؤلاء، يعني يقول الفرق فقط بين طريق السلف وطريقة الخلف أن الخلف جزموا أن معنى هذه الصفة هذا المعنى أن { اسْتَوَى } (1) استولى ماشي؟ { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) بقدرتي أن السلف ما تركوا ذلك ليش؟
لأن كان عندهم عدة احتمالات ربما يكون المعنى هذا، ربما يكون المعنى هذا، يعني السلف جهلوا أيش؟
المعنى الحقيقي، والخلف عرفوا المعنى الحقيقي، فكأن الخلف أدركوا ما لم يدركه السلف! نعم.
القول بأن طريقة أهل التأويل هي طريقة السلف كذب صريح على السلف
وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف: أما في كثير من الصفات فقطعا، مثل أن الله فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم الذي لم يحك هنا عشره علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك.
ــــــــــــ
نعم. وهذا بيان لما تقدم أن هذا كذب وافتراء على السلف، وذكر أن كلام السلف في كثير من الصفات يناقض هذه الدعوى التي ادعوها.
يقول: أما في كثير الصفات فقطعا مثل أن الله فوق العرش.
فمن تأمل كلام السلف المنقول عنهم الذي لم يحُكَ هنا عُشره، يعني ولا شيء يسير الذي ذكرته لكم، هذه النقول الكثيرة التي أوردتها في هذا الجواب، هذا لا يمثل شيئا في جانب ما نقل عنهم.
علم بالاضطرار، العلم الضروري.
وقلنا: إن العلم الضروري هو الذي لا يمكن دفعه.
أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم قد صرح بكثير من الصفات بمثل ذلك. نعم.
السلف لا ينفون الصفات الخبرية
__________
(1) - سورة البقرة آية : 29.
(2) - سورة ص آية : 75.(1/581)
والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف، ما رأيت كلام أحد منهم يدل لا نصا ولا ظاهرا ولا بالقرائن على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر، بل الذي رأيته أن كثيرا من كلامهم يدل إما نصا وإما ظاهرا على تقرير جنس هذه الصفات، ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة، بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة، وما رأيت أحدا منهم نفاها، وإنما ينفون التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، مع إنكارهم على من نفى الصفات كقول نعيم بن حمّاد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - تشبيها.
ــــــــــــ
نعم. يقول: والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف، ما رأيت كلام أحد منهم يدل لا نصا ولا ظاهرا ولا حتى بالقرائن على نفي الصفات الخبرية، بمعنى أعطونا نصا واحدا عن أحد من السلف أنه نفى صفة لله - عز وجل - من الصفات الخبرية التي هي مدار الخلاف بين أهل السنة وبين من؟ بين من؟
المعتزلة والجهمية ينفون جميع الصفات الذاتية والخبرية، لكن الأشاعرة جمهورهم أثبتوا هذه السبع صفات لكن أكثرهم نفى الصفات الخبرية.
وقلنا: الصفات الخبرية متوقفة على ورود الخبر كصفة الوجه الاستواء النزول، نعم؟
المجيء الغضب الرحمة فيقول الشيخ: إنني ما وجدت عن أحد من السلف أنه نفى هذه الصفات، بل الذي رأيته أن كثيرا من كلامهم يدل إما نصا وإما ظاهرا على تقرير جنس هذه الصفات، يعني على إثبات جنس هذه الصفات. نعم. يعني لا يمكن مثلا نأتي وننقل عن ابن المبارك أنه أثبت كل الصفات بعينها الصفات الخبرية أثبت النزول والمجيء والغضب والرحمة إلى آخره، لأ، لكنه يثبت جنس نوعي.(1/582)
مثلا يثبت النزول فإذا أثبت النزول عرفنا أنه يثبت المجيء واضح؟
لكن النافي عليه الدليل، من قال: إنهم ينفون الصفات الخبرية، نقول: ما دليلك؟
فهذه النقول عنهم جميعا يثبتون جنس هذه الصفات ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة، بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة، وما رأيت أحدا منهم نفاها، وإنما ينفون من الذي ما الشيء الذي ينفونه دائما؟
التشبيه، يثبتون الصفة، لكن ينفون أن تكون هذه الصفة كصفة المخلوق أو مماثلة أو مشابهة لصفة المخلوق، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، مع إنكارهم على من نفى الصفات كقول نعيم بن حمّاد الخزاعي شيخ البخاري -رحمه الله- من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها.
هذه قاعدة مع كل السلف، هذا مذهبهم بين التشبيه وبين التعطيل يثبتون لكن يصرحون أن هذا الإثبات لا يلزم عليه التشبيه. نعم.
السلف ينكرون التشبيه وإذا رأوا الإنسان قد غلا في التعطيل سموه معطلا
وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا: جهمي معطل. وهذا كثير جدا في كلامهم، فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئا من الصفات مشبها كذبا منهم وافتراء حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- بذلك حتى قال ثمامة بن أشرس من رؤساء الجهمية: ثلاثة من الأنبياء مشبهة موسى حيث قال: { إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ } (1) وعيسى حيث قال: { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } (2) ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ينزل ربنا .
وحتى إن جل المعتزلة تُدخل عامة الأئمة مثل مالك وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وغيرهم في قسم المشبهة.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 155.
(2) - سورة المائدة آية : 116.(1/583)
ــــــــــــ
نعم. الشيخ يبين أن السلف كانوا ينكرون التشبيه، ولم ينقل عنهم أنهم عطلوا شيئا من الصفات، بل إنهم إذا رأوا الإنسان قد غلا في التعطيل سموه معطلا.
يقول: وهذا كثير جدا في كلامهم، فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئا من الصفات مشبها.
الجهمية والمعتزلة عندهم كل من أثبت حتى لو أثبت صفة واحدة لله فهو مشبه، ووصل ببعضهم الأمر إلى أن قال كما زعم ثمامة بن أشرس وهذا رئيس أو الذي تنتسب إليه فرقة من فرق المعتزلة الغلاة يقال لهم الثمامية،
ثمامة بن أشرس هذا رمى حتى الأنبياء بالتشبيه فقال: ثلاثة من الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- مشبهة من هم؟
موسى حيث قال: { إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ } (1) بمعنى كون موسى نسب الفتنة لله - عز وجل - فهو مشبه- وأيضا- عيسى حيث قال: { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } (2) حيث أثبت لله نفسا، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ينزل ربنا .
وبناء على ذلك غلا المعتزلة حتى رموا كبار الأئمة بالتشبيه كما مثل المؤلف هنا فرموا مالكا -رحمه الله- بالتشبيه ورموا الثوري والأوزاعي والشافعي والإمام وأحمد وجل الأئمة الذين أثبتوا لله الصفات سموهم أيش؟ مشبهة. نعم.
أهل البدع يلقبون أهل السنة بألقاب افتروها من عند أنفسهم
وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءًا أسماه تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة، وذكر فيه كلام السلف وغيرهم من معاني هذه الألقاب، وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه، يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد؛ وكما أنَّ المشركين كانوا يلقبون النبي - صلى الله عليه وسلم - بألقاب افتروها.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 155.
(2) - سورة المائدة آية : 116.(1/584)
فالروافض تسميهم نواصب، والقدرية يسمونهم مُجبرة، والمرجئة يسمونهم شكاكا، والجهمية تسميهم مشبهة، وأهل الكلام يسمونهم حشوية ونوابت وغثاء وغثرا، إلى أمثال ذلك، كما كانت قريش تسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة مجنونا، وتارة شاعرا، وتارة كاهنا، وتارة مفتريا.
ــــــــــــ
نعم. يقول: مسألة تسمية هؤلاء لأهل السنة أو من أثبت شيئا من الصفات مشبه هذا لا يضر، وهذا أمر اصطلح عليه هؤلاء المخالفون لأهل السنة. فكلٌ يطلق على أهل السنة لقبا اللقب الذي يناقض مع مذهبهم.
ويقول: صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس المتوفى سنة ستمائة واثنتين وعشرين كتابا سماه تنزيه الشريعة عن الألقاب الشنيعة وذكر فيه كلام السلف وغيرهم من معاني هذه الألقاب وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد، كما أنَّ المشركين كانوا يلقبون النبي - صلى الله عليه وسلم - بألقاب افتروها من عند أنفسهم.
وهذا الكلام -أيضا- منقول عن أبي عبيد -رحمه الله- وعن الإمام أحمد أن من علامة أهل البدع تسمية أهل السنة بألقاب افتروها من عند أنفسهم، وضرب لذلك أمثلة فالروافض تسمي أهل السنة نواصب. والنواصب أو الناصبة هم الذين يبغضون عليا وآل البيت هذا ضابط النصب بمعناه العام.
لكن الرافضة يسمون أهل السنة نواصب لماذا؟
لأن عندهم قاعدة من أحب أبا بكر وعمر فقد أبغض عليا هذه المقدمة الأولى.
المقدمة الثانية من أبغض عليا فهو ناصب إذن أهل السنة يحبون أبا بكر وعمر إذن هم نواصب فبناء على هذه المقدمة الباطلة سموا أهل السنة نواصب.
يقول: والقدرية يسمونهم مُجبرَة، القدرية نفاة القدر يسمون أهل السنة مجبرة لماذا؟
لأن أهل السنة يثبتون أن أفعال العباد خلق لله - عز وجل - فسموهم مجبرة، جبريين والمرجئة يسمونهم شكاكا.(1/585)
المرجئة الذين يؤخرون الأعمال عن مسمى الإيمان يسمون أهل السنة شُكاكا لماذا؟
لأن أهل السنة أجازوا أن يقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله.
فقالوا: هؤلاء يشكون في الإيمان.
فأهل السنة نعم يجيزون أن يقول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله لكن لا يجيزون ذلك بإطلاق.
يجيزونه من وجه ويمنعونه من وجه، فمن قال: أنا مؤمن إن شاء الله شاكا في أصل إيمانه فهذا يمنع أن يستثني.
ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله وأراد أن الإيمان قول وعمل يزيد في الطاعة وينقص بالمعصية وأنه لا يدري هل استكمل جوانب الإيمان أو لا وأيضا أن الإيمان الحقيقي هو ما يختم الإنسان به فلا يدري ماذا سيختم له به فيستثني بهذا الاعتبار فبهذا الاعتبار الاستثناء جائز. واضح؟
الشاهد أن المرجئة الذين قالوا: الإيمان شيء واحد لا يزيد لا ينقص ولا يجوز لأحد أن يستثني قالوا: إن أهل السنة الشكاك؛ لأنهم أجازوا أيش؟ الاستثناء.
والجهمية تسميهم مشبهة؛ لأنهم يرون أن كل من أثبت لله صفة فقد شبه الله بخلقه بناء على قواعد عقلية قعدوها وأسسوها، ربما الشيخ يشير إلى شيء منها قريبا.
وأهل الكلام يسمونهم حشوية أهل الكلام المقصود بهم- غالبا- الأشاعرة يسمونهم حشوية ونوابت وغثاء وغثرا.
حشوية معناها أنهم من حشو الناس أو أصحاب حشو في الكلام يعني ما عندهم إلا قال الله، قال الرسول، ما عندهم قواعد عقلية، ما عندهم مقدمات منطقية؛ ولهذا سموا أهل السنة حشوية بمعنى أنهم أهل حشو. وسموهم نوابت بمعنى صغار ليسوا شيئا، النابتة الشيء الصغير المحتقر. ويسموهم -أيضا- غثاء، والغثاء هو الشيء الرديء.
وغثرة بمعنى أنهم جهال، الغثرة الجماعة من . في اللغة العربية.(1/586)
يقول: إلى أمثال ذلك كما كانت قريش تسمي النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة مجنونا، وتارة كاهنا، وتارة مفتريا فهل ضر هذا النبي صلى الله عليه وسلم؟
أبدا فهؤلاء أطلقوا على أهل السنة هذه الألقاب، ولا تضر ولهذا قال الشاعر:
أن رمى فيه غلام بحجر لا يضر البحر أمسى زاخرا
ويقول الآخر في العسل:
وإن تشا قلت ذا قيء الزنابير والحق يعتريه سوء تعبير تقول هذا مجاج النحل تمدحه مدحا وذما وما جاوزت وصفه
ولهذا يقول ابن القيم كلاما جميلا بعد ما أثبت بعض الصفات وتكلم على بعض الصفات قال رحمه الله: فهذه المعاني ثابتة للرب -تعالى- وهو موصوف بها لا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسما، يعني لا ننفي هذه الصفات عن الله؛ لأنكم تسمون كل من اتصف بهذه الصفات أنه جسم، كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصب، ولا ننفي قدرة الرب، ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبريا، ولانرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه بتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسما مشبها.
ولهذا قال:
على عرشه إني إذن لمجسم فمن ذلك التشبيه لا أتكتم فإن كان تجسيما ثبوت استوائه وإن كان تشبيها ثبوت صفاته
ونقل عن شيخه شيخ الإسلام قوله:
فإني كما زعموا ناصبي فلا برح الرفض من جانبي فإن كان نصبا ولاء الصحاب وإن كان رفضا ولا آلهي
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
علامة الوارث حقيقة هدي النبي أن يحصل له كما حصل للنبي من ابتلاء
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن والاه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:(1/587)
قالوا: وهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة، فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتقادا واقتصادا وقولا وعملا؛ فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماء مذمومة مكذوبة وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة، فكذلك التابعون له على بصيرة، الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات باطنا وظاهرا.
ــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
يقول المؤلف: قالوا أي السلف الذين تقدم ذكر قولهم أن كل من خالف السلف وصفهم بالوصف الذي يعارض قولهم كما كانت قريش تسمي النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسماء مكذوبة، تسميه كاهن، شاعر، ساحر.
يقول: وهذه علامة الإرث الصحيح.
علامة الوارث حقيقة هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - المقتفي سنته لا بد أن يحصل له كما حصل له عليه الصلاة والسلام، وهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة.
لا شك أن الإنسان كلما كان أكثر متابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كلما اشتد البلاء به، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء في الحديث أن المرء يبتلى على قدر دينه وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل .
يقول: فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتقادا واقتصادا وقولا وعملا.
.................................................................................. ـــــــــــــــ
اعتقادا معروف، والاقتصاد هو الاستقامة على الطريق باعتدال ووسطية. وقولا وعملا، فكما أن المنحرفين عنه، عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن منهجه يسمونه بأسماء مكذوبة مذمومة يسمون النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسماء مكذوبة ومذمومة وإن اعتقدوا صدقها بناء على عقيدتهم الفاسدة.(1/588)
يعني حتى ولو وجد من اعتقد أن هذا الوصف صادق في وصفه مثلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لأتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء على عقيدته الفاسدة، فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات باطنا وظاهرا.
كذلك كل من اقتدى واقتفى أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم، فسيحصل له ما للنبي - صلى الله عليه وسلم - فسيجد من يطلق عليه أوصافا وألقابا مكذوبة؛ لأجل أن ينفر الناس عنه.
فكفار قريش لما وصفوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسحر والكهانة والكذب قصدوا من ذلك تنفير الناس عنه.
كذلك أتباعهم سيجدون من يناوئه ويلصق بهم هذه التهم المكذوبة كما هي الحال الآن، في وقتنا يطلق على المتمسك بالسنة المتمسك بدينه متزمت متشدد متطرف، نعم. لكن هذه الألقاب لا تضر ولا تؤثر في إيمان المؤمن الحق؛ لأنه ما دام هذا الطريق هو الطريق الصحيح فلا يعبأ الإنسان بما اعترض له في طريقه هذا. نعم.
الذين وافقوا النبي ببواطنهم، وعجزوا عن إقامة الظواهر، والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن
وأما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر، والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن، أو الذين وافقوه ظاهرا وباطنا بحسب الإمكان لا بد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصا يذمونهم به، ويسمونهم بأسماء مكذوبة وإن اعتقدوا صدقها كقول الرافضي: من لم يبغض أبا بكر وعمر فقد أبغض عليا؛ لأنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة منهما. ثم يجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبيا، بناء على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة أو عاند فيها وهو الغالب؟ اعتقدوها صحيحة أو عاندوا فيها
وكقول القدري: من اعتقد أن الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد: فقد سلب العباد القدرة والاختيار، وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة.(1/589)
وكقول الجهمي: من قال: إن الله فوق العرش فقد زعم أنه محصور، وأنه جسم مركب وأنه مشابه لخلقه.
وكقول الجهمية والمعتزلة: من قال: إن لله علما وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب، وهو مشبه؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرَض لا يقوم إلا بجوهر متحيز، وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد، ومن قال ذلك فهو مشبه- وكل متحيز وكل متحيز كجسم- وكل متحيز كجسم مركب أو جوهر فرد، ومن قال ذلك فهو مشبه لأن الأجسام متماثلة.
ومن حكى للناس مقولاتهم وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة بناء على عقيدته التي هم مخالفون له فيها فهو وربه، والله من ورائه بالمرصاد، { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } (1) .
ــــــــــــ
نعم. يقول: أما الذين وافقوا ببواطنهم وافقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم ببواطنهم، وعجزوا عن إقامة الظواهر، والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن، أو الذين وافقوه ظاهرا وباطنا بحسب الإمكان، يعني لو أخذت أهل البدع هؤلاء الذين أطلقوا على أهل السنة هذه الألقاب لوجدت أنهم غالبا يدخلون في أحد هذه الأقسام منهم من وافق النبي في باطنه وقصد تعظيم الله - عز وجل - وحرص على اتباع السنة، لكنه لم يستطع أن يوافق ذلك في الظاهر، وهناك أسباب.
وهناك أناس وافقوه في الظاهر، لكنهم عجزوا عن تحقيق ذلك في الباطن. وهناك من وافقوه ظاهرا وباطنا، لكن ليس على الوجه الأكمل أو الوجه الأمثل، فكل هؤلاء لا بد كل من انحرف عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم ومن غيرهم أن يعتقد في من اتبع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهجه أن يعتقد فيه نقصا ويذمه بناء على هذه العقيدة التي اعتقدها ويسميه بأسماء مكذوبة.
__________
(1) - سورة فاطر آية : 43.(1/590)
ثم ضرب الشيخ لهذا أمثلة فأخذ أولا قول الرافضة وهذا ذكرناه بالأمس. الرافضي عنده قاعدة أن من أحب أبا بكر وعمر، من تولى الصديق والفاروق فقد أبغض عليا، عنده يعني يستحيل أن يجتمع حب علي وحب أبو بكر وعمر وبناء على ذلك عنده من أحب أبا بكر وعمر فقد أبغض عليا، ومن أبغض عليا فقد صار ناصبيا.
ولهذا عنده أهل السنة لما تولوا أبا بكر وعمر أنهم نواصب وأطلق عليهم هذا اللقب زورا وبهتانا.
وهذه الملازمة باطلة وهذه من نسج خيال هذا الرافضي من قال لك أن من تولى أبا بكر وعمر أبغض علي؟
السلف قاطبة والأئمة قاطبة وأهل السنة قاطبة يتولون الجميع ويحبون الجميع ويعرفون للجميع قدرهم.
يقول: هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدوها صحيحة أو عاندوا فيها، وهو الغالب، يعني منهم من يعتقد، هذا منتهى عنه أن من أحب أبا بكر وعمر فقد أبغض عليا هذا اعتقاده.
ومنهم وهو الأكثر المعاندون يعرفون الحق كحال اليهود لكنهم لا يقبلونه.
يقول: وكقول القدري: من اعتقد أن الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد فقد سلب العباد القدرة والاختيار.
يعني لاحظ هذه الملازمة عنده الباطلة من أثبت عموم مشيئة الله - عز وجل - وخلقه فقد نفى عن العبد القدرة والاختيار.
يعني لا يمكن عنده الإنسان يجمع بين الاثنين يثبت عموم مشيئة الله، عموم مشيئة الله وخلقه، وقدرة العبد وفعل العبد.
عنده إذا أثبت هذا فقد نفيت هذا؛ ولهذا عنده أهل السنة لما أثبتوا عموم مشيئة الله - عز وجل - وعموم خلقه -سبحانه- فقد سلبوا العبد قدرته ومشيئته، فأصبح العبد في نظر القدرية عند أهل السنة مجبورا؛ ولهذا سموا أهل السنة أيش؟
جبرية بناء على هذه الملازمة الباطلة والاعتقاد الباطل.
يقول: وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة.(1/591)
وكقول الجهمي: من قال: إن الله فوق العرش فقد زعم أن الله محصور، وأنه جسم مركب وأنه مشابه لخلقه؛ ولهذا سموا أهل السنة مشبهة مجسمة ليش؟
لأن عنده هذه القاعدة، تثبت أنت الاستواء إذن يلزم على إثبات الاستواء أنك تثبت أن الله محصور، وأنه جسم وأنه مشابه لهذا إذن فأنت مجسم مشبه تزعم أن الله محصور في عرشه أو في السماوات أو في خلقه.
فهذه القاعدة يعني أطلق هذا اللقب على أهل السنة بناء على هذه الملازمة الباطلة وهذه القاعدة الباطلة. واضح؟
وكقول، شبهة التجسيم وشبهة التركيب هذه من أبرز الشبه التي نفى المعطلة الصفات بسببها، تمسكوا بقضية شبهة التجسيم وشبهة التركيب؛ لأنهم يزعمون أن من أثبت لله الصفات أو أثبت أن الله عال على الخلق
فقد زعم أن الله جسم، ومن أثبت لله - عز وجل - هذه الصفات العلم القدرة، السمع، البصر، الحياة، الكلام، الوجه، اليدين فقد زعم أن الله مركب من هذه الصفات. واضح؟
ولهذا من الألفاظ المجملة المبتدعة لفظ التجسيم، ولفظ التركيب؛ لأنه يراد به معنى حق ويراد به معنى باطل فتشبث بهذه الألفاظ أهل البدع من المعطلة؛ لأجل نفي ما يستحقه الله - عز وجل - من الأسماء والصفات لاحظوا، جاءوا بهذه الألفاظ؛ ليشوشوا على أذهان العامة، يعني عامة الناس ما يقبل أن تقول له: إن الله مركب أو إن الله جسم، فنفى الصفات بهذه الأسماء التي تنفر منها النفوس والفطر السليمة.
. الألفاظ أهل البدع من المعطلة لأجل نفي ما يستحقه الله - عز وجل - من الأسماء والصفات لاحظوا جاءوا بهذه الألفاظ؛ ليشوشوا على أذهان العامة، يعني عامة الناس ما يقبل أن تقول له: إن الله مركب أو إن الله جسم، فنفى الصفات بهذه الأسماء التي تنفر منها النفوس والفطر السليمة.(1/592)
يقول: وكقول الجهمية والمعتزلة من قال: إن لله علما وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب، وهو مشبه؛ لأن هذه الصفات أعراض، العلم والقدرة، نعم، والرؤية والحياة والقدرة هذه عرض.
وقلنا في القسم الأول: العرض عندهم هو الذي لا يقوم بنفسه ولا يبقى زمانين يبطل في ثاني حال وجوبا، يعني الآن الكلام إذا أطلقه الإنسان انتهى في لحظة هل يبقى هل يبقى؟
كذلك الرؤيا هل تبقى؟
تنتهي في لحظة، أو في أول حال لا تبقى، بخلاف مثلا اليد، بخلاف الوجه، فهذه الصفات سموها أعراضا.
فعندهم عند الجهمية والمعتزلة خلافا للأشاعرة، الأشاعرة يثبتون الحياة العلم، القدرة.
فعند المعتزلة والجهمية أن من أثبت لله العلم، والقدرة، والسمع، والبصر فهو مشبه؛ ولهذا عندهم الأشاعرة مشبهة وأهل السنة مشبهة بناء على ماذا معاشر الجهمية والمعتزلة؟
قالوا: بناءا على أن هذه أعراض، والعرَض لا يقوم إلا بجسم والأجسام مركبة، إذن أنتم تقولون إن الله جسم، والأجسام متماثلة، إذن أنتم تشبهون الله - عز وجل - بناء على هذه القاعدة الفاسدة المركبة من هذه المقدمات الفاسدة.
فهم إذن أطلقوا على من أثبت لله هذه الصفات مشبه مجسم بناء على أن من أثبت هذه الصفة التي هي أعراض أن العرض لا يقوم إلا بجسم والأجسام متماثلة إذن فقد شبه الله بغيره. نعم. ثم قال: لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجوهر، والجوهر عندهم عبارة عن المتحيز.
كل شيء متحيز يسمى عندهم جوهرا، فمثلا هذا الكأس عرض ولا جوهر؟
جوهر؛ لأنه متحيز ينحاز بكل الكيان، ينحاز بمكان يقدر له مكان.
والجوهر عندهم ينقسم إلى قسمين بسيط وهو ما لا يقبل الانقسام لا بالفعل ولا . يعني لا ينقسم بنفسه ولا بتقسيم غيره.
والمركب من جوهرين فردين فصاعدا وهو الجسم.
فهم يقولون: العلم والقدرة والحياة عرض ولا جوهر؟(1/593)
عرض، والعرض لا يقوم إلا بجسم.
أنتم الآن تثبتون لله الحياة والعلم والقدرة. ماشي.
ونحن لا يمكن أن نتصور أن تقوم هذه الأعراض إلا بجسم.
بمعنى، إذن يلزم على ذلك أنكم تقولون: إن الله جسم والأجسام مركبة إذن أنتم تشبهون الله - عز وجل - بهذا الخلق الذي هو جسم مركب بناء على هذه القاعدة الفاسدة.
قال: لا يقوم إلا بجوهر متحيز، والحيز عندهم عبارة عن المكان أو تقدير المكان هذا معنى الحيز.
فالجوهر هو الذي يتحيز يعني له مكان، وكل متحيز فجسم مركب أو جوهر فرد.
وعرفنا تعريف الجوهر الفرد هو الذي لا لا لا، العرض . لا يقبل الانقسام.
هذه على كلٍّ مصطلحات منطقية نحن معاشر أهل السنة لا نسلم لهم بكل هذه المقدمات ولا بهذه التعريفات، لكن الآن من باب التسليم لهم أو هذا اعتقادهم وليس هذا مجالا للمناقشة والرد وإلا الجوهر الفرد عندهم هو ما لا يقبل التجزؤ أو الانقسام بنفسه ولا بغيره.
نحن لا نسلم لهم وجود جوهر لا يقبل الانقسام، بل عندنا أن الأشياء كلها المخلوقات نعم تتحلل، تتحلل إلى أن تنتهي تفنى، عندهم لا هذه المخلوقات لا بد أن تنتهي إلى الجوهر الفرد الجوهر الفرد هذا هو خلاص ما عاد يقبل التجزؤ وهذا غير مسلم بيه.
الشاهد أن هذه الألفاظ التي هي العرض، الجسم، التركيب، الجوهر الفرد، الجوهر المركب كلها من الألفاظ المبتدعة التي لم تؤثر عن الصحابة فضلا أن تؤثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن الله - عز وجل - ولم يقل بها سلف الأمة إنما هي من الألفاظ التي ابتدعها أهل الكلام؛ ولهذا لا تقبل بإطلاق ولا ترد بإطلاق.
لا بد من التفصيل، لا بد من الاستفسار؛ لنعرف ما مراد هذا الشخص من هذا الاصطلاح.
فإن أراد معنى حق قبل المعنى دون اللفظ، وإن أراد معنى باطلا رددنا اللفظ والمعنى.
وهذا قررناه أكثر من مرة.(1/594)
يقول: ومن قال ذلك فهو مشبه؛ لأن الأجسام متماثلة.
هذه النتيجة التي يريد أن ينتهي إليها هذا الجهمي وهذا المعتزلي أنك ما دام تثبت لله العلم والقدرة فالنتيجة أنك مشبه ليش رميتك بالتشبيه؟
لأن هذه أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم والجسم مركب والأجسام متماثلة. إذن أنت مشبه.
يقولون: من حكى عن الناس المقالات وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة بناء على عقيدتهم التي هم مخالفون له فيها فهو وربه بما نكون تطلق على فلان أنه جبري وفلان ناصبي وفلان مجسم وفلان مشبه وفلان من حشو الناس. الشيخ يقول: هذا الحق هو الحق لا يتغير.
الحق هو الذي قام على الكتاب والسنة، أما هذه الألقاب التي أطلقتها على من خالفك في معتقدك نعم، فهذا بينك وبين الله - عز وجل - وأنت وربك وسيتولى الله أمرك.
يقول: والله من ورائه بالمرصاد، { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } (1) بمعنى أن أهل السنة لا يرفعون رأسا لهذه الألقاب.
المقصود إحقاق الحق كونك تطلق على هذا اللقب أو هذا الاسم أو هذا الوصف لا يهم منها بشيء، إنما علي أن أبين لك الحق وأعتقد أن هذا هو الحق بغض النظر عن الاسم الذي أطلقته. نعم.
الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام
من قال بأن الصفات على ظاهرها
وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة.
قسمان يقولان: تجرى على ظواهرها، وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها، وقسمان يسكتون.
أما الأولون فقسمان.
أحدهما من يجريها على ظاهرها، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف وإليهم يتوجه الرد بالحق.
__________
(1) - سورة فاطر آية : 43.(1/595)
والثاني من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله، كما يجري ظاهر اسم العليم، والقدير، والرب، والإله، والموجود، والذات، ونحو ذلك، على ظاهرها اللائق بالله، على ظاهرها اللائق بجلال الله فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق: إما جوهر محدث، وإما عرض قائم به.
فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض.
والوجه واليدين والعين في حقه أجسام.
فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة ولم يكن ذلك عرضا يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساما ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين.
ــــــــــــ
نعم. يقول: جماع الأمر فيما تقدم أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة، يعني عندنا الآن آيات وأحاديث الصفات هناك قسمان يقولان تجرى على ظاهرها. وقسمان يقولان تجرى على خلاف الظاهر.
وقسمان يسكتون ويمسكون.
بدأ الشيخ بالقسمين الأولين والناس أهل القبلة المسلمون لا يخرج أحد منهم عن أحد هذه الأقسام الستة تجاه نصوص الصفات.
القسمان اللذان يقولان: تجرى هذه النصوص على ظاهرها ينقسمون إلى قسمين.
القسم الأول من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة مذهبهم باطل، الذين قالوا { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) نحن نجري هذا اللفظ على ظاهره ونعتقد أن ظاهره من جنس ما هو ثابت للمخلوق فهذا الاستواء لا نعرف إلا استواء المخلوق على المخلوق فنحن نثبت الاستواء لله كاستواء المخلوق على المخلوق. واضح؟
وهؤلاء هم المشبهة وهم الذين أنكر عليهم السلف.
يقول: وإليه توجه الرد بالحق يعني بان وظهر ووضح الرد عليهم.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.(1/596)
فبطلان مذهبهم ظاهر لا يحتاج إلى كثير عناء.
القسم الثاني من الذين أجروا نصوص الصفات على ظاهرها أهل السنة، وهؤلاء الذين قالوا: إن ظاهرها مراد، ظاهر هذه النصوص { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } (1) { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } (2) "ينزل ربنا"، نعم؟ عجب الله،
{ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (3) .
قالوا: ظاهر هذه النصوص مراد وهو على الوجه اللائق به -سبحانه وتعالى- يجريه على ظاهره ونثبته على الوجه الذي يليق به -سبحانه وتعالى- فنثبت الاستواء حقيقة، له العلو والارتفاع على الوجه اللائق به، نثبت اليدين لله حقيقة على الوجه اللائق به، كذلك الوجه، كذلك بقية الأسماء والصفات.
يقول: كما يُجرى ظاهر اسم العليم، والقدير، والرب، والإله، والموجود، والذات، ونحو ذلك، على ظاهرها اللائق بجلال الله فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين.
والآن كأن الآن بيرد على الأشاعرة، الأشعرية الذين يثبتون بعض الصفات وينفون بعض.
يقول نحن نثبت لله - عز وجل - هذه الصفات على الوجه اللائق به -سبحانه وتعالى- لا على الوجه الذي هو ثابت للمخلوق.
يقول: فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث، وإما عرض قائم، يعني لو لاحظنا هذه الصفات العلم، الوجه، اليد، القدرة إما عرض أو جوهر، هذا بالنسبة للمخلوق.
يقول: فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض.
__________
(1) - سورة الرحمن آية : 27.
(2) - سورة ص آية : 75.
(3) - سورة المائدة آية : 119.(1/597)
الأشاعرة- الآن- يثبتون العلم والقدرة الكلام والمشيئة، لكنهم مثلا ينفون الرحمة والغضب والرضا وجميع هذه الصفات بالنسبة في حق المخلوق أعراض فإن نفوا الرضا والغضب والرحمة بحجة عدم التشبيه قالوا: لأن لا نعقل الرضا إلا رضا هذا المخلوق الذي هو . ولا نعقل الرحمة إلا الرقة التي في النفس ولا نعقل غضبا إلا غليان دم المخلوق.
قيل لهم: كذلك الكلام والعلم والقدرة الجميع أعراض، فإما أن تنفوا للجميع وإما أن تثبت للجميع.
يقول: الوجه واليد والعين في حقه في حق المخلوق أجسام فنحن نثبت ظواهر هذه الأدلة، لكن على الوجه اللائق به -سبحانه- ليس على الوجه الثابت للمخلوق التي هي أعراض وأجسام.
يقول: فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما وقدرة وكلاما ومشيئة، موصوف عند عامة أهل الإثبات أهل السنة والأشاعرة هؤلاء عموم أهل ..
الأشاعرة يثبتون بعض الصفات فالجميع متفقون الآن على إثبات العلم والقدرة والكلام والمشيئة ماشي؟
يقول: وإن لم يكن ذلك عرضا وهو عند الجميع ليس بعرض.
عند الأشاعرة وعند أهل السنة يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين. يعني هذه الصفات ليست بأعراض كما هي الحال في حق المخلوق.
طيب الجواب جاز أن يكون وجه الله ويداه هاتان الصفتان، نعم اللتان يثبتهما أهل السنة وينفيهما الأشاعرة جاز أن يكون وجه الله ويداه ليست أجساما.
أنتم تقولون: لا يمكن أن نثبت لله وجه لئلا نقع في التجسيم نقول لكم أيضا لا تثبتوا لله القدرة والإرادة لأن هذه أعراض والأعراض لا تقوم إلا بجسم فأنتم إذن مجسمة.
يقول: ليست أجساما، ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين.
إذن فأهل السنة يجرون نصوص الصفات ونصوص الإثناء على ظاهرها. وعندهم أن الظاهر مراد لكنه على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى. نعم.(1/598)
القول في الصفات كالقول في الذات
وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطَّابي وغيرُه عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات.
فمن قال: لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودين.
قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين، ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته.
فمن لم يفهم من صفات الرب الذي { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه.
وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي كيف استوى؟
أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا؟ أو كيف يداه؟ ونحو ذلك.
فقل له: كيف هو في نفسه؟
فإذا قال لك: لا يُعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري غير معلوم للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم بكيفية صفة لموصوف، ولم تعلم كيفيته، وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي له، بل هذه المخلوقات في الجنة، قد ثبت عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
وقد أخبر الله أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من مخلوقات الله، كذلك فما الظن بالخالق سبحانه وتعالى؟
ــــــــــــ
نعم. ذكر هنا الشيخ قاعدتين أو أكثر في الصفات، ويمكن استخدام هذه القواعد في الرد على المخالفين، في الرد على المعطلة.
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.(1/599)
فالقاعدة الأولى أن القول في الصفات كالقول في الذات؛ ولهذا قال الشيخ: فإن الصفات كالذات فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات.
يقال لهذا المعطل: هل تثبت لله الذات؟
هي أقصى وآخر ما . هذا المعطل فإن قال نعم، قلنا: هل هذه الذات مثل ذوات المخلوقات، المخلوقات لها ذات؟
فإن قال: لا، قلنا: وكذلك صفات هذه الذات.
صفات ذات الله - عز وجل - تلائم تلائمه -سبحانه- صفات هذه الذات تلائم هذه الذات وصفات ذات المخلوق تلائم ذات المخلوق لا فرق بين هذا وذاك.
وهذا من باب إلزام الخصم.
يقال له: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن زعمت أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه، فكذلك إثبات الذات، وإن قلت: لا إثبات الذات لا يستلزم التشبيه، قلنا لك: أيضا الصفات إثباتها لا يستلزم التشبيه، فمن قال: لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودين لو قال لنا هذا المعطل: أنا أصلا لا يمكن أتصور لا أعقل علم ولا يد إلا علم هذا المخلوق ويد هذا المخلوق، نرد عليه مباشرة ونقول له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين؟
ألست الآن تثبت لله ذات؟
كيف عقلتها وتصورتها أن هناك ذات مخالفة لذوات المخلوقين؟
فإذا أثبت ذلك، فأثبت هذه الصفات للعلم واليدين والوجه في هذه الذات لائقة فيه من غير جنس صفات المخلوقين، قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته؟
وهذا معلوم حتى في نطاق البشر، في نطاق المخلوقات.
هل يقول قائل: إن صفات بني آدم مثل مثلا صفات الذر، هل يد النملة مثل يد الفيل؟
هل سمع الإنسان مثلا مثل سمع ذاك المخلوق الآخر؟
كل مخلوق له من الصفات ما يناسبه.(1/600)
إذا كان هذا في حق المخلوق، فما الظن بالخالق سبحانه وتعالى؟
فصفاته تناسبه تليق بجلاله -سبحانه وتعالى- لا تماثل صفات المخلوقين. ولهذا شيخ الإسلام مثَّل أو يمثل أحيانا يقول: العرش موجود أعظم وأكبر المخلوقات على الإطلاق، نعم؟
والبعوضة موجودة، هل يقول عاقل: إن وجود البعوضة مثل وجود العرش؟
وهذا مخلوق مع مخلوق، فما الظن للخالق مع المخلوق؟
فمن لم يفهم من صفات الرب الذي { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (1) إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه.
إذا كنت لا نفهم من إثبات هذه الصفة أو هذه الصفات المنسوبة لله - عز وجل - إلا ما هو ثابت المخلوق فهذا ضلال في العقل، وضلال في الدين. يقول: ما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي كيف استوى؟ وكيف ينزل إلى سماء الدنيا؟
بأنه يمكن الاستواء والنزول، فإذا قال لي الجهمي أو المعتزلي والأشعري قلت له: استوى على العرش أينزل ربنا كل ليلة فقال: كيف ينزل؟
وكيف استوى؟
نعم، لتقرير أو لأجل أن يقرر باطله، يقرر نفي هذه الصفة عن الله - عز وجل - كأنه يقول: أنت الآن تشبه الخالق بالمخلوق كيف استوى؟
ما نعرف استواء إلا استواء المخلوق عن مخلوق استواء الإنسان على الكرسي استواء الإنسان على ظهر الدابة، والنزول من أعلى إلى أسفل.
فالجواب مباشرة يرد عليه وهذا في كرسي فقل له: كيف هو في نفسه؟
كيف الله في نفسه؟
فإذا قال لك: لا يعلم، قلت: لا أعلم كيف هو، فقل له: وكذلك أنا لا أعلم كيفيته ولا كيفية وجهه ولا كيفية يداه.
يقول فإذا قال لك: لا يُعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري غير معلوم للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف كيف تطالبني بمعرفة كيفية الصفة وأنت تجهل كيفية الموصوف؟
__________
(1) - سورة الشورى آية : 11.(1/601)
فإذا نفيت علمك بكيفية الموصوف فأنا -أيضا- لا أعلم كيفيته من هذا الموصوف.
يقول: فكيف يمكن أن تعلم بكيفية صفة الموصوف، ولم تعلم كيفيته، وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي له، بل هذه المخلوقات؟
الشيخ الآن ضرب مثل بمثالين لتقريب المسألة إلى الأذهان أنه لا يلزم من إثبات الصفة لله المماثلة لصفة المخلوق في الاسم التماثل والتشابه في أيش؟ في الحقيقة.
يقول: المثال الأول موجود في الجنة، الله - عز وجل - أخبرنا أن في الجنة لبن وعسل وماء وأنهار وزوجات وفاكهة وقصور. نعم؟
وفي الدنيا مثيل لهذه الأشياء في الأسماء فيها لبن عندنا لبن وعسل وفاكهة فهل يقول عاقل إن موجودات الدنيا مثل مجودات الآخرة؟
ابن عباس- رضي الله عنه- يقول: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. الحقائق الله أعلم بها؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديث المتفق عليه فيها- يعني الجنة- ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرءوا إن شئتم: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } (1) فإذا كان وهذا هو القياس الأولى.
إذا كان اتفاق المخلوق مع المخلوق في الاسم لا يلزم منه التماثل في المسمى، فاتفاق الخالق أو اتفاق صفات الخالق مع صفات المخلوق في الاسم من باب أولى ألا يلزم من ذلك التماثل.
واضح؟
يعني الآن عندنا موجودات مخلوق مع مخلوق، الجنة مخلوقة وموجودات الدنيا مخلوقة، اتفقا في الاسم لبن ولبن، عسل وعسل، واختلفا في الحقيقة فاتفاق، إذا كان المخلوق له وجه ويد، والله - عز وجل - موصوف بأن له وجه ويدين، فالاتفاق بالاسم لا يلزم منه الاتفاق بالمسمى وهذا هو القياس الأولى. نعم.
الاعتبار بالروح عن الكلام في كيفية الله تعالى
__________
(1) - سورة السجدة آية : 17.(1/602)
وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى؟
مع أنا نقطع بأن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة، لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة، ومن وافقهم حيث نفوا عنها الصعود والنزول، والاتصال بالبدن والانفصال عنه، وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته، فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها، إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص، فيكونون قد أخطئوا في اللفظ، وأنَّى لهم بذلك؟
ــــــــــــ
نعم. مثال ذلك الروح أقرب شيء للإنسان، وصفت بأوصاف معروفة ومعلومة جاء صفاتها في السنة أنها تذهب وتجيء وتسل وتخاطب وتسمع وتصعد إلى السماء. نعم. وهي ليست من جنس هذا البدن المعهود، مخالفة تماما فإذا كانت هذه الروح وهي مخلوقة من مخلوقات الله - عز وجل - وموصوفة ببعض الصفات الموافقة لصفات هذه الأشياء المشاهدة . ومع ذلك بينها من التباين الشيء الكثير، فما الظن بالخالق والمخلوق؟
ثم استطرد الشيخ -رحمه الله- في الكلام على الروح، يقول: مع أنها مع أنا نقطع بأن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة.
من أكثر الناس أو أكثر المنكرة غلت في وصف الروح بالسل . الفلاسفة كما وصفوا الله - عز وجل - ولهذا وصفوا الروح بالممتنع، بممتنع الوجود.
قالوا: لا هي داخل البدن، ولا خارجه، بل ولا داخل العالم ولا خارجه ولا هي متصلة بالبدن، ولا منفصلة، ولا هي مباينة ولا مداخلة، ولا متحركة ولا ساكنة.
إذن ما هو هذا .؟(1/603)
لا ليس العدم، العدم ينقسم إلى قسمين ممكن الوجود، وممتنع الوجود. المولود بالنسبة لك الآن الذي ما أتى معدوم، لكنه ممكن الوجود ولا ممتنع الوجود؟
ممكن الوجود لكن مولود لك لا هو موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت هذا ممتنع الوجود.
أشد الأشياء امتناع فهم وصفوا الروح بهذه الصفة كما وصفوا الله - عز وجل - .
يقول: ومن وافقهم حيث نفوا عنها الصعود والنزول، يعني لا تصعد ولا تنزل، والاتصال بالبدن والانفصال عنه هي كانت غير متصلة ولا منفصلة إذن أين هي الآن؟
وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته، فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون الصفات ثابتة لها بحسبها.
كونها ليست مماثلة ليست من جنس هذا البدن لا يلزم من ذلك أن ننفي عنها هذه الصفات الثابتة لها من الصعود والنزول، وأنها تسل وأنها تخاطب وتسمع إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص، بمعنى أن يفسروا هذا النفي بما يوافق ما جاء في النصوص، فيكونون قد أخطئوا في اللفظ، يعني أخطئوا في اللفظ، لكن المعنى صحيح.
لكن يقول الشيخ: وأنَّى لهم بذلك يعني الوصف الذي جاءوا به لا يمكن يتفق مع نصوص الوحيين لأي اعتبار قادم. نعم.
الذين يقولون إن ظاهر هذه النصوص غير مراد
وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأن الله لا صفة له ثبوتية بل صفاته إما سلبية وإما إضافية، وإما مركبة منهما، أو يثبتون بعض الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر، أو يثبتون الأحوال دون الصفات، كما عرف من مذاهب المتكلمين، فهؤلاء قسمان، قسم يتأولونها.
ــــــــــــ
القسمان اللذان يقولان: إن ظاهر هذه النصوص غير مراد ينفون الظاهر يتفقون على نفي دلالة هذه النصوص على الصفات اللائقة بالله -سبحانه وتعالى- يعني ينفون عن الله الصفات، لا يثبتون لله شيئا من الصفات أو يثبتون بعض الصفات.(1/604)
الشاهد أنهم يقولون: ظاهر هذا النص الدال على هذه الصفة الله ليس له صفة، وسنرى موقفهم من هذه النصوص.
يقول: وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة لله - عز وجل - { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) يقول: لا يدل على إثبات صفة الاستواء وأن الله لا صفة له ثبوتية؛ لأنهم يصفون الله - عز وجل - دائما بالسلب بالنفي، بل صفاته إما سلبية وهذا مذهب غلاة الجهمية والفلاسفة.
معنا صفات سلبية أخذناها في القسم الأول.
النفي يعني يسلطون أداة النفي على هذه الصفات.
الله لا يتكلم، وليس له علم ولا قدرة ولا إرادة، ولا مشيئة، وليس له وجه ولا هو فوق ولا تحت، ولا يمين، يسلبون عنه الصفات الثبوتية.
هكذا يصفون الله - عز وجل - .
وإما إضافية، والصفات الإضافية هي التي لا يمكن أن تعقل صفة إلا بما يقابلها.
هي عبارة عن ماهيتين لا يتم تعطل أحدهما إلا بالأخرى مثل الأبوة، والبنوة، يعني لا يمكن نسمي هذا أب إلا مع وجود الابن، ولا يمكن أن نسمي هذا ابن إلا مع وجود الأب، فالفلاسفة وصفوا الله بالإرادة مثل قالوا إن الله هو العلة -تعالى الله عن ذلك- هو العلة الأولى.
وهذه الصفة لم يوصف الله - عز وجل - بها عندهم إلا مع وجود المعلول فلو لم يكن هناك معلول لما وصف بذلك.
فهم يصفون الله - عز وجل - بالإضافات، وليس بالصفات الثبوتية.
نحن نصف الله - عز وجل - بأنه خالق وجد الخلق أو ما وجد الخلق.
واضح؟
هم لا، يصفونه بالصفات الإضافية.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.(1/605)
يقول: وإما مركبة منهما أي من السلبية والإضافية، أحيانا يصفونه بالسلب، وأحيانا يصفونه بالإضافة أو يثبتون بعض الصفات، وهؤلاء من؟ الأشاعرة، السبعة وهي هذه يتفق عليها جمهور الأشاعرة العلم، القدرة الإرادة، الحياة، السمع، البصر، الكلام. ماشي؟
يقول: أو الثمانية أكثرهم يضيف إلى هذه السبع البقاء صفة البقاء أو الخمسة عشر.
حقيقة هذه لا يتفقون عليها، وغالبا موجودة عند المتقدمين، فهناك بعض الصفات مثلا يثبتها أبو الحسن، وهناك صفات أخرى يثبتها الباقلاني وهناك صفات يثبتها البيهقي، وهناك صفات يثبتها ابن فورك، فمختلفون.
الشاهد أنهم إما يثبتوا سبع أو ثمان أو خمس عشرة، أو يثبتون الأحوال دون الصفات.
وأول من قال بالأحوال أبو هاشم من المعتزلة، وتبعه على ذلك من الأشاعرة الباقلاني والجويني.
وحقيقةً الأحوال من الأشياء التي كما قال العلماء: غير معقولة.
قالوا: ثلاثة غير معقولة، كسب الأشعري وأحوال أبي هاشم .؛ ولهذا وصفها أبو هاشم نفسه.
قلنا له: ما هي الحال؟
قال: هي التي لا موجودة، ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، وهذا في واقع الأمر يمكن؛ ولهذا اختلفت أقوال أهل العلم في تحديد هذه الحال؛ ولهذا قال ابن حزم كلاما جميلا.
قال: وأما الأحوال التي ادعتها الأشعرية فإنهم قالوا: إن هاهنا أحوالا ليست حقا ولا باطلا، ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة، ولا هي موجودة ولا معدومة، ولا هي مجهولة ولا هي معلومة، ولا هي أشياء ولا هي لا أشياء، وذكر بعض هذه الصفات المتناقضة، ثم عد هذا صفصطة وهذيان.
أما البغدادي فذكر أن أبا هاشم لم يعقل هو معنى الحال.
يقول: فكيف نرد عليه؟
يعني إذ كان هو ما عقل هذه الحال، فكيف نرد عليه؟
ما بودنا ندخل في..، هي عقلية صرفة.
الحال هي المرحلة التي بين الصفة والذات.
عندنا عالم وعلم، ماشي؟(1/606)
علم للعالم هذه المرحلة المتوسطة هي التي يسمونها الحال هذه من محارات أهل الكلام ومن صفصطاتهم التي لا نتيجة وراءها.
الشاهد أن منهم من يثبت الأحوال.
يقول الشيخ: نعم هذا مذهب هؤلاء، مذهب هؤلاء أن ظاهر النصوص غير مراد ولا تدل على صفة ثبوتية لله - عز وجل - سواء وقف الله في السل أو الإضافة أو الأحوال، إنما اتفقوا على نفي دلالة هذه النصوص على إثبات هذه الصفات. نعم، نعم؟
من؟ لا لا، معتزلي وهناك فرقة يقال لها الهاشمية تبعها الأشاعرة الباقلاني والجويني معروف الباقلاني والجويني لهم قيمة عند الأشاعرة كون هؤلاء من أكثر أئمة الأشاعرة الذي قعدوا لمذهب الأشاعرة.نعم. وطفرة النظام طفرة النظام، النظام . من المعتزلة.
المعطلة والمفوضة
فهؤلاء قسمان، قسم يتأولونها ويأولون المراد مثل قولهم استوى بمعنى استولى؛ أو بمعنى علو المكانة والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلفين. وقسم يقولون الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجة عما علمناه.
ــــــــــــ
نعم. هؤلاء القسمان قسم يعين المراد وهؤلاء جمهور المعطلة الذين ركبوا التأويل فيقولون: معنى استوى ليس معنى إثبات صفة الاستواء إنما معناه استولى أو القدرة أو أو.. إلى آخر تأويلاتهم كثيرة، مختلفون فيما بينهم في التأويل، لكنهم اتفقوا على التأويل.
واضح؟ هذا قسم.
القسم الثاني وهم المفوضة نفوا دلالة هذا النص على إثبات الصفة وقال الله أعلم بمراده في هذه الآية { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } (2) الله أعلم بما أراد.
__________
(1) - سورة الأعراف آية : 54.
(2) - سورة الرحمن آية : 27.(1/607)
يقول: وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية عما علمناه، وهذا من تناقض المفوضة.
إذا كنت، هم الآن ينفون دلالة هذا النص على إثبات الصفة. نعم. يقولون: الله أعلم بمراده، إذا كنت لا تعلم معنى هذا اللفظ لماذا تنفي؟ الذي لا يعلم معنى اللفظ لا يثبت، ولا ينفي يسلم يسكت.
فهذا من تناقض المفوضة أنهم نفوا الصفة الثبوتية، فقلنا لهم: ما دمتم نفيتم هذه الصفة الثبوتية، بمعنى فهمتم معنى هذا اللفظ، أنتم تقولون هذا اللفظ غير مفهوم المعنى.
الشاهد أن هذا من تناقضهم. نعم.
القسمان الواقفان على الصفات
وأما القسمان الواقفان قسم يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة لله ونحو ذلك، وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم.
وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات.
ــــــــــــ
أما القسمان الواقفان فقسم، قسم يعني متردد شاك ما يدري.
يقول: ربما أن المراد هذه الصفة اللائقة به -سبحانه وتعالى- ويحتمل أن يكون لها معنى آخر.
يقول الشيخ: وهذا مذهب كثير من أهل الفقه؛ لأنهم لم يتخصصوا في هذا الأمر.
القسم الثاني الذين يمسكون عن هذا كله وهذا موجود في بعض العباد يعني يكتفي بقراءة القرآن والحديث، ولا يقول مراد ولا غير مراد، ولا تثبت صفة ولا لا يثبت صفة. نعم.
الأصل أن يثبت الإنسان ما ثبت في الكتاب والسنة, وأن يسلم لدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة
فهذه الأقسام الستة لا يمكن الرجل أن يخرج عن قسم منها.(1/608)
والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى فوق عرشه، وتُعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك دلالة لا تحتمل النقيض، وفي بعضها قد يغلب على الظن، ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) } (1) .
ــــــــــــ
نعم؛ والأصل في هذا أن يثبت الإنسان ما ثبت في الكتاب والسنة , وأن يسلم لدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة. نعم ربما قد يكون عند بعض الناس شيء من التردد, وشيء من عدم اليقين؛ وهذا بسبب ضعف الإيمان, وضعف نور الوحيين في قلب هذا الشخص؛ ولهذا قال الشيخ: (وتردد المؤمن بذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان: { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) } (2) ) , فهي منحة وموهبة من الله - عز وجل - نعم.
اللجوء إلى الله عند اشتباه الأمور
ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدعُ بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَامَ اللّيْلَ يصلي يقول: اللّهُمّ رَبّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ. فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِكَ إِنّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وفي رواية لأبي داود: كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك.
فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه, وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين, انفتح له طريق الهدى.
__________
(1) - سورة النور آية : 40.
(2) - سورة النور آية : 40.(1/609)
ــــــــــــ
نعم, وهذا هو الأصل: أن الإنسان إذا اشتبه عليه أمر, أو إذا احتار في شيء, فليلجأ إلى الله - عز وجل - وليدعُ الله - عز وجل - ويكثر من الدعاء أن يهديه للحق؛ أن يهديه للصواب؛ أن يهديه لما اختلف به من الحق كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر المؤلف كما في صحيح مسلم.
وهنا لا بد للمسلم أن يظهر دائما الافتقار إلى الله - عز وجل - . أن يلجأ إليه في كل لحظة؛ لأن الهداية والتوفيق في يده سبحانه وتعالى يقول: فإذا انفتح العبد إلى الله ودعاه وأدمن النظر في كلام الله, وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين, انفتح له طريق الهدى.
إذًا من أعظم أسباب انفتاح طريق الهدى للمؤمن صدق اللجأ إلى الله نعم, وكثرة مطالعة نصوص الوحيين وكلام الصحابة؛ بمعنى أن يعتصم الإنسان بهذا الحد المتين بهذين المصدرين؛ فإن من تمسك بهما عصم بإذن الله من الضلالة والانحراف.
وما ضل أولئك وانحرفوا إلا بسبب أنهم استبدلوا نور الوحيين بتلك الأقيسة, وبتلك الاجتهادات, وبتلك العقول التي عشعش فيها الهوى، نعم.
نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب
ثم إن كان قد خبر نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب , وعرف غالب ما يزعمونه برهانا وهو شبهة, ورأى أن غالب ما يعتمدونه يئول إلى دعوى لا حقيقة لها, أو شبهة مركبة من قياس فاسد, أو قضية كلية لا تصلح إلا جزئية, أو دعوى إجماع لا حقيقة له, أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة.
ــــــــــــ
نعم. يقول: نعم, وإذا كان قد خبر نهاية إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب كيف كانت نهايتهم؟ وكيف أدى بهم ترك الكتاب والسنة وترك الاقتداء بمنهج السلف؛ بمنهج الصحابة -رضي الله عنهم- كيف أغرقوا في هذا الضلال والانحراف؟ وكيف وصل بهم أن وصفوا الله - عز وجل - الذي هو واجب الوجود بنفسه؛ أعظم موجود -وصفوه بأعظم الأشياء امتناعا.(1/610)
يقول: وعرف غالب ما يزعمونه برهانا وهو شبهة. نعم. كثير من القواعد التي يذكرونها, ويزعمون أنها براهين ما هي إلا شبه تتضح بالرد والتفنيد, وممن تصدى لذلك شيخ الإسلام. أوضح وبين أن كل البراهين التي أدلوا بها لتعطيل الخالق عن صفات -ما هي إلا شبه لا حقيقة لها.
رأى أن غالب ما يعتمدونه يئول إلى دعوى لا حقيقة لها؛ بمعنى: دعوى -والدعوى كلّ يدعي- لكن لا بد من برهان لا بد من بينة، أو شبهة مركبة من قياس فاسد؛ ولهذا ذكر شيخ الإسلام أن عام الضلال هؤلاء المتفلسفة والمعطلة أتوا من طريق هذه الأقيسة الفاسدة؛ كونهم يقيسون الخالق على المخلوق, وهذا قياس فاسد, أو قضية كلية، والقضية الكلية: هي الحكم على جميع الأفراد كقولهم مثلا: كل موصوف فهو جسم. لا تصلح إلا جزئية؛ ليس كل موصوف جسم هذا الصحيح.
هم عندهم قاعدة كقضية كلية "كل موصوف فهو جسم" إذن إذا وصفت الله - عز وجل - فقد أثبت أنه جسم. الصحيح أنها جزئية وليست قضية كلية، ليس كل موصوف جسم.
أو دعوى إجماع لا حقيقة له. نعم أحيانا يحكون إجماعات. الشهرستاني والباقلاني أحيانا يقولان: وهذا مما أجمع عليه العقلاء. الرازي دائما: وهذا مما أجمع عليه العقلاء. من قال لك؟! هذا قولك وقول فلان وعلان. قولك وقول الجويني وقول الباقلاني -لكن يخالفك جمهور العقلاء.
أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة. أحيانا يأخذون بعض الألفاظ المشتركة -الألفاظ الموهمة, فيتمسكون بجزء منها زعما أنها تدل على هذه المسألة, وفي الحقيقة أنها لا تدل على هذه المسألة, وأحيانا يتمسكون في المذهب بقول إمام لهم يقولون: قوله هذا يدل على هذا الأمر, وهو في الحقيقة إذا نظرنا كلامه مجتمعا, ونظرنا سياق كلامه, ونظرنا مورد كلامه -وجدنا أن كلامه لا يدل على ما استدل به هذا الشخص. نعم.
الضد يُظهر حسنه الضد(1/611)
ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف اصطلاحهم, أوهمت الغِر ما يوهمه السراب للعطشان, ازداد إيمانا وعلما بما جاء به الكتاب والسنة, فإن الضد يُظهر حسن الضد , وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما, وبقدره أعرف.
ــــــــــــ
نعم. هم اعتمدوا على هذه الألفاظ الفضفاضة، هذه الألفاظ الطويلة نعم التي لبّسوا بها على بعض الناس؛ ولهذا يقول الشيخ: إذا رآها من لم يعرف اصطلاحهم أوهمت الغِرّ الذي هو يغفل؛ جاهل نعم ما يوهمه السراب للعطشان، يتوقع أن هذا السراب ماء فإذا جاءه لم يجده شيئا. يتوقع أن هذا فعلا براهين, وأن هذه قواعد كلية, وأن هذه قواعد عقلية مسلمة, وهي في الحقيقة لا شيء، أوهام، شبه.
"ازداد إيمانا" هذا جواب قوله: ثم إن كان قد خبر نهايات إقدام العقول ازداد إيمانا. هذا جواب ازداد إيمانا وعلما بما جاء به الكتب والسنة, فإن الضد يظهر حسن الضد, وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيما وبقدره أعرف. نعم.
موقف الناس تجاه علم الكلام
فأما المتوسط من المتكلمين فيخاف عليه ما لا يخاف على من لم يدخل فيه, وعلى من قد أنهاه نهايته, فإن من لم يدخل فيه فهو في عافية, ومن أنهاه قد عرف الغاية, فما بقي يخاف من شيء آخر, فإذا ظهر له الحق وهو عطشان إليه قَبِلَهُ، وأما المتوسط فمتوهّم بما تلقاه من المقالات المأخوذة تقليدا لِمُعَظّمِه وتهويلا.
ــــــــــــ
نعم. هذا موقف الناس عموما تجاه علم الكلام ثلاثة أقسام: قسم لم يدخل في هذا العلم؛ فهو في عافية, وهو أغلب الناس ولله الحمد والمنة. وقسم دخل فيه, وبلغ نهايته وتبين له.... أيش؟ أنه لا يهدي إلى حق, وأنه كالجاري خلف السراب, وذكر الشيخ في أول الكتاب أمثلة لبعض أساطين من هؤلاء؛ فالجويني هو القائل أو المتمثل بـ:
سيرت طرفي بين تلك المعالم على ذقن أو قارعا سن نادم لعمري لقد طفت المعاهد كلها فلم أرى إلا واضعا كف حائر(1/612)
. الرازي هو القائل أو المتمثل بقول الشاعر:
وأكثر سعي العالمين ضلالُ وغاية دنيانا أذى ووبال سوى أن جمعنا فيه قيل وقال نهاية إقدام العقول عقال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا, ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ اقرأ في الإثبات: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } (1) { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } (2) واقرأ في النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (3) { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) } (4) .
"ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي" أقروا واعترفوا أنهم لم يجدوا من هذا الطريق الحقَّ الذي كانوا ينشدون, بل إن الجويني -وهو من هو الجويني؟!- مِن أكثر من خاض في غمار علم الكلام يقول: اشهدوا عليّ أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة, وأني أموت على عقيدتي, أو على ما يموت عليه عجائز نيسابور. ونقل عنه رحمه الله أنه قال: قرأت خمسين ألفا في خمسين ألف، هو أَكَثَرَ من القراءة وأدمن في القراءة, ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم وعلومهم, وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق, وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد, والآن قد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز, فإن لم يدركن الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص لا إله إلا الله, فالويل لابن الجويني.
وقال وهو يوصي أصحابه في آخر حياته: يا أصحابنا لا تشتغلوا في الكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به.
الغزالي يقول: أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام.
__________
(1) - سورة طه آية : 5.
(2) - سورة فاطر آية : 10.
(3) - سورة الشورى آية : 11.
(4) - سورة طه آية : 110.(1/613)
فهذا اعتراف هؤلاء الذين وصلوا إلى نهاية هذا البيان؛ ولهذا بعضهم رجع. الجويني فُهِمَ من كلامه هذا أنه رجع إلى دين العجائز. الغزالي مات وصحيح البخاري على صدره.
لكن المشكلة القسم الثاني وهم المتوسطون الذين دخلوا في هذا العلم لم يبلغوا غايته؛ فيتبين لهم أنهم ليسوا على طريق الحق, ولم يسلموا كما سلم أصحاب القسم الأول؛ ولهذا قال الشيخ: (وأما المتوسط فمتوهم بما تلقاه من المقالات المأخوذة تقليدا لمعظِّمه وتهويلا) بمعنى مُغترّ بهذه الكلمات وهذه المقدمات وهذه العقليات؛ ولهذا يستمر في هذا الباطل إلى أن يلقى الله - عز وجل - . نعم.
ما قيل في علماء الكلام
وقد قال الناس: أكثر ما يفسد الدنيا: نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان.
ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في الغالب في قول مختلف، يؤفك عنه من أفك، يعلم الذكي منهم والعاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حجته ليست ببينة وإنما هي كما قيل فيها:
حقا وكل كاسر مكسور حجج تهافت كالزجاج تخالها
ويعلم العليم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي - رضي الله عنه - حيث قال: حُكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر, ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.(1/614)
ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القَدَرِ والحيرةُ مستولية عليهم, والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم وترفقت عليهم. أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهوما وما أعطوا علوما، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة: { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) } (1) .
ــــــــــــ
نعم يعني النظر إلى هؤلاء المتكلمين ينظر إليهم من جهتين:
إن نظرت إليهم بعين الشرط -نعم كما قال المؤلف- رأيت أنهم مستحقون لما قاله الشافعي : حكمي بأهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال بمعنى أن يؤخذ على أيديه, ويؤثر على الحق ويمنع من باب إنكار المنكر ومن باب التعاون على البر والتقوى. هذا إذا نظرت إليهم بعين الشرط.
__________
(1) - سورة الأحقاف آية : 26.(1/615)
أما إن نظرت إليهم بعين القدَر؛ بمعنى أن الله - عز وجل - كتب عليهم هذا الأمر وقدر عليهم هذا الأمر يقول: إذا نظرت إليهم بعين القدر والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم -رحمتهم ورفقت عليهم. أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء؛ أعطاهم الله - عز وجل - ذكاء أعطاهم عقول -لكنهم لما استخدموها في غير ما خلقت له صارت وبالا عليهم. أعطوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء صلاحا وتقى, هذا الذكاء هذا العقل إن لم يحكم بالصلاة إن لم يحكم بالعلم الشرعي إن لم يحكم بالتقى عاد وبالا على صاحبه؛ ولهذا هؤلاء أعطاهم الله ذكاء -أذكياء على جانب كبير من العقل؛ ولهذا إذا قرأت في كلامهم وما سطّروه وما قعدوه تتعجب كيف يخفى عليهم الحق؟! بل كما ذكر شيخ الإسلام عن الرازي أنه أحيانا يذكر الأقوال في هذه المسألة عشرات الأقوال أقوال الناس, والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره، وهو صاحب عقلية على مستوى كبير جدا من الذكاء لكنه لم يؤت زكاؤه, وأعطوا فهوما؛ أعطاهم الله - عز وجل - فهما -لكنهم لم يعطوا علوما، استخدموا هذا الفهم في غير العلم الشرعي. العلم ليس كل ما قرئ وكل ما كتب.
قال الصحابة هم أولي العرفان وما سوى ذاك وسواس الشياطين العلم قال الله قال رسوله العلم ما قال فيه حدثنا
هذا هو العلم الشرعي, فلوا استخدموا عقولهم في هذا العلم لأعطاهم الله - عز وجل - الذكاء, وأعطاهم الله - عز وجل - الفهم, وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة، لكنهم لم ينتفعوا بذلك؛ السبب: { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) } (1) .
__________
(1) - سورة الأحقاف آية : 26.(1/616)
والله - عز وجل - أخبر أنه قال: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } (1) ما السبب؟ { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } (2) لما جاءهم الحق ردوا؛ فأعقبهم هذا الضلال وهذا الانحراف, علما أنهم كانوا حريصين على الحق، حريصين على تنزيه الله - عز وجل - لكنهم حرموا من هذا الأمر؛ والسبب أن الحق لما جاءهم أول ما جاءهم ردوه وما قبلوه.
وبناءً على هذا يخشى المؤمن على نفسه أو يخشى الإنسان على نفسه إذا جاءه أمر الله أو أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ورده بسبب شبهة أو بسبب هوى -أن يعقبه الله - عز وجل - نفاقا لا يعود إليه الإيمان بعد ذلك.
ثم قال: (ومن كان عليما بهذه الأمور تبين له بذلك حذق السلف, وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه وذموا أهله وعابوهم, وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد إلا بُعدا) بمعنى من عرف هذا الأمر تبين له أن السلف لما نهوا عن الدخول في علم الكلام, وذموا أهله, وبينوا خطر هذا العلم؛ كل ذلك لأجل ماذا؟ لأجل أن يخشى على الإنسان الضلال والانحراف, وهو لا يدري.
ثم قال: فنسأل الله العظيم أن يهدينا الصراط المستقيم الذين أنعم عليهم { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } (3) آمين.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يغفر لشيخ الإسلام, وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير جزاء, وأن يرفع درجته في المهديين, وأن يحشرنا وإياه في زمرة الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا, وسبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
__________
(1) - سورة الأنعام آية : 110.
(2) - سورة الأنعام آية : 110.
(3) - سورة الفاتحة آية : 7.(1/617)