قال شيخ الإسلام رحمه الله (فَصْلٌ : وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
(وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ)
الأصول : جمع أصل ، والأصل المراد به في هذا الموضع : القاعدة ، يعني من قواعد أهل السنة والجماعة (سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ) لأن الأصل يطلق على أشياء :
منها أن يقال الأصل في المسألة كذا وكذا يعني الدليل ، أصل المسألة الكتاب والسنة يعني دليل المسألة من الكتاب والسنة .
أو يأتي الأصل ويراد به القاعدة المشتهرة كما تقول :الأصل في العقود كذا ، الأصل في العبادات أنها موقوفة على الدليل ، الأصل في المعاملات أنها متروكة لعرف الناس ما لم يأت دليل بتحريم نوع من أنواع المعاملة ، فهذا معناه القاعدة المشتهرة التي ترجع إليها هذه المسألة .
ويأتي الأصل ويراد به ما يقابل الفرع ، كما عرَّفوا القياس بقولهم (الحاق فرع بأصل لِعِلَةٍ جامعة بينهما) .
فقول شيخ الإسلام هنا (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ) يعني من قواعدهم في الاعتقاد ، من القواعد عندهم في الاعتقاد التي تجمع مسائل كثيرة
(سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)
والأصحاب ، أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ(هم الذين صحبوه ورأوه مؤمنين به وماتوا على ذلك) .
والصحيح : ولو تخللت ذلك ردة فإنهم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.(2/159)
وأصل الصاحب في اللغة هو الملازم ملازمة طويلة ، يقال هذا صاحِبُ ذاك إذا لازمه ملازمة طويلة فسواء كانت تلك الصحبة لحي أو لجماد فإن الملازمة الطويلة يقال لها صُحبة ولمن فعلها صاحب كما قال جل وعلا { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } قيل لهم أصحاب الكهف لأنهم لازموه ملازمة طويلة { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يعني الذين سيلازمونها ملازمة طويلة قد يكون فيها خلود أبدي وقد تكون ملازمة طويلة دون خلود ، كذلك في قوله { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ونحو ذلك من الآيات .
لكن في حق الصحابة رضوان الله عليهم خُرِجَ عن الأصل اللغوي وهو أن الصحبة هي الملازمة الطويلة ، لأن الصحبة هي من رأى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مؤمنا به ولو كانت الصحبة قليلة ولو ساعة من نهار ، لأن من حضر خطبة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ خطبة الوداع يوم عرفة أولئك مائة ألف هم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وكذلك من أدرك ما دون ذلك إذا كان رآه في اليقظة مؤمنا بالنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ومات على ذلك الايمان فإنه صاحب من أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
فأولئك الذين ينطبق عليهم ذلك التعريف هم الذين لهم هذا الحق الذي جاء مُبيناً في هذا الكلام لشيخ الإسلام رحمه الله .
قال (مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ)
أما سلامة القلوب يعني من الغل والحقد والحسد ونحو ذلك مما يكون من أعمال القلوب المحرمة التي لا يجوز لمسلم أن يَغُلَّ عليها قلبه .(2/160)
قال (سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ) يعني أن تكون قلوبهم سليمة لأصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من محرمات أفعال القلوب كالظن السيء والحقد والغل والحسد إلى غير ذلك من الصفات المذمومة.
وهذا قاله شيخ الإسلام رحمه الله لأن الأصل فيه قول الله جل وعلا { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } وكذلك قوله في ما ذَكَرَ من آية سورة الحشر { وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا } فهنا ذَكَرَ الغل وهو مما يكون في القلوب ، وفي آية سورة الفتح قال { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } فالغيظ الذي يكون في القلب وفيه الكراهية وفيه الحقد وفيه الحسد إلى غير ذلك ، هذه كلها مما يجب أن تنزه القلوب عنه .
فقوله هنا (سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ) هذا أصله الأدلة من الكتاب والسنة ، وهو أصل أصيل ، ذلك أن من كان قلبه غير منطوٍ على محبة أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أو كان قلبه منطويا على انتقادهم أو على تخطئتهم أو على بغض أحد منهم أو على حسدهم أو على عدم موافقتهم على بعض أفعالهم فإنه يكون قد اشتمل قلبه على شيء ليس بسليم .
فالواجب أن تكون القلوب سليمة لا تظن بالصحابة إلا خيرا ولا تعْقِد في حق الصحابة إلا أن يكونوا هم أحق هذه الأمة بالمحبة والنصرة وقد قال جل وعلا { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } وأعلى المؤمنين ايمانا هم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.(2/161)
فالمؤمن ولي المؤمنين ، قال { أولياء } { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } والوَلاية هي المحبة والنصرة ، والمحبة في القلب ، فمن كان في قلبه شيء من البغض لبعضهم أو شيء من الغل لبعضهم أو من التغيظ لهم فإنه ليس مواليا لهم بل هو عدو لهم مضاد .
فإذن هذا هو الأصل الأول أن تكون القلوب سليمة .
ثُمَّ أن تكون الألسنة سليمة في حق أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، سليمة من عيبهم ومن انتقادهم ومن القدح فيهم ، ومن ذكرهم بغير الجميل وبغير الخير فإنهم هم العُدُول الذين أثنى الله جل وعلا عليهم ، وإن صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْهم الذين أثنى الله عليهم ومن أثنى الله عليه ورضي عنه فإن من تعرَّضَهُ بلسانه فإنه مخالف لما جاء في حقه من الإكرام والتعديل والرِّفعة في كتاب الله جل وعلا وفي سنة رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
ومن دلائل هذا الأصل وهو سلامة الألسنة حال الذين ذكرهم الله جل وعلا في قوله { وَالَّذِينَ جَاؤُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا } (إخواننا) هم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، فالذين جاءوا من بعد الصحابة يقولون { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } وهذا مورِدُهُ اللسان ، قالوا ذلك لأن ألسنتهم لا تقول عن الصحابة إلا الجميل ، ثم قال { وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا } وأولئك هم الصحابة رضوان الله عليهم ، وإذا لم يكن في القلب غِلْ فإن اللسان سالم ، والألسنة كما هو معلوم مَغارِفٌ للقلوب .
وهذا أصل عام في أن أهل السنة والجماعة لا يذكرون الصحابة رضوان الله عليهم إلا بالجميل.(2/162)
الصحابة درجات والصحابة طبقات ومراتب وهذا يأتي إن شاء الله .
فتوليهم رضوان الله عليهم ، توليهم تولي مطلق لجميع الصحابة مع اعتقاد أنهم ليسوا في الفضل سواء بل هم متفاضلون بعضهم أفضل من بعض .
ويتبع ذلك أن محبة أفاضل الصحابة ليست كمحبة أدناهم مع أن الجميع مشتركون في المحبة والنصرة وتوليهم وسلامة القلب واللسان في حقهم لكن من كان في أعلى المراتب منهم له حق أعظم وله الوَلاية يعني أن يُتولى أعظم من غيره .
وأعلى هذه الأمة وأعظم هذه الأمة مرتبة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر ثم عثمان ثم علي فيتبع موالاة هؤلاء أن من ذكرهم بغير الجميل ، من ذكرهم منتقدا فإن موالاة أولئك الصحابة تقتضي أن يُقامَ في نُصْرَتِهِم وأن يُجَرَّد اللسان والقلم ويُذَب عنهم لأنهم سادات المؤمنين وهم أفضل هذه الأمة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ }(2/163)
وجه الاستدلال من هذه الآية أن هؤلاء أثنى الله عليهم ، والذين جاءوا من بعدهم ، ذكرهم الله جل وعلا بهذا الوصف في أثناء كلامه على من يستحق الفَيْءْ في سورة الحشر فقال إن ممن يستحق الفَيْءْ هؤلاء الذين جاءوا من بعدهم ، فالصحابة لهم حق في الفيء والذين جاءوا من بعدهم لهم حق بالفيء ، وهذا ثناء من الله جل وعلا على هؤلاء الذين سَلِمت قلوبهم وألسنتهم لصحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فكان من جملة دعائهم أنهم قالوا { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } وقوله في آخرها { إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } هذا في مقام التعليل يعني أنهم علَّلُوا هذا الذي قالوه ، وهو رجاء إجابة الله جل وعلا دعاءهم بأن الله جل وعلا رؤوف رحيم .
والرأفة أشد الرحمة ، هي أعلى درجات الرحمة هي الرأفة ، فكل رؤوف رحيم وليس كل رحيم رؤوفاً .
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالمؤمنين رؤوف وبالمؤمنين رحيم ، والله جل وعلا هو الرؤوف الذي له بعباده المؤمنين وبغيرهم الرأفة العظيمة والرحمة العامة وكذلك الرحمة والرأفة الخاصة فهو جل وعلا الرؤوف بعباده وهو الرحيم بهم .
وهذا من المناسب أن يجعل العبد في دعائه من الأسماء الحسنى ومن الصفات ما يناسب سؤاله ، قال شيخ الإسلام بعد ذلك :
(وَطَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْفِي قَوْلِهِ: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ")(2/164)
هذا الحديث حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما له قصة وهو أن خالد بن الوليد سابَّ عبد الرحمن بن عوف وتعرَّض لعبد الرحمن بن عوف بشيء من المسبة فاطَّلَعَ النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك فقال هذه المقالة ، قال (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ) .
والمقصود بقوله هنا (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي) يعني الذين سبقوا إلى الصحبة لأن خالدا من الصحابة أيضا لكنه لما سبَّ عبد الرحمن بن عوف ، وعبدالرحمن من السابقين الأولين ومن العشرة المبشرين بالجنة فإنه تعرّض - خالد تعرض - لخاصة أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حتى كأن هذا الوصف بقوله (أَصْحَابِي) ليس إلا لهؤلاء الأولين .
قال (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ) يدخل فيه الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا ، يعني من أسلم متأخرا وكان من الصحابة فإنه ليس في المرتبة مثل من كان من السابقين الأولين .
قال عليه الصلاة والسلام فيمن تأخر إسلامه من الصحابة (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا لم يبلغ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ) إذن هي في حق التفضيل بين من أسلم متأخرا وبين من أسلم متقدما ، وهذا إذا كان في حق أولئك فهو في حق من ليس له مقام الصحبة من باب أولى .(2/165)
ولهذا العلماء يستدلون بهذا الحديث لما في عموم قوله (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي) على أن مسبة الصحابة رضوان الله عنهم منهي عنها وأنهم - أعني الصحابة - يجب أن تسلم القلوب وتسلم الألسنة في حقهم ، وأن من بعدهم لو أنفقوا مثل أحد ذهبا لم يبلغ مد الصحابي حتى لو كان من مسلمة الفتح ، ولو كان من مُسْلِمَة حجة الوداع ، يعني من المتأخرين ، فإنه لن يبلغ الآخر - يعني من أتى بعدهم - مقام الصحابي الواحد .
وقد قال بعض السلف (لَمُقامُ أحدِهم ساعة مع رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ خير من الدنيا وما فيها) فكانت لهم سابقة الصُّحبة ، وكانت لهم سابقة النُّصرة فلهم حق أن تسلم القلوب والألسنة من التعرض لهم إلا بالجميل .
(مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ) يعني لو تصدق بالمد فإن من هو غير الصحابة أو المتأخر من الصحابة مع من تقدم - لن يبلغ بِأُحُدٍ ذهبا لو كان لَهُ - ما يبلغه مد أحد الصحابة ولا نصيف ذلك يعني ولا نصف ذلك المد ، وهذا لما لهم من السابقة والنُصْرَة .
قال شيخ الإسلام (وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ)(2/166)
أما ما جاء في الكتاب والسنة فظاهر أن الكتاب والسنة فيها التفريق بين الصحابة ، وأن الصحابة مراتب ، وأنهم ليسوا في الفضل ولا في المرتبة سواء مع أن الجميع أثنى الله جل وعلا عليهم بقوله { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا } إلى قوله في آخر الآية { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } فهذه في جميع الصحابة في حق كل الصحابة لقوله في أولها { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } قال في آخرها { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم } وهم كذلك جميعا { مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } .
وقوله هنا { مِنْهُم } { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم } (مِنْ) ههنا بيانية ليست تبعيضية ولا ابتدائية ، والمخالفون من الروافض والخوارج والنواصب يزعمون أن (مِنْ) ههنا تبعيضية كقولك (الدراهم من الفضة) أو (الأربعة من العشرة) يعني بعض العشرة ، أو (فلان من آل فلان) يعني أنه مِنْ بعضهم .
وهذا ليس بصحيح بل إن المتقرر في لغة العرب أن (مِنْ) لها استعمالات كثيرة فإن (مِنْ) تأتي على أنحاء كما قرر ذلك علماء العربية وخاصة في كتب حروف المعاني ، فـ (مِنْ) لها عدة استعمالات ومن استعمالاتها :
" أن تأتي للابتداء .
" وأن تأتي للتعليل .
" وأن تأتي للتبعيض .
" وأن تأتي للبيان .
وقد قال المرادي في نظمه لبعض حروف المعاني ، في معاني (مِنْ) قال :
أتتنا مِنْ لتبيين وبعض ... وتعليل وبدء وانتهاء
وزائدة وإبدال وفصل ... ومعنى عن وعلى وفي وباء(2/167)
فذكر اثني عشر معنى لـ (مِنْ) ، وابتدأ ذلك بقوله (أتتنا مِنْ لتبيين) يعني للبيان (وبعض) ، فهذا يدل على أن كون (مِنْ) في الأصل للبيان أنها مقدمة على كونها للتبعيض .
فـ (مِنْ) ليس المراد بها أنها تبعيضية بل (مِنْ) تأتي لمعاني كثيرة ومنها البيان والتبعيض والابتداء إلى غير ذلك .
فقوله جل وعلا في آية الفتح { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم } يعني هذا بيان يعني منهم لا من غيرهم لأنه قال في أول الآية { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } و (الذين) من الأسماء الموصولة وهي تعم جميع من كان معه عليه الصلاة والسلام وهم أصحابه رضي الله عنه .
قال (وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ)
فضائل الصحابة في القرآن كثيرة وكذلك مراتب الصحابة ، فالقرآن فيه ذكر المهاجرين وذكر الأنصار وذكر من أسلم وأنفق من بعد الفتح ومن أسلم وأنفق من قبل الفتح وفيه ذكر أهل بدر وفيه ذكر لأهل أحد ولم يسوَّ بينهم في القرآن .
قال جل وعلا مَثَلاً { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } فذكر صفة الهجرة وذكر صفة النصرة :
- والمهاجرون هم من هاجر من مكة إلى المدينة من قبل الفتح - يعني فتح مكة - .
- والأنصار هم من نصر النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ْمن الأوس والخزرج .(2/168)
قال العلماء : تقديم المهاجرين على الأنصار في النصوص من الكتاب والسنة يدل على أن مرتبة المهاجرين أرفع من مرتبة الأنصار وهذا مراد شيخ الإسلام بقوله (مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ) كذلك قوله جل وعلا { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } ونحو ذلك من الآيات التي فيها بيان الفضل وبيان مراتب أولئك ، وقد قال جل وعلا أيضا { لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } وهذه الآية وغيرها أصل في أن الصحابة على مراتب .
قال العلماء : إن الصحابة مراتبهم تبلغ بضعة عشر مرتبة كما ذكر ذلك علماء المصطلح في مبحث الصحابي ، يعني قد تبلغ خمسة عشر مرتبة أو سبعة عشر مرتبة ، بضعة عشر مرتبة .
وهذا بحسب الحوادث ، وهذا يعنون به :
" أن أول من أسلم والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لم يُبْعَثْ رسولا أن هذا مُقَدَّم .
" ثم من أسلم بعد بَعْثِهِ رسولا .
" ثم من أسلم قبل الجهر بالإسلام .
" ثم من أسلم قبل الهجرة إلى الحبشة .
" ثم من أسلم بعد الهجرة .
" ثم من أسلم قبل العقبة الأولى .
" ثم قبل العقبة الثانية ، وهكذا فيقال فلان مثلا عَقَبي يعني من أهل العقبة الأولى .
" ثم من أسلم قبل الهجرة .
" ثم من أسلم قبل بدر يعني أهل بدر .
" ثم أهل أحد .
إلى آخره فيمكن أن تُجْعَلْ مراتب كثيرة .
ومراتبهم من حيث الإجمال :
" الأولى : المهاجرون .
" والثانية : أهل بدر .
" والثالثة : الأنصار .
" والرابعة : من أسلم قبل الفتح .
" ثم من أسلم من بعد الفتح .
هذه مراتب مجمله لهم ، والمهاجرون إذا أردنا التفصيل :(2/169)
" فأولهم وأفضلهم العشرة الذين بشرهم النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالجنة في مجلس واحد ، وهم على الترتيب الذي جاء في الحديث وأولهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي إلى آخر العشرة .
" ثم من أسلموا مبكرا من المهاجرين وأفضل ممن أسلم متأخرا .
" ثم من حضر بدر أفضل ممن لم يحضر بدر .
" ثم الأنصار ، إلى آخر ما ذكرنا .
فلهم مراتب ومن حضر بيعة الرضوان بيعة الشجرة ، هذا مفضل أيضا على من لم يحضرها لأن الله جل وعلا ذكر ذلك بقوله { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } ، ولهذا قال شيخ الإسلام بعدما ذكرنا :
(وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ -وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ- وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ)
وهذا لأجل آية سورة الحديد ، قال جل وعلا { لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } .
والمراد بالفتح هو الصلح ، صلح الحديبية ، لأنه هو الفتح وقد نزلت سورة الفتح { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا } بعد صلح الحديبية وذلك لأن ذلك الصلح العظيم جعل الله جل وعلا به فتحاً عظيماً وصار للمؤمنين بذلك الصلح من المصالح العظيمة ومن انتشار الإسلام ومن قوة المسلمين ومن هيبتهم وظهورهم على عدوهم ما جعل ذلك فتحا مبينا كما وصفه الله جل وعلا بذلك بقوله { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا } .
وقوله { فَتْحًا مُّبِينًا } المُبين هو البَيِّن الظاهر في نفسه والمُبِينُ أيضا لغيره ، فكونه فتحا بيِّنْ واضح ظاهر وأيضا هو مبين لغيره من الأشياء ، من الفتوح وتبعه فتح خيبر وتبعه فتح مكة .(2/170)
فالمقصود بقوله { لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } أن هذا الفتح هو صلح الحديبية كما فسرها الصحابة رضوان الله عليهم ، فصلح الحديبية كان فتحا كما ثبت ذلك عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قيل له في الحديبية أهو فتح ؟ قال (نعم) .
وكذلك فتح خيبر فتح ، أو فتح مكة هو فتح ، لكن أعظم تلك الفتوح ذلك الفتح الذي لم يحصل فيه قتال وهو صلح الحديبية قال هنا :
(وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ)
وسبب التفضيل ما جاء في الآية ، وسبب ذلك أن ما قبل الفتح كان المسلمون في شدة وضيق ، ضيق من جهة الأموال وأيضا من جهة النصير ، فكان عَدِيْدُ أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قليل ، الذين بايعوا تحت الشجرة كانوا بين ألف وأربعمائة وألف وخمسمائة ، وهذا عدد قليل إذا قيس بمن دخل مكة يعني من كان مع النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في فتح مكة .
فما بعد صلح الحديبية كَثُرَ الذين دخلوا في الدين ، دخل خالد بن الوليد وأبو هريرة وجماعات من الصحابة الذين اشتهر أمرهم ، لكن ما قبل الفتح كانت الحاجة ، حاجة المسلمين وحاجة الدين إلى النصرة والقتال وبذل الأموال عظيمة ، فلهذا من بذل في ذلك الوقت الذي كانت الحاجة فيه عظيمة والأعداء أكثر والقتال - قتال تلك القلة - أعظم ، كان مفضلا على من أنفق من بعد وقاتل ، وكما قال جل وعلا { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ } .
قال (وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ)
المهاجرون هم من هاجروا من مكة إلى المدينة ، فالمهاجر اسم فاعل الهجرة .
والهجرة هي ترك مكة إلى المدينة ، فمن ترك مكة من أهلها إلى المدينة هؤلاء هم الذين يُطلَق عليهم المهاجرون ، فالهجرة وصف .(2/171)
والأنصار جمع ناصر والمراد بهم الأوس والخزرج ويقال لهم بنو قَيْلَهْ ، لأن قَيْلَةَ أمٌّ لهم تجمع بين هذين الفيصلين ، هم الأوس والخزرج يَلُونَ المهاجرين .
يقدم أهل السنة المهاجرين على الأنصار ، دليل التقديم أن الله جل وعلا قدَّمَهُم في القرآن وإذا كان ثَمَّ أوصاف وقُدِّمَتْ إحدى الصفات على غيرها فإنها تقتضي أن صاحب هذه الصفة مفضل على غيره ... (1)
أنها في القرآن مقدمة ، لأنهم في القرآن مقدمون ، ولما حصل الخلاف في سقيفة بني ساعدة وكان ما كان من التَرَادِّ في القول والخلاف الذي حصل ، قال أبو بكر رضي الله عنه (إن الله جل وعلا قدَّمَ المهاجرين وهم السابقون إلى الإسلام فنحن الأمراء وأنتم الوزراء) وهذا أصل من أصول الفهم أيضا لتقديم المهاجرين في الجملة على الأنصار .
وإذا قلنا إن المهاجرين مقدمون على الأنصار المقصود به تقديم النوع على النوع .
فأهل السنة في هذا الترتيب والمراتب التي ذكرنا تفضيل النوع على النوع ، أما تفضيل الفرد من هؤلاء على الفرد من أولئك فهذا لا يكون إلا بنص ، يعني الأصل في المهاجرين أنهم أفضل من الأنصار ، قد يكون الواحد من الأنصار أفضل من واحد من المهاجرين لكن من حيث النوع فإن المهاجرين أفضل .
وهذه قاعدة خذها - يعني في جميع مراتب الصحابة - نقول :
- أهل بدر أفضل من أهل أحد ، المقصود بها في الجملة .
- أهل أحد أفضل ممن أسلم بعد ذلك ، المقصود بذلك الجملة .
- السابقون من المؤمنين إلى الإسلام أفضل ممن أسلم بعدهم ، المقصود بالجملة .
أما عند الله جل وعلا هل كل فرد من أولئك أفضل من الفرد من الطائفة الأخرى ؟
هذا لا يُجْزَمْ به وإنما نقول هؤلاء أفضل من أولئك والأصل أنه - يعني من حيث القاعدة العامة - أن كل واحد من أولئك أفضل من كل واحد ممن هم في المرتبة بعدها .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(2/172)
لكن إذا أتى التعيين فإن أهل السنة لا يعينون ، يذكرون النوع ويفضلون نوعا على نوع ولا يعينون ، كما يقولون بأن التابعين أفضل من تَبَعْ التابعين وأن القرون الثلاثة أفضل ممن بعدهم وهذا لا يعني أن يكون واحد أو اثنين أو أكثر ممن بعدهم أفضل من الواحد من التابعين لكن المقصود تفضيل النوع على النوع ، قال شيخ الإسلام :
(وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ -وَكَانُوا ثَلاثَ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ-: "اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"
هذا جاء في الحديث الصحيح المروي من طرق أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال في قصة حاطب وفي غيرها قال (وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وهذا روي بقوله (لعل الله اطَّلَع) وأيضا رُوِيَ بقوله (إن الله اطَّلَعَ إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ولَعَلَ الأرجح من اللفظين هو اللفظ الثاني وهو قوله (إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) كما رُجِّحَ ذلك من حيث الرواية ، مما يبسط لبيانه محل آخر .
المقصود من ذلك أن هذا ثابت في قصة حاطب وفي غيره ، وقد قال عليه الصلاة والسلام (إن الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) قوله هنا (اعملوا ما شئتم) هذا من باب التكريم :
- والأمر يأتي ويراد به الإنفاذ يعني أن تُنَفِّذَ الأمر مثل ما أقول افعل كذا (اكتب)
- ويأتي الأمر لمعان أخرى غير إرادة امتثال المأمور ، ومنها أن يكون للتكريم ومنه قوله هنا { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ }(2/173)
- ويأتي ويراد به الإهانة كما في قوله { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } في سورة فصلت قال جل وعلا { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قوله { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } هنا للتهديد ، كقوله { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } هذا كله للإهانة وللتهديد .
أما قوله لأهل بدر (اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) هذا للتكريم .
وقوله (قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) هل هي مغفرة في الدنيا والآخرة جميعا أم مغفرة في الآخرة ؟
الأظهر أنها مغفرة في الآخرة ، وأما في الدنيا فإنه إذا عمل الواحد منهم ما يوجب عقوبةً عليه ، - يعني عقوبة شرعية من حد أو تعزير أو نحو ذلك - أُخِذَ به كما عليه عمل الخلفاء الراشدين ، فقوله (اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) يعني انهم وإن وقعت منهم ذنوب فإنه مغفور لهم والله جل وعلا ذكر أو قال في قصة حاطب بن أبي بلتعة لما حصل منه ما حصل من إفشاء سر رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهو من أهل بدر قال الله جل وعلا في شأنه { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } وحاطب كان بدريا ولأنه من أهل بدر وهم مغفور لهم كان ذنبه ذاك مغفورا ، لكن من يحصل منه شيء مما يوجب عقوبةً أو حداً أو عزلاً أو مؤاخذة فإن الصحابة آخذوا أهل بدر ولهذا تفسير قوله (فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) يعني في الآخرة .
قال العلماء : معنى ذلك أنهم يُوَفَّقُون لما به تُغفر ذنوبهم إما بمصائب تحصل لهم وإما بحسنات ماحية وإما بابتلاء يحصل لهم أو نحو ذلك من مكفرات الذنوب وما به يغفر الله جل وعلا ذلك .(2/174)
ومما يغفر الله جل وعلا به - يعني من أسباب المغفرة - مغفرته جل وعلا بدون سبب وهذا إذا لم يحصل للعبد أشياء مما يُغْفَرُ به وتُستَرُ الذنوب وتُغْفَرُ به السيئات فإن الله يمن على أهل بدر بمغفرته لهم جل وعلا ، قال شيخ الإسلام بعد ذلك :
(وَبِأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)
وهذا مأخوذ من الآية ، قال جل وعلا { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } قال العلماء : قوله { لَقَدْ رَضِيَ } هذا فيه رضاه جل وعلا عنهم أبدا ، وإذا كان رضي عنهم أبدا فإنهم لا يستحقون دخول النار ، وتَأَيَّدَ هذا الفهم بما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (لا يدخل الجنة أحد بايع تحت الشجرة) أو كما ضَمَّنَ ذلك الحديث شيخ الإسلام في هذا المقطع ، قال :
(كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)
يعني في الحديث الذي ذكرت لكم (بَلْ لَقَدْ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ ماِئَة) هم كانوا بين ألف وأربعمائة وألف وخمس مائة يعني عدد بين هذا وذاك قال بعد ذلك
(وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كَالْعَشَرَةِ، وَثَابِتِ بْنِ قِيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وَغَيْرِهِم مِنَ الصَّحَابَةِ)
الشهادة بالجنة لجنس الصحابة هذه ثابتة ، نشهد للصحابة بالجنة ، لكن للمعين منهم لا بد من شهادة خاصة له خاصة لأن الشهادة له بالجنة موقوفة على ما كان عليه في خاتمة أمره ، وما يكون عليه في خاتمة أمره ، يعني حين مفارقة الروح البدن هذا عِلمُهُ عند الله جل وعلا .(2/175)
ولهذا الشهادة للمعين لا بد فيها من نص ، للمعين بالجنة وللمعين بالنار ، فمن شهد له رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالجنة فإنه يُشهد له .
فمن أولئك الذين شهد لهم رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالجنة العشرة ، ويقال عنهم العشرة المبشرون بالجنة ، وليس المراد بذلك التخصيص أنهم هم المبشرون وغير أولئك ليس بمبشر لكن أولئك قيل لهم مبشرون بالجنة لأنهم بُشِّروا بالجنة في مجلس واحد .
كان النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ْفي حائط فقال لمن معه ايذن لفلان ايذن له وبشره بالجنة ، فكان الداخل أبا بكر ، ثم قال ايذن له وبشره بالجنة فكان الداخل عمر ثم قال ايذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه فكان الداخل عثمان ثم تتابعوا ، كذلك في حديث واحد قال عليه الصلاة والسلام (أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وعبدالرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة وطلحة بن عبيد الله في الجنة) إلى آخر العشرة.
فهؤلاء بُشِّرُوا في مجلس واحد فأطلق عليهم أهل السنة أنهم المبشرون بالجنة يعني في مجلس واحد أو في حديث واحد ، هل معنى ذلك أن غيرهم لم يبشر ؟(2/176)
بل قد بُشِّرَ كثير كثابت بن قيس بن شماس الذي بشَّرَهُ النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما نزلت أول سورة الحجرات حيث قال جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ثم قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ } وكان ثابت بن قيس بن شماس كان خطيب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وكان كثير رفع الصوت بين يديه لأنه كان يذكر ما يقول عليه الصلاة والسلام ، كان خطيباً له عليه الصلاة والسلام ، فخاف جدا لما نزلت هذه الآية ولزم بيته وجعل يبكي كما هو معروف في أول تفسير تلك الآيات فخاف كثيرا وقال (قد حبط عملي وأنا من أهل النار) فافتقده النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فقالوا له إنه يبكي ويقول إنه حبط عمله برفعه الصوت بين يديك وهو من أهل النار فقال (لا هو من أهل الجنة) .
كذلك عُكَّاشة بن محصن الأسدي المعروف الذي جاء خبره في حديث السبعين ألف .
وبلال رضي الله عنه حيث قال له النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (لقد سمعت خشف نعليك بين يدي في الجنة) ، إلى غير أولئك.
فالمبشرون بالجنة من الصحابة كثير لكن لا نشهد للمعين إلا إذا شهد له رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، قال بعد ذلك :
(وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ)
وهذا تواتر به الحديث عن علي رضي الله عنه وذلك قوله (أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر) .(2/177)
والنبي عليه الصلاة والسلام أوصى كثيرا بأبي بكر وعمر فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام (اقتدوا باللَّذَين من بعدي أبي بكر وعمر) وقد أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، وكان أبو بكر وعمر وزيرا رسولِ الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يصحبانه دائما وهما معه في حله وفي ترحاله صلى الله وسلم عليه .
فكان علي يقول أبو بكر ثم عمر ، وأهل السنة يُثَلِّثُونَ بعثمان ، وقوله (وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ) يعني جمهور أهل السنة ، عامة أهل السنة .
قد حكى الإجماع على ذلك بعض أهل العلم لكن الصواب أن هذه المسألة ليس فيها إجماع فمن جهة الفضل خالف فيها من خالف وكان من أهل السنة من يفضل عليا على عثمان مع إقرارهم بأن عثمان هو الأحق بالخلافة من علي لكن في مسألة الفضل كما سيأتي بيانه إن شاء الله فيما يأتي.
قال (وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ)
يعني في الفضل وفي الخلافة يقولون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، فهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة .
قد قال أيوب السختياني وقاله غيره (من قدم عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار) وهذه الكلمة صحيحة ودقيقة لأن المهاجرين والأنصار هم الذين قدموا أبا بكر وهم الذين قدموا عمر لإمامة دينهم ولإمامتهم في دنياهم .
فالفضل الذي لأبي بكر ولعمر به استحقا الخلافة ، فمن قدم عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار يعني نسبهم لشيء يُزْرِيْ بهم وهو أن يكون بينهم الفاضل ويقدمون المفضول.
وهذه حجة بينة واضحة .(2/178)
ولما تناظر أيوب مع سفيان ، وكان سفيان الثوري يقدم عليا على عثمان قال له أيوب هذه الكلمة (من قدم عليا على أبي بكر وعمر فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار) توقف سفيان عن تقديم علي على عثمان أو كما ذُكرت هذه الحكاية ، لأن تقديمهم لعثمان في الخلافة يقتضي أنه أفضل من علي ولأن عليا بينهم فكيف يقدمون المفضول ويتركون الفاضل ، قال شيخ الإسلام :
(وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانُ فِي الْبَيْعَةِ. مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمَا وبَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ: وَسَكَتُوا، وْرَبَّعُوا بِعَلِيٍّ، وَقَدَّم قَوْمٌ عَلِيًّا، وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا. لَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ على عَلِيٍّ)
هذه المسألة هي مسألة التفضيل بين عثمان وعلي ، من الأفضل ؟ هل عثمان أفضل أم علي أفضل ؟
الأقوال فيها لأهل السنة ثلاثة :
" عامة أهل السنة وجمهور أهل السنة على أن عليا مفضول بالنسبة إلى عثمان وأن عثمان أفضل من علي لأن عثمان مُقَدَّم في الأحاديث ولأن عثمان رضي الله عنه وأرضاه اختاره الصحابة جميعا للخلافة مع وجود علي ، وعمر كما هو معلوم لما توفي ترك الأمر في ستة نفر الذين مات رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهو بينهم راض وفيهم عثمان وفيهم علي فأجمع الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ، فاختلف أهل السنة فعامتهم على تقديم عثمان على علي .(2/179)
" وقال قوم وهم قلة من أهل الكوفة وغيرها بتفضيل علي على عثمان ، وهذه في مسألة التفضيل ليست في مسألة الخلافة أما الخلافة فهم مُجمِعُون على أن عثمان أحق بالخلافة من علي ، مسألة الخلافة لا اختلاف بينهم فيها أما مسألة التفضيل فإن منهم كسفيان الثوري وكأبي حنيفة وجماعة ممن كان في الكوفة كانوا يُفَضِّلُونَ عليا على عثمان ورجع منهم طائفة .
" والقول الثالث هو قول من توقف فيهم فلا يقول أن عثمان أفضل ولا يقول أن عليا أفضل لتعارض الأدلة والفضل في حق هذا وهذا ، وممن اختار هذا القول الإمام مالك رحمه الله كما هو مذكور في المدونة وفي غيرها .
والصواب من هذه الأقوال أن عثمان رضي الله عنه أفضل من علي وأن عليا يليه في الفضيلة وأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة لأن الصحابة لم يقدموا في الخلافة إلا من هو أفضل وعلي أجَّلُوه وقدَّموا عثمان فهو أفضل من علي ، قال :
(لَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ)
يعني بعد ذهاب تلك الطائفة في الكوفة الذين يقال لهم الشيعة ، شيعة علي لأنهم كانوا يقدمون علي على عثمان لما ذهبوا أولئك مع الزمن في القرن الثالث هجري استقر الأمر على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة ، قال بعد ذلك شيخ الإسلام :
(وَإِنْ كَانَتْ هَذِه الْمَسْأَلَةُ -مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ- لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ)
وهذا صحيح لأن الأصل هو ما يتبعه اعتقاد ، ومسألة عثمان وعلي إنما هي في الفضل وليست في الخلافة ، لا ينبني عليها تضليل الطائفة الأخرى ، ولا ينبني عليها أن من قدم عثمان على علي في الخلافة أنه مخطئ وإنما اختاروا في الفضل أن هذا أفضل .
وإذا تأملت الأمر في الحقيقة فإن مسألة الفضل في أصلها هي عند الله جل وعلا ، من الأفضل ؟(2/180)
حقيقة الأمر أنه عند الله جل وعلا هو الذي يعلم سبحانه ، هذا أفضل أم هذا أفضل ، ولكن لما قَدَّمَ الصحابة رضي الله عليهم عثمان على علي فإننا نأخذ بهذا الأصل وهو أنهم لن يقدموا لإمامتهم في دينهم وفي دنياهم إلا من هو أفضل .
فهذا الأصل وهو إجماع الصحابة على بيعة عثمان وعلى تقديمه على علي يجعل ذلك الأمر الخفي وهو أن هذا أفضل ، الذي لم يرد فيه نص بخصوصه فإنه يجعل الأمر على أن عثمان هو الأفضل وأن عليا بالنسبة إلى عثمان مفضول .
قال (مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ) لأن الأدلة فيها ليست بواضحة في تفضيل عثمان على علي ، والتفضيل كان مستندا إلى مسألة الخلافة ولهذا كانت ليست من الأصول .
والذين فضلوا علياً على عثمان يُقِرُّون بالفضل لعثمان بالخلافة وأنه أحق بها فلذلك لم تكن من مسائل الأصول التي يختلف فيها أهل السنة عن غيرهم من الفرق فإنما الخلاف بينهم في مسألة الفضل لما جاء في حق عثمان من الأحاديث وفي حق علي من الأحاديث .
ومسائل التفضيل دائما يكون فيها اختلاف ، إذا جاء في حق كل من الاثنين يعني أي صحابيين فضلْ ، فإن من جاء إلى التفضيل هل هذا أفضل وهل هذا أفضل لابد أن يحصل خلاف .
انتهى الشريط الثالث و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الرابع و العشرون
ومسائل التفضيل دائما يكون فيها اختلاف ، إذا جاء في حق كل من الاثنين يعني أي صحابيين فضلْ ، فإن من جاء إلى التفضيل هل هذا أفضل وهل هذا أفضل لابد أن يحصل خلاف بأن أحد المفضِّلَيْن أو أحد القائلين في هذه المسألة لا بد أن ينظر إلى بعض الخصال فيفضِّل من أجلها ، وآخر يأتي إلى بعض الخصال فيفضِّل من أجلها فيأتي الخلاف كما سيأتي عند الكلام على مسألة المفاضلة بين خديجة وعائشة رضي الله عنهما.(2/181)
قال (لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَكِنِ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا مَسْأَلَةُ الْخِلاَفَةِ)
ومسألة الخلافة بحمد الله لا اختلاف بين أهل السنة فيها فأهل السنة مجمعون على أن الأحق بالخلافة عثمان ثم علي .
لهذا قال بعدها (وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ. وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلاَفَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ)
يعني أنه بلغ في الضلال مبلغا ألحقه بأبلد الحيوانات وهو الحمار ، وذلك أن مسألة الخلافة مسألة ظاهرة بينة أجمع الصحابة على أبي بكر وأجمع الصحابة بعد أبي بكر على عمر وأجمع الصحابة بعد عمر على عثمان وأجمع الصحابة بعد عثمان على علي ، فمسألة الخلافة ظاهرة لهؤلاء ولا يجوز لأحد أن يطعن في خلافة أحد من هؤلاء .
وأبو بكر رضي الله عنه اختلف أهل العلم هل ولي الخلافة بعهد من رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أم ولي الخلافة باتفاق الصحابة وإجماعهم عليه أو هي بيعة الصحابة له ؟
" فقال قائلون من أهل العلم بل هو بعهد ونص لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) وقال أيضا عليه الصلاة والسلام للمرأة التي أتته تسأله في شيء من قضاء دينها فكأنها أشارت إليه ، أشارت للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فإن لم أجدك ؟ كأنها تعني الوفاء فقال (ايت أبا بكر) وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فرضي النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء مرضه الأخير عليه الصلاة والسلام رضي أبا بكر لهذه الأمة إماما لها في صلاتها التي هي أعظم أركان الإسلام فكان ذلك عهدا منه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لأبي بكر .(2/182)
" وقال قائلون : بل هذه محتملة ولو كان هذا العهد واضحا لما اختلف الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام في مسألة من يلي الخلافة ، فقد تنازعوا ولو كانت المسألة بعهد لما تنازعوا ، فكانت إذن على هذا القول كانت ببيعة واجتماع وليست بعهد ، وهذا هو القول الثاني رجحه طائفة أيضا من المحققين من أهل العلم .
والصواب في ذلك عندي أن هذه المسألة اجتمع فيها هذا وهذا ، اجتمع فيها العهد واجتمعت فيها البيعة والاجتماع :
- فالعهد النصوص فيه كثيرة ، والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أوصى بأبي بكر وأمر بأن يؤمهم في الصلاة وأمر بالاقتداء به بل قال (اقتدوا باللذين من بعدي) فما معنى قوله (من بعدي) إلا مسألة الخلافة ، ولهذا نقول اجتمع في حق أبي بكر العهد والاجتماع ، وهذا العهد الذي عهده النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في حق أبي بكر ليس هو الذي به صار خليفة .
- ومن قال من أهل العلم إنه بالاجتماع عنى أنه لم يعهد النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عهدا به صار أبو بكر خليفة ، وهذا صحيح ، فإن عهد النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لأبي بكر ليس هو عهد الخلافة كما عهد أبو بكر لعمر وإنما هو عهد وصية بأن يكون أبو بكر بعده في إمامة الناس وليس بعهد مكتوب ، بل كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتب عهدا فتركه لما تماروا عنده وكان الذي نهى عن الكتابة عمر رضي الله عنه كما ثبت ذلك في الصحيح وغيره من السنن والمسانيد .
عمر رضي الله عنه كانت خلافته بعهد أبي بكر لأن أبا بكر عهد لعمر بعده بالخلافة .
وعثمان كانت خلافته شورى ، ببيعة له من أهل الحل والعقد من الستة وغيرهم ، الستة الذين ترك عمر الأمر فيهم ، هم الذين قال عمر فيهم (توفي رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهو عنهم راض) فكانت خلافة عثمان ببيعة واجتماع .
وعلي رضي الله عنه بعد ذلك ببيعة أهل المدينة واجتماعهم عليه .(2/183)
وولاية معاوية بن أبي سفيان لم تكن مستقيمة في عهد علي ولا في عهد الحسن بن علي بعده وإنما كان في عهد علي باغيا على علي رضي الله عنهم أجمعين .
ومعاوية لم يبايع عليا ولم يقر له بالولاية حتى يسلم قتلة عثمان ، وذلك لأن الله جل جلاله قال { وَمَن قُتِل مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } وولي عثمان الأقرب له كان معاوية فكان معاوية رضي الله عنه يطلب من علي أن يسلم له قتلة عثمان حتى يقتص منهم ، وعلي رضي الله عنه كان لا يستطيع لاختلاف الأمر أن يسلم أولئك القتلة لأن الناس كانوا في هرج ومرج وكانت فتنة عظيمة في المدينة لم يكن معها علي مستطيعا أن يسلم القتلة لمعاوية لأن الأمر لم يستتب له وكان الأمر في المدينة على ما تعلمون من التاريخ من الفتنة العظيمة التي كانت إذ ذاك .
فلم يكن علي مستطيعا وأراد علي أن يتأخر أمر قتلة عثمان حتى يستتب الأمر له وحتى يقوى جانب الخلافة ثم بعد ذلك يقتص من قتلة عثمان ، ولكن معاوية بادره على ذلك وحصل ما حصل.
ولم تكن ولاية علي ولاية الخلافة مستقيمة ولم تكن ولاية علي الخلافة مستقيمة وإنما كان فيها ما فيها من القتال والدماء ، وكان سبب ذلك الخوارج لأنهم هم الذين فتنوا المؤمنين وفرقوا بين صفوفهم .
المقاتل التي حصلت مثلا في وقعة الجمل المشهورة بين عائشة ومن معها وعلي رضي الله عنه ، الذي أثار القتال هو أحد الخوارج ، هم الذين أثاروا القتال ، ذهبوا إلى أولئك فنمّوا لهم بكلام وذهبوا إلى معسكر عائشة فنموا لهم بكلام وإلا فعائشة لم تأتِ للقتال وإنما أتت لصلح ولكي يعظموا أمر رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بحضور زوجته التي يحبها والتي هي من العلم والفضل بما هو معلوم عند الفئتين ، لكن حرك الخوارج المقتلة بين الفئتين ، فالذين حركوا القتال بين الصحابة هم الخوارج .(2/184)
لما قُتِلَ علي ، قتله عبد الرحمن بن ملجم ، وعبد الرحمن بن ملجم رأس من رؤوس الخوارج وكان قارئا للقرآن عابدا صالحا تقيا في عهد عمر رضي الله عنه وكان في عهد عمر في المدينة وكان عمر يقدمه حتى كتب لعمرو بن العاص في مصر (إنه يأتيك عبد الرحمن بن ملجم وإنه من الصالحين وأثنى عليه عمر وقال فاتخذ له دارا يقرئ الناس القرآن فيها) حصلت الفتنة في مصر وكان عبدالرحمن بن ملجم هذا ممن أدركته الفتنة فقدم معهم إلى المدينة ثم ذهب مع علي ثم كان آخر الأمر أن قتل سيد المسلمين في زمانه وأفضل من على الأرض في زمانه وهو علي رضي الله عنه وأرضاه فقتله واقتص منه الحسن بن علي فقتل عبدالرحمن بن ملجم بعد أيام من موت علي رضي الله عنه .
بعد موت علي ما استتب الأمر لمعاوية وإنما بايع الناس الحسن بن علي فاستمرت خلافته ستة أشهر ثم تنازل بالخلافة لمعاوية فاجتمع الناس على معاوية في عام واحد وأربعين من الهجرة لأن عليا كان قتله في رمضان ثم ستة أشهر من رمضان ولاية الحسن بن علي ثم تنازل بالخلافة في سنة واحد وأربعين لمعاوية فصار عام الجماعة .
سماه المسلمون عام الجماعة يعني عام الاجتماع فبدأ عهد معاوية رضي الله عنه وكان عهد تغلب ، يعني ولي الخلافة بالتغلب وكان ملكا وهو أول ملوك المسلمين وخير ملوك المسلمين كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
فإذن تحصل من هذا أن الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن بن علي .
الحسن بن علي إمامته منعقدة وولي الخلافة بعدها ، لكن أهل السنة أو عامة العلماء لا يذكرون الحسن بن علي على أنه خليفة لأنه لم يحصل له زمان يقوم بمهام الخليفة ولهذا يقولون الخلفاء أربعة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي .
... على كل حال نقف عند هذا ، ونكمل إن شاء الله المرة القادمة ، بقي معنا نزر يسير من هذه العقيدة المباركة ...(2/185)
يقول : لقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة أنه لم يكن الدعاء للخلفاء الراشدين في خطبة الجمعة إلا بعد أن سب الرافضة الصحابة في الخطبة ، السؤال هو لقد كان ذلك ردا على بدعة ، ولكن المتقرر عند السلف أن لا نرد بدعة ببدعة والدعاء للصحابة لم يرد كما هو معلوم ؟
هذا السؤال يتنوع كثيرا ، يأتي تارة بهذا الأسلوب وتارة يأتي بأن الدعاء عموما في خطبة الجمعة وفي الخطب أنه محدث وبدعة ، وينقلون كلام الشاطبي أيضا في الاعتصام في هذه المسألة وهذا من عدم فهم أصول أهل السنة في مسائل البدع .
البدعة لابد أن تخالف طريقة أهل السنة والجماعة ، فإذا كان أهل السنة والجماعة على طريقة ، على أصل ، على عمل ، على سَنن فإن هذا السنن وهذا الأصل لا يمكن أن يكون بدعة ، ولو لم يكن لهذا الأصل أو لهذا العمل ولو لم يكن له أصل معلوم من الكتاب أو السنة فيه بخصوصه .
فأهل السنة أدخلوا أشياء مخالفة للرافضة فمثلا يقولون (صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم) أدخلوا الصلاة على الصحابة مقارنة أو مقرونة بالآل مخالفة للمبتدعة وهل هذا كان في عهد النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؟
لم يكن على هذا النحو في عهد النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ولا قائل من أهل السنة إن هذا بدعة بل من قال إنه بدعة فهو مبتدع مخالف لطريقة أهل السنة ، كذلك في مسألة الخطبة ، الخطبة شعار ظاهر للمعتقدات والمتقررات ، فيجب أن يكون فيها شعار لمخالفة أهل البدع ، مخالفة الفرق الضالة والجماعات المنحرفة ، فإذا كان كذلك كان عند أهل السنة وعند أئمة السلف إظهار مخالفة المبتدعة في الخطبة أمر مقصود ، فخالفوا المبتدعة في الصلاة على الصحابة والترضي عن زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وفي الدعاء لولاة الأمور ، خالفوا طوائف من المبتدعة ومن الفرق الضالة في هذه المسائل .(2/186)
لا يقال إن هذه المسائل محدثة وبدعة لأن الجواب أن البدعة هي ما قال أهل السنة إنها بدعة وهذه المسألة قررها أهل السنة وأئمتها إذ لا منكر بين أهل السنة في هذه المسائل .
والمقصود بأهل السنة الأئمة منهم الذين كتبوا في ذلك وقرروا وتتابع العمل على هذه المسائل دون إنكار ، إذا أتى أحد وأنكر شيئا من ذلك فيكون محجوجا بتقدم العمل بهذه المسائل .
فليست إذن المسألة مما قاله السائل في أنه رد بدعة ببدعة ، لأن هذا مدَّعى أن يكون الدعاء للصحابة وللزوجات وللخلفاء بدعة هذا مدعى بل هو سنة من سنن أهل السنة والجماعة .
يقول : في حديث (إن من أصحابي من لا أراه بعد أن أمت) هل يشكل على الصحابة في الجملة؟
ما أدري هل هذا حديث معروف ، هل هذا حديث ؟ حبذا لو يورده مرة أخرى مع تخريجه إذا كان يعلم أنه حديث .
لماذا لا يقدّم كل من بُشر بالجنة من الصحابة في مسألة التفضيل ؟
لأن التفضيل ليس راجعا إلى الخاتمة يعني هل هو في الجنة أم لا ، إنما التفضيل راجع للصفات ، والجنة مشتركون فيها لكن الاختلاف في الدرجات ، فلا يعني أن من بُشر بالجنة أنه أعلى درجة ممن لم يبشر بها لكن البشرى طمأنينة ولإظهار فضله ، فالتفضيل راجع إلى الصفات والمعاني التي تحلى بها الصحابة .
هل هناك من حصر المبشرين بالجنة من أهل العلم ؟
يعني في الأدلة ، في مؤلفات في ذلك مختصرة والسفاريني في شرحه على عقيدته ذكر كثيرين منهم وكذلك الحافظ وغيره .
كيف الجمع بين قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (لولا الهجرة لكنت امرؤا من الأنصار) وقول شيخ الإسلام (ويفضلون المهاجرين على الأنصار) ؟
(لولا الهجرة لكنت امرؤا من الأنصار) وأولئك فضلوا بالهجرة ، لم يفضلوا لأنهم مكّيّون وإنما فضلوا لأنهم مهاجرون فلولا الهجرة لكان النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ امرؤاً من الأنصار ولكن الهجرة جعلت أولئك يتصفون بأنهم مهاجرون ، فالمهاجرون أفضل ولا إشكال .(2/187)
هل يكفّر عبدالرحمن بن ملجَم بكبيرته ؟
لا ، عبدالرحمن بن ملجَم لا يكفّر بكبيرته وبقتله لخير خلق الله في زمانه خير المكلفين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قد سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج عموما أكفارٌ هم ؟
قال (لا ، من الكفر فروا).
منزلة أهل البيت النبوي
عند أهل السنة والجماعة
وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: "أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي".
وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه -وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ- فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي".
وَقَالَ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ".
وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ:
خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ.
وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".(2/188)
وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ. وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ.
وَهُم مَّعَ ذَلِكَ لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ -إِنْ صَدَرَ-، حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُم مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّن بَعْدَهُمْ.
ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بَحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ.(2/189)
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ الأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إنْ أَصَابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مغْفُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْفُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَمَن نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ؛ لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ.
___________________________________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذه صلة للكلام على أصل هذه المسألة وهي بيان أصل أهل السنة والقاعدة التي يرجعون إليه في اعتقادهم في الصحابة وفي زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(2/190)
فإن من أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وسلامة ألسنتهم لصحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ جميعا كما بين ذلك المصنف شيخ الإسلام رحمه الله في أول الكلام لقول الله جل وعلا { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
وبعد أن بيَّنَ معتقد أهل السنة في الصحابة أو ما ألزموا أنفسهم به تجاه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بيَّنَ طريقة أهل السنة والجماعة مع آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وسبب ذكر آل البيت في العقيدة كسبب ذكر الصحابة في الاعتقاد لأن مخالفة من خالف من أهل البدع في آل البيت كمخالفة من خالف من أهل البدع في صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، ذلك أن الذين غلو في آل البيت قابلوا ذلك الغلو في الحب ببغض الصحابة فحب الصحابة وحب آل البيت وجودا وعدما أو خلطا بين هذا وذاك متلازم .
لأن أول الفتن حصولا ما حصل بعد مقتل عثمان رضي الله عنه ، حصل به ذلك الاختلاف الذين تفرقت به الأمة إلى أصناف شتى :(2/191)
- فمن الناس من غلا في آل البيت وتبرأ من الصحابة ، وهؤلاء هو الرافضة الشيعة الغلاة ومن أصولهم في هذا الباب أنه لا ولاء إلا ببراءة ، يقولون لا ولاء إلا ببراءة ، يعني لا تولي لأهل البيت ولا محبة لآل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ إلا بالبراءة من الصحابة ، من أكثر الصحابة ، صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، ويتبرءون منهم لأنهم يعتقدون أن الصحابة كفروا إلا قليلا منهم ، ويكرهون عدد العشرة لأنه ذكر فيه العشرة المبشرين بالجنة ، ويتشاءمون ببعض الأعداد مما هو معروف عندهم في تفصيل الكلام على مللهم وآرائهم ، من معتقداتهم أنه لا ولاء إلا ببراء .
وأهل السنة والجماعة يخالفون هذا الأصل ويقولون إن تولي آل البيت لا يتم إلا بتولي الصحابة وأن تولي الصحابة ومحبتهم لا يتم إلا بتولي آل البيت فتولي الصحابة وتولي آل البيت قرينان متلازمان ، وجود أحدهما عند أهل السنة هو وجود الآخر ، فلا يوجد من أهل السنة من يتبرأ من أحد من هذين الصنفين ولذلك تجد في مباحث الاعتقاد في مبحث عن آل البيت متصل بمبحث عن الصحابة لأن سبب التفرق في هؤلاء يعني في الصحابة هو سبب التفرق في مسألة محبة آل البيت .
بعد أن ذكر شيخ الإسلام القول في الصحابة قال بعده رحمه الله :
(وَيُحِبُّونَ) يعني أهل السنة والجماعة (يُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ)(2/192)
المحبة التي قامت في قلوب أهل السنة والجماعة لأهل البيت هي المودة الخاصة وهي مودة بسبب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما جاء في الحديث الذي ذكره شيخ الإسلام بعد ذلك حيث قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ للعباس (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي) فمحبة أهل السنة لآل البيت محبة في الله ولله ولرسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهذه المحبة لها مقتضيات عند أهل السنة فتقتضي :
" أولا أن يعتقد أنهم أفضل الناس نسبا ، فأفضل هذه الأمة نسبا هم آل بيت رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فمن الجاهلية أن تُقَدَّم قبيلة أو فئة أو نسب على نسب الآل كمن يعتقد أن بعض القبائل أفضل من الأشراف أو من الآل أو نحو ذلك ، هذه جاهلية ، فأول درجات المحبة أن تعتقد أن نسبهم هو أفضل الأنساب فهم خير بيت موجود اليوم على ظهر الأرض إذا صح نسبهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فخير بيت من جهة النسب على الأرض هم آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
" والثانية أن يكرموا في المجالس وأن يقدموا لأجل أنهم من آل رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وإذا كان العالم منهم مع علماء فإنه يقدم على من شاركه في العلم لأجل أن معه مزية النسب وفضيلة أنه من آل رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وإذا كان العامي مع أمثاله فإنه يقدم عليهم يقدم على أمثاله لأنه فاقهم لكونه من آل بيت رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(2/193)
" الثالث من مقتضيات هذه المحبة أن آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حق أن يكرموا وأن يعانوا وأن يدافع عنهم وأن ينصروا وأن تحفظ أعراضهم ، ولهم حق في الفيء بعامة ، والصدقة يعني الزكاة المفروضة حرام عليهم ، فإذا كان آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ محتاجين إلى بعض المال فحق على من يحبهم أن يعينهم لأنهم إن منعوا الفيء فإنهم لا بد أن يُغْنَوا ، وقد اختلف أهل العلم هل لهم يعني لآل البيت أن يأخذوا من الزكاة إذا مُنِعوا الفيء ؟ فلم يجزه الأكثرون وأجازه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم وهو الأصوب في هذا ، فإذا منعوا الفيء ولم يكن ثَم من يعطيهم من الزكاة فإن الناس يعينونهم ولا بد لأنهم من آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهذا معنى الموالاة والمحبة لهم وقول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) يعني أذكرهم وصية الله في أهل بيتي وقد قال جل وعلا { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } والمودة في القربى يعني أن تصلوني لأجل ما بيني وبينكم من القرابة ، والمخاطب بذلك قريش وآل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مشتركون في هذا الأمر .
قال (وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) (أهل) و (آل) متقاربة لكن (آل) لا تطلق إلا على البيوت العظيمة المشتهرة ، إذا اشتهرت بعلم أو رياسة أو فاقت الناس يقال (آل فلان) و (أهل) هذه أعم .(2/194)
و (أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) وأهل النبي هم آله ، لأن الأهل ليس معناه الزوجات فحسب وإنما كلمة أهل في اللغة وفي الشرع تطلق على الزوج - يعني الزوجة - وعلى الأبناء وعلى الإخوان وعلى الأخ ونحو ذلك ، وأدلة هذا معروفة { إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } وقال جل وعلا في قصة موسى { وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي } فكلمة (آل) و(أهل) هذه وهذه تتناوب من حيث المعنى ، شيخ الإسلام استعمل لفظ (أهل) لأنه أعم في هذا السياق ، و (آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) لها إطلاقان :
الإطلاق الأول : أن يراد به خصوص آله ، يعني خصوص أهله ، لهذا شيخ الإسلام هنا عبر بلفظ الأهل لأجل هذا الإطلاق .
وهؤلاء يراد بهم الخمسة بيوت المشهورة بقرابة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما جاء ذلك في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم ، وهؤلاء هم (آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل العباس وبنو الحارث بن عبد المطلب) .
هؤلاء هم الذين تحرم عليهم الصدقة ، يعني تحرم عليهم الزكاة ، ومنعوها لأنهم طاهرون والزكاة أوساخ الناس كما قال عليه الصلاة والسلام (إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس) فهؤلاء الأربعة بيوت التي جاءت في مسلم وزاد عليها العلماء (بنو الحارث بن عبد المطلب) هؤلاء هم الذين تحرم عليهم الصدقة ، يعني الزكاة هم آل النبي عليه الصلاة والسلام .(2/195)
وهؤلاء منهم أهل الكساء الذين أدار عليهم النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كساءه وخصهم بذلك وفيهم نزل قول الله جل وعلا في سورة الأحزاب { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } وقد أدار النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الكساء على طائفة من أهل البيت وهم (علي وفاطمة والحسن والحسين) فهؤلاء أخص لهم الحق الأخص وجميع آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لهم الحق وهؤلاء لهم حق أخص .
أيضا من الآل زوجات النبي عليه الصلاة والسلام .
فإذن شمل آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثلاث فئات :
" الخمس بطون الذين ذكرت .
" وعلي وفاطمة والحسن والحسين وهم يدخلون في آل علي في التفسير الأول .
" وزوجات النبي عليه الصلاة والسلام ، هذا الأول .
والثاني : أن آل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ تطلق إطلاق عام ليس هو المراد في هذا الموطن ، وهذا الإطلاق يراد به الأتقياء الذين تبعوا النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ على دينه ورسالته وسنته ، وهذا اختيار ابن القيم رحمه الله في قول المصلي (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد) يعني على أتباع محمد (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) يعني على إبراهيم وعلى أتباع إبراهيم .
قال (وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: "أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي")(2/196)
(يَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) لأنه عليه الصلاة والسلام قال (أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) يعني أذكركم أمر الله في أهل بيتي ، أذكركم وصية الله في أهل بيتي ، أذكركم تقوى الله بأهل بيتي ، فتذكر الله في أهل بيته هو تذكر شرعي ، الشرع الذي جاء من عند الله في آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وقد جاء في إكرام آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وفي محبتهم وتوليهم أحاديث كثيرة .
قوله (حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ) (خُمٍّ) مكان فيه ماء بين مكة والمدينة ولما رجع النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من حجة الوداع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة وقف عند هذا الغدير وخطب الناس في ذلك اليوم يوم الثامن عشر من ذي الحجة خطب الناس في ذلك الغدير ، ذلك المكان ، حيث قال في ذلك ذكّر الناس ووعظهم وحثهم على التقوى ثم أمرهم بالاستمساك بحبل الله جل وعلا وهو كتاب الله جل وعلا قال في ذلك عليه الصلاة والسلام (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله) ثم ذكر كلاما ثم قال في آخره (وَأَهْلَ بَيْتي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) .
منهم من روى هذا الحديث بالجمع قال (كتاب الله وعترتي أهل بيتي) وهذا من السياق بالمعنى وجعل في آخره كما هي رواية الترمذي - الحديث حديث غدير خم في صحيح مسلم حديث زيد بن أرقم حديث مشهور معروف الروايات فيه مختلفة منه رواية عند الترمذي وعند غيره - حيث قال فيها (وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) ففهم من ذلك أن هذين اللذين لن يتفرقا كتاب الله جل وعلا وأهل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(2/197)
وهذا الفهم غلط لأن هذا الحديث حصل فيه اختصار في الروايات وزيد بن أرقم رضي الله عنه ذكر بأنه اختصر الكلام كما في صحيح مسلم وأنه لم يسقه لشيء حصل له أو لعدم ضبطه لذلك ، والرواية التي في صحيح مسلم واضحة وفي غيرها جاء فيها هذا اللفظ (وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) وقد قال عدد من المحققين من أهل الحديث أن هذا اللفظ سيق بالمعنى وبعضهم جعله من الشاذ وأن هذه اللفظة غير محفوظة بل هي شاذة ، وقد وردت هذه الرواية عند الحاكم - الحديث على تخريج الحديث يطول لكن الرواية عند الحاكم - وعند غيره أن الذي حث عليه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فقال (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا) قال فيه (كتاب الله وسنتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) فهو عليه الصلاة والسلام أوصى بالاستمساك بكتاب الله وبسنة رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فلما فرغ من الوصية بالكتاب والسنة قال (أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي) .
فإذن ليس المراد بقوله (تركت فيكم أمرين) في بعض الألفاظ أو (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا) ليس المراد بأحد هذين الأمرين أهل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بل هما الكتاب والسنة ، ومن جعل أحد هذين الأمرين آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أو العترة فقد أدخل شيئا في شيء وروى بالمعنى كما فهمه وليس هذا بصحيح كما حققه الأئمة من أهل الحديث ومن أئمة السنة في العقيدة .(2/198)
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه -وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ- فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي" ، وَقَالَ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ")
فأنا خيار من خيار من خيار ، وهذا ظاهر الدلالة على ما ذكره شيخ الإسلام من أن أهل السنة والجماعة يحبون آل البيت لمحبتهم لرسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
قال بعدها (وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ: خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه)
(وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) أزواج النبي عليه الصلاة والسلام هم زوجاته ، الأفصح أن يقال للمرأة : زوج الرجل ، وزوجة يجوز ذلك على قلة كما جاء ذلك في وصف عائشة في صحيح مسلم (وإنها زوجة نبيكم صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الدنيا والآخرة) .
وأزواج جمع زوج ، والزوجات جمع زوجة ، فقوله (وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ) يعني زوجاته ، والتعبير بالأزواج والمفرد زوج أفصح .
قال (أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) النبي عليه الصلاة والسلام تزوج عددا من النساء وتسرى بمارية القبطية التي أهداها له المقوقس عظيم مصر ، وكانت زوجاته حين توفي رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كن تسعة .(2/199)
وأول زوجاته خديجة ولم يتزوج عليها أحدا عليه الصلاة والسلام وكانت أعظم النساء عنده عليه الصلاة والسلام .
وأول زوجاته لحوقا به زينب بنت جحش حيث قال عليه الصلاة والسلام (أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا) فكانت الأطول يدا في الخير والصدقة والبذل زينب بنت جحش ، توفيت رضي الله عنها سنة عشرين من الهجرة وعائشة توفيت سنة سبع وخمسين وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه وعنها .
قال (وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ) أمهات المؤمنين لأن الله وصفهن بذلك في قوله { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } وهن أمهات المؤمنين من جهة المكانة لا من جهة المحرمية .
يعني من جهة المكانة ، ومن جهة الحرمة ، فلا يحل لأحد أن يتزوج امرأة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بعده ، والناس ليسوا محارم لزوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بل هن أجنبيات عن الأمة.
فإذن هن من جهة الحرمة محرمات أما من جهة المحرمية ليس الرجال محارم لزوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذه مرتبة بين المراتب ، وهناك من النساء من هن محرمات ومن حرمت عليه المرأة كان محرما لها ، وهناك من النساء من هن محرمات ولا تكون محرما يعني لا يكون الرجل محرما لها مع أنها محرمة عليه ، وهناك من النساء من هي محرمة ومحرم ولكن لا يستحسن أن يكون خاليا بها أو محرما لها في سفر ونحو ذلك على ما هو معلوم من تفاصيل ذلك في كتاب النكاح .
قال (وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ) ذلك لأن أزواج النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الدنيا هن زوجاته في الآخرة كما ثبت ذلك في الحديث .(2/200)
(خُصُوصًا خَدِيجَةَ) خديجة هي أفضل زوجات النبي عليه الصلاة والسلام في أول الإسلام وهي أعظم زوجاته نصرة له وهي أول زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهي أول الناس إسلاما وإيمانا بالنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
قال شيخ الإسلام في وصف خديجة (أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ) ، (أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ) يعني باستثناء إبراهيم فإنه كان من سريته مارية القبطية ، وأولاد النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من الرجال يعني من الذكور ومن الإناث كانوا من خديجة ، روي أن عائشة حملت وأسقطت لكن هذا ليس بصحيح فإن زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ما حمل منهن إلا خديجة ومارية .
قال عن خديجة (وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ)
وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ)
يعني وأخص الصديقة بنت الصديق .
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".
ذكر هاتين الزوجتين خديجة وعائشة لأنهما أعظم زوجاته وأحب زوجاته إليه ، وكانت عائشة كثيرا ما تغار إذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام خديجة ، ولما توفيت خديجة أُري النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عائشة في المنام وكانت زوجته عليه الصلاة والسلام .
اختلف أهل العلم في خديجة وعائشة أي هاتين أفضل ، هل خديجة أفضل من عائشة ؟
أم عائشة أفضل من خديجة ؟(2/201)
" فمنهم من فضل خديجة لما جاء في فضلها من الأحاديث الكثيرة ولأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وصفها بأنها كملت وهي التي ناصرت النبي عليه الصلاة والسلام وساندته وأيدته وبذلت له عليه الصلاة والسلام مالها وكانت له ردءا ولها من المقامات في أول الأمر ما ليس لعائشة .ومنهم من فضل عائشة وقال عائشة أفضل لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ) والنساء يدخل فيها خديجة ، وقالوا أيضا عائشة رضي الله عنه نفعت الأمة جميعا بما روت من الأحاديث وما حفظت من سنة النبي عليه الصلاة والسلام وبما بينت للأمة من الأحكام حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يرجعون إلى عائشة إذا اختلفوا ، واستدركت عائشة على عدد من الصحابة في الأحكام وصنف في ذلك بعض أهل العلم كتبا منها كتاب الزركشي (الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة) فقالوا عائشة أفضل لما لها من المحبة ولما لها من العلم ولتفضيل النبي عليه الصلاة والسلام لها .(2/202)
" والذي عليه طائفة من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن هذا التفضيل ليس بوجيه لأن المسائل التي يختلف فيها أهل العلم من مسائل التفضيل إنما الحكم فيها للنص ، والنص لم يأت بتفضيل عائشة على خديجة ولا خديجة على عائشة مطلقا ، وإنما ورد أن هذه مفضلة أو أن هذه أفضل وورد أن الأخرى مفضلة وأنها أفضل ، فلهذا وجب أن ينظر في جهات الفضل وأن يتكلم في الفضل من جهة ما حصل ، لهذا قال شيخ الإسلام إن التحقيق أن يقال إن خديجة رضي الله عنها في أول الإسلام كانت أفضل من عائشة وعائشة إذ ذاك صغيرة لا تحسن شيئا وخديجة هي التي ناصرت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأيدته فهي أفضل من هذه الجهة في أول الإسلام ، ولما انتشر الإسلام النبي عليه الصلاة والسلام كانت عائشة عنده وحفظت عنه من السنن ومن أحواله في بيته ومن كلماته ومن أحكامه ما لم يكن عند خديجة وما لم تنقله الأمة عن خديجة ، فاستفادت الأمة من عائشة ما لم تستفده من خديجة ، فمن هذه الجهة تكون عائشة أفضل من خديجة ، وهذا كلام عدل وهو كالمتعين لأن هذه وهذه كل لها فضل .
وهكذا ينبغي في سائر مسائل التفضيل سواء في مسائل العقيدة ، يعني في التفضيل في المسائل التي وردت في العقيدة أم في غيرها ، فإن مسائل التفضيل يختلف فيها الناس .
إذا رأى الناس المسائل أو الرجال هذا أصح أو هذا أصح أو هذا الرجل أفضل أو هذا العالم أعلم أو هذا أشجع أو هذا أقدر ونحو ذلك ، فإنها إذا جاء أفعل التفضيل يختلف الناس في ذلك لزما ، لأن جهات التفضيل ليست واحدة ، جهات التفضيل متعددة ، فلا بد أن يختلف في التفضيل لأن الجهات متعددة .
فإذا تكلم الناس في التفضيل بعدل وبحكمة لم يتبع ذلك الاختلاف تفرقا و أما إذا تكلموا في التفضيل بنوع ابتداء فإنه ربما أحدث ذلك تفرقا .(2/203)
والذي ينبغي على طالب العلم أن يستفيد من تحقيق شيخ الإسلام في هذه المسألة في مسألة التفضيل بين خديجة وبين عائشة في نظائر ذلك من التفضيل الذي له جهات فإنه يفصِّل فيكون المقام مقام تفصيل ، فيقول إذا نظرت إلى هذه الجهة فتقول هذا العالم أفضل وإذا نظرت إلى الجهة هذه فتقول هذا العالم أفضل ، إذا نظرت إلى هذه الجهة تقول هذا العالم أعلم أزهد وإذا نظرت إلى هذه الجهة قلت ذاك أعلم وأحكم مثلا وهكذا .
إذن تعدد جهات التفضيل أو جهات الإعجاب فالتفصيل يكون هو العدل في الغالب إذا تنازع الناس في مسائل التفضيل وهو المستفاد من كلام شيخ الإسلام في مسألة التفضيل بين عائشة وخديجة .
تبرؤ أهل السنة والجماعة
مما يقوله أهل البدع والضلالة
في حق الصحابة وآل البيت
قال بعد ذلك (وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ)
(يَتَبَرَّءُونَ) يعني أهل السنة والجماعة ، (يَتَبَرَّءُونَ) يعني يعلنون البراءة وهي عدم الانتساب إلى طريقة الروافض وبغض طريقة الروافض ، فالبراءة تجمع البعد وإعلان عدم الانتساب وبغض ذلك الشيء.
(وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ) الروافض جمع رافضي ، والرافضي اسم من قام به الرِّفْض ، والرفض عقيدة من العقائد .
وسمي أولئك رافضة لأنهم رفضوا إمامة زيد بن علي وقد كان الشيعة يتولون آل البيت حتى حصلت مسألة سب أبي بكر وعمر فتبرأ زيد بن علي ممن سب أبا بكر وعمر ولعنهما رضي الله عنهما وأرضاهما فقال زيد بن علي (أنا أتبرأ منكم وأرفضكم) فقالوا (ونحن نرفض إمامتك) فقال (أنتم الرافضة) فسموا رافضة لأنهم رفضوا إمامة زيد بن علي أو رفضوا الترضي وتولي أبا بكر وعمر .
رافضي اسم فاعل الرِّفض بالكسر وأصله من رفض يرفض رفضا ، مصدر الرفض بالفتح لكن العلماء جعلوا للعقيدة هذه اسم غير المصدر قالوا (هذا رِفْض) وهؤلاء رافضة كما قال الشافعي في بيته المشهور :(2/204)
إن كان رِفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
فالرواية له (رِفضا) بالكسر كما نبه على ذلك شارح القاموس الزَّبيدي وغيره من أهل العلم وهي التي تسمع من أهل العلم خلافا لمن قرأها بالفتح (إن كان رَفضا حب آل محمد) بل هي :
إن كان رِفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
الرافضة الكلام عليهم له تفصيلات وتطويلات لكن على كل حال ما يخص هذا الموضع ذكره شيخ الإسلام بقوله (الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ) .
الروافض جمعوا بين بغض الصحابة وبين لعنهم كما ذكرنا عنهم أنهم يقولون (لا ولاء إلا ببراء) يعني لا تولي لأهل البيت إلا بالبراءة من الصحابة ، قد كفّروا الصحابة إلا بضعة نفر ، والروافض مع الصحابة يكفرونهم ويبغضونهم ويلعنونهم ويجعلون البغض والتكفير واللعن دينا يتقربون إلى الله به خاصة الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فالرافضة يلعنون أبا بكر وعمر وسائر الصحابة .
قال (وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ)
النواصب جمع ناصبي ، والناصبي اسم فاعل النصب ، والنصب هو مناصبة آل الببيت العداء والعداوة ، هذه حصلت في زمن الفتنة :
" فإن منهم من تولى عليا وغلا فيه ، هؤلاء تدرج بهم الأمر حتى صاروا روافض.
" ومنهم من تبرأ من علي والآل هؤلاء سموا نواصب .(2/205)
والنواصب في العموم ليسوا فرقة معروفة بعقائدها ، فليس ثَم فرقة من الفرق معروفة العقيدة لها تفاصيل الكلام في الأسماء والصفات وفي الإيمان وفي القدر إلى آخره يقال لهم النواصب ، وإنما النواصب يذكرون في هذا المقام لأجل أن لهم اعتقادا في الصحابة رضوان الله عليهم ، فهم كالخوارج عقيدة في الصحابة وفي آل البيت ولكن يشابهون الخوارج في آل البيت بالأخص ، فمن هذه الجهة يمكن أن يعتبروا من الخوارج يعني أنهم ناصبوا آل البيت العداء وجعلوا العداوة قائمة بينهم وبين آل البيت وكذلك نظرهم في الصحابة ليس كنظر الرافضة بل هو كنظر الخوارج .
أهل السنة وسط في آل البيت بين طريقة الرافضة الذين يغلون في آل البيت وجعلوا منهم أئمة بل جعلوهم أئمة وجعلوهم معبودين وعظموهم فوق ما يجب ، وبين طريقة النواصب الذين يسبونهم ويلعنونهم ويؤذون آل بيت النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فأهل السنة وسط يتولون الصحابة ويتولون الآل لا يتبرءون من الصحابة ولا يتبرءون من الآل ، فعندهم الحق واضح يجمع بين هذا وهذا يعني بين حب الصحب وحب الآل جميعا .
قال (وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ)
هذه عقيدة أهل السنة أنه ما شجر بين الصحابة ، (شَجَرَ) يعني حصل ، وسمي الشجار شجارا لأنه يحصل فيه اختلاف واشتباك .
وأصل التشاجر هو التداخل لذلك سميت الشجرة شجرة لتداخل فروعها .
والاختلاف الذي حصل بين الصحابة هو الذي شجر بينهم ، (وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ) يعني عما حصل من الاختلاف في الأقوال أو في الأعمال بين صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(2/206)
قوله (يُمْسِكُونَ) هذا يعم عند أهل السنة الإمساك باللفظ وبالقول وبما يدور في القلب وبالعمل وبالكتابة والحكاية والإسماع والإقراء ، كل ما كان من قبيل القول أو العمل في جميع تصرفاته كلاما أو كتابة أو عملا من الأعمال كل هذا يمسك أهل السنة عن الخوض في الصحابة فيه فيمسكون عن التأليف فيما صدر بين الصحابة ويمسكون عن الإقراء ويمسكون عن الإسماع فلا يريدون ما شجر بين الصحابة أصلا وإنما عندهم في هذا أنهم يقولون عنهم جميعا يعني عن الصحابة جميعا { اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } وهذا يشمل جميع الصحابة رضوان الله عليهم .
(وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ)
كذلك أهل السنة في ما روي من الآثار في كتب التأريخ عن حكاية ما شجر بين الصحابة وعن تفاصيل الأحوال فإنهم يقولون إن هذه الآثار التي تروى وفيها مساوئ لهم هي على ثلاثة أقسام ،شيخ الإسلام ذكر منها ذكر هذه الثلاثة أقسام :
" فأول هذه الأقسام أن (مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ) وهذه معروفة في التواريخ كتاريخ ابن جرير وتاريخ .. بعض المعايب لهم منها ما هو كذب قطعا وهذا هو الذي هو كذب الذي روي عن طريق الكذابين وأشهرهم (أبو مخنف) في تاريخ الطبري وهناك رسالة مختصة بذلك اسمها (مرويات أبي مخنف في التاريخ) وكذلك (الكلبي) فإن هذين معروفَيْن بالكذب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم .(2/207)
" القسم الثاني (وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ) يعني منها أشياء صحيحة حصلت منهم لكن زيد فيها أشياء إما من جهة فهم الراوي أو من جهة ظنه أو من جهة إيضاحه للحال وأخطأ في ذلك ، أو منها ما نُقِض منه ما يُفَسَّر به الذي حصل ، فإذا كان كذلك فالزيادة والنقصان تغيير لتلك المرويات عن وجهها فبدل أن تكون تلك المرويات فيها عذر لهم صار بالزيادة والنقصان فيها ذكر شيء يفهم على أنه من مساوئ الصحابة رضوان الله عليهم .
" القسم الثالث ما اجتهدوا فيه ، وهذا كثير وهو صحيح لكن ما يمكن أن يفهم على أنه من مساوئهم هم مما اجتهدوا فيه .
فاعتقاد أهل السنة والجماعة في هذا الصحيح أنه ما كان من قبيل المساوئ مما صح فإنهم إما مجتهدون فيه لهم فيه الصواب أو الخطأ الذي يؤجرون عليه ، وإما ما هو من الذنوب التي تكون من الكبائر أو الصغائر وهم في تلك الذنوب معفو عنهم مغفور لهم .
هذا قال في القسم الأخير (وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ)
لم يذكر قسم الذنوب وسيأتي ذكره بعد ذلك .
وقوله (هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ) يعني به ما ليس من قبيل الذنوب إنما ما كان من قبيل الاجتهادات غير ما حصل من القتال بين طلحة والزبير وعلي ومثل ما حصل من القتال بين معاوية وعلي ومثل قصة الحكمين ونحو ذلك مما يذكر .
فما كان من ذلك هم مجتهدون فيه إما مصيبون مأجورون أجرين وإما مخطئون ، وهذا الذي حصل من الخلاف بين الصحابة نعتقد بأنهم ما دخلوا فيه إلا عن تأويل فإنما قصدهم نصره الحق وقصدهم أن ينتصروا للحق وأن يبطلوا الباطل ، فاجتهدوا فمنهم من هو مصيب في اجتهاده ومنهم من كان مخطئا في اجتهاده وليس فيهم من دخل في أمر وهو يعلم أنه ذنب ومعصية ودخل فيه عن عمد وإنما دخل فيه عن اجتهاد فإما أن يكون مصيبا أو أن يكون مخطئا .(2/208)
ولما حصلت الفتنة بعد مقتل عثمان ولم يقر معاوية رضي الله عنه لعلي رضي الله عنه بالخلافة وكانت الخلافة منعقدة لعلي ولكن معاوية لم يقر بالخلافة وحصل ما حصل من المسير إلى معاوية وإلى العراق الاختلاف المعروف لم يدخل من الصحابة في ذلك الاختلاف ما يقرب من ثلاثين رجل بل الأكثر اعتزلوا الاقتتال ، وأقروا بخلافة علي أكثر الصحابة بايعوا عليا وأقروا له بالخلافة وأنه هو الخليفة بعد عثمان رضي الله عنه لكن لم يسيروا معه في الاقتتال لم يبلغوا ثلاثين من الصحابة ، والصحابة فيما حصل من الفتنة والاختلاف كانوا على ثلاثة أقسام :
" القسم الأول منهم من رأى صواب علي وأنه هو الخليفة وأنه محق في قتاله لمعاوية أو في مسيرة لكي يذعن معاوية لبيعته ويبايع لأنه يجب على الإمام أن لا يقر أحدا لا يبايعه إذا بايعه أهل الحل والعقد يجب عليه أن يلجئ هذا إلى بيعته فرأى جمع من الصحابة أن عليا مصيب فساروا معه وأيدوه .(2/209)
" ورأى عدد آخر أن معاوية مصيب في ما طالب به من دم عثمان وأن تسليم القتلة لولي عثمان واجب وأنه يجب الانتصار للمظلوم وعثمان رضي الله عنه كان مظلوما بقتله ومعاوية هو وليه لأنه من آله والانتصار للمظلوم واجب وقد قال جل وعلا { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } فجعل السلطان لولي المقتول ، فاجتهد بعض الصحابة فساروا أو كانوا مع معاوية لأجل هذا الفهم ، فهذا هو القسم الثاني . واستدل ابن عباس وغيره بأن الأمر صائر إلى معاوية وأن الأمر سيكون إليه والسلطان سيكون بيده بعد حين بهذه الآية ، وهذا من جهة الإشارة التي يفهمها بعض من آتاه الله العلم وليست ظاهرة لكل أحد لأن الله جل وعلا قال في ذلك { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } ففُهِم من السلطان أنه السلطان العام { فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } هذا الذي حصل من معاوية فإنه لما ولي وجعل الله له السلطان فإنه لم يسرف في القتل ونصره الله جل وعلا بذلك والصحابة هم أفقه هذه الأمة وهم أبر هذه الأمة قلوبا وهم أعمق هذه الأمة علوما وأقلها تكلفا ، قوم صحبوا رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ولمقام أحدهم ساعة مع رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ خير من عبادة غيرهم كذا وكذا سنة .
" الفئة الثالثة من الصحابة هم الذين لم يصوبوا الاقتتال ، بايعوا عليا وأقروا بخلافته ولكنهم لم يصوبوا الاقتتال وعلي لم يلزم الجميع بالسير معه ، فبقوا في المدينة ومنهم من بقي في غيرها وتركوا الدخول في هذه الفتنة كابن عمر ومن معه . هؤلاء هم الأكثرون .
قال شيخ الإسلام هذه المسائل هي من قبيل التأريخ والتفصيل يعني نختصر الكلام فيها ، قال (إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ) فإن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد .(2/210)
قال (وَهُم مَّعَ ذَلِكَ) يعني أهل السنة (لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ)
أهل السنة لا يعتقدون عصمة الصحابة ، لا يعتقدون أن كل صحابي معصوم بل الصحابة تقع منهم الكبائر وتقع منهم الصغائر .
قد حد النبي عليه الصلاة والسلام عددا من الصحابة في وقته ، وحد الخلفاء بعده عددا من الصحابة أيضا في كبائر من الذنوب ، حصلت منهم الكبائر والصغائر لكن هذا من جهة التجويز على الجملة ، التجويز على الصحابة ، لكن لا يقال الصحابي فلان قد يقع منه كبيرة ، الصحابي فلان يمكن أن يفعل كبيرة بعينه وإنما نقول في الجملة لا نقول إن الصحابة معصومون من الكبائر أو الصغائر بل تقع منهم الكبائر والصغائر جوازا ممكن أنها تقع منهم الكبائر كما حصل وتقع منهم الصغائر ، لكن ما لم نعرف أنه وقعت منه الكبيرة فلا نقول أنه ممكن أنه عمل كبيرة لأن هذا ينافي محبتهم وتوليهم واعتقاد أنهم خير هذه الأمة .
(مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ) الكبائر والصغائر قسمان للإثم وللذنوب .
وتقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر هو الذي عليه الجمهور جمهور أهل العلم لقول الله جل وعلا { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا } فقالوا بمفهوم وجود الكبائر أنها توجد صغائر ، ولقوله تعالى { إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } وهذا في الصغائر ، والأحاديث كثيرة في ذكر تكفير الصلاة لما دون الكبائر إلى غير ذلك ، ذكرنا لكم فيما مضى ضابط الكبيرة وضابط الصغيرة فلا نعيده .
قال (بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ)
الذنوب جائزة عليهم ، جائز أن يعملوا الكبائر ، جائز أن يعملوا الصغائر .(2/211)
قال شيخ الإسلام هنا كلمة مهمة قال (فِي الْجُمْلَةِ) وهذا هو الذي ذكرت لكم أن معناه أن لا يحدد جواز ذلك على واحد منهم ، نقول في الجملة يعني لا نقول فلان من الصحابة يجوز عليه كذا وكذا بل نقول هم - الصحابة - في المجموع يجوز عليهم الذنوب ، وهذه الذنوب التي تجوز عليهم
(لَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ)
قال شيخ الإسلام (لَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ) يعني من الحسنات لأن الله جل وعلا قال { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } وقد قال عليه الصلاة والسلام في حق عثمان لما جهز جيش العسرة (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) كما هو في الترمذي وغيره وقد قال أيضا عليه الصلاة والسلام في الحديث المعروف المتفق على صحته يعني أن أهل العلم صححوه (إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) والأحاديث في ذلك كثيرة .
قال (لَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا صَدَرَ مِنهُم) عبر شيخ الإسلام هنا بقوله (مَا يُوجِبُ) الوجوب هنا هو إيجاب من الله جل وعلا على نفسه بفضله ووعده لأن الله أوجب على نفسه وأحق على نفسه أنه يغفر لمن مات لا يشرك بالله شيئا، أوجب على نفسه وأحق على نفسه أنه جل وعلا يغفر لمن أتى بالحسنات ولمن أتبع السيئة بالحسنة فقال { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } ومن تاب تاب الله عليه ، هذا بوعده الصادق .
وهذا الوعد الصادق بعض أهل العلم يعبر عنه بالحرام وبعضهم يعبر عنه بالإيجاب ، وقد قال شيخ الإسلام في موضع حين كلامه على حديث (أسألك بحق السائلين عليك) حديث أبي سعيد الخدري المعروف (وبحق ممشاي هذا) قال (هو حق أحقه الله على نفسه باتفاق أهل العلم وبإيجابه على نفسه في أحد أقوالهم) .(2/212)
إذن قوله (مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ) يعني بالوجود هنا وجوب الفضل ، والله جل وعلا يحرم على نفسه ما شاء ويوجب على نفسه ما يشاء ، ليس العبد هو الذي يوجب ولكن لما أخبر الله بوعده الصادق أن هذا سيكون ووعده لا يتخلف يكون إيجابا من الله جل وعلا على نفسه .
قال (مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ) فالله جل وعلا قال { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } ورضاه عنهم معناه أنه يعفى عنهم سيئات ما قد يكونون عملوه .
قال (مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُم مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ)
تكفير أو محو السيئات له أسباب عشرة معلومة دلت عليها نصوص ثلاثة من العبد وهي:
1 - الحسنات الماحية .
2 - والتوبة .
3 - والاستغفار .
وثلاثة من المؤمنين وهي :
1 - الصلاة .
2 - والدعاء .
3 - والاستغفار .
أو نقول بدل الصلاة (القرب التي يهديها المؤمنون لمن توفاهم) وفي الدعاء والاستغفار ، وأربعة
......
لا ما هو بواحد ، الدعاء قد يكون غير الاستغفار ، الاستغفار بعض الدعاء الاستغفار يمحو به ، (استغفروا لأخيكم اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث) قال (أو ولد صالح يدعو له) الاستغفار بعض الدعاء ، الدعاء أعم .
......
نعم صلاة الجنازة هي الدعاء .
وأربعة من الله جل جلاله ، إذا قلنا الدعاء يدخل فيه الشفاعة ، إذا قلنا الدعاء من المؤمنين يدخل في الشفاعة في الدنيا وفي الآخرة ويدخل فيها أيضا شفاعة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وأربعة هي :
1 - المصائب التي تحصل للعبد في الدنيا فإنها كفارات .
2 - ما يعذب به العبد في القبر .(2/213)
3 - ما يحصل للعبد من مصاعب في عرصات يوم القيامة .
4 - والأخير هو مغفرة الله للعبد بدون سبب .
هذه عشرة ذكرها بعض أهل العلم ، والمقصود من ذكرها أن هذه العشرة للصحابة منها أوفر النصيب إذا كانت هذه للغيرة متصورة فهي للصحابة من جميع الأمة ، الصحابة فيما بينهم ومن غير الصحابة لهم من وقت الصحابة إلى يومنا هذا ، ولهذا قال شيخ الإسلام (لَهُم مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ) فلهم من ذلك الحسنات التي عملوها هم مقامهم جهادهم إلى آخره ، تقربهم إلى ربهم جل وعلا كذلك الحسنات التي تصلهم من المؤمنين هذه لهم ما ليس لمن بعدهم .
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ
إلى آخر الكلام ، التتمة إن شاء الله في المرة القادمة ...
ما حكم تخصيص آل البيت بلفظ (عليهم السلام) ؟
التخصيص بالسلام أو بالصلاة (عليهم الصلاة والسلام) أو (عليهم السلام) هذا ليس من طريقة أهل السنة والجماعة .(2/214)
والصلاة والسلام لغير الأنبياء تجوز إذا كانت أحيانا أما إذا كانت شعارا دائما لا يجوز ، لأن الشعار بالصلاة أو الشعار بالتسليم إنما هو للأنبياء ، وأما إذا كان أحيانا فقد كان النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ إذا أتاه قوم بصدقات أموالهم قال عليه الصلاة والسلام (اللهم صل عليهم) فأتاه ابن أبي أوفى بصدقة فقال (اللهم صل على آل أبي أوفى) وبوب عليه البخاري كما هو معروف (هل يصلَّى على غير النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) والتحقيق أنه يسوغ أحيانا (اللهم صل على أبي بكر) يسوغ أحيانا (عليه السلام) يسوغ أحيانا ، كذلك لفظ (رضوان الله عليه) أو (رضي الله عنه) في حق غير الصحابة ، الصحابة رضي الله عنهم بقوله جل وعلا { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } وبقوله { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } إلى غير ذلك من الآيات ، فغيرهم لا يجعل له شعرا ، يذكر مثلا الإمام أحمد دائما يقال رضي الله عنه ، الشافعي رضي الله عنه ويجعل هذا شعارا دائما يلتزم في حق من هو من غير الصحابة ، إنما إذا قيل بعض الأحيان بما لا يكون شعارا فإنه لا بأس به لأنه دعاء .
يقول لدينا بعض الطلبة ينكرون أنهم من الرافضة أو الشيعة مع أن بعضهم بحراني والآخر يقال له .. ، فهل نأخذ بظاهر حديثهم أنهم ليسوا من الشيعة ، وكيف نتحقق من أنهم متبرئون من هذا المذهب ؟
ذكرنا مرارا أن الرافضة أو الشيعة عندنا إو في دار الإسلام لهم حكم المنافقين ، يعني يقبل منهم ظاهرهم وتوكل سرائرهم إلى الله جل وعلا ومن أظهر منهم بدعة فيعامل على أنه مبتدع ، إذا أظهر هذا الذي يعني لا نعامله باسمه ابتداء أو نعرف بلده فنعامله على أساس أنه رافضي أو شيعي ابتداء ، لا ، لهم حكم المنافق ، يعني يعامل ظاهرا معاملة المسلم .
انتهى الشريط الرابع و العشرون من شرح العقيدة الواسطية(2/215)
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الخامس و العشرون
ذكرنا مرارا أن الرافضة أو الشيعة عندنا أو في دار الإسلام لهم حكم المنافقين ، يعني يقبل منهم ظاهرهم وتُوكَلْ سرائرهم إلى الله جل وعلا .
ومن أظهر منهم بدعة فيعامل على أنه مبتدع ، إذا أظهر هذا الذي - يعني لا نعامله باسمه ابتداء أو نعرف بلده فنعامله على أساس أنه رافضي أو شيعي ابتداء - لا لهم حكم المنافق ، يعني يعامل ظاهرا معاملة المسلم .
فإن أظهر لك بدعة أو صرح بأنه تبع لهذا المذهب فتعامله على أنه من أهل هذه الفئة أو تلك النِّحْلَة
هل النواصب موجودون الآن ، وإن كانوا موجودين فأين يوجدون ؟
النواصب ذكرنا لكم أنه ليس ثَمَّ طائفة يُقال لهم الناصبة ، وإنما من سبَّ الصحابة وتبرأ من الآل يقال لهم ناصبة ، فلهذا الخوارج يدخلون في أنهم نواصب .
لماذا لا يقال إن خديجة أفضل من عائشة في الآخرة لما نُصَّ عليه الحديث أنها ومريم بنت عمران سيدتا نساء أهل الجنة ؟
هو طبعا الجهات مختلفة فيدخل التفضيل فنختلف أيضاً كما اختلف الأولون .
هل يكفر من سب الصحابة ؟
هذه تأتينا في آخر البحث ، حكم سب الصحابة وحكم سب الزوجات في آخر البحث .
ما صحة ما ينسب للشيخ عبدالعزيز من أنه يكفر الروافض في بلادنا ؟(2/216)
الروافض أصناف وطوائف ، فالرافضة الإمامية الغلاة الذين يُعرفون اليوم بهذا المذهب من حيث العموم يُكَفَّرون لأنهم يعتقدون أن أئمتهم آلهة يُدعَون ويُرجَون ، ويعتقدون جواز مناداة علي والاستغاثة به رضي الله عنه ومناداة الأئمة ولهم معتقدات كثيرة بها نقول من اعتقد ذلك الاعتقاد فهو كافر ، هذا من جهة الجنس لكن من جهة المعين في دار الإسلام ما يُحكم على المعين منهم بالكفر بل يُحكم عليه بظاهره مثل ما ذكرت لكم ، يُحكم عليه ظاهرا بالإسلام وتُوكَل سرائرهم إلى الله جل وعلا ، فمن أظهر منهم من المعينين بدعة حكم عليه بدعة حكم عليه بالبدعة ، من أظهر من المعينين شركا حكم عليه بالشرك ، من أظهر ردة حكم عليه بالردة ، وهكذا ، ولا تؤخذ الطائفة بفعل الواحد في دار الإسلام وهذا الذي عملته العلماء والقضاة في أزمنة الولايات الإسلامية من ولاية العباسيين وقبلهم الأمويين ومن بعدهم إلى زمننا هذا من جهة الفئات التي يحكم عليها بأنها كافرة كعقيدة عامة بفئة ، إذا أتى على المعين لا ، يعاملون كطائفة بأنهم منافقون ويقال الطائفة هذه حكمها كذا ، ولكن المعين يعامل على الإسلام ظاهرا حتى يظهر منه ما يخالف ذلك الأصل ، في الرياض معروف في زمن أئمة الدعوة والمشايخ إلى وقتنا هذا معروف أن الذين يبيعون الذهب هم من الرافضة ، بعضهم من شيعة القطيف ... وكانوا يأتون يصلون مع الناس وإذا مات الواحد منهم صُلِّيَ عليه ، لكن يجتنب الشيخ أو إمام المسجد إذا عرف أنه رافضي يجتنب الصلاة عليه تعزيرا له ، ولكن يجعل المسلمين يصلون عليه ويُدفن في مقابر المسلمين ، هذا عمل أئمة الدعوة رحمهم الله معهم .
ما وجه الجميع بين قولك أنه لا يجوز الدوام في الصلاة على الصحابة والسلام عليهم مع أننا نسلم على أنفسنا وعلى عباد الله الصالحين خمس مرات ؟(2/217)
هذا استشكال في غير مكانه لأن المقصود من ذلك فيما لم يرد به الدليل ، وهذا السلام على أنفسنا وعلى عباد الله الصالحين هذا ليس خاصا بهم ، بل لو قال شيئا أبلغ من ذلك من أن الناس أجمعوا يعني المسلمين أجمعوا على أنه يقال صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه ، فنُدرج الآل والصحب في الصلاة جميعا فهذا أبلغ ، هذا مما أجازه أهل العلم ، أما كلامنا السالف أن يُجعل على فئة شعارا ، يقال فلان عليه السلام مثل ما عند الزيدية أو عند الشيعة : جعفر عليه السلام ، علي عليه السلام الحسين عليه السلام ، الكاظم عليه السلام وهكذا .
هل ما يكتب في كتب التاريخ كتاريخ ابن جرير والبداية والنهاية وغيرها مما ذُكِرَ من الأحداث مما جرى بين الصحابة يشمل عدم الإمساك عما شجر بينهم ؟
الكتب ، كتب التاريخ على قسمين :
" منها ما هو بالإسناد ، ما كان بالإسناد فالقاعدة عند أهل العلم أن العالم إذا ذكر إسناده فقد تبرأ من العُهدة ، يذكر لك الإسناد وهذا الإسناد فيه رواية فلان المعروف بأنه كذاب ، انتهى من العُهدة ما دام ذكر لك الرجال وكان أمينا معك فذكر الرجال فقد تبرأ من العُهدة يعني عهدة ما ذُكر في الرواية .
" وأما الكتب التي ليس فيها إسناد كالبداية والنهاية وغير ذلك ففيها من التفصيل ما هو مهم في فهم ما جرى ، فالإمساك عما شجر بينهم يعني من الاختلاف ، أما إذا كان فيه بيان الحق أو بيان وإيضاح لما حصل فإنه قد يكون ذلك فيه مساعدة على الإمساك لأنك إذا عرفت الوِجهة أمسكت وأما إذا لم تعرف الوِجهة وِجهة هؤلاء ووِجهة هؤلاء لا يقتنع المرء بالإمساك فيكون وسيلة من وسائل الإمساك .
والتاريخ يُتَجَوَّزُ فيه ما لا يُتَجَوَّزُ في غيره .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :(2/218)
فهذا الدرس بداية لدروس هذا العام الذي أسأل الله جل وعلا فيه أن يكون عملنا فيه صالحا وعلمنا فيه نافعا وأن يجعلنا من المقبلين على الحق المتواصين به الذين يريدون وجه الله جل جلاله في كل أعمالهم .
ولا يخفى أن العلم هو أشرف مطلوب وأن السعي فيه سعي في أشرف المطالب وأعظمها فنَفَسُ طالب العلم عبادة وحركاته إذا كانت فيه في عبادة وذلك إذا كان مخلصا لله جل وعلا فيه ، فإن الملائكة كما جاء في الحديث الصحيح (تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) (ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة) .
فأعظم المطالب لمن عقل : العلم ، العلم بالله جل وعلا وبكتابه وبرسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وبسنة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، هذا هو أشرف المطالب وأعظمها .
فمن كان من الموفقين وُفِقَ إلى هذا الأمر العظيم وهو أن يطلب العلم لله جل جلاله وأن يخلص فيه القصد له سبحانه وتعالى .
وقد قال العلماء (أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون العلم لأن العمل يكون بعد العلم { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } .
والعلم بلا إله إلا الله هو علم بالشريعة ، والشريعة تضم الاعتقاد والأحكام .
لهذا في إقبالنا على هذه الدروس نُكرر الوصية بالجد في طلب العلم ونكرر التحذير أن لا تتوالى الأيام وتنقضي الأعمار والناس إما في غفلة عن هذا العلم وإما أن يكونوا يطلبونه على غير وجهه.
والعلم سهل ميسور لأن الله جل وعلا سهَّلَه فقال سبحانه { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } وتيسير القرآن للذكر يشمل تلاوته وتدبره والعلم بما فيه .(2/219)
فالعلم الشرعي سهل ميسور ، فإذا نظرت إلى العلوم الأخرى التي وُرِثت من الأمم المختلفة من حصاد العقول أو حصاد التفكير في الروحانيات كما يزعمون وجدت أنها مغلقة إلا بمجاهدة عظيمة ، أما هذا العلم بالكتاب والسنة فهو سهل ميسور ولكن لمن أنعم الله جل وعلا عليه بالنية الصالحة وبالإقبال عليه والثبات عليه والحرص على ما ينفعه .
وكما هو معلوم أن العلم له خطوات وله طرائق من فاتته فاته تحصيل العلم على وجهه .
ومن تأمل في طريقة السلف وجد ذلك ظاهرا بينا ، فإنهم يطلبون العلم شيئا فشيئا ، وإذا كتبوا رحمهم الله إذا كتبوا الأحاديث فإنهم يتفقهون فيها وينظرون فيها نظر المتأمل ونظر الذي يستنبط العلم أو يكتب العلم بعد معرفة دليله .
فالأصل في التعلم أن يكون بالأدلة ، يعني أن يطلب طالبُ العلم القرآنَ ويتفقه في القرآن ، و أن يطلب الحديث ويتفقه في الحديث ، هذا هو الأصل .
وأهل العلم مَشوا على هذا نحو ثلاثة قرون من الزمان وصار المتميز منهم يكون فقيها بالكتاب والسنة بعد مدة من الزمن طويلة لأن التفقه في النصوص ابتداء هو الأصل ولكن يَطْلُبُ طَالِبَ علمٍ مُجِدٍ ويَطْلُبُ معلما محيطا بنصوص الكتاب والسنة وبالعام والخاص والناسخ والمنسوخ وكلام الناس في ذلك .
ولهذا ترى في هذا الزمن هناك من يقرر العلم لكن لو أتي له بتفسير القرآن أو بتفسير السنة فإنه قد لا يُخْرِجُ نفسه من كثير من الإشكالات وذلك لأن الفقه في النصوص يطلب علما واسعا .
ولهذا لما فتر الزمان وضعفت همة طلاب العلم عن الاستقصاء وعن طلب الحديث ولقاء العلماء والرحلة في ذلك خفف أهل العلم على المحصلين فصنفوا لهم الكتب المختصرة في التفسير وفي الأحكام في الفقه وفي العلوم المساعدة بخلاف الأصل الذي درج عليه الأولون .
وهذا منهم رحمهم الله تعالى لأجل تيسير العلم على الناس لأن الناس ضعفوا عن حمل العلم كما حمله السلف الصالح .(2/220)
ولهذا تجد أن فقهاء الإسلام في الصحابة والتابعين كثير ثم فيمن بعدهم أقل ثم فيمن بعدهم أقل وهكذا ، وهذا لصعوبة العلم من جهة أنه يَطلب توسعا في النظر وتوسعا في أخذه .
هو سهل من جهة استقباله ميسر لمن أقبل عليه لكنه كثير المسائل كثير التفصيلات .
نظر أهل العلم بعد ثلاثة قرون فوضعوا الكتب المختصرة في فنون شتى ، ومن أهم ذلك العقيدة والفقه وأدلة الأحكام .
فالسلف لم يجعلوا العقيدة على شكل مختصرات بل كانوا يجعلونها في كتب مبسوطة كما ترى في كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد وفي كتاب التوحيد لابن خزيمة وفي كتاب التوحيد من صحيح البخاري والسنة من سنن أبي داود والسنة من ابن ماجه وهكذا في كتب كثيرة ، والإيمان والشريعة والتوحيد ونحو ذلك من الكتب والقدر وغيرها .
فكانت كتبهم فيها البسط لأنها تليق بمكانتهم وبمن يتلقى لكن صارت حاجة المتعلمين إلى المختصرات لتضبط الأصول فصار الأمر بعد ذلك تسهيلا أن يُبْدَأَ بالمختصر الذي فيه فقه النصوص يعني الذي كتب فيه مصنفه ما يعلمه من فقه النصوص ومما قرره أئمة الإسلام .
فكُتِبَت المختصرات في العقيدة وفي الفقه وجُمِعت أدلة الأحكام وكتبت المختصرات في العلوم المساعدة كأصول الفقه والنحو ومصطلح الحديث ونحو ذلك .
هذا كله تيسيرا ، هذا كله لأجل التيسير ومخالف للأصل ولكن هكذا لما ضعف الحفظ وضعفت همة الناس كان لزاما أن يُحفظ الدين بوضع هذه الكتب .
وإذا تأملت وجدت أن أكثر الذين يرومون طلب العلم على طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم من التوسع في فهم معاني نصوص القرآن بمطالعة كلام السلف عليها وكذلك في تتبع الأحاديث وأخذ الفقه منها تجد أن الأمر يطول عليهم جدا وربما التبست عليهم المسائل .
لا شك أن هذا هو الأصل ولكن ذاك أصل إذا شابهت طريقتنا واستعداداتنا استعدادات السلف وطلاب العلم في ذلك الزمان .(2/221)
لكن أهل العلم بعد القرون الأُول اختلفوا فيما يعلمون الطلاب عن تلك الطريقة الأولى ، وسلكوا عليها إلى زماننا هذا في العناية بالمختصرات وطلب الدليل بعد تقرير المسألة .
أما طريقة السلف فالدليل أولا ثم الاستنباط ، لكن طريقة المتأخرين المسألة ثم دليلها وهذا لأجل أن تكون المسألة التي هي حصيلة فهم ذلك العالم بنصوص كثيرة وقد يكون بعضها يحتاج إلى أن يوفَّق بينه وبين بعض آخر من النصوص بضرب من استعمال أصول الفقه وأوجه الدلالة المختلفة وقد يكون بالنظر إلى فهم الصحابة وقد يكون بالنظر إلى فهم اللغة ونحو ذلك فجعلوا المسألة أمامك بخلاصة ما أدى إليه اجتهاد ذلك المصنف ثم الدليل عليها .
هذا صار فيه مشاكل منه من جهة أن المتعصبين للآراء والمذاهب أصبح كلّ يدلي بتأصيله في المسألة ويكون الدليل على وفق ما يفهم من يقدِّم ما يفهم من يتعصب له ، وهذا لا شك أنه سبّب ثغرة في هذه الطريقة في العلم من جهة التعبد لأن الأصل الذي كان عليه السلف أن يأخذ بفقه النص من الكتاب والسنة وهو يأخذ على الفقه على جهة التعبد كما جاء (قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) فهو في تعبد لأنه يطلب علم الكتاب والسنة .
بعد ذلك لما شاعت الأمور المختلفة كما ذكرنا صار العيب في شيء واحد وهو أن تُصنف المصنفات على جهة التعصب ، هناك كتب مختصرة في الفقه كانت على جهة التعصب أو على جهة نصرة مذهب معين ومنها ما هو لتقرير مذهب ، يعني أن يُنظر في هذا الكتاب المؤلَّف على اجتهاد إمام من الأئمة كما صُنفت المختصرات الكثيرة ، لكن منها ما هو على غير هذه الجهة بل على جهة نُصرة المذهب لا بتقريره للمتعلم .
لهذا كان هناك ضرورة للأخذ بما درج عليه الأئمة من فهم العلم على طريق تلك الكتب وبالأخذ عنها وكان هناك ضرورة أيضا أن الأخذ ذاك لأجل التصور لا لأجل التعصب .(2/222)
فهاتان مسألتان مقترنتان مهمتان ، أن هذه المختصرات تؤخذ على طريق التفقه والفهم والعلم ، ثم الأدلة عليها يهتم بها طالب العلم ولا تؤخذ على جهة التعصب لأن أصل التعبد في العلم أن تتعبد بفهم نصوص الكتاب والسنة .
من الذي يُفهمُك النصوص ؟
أهل العلم ، فأهل العلم وسائل ، أدوات لإفهام ما دلت عليه النصوص لأنهم أمضوا أعمارهم وأتعبوا أفهامهم في فقه النص ، في فقه ما أنزل الله جل وعلا على رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فهم أدوات للفهم فهم يشرحون ليُفهِموا الشريعة .
فإذن أهل العلم على هذه المثابة فلا يُتعصب لقول وإنما يُتعصب لدليل ذلك القول .
إذا كانت المسألة اجتهادية فلك أن تثق بقول أوثق العلماء لديك إذا التبَسَت .
وهذا طبعا لا يصلح للمبتدئ في طلب العلم وإنما المبتدئ في طلب العلم يجتهد في تصوير المسائل وفي النظر فيها يعني في أن يفهم الصور صورة المسألة في العقيدة في الحديث في الفقه في العلوم المساعدة يفهم الصورة ثم الحكم عليه ، فالحكم حكم تلك الصورة ثم الدليل على ذلك الحكم .
هذه الثلاث المراتب المهمة : تحقيق الصورة ثم الحكم ثم الدليل .
واجْتَهِد أن لا تُدخل رأسَك إلا صورة صحيحة ثم بعد الصورة أن يكون الحكم منطبقا على تلك الصورة ثم أن يكون الدليل مع وجه الاستدلال لتلك الصورة .
هذا هو العلم الثلاث مراتب هذه : صورة واضحة ، إذا خالفت أن تكون الصورة واضحة معناه دخلت وفيه تشويش ، تقرأها بسرعة أو تسمعها ولا تجتهد أن تفهمها مئة في المئة تُدخلها الذهن على أن تكون واضحة لا لبس فيها ، هذا إذا احتجتها بعد فترة تكون مشوشة في ذهنك وإذا كانت مشوشة ما حصلت العلم .(2/223)
يأتي ما ينبني على تلك فيكون مشوشا ، يأتي ما يشابهها فيكون مشوشا وهكذا وأنا أرى من جهة الشباب في كثير مما يتعاطون من المسائل التي يلتبس فيها أو ما يوردون من الأسئلة التي فيها إشكالات إنما جاء من جهة أن فهمه لأصل المسألة أو لذلك الباب ليس مُقَعَّداً ، فهمه كان على شيء من التشويش وهذا لا ينبغي بل هو مضر بذهن طالب العلم . هذا ما يتعلق بالمسائل .
الجهة الثانية فهم الأبواب وهذا من أهم ما يكون في الذهن وما يرتبط العلم به لأن الأبواب مُقَعَّدَة ، كل باب له قاعدة ينبني عليها ذلك الباب أو له قواعد ينبني عليها ذلك الباب .
فمثلا الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم لو ما علمت تفاصيله لكن هو مبني على قاعدة إذا ضبطت القاعدة وتصورتها في الذهن تماما فلو أُورِدَت إشكالات في هذا الباب في باب الصحابة والكلام عليهم رضوان الله عليهم أجمعين لن يكون هناك مدخل للشبهة ، سوف تكون شبهة أو إيراد يحتاج إلى جواب لكن التقعيد الذي أخذته عن أهل العلم لا يهتز .
وهذا هو المهم في طالب العلم أن يكون الباب عنده مُقَعَّدَا لا يهتم بكثرة المسائل والصور إنما أن تكون قواعد الباب محكمة يعني أن ينظر في الباب مرة مرتين ثلاث حتى يتصور هذا الباب بُنِيَ على أي شيء ، بعد ذلك صوره إذا زادت أو المسائل إذا كثرت فهذا من ازدياد العلم لكن مع إحكام الأساس .
فصار عندنا إذن جهتان :
- الجهة الأولى جهة التقعيد تقعيد الأبواب وهذا من أهم المهمات .
- والجهة الثانية تقعيد المسائل .(2/224)
لهذا تجد أن أهل العلم لو استفتيت أو سألت أو أوردت على بعض أهل العلم حديثا مثلا فيه إشكال أو يصادم تقعيدا في باب أو أوردت آية ما فهمتها أو احتج بها بعض أهل العلم أو أوردها بعضهم في استدلال له مما يصادم ما تعلم من تحقيق العلم في باب من الأبواب ، قد لا يكون عند العالم اطلاع على هذه المسألة أو هذا الإيراد أو على هذا الاستدلال لكن يقول يكون عنده من فهم ذلك الباب وتقعيده ما يظل ثابتا على ذلك التأصيل ويقول هذا يُبحث عنه يُنظر لعله كذا لعلها توجَّه بكذا لعل المراد كذا أو المقصود كذا .
هذا هو حقيقة العلم ليست حقيقة العلم بأن تظل وراء المسائل بدون تأصيلات للباب في تقعيده وللمسائل في تصويرها لأن الإيرادات على القواعد كثيرة تختلف ما بين فن وفن لكن إحكام تقعيد الأبواب هذا مهما ورد عليك من الإيرادات والإشكالات وأنت تقرأ في كلام بعض أهل العلم فإنه يظل معك الأصل سليما.
وإذا ضبطت القواعد وتأصيلات المسائل فلو قرأت في الكتب المطولة في الحديث ، في شروح الحديث كفتح الباري أو في الفقه كالمغني والمجموع فإنه لن يضرك ذاك ، لم ؟
لأن التقعيد والتأصيل سليم ، فلو جاء ما جاء من الصور أو من المذاهب المختلفة أو من الاستدلالات أو الأقوال أو عشرة أقوال أو اثنا عشر قولا أو أربعين من الأقوال فإنك لن تلتبس عليك المسألة لأن التقعيد موجود عندك أما إذا لم يكن أو كان مهتزا فإنك تضيع ، لهذا أجد أن كثيرا من الإخوان الشباب طلبة العلم يوردون إشكالات وتستغرب أنه يورد الكثير من الإشكالات
لم ؟
لأن كثرة إيراد الإشكالات يدل على أن التأصيل غير جيد ، أو التقعيد فهم الباب غير جيد ، فمنهم من أورد إشكالات كثيرة على أبواب من كتاب التوحيد بل منهم من أورد إشكالات على تأصيل المسائل في التوحيد أصلا ، فجاء من قال أتى بأقوال ويستدل لها بما يرى بما يخالف ما هو مقرر في التوحيد والعقيدة ، هذا يدل على عدم الإحكام .(2/225)
ورود الدليل بما يخالف ما قعده الأئمة هذا تنظر إليه أولا في (كيف نفهمه) لكن لا يهتز ما عندك من التأصيل ، كيف تفهمه ؟ ما وجهه ؟ نذهب نبحث نسأل أهل العلم أو نبحث في الكتب ، تجد مخرجه خاصة في المسائل يعني في التقعيدات ، تقعيدات الأبواب في التوحيد والعقيدة وفي الفقه ، أما في المسائل يعني في الحكم على المسألة هذا نعم تختلف باختلاف ما جاءت به الأدلة .
فإذن هذان نوعان مهمان الأول في تقعيد الأبواب ، تتأمل تجلس تتأمل مع نفسك تتأمل حتى تحكم تقعيد الباب ، ثم تصوير المسائل ، والتقعيد يكون بعد التصوير في الواقع ، لأنك إذا قرأت مسألة مسألتين ثلاث فهمتها مع عالم يأتي التقعيد بعد ذلك تضبط ذلك الباب .
إذا ضبطت التقعيد تنتقل من مختصر إلى ما هو أطول منه تكبر عندك أوراق الشجرة أو تعظم عندك فروع الشجرة ، تتفرع تتفرع لكن الجذع الأصلي عندك محكم .
كثرة المسائل بحسب استعداد الذهن ، من الناس من يكون حافظا ذهنه مستعد لأن يقبل مئة صورة مئتين ثلاث مئة صورة في الباب الواحد ، منهم من لا يكون كذلك يكون أقل .
لكن المهم في طلب العلم أن تكون القاعدة سليمة ، أما المشوش فهذا لا يسمى طالب علم اللي دائما مشوش لابد أن يبدأ من جديد .
أيضا مما ينبغي طرحه في ابتداء هذه الدروس كوصية في العلم والتعلم أن يكون نظرك في العلم مستمراً حتى تحكم العلم أعني بذلك أن بعض العلوم لا تفقهها وتفهمها إلا إذا كنت لها دون غيرها
مثلا التوحيد والعقيدة هذه تحكمها وتقوى فيها إذا كنت لها دائما تبحث فيها دائما تبحث فيها شيء من عمرك حتى تحكم قواعدها جميعا وتضبط ذلك ، تكون عندك القاعدة ، بعد هذا لو انتقلت إلى علم آخر يعني من حيث الاستيعاب وكثرة البحث فيه يكون تأصيل هذه قد استقام.(2/226)
مثلا في العلوم المساعدة النحو ، النحو من العلوم التي لا تُطلب مع مشاركة شيء آخر ، يريد ذلك العلم طالبَ علم متفرغ له فترة من الزمن حتى تحكمه ، سنة إذا ضبطته جدا انتهى خلاص بعد ذلك يكون تفريعات مسائل وقراءات تكون سهلة تستلذ لها كما تقرأ كلاما صحفيا أو نحو ذلك لأن التقعيد مشى عندك لكن هذا ما يصلح بالمخالطة .
أقول هذا لأن بعض طلبة العلم يضع له جدولا يقول مثلا يوم السبت يكون لي كذا وكذا وكذا ، يوم الأحد أقرأ في كذا وكذا يوم الاثنين أقرأ في كذا يجعل له جدولا وإذا به يقرأ في تسعة أنواع من العلوم أو ثمانية أنواع من العلوم وهذا غير صحيح ، هذا يكون بعد التأصيل والتقعيد ، يكون استزادة من المعارف والعلوم نعم يصلح ، لكن في البداية وهو لم يحكم علما تختلط عليه العلوم يدخل عليه ما ورد في التفسير من مثلا الخلافات النحوية على ما في النحو على ما في أصول الفقه على ما في مصطلح الحديث ، ما في العقيدة ، التوحيد يدخل مثلا على ما في الفقه وهكذا تختلط معه .
لكن الذهن خاصة في ثلاثة علوم التوحيد العقيدة والفقه والنحو ، هذه العلوم الثلاثة ما تقبل الشركة ، أما غيرها فيمكن أن يؤخذ على مر الأيام والليالي بحسب ما جربت يعني شيئا فشيئا ، التفسير تأخذه شيئا فشيئا ، الحديث شيئا فشيئا حسب ما تقرأ تستفيد ، وكذلك العلوم الُأخر .
نعم سم الله .
العقيدة الواسطية بقي لنا فيها ربما أربع جلسات يعني أربعة دروس ...
الكلام في الصحابة بعضه متصل ببعض ما تركناه منه جُمَل تقرؤنها أنتم إن شاء الله .
موقف
أهل السنة والجماعة
من كرامات الأولياء(2/227)
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، كَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية رحمه الله تعالى :
(وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
هذا المبحث مبحث الكلام على كرامات الأولياء يُذكرُ في كتب الاعتقاد لمخالفة المعتزلة والعقلانيين فيه .
فكرامات الأولياء يُنكرها أهل الاعتزال ومن شابههم ، وأهل السنة يُقِرُّون بها ويصدقون بها لما جاء من الأدلة في ذلك .
فوضَعَ أهل السنة بحث كرامات الأولياء في كتب العقيدة لمخالفة أهل السنة للفرق الضالة في ذلك.
وسبب الضلال في هذا الباب عند أهل الاعتزال وغيرهم ومنشؤه أنهم أصَّلُوا أصلا في آيات وبراهين الأنبياء .
لأن آية النبي وبرهان نبوته قائم على خرقه للعادة .
فما أجرى الله من الآيات على يد الأنبياء والرسل كعصا موسى عليه السلام وكمسح عيسى عليه السلام للمريض والأكمه والأبرص ونحو ذلك وكدخول إبراهيم عليه السلام النار ونحو ذلك من الآيات والبراهين الدالة على صدق الأنبياء العمدة فيه في ذلك عندهم عند المعتزلة ومن شابههم أنها أمور خارقة للعادة .
قالوا فإذا كان ذلك خارقا للعادة فمعناه أن الآية قامت للنبي في نبوته .(2/228)
فإذا كان هناك خوارق للعادة أُخَر يجوز أن تقع لغيرهم من السحرة والكهنة أو من الأولياء فإن النبوة تكون مشتبهة وليس لها دليل واضح لأن عمدة الدليل عندهم على خرق العادة ، وكرامات الأولياء خوارق للعادات وسحر الساحر خوارق للعادات وهكذا .
لهذا لا يصدقون بكرامات الأولياء ولا بالخواق التي تكون على أيدي مُمَخرِقين لأن ذلك عندهم يجعل حجة النبي غير قائمة كما ذكرت لك .
هذا أصل شبهتهم وأصل ضلالهم في هذا الباب .
فخالفهم أهل السنة في التأصيل وفي التفريع :
- خالفهم في التأصيل من أن خرق العادة الذي ذكروه لا يُفهم على ما فهموه
- ومن حيث التفريع فإن النصوص ثبتت في كرامات الأولياء والأدلة عليها كثيرة جدا في الكتاب والسنة وفيما وقع وتواتر ، فمن حيث التفريع أيضا تُثبَت لمجيء الأدلة عليها في الكتاب والسنة وقيام الدليل القطعي العقلي من حيث التواتر بحصول ذلك في الأمم المختلفة .
قال هنا رحمه الله (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ)
قبل أن نتكلم على الكرامات والأولياء والولي هذه الكلمة مهم أن تُفهَمَ فهما صحيحا وهي (خَوَارِقِ الْعَادَاتِ) ما المراد بذلك ؟
وهذا اللفظ مُخْتَرَع اخترعه المعتزلة وليس في نصوص الكتاب والسنة هذا الاسم (خارق للعادة) ولهذا يجب أن يُفهم بما لا يعارض النصوص .
المصطلحات لا بأس بإحداثها لكن تُقَيَّد بما دلت عليه النصوص .
لهذا نقول في قولهم (خارق العادة) هذا (العادة) هذه عادة من ؟
فإذا فصّلنا في (العادة) هذه عادة مَنْ اتضح الفرق العظيم بين آيات الأنبياء وبراهين صدق الأنبياء وما بين كرامات الأولياء وما بين خوارق السحرة والكهنة ونحو ذلك .(2/229)
" فآيات الأنبياء وبراهين الأنبياء خارقة لعادة الخلق جميعا ومن أعظمهم في ذلك الجن والإنس جميعا ولهذا قال جل وعلا { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } فعصا موسى عليه السلام بانقلابها حية تسعى تلقف ما يأفك أولئك السحرة هذه خارقة للعادة .
عادة من ؟
عادة المخلوقات جميعا ، عادة الجن والإنس والملائكة إلى غيرهم ، لا يمكن أن يأتي أحد بمثل هذا إلا الله جل وعلا لأن في ذلك تحويلا وخلقا وهذا إنما هو لله ، إحياء الميت ، إبراء الأكمه والأبرص بمسحة هذا ليس في عادة الإنس ولو اجتمعت أطباؤهم وليس في عادة الجن ولو اجتمعت حكماؤهم وأطباؤهم وليس في عادة أحد .
فإذن آيات وبراهين الأنبياء خارقة لعادة المخلوقات أو تقول خارقة لعادة الجن والإنس جميعا .
" وكرامات الأولياء خارقة للعادة ، لكن عادة من ؟
هل هي عادة الجن والإنس جميعا ؟
لا ، لو كانت عادة الجن والإنس جميعا لاشتبه ذلك بالنبوة لكن هي خارقة لعادة الناس في زمانهم.
ولهذا نقول كرامات الأولياء قد تكون من جنس آيات الأنبياء لكن يختلف خرق العادة في هذا وهذا ، ويختلف أيضا جنس الآية بين هذه وهذه .
قد تشترك معها ، مثل أن إبراهيم عليه السلام دخل النار فكانت بردا وسلاما عليه ، كذلك أحد الصحابة في اليمامة دخل النار فلم تحرقه ، فالنار هذه والنار هذه جنس لكن هذا من كونه من جنس تلك النار يعني نار إبرهيم والنار التي أججوها لهذا تختلف ، وأيضا سلامة إبراهيم تختلف عن سلامة هذا ، وآية إبراهيم في ذلك في تحديهم يختلف عما وقع للصحابي في ذلك .
هناك بعض آيات الأنبياء قد تكون من جنس ما حصل لكن لا تساويها في العِظَم وفي التحدي بها وفي إضطرار الناس على أن ذلك لا يكون إلا من عند الله جل جلاله .(2/230)
فإذن نقول كرامة الولي خارقة للعادة كما قال شيخ الإسلام هنا لكن هي عادة الناس في زمانهم ، ليست عادة الناس في كل زمان .
قد يكون يتقدم الزمان ويكون يُفعل بمثل ما فعل .
مثل مثلا منهم من انتقل إلى مكانه إلى مكان آخر في مدة وجيزة ، هذه كرامة ، في ساعة انتقل من الرياض إلى مكة في ذلك الزمن هي كرامة لأنها ليست من عادة الناس .
إذن من الذي جعل ذلك للولي ؟
الله جل وعلا فصارت كرامة له ، حصلت في هذا الزمان .
خوارق السحرة والكهنة ونحوهم هي خوارق لمن ليس منهم ، ليست للناس لكن خارقة لعادة من ليس ساحرا ، خارقة لعادة من ليس كاهنا فصارت أظهر لأن الشياطين تساعدهم والسحرة والكهنة كل منهم يُمِدُّه شيطان .
فإذن صار هذا المُسمى (خارق للعادة) اصطلاح جديد يجب أن يُفهم على ما يتفق مع ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة .
فالقرآن العظيم خارق للعادة ، عادة من ؟
عادة الثقلين بل وجميع المخلوقات والملائكة لهذا قال جل وعلا { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } وقال جل وعلا { قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ } فالآيات هذه من الله جل وعلا .
فإذن التأصيل الذي تأصل به الضُلاّل من المعتزلة وغيرهم في هذا الباب بما نفوا به كرامات الأولياء مبني على مقدمة غلط ، لفظ اخترعوه ثم فهموه غلطا ونتج عن ذلك أن قيدوه ببعض الأحوال وهذا من جراء عدم استيعاب فهم نصوص الشريعة .
قال (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
قوله (التَّصْدِيقُ) فيه الإقرار بحصول ذلك ، قد يحصل له وقد لا يحصل له لكن من حيث إيمانه بوقوع الكرامات للأولياء هو مؤمن بذلك مصدق ليس في شك من ذلك .
لم ؟
لأنه قد جاء في النصوص في الكتاب والسنة .(2/231)
فالتصديق بما دلت عليه النصوص واجب من الواجبات لذلك كان من أصولهم التصديق بكرامات الأولياء .
وقوله (كَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ) هذه فيها كلمتان :
- (كَرَامَاتَ) وهي جمع كرامة
- و (أَوْلِيَاءِ) وهو جمع ولي .
والولي له معنى في اللغة وهو المحب الناصر { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } الولي هو الناصر .
والوَلاية المحبة والنصرة { هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } الوَلاية - بالفتح فتح الواو - المحبة والنصرة ، أما الوِلاية بالكسر فهذه هي الإمارة ، هذا في اللغة ، فالولي هو المحب الناصر تقول هذا وليي يعني محب لي وناصر لي ، ومنه قول الله جل وعلا { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } .
أما في الاصطلاح فالولي هو (كل مؤمن تقي ليس بنبي) ، الولي عند أهل السنة كلُ مؤمن تقي ليس بنبي .
اشتمل التعريف على أن الولي من جهة الاسم الاصطلاحي لا يدخل فيه الأنبياء أما من جهة الأصل فإن الأنبياء أولياء بمعنى أنهم مؤمنون أتقياء لكن إذا قيل هنا كرامات الأولياء فنعني بهم كرامات المؤمنين الأتقياء الذين ليسوا بأنبياء ، فلا تدخل في بحثنا براهين الأنبياء وآيات الأنبياء وما يحصل على أيديهم من خوارق العادات لا يدخل في هذا البحث لأن الولي هنا لفظ اصطلاحي يُعنى به كل مؤمن تقي ليس بنبي .
قالوا (كل مؤمن تقي) لأن الله جل وعلا قال في سورة يونس { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } فالله جل وعلا جعل الأولياء هم المؤمنون الأتقياء .. (1) فالتعريف مأخوذ من الآية بظهور ووضوح .
__________
(1) 1 مسح بالشريط(2/232)
إذا تأملت ذلك فالتعريف نفهم منه أن الوَلاية تتبعض لأن الإيمان والتقوى في أهله يتبعض .
فكل مؤمن تقي ليس بنبي ولي .
والإيمان يتبعض والتقوى تتبعض فينتج من ذلك أن الوَلاية تتبعض .
لكن اسم الولي يطلق على من كَمَّلَ الإيمان والتقوى .
فقولهم (كل مؤمن تقي) يعني من كَمَّلَ الإيمان والتقوى واجتهد في ذلك ، وهذا هو الذي يطلق عليه الولي ، وقد يكون هناك كرامات لمن لم يكمل الإيمان والتقوى بحسب ما يناسبه .
هذا تعريف الولي ، هناك مباحث متصلة بذلك نتركها .
أما الكرمات فهي جمع كرامة وهي في الأصل نعمة خاصة ، يعني في اللغة الكرامة هي النعمة الخاصة ، ولهذا قال جل وعلا { فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } { فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } هذا الإكرام نعمة خاصة ، إنعام خاص مزيد على الإنعام العام .
أما في الاصطلاح فالكرامة عندهم هي - أعني تعريفها - أمر خارق للعادة جرى على يدَيْ ولي.
هذا تعريف الكرامة أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي .
وقولهم (خارق للعادة) هذا يُقَيد بأنه عادة الناس في زمانهم وليس هو عادة الجن والإنس ، بل قد تفعل الجن بأصحابها ، تفعل شياطين الجن بأوليائها كما يُفعل أو كما يحصل للولي .
فقد تجد مثلا من حيث الإمكان هذا وهذا هذا يمضي على الماء يمشي عليه وكأنه جَدَدٌ من الأرض يبس وذاك الآخر يمشي على الماء وكأنه جَدَدٌ من الأرض يبس ، وهذا يكون وليا وذاك يكون مُمَخْرِقا يعني خدمه شيطان .
ولهذا قال من قال من السلف (لا تغتر بهم وإن مشوا على الماء أو طاروا في الهواء حتى يكونوا على الكتاب والسنة) لا بد من شاهدين : شاهد من الكتاب والسنة يعني من حيث التزام هذا بالكتاب والسنة .
أهل البدع والضلال قد يحصل لهم شيء من الخوارق ، ولهذا نقول الخارق ليس هو ميزان للولاية ، بل الميزان أن يكون هذا الخارق جرى على يدي مؤمن تقي .(2/233)
قلنا الكرامة أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي ، والولي هو المؤمن التقي ، فخرج بذلك ما يجري من خوارق العادات على يدي من ليس بمؤمن تقي من أصحاب الفسق والفجور والبدع المضلة ونحو ذلك .
وهذا فيصل مهم بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان فيما يحصل لهم من خوارق العادات .
قال شيخ الإسلام هنا رحمه الله (وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ)
قوله (يُجْرِي اللهُ) هذا فيه أن الذي حَصَّلَ لهم الكرامة أو الذي أَنْعَمَ عليهم بالكرامة هو الله جل وعلا ، فليس باختياره أن تحصل أو لا تحصل بل الله جل وعلا هو الذي ينعم عليه بذلك (يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم) ينعم عليه بذلك قد يكون لحاجته وقد يكون تفضل من غير احتياج :
- من جهة حاجته كما حصل أن أحد الصحابة مات فرسه فدعا الله فقام حيا - الفرس - حتى أوصله إلى أهله لأنه مات في مكان ليس فيه أحد يخشى معه بهذا الهلاك فدعا الله فأحياه له فلما وصل إلى بيته ودخل الدار خر الفرس ميتا مرة أخرى ،رؤية عمر لسارية وللجيش وسماع سارية لعمر هذا من جهة الحاجة .
- وقد يكون من غير حاجة ينعم الله جل وعلا عليهم ابتداء ، سفيان الثوري والحسن البصري كان هناك من يطلبهم من السلطان سلطان زمانهم فدخل الشُرَطُ ينظرون في المنزل ويفتشون وكان الحسن جالسا في صحن الدار وسفيان أيضا كان جالسا في صحن داره ولم ير الشُرَطُ الحسن ولا سفيان ، هذا من جهة إكرامه ، إنعام ، ليس هو بحاجة يعني يحتاج إلى ذلك أو هو وقع في نفسه أنه محتاج لكن إنعام من الله جل وعلا وإكرام .
ولهذا قال العلماء إن الكرامة لا تدل على رفعة من حصلت له .
وهذا من أصول أهل السنة في باب الكرامات أن الكرامة لا تدل على رفعة من حصلت له وأن من لم تحصل له أضعف ممن حصلت له ، وذلك لأن أكثر الصحابة ما حصلت لهم كرامات ، والكرامات في التابعين أكثر وهكذا .(2/234)
وقد قال بعض أئمة أهل العلم إن كثرة الكرامات فيما بعد القرون المفضلة راجعة إلى ضعف الإيمان لأن منهم من لو لم تحصل له كرامة لشك في الله أو لشك في الرسالة لأنه جاهد نفسه في الإيمان والتقوى فلو حرم الكرامة لحصل له شك ، وقد يكون ذلك من جهة ذنبه أو من جهة ضعف إيمانه ، فحصول الكرامة لمن حصلت له إنعام وإكرام من الله جل وعلا وإجراء على يدي ذلك الولي أو من حصلت له الكرامة ، وليس بدال على أنه أفضل ممن لم تحصل له .
قال (مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ)
هذه الكلمة من شيخ الإسلام (أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ) هذا ذكر لنوعي الكرمات .
الكرامات نوعان :
- كرامات من جهة العلم والكشف .
- وكرامة من جهة القدرة والتأثير .
" الكشف والعلم قد يكون - هذا أحد نوعي الكرامة - :
قد يكون من جهة كشف المعلوم العقلي .
وقد يكون من جهة كشف الحجاب والغطاء عن البصر .
وقد يكون من جهة كشف الحجاب والغطاء عن السمع .(2/235)
مثال البصر ما حصل لعمر رضي الله عنه حيث كان يخطب في المدينة فرأى سارية ورأى جيش الفُرس فقال (يا سارية الجبل الجبل) في حديث حسَّنَه وقواه الحافظ ابن حجر وغيره خلافا لمن ضعفه ، فهذا كشف من جهة عمر كشف بصري ، انكشف عنه الغطاء لأن البصر له حجاب فإذا انكشف رأى شيئا لم يره بحجابه الموجود له كما قال جل وعلا { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } إذا انكشف الغطاء عن البصر بالموت رأى أشياء بروحه بعينيه رأى أشياء لم يكن يراها في الدنيا : رأى الملائكة ورأى من يخاطبه ورأى أشياء لا يراها في حياته ، هذا كشف الغطاء ، فهنا الكشف هنا التعبير بالكشف لقول الله جل وعلا { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ } فالكشف له أصله في الشرع ، عمر رضي الله عنه انكشف عنه غطاء البصر ، وسارية رضي الله عنه انكشف عنه غطاء السمع فسمع كلام عمر وعمر في المدينة وسارية في مكانه من بلاد فارس فانكشف عنه غطاء السمع فسمع كلام عمر يُدَوِّي هذا إكرام من الله جل جلاله ، فلزموا الجبل ونجوا .
أيضا من الكشف البصري أبو بكر رضي الله عنه رأى في بطن زوجته فقال (فيها أنثى) فلما ولدت بعد مدة كانت كذلك ، فهذا من الكشف كشف البصر .
أيضا الكشوف العلمية حيث يُكْشَفُ له وينكشف له من العلوم ما لا يكون بقدرة غيره هذا إكرام من الله جل وعلا للعبد .
ولهذا نقول إن هذا النوع ، نوع العلم والكشف من الكرامات مرتبط بكلمات الله جل وعلا الكونية وكلمات الله جل وعلا الشرعية :
- ارتباطه بكلمات الله جل وعلا الكونية راجع إلى الكشف البصري والسمعي ونحو ذلك .
- وارتباطه بكلمات الله جل وعلا الشرعية راجع إلى العلم فيعلم منها ما لا يعلم غيره فينكشف له من العلم بالنصوص ما ليس لغيره ويوفق حتى يكون ذلك كرامة له ، هذا نوع .(2/236)
" النوع الثاني من الكرامات قوله (وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ) يعني أن يقدر على ما لا يقدر عليه غيره أو يؤثر بما لا يستطيع أن يؤثر غيره ، يعني يكون عنده قدرة زائدة ليست في مقدور أهل زمانه .
مثل ما حصل لسعد حيث يَبَسَ الماء ومر الجيش هذا نوع من القدرة ، مثل إحياء الفرس للصحابي هذا نوع من القدرة والتأثير .
والقدرة في قوله (وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ) هو يقدر بما يُجْرِي الله على يديه وإلا فليس بوسعه أن يقدر لأنه خارج عن مقدوره لكن الله جل وعلا يعطيه قدرة خاصة من جهة الإكرام فصارت القدرة كرامة .
والتأثير قد يكون تأثيرا في الكون في الكونيات وقد يكون تأثيرا في الشرعيات ، صار عندنا هنا في القدرة والتأثير صار عندنا قسمان :
- قدرة وتأثير في الكونيات .
- وقدرة وتأثير في الشرعيات .
وهذا أيضا نؤمن به ونصدق :
- فمن جهة الكونيات كما مثلنا لكم
- ومن جهة الشرعيات ما جعل الله جل وعلا لبعض الناس من الكرامة في التأثير في الناس فيؤثر فيهم ويُقبل فيكون قوله فيهم مسموعا وإفهامه لهم مؤثرا وتكون دعوته لهم نافعة ووعظه لهم نافعا ، وقد ذكر أهل العلم عن بعض الوعاظ من العلماء أنه ربما أسلم على يديه في المجلس الواحد كذا وكذا من جراء وعظه وتاب على يديه عشرة آلاف كما ذكروا في بعض مجالس ابن الجوزي رحمه الله ، هذا نوع من الكرامة في التأثير ، تأثير مرتبط بالشرع ، تأثير في الشرعيات يعني أثَّر بالشرع بالالتزام بالشرع ونحو ذلك ، أثَّر في فهم الشرعيات ، أو تأثير في الكونيات بالإقدار على ما لا يقدر عليه غيره .
هذا خلاصة البحث في هذا التقسيم وهذه الجمل لها تفصيلات وتقسيمات تطلب من مظانها المطولة
إذا تقرر ذلك فبحث الكرامات بحث مهم ، وذكرت لكم أن المعتزلة ينفون الكرامات ولا يصدقون بكرامات الأولياء ، وأهل السنة يصدقون بكرامات الأولياء والأشاعرة يصدقون أيضا بكرامات الأولياء .(2/237)
وهناك فرق بين قول أهل السنة وقول الأشاعرة :
- فأهل السنة يصدقون بكرامات الأولياء وما يُجْرِي الله على أيديهم من خوارق العادات بالقيد الذي ذكرنا من أن كرامة الولي لا تبلغ آية النبي .
- والأشاعرة يقولون كرامة الولي تساوي آية النبي والفرق بينهما أن كرامة الولي ليست مقرونة بدعوى النبوة وآية النبي أو كرامة النبي أو البرهان الذي يعطيه الله جل وعلا للأنبياء والرسل هذه مقرونة بدعوى النبوة .
فالفرق بينهما عند الأشاعرة من جهة اقتران الكرامة أو الخارق للعادة بدعوى النبوة ، فإن كان مع الخارق للعادة دعوى النبوة صارت آية وبرهانا ومعجزة وإن خلت من دعوى النبوة صارت كرامة.
وهذا يخالف مذهبنا وطريقتنا وقول أئمة أهل السنة في أن كرامات الأولياء لا تبلغ آيات الأنبياء .
ولهذا نقول إن آيات الأنبياء وبراهين الأنبياء خارقة لجنس أو خارقة لمقدور جنس المخلوقات الجن والإنس والملائكة إلى آخره ، أما كرامة الولي فهي محدودة ، خارقة لعادة ناس زمانهم .
هذا فرق مهم ، بالمناسبة ابن حزم مع المعتزلة في مذهبه يعني ينكر الكرامات .
خلاصة القول في مذهب أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء :
أن كرامات الأولياء لا تتساوى .
وعدم تساويها ليس لأجل تفاضل الإيمان ، فقد يعطى الأكمل في الولاية من الكرامة ما هو أقل مما يعطى الأقل منه إيماناً وقد يعطى من عليه بعض المعصية أو من عصى شيء من الكرامة ولا يعطاها المؤمن التقي المسدد لأجل حاجة ذاك إلى ما يقوي إيمانه ولطف الله جل وعلا به وعدم حاجة ذاك .
من أصول أهل السنة في هذا أن أهل البدع والمحدثات والعصيان والكبائر ليسوا بأهل للكرامة فلا يُجرى على أيديهم خوارق للعادات .(2/238)
وهذا يعني أن ما يحصل لأهل البدع من خوارق العادات إنما هو من الشياطين أو من الاحتيال ، يحتالون ، ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية لما ذُكِرَت له الرفاعية ، طائفة صوفية منسوبة إلى أحمد الرفاعي المعروفة في الشام أنهم من آياتهم التي تدل على أنهم أولياء أنهم يدخلون النار ولا تحرقهم فقال شيخ الإسلام ابن تيمية إن هناك زيتا يباع في المشرق إذا اطلي به الجسد لم تصل النار إلى الجسد فإن كانوا صادقين فليغتسلوا قبل أن يدخلوا النار ، يغتسلوا اغتسالا جيدا قبل أن يدخلوا النار ، فأبوا أن يفعلوا ذلك ، هذا من جهة الاحتيال .
من جهة أخرى قد يكون من جهة الشياطين كمن يدخل السكين في بطنه أو يأكل الأفعى ولا تصيبه ونحو ذلك ، هذا من جهة تصوير الشياطين .
فإذن التقعيد أن أهل البدع ما يحصل لهم من الكرامات ليست هي كرامات وإنما هي خوارق شيطانية إلا في حالة واحدة :
وهي حالة قتال أهل البدع للكفار والمشركين فهذه حالة مستثناة عند أهل السنة وهي أن أهل البدع إذا قاتلوا المشركين والكفار فقد يُكرمون وقد تكون لهم كرامات .
وهذه الكرامات ليست إكراما لأشخاصهم لأنهم أهل بدع وعصيان وضلالات ولكن إكرام لما حملوه من أصل الدين من أصل الإسلام ، لهذا قال شيخ الإسلام في كتاب النبوات وفي غيره إن أهل البدع يُعطون كرامات إذا كانوا في جهاد للمشركين إما جهاد لسان أو جهاد سنان :
- ففي جهاد السنان يعطى المبتدع كرامة لكن لا يدل على أن ما عليه من مخالفة الكتاب والسنة وأخذ البدع والعصيان أنه حق بل لأجل أن يفوق ما معه من أصل دين الإسلام على ما مع أولئك من الكفر والضلال .
فإذن يكون إعطاء المبتدع في حال القتال الكرامة لأجل إظهار أن الله جل وعلا أيد من على الإسلام ولو كان مبتدعا على من هو على الكفر .(2/239)
ويمثَّل لذلك بعدة أمثلة قاتل المبتدعة من هذه الأمة المشركين والملحدين في قديم الزمان وفي حديثه وهذا لأجل ما معهم من أصل الدين في مواجهة الكافر المشرك أو الملحد أيَّدهم الله جل وعلا بالكرامات لبيان أن هذا الدين أعظم مما هم عليه لأجل التصديق بهذا الدين
- المواجهة بالبيان والجهاد باللسان أيد الله جل وعلا وأكرم بعض المبتدعة من هذه الأمة ، بعض المعتزلة وبعض الأشاعرة في حجاجهم ومواجهتهم لطوائف الضلال من التناسخية في الهند والحُلولية واليهود والنصارى وأصحاب الملل المختلفة فيؤيَّدون حال الحجاج .
فإذن في حال الجهاد المسألة تختلف فقد يعطى المبتدع الكرامة لا لذاته ولكن لنصرة ما معه من أصل الدين كأنه في مقام الجهاد الله جل وعلا أكرمه لأجل ما معه من أصل الديانة .
وهذا فرق مهم ، وكثير ممن خاض في الزمن الأخير وفيما حصل للأفغان من أمور قالوا إنها كرامات من شاهدها قال إنها كرامات وتُنوقلت وهناك من يكذب يقول هؤلاء مبتدعة والمبتدع لا يحصل له كرامة أصلا وهناك من يقول هي كرامات وهذا يدل على أنهم عند الله جل وعلا لهم مكانة الأولياء ونحو ذلك .
وبهذا التفصيل يُفهم الفرق بين حال الكرامة في الجهاد وحال الكرامة في غير الجهاد فإنه في الجهاد ليست دليلا على أن المجاهد ولي بل قد يكون غير ذلك كما هو الواقع فإن الحال في أولئك كثير منهم مبتدعة وكثير منهم عندهم شركيات وخرافات فما حصل لهم من الكرامات فيما نَقَلَ النقلة قد يكون ، وذلك لأجل تأييد ما هم عليه من دين الإسلام على ما عليه أولئك الكفرة من الإلحاد والظلم العظيم .
قال (والْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ)
يعني التصديق بالمأثور عن سالف الأمة .
(فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا)(2/240)
سورة الكهف فيها قصة أصحاب الكهف وأن الله جل وعلا أنامهم في الكهف { ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } ومن العادة أن الإنسان لا ينام هذه النومة الطويلة ويسلم فيها والله جل وعلا جعل ذلك كرامة لهم .
قال (فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ فِرَقٍ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
يعني أن الكرامات لا تزال تحصل في هذه الأمة وذلك إلى يوم القيامة ، ويقصد بيوم القيامة يعني ما قبل قيام الساعة يعني قبل هبوب الريح التي تقبض أنفاس المؤمنين لأن الكرامات مرتبطة بأهل الإيمان ويبقى الناس مدة طويلة لا يقال في الأرض الله الله كما جاء في صحيح مسلم يعني لا أحد يعظم الله فيقول للآخر اتق الله اتق الله ، بل يتهارجون فيها كما تتهارج الحمر .
هذا خلاصة بحث كرامات الأولياء وهو بحث مهم والتوسع فيه له مجال كبير .
شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم لهم في مؤلفاتهم الكلام الكثير عن ذلك لكن أصول هذا الباب ذكرته لك .
نكتفي بهذا القدر ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ...
ما حكم من عَمَّمَ وقال إن الخوارق هي خوارق للعادات الطبيعية ؟
هي في عادة الإنس فيما يَجْري لهم عادة ، عادة أهل الزمان في ما يجري لهم عادة .(2/241)
العادات الطبيعية قد يكون شيء من جهة القدرة من جهة الكشف هذه ليس لها دخل - الطبيعة - فيها ، يعني ينظر هكذا فيرى ما يفعله الناس ، يُكشِف عما في قلبه يرى فلان ويعرف ما يدور في نفسه ، ولهذا تجد أنهم يذكرون الكلام على الفراسة (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) يذكرون الكلام على الفراسة وأنواع الفراسة وأصناف ذلك في مبحث الكرامات لأن لها صلة بمبحث الكرامات لأن الفراسة كشف ونعني بالفراسة الفراسة الإيمانية هي كشف كما أن الكرامة كشف فهي في الواقع كرامة ، وأما الفراسة الرياضية وأشباه ذلك فهذا يحصل بالتعلم وليس من جهة الإكرام .
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم السداد في القول والعمل وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يجعل أعمالنا جميعا خالصة لوجهه وأن يجعلنا في كل حركاتنا وسكناتنا ناصرين هذه الدعوة التي هي دعوة التوحيد الخالص التي بُعث بها المرسلون جميعا .
وما من شك أن الأزمنة تحتاج في إقرار الحق ودفع ضده إلى جهاد ومجاهده ، وكل ذلك لا بد من القيام به ، وإذا أتيح باب من أبواب الخير أو باب من أبواب المجاهدة في الصلاح والخير فإن العبد إذا أحسن نيته لله جل وعلا ورغب في الخير وصَدَقَ مع الله جل وعلا في تعامله واجتهد أن يكون كما أمر الله جل وعلا فإنه على باب من أبواب الفلاح والهدى لأن الله جل وعلا أمر بالجهاد ، والجهاد يكون بالقرآن قبل أن يكون بالسنان كما قال جل وعلا { فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } يعني جاهدهم بهذا القرآن .(2/242)
والجهاد بالقرآن وبالعلم وبالدعوة يحتاج إلى صبر ومصابرة ويحتاج إلى طول عناء وسؤال للثبات ، ولهذا كثيرون ممن راموا طريق العلم تركوه لأن العلم طويل ، فتجد أنه طلبه بعض السنين ثم تركه لأجل طوله ، والأمور كلها تحتاج إلى مجاهدة ومنها طريق العلم .
ومن الأبواب التي يحصل بها الخير في طريق طلب العلم والدعوة أن يتعاون الجميع لأن الدعوة إلى الخير والدعوة إلى هذه العقيدة الصافية الصحيحة التي نُدَرِّسُ كتابا من كتبها وهو العقيدة الواسطية إن إقرار ذلك ونشره في الناس وتعليم الجاهل وبثه في المساجد وغير ذلك لا شك أنه من المهمات ويجب أن يتعاون طلبة العلم والدعاة إلى الخير وأهل العلم وكل منتسب إلى الخير يتعاونون في ذلك جميعا لأن الله جل وعلا أمر بذلك في قوله سبحانه { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وفي قوله جل وعلا { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } لهذا ربما ما حضر الدرس الماضي كثير منكم فابتدأنا بهذه الوصية العامة التي نرجو أن تكون على البال وفي القلوب وأن لا يترك بعضنا بعضا وأن يساعد بعضنا بعضا في الخير والصلاح والهدى .
وقد كنا شرحنا في الدرس الماضي جملة من كلام شيخ الإسلام ذكر فيها أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة في الأولياء وقد رُغِبَ أن يُكَرَّرَ ذلك لأن الحضور في الدرس الماضي كان نصف تقريبا الحضور اليوم وكثير من الإخوان ما حضروا فنستأذن الاخوة الذين حضروا الدرس الماضي وربما يكون فيه زيادة على ما ذُكر إن شاء الله تعالى وفي التكرار إن شاء الله تثبيت .(2/243)
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ، كَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا، وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
كرامات الأولياء البحث فيها جاء فرعا عن الكلام في دلائل النبوة وآيات الأنبياء وبراهين الأنبياء.
فالله جل وعلا أيد كل نبي بآية وببرهان وهي التي سماها بعض المتأخرين المعجزات ، والتسمية الشرعية لها الآيات والبراهين والبينات { قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } قال { فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ }
انتهى الشريط الخامس و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السادس والعشرون
فالله جل وعلا أيد كل نبي بآية وببرهان وهي التي سماها بعض المتأخرين المعجزات والتسمية الشرعية لها الآيات والبراهين والبينات { قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } قال { فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ } وقال جل وعلا { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ } وقال سبحانه { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } .(2/244)
ويلحق بذلك ما هو أثر في الآية والبرهان وهو ما جاء في بعض الآيات أنه السلطان قال { فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } والآيات لا يستملكها البشر وإنما هي عند الله جل وعلا كما قال جل وعلا { إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ } .
والآيات جمع الآية وهي الدليل الواضح البيِّن على المراد حيث لا يتخلف عنه .
آيات الأنبياء وبراهين الأنبياء ودلائل صدقهم هذه خارقة للعادة .
ولفظ (الخارق للعادة) هذا كما ذكرنا استعمله المعتزلة والمتكلمون ، فجعلوا الدليل على كون الآية والبرهان حجة للرسول ومعجزة للرسول أن فيها خرقا للعادة ، وخرق العادة قالوا لا يكون إلا لله جل وعلا .
أصّل المبتدعة هذا التأصيل فلهذا أنكر طوائف : كالجهمية والمعتزلة وبعض الفقهاء ، أنكروا كرامات الأولياء لأن كرامات الأولياء عندهم أمور خارقة للعادة ، فالخارق للعادة هو ما يحصل بما لا يكون فيه إمكان للبشر أن يفعلوه ، فصار خارقا للعادة ، فأنكروا كرامات الأولياء لأن الكرامة شيء خارق للعادة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله هنا قال :
(وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ)
فسبب ضلال من ضلال من ضلَّ في هذا الباب وهو باب كرامات الأولياء أنهم جعلوا إثبات كرامات الأولياء بما جاءت به النصوص ، جعلوا ذلك يطعن في دليل النبوة .
قالوا : ولو أثبتنا كرامة للولي لاشتبه ذلك بمعجزة النبي ، ومعجزة النبي قامت على خرق العادة فلهذا لا يمكن أن يكون للولي كرامة تُخْرَقُ بها العادة .
أهل السنة رضي الله عنهم وأرضاهم من الصحابة والتابعين ومن سلك مسلكهم خالفوا المبتدعة في الأصل وهو أن مبنى آيات الأنبياء على خرق العادة .
قالوا : ومبنى آيات الأنبياء على أنَّ آية النبي ليست في إمكان المخلوقات بل لا يمكن أن يأتي بهذه الآية إلا الله جل جلاله سبحانه وتعالى .(2/245)
فهي خارقة للعادة ولكن كلمة (العادة) هذه وكلمة (خرق العادة) كلمة محدثة لم تأت في النصوص وإذا كان كذلك وجب تقييدها بما جاءت به النصوص .
فالعادة هنا التي تخرقها آيات الأنبياء هي عادة الجن والإنس والمخلوقات .
فالعادة في آيات الأنبياء غير العادة في كرامات الأولياء ، غير العادة في مخاريق السحرة والكهنة ، لأن الساحر والكاهن والمشعوذ والبطَّال يأتون بخوارق للعادات ، لكن عادة من ؟
هذه هي نكتة هذا الباب وهو مبني - يعني باب كرامات الأولياء والكلام على السحرة وإثبات ما جاء في النصوص في ذلك والرد على أهل البدع - مبني على هذا التأصيل الذي ذكرته .
لهذا نقول إن أهل السنة أثبتوا آيات الأنبياء وذلك بأنها خارقة لعادة المخلوقات ، يعني لا يمكن أن يكون مخلوق يأتي بمثل تلك الآية ، لا يمكن لمخلوق أن يقلب عصا حيةً لأن هذا من جهة الخلق ، فيقلب العصا حية وتكون حية فعلا ، ليست من جهة التمويه ولكن تكون فعلا حية ، أو يجعل البحر رهوا ، أو يجعل البحر يبساً ، أو يجعل فرق البحر فرقتين هذه كذا كالطود العظيم وتلك كذا كالطود العظيم { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } هذا ليس في وسع أي مخلوق بل هو لله جل وعلا ، كذلك آية عيسى عليه السلام ، كذلك آية سليمان عليه السلام ، وآية عيسى أنه يُبرئ الأكمه والأبرص بمسحة ويحيي الموتى وهذا لا يمكن إلا لله جل وعلا .
ولهذا نقول عُمدة هذا الفصل أو هذا الباب في فهمه أن خرق العادة هنا يختلف .(2/246)
فإذا قلنا بهذا اللفظ المحدث واستعملناه فلا بد أن نفهم أنه مقيد بالسياق الذي يجيء فيه ، فإذا جاء في سياق ذكر آيات الأنبياء كانت العادة التي تُخرق في آيات الأنبياء هي عادة المخلوقات جميعا ، قال جل وعلا في القرآن { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ } فهنا وقع طلب المعارضة باجتماع الجن والإنس جميعا وهما الثقلان المكلفان قال { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } يعني قد يأتون بشيء يسمونه قرآنا أو يسمونه مصحفا أو يسمونه كتابا من عند الله لكن لا يكون مثل القرآن فيكون كذبا .
مثل ما يدعي الدُّروز أن عندهم مصحفا خاصا بهم وصحف خاصة - وعندي من مصحفهم نسخة - شاكلوا به القرآن وأخذوا بعض الآيات ووسموه بأشياء وجعلوا له فواصل ونحو ذلك ، لكنه بارد وليس فيه تحريك لا للنفس ولا للقلب ولا السلطان بل هو سَمِجٌ لا تمضي فيه حتى تكرهه ، وكذلك بعض من ادَّعى معارضة القرآن ، فإذن المقصود هنا أن خرق العادة في آيات الأنبياء بعادة الجن والإنس أو تقول عادة المخلوقات يعني تُدْخِل فيهم الملائكة إلا بأمر الله جل وعلا .
هذا التأصيل لا بد منه .
هنا خرق العادة في كرامات الأولياء غير خرق العادة في آيات الأنبياء لهذا نقول ، مَبْنَى هذا الباب أن أهل السنة خالفوا المبتدعة في تأصيل هذا الباب وفي فروعه :
في التأصيل بما ذكرنا
وفي الفروع بالقول بأن كرامات الأولياء حق ، وأن سحر الساحر حق ،وأن السحر يُمرِضُ حقيقة ويقتل حقيقة وهو موجود على الحقيقة ،وأن مَخْرَقَة الكهنة والمشعوذين أن هذه هي مَخْرَقَة فعلا وحاصلة حقيقة ليست فقط تمويها لكنها تحصل حقيقة ، بأن يأتي بشيء بدل شيء ويخفي شيئا ويظهر شيئا، وهذه خارقة للعادة .
ولكن العادة التي خُرِقَتْ بكرامات الأولياء هي عادة الناس في ذلك الزمان .
والعادة التي خُرِقَتْ بمخرقة السحرة هي عادة أهل ذلك البلد ممن ليس بساحر .(2/247)
هذه هي القيود في هذا الباب .
قال رحمه الله (وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ: التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ)
التصديق يعني اعتقاد أنها حق من حيث الوقوع ومن حيث الجنس ، لا من حيث الشيء المعين الذي يحصل لأفراد الأمة ، ما جاءت به النصوص من الكرامات نقول هو كرامة ونصدق بذلك لأن التصديق بالنصوص واجب .
قال (بِكَرَامَاتَ الأَوْلِيَاءِ) والأولياء جمع ولي ، والولي في اللغة هو المحب الناصر كما قال جل وعلا { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } يعني بعضهم يحب بعضا وينصر بعضا ، وقال جل وعلا { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } فالولي هو الناصر والمحب ، هذا في اللغة .
أما في الاصطلاح فأهل السنة إذا قالوا الولي فيريدون به (كل مؤمن تقي ليس بنبي) .
قولهم كل مؤمن تقي في التعريف لأن الله جل وعلا وصف الأولياء بأنهم المؤمنون الأتقياء قال سبحانه { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } لكن اسم الولي عندهم يصدُقُ على من كَمَّلَ الإيمان والتقوى بحسب استطاعته .
قد يكون عنده بعض الذنوب لكن هو مجتهد في الإيمان والتقوى على الكمال .
قد ينقص طبعا عن ذلك لأن الناس ليس فيهم من ليس له ذنب .
(كل مؤمن تقي ليس بنبي) أخرج الأنبياء عن اسم الولي ، فإذا قيل في اصطلاح أهل السنة الولي وكرامات الأولياء فلا يدخل فيها الأنبياء مع أن النبي في اللغة والرسول في اللغة ولي لأنه محب ناصر لله جل جلاله ، والله جل وعلا (من عادى لي وليا فقد آذنته في بالحرب) لكن من حيث الإصطلاح لا يطلق على الأنبياء .(2/248)
أما الوَلايَة - بفتح الواو - فهي المحبة والنصرة ، وهذه لكل مؤمن تقي لكن تختلف درجاتها .
فكل مؤمن تقي له نصيب من الوَلاية .
ولا يقال لمن كان عنده بعض الإيمان والتقوى إنه ولي في الاصطلاح لكن له ولاية بقدر ما فيه من الإيمان والتقوى لأن الله جل وعلا علق ذلك بوصف الإيمان والتقوى فقال جل وعلا { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } قوله { الَّذِينَ آمَنُواْ } هذا يفيد استمرار الإيمان وكماله { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } كذلك .
أما الوَلايَة فهو من عنده إيمان وتقوى .
فكل مؤمن له وَلاية بحسبه ، يعني أنه يحب الله وينصر الله جل وعلا بحسب إيمانه وتقواه وكذلك الله جل وعلا يحبه وينصره بقدر إيمانه وتقواه .
فالوَلاية ، وَلاية العبد لربه ، ووَلاية الله جل وعلا لعبده متبعضة لأنها مبنية على وصفين كل منهما متبعض ، قال جل وعلا { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } والإيمان عند أهل السنة يتبعض والتقوى عند أهل السنة تتبعض فنتج من ذلك أن الوَلاية تتبعض أيضا .
فليست الوَلاية شيئا واحدا عند أهل السنة إما أن يأتي وإما أن يذهب ، لكن صار اسم الولي لمن كمَّلَ الإيمان والتقوى بحسب استطاعته .
أما الكرامات فهي جمع الكرامة ، والكرامة في اللغة هي النعمة الخاصة أو الإنعام الخاص كما قال جل و { فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } الإكرام عُطِفَ عليه الإنعام والعطف يقتضي التغاير في الصفات أو في الذوات .
لهذا نقول الكرامة شيء خاص على الإنعام ، هي إنعام لكن إنعام خاص ، في اللغة .
أما في الاصطلاح فالكرامة هي أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي ولهذا قال شيخ الإسلام هنا
(َوما يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ)(2/249)
عبر بـ (ما يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم) لأن الكرامة تجري على يدي الولي .
وقال (مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ) لأن الكرامة خارق للعادة .
فالكرامة إذن أمر خارق للعادة جرى على يدي ولي .
(خارق للعادة) عادة من ؟
ذكرنا لكم التفصيل في ذلك :
فإذا قلنا آيات الأنبياء خارقة للعادة نقول عادة كذا أو يكون مُستحضرا .
وكرامات الأولياء خارقة للعادة نقول عادة الإنس أو عادة الناس جميعا أو أهل هذا البلد جميعا ، وهذا ليدل على أنه ليس باستطاعته هو أن يأتي بذلك وإنما هي من عند الله جل وعلا .
قبل أن نأتي لتفصيل الكلام فيها على كلام شيخ الإسلام نقول الناس فيها - في الكرامات - لهم أقوال المشهور منها ثلاثة أقوال :
- الأول قول أهل السنة وهذا ما ندرسُهُ ونوضِحُهُ على كلام شيخ الإسلام إن شاء الله تعالى.
- والقول الثاني قول المعتزلة والجهمية ومن حذا حذوهم من الفقهاء كابن حزم ونحوه ، وهؤلاء ينفون كرامات الأولياء أصلا للشَُبهة التي ذكرت في أول الكلام .
- والقول الثالث قول الأشاعرة وهو أن كرامة الولي ثابتة وقد تكون مساويةً لآيات الأنبياء .
وأهل السنة يثبتون الكرامة لكن يقولون لا تساوي آيات الأنبياء ، لا تبلغها ، لأن آيات الأنبياء خارقة لعادة الجن والإنس جميعا وأما كرامات الأولياء فتخرق عادة الناس أو ناس جهة معينة .
قال رحمه الله (وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ)
قوله (فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ) هذا نوع من أنواع الكرامة ، فإن الكرامة لها نوعان :
- إما أن تكون في علمٍ .
- وإما أن تكون في قدرة .
والعلم كشفٌ ، يعلم الشيء بشيء يكون في رُوعِهِ أو يعلمه بإبصاره أو يعلمه بسمعه .
يسمع ما لا يسمع غيره ، يبصر ما لا يبصر غيره ، يعلم ما لا يعلمه غيره .
هذا في أنواع العلوم والمكاشفات .(2/250)
من جهة البصر ينكشف له ما لا ينكشف لغيره كما حصل لعمر رضي الله عنه فإنه انكشف له حال سارية وحال الجبل فقال (يا سارية) وهو في المدينة (يا سارية الجبل الجبلَ) يعني الزم الجبل لأنه انكشف له حال المسلمين وموقع المسلمين وحال الفرس وموقع الفرس فنادى ، فانكشف لعمر الوضع ، والصورة اتضحت أمامه فرأى ما لم يره الناس .
هذه كرامة من جهة الكشف البصري .
سارية سمع ، وكان سماعه من جهة الكشف السمعي أو من جهة الكرامة في السمع .
وهذا لا يكون بالعادة ، ولكن عندنا مثلا في هذا الزمان يكون بالهاتف مثلا أو لا ؟
قد يكون هناك تسليط صور بأقمار صناعية أو نحو ذلك فيرون المكان ويكون مراقب ويتصل بالهاتف ويقول انتبه تحرك كذا كما هو في الجيوش الحديثة .
ولهذا أهل السنة من القديم قيَّدُوا الكرامة بتقييد عظيم في نفسه وبيَّنَ ما ظهر في الأزمنة المختلفة أنه تقييد حق في نفسه ، وهو أنهم قيدوه بما هو خارق للعادة ، عادة الناس في زمانهم ، لا يمكن لأحد أن يتصور ذلك ، فصار كرامة .
هنا العلم والمكاشفة لها ارتباط بكلمات الله جل وعلا لأن حصول الانكشاف قد يكون متعلقا بكلمات الله الكونية وقد يكون متعلقا بكلمات الله الشرعية :
فمثلا تعلقه بكلمات الله الكونية مثل ما حصل لعمر رضي الله عنه ، ومثل ما حصل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث نظر في بطن امرأته وكانت حبلى فقال فيها أنثى ، فولدت بعد فترة فصار أنثى ، ومثل ما يحصل من هذا الجنس من جهة المكاشفة .
هذه مرتبطة بكلمات الله الكونية ، يعني أنه انكشف له شيء راجع إلى كلمات الله الكونية لأنه نظر إلى كوَّنه الله جل وعلا أو سمع ما كوَّنه الله جل وعلا .(2/251)
من جهة الكلمات الشرعية ينكشف له العلم بالشرعيات ما لا ينكشف لغيره ، ولهذا تجد أن أكثر العصاة لا ينكشف لهم العلم الشرعي ، وكلما كان العبد أتقى لربه جل وعلا وأحرص على طاعته وأكثر استغفارا من الذنب وأكثر الإنابة إلى ربه جل وعلا كلما كان انكشاف العلم له أكثر .
وبالمناسبة هناك استدلال يخطئ فيه كثيرون وهو أنهم يستدلون بقوله تعالى في سورة البقرة { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } على أن التقوى مؤثرة في تحصيل العلم .
وهذا الاستدلال ليس بصحيح لأن قوله جل وعلا { وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } هذا عطْف ، عَطَفَ { يُعَلِّمُكُمُ } على التقوى، فليس العلم مُرَتَبَاً في الآية على التقوى .
لهذا قال كثيرون من أهل العلم هنا لا ارتباط بين هذا وهذا لأنه لو كان العلم أثر للتقوى لكانت مجزومة (واتقوا الله يعلمْكم الله) لأنه يكون بجواب الأمر كما في قوله { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } وهو معروف في النحو .
فقوله { واتقوا الله } هذا يَحْسُنُ الوقف عليها ثم تبتدئ فتقول { وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يعني بما كان قبل ذلك في الآية من الكلام على كتابة الدين وأحكام الشهادة ونحو ذلك .
النوع الثاني من أنواع الكرامات ما يكون في القدرة والتأثير .
يعني يقدر على ما لا يقدر عليه غيره ، يؤثر بما لا يستطيعه غيره بالقيد الذي أسلفنا ، القيد الذي سلف .(2/252)
فمثلا في القدرة ، يقدر على ما لا يقدر عليه غيره كما حصل لأحد الصحابة رضوان الله عليهم أنه لمَّا مات فرسه وكان في خلاة من الأرض دعا الله أن يحيي له الفرس فأحيا الله له الفرس ، دعا الله أن يحيي له الفرس حتى يرجع إلى بيته وإلا سينقطع وستصيبه هلكة فأحيا الله له الفرس ، فوصل إلى داره واستقبله ابنه ، فلما استقبله ونزل من فرسه قال يا بني اذهب بالفرس بعيدا فإنه عارِيَّةْ ، قال فذهب به الولد فلما أبعد به سقط ميتا .
هذا نوع من القدرة ، قُدْرَةٌ هذه راجعة إلى كلمات الله الكونية فإن الله جل وعلا أكرمه بأن أحيا له ميتا أحيا له نفسا ميتة ، مثل ما حصل لسعد رضي الله عنه حينما مرَّ بالجيش على الماء ، دعا الله أن ييبَسَ لهم الماء فيبِسَ الماء فمر عليه الجيش بخيولهم وبأسلحتهم ومن هم عليه إلى ماءٍ يابس وكأنهم في أرض صلبة ، هذا نوع راجع إلى القدرة .
هل هو قَدِرَ أو جرت على يديه القدرة ؟
الجواب جرت على يديه كرامة له ، لهذا تنتبه لقوله (وَمَا يُجْرِي اللهُ عَلَى أَيْدِيهِم) .
والغلاة جعلوا ذلك من قدرة الولي ، فغلوا في الأولياء جعلوهم يستحقون شيئا من ما لله جل وعلا.
(أَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ) التأثير أن يؤثر في غيره .
قد يؤثر في الذوات مثل ما أثر سعد في الماء ، وقد يؤثر في الأزمنة مثل ما حصل لخُبيب بأنه يأتيه عنب في غير وقته وتأتيه الفاكهة في غير وقتها ، هذا تأثير راجع إلى قدرة لكن تأثير في الزمان .
مثل ما حصل ليوشع بن نون حيث حُبِسَتْ له الشمس فنادى الشمس فقال ، أو خاطب الشمس فقال (أنتِ مأمورة وأنا مأمور اللهم فاحبسها علينا) فظلت الشمس وكانت قريبة من الغروب ظلت زمانا طويلا حتى صار ذلك فتحا .
وهذه آية ليوشع لأنه على أحد الأقوال أنه كان نبيا من الأنبياء ولأن هذه خارجة على قدرة البشر.
المقصود التأثير بنوع التمثيل ، فالتأثيرات تختلف :(2/253)
تأثير في الأزمنة وتأثير في الذوات وأحيانا يكون تأثيرا في الأمكنة وتأثير في الحواس ، مثل ما حصل أن جند الحجاج بن يوسف أو شُرَط الحجاج بن يوسف دخلوا على الحسن البصري فدعا الله جل وعلا أن لا يبصروه فمروا وهو محتذ بفناء داره رحمه الله فنظروا ونظروا فلم يجدوا أحدا في الدار وهو ينظر إليهم وهم يتحركون بين يديه ، هذه كرامة { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } .
فالمقصود من هذا أن التأثير فيما مثَّلْنَا به راجع إلى التأثير في الكونيات .
هناك نوع من التأثير والقدرة راجع إلى الكلمات الشرعية ، يعني مرتبط بالدين .
الكلمات الشرعية يعني القرآن ، السنة ، الدين ، الدعوة ونحو ذلك .
فيقدر في هذه الأمور على ما لا يقدر عليه غيره ، يُكْرَمْ .
تجد من أهل العلم من عاش زمانا قصيرا لكنه صنف من المصنفات وقَدِرَ على ما لم يقدر عليه علماء زمانه بمجموعهم ، أو أثر في الناس من جهة الدعوة أو من جهة إصلاحهم ووعظهم تأثيرا بالغا فدخل إلى قلوبهم فأَثَّرَ في الشرعيات وأُكْرِمَ بأن يُؤَثِرْ .
كما ذكر عن ابن الجوزي وغيره أنه كان يتوب على يديه في المجلس الواحد أحيانا نحو عشرة آلاف وكان مجلسه في مسجده يحضره الآلاف المؤلفة ، وكما قيل إنه أسلم في يوم وفاة الإمام أحمد بن حنبل كذا وكذا من اليهود والنصارى في بغداد ونحو ذلك .
هذا تأثر في الشرعيات ، يعني أَثَّرُوا حتى جعلوا الشرعيات مقبولة واستسلم لها الناس .
ولهذا يقول أهل العلم إنَّ كرامات الأولياء مرتبطة بكلمات الله الكونية وكلمات الله الشرعية ، وتفصيل المقام في ذلك بما ذكرته لك .
قال (والْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ)
وقصة أصحاب الكهف واضحة (وَغَيْرِهَا) كما في قصة مريم ، لأن مريم ولية من أولياء الله جل وعلا لأنه ليس في النساء نبية وإنما الرسالة والنبوة في الرجال .(2/254)
(وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ فِرَقٍ الأُمَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
وهذا الأمثلة عليه واضحه وكثيرة .
بقي هنا تتمات لهذا المبحث .
فأهل السنة يعتقدون أن الولي تابع للنبي ، وأنهم لا يُفَضِّلُونَ أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء ويقولون نبي واحد أفضل من جميع الأولياء كما قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته .
وأول من أحدث القول بِخَتْمْ الوِلاية وباحتمال أن يَفْضُلَ الولي على النبي فيما يُذْكَرْ عنه الحكيم الترمذي .
الحكيم الترمذي صاحب كتاب نوادر الأصول له كتاب سماه (ختم الوَلاية) وعنى بها (ختم الأولياء) ذكر فيه أصولا في هذا الباب ، وكان سببا لضلال جهلة المتصوفة والاتحادية في هذا الباب .
فقالوا إن الولاية تُخْتَمْ كما تُخْتَمْ النبوة ، وأنه يمكن أن يكون الولي أفضل من النبي .
وقد تبنى هذا والعياذ بالله ، تبناه ابن عربي الحاتمي المعروف صاحب كتاب (الفتوحات المكية وفُصُوصْ الحِكَمْ) ذكره في كتابه الفُصُوصْ ، وذكر أن خاتم الأولياء - قالوا يعني نفسه - أفضل من خاتِم الأنبياء .
ولهذا كفَّرَهُ العلماء بذلك وحكموا عليه بالزندقة بل قالوا وأي كفر أعظم من هذا حيث قال هو:
إن النبي عليه الصلاة والسلام مثَّلَ لبناء الأنبياء بأنه لم يبق فيه إلا لبنة فكان هو عليه الصلاة والسلام تلك اللبنة .
قال وخاتم الأولياء يَنْظُرُ نفسه في موضع لبنتين ، لَبِنَة في الظاهر و لَبِنَة في الباطن .
فلبنة الظاهر تتابع رسم الشريعة ، ولبنة الباطن تَسْتَقِي من المَعْدِنْ الذي يَسْتَقِي منه المَلَكْ الذي أوصل الخبر إلى النبي .
وقد ألَّفَ هو كتاباً فيه الأحاديث التي يرويها عن ربنا جل وعلا مباشرة ، وهو مطبوع سمَّاه الأربعين عن رب العالمين ، فكانت جهة التفضيل هي هذه .(2/255)
ولذلك تجد أن هؤلاء يرون أنه سقطت عنهم التكاليف لأنهم خوطبوا بما لم يخاطب به غيرهم ، لكن في الظاهر يتبعون ، لكن في الباطن هم معذورون أو لهم شريعتهم الخاصة .
وهذا لا شك أنه زندقة وهو الذي ذكره إمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام ، هو هذا المعنى ، وكان كثيرا في نجد وما حولها وفي الحجاز وفي البلاد الإسلامية الأخرى إلى يومنا هذا من أن من الناس من يعتقد أنه يَسَعُهُ الخروج عن شريعة محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما وَسِعَ الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام ، يعنون به هؤلاء الذين يقولون بختم الولاية ..... (1)
مبتدعا مقيما على بدعته ولا صاحب كبائر ، بل الولي هو الذي يتابع الكتاب والسنة ولا يُغْتَرْ بما يجري لهم من الخوارق يعني بأهل البدع والمعاصي أنهم قد يحصل لهم خوارق فلا يُغْتَرْ بهم ، فليس برهان الولاية ، أو كون هذا وليا ، ليس برهان ذلك أنه جرى له خارق للعادة ، بل برهان ذلك أنه تابع القرآن والسنة وأمَّر السنة على نفسه ظاهرا وباطنا بقدر الإستطاعة .
ولهذا قالوا تحصل مخاريق من الشياطين والجن ليغووا الناس بهذا حتى يذهبوا عن السنة .
وهذا هو الذي حصل فإنه في الفرق المختلفة الذين ضلوا في هذا الباب أغوتهم الشياطين وجعلت لهم كرامات ، أو جعلت لهم ما يشبه الكرامات فاغتر الناس وقالوا هذه كرامات وهي في الواقع من جهة الشياطين ، وقد تأتي بصورته وقد يكون هو في أكثر من محل في نفس الوقت مثل ما يقال فلان رُئي بدمشق يوم العيد - عيد الأضحى - ورئي بمنى يرمي الجمرة ذلك اليوم ، وفلان رحمه الله خطب الجمعة في سبعة مساجد ، شهد الناس بأنه خطب هنا وخطب هنا وخطب هنا وخطب هنا ، ويقول الشعراني عن هذا الذي خطب في أكثر من موضع يقول : وكان رحمه الله يتلو آيات ليست في القرآن .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(2/256)
وهذا ضلال فوق الضلال ، يتلو آيات ليست في القرآن لأنهم يعتقدون أنه يصل إلى أن يكلمه الله جل وعلا فأعطاه آيات ليست في القرآن .
وهذا لا شك أنه كفر وزندقة وخروج عن الملة ، فالكرامة لا يُؤتاها إلا المتابعين للكتاب والسنة المؤمنون الأتقياء .
هل يحصل لأهل البدع كرامات ؟
نقول ما يحصل لأهل البدع والضلال والعصيان من خوارق للعادات هي من جهة الشياطين لتغوي الناس ، بل قد يحصل لأحد الأولياء أن الشياطين تتمثل به في أكثر من مكان حتى تُضِل الناس ، مثلما قال شيخ الإسلام عن نفسه ، قال : وكانت الشياطين تتمثل بي فتأتي إلى أصحابي كما حصل مرة أنهم وقعوا في شدة وكانوا في مكان بعيد عني فرأوني أنظر إليهم فاستغاثوا بي ، فأغاثهم ، يعني زال ما بهم من الشدة ، قال : فلما رجعوا أخبروني وشكروني على ذلك فقلت لهم لم أبرح دمشق وإنما كان الذي رأيتم شيطانا تمثَّل في صورتي ، فإِيَاكُم .
يحصل هذا كثيرا ، ولهذا نقول الشيطان إذا كان يتمثل في صورة العبد الصالح فقد يتمثل في صورة المبتدع ليضل الناس أكثر فلهذا يقول أهل العلم الخوارق ثلاثة أنواع :
- النوع الأول : ما يحصل للأنبياء وهذه آيات وبراهين .
- والنوع الثاني : ما يحصل للأولياء وهذه كرامات .
- والنوع الثالث : ما يحصل لأهل العصيان والمبتدعة وأهل الضلال أو السحرة أو الممخرقين وهذه خوارق شيطانية .
لأن كل واحدة لها اسم يجمعها اسم الخارق للعادة ، لكن ما يحصل على يدي المبتدعة وأهل العصيان يسمى خارقا شيطانيا .
وأوضح ذلك شيخ الإسلام بتفصيل في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .
المبتدعة قد تحصل لهم كرامات في حال واحدة ، وهي حال جهاد من ليس من أهل الإسلام ، إذا جاهدوا النصارى أو جاهدوا أهل الإلحاد والزندقة أو جاهدوا المشركين فقد يعطي الله جل وعلا الجيش الذي قاتل أولئك الملحدين أو اليهود أو النصارى ، يعطيهم بعض الكرامات ولو كانوا مبتدعة .(2/257)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وذلك لما معهم من أصل الدين الذي هو دين الحق وهو الإسلام ليظهر على ما مع أولئك من الشرك والدين الذي هو باطل أو أبطله الله جل وعلا .
ومثَّلْتُ على ذلك بما حصل وما جرى فيه النقاش كثيرا في وقت من الأوقات بالكرامات التي نُقِلَتْ عن الأفغان وما حصل لهم في ذلك ، ومنهم من ينفي ومنهم من يُثْبِتْ (1) ومنهم من يقول - يعني من إخواننا - من يقول إنهم مبتدعة والمبتدعة لا يُعْطَون كرامات ، بعضهم مشركين ، يعني عندهم شرك أصغر ، وبعضهم يكون عنده أعظم من ذلك ، فنقول :
القاعدة في ذلك أن المبتدع ، ومن عنده شرك أصغر ، ونحو ذلك قد يعطى كرامة كما حصل ، فلا نثبت أنها كرامة مطلقا ، ولا نقول ليست بكرامة بل نقول قد تكون كرامة وذلك كما عليه التأصيل عندنا أن ذلك لتأييد ما معهم من أصل الدين والإسلام ليظهر على ما عليه أهل الإلحاد وتقوم حجة الله جل وعلا أو تظهر حجة من حجج الله على الناس .
كذلك في المناظرات ، في المجاهدة بالقرآن فإن الله جل وعلا يؤيد ربما المعتزلي بكرامة ، يؤيد الأشعري بكرامة ، يؤيد المبتدع بكرامة إذا كان يُحاجْ أهل الإلحاد أو النصارى أو الفرق التناسخية أو أهل الملل الباطلة ليظهر أن ما معه من أصل الدين خير .
ولهذا ذكر الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله أن كثيراً من المبتدعة دعوا إلى الدين وأَدْخَلُوا في الدين طوائف من المشركين ، ومن عبدة الأوثان ومن أهل الديانات كاليهودية والنصرانية ، وأهل الملل الباطلة كمِلِلْ أهل الهند والفرس ونحو ذلك ، فكان ما حصل لهم من الإسلام الذي فيه بدع وخرافات وفيه ضلال عن السنة خير لهم من بقائهم على مِلَلْ الكفر والضلال .
__________
(1) ) هنا ينتصف الشريط .(2/258)
وهذا لا شك أنه صواب كما قال رحمه الله تعالى لأن هذا يكون مسلما مبتدعا ، يكون مسلما ضالا ، لكن لو ترك وحاله الأولى لكان مشركا كافرا زنديقا ، لو مات على تلك الحال كان من أهل النار إن قامت عليه الحجة .
من المباحث أيضا المتعلقة بهذا الباب مبحث الفراسة ، والفراسة ثلاثة أنواع :
- فراسة إيمانية .
- وفراسة طبيعية .
- وفراسة رياضية .
o يُعْنَى بالطبيعية ما يحصل من دِلالة تقاسيم الوجه على خُلُقِ صاحبه ، أو ما يُسْتَدَلُ به في سِعَةِ أو عِظَمِ صدره خِلْقَةً على أنه واسع البال ، لا يضيق سريعا ، على أنه حليم ، ومثل ما يُسْتَدَلُ بكبر الرأس على كبر العقل أو المخ ، ومثل ما يُسْتَدَلُ بصغر الرأس على البلادة ، أو حدة العينين على قوة في الذكاء ، و برود العينين على فتور الذهن .
هذه أشياء طبيعية خَلْقِيَّة تكلم فيها الناس ، وصُنِّفَ فيها مصنفات ، والشافعي رحمه الله تعالى دَرَسْ من هذا شيئا ، وكان رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة وعفا عنه ورفع درجته في العليين كان لما درس هذا في الصغر كان يؤثر عليه وغلب عليه كما ذكروا في ترجمته حتى أتى له الربيع تلميذه مرة أتى له فقال له اذهب فاشتر لنا باقلاء وخضراً - يعني مأكولات أشياء للبيت - فذهب فاشتراها .
قال ما صفة البائع ؟
فقال الربيع كان أعرج أعور . - أعرج يتكسب وأعور هذا خلقة الله جل وعلا - .
قال اصرفه عني ، تصدق به .
غَلَبَ عليه هذا .
كان مما يقول الشافعي رحمه الله : ذهبت إلى اليمن لطلب كتب الفراسة - وَوَلِيَ إِمْرَةً لأحد البلاد في اليمن فترة من الزمن -
ويقول : لما طلبت هذه الكتب فكان من الصفات في الكتب أن الرجل إذا كان من العرب وكان أشقر الشعر أزرق العينين فهي أخبث صفة .
قال : فبينا أنا سائر في تهامة وآواني الليل إلى مكان ، يقول : فإذا بنار فأتيتها فإذا برجل فلما رأيت صورته كرهته فكان أزرق العينين وكان شعره أشقر .(2/259)
وقلت : هذه أخبث صفة في كتب الفراسة ، فقال : فرحب بي أعظم ترحيب ،وأنزلني
وقال : انزل عندنا وعشاءك عندنا وما تريد ؟
يقول : وأخذ دابتي بنفسه بيده فقال هيا اذهب ، ووضع لي مكانا وأتى لي بالعشاء وأخذ الدابة وأعلفها وسهر علي وعلى دابتي ذلك الليل كله .
فقلت : يا خسارة ما أنفقت على هذه الكتب طيلة مسيري ومكثي في اليمن .
قال : فلما أتى الصباح قلت له لقد أسديت لنا يا فلان معروفا وإذا أتيت مكة فسل عن محمد بن إدريس حتى نكافئك .
فقال ذلك الرجل : ما رأيت رجلا مثلك قط ، أُكْرِمُ دابتك وأكرمك وأسهر عليك الليل وتقول إذا أتيتُ مكة اطلب فلانا ؟ انقد لي خمسة دنانير
يقول : وليس معي إلا خمسة دنانير وكان هو في فعله لا يستحق إلا دينارا واحدا .
قال : فتمسكت بكتب الفراسة .
وأثرت هذه على الشافعي رحمه الله في أخبار من ذلك .
المقصود أن هذه تسمى فراسة خَلقية طبيعية ، يعني من الشكل يستدل بشيء ، وفي كتاب للرازي في هذا وكتب يستدلون بالخلق على الخُلق .
" النوع الثاني فراسة رياضية وهذه هي التي يتعلمها القضاة وكذا .
من نظرته لحركة الرجل ولكلامه ولهيئته يعلم تصرفه يعلم هل هو مُحق أم مُبطل ونحو ذلك .
" وهناك فراسة أخرى ثالثة وهي فراسة إيمانية ، هذه الفراسة الإيمانية هي التي جاء فيها الحديث الذي في الترمذي وغيره عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) هذه فراسة إيمانة ليست من جهة الفراسة الرياضية التي تُتَعلم بالرياضة بالتعود وبالخبرة ، وليست خلقية طبيعية ولكن هكذا يُقْذَفْ في رُوعه في نفسه أن هذا كذا وكذا ، وهذه من جنس الكرامات بل هي كرامة ، ولهذا أهل العلم يبحثون الفراسة إذا بحثوا الكرامة ، فمبحث الفراسة في كتب العقيدة بعد كرمات الأولياء لأن من أنواع الفراسة الفراسة الإيمانة وهي جزء أو نوع من أنواع الكرامة .(2/260)
هذا بعض ما يتصل بهذا الموضوع والبحث لا شك أنه متشعب وألفت فيه كتب كثيرة ولكن هذه أصول المسائل في هذا الباب .
يقول : ما معنى آيات الله الكونية وآيات الله الشرعية ؟
آيات الله الكونية المراد بها ما جعله الله جل وعلا آية دالة عليه في الكون المنظور مثل الشمس والقمر والليل والنهار { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } هذه آيات كونية ، آية لأنها تدل دلالة ظاهرة وواضحة على الله جل وعلا فإن من تأمل في الليل والنهار كفاه برهانا على وجود الحق جل وعلا وتقدس وتعاظم ربنا ، الشمس والقمر وتسخير الشمس والقمر لأهل الأرض تجد أن ذلك من الآيات الدالة عليه .
أما آيات الله الشرعية فهي القرآن وكتب الله المنزلة ، هذه آيات الله الشرعية وهي الكلمات الشرعية .
قال ما الفرق بين الكرامة والمعجزة ؟
الكرامة ذكرناها ، المعجرة لفظ حادث ، المعجرة لفظ لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلمات الصحابة ولا في التابعين ولا تبع التابعين ، وأول من استعمل لفظ المعجزة في آيات الأنبياء المعتزلة ، لم ؟
لأنهم بنوا آيات الأنبياء على العَجْزْ على عَجْزْ الناس عنها ولهذا أنكروا الكرامات ، ولفظ المعجزة ما جاء كما ذكرنا ولهذا ضَلَّ فيه من أحدثه لكن معناه بما تعورف عليه أنه هو معنى الآية والبرهان ، فإذا قيل معجزات الأنبياء يعني آيات الأنبياء براهين الأنبياء الدالة على صدقهم والبينات التي أيدهم الله جل وعلا بها ، لكن لفظ المعجزة مُحدث وينبغي أن يقيّد ويفهم أنه محدث وأن تقييده بما لا يضع التباسا في فهم آيات الأنبياء ودلائل الأنبياء .
ولمن تقع كل واحدة منهما ؟
الكرامة للولي وأما المعجزة وهي الآية والبرهان فهي للنبي .
وجاء في التاريخ أن صلة حصل له أشياء ..... حتى وصل .
هذه هي القصة التي ذكرتها .(2/261)
هذا سؤال جيد يقول أَشْكَلَ علي إضافة العادة بالنسبة للنبي والولي إذ ما الفرق مثلا بين إحراق إبراهيم عليه السلام وبين إحراق أبي إدريس الخولاني ؟
هذا الاستشكال أورده شيخ الإسلام في كتاب النبوات وقال الجنس مختلف ، النار التي أُجِّجَتْ لإبراهيم ليست هي النار التي أُجِّجَتْ لأبي إدريس الخولاني فمن حيث إن هذه نار وتلك نار نعم ، ولكن لا تساوي هذه تلك ولهذا قال أهل السنة إن كرامة الولي لا تساوي آية النبي ، والأشاعرة قالوا إن كرامة الولي تساوي آية النبي ولكن الفرق بينهما أن الولي لا يدعي النبوة والنبي يقول هو مرسل من عند الله جل وعلا .
قال من ذكر هذا الضابط في العادة بين الولي والنبي والساحر من أهل العلم وأين نجدها بالتفصيل ؟
المسألة مبحوثة في كتب كثيرة ولعل من أدق من تكلم عن هذا البحث شيخ الإسلام في كتاب النبوات فهو مُؤَصَل في بيان هذه المسألة .
يقول ذكرتم أن ظهور الكرامات لأهل البدع والمحدثات عند قتال أهل الكفر والشرك ، وضربتم مثالا بما ظهر من كرامات في الجهاد الأفغاني إن صح أنها كرامات ، ولا يفوتكم أن الجهاد الأفغاني شارك فيه سلفيون من شتى أنحاء العالم الإسلامي وكان لهم أمارة بكنر ، أفلا يصح أن تكون هذه الكرامات التي ظهرت ظهرت لأهل السنة منهم بعيدا عن القبوريين والخرافيين ؟(2/262)
لا ، السلفيون ظهرت لهم كرامات والمبتدعة أيضا يقولون إنها ظهرت لهم أيضا كرامات ، لا نكذب بظهور الكرامات ولا نصدق ولكن نقول من ظهرت منهم هذا هو التأصيل حتى لا يَعْتَقِدْ أنهم ما دان أنه ظهرت له كرامة فإن معنى ذلك أنه على الحق ، نقول ظهور الكرامة وأنت مقيم على الشركيات الشرك الأصغر أو على البدع هذه تأييد لما معك من أصل الدين ، لأنك إذا كلمته في أصل الكرامة هو شهد شيئا خارقا للعادة ، وتأصيل أهل العلم على أنه لا يمنع من أن يكون مع أهل البدع كرامات لكن في حال مجاهدة الكفار والمشركين إما بالسنان أو باللسان كما ذكرت ذلك .
قوله { فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } يستعملها بعض العامة عند إرادته إخفاء نفسه عن الناس كما فعله بعضهم فهل ورد في ذلك شيء ؟ ثم أين نجد أسانيد القصص المذكورة في الكرمات ؟
أسانيد القصص هذه موجودة في عدد من الكتب منها كتاب الزهد للإمام أحمد ومنها كتاب كرامات الأولياء للالكائي وكتب التاريخ أيضا ومناقب الصحابة فيها من ذلك شيءٌ كثير .
ما هو الفرق بين خوارق العادات وخوارم المروءة ؟
خوارم المروءة الأشياء التي تقدح في العدالة وهي الخروج عن ما أوجبه الشرع وما هو معروف عند أهل العلم والتقوى والصلاح ، أما خوارق العادات فهذه راجعة إلى أنه شيء ما يستطيع أحد يعني من الحاضرين أن يفعله إلا بقيود .
سؤال غير وجيه في مسألة النار وأن النار التي دخل فيها أبو إدريس الخولاني من الشياطين ، هذا فيه نظر .
هل هناك فرق بين ابن عربي وابن العربي أم أنهما شخص واحد ؟(2/263)
ابن العربي هذا فقيه مالكي معروف صاحب كتاب أحكام القرآن وصاحب كتاب عارضة الأحوذي ، صاحب شرح الموطأ ، عالم من علماء المالكية معروف لكنه كان قليل العناية بالسنة كما سمعت ذلك من سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله ، ولكنه كان فقيها مالكيا وعالما وعنده ما عند غيره من أهل العلم ، أما ابن عربي بحذف الألف واللام فأصله هو ابن العربي أيضا مثل الأول لأنه هو أندلسي كما أن الأول أندلسي والعربي اسم هناك في تلك الجهات يكثر التسمية به ، لكن لمَّا كان على تلك الزندقة والضلال فرق العلماء بينه وبين الأول بأن حذفوا منها الألف واللام لأن الألف واللام تشريف وتعريف فحذفت من ابن عربي لأنه لا يستحقها فقيل ابن عربي بالتنكير .
هل من كان من أهل الكبائر من المسلمين ثم تاب وأحسن هل يكون من أهل الكرامات ؟
نعم يكون من أهل الكرامات ، صاحب الكبيرة أو الكبائر إذا تاب منها فالتوبة تجب ما قبلها بل قد يكون في حقه أن الله جل وعلا يبدل سيئاته حسنات ، هذا من اعظم فضل الله جل وعلا كما جاء ذلك في آخر سورة الفرقان { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } فصاحب الكبائر إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحا وأخلص لله جل وعلا فإنه قد تبدل سيئاته حسنات وهذا ليس للجميع ولكن لبعض التائبن ، لمن تاب توبة خاصة ، فيأتي العبد ويكون ليس له من الزمن في الإسلام إلا أو في السنة أو في الصَّلاح إلا فترة وجيزة ويكون أفضل ممن كان قبل ذلك لم ؟ لأنه وقع في قلبه من تعظيم الله جل وعلا وتوقيره واحتقار نفسه وعظم ذنبه الذي يتراءى بين عينيه ما يجعله أفضل من غيره فيبدل الله سيئاته حسنات وهذا من فضل الله جل وعلا على بعض عباده ، وفي هذا القدر كفاية وأسأل الله جل وعلا لي ولكم العفو والعافية ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
صفات أهل السنة والجماعة(2/264)
ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ،حَيثُ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ".
وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ.
وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ.
وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ.
وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ.
وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم(2/265)
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب المُخبت المنيب وأسأله جل وعلا أن يستعملنا فيما يحب ويرضى وأن يجنبنا طريق أهل الرَّدَى وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى .
هذا الفصل فصل عام في بيان طريقة أهل السنة والجماعة ومنهاج أهل السنة والجماعة ، لأن أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الأثر وأهل الحديث وأتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم هؤلاء تميزوا عن غيرهم في الاعتقاد وتميزوا عن غيرهم في العمل وصاروا شامةً بين الناس فلهذا كانت طريقتهم في العمل وطريقتهم في تلقي النصوص وطريقتهم في التعامل مع آثار السلف الصالح مباينةً لطريقة المخالفين .
فذكر شيخ الإسلام رحمه الله وأجزل له المثوبة هذا الفصل ليبين لنا طريقة أهل السنة والجماعة ومنهجهم في العمل وفي مصدر التلقي الذي اعتمدوه ، فقال رحمه الله تعالى :
(ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا)
قوله (ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) يعني بالطريقة هنا المنهج ، والنهج والمنهاج والسبيل لأن الطريقة تعم ذلك .
فالطريقة فهي الطريق المطروق فهو النهج والمنهج كما قال جل وعلا { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } والمنهاج هو السبيل وهو الطريق ، فجعل الله جل وعلا لأصحاب نبيه عليه الصلاة والسلام ومن تبعهم طريقا مايزوا به غيرهم .
وأهل السنة والجماعة مر معنا في أول شرح هذه العقيدة المباركة معنى أهل السنة ومعنى الجماعة .(2/266)
فمنهجهم (اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا) واتباع الآثار أَفْهَمَ أنهم حين يتبعون اتبعوا عن علم وبصيرة لأن لفظ الاتباع يدل على متابعة عن علم وبصيرة ، فيختلف المتَّبِعُ عن المقلد .
فإن أهل السنة والجماعة طريقتهم هي الاتباع وليست طريقتهم هي التقليد .
وفي أصول الدين منه ما لا يجوز التقليد فيه وهو القدر الواجب - يعني من العقيدة - ما لا يجوز التقليد فيه بل يجب أن يعتقد الحق فيه مع دليله ، ومنه ما يسوغ أن يتبع فيه قول عالم معتمد موثوق في دينه وسنته .
فإذن قوله (اتِّبَاعُ) نفهم منها أنهم علموا بذلك ، وإذا كانوا علموا فلا بد من وسيلة للعلم وهي كثرة ورودهم على سُنَن المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وكثرة قراءتهم في كتب الحديث وكتب السنة لأنه بذلك تعلم آثار المصطفى عليه الصلاة والسلام .
وال (آثَار) جمع الأثر وهو ما يُنْقَلُ من الخبر في الأقوال أو في الأعمال أو في الأحوال .
وعند أهل الاصطلاح الأثر يعم الحديث عن المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ والأقوال أو الأعمال للصحابة والأقوال أو الأعمال للتابعين فهذه هي الآثار ، ولهذا قيدها هنا بقوله (اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا) فاتباع الآثار هذه سمة أهل السنة والجماعة ، يعني أنهم يحرصون على الاتباع ولا يُحَكِّمُون عقولهم ولا أهواءهم .
(رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) التعبير بالرسول أو النبي جائز ، قد يستعمل لفظ النبي وقد يستعمل لفظ الرسول لكن في بعض المواضع يحسن استعمال لفظ الرسول ومنه هذا الموضع .(2/267)
فقوله (اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) فيه التنبيه على أن هذه الآثار قد أُرْسِلَ بها من الله جل وعلا ، وهذا هو الذي يعتقده أهل السنة بأن السنة وحي من الله جل وعلا وليست اجتهادا منه عليه الصلاة والسلام بل هي وحي أوحاه الله جل وعلا إليه أن اعمل كذا واترك كذا وقد يكون هناك أشياء فيها اجتهاد لكن يكون مُقَرَّاً عليها وإلا لم تكن أثرا من آثاره عليه الصلاة والسلام .
وهناك قسم ثالث وهو ما كان من الأمور الجِبِلِيَّة الطبيعية التي يعملها بمقتضى عادته عليه الصلاة والسلام من مثل طريقته في مشيته ومن مثل طريقته في نومته ونحو ذلك مما هو هيئة لم يأمر به ولم يحض عليه عليه الصلاة والسلام ، فهذا النوع يُتَّبَع أيضا ويكون الاتباع على جهة الاقتداء ليس لأنه سنة في نفسه ولكن يُؤْجر من فعل لأنه نوى الاقتداء .
فتلخص من ذلك أن هذا النوع الثالث وهو الأمور الجِبِلِيَّة الطبيعية مما فعل أو مما ترك عليه الصلاة والسلام فإن الاتباع فيها يكون بنية الاقتداء ، فإذا نوى الاقتداء أُجِرَ على هذه النية وإلا فإن الأمور الجبلية ليس مأجورا على أن يفعل مثلها إلا بنية الاقتداء فيؤجر على نية الاقتداء .
ولهذا قال العلماء في كتب الأصول إن هذه الأمور الجِبِلِيَّة يؤجر فيها بنية الاقتداء فيفعل - معنى نية الاقتداء - أن يفعل ما فعل عليه الصلاة والسلام لأجل أنه فعل وأن يترك ما ترك عليه الصلاة والسلام لأجل أنه ترك .
فمن اقتدى بالنبي عليه الصلاة والسلام في مشيته لأجل أنه مشى هكذا فإنه يؤجر على نيته وإلا فإن الأمور الجِبِلِيَّة نفسها ليست محل اتباع في نفسها ، وإنما الذي يُتَّبَع ما كان من قبيل السنة من قبيل التشريع .(2/268)
وكل اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام فيه أجر في جميع الأحوال لكن منه ما يكون الأجر في اتباع العمل من حيث هو ، لأن العمل عبادة إما أن يكون واجبا أو سنة ، الترك إما أن يكون محرما أو مكروها ، ومنه ما يكون الأجر في أن يفعل على جهة الاقتداء وأن يترك على جهة الاقتداء .
قوله رحمه الله (بَاطِنًا وَظَاهِرًا) يعني به الإخلاص والمتابعة .
والاتباع لا بد فيه من الإخلاص وهو اتباع الآثار في الباطن ، ولا بد فيه من المتابعة للسنة وهو اتباع الآثار في الظاهر .
فاتباع الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الباطن يقتضي أن تخلص لله جل وعلا وأن تخبت له وتنيب وأن تصحح عملك من الشوائب وأن تكون في أعمالك لله وحده دونما سواه ، وهذه حال المصطفى عليه الصلاة والسلام إذ هو أكمل خلق الله جل وعلا توحيدا وإخلاصا لربه جل وعلا .
فإصلاح الباطن واتباع الآثار في الباطن هذا من طريقة أهل السنة ، ولهذا أعظم وصية يوصي بها أهل السنة من حولهم ومن معهم ومن وراءهم الوصية بإخلاص الدين لله جل وعلا .
هذه هي اتباع الآثار في الباطن .
واتباع الآثار في الظاهر بأن يعمل على نحو ما عمل عليه الصلاة والسلام فيكون في هيئته وعبادته وسلوكه وأخلاقه وفي ملابسه وفي أكله وفي نومته وفي أحواله على طريقة المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فأكملهم اتباعا من كان على اجتهاد في متابعة النبي عليه الصلاة والسلام فمن كان أكثر اتباعا كان أكمل .
قال (وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ)
هذه تميز بها أهل السنة والجماعة عن غيرهم ، لأن اتباع الكتاب والسنة هذه يدعيها الأكثرون ، كلُ يقول الكتاب والسنة ، لكن أي تلك الدعاوي صوابا ؟(2/269)
هي قول من اتبع سبيل السابقين الأولين ، وهذا على نحو الكلمة التي هي مشهورة بأن يكون ذلك على منهاج السلف الصالح ، نفهم الكتاب والسنة على طريقة الصحابة رضوان الله عليهم ، على طريقة السلف الصالح .
وهذا القيد مهم لأنه يميز أهل السنة عن غيرهم أما الأخذ بالكتاب والسنة أو طريقتنا طريقة الكتاب والسنة ونحو ذلك فإنها يشترك فيها الأكثرون ، لكن نفهم الكتاب بفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، نفهم السنة على طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، ولهذا لا بد من اتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .
وتقييده بالسابقين الأولين لأنهم كانوا قبل حدوث الفتن ولم يحصل من أحد منهم افتتان رضي الله عنهم وأرضاهم ، لأن الله جل وعلا أحل عليهم رضوانه كما قال جل وعلا { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } وقال جل وعلا { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } .
وقوله (السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ) من هم السابقون الأولون ؟
فيها خلاف بين أهل العلم :
- ومنهم من قال إن السابقين الأولين هم الذين صلَّوا إلى القبلتين .
- ومنهم من قال السابقون الأولون هم من أسلم قبل الحديبية .
- ومنهم من قال من أسلم قبل فتح مكة .
- ومنهم من قال هم أهل بدر من المهاجرين والأنصار .
والصواب في ذلك أن السابقين الأولين هم الذين أسلموا قبل صلح الحديبية وأما بعد ذلك فكثر الذين دخلوا في الإسلام وذلك لقول الله جل وعلا { لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } ، وأما الأقوال الأخرى فكلها فيه ما فيه .(2/270)
قد رد شيخ الإسلام رحمه الله على تلك الأقوال في كتابه منهاج السنة وأظن قد عَرَضْنَا لبعضها في ما سبق في الكلام عن الصحابة .
(مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ) المهاجرون اسم لمن هاجر من مكة إلى المدينة ، والأنصار هم الذين ناصروا المهاجرين .
والأنصار إما من الأوس وإما من الخزرج .
وهذان الاسمان (المهاجرون والأنصار) اسمان شرعيان .
الله جل وعلا هو الذي سمى هؤلاء المهاجرين وسمى من نصرهم الأنصار ، مثل ما ذكرنا في الآية في قول الله جل وعلا { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ } فهذا يدل على أن الأسماء التي في التعريف تجوز ، شرط أن لا يُتَعَصَّبَ لها من دون اسم الإسلام ومن الإيمان .
فإحداث الأسماء في الإسلام غير اسم الإسلام المسلم والمؤمن جائز بشرط أن لا يُتَعَصَّبَ له ، لأنه إذا يُتَعَصِّبَ للأسماء كانت جاهلية ....
انتهى الشريط السادس و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السابع والعشرون
وإحداث الأسماء في الإسلام غير اسم الإسلام المسلم والمؤمن جائز بشرط ألا يُتَعَصَّبَ له ، لأنه إذا تُعُصِب للأسماء كانت جاهلية .
يدل على ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نادى مهاجريٌ في خصومة بينه وبين الأنصار فقال)يا للمهاجرين(يندبهم لنصرته وقال الأنصاري)يا للأنصار(يندبهم لنصرته فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) استدل به أهل العلم على أن الأسماء التي للتعريف إذا تُعُصِب لها كانت جاهلية .(2/271)
وهذا من جنس الأسماء المحدثة في الإسلام مثل حنبلي حنابلة شافعية ومالكية الحنفية والظاهرية ومن مثل المدارس السلوكية ونحو ذلك ، فهذه الأسماء إذا كانت للتعريف فلا بأس بها ، أما إذا تُعُصِب لها أو أُعتُقِد أن من هذا اسمه فهو على الحق و غيره على الباطل فإن هذا ليس من طريقة أهل السنة بل رَدُّوا ذلك ، حاشى التسمية بما كان عليه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من اسم أهل السنة والجماعة ، أتباع السلف الصالح ، أهل الأثر ، أهل الحديث ونحو ذلك فإن هذه الأسماء نصرتُها والتعصب لها بمعنى التعصب لما اشتملت عليه من العقيدة الصحيحة هذا تعصبٌ لأصل الإسلام وليس تعصباً لمُحدث فإذا تعصب لعقيدة أولئك فقد تعصب للحق .
أما إذا تعصب لاسمٍ دون ما تميز به ذلك الاسم فإن ذلك باطل ولا يجوز .
مثل ما يحصل في هذا الزمن في بعض البلاد الإسلامية من أنهم يتعصبون للأسماء هذه وقد لا يكونون من أهل الاعتقاد الصحيح على وجه الكمال ، مثل ما يتعصب في بعض البلاد أهل الحديث ضد السلفيين واسم أهل الحديث في الأصل بمعنى أهل السنة والجماعة واسم أتباع السلف الصالح بمعنى أهل السنة والجماعة فهما بمعنى واحد .
لكن في هذا الزمن حصل هناك التعصب لأسماء دون ما احتوت عليه الأسماء لأنها صارت لها ... أحوال أحزاب أو متنافس ونحو ذلك .
فالواجب أن تكون مثل هذه الأسماء للتعريف ، وأما الاجتماع فهو على العقيدة الصحيحة التي كان عليها أهل السنة والجماعة فهي التي يُتَعَصَبُ لها وهي التي تنصر ويُدافَع عنها ويُدافَع عن أسماء أصحابها و أهلها .
وإذا كان الدفاع أو التعصب لاسمٍ دون الحقيقة فإن هذا نوع من أنواع الجاهلية .
فهذه الأسماء المحدثة تكلم عنها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم و أيضاً غيره فالواجب أن يُعرَفَ شروط جواز التسمي بهذه الأسماء .(2/272)
وإذا كان الاسمان الشرعيان الأولان المهاجرون والأنصار قد صارا نوعاً من الجاهلية لمَا تُعُصِبَ له مع أن الله هو الذي سماهم بذلك دل على أن التسمية بغير ذلك إذا تعصب له من باب أولى أن يكون نوعاً من أنواع الجاهلية .
قال هنا (وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، حَيثُ قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي)
هذا الأمر منه عليه الصلاة والسلام (عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيْينَ مِنْ بَعْدِي) يدل على تعظيم سنة الخلفاء الراشدين وأهل العلم في فهم هذا على قولين :
" الأول أن سُنَة الخلفاء الراشدين ما أجمعوا عليه ، ما اجتمع عليه الأربعة .
وهذا قول كثيرين من أهل العلم .
" والثاني أن سُنَة الخلفاء الراشدين هو ما سنه واحد منهم وقَبِلَهُ الصحابة في زمنه ، تكون سُنَة له أمضاها ، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر باتباع سٌنَتِه وسُنَة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده .
وهذا القول الثاني هو الصواب لأن القول الأول وهو أن لا تُتَبَع إلا السُنَة التي اجتمعوا عليها يُفْضِي القول به إلى تعطيل هذا الأمر في زمن أبي بكر وفي زمن عمر وفي زمن عثمان حتى تنقضي الخلافة الراشدة ، وهذا لا شك أنه باطل لأن هذا الأمر واجبُ الامتثال منذ تولي أبي بكر الخلافة ، ففي عهد أبي بكر يجب اتباع سنة الخلفاء الراشدين وأبو بكر أولهم فتُتَبَع سنته .
و هذا الذي كان يفهمه الصحابة فيطيعون الخليفة فيما سنَّه لأن وصية النبي عليه الصلاة والسلام بذلك .(2/273)
فلهذا أخذ أهل السنة بكثير من سُنَن الخلفاء و أقرُّوها وإن كانت لم تكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام وخاصةً ما كان في زمن عمر وفي زمن عثمان رضي الله عنهما ، فإنه في زمن عمر عمل أشياء منها صلاة التراويح ومنها إحداث الدواوين ونحو ذلك وإن كانت هذه من قبيل المصالح المرسلة لكن هي داخلةٌ في سنة الخلفاء الراشدين ، كذلك ما كان في زمن عثمان رضي الله عنه من إحداث الأذان الأول في الجمعة و تزيين المساجد وجمع المصاحف على حرف واحد وإلغاء بقية الأحرف فهذه كلها سنن يلزمُ اتباعها و لا يجوز تعطيلها لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده عليه الصلاة والسلام .
قال في هذا الحديث (وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ)
إياكم يعني أحذركم محدثات الأمور ، والمحدثات في هذا المراد بها البدع ، لأن المحدثات قسمان :
" محدثات ليست من الدين يعني من أمر الدنيا هذه لا بأس بإحداثها كما أحدث عمر الدواوين وترتيب الأرزاق و نحو ذلك .
" ومنها محدثات في الدين هذه هي التي تكون من البدع ، الشافعي رحمه الله أُثِرَ عنه أنه قال المحدثات قسمان .
قال (فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ) ، وهذا العموم ظاهر ، فإن لفظ كل يدل على الظهور في العموم ، وهذا يرد على تقسيم من قَسَم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة فإن قوله عليه الصلاة والسلام كل بدعة ضلالة يدل على أنه ليس شيءٌ من البدع في الدين حسنة بل كلُ بدعةٍ ضلالة كما قال عليه الصلاة والسلام .
و البدعة في اللغة ما أُحدِثَ على غير مثالٍ سابق ومنه قول الله جل وعلا { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } يعني من أحدث السموات والأرض دون مثال سابق . ومنه قوله جل وعلا { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ } يعني لست بدعاً من الرسل جئت على غير رسل من قبلي بل سبقني رسل ولست برسولٍ مُبتدعٍ القول بالرسالة .(2/274)
فهذا هو معنى البدعةِ في اللغة ومنه قول عمر رضي الله عنه لمَّا رآهم يصلون التراويح وقد اجتمعوا على إمام واحد و اكتظَ المسجد بذلك قال نعمة البدعة هذه ، يعني هذه البدعة اللغوية لأن هذا عُمِل على غير مثالٍ سابقٍ في عهده رضي الله عنه وليست بدعة في الشرع لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى بهم لياليَ من رمضان واجتمع الناس معه كما روى ذلك أصحاب السنن .
و أما البدعة في الاصطلاح فإنها تُعَرَّفُ بتعاريف :
" منها ما كان على خلاف الدليل الشرعي
" وعُرّفَت بطريقة في الدين مخترعة تُضَاهى بها الطريقة الشرعية يُقصَدُ بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى ، كما هو تعريف الشاطبي في الاعتصام .
" ومن أهل العلم من عرف البدعة بقوله البدعة ما أُحْدِثَ على خلاف الحق المُتَلَقى عن رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في اعتقادٍ أو علمٍ او حالْ وجُعِلَ ذلك صراطاً مستقيماً وطريقاً قويماً .
هذه تعاريف مختلفة للبدعة وتعريف الشاطبي مشهور والتعريف الثالث أيضاً جيد .
ويظهر لنا من تعريف الشاطبي للبدعة أن البدعة طريقة في الدين مخترعة :
فمعنى (الطريقة) أنها صارت مُلتَزَماً بها .
ومعنى كونها (مخترعة) أنها لم تكن في عهده عليه الصلاة والسلام ولا في عهد الخلفاء الراشدين.
و هذا القول يعطينا فرقاً مهماً بين البدعة ومخالفة السنة :
وهي أن البدعة مُلتَزَم بها ، وأما ما فُعِل على غير السنة ولم يُلْتَزَمْ به فإنه يقال خلاف السنة ، فإذا التزم به صار بدعة .
وهذا الفرق نبه العلماء على أنه فرق دقيق مهم بين البدعة ومخالفة السنة .
فالضابط بين العمل المبتدع وبين العمل المخالف للسنة أن يكون العمل هل هو الملتزم به أم غير ملتزم به ؟
فإذا عمل على خلاف السنة يتعبد بذلك مرة أو مرتين ما التزم به من جهة العدد أو من جهة الهيئة أو من جهة الزمن أو من جهة المكان فإنه يُقال خلاف السنة .(2/275)
أما إذا عمل عملاً يريد به التقرب إلى الله جل وعلا والتزم به عدداً مخالفاً للسنة أو التزم به هيئةً مخالفةً للسنة أو التزم به زماناً مخالفاً للسنة أو التزم به مكاناً مخالفاً للسنة صار بدعةً .
هذه أربعة أشياء في العدد والهيئة والزمان والمكان .
فمن أخطأ السنة و تعبد ولم يلتزم يقال هذا خالف السنة ، و أما إذا التزم بطريقته وواظب عليها فإنه يقال هذا صاحب بدعة وهذا العمل بدعة .
مثال ما ذكرت مَن رَفَعَ يديه بعد الصلاة المكتوبة ليدعُوَ ، سلَمَ ثم رَفَعَ يديه بعد الصلاة المفروضة ليدعُوَ :
نقولُ هذا الفعل منه خلاف السنة لأن السنة أنه بعد السلام يَشرَع في الأذكار وأما رفع اليدين بالدعاء بعد السلام فليس مشروعاً وليس من السنة ، فإذا رأيته يفعل ذلك تقول هذا خلاف السنة وسُنَةُ النبي عليه الصلاة والسلام أن يبتدئ بالأذكار بعد السلام ، فإن كان ملازماً لها كل بعد صلاة يفعل هذا الفعل صار بدعةًً ، أو يلتَزِم أن يسبح في وقت ما من اليوم عددا من التسبيح لا يتركه ، يجعل له بعد الصلاة مثلاً مائة تسبيحة ومائة تهليلة ومائة تكبيرة ومائة تحميدة هذا خلاف السنة لكن إن فعلها مرة أو نحو ذلك فهذا نقول خلاف السنة وقد يكون له حاجة في تكفير ذنب أو نحو ذلك هو أدرى به لكن إن التزمه صار بدعةً .
وقد ذكر ابن الحاج في المدخل أن أحد العلماء العُبَّادْ كان كثير الذكر ويَذكُرُ الله جل وعلا بعد الصلاة المكتوبة مائة تسبيحة ومائة تحميدة ومائة تكبيرة .
قال : فبينا هو نائم إذ رأى رؤيا كأنه - أنا سأستطرد هذا الاستطراد اسمحوا لنا لأجل إيضاح هذا المقام - يقول رأى في المنام أنه قد قامت الساعة وقد اجتمعت الملائكة لتُعطِيَ الناس أجورهم على أعمالهم فَصِيحَ أين أهل الذكر فقدموا وهو منهم - هذا الذي رأى المنام ، صاحب الذكر - منهم.
قال : فأعطوا الناس ومنعوا كثيرين .
قال : فتقدمت فقلت لقد كنت صاحب ذكر كنت أفعل كذا وكذا وكذا من الذكر .(2/276)
فقالوا له :ليس لك عندنا شيء ،ليس ما فعلت على رسم صاحب الشريعة .
والتقييد بالأعداد مقصود شرعاً فلا بد من التَقَيُد هذه هي السنة ، فإذا تعدى الشرع وأراد أن يحوز فضلاً في شيء قد قُيِدَ بالشرع في وقته أو زمانه أو عدده أو مكانه فإن الزيادة تكون نوع من الإعتداء .
قال (تضاهى بها الطريقة الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى) قوله يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى هذا ليكون هناك فرق بين البدعة والمصلحة المرسلة .
لا بد من إيضاح المقام في الفرق ما بين البدعة والمصلحة المرسلة :
- والبدعة فهِمتَ معناها وتعريفها
- أمَا المصلحة المرسلة فهي مُختلفٌ فيها في التعريف :
فمِن أهل العلم من يعُدُ العبادات التي أحدثها الخلفاء الراشدون أو الأعمال يُعُدُّها من المصالح المرسلة .
ومنهم من يُقيِد المصلحة المرسلة بالدنيا .
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وعدد من المحققين على الأول يجعلون المصلحة المرسلة ما لم يقم المقتضي لفعله في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفعله عليه الصلاة والسلام .
يعني لم يقم المقتضي للفعل في عهده ثم فُعِلَ من العبادات .
فهذا يُعَدُ مصلحةً مرسلة ، مثل الأذان الأول ونحو ذلك فهي عند شيخ الإسلام من المصالح المرسلة يعني في عهده عليه الصلاة والسلام لم يُقُم المقتضي للفعل وإنما قام المقتضي للفعل بعد ذلك من أمور العبادات هذه عنده تدخل في المصلحة المرسلة ، وكذلك من أمور الدنيا ما قام المقتضي على فعلها أو لفعلها في عهده عليه الصلاة والسلام وقام بعد ذلك فتسمى مصلحةً مرسلة لأن الشارع أرسل العمل بها ولم يقيد العمل بما كان في وقته عليه الصلاة والسلام .
والثاني من الأقوال أن المصلحة المرسلة ما كان من أمر الدنيا وما كان فيه تيسير العمل وتيسير أمور الناس في دنياهم ، فتكون المصلحة المرسلة مفارقة للبدعة من جهتين :(2/277)
- الجهة الأولى أن البدعة في الدين في العبادة وأما المصلحة المرسلة فهي في الدنيا .
- والثاني أن البدعة تقصد لذاتها كما قال لك الشاطبي في تعريفه يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد ، و أما المصلحة المرسلة فهي لأمر الدنيا لا يقصد بها المبالغة في التعبد ، والمصلحة المرسلة وسيلة لتحقيق كلي من كليات الشريعة وأما البدعة فتقصد لذاتها ليست وسيلة وإنما هي مقصودة ذاتاً .
هذا هو الفرق بين البدعة و المصلحة المرسلة والذي يظهر لي ويترجح هو القول الثاني أما قول شيخ الإسلام ابن تيمية فكأنه لا ينضبط في بعض المسائل من المحدثات فيما يظهر لي .
وما أُحدِثَ في عهد الخلفاء الراشدين ندخله ضمن قول النبي عليه الصلاة والسلام عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي فهي سنة الخلفاء وليست مصلحة مرسلة ، و الخلاف من جهة اللفظ أما من جهة التطبيق فيتفق الجمهور مع قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .
هناك تفصيلات متنوعة في البدعة وما يتعلق بها تطلب من مظانها .
قال (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ - جل جلاله -).
وكلام الله هو القرآن الذي هو صفته سبحانه وتعالى ليس مخلوقاً منه بدأ وإليه يعود .
قال (وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) .
خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام فلا أحد يكون أحسن من هديه .
و الهدي ، هدي النبي عليه الصلاة والسلام ما كان من فعله و أقواله في العبادات أو في المعاملات أو في أحواله وسائرِ يومه .(2/278)
وفي هذا الزمن أصبحوا يأخذون هدياً غير هدي النبي عليه الصلاة والسلام ، ومنهم من هم ممن يُسَمَّونَ بالاسلاميين في الداخل وفي الخارج تنظر إلى حقيقة الحال فكأنهم يستنكفون من بعض هدي النبي عليه الصلاة والسلام أو يرون أنه لا يناسب العصر أو لا يناسب هذا الزمان والنبي عليه الصلاة والسلام بيَنَ لنا أن خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام فلا يكون هدي أحد مهما كان أكمل من هديه عليه الصلاة والسلام سواءً في الأكل أو في الشرب أو في الدخول والخروج أو في المعاشرة أو في الهيئات العامة أو في العبادة أو في النظر أو في الحكم أو في الوصية أو في التعامل أو في التواضع أو في الأخلاق أو غير ذلك فأكمل الهدي هديُ محمد عليه الصلاة والسلام وخير الهدي هديه عليه الصلاة والسلام .
إذا اختلف الزمان وتغير فيبقى خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام ، إذا اختلفت العقول واختلفت الأنظار وتوسع الناس فيبقى خير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام .
وهذه تحتاج إلى قوة قلب وأهل السنة والجماعة أتباع آثار السلف الصالح قويةٌ قلوبهم ولله الحمد بذلك وهم بين الناس كالشامة لأنهم على الأمر الأول وخير الهدي هدي محمد عليه الصلاة والسلام
قال (وَيُؤْثِرُونَ كَلاَمَ اللهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ)
وهذا ظاهر فإن لهم من العناية بالقرآن ومن تلاوته وتَدَارُسِهِ ما بَزُّوا به غيرهم ، وكذلك السنة ومعرفتها والنظر فيها والفقه فيها ما ليس عند غيرهم ، فهم أهل الكتاب والسنة لهم عناية بالقرآن من جهة تلاوته وتدبره وحفظه وتدارسه والقيام به والصلاة به ، وكذلك أهل سنة ينظرون في السنة ويكثرون الورود عليها و يتفقهون فيها .
قال (وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)(2/279)
فأهل الكتاب والسنة ، أهل القرآن والسنة هؤلاء هم أهل السنة والجماعة وهم أهل الأثر إذا كانوا أهل الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح (1)
والمقصود بالجماعة ما كان في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فإنهم كانوا مجتمعين وإنما حصل الخلاف بعدهم .
قال (لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الاِجْتِمَاعُ، وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ)
قد ذكرت لك في أول شرح الواسطية أن الجماعة والفرقة لفظان متقابلان .
والجماعة اختلف السلف في تفسيرها وكذلك الفرقة ، وجِماعُ أقوالهم أن الجماعة نوعان :
جماعةٌ في الأبدان الذي هو اجتماعُ في الأبدان .
وكذلك جماعة في الدين الذي هو اجتماع في الدين .
فالله جل وعلا أمر بأن نجتمع في أبداننا وأن لا نتفرق قال { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } وأمر كذلك بالاجتماع في الدين فقال جل وعلا { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا } تفرق في الدين وبعدٌ عن الاجتماع فيه وهذه صفة فرق الضلال ، صفة الثنتين والسبعين فرقة ،كذلك من لم يجتمع في الأبدان وفي الدين تفرق وسعى في التفريق في الأبدان وفي الدين فهو ليس على طريقة أهل الجماعة الذين ذكرهم شيخ الإسلام رحمه الله هنا .
وفصَلتُ لك ذلك مطولاً فلا نحتاج إلى إعادته لكن نكتته أو قاعدته :
أن الاجتماع نوعان ويقابله الفرقة نوعان ، فرقة في الأبدان وفرقة في الدين وكلٌ منهما تؤول إلى الأخرى :
فإن من سعى إلى الاجتماع في البدن يسعى إلى الاجتماع في الدين .
ومن سعى إلى الاجتماع في الدين سعى إلى الاجتماع في البدن .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(2/280)
وكلٌ منهما ملازمة للأخرى ، فلا يُتَصَور الاجتماع في الدين مع التفرق في الأبدان إلا تفَرُق أهل الضلالة ، فمن سعى في أن يجتمع الناس في الدين فقد سعى في أن يجتمع الناس في أبدانهم .
ولهذا من أعظم الفرية أن يقالَ عن من كان على طريقة السلف الصالح والداعين إلى الحق والهدى أنهم يسعون إلى التفريق ، لأنهم إذا دعوا إلى توحيدِ الله وإخلاص الدين له وإلى الاجتماع في الدين وأن لا نفرق بين أوامر الله جل وعلا فهم في الحقيقة دعوا إلى الاجتماع ، ومن دعا إلى الاجتماع في البدن فهو يدعو إلى الاجتماع في الدين ، وإنما يؤتى الناس من جهة عدم معرفة الضابط بين هذا وهذا .
وهذه من المسائل العظيمة لأن مسألة الجماعة والاجتماع من أعظم نعم الله جل وعلا على عباده إذا منَ عليهم بالاجتماع ونبذ الفرقة .
وكلٌ منهما لها صلةٌ بصاحبتها ، فمن سعى في اجتماع الناس في الدين فقد سعى في اجتماع الناس في أبدانهم وكذلك مقابله من اجتمع لاجتماع الناس في الأبدان سعى لاجتماع الناس في الدين لأنه به يمكن أن يُرشَد الناس دون تفرق ، والفرقة عذاب كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن (الاجتماع رحمة والفرقة عذاب) يعني الاجتماع في البدن وفي الدين رحمة والفرقة في البدن وفي الدين عذاب يعذب الله جل وعلا به من شاء .
قال (وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ)
هذا من باب الأصل يقال هذه جماعة بني فلان لأنهم مجتمعون أما في الشرع فالجماعة أعم من ذلك.
قال (وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ)
الإجماع بعد الكتاب والسنة .
فأهلُ السنة والجماعة عندهم ثلاثةُ أشياء : الكتابُ والسنة على فهم السلف الصالح ، ثم الإجماع.(2/281)
لكن الإجماع لم ينضبط فكثيرون ادَعوا الإجماع على أشياء لا يصح فيها الإجماع ، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله في مسائل ادُعِيَ فيها الإجماع من ادَّعى الإجماع فهو كاذب يعني في مسائل معينة وإلا ثمَ مسائل أٌجمِعَ عليها .
قال (وَالإِجِمَاعُ هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدينِ) لا شك أنَ الإجماع أصل من الأصول الثلاثة التي عليها أهل السنة والجماعة .
ودليلهُ قول الله جل وعلا { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا }
قال { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وهذا هو الإجماع .
وقد سُئُل الشافعي ، لما ذَكَرَ الإجماع في بعض كتبه .
قيل له : هذا اللفظ الذي أتيت به لا دليل عليه فاتنا بدليل عليه .
قال : فقرأت القرآن متدبراً من أوله إذ عندي (يعني هذا حاصل كلامه) إذ عندي أنه لا بد من دليل عليه فنظر .
قال : حتى أتيت هذه الآية من سورة النساء وهي قوله تعالى { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } فصارت هذه الآية دليلاً للإجماع .
ذكر بعد ذلك أن (َالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ؛ إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلاَفُ، وَانْتَشَرَ فِي الأُمَّةِ)
والإجماع بحثٌ أصولي معروف في كتب الأصول ، و يٌتَصَوَر الإجماع ، إجماع أهل السنة في غير زمن السلف الصالح ، ولكنه لا ينضبط لأنه قد يكون ثمَ من يخالف في مكان من الأرض ، لكن بما اشتهر يكفي الإجماع .(2/282)
والإجماعُ المقصود به إجماع من هم من أهل الفقهِ في الدين الذين يفقهون معاني الكتاب والسنة ، أما أهل الرواية وأهل الأثر من جهة معرفة الحديث ومخارجه ونحو ذلك فالأصوليون نصُّوا على أنه من كان من أهل الرواية ولم يكن من أهل الدراية فلا يُعتَد به في الإجماع فلو خالف لا يكون مخالفاً للإجماع .
ولهذا ذكر عدد من أهل السنة أن ثمَ مسائل انعقد الإجماع عليها ولا عبرة بخلاف الظاهرية فيها لأنهم لم يكونوا على طريقة الأئمة ، أئمة الحديث في الفقه كمالك والشافعي واحمد إذ هم أئمة الحديث وهم أئمة الفقه عند أهلِ السنة والجماعة .
فالإجماع ينضبط في عهد السلف الصالح ، وما بعده فيه عدم انضباط وكثرة اختلاف .
لكن المقصود به إجماع أهل الفقه والدراية بالكتاب والسنة .
ويٌتَصَوَر بعدهم أن يُجمِعوا إذا أجمع الفقهاء المعروفون بالكتاب والسنة ولم يُعرف مخالف لهم .
قال (وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ)
لا شك أن هذه الأصول الثلاثة يوزن بها الناس وتوزن بها الفئات والطوائف والأشخاص .
كتاب ، قرآن وسنة من جهة العناية بها والاستدلال بها واعتماد ما دلت عليه وأنها تفيد العمل وتفيد العلم سواءً كانت متواترة أو كانت آحاداً .
فإفادة السنة للعلم يُشْتَرَط له ثبوت السنة فإذا ثبتت السنة أفادت العلم وأفادت العمل أيضاً بعد ذلك .
وأما ما ذكره بعض الأصوليين من المعتزلة وغيرهم من أتباع المذاهب من أنَ حديث الآحاد لا يفيد العلم وإنَما يفيد العلم الظني فهذا مخالفٌ لطريقة السلف الصالح .
بل نقول يفيد العلم ولا نقول يفيد العلم الظني أو العلم اليقيني .(2/283)
لكن كثيرٌ من أهل العلم يُعَبِّر بأن حديث الآحاد يفيد العلم الظني ، وقد يفيد العلم اليقيني بشروطه وذلك إذا احتفت به القرائن أو كان مُخَرَّجَاً في الصحيحين ونحو ذلك ، أو تلقته الأمة بالقبول كما ذكر ذلك الحافظ في شرح النخبة حيث قال : وخبرُ الآحاد إذا احتفت به القرائن أفاد العلم اليقيني.
هناك لفظان وهما :
" قطعية الدلالة .
" وقطعية الثبوت .
- قطعية الثبوت : يعني أن يكون ثبوت السنة قطعيا أو ثبوت ما كان من القرآن قطعياً .
القرآن نقول ثابتٌ بالقطع إذا كان من الروايات المنقولة بالتواتر ، أما الرواية التي لم تُنقل بالتواتر يعني الروايات الشاذة ونحو ذلك فهذه عند أهل السنة والجماعة موقوفة على صحة السند ، فإذا صح السند إلى القارئ كالأعمش ونحو ذلك فإنها مُعْتَبَرَة إذا لم تخالف القراءة المتواترة ، وتفيد العلم وتفيد العمل .
بخلاف طريقة القراء فإن عندهم القراءات الشاذة هذه ليست معتمدة .
لكن طريقة أهل السنة أن القراءةَ إذا صحت ، إذا صحت القراءة ، صح سندها ولو لم تكن متواترة فإنها تفيد العلم والعمل .
والقطعية راجعة إلى ثبوت ذلك من جهة صحة الإسناد في الشاذ ، والتواتر معروف في القراءات العشر أو ما هو أكثر من ذلك .
فالسنة تكون قطعيةً إذا كانت متواترة ، قطعية الثبوت إذا كانت متواترة ، أما إذا كانت غير متواترة فيقال إنها ظنية الثبوت .
وهذا اصطلاح يعني أن طريقة إثباتها لم تكن على وجه القطع بل مظنونة لأنها لم تُنقل بالتواتر .
يقابل ذلك قطعية الدِلالة بالكتاب والسنة وهذا نادر .
و أغلب النصوص ليست قطعية الدلالة - نصوص الأحكام - أغلب نصوص الأحكام ليست قطعية الدلالة بل فيها مجال للاجتهاد وأما الأخبار ، خبر عن الله جل وعلا أو عن صفاته أو عن الغيبيات أو عن قصص الأنبياء فهذه قطعية الدلالة من جهة حصول اليقين بما دلت عليه .
قد يكون هناك ألفاظ تحتمل كذا وكذا هذا يكون فيه مجال للفهم والدلالة .(2/284)
أما الأحكام فإنها قد تكون نص من الكتاب أو السنة قطعي الدلالة وقد لا يكون .
وعندهم - عند الأصوليين - (ما نريد نستطرد في القطعي والظني في هذا المقام لكن كلمات تبحثونها) عند الأصوليين النص يكتسب القطعية إذا سلم من اثني عشر أمراً وهي موجودة في كتب الأصوليين .
المقصود أن هذه الأصول يزن بها أهل السنة والجماعة الناس .
أما القياس فلم يُذكَر لأن القياس مُختلف فيه .
القياس مُختلف فيه حتى عند السلف الصالح منهم من لم يقس ولم يرض بالقياس .
والقياس نوعان : قياس قواعد وقياس فروع .
" قياس القواعد الذي هو من جهة عموم المعنى ، هذا لا خلاف فيه بين السلف بل كان السلف يُعملونه كثيراً وهو من العلم النافع العظيم .
وهناك قياس فروع ، وقياس الفروع هو المعروف عند الأصوليين بالقياس وهو (إلحاق فرعٍ بأصل لعلةٍ جامعةٍ بينهما) - يقصدون بالفرع الحكم المسكوت عنه والأصل الحكم المنصوص عليه - ، وأما القياس قياس القواعد فهذا هو الذي يسمى عموم المعنى ، هو الذي تكلم عنه ابن القيم في أوائل معالم الموقعين عن رب العالمين وأطال الكلام فيه وفي تقريره ، وهو الذي يسمى تحقيق المناط ، وهو الذي يكون من الفقهاء في العبادات .
بعض أهل العلم أو بعض طلاب العلم ما يفرق بين القياس وبين القواعد ، تجد أنه في باب العبادات يرى أنه ألحق شيئاً بشيء فقال هذا قياس والقياس في العبادات ممتنع .
هذا ليس بجيد بل الصحابة ألحقوا بعض العبادات ببعض من جهة عموم المعنى من جهة القياس قياس القواعد ، وهذا مقبول عندهم باضطراد .
وأما قياس الفروع فهذا هو الذي بينهم خلاف ، وما كان منه جلياً هذا اعتمده أئمة السنة كمالك والشافعي وأحمد و ما كان منه خفياً وعرضة للأخذ والرد .
على العموم ثمَ مباحث طويلة في ذلك لكن هذه أصول تَجْمَعْ لك هذا الموضوع في طريقة ومنهج أهل السنة والجماعة .(2/285)
قال هنا كلمة ، قال (يَزِنُونَ بِهَذِه الأُصُولِ الثَّلاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ) عني هذه الأصول لا يُوزَنُ بها ما له تعلق بالدنيا ، لأن هذا الأصل فيه التوسع ، أما ما له تعلق بالدين فيزنون الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
فأحوال الناس الأفراد والطوائف تُوزن وأقوالهم تُوزن بهذه النصوص فمن كان متبعاً طريقة السلف الصالح فهو على طريقة أهل السنة والجماعة .
فهذه الأصول توزن بها الأقوال والأعمال وتوزن بها المقاصد وتوزن بها النيات ويوزن بها ما ظهر وما بطن ، ولا شك أنه ميزانٌ عظيم لكن لا يحسن تطبيقه إلا الراسخون في العلم لأن تطبيقه يحتاج إلى دقة ، خاصةً في الأمور الباطنة أما الأعمال الظاهرة هذه قد يشترك فيه الكثيرون من جهة الوزن بهذه الأصول .
نكتفي بهذا القدر و نجيب على بعض الأسئلة .
......
نعم عند الحافظ ابن حجر هذه نص عليها في النخبة وشرحها يقول : و خبر الآحاد يفيد العلم اليقيني بشروطه ، ذكر في الشرح أنه من شروطه إذا احتفت به القرائن أو تلقتها الأمة بالقبول أو اتُفِقَ على تخريجه ونحوه .
هل يلزم من قولنا نفهم الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح أن يصير كلامهم حجة دون نظرنا في دليلهم مثل مثلاً أن نأخذ أقوال الحسن البصري وميمون بن مهران في الإعتقاد و يصبح هو حجة ؟(2/286)
لا شك أن كلام السلف منه ما هو مُتَّفَقْ عليه موافق للأصول ، أصول الشريعة ، وقواعد الشريعة ونصوص الكتاب والسنة ، فهذا تأخذ بفهمهم لأنه فهمٌ للنصوص ، وقد يكون في أقوالهم ما هو مُشْتَبِهْ فهذا لا بد أن ينظر في أقوال غيرهم ، فلا تأخذ الحجة بقول واحد من التابعين أو بفعله ، كذلك قول أحد الصحابة أو بفعله إلا إذا لم يعلم له مخالف ، أما إذا كان ثَّمَ مخالف فإنه لا يؤخذ بقوله بل ينظر في الدلائل وقد ذكرت هذا الضابط وصلته بالمحكم والمتشابه في أحد الدروس العامة وكان بعنوان (قواعد القواعد) ويَحسُن الرجوع إليه لأن فيه تأصيلات للمنهج .
ما هو العلم الظني والعلم اليقيني ؟
العلم الظني ما يكون العلم به راجح لكن لا تتيقنه ، بعبارة العصر ليس مائة في المائة أن الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال هذه ، لكن نقول تسعين في المائة وغالب الظن أنه قالها لأن الإسناد صحَّ ونحو ذلك ، هذا قصدهم بالعلم الظني ، والعلم اليقيني ما نقول مائة في المائة قاله ، يعبر عنه بعض العلماء بما يصح التطليق عليه ، إذا صح أنك تطلِق مثلاً يقول قائل زوجته طالق إن لم يقل النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث ، هذا يكون عنده يقين والظني ما لا يكون عنده بهذه المثابة ، لكن هذه كلها من أقوال الخلف أما السلف فليس عندهم مثل هذه الألفاظ .
ما الحكم في من زعم أن هنالك بدعةً حسنة وبدعةً سيئة ؟
وأول من قال بتقسيم البدع فيما أعلم إلى حسنة وسيئة الفقيه أبو محمد العز بن عبدالسلام هو الذي قسمها وتتابع الناس على هذا ولا شك أن هذا من المحدثات ومن البدع لأن الصحابة رضوان الله عليهم نفوا البدع جميعاً وقوله عليه الصلاة والسلام (كل بدعةٍ ضلالة) ينفي ذلك ، وقد رد الأئمة على هذا القول .(2/287)
يقول ذكر بعض المتكلمين - يقول القائل دكتور في جامعة الإمام - أنه ينبغي أن لا يفهم الإسلام من خلال دعوةٍ من الدعوات ، أو حركةٍ من الحركات ، كدعوة الوهابية أو دعوة الإخوان المسلمين أو غيرها من الدعوات ، فما رأيكم في هذا القول ؟
الجواب بما سمعتم ، يظهر أن الدعوات و الانتساب إلى الأسماء هذا يوزن بالأصول التي ذكرنا وكما قيل :
وكلٌ يدعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاك
لا شك أنه من الشرف العظيم أن يرفع الإنسان نفسه بالانتساب إلى الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح ، لكن الكلام على البرهان هل هو متبعٌ لطريقتهم أم لا ، والدعوات منها دعواتٌ شهد الجميع بأنها على الحق والهدى وعلى طريقة السلف الصالح مثل دعوة الإمام المصلح شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله تعالى - فإنها بشهادة الخصوم أنها دعوةٌ لتحقيق توحيد الله جل وعلا وهي على ميراث النبوة ، على مثل ما دعا عليه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ، وهذا أمرٌ ظاهرٌ بين وقد اتبع فيها طريقة السلف الصالح في القول والعمل و الاعتقاد وفي العلاقات ونحو ذلك وجمع فيها بين الفقه والعلم والبصيرة رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ، ولا يُعلم دعوة من وقته إلى هذا الزمن قاربت دعوته في الدعوة إلى ما دعا إليه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ، إلا من كان متأثراً بدعوته ، أما الدعوات الأخرى ففيها وفيها وأكثر أمورها على خلاف طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم .
هل يبدع المخالف لإجماع السلف ؟
لا شك من خالف إجماع السلف فهو متوعَدْ ، هو يُبَدَع لأن الله جل وعلا قال { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } .
ذكرت مما أُحدِثَ في زمن عثمان تزيين المصاحف ، هل هذا يعتبر سنة الخلفاء ولم يعارض ؟(2/288)
أنا أظن يريد المساجد ، أنا ذكرت تزيين المساجد حيث هناك أحاديث في النهي عن تزيين المساجد ، نعم لاشك أنه هناك أحاديث في بيان أنه من أشراط الساعة تزيين المساجد و المباهاة في المساجد ونحو ذلك ، وقد قَرَّرَ أهل العلم أن ما جاء وصفه من الأعمال بأنه من أشراط الساعة فإنه لا يفيد ذماً أو مدحاً ، هذا من حيث التأصيل ، وتزويق المساجد سببٌ للإلهاء ، إلهاء المصلي ، حيث ينظر في الزخارف، ينظر في الكتابات ، ينظر في التخطيط فيلهيه عن صلاته ، هذا أمرٌ يُرغَب عنه وقد صلى النبي عليه الصلاة والسلام مرة فألهته عن صلاته ألهاه ما افترشه عن صلاته عليه الصلاة والسلام فأمر بإبعادها وأن يٌؤتى بامبجانية أبي جهم ، وقال إن خطوطها ألهتني عن صلاتي آنفا ، لهذا لم تزوق المساجد ، لكن في عهد عثمان جُصِّصَت يعني وضع لها الجِصْ ، تبييض فقط ، وما حصل تزيين المساجد بمعنى زخرفة المساجد إلا في عهد بني أمية في العهد الأخير عهد الوليد وما بعده ، وقد قال الفقهاء رحمهم الله تعالى أن الناس إذا كانت مساكنهم على نحوٍ ما من التزيين وتبديجها و نحو ذلك فإنه ينبغي أن تكون المساجد على نحو المساكن حتى لا يَرْغَبْ الناس عن المساجد ويتعففوا من حضورها ، وهذا ظاهر لو تأملت في زمننا الحاضر لو جعلنا هذا المسجد على ما كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام فرش بالحصباء - الحصب الحجارة - فإن كثيرين من أهل الترف قد لا يرغبون لأنهم يحتاجون إلى من يُرَغِبُهم ومع وجود هذه الآلات وهذه الفرش وهذا التيسير مع ذلك منهم من يكسل وهم الأكثرون ولهذا كان الفقهاء على بصيرة حينما قالوا تكون المساجد على نحو البيوت ، لا تزخرف زخرفة شديدة لكن من حيث الراحة تكون على نحو البيوت حتى يرغب الناس في المساجد ولا يرغبوا عنها .(2/289)
يقول - هذا يتعلق بالشفاعة درس من السنة الماضية - يقول ذكر أهل السنة أن الشفاعات للرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثمان شفاعات خمسة منها ورد لها أدلة ولكن الثلاث الباقية ما هو دليلها حيث لم أجد لها أدلة والشفاعات هي : شفاعة في من تساوت حسناته وسيئاته وشفاعته في أهل المعاصي وغيرها ؟
ما أدري يعني يبدو اختلط عليه الأمر أو ما دقق ، على العموم دليل ما ذَكَر قوله عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ، و قوله شفاعتي لأهل الكبائر يشمل من كان من أهل المعصية من أهل الكبيرة وكذلك من تساوت حسناته وسيئاته لأن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر كما قال جل وعلا { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } فتُغفَر الصغيرة بشرط اجتناب الكبيرة ، والصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهما إذا اجتُنبت الكبائر فـ (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) يدخل فيها الشفاعة لأهل الأعراف والشفاعة لأهل العصيان والشفاعة في قومٍ أمر بهم إلى النار أن يدخلوها أن لا يدخلوها وفي قومٍ دخلوا النار أن يخرجوا منها وهكذا ، والشفاعة لأهل الأعراف فيها بعض الأحاديث أيضاً الخاصة لكن نكتفي بهذا الحديث العام .
هذا يسأل عن نفس سؤال الأخ السابق عن زخرفة المساجد .
ما نقول بالزخرفة هي التي جاء فيها النهي - الزخرفة التي تلهي - أما تزيين المساجد بجعلها على نحو البيوت حتى يرى يرغب الناس فيها هذا من ما كان عليه الأمر الأول .
إذا نٌقِل الإجماع في العصور المتأخرة بعد القرون الثلاثة الأولى فهل يكون حجة لا يسع أحداً خلافه بحيث يصير إجماعاً قطعياً فإن كان كذلك فهذا لا ينضبط ؟
والإجماع عند المتأخرين لا ينضبط ولهذا قال الإمام أحمد من ادعى الإجماع فهو كاذب .
هل الأحاديث الصحيحة الغير متواترة تعتبر العلم الظني أو العلم اليقيني ؟
ذكرنا الكلام عنه .
ما المقصود بالمصالح المرسلة ؟(2/290)
ذكرناه .
هذا استفتاء في الجهاز الذي يقتل الحشرات الطائرة كالذباب والذي يعمل بالكهرباء يكثر في أماكن بيع الأطعمة ؟
ما عندي علم بجوابه كان في بالي أسأل المشايخ عنه من مدة لكن نسيت .
جاء كتاب من مَحَلَّهْ للمزني أنَ رجلاً قال ورب (يس) لا فعلت كذا ، فحنث ، قال المزني لا شيء عليه ومن قال يحنث فهو يقول إن القرآن مخلوق أو معناه، ما هي هذه العبارة ؟
(يس) - هذا إستشكالٌ جيد - (يس) حينما قال ورب (يس) هذه محتملة ، لأن (يس) قيل إنه من أسماء النبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى في أول سورة (يس) { يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } وكذلك (يس) اسم نبي من الأنبياء { سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } فمن أراد بقوله ورب (يس) النبي عليه الصلاة والسلام أو (يس) النبي فهذا أقسم بربوبية الله جل وعلا لمخلوق ، هذا واضح أنه حلف منعقد .(2/291)
المُزَنِي فيما نقل الأخ (ما أدري هل النقل دقيق أو لا) لكن في قوله ورب (يس) ، (يس) فُسِرت بأنه قرآن ، من أسماء القرآن ، كما هو معروف في الحروف المقطَّعة جميعاً (الم) من أسماء القرآن (ق) من أسماء القرآن منها (يس) هذه من أسماء القرآن ، وقوله ورب (يس) كأنه جُعِلَ هنا فَهِمْ منه أن الحالف برب (يس) حَلَفَ برب القرآن ، والقرآن ليس بمخلوق فكيف يكون له رب ، وهذا غير مفهوم عندي إذا كان على هذا النحو ، لأنه القرآن هو كلام الله جل وعلا وصفته وقول القائل ورب القرآن يحتمل أن يريد به الصفة ويحتمل أن يريد به - يعني القرآن الذي هو صفة الله جل وعلا - ويحتمل أن يريد أن القرآن مخلوق ، فيُمنَع منه لأجل هذا الإحتمال ،والأول أن يكون ورب القرآن يعني ورب الصفة بمعنى أنه جل وعلا صاحبها هذا جائز من جهة أنه ربٌ للصفة كقوله جل وعلا { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } وهو رب العزة والعزة صفة من صفاته جل وعلا ، فيقال رب الرحمة بمعنى أنه جل وعلا صاحبها المتصف بها ، رب العزة بمعنى أنه جل وعلا المتصف بها .
رب القرآن بمعنى أنه المتصف به لكن مثل هذه الكلمة لا يسوغ أن تقال لأن هذه هي من كلمات من يقولون القرآن مخلوق ، فكأن المزني في وقته كان قول من يقول ورب (يس) رب القرآن ، يقولها من يعتقد أن القرآن مخلوق فلذلك نبه على ذلك رعاية للحال الذي كان في زمنه ، أما من جهة الأصل فإنه يقال رب القرآن بمعنى صاحبه أو بمعنى المتصف به الذي تكلم به جل وعلا ولكن هذا عند الإختيار لا يقال بل يُبتعد عنه لأن القرآن صفة الله جل وعلا والناس لا يعقلون من الربوبية إلا ربوبية المخلوق ، لا ربوبية الصفة بمعنى أنه المتصف بها .
ما هو اعتقاد الصوفية في المجانين ؟
اعتقاد الصوفية في المجانين ، واحد من الإخوان من السودان ولا من ... يجاوبنا ، هم يقولون :
مجانين إلا أن سر جنونهم ... عزيزاً على أبوابه يسجد العقل
لماذا جُنَّ ؟(2/292)
لأن عقله انصرف عن الفاني إلى الباقي ، فهو فيما يرى الفاني أنه مجنون لكن عقله مع الباقي جل وعلا ، ولهذا يعدونهم أولياء ، وعندهم أنَ المجنون يسمى مَجْذُوب يعني جُذِبَ عقله للحق جل وعلا فليس مجنوناً ولكنه جُذِبَ .
وهذا والعياذ بالله إعتقاد صار في كثيرين حتى الآن في كثير من البلاد في مصر و الشام وفي العراق وفي غيرها وفي السودان وفي أفريقيا يكثر وجود مثل هذا أنهم يعدون المجاذيب أولياء ، حتى ولو كانوا على أفحش الأمور ، ما دام أنه مجذوب فهو ولي .
وذكر الحافظ ابن حجر في كتاب (إنباء الغمر في التاريخ) أنَ أحد ولاة دمشق مر في موكبه - أحد السلاطين - مر في موكبه ، وكان ثم طريق ضيق بعض الشيء ، وكان أحد المجاذيب جالساً ، فلما مرَ الموكب قال هذا بصوتٍ مرتفع يا صاحب الرغيف ، فانذهل السلطان من هذه الكلمة والتفت إلى هذا المجذوب وأوقف المسير والتفت إليه ونزل وقال له ماذا تعني ؟
قال يا صاحب الرغيف ماذا فعل الرغيف البارحة ؟
كلمة جاءت هكذا ألقاها الشيطان في نفسه فانذهل ، هذا الوالي كان له قصة في الرغيف ما ادري خذا الرغيف عن أحد ، ما أدري وش قصة الرغيف هذه .
يقول فكان هذا المجذوب يدخل - يقول الحافظ ابن حجر - يدخل بيت السلطنة ويبصق في وجه السلطان والسلطان يتمسح ببصاقه .
هذا نوع من الاعتقاد الفاسد اللِي سبب انحراف في العقلية الإسلامية ، سبَب انحراف وصار هؤلاء هم الذين يتحكمون ويمشون ويعدون المجاذيب أولياء لله جل وعلا .
عصمة الأنبياء هل هي في كل شيء أم ماذا ؟(2/293)
مذاهب عند الناس ، لكن أهل السنة عندهم أن الأنبياء معصومون عن كبائر الذنوب وعن صغائر الذنوب التي لها صلةٌ بالتبليغ والرسالة وعمَا يشين من الذنوب الصغيرة فَيُجَوِزون لا يقولون إنها واقعة منهم ، يقولون قد يقع من الرسول أو من النبي بعض الذنوب الصغيرة لكن لا تكون لها مساس بالرسالة أو بالتبليغ أو بما يُشْتَرَطْ للنبوة ونحو ذلك ويؤيد ذلك قوله جل وعلا ، نقول ويدل على ذلك قوله جل وعلا { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فجعل له ذنباً والأشاعرة يقولون هم معصومون ، يقولون الأنبياء معصومون عن جميع الذنوب الكبيرة والصغيرة ، الأشاعرة يقولون حتى الأمراض يجوز عليهم اليسير منها وهذا ضلال واضح مصادم للنص ويقول صاحب عقيدتهم في منظومة له في عقائد الأشاعرة :
وجائز في حقهم من عرضِ ... بغير نقصٍ كخفيفِ المرضِ
يعني أنهم يجوز عليهم الأعراض منها الأمراض الخفيفة ، أين هم من قول النبي عليه الصلاة والسلام (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يُبتلى الرجل على قدر دينه) وقد دخل عليه ابن مسعود رضي الله عنه ، دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يوعك وعكاً شديداً ، فقال يا رسول الله أئنك لتوعَكُ فقال أجل إني لأوعك كما يُوعك رجلان منكم) عليه الصلاة والسلام .
يقول قول فلان لفلان هذا الأمر من بركات مجيئك أو قدومك علينا هل في هذا اللفظ شيء ؟
البركة نوعان : بركة ذات وبركة عمل .
فبركة الذات للأنبياء وللرسل عليهم الصلاة والسلام .(2/294)
أما الصالحون فلهم بركة عمل يعني إذا عملوا خيراً ، دعوا إلى الله ، ذكَّروا ، وصلوا الصلة ، وصلوا الرحم ، أصلحوا ذات البين ، هذا يكون من بركات أعمالهم كما قال أحد الصحابة لمَا ضاع عقد عائشة - أظنه أسيد بن حضير - قال : ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر يعني بركة العمل ، أما بركة الذات بمعنى يُتَمَسَح بهم ونحو ذلك فهذه ليست إلا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام .
كيف نرد على من قال إن عثمان رضي الله عنه أحرق الأحرف الستة مع أنَ الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما ثبت عند مسلم كان يطلب من الله أن يزيده من الأحرف حتى وصلت إلى سبعة أحرف إلى آخره ؟
هذا سؤالٌ معروف في القراءات ، والقراءة بالسبعة أحرف كانت في زمن النبي عليه الصلاة والسلام جائزة ، ليست واجبة أن تكون القراءة على سبعة أحرف ، وإنما نزل القرآن على سبعة أحرف توسعة من الله جل وعلا على هذه الأمة حتى تأتلف قلوبها ويأتلف العرب ويجتمعون على النبي عليه الصلاة والسلام ، وهذا كان على وجه الجواز ليس على وجه الوجوب ، فوقت الحاجة إليه انتهى فبقي ما تتحقق به مصلحة الإجتماع وهو أن يجتمعوا على حرفٍ واحد ، ولذلك عثمان أمرهم أن يكتبوا المصاحف على حرف قريش ، وكانت المصاحف غير منقوطة كما هو معلوم ، فبقيت بعض الأحرف السبعة فيما يحتمله رسم المصحف . (1)
قضايا كلية
ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ، وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ.
__________
(1) 1 مسح بالشريط(2/295)
وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ".
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم علماً نافعاً وعملاً صالحاً وقلباً خاشعاً ، اللهم استعملنا فيما تحب وترضى ونعوذ بك من وجوه الردى .
هذه الجملة من كلام شيخ الإسلام رحمه الله في هذه العقيدة المباركة بيَّنَ فيها أصول مذهب أهل السنة والجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي أنواع التعاملات مع الولاة ، ولاة الأمور الذين ولاهم الله جل وعلا على المسلمين .
وهذا الأصل وهو الأمر والنهي من الأحكام العملية ، وإدخاله في العقيدة جاء من جهة أن الفِرَقْ الضالة كالخوارج والرافضة والمعتزلة خالفوا في هذا الأصل وتركوا ما كانت عليه الجماعة الأولى ، فخالفت الخوارج طريقة الصحابة ، وخالفت الشيعة والرافضة طريقة الصحابة والتابعين في هذا الأصل وكذلك خالف المعتزلة أهل السنة في هذا الأصل .
فذَكَرَ شيخ الإسلام كغيره من أئمة الإسلام والسنة ، ذكروا مسألة الأمر والنهي لأنها من المسائل الكبيرة التي خالف فيها أهل السنة أهل الضلال .(2/296)
ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسائل العظيمة في الدين لأن الصلاح في الدين سببه الأمر والنهي والدعوة إلى الخير ، والفساد في الدين أو في حياة الناس سببه ترك ما توجبه الشريعة في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لهذا صار من المسائل العظام وعده طائفة من أهل العلم من أصول الدين ومبانيه العظام .
قال شيخ الإسلام رحمه الله هنا: ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ - يعني ثم أهل السنة والجماعة مع هذه الأصول التي سلفت - يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ .
والأمر والنهي جاء في الكتاب وفي السنة في مواضع كثيرة منها قول الله جل وعلا { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } ومنها قوله جل وعلا { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ومنها قوله جل وعلا (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) ومنها قول الله جل وعلا (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) والآيات في هذا الأصل كثيرة .(2/297)
ومن السنة قول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) وفيه أيضاً في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال (ما من نبي بعثه الله إلا كان له من أمته حواريون يستنون بسنته و يهدون بهديه ثم إنه تَخْلُفُ من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) وأيضاً كما جاء في السنن والمسند من حديث أبي بكر رضي الله عنه إذ خطب الناس فقال لهم (أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية فتضعونها في غير موضعها وهي قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } و إني سمعت رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يقول : لتأمرن بالمعروف ولتنهوُنَ عن المنكر ولتأطرن السفيه أو قال على يد السفيه تأطرونه على الحق أطرا أو يوشك أن يعمهم الله بعقابٍ من عنده) أو كما جاء في الحديث . والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة معلومة يضيق المقام عن ذكرها وبسطها .
قد أجمعت الأمة أيضاً على هذا الأصل وهو وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهذه الجملة لا شك أنها مهمة وتحتاج إلى تفصيل وبيان لأن شيخ الإسلام أجمل أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله على ما توجبه الشريعة .
فهذه الكلمة هي التي فيها تفاصيل كثيرة ، تفاصيل أقوال أهل السنة وأهل العلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحن نذكر ذلك في مسائل حتى يكون أوضح للمقام .
" الأولى من تلك المسائل في تفسير كلمة المعروف والمنكر :
فإن المعروف في النصوص الذي جاء الأمر به هو ما عُرِفَ حسنه في الشرع .(2/298)
والمنكر ما عرف قبحه في الشرع .
وقال بعض أهل العلم المعروف إسمٌ جامع لكل ما يحبه الله جل وعلا ويرضاه من أمور الخير .
والمنكر إسمٌ جامع لكل ما يسخطه الله جل وعلا ويأباه من أمور الشر .
فدخل في المعروف الواجبات والمستحبات ، ودخل في المنكر المحرمات .
وأعظم المعروف توحيد الله جل جلاله ، وأبشع المنكر وأقبح المنكر وأردؤه الشرك بالله جل جلاله ولهذا قال أبو العالية في قول الله تعالى { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ } قال أمروا بتوحيد الله ونهوا عن الشرك .
وكل معروف في القرآن فهو التوحيد وكل منكر في القرآن فهو الشرك ، ذلك أن الطاعات وأبواب الخير كلها من فروع التوحيد ومن آثار التوحيد ، والمعاصي من آثار الشرك .
فلهذا أعظم ما يؤمر به التوحيد ويؤمر بفروعه ومسائله ومستلزماته من الطاعات وكذلك أعظم ما ينهى عنه وينكر الشرك بالله جل جلاله .
المعروف درجات والمنكر أيضاً درجات ولهذا كان من قواعد أهل السنة أن المعروف الذي يُطْلِبْ إذا تزاحم معروفان ما كان أعلى ، والمنكر الذي يُنْهى عنه إذا تزاحم منكران ما كان أعلى فتترك الأقل لما هو أعلى ، فتنكر الأعلى لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح ودرء المفاسد .
" المسألة الثانية حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتفصيل الكلام على أحواله .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سمعت في النصوص مأمور به وهو واجب وهذا الوجوب هل هو وجوب عيني أم كفائي ؟
في المسألة تفصيل : وهو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب عيناً ، يجب على المعين إذا رآه كما جاء في الحديث (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع) الحديث ، فيجب على من رآه عيناً مع القدرة .
وإنكار المنكر له مراتبه هذه التي سيأتي بيانها ، و يجب إنكار المنكر على الأمة على وجه الكفاية.(2/299)
والمنكرات قسمان ، والواجبات قسمان :
واجبات يشترك في معرفتها الجميع ومنكرات يشترك في معرفة أنها منكرة جميع المسلمين .
مثاله في الواجبات : الصلاة والزكاة وصلة الأرحام وما شابه ذلك وقراءة القرآن .
ومثاله في المنكرات شرب الخمر والزنا والسرقة وأخذ الرشوة وشهادة الزور ونحو ذلك .
فهذا الذي يشترك في معرفته الجميع يجب الإنكار فيه على الجميع، لا يختص في الإنكار فيه لأهل العلم .
وأما ما كان من مسائل الإجتهاد ومن المسائل التي فيها أدلة وفيها بيان من أهل العلم لا يشترك في معرفتها الجميع وإنما تحتاج إلى بيان واستدلال ونحو ذلك مما لا يعلمه إلا الخاصة أو إلا طلبة العلم وأهل العلم ، فهذه يُشْتَرَطُ فيها لمن أنكر العلم .
والمسائل التي يكون المورد فيها مورد اجتهاد فإن العلم فيها مَنُوطْ بأهل العلم الراسخين فيه .
وما كان من المسائل تتعلق بالفرد فإنه يكون الإنكار فيه بحسب علمه ، يعني إذا علم شيئاً أنكر بحسب العلم كما ذكر ذلك النووي وغيره .
فتفصيل المقام في هذا لا بد منه وهو أنه يُشْتَرَطُ لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العلم قبل الأمر والنهي ، لا يأمر ولا ينهى إلا عالم .
هناك مسائل العلم بها مشترك هذا يأمر بها كل أحد ، أي مسلم يجب عليه أن يأمر بالصلاة وأن ينهى عن الزنا لأن هذه مشتركة .
وأما المسائل الإجتهادية أو المسائل الخفية أو المسائل التي تحتاج إلى نظر ورعاية مصالح ونحو ذلك يعني من مسائل الإجتهاد فهذه لا بد فيها من علم ، لكن علم أهل العلم ، علم الراسخين فيه لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها .(2/300)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول (إنَ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب عليه أن يكون عالماً قبل أن يأمر وينهى وأن يكون متيقناً بحصول المصلحة في أمره ونهيه ودرء المفسدة ، فإن دخل في الأمر والنهي بظنٍ ولو كان ظناً راجحاً أثم لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .
فهذه القاعدة أظنها مجمعاً عليها فيما ذكره شيخ الإسلام من أن الأمر والنهي المقصود منه تحصيل المصالح ودرء المفاسد ، فإذا كان الآمر والناهي على علمٍ بأن المصلحة من الأمر راجحة وأن المصلحة ستكون برجحان وأن المفسدة لن تكون عنده برجحان فإذا تيقن ذلك دخل في الأمر والنهي ولم يأثم ،وأما إذا كان مظنوناً يقول نقول هذا أو نعمل هذا العمل ننكر على فلان قد يكون معه مصلحة ، إذا قال ذلك يأثم لأنه لا بد فيه من التيقن لا بد فيه من العلم أما الظن فلا يُكتفى به.
فتحصل من هذه المسألة أن أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجملة واجب ، وقد يكون واجباً عينياً وقد يكون واجباً كفائياً إذا قام به طائفة من الناس كفى البقية ، والمسائل العامة العظيمة الأمر فيها والنهي يكون لأهل العلم لا يدخل فيه العامة أو من لم يكن راسخاً في العلم .
" المسألة الثالثة في قول شيخ الإسلام هنا على ما توجبه الشريعة :
فيه أن من أمر و نهى دون رعاية لأحكام الشريعة في الأمر والنهي فليس على طريقة أهل السنة فأهل السنة يأمرون وينهون على ما توجبه الشريعة لا على ما توجبه الأهواء أو الآراء فلا بد أن يكون عند الآمر والناهي معرفة بالحكم الشرعي ودليلاً يعتمده وإلا يكون أمر على غير ما توجبه الشريعة ، وهذا لأجل مخالفة الخوارج والرافضة والشيعة والمعتزلة في هذه المسألة .
وقوله على ما توجبه الشريعة أخرج طوائف :(2/301)
أخرج من ذكرنا لأن هؤلاء غلوا في الأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر حتى جعلوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخروج على ولاة الجور و الولاة الذين يظلمون أو الفجار من الولاة ، جعلوا الخروج عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
انتهى الشريط السابع و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثامن و العشرون
وقوله (عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) أخرج طوائف ، أخرج من ذكرنا لأن هؤلاء غلوا في الأمر بالمعروف ونهوا عن المنكر حتى جعلوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الخروج على ولاة الجور والولاة الذين يظلمون أو الفجار من الولاة ، جعلوا الخروج عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وهذا من الغلو وهذا باطل مخالف لطريقة أهل السنة والجماعة .
ويقابل هؤلاء من ترك الأمر والنهي أصلاً كحال المتصوفة وحال الذين يرون القَدَرَ ماضياً في الناس فلا يحتاج إلى أمر ونهي .
وبسبب هؤلاء المتصوفة دخل أعداء الملة والدين وأعداء الإسلام بلاد الإسلام .
وقد يشابههم غيرهم ممن يتركون الأمر والنهي بحججٍ واهية .
فمن أسباب دخول الفرنجة ودخول الصليبين بلاد الإسلام كثرة المتصوفة في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس ، فكثرة أولئك سببت دخول الصليبيين لأنهم أَقْعَدُوا الناس عن الأمر والنهي وأحبطوا في النفوس الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فعندنا طائفتان وأهل السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء .
قوم غلوا كالخوارج ومن شابههم ، وقوم جفوا وهم الصوفية ومن شابههم .
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ يتطلب كما ذكرنا علماً و غَيْرَةً ، لابد أن يجتمع هذا وهذا .
فالعلم فات الخوارج والمعتزلة ومن شابههم ، والغَيْرَة على دين الله فاتت الصوفية ومن شابههم .(2/302)
فلا بد من علم صحيح ومن غَيْرَة فمن فاتته الغَيْرَة وكان عنده علم فإنه لن يأمر .
ومن كانت عنده غيرة وليس عنده علم بما توجبه الشريعة في الأمر والنهي أفسدته .
ومن جراء هذين الفريقين حصل الفساد وحصل إضعاف الشريعة في عصور الإسلام من أوائل الزمن إلى زمننا هذا .
فأناس دخلوا بغيرة دون علم ، وأناس علموا ولكن لم يغاروا على دين الله جل وعلا .
وهدى الله من تمسك بأصول أهل السنة فغاروا على حرمات الله وأمروا ونهوا لكن عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ فحققوا المصالح و درؤوا المفاسد .
" المسألة الرابعة في قوله عليه الصلاة والسلام (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)
هذا فيه الأمر بتغيير المنكر عند رؤيته (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) وفقه هذا الحديث مهم وذلك أن كلمة (رأى) فيه ، هذه جاءت بالشرط .
(من رأى منكم منكراً فليغيره) فعندنا :
" أولاً الشرط الذي جاء في الحديث وهو أنَّ شرط وجوب التغيير أن يكون ثَمَّ رؤية .
" والثاني المنكر .
" والثالث التغيير .
والمنكر تكلمنا عنه وهو ما عُلِم قُبحُه بالشرع ، أو أن مَثَارَتَهُ كانت بالشرع لا بمقتضى الهوى أو مقتضى ما يكون عن اجتهاد ناقصي العلم .
أولاً قوله (من رأى منكم منكراً) رأى هنا هي البصرية وليست العلمية ، ليس معنى رأى هنا عَلِمَ وإنما معناه رؤية البصر لأنه عداها إلى مفعول واحد .
فرأى إذا تعدت في النحو إلى مفعول واحد كانت رؤيةً بصرية (من رأى منكم منكراً) .
فتفسيرها بعَلِمَ ليس بصحيح .
فالرؤية هنا التي عُلِقَ عليها وجوب الإنكار هي الرؤية البصرية ،فيجب أن تنكر باليد فإن لم تستطع فباللسان إذا رأيت المنكر بعبينيك مع شرط القدرة .
أما إذا لم تره ولكن سمعته سماعاً محققاً كأن سمعت امراة تصرخ أو سمعت بسماع محقق رجل يراود امرأة أو سمعت سماعاً محققاً ملاهي ونحو ذلك فهذه وإن لم ترها تلحق بالرؤية .(2/303)
ألحقها أهل العلم بالرؤية لأنها متيقنة بحاسة السمع كتيقن المرئي بحاسة الرؤية .
وأما غير ذلك مما يُخبَرُ يه المرء فليس المجال فيه مجال إنكار ، وإنما يجب الإنكار على من رأى أو سمع سماعاً محققاً أما من أُخْبِرْ فمجاله مجال النصيحة .
والنصيحة غير الإنكار ، النصيحة باب والإنكار فصل منه .
يعني أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب من أبواب النصيحة .
النصيحة عامة ومن النصيحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فالنصيحة أوسع .
والأمر والنهي ما كان نصيحةٌ لها شروطها ولها أحوالها بما جاء في الشريعة .
والنصيحة هذه عامة كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، ثلاثاً ، قلنا لمن يا رسول الله - يعني - قال الصحابة لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم)
فالنصيحة عامة ، الدين كله نصيحة .
والنصيحة هذه لأئمة المسلمين ولعامتهم تشمل الأمر والنهي .
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعض النصيحة لكن له شروط خاصة فهو كالمخصص من العام .
والتخصيص من العموم بشروطه ، هذا له أحكامه المعروفة .
فإذن ليست كل أحكام النصيحة جارية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليست كل أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جارية على النصيحة بل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصيحة لعباد الله ولأئمة المسلمين ولعامتهم ولكن بشروطه الشرعية .
o ومن الفروق بينهما أن النصيحة الأصل فيها السر .
النصيحة تكون سراً وتكون مُجملةً بدون تحديد ، هذا الأصل فيها كما قرَّره أهل العلم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يكون في بعض أحواله سراً ولكن الأصل فيه أن يكون علناً .
o الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون إذا رُؤِي المنكر أو سُمِع سماعاً محققاً ، والنصيحة تكون بأوسع من ذلك فيما إذا رُؤي أو سُمٍع أو أُبلِغتَهُ ، أو بلغك أنه حصل كذا وكذا .(2/304)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون فيما إذا حصل المنكر أمامك ، أما إذا حصل في غيبة عنك فإنه نعود إلى الأصل العام وهو النصيحة لأن النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام قيَّد وجوب الإنكار بقوله (من رأى منكم منكراً) ، فمن رأى وجب عليه ومن لم يرى بل سمع أو قيل له فلان حصل منه كذا وكذا أو الأمر الفلاني حصل فيه كذا وكذا فالمجال فيه مجال نصيحة .
o من الفروق أيضاً أن النصيحة تحتاج إلى تثبت واستفصال والأمر والنهي بما حصل أمامك فإنك متيقن منه ، يعني أن النصيحة لمن يحتاج النصيحة تكون بما علمته وتثبت منه وأما الأمر والنهي فهو لا بد فيه من اليقين كما قال شيخ الإسلام وغيره .
o من الفروق بينهما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعلق بالمنكر ، أن النهي عن المنكر يعني في حديث أبي سعيد هذا (من رأى منكم منكراً فليغيره) هذا متعلق بالمنكر ، وأما النصيحة فهي متعلقة بمن ينتفع من الأمر أو النهي عن المنكر .
فحديث أبي سعيد متعلق بالمنكر وليس فيه ذكر لفاعل المنكر ، قال (من رأى منكم منكراً فليغيره) ، يعني ليغير المنكر ، أما الواقع في المنكر فهذا يختلف الحال فيه .
مقامه يحتاج إلى تفصيل :
الحال الأولى أن يكون المُنكِر للذي رآه من أهل الحسبة ، يعني من نواب الوالي في الإنكار ، فهؤلاء حالهم غير حال عامة الناس ، فهذا لَهُ أن يعاقبه بتخويل السلطان لَهْ ، بتخويل ولي الأمر لَهْ ، لَهُ أن يعاقب برؤية المنكر ، إذا رأى الفاعل للمنكر له أن يعاقب بحسب ما جُعِل له من السلطة في ذلك.
أما عامة الناس ، يعني غير أهل الحسبة يعني مثل ما نقول الآن غير رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير الهئية ، فهؤلاء في حقهم لا بد أن يُفَرِّقُوا بين المنكر وبين فاعل المنكر .(2/305)
المنكر يجب إنكاره وفاعله - يعني من قام به المنكر - فهذا المقام فيه مقام نصيحة { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .
مثال ذلك إذا رأيت مع أحد المسلمين رأيت معه خمراً أو رأيت معه أمراً منكراً أو رأيته يمارس أمراً منكراً ، فإنكار المنكر بإزالته ، بتغييره باليد إن أمكن أو باللسان ، أما صاحب المنكر الواقع فيه فهذا تستعمل معه الرفق والأناة وما هو أنفع وأصلح له .
ولهذا قال العلماء إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يُشترَطُ له ثلاثة شروط :
2 الأول قبل أن يأمر وينهى ، وذلك الشرط هو العلم .
2 والثاني حين يأمر وحين ينهى ، وذلك الشرط هو الرفق .
2 والثالث بعد أن يأمر وبعد أن ينهى وهو الصبر .
فثّمَّ ثلاثة شروط :
علم قبل ورفق مقارن وصبر بعده كما قال { وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } فلا بد من الصبر بعد الأمر والنهي ، لأن الآمر والناهي يخالف ما يشتهيه الخلق ، أكثر الناس ولو كانوا من المسلمين تبع لأهوائهم ، فيحتاج من يأمر وينهى إلى الصبر ، ولا بد من رفق مقارِن فهذا رفق بمن عمل المُنْكَرْ .
والإنكار للمُنْكِرِ نفسه هذا لا بد فيه من قوة (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) ما يكون فيه مثل ما يقول أهل العصر مجاملة في المُنْكَرِ نفسه .
أما فيمن فعله فهذا تُهادِيْهْ وتدعوه بالتي هي أحسن .
رأيت معه شيء تكسر المنكر الذي معه أو تُقَطِعُهُ أو تحجز بينه وبينه بحسب ما تقتضيه المصلحة .
إذا كان كذلك فتعلق المُنْكَرْ بفاعل المُنْكَرْ يحتاج أيضاً إلى تفصيل :
ذلك أن المُنْكَرَ مع فاعله تارة يكون منفكاً وتارةً يكون ملازماً :(2/306)
فإن كان منفكاً بمعنى أن المعصية منفكة عن فاعلها أو المنكر منفك عن فاعله ، مثل ان تدخل على أحد - نسأل الله لنا وللمسلمين العافية والسلامة والهداية - تدخل على أحد فتجد أمامه كأس خمر أو تجد انه يسرق أو تجد أن أمامه صورة عارية ينظر إليها ونحو ذلك ، فهذه الجهة فيها منفكة لأن كاس الخمر منفصل عن من يريد أن يشربه .
الصورة العارية منفصلة عن من يريد أن يشاهدها .
والمال الذي يريد أن يسرقه منفصل عنه .
فهذا إنكار المنكر بأن تغير هذا الذي بين يديه - يعني المنكر - بيدك فإن لم تستطع فبلسانك بمعنى تحجزه عن ذلك باللسان ، أو تكسره بيدك إن كان ذلك بالامكان .
من كان مُريداً لإتيان هذا المنكر فهنا إذا كان منفكاً يكون معه النصيحة والرفق والأناة .
فالمُنْكَرُ نفسه لا تكن رفيقاً به ، وأما من وقع فيه فلا بد فيه من الرفق لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال (إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه ولا نُزِعَ من شيء إلا شانه) .
هذا بحسب تحقيق المصلحة فإن كانت المصلحة هنا هي أن تكون رفيقاً في إنكار المنكر ورفيقاً أيضاً في تعليم أو دعوة أو نصيحة من فعل هذا المنكر أو من يريد أن يواقعه فإن تحقيق المصلحة ودرء المفسدة في هذا المقام لابد منها ، ولكن الأصل أن الإنكار يكون بقوة إلا إذا كان ثَمَّ مفسدة ستكون فإنك تكون رفيقاً في الأمر والنهي وفي إنكار المنكر ، والإنكار على من واقعه .(2/307)
الحالة الثانية أن يكون المنكر ملازماً لصاحب المنكر مثل أن يكون حالقاً للحيته أو أن يكون مسبلاً لإزاره أو أن يكون لابساً لذهبٍ أو أن يكون سكراناً أو ما شابه ذلك ، فهذه فيها اختلاط المنكر بفاعله ، لا تستطيع أن تغير فتجعل الحليق ملتحياً ولا أن تجعل المسبل مُشَمِّراً ، هذا ليس مستطيع ، فيكون هنا الإنكار باللسان (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه) يكون الإنكار باليد لأهل الإختصاص ، لمن له ولاية أو باللسان ، هذا ما يكون هناك فرق بين الفاعل والمنكر ، فيكون هنا الرفق والأناة في الأمر والنهي .
في قوله عليه الصلاة والسلام هنا (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) عرفنا معنى رأى وأن الرؤية هنا بالبصر أو بالسماع المحقق ، أما إذا سمعت قيل قال هذا لا بد فيه من التثبت ثم النصيحة ، والنصيحة تكون سراً والأمر والنهي يكون بحسب الحال التي ذكرتها .
قال (فليغيره بيده) بل قبل (فليغيره بيده) (منكراً) هنا المنكر المراد هنا فيه ما عُلِم كما ذكرنا ما عُلِمَتْ نكارَتُهُ بالشريعة ، وهذا يدخل في صورتين :
" الصورة الأولى ما كان مُجمعاً عليه .
" والصورة الثانية ما كان مُختَلَفاً فيه ولكن الخلاف فيه ضعيف ، فهذا يُنكَر .
ما أُجْمِعَ عليه ينكر وما اختُلٍف فيه ولكن الخلاف فيه ضعيف أيضاً تنكره .
ما أُجْمِعَ عليه واضح مثل إنكار الزنا والسرقة والرشوة إلى آخره .
وما اختُلِف فيه ولكن الخلاف فيه ضعيف هذا أيضاً يجب إنكاره .
وما اختُلِف فيه والخلاف فيه قوي هذا لا يُنْكَرْ ، بل لا يجوز إنكاره ولكن يُنَاَظُر فيه ويُجَادَلُ فيه ويبحث فيه .(2/308)
مثال ما كان الخلاف فيه ضعيفاً النبيذ الذي تبيحه بعض الحنفية ويبيحه بعض الأوائل أو العصير الذي اشتد وصار مسكراً يعني جلس ثلاثة أيام في حر ، هذا يكون مسكراً ، طائفة من أهل العلم يبيحونه ، أو إباحة الفوائد الربوية ، يعني إباحة الفوائد البنكية والعملات والفائدة أو المنفعة من وراء القرض أو تفصيل أنواع القروض بقروضٍ صناعية وقروضٍ استهلاكية ونحو ذلك ، هذه فيها خلاف .
ولكن الخلاف فيها عندنا ضعيف لأنه ليس حجة لمن خالف في هذه المسائل حجة واضحة فهذه تُنكَرْ ، تُلْحَقْ بالمسائل المجمع عليها ، ولا تدخل في قول من قال (لا إنكار في مسائل الخلاف) .
أما ما كان الخلاف فيه قوياً فهذا لا يُنكَرْ ، مثل قراءة الفاتحة في الصلاة ، فمن تركها مثلاً هذا الخلاف فيه قوي ، هل تجب في الصلاة على المأموم أم لا تجب ، يتحملها الإمام ، هذا الخلاف فيها قوي معروف ، مثل زكاة الحل ومثل إعفاء اللحية بعدم أخذ شيء منها أو بما زاد عن القبضة ونحو ذلك من المسائل .
هذه المسائل فيها خلاف ، واختلف فيها العلماء ومذاهب الأئمة فيها معروفة ونحو ذلك .
هذه المسائل الخلاف فيها قوي ، الباب فيها باب دعوة ومجادلة لا باب إنكار .
وبهذه المناسبة نُفَصِّل القول في مسألة من يقول (لا إنكار في مسائل الخلاف) ، وبما ذكرت يتبين لك أن هذا القول على إطلاقه غلط ، بل الصواب فيه أن تُفَصِّل القول في مسائل الخلاف ، وذلك أن نقول مسائل الخلاف تنقسم قسمين :
- مسائل الخلاف فيها ضعيف فهذه يُنكر فيها .
- ومسائل الخلاف فيها قوي فهذه لا إنكار في مسائل الخلاف فيها .
ولهذا قيَّد طائفة من أهل العلم قول من قال (لا إنكار في مسائل الخلاف) بما إذا كان الخلاف قوياً ، أما إذا كان الخلاف ضعيفاً فإنه يُنكَر ، وتشابهها عبارة قول من قال (لا إنكار في مسائل الإجتهاد) هذه غير مسائل الخلاف لأن مسائل الإجتهاد غير مسائل الخلاف .(2/309)
مسائل الإجتهاد التي اجتهد فيها أهل العلم في نازلة من النوازل .
نازلة من النوازل نزلت فاجتهد فيها العلماء ، قال طائفة كذا وقال طائفة كذا .
فمسائل الإجتهاد ما يكون الإجتهاد فيها في إلحاق النازلة بالنص ، ومسائل الخلاف ما كان الإجتهاد فيها راجعاً إلى فهم النص .
فإذا كان الفهم راجعاً إلى النص في مثل المسائل التي ذكرت لكم فهذه تسمى مسائل الخلاف .
لا إنكار في مسائل الخلاف التي خلافها قوي .
وأما مسائل الإجتهاد في إنكار فيها مطلقاً بدون تفصيل ، لأنه اجتهد ، ما دام أنه اجتهد في النازلة ليلحقها بالنصوص ولا نَصَّ فيها ، فهذه لا يُثَرِّبُ أحد المجتهدين على الآخر ولا ينكر عليه إلا إذا كان اجتهاده في مقابلة النص أو في مصادمة القواعد الشرعية على ما هو معلوم في أصول الفقه .
(فليغيره بيد) هنا أوجب تغيير المنكر ، وإيجابه هنا كما ذكرنا مشروط بـ :
1- علمه بأن هذا منكر .
2 - وأن المصلحة مُتَيَقَنَة ، يعني بشروطه .
إذا غلب على ظنه أن الإنكار لا ينفع ، مثلاً يغلب على ظنه أنه إذا أنكر على .... (1)
ولن يحصل ثَمَّ فائدة منه ، فهل يجب الإنكار أم لا يجب ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
- قالت طائفة يجب الإنكار لأنه هو الأصل ولا دليل يُخرِجْ هذه المسألة عن ذلك ، وهذا أصح الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله وهو قول الأكثر من أهل العلم .
- والقول الثاني أن الرائي للمنكر إذا غلب على ظنه عدم الانتفاع بإنكاره فإنه يُسْتَحَبُ له أن يُنْكِر ولا يجب ، ومال إلى هذا فيما يُفْهَمُ من كلامه شيخ الإسلام ابن تيمية ، واسْتُدِلَ بهذا بل ذكر شيخ الإسلام دليلاً على ذلك بقوله جل وعلا { فَذَكِّر إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } قال معنى الآية إن نفعت الذكرى فذكر ، فأوجب التذكير ويدخل فيه الأمر والنهي إذا غلب على ظنه الانتفاع .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(2/310)
مفهوم الآية أنه إذا لم يغلب على ظنه الانتفاع فإنه لا يجب عليه ، ويكون الحال إذاً على الإستحباب .
وهذا القول أظهر عندي وأصح وهو قول جماعة كثير من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم ويؤيده أن الصحابة رضوان الله عليهم دخلوا على ولاة بني أمية ودخلوا على بعض الأمراء في زمنهم فوجدوا عندهم منكرات فلم يُنْكِرُوا ، حُمِلَ على أنه غلب على ظنهم عدم الإنتفاع لأنه أولى من أن يُحْمَلَ على أنهم تركوا واجباً .
وإذا قلنا أنه لا يجب يبقى الاستحباب حمايةً للشريعة وصيانةً لهذا الواجب الشرعي وكما جاء في الحديث (إن بني إسرائيل أول ما دخلهم النقص كان الرجل يلقى الرجل فيقول له يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فلا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وقعيده وشريبه) يعني أنه يأمره مرة و يترك ذلك فيبقى هذا على جهة الإستحباب دائماً إذا غلب على الظن أنه لا ينتفع في إنكار المنكر .
مثل ما ترى اليوم من وجود النساء كاشفات الوجه في المستشفيات أو في بعض الأسواق أو في المطارات أو في السيارات فإن هذا مُنْكَرْ لكن يغلب على الظن أن بعض ألئك النسوة لا ينتفعن بالإنكار.
فمن غلب على ظنه أن المرأة التي رآها على ذلك أنها لا تنتفع بالإنكار ، فإنه لا يجب عليه الإنكار ، بمعنى لا نُؤَثِمُهُ إن ترك .
وعمل أكثر أهل العلم على هذا ، ولكن قول أكثر أهل العلم كما ذكرنا هو بالإيجاب مطلقاً ، وتأثيم المسلمين فيه حرج سيما مع ظهور الدليل في قوله { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } وما ذكرنا من عمل الصحابة وأهل العلم .
(فليغيره) هنا التغيير - أنا أطلت في شرح هذا الحديث لأن شيخ الإسلام في قوله (عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) يستحضر هذه المسائل كما فصلها في كتابه منهاج السنة وفي غيره من كتبه رحمه الله - .
(عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) هذه كلمة عظيمة تَمَيَّزَ بها أهل السنة عن غيرهم فلا بد من تفصيل المقام في ذلك .
......(2/311)
لا ، فرق بين هذا وهذا ، وذاك تَيَقُنٌ بأن المصلحة راجحة ، ولا يكفي أن يغلب على ظنه حصول المصلحة ، بل لا بد أن يتيقن أن المصلحة راجحة وأن المفسدة زائلة أو مهملة .
وتعلمون القاعدة المعروفة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) هذه لها ضابط :
وضابطها أن المصلحة والمفسدة إذا استوت عندك فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة .
إذا استوت هذه مصلحة وهذه مفسدة أو تقاربت فهنا نقول درء المفاسد مقدم .
وأما إذا كانت المصلحة راجحة والمفسدة قليلة مرجوحة ، ضعيفة ، فهنا لا نقول درء الفاسد مقدم على جلب المصالح ، بل تحصيل المصلحة راجح لأنه ما من مصلحة يُراد تحصيلها إلا وتكون مُخالِفَة لأهواء الخلق ، فلا بد أن يكون ثَمَّ نوع مفسدة ، مثل تأمر واحد يزعل عليك صحيح إنه بينفذ أو يَزُول المنكر لكن هو بيزعل وبيغضب أو نحو ذلك ، لكن لن تكون فتنة أو قطيعة رحم أو يكون هناك فساد أو اختلاف في القلوب لكن مجرد إنه يغضب أو يزعل أو نحو ذلك أو يتكلم عليك ، هذه نعم مفاسد لكنها لا تُقابَلُ بالمصلحة الراجحة .
فقول من يقول من أهل العلم وهي قاعدة صحيحة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فيما إذا تقاربت المصلحة والمفسدة أو تساوت المفسدة والمصلحة .
أما إذا كانت المصلحة راجحة بيقين والمفسدة مرجوحة وضعيفة جداً بيقين فإن هذا لا يُقال فيه (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) لأنه ما من مصلحةٍ يراد تحقيقها إلا ولا بد يحصل شيء من مفسدة بتحقيقها لأن الشريعة لم تأت على موافقة أهواء الخلق .
قوله (فليغيره) هذا اللفظ لا يساوي فليزله .
التغيير في الشرع لا يساوي الإزالة ، يدل عليه أنه قال (فإن لم يستطع) يعني أن يغير بيده (فليغيره بلسانه) .
(فإن لم يستطع فبلسانه) يعني فليغير المنكر بلسانه ، ومعلوم أن تغيير المنكر باللسان قد يكون معه إزالة وقد لا يكون .
قال (فإن لم يستطع فبقلبه) يعني فليغير المنكر بقلبه .(2/312)
فالتغيير قد يكون بإزالة وقد لا يكون ، وهذا من توسعة الله جل وعلا على هذه الأمة .
فيجب التغيير ولكن الإزالة لا تجب إلا إذا كانت مُستطاعة .
فقوله (فليغيره بيده) التغيير باليد يكون بإزالته ، والتغيير باللسان يكون بالإنكار ويُسمَّى مُغَيِّراً .
فمن أنكر منكراً بلسانه يكون قد غَيَّرْ .
والأمة إذا كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتغير المنكر باللسان لا تقره ولا تسكت على المنكر فإنها تكون مُغَيِّرَةً لا يلحقها الوعيد الذي جاء في قول الله جل وعلا { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } إذا غَيَّرْ باللسان وذكر المنكر ونهى عنه فإن هذا يكفي ويحصل به التغيير إلا إذا استطاع اليد فإنه يكون مخاطباً بتغييره باليد .
من الأحكام التي في الحديث أن التغيير بالقلب له ضابط وهو أن يكره هذا المُنكر بقلبه ولا يرضى فعله ويترك المكان الذي فيه المنكر إن استطاع ، أو كانت المصلحة في ترك المكان .
فإذن التغيير بالقلب لا بد فيه :
o من كراهة المنكر ، هذا واحد ، البغض بغض المنكر .
o الثاني لا يرضى به وأن يمقته ، لا يرضى بحصوله .
o الثالث أن يفارق المكان إن كانت مفارقته راجحة من حيث المصلحة .
هذا بعض ما يتعلق بالأحكام المهمة في الحديث .
" المسألة الخامسة وهي مسألة مهمة تتعلق بالفرق بين نصيحة الولاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للولاة ، بل لعامة الناس .
النصيحة كما ذكرنا الأصل فيها أن تكون سراً والمنكر الأصل فيه أن يكون علناً .(2/313)
وقد جاء في بيان هذا الأصل قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يُبْدِهِ علانية ، وليأخذ بيده ، وليخلو به ، فإن قبل منه فذاك وإلا يكون قد أدَّى الذي عليه) وهذا الحديث إسناده قوي ، ولم يُصِبْ من ضعَّف إسناده وله شواهد كثيرة ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد ، ويؤيده ما جاء في صحيح البخاري (من أنهم أرادوا أن يُنْكِرَ أسامة بن زيد على عثمان ، فأسامة بن زيد لم يفعل وقال أما إني قد بذلته له سراً لا أكون فاتح باب شر) وهذا موافق لهذا الأصل وهو أنه ما يقع في ولاية السلطان في ولاية الوالي من مخالفات للشرع فهذا بابه النصيحة ، لأنها ما تعلقت به من جهة رؤيةٍ لفعله أو سماعٍ محقق له .
أما من رأى السلطان بنفسه يفعل منكراً فإنه مثل غيره يأمره وينهاه .
وأمر ونهي السلطان يكون عنده لا يكون بعيداً عنه لما جاء في الحديث (أفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطانٍ جائر فأمره ونهاه فقتله)
فأمر ونهي السلطان يكون فيما رأيته منه بنفسك أو سمعته منه سماعاً محققاً ، سمعته منه بأذنك فتُنْكِر بحسب الإستطاعة ، بحسب القدرة بحسب ما يتيسر علناً أو غيرها .
أما النصيحة فهي ما يجري في ولايته .
وأهل العلم فرقوا في هذا المقام بما ذكرت لك، بين النصيحة بما يقع في الولاية وبين ما يكون منكراً يفعله السلطان بحضرة الناس .
وكثير من الحوادث والأدلة والأحاديث أنكر فيها الصحابة وأنكر فيها التابعون على ذوي السلطان علناً ، وكلها إذا تأملتها بدون استثناء يكون فيها الأمر أن المنكر فعله بحضرتهم ، رأوه منه أو سمعوه سماعاً محققاً منه .
مثل ما أنكر الرجل على مروان في تقديمه خطبة العيد على الصلاة ، فهذا شيء سُمِعَ منه ، ولو كان السلطان إذا فعل مُنْكَراً فإنه يُنْكَرْ عليه ، ولا يقال هنا سراً بل يُنْكَرْ عليه ولو كان بحضرة الناس بشرط أن يُؤمَنَ أن يكون ثمَّ فساد أعظم منه من مقتلة أو فتنة عظيمة أو نحو ذلك .(2/314)
وكذلك ما حصل من الإنكار على عمر في لبسه الثوبين .
وكذلك ما حصل من الإنكار على معاوية ، وأشباه ذلك كثير .
فإن باب النصيحة غير باب الإنكار .
باب الإنكار يكون برؤيةٍ ، سواء كانت رؤية المنكر من السلطان أم من عامة الناس .
إذا رأيته بنفسك .
أما باب النصيحة فما يقع في الولاية ، وتأمل في ذلك النصوص جميعاً ، وقد تأملتها رعايةً لتحقيق المقام في هذه المسألة المهمة وبراءةً للذمة ، ووجدت أن هذا الذي ذكرت لك مُنْضَبِطْ كما قال أهل العلم ، كما ذكر ذلك مُحَقَقَاً ابن رجب في شرحه لحديث (من رأى منكم منكراً) وكما ذكره ابن النَّحاس في كتابه (تنبيه الغافلين) بل قد قال ابن عباس رضي الله عنهما (لا تأمر السلطان ولا تنهاه عن منكر إلا فيما بينك وبينه) رواه عنه عبدالرزاق بإسناد صحيح .
وكلام السلف إذا تأملته يدور على هذا الفرق ما بين النصيحة وما بين الإنكار .
فباب الإنكار شيء وباب النصيحة شيء .
الإنكار بقيده برؤيةٍ ممن فعل أو سماع محقق ، وتلحظ أن الإنكار يكون بحسب التفصيل الذي ذكرنا من انفكاك المعصية أو ملازمتها .
" المسألة السادسة في هذا الباب المهم أن الأمر والنهي يجب على العين أو على الكفاية بشرط أن يأمن أن يُؤْذَى أذىً لا يناسبه .
يأمن أن يُقْتَل أو يأمن أن يُضْرَبْ أو يُجْلَدْ أو يُسْجَنْ ، فإن خاف على نفسه القتل أو السجن أو خاف على نفسه قطع الرِزق ونحو ذلك فإنه لا يجب عليه ، يبقى باب بالاستحباب وهذا نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى (يُشْتَرَط في الوجوب أن يأمن على نفسه ، فإن خشي فتنةً فإنه لا يجب عليه بل يُسْتَحَب إن قوي على البلاء) وليس كل أحد يقوى على البلاء .
وليس من الإيذاء الذي يُسْقِطُ وجوب الأمر والنهي السب أو الشتم أو إشاعة الإشاعات الباطلة على الآمر الناهي ، هذا لا يعذر به .(2/315)
يجب عليه أن يأمر وينهى ولو قيل في عرضه ما قيل ، إلا إذا كان ثَمَّ إيذاء لا يتحمله في نفسه أو في رزقه أو ما شابه ذلك .
" المسألة السابعة ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يحصل في هذه الأزمان في بعض البلاد من قتلٍ أو تفجيرٍ أو نحو ذلك ، أو خروج على ولاة الكفر أو على الدول الكافرة هذه المسألة مهمة.
ومسألة الخروج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نعلم فيها أن الخروج على أئمة المسلمين ما دام أن أصل الإسلام باقي لم يرتد عن الإسلام فإنه لا يجوز الخروج عليهم ولا الإعانة بالخروج عليهم ولا التثبيط عنهم .
هذا أصل عند أهل السنة والجماعة كما هو معلوم ويأتي تفصيله في الجملة التي تأتي بعدها .
وأما دول الكفر أو ولاة الكفر فإن الخروج عليهم جائز ، لكن جوازه مع القدرة وتحصيل المصلحة ودرء المفسدة .
والمصلحة والمفسدة في ذلك مَنُوطَةٌ بقول الراسخين في العلم كما ذكرنا في أول الكلام ، ليست منوطة باجتهاد المجتهد .
ولهذا ذكرنا لكم من كلام شيخ الإسلام أنَّ من دَخَلَ في هذا الأمر غير مُتَيِقِّنٍ أن المصلحة ستكون وتزول ويكون بعد المنكر خير فإنه لا يجوز له ذلك .
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن مراتب إنكار المُنْكَر أربعة :
" الأولى منها أن يُنْكِر المُنْكَر فيزول و يَخْلُفُهُ الخير ، وهذه مشروعة وهي المطلوب الأعظم .
" المرتبة الثانية منها أن يُنْكِر المُنْكَر ويَخِفْ ، يقل المُنْكَر و لا يزول ، لكن يقل .
" والثالثة أن يزول المُنْكَر ويحصل منكر آخر مساوٍ له .
" والرابعة أن يزول المُنْكَر ويحصل منكر أنكر منه .
الأولى والثانية شرعيتان والثالثة محل اجتهاد والرابعة لا تجوز باتفاق .(2/316)
فما يحصل من أمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتفجيرٍ ونحوه في بعض البلاد هذا في عمل أصحابه يقولون : إنه فيه تحقيق مصلحة ، و هذا فيه إنكار منكر ، ولا يشترط في إنكار المنكر عندهم الشروط التي ذكرنا ، فيقولون فيه تحقيق مصلحة وفيه درء مفاسد ونحو ذلك .
فنقول هنا إن قاعدة أهل السنة أن تحصيل المصلحة في هذه المسائل ودرء المفسدة منُوطةٌ باجتهاد أهل العلم ، لأن هذه مسائل متعلقة بالعامة ، وهي إنكار سيسبب قتلاً ويسبب أذىً على غيره ، والمنكر إذا كان إنكاره يسبب أذىً على غيره لم يَجُزْ أن يِنْكِرَهُ إلا برضى الآخرين لأنه قد تعلق بهم
وأما إذا كان الإنكار ، إذا أنكر سيناله الأذى على نفسه فقط ، مثل من يقوم إلى سلطانٍ جائر فيأمره وينهاه ، فيقتله ، فنقول لا بأس إذا رضيت بذلك لنفسك فلا بأس بذلك ، وهذا خير الشهداء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام .
أما إذا أنكر سيُؤْذى غيره من النساء أو ستنتهك أعراض أو سيُؤْذى غيره من الناس ويُسْجَن فيكون هناك بلاء فإنه لا يجوز الإنكار باتفاق أهل العلم .
فإذا كان الإنكار بمثل هذه المسائل فإنه لا يجوز باتفاق أهل العلم لأنه قد تعدى الضرر ، وإذا تعدى الضرر فإنه لا يجوز إنكاره بمثل هذه التي فيها الإنكار بأبلغ ما يكون من أنواع الإنكار باليد .
فتحصَّلْنَا من ذلك أنَّ المصلحة والمفسدة منوطة بفهم بأهل العلم ، وأنَّ أهل العلم هم الذين يقدرون المصالح والمفاسد .
فلا يجوز لأحد أن يدخل في مثل هذه المسائل أصلاً إلا بفتوىً من أهل العلم ، وأهل العلم لا يُفتون في هذه الأمور بالجواز لأن تحريمها معلومٌ من أصول الشريعة لتَعَدِّي الضرر ولأن مفسدتها أعظم بكثير من المصالح التي تظن .
بل كثير من أبواب الخير وكثير من الأذى نال بسبب عمل من لم يأمر وينهى عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ ، والعباد يُؤاخذون بذنوبهم .(2/317)
المقام يحتاج إلى أيضاً تفصيلات في هذه المسائل لكن لعلنا نكتفي بذلك ، وتنظرون كتب أهل العلم في هذا وتجمعون الضوابط ، لأن من نفائس العلم معرفة الضوابط ، ضابط هذا الحكم ، لا تكن تأخذ المسائل بإجمال ، أو تكن عاطفتك في بعض المسائل غالبة على علمك .
لا بد أن يكون هناك غيرة وعلم متوازنة خاصة في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يتحقق طريق ونهج أهل السنة والجماعة فيما ذكر شيخ الإسلام هنا في قوله (ثُمَّ هُم مَّعَ هّذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ) .
نكتفي بهذا القدر وأسأل الله جل وعلا لي ولكم الفقه في الدين والانتفاع بكلام أهل العلم .
قال ذكرتم أثناء الشرح انه لا يُنْكَر على المجتهد ، فهل إذا اجتهد أي أحد لا ينكر عليه ؟
لا ، المجتهد المراد أنه لا يُنْكَر عليه الذي هو من أهل العلم ممن يجوز له الاجتهاد ، أما إذا اجتهد جاهل أو شبيه الجاهل أو من ليس من أهل الاجتهاد فلا يجوز له أن يجتهد أصلاً فيُنْكَر عليه اجتهاده في مقابلة اجتهاد أهل العلم .
......
لا هذا غير صحيح إلا إذا أراد بمسائل الاجتهاد ما يدخل في فهم النصوص ، هذا يرجع إلى الأول .
ما رأيك في هذه القواعد في إقامة الحجة في التكفير والتبديع ؟(2/318)
ما أَحَبِذْ سؤال عن الرأي لأن الرأي مذموم ، ويُسْأَل عن هذه القواعد هل هي صحيحة أم لا حسب ما يقتضيه العلم ، أما الآراء لا يُسأَل الواحد عن رأيه ، أنا رأيي لنفسي ، لكن للناس ما نذكُرُ لهم إلا ما يقتضيه العلم الذي عليه كلام أهله أو ما بيَّنَهُ أهل العلم من دلالات النصوص ، أما الرأي ما يذكر العالم رأيه ، يذكر فقهه في النصوص ، فهمه لكلام أهل العلم ، نعم ، لأن العلماء إنما هم أدوات ، العلماء وسطاء في إيصال معاني النصوص للناس ، هذه وظيفة العالم وهي خير وظيفة وأعظم وظيفة أن تُبَيِّنَ للناس معاني الكتاب والسنة ، ليس مكان العالم عندنا أن يذكر آراءَهُ ، الرأي لا قيمة له ، إلا أن يُعْمِلَ فهمه في فقه النصوص ويستنير بأقوال أهل العلم نعم ، أما الرأي المجرد والاستحسان وأرى كذا وهذا أحسن ، ترجيحات ونحو ذلك فهذا لا قيمة لها ، العلم قال الله وقال رسوله ، قال اصحابة هم أولو العرفان ، مثل ما قال ابن القيم أيضاً رحمه الله :
و العلم أقسامٌ ثلاثٌ ما لها ... من رابع و الحق ذو تبيان
علمٌ بأوصاف الإله ونعته ... وكذلك الأسماء للديان
و الأمر والنهي الذي هو دينه ... و جزاؤه يوم المعاد الثاني
والكل في القرآن والسنن التي ... جاءت عن المبعوث بالفرقآن
والله ما قال امرؤٌ متحذلقٌ ... بسواهما إلا من الهذيان
أعظم ما ينعم الله جل وعلا به على طالب العلم أن يعتني بكلام أهل العلم في فهمهم للنصوص ، يعتني بتصوير المسائل ، وفهمها ، وأحكام أهل العلم ، ويربط ذلك دائماً بالنص ، هذه من أعظم ما يكون من الفوائد .
المقصود قال هذه القواعد لإقامة الحجة في التكفير والتبديع :
- أولاً قولٌ وفعلٌ كفر ويكفر صاحبه من غير إقامة حجة مثل سب الله وسب الرسول .
- قولٌ وفعلٌ كفر ولا يكفر صاحبه إلا بعد إقامة الحجة عليه ، وإنما يبدع مثل تأويل الصفات .
- قول وفعل لازمه البدعة ولا يبدع صاحبه إلا بعد إقامة الحجة عليه مثل الموالد .(2/319)
- خلاف أفهام مبني على الأدلة مثل صلاة التراويح وغيرها ليس فيه تبديع ولا تكفير .
مثل هذا التفصيل أو مثل هذا التقعيد لا يَحْسُنْ أن يخوض فيه طلاب العلم في أجناسه ، بسبب أن مثل هذه التقعيدات سواءً فيما ذكر أو في غيرها تكون مبنية على الواقع ، والتقعيد أعمْ من رؤية الواقع ، يعني بعض المُقَعِّدِين ينظر إلى الواقع فيستخلص الأحوال ويقسمها بحسب ما عنده من الرأي أو ما عند طائفته من الرأي ، ثم بعد ذلك يقَسِّم على حسب الواقع الذي في زمنه ، مثل من يشاهد في زمن معين الحال كذا وكذا وكذا يقول نقسمهم حتى يكون رأيه صواباً ، هذا ليس مقتضى العلم ، مقتضى العلم أن تنظر إلى ما دلت عليه النصوص وكلام أهل العلم قبل حصول هذا الواقع المعين ثم تنزل كلام أهل العلم في فهمهم للنصوص على الواقع ، لا أن تجعل الواقع هو الأصل ثم تحمل الكلام والتقسيمات عليه ، هذا لا يسوغ لأنه تَعَدٍ ، ولهذا نقول نفهم كلام أهل العلم وتقعيداتهم وننزله على الواقع ، أما كثرة التقسيمات فيما ذكر فلا أفهم أنها قواعد .
يقول عند النظر إلى بعض الدول الإسلامية نجد أن الأحداث التي تصلنا عن طريق الوسائل الإعلامية ، أن هناك من الجماعات الإسلامية من يتبنى منهج العنف ، أو قَصْدْ العنف بالسلاح والتفجير فهل صحيح أن هذه الأفعال تتبناها الجماعات الإسلامية ؟ وإذا كان صحيحاً فهل يصح أن تطلق على هذه الجماعة جماعة إسلامية ؟(2/320)
هو الجماعة الإسلامية بحسب الاسم ، هم يسمون أنفسهم الجماعة الإسلامية ، مثل ما في مصر أو غيرها ، أو الجبهة مثلاً في الجزائر أو نحو ذلك ، هذه أسماء لم يطلقها الناس عليهم وإنما هم سمَّوا أنفسهم بتلك الأسماء ، و يُنْظَر في تلك الأفعال بحسب الأحكام الشرعية ، هم عندهم مخالفات في فهم مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، البحث معهم في الأمر والنهي وأصوله الشرعية وكلام أهل السنة فيه والمصلحة والمفسدة والقواعد المرعية في ذلك والرجوع إلى الراسخين في العلم فيه .
يقول كيف الجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام (أفضل كلمة حق قيلت عند سلطان جائر أو كما قال) وبين دخول بعض الصحابة على حكام بني أمية وعدم إنكارهم عليهم ؟(2/321)
ولاة بني أمية - أحسن من أن يقال حكام ، نقول الولاة - ، ولاة بني أمية فيهم معاوية رضي الله عنه وأرضاه وهو ملكٌ خليفة وخير ملوك الأرض ، والصحابة رضوان الله عليهم خالطوا ، والولاة في الزمن الماضي وفي كل زمن لا شك أنهم عندهم حماية بولايتهم ، معاوية رضي الله عنه كان شديداً في أمر الولاية ، كان لا يتكلم الصحابة في حضرته لأنه كان له حق في ذلك ، وكان لا يرضى أن يتكلم أحد إلا بإذنه ، ومن الحوادث التي كانت في ذلك ذكرها المؤرخون وهي ثابتة أن أحد الصحابة كان في الكوفية ، أظنه حجر بن عدي ، أو عدي بن حجر (كيف وحجرٌ على الطريق) أظنه حجر بن عدي ، تكلم هو ومعه أصحابه في أمير الكوفة وأنكروا عليه مرة وهو يتكلم ونالوا منه فأمر معاوية أن يُبعثوا إليه ، وكان حجر هذا أحد الصحابة وأحد الفقهاء أو العباد منهم فأتى إلى الشام وهو في سبعة عشر نفراً من أصحابه ، فلما كانوا على مقربة من دمشق أرسل لهم معاوية جنداً من جنده فقتلوهم جميعاً ، ولما كانت بيعة يزيد بن معاوية قال للصحابة ، قال لأنس وابن عمر فيما أحسب أو لغيرهما ، قال إن أردتما الكلام فتقدما فإذا تكلمت فلا يتكلمن أحد بعدي ، فقالا ليس عندنا كلام ، فقام على المنبر معاوية رضي الله عنه وقال أيها الناس إني عقدت البيعة وولاية العهد لابني يزيد بن معاوية فقوموا فبايعوه ، وهؤلاء صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حاضرون ، يعني ينبئ بذلك على أنهم مقرون بذلك ، فقام الناس فبايعوا فما استطاع الصحابة أن يتكلموا في ذلك وإلا فيزيد ليس بذي حق في ولاية العهد ، ونحو ذلك لما جاء الأحنف بن قيس إلى معاوية رضي الله عنه وكان في مجلسه وقد غصَّ المجلس بالناس ، ومعروف أن الأحنف رئيس قبيلة وكان حكيماً من حكماء العرب ، فصاح معاوية فقال يا أحنف ما تقول في بيعتنا ليزيد ، الأحنف أُحْرِجْ فأسر لمعاوية بينه وبينه فقال يا أمير المؤمنين ، فيما بينه وبينه ، الناس لا(2/322)
يسمعون ، نخاف الله إن كذبنا ونخافك إن صدقنا ، نخاف الله إن كذبنا وقلنا إنه أهل ونخافك إن صدقنا فقلنا ليس بأهل ، هذا بينه وبينه ، معاوية رضي الله عنه استغل هذا فصاح في الناس قائلاً جزاك الله خيراً عن الطاعة يا أحنف ، أوهم أنه يقول إنها نعم البيعة ، ومضت المسألة .
فمسائل الولاة وما يتعلق بها وأمراء المؤمنين في الزمن الأول إلى الزمن الحاضر ينبغي لطلبة العلم أن يعتنوا بها وأن يقرؤوا التاريخ حتى يكون عندهم فقه كيف عامل العلماء الولاة في كل زمن و ما الذي يحصل من الولاة ونحو ذلك حتى تحصل المصالح وتُدْرَءْ المفاسد ، لأن تحصيل المصالح ودرء المفاسد أمر عظيم وقاعدة من قواعد الشريعة ولها ولا بد من رعاية و النظر في سبر الأولين ، فالصحابة رضوان الله عليهم خالطوا ولاة بني أمية ولم ينكروا عليهم إما لظنهم بأن الإنكار لا ينفع أو لخوفهم أو لضعفهم أو نحو ذلك مما يُوَجَّه به فعله ، قد تكون هناك مسائل إجتهادية بعضهم يراها منكراً وهي مسألة إجتهادية ، والمسائل الإجتهادية لولي الأمر أن يجتهد فيها أو الوالي أن يجتهد فيها ولا تكون من باب الإنكار .
أرجو التفريق بين المصالح والمفاسد والانتفاع وعدم الانتفاع ؟
المصلحة معروفة والمفسدة معروفة .
المصالح جمع مصلحة ، والمصلحة هي ما أُمِرَ به في الشرع وكان فيه أداء حق الله أو أداء حق العباد.
والمصالح راجعة إلى تحصيل حق الله جل وعلا أو تحصيل حق العباد أو هما معاً .
والمفاسد ضدها ، ما كان فيه تعطيل لحق الله جل وعلا أو تعطيل لحق العباد أو جرأة على حق الله أو على حق العباد .
فهذا وهذا متقابلان ، المصلحة تقابلها المفسدة .
الانتفاع وعدم الانتفاع يعني يغلب على ظنه أن ينتفع المُنْكَر عليه بالانكار ، يعني يستجيب ، ينتفع ، قلبه يصلح ، ينتهي عن المنكر ونحو ذلك .(2/323)
عدم الانتفاع يغلب على ظنه أنه سمع هذا الكلام مراراً ، يعرف أن هذه محرمة ، يعرف أنه لا يجوز يفعل هذا الفعل ولن يتأثر ، قلت له أو ما قلت واحد عنده لكثرة ما ورد عليه ، مثل ما يحصل الآن مثل الإنكار على حالق اللحية يعرفون حلق اللحية محرم أو على تارك صلاة الجماعة يعرفون أن ترك صلاة الجماعة محرم وبعضهم يكون مُسْتَمْرِئْ لذلك ، أو مثل كشف بعض النساء خاصةً من ليست من أهل هذه البلاد ، تكشف وجهها ونحو ذلك ، عندها الأمر سيان ، فمثل هذه هي التي يقال فيها ينتفع بمعنى يستفيد فيترك يُحَصِّلْ الخير ويترك الشر ، أو لا ينتفع بمعنى أن واحد عنده هذا أو هذا.
يقول ما الضابط في الخلاف الضعيف والقوي وقد يكون الخلاف عند شخص قوي وعند آخر ضعيفاً ؟
إذا كان الخلاف عندك قوياً فلا تُنْكِر وإذا كان الخلاف عندك ضعيفاً فأنْكِرْ ، فبحسب ظن المكلف ، بحسب ما بينه وبين ربه جل وعلا ، يعني هذا بشرط أن يكون متأهلاً للنظر في المسائل الخلافية .
نخشى الإطالة عليكم ، نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ.
وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ :"الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ".
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ.(2/324)
وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا"، وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِِهَا.
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذا الفصل الذي ابتدأه شيخ الإسلام بالكلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما تلا ذلك من المسائل شمل قسمين من الأقسام التي يُدْخِلُها جَمْعٌ من أهل السنة في العقيدة .
وهذان القسمان هنا هما :
- منهج التعامل
- والثاني الأخلاق
أو ما يسمى المنهج بعامة ، حيث إنهم خالفوا طُرُقَ أهل الضلال في سلوكهم في أنفسهم وفي سلوكهم مع غيرهم فاتبعوا في ذلك نصوص الكتاب السنة واقتفوا أثر الرعيل الأول .(2/325)
وهذا هو الذي سمَّاهُ بعض المعاصرين المواجهة ، فكلمة التعامل أو طريقة المواجهة أو طريقة الدعوة أو الأخلاق وما شابه هذه الألفاظ وما دلَّ عليها من المعاني هذه كلها داخلة في عقيدة أهل السنة.
فالعقيدة كما مر معك من أول الكتاب إلى هذا الموطن اشتملت على مباحث متنوعة :
منها مباحث أصلية في شرح أركان الإيمان الستة .
ومنا متممات لذلك كما مر معنا .
ومنها الكلام على منهج التلقي والاحتجاج بما يكون وهو الذي مرَّ معنا في الفصل السابق حيث تكلم عن النصوص والتسليم لها والإجماع وحجية ذلك ، وما ينضبط به الأمر وما يتصل بهذه المسائل .
في هذا الفصل يتكلم الإمام رحمه الله تعالى عن أصول مسائل التعامل وهي من عقيدة أهل السنة والجماعة ، فعقيدة أهل السنة والجماعة أَتْباعْ السلف الصالح فيها طريقتهم في التعامل مع الخلق ، مع المسلمين ومع منافقين ومع الكافرين ، وكذلك في أصناف المسلمين تعاملهم مع ولاتهم ، تعاملهم مع علمائهم ، تعاملهم مع خاصة المسلمين و أتقيائهم ، وتعاملهم مع بقية أهل الإسلام من المطيعين ، وتعاملهم مع عصاة أهل الإسلام .
فهذه الأنواع من أصناف الناس كلها لأهل السنة والجماعة ضوابط في مواجهتهم وأمرهم ونهيهم وما ينضبط به الأمر ، لأن هذه المسائل دخل فيها أهل الابتداع وأهل الضلال من الخوارج والمعتزلة والرافضة ومن شابههم من الفرق القديمة والحديثة ، دخلوا فيها بأهوائهم ، فكان من مميزات أهل السنة والجماعة أن لهم منهجاً واضحاً في التعامل مع الخَلْقْ ، التعامل مع الناس ، وهذا من صلب العقيدة ، ودليل ذلك ظاهر في كتب أهل السنة القديمة والحديثة والمتوسطة ككتاب شيخ الإسلام العقيدة الواسطية وغيره .(2/326)
فإذن هذه المسائل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحج مع الأمراء والجهاد مع الأمراء والجُمَعْ والجماعات مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً والمحافظة على الجُمَعْ والجماعات والدَّيْنُونَةْ للأمة بالنصيحة وما شابه ذلك هذه كلها منهج لأهل السنة والجماعة تميزوا به عن غيرهم .
ومسائل الأمر والنهي سبق تفصيلها فيما مضى .
وذكر بعدها ما يتعلق بالأمراء وولاة الأمر
قال (وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا)
هذه هي السُنَّةُ الماضية فإنَّ فالنبي عليه الصلاة والسلام روي عنه كما في السنن أنه قال (الحج والجهاد ماضيان مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً) وفي إسناده بحث ، وأجمع أهل السنة على هذا الأصل لمَّا قَرَّ القرار وأنه لا يجوز الخروج على الولاة ولا يجوز التخلف عن حضور الجماعات معهم ولو أخَّرُوا الصلاة قال فيها عليه الصلاة والسلام (صل الصلاة لميقاتها وصلها معهم فإنها لك نافلة) وكذلك الجهاد معهم لأن بر الأمير أو فجور الأمير هذا يرجع إلى نفسه .
وقد قال ابن المبارك رحمه الله تعالى :
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبلٌ
في الأبيات المشهورة عنه .
وقال الحسن رضي الله عنه ورحمه ، الحسن البصري ، قال (إن ما يصلحون أكثر مما يفسدون)
وهذا الأصل عام عند أهل السنة والجماعة في كل أمير ووالٍ ما دام أنه لم يخرج عن الإسلام ، فإذا خرج عن الإسلام وكفر بالله جل وعلا كان البحث بحثاً آخر ، لكن ما دام أنَّ اسم الإسلام باقٍ عليه ولو كان معه ليس إلا القدر الذي يصح معه بقاؤه على الإسلام فإن الحج ماضٍ معه والجهاد ماض معه والجمعة ماضية معه والجماعات كذلك والأعياد ، وذلك سواءٌ أكان صالحاً أم طالحاً ، فاسقاً معلناً بالفسق أم مستتراً بالفسق ، الأمر عندهم واحد في ذلك .(2/327)
والنصوص الدالة على هذا الأصل كثيرة جداً في أن طاعة ولاة الأمور واجبة والخروج عليهم محرم والصلاة معهم وإقامة الحج والجهاد هذا من طريق أهل السنة فقد روى البخاري في صحيحه أن ابن عمر كان مُفْتِياً في الحج من جهة أمير المؤمنين من ولاة بني أمية ، وكان الذي في إمرة الحج الحجاج بن يوسف الظالم المبين ، وكان ابن عمر يدخل عليه ويستشيره ويكون معه وإياه بحث في أمور الحج والفتوى ، روى البخاري في صحيحه (أن ابن عمر في الحج كان يصلي خلف الحجاج وكان يقول للحجاج اقعد ، قال الحجاج في هذه الساعة ، قال نعم سنة أبي القاسم صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
فالصلاة خلف الضال وخلف المفسد وخلف المُقَتِّل لأولياء الله كالحجاج ونحو ذلك هذا من سمة أهل السنة فلا يتخلفون عن الاجتماع العام في الصلاة وما شابهها لأجل ظلم الأمير أو لأجل فسقه في نفسه أو في الأمة أو ظلمه في نفسه أو ظلمه الأمة أو تقتيله للصالحين أو للناس وما شابه ذلك ، فإن بقاء الهيبة وبقاء اتباع الأمر فيه من المصالح عند أهل السنة والجماعة ما هو راجح على مصلحة ترك الظالم والبراءة منه والبعد عنه .
لا يُتَابَع في ظلمه ولكن يُتَعَاوَن معه على ما أمر الله جل وعلا من البر والتقوى { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } .
والسلف رضوان الله عليهم كان لهم في مسألة الخروج على الإمام في أول الأمر كان لبعضهم اجتهاد خالف فيه النصوص .
وهذا الاجتهاد منه لا يُتَّبَع فيه بل ينسب إليه وليس طريقاً لأهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ، بل يقال هكذا فَعَلَ الصحابي مثلاً فلان أو هكذا فعل التابعي فلان أو هكذا فعل تبع التابعي فلان فيما خرجوا به على الوالي لتأويلٍ نظروا فيه .
والذين يخرجون على الولاة بالسيف قسمان :(2/328)
القسم الأول البغاة : وهم الذين يخرجون على الإمام بتأويل سائغ ، لهم تأويل إمَّا في المال أو لهم تأويل في الدين ونحو ذلك فهؤلاء يُسَمَون البغاة كما قال الفقهاء في تعريف البغاة في قتال أهل البغي قالوا (وهم الذين خرجوا على الإمام بتأويل سائغ) ، فإن كانوا خرجوا بتأويل غير سائغ فهم المحاربون الذين جاء فيهم حد الحرابة .
والصنف الثاني من الذين يخرجون على الولاة الخوارج الذين يتبعون عقيدة الخوارج الأُول ، فليس كل من خرج على الإمام الحق ، على ولي الأمر المسلم خارجياً بل قد يكون باغياً له تأويله ويُقاتَل حتى يفيء إلى أمر الله جل وعلا ، وقد يكون خارجياً ، والخارجي له أحكام الخوارج المعروفة وهم الذين يخرجون على الإمام لأجل معتقداتهم في ذلك .
والنصوص الدالة على وجوب السمع والطاعة كثيرةٌ معروفة مشهورة كقول الله جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ، وكما ثبت في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام قال (من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني) ، وثبت عنه أيضاً عليه الصلاة والسلام أنه قال (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر) وهذا فيه عموم ، قال أهل السنة إن هذا يشمل الأقوال والأعمال والاعتقادات .(2/329)
من رأى من أميره شيئاً يكرهه من الأقوال المخالفة للحق أو الأعمال المخالفة للحق أو الاعتقادات المخالفة للحق فسلك سبيل المبتدعة ، فإنه يجب الصبر ولا يجوز نزع اليد من الطاعة كما فعل الإمام أحمد مع ولاة بني العباس مع أنهم كانوا في شر مقالة أخذوا الناس بها ودعوا الناس إليها ، وقتلوا وحبسوا فيها من حبسوا فكانت طريقة الإمام أحمد أنه لم ينزع يداً من طاعة بل نهى ابن نصر الخزاعي في طريقته ورغبته في الخروج على الوالي حتى قُتِلَ الخزاعي في ذلك ، ولما قيل للامام أحمد في ذلك ما هو معلوم ، قيل له (ألا ترى ما الناس فيه ألا ترى هذه الفتنة - يعني فتنة الإبتلاء بخلق القرآن ، وفتنة الناس فيه - ألا ترى هذه الفتنة ، قال هذه فتنة خاصة وإذا وقع السيف وسالت الدماء صارت فتنة عامة ، إياكم والدماء ، إياكم والدماء ، إياكم والدماء) وجعل ينفض يديه كالكاره لذلك أشد الكراهية .
وقوله عليه الصلاة والسلام هنا (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر) كما هو معلوم في الأصول أن كلمة شيئاً نكرة جاءت في سياق الشرط فتعم الأشياء التي تُكْرَه ، ولهذا جاء في حديث آخر في الصحيح (أطع الأمير وإن جلد ظهرك وأخذ مالك) وذلك لأن ضرره يكون محدوداً أو الفتنة التي تحصل به أو الظلم الذي يحصل منه يكون محدوداً ، أما إذا عمّ َونُزِعَت اليد من الطاعة فإنه يكون ذلك مُسبباً لأنواع من الفساد .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلام له ، قال (ولم تخرج طائفة على ولاة الأمر إلا وكان ما أفسدوه بالخروج عليه أعظم مما ظنوه من الصلاح) وهذا جَرَّبَهُ من جَرَّبَهُ في عصر التابعين ومن بعدهم فما نفع .
ولهذا ذكر بعضهم كالحافظ ابن حجر أن الخروج على الوالي كان فيه قولان عند السلف ، ثم استقر - هذا تعبير الحافظ ابن حجر - قال ، ثم استقر أمر أهل السنة والجماعة على أنه لا يجوز الخروج على الولاة وذكروا ذلك في عقائدهم .(2/330)
وهذا الذي قاله من أنه ثَمَّ قولان فيه للسلف ، هذا ليس بجيد بل السلف متتابعون على النهي عن الخروج ، لكن فعل بعضهم ما فعل من الخروج وهذا يُنْسَبُ إليه ولا يعد قولاً لأنه مخالف للنص ، فالنصوص كثيرة في ذلك ، كما أنه لا يجوز أن ننسِبَ إلى من أحدث قولاً في العقائد ولو كان من التابعين أن يقول هذا قول للسلف ، فكذلك في مسائل الإمامة لا يسوغ أن نقول هذا قول للسلف لأن من أحدث القول بالقدر كان من التابعين ، ومن أحدث القول بالإرجاء كان من التابعين ، من جهة لُقِيِه للصحابة ، لكن رُدَّ ذلك ، رُدَّتْ تلك الأقوال عليه ولم يُسِغْ أحد أن يقول قائل (كان ثم قولان للسلف في مسألة كذا) فكذلك مسائل الإمامة أمر السلف فيها واحد ومن تابعهم ، وإنما حصل الاشتباه من جهة وقوع بعض الأفعال من التابعين أو تبع التابعين أو غيرهم في ذلك ، والنصوص مجتمعة عليهم لا حظ لهم منها .
(وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ) الجهاد مضى مع كل الولاة .
أهل الحديث والسنة لم يتخلفوا عن الجهاد في أي فترة من فترات تاريخ الإسلام ما دام أن الوالي الذي أمر بالجهاد مسلم .
انتهى الشريط الثامن و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط التاسع والعشرون
أهل الحديث والسنة لم يتخلفوا عن الجهاد في أي فترة من فترات تاريخ الإسلام ما دام أن الوالي الذي أمر بالجهاد مسلم ، أو حثَّ عليه ، أو كان الجهاد في زمنه ، فهم لا يتخلفون عن الجهاد أو يقولون لا جهاد اليوم لأجل أن الوالي فيه كذا أو أن ولي الأمر فيه كذا من الظلم والطغيان ونحو ذلك كما كان من بعض ولاة بني أمية وبعض ولاة بني العباس فمن بعدهم .
كذلك الجُمَعْ والجماعات ماضين مع الأئمة .(2/331)
وقد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيكون أمراء كما جاء في صحيح مسلم وغيره قال (سيكون أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها ، قالوا فما تأمرنا ؟ قال صلوا الصلاة لوقتها ثم صلوها معهم فإنها لكم نافلة (وقد ذكر ابن عبدالبر في التمهيد أن بعض ولاة بني أمية كانوا يحبسون الناس في صلاة الجمعة فلا يخرجون إلى صلاة الجمعة إلا قريب العصر وكان الصحابة في الناس وكان التابعون وسادات التابعين وعلماء التابعين في الناس وكان الشُرَطُ يقفون على الرؤوس أن لا يصلي أحد قبل إتيان الأمير فكانوا يَلْقَونَ من ذلك عنةً وشدة ، قال ابن عبدالبر فكان بعضهم يصلي إيماءً خشيةً من ذهاب الوقت) .
فكانت المسائل هذه في الزمن الأول شديدة ، في مسائل الصلاة و العبادة وكان الأمر ما يراه الأمراء في ذلك الزمان ومع ذلك كانت طريقة أهل السنة واحدة لأن النصوص دلَّت على شيء عام ونهت عن شيء محدد فلزموا ذلك ولم يختلفوا فيه مع تغير الأحوال في الأزمنة المختلفة .
قال (مَعَ الأُمَرَاءِ) والأمير يشمل ولي الأمر ويشمل الأمير الذي جعله ولي الأمر أميراً سواءً كانت إمارة حَضَرْ أو إمارة سفر .
فالأمير هو من جُعِل يأمر على من عنده ، فهذا إذا كان أميراً بالولاية العامة أو كان أميراً بالولاية الخاصة فإنه ينعقد له الأمر براً كان أم فاجراً .
وقد صلى ابن مسعود رضي الله عنه وغير ابن مسعود مع بعض ولاة الكوفة بعثمان وكان منهم من يشرب الخمر فكان يصلي بهم الفجر أربعاً ونحو ذلك كما هو معلوم .
المقصود من ذلك أنَّ بِرَّ الأمير أو فجوره هذه ليس لها نظر من جهة الطاعة ، طاعة الأمير ، فيطاع سواءً كان صالحاً أو فاسداً ، وقد ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوامٍ لا خلاق لهم) .
والإمارة أو الولاية أو الإمامة هذه تنعقد عند أهل السنة والجماعة بواحد من أمور :(2/332)
الأول ببيعة أهل الحل والعقد له واختيارهم له - اختيارهم له ثم بيعتهم له - وهي التي يسميها أهل العلم ولاية الإختيار ، وهذه هي أفضل أنواع الولاية لو حصلت لا يُعْدَلُ عنها إلى غيرها ، ولاية الإختيار ، أن لا يكون على الأمة إلا من يُختَارْ لها .
وولاية الإختيار هذه منها ولاية أبي بكر رضي الله عنه ، ولاية عمر ، ولاية عثمان ، الخلفاء الراشدين وكذلك ولاية معاوية بن أبي سفيان لما تنازل له الحسن بالخلافة فإنها كانت ولاية إختيار ، ثم بعد ذلك لم يَصِرْ ولاية إختيار إلا في أزمنة محدودة وفي أمكنة متفرقة ليست عامة ولا ظاهرة .
النوع الثاني ولاية الإجبار ، وولاية الإجبار تُسمَّى أيضاً ولاية التغلب ، وهي أن يغلب أحدٌ على المسلمين بسيفه وسنانه ويدعو الناس إلى بيعته فإنه هنا تلزم بيعته لأنه غَلَبَ .
وهذه تسمى ولاية تَغَلُبْ كما في شرح الطحاوية وفي غيرها وفي كتب الفقه .
هذا النوع ولاية التغلب تلزم به الطاعة وجميع حقوق الإمامة ، لكن هذا ليس هو الأصل وليس مُختاراً بل هذا لدرء الفتنة والالتزام بالنصوص فإن النصوص أوجبت طاعة الأمير وعدم الخروج عليه ، وهذا غلب على الناس ودعا الناس إلى طاعته فلا يجوز أن يُتخلَّفَ عن مبايعته .
مما حصل في أنواع الوِلاية في زمن الخلفاء أن أبابكر رضي الله عنه وَلِيَ بنص من رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وبالاجتماع عليه ، وعمر وَلِيَ بنص من أبي بكر رضي الله عنه ثم بالاجتماع عليه وعثمان رضي الله عنه وَلِيَ بجعل عمر الولاية في ستة نفر ، اختاروا عثماناً من بينهم ثم بايعه الناس وعليٌ رضي الله عنه لم يجتمع الناس عليه وإنما بايعه من كان في المدينة وبايعه غيرهم .(2/333)
هذا فيه أن الولاية الشرعية تحصل بالتنصيص عليه من الوالي قبله ، وهو الذي أخذه معاوية رضي الله عنه حين عقد بيعة ليزيد بن معاوية في حياته ولايةً للعهد ، ولما عقد البيعة ليزيد ولايةً للعهد لَزِمَتْ ذلك في حياته واستمرت بعده .
فولاية التنصيص هذه إن كان بعدها اختيار من أهل الحل والعقد صارت ولاية إختيار ، وإن كانت من جهة الغلبة أنه لا يستطيع أحد أن يخالف وإلا لفُعِلَ به وفعل صارت ولاية تغلب .
ولهذا يعدون ولاية يزيد بن معاوية من ولاية التغلب لا من ولاية الاختيار بخلاف معاوية رضي الله عنه فإنه خير ملوك المسلمين وولايته كانت بالاختيار لأن الحسن رضي الله عنه تنازل له عن الخلافة وعن إمرة المؤمنين فاجتمع الناس على معاوية سنة واحد وأربعين وسمي ذلك العام عام الاجتماع أو عام الجماعة .
المقصود من ذلك أن حصول الولاية الشرعية يكون بأحد هذه الأشياء .
ولاية الاختيار وولاية الإجبار ، أو ولاية التغلب فيها أفضل وفيها جائز :
أما الأفضل فأن تجتمع في الوالي ، أن تجتمع في ولي الأمر ، في الإمام الشروط الشرعية التي جاءت في الأحاديث ، من مثل أن يكون قُرشياً عالماً وأن يكون سليماً من خوارم المروءة أو نواقض العدالة أو سالماً من الفسق يعني صالحاً ونحو ذلك من الشروط المعتبرة العامة التي تكلم عليها الفقهاء .
هذه في ولاية الإختيار .
يشترط في الوالي أن يكون قُرشياً ، في أي ولاية ؟
في ولاية الاختيار .
أما ولاية التغلب فإنما هي لدرء الفتنة فيُقَرُ الوالي ولو كان عبداً حبشياً كما جاء في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (اسمع وأطع ولو كان عبداً حبشياً مُجَدَّعْ الأطراف كأن رأسه زُبيبَةْ)
وهذا في ولاية التغلب .(2/334)
والرواية الثانية - هذه وإن كان هذه عامة - والرواية الثانية قال (وإن تَأَمَرَ - فيها - وإن تأمر عليكم عبد حبشي) وفي رواية (وإن أُمِرَ عليكم حبشي) وهذه كلها فيها بيان أن فقد الشروط المعتبرة : الأئمة القرشية ونحوها هذه إنما ، يعني إجتماع هذه الشروط يكون في ولاية الإختيار أما في ولاية التغلب فلا يُنظَر إلى هذه الشروط لأن المسألة مسألة غلبة بالسيف .
فينبغي تحرير هذا المقام وظهور الفرق بين ولاية الإختيار وولاية التغلب وكلٌ منهما ولايةٌ شرعية عند أهل السنة والجماعة يجب معها حقوق الأمير كاملةً .
النصوص أوجبت طاعة ولاة الأمر كما جاء في قول الله جل وعلا { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } قال ابن القيم رحمه الله وغيره طاعة ولاة الأمر تبع لطاعة الله ورسوله ليست استقلالية لأنهم ليست جهات شرعية وإنما الشرع يُؤخذ من الله جل وعلا ومن رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وأما ولاة الأمور فطاعتهم تبع لطاعة الله وطاعة رسوله فليس لهم الحق في أن يُحِلُّوا حلالاً ولا أن يُحرِّموا حرماً ولا أن يأمروا بما لم يبحه الله جلَّ وعلا ، فإن أمروا بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
يعني أن طاعة ولاة الأمور طاعةٌ واجبة في غير المعصية .
هذا الذي دلت عليه النصوص أن الأمير يطاع في غير المعصية ، والنصوص ما فرَّقت بين ولاة العدل وولاة الجور فإنها عامة في كل أمير وَلِي .
وهكذا عقائد أهل السنة يطلقون ويقولون براً كان أم فاجراً ويرون حقوقه كاملة سواءً كان براً أو فاجراً وذلك يعني سواءً كان عادلاً أم ظالماً ، فالنصوص أوجبت الطاعة وحرَّمت الخروج وحرَّمت طاعة الأمير في المعصية لأن حق الله جل وعلا أوجب فإذا أمر بمعصية فلا يطاع .
نفهم من ذلك أن أهل السنة والجماعة قالوا إن طاعة الأمراء تكون في أربعة أشياء من الحكم التكليفي :(2/335)
تكون في الواجبات ، وفي المستحبات ، وفي المباحات ، وفي المكروهات .
وهذه الأربعة جاريةٌ أيضاً في حق ولاية الوالد على ابنه فإنه يُطاع في الواجب ويُطاع في المستحب ويُطاع في المباح وُيطاع في المكروه ، إذا قال لك افعل كذا وهو مكروه فإن طاعته واجبة وفعل المكروه لا إثم فيه فيُرجَّح جانب الواجب لأنه أرجح من جهة الحكم .
يبقى الحكم التكليفي الخامس وهو ما نُهِيَ عنه نهي تحريم فإنه لا يُطاع فيه إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
بعض أهل العلم فرَّقَ وقال الولاة قسمان :
ولاة عدل وولاة جور .
- ولاة العدل يطاعون في غير المعصية .
- وأما ولاة الجور فلا يُطاعون إلا فيما يُعلم أنه طاعة ، أما ما لا يُعلم أنه طاعة فإنهم لا يطاعون فيه ، لأنه لا يُؤمَن أن يأمُر العبد بمعصية ،فلا بد أن تعلم أن هذا طاعة حتى تطيع .
وهذا القول فيه مخالفة للنصوص ، وهو موجود في بعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
وشيخ الإسلام حين ذكر هذا الكلام أراد به مَنْعَهُ حين مُنِعَ من القول بعقائد السلف الصالح ، ومَنْعْ شيخ الإسلام رحمه الله إذ ذاك فيه معصية إذ لا أحد في وقته قام بنشر عقيدة السلف الصالح إلا هو ، فلو مُنِع هو - هذا بحسب كلام شيخ الإسلام - فلو مُنِع هو واستجاب للمنع مطلقاً فإنه يكون انطفاء لعقيدة السلف الصالح ، وقد رأى في وقته أنه لا أحد يقول بعقيدة السلف الصالح وينشرها بين الناس .
فلهذا ذكر شيخ الإسلام هذا التفريق وهو من اجتهاداته وأكثر أهل العلم على خلافه .(2/336)
وشيخ الإسلام معذور فيما قال لأنه رأى ما تشتد الحاجة إليه في وقته بل هو من الضروريات ، أعظم من حاجة الناس إلى الأكل والشرب والمسكن والملبس أن يُبَيَّن لهم عقيدة السلف الصالح وليس ثَمَ من يقوم بها في وقته بل منذ انتهاء القرن الرابع الهجري لا أحد يقوم بعقيدة السلف الصالح بظهور وتفصيل إلا ما كان من أفراد ليس لهم جُهدُ وجهاد ، لكن - يعني أفراد قليلين لهم تصنيفات وكذا لكن ليسوا بمرتبة شيخ الإسلام في الظهور والبيان - والنبي عليه الصلاة والسلام وعد هذه الأمة بأنه لا يزال طائفة منها ظاهرة على الحق .
هذا التفريق بين الطاعة ، طاعةٌ للإمام العدل في غير المعصية ، طاعة للإمام الجور والظلم فيما يُعْلًم أنه طاعة ، هذا التفريق غير صحيح لأنه مخالف للنصوص ، إلا في حالة واحدة ، بل نقول إلا في حالة معينة وهي انه ليس ثَمَّ من يقوم بتبيين الناس الواجب عليهم من جهة الإعتقاد ومن جهة العبادة .
إذا كان ليس ثَمَّ من يقوم بتبيين ما يصحح للناس عقيدتها وعبادتها فإنه يقال إنه لا يطاع في ذلك لأن طاعته في ترك بيان العقيدة المتعيَّنَة على هذا الفرد أو بيان العبادات المتعينة على هذا الفرد هذه معصية ، رجع الأمر إلى الحال الأولى ، فصارت المسألة أن ما دلت عليه النصوص أن الولاة يطاعون في غير المعصية في الأحكام الأربعة التكليفية وإذا أمروا بمعصية فلا يطاعون .
قال في وصف أهل السنة والجماعة (وَيُحَافِظُونَ عَلَى الجُمَعِ الْجَمَاعَاتِ)
وهذا الوصف لهم منهج ، من منهجهم وطريقتهم وسلوكهم أنهم يحافظون على الجُمَعِ والجماعات مخالفين في ذلك طوائف الضلال .
" فأول الطوائف التي خالفوها بهذا الوصف طائفة المنافقين ، فإن المنافقين لا يحضرون الجماعات ولا يحضرون الجُمَع إلا ما اشتهوا .
" والطائفة الثانية التي خالفوها الروافض الذين يقولون لا جمعة ولا جماعة إلا مع الإمام المعصوم.(2/337)
" والطائفة الثالثة التي خالفوها الخوارج لأن الخوارج لا يصلون إلا خلف من كان على مثل عقيدتهم.
" والطائفة الرابعة الذين لا يصلُّون إلا خلف من يعلمون عقيدته في الباطن .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في موضع (ومن قال لا أصلي الجماعة ولا الجمعة ولا العيد إلا خلف من أعلم عقيدته في الباطن فإنه مبتدع مخالف لقول الأئمة الأربعة ولسلف الأمة) .
وهذا موجود في الزمن الأول وموجود في هذا الزمن ممن يُسَمَّون جماعة الوقف الذين يجعلون الناس لا تُعْلَمُ عقائدهم - يعني مستورون - إلا من ظهر أنه موحد أو ظهر أنه مشرك ، ومن لم يظهر توحيده أو شركه فهذا موقوف أمره فلا يُصلَّى خلفه حتى تُعْلَمَ عقيدته في الباطن .
هذا قولٌ مُبتَدَع مخالف لطريقة أهل السنة فإن أهل السنة والجماعة يجعلون الأصل في المسلم الإسلام ، ما دام أنه لم يظهر منه مُكفِّر ولم يظهر منه مخرج من الملة فإن الأصل فيه الإسلام ، فلا نشترط في الذي يصلي أن تُعلَمَ عقيدته الباطنة ، ونقول هذا ما ندري عنه فلا نصلي خلفه حتى نعلم حاله في الباطن واعتقاده في الباطن .
هذا باطل لأنه نصلي ونحافظ على الجُمَعِ والجماعات ، وقد صلى أئمة السلف خلف الجهمية في الجُمَع ، وصلوا خلف بعض المعتزلة وصلوا الجمع والجماعة خلف بعض غلاة المرجئة ونحو ذلك كما ذكره الأئمة عنهم ، منهم ابن تيميه وغيره ، ذَكَرَ ذلك عن السلف .
وهذا القدر متفق عليه بين السلف لأنهم يصلون خلف الإمام الذي يصلي بالناس الجمع والجماعة ، وإنما تنازع السلف في مسألة هل تعاد الصلاة أم لا ؟
هذه مسألة أخرى .
يعني الصلاة خلفهم تصلي ، خلف من يصلي بالناس ما تفارق الجماعة والجمعة .
لكن هل تعاد الصلاة خلف من ظهر منه عقيدة مكفرة كالجهمية والمعتزلة أم لا تعيد الصلاة ؟
على قولين عند الإمام أحمد وعند غيره معروفة في الفقه .(2/338)
لكن من جهة الأفضلية إذا كان ثَمَّ من سيتقدم بدون ولاية للصلاة ، ثَمَّ من يتقدم وهو لا تُعلم عقيدته وهناك من يُعلم أنه صحيح العقيدة متابع لطريق السلف موحد فإنه يُقدَّم على من تُجهل عقيدته ، لأنه لا يجوز الصلاة خلف مبتدع إذا كان المجال مجال اختيار ، أما إذا كان في المسألة إمامة بولاية - يعني الإمام اللي امعينه - هو الإمام فإنك تصلي وراءه محافظة على الجمع والجماعة والعيد
.......
هذه مسألة إجتهاد ، عُرِض علينا أسئلة في هذا من مثل بعض مناطق أفريقيا ونحو ذلك ، يكون الكثرة الكاثرة لا يكفرون بالطاغوت ، فهذا ما العمل فيه ؟
هل يُحافظ على الصلاة أم تُترك الصلاة معهم ؟
الظاهر من الحال أنهم إن تمكنوا من مسجدٍ يؤمون فيه بعضاً (1)
لكن في منطقة أكثرهم مثل ما نقول مشركون والغالب فيهم أنهم لم يحققوا ولم يكفروا بالطاغوت ثُمَ يعني يصلي وله صلاته ولذاك صلاته ، وارتباط صلاة الإمام بالمأموم فيها خلاف كما هو معروف والصواب أن المأموم له صلاته والإمام له صلاته ، وقد سُئل في ذلك سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز فقال اجتهدوا في الأمر .. تجدون يعني مكان تصلون فيه إماماً مسجد لكم فإذا ما وجدتم صلُّوا خلفهم وصلاتكم لله مقبولة إن شاء الله .
......
هذه مسائل عملية يختلف فيها الوضع لأنه بعض الأحيان يكون هناك حرج شديد في هذه المسألة ، لأنه يعلمون أن هذا يحضر الموالد التي يذبح بها لغير الله ، يحضر الذبح لغير الله ولا يُغيِر أو إذا عُرِضَت مسائل التوحيد كان من المنفرين عنها ، هذا ما كفر بالطاغوت ، وهذا مشرك من جنس المشركين ، بل قد يكون إذا كان من العلماء أو من القراء أشد فتنة وأعظم شركاً من العامة ، فهذا هو الذي يحصل فيه إشكال .
على العموم إذا عَرَضْ من ذلك شيء فيحصل فيه استفتاء للمفتين فيُجابون بالصواب إن شاء الله .
قال (وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ) .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(2/339)
الجُمَلْ الأُوَلْ هذه في منهج التعامل مع ولاة الأمور ومع من يلي الإمامة ، وأولها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع العصاة ، مع المبتدعة وغيرهم ، ذكرنا أمورها .
ننبه هنا على كلمة انتشرت في هذا الزمن وهي قول بعضهم (إننا نحتاج في هذا الزمن إلى عقيدة سلفية ومواجهة عصرية) ويقول (العقيدة على عقائد السلف والمواجهة تكون مواجهة تناسب العصر) وهذه الكلمة قالها بعض الإخوان المعاصرين وهي غلط على السلف الصالح وعلى عقيدة السلف الصالح لأن كلمة مواجهة عصرية هذه كلمة مجملة .
ماذا يراد بكون المواجهة عصرية ؟
إن كان المراد بالوسائل ، يعني مثلاً بالشريط وبالردود وبالدعوة وبالمكاتب التي تُفتح ونحو ذلك فهذا صحيح ، هذه وسائل قد يتوسع الناس فيها .
أما إذا كان المراد بعصرية المواجهة أن تُحدث أنواع من الإنكار ليست على عقيدة السلف أو أن يُواجَهْ الولاة بطرق جديدة ليست على منهج السلف فإن هذا مخالف لمنهج السلف .
والعقيدة منها المواجهة ، مثل هذه الألفاظ ، العقيدة منها المواجهة ، عقيدة أهل السنة والجماعة أحد أجزائها طريقة المواجهة ، طريقة التعامل مع العصاة مع المبتدعة مع الولاة مع العلماء مع الناس مع أئمة الصلاة ونحو ذلك كما مرّّ عليك في هذا الموضع .
فالواجب إذاً أن يقال عقيدة سلفية ، لأن عقائد السلف شملت جميع ما نخالف به عقائد أهل الضلال وأهل البدع فلا حاجة إلى شيء عصري في المواجهة يخالف طرق الأولين .(2/340)
لأن قول القائل مواجهة عصرية هذه قد تدخل فيها صور جديدة في هذا الزمان مما يحدثه بعض المجتهدين وبعض الناس في هذا الأمر فيكونون غالطين على السلف غالطين على الأئمة ، بل الواجب أن تكون العقيدة التي منها مسائل الإيمان ، منها مسائل القدر منها مسائل الصفات الأركان كلها والكلام في الصحابة وأمهات المؤمنين والكلام في كرامات الأولياء والكلام في بقية المسائل العلمية ، وكذلك في مسائل منهج التلقي الكتاب والسنة والإجماع ونبذ العقل وكذلك في مسائل المواجهة والتعامل وكذلك في مسائل الأخلاق ، هذه خمسة أشياء عند أهل السنة والجماعة لا بد من رعايتها ، وإخراج المواجهة من عقيدة السلف الصالح هذا لم يسبق إليه أحد قبل هذا الزمان فيكون من جملة المحدثات .
قال (وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ للأُمَّةِ) .
هذا لقول النبي عليه الصلاة والسلام (الدين النصيحة) وقوله يدينون يعني يتعبدون .
الدينونة تعبد ، دان بكذا يعني تعبَّد بكذا ، فهم يتعبدون بالنصيحة للأمة ، يعني يتقربون إلى الله جل وعلا بنُصح الأمة كما جاء في حديث تميم الداري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) .
2 النصيحة لله بإخلاص الدين له .
2 والنصيحة للنبي عليه الصلاة والسلام بمتابعة سنته وترك البدع .
2 والنصيحة لكتاب الله بتلاوته وتحكيمه وتحليل حلاله وتحريم حرامه .
2 والنصيحة لأئمة المسلمين بطاعتهم في غير المعصية وفي ترك الخروج عليهم .
2 والنصيحة لعامة المسلمين في السعي في إرشادهم للحق والهدى ومحبة الخير لهم والسعي فيما يصلحهم والتعاون معهم على البر والتقوى .(2/341)
فكلمة النصيحة هذه كلمة جامعة تشمل أصول الدين وتشمل فروعه ، تشمل التوحيد وتشمل المعاملات ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (الدين النصيحة) فجعل الدين محصور في النصيحة لأن حقيقة النُصْحْ إخلاص القول والعمل لله جل وعلا .
و إخلاص القول والعمل لله جل وعلا يتضمن أن يخلص المتابعة ، ويخلص اتباع الكتاب ، ويكون دائماً بالطاعة ودائماً بمحبة الخير للأمة .
فالنصح مثل ما قالوا إن النصح هو خالص الشيء ، هذا شيء نصيح يعني خالص لم تشبه شائبة .
والنصيحة للأمة أن تحب لهم الخير بأن لا يشوب تلك المحبة شائبة .
وقد قال هنا (وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ؛ يَشُدُّ بَعْضَهُ بَعْضًا"، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) .
المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً يعني المؤمن كامل الإيمان للمؤمن مطلقاً كالبنيان يشد بعضه بعضاً .
والمؤمن الأولى المراد بها كامل الإيمان .
والمؤمن الثانية المراد بها من معه مطلق الاسم لا الاسم المطلق .
فالأولى المراد بها الإيمان المطلق ، والثانية المراد بها مطلق الإيمان .
المؤمن كامل الإيمان للمؤمن من معه أصل الإيمان كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، ولذلك كَمَلَتْ الإيمان يدينون بالنصيحة للأمة ويسعون في ذلك ويرشدونها ويصبرون على ما أصابها ولو سبوهم وآذوهم ولمزوهم بما يلمزون به فإنهم يحبونهم وينصحون لهم ، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره (وددت لو أن الخلق أطاعوا الله وقُرِّضَ جسمي بالمقاريض) يعني بالمقصات الكبار هذه قُطِّع قُطِّع والناس أطاعوا الله لكان الأمر هيناً .
وهذا من عِظم محبته لهم ، وقد قال أيضاً فيما رُوِيَ عنه رحمه الله أنه كان يدعو في سجوده بقوله (يا رب - هذا الإمام أحمد - إن جعلت أحداً من خلقك فداءً لعصاة أمة محمد عليه الصلاة والسلام فاجعلني ذلك الرجل)(2/342)
وهذا أعظم ما يكون من المحبة للخلق والنصح لهم ، فإنه يود أنهم جميعهم دخلوا الجنة ولو كان هو أصابه ما أصابه .
و هذا من شدة المحبة التي تغلب على النفس وهذه هي المرادة هنا .
فالمؤمن كامل الإيمان يحب الخير لإخوانه ويصبر على ما جاء منهم و لا يكون كما يقال أنانياً أو محتكراً الخير لنفسه بل يحب لأخيه ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث الآخر الصحيح (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) والمراد هنا لا يؤمن أحدكم الإيمان الكامل ، لأن محبة الخير لإخوانك المؤمنين هذه من كمالات الإيمان ، واجبة أو مستحبة بحسب الحال ، لكنها من كمالات الإيمان ليست شرطاً في صحته .
قال (وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ")
قال (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ) يعني الذين كَمُل إيمانهم في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد .
أما ناقصوا الإيمان فإنهم ليسوا بمثل هذه المثابة ، ناقص الإيمان يكون عنده بغض لأخيه المؤمن ، ويكون عنده كراهية له وسعي ربما فيما يضره وأحقاد عليه ونحو ذلك .
لكن كامل الإيمان هو مع إخوانه في تواده وتراحمه وتعاطفه كمثل الجسد الواحد لأنهم شيءٌ واحد.
قال (وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ)
إلى آخره ، هذه في الأخلاق وهو القسم الأخير من العقيدة .
الأخلاق عند أهل السنة والجماعة أو أخلاق أتباع السلف الصالح نرجئ الكلام عليها إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى .
......
ما تفسير الكفر البواح الذي قال عنه الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (إلا أن تروا كفراً بواحاً) ؟
الكفر البواح هو الظاهر الغالب ، البواح ما يجمع صفتين : الظهور والغلبة .
يعني غلب وظهر .(2/343)
إذا رُؤي كفراً ظاهراً غالباً فإنه هنا يصبح الخروج مأذوناً فيه .
......
هو إذا قلنا إذا قال العلماء على روايتين أو على قولين وش يكون ؟
القول الأول بالإعادة والقول الثاني بعدم الإعادة .
لقد قلت أنه لم يكن هناك علماء يبينون الحق ومذهب أهل السنة في زمن شيخ الإسلام وهذا في نظري غير صحيح ، وذلك لوجود كثير من مشايخ شيخ الإسلام وتلاميذه ؟
هو يعني الكلام اللي ذكره صواب ، بقوله يعني من قال لم يكن هناك علماء يبينون الحق ومذهب أهل السنة في زمن شيخ الإسلام ، يعني بهذا اللفظ الاعتراض عليه صحيح ، لكن لو تأمل كلمتي أنا قلت لم يكن هناك من يُظهرون ، تذكرون هذه ، كررتها كذا مرة ، في ظهورهم ، كان هناك من قبله علماء صنفوا لكن لم يكونوا في ظهورهم بالحق وإظهارهم له بمثابة شيخ الإسلام ابن تيمية ، أما أنه هناك علماء ، فهناك علماء .
شيخ الإسلام ابن تيمية نشأ على غير مذهب السلف ، نشأ مبتدعاً ،لم يكن على طريقة السلف الصالح بل نشأ على غير طريقة السلف الصالح ، ومشايخه لم يكونوا على طريقة السلف الصالح ، يعني أكثر مشايخه إلا نُدَّر منهم .
هذه ذكرها عن نفسه قال في موضع في الفتاوى (وأما أنا فقد كنت في الأصلين على غير طريقة السلف الصالح) هذه موجودة النص في الفتاوى ، شيخ الإسلام إنما هداه الله جل وعلا لذلك متأخراً يعني بعد سنة تسعين ، ستمائة وتسعين ، يعني وعمره جاوز الثلاثين أو هو حول الثلاثين ، لم ينشأ على العقيدة الصحيحة ، ولذلك رأى الغربة ، وأكثر مشايخه من الحنابلة على طريقة السلف لكنهم في الصفات يفوضون ، في الصفات عندهم يفهمون مذهب أحمد أنه التفويض .
وهذا باطل .
فشيخ الإسلام كان يواجه أشياء عظيمة في زمنه رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة وجزاه عنا خير الجزاء .
ما هي أفضل الكتب التي تنصحون بقراءتها التي تتحدث عن طاعة ولي الأمر ؟(2/344)
كتب العقيدة بعامة كلها فيها هذا المذهب وهناك مصنفات مستقلة في ذلك يعني بين رسائل مختصرة ومطولة لكن كتأصيل هي في كتب العقيدة ، في شرح الطحاوية بحثٌ جيد وكذلك في لوامع الأنوار للسفاريني أيضاً كذلك جمع النصوص فيه وفي كلام شيخ الإسلام ابن القيم من ذلك الكلام الجميل المفيد .
بعض الناس يعتبر إنكار بعض المشايخ لبعض المنكرات الظاهرة في المجتمع كالربا وبعض المظاهر المخالفة لأصول الدين ، فيعتبرون من تكلم في ذلك وأنكره خارجاً عن الطاعة ، فما رأي فضيلتكم في ذلك ، أرجو الإجابة لأني محتار ؟
ما انحيره إن شاء الله ، مع الإجتهاد في طلب الحق ما في حيرة .(2/345)
إنكار المنكرات في المجتمع من الربا أو انتشار الفساد فيما يتعلق بالنساء أو نحو ذلك من المنكرات هذا إنكاره واجب شرعي لأن الله جل وعلا أوجب على هذه الأمة إنكار المنكر فقال جل وعلا { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } وأمر بذلك فقال { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فإنكار المنكرات التي تكون في المجتمعات هذا واجب شرعي على أهل العلم وعلى من يُوَجِّهْ الناس ، لكن إيجاب إنكار المنكر هذا واجب مستقل ، وإيجاب الطريقة في إنكاره هذا واجب مستقل ، فهناك واجبان : واجب الإنكار وواجب الطريقة ، مثل ما مرَّ معنا في كلام شيخ الإسلام قال (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَة)ُ ، يعني ليس المقصود الأمر والنهي هذا الواجب فقط بل الواجب أن يكون الأمر والنهي على ما توجب الشريعة ، فمثل هذه المعاصي والذنوب من الكبائر وغيرها ، الطريقة الشرعية فيها أنه يُنهى عن المنكر بدون نَظَرٍ إلى الواقع فيه ، فيقال الربا محرم ، يذكر الربا كحكم شرعي ، هذا هو الذي يجب شرعاً ، وما عدا ذلك من الأساليب وغير ذلك ، هذه هي التي يكون فيها النظر هل هي أساليب موافقة لطريقة أهل السنة أم غير موافقة ، لأن بعضهم يتخذ أساليب غير مأذون بها شرعاً مثل تحديد الواقع في المنكر ، يقول مثلاً المُنْكَر الفلاني وقع في هذه الجهة ، وقع مثلاً في الوزارة الفلانية أو وقع في المؤسسة الفلانية ، ويعدُّ هذا التشخيص من الإنكار للمنكر بطريقة شرعية ، وهذا غلط ، النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا بلغه شيء وأراد إنكاره كما جاء في عدة أحاديث كان يقول (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا) (ما بال أقوام يشترطون(2/346)
شروطاً ليست في كتاب الله) ونحو ذلك ، وهذه هي طريقة أهل العلم والدين من قديم الزمن ، يعني في عهد أئمة الدعوة إلى وقتنا هذا ، هذه هي طريقة السلف الصالح ، لأنهم ينهون عن المنكر النهي العام بسماع الناس عامة ، لكن لا يحددون من الذي أتى بالمنكر أو من الواقع فيه بل ينهون عنه لأن الحديث فيه من رأى منكم منكراً فليغيره بيده والآية فيها { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } فثم واجبان : واجب الإنكار هذا متعين فلو تركت الأمة الإنكار لكانت أمة ملعونة كما لعن الله جل وعلا بني إسرائيل .
والواجب الثاني أن يكون إنكار المنكر من الخطيب أو من الداعية أو من الشاب في بيته أو في سوقه أو في أي مكان ، أن يكون الإنكار بطريقة شرعية .
إذا اشتبه عليه وهي من المسائل المشكلة في بعض المسائل ، ما هي الطريقة التي يسلم بها من الإثم ، لا بد من الإستفتاء .
وقد ذكرت لك من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الدرس الماضي أنه كان يقول (إن الآمر والناهي إذا أمر ونهي وقد غلب على ظنه أن المصلحة راجحة وأن المفسدة مرجوحة فإنه يأثم) ، إذا غلب على ظنه بإنكاره أن المصلحة راجحة والمفسدة مرجوحة يأثم ، لم ؟(2/347)
(قال لأنه لا بد من اليقين) ما يُكتفى بغلبة الظن في هذا (لأنه لا بد من اليقين بتحصيل المصالح وبدرء المفاسد) تعلم أن المصلحة راجحة بيقين ، أما اتقول والله يمكن خل انسويها والله يمكن لعلها تنفع ، هذا تأثم به ، لأنك لا تدري ربما يحدث شيء أعظم مما نهيت عنه ، ودرء المفاسد كما هو معلوم مقدم على جلب المصالح ، فتترك الأمر حتى تتيقن أن فعلك فيه تحصيل المصلحة ودرء المفسدة ، فإذن تحصيل هذا الكلام لأن الناس في هذه المسألة ، يعني الشباب ما فهموا كلام المحققين من أهل العلم فظنوا أن إنكار المنكر في الدعوة أو في الخطب أو في المجالس ونحو ذلك أن هذا مخالف لطريقة السلف ، بل هذا غلط كبير على منهج السلف ، بل يجب إنكار المنكر لكن يجب أن يكون بالطريقة الشرعية ، هذه هي طريقة أهل السنة والجماعة .
فمن أوجب إنكار المنكر على أي طريقة هذا مخالف لطريقة أهل السنة .
ومن قال لا تنكر بل الإنكار على أهل العلم فقط في كل المسائل هذا غلط .
والصواب التفصيل :
فما كان من العلم - كما ذكرنا لكم في الدرس الماضي - ما كان من العلم مما يشترك فيه الناس هذا الإنكار ، إنكار المنكر والدعوة إليه واجب على من علمه .
وما كان خاصاً أو ما يتعلق بمصلحة عامة في الأمة فهذا مختص بالراسخين في العلم .
قال لقد قلت إن تحديد الجهة أو الوزارة التي فعلت المنكر لا يجوز وقد أنكرت ما قال عبدالفتاح الحائك في مجلة الشرق الأوسط ، كيف أجمع بين ذلك ؟
هذا يعني السائل يعني كأنه رابح شيء فاحتج بشيء وهو من عدم فهمه لما قلت ، النبي عليه الصلاة والسلام قال (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) .(2/348)
هذا مقال نُشِر في جريدة باسمه ، فإذا نَشَرَ أحد مقالا له باسمه فقد أعلن المنكر مع التعيين ، فهنا الذي فعل المنكر مُعَيَّنْ ، وانتشر في الناس ، فهذا يجب أن يُرد عليه بمثل طريقته ، هذه طريقة إنكار المنكر ، أما ما حصل في وزارة لا يعلمه أحد ، مثلاً حصل في جهة وخطوط السعودية شيء أو حصل في شركة الإسمنت شيء ، الناس ما يعلمون عنه ، عَلِمَهُ الموظف اللي فيه أو أحد الشباب اللي فيه فأتاني بالخطاب قال اقرأ هذا لأن فيه لا بد ننكر هذا المنكر باسم الذي فعله المدير الفلاني أمر بهذا الأمر ونحو ذلك مما هو في الجهة تلك ، فهذا نقول نعم هنا لا يجوز إنكاره إلا إذا شهره هو ، نشر في جريدة فلان بأي جهة سواءً كان كبيراً في المسؤولية أو صغيراً ، وزير أو غيره ، نشر منكراً في جريدة من الجرائد فهنا يُرد عليه بمثل طريقته ، لأن هذا هو ما يجب شرعاً (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) فيُرَدْ عليه ، أما إذا كان شيئاً خفياً ، ما علمه إلا طائفة وما استعلم به فإن هذا ، أو كان ما تعرف الجهة التي له ، أو كان ما يتعلق بمصلحة عامة بالأمة ونحو ذلك هذا إنما يكون فيه الأمر بتحديد المنكر دون فاعله مثل ما قال عليه الصلاة والسلام (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا) (ما بال أقوامٍ يشترطون) لأن الذي علم بهذا المنكر من ذلك الذي فعل فئة من المسلمين وليس كل المسلمين ، أما عبدالفتاح الحائك في مجلة الشرق الأوسط فهذا نشر تلك المقالة الكفرية على العامة وأعلن توبته وبعد ذلك بأسابيع .
هذا يسأل عن الجزائر ، يقول هل الثوار الذين في الجزائر هل يعتبرون من الخوارج ؟(2/349)
لا يعتبرون من الخوارج لأن دولتهم هناك دولة غير مسلمة ، فليسوا من الخوارج ولا من البغاة ، وإنما الكلام معهم في مسألة هل هذا فيه مصلحة أم لا ، هل فعلهم هذا فيه تحقيق للمصلحة التي يرجونها شرعاً أم لا ، والواقع أنهم دخلوا في هذا الأمر دون علم شرعي ، ولذلك صار ما صار من مفاسد ، لكن البغاة والخوارج لا تقال إلا لمن خرج على ولي الأمر المسلم .
.......
هذا سؤال جيد جداً ، يقول ما صحة تسمية الولاة الآن بولاة الأمر ، وما الدليل على وِلايتهم مع تعددهم في العالم وعدم توحيد المسلمين جميعاً على وليٍ أمرٍ واحد ؟
سؤال جيد من حيث إثارة الموضوع وهو اشتبه عليه مسألتين :
مسألة أولى متفق عليها ، وهي تسمية هؤلاء ولاة أمر - يعني المسلم الذي يلي أمر المسلمين يسمى ولي أمر باتفاق سواءً كان بلد أو بلدين أو عشر أو عشرين أو مائة لا خلاف في ذلك - وإنما خالف بعضهم في تسميته إماماً ، وإنعقاد البيعة للامام المتعدد ، يعني عندهم أن الإمامة إنما تُعْقَدُ لمن اجتمع عليه المسلمون جميعاً ، هذا لفظ الإمام وهو الذي تجب له البيعة عندهم ، هذه شبهة عند بعض طلبة العلم أو بعض الشباب ، عندهم هناك تفريق بين ولاة الأمر والأئمة ، فعندهم ولي الأمر تجب له الطاعة ولكن ما تجب له بيعة حتى يجتمع المسلمون على والي واحد .(2/350)
وهذا القول مجانب للصواب ثَمَّ المجانبة وذلك أن المسلمين أجمعوا بلا نكير ولا اختلاف على انعقاد الإمامة الشرعية لإمامين هما إمام بني العباس في بغداد ، وإمام بني أمية في الأندلس ، ومضت الأمة على ذلك قروناً ، وكل واحد من هذين الإمامين العلماء وأئمة السنة في بلده يقول هذا الإمام الذي تجب بيعته ويحرم الخروج عليه ، وهذا إجماع منهم على أن البيعة لا يشترط لها الخلافة الراشدة العامة بل البيعة منوطة بمن وَلِيَ الأمر لأن البيعة تتجزأ حسب البلد ، بحسب الوالي كما جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال (من بايع أميراً فأعطاه صفقة يده و ثمرة قلبه) من بايع أميراً سواء بايع هذا الأمير على جهاد أو بايعه على إمارة عامة أو إمارة خاصة ، فهذه تنعقد البيعة ، فالبيعة مرتبطة بولاية الأمر وليست مرتبطة بالإمامة العظمى ، لذلك بعضهم يقول (الإمامة العظمى هي المعتبرة عند أهل السنة والجماعة) وهذا غلط كبير على معتقد أهل السنة والجماعة لإجماع أهل السنة في الأندلس على بيعة بني أمية في الأندلس ولإجماع أهل السنة في الشرق على بيعة المسلمين لولاة بني العباس ، وهاتان دولتان مسلمتان .(2/351)
لمَّا تعددت الطوائف أيضاً ، صارت الدول - يعني دول القرن الرابع الهجري والخامس - صارت دويلات مختلفة ، أيضاً ما نُزِعَ اسم الإمامة وأُنيط بإمام عام عند أهل السنة والجماعة ، فهذا البحث مهم ومن ظن أن الإمامة إنما تكون لمن أجمع عليه المسلمون في زمن ، فلم ينظر إلى وجود إمام بني العباس وإمام بني أمية وإجماع أهل السنة على أن كل منهما له إمامته الشرعية فقامت دولتان ، وتعلمون أن دولة بني أمية بالاندلس كانت قبل خروج العباسيين على بني أمية فخرج العباسيون على بني أمية فأخذوا من البلاد التي يليها الأمويون بعضاً فأقاموا فيها حكم العباسيين وما لم يستطيعوا بقيت فيه ولاية الأمويين ، اللي هي الأندلس والمغرب ، ثم المغرب دخل في العباسيين بعد فترة لكن الأندلس بقي في ذلك حتى سقط الأندلس وهو عند بني أمية ثم سقط بنو العباس ، ولاية بنو العباس وهم في بغداد ولا دخل لهم بالولاية في الأندلس ، فهذا إجماع مُتَيَقَنْ ولا أحد من أهل السنة قال إن ولاة بني أمية في الأندلس ليسوا بأئمة وليس لهم بيعة وكذلك ولاة بنو العاس ليسوا أئمة وليس لهم بيعة لوجود إمامين في ذلك الزمان ، هذا بحث .
والثاني في هذه المسألة أن هذا القول وهو أن البيعة لا تكون إلا مع الإمامة العظمى يلزمه أن البيعة قد ذهبت منذ أزمان وأن قول النبي عليه الصلاة والسلام (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) أن هذا مخصوص ببعض الأزمنة دون بعض ، وهذا تَحَكُمٌ في دلالة النص و تَحَكُمٌ أيضاً في كلام أهل السنة ، فالبيعة ليس لها زمن يحدها عند أهل السنة ، بل هي ماضية ولم يحدها أحد ، والقول بأن البيعة منوطة بالإمامة العظمى هذا يلزم منه هذين اللازمين الباطلين .(2/352)
وكما هو معلوم في بحث الجدل أن القول إذا لزم منه باطل فإنه يكون باطلاً ، ولذلك أهل السنة أبطلوا قول الجهمية بالحلول لأنه يكون يحل في الأشياء المستكرهة مع أن القائلين بالحلول لا يقولون بحلوله لكن قالوا يلزم منه ، أحياناً القائل بالقول لا يلتزم القول ، لا يلتزم يعني ما ينتج عن القول ، لا يلتزم لوازم القول ، يقول أنا ما ألتزم هذا ، ولهذا قال العلماء لازم المذهب ليس بمذهب ، لكن اللوازم الباطلة على القول تدل على أن القول باطل ، هذا الذي تجده ... في كتب أهل العلم .
......
إذا كان انتقاله انتقال سفر وإقامة فهذا تلزمه بيعة الأول لأنه هو مسافر وسيرجع ، وأما إذا كان انتقاله انتقال استيطان ، يعني ترك هذا الوطن واتخذ له وطناً آخر ، فما دام انه استوطن البلد الآخر فيلزمه أحكام ولي الأمر في ذلك البلد ، وكما تعلم أن الفقهاء قسموا الناس إلى ثلاثة أقسام :
مسافر ومقيم ومستوطن ، وبعضهم يقول مسافر ومقيم ويُدْخِل المستوطن في المقيم .
المستوطن مثلاً أنت ذهبت إلى بلد أخرى واستوطنت فيها ، .. تركت هذا البد لا تشتغل تبع المملكة ولا تشتغل تبع جهة فيها ونحو ذلك وإنما قلت أنا تركت هذه خلاص وسكنت في تلك البلد ، فهنا من حيث جريان الأحكام والسمع والطاعة بحسب البلد الذي ذهبت إليه ، من حيث عقد القلب ، ثمرة القلب وصفقة اليد إما بنفسك أو بواسطة أهل الحل والعقد هذه بحسب ما ترغب فيها أنت فإن رغبت في بقاء البيعة الأولى لأنها هي الأصل ولم تجدد بيعةً ثانية فأنت على الأولى ، وإذا جددت بيعة ثانية للوالي الآخر فأنت يلزمك ذلك الوالي ، وهي المسألة مسألة دين ماهي مسألة أهواء (من مات ولي في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) يعني على كبيرة من الكبائر ، وإذا كان على كبيرة من الكبائر فهو ايش ؟(2/353)
صغائره لا تُكَفَّر { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } الصلاة إلى الصلاة غير مكفرات لما بينهما إذا مات وليس في عنقه بيعة ، والصيام إلى الصيام غير مكفر لما بينهما فالمسألة عظيمة لأنها دين و يعني التساهل في هذا الأمر بآراء أو بأقوال أو بحديث مجالس أو بسوالف شباب يعني من الإستهانة بشيء من عقائد أهل السنة والله المستعان .
ما رأيكم في قول (لقد تحدث القرآن) كما هو دارج على ألسنة كثير من المتكلمين ؟
تحدث القرآن ، قال القرآن ونحو هذه كلها من الألفاظ المحدثة والألفاظ الثقافية التي لا يجوز استعمالها لأن الذي تحدث وجعل هذا القرآن حديثاً هو الله جل وعلا { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } القرآن لا يتحدث هو ، ليس بمخلوق ، إنما القرآن كلام الله جل وعلا فالذي يتحدث هو الله جل وعلا { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ } .
......
يقول { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ، لكن يعني أنا يظهر لي أن كلمة يقص غير قال ، تحدث ، يقص بما فيه من القصص ، لكن تحدث وقال الآن ما عندي جواب على هذه الآية تبيلها تأمل إن شاء الله .
هل تعتبر النصيحة أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر ؟
ما ادري هذا ما حضر الدرس الماضي أو لا .
هل يأمر الفُسَّاقْ بالمعروف وينهون عن المنكر ؟
نعم ، الفاسق يجب عليه أن يأمر وينهى مثل المطيع ، وكونه فاسقاً لا يعني أن يترك الواجب لأن الواجبات متداخلة فيجب عليه أن يأمر ويجب عليه أن ينهى ، فإذا كان يفعل المعصية ما يترك الواجب عليه لأجل أنه واقع في معصية فيجتمع عليه مخالفات ، ولهذا قال الإمام مالك (لو لم يأمر بالمعروف إلا من فعله ولم ينهى عن المنكر إلا من تركه لما وجدت آمراً ناهياً) يعني لكثرة المعصية في الناس والمخالفة .(2/354)
هنا هذا سؤال أيضاً عن ولاة الأمر ، إذا قلنا ولاة الأمر يُعنى بهم - يعني في بحثنا هذا ، الدرس هذا - نعني بهم الأمراء ، مثل ما قال شيخ الإسلام هنا (مَعَ الأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا) أما كلمة ولي الأمر وأولي الأمر في النصوص فإنها في الأصل للأمراء لأنهم علماء ، ولما صار الأمراء غير والعلماء غير من عهد بني أمية قسم أهل العلم ذلك وذكروا في تفسير قول الله تعالى { وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } قالوا هم العلماء والأمراء يعني كُلٌ فيما تجب طاعته فيه ، فالعلماء فيما أوجب الله جل وعلا طاعتهم فيه من العلم والدين والأمراء فيما يتعلق بدنيا الناس والحفاظ على ثغورهم وإقامة الحدود والفرائض الشرعية ونحو ذلك .
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ.
وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ، وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا"، وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ، وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِِهَا.(2/355)
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي"، صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ، وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى، أُولو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِيهِمُ الأَبْدَالُ، وَفِيهِمُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ، وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ".
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يَهَبَ لَنَا مِن لَّدُنْهُ رَحْمَةً إِنَّهُ هُوَ الوَهَّابُ.
وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم(2/356)
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فهذه خاتمة هذه الرسالة المباركة التي سُمِّيت بالعقيدة الواسطية وفيها بيان أخلاق أهل السنة والجماعة .
وأهل السنة تميزوا عن غيرهم بأنهم أثَّرت فيهم المتابعة وأثَّرَ فيهم الاعتقاد فجعلهم أهل اتباع للنبي عليه الصلاة والسلام في المسائل العلمية وفي المسائل العملية .
وأهل البدع جعلوا المسائل العملية والأخلاق ، جعلوها في مرتبة ليست بمهمة أو يقولون إن هذه من قشور الدين .
وأهل السنة من جهة اعتنائهم وفقههم واتباعهم للنبي عليه الصلاة والسلام تابعوا في المسائل العلمية وفي المسائل العملية .
والمسائل العملية منها الأحكام الفروعية ومنها الأخلاق ، فلذلك هم في السلوك أهل اتباع لسبيل المؤمنين بطريقة المصطفى عليه الصلاة والسلام وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم من بعده .
والفِرَقْ المخالفة لطريقة أهل السنة في باب الأخلاق تنوعت :
منهم من لم يهتم بهذا أصلاً ، وإنما يهتمون بالأمور الكلية وأما إذا أتيت إلى سلوكهم وعملهم وأخلاقهم وديانتهم فإنهم لا يهتمون بذلك ، لا من جهة حقوق الله جل وعلا ، ولا من جهة حقوق الخلق ، من جهة الواجبات و المستحبات ، فيفرطون في ذلك وأخذوا الاعتقاد من جهة العقليات ، فصارت عندهم مباحث أشبه ما تكون بمباحث اللاهوت عند النصارى ، وليست بمباحث عقدية تؤثر في القلب عقداً فتستجيب لها الجوارح فعلاً وسلوكاً وحركة .
فالمتكلمون أقسى قلوباً مع أنهم يُثبتون وجود الله جل وعلا بما يثبتونه به ويثبتون البعث ويثبتون أشياء مما هي معلومة في العقيدة ويخالفون فيما يخالفون لكنهم ليسوا بذوي ذكاء في قلوبهم ، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في وصفهم ، أو في وصف أئمتهم (أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا ذكاءا ، وأوتوا علوماً ولم يؤتوا فُهُوما).(2/357)
وهذا واقع فإن كثيرين دخلوا في مباحث الاعتقاد من جهةٍ عقلية بحتة ولم يستفيدوا منها في تعظيم الله جل وعلا كما ينبغي له جل وعلا ولا في تعظيم رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ التعظيم الذي أذن الله به لرسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من جهة محبته وطاعته واتباع ما جاء به .
فهذه الفئة ، المتكلمون ومن شابههم ، هؤلاء لم يعتنوا أصلاً بالأخلاق ولا بالعمل ومثلهم الفلاسفة الإسلاميين كذلك لم يهتموا بالعمل ، وهؤلاء أصناف متنوعة .
يقابلهم جهة أخرى غلت في الأخلاق حتى جاوزت المأذون به وجاوزت السنة في ذلك وهم المتصوفة .
والصوفية فرقة نشأت في أواسط القرن الثاني للهجرة وكان لنشوئها سبب أو أسباب ومنها مخالطتهم للنصارى خارج الأمصار ، خارج البلاد - يعني البلد التي هي متأهلة بالسكان - خارج بغداد ، خارج دمشق ونحو ذلك .
كان النصارى يميلون إلى الرهبنة وينعزلون فخالطهم طائفة من جهلة المسلمين فقلَّدُوهم في ذلك حتى غلوا في هذا الجانب ، جانب الأخلاق ، فصاروا مخالفين لطريقة السلف الصالح فيه .
وهؤلاء الذين غلوا وهم الصوفية نُسِبوا إلى لُبْسِهِم الصوف تقليداً للنصارى وهناك أقوال أخر ، لكن هذا هو أظهرها .
ففي المقامات والأحوال لم يتابعوا ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام وإنما دخلوا بالذوق .
وهذا له سبب وذلك أن كتب اليونان لمَّا تُرجِمَتْ في أوائل القرن الثالث وقَدِمَتْ بلاد المسلمين ، كانت كتب ألئك فلسفية .
والفلسفة معناها طلب الحكمة .
والحكمة تارةً تكون في العقليات وتارةً تكون في الروحانيات .
والفلاسفة اليونان على هاتين الفرقتين :
- منهم من عُنُوا بالعقليات كأرسطو وأفلاطون وجماعة من كبارهم فحققوا المسائل الفلسفية بحسب ظنهم بطلب معرفة الأشياء الطبيعية على ما هي عليه ، وكذلك معرفة ما وراء الطبيعة على ما يظهر عليه البرهان العقلي عندهم .(2/358)
هذا ليس مهماً عندنا في هذا الموضع لكن الذي يُهمنا هنا القسم الثاني وهم الفلاسفة الذين اعتنوا بطلب إصلاح النفس ، طلب الحكمة عن طريق إصلاح النفس .
قالوا طلب الحكمة لا يكون إلا عن طريق إصلاح النفس ، وإصلاح النفس بأن تتجرد من العلائق الأرضية وتنطلق في الأجواء السماوية ، وإذا كان كذلك فلا بد لها من رياضة ، وهذه الرياضة مُعْتَمِدَةْ عندهم على فصل الروح عن الجسد ، فلا ينظروا إلى الجسد البتة بل ينظروا إلى الروح فيُخَلِّصْ الروح من تعلقها بالجسد ، يعني من تعلقها بالأرض .
وهؤلاء الفلاسفة يُسمون أهل الإشراق أو أصحاب نظرية الفيض .
هؤلاء لهم كتب يمثلهم أفلوطين - غير أفلاطون - أفلوطين كان يعيش في الاسكندرية وصار صاحب نظرية الفيض .
والبحث في هذا متشعب ، المقصود أنها وصلت هذه الأقوال وهذه النظريات إلى المسلمين ، فتُرجمت كتب اليونان في العقليات وفي الروحانيات ، يعني في إصلاح العقل وفي إصلاح الروح .
وأنتم تعلمون أن المنطق يُعَرِّفُونَهُ بأنه قوانين تضبط العقل عن الخطأ .
وقوانين الروح عندهم تضبط الروح عن الدَنَسْ ، فدخلت هذه وهذه عن طريق الكتب التي تعتني بالعقليات نشَاَتْ الفلاسفة ، والفلاسفة غير المتكلمين .
نشأت الفلسفة وظهر الفلاسفة الذين اعتنوا بفلسفة الأوائل كالفارابي من المتقدمين وأشباهه وابن سينا ونحو هؤلاء .
والجهة الثانية الذين غلوا في إصلاح النفس ، والذين غلوا في إصلاح النفس تأثروا بالنصارى كما ذكرت لك وبالكتب الإشراقية هذه .
كتب نظرية الفيض التي تُرجمت عن اليونانية .
صار إذاً إصلاح النفس مخالفاً لطريقة السلف .(2/359)
فأهل السنة رأوا كلام الذين بدأ فيهم الزيغ فتكلموا في الأخلاق وفي إصلاح النفس بغير ما دلت عليه النصوص ، مثل جماعة ممن كانوا في عصر الإمام أحمد وقبله كان أفراداً وفي عصر الإمام أحمد وبعده كان هناك من يتكلم في هذه المسائل على غير طريقة السلف ، وصنفوا فيها مصنفات معروفة وموجودة ولهذا قابلهم السلف بتأصيل الأخلاق ومخالفة أهل الضلال فيها عن طريق كتب الزهد والرقائق .
فتصنيف كتب الزهد والرقائق كان مقصوداً لمخالفة هذه الطائفة التي غلت في الأخلاق ، غلت في السلوك فتركت طريق النبي عليه الصلاة والسلام ، وأيضاً الرد على الذين نظروا إلى الدنيا وأخذوا بالعقليات ونسوا يوم الحساب .
فهؤلاء وهؤلاء رَدَّ عليهم السلف بكتب الزهد والرقائق ، ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من الزهد وما كان عليه أصحابه وما كان عليه الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه وهكذا .
فصار أهل السنة في باب إصلاح النفس مخالفين للجفاة الذين لم يعتنوا بإصلاح الأخلاق وللذين غلوا فابتدعوا طرقاً في إصلاح النفس والأخلاق .
كلمة الأخلاق هذه كلمة عامة والمقصود منها الصورة الباطنة لأن الخَلْقْ ، خَلَقَ يخلُقُ خلْقاً هو الإيجاد.
وهذا المخلوق له صورتان ، صورةٌ ظاهرة وهي الخَلْقْ ، خَلْقُهُ خِلْقَتُهُ وصورة باطنة وهي خُلُقُه .
ولهذا عظَّم النبي عليه الصلاة والسلام حسن الخلق في أحاديث كثيرة متعددة يأتي بعضها إن شاء الله تعالى .
قد قال الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ، وفي صحيح مسلم من حديث عائشة في حديثٍ طويل في سؤال بعضهم عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه الصلاة والسلام ، وسألوا عائشة عن خلُقُ ْالمصطفى عليه الصلاة والسلام فقالت (كان خلقه القرآن) .
فأهل السنة ذكروا في تصانيفهم ما يتعلق بالزهد والأخلاق وإصلاح العمل والصورة الباطنة .(2/360)
المتابعة الظاهرة وإصلاح الصورة الباطنة من مكارم الأخلاق ، ونهوا عن كل ما يخالف طريقة السلف في هذا الأمر ، ذلك لأن مسألة التربية ومسألة الأخلاق ومسألة إصلاح النفس قد تكون على غير طريقة السلف الصالح .
فلهذا ذكروا أصول ما هم عليه في باب إصلاح الخُلُق ، إصلاح الصورة الباطنة ، إصلاح النفس مما أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه الجملة .
المقصود في هذا البيان أن ذكر الأخلاق في كتب أهل السنة والجماعة مقصودٌ وهو من جملة ما تميزوا به عن غيرهم .
فغيرهم في هذا الباب ما بين جافٍ وغالٍ .
وإذا نظرت إلى تصانيف الغزالي مثلاً وجدت أنه غلا في هذا الباب فخالف طريقة أهل السنة ، ومشايخه أخف منه كمكي بن أبي طالب في كتاب (قوت القلوب) و القُشيري ونحو ذلك لكن عندهم أيضاً بلاء .
وهكذا كلما مضى الزمن وجدت أن المتأخرين في هذا الباب لسعة الانفراج يزيدون على من قبلهم انحرافا .
فمن المهم أن يُؤصل كلام أهل السنة في باب الأخلاق ، والكلام في الزهد والرقائق والخُلُقْ ليس أمراً ثانوياً كما يقوله من لم يفهم أو أمراً شكلياً أو قشور وليست بلُبَابْ .
الدين كله لُبَابْ وكله قولٌ ثقيل كما قال جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } وقد سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن مسالةٍ فقال لا أدري .
فقال له السائل : إن هذه المسألة خفيفة .
فنهره وقال : ليس في العلم شيء خفيف العلم كله ثقيل قال الله جل وعلا { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً }
فنأمر بما أمرنا الله جل وعلا به وما أمرنا به المصطفى عليه الصلاة والسلام والكل حق وهدى نأخذه ونخالف بذلك أهل الضلال .(2/361)
فإذن الدعوة إلى هذه الأخلاق هذه من خصائص أهل السنة ومن أثر العقيدة على النفس ، ومن تَمَثَّلَ العقيدة الصحيحة فهو الصالح ، فالصالح من عباد الله هو الذي صَلُحَ باطنه وظاهره ، وصلاح باطنه بالاعتقاد الصحيح والأخلاق الفاضلة ، وظاهره بأن يكون مقيماً لحقوق الله ومقيماً لحقوق الخلق .
فالصالح عند أهل العلم هو القائم بحقوق الله القائم بحقوق الخلق ، فمن جمع القيام بهذا وهذا فهو صالح ، فمن فرط في شيء من هذين فهو ينقصه من الصلاح ويدخله شيء من ضده بحسب ما فرط وترك .
انتهى الشريط التاسع و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثلاثون
فالصالح عند أهل العلم هو القائم بحقوق الله ، القائم بحقوق الخلق ، فمن جمع القيام في هذا وفي هذا فهو صالح ، ومن فرَّطَ في شيء من هذين فهو ينقصه من الصلاح ويدخله شيء من ضده بحسب ما فرَّطَ وترك .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى هنا في وصف أهل السنة رحمهم الله تعالى وحشرنا معهم قال :
وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ، وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ
يأمرون بهذه لأنه جاء الأمر بها .
والصبر عند البلاء هذا يشمل : صبر القلب وصبر الجوارح ، لأن الصبر في اللغة الحبس .
قُتِل فلانٌ صبراً يعني حبساً ، حُبِس ورُبِطَ بشيء حتى قتل ، يعني من غير قتال .
وهو في الشرع : حبس القلب عن التسخط وحبس اللسان عن التشكي وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك .
فإذا أتى بلاء فإنهم يصبرون .
إذا ابتلوا بشيء في أنفسهم أو في أهليهم أو في أولادهم من نقص في الأطراف أو نقص في الأموال أو ما شابه ذلك فإنهم يصبرون عند البلاء .
والصبر واجب من الواجبات وليس بمستحب .(2/362)
بل الصبر واجب ، واجبٌ أن لا يتسخط القلب ، يحبس القلب عن التسخط على فعل الله جل وعلا ، ويحبس اللسان عن شكوى الله جل وعلا إلى الخَلْقْ ويحبس الجوارح عن إظهار الجزع من لطم وشق وعويل وما شابه ذلك .
الصبر كما جاء في الحديث الصحيح الذي في مسلم وفي غيره قال عليه الصلاة والسلام (والصبر ضياء) وهذا من أعظم ما يكون عند الصابرين فإن الصبر حبس ولكنه يضيء القلب ويضيء الطريق
فالصبر واجب ، والأجر على البلاء هذا يكون بالصبر .
البلاء في نفسه مكفر للسيئات ، والصبر عليه يؤجر عليه العبد ، فصار البلاء في المؤمن له جهتان :
- جهة تكفيره للسيئات .
- وجهة إثابته على هذا البلاء .
البلاء يُكَفِّرْ ولكن الإثابة تكون على الصبر ، فإن فقد الصبر هل يقع التكفير أم لا ؟
خلافٌ بين أهل العلم والظاهر في ذلك أن الصبر لا يُشترط لتكفير السيئات بالمصيبة ، بل وقوع المصيبة بنفسها فيه تكفير للسيئات رحمة من الله جل وعلا كما قال جل وعلا { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } وفي الصحيح (من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه)
فبالمصيبة يكون الخير للمسلم ، ولا شك إذا صبر عليها فإنه يُؤجرُ وتكفر عنه السيئات .
وتفاصيل الكلام على الصبر في كتاب التوحيد وفي مدارج السالكين في منزلة الصبر .
قال (وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ) الشكر عام يدخل فيه عبادات كثيرة .
والشكر مما يُؤمَرُ به العباد لأن الله جل وعلا أمر به في مثل قوله { وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } { كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ } ونحو ذلك من الآيات ، فالشكر مأمور به وهو واجب .
والشكر له أركان ثلاثة واجبة كلها :(2/363)
" الأول أن يقوم في القلب أنه من عند الله ، أنَّ النعمة من عند الله جل وعلا ، فيكون القلب منطوياً على أن الفضل من الله جل وعلا لا من غيره { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } .
" والثاني التحدث بهذه النعمة .
" والثالث استعمالها فيما يُحِبُّ من أَنْعَمَ بها لا فيما يَسْخَط ويَكْرَهْ ، وإذا قلنا إستعمالها فيما يُحِب يشمل ما أَذِنَ به من جهة التغليب ، يعني يشمل المباح من جهة التغليب وإلا فالأولى أن يقال استعمالها فيما أَذِنَ به فيدخل فيه المباح لأن من استعمل نعم الله جل وعلا في الواجبات أو في المستحبات أو في المباحات فإنه شاكر بخلاف من استعملها في المحرمات .
والشكر كما هو معلوم له تعلق بالقلب وتعلق بالعمل .
الشكر يكون بالقلب وبالعمل جميعاً .
والعمل عمل اللسان وعمل الجوارح .
فصار الشكر إذاً متعلقاً بالقلب واللسان والجوارح جميعاً ، بخلاف الحمد .
الحمد ليس له تعلق بالعمل والشكر له تعلق بالعمل .
الحمد ثناء على من اتصف بالصفات الحسنة سواءٌ أكان مُنْعِماً أم غير مُنْعِم ، فليس الحمد في مقابلة النعمة ، بل الحمد في مقابلة الصفات الحسنة .
وأما الشكر فهو في مقابلة نعمة .
ولهذا قال هنا ((وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ)) فإذا أصاب العبد رخاء شكر .
يشكر بقلبه يعني ينسب النعمة لله .
ويشكر بلسانه بأن يتحدث بهذه النعمة { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } ما يكتم نعمة الله عليه .
ويشكر بعمله بأن يستعملها في ما يحب المُنْعِم كما قال جل وعلا { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } .
فإذن صار الشكر غير الحمد ، الحمد ثناء والشكر فيه عمل .
الشكر على نعمة وأما الحمد على أوصاف الكمال ، فَتَحْمَدُ من لا تحب من جهة الإنصاف ، تثني عليه بما هو أهله .
والله جل وعلا هو المحمود بكل لسان سبحانه وتعالى .(2/364)
قال (وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ) والصبر والشكر هذان متقابلان كما جاء في الحديث (الإيمان نصفان نصفٌ صبر ونصفٌ شكر) لأن العبد ما يخلو في أي حال من حالاته :
إما أن يكون في شيء يستوجب شكراً لك .
أو في شيء يستوجب صبراً .
ولا يخلو من هذا وهذا جميعاً ، فلا بد من هذا وهذا فيكون إذاً متعبداً بالصبر وبالشكر .
قال (وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ) الرضا هنا مقام من المقامات العظيمة للقلب ، والله جل وعلا رضي عنه عباده الصالحون { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } فما يأتي من الله جل وعلا شيء إلا والمؤمن يعلم أنه خير له فيرضى ويُسَلِّم فيما يأتيه من الخيرات وما يأتيه من غيرها .
الشكر لا يمكن أن يكون إلا برضا ، فمرتبة الشكر أرفع لأن الرضا منطوٍ تحت الشكر .
فكل شاكرٍ راضٍ ، والراضي بالنعمة يشكرها .
وهنا في قوله (وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ) تخصيص أحد وجهي الرضا وهو الرضا عن المصايب ، الرضا عن ما يصيب العبد .
والرضا مختلف عن الصبر ، الصبر حبس ، وأما الرضا فهو التسليم لهذه واستئناف القلب لها ورضاه عن هذه المصيبة أو رضاه عن من أتى بهذه المصيبة أو مُرْ القضاء .
ولهذا صار للرضا أحكام منها الرضا الواجب ومنها الرضا المستحب .
هل الرضا واجب أو الرضا مستحب ؟
هذه ذكرتها عدة مرات ، وتحقيق المقام في ذلك بأن الرضا تختلف جهته :
تارة يكون واجباً ، وتارة يكون مستحباً .
- فالرضا الواجب أن يكون النظر إلى جهة القضاء ، جهة فعل الله جل وعلا ، فإذا نظر العبد إلى فعل الله جل وعلا وجب عليه أن يرضى به وأن لا يَتَسَخَطَ فِعْلَ الله جل وعلا فهذا قَدْرٌ واجب .
- أما المقضي ، المصيبة في نفسها فهذه الرضا بها مستحب ، فإذا نظر إلى المصيبة وأنها شر بالنسبة إليه فقد لا يرضى بذلك من جهة فقد ولد أو فقد مال أو مرض أصابه لكن المستحب له أن يرضى بذلك .(2/365)
أمام من جهة فعل الله جل وعلا فيجب عليه أن يرضى وأن لا يتهم الله جل وعلا في فعله ولا في قضائه .
فالرضا بالقضاء واجب والرضا بالمقضي مستحب .
و هذا تحقيق القول في هذه المسألة التي اختلف فيها أهل العلم .
والصبر كما هو معلوم غير الرضا ، الرضا شيء والصبر شيءٌ آخر لأنه قد يصبر من لم يرض فإذا رضي عن الله جل وعلا ورضي بالمصيبة التي جاءته صار ذلك كمالاً في حقه وهو زيادة على الصبر
(وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ) القضاء معروف وهو ما قدره الله جل وعلا ، سمي قضاءً لأنه سيقع لا محالة .
القدر قد يسمى قضاءً قبل أن يقع باعتباره نهايته وأنه سيقع لا محالة .
لهذا اختلف أهل العلم هل القدر والقضاء متفاوتان أم معناهما واحد ؟
فمنهم من قال معناهما واحد باعتبار أن القدر لا بد أن يقع فهو قضاء ولو قبل أن يحصل لأن ما قَدَّرَ الله جل وعلا كائن لا محالة .
ومنهم من فرَّقْ بين القدر والقضاء بأن القدر ما يسبق وقوع المقضي فإذا وقع المُقَدَّرْ وانتهى قُضِيَ وصار قضاءً .
والمعنيان متقاربان يؤولان إلى شيءٍ واحد .
قال (وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ) .
يدعون يعني يأمرون بذلك ويدعون الخلق إلى مكارم الأخلاق .
الأخلاق كما ذكرت لك هي الصورة الباطنة ، جمع خُلُقْ ، والخُلُقْ الصورة الباطنة للانسان يعني ما يكون عليه في الباطن ويفصح عنه الظاهر من إصلاح حاله مع ربه وإصلاح حاله مع الخَلْقْ .
فيدخل في الخُلُقْ الإخلاص ويدخل فيه مقامات الإيمان من الصبر والرضا واليقين والعلم والعفة والشجاعة ونحو ذلك .
ويدخل أيضاً في الخُلُقْ : الظاهر ، يعني ما فيه صلاح ما بينك وبين الخلق بأداء الأمانة وصدق الحديث ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وترك التعدي على الخَلْقْ والنَصَفَة من العالم ونحو ذلك .(2/366)
قال بعض أهل العلم عماد حسن الخُلُقْ وكَرَمْ الخُلُقْ أن تكون منصفاً الخَلْقْ على نفسك وأن تكون مع الخَلْقْ على نفسك .
يعني إذا كان بينك وبين الخَلْقْ معاملة فتكون معهم عليك ، وهذا يجعلك تأخذ لنفسك القَدْرْ الذي أُذن به ، ما تتجاوز .
فتكون معهم على نفسك كما جاء في الأثر وأنَّ من أخلاق أهل الإيمان (والنَصَفَةْ من العالم).
تنصفهم منك يعني تكون معهم على نفسك ولا تكون عليهم متسلطاً ، بل إذا اختلفت معهم كن معهم على نفسك فتكون مُثْبِتاً للحق راداً بما ليس بحق .
والمكارم جمع مَكْرُمَةْ وهي مأخوذة من الكرم .
والكرم في الأقوال والصفات والأعمال الكامل منها .
والكريم هو الذي فاق غيره في صفات الكمال المناسِبَة .
فكريم الرجال من فاق غيره في صفات الكمال ، هذا من جهة عموم اللغة .
عُرْفْ العرب يسمون الكريم الجواد ، يعني يقولون للجواد إنه كريم وذلك لأن من أعظم ما يحتاج إليه الناس في ذلك الزمن الأكل والشرب والإكرام بالضيافة ، وإلا فإن لفظة الكريم هو أن يفوق غيره في صفات الكمال .
يدخل فيه أن يفوق غيره في الجود وفي الإحسان وفي صدق الحديث وفي أداء الأمانة وفي البعد عن المظالم إلى آخر ذلك .
ولهذا وصف الله جل وعلا الملائكة بأنهم كرام { كِرَامًا كَاتِبِينَ } ووصف الزرع بأنه كريم { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } النبات كريم باعتبار أنه فاق غيره مما يُتصوَّر مما يخرج من الأرض ، يعني لو تصورت فاق غيره في الحسن والبهاء في صفاته ، فلو تأملت هذا النبات لوجدت له في صفاته عجباً .
فكما قيل في هذا إن الكريم الذي فاق جنسه أو تقول غيره في صفات الكمال المناسبة له .(2/367)
ومن أسماء الله جل وعلا الكريم لأنه جل وعلا فاق غيره في صفات الكمال ، فالخلق لهم صفات قد يشتركون فيها مع الله جل وعلا في أصل المعنى ، لهم منها ما يناسب ذاتهم الحقيرة الوضيعة ، لكن لله جل وعلا من هذه الصفات الكمال الأعظم المطلق الذي لا يعتريه نقص ولا يتطرق إليه عيب بوجهٍ من الوجوه .
فإذن مكارم الأخلاق يعني الأخلاق التي فاقت غيرها .
فالخلق الكريم هو الذي فاق غيره .
فأهل السنة يدعون في معاملتهم مع ربهم جل وعلا وفي تعاملهم مع الخَلْقْ إلى الخُلُقْ الذي فاق غيره
فإذا أنت كان عندك اختيار في ثلاثة أنواع من التصرفات مع الخَلْقْ ، فإذا تصرفت بأحسنها وأكملها وأرقها وأبلغها صلة بالخَلْقْ فإن هذا هو الخُلُقْ الكريم وهو الخُلُقْ الحسن كما جاء في الحديث الصحيح (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وفي رواية في الموطأ (إنما بعثت - أو نحوها - لأتمم حَسَنَ الأخلاق) فمكارم الأخلاق كانت موجودة فبُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق ، فيدخل في مكارم الأخلاق الصورة الباطنة من الإخلاص والأخلاق جميعاً الباطنة وكذلك الظاهرة في التعامل مع الخلق .
قال (وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ) يعني يأمرون بكل خلق حسن .
فكلما كان العبد أحسن خُلُقاً مع صحة العقيدة كلما كان أقرب إلى طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم .
وإذا تأملت طريقة الإمام أحمد وسفيان ووكيع ومالك والشافعي مع الناس وجدت عجباً ، فهم الخِيَرَةُ ، وإذا قرأت تراجمهم وجدت أنهم صَلُحُوا في عباداتهم وصَلُحُوا مع الخلق فأدَّوا ما يجب عليهم تجاه الله جل وعلا وتجاه عباده .
قال (وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ) محاسن الأعمال يعني في العمل الذي هو مع الله جل وعلا أو مع الخلق .
قال (وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا")(2/368)
ولهذا نقول من كَمَّلَ خُلُقَهُ الحسن ، من سعى في إكمال أخلاقه الظاهرة والباطنة فإنه يكون أكمل إيماناً ممن لم يُكَمِّلْ ذلك .
(أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا) وهذا يدل على أن إصلاح الصورة الباطنة وإصلاح الظاهر من جهة التعامل مع الناس فإن هذا من حُسْنْ الخُلُقْ وهذا يدل على أن حسن الخُلُقْ من أعظم أعمال الإيمان ، ولهذا كتب فيه جماعة منهم البيهقي في كتابه شُعب الإيمان ، فهو مبني على ذِكْرِ شعب الإيمان وأكثرها من جهة الأخلاق .
قال (وَيَنْدُبُونَ إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ)
يندبون أن يحضون ويأمرون بذلك على جهة الدعوة والحض والأمر بذلك ، يندبون ، يُرَغِّبُون في أن تصل من قطعك .
والذي يَصِلْ من قَطَعَهُ هو الواصل .
وأما الذي يَصِلْ من وصله وأما من قَطَعَهُ فإنه يقطعه فهذا قد عامل بالعدل ولم يَصِلْ كما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال (ليس الواصل بالمكافئ) يعني اللي يعمل مثل ما يعمل .... ، يقول والله عمل معي جاني بجيه ، تكلم في طيب بتكلم فيه طيب تكلم فيني قبيح بتكلم فيه قبيح .
هذا يسمى مكافئ ، ترد الشيء بمثله قال (ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصلها) ، ولقد جاءه عليه الصلاة والسلام رجل فقال (يارسول الله إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيؤون إلي ، قال إن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهُم المَلَّ سفَّاً) - الرماد الحار في وجوههم - لأنك ... وقد قال جل وعلا { وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى } وهذا في قصة أبي بكر مع قريبه الذي قطعه .(2/369)
والمقصود من ذلك أن صلة الرحم واجبة { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } ، وصلة الرحم تكون بصلة من قطع ، وقد جاء في مسلم وفي غيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (يُغْفَرُ لكل مؤمن في يوم الاثنين من كل أسبوع ويوم الخميس إلا رجل كانت بينه وبين أخيه خصومة فيقال أركوا هذين حتى يصطلحا ، انْظِرُوا هذين حتى يصطلحا)فكل خير في الصلة وكل شر في القطيعة .
والوصل يكون صلة الرحم وصلة المسلم بعامة ، فتصل من قطعك ، .... (1)
وإعطاء المسلم أخاه المسلم حقه ليس مبنياً أن ذاك يعطيك حقك ، لا بل تعطيه حقه لأن الله أوجب ذلك ولو حَرَمَكَ حَقَكَ .
ولهذا العلماء ذكروا في كتب الفقه المسألة المعروفة بمسألة الظَفَرْ ، وهو ظَفَرُ صاحب الحق بحقه هل يجوز له أن يأخذه ؟
يعني مثلاً واحد خذ منك ألف ريال فوجدت عنده ، جيته في بيته ، وجدت على الكرسي أو كذا ألف ريال وهو خذها منك ... ونحو ذلك فهل تأخذ منه بمثل ما أخذ ؟ تقول تسرقها وتأخذها وتضعها في جيبك ؟
قال عليه الصلاة والسلام (أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) فالأمانة تُؤدى وإذا ظفرت بمال لك فإن العلماء اختلفوا في ذلك تأخذه أو لا تأخذه على أقوال ، والتحقيق منها أن ما كانت دلائله ظاهرة بينة لا إشكال في ذلك جاز أخذه ، وأما إذا كان الأمر خفياً فإنه لا يجوز أخذه إلا عن طريق القاضي لأن الحقوق تقطع القطيعة وتُثَبِّتُ الصلة .
قال (وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ)
تعفو عن من ظلمك لأن العفو عن من ظَلَمْ هذا مُستحب .
__________
(1) 1 يوجد مسح(2/370)
من أخذ بالقصاص فلا بأس ، هذا عدل ولكن الإحسان بالعفو عن من ظلمك ، كما قال جل وعلا { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } وقال جل وعلا في آية الشورى { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } وهذا هو الأفضل أن يصبر المرء وأن يعفو عن من ظلمه وأن يعفو عن من أساء إليه وهكذا كان عليه الصلاة والسلام .
(تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ) الظلم قد يكون في البدن وقد يكون في العرض وقد يكون في المال ونحو ذلك.
،وهنا مسألة ننبه إليها لأنها تتعلق بالعفو عن من ظلم ، بمن اغتاب إخوانه أو اغتاب أحداً من أصحابه أو أحبابه أو أحداً من المسلمين من أئمتهم أو عامتهم من أهل العلم أو من غيرهم فإنه يُستحب له ويتأكد عليه أن يطلب التحليل .
يطلب أن يُحَلَلَ ، وهذه من السنن المغفول عنها كما جاء في البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال (من كانت عنده مظلِمة لأخيه - مظلِمة بكسر اللام ليست مظلَمة - من كانت عنده مظلِمة لأخيه في مالٍ أو عرضٍ فليتحلل منه اليوم ، قبل أن يكون يومٌ لا درهم فيه ولا دينار)
فالمستحب أن تتحلل ممن ظلمته في عرضه أو في ماله ، فتقول لأخيك أنا أخطيت في حقك حللني .
ويستحب أن يعفو من طلب منه التحليل عن من ظلمه فلا يستفصل منه ، فيقول ماذا قلت ؟ إيش قلت في ؟ وش اللي تعديت ؟ وش اللي صاير منك ؟
فيستحب لمن أتاه قال له حللني أن يقول له حللك الله وأباحك مما عملت والله جل وعلا يتولى جزاء من عفا عن من ظلمه .
فهذه من صفات المؤمنين ، ومن مات من أموات أهل التوحيد ، أموات أهل الإيمان فتقول له ، تقول حلله الله ، اللهم حلله ، لعله ينجو بذلك أو يخف عليه الحساب ، والمؤمنون يحب بعضهم بعضاً وإن كان المؤمن قد يغلط وقد يعصي وقد يحصل منه لكن قلب المؤمن على إخوانه فلا يحب أن تكثر عليهم الذنوب .(2/371)
أحياناً يكون الظلم عظيماً ، ورد القول السيئ بمثله جائز لكن ليس هو الأفضل كما قال الله جل وعلا { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } يعني من ظُلِمَ فإن الله جل وعلا أباح أن يُجْهَرَ له بالسيء من القول من جهة الجزاء .
لكن هل هو الأفضل ؟
لا ، الأفضل أن يعفو الرجل عن من ظلمه ، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (وما ازداد عبدٌ بعفوٍ إلا عزاً) فالذي يعفو لا يظن أنه ينقص بل هو يعتز يُظْهِرْ الله جل وعلا له مناراً لأنه تخلص من حظ نفسه وفعل ما ندبه الله جل وعلا إليه .
قال (وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ)
وبر الوالدين فرض وقطيعة الوالدين كبيرة من الكبائر قرنت بالشرك { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } والآيات في ذلك معلومة
وَصِلَةِ الأَرْحَامِ
ذكرنا بعض ما فيها .
وَحُسْنِ الْجِوَارِ
حسن الجوار أن تحسن إلى جارك ، والإحسان إلى الجار يشمل مرتبتين :
المرتبة الأولى أن تؤدي له حقه .
والثانية أن تكف الأذى عنه .
والجوار - يعني الجيران - الذين لهم حق حسن الجوار على مراتب :
" أعظمهم حقاً الملاصق ، وهذا الجار الملاصق هذا أعظمهم حقاً ، وقد جاء في الندب إلى حسن الجوار معه أحاديث كثيرة حتى جاء فيها قوله عليه الصلاة والسلام (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، هذه المرتبة الأولى ، الملاصق القريب منك ، ملاصق هنا أو هنا أو هنا ، يعني من الجهات ، هذا له حق .
" والمرتبة الثانية الجار الجُنُبْ ، الجُنُبْ يعني البعيد .
ما حد الجُنُبْ ؟
اختلف فيه السلف وهو ما ذُكِرْ في آية النساء { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ } .
الجار الجُنُبْ البعيد .
ما حده ؟
قال بعضهم سبعة أبيات ، يعني بيت ، سبعة أبيات من كل جهة ، هذا يُعتبرُون جيران جنب أمر الله جل وعلا ووصى بهم .(2/372)
قال آخرون أربعون داراً ، وقد جاء فيها حديث ولكنه ضعيف ، أربعون داراً يعني من كل جهة ، كل الجهات ، أربعون داراً من هنا ومن هنا ومن هنا ، هؤلاء يدخلون في الجار الجُنُبْ ، جار بعيد
" والثالث من الجيران جيران البلد ، من يساكنك في البلد التي أنت فيها ، ولو كان في طرف البلد وأنت في طرف البلد فإنه يسمى جاراً كما قال جل وعلا { ولا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً } فالذي يسكن معك في نفس البلد يعتبر جاراً ، فله حق الإحسان ، حسن الجوار ، لكن مراتب :
أولها أعظمها .
والثاني الجار الجنب متوسط وله حق عظيم أمر الله به .
والثالث من باب العموم وحسن الجوار للعامة .
القريب يعني المرتبة الأولى والثانية تنقسم أيضاً إلى مراتب بحسب الحق :
- إذا كان جاراً وصاحب رَحِمْ ومسلم صار له ثلاثة حقوق ، حق الجوار ، وحق الإسلام ، وحق الرَحِمْ .
- وإذا كان جاراً مسلماً ولي بذي رَحِمْ صار له حقان .
- وإذا كان جاراً وليس بمسلم ولا بذي رَحِمْ صار له حق الجوار .
وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام يزور بعض جيرانه اليهود ويرسل لهم من بعض الطعام ونحو ذلك ، فهذا فيه حق الجوار .
قال (وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)
لعلنا نمر عن هذه وتفاصيلها معلومة لديكم تطلبونها ولا شك أنها من المهمات أن تتطلب ما به يكون عملك مع الخلق على بَيِّنَةْ .
ما الذي يفرق بين طالب العلم وبين غيره ؟
غير طالب العلم قد يعمل الشيء بمقتضى سماعه ، بمقتضى فعله ، بمقتضى طبيعته ، بمقتضى عادته ، لكن طالب العلم يعمل الشيء وهو يتعبد به ، يعرف أنه مأمور به ، وهو يتحرك يعمل يتذكر ما فيه من الدليل ، يتذكر ما فيه من الأمر، يتذكر ما فيه من كلام أهل العلم فيعمله .(2/373)
لا شك لا يستوي هذا وذاك ، فلهذا تَطْلُبُ مكارم الأخلاق وأنواع هذه الأخلاق مما في النفس - يعني في القلب - أو في الباطن ، ومما يكون في التعامل مع الخلق ، وأحكام ذلك وتفاصيل المقام فيها ، نمر على هذه .
قال (وَالإِحْسِانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) اليتامى معروف أنهم هم من دون سن الإحتلام ممن مات من يعيلهم .
والمساكين ، يدخل فيه الفقراء ، من لم يجد حاجته .
وابن السيبل المنقطع .
وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ
المملوك هو الخادم يعني الرقيق ، العبد ، يُرْفَقْ به ولا يُكلف من العمل إلا ما يطيق ، يُعان عليه ويطعم مما يطعمه الإنسان ويكسى مما يكتسي منه ونحو ذلك .
وَيَنْهَوْنَ - هذا جانب المنهيات - وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ، وَالْخُيَلاءِ، وَالْبَغْيِ
الفخر والبغي متقاربان ، لكن الفخر يكون بذكر ما أنت عليه بحق ، يعني يكون فيك وتفخر بما أنت عليه بصدق .
والبغي فيه افتخار بالباطل ، شيء لست أنت عليه .
والفخر نوعان : منه ما هو مأذون به ومنه ما هو مذموم .
والمذموم هو الذي أراده شيخ الإسلام في هذا الموضع .
قال (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ) يعني الفخر المذموم ، وأما الفخر المحمود ، تَذْكُرُ ما أنت فيه على جهة بيان الأمر ، وذِكْرُ ذلك للناس كما قال عليه الصلاة والسلام (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وقال سعد (أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله) ونحو ذلك مما يُذْكَرُ فيه الأعمال الصالحة على جهة بيانها للخلق .
هذا إذا لم يكن على جهة الاستطالة على الخلق والترفع عليهم بفساد الباطن فإنه يكون محموداً ولا يصير من الفخر المذموم .
و الضابط في الفرق بين الفخر المذموم والفخر المحمود ، أن الفخر المحمود أن يذكر شيئاً تحدثاً بنعمة الله عليه ، هذه هي الصورة الأولى .(2/374)
الثاني لأجل أن يُقتدى به ، يذكر ذلك ليشجع على العمل ، أنا فعلت كذا وكذا ليشجع الناس عليه ، لكن باطنه منطو على كراهة الفخر والإستطالة على الخلق ، فإذا ذكر ذلك لأجل التحدث بنعمة الله أو لدلالة الخلق على الفعل فإن هذا لا بأس به ، كما ذكر ذلك العلامة شمس الدين ابن القيم وغيره .
أما الفخر المذموم فهو أن يذكر ذلك استطالة على الخلق وترفعاً عليهم .
وجاء تعريف الكِبِرْ بأنه (بطر الحق وغمط الناس) رفض الحق وغمط الناس والإستطالة والله جل وعلا { لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } .
قال بعض أهل العلم الفخر بالاستطالة والترفع والإختيال ليس محموداً إلا بحالين :
الحال الأولى الجهاد ، والثانية الصدقة .
فالاختيال في الجهاد ، يمشي بين الصفوف مختالاً يقابل العدو باختيال ، هذا مأذون به كما جاء في الحديث (إن هذه مشية يُبْغِضُهَا الله إلا في هذا الموطن) ، يعني مشية الخيلاء .
وكذلك الصدقة ، الفخر بالصدقة والفرح بها وإظهارها هذا ممدوح عند طائفة من أهل العلم .
قال (وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ)
الاستطالة على الخلق مذمومة بل الواجب على العبد أن يلين مع الخلق وأن يعتبر نفسه إن لم يرحمه الله جل وعلا هو أهون الخلق ، فلهذا لا يستطيل وينصف من نفسه .
قال (وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاَقِ،َ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَاِفِِهَا)
... سفساف الرذيل منها .
وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ؛ فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإسْلاَمِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
هذا فيه تنبيه على ما ذكرت لك أنهم في طريقتهم في باب الأخلاق إنما يتابعون فيه ما بعث الله به نبيه عليه الصلاة والسلام ، وهذا يفارقوا به أهل الضلال من الجفاة والغلاة .(2/375)
قال بعد ذلك (لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً؛ كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ. وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي"، صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ).
هذا المقطع فيه بحث أو عدة مباحث :
الأول أن حديث الافتراق المراد به أمة الإجابة لا أمة الدعوة ، فهذه الفرق ، الثنتين والسبعين فرقة ، هذه من أمة الإجابة ، وهم الفرق التي خالفت الجماعة الأولى ولم يحدث منها كفرقة مُكَفِرْ مخرج من الملة .
أخرج أهل السنة منها بالإجماع الجهمية ، لأن الجهمية الغلاة أتباع جهم الأوائل هؤلاء ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة أصلاً .
وأخرج طائفة من أهل العلم من المتقدمين و المتأخرين الرافضة الغلاة أيضاً من الثنتين والسبعين فرقة .
هذه الفرق الثنتين والسبعين ليست بكافرة خارجة عن الملة وقوله عليه الصلاة والسلام (كلها في النار) يعني متوعدة بالنار وليس محكوماً لها بالخلود في النار .
قال شيخ الإسلام وغيره من أئمة الإسلام ، قال (من ظن أن هذه الفرق خالدة مخلدة في النار كافرة فقد خالف إجماع السلف الصالح) والسلف الصالح لم يحكموا على هذه الفرق بأنهم كفار خارجون عن الملة .
ولهذا يغلط بعضهم فيقول (هذه الفرق النارية) ، هذه تسمية محدثة ، صحيح كلها في النار ، لكن كلمة النارية تحتمل أن تكون مخلدة في النار أو غير مخلدة ، وقد يكون ظاهر اللفظ أنهم مخلدون في النار ، ولهذا لا يصلح أن تقال هذه الكلمة ، بل يقال هذه الفرق في النار ، متوعدة بالنار ، خارجة عن طريق أهل السنة ، ضالة ونحو ذلك ، مبتدعة وبدعهم مختلفة متفاوتة .(2/376)
(كُلُّهَا فِي النَّار؛ إلاَّ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) الجماعة من هي ، جاء تفسيرها في الحديث الآخر .
قال (هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَومَ وَأَصْحَابِي) (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ) المثلية هنا في العلميات وفي العمليات ، يعني من جهة الإعتقاد ومن جهة السلوك والعبادة .
قال (صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإسْلامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) فأهل السنة والجماعة فئة واحدة ، فرقة واحدة ، طائفة واحدة ، وهم أهل الحديث وهم أهل الأثر ، وهم أتباع السلف الصالح رضوان الله عليهم ، وهذا شبه إجماع من السلف على أن أهل السنة والجماعة هم أهل العلم ، أهل الحديث ، أهل الأثر ، وما شابه ذلك من الكلمات الدالة على المراد .
غلط طائفة من أهل العلم من الحنابلة وغيرهم فقالوا الفرقة الناجية عبارة عن ثلاث فئات :
" الأولى : أهل الحديث .
" والثانية : الأشاعرة .
" والثالثة : الماتريدية .
كما قاله السفَّاريني في لوامع الأنوار البهية وقاله غيره من المتأخرين ، قالوا (الذي يشمله هذا القول الفرقة الناجية أو أهل السنة والجماعة هم أهل الحديث ، الأشاعرة ، الماتريدية) .
وهذا قولٌ باطل ، وغلط كبير لأن الأشاعرة والماتريدية من الفئات التي عليها الوعيد لمخالفتهم أهل السنة في :
1- أبواب التلقي ... ... ... ... ... 2 - منهج التلقي
3 - وتقديم النصوص على العقل لأنهم يقدمون العقل على النصوص
4 - كذلك في الصفات ... ... ... ... ... 5 - كذلك في الإيمان
6 - كذلك في القدر ... ... ... ... ... 7 - في مسائل أخر خالفوا أهل السنة
فليسوا من أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح ، بل هم من المبتدعة الضُلال .
وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ(2/377)
(الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءِ، وَالصَّالِحُونَ) ذكر هؤلاء الثلاثة لأجل آية النساء وهي قوله جل وعلا { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ } فالصديقون من أهل السنة والجماعة ، والشهداء الذين ماتوا على السنة ، على غير البدعة ، هؤلاء من أهل السنة والجماعة ، والصالحون القائمون بحقوق الله وحقوق الخلق هؤلاء من أهل السنة والجماعة .
وفي لفظ الصالحين ما يشمل القيام بحقوق الله ، ومن حقوق الله أن تكون في العلميات يعني في الأمور الإعتقادية على ما أمر الله جل وعلا به ، على ما جاء في النصوص ، فيخرج المبتدعة من وصف الصلاح ولو كانت جبهته فيها ... قد أثر فيها السجود ، أو كان يصوم النهار ويقوم الليل ، ما دام أنه على اعتقاد بدعي في الله جل وعلا فقلبه ليس بسليم .
فالعمل الصالح القليل مع اعتقاد سليم هذا أعظم ما يُتَقَرَبْ به إلى الله جل وعلا ، ولهذا جاء في أثر أبي الدرداء المعروف قال (يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم ، كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم ، ولمثقال ذرة من بر مع تقوى ويقين أعظم من أمثال الجبال عبادةً من المغترين) .
فالقصد القصد مع صلاح القلب في العقيدة ومتابعة السلف الصالح ونفي الزَغَلْ والدَغَلْ عنه وأن يحب لإخوانه المؤمنين ما يحبه لنفسه ، وأن يَسْلَمَ لسانه وتَسْلَمْ يده ويكون في عقيدته وفي عمله موافقاً للسلف الصالح هذا يزكو معه عمله ولو كان قليلاً ، والله جل وعلا أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ، لكن مع بدعة ومع ضلال هذا لا شك أنه على خطر .
قال (وَمِنْهُمُ أَعْلامُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الدُّجَى)
منهم يعني من أهل السنة أعلام الهدى ومصابيح الدجى .
يقصد بأعلام الهدى : الذين صاروا مُقْتَدىً بهم من الأئمة .(2/378)
ومصابيح الدجى : الذين يُؤْخذ قولهم ، فصارت أقوالهم محفوظة في الأمة ، فصاروا مصابيح في الظُلَمْ يُهتدى بأقوالهم ويُنظرُ في سيرهم فيقتفى أثرهم ، فلهم الأثر في الأمة بذلك .
قال (أُولو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ، وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ)
يعني مما هو مُسَطَرْ في كتب أهل العلم ، في ذكر مناقب الشافعي ، مالك ، سفيان ابن عيينة ، سفيان الثوري ، ابن أبي حاتم أو أبو حاتم ، أبو زرعة إلى آخر الأئمة والحفاظ البخاري ، مسلم ، أبو داوود ، النسائي وأمثال هؤلاء الأعلام ، فهؤلاء هم أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة ، وهكذا أئمة السنة والإسلام ، فمن نظر في سيرهم حَقَرَ نفسه معهم ، والنظر في سير وسير أئمة أهل السنة يعطيك رغبة في الإقتداء بهم ، ويعطيك رغبة في أن تنهج على نهجهم ، ويقويك ولو لم تكن في هذا إلا واحداً .
إذا نظرت في سيرهم ولو خالفك كثيرون أو الأكثرون فإنك تكون على بردٍ ويقين لأنه سبقك أئمة سنة وحق وهدى وقالوا ما قالوا ، فتمسك بأقوالهم وآثارهم فإن فيها النجاة لأنهم تابعوا من قبلهم.
ومن خصائص أهل السنة أنهم لا يتكلمون إلا بما أثروه عن من قبلهم ، فطريقتهم طريقة مأثورة يأخذها الخالف عن السالف ، يأخذها المتأخر عن المتقدم ،ليس فيها ابتداء ولا استئناف وإنما هي منقولة بالإسناد ، هذا ينقل عن هذا عمله ، وهكذا حتى وصل إلينا الدين اليوم كما ترون غضاً طرياً كما علمه الصحابة والتابعون ، فليس شيء من الدين ذهب ، بل هو محفوظ .
قال (وَفِيهِمُ - يعني في أهل السنة - الأَبْدَالُ)
والأبدال جمع بدل وهو لفظ جاء في بعض الأحاديث ، لكن لم يصح حديث في الأبدال على الصحيح وإن كان بعض أهل العلم صحح في الأبدال بعض الأحاديث .
والأبدال هم أهل الحديث وأهل الأثر وأهل السنة ، إذا ذهبت منهم طائفة أبدل الله جل وعلا بهم طائفة أخرى .(2/379)
فمفهوم كلمة الأبدال هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى تقوم الساعة) فـ (لا تزال طائفة) هذه الطائفة هم الأبدال .
وقيد بعض أهل العلم الأبدال بأنهم بعض الطائفة المنصورة ، بعض الفرقة الناجية ، وهم الصديقون والصالحون ، هم الأولياء المتقون .
فلفظ البدل إما أن يكون عاماً في الطائفة المنصورة ، الفرقة الناجية .
وإما أن يكون مخصوصاً به أهل التُقَى والزَكَى وهم الأولياء والصديقون والصالحون .
هناك ألفاظ مقارنة أيضاً ظهرت في الأمة : الأقطاب ، الأوتاد ، الغوث ونحو ذلك ، وهذه كلها ألفاظ محدثة وإحداثها كان في أول الأمر ليس مراداً به ما تشتمل عليه من المعاني الباطلة ، ثم استخدمت في المعاني الباطلة فعبد غير الله واستغيث بغير الله بهذه الألفاظ ، القطب الأكبر والغوث الأكبر ونحو ذلك مما فيه توجيه للعامة بالشرك بالله جل جلاله وتقدست أسماؤه .
قال (وَفِيهِمُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ)
في قوله (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ) إخراج من كان من أئمة الدين لم يجمع عليه المسلمون في هدايته في أبواب السنة والاعتقاد .
فأئمة الدين كُثُرْ ، من أئمة الحديث ، كأصحاب الكتب الستة ومالك والشافعي وأحمد والسفيانان ووكيع والأوزاعي وحماد بن سلمة ، وأشباه هؤلاء الأئمة وابن شهاب إلى آخره ، فهؤلاء هم أئمة الدين ، شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأئمة هذه الدعوة من لدن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى وأبنائه وتلامذته ومن أخذ بدعوته وأخذ بطريقته إلى زماننا هذا .
هؤلاء أئمة الدين أجمع المسلمون على هدايتهم .(2/380)
المقصود بالمسلمين هنا يعني أجمع أهل الحق على هدايتهم ، وإلا فإن لفظ الإسلام من حيث هو ، لفظ المسلم المتصف بالإسلام ليس مراداً هنا ، لأن المعتزلة ابتَلَوا الإمام أحمد ، فالإمام أحمد ليس مُجمعاً عليه بين الفرق الثلاثة وسبعين وإنما هو مجمع عليه بالنسبة للفرقة الناجية ، كذلك الشافعي ، كذلك مالك ، فأهل الاعتزال وأهل الضلال لهم خلاف في ذلك ، وهم منتسبون إلى الإسلام وباقون على اسم الإسلام .
فعُلِمَ بذلك أن قوله (أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ) المقصود هنا الخصوص لأن اللفظ العام قد يطلق ويراد به الخصوص ، هذا هو الظاهر .
قال (وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ؛ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)
يعني أن الفرقة الناجية وأهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة ، هذه ألفاظ اختلفت ولكن المعنى واحد ، المسمى واحد ليس مختلفاً ، فأهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية وهم الطائفة المنصورة .
ولفظ الفرقة الناجية ما جاء في النصوص وإنما فُهِمَ من قوله عليه الصلاة والسلام (كلها في النار إلا واحدة) قيل لهذه الواحدة فرقة ناجية باعتبار الفهم ، وإلا لفظ فرقة ناجية لم يرد في النصوص وأما الذي ورد الطائفة المنصورة (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة) ، والمنصورة والناجية طائفة واحدة بإجماع السلف الصالح فمن بعدهم من أهل السنة والجماعة بلا خلاف بينهم في ذلك ، وإنما هذه عبارات متنوعة .
قيل لهم فرقة ناجية باعتبار الآخرة ، نجوا من النار .(2/381)
وقيل لهم طائفة منصورة باعتبار الدنيا والآخرة في أنهم نُصِرُوا في الدنيا وسينصرون في الآخرة ، قال جل وعلا { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } فهم منصورون في الحياة الدنيا ومنصورون يوم يقوم الأشهاد ، وهم يوم القيامة ناجون .
فهذه أسماء اختلفت لكن المسمى واحد ، مثل أسماء السيف ، ومثل أسماء المطر ونحو ذلك ، تختلف الأسماء ، وأسماء الأسد ، باعتبار اختلاف الصفات .
سيف ، صام ، أبيض ، مُسْلِطْ ، مهند ، هو شيء واحد من جهة المسمى لكن صفته التي عُنِيَتْ بتغير الاسم هذا مختلف من جهة الصفة ، لكن من جهة المسمى واحد .
كذلك الأسد أسماؤه المختلفة المسمى واحد ، وهو الحيوان المعروف ، وكذلك المطر إذا قلت مطر أو قلت غيث أو قلت طل أو نحو ذلك هو ما ينزل من السماء لكن باختلاف صفته .
كذلك اسم الفرقة الناجية ، الطائفة المنصورة ، أهل السنة والجماعة ، أهل الحديث ، أهل الأثر ، أهل العلم ، كلهم شيء واحد يراد به من كان متبعاً في الاعتقاد ما كان عليه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وخرج في صغير الأمر وفي كبيره عن قول المخالفين للجماعة الأولى .
قال في آخر هذه الرسالة العظيمة المختصرة الجامعة :
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ
وهذا فيه عدم التزكية للنفس فإن شيخ الإسلام مع ما قرَّرَ من هذه العقائد ، ومع ما هو معلوم من جهاده وعِظَمِ مقامه في هذا الدين ونشر اعتقاد السلف الصالح ، لكنه يرجو .
وهذا هو الواجب على المسلم ، الواجب على المؤمن الموحد يسعى في أسباب النجاة ، في أسباب الاعتقاد الصالح ويسأل الله جل وعلا أن يجعله من الطائفة المنصورة ومن الفرقة الناجية مع سعيه في أسباب ذلك ولا يزكي نفسه فإن الله جل وعلا أعلم بالمتقين ، قال { فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } .(2/382)
فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا منهم وأن يُلْزِمنا كلمتهم وأن يبصرنا بأقوالهم وأن يمن علينا بالاهتداء بهديهم .
اللهم نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العلى وباسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت ، أن تميتنا على اعتقاد الصحابة رضوان الله عليهم ، وأن لا تميتنا إلا وأنت راض عنا ، اللهم من كان منا مقصراً فاغفر له واهده سبيل الرشاد ومن كان منا عاصياً فاغفر له ذنبه ومُنَّ عليه بالتوبة النصوح ، ومن كان منا فيه قصور من جهة اعتقاده أو من جهة عمله اللهم فهيئ له أسباب كماله ، اللهم نسألك وأنت الكريم الجواد ألا تجعلنا من الخائبين ولا من الذين يكون آخر عملهم أقبح من أوله وأن تجعل آخر أعمالنا خيراً من أوائلها .
نسألك أن تمن علينا بتوبة نصوح من كل شيء لا يرضيك قبل الممات .
الله نسألك ثباتاً على الاعتقاد ومتابعةً لسلف هذه الأمة وأن تُخَلِصَ قلوبنا من الغش ، وأن تُخَلِصَ أعمالنا من الرياء وأن تجعلنا راغبين في الآخرة متجانبين عن دار الغرور .
قال رحمه الله تعالى (نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لاَ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا)
الله لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا ، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، لا خير إلا خيرك ، لا حول لنا ولا قوة إلا بك ، نحمدك والحمد لك والفضل لك والنعمة لك على أن تفضلت علينا بسماع هذا العلم وبإفادته وبالبذل فيه فأنت ولي ذلك ، اللهم تقبل ذلك منا ، اللهم تقبله من القائل ، وتقبله من المستمع ، واغفر لشيخ الإسلام الذي أفادنا بذلك ، الله صل وسلم على معلم الناس الخير محمد بن عبدالله كِفَاءَ ما علم وكِفَاءَ ما أرشد , الله وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته .
اللهم وارض عن صحابة نبيك عليهم رضوانك اللهم ارض عنهم وأَرْضِي عنهم ، اللهم اغفر لإخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.(2/383)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
نترك إجابة الأسئلة للدرس القادم إن شاء الله .
وحبذا لو تكررون هذه الرسالة مع شرحها ، وأنفس الشروح لها فيما اطلعت ، كتاب التنبيهات السنية للشيخ عبدالعزيز بن رشيد رحمه الله تعالى .
كتاب نافع ، نافع للغاية ، جامع كل علم ، مسائله كلها فيها فائدة ، فيه من الضوابط والقواعد والإفادات الشيء الكثير .
وطالب العلم لا يترك الواسطية وشروحها بل دائماً يمر عليها مرة تلو أخرى .
وأسأل الله جل وعلا لي ولكم القبول ، وأستودعكم الله .
انتهى الشريط الثلاثون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الفهرس
العنوان ... الصفحة
الشريط الأول ... 1
عقيدة الفرقة الناجية ... 5
الشريط الثاني ... 26
الشريط الثلث ... 49
الشريط الرابع ... 74
الجمع بين النفي والإثبات في وصفه تعالى ... 78
الشريط الخامس ... 97
الجمع بين علوه وقربه وأزليته وأبديته ... 106
إحاطة علمه بجميع مخلوقاته ... 121
الشريط السادس ... 124
إثبات السمع والبصر لله سبحانه ... 132
إثبات المشيئة والإرادة لله سبحانه ... 137
الشريط السابع ... 151
إثبات محبة الله ومودته لأوليائه على ما يليق بجلاله ... 161
الشريط الثامن ... 174
ذكر رضى الله وغضبه وسخطه وكراهيته وأنه متصف بذلك ... 178
ذكر مجيء الله لفصل القضاء بين عباده على ما يليق بجلاله ... 195
الشريط التاسع ... 202
إثبات الوجه لله سبحانه ... 210
إثبات اليدين لله تعالى ... 218
إثبات العينين لله تعالى ... 224
الشريط العاشر ... 228
إثبات السمع والبصر لله سبحانه ... 233
إثبات المكر والكيد لله تعالى على ما يليق به ... 247
وصف الله بالعفو والمغفرة والرحمة والعزة والقدرة ... 249
الشريط الحادي عشر ... 251
إثبات الاسم لله ونفي المثيل عنه ... 257
نفي الشريك عن الله تعالى ... 265
إثبات استواء الله على عرشه ... 275
الشريط الثاني عشر ... 279
إثبات علو الله على مخلوقاته ... 293
إثبات معية الله لخلقه ... 298(2/384)
الشريط الثالث عشر ... 305
إثبات الكلام لله تعالى ... 309
إثبات تنزيل القرآن من الله تعالى ... 320
إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ... 331
الشريط الرابع عشر ... 333
فصل في أسماء الله وصفاته في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ... 345
الشريط الخامس عشر ... 357
ثبوت النزول الإلهي إلى السماء الدنيا على ما يليق بجلاله ... 359
إثبات أن الله يفرح ويضحك ويعجب ... 363
إثبات الرجل والقدم لله سبحانه ... 376
إثبات النداء والصوت والكلام له سبحانه ... 379
الشريط السادس عشر ... 387
إثبات معية الله لخلقه وأنها لا تنافي علوه فوق عرشه ... 394
إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ... 402
موقف أهل السنة من الأحاديث التي فيها إثبات الصفات الربانية ... 405
مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة ... 408
الشريط السابع عشر ... 417
وجوب الإيمان بالاستواء والمعية وأنه لا تنافي بينهما ... 421
الشريط الثامن عشر ... 430
وجوب الإيما بقرب الله من خلقه وأن ذلك لا ينافي علوه وفوقيته ... 431
وجوب الإيمان باليوم الآخر وما فيه ... 444
الشريط التاسع عشر ... 454
حوض النبي صلى الله عليه وسلم ومكانه وصفاته ... 471
الصراط : معناه ومكانه وصفة مرور الناس عليه ... 479
الشريط العشرون ... 481
القنطرة بين الجنة والنار ... 484
شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم ... 487
إخراج الله بعض العصاة من النار برحمته وبغير شفاعة ... 493
شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم - 2 - ... 498
إخراج الله بعض العصاة من النار برحمته وبغير شفاعة - 2 - ... 529
الشريط الحادي والعشرون ... 512
الإيمان بالقدر ومراتب القدر ... 513
الشريط الثاني والعشرون ... 536
حقيقة الإيمان وحكم مرتكب الكبيرة ... 548
الشريط الثالث والعشرون ... 563
الواجب نحو الصحابة وذكر فضائلهم ... 570
الشريط الرابع والعشرون ... 589
منزلة أهل البيت النبوي عند أهل السنة والجماعة ... 595
تبرؤ أهل السنة والجماعة مما يقوله أهل البدع والضلالة في حق الصحابة وآل البيت ... 605
الشريط الخامس والعشرون ... 614(2/385)
موقف أهل السنة والجماعة من كرامات الأولياء ... 624
الشريط السادس والعشرون ... 638
صفات أهل السنة والجماعة ... 654
الشريط السابع والعشرون ... 660
قضايا كلية ... 678
الشريط الثامن والعشرون ... 684
الشريط التاسع والعشرون ... 706
الشريط الثلاثون ... 728(2/386)