شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الشريط الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه و خليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .
أما بعد ، فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح وأن ينور بصائرنا بالعلم والهدى وأن يقيم أعمالنا بدين الحق الذي أرسل به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذا الدرس الذي أسأل الله جل وعلا أن يتممه ، ألا وهو شرح هذه العقيدة الواسطية التي ألفها شيخ الإسلام والمسلمين علم الدين وتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الإمام المعروف المتوفى سنة 728 رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة ، كتب هذه العقيدة إلى أهل واسط يبين لهم فيها اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة أهل السنة والجماعة من سلف هذه الأمة ومن تبعهم على هذا الاعتقاد إلى وقته رحمه الله تعالى.
وهذه الرسالة على وجازتها واختصارها قد اعتنى بها العلماء بعد شيخ الإسلام رحمه الله لأنها قد شملت من أصول عقائد أهل السنة والجماعة على الخلاصة الوافية .
فقد ذكر فيها رحمه الله كل أصول الاعتقاد .
ذكر فيها شرح أركان الإيمان الستة .
وذكر فيها ما يجب لله جل وعلا من صفات الكمال وما يوصف الله جل وعلا به والأصل في ذلك ، ومخالفة المبتدعين والضالين في باب الأسماء والصفات ، وذكر ما يتصل بذلك من الأمور الغيبية وذكر ما يتصل بذلك من الإيمان بالأمور الغيبية والإيمان بالكتب والرسل وبالقدر خيره وشره .(1/1)
وبين أن من أصول أهل السنة والجماعة الأحكام المتعلقة بالإمامة العظمى وكذلك بما يجب لولاة الأمر من حق السمع والطاعة مخالفة للخوارج وأشباههم ممن خالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك وذكر اعتقاد السلف الصالح في صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأن ذلك من الواجبات الشرعية الاعتقادية لأن فيه مخالفةً لأهل البدع من الروافض ومن شابههم الذين لا يتولون جميع أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وذكر أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وذكر أحكام أو أصول الأخلاق عند أهل السنة والجماعة ، وبهذا الذي ذكره في هذه الرسالة العظيمة المختصرة يتبين أن اعتقاد أهل السنة والجماعة يشمل أصول :
الأول العقيدة العامة في الله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره .
ثم مسائل الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هذا هو الثاني ، والكلام في ما يتصل بذلك من الكلام في الصحابة رضوان الله عليهم .
ثم الثالث ، الأصل الثالث من أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة : الكلام في أخلاق أهل السنة والجماعة
وهذه هي الأمور الثلاثة التي فَصَّلَ فيها شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الرسالة العظيمة
وهذه الرسالة وجيزةٌ ألفاظها لكن هي مدرسةٌ للعلم باعتقاد أهل السنة والجماعة ومنهج أهل السنة والجماعة .
وذلك الاعتقاد تفصيله في كتب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى . فكتب شيخ الإسلام رحمه الله تعد شرحاً لهذه العقيدة الواسطية .
فأحسن شرح لهذه ما نثره شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه وفصَّله وبيَّنه من أصول هذا الاعتقاد .
و كذلك تلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى . إذ لا أحسن في فهم كلام شيخ الإسلام من شرحه هو نفسه في مصنفاته الأخرى . وكذلك في فهم تلميذه ابن القيم رحمه الله جل وعلا .(1/2)
هذه الرسالة لها شروح كثيرةٌ كما هو معلوم ، هذه العقيدة المباركة لها شروحٌ كثيرة ، ومن أعظمها نفعاً وأدقها لفظاً:
الشرح المسمى بـ (التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية) للشيخ العلامة عبدالعزيز ابن رشيد رحمه الله تعالى . فإن هذا الشرح من أنفس شروح هذه العقيدة الواسطية . فقد بين من مسائل هذه العقيدة ومن ألفاظها ما يكفي طالب العلم في هذا الباب أعني باب الاعتقاد . لأنه ذكر فيها من العلم الواسع الغزير ما لو اكتفى به طالب علم في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة لكفاه . ولهذا أحض - من أراد شرحاً لهذه العقيدة - على هذا الكتاب . ألا وهو (التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية) للشيخ ابن رشيد رحمه الله تعالى .
من المقدمات المهمة قبل الشروع في شرحٍ لهذه العقيدة أن نبين أن هذه العقيدة المباركة وكذلك سائر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية بيَّن فيها عقيدة السلف وفصَّل فيها ما ذكره السلف في كتبهم من الاعتقاد.
وكتب شيخ الإسلام تتميز على كتب السلف يعني من كتب أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم ومن تلاهم زمناً تتميز هذه العقيدة وسائر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية عن تلكم الكتب الكثيرة في الاعتقاد بمزايا منها :
" أن شيخ الإسلام رحمه الله قد فهم ما قاله الأئمة من قبل ، فصاغه بصياغةٍ تجمع أقوالهم بأدلتها وببيان معانيها فهو خير من فهم كلام الأئمة من قبل .
" ومن مزاياه ، أعني مزايا كلام شيخ الإسلام في الاعتقاد : أنه - رحمه الله تعالى - قد بلغ في فهم نصوص الكتاب والسنة المبلغ والدرجة التي شهد له بها أهل عصره ومن تلاهم . ومن المعلوم أن أدلة الاعتقاد هي نصوص الكتاب والسنة . ثم هو مع هذا اطلع على كلام الصحابة وكلام التابعين ومن تبعهم في تفسير معاني نصوص الكتاب والسنة . ولهذا كلام شيخ الإسلام في بيان معاني الكتاب والسنة يُعد أحسن كلامٍ للعلماء المتأخرين يعني بعد الأئمة المشهورين .(1/3)
" ومن مزايا كلام شيخ الإسلام وهذه العقيدة أيضاً أن شيخ الإسلام استحضر حين كتابتها أقوال أهل البدع والمخالفين وحججهم فهو يذكر ما يذكر من الاحتجاجات مستحضراً تلك الأقوال وتلك الاعتراضات من أهل البدع أو تلكم الأقوال المنحرفة من أهل البدع على اختلاف أنواعهم ، ومعلومٌ أن حال الكاتب أو المؤلف الذي يؤلف وهو على هذه الدرجة العظيمة من الاستحضار أن كلامه يكون مُنبئاً عن ما يكون فصلاً في هذه المسائل .
" ومن مميزات هذه العقيدة وكذلك سائر كتب شيخ الإسلام رحمه الله : أن شيخ الإسلام أوضح فيها كثيراً من المجملات التي ربما كانت في كلام السلف . فقد تجد في كلام المتقدمين من أهل القرون المفضلة كلاماً في الاعتقاد ربما أُجْمِلَ في مواضع وَفُصِّلَ في مواضع وشيخ الإسلام يستحضر هذا وذاك ويذكر الكلام المجمل والمفصَّل كُلٌّ في مكانه ويوضح ذلك . بحيث إن من فهم كلام شيخ الإسلام وفهم كتب شيخ الإسلام رحمه الله ثم بعد فهمه لذلك وبراعته فيه رجع إلى كتب السلف فإنه يفهمها فهماً مصيباًَ على ما ينبغي . وأما من ترك التفقه في كتب شيخ الإسلام رحمه الله فربما زلَّ في فهمه لبعض كلام السلف وكلام الأئمة . لأن بعضهم ربما وقع في كلامه إجمال أو وقع في كلامه رعاية لحال السائل أو نحو ذلك من الأسباب التي لا يمكن المُجيب معها أن يفصِّل التفصيل المطلوب.
لهذا نقول إن العناية بهذه العقيدة مما حث عليه العلماء قديماً وحديثاً . فلا غرو أن أوصي إخواني وفقهم الله تعالى للخير بهذه العقيدة وبفهم ألفاظها ومعاني الألفاظ ومعاني ما فيها من الأدلة والاستدلال والحجج ، لأن فيها خيراً عظيماً.
عقيدة الفرقة الناجية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمْدُ للهِ الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا.(1/4)
وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا مَزِيدًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابتدأ رحمه الله هذا الكتاب وهذه الرسالة بالثناء على الله ، بأنه هو المستحق لجميع أنواع المحامد لأن كلمة الحمد كما سبق أن أوضحت في غير هذا الدرس هي مكونةٌ من الألف واللام التي تدل على استغراق الجنس أو الأجناس .
ويكون معنى الحمدُ معناه جميع أجناس المحامد هي لله جل وعلا استحقاقاً .
فقوله (الحمْدُ للهِ) أفادنا أن كل أنواع المحامد لله جل وعلا .
وقد ذكرت لك فيما مضى أن أنواع المحامد لله جل وعلا كثيرة تجتمع في خمسةٍ وهي:
" حمده جل وعلا على تفرده بالربوبية دون مشاركٍ له فيها وآثار الربوبية في خلقه أجمعين .
" حمده جل وعلا على كونه ذا الألوهية على خلقه أجمعين وأنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه .
" حمده جل وعلا على ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا .
" حمده جل وعلا على شرعه وأمره ودينه .
" حمده جل وعلا على قضائه وقدره وما أجرى في كونه .
هذه هي أنواع المحامد ، أو جِماع أنواع المحامد ، وقد مرت بك مفصلةً في أول شرح زاد المستقنع في الأسبوع الماضي .
وقوله هنا لله اللام هنا للاستحقاق ، فإذا كان ما قبل اللام من المعاني لا من الأعيان فإنها تفيد الاستحقاق ، وقد يكون مع الاستحقاق المِلْكْ .
والله جل وعلا له جميع أنواع المحامد استحقاقاً يستحقها ، وهو جل وعلا مالكٌ لها ، فله جميع المحامد مِلكاً واستحقاقاًَ ، مُلكاًَ له و استحقاقاً له جل وعلا ، وقوله هنا:(1/5)
الَّذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
هذا اقتباس من آية في آخر سورة الفتح وهي قوله تعالى { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً }
و(الهُدَى) هو العلم النافع مما جاء في الكتاب والسنة .
فالله جل وعلا أرسل رسوله بالهدى وهو العلم النافع سواءٌ في ذلك ما كان من باب الأخبار وهي أبواب الاعتقاد ، أو من باب الأمر والنهي ، وهذا كله العلم النافع الذي يورث الهدى ، وهو هدىً في نفسه يعني مرشداً ودالاًّ على الطريق التي هي أقوم ، وكذلك يورث الهدى الكامل في الدنيا وفي الآخرة .
وأما (دِينِ الْحَقِّ) فقد فسرها السلف بأنها العمل الصالح ، الأعمال النافعة .
الأعمال الصالحة للمؤمن في نفسه وللناس في أنفسهم ، وكما يقال : للمجتمعات وللأمم بأجمعها .
فالله جل وعلا أرسل رسوله بالهدى بالعلم النافع وبدين الحق الذي هو العمل الصالح .
وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا
كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا على ما ذكر ، فالله جل وعلا شهد بأن ما بعث به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو الهدى وهو دين الحق .
وشهادة الله جل وعلا فوق كل شهادة ، إذ لا أعلم من الله ، ولا شاهد يُكتفى به إلا الله جل وعلا في هذه المسائل العظيمة أو ما أوحى به إلى رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فمن أتته شهادة الله جل وعلا كفى بها شهادة .
إذا كذلك فمن المتقرر أن نصوص الكتاب والسنة التي وُصِفت في هذه الآية بأنها الهدى قد اشتملت على أنواع الأخبار التي هي في الأمور الغيبية عن الله جل وعلا وعن أسمائه وصفاته وعن ما يكون في يوم المعاد من الأمور الغيبية .
وإذا كانت هذه النصوص في هذه الأمور الخبرية وكذلك ما أخبر به النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في هذه الأمور قد وصفها الذي يُكتفى بشهادته بأنها هدى .(1/6)
فيُعلم منه أن من لم يرضَ بكون هذه النصوص وما دلت عليه الهدى الكامل والشفاء الكامل فإنه يتضمن ذلك بأنه لم يكتفِ بشهادة الله جل وعلا .
وهذا هو ما صنعه الذين سلكوا مسلك البدع من أنواع الفرق كالخوارج والمرجئة والقدرية والمعتزلة والجهمية والأشاعرة والماتريدية فإن كل فرقةٍ من هذه الفرق لم ترتضِ نصوص الكتاب والسنة ولم تجعلها كافية بل أعملت في ذلك إما بعقولها أو بأقيسةٍ ضالة .
فمن أخذ بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة ، وهي القاعدة العظيمة في الاعتقاد ، لأننا لا نتجاوز في الاعتقاد القرآن والحديث كما قال الإمام أحمد بهذا الأصل ، قال (نُمِرُّها كما جاءت) - أي بنصوص الصفات - لا نتجاوز القرآن والحديث .
يعني لا نتأول كما تأول المتأولة ولا نعطل كما عطل المعطلة ولا نُشبِه أو نمثل كما مَثَّلَ المجسمة أو مَثَّلَ الممثلة ، وإنما لا نتجاوز القرآن والحديث ، وذلك لأن أهل السنة قد اكتفوا بشهادة الله جل وعلا في هذه الآية بأن ما أرسل به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو الهدى وهو دين الحق ، فقبلوه ولم يتجاوزوا القرآن والحديث ، قال بعد ذلك :
وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا.
وهذه تحتاج إلى شيءٍ من التفصيل ، وذلك أن قوله هنا وأشهد هذه الشهادة معناها الاعتراف والإقرار الذي يتبعه إعلامٌ وإخبار.
لأن الشهادة تشمل : اعتقاد القلب وإخبار اللسان .
فمن اعتقد بقلبه دون أن يتكلم بلسانه لم يُعد شاهداً .
ومن تكلم بلسانه - كحال المنافقين - ولم يعتقد بقلبه لم يكن شاهداًَ بما دلت عليه كلمة التوحيد.
إذن الشهادة في قوله وأشهد يعني اعتقد وأعترف وأقر لله بأنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه وأخبر وأعلن بذلك بأن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة دون ما سواه .(1/7)
وهذا هو الذي فسر به قوله تعالى { شَهِد َ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
(شهد الله) يعني أعلم وأخبر .
(والملائكة) شهدوا بذلك ، أعلموا وأخبروا بذلك واعتقدوا ذلك .
(وأولوا العلم) من خلقه شهدوا ذلك بمرتبتين :
- مرتبة الاعتقاد ... ... - ومرتبة القول .
قال (وأَشْهَدُ أَن لاَّ إلَهَ إِلاَّ اللهُ) و أن ها هنا هي التفسيرية وضابطها أنها هي التي تأتي بعد كلمةٍ فيها معنى القول دون حروف القول كأشهد و نادى و أوحى و قضى و أمر و وصى ونحو ذلك .
فأن إذا أتت بعد هذه الألفاظ أو نحوها مما فيه معنى القول دون حروف القول هي التفسيرية ، لأن ما بعدها يفسر ما قبلها كالتي جاءت في قول الله جل وعلا { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً } الآية.
لا إله إلا الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وهذه الكلمة هي كلمة التوحيد ولها ركنان :
- النفي ... ... ... - والإثبات
النفي المستفاد من قوله لا إله ، والإثبات المستفاد من قوله إلا الله.
النفي نفي استحقاق العبادة عن كل أحد ، وإثبات استحقاق العبادة لله جل وعلا .
فركنا هذه الكلمة النفي والإثبات .
فمن نفى ولم يثبت لم يكن قد أتى بهذه الشهادة بهذه الكلمة على صحتها إذ أتى بركنٍ ولم يأتي بالثاني .
وكذلك من أثبت ولم ينف ، فإنه لم يأتي بما دلت عليه هذه الشهادة .
فلا بد أن يجتمع في حق الشاهد أنه ينفي استحقاق العبادة عن أحدٍ ، ويثبت استحقاق العبادة لله جل وعلا وحده دون ما سواه .
والمشركون كانوا يثبتون ولا ينفون .(1/8)
يقولون إن الله جل جلاله مستحقٌ للعبادة ، فهو مستحقٌ لأن يُعبد ، لكنهم لا ينفون ، ولهذا لما قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما قال لأبي طالب قل كلمة أحاج لك بها عند الله فأبى أن يقول ، فقال للمشركين ذلك ، فقالوا نقول عشر كلمات ، فلما قال لهم قولوا لا إله إلا الله أبوا ذلك لأنهم يعلمون أنه لا يصلح الإقرار بهذه الكلمة إلا بالجمع بين بالنفي والإثبات وهم إنما يثبتون لله جل وعلا أنه معبود وأنه يُعبد لكن ينفون كونه جل وعلا أحداً في استحقاقه العبادة
قال سبحانه { إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ { 35 } وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } وقال جل وعلا في سورة ص مخبراً عن قولهم { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً }
وهذا هو الذي صنعه المشركون فيما بعدهم من مشركي هذه الأمة فإنهم أتوا بركنٍ من ركني كلمة التوحيد ألا وهو الإثبات .
قالوا إن الله جل جلاله مستحقٌ للعبادة لكن قالوا يمكن أن يكون معه من يستحق شيئاً من أنواع العبادة لكن لا على وجه الأصالة ولكن على وجه الواسطة.
وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها ، وهي أنَ كلمة التوحيد لها ركنان :
- ركن النفي ... ... ... - وركن الإثبات
أما معناها فإن معنى الإله في قوله لا إله هو المعبود عن محبةٍ وتعظيم .
لأن مادة أَلَهَ في اللغة التي جاء ت والتي جاء بها القرآن معناها العبادة .
ألَهَ بمعنى عَبَدَ مع المحبة والتعظيم و الأُلُوهة العبادة مع المحبة والتعظيم .
فـ الإله هو المعبود مع المحبة والتعظيم .
ويدل له من قول العرب قول الشاعر في رجزه المشهور :
لله دَرُّ الغانيات المُدَّهي ... سبَّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ من تَأَلُّهِ
يعني من عبادة وعليه قراءة ابن عباس في آية الأعراف في قوله تعالى (ويذرك وإلهتك) يعني وعبادتك .
فإذن معنى الإلهة و الألوهة في كلام العرب العبادة مع المحبة والتعظيم .(1/9)
وهذا ينبئ ويثبت أن قول الأشاعرة والماتريدية والمتكلمين في معنى الإله أنه قولٌ باطل حيث انهم قالوا إن معنى الإله هو القادر على الاختراع .
الإله عند المتكلمين ومن حذا حذوهم ونحا نحوهم من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم يقولون الإله هو القادر على الاختراع .
وهذا هو معنى الرب وأما الإله فليس فيه معنى الخلق ولا القدرة على الخلق ولا القدرة على الاختراع وإنما فيه معنى العبادة .
ويقول آخرون من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم إن الإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه ما عداه
كما قالها السنوسي في عقيدته المشهورة التي يسميها أصحابها أم البراهين يقول فيها ما نصه :
يقول (فالإله هو المستغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه ، فمعنى لا إله إلا الله -هذا من تتمة كلامه- لا مستغنياً عما سواه ولا مفتقراً إليه كل ما عداه إلا الله) .
ففسر الألوهية بالربوبية ، وهذا من مناهج المتكلمين ومن عقيدة أهل الكلام إذ أنهم يفسرون الإله بالرب.
يفسرون الألوهية بالربوبية ، وعلى هذا - عندهم - من اتخذ مع الله جل وعلا إلهاً آخر يعبده يرجوه يخافه يدعوه يستغيث به ينذر له يذبح له فإنه لا يكفر بذلك عندهم لأنه لم يخالف ما دلت عليه كلمة التوحيد إذا كان معتقداً - عندهم - بأن الله جل وعلا هو المتفرد وحده بالقدرة على الاختراع وبالاستغناء عما سواه وبافتقار كل شيء إليه جل وعلا .
فإذن معنى لا إله ليس معناها الربوبية ، وإنما معناها لا معبود ، وخبر لا النافية للجنس محذوف .
والعرب تحذف خبر لا النافية للجنس إذا كان المراد مع حذفه ظاهراً واضحاً لا إشكال فيه .
وهذا على ما قال ابن مالك - رحمه الله - في الألفية يقول :
وشاع في ذا الباب (يعني باب لا النافية للجنس) :
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر ... إذا المراد مع سقوطه ظهر
وهنا في قوله لا إله إلا الله ، ما خبر لا ؟
لم يُذكر لأنه معروف .(1/10)
لأن المعركة بين الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ومن بُعِثَ إليهم كانت معروفة أنها لم تكن في نفي آلهة موجودة ، وإنما كانت في نفي استحقاق شيء من هذه الآلهة للعبادة .
ولهذا قَدَّرَ أهل العلم الخبر المحذوف بأنه كلمة حق .
لا إله حقٌ إلا الله ، أو لا معبود بحقٍّ إلا الله .
ومعنى ذلك أن كل معبودٍ سوى الله جل وعلا فإنه معبودٌ بغير الحقِّ ، معبود بالباطل بالبغي بالظلم بالعدوان ليس بحق ، وإنما المعبود بحق هو الله جل وعلا .
ثم قال إلا الله و إلا هذه إما أن تكون أداة حصر ، وإما أن تكون أداة استثناء ملغاة .
ولفظ الجلالة بعدها بدل من لا مع اسمها لأنه في محل رفع بالابتداء .
تحقيق لا إله إلا الله بألا يعبد إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله وشهد بها يحققها إذا لم يعبد إلا الله جل وعلا .
لم يتوجه بشيءٍ من أنواع العبادة إلا إلى الله جل وعلا .
لهذا نقول تحقيق الشهادتين يكون بتحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله :
- وتحقيق الأولى بألا تعبد إلا الله جل وعلا .
- وتحقيق الثانية بألا يُعبَد الله إلا بما شرعه رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
قال هنا (وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ) وهذا من التأكيد بعد التأكيد .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري على قوله وحده لا شريك له ، قال تأكيدٌ بعد تأكيد لبيان مقام التوحيد ، وأن الله جل وعلا في استحقاقه العبادة وحده لا شريك له في ذلك .
قال فهنا لا شريك له وأنواع ادعاء الشريك كثيرة ومجملها :
- أن اِدُّعِيَ له الشريك له في ربوبيته ، وأن ثَمَّ ظهير معه يُصَرِّفُ معه الأمر .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في استحقاق العبادة .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في أسمائه وصفاته على وجه الكمال .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في الأمر والنهي في التشريع .
- واِدُّعِيَ أن معه شريك في الحكمة التي قضاها في كونه كما يقول الفلاسفة ونحوهم .(1/11)
إذن أنواع الاشتراك التي اِدُّعِيَ أن ثَمَّ من يشارك الله جل وعلا فيها وهذه الخمسة هي جِماعُها .
لا شريك له
قال بعدها (إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا) الإقرار هو الإذعان والتسليم والاعتقاد بذلك .
إقراراً به يعني بأنه وحده لا شريك له .
وتوحيدا التوحيد مصدر وحد يوحد .
وقد جاء استعمالها في السنة فقد جاء في بعض طرق حديث ابن عباس أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال (إنك تأتي قوماً أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله) رواه البخاري في صحيحه وغيره .
فكلمة التوحيد لا إله إ لا الله محمد رسول الله ، قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (إلى أن يوحدوا الله)
فمن دعا إلى توحيد الله فمعنى ذلك أنه يدعو إلى تحقيق الشهادتين .
وكذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما أَهَلَّ بالحج قال الراوي أَهَلَّ رسول الله -صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ - بالتوحيد ، كان أهل الشرك يهلون بكذا وكذا وأهل رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالتوحيد .
إذن كلمة التوحيد موجودة في السنة ومستعملة ، ودين الإسلام هو دين التوحيد .
والتوحيد أربعة أنواع :
توحيد الله ثلاثة أنواع ، وهي :
" توحيد الربوبية .
" وتوحيد الألوهية .
" وتوحيد الأسماء والصفات .
قسمها العلماء إلى هذه القسمة الثلاثية ، دليلها فيها استقراء الكتاب والسنة ، ويكثر ذلك في كلام ابن جرير الطبري رحمه الله في التفسير وكلام ابن عبد البر رحمه الله في كتبه
ثم شاعت في كلام العلماء وأشهرها كثيراً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
فتوحيد الله ثلاثة أقسام :(1/12)
" توحيد الربوبية وهو توحيد الله جل وعلا بأفعاله ، يعني اعتقاد أن الله جل وعلا واحدٌ في أفعاله ، واحدٌ في خلقه لا شريك له ، واحدٌ في جميع معاني الربوبية . فهو جل وعلا المتفرد بالخلق وبالرزق وبالإحياء والإماتة وبتدبير الأمر وبتصريف هذا الملكوت وبأنه الذي يجير ولا يُجار عليه وأنه الذي ينزل الغيث وأنه الذي يحيي ويميت ويقبض ويبسط ونحو ذلك من معاني الربوبية .
" والثاني توحيد الألوهية وهو توحيد الله بأفعال العباد ، فتوحيد الربوبية توحيد الله بأفعاله هو وهذا يقر به أهل الشرك فإنهم يوحدون الله في أفعاله كما قال تعالى { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } وقال تعالى { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ } ونحو ذلك فهم مقرون بتوحيد الله بأفعاله ، يعني غالب العرب أو بأكثر أفعال الله وأما توحيد الألوهية فهو توحيد العبادة توحيد الله بأفعال العباد فإذن توحيد الألوهية راجعٌ إلى فعل العبد وتوحيد الربوبية راجعٌ إلى فعل الله جل وعلا.
" والثالث توحيد الأسماء والصفات ، ومعناه اعتقاد أن الله جل وعلا هو المتوحدٌ في استحقاقه لما بلغ في الحسن نهايته من الأسماء ولما بلغ غاية الكمال من النعوت أو الصفات فالله جل وعلا لا يماثله أحد في أسمائه وصفاته ، كما قال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
هذه ثلاثة أنواع هي أنواع توحيد الله جل وعلا .
النوع الرابع توحيدٌ دلت عليه شهادة أن محمداً رسول الله - وهو ألا يعبد الله إلا بما شرع ويسمى عند طائفة من أهل العلم توحيد المتابعة .(1/13)
يعني أن يكون المرء متابعاً للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وحده فلا أحد يستحق المتابعة على وجه الكمال إلا النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما قال ابن القيم في نونيته:
فلواحدٍ كن واحداً في واحدٍ ... أعني سبيل الحق والإيمان
وهذا التعبير - توحيد المتابعة - استعمله ابن القيم واستعمله شارح الطحاوية واستعمله جماعة من أهل العلم .
بعض أهل العلم يقسم التوحيد إلى قسمين :
يقول التوحيد قسمان :
- توحيدًٌ قولي اعتقادي ... ... ... - وتوحيد فعلي إرادي
وقوله توحيد قولي اعتقادي ، هذا يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات .
لأن توحيد الربوبية قولي واعتقادي ، وتوحيد الأسماء والصفات قولي واعتقادي .
وقولهم القسم الثاني توحيد فعلي إرادي ، هذا يعنون به ما يتعلق بفعل المكلف .
وهو على قسمين ، أعني فعل المكلف .
- أفعال القلوب ... ... ... - وأفعال الجوارح
وهذه يجب توحيد الله جل وعلا فيها أفعال القلوب وأفعال الجوارح .
أفعال القلوب مثل الخوف والرجاء والمحبة والرغبة والرهبة ونحو ذلك .
وأفعال الجوارح مثل الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر ونحو ذلك .
قال بعدها هنا (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليمًا مَزِيدًا)
(وَأَشْهَدُ) ، يعني أعتقد وأخبر وأعلن .
(أَنَّ مُحَمَّدًا) محمد بن عبد الله القرشي ، أنه عبد الله ، ليس إلهاً وليس ملكاً ، وإنما هو عبدٌ من عبيد الله ، شرفه الله جل وعلا بالرسالة ، عبد الله ورسوله ، فلا يدعى فيه أكثر من أنه رسول من الله جل وعلا ، وكفى بها مرتبة وكفى بها منزلة .
وهذه الشهادة تقتضي - يعني اعتقاد أنه رسول الله - تجب طاعته فيما أمر وأن يُصدق فيما أخبر وأن يُجتنب ما نهى عنه وزجر وألا يُعبد الله إلا بما شرع
والمشهور أن هذا معنى الشهادة بأن محمداً رسول الله ، وهذا من مقتضياتها ومعناها التي تقتضيه .(1/14)
أما معناها الأول فهو اعتقاد وإعلام وإخبار بأن محمداً عبدٌ من عبيد الله ورسولٌ من المرسلين الذين أرسلهم الله جل وعلا .
هنا في قوله رسوله تنبيه ، وأن لفظ الرسول يختلف عن لفظ النبي ،وأيضاً معنى الرسول يختلف عن معنى النبي .
فالرسول من الإرسال وهو البعث .
وأما النبي فهو من النبوة وهي رفعة المنزلة .
هذا من حيث اللغة ، في بعض القراءات السبعية المتواترة (النبيء) و (النبوءة) يعني (النبيء) (يا أيها النبيء) ويكون منها (النبوءة) وهي من الإنباء وهو الإعلام بالوحي .
وأما بالمعنى أي في الاصطلاح فهناك فرق بينهما والفرق أن :
- النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه أو أمر بتبليغه إلى قومٍ موافقين .
- وأما الرسول فهو من أوحي إليه بكتاب أو بشرع وأمر بتبليغه إلى قومٍ مخالفين .
وعلى هذا يصح الكلية التي يعبر بها العلماء أن كل نبي رسول وليس كل رسولٍ نبياَّ .
قال هنا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ) ، هذا سؤال أن يثني الله على نبيه محمد .
إذ الصلاة من الله جل وعلا الثناء كما أوضحت لكم ذلك مفصلاً في أول شرح زاد المستقنع .
قال وعلى آله وسلم تسليماً مزيدا وذلك امتثالاً لقول الله جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }
وبينت هناك أحكام الصلاة على النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لمناسبتها لدرس الفقه .
ثم قال أَمَّا بَعْدُ: فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ
(أَمَّا بَعْدُ) هذه كلمة يؤتى بها للانتقال ، وقد استعملها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، واستعملها الصحابة وقد قيل إنها فصل الخطاب الذي أوتيه داوود في قوله جل وعلا { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } ، لكن هذا ليس بصحيح .
قال هنا (فَهَذَا) إشارة إلى ما سيأتي في هذه العقيدة .
يعني (هذا اعتقاد) يعني هذا الذي ستراه في هذه الورقات اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة .(1/15)
والاعتقاد ما يُعقد عليه القلب أو ما يَعقد القلب عليه من الأمور التي تعتقد .
وأصلها من العلم الجازم لأن الاعتقاد فيه جزمٌ عنه العلم ، فإذا علمت شيئاً وجزمت به صرت معتقداً له .
وخص هذا الاسم الاعتقاد بشرح أركان الإيمان الستة :
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله الإيمان باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى .
وما أضيف إلى ذلك من المسائل التي تميز بها أهل الاعتقاد الحق - في أسماء الله وصفاته وفي أركان الإيمان الستة - ما تميز بها أهل السنة والجماعة عن ما سواهم من المبتدعة والزائغين من أهل الفرق المختلفة من مثل الكلام - كما ذكرت لكم - في مسائل الإمامة والصحابة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخلاق ونحو ذلك .
قال (فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ) الفرقة هي الطائفة من الناس أو الطائفة من أي شيء ، يقال فرقة من الطير ، كما جاء في الحديث الصحيح ، أن البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة تظللان صاحبهما كأنهما غيياتان أو قال غيابتان أو غمامتان أو فِرْقانِ من طيرٍ صواف ، يعني طائفتان من طير صواف .
وهذا كما قال جل وعلا { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } وقال { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ } .
فإذن الفرقة الطائفة { كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } (الطود) الجبل
{ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } يعني انفلق البحر فكان هذا كالجبل العظيم وهذا كالجبل العظيم وما بينهما يابس آية لموسى عليه السلام .(1/16)
الفرقة الناجية سميت فرقة لأجل أنها طائفة لأنها مقابَلة بالفرق الأخرى ولم يَرِدَ - فيما أعلم - هذا النص (الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ) في الحديث لكن العلماء أخذوه مما جاء في حديث معاوية وغيره في حديث الافتراء المشهور أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (ألا وإن اليهود افترقت على إحدى وسبعين ، وإن النصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) هذا لفظ أبي داوود في سننه .
فيفهم من هذا الحديث أن هذه الفرقة التي هي الجماعة هي الفرقة الناجية وغيرها من الفرق فرقٌ هالكة .
ولهذا قال أهل العلم في وصف من اعتقد الاعتقاد الحق وكان مع الجماعة أنه من الفرقة الناجية .
ووصفها بأنها ناجية يعني أنها ناجية من النار وهي ناجيةٌ في الدنيا من عقاب الله جل وعلا ومن أنواع عقوباته وسخطه وناجية في الآخرة من النار لقوله عليه الصلاة والسلام (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)
فكل الفرق متوعدة بالهلاك وأما هذه الفرقة فهي الناجية فإذن الناجية الأكثر أنه من صفات الآخرة.
يعني ناجية في الآخرة .
وأما صفتها في الدنيا فهي أنها منصورة كما قال شيخ الإسلام هاهنا ناعتاً هذه الفرقة بنعتين :
- أنها ناجية ... ... ... - ومنصورة .
قال (أَمَّا بَعْدُ ، اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ)
فأهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية وهم الطائفة المنصورة .
والفرقة الناجية والطائفة المنصورة بمعنىً واحد ولكن وصفها بأنها ناجية باعتبار الآخرة وفي ذلك أيضاً نجاةٌ في الدنيا ووصفها بأنها منصورة باعتبار الدنيا ، وهذا لأجل ما جاء في الأحاديث الكثيرة.
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) فهي طائفة منصورة .(1/17)
هم ظاهرون ومنصورون ، ينصرهم الله جل وعلا على من عداهم إما بالحجة وإما بالسنان إما باللسان نصر بيان ولسان وإما نصر سنان إذا كان ثَمَّ جهاد قائم .
وإما نصر حجة وبيان وهذا لا يخلو منه أهل السنة والجماعة .
وقد قال الإمام أحمد وغيره - في تحديد من هي الفرقة الناجية المنصورة ، قال الإمام أحمد إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم .
وذلك لأن أهل الحديث زمن الإمام أحمد كانوا هم القائمين بنصرة الدين والمنافحة عن الاعتقاد الصحيح والرد على المخالفين من أهل البدع الذين أدخلوا في الإسلام ما ليس منه ، الذين راموا تحريف الكلم عن مواضعه
وقال البخاري رحمه الله هم أهل العلم .
وإليه مال الترمذي في جامعه وغيره .
فالفرقة الناجية المنصورة هم أهل الحديث كما عليه أقوال أكثر أهل العلم ، وهم أهل العلم ، وهم الذين اعتقدوا الاعتقاد الحق .
فمن اعتقد الاعتقاد الحق فهو ناجٍ بوعد الله جل وعلا له ووعد الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ له في الآخرة وهو منصورٌ في الدنيا ومنصورٌ في الآخرة كما قال تعالى { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } فهم منصورون في الدنيا ومنصورون في الآخرة .
إذن هذا النعت الذي عبر به شيخ الإسلام رحمه الله ينبئ عما كان كالإجماع عند أهل السنة والجماعة وعند أهل الحديث وعند أئمة الإسلام أن الفرقة الناجية والطائفة المنصورة كلها تدل على طائفةٍ واحدة وعلى فرقةٍ واحدة وهم الذين اعتقدوا الاعتقاد الحق وساروا على نهج السلف الصالح رضوان الله عليهم .
وقد عُقِدَ لشيخ الإسلام مجلس محاكمة على هذه العقيدة لما ألفها ، وقيل له إنك تقول في هذا الاعتقاد فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة فهل معنى ذلك أنك تقول إن من لم يعتقد هذا الاعتقاد فليس بناجٍ من النار ؟(1/18)
فقال - رحمه الله - مجيباً في المجلس الذي حوكم فيه من قِبَلِ القضاة ومشايخ زمنه وولاة الأمر في زمنه قال لم أقل هذا ولم يقتضه كلامي أو قال لا يقتضيه كلامي فإنما قلت هذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة ، فمن اعتقد هذا الاعتقاد كان موعوداً بالنجاة ، ومن لم يعتقد هذا الاعتقاد لم يكن موعوداً بالنجاة وكان متوعداً بالعذاب ، وقد ينجو بأسباب منها صدق المقام في الإسلام وكثرة الحسنات الماحية بالجهاد في نصرة الإسلام وذلك عند من عنده نوع مخالفة لهذا الاعتقاد كما هو عند طائفة من أهل العلم فإنهم قد يكون عندهم كما قال شيخ الإسلام من الحسنات الماحية ومن صدق المقام في نصرة الإسلام ما يكفر الله جل وعلا به عنهم المعصية والكبيرة التي عملوها وهي بسوء الاعتقاد الذي اعتقدوه ولم يعتقدوا ما كان عليه أهل السنة والجماعة .
قال هنا (الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ)
والمراد بها قيام ساعتهم يعني ساعة المؤمنين ، يعني ساعة الطائفة المنصورة .
وقيام ساعة المؤمنين وساعة الطائفة المنصورة يكون قبل طلوع الشمس من مغربها بزمنٍ قليل عند كثير من أهل العلم وذلك كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه في الحديث (أنه يبعث الله جل وعلا قبل قيام الساعة ريحاً تقبض أرواح المؤمنين قلا يبقى مؤمن إلا قبضت روحه) .
ونكتفي بهذا القدر ....
وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11].(1/19)
فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ.
ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى؛ فَإنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه وصفوته من بريته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد مرت معنا مقدمة هذه الرسالة الوجيزة في ألفاظها الكبيرة في معانيها .
وقد ذكر رحمه الله تعالى أن هذا الاعتقاد الذي في هذه الرسالة هو اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة .
فهذا الاعتقاد كما ذكر هو اعتقاد الفرقة الناجية ، يعني التي ستنجو من النار بوعد الله جل وعلا لها بذلك يوم القيامة .
وهي ناجية في الدنيا من الانحراف ومن الفرقة والاختلاف ، وهم الطائفة المنصورة التي نصرها الله جل وعلا في الدنيا باللسان أو بالسنان أو بهما معاً ، وهي الطائفة المنصورة يوم القيامة على جميع المخالفين لها كما قال سبحانه { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ }
وبين أن هؤلاء هم أهل السنة والجماعة كما قال فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة .(1/20)
فإذن هذا الاعتقاد الذي سيأتي في هذه الرسالة مفصلاً هو اعتقاد الفرقة الناجية وهو اعتقاد الطائفة المنصورة وقد مرَ بك معنا كونها فرقةً ناجية ومعنى كونها طائفةً منصورة أما هذا اللفظ وهذا الوصف الثالث الذي تميز به هؤلاء وهو أنهم :
أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ
و معنى (أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) أنهم أصحاب السنة الذين لزموها باعتقادهم ولزموها في أقوالهم وأعمالهم - يعني في الجملة - وتركوا غير ما دلت عليه السنة .
والسنة هي الطريقة التي كان عليها رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأصحابه المنتخبون الخيرة ومن سار على نهجهم.
والسنة عند أهل الأصول هي ما أضيف إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو وصف .
فهذا يطلق عليه السنة والمراد هنا ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام من الأقوال والأعمال والتقريرات .
فهذا ينسب إليه بهذا الاعتبار أهل السنة فيقال هم أهل السنة يعني هم أهل إتباع أقوال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأهل إتباع أفعاله عليه الصلاة والسلام وأهل إتباع تقريراته .
و أهل السنة - هذا اللفظ - يطلق باعتبارين :
1 - فتارة يطلق ويراد به من خالف الرافضة وفرق الرافضة ، من خالف الشيعة والرافضة وما تفرع من ذلك هذا إطلاق ، ويدخل في هذا الإطلاق - يدخل فيه أهل الأثر ، أهل الحديث - ويدخل فيه الأشاعرة ويدخل فيه الماتريدية ويدخل فيه كل من خالف الرافضة .
فيدخل في أهل السنة الذين عندهم نوع احتجاج بالحديث .
فيخرج الرافضة والشيعة والخوارج والمعتزلة ونحو ذلك .
هذا باعتبار المقابلة - باعتبار مقابلة هذا اللفظ - بأهل التشيع ، فيقال السنة والشيعة ، وأهل السنة وأهل التشيع فيدخل في هذا اللفظ - أهل السنة - من وصفت لك .(1/21)
2 - ثم يطلق باعتبار آخر وهو أنهم - كما ذكرت لك في التعريف الأول - أنهم أهل إتباع النبي عليه الصلاة والسلام في الأقوال والأفعال والتقريرات ، الذين لا يقدمون شيئاً من العقول على سنة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ سواءٌ في الأخبار أو في الأحكام أو في السلوك والأخلاق .
وهذا هو الذي يُعْنى به هذه الطائفة ، وهم طائفة أهل الأثر ، طائفة أهل السنة والجماعة ، طائفة أهل الحديث الذين تميزوا بهذا الاعتقاد ، الذين هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة.
فتلخص إذن أن هذا اللفظ وهو أهل السنة دون لفظ الجماعة دون أن تعطف الجماعة عليها يطلق بأحد هذين الاعتبارين :
- قد يطلق ويراد به ما عدا الرافضة .
- وقد يطلق وهو الأصل ويراد به من لازم السنة على ما وصفت لك .
وأما قوله والجماعة فإن هذا اللفظ استعمله طائفةٌ من أئمة السنة المتقدمين من طبقة مشايخ أحمد وطبقة الإمام أحمد ومن بعدهم وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ استعمل لفظ الجماعة فمنها أنه ذكر أن الفرقة الناجية في حديث الافتراق المشهور حيث قال - بعدما ساق الافتراق - قال (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) .
وفي لفظٍ آخر (كلها في النار إلا واحدة) قالوا من هي يا رسول الله ؟ قال (من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وفي روايةٍ أخرى زاد لفظ (اليوم) بقوله (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .
فهذا اللفظ - لفظ الجماعة - قد جاء الحث بالتمسك به ، بالتمسك بالجماعة ولزوم الجماعة في أحاديث كثيرة والآيات التي فيها النهي عن التفرق فيها الأمر بلزوم الجماعة بالمفهوم .
وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (الجماعة رحمة والفرقة عذاب)
والنصوص في ذكر الجماعة كثيرة وبالحث عليها والحض على لزومها والتحذير من مخالفة الجماعة.(1/22)
وقد اختلف أهل العلم من المتقدمين اختلفوا في معنى الجماعة وفي تفسير الجماعة:
1- ففسرها طائفة بأن الجماعة هي السواد الأعظم
وهذا التفسير منقولٌ عن ابن مسعود الهذلي الصحابي المعروف رضي الله عنه وعن أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنهما ، ساق ذلك عنهما جمعٌ منهم اللالكائي في كتابه (شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة) .
قال إن الجماعة هي السواد الأعظم ، وقد جاء في بعض الأحاديث - وفي إسنادها من لا يحتج به - أنه قال عليه الصلاة والسلام (عليكم بالسواد الأعظم) فأخذوا أن الجماعة هي السواد الأعظم ويعنون بـ (السواد الأعظم) السواد الأعظم في وقتهما وذلك أنه في وقت ابن مسعود في أواخره بدأ ظهور الذين ينقمون على عثمان من الخوارج ومن شابههم وحثوا على لزوم السواد الأعظم وهو سواد عامة صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
2- وفسر طائفة الجماعة- وهذا هو التفسير الثاني - بأن الجماعة هم جماعة أهل العلم والسنة والأثر والحديث، سواءٌ كانوا من أهل الحديث تعلماً وتعليماً ، أو كانوا من أهل الفقه تعلماً أو تعليماً ، أو كانوا من أهل اللغة تعلماً وتعليماً فأهل الجماعة هم أهل العلم والفقه والحديث والأثر هؤلاء هم الجماعة .
هذا القول هو مجموع أقوال عددٍ من الأئمة حيث قالوا إن الجماعة وإن الفرقة الناجية هم أهل الحديث كما ذكر ذلك الإمام أحمد بقوله إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ، وذكر ذلك أيضاً عبد الله بن المبارك ويزيد بن هارون وجماعة من أهل العلم ، وقال آخرون هم أهل العلم كما رواه البخاري .
محصل هذا القول أن الجماعة هم أهل العلم وأهل الحديث وأهل الأثر.(1/23)
وساق تلك الأقوال الخطيب البغدادي في كتابه (شرف أصحاب الحديث بأسانيدها إلى من قالها) وهذا هو الذي اشتهر عند العلماء بل عُدَّ إجماعاً أن المعنِيَ بالجماعة وبالفرقة الناجية أنهم هم أهل الحديث والأثر يعني في زمن الإمام أحمد وما قاربه لأنهم هم الذين نفوا عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وهم الذين نصروا السنة ونصروا العقيدة الحقة وبينوها وردوا على من خالفها وأعلوا عليه النكير من كل جهة .
3- القول الثالث أن الجماعة هم أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وهذا القول منسوبٌ إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز الأموي رضي الله عنه ورحمه رحمةً واسعة .
وهذا القول دليله واضح وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال في بعض ألفاظ حديث الافتراق (هي الجماعة) وقال في ألفاظٍ أُخَرْ (ما كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) ومعنى ذلك أن الجماعة هي الصحابة .
4- القول الرابع وهو قولٌ نذكره ولكن دليل عليه أن الجماعة هم أمة الإسلام بعامة ، لكن هذا باطل لأن هذا يناقض حديث الافتراق فإن حديث الافتراق يبين أن أمة الإسلام - يعني أمة الإجابة - تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة وعدُ الجماعة هي أمة الإسلام يناقض هذا الحديث مناقضةً واضحة صريحة .
5- القول الأخير أن الجماعة يراد بها عصبة المؤمنين الذين يجتمعون على الإمام الحق فيدينون له بالسمع والطاعة ويعقدون له البيعة الشرعية ، واختار هذا القول ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى وجماعة كثيرون من أهل العلم .
قالوا لأنه بهذا يحصل الاجتماع والائتلاف إذا كان على إمامٍ حق .
إذا كان كذلك فهذه الأقوال كما ترى متباينة ولكن في هذا القول وهو تحديد من هم أهل السنة والجماعة نحتاج إلى أن نعلم هذه الأوصاف التي ذُكرت في هذه الأقوال .
وتحقيق المقام أن الأقوال الثلاثة الأُوَلْ :
" وهي القول بأن الجماعة هم السواد الأعظم .
" أو أن الجماعة هم أهل العلم والحديث والأثر .(1/24)
" أو أن الجماعة هم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذه الأقوال متقاربة وهي من اختلاف التنوع لأن الجماعة الذين هم السواد الأعظم كما فسرها ابن مسعود وأبو مسعود رضي الله عنهما هذا يعنون به صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
ومن فسرها - وهم أكثر أهل العلم - بأن الجماعة هم أهل العلم والأثر والحديث هؤلاء لأنهم تمسكوا بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد ، و الجماعة المراد بها أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فتحصل إذن أن هذه الأقوال الثلاثة ترجع إلى معنىً واحد وأن أهل السنة والجماعة هم الذين تابعوا صحابة رسول الله صلى عليه وسلم وتابعوا أهل العلم والحديث والأثر في أمورهم .
أما قول ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى فهذا صحيح وهو أن الجماعة هم عصبة المؤمنين الذين اجتمعوا على الإمام الحق وتبيان ذلك-مما يبين حصيلة هذا الكلام ويقرره أتم تقريرٍ وأوضح تقرير- أن الجماعة مقابلة للفرقة والافتراق يقابله الاجتماع .
وقد ذكر الخطابي رحمه الله تعالى في كتابه (العزلة) كلمة فائقة فيها تحرير هذا المقام .
قال إن الافتراق ينقسم إلى افتراق في الآراء والأديان .
و افتراق في الاجتماع والأبدان أو بالأشخاص والأديان .
افتراق تارةً يكون في الآراء والأديان وتارةً يكون في الأشخاص والأبدان .
هكذا قال وهذا كلامٌ دقيقٌ متين .
قال و الاجتماع يكون اجتماع بمقابل ذلك بالآراء والأديان ويكون اجتماع بالأشخاص الأبدان .
والاجتماع في الأشخاص والأبدان هذا ينقسم إلى آخر ما يحصله كلامه رحمه الله .
نأخذ من هذا أنه لفهم معنى الجماعة فهماً دقيقاً لأنه ينبني على هذا فهم معنى أهل السنة والجماعة حتى لا يُدخل فيهم من ليس منهم .
تحريره أن الجماعة تطلق باعتبارين :
- جماعةٌ باعتبار العقائد والأديان ، باعتبار الآراء والأديان .
فإذا نظرت إلى هذا المعنى في الاجتماع فإنه مأمورٌ به .(1/25)
والاجتماع على الآراء والأديان ، الأقوال في الدين وعلى الأحكام وعلى العقائد وعلى المنهج ونحو ذلك فهذا لا بد أن يكون له مرجع ، ومرجعه في فهم نصوص الكتاب والسنة هم صحابة رسول الله صلى الله صلى عليه وسلم .
وبهذا يلتقي هذا الفهم مع أقوال أهل العلم الذين قالوا إن الجماعة هم صحابة رسول الله صلى عليه وسلم .
وعلى هذا فالذين أخذوا بما قالته الصحابة وما بينته الصحابة من أحكام الشرع من الأحكام الخبرية -يعني من العقائد- فإنه على الحق وهو الذي لم يكن مع الفرق التي فارقت الجماعة .
وهؤلاء الذين هم مع صحابة رسول الله صلى عليه وسلم هم مع السواد الأعظم قبل أن يفسد السواد الأعظم .
ومعلومٌ أنه لا يحتج بالسواد الأعظم في كل حال وإنما السواد الأعظم الذي يحتج به هو السواد الأعظم لصحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
هذه مسألةٌ في غاية الأهمية إذ الاحتجاج بالسواد الأعظم إنما يراد به السواد الأعظم للمهتدين وهم صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ومن تابعهم في أمور الدين .
فصار إذن هاهنا قولان رجعا إلى هذا المعنى .
كذلك من قال إن الجماعة هم أهل العلم والحديث والأثر ومن سار على نهجهم من الفقهاء وأهل اللغة ونحو ذلك هؤلاء إنما أخذوا بأقوال الصحابة رضوان الله عليهم وساروا على ما قرروه فإذن هم مع الجماعة قبل أن تفسد الجماعة ومع السواد الأعظم قبل أن يتفرق الناس عنه .
لهذا جاء ما جاء في أن الجماعة ما كان على الحق وإن كنت وحدك .
الجماعة ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد الجماعة كما قاله طائفة من علماء السلف وهذا يريدون به ما كان عليه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قبل أن يفسد الناس لأنه حصلت فتن وحصلت للناس أمورٌ منكرة وافتراءٌ في الدين .
فكيف تُضبَط هذه المسألة وهي أعظم المسائل التي هي مسألة الاعتقاد وما يجب اعتقاده وما ينهج بالحياة .(1/26)
قال أهل العلم إن الجماعة يعني التي من تمسك بها فهو على الجماعة ومن حاد عنها فهو من أهل الفرقة .
قالوا هم صحابة رسول الله صلى عليه وسلم وهذا ظاهرٌ كما ترى .
- المعنى الثاني للاجتماع اجتماعٌ بالأبدان - اجتماع في الأشخاص والأبدان - كما عُبِرَ عنه وهذا هو الذي فهمه ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى .
ولا شك أن هذا مأمورٌ به في نصوصٍ كثيرة :
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أمر بالجماعة بهذا المعنى - الاجتماع على الإمام - وعدم التفرق عليه وترك الخروج عليه والبعد عن الفتن التي تفرق المؤمنين ، وهذا مما تميز به صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وتميز به أهل السنة في كل عصر .
فنظَرَ ابن جرير رحمه الله تعالى في هذا المعنى إلى ما فعله الإمام أحمد رحمه الله تعالى مع ما حصل من المأمون والمتوكل والواثق فإنه لم ينزع يداً من طاعة لأنه رأى أن الاجتماع إنما يحصل بذلك فأخذ بما جاء في النصوص بهذا المعنى وهكذا أهل السنة والجماعة هم على هذين الأمرين .
فإذن أهل السنة والجماعة تحصل على أن معنى الجماعة- وإن تعددت الأقوال - فإن هذه الأقوال كاختلاف التنوع لأن جميعها صحيح دلت عليه نصوص الشرع .
فباجتماع هذه الأقوال يحصل لنا المعنى الصحيح لأهل السنة والجماعة .
فغلط من غلط في معنى أهل السنة والجماعة فأدخل في أهل السنة والجماعة الفرق ، بعض الضالة كالأشاعرة والماتريدية .
ومن أمثال من غلط من المتقدمين السَفَّاريني في شرحه (لوامع الأنوار البهية) فقال أهل السنة والجماعة ثلاث فرق :
o الأولى الأثرية أتباع الأثر .
o والثانية الأشعرية أتباع أبي الحسن الأشعري .
o والثالثة الماتريدية أتباع أبي منصور الماتريدي .
وإذا كان كذلك فإنه على هذا الكلام إن الأشعرية والماتريدية وأهل الأثر هم جميعاُ من الجماعة .(1/27)
وهذا باطل لأن أهل الأثر هم الذين تمسكوا بما كانت عليه الجماعة وأما الأشاعرة والماتريدية فإنهم يقولون قولتهم المشهورة يقولون كلام السلف أسلم ولكن كلام الخلف أعلم وأحكم .
وهذا لا شك أنه فيه افتراق وفرقة وخلافٌ واختلاف عما كانت عليه الجماعة قبل أن يَذِرَ نجم الابتداع في هذه الأمة.
فإذن هذا الكلام من الكلام الذي هو غلط على أهل السنة والجماعة ولم يقل به أحد أئمة أهل السنة الذين يفهمون كلام أهل السنة وكلام المخالفين .
فإذن أهل السنة والجماعة فرقةٌ واحدة طائفةٌ واحدة لا غير وهم الذين يعتقدون هذا الاعتقاد الذي سيبينه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه الرسالة .
وإذا تبين لك أن من لم يكن على هذه الجماعة فإنه على الفرقة والضلال والاختلاف فهذا يعطيك أهمية العناية بهذه الرسالة التي تشرح لك اعتقاد أهل السنة والجماعة قبل أن يخالفها المخالفون وقبل أن يكثر الفساد والاختلاف في هذه الأبواب ، وأن تلتزم بطريقتهم ونهجهم في هذه الأمور التي سيبينها شيخ الإسلام في هذه الرسالة العظيمة .
كل ما سيأتي في هذه الرسالة هو تفصيلٌ لاعتقاد أهل السنة والجماعة مع شيء من الاقتضاب يناسب هذه الرسالة .
قال هنا في بيان هذا الاعتقاد :
وَهُوَ الإِيمانُ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، والإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خِيْرِهِ وَشَرِّهِ.
اعتقاد أهل السنة والجماعة مبنيٌ على هذه الأركان التي بينها الشيخ رحمه الله تعالى في هذه الكلمات
وهذه الكلمات هي أركان الإيمان التي جاء الأمر بها في الآيات وفي الأحاديث الصحيحة .(1/28)
قال جل وعلا { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } فذكر هذه الخمسة وقال جل وعلا في آخر السورة نفسها { كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } وقال جل وعلا في القدر { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
وقد جاءت هذه الستة في حديث جبريل المشهور وهي أركان الإيمان حيث سأل جبريل النبي عليه الصلاة والسلام فقال أخبرني عن الإيمان ؟ فقال (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى) ، هذه الأركان الستة هي أركان الإيمان .
والإيمان إذا قرن بالإسلام فيُعنى به الاعتقاد الباطن .
وهذه الرسالة فيها ذكر الاعتقاد ، اعتقاد أهل السنة والجماعة .
فتحصل أن الإسلام يُعنى به الأمور الظاهرة ، والإيمان يُعنى به الأمور الباطنة - يعني أمور اعتقاد القلب - وهو مبنيٌّ على أركانٍ ستة .
1 - الأول الإيمان بالله ...
2 - الثاني الإيمان بالملائكة
3 - الثالث الإيمان بالكتب
4 - الرابع الإيمان بالرسل
5 - الخامس الإيمان بالبعث بعد الموت أو الإيمان باليوم الآخر .
6 - السادس الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى
انتهى الشريط الأول من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الخامس الإيمان بالبعث بعد الموت أو الإيمان باليوم الآخر .
السادس الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى .
الإيمان ما هو ؟ قال هنا (وهو الإيمان) يعني اعتقاد أهل السنة والجماعة هو الإيمان .(1/29)
الإيمان له معنى في اللغة وله معنى في الشرع ، لأنه من الألفاظ التي نقلت من معناها اللغوي إلى معنى شرعي مثل الصلاة والزكاة ونحو ذلك .
فأما معناه في اللغة فهو التصديق أو التصديق الجازم ، كما قال تعالى مخبراً عن قول إخوة يوسف لأبيهم { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } يعني ما أنت بمصدقنا ولو كنا صادقين .
فالإيمان في اللغة هو التصديق ، آمن بفلان يعني صدقه ، آمنت لكلامك يعني صدقت لكلامك بحيث إنه لا ريب عندي فيما أقول.
أما معناه في الشرع فإن الإيمان قول وعمل :
قول القلب وعمل القلب ، وكذلك قول اللسان ، وقول القلب ، وعمل الجوارح والأركان .
فإذن الإيمان في اللغة له معنى أما في الشرع فزيادة على معناه اللغوي أنه له موارد القلب والجوارح قول وعمل .
حصّل هذا أهل العلم بقولهم إن الإيمان في الشرع هو القول باللسان ـ يعني بشهادة التوحيد ـ والاعتقاد بالجنان ـ الاعتقاد المفصل الذي سيأتي هنا ـ والعمل بالجوارح والأركان .
فهذا هو معنى الإيمان في النصوص وهو المراد بالايمان عند أهل السنة والجماعة .
قول القلب هو اعتقاد القلب ، الإيمان قول وعمل ، قول القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح والأركان ، هذه أربعة أشياء تحتاج إلى تفصيلها .
- قول القلب هو اعتقاده ، لا بد من أن يكون ثَمَّ قول وهو اعتقاد القلب :
اعتقادات القلب هي أقواله لأنه يحدث بها نفسه قلبا فهو يقولها بقلبه ، فأقوال القلب هي الاعتقادات وهي التي ستأتي مفصلة في هذا الكتاب .
- قول اللسان بالشهادة لله بالتوحيد ، بقوله لا إله إلا الله محمد رسول الله .
- ثم عمل القلب ، عمل القلب أوله نيته وإخلاصه ، أنواع أعمال القلوب من التوكل والرجاء والرغب والرهبة والخوف والمحبة والإنابة والخشية ونحو ذلك من أنواع أعمال القلوب .(1/30)
- عمل الجوارح بأنواع الأعمال مثل الصلاة والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك من الأعمال .
هذا هو الإيمان
بعضه ـ بعض هذا الإيمان ـ هو قول القلب الذي هو اعتقاداته وهذا هو الذي سيأتي تفصيله في هذه الأركان .
فإذن هذه الأركان هي أركان الإيمان وهي بعض الإيمان .
هي الأركان التي يقوم عليها الإيمان ، إذا تحققها المعتقد لها فإنه سيتبعه قول اللسان سيتبع بعد ذلك عمل القلب ، سيتبع بعد ذلك عمل الجوارح والأركان ، وكلها من حقيقة الإيمان.
قال هنا (وَهُوَ الإِيمانُ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ)
الإيمان بالله - قبل أن ندخل فيه - هذه الستة تفصيلها في هذه الرسالة إما باقتضاب أو بتفصيل أولها الإيمان بالله .
الإيمان بالله يشمل أشياء :
- الأول : أول درجات الإيمان بالله أن يؤمن بأن الله جل وعلا موجود ، بأن له ربا موجودا وأنه لم يوجد من عدم ، وأن لهذا الملكوت موجد ، هذا أول درجات الإيمان بالله .
الثاني : أن يؤمن بأن هذا الذي له هذا الملك أنه واحد فيه ، واحد في ربوبيته لا شريك له في ملكه ، يحكم في ملكه بما يشاء لا معقب لحكمه ولا مراجع له في أمره جل وعلا ، - نعني بالمراجع عدم المنفذ لأمره جل وعلا - وهذا هو الذي يعنى به توحيد الربوبية .(1/31)
الثالث : الإيمان بأن هذا الذي له ملكوت كل شيء وأنه صاحب هذا الملك وحده دون ما سواه ، الذي ينفذ أمره في هذا الملكوت العظيم أن له الأسماء الحسنى والصفات العلا ، له النعوت الكاملة له الكمال المطلق بجميع الوجوه الذي ليس فيه نقص من وجه من الوجوه ، بل له الكمال في أسمائه ، له الكمال في صفاته ، له الكمال في أفعاله ، له الكمال في حكمه في بريته وفي خلقه ، وهذا هو الذي يُعنى بتوحيد الأسماء والصفات ، ويُعتقد مع ذلك أنه في تلك النعوت وتلكم الصفات أنه ليس ثم أحد يماثله فيها ولا يكافئه فيها كما قال جل وعلا { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } وكما قال جل وعلا { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } فليس له جل وعلا مثيل ولا كفؤ ولا نظير ولا ند ولا عدل تبارك ربنا وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
الرابع : وهو الأخير وهو المهم الأعظم في الإيمان بالله الإيمان بأن هذا الموجود الذي له الملك وحده دون ما سواه والذي له نعوت الجلال والجمال والكمال على وجه الكمال أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه ، وأن كل ما سواه فلا يستحق شيئا من العبادة ، وأن أنواع العبادة - عبادات القلب أو عبادات الجوارح- أن المستحق لها بقليلها وكثيرها هو الله جل وعلا وحده دون ما سواه
فمن أتى بهذه الأربعة فقد أتى بالإيمان بالله الذي هو ركن من أركان الإيمان
ومن ترك الأولى منها فهو ملحد لا شك ، يتبع ذلك أنه لا يعتقد شيئا بعد ذلك
وكذلك من أشرك في الربوبية ، من لم يعتقد الربوبية الكاملة لله جل وعلا وحده فإنه يتبع ذلك .
وكذلك من لم يوحد الله جل وعلا في العبادة فإنه لا يسمى مؤمنا بالله ولو كان يعتقد أن الله جل وعلا موجود وأن له الربوبية الكاملة له وحده دون ما سواه ، وأنه ذو الأسماء الحسنى والصفات العلا ، فإذا لم يوحد الله جل وعلا في العبادة في نفسه أو أقر عدم توحيد الله جل وعلا بتصحيحه لذلك أو بتجويزه له فهو لم يؤمن بالله .(1/32)
بقي الثالث وهو توحيد الأسماء والصفات .
هل من لم يؤمن بهذا نقض عدمُ إيمانه بذلك إيمانَه أصلا فيصبح كافرا ؟
يقال من لم يؤمن بتوحيد الأسماء والصفات ففي حقه تفصيل :
تفصيله يأتي إن شاء الله تعالى في هذه الرسالة لأن شيخ الإسلام هذه الجملة وهي الإيمان بالله سيأتي بعد قليل ويقول (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه) وسيذكر الإيمان بالأسماء والصفات من الكتاب والسنة على وجه التفصيل ، نرجئ تفصيل هذا الحكم إلى موضعه .
إذن من أنكر توحيد الأسماء والصفات يعني من لم يثبت لله جل وعلا جميع الأسماء والصفات أو قال بالتشبيه في بعض المواضع أو نحو ذلك فهل يقال إن هذا ليس بمؤمن بالله ؟ ليس بمؤمن بهذا الركن ؟
الجواب ثَمَ تفصيل يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى ، وهو من المهمات لأن من الناس من غلا في هذا الجانب وكفر بالإخلال بشيء من أفراد توحيد الأسماء والصفات .
الثاني من أركان الإيمان الإيمان بالملائكة .
والملائكه جمع ملأك وتخفف إلى ملك .
وأصل ملأك مألك من الألوكة وهي الرسالة الخاصة ، كما قال الشاعر :
ألِكنِي إليها وخير الرسو ... لِ أعلمهم بنواحي الخبر
يعني أرسلني إليها برسالة خاصة .
تقول العرب له أَلوكة وألِكني وألَكَني إذا أرسل برسالة خاصة .
والملائكة جمع مألك أو ملأك وهم المرسلون برسالة خالصة من الله جل وعلا .
فإذن مبنى هذا الاسم على الإرسال .
والملائكة هم الموكلون من الله جل وعلا ، المرسلون في تصريف ملكوته فهم موكلون بتصريف ملكوت الله جل وعلا كما قال سبحانه { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } .
والإيمان بالملائكة مرتبتان ، إيمان إجمالي وإيمان تفصيلي :
- والإيمان الإجمالي هو المعنِي بهذا الركن(1/33)
ومعنى الإيمان الإجمالي : أن يؤمن العبد بأن لله جل وعلا خلقا وهم الملائكة وأنهم مطهَرون عباد مكرمون ليسوا بمعبودين ولا يستحقون ذلك ، وأن الله جل وعلا خصهم بأنواع من الرسالات لإنفاذ أمره في خلقه ، - وهذه الأخيرة قد تدخل في الإيمان التفصيلي - .
فمن اعتقد هذا الإيمان الإجمالي وهو أن لله جل وعلا خلقا هم الملائكة وأنهم مطهرون لا يعصونه { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وأنهم عبيد لله وليسوا بمعبودين فقد حقق هذا الركن أتى بهذا الركن ، وهذه هي المرتبة الإجمالية .
من اعتقد هذا من العوام أو غيره إذا سألته هل تؤمن بالملائكة ؟
فقال نعم الملائكة موجودون ، يُعبدون أو يعبدون الله ؟ فقال لا يعبدون الله ، حقق هذا الركن .
- المرتبة الثانية الإيمان التفصيلي وهي الإيمان بكل ما أخبر الله جل وعلا به في كتابه أو أخبر به النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في السنة من أحوال الملائكة وصفاتهم وخلقهم ومميزاتهم وما وكلوا به وأنواع مهماتهم ونحو ذلك هذا إيمان تفصيلي ، يلزم العبد الإيمان به إذا علم النص في ذلك فإذا علم النص وجب عليه الإيمان بما جاء في النص من هذا لأنه أمر غيبي ، ومن لم يصل إليه النص فإنه لا يكون ناقضا لإيمانه بالملائكة إذا كان قد أتى بالإيمان الإجمالي لأن الإيمان التفصيلي يختلف فيه الناس فهو تبع العلم .
فمثلا لو سألت عاميا وقلت له تعرف إسرافيل ؟ هل تؤمن بإسرافيل ؟ فقال لا ما أؤمن بإسرافيل من إسرافيل هذا ما هو ؟
قال ملك من الملائكة
قال لا ما في ملك اسمه إسرافيل ، فهذا لا يعد كافرا منكرا لوجود هذا الملك إلا إذا عُرِّف بالنصوص وعُلم بها إعلاما يكون الجاحد له كافرا فيكون بعد ذلك ليس بمؤمن بهذا الملك .(1/34)
وهذا مرجعه إلى تكذيب النصوص لا عدم الإيمان بالملائكة فإنه قد يكون مؤمن بجنس الملائكة لكن ليس بمؤمن بهذا على هذا الوجه فيكون مكذبا للنص فيعرف ويعلم فإن أنكر كفر .
الملائكة أنواع منهم الموكلون بالمطر منهم الموكلون بالموت فالموكل بقبض الأرواح ملك من الملائكة واسمه عند أهل الكتاب عَزرائيل وفي بعض الآثار أو بعض المقاطيع سمي عبدالرحمن هذا هو الموكل بقبض أرواح العالمين كما قال جل وعلا { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } وتحته أيضا ملائكة هو رئيسهم وهو كبيرهم ، تحته ملائكة يتوفون الناس يأمرهم فيقبضون الأرواح كما قال جل وعلا { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } ، كذلك منهم الموكل بتبليغ الوحي من الله جل وعلا للرسل أو بتبليغ الوحي من الله جل وعلا للملائكة وهو جبريل عليه السلام ومنهم الموكل بالقطر والحياة على الأرض وهو ميكائيل ومنهم الموكل بالنفخ في الروح وإعادة الحياة وهو إسرافيل ، وهؤلاء الثلاثة وهم جبريل وميكال وإسرافيل هم أشرف الملائكة وهم سادة الملائكة .
هذا كله من الإيمان بالتفصيل ، الإيمان التفصيلي وهذا قد ألفت فيه مؤلفات ترجعون إليها ، في أوصاف الملائكة في خلقتهم وفي منازلهم وفي أحوالهم وفي أعمالهم وفي عباداتهم وما وكلوا به من الأعمال ، ومن أحسن ما كتب في هذا كتاب (عالم الملائكة الأبرار) للدكتور الأشقر فإنه جمع فيه جمعا حسنا طيبا ويتحرى الصواب في كثير من مباحثه .
الركن الثالث الإيمان بالكتب .
والإيمان بالكتب أيضا له مرتبتان إيمان إجمالي وإيمان تفصيلي .
وكذلك الإيمان بالرسل له مرتبتان مرتبة إيمان إجمالي وإيمان تفصيلي على نحو ما ذكرنا في الملائكة
وحبذا لو ترجعون إلى تفصيل ذلك حتى ما نطيل في تفصيله والبحث فيها معروف مشهور .(1/35)
ومن أحسن من ذكر تفصيل ذلك الشيخ حافظ الحكمي في كتابه (معارج القبول) فلو رجعتم إليه لمعرفة المعنى الإجمالي للكتب والمعنى التفصيلي ، المعنى الإجمالي للرسل والمعنى التفصيلي وما يحصل به الكفر من ذلك وما لا يكون عدم المعتقد له كافرا يُرجَع فيه إلى ذلك لأجل اختصار الوقت .
هنا مناسبة وهو أن الإيمان بالله هو الأصل هو المقصود والملائكة هم الواسطة بين الله جل وعلا وبين خلقه فهم الذين ينزلون بالوحي إلى الرسل وينزلون بالكتب وبالشرائع ولهذا رتبت هنا أحسن ترتيب ، فقدم الإيمان بالله لأن منه جل وعلا المبتدأ وإليه المعاد والإيمان به هو المقصود وكل أمور الإيمان هي كالتفريع للإيمان بالله ، والملائكة لأنهم يأخذون الوحي من الله جل وعلا ويسمعونه فينقلونه إلى الرسل ، وينزلون بالكتب فثلث بالكتب ثم الرسل ، فالترتيب بين هذه الأربعة الإيمان بالله ، ملائكته لأنهم هم الواسطة ، الكتب لأن الملائكة تنزل بها ، الرسل لأنهم هم ختام هذه السلسلة ثم الرسل ينقلونها إلى الناس .
ثم لا بد من الإيمان بالبعث بعد الموت ، الإيمان باليوم الآخر وهو الإيمان بالموت وما بعده إلى أن يدخل أهل الجنةِ الجنة وأهل النارِ النار .
الإيمان بالبعث بعد الموت ، وهذا الإيمان بالبعث بعد الموت يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى في هذه الرسالة فقد أطال عليه شيخ الاسلام رحمه الله تعالى في موضعه فيدخل في الإيمان بما بعد البعث جميع ما يحصل في عرصات القيامة حتى دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .
والإيمان بالقدر خيره وشره .
يعني الإيمان بأن الأمور التي تجري في ملكوت الله إنما هي بقدر سابق ، بعلم سابق ، ليست عن استئناف عن غير علم من الله عن غير تقدير من الله بل كل شيء بقدر كما قال جل وعلا { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ويأتي تفصيل هذه الجملة في موضعها في هذه الرسالة .(1/36)
هذه أركان الإيمان الستة عند أهل السنة وأما عند غير أهل السنة ونعني بغير أهل السنة المعتزلة والرافضة والخوارج ومن شابههم مَن لم يدخل في الالتزام بالسنة بوجه عام فهؤلاء عندهم أصول الإيمان غير هذه الستة .
فهذه الستة هي أصول الإيمان عندنا وهي التي تنبني عليها العقيدة عندنا وكل ما في الاعتقاد تفصيل لها .
أما عند أهل الاعتزال فأصول الإيمان عندهم خمسة ، مشهورة بالأصول الخمسة عند المعتزلة ، وهي
التوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد .
وأما الرافضة فعندهم الأصول أربعة ، أصول الإيمان ، أركان الإيمان التي تنبني عليها عقيدتهم أربعة وهي :
الإمامة والنبوة والعدل والتوحيد
ويرتبونها هكذا :
التوحيد العدل النبوة الإمامة .
فإذا أردت أن تعرف معتقد أهل السنة والجماعة فمعتقدهم تفصيل لهذه الستة
ومعتقد المعتزلة تفصيل لتلك الخمسة ، ومعتقد الرافضة تفصيل لتلك الأربعة .
بعض السلف زاد على هذه الأركان قال : والإيمان بالجنة والنار ، والإيمان بالجنة والنار هو من الإيمان باليوم الآخر.
هذه خلاصة لمعنى هذه الجمل التي ذكرها شيخ الاسلام رحمه الله تعال .
أسأل الله أن ينفعني وإياكم بما سمعنا وأن يزيدنا علما وهدى واهتداء وأن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الشورى:11].
فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم(1/37)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما والحمد لله على كل حال .
ذكر شيخ الاسلام رحمه الله أن (مِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) وقد ذكرنا هذه الجملة وما يتبعها من القواعد المهمة .
وهذا الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ادعاه كثيرون ، ادعاه طوائف من المنتسبين إلى القبلة .
ولكن دعوى الإيمان بما وصف الله جل وعلا به نفسه ووصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما كانت دعوى عند كثيرين التزم أهل السنة والجماعة أن يذكروا قيد هذا الإيمان .
فإن الإيمان بهذه النصوص التي هي نصوص الصفات ليس إيمانا على وفق ما تشتهي النفس أو يؤدي إليه العقل بل على قاعدة وتلكم القاعدة هي أن يكون الإيمان بتلك النصوص بما وصف الله به نفسه وبما وصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل .
" فهناك محرفون يقولون نؤمن بالصفات على ما جاء في الكتاب والسنة لكنهم يحرفونها عن مواضعها فأهل السنة خالفوهم وآمنوا بالنصوص من غير تحريف .
" وهناك معطلة عطلوا نصوص الصفات عن معانيها اللائقة بها ، أو عطلوا الله جل وعلا عن الوصف الذي وصف به نفسه على كماله وأولوه وحرفوه وتوجهوا به إلى معنى آخر فخالفهم أهل السنة فآمنوا بظاهر النصوص من غير تعطيل لها ولا تأويل يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله جل جلاله .(1/38)
" كذلك آمنوا بالنصوص من غير تكييف لأن هناك من آمن فكيف فجعل نصوص الصفات مكيفة بكيفيات اخترعوها وابتدعوها في أذهانهم ، وهؤلاء يزعمون أنهم آمنوا بالنصوص لكن أهل السنة بينوا أن الإيمان لا بد أن يكون من غير تكييف .
" وهناك ممثلة مجسمة آمنوا بالنصوص على زعمهم وجعلوا ظاهر النص يراد به أمثلة معروفة ، فقالوا يد الله كأيدينا وعين الله كأعيننا وسمع الله كسمعنا ونحو ذلك ، زعموا أنهم آمنوا لكن آمنوا إيمانا فيه تمثيل .
وإذن يكون إيمان هؤلاء الأصناف الأربعة يكون إيمانا مدَعى ، ليس إيمانا شرعيا .
فمتى يكون الإيمان بالنصوص نصوص الصفات صحيحا ؟
إذا جمع هذه الأربع أن يؤمن بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.
فهذه القواعد الأربع أن نؤمن بالنصوص ولا نحرفها :
- نؤمن بالنصوص ولا نعطل الله جل وعلا عن وصفه الذي وصف به نفسه أو وصفه به رسوله
- نؤمن بالنصوص نصوص الصفات من دون تكييف لهذه الصفات بكيفيات معهودة أو غير معهودة .
- نؤمن بالنصوص ولا نمثل الله جل وعلا بخلقه بل ننزهه .
وهذا يحتاج في بيانه إلى بيان المراد بهذه الألفاظ الأربعة .
ما معنى التحريف ؟ ما معنى التعطيل ؟ ما معنى التكييف ؟ وما معنى التمثيل ؟
أما التحريف :
فأصله في اللغة من الانحراف بالشيء عن وجهه وهو صرفه عن وجهه ومعناه إلى غيره .
وهذا تحريف بمعنى التغيير والتبديل ، فإذن يكون معنى التحريف التغيير والتبديل ، حرف أي غير وبدل ، قال جل وعلا عن اليهود { مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } .
قال المفسرون إن معني قوله { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } يعني يحرفون ما أُنزِل عليهم عن معانيه اللائقة به ، بل يخترعون له معاني من عندهم ، وسمى الله جل وعلا هذا منهم تحريفا(1/39)
قال { مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } .
والتحريف في نصوص الصفات معناه أن تُغَّير و تُبَدّل ألفاظها أو معانيها عن ظواهرها ، فإذا صُرِف ظاهر النص عن معناه اللائق به فإن هذا سواء أكان في اللفظ أو في المعنى فإن هذا تحريف ، لأنه تغيير وتبديل .
قال العلماء التحريف من حيث هو بتعلقه بنصوص الصفات أو بغيره يكون في اللفظ وفي المعنى يكون في اللفظ وفي المعنى .
والتحريف في اللفظ إما بزيادة أو نقصان أو بتغيير حركة إعرابية ، أو بغير تغيير حركة إعرابية .
والتحريف في المعنى يكون بتغيير معنى الكلمة عن معناها المعروف في لغة العرب .
تحريف بزيادة ، تحريف في اللفظ بزيادة كما فعل اليهود ، فإن الله جل وعلا أخبر عنهم بقوله
{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }
قيل لهم (قولوا حطة) فقالوا حبة في شعرة ، غيروا اللفظ بزيادة بل غيروه من أصله أو بزيادة كما روي أنهم قالوا (حِنطة) بزيادة النون .
كذلك فعل المعتزلة والجهمية والأشاعرة ونحوهم حينما فسروا معنى (استوى على العرش)
بقولهم : استولى ، { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }
قالوا : استولى ، فهذا تحريف في اللفظ بزيادة حرف ، فإن كلمة استوى ليس فيها حرف اللام ، زادوا اللام فغيروا المعنى .
استوى جعلوا معناها استولى ، ومعنى استوى المعروف في اللغة (علا وارتفع) .
كذلك قد يكون بنقص ينقص اللفظ ، يكون نقص في اللفظ .(1/40)
وقد يكون بتغيير حركة إعرابية في النص من مثل ما قال جهمي لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء النحاة والعلماء المتحققين بالسنة قال له جهمي يا أبا عمرو ألا تقرأ { وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } و(كلم الله) هذا تغيير حركة إعرابية ، لأن القراءة { وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } فالله جل جلاله هو فاعل الكلام وموسى في الإعراب مفعول به { وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } أراد أن يغير ويحرف بتغيير حركة إعرابية فقال ألا تقرأ (وكلم اللهَ موسى تكليما).
يعني أن له وجها في العربية عند هذا القائل لأن موسى الحركة لا تظهر في آخره فإذا قرئ { وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى } يكون المكلِّم هو موسى والمكلَّم هو الله جل جلاله .
قال له أبو عمرو بن العلاء هبني قلت ذلك وقرأته على هذا النحو ، فماذا تقول في قوله تعالى { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } فبهت ، هذا من نوع تغيير حركة إعرابية ، تغيرت الحركة .
وهذا ربما لجأ إليه كثير من الذين يزعمون أن عندهم علما بالنحو منهم لكن مع ظهور العلم وقوته بطل ذلك منهم .
قد يكون تحريف بغير حركة إعرابية يعني لا بالزيادة في اللفظ ولا النقصان لا بتغيير حركة إعرابية .
يكون تحريف للفظ بغير هذه الأنحاء ،بغير حركة إعرابية كمثل هذا الذي قلت في قوله { وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى } أراد أن يجعل موسى المكلِّم ، فهو حرَّف فغير موسى من كونه مفعولا به إلى كونه فاعلا ، هذا ما دلت عليه حركة إعرابية ، من غير حركة إعرابية .
كذلك يدخل في هذا الذين يحرفون الكلام ويجعلونه بمعنى آخر ، لفظ له معنى يجعلون له معنى آخر
مثلا يجعلون قوله تعالى { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }
يجعلون معناه : بقدرتَيّ أو بقدرتي ، هذا تحريف للفظ هل هو من جهة المعنى ؟
جعلوا لفظ مكان لفظ ، يقولون اليد هنا هي القدرة ، ليست اليد هي المعروفة(1/41)
أو القسم الثاني أنه تحريف من جهة المعنى ، وهذا كثير كادعاء المجاز في آيات الصفات وكتأويل النصوص على غير ما دلت عليه لغة العرب .
مثلا يأتون لقول الله جل وعلا { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فيقولون : الرحمة هي إرادة الإحسان .
إرادة الإحسان ، هذا تحريف للرحمة عن معناها تغيير لها عن معناها ، بأي شيء ؟
بالأخذ بالمجاز ، والأخذ بالمجاز في نصوص الصفات باطل ومن أصول أهل الضلال في الصفات ، أما في غير الصفات يعني في اللغة من غير دخوله في الصفات فهو خلاف أدبي مع أن الصحيح عند المحققين أنه لا مجاز أصلا .
هنا يدخل في المحرفة الذين حرفوا الكلم عن مواضعه يدخل فيهم الجهمية أول ما يدخل لأن أصل التحريف إنما جاء من جهة جهم ، بل من جهة الجعد بن درهم قبله بل من جهة اليهود لأن هذه المقالة أخذها الجعد عن اليهود ، لأنهم هم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه .
وكان أول ما بدأ التحريف حين نفى اتصاف الله جل وعلا بالكلام وقال إن قوله { وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } أي جرحه بأظافير الحكمة تجريحا .
فليس من جهة الكلام وإنما من جهة التجريح ، كلّم أي جرّح من الكلْم وهو الجُرح .
هذا أول ما بدأ نفوا صفة الكلام ، تسلسل ذلك ، فإذن يدخل فيه أولا الجهمية .
الجهمية يحرفون من جهة ، أولا الأسماء الحسنى والصفات العلا :
هم يقولون بها في القرآن لكن يجعلون تفسيرها بمخلوقات منفصلة ، فصفة الله عند الجهمية هي الوجود المطلق فقط ،غيره من الأسماء الحسنى السميع البصير الحي القيوم العليم الحكيم يفسرها الجهمية بمخلوقات منفصلة .
يعني السميع هو من يُسْمَع ، البصير هو من يُبْصَر ، المتكلم هو من يَتكلَم ، يعني مخلوقات الله جل وعلا المنفصلة ، العزيز هو من أعِزّ أو من عَز ، القيوم هو من أقيم أو من قام بأموره وهكذا فيجعلون هذه الأسماء تعلقت بالخلق من آثار صفة الله عندهم الوجود .
من آثار صفة الله الوجود ، فعندهم الوجود عام .(1/42)
يدخل فيه المعتزلة فإن المعتزلة حرفوا ، حرفوا الغيبيات جميعا في الصفات والأسماء ، في الأمور الغيبية عذاب القبر في الميزان الحوض الصراط ونحو ذلك جميع الأمور الغيبية صرفوها حرفوها عن معانيها ، وهكذا .
يدخل فيه أيضا الأشاعرة فإنهم يحرفون .
هل كل تحريف يعد كفرا ؟
الجواب ليس كل تحريف يُعَد كفرا ، فإن أهل السنة لم يكفروا الذين فسروا استوى باستولى
فإن كان التحريف في جميع الصفات كفعل الجهمية فإن هذا يعد كفرا .
و الجهمية عندهم كفار لأنهم حرفوا ونفوا صفات الله جل وعلا .
إن كان التحريف في بعض الصفات رؤي ما هذه الصفة ؟
فإن كانت الدلالة عليها ظاهرة ولا يحتملها وجه ، يعني ليس للتأويل فيها مدخل هنا يُكفّر به كتكفير من نفى رؤية الله جل وعلا ، وتكفير من جعل كلام الله جل وعلا مخلوقا .
وأما غيره مما قد يكون لقائله عذر في تأويله فإنه لا يقال بكفره ولهذا أهل السنة والجماعة لم يكفروا الأشاعرة والماتريدية والكُلابية والسالمية والكرامية وأشباه هؤلاء .
وَلاَ تَعْطِيلٍ
هذه اللفظة الثانية والتعطيل أصله في اللغة من عطل يعطل تعطيلا وهو عُطل إذا كان خاليا
يقال هذا مكان معطل إذا كان خاليا ليس فيه شيء ، ويقال أيضا في المرأة جيدها معطل إذا كان خاليا من الحَلي ومنه قول الشاعر في وصف امرأة أو في وصف جيد امرأة يقول :
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمُعَطلِ
بمعطل يعني خال من الحلي . فهذا أصله
فإذن الإخلاء هذا هو التعطيل ومعنى قوله الله جل وعلا { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } أي خالية من الماء لأنه لم يستفد منها أو لم تحفر ويعتنى بها لإخراج الماء .
تعطيل النصوص ، تعطيل الصفات تعطيل الله جل وعلا عن صفاته هذه بمعنى إخلاء الله جل وعلا عن الوصف عن أوصافه .
يعني نفي الصفات وجعل الله جل وعلا ليس متصفا بالصفات .
والتعطيل عند العلماء أقسام أشهرها ثلاثة وهي :(1/43)
" أولا تعطيل المخلوق عن خالقه ، يعني إخلاء المخلوق عن أن يكون مخلوقا بنفي أن يكون ثم خالق له كقول الملاحدة .
" الثاني تعطيل الخالق عن أوصافه التي وصف بها نفسه أو وصفه بها رسله .
" الثالث تعطيل الخالق عن استحقاقه العبادة وحده لا شريك له .
والأول بحثه في توحيد الربوبية ، والثاني بحثه في توحيد الأسماء والصفات والثالث بحثه في توحيد الألوهية .
فإذن التعطيل دخل فيه أنواع التوحيد :
فإذا كان تعطيلا للمخلوق عن الخالق صار ذلك نفيا لتوحيد الربوبية
إذا كان تعطيلا للخالق ، لله عن أوصافه صار تعطيلا ونفيا للأسماء والصفات
إذا كان تعطيل للخالق عما يستحقه من عبادته وحده دون ما سواه صار تعطيلا في الألوهية .
هنا المقصود الثاني ، إذن المقصود بالتعطيل أن يُعطل الله جل وعلا عن أوصافه :
يعني أن يصف نفسه بصفة ، أن يصفه رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بصفة فيخلى الله جل وعلا من هذه الصفة ، يعني كأن لم يصف نفسه بذلك الوصف وكأن لم يصفه رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بذلك الوصف .
فإن وصف الله جل وعلا نفسه جلب لهذه الصفة له جل وعلا لنعلمها لأننا لم نعلم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفة فأخبرنا الله بأنه متصف بهذه الصفة .
فصار إثباته جل وعلا لنفسه هذه الصفة هذا زيادة علم عما كان عندنا من قبل فإذا نُفيت صار ذلك إخلاءً لله جل وعلا عن الوصف فصار تعطيلا .
فإذن يدخل في المعطلة الذين ينفون وصف الله جل وعلا بكل الصفات كفعل الجهمية .
ويدخل فيهم الذين ينفون أوصاف الله جل وعلا غير ثلاث الصفات المشهورة وهي عند المعتزلة .
كذلك يدخل فيه الذين يعطلون الله جل وعلا عن الاتصاف بغير سبع الصفات المشهورة عند الكلابية ومن تبعهم من الأشاعرة والماتريدية ، وهذا باب واسع يأتي إن شاء الله تفصيله .(1/44)
فإذن كل من لم يصف الله جل وعلا بما وصف به نفسه بأن حرف أو أول ، أخلى الله جل وعلا عن الوصف اللائق به كما أخبر ، منع الأخذ بظواهر النصوص فإن هذا يعد تعطيلا .
أهل السنة يخالفون المبتدعة الذين يعطلون .
فإذن إيمان المعطل بالنص هل هو حقيقة أم دعوى ؟
هو دعوى ، فالأشعري والماتريدي والمعتزلي والإباضي والرافضي وأشباههم يقولون نؤمن بالنصوص لكنهم يعطلون النصوص عن معانيها ويجعلون هذه المعاني للنصوص في الصفات راجعة إلى الأوصاف التي يثبتونها .
فالجهمي يرجع كل صفة إلى صفة الوجود بجعل الأوصاف والأسماء أثرا لصفة الوجود .
المعتزلي يجعل الصفات والأسماء من آثار الصفات الثلاث التي يثبتها .
الأشعري والماتريدي والكلابي يجعل كل صفة راجعة إلى الصفات السبع التي يثبتها .
فمثلا صفة النزول لله جل وعلا ينفيها أولئك :
- فالأشعري يفسرها يقول نؤمن بأنه ينزل لكن نزوله ليس نزولا حقيقيا وإنما هو نزول الرحمة نزول الإجابة إجابته جل وعلا للداعين في هذا الوقت المتأخر من الليل ، فهم يجعلون الصفة راجعة إلى الصفات التي يثبتونها .
الرحمة مثلا عندهم إرادة الإحسان لم ؟
لأنهم يجعلون من الصفات السبع صفة الإرادة
الغضب عندهم إرادة الانتقام لم؟
لأن الإرادة عندهم من الصفات السبع وهكذا فكل صفة يعطلونها عن معناها الذي دلت عليه اللغة
يقولون نؤمن بالنص لكن نجعل هذه الصفة معناها أحد الأوصاف السبعة التي أثبتناها وهذه الأوصاف السبعة لإثباتهم لها وسبب ذلك مزيد تفصيل يأتي في مكانه إن شاء الله من هذه الرسالة المباركة .
قال (وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ)(1/45)
هنا لاحظ أنه كرر (مِنْ غَيْرِ) (مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ) والسبب في ذلك أن التحريف والتعطيل متقاربان وكذلك التكييف والتمثيل متقاربان ، لكن التكييف والتمثيل غير التحريف والتعطيل ، فالتكييف والتمثيل يدخل فيه المجسمة ، والتحريف والتعطيل يدخل فيه المعطلة ، ولهذا قال العلماء المعطل يعبد عدما والمجسم يعبد صنما ، لم ؟
لأنه جسم ، تخيّل إلهه على نحو ما فعبد هذا المتخيَّل فصار المتخيَّل صورة فصار صنما .
وأما المعطل فيعبد عدما لأنه يعبد إلها ليس له صفة أو ليس له أسماء أو نعوت فهو يعبد عدما .
فإذا كان لا يصف الله بشيء فهذا يعبد العدم المحض كفعل الجهمية وهكذا .
قال (مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ) التكييف من كيّف الشيء يكيّفه تكييفا إذا جعل له كيفية .
والتكييف معناه أن يجعل لصفة الله جل وعلا كيفية ، قد تكون هذه الكيفية معلومة المثال وقد لا تكون معلومة المثال .
مثلا : يجعل اتصاف الله جل وعلا باليد على مثال يعلمه ، يجعل الكيفية على نحو ما .
يقول مثلا : الله جل وعلا استوى على العرش ، كيفية الاستواء كذا وكذا .
قد يكون يكيفها بما عهده فيكون تمثيلا وقد يكيفها بشيء خيال في ذهنه فيعد تكييفا من غير مثال ما .
المقصود هنا بهذا الموضع بالتكييف لما عطف عليه التمثيل بالواو ، والواو تقتضي المغايرة دل على أنهم يريدون بالتكييف التكييف على غير مثال معلوم يعني يخترع له كيفية لا مثال لها ، وإن كان التمثيل يدخل في التكييف لكنه لما عطف بالواو علمنا أنه يريد بالتكييف غير التمثيل وأن التمثيل له وصفه والتكييف له وصفه .
فكيف يكون التكييف ؟(1/46)
مثلا : يتخيل صورة ليد الله جل وعلا ، يتخيل صورة لاستواء الله جل وعلا ، يتخيل صورة وحالا لنزول الله جل وعلا ، يتخيل صورة وحالا لغضب الله جل وعلا هذا كله تكييف يعني جعل للصفات كيفية ، وهذا هو التكييف الذي سلكه طائفة من المجسمة ، لأن المجسمة على قسمين :
- مجسمة مكيفة ... ... ... - ومجسمة ممثلة
منهم مجسمة مكيفة جعلوا لله جل وعلا كيفية اخترعوها في أذهانهم ليس لها مثال ، ومنهم من جعله جل وعلا جسما على مثال يعلمونه مثل مخلوق أو نحو ذلك .
هذا معنى التكييف ، ونفيه لا شك أنه من أعظم المعلومات التي يعلمها المؤمن أنه إذا وصف الله جل وعلا يصفه بصفة يؤمن بمعناها ولا يعلم كيفيتها .
ولهذا قرر الإمام مالك هذه القاعدة آخذا لها من قوله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ، فقال لمن سأله عن الاستواء ، الاستواء معلوم والكيف غير معقول - وهذه أثبت من الرواية الأخرى التي فيها الكيف مجهول - والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
(الاستواء معلوم) يعني في اللغة معلوم المعنى وأن معنى الاستواء العلو والارتفاع
(والكيف غير معقول) لا تعقل كيفية استواء الله جل وعلا ، فإيمان المؤمن باستواء الله جل وعلا إيمان معنى لا إيمان كيفية ، لأنه إيمان بما دل عليه ظاهر اللفظ.
أما الكيفية فإن قلب المؤمن قد انقطعت علائقه انقطع طمعه وانقطع طلبه للدرك والادراك لكيفية الاتصاف ، فإن هذا لا يعلمه إلا الله جل وعلا ، وهذه قاعدة تقولها في كل صفة .
إذا قيل لك كيف النزول ؟
قل النزول معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
كيف غضب الله جل وعلا ؟
تقول الغضب معلوم والكيف غير معقول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة .
كيف الاستواء ، كيف الرضا ، كيف الاسف ، كيف الرحمة ، كيف المجيء ، كيف الاتيان ونحو ذلك ، كل هذا هذه معلومة المعنى لكن كيفياتها غير معقولة .
قال هنا (وَلاَ تَمْثِيلٍ)(1/47)
التمثيل من مثل يمثل تمثيلا إذا جعل للشيء مثالا .
وقد ذكرت لك أن التمثيل في الأصل نوع من التكييف ، لكن هنا أفرده فصار قسيما للتكييف صار التكييف شيئا و صار التمثيل شيئا آخر .
فما المراد بالتمثيل ؟
أن يجعل لصفة الله جل وعلا مثالا يعلمه ، يجعل اتصاف الله جل وعلا باليد على نحو اتصاف المخلوق به ، يجعل اتصاف الله جل وعلا بالغضب على نحو اتصاف المخلوق به ، يجعل اتصاف الله جل وعلا بالنزول على نحو اتصاف المخلوق به .
ولهذا تجد أن كل معطل ممثل ، لأنه لم يعطل إلا وقد استحضر التمثيل قبل أن يعطل .
فإذا سألت المعطل الذي نفى لم عطلت ؟
لم قلت في النزول تنزل رحمة الله ؟ لِمَ لَمْ تقل ينزل الله كما أخبر النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بذلك الذي هو أعلم الخلق بربه ؟
قال هذا غير معقول ، هذا يستحيل ، كيف ينزل هذا يقتضي التشبيه فهو استحضر أو ظن أن ظاهر النص هو التمثيل فمثل أولا ثم نفى ثانيا .
ولهذا يقول العلماء كل محرف أو معطل لنصوص الصفات فقد مثل وعطل ، فالممثل والمكيف خير من المعطل لأنه إنما وقع في شر واحد وبدعة واحدة وهي التمثيل والتكييف ، أما المعطل المحرف النافي للصفات فقد مثل باطنا ثم عطل ظاهرا .
قام بقلبه التمثيل أن الله جل وعلا في هذه الصفة مثل المخلوق ، كيف يد الله جارحة ، يتكلم كيف بحرف وصوت معنى ذلك يلزم لسان ولهاة وإلى آخره فاستحضر التمثيل يعني ظن ، فهم من النص أنه يدل على التمثيل فمثل ثم بعد ذلك نفى هذا وعطل نسأل الله جل وعلا العافية .
قال هنا (وَلاَ تَمْثِيلٍ) ولهذا التمثيل من فعل المجسمة ، كذلك التكييف من فعل المجسمة والمجسمة والمعطلة أعداء لأهل السنة والجماعة ، لأن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالنصوص لا يمثلون ولا يجسمون ولا يعطلون ولا يحرفون بل يثبتون النصوص على ما دلت عليه كما سيأتي بيان ذلك في عقيدتهم في نصوص الصفات التي سيسوقها شيخ الاسلام رحمة الله جل وعلا الواسعة عليه .(1/48)
قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر هذا قال (بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ)
بل هذه للإضراب إضراب عما سبق إلى الآن ، والإضراب نوعان :
- قد يكون إضراب لغرض ... ... - وقد يكون إضراب للانتقال من كلام إلى كلام .
والذي في القرآن من الإضراب الإضراب الانتقالي .
وهنا يعني به الإضراب الانتقالي قال (بَلْ يُؤْمِنُونَ) أضرب عن الكلام السالف يعني عن تفصيله وعن تدقيق الكلام فيه وتنويع الكلام فيه ودخل في كلام آخر .
قال (بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ )نؤمن بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير كما أخبر الله جل وعلا بذلك عن نفسه في سورة الشورى فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } وقال جل وعلا { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } وقال سبحانه { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } وقال جل وعلا { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } يعني لا تضربوا لله الأوصاف والنعوت إن الله يعلم ما يصف به نفسه وأنتم لا تعلمون كيف تصفون الله جل وعلا .
هذه الآية وهي قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } فيها النفي والاثبات .
نفى بقوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وأثبت بقوله { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
وهذه قاعدة عظيمة أخبر الله جل وعلا بها ومعنى ذلك أن هذا الدين وأن هذا الايمان بالصفات مبني على النفي والإثبات .
نفيٌ كما نفى الله بقوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وإثبات كما أثبت الله بقوله { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }
يظهر من الآية أن النفي جاء فيها مجملا وأن الإثبات جاء فيها مفصلا ، فقال سبحانه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } نفي مجمل بدون تحديد هذا النفي .(1/49)
المبتدعة يعكسون القاعدة فيجعلون النفي مفصلا ويجعلون الإثبات مجملا ، والله جل جلاله جعل النفي مجملا والاثبات مفصلا قال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } كل ما [ يطلع ] في الذهن فلا يصح أن يكون الله جل وعلا مثله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ } .
الإثبات مفصل { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }
هنا في قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } الكاف هذه مما تكلم فيها العلماء ، ولتقريرها فائدة في العقائد
وذلك أن قوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (شيء) اسم ليس .
سبك الكلام ليس شيء كمثله .
الكاف هنا هذه ما نوعها ؟ معنى الآية يتوقف على فهم معنى الكاف هنا .
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، الكاف هذه لأهل العلم فيها وجهان :
- قال طائفة من أهل العلم إن الكاف هنا صلة وهي الزائدة لإفادة تكرير الكلام والجملة مرتين أو أكثر ، واللغة العربية فيها زيادة الحرف لمزيد تأكيد الكلام كما قال جل وعلا { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } يعني فبرحمة من الله لنت لهم (ما) هنا مزيدة لتوكيد الكلام ، ما معنى التوكيد هنا
تكرار الجملة لتعظيم شأنها ، قال فبرحمة من الله لنت لهم فبرحمة من الله لنت لهم .
هنا إذن على هذا تكون الكاف صلة يعني زائدة لتأكيد المعنى ، قال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } يعني ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء وهو السميع البصير .
فالعربي يفهم من هذه الصلة ومجيء الكاف هنا أن الجملة كررت عليه أكثر من مرة وهذا من أسرار اللسان العربي .
قال { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة } (لا)هذه صلة ، معنى الكلام أقسم بيوم القيامة أقسم بيوم القيامة أقسم بيوم القيامة ، { وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } وأقسم بالنفس اللوامة أقسم بالنفس وهكذا ، فإذن مزيد الحرف لمزيد التأكيد ، فقوله هنا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } هذه للتأكيد ومجيء الكاف للتأكيد بخصوصها هذا معروف في اللغة ومنه قول الشاعر :(1/50)
لو كان في قلبي كقدر قلامة ... حبا لغيرك ما أتتك رسائلي
وهنا قال إذن { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فصار المعنى ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء وهو السميع البصير ، وهذا المعنى وهذا الوجه هو الصحيح وهو الراجح عند العلماء المحققين .
- الوجه الثاني أن تكون الكاف بمعنى مثل ، فيكون المعنى ليس مثلَ مثلِه شيء ـ ما فيها تأكيد ـ وهو السميع البصير .
ونفي مثل المثل فائدته استحالة وجود المثل وليس كما ظُن أن فيه إثبات لوجود المثل .
يعني صُرف النظر عن المثل إلى مثل المثل إبعادا لوجود المثل .
لكن هذا فيه نوع ضعف مع أن كثيرا من العلماء قال به ، ومجيء الكاف بمعنى مثل كثير ومنه قوله جل وعلا في سورة البقرة { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } لما عطف (أشد) على موضع الكاف دلنا على أن الكاف ليست بحرف بل هي اسم لأن الاسم لا يعطف على حرف .
قال هنا (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)
هذا إثبات ، إثبات مفصل فصل الاثبات قال { السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
والسميع اسم من أسماء الله ، البصير اسم من أسماء الله .
وأسماء الله جل وعلا تدل على ذاته دلالة الاسم على المسمى على الذات وفيها الصفة .
السميع اسم لمن كان ذا سمع ، والبصير اسم لمن كان ذا بصر .
ففيها إثبات السمع والبصر لله جل وعلا .
ما فائدة إثبات السمع والبصر هنا ؟(1/51)
قال العلماء في هذا حكمة وفائدة عظيمة وهو أنه نفى أولا بقوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ثم أثبت هذين الاسمين لله المتضمنين لصفتي السمع والبصر ، وسبب ذلك أن صفة السمع والبصر من الصفات التي تشترك فيها أكثر المخلوقات الحية ذات الروح مهما صغر من فيه حياة من ذوي الأرواح أو عظم فعنده سمع وبصر ، فانظروا إلى النملة عندها سمع وبصر { يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } عندها سمع سمعت وتبصر طريها تبصر أمرها ، البعوضة كذلك لها سمع ولها بصر ، الدواب لها سمع ولها بصر ، الانسان له سمع وله بصر ، فصفتا السمع والبصر من أكثر الصفات اشتراكا بين المخلوقات الحية ذوات الأرواح .
فإذا كان ثم توهم في المماثلة فليكن توهم للماثلة في اتصاف هذه المخلوقات بصفة السمع والبصر .
فهل بصرك أيها الإنسان وسمعك من مثل بصر النملة وسمعها ؟ لا ، أن ثم قدرا مشتركا في السمع بين البعوض والإنسان وفي البصر بين البعوض والإنسان لكن تختلف كيفيته تختلف حقيقته يختلف عظمه وتعلقه ، كذلك السمع الإنسان يسمع من مسافة بعيدة المخلوق الصغير الذباب والبعوض هذا يسمع لأقل وهكذا فإذا كان كذلك دل على أن إثبات السمع والبصر في المخلوقات هو إثبات وجود لا إثبات مساواة وهذا متصل بقوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، فإذن إثبات هاتين الصفتين لله التي عظم اشتراك المخلوقات مع الله جل وعلا في اسم الصفة وفي بعض معناها أن هذا ليس من جهة التمثيل في شيء .
ففيه أعظم رد على الذين توهموا أن إثبات الصفات فيه تمثيل وفيه تجسيم ، ظاهر هذا ؟
*هنا تنبيه : وهو أن التمثيل يختلف عن التشبيه ، التمثيل أن يُجعل الشيءُ مماثلا للشيء في صفة كاملة أو في الصفات كلها ، نقول : محمد مثل خالد إذا كان محمد مثل خالد في جميع الصفات أو في صفة كاملة ، محمد مثل خالد في الكرم يعني يماثله تماما .(1/52)
أما المشابهة فهي اشتراك في بعض الصفة أو في بعض الصفات .
قال بعض العلماء أو في كل الصفات ، يعني جعلوا التشبيه أوسع من التمثيل .
يعني بعض العلماء جعل التمثيل أوسع من التشبيه .
ولهذا فإن نفي التشبيه ، إذا نُفِي في نصوص العلماء أهل السنة والجماعة فإنما يعنون به التشبيه الذي هو التمثيل .
المماثلة في صفة كاملة أو المماثلة في الصفات .
أما التشبيه الذي هو اشتراك في جزء المعنى فإن هذا ليس مرادا لهم لأنهم يثبتون الاشتراك ، فالله جل وعلا له سمع وللمخلوق سمع وهناك اشتراك في اللفظ وفي جزء المعنى .
فالسمع معناه معروف في اللغة لكن من حيث تعلقه بالمخلوق يختلف عن جهة تعلقه بالخالق .
ولهذا فإننا نقول في الصفات هنا كما قال ومن غير تكييف ولا تمثيل وإذا قيل من غير تشبيه فإنهم يريدون بالتشبيه التمثيل وهذا مستعمل عند العلماء أنهم ينفون التشبيه ويريدون به التمثيل .
قال هنا (فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ)
يعني بل يثبتون ما وصف الله جل وعلا به نفسه ، ولا ينفون عنه صفة وصف بها نفسه .
(وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) وقد بينت لكم معناه عند شرح كلمة التحريف .
قال (وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ)
الإلحاد في أسماء الله الميل بها والعدول بها عن حقائقها وعما يليق بها .
وأصله في اللغة من لَحَدَ وألحد إذا مال ، ألحد فلان في الطريق يعني مال في الطريق ، وهذا اللحد الذي هو جانب القبر الذي يوضع فيه الميت لحد لأنه أُمِيلَ به عن سمت الحفر .
والإلحاد في أسماء الله هو الذي جاء في قوله تعالى { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } يعني يميلون بها عما يليق بها ، وهذا الإلحاد وهو الميل قد يكون :(1/53)
" بصرفها عن ظواهرها التي دلت عليه .
" وقد يكون بترك التعبد بها .
" وقد يكون بتحريفها فالمشركون سموا العزى من العزيز ، وهذا إلحاد وسموا اللات من الله أو من الإله وهذا من الألحاد ونحوا ذلك ، سموا مناة من المنان كما هي بعض الروايات وهذا كله من الإلحاد .
" ترك دعاء الله جل وعلا بأسمائه هذا من الإلحاد .
هنا مراده نوع من ذلك الإلحاد وهو صرفها عن معانيها اللائقة بها ، لأنه ميل بها وعدول عن اللائق بها والواجب أن يُسلَك في الأسماء والصفات وآيات الله جل وعلا ما يليق بها لا أن يمال عما يليق بها ويعدل عن حقائقها التي تليق بالله جل وعلا .
قال (وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ)
وهذا جاء مقررا فيما سبق ونقف عند هذا ونسأل الله جل وعلا لنا ولكم الهدى والرشاد والانتفاع بما سمعنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ، وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ، وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ؛ لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ.
ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى؛ فَإنَّهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَأَصْدَقُ قِيلاً، وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ.
ثُمَّ رُسُلُه صَادِقُونَ مُصَدَّقُون؛ بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ، وَلِهَذَا قَالَ: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180)وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181)وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الصافات:180-182]، فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ لِسَلاَمَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ.(1/54)
وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ.
فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةٌ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصَالِحِينَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والثناء على الله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
قال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى في هذه العقيدة المختصرة المباركة التي نسأل الله جل وعلا أن ينفعنا جميعا بها وأن يتقبل منا اعتقادنا لما فيها وأن يثبتنا عليه حتى نلقاه .
قال رحمه الله تعالى في وصف أهل السنة والجماعة :
فَلاَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ
لا ينفون عنه ما وصف به نفسه كما نفى عنه الصفات التي وصف بها نفسه طوائف الضلال من الجهمية والمعتزلة والرافضة والكلابية والكرامية والأشعرية والماتريدية ونحو ذلك فإن كل طائفة من هؤلاء نفت عن الله جل وعلا إما جميع الصفات وإما بعض الصفات .
والذين ينفون عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه :
- إما أن يكونوا من الذين ينفون أكثر الصفات وهؤلاء يقال لهم النفاة ، نفاة الصفات كالجهمية والمعتزلة .
- وإما أن يثبتوا منها سبعا أو عشرين أو ثمانيا كحال الماتريدية وهؤلاء قد يقال في حقهم الصفاتية لأنهم يثبتون من الصفات أكثر مما أثبت أصولهم وهم المعتزلة والجهمية .
فالكلابية تثبت من الصفات أكثر مما أثبت المعتزلة وكذلك الأشاعرة والماتريدية .(1/55)
ولهذا قد يقال لهؤلاء : الصفاتية في مقابلة النفاة كما يذكر ذلك كثير من علماء أهل السنة ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
وهؤلاء جميعا (سواء كانوا من النفاة أم كانوا من الصفاتية) فهم ينفون عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه .
وهذا النفي قد يكون نفيا للصفة بالكلية وقد يكون نفيا لمعناها بتأويلها بغير معناها وبحمل الظاهر فيها على غير ما دلت عليه ظاهر النصوص .
هؤلاء ينفون يعني أن مآل حالهم النفي ، سواء نفوه أصلا أو نفوا معناه الذي دل عليه الظاهر .
فالذين نفوا أن الله جل وعلا متصف بالرحمة اللائقة به هؤلاء نفوا الرحمة ولو قالوا إن معنى الرحمة إرادة الإحسان ، ونثبت الرحمة بتأويل ، هؤلاء أيضا ينفون .
وأما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون المعاني التي اشتملت عليها ألفاظ الصفات على ما يليق بالله جل وعلا على قاعدة { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
يثبتون اللفظ ويثبتون ما في اللفظ من الصفة ويثبتون ويوقنون ويؤمنون بما دل عليه اللفظ من الصفة ويعلمون أصل معنى هذه الصفة لأنها بلسان عربي مبين ، ثم هم مع ذلك يعني أهل السنة والجماعة يقطعون الطمع عن إدراك الكنه وعن إدراك الكيفية يعني عن إدراك كل المعنى وعن إدراك الكيفية
فإذن أهل السنة لا ينفون عن الله ما وصف به نفسه بل يثبتون لله جل وعلا ما وصف به نفسه .
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك (وَلاَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ)
لأن الذين يحرفون الكلم عن مواضعه هم اليهود كما وصف الله جل وعلا طوائف اليهود بذلك بقوله { مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ }
ومعنى تحريف الكلم عن مواضعه بحمله على غير ما دل عليه .
والتحريف أصله العدول باللفظ عن معناه إلى غيره أو العدول بالمعنى عن أصله إلى غيره ، يعني إلى غير الأصل .
إما أن يقول إن اللفظ هذا معناه لفظ آخر كمن حرَف استوى إلى استولى .(1/56)
أو ينفون المعنى ويثبتون معنى آخر .
وهؤلاء هم الذين يؤولون الصفات الفعلية وبعض الصفات الذاتية بما أثبتوا من الصفات العقلية كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .
{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } يُعنى به الكلمات الشرعية الدينية التي هي في باب الأخبار عن الله جل وعل .
وتحريف الكلم عم مواضعه هذا حرام وقد يكون كفرا وقد يكون كبيرة وقد يكون معصية وقد يكون خطأ يعذر فيه صاحبه .
وهو إذن أقسام فليس كل تحريف كفرا بل قد يكون كفرا وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب وقد يكون معصية وقد يكون خطأ وتفصيل هذا وأمثلته تأتي في مواضعها في الرسالة إن شاء الله تعالى .
قال بعد ذلك (وَلاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ)
الإلحاد مر معنا وهو أنه الميل ولهذا سمي اللحد لحد القبر لحدا لأنه مائل عن سمت القبر عن سمت الحفر فيه ميول فالإلحاد الميل ، ألحد يعني مال .
الملحد المائل عن الحق إلى غيره ، وفي الاصطلاح الملحد هو من مال عن الإيمان إلى الكفر .
قال (لاَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللهِ وآيَاتِهِ) يعني أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالأسماء - أسماء الله - وبالآيات وما اشتملت عليه الآيات من الأسماء والصفات ولا يميلونها ولا يخرجون بها عن حقائقها اللائقة بها إذ إن صراط الأسماء المستقيم وصراط الآيات المستقيم أن يؤخذ بها بما دلت عليه ألفاظها من المعاني ويُثبَت ذلك لله جل وعلا .
فإذا حُرِفَ ذلك فإن هذا من الإلحاد ، بمعنى أنه إذا نفى صفة أو نفى اسما من أسماء الله فإن هذا من جنس الإلحاد في أسمائه وصفاته وقد قال الله جل وعلا في محكم كتابه { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ }
والإلحاد في أسماء الله وصفاته أنواع سبق ذكرها .
قال هنا (وَلاَ يُكَيِّفُونَ وَلاَ يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ)
التكييف مر معنا معناه والتمثيل مر معنا معناه .(1/57)
إذن أهل السنة والجماعة تميزوا عما سواهم بهذه الخصائص أنهم يثبتون لله جل وعلا ما أثبته لنفسه ولا ينفون عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه ولا ينفون عن الله جل وعلا ما وصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لأن سبيلهم ليس هو سبيل الزائغين الضالين المغضوب عليهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه من الذين شابهوا اليهود أو الذين يلحدون في أسماء الله وآياته الذين شابهوا المشركين ، وإنما يؤمنون بالأسماء والصفات على حقائقها اللائقة بالله جل وعلا .
انتهى الشريط الثاني من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثالث
إذن أهل السنة والجماعة تميزوا عما سواهم بهذه الخصائص أنهم يثبتون لله جل وعلا ما أثبته لنفسه ولا ينفون عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه ولا ينفون عن الله جل وعلا ما وصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لأن سبيلهم ليس هو سبيل الزائغين الضالين المغضوب عليهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه من الذين شابهوا اليهود أو الذين يلحدون في أسماء الله وآياته الذين شابهوا المشركين وإنما يؤمنون بالأسماء والصفات على حقائقها اللائقة بالله جل وعلا .
ثم بين العلة في ذلك فقال (لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ ، ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى)
هذا تعليل لما سبق ، لِمَ لمْ ينفِ أهل السنة والجماعة عن الله ما وصف به نفسه ؟
قال (لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ) .(1/58)
فإذن الصفات والأسماء وإن كان ظاهر المعنى قد يقتضي المشابهة ، فإن إثبات الأسماء لله جل وعلا وإثبات الصفات لله جل وعلا إثبات لها بإثبات اللفظ وإثبات المعنى الذي دل عليه اللفظ على ما يليق بالله جل وعلا ، وأما الاشتراك في بعض المعنى فإن هذا لا ينفيه أهل السنة والجماعة لأن الله جل وعلا هو الذي وصف نفسه بذلك كما سيأتي من قوله (فَإنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ) .
فهو جل وعلا الذي سمى نفسه السميع وسمى المخلوق بالسميع .
وبين السميع والسميع قدر مشترك من المعنى ، وهذا المعنى هو أصل السمع .
والسمع الذي في المخلوق يناسب ذاته والسمع الذي لله جل وعلا يناسب ذاته .
وهذا على أصل القاعدة المقررة وهي أن القول في الصفات كالقول في الذات يُحتذى فيه حذوه ويُنهج فيه منهاجه ، لأن الصفة ،كل صفة تناسب الموصوف فسمع المخلوق يناسب ذاته وسمع الله جل وعلا يناسب ذاته .
ما بين الصفتين من القدر المشترك هذا هو ما يجمعهما في أصل اللغة في المعنى العام أما المناسبة للذات فهذه لخارج الأصل العام .
ولهذا فإن لله جل وعلا من الصفات أكملها وله من كل صفة كمال أكمل تلك الصفة وأعظمها وأشملها أثرا وأعمها متعلقا .
وهذا لا يعني بحال المماثلة ، وإنما القدر المشترك في أصل المعنى هذا لا ينفيه أهل السنة لأن الله جل وعلا أنزل القرآن بلسان عربي مبين ومعنى ذلك أن الكلمات التي فيها ذكر الأسماء والصفات أنها تفهم باللغة وهذا سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى .
قال (لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ)
يأتي بيان معنى (سبحان) عند الآية وهي قوله { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }
قال (لأَنَّهُ سُبْحَانَهُ: لاَ سَمِيَّ لَهُ، وَلاَ كُفْءَ لَهُ، وَلاَ نِدَّ لهُ) هذه الألفاظ الثلاثة السمي ، والكفؤ ، والند ، هذه جاءت في القرآن وهي متقاربة المعنى .(1/59)
قال جل وعلا { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وقال سبحانه { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وقال سبحانه { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } .
فالله جل وعلا لا سمي له لأنه قال { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وهذا فيه الإنكار ، لأنه قال { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } والاستفهام إذا أتى بعده جملة يراد إبطالها فإنه يكون للإنكار وإذا أتى بعده جملة يراد إثباتها صار الاستفهام للتوبيخ أو للحث أو نحو ذلك من المعاني المقررة في علم العربية .
هنا قال { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } هذا فيه النفي يعني لا يعلم له سمي بل إنكار أن يُعلم له سمي سبحانه وتعالى ، فلا أحد من خلقه يعلم لله جل وعلا سميا .
والسمي هو المثيل والشبيه والنظير كما فسرها ابن عباس رضي الله عنه وغيره .
وكذلك الند ، الند هو المثيل والنظير كما ذكر ابن جرير عند آية البقرة عند قوله { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً } ، قال : الأنداد جمع الند ، والند هو المثيل والنظير واستشهد لذلك بقول حسان بن ثابت :
أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخيركما الفداءُ
وتروى : أتهجوه ولست له بكفؤ .
فهذا الند والكفؤ والمثيل والسمي هذه كلها معانيها متقاربة ولا ترادف بينها لكن المعاني متقاربة
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان معانيها عند الآيات التي سيوردها الشيخ رحمه الله تعالى بعد ذلك .
قال (ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ سُبْحَانَهَ وَتَعَالَى)
هذه الكلمة من شيخ الاسلام إبطال لأصلٍ أصله الجهمية ، وأصله المعتزلة ، يعني أصله أهل الكلام
أهل البدعة الذين شقوا صف الجماعة في باب الأسماء والصفات بل وفي باب القدر قالوا إن الله جل وعلا يقاس بخلقه
ما معنى القياس ها هنا ؟
يعني أنه ما نفته العقول نفيناه وما أثبته العقل وأثبتته العقول أثبتناه .(1/60)
وبناء على هذا نفوا عن الله جل وعلا أكثر الصفات الذاتية فقالوا إن إثبات الوجه لله جل وعلا يقتضي التجسيم والعقل ينفي هذا .
ينفي أن يتصف الله جل وعلا بهذا لأن الوجه أبعاض وأجزاء والله جل وعلا ليس على ذلك .
قالوا إن الله جل وعلا لا يتصف بأن له يدين وذلك لأن اليد جارحة ، ما الدليل ؟
القياس العقلي ، وهكذا في سائر الصفات .
نعم إن أهل السنة أثبتوا ما أثبته القرآن من القياس وسيأتي ذلك في موضعه لكن ليس هو كل أنواع القياس .
قال هنا (ولاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ) يعني في جميع الصفات التي اتصف الله جل وعلا بها فإنما نثبتها مع قطع القياس وقطع المماثلة مع الخلق مع الخلق .
فنحن نثبت لله جل وعلا الوجه وليس وجه الله جل وعلا كوجه الإنسان أو كوجه مخلوق من مخلوقاته ، نثبت لله جل وعلا اليدين وليست اليدان لله جل وعلا كيدي بعض مخلوقاته ، نثبت لله جل وعلا العينين وليست العينان لله جل وعلا كعيني بعض مخلوقاته وهكذا ، نثبت لله جل وعلا استواء يليق بجلاله وليس استواؤه كاستواء خلقه ، نثبت لله جل وعلا النزول كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه جل وعلا وليس نزول الرحمن جل وعلا كنزول خلقه .
وهذا كله على هذه القاعدة لأنه سبحانه (لاَ يُقَاسُ بِخَلْقِهِ) .
وإنما كما ذكرنا من القاعدة أن القول في الصفات كالقول في الذات .
كما أن الله جل وعلا لا تشبهه ولا تماثله شيء من الذوات فكذلك أسماؤه في عموم معناها وكُنْهِ اتصاف الله جل وعلا بها ، وكيفية الاتصاف وأثر ذلك الأسماء .
كذلك لا يقاس هذا بخلق الله جل وعلا في أسمائهم إلى غير ذلك من الأصول العظيمة .
ثم ذكر تعليلا آخر للاتباع فقال (فَإنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ)
لِمَ اتبعنا على هذا الوجه من التسليم ؟
لِمَ لم ندخل في هذا الأمر بالقياس وبالعقل وبما أصله طوائف ممن يسميهم أولئك الحكماء ؟(1/61)
لأن الله جل وعلا هو الذي وصف نفسه بذلك وهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره .
هل تعلمون ذلك منه ؟ هل تعلمون كيف اتصف الله بصفاته ؟
هل يعلم المبتدعة والمؤولة والمحرفة كل المعنى الذي تحمله الصفة ؟
الجواب لا
وإذا كان كذلك فبطلت دعوى المجاز وبطلت دعوى التأويل الذي يصرف الألفاظ عن ظاهرها .
فإن الله جل وعلا أعلم بنفسه .
وهذا الباب باب الأسماء والصفات أعظم الأبواب التي يدخل منها الإيمان إلى القلب .
وإذا كان كذلك إذا كان كذلك فالله جل وعلا لا يبين للعباد من ذلك إلا ما فيه نفعهم .
ولو وقع في الأسماء والصفات في الآيات والأحاديث لو وقع ألفاظ لو جاءت ألفاظ لا تراد ظواهرها من ذلك لوقع عند الناس الاشتباه في هذا الأصل العظيم وهو الإيمان بالله ، لأن الله جل جلاله إنما خضع له العباد وذلوا وعبدوه وأحبوه ورغبوا إليه ورهبوا منه وخافوه ورجوه كل ذلك لشهودهم آثار أسمائه وصفاته ولإيمانهم بأسمائه جل وعلا وصفاته ونعوت جلاله وأنواع توحيده .
فإنهم ما رأوا ذاته جل وعلا وإنما عَلِموه جل وعلا بما علموا من الأسماء والصفات .
وإذا كان كذلك كان محالا أن يبقى هذا الباب ملتبسا على الخلق أو تُذكَر فيها ألفاظ يمكن فيها الاجتهاد كألفاظ الفقه ،كالآيات التي فيه أحكام فقهية أو الأحاديث التي فيها أحكام فقهية التي تحتمل أكثر من معنى في بعضها .
هذا الباب باب الأسماء والصفات محال أن يبقى فيه اللفظ محتملا وذلك لأنه لا مدخل فيه للاجتهاد
وإذا كان فيه مدخل للاجتهاد فمعنى ذلك أن فيه سبيلا لإضلال الناس ، والله جل وعلا إنما عرّف العباد بأسمائه وصفاته وأعلمهم بذلك ليكونوا في هذا الأصل العظيم على يقين وعلى ثَبَت وعلى إدراك تام لصفاته جل وعلا وما دلت عليه من المعاني ، وبهذا تخضع قلوبهم له وتذل قلوبهم له وتألهه جل وعلا محبة وانقيادا وتعظيما .(1/62)
قال هنا (فَإنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ) والعطف هنا في قوله (وبغيره) مهم لأن أولئك النفاة قاسوه جل وعلا بخلقه .
والقياس ممتنع لأن الله أعلم بنفسه فيما وصف به نفسه وأعلم بغيره الذين وصفهم بصفات يشتركون في ألفاظها مع صفات الله جل وعلا ويشتركون في جزء المعنى مع الله جل وعلا - يعني مع صفات الله وأسمائه جل وعلا - .
فهو أعلم بنفسه وما يصلح له وما يليق به جل وعلا ، وأعلم بخلقه وما يصلح لهم وما يليق بهم.
وهو جل وعلا وصف نفسه بالصفات ووصف خلقه .
سمى نفسه بالأسماء وسمى خلقه وهو أعلم بنفسه وبخلقه .
فلو كان مجال القياس واردا كما ادعوه ولو كانت الشبهة ووقوع التمثيل والتجسيم كما ادعوه واردا لكان في هذا إلباسا على متلقي هذا الدين ومتلقي القرآن ليؤمن به ، والله جل وعلا وصف آياته بأنها صدق وعدل فقال سبحانه { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } وفي القراءة الأخرى { وَتَمَّتْ كَلِماتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } وهي صدق في الأخبار وعدل في الأحكام.
ولهذا فإن الله جل وعلا لما كان أعلم بنفسه وبغيره يعني وبخلقه فإنه يُتلقى ما سمى به نفسه وما وصف به نفسه بالتسليم العظيم لأنه لا أحد أعلم بالله من الله ولا أحد أعلم بالله من خلقه من رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
قال بعده (وَأَصْدَقُ قِيلاً)
كما قال سبحانه { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً } وقال (ومن أحسن من الله حديثا) (1)
فالله جل وعلا لا أحد أصدق منه قيلا بل هو جل وعلا الذي كلماته صدق في أخباره إذا أخبر عن نفسه فهو صدق وحق ، وإذا أخبر عن أسمائه فهو صدق وحق وإذا أخبر عن صفاته فهو صدق وحق وإذا كان كذلك فمعناه أن دعاوى أولئك كلَها باطلة .
قال (وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ)
ثم قال رحمه الله تعالى (ثُمَّ رُسُلُه صَادِقُونَ مُصَدَّقُون)
__________
(1) 1 لم أجدها في المصحف(1/63)
الرسل جمع رسول وهم الذين أوحي إليهم بكتاب وأمروا بتبليغه إلى قوم مخالفين كما مر معنا في أول هذه الرسالة .
(صادقون) صادقون جمع الصادق والصادق اسم لمن قام به الصدق ، والصدق مطابقة الخبر للواقع كما قال : والصدق أن يطابق الواقع ما تقوله ... ... ...
إذا طابق الواقع ما تقوله فهذا هو الصدق ، إذا خالف الواقع ، إذا خالف ما تقوله الواقع ، أو خالف الواقع ما تقوله فإن هذا يعد كذبا سواء كان خطأ أو كان متعمدا ، هذا في الاصطلاح .
ورسل الله جل وعلا صادقون يعني قام بهم الصدق ، لم يخبروا بشيء من أسماء الله جل وعلا وصفاته ولا من دينه إلا وقد طابق الواقع .
فهم لم يذكروا شيئا عن الله جل وعلا لا يطابق الواقع بل ما وصفوا الله جل وعلا به هذا يطابق الحال .
وصف الرسل ربهم جل وعلا بأنه استوى على العرش فقال موسى لفرعون ذكر أن ربه جل وعلا هو الأعلى فقال فرعون { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } فهذا العلو نفاه فرعون .
ورسل الله مجمعون على إرشاد الناس وتبيين تلك الصفات لهم .
فهو جل وعلا له الصفات وأخبر رسله بما له من الصفات ورسله أخبروا الخلق بذلك وهم صادقون في ذلك .
فمن نفى صفة فقد كذب الرسول ، هذا حقيقة حاله .
لكن قد يكون التكذيب له وجه من العذر فلا يكون كافرا بذلك .
(رسله صادقون مصدوقون ... (1)
قال هنا (بِخِلاَفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لاَ يَعْلَمُونَ)
القول على الله بلا علم حرام ، سواء أكان القول في الأسماء والصفات في العقائد أو في الأحكام العملية ، يعني سواء أكان في الأحكام الخبرية التي هي العقائد أو في الحلال والحرام وهي الأحكام العملية .
القول على الله بلا علم أشد المحرمات ولهذا عنه تفرع كل ضلال ، وقد ذكر الله جل وعلا تحريمه في عدة آيات في كتابه جل وعلا .
__________
(1) هنا يوجد مسحٌ في الشريط(1/64)
مَن هم الذين قالوا على الله ما لا يعلمون ؟
قالها كل مخالف للرسل .
فإن مشركي العرب مثلا وصفوا الله جل وعلا بخلاف ما قاله الرسل بخلاف ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام ، وأخبروا عن أسماء الله جل وعلا بخلاف ما جاءت به الرسل وعن صفات الله جل وعلا بخلاف ما جاءت به الرسل ، بل أثبتوا لله صفات ونفوا أسماء بما عندهم .
فقال الله جل وعلا عنهم { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } وهذا قول على الله بلا علم .
وقال عن اليهود { لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } وأخبر أنهم قالوا { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } وهذا كله في باب الأسماء والصفات ، قالوا على الله ما لا يعلمون .
ورث هذا القول منهم من أولئك طوائفُ الضلال .
فالجهمية ومن تفرع عنهم من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وأشباه هؤلاء ، كل طائفة أثبتت لله أسماء ونفت صفات من عقولهم ومن آرائهم بلا دليل .
فجعلوا من أسماء الله جل وعلا وصفاته الصفات السلبية مثل القديم ونحو ذلك مثل الموجود .
فجعلوها من الأسماء ومن الصفات .
والمعتزلة بل الجهمية قبلهم نفوا أن يكون لله جل وعلا أسماء فيها صفات .
فيفسرها الجهمية ، يفسرون الأسماء بالمخلوقات المنفصلة .
والمعتزلة يفسرون الأسماء بالذات التي ليس فيها صفة ، فيجعلون دلالة السميع هي دلالة العليم هي دلالة البصير دلالة على الذات بدون المعنى فتكون عندهم من قبيل المترادف المحض لأنها دالة على ذات بلا معنى .
وهذا كله قول على الله بلا علم ، هذه بلا شك جمل من الكلام وعرض عام سيأتي تفصيله بدقته وبتحريراته في مواضعه من هذه الرسالة .
قال هنا (َلِهَذَا قَالَ { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ)(1/65)
وقوله هنا (سُبْحَانَ رَبِّكَ) سبحان هذا مفعول مطلق ، يعني أسبح سبحان ، وأصله في اللغة معناه الإبعاد ، يقولون سبحان فلان من كذا يعني : بعد فلان من كذا ، وقد قال الشاعر :
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة التفاخر
يقول : أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة يعني : بعيد جدا أن يكون لعلقمة من يفخروا به
وتسبيح الله (سبحان الله) معناها تنزيه الله عن كل نقص وعيب وسوء ,
وموارده في الكتاب والسنة خمسة :
" تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في الربوبية كما ادعاه الملحدون .
" تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في الألوهية كما ادعاه المشركون .
" تنزيه الله جل وعلا في أسمائه وصفاته أن تسلب معانيها اللائقة بها وتنزيه الله جل وعلا في أسمائه وصفاته عن مماثلة المخلوقين لها .
" تنزيه الله جل وعلا - هذا الرابع - تنزيه الله جل وعلا في أمره الكوني وقدره الكوني عن أن يكون بلا حكمة أو أن يكون عبثا كما ادعاه من قالوا خلقنا الله عبثا ، ومن نفوا الحكمة في الخلق والإيجاد وتقدير الأشياء .
" والخامس وهو الأخير : تنزيه الله جل وعلا في شرعه وأمره الديني عن النقص وعن منافاة الحكمة .
فالله جل وعلا ينزه نفسه بقوله { سُبْحَانَ رَبِّكَ } يعني تنزيها لله من كل سوء ادعاه المخالفون للرسل ، وهم ادعوا الشركة له في الربوبية فينزه الله جل وعلى عن الشريك في الربوبية
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ } يعني تنزيها لله .
إذا قلت في الركوع سبحان ربي العظيم معناه تنزيها لله ربي العظيم عن كل سوء ونقص في هذه المواد الخمسة التي في الكتاب والسنة : في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات وفي الشرع وفي الأمر الكوني والقدر .
قال هنا (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ)(1/66)
(ربك) هنا الإضافة للتشريف ، أضاف الربوبية إلى النبي عليه الصلاة والسلام لتشريفه بها في هذا المقام العظيم وهذا يقتضي أن كلام النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه الذي جحده الجاحدون أنه هو الأكمل وهو الأليق بالله جل وعلا .
ثم قال بعدها { رَبِّ الْعِزَّةِ } { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ } بمعنى صاحب العزة ، بمعنى ذي العزة ، المتصف بالعزة .
والعزة صفة لله جل وعلا ، ومن أسمائه سبحانه وتعالى العزيز .
والعزيز هو الذي كملت له أوصاف العزة .
والعزة في الكتاب والسنة جاءت ـ يعني التي يتصف الله جل وعلا بها ـ جاءت على ثلاث معان :
" الأول العزة التي هي بمعنى الامتناع والغنى وعدم الحاجة ، الامتناع عمن يغالب أو عمن يسيء والغنى ـ هذه كلها معنى واحد ـ والغنى عن الخلق .
" والثاني العزة بمعنى القهر والغلبة .
" والثالث العزة بمعنى القوة ، طبعا معنى القوة الخاصة ، قوة لا يقوى عليها قوة لا يند عنها شيء
وهذه هي التي ذكرها ابن القيم هذه المعاني الثلاث في النونية
حيث قال في بيان معاني اسم الله العزيز قال رحمه الله :
وهو العزيز فلن يرام جنابه ... أنى يُرامُ جنابُ ذي السلطان
وهو العزيز القاهر الغلابُ لم ... يغلبه شيء هذه صفتان
وهو العزيز بقوة هي وصفه ... فالعز حينئذ ثلاث معاني
وهي التي كملت له سبحانه ... ............ إلى آخر ما قال
هنا ذكر الثلاث ، معاني العزة ، قال (وهو العزيز فلن يرام جنابه) ، وهذا هو الأول وهي عزة الامتناع وهي التي بمعنى الغنى التام والامتناع عن أن يضره أحد كما قال (إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) وكذلك عن أن ينفعه أحد امتناع عن أن ينفعه أحد (ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) هذا المعنى الأول
وهو العزيز فلن يرام جنابه ... أنى يُرامُ جنابُ ذي السلطان
المعنى الثاني قال (وهو العزيز القاهر الغلابُ) العزة بمعنى القهر والغلبة (لم يغلبه شيء هذه صفتان) .
ثم المعنى الثالث وهو العزيز بقوة هي وصفه .(1/67)
أما الثالث وهو العزيز بمعنى ذو القوة الكاملة العظيمة التي لا يقوى عليها شيء فهذه تكون في الكتاب والسنة في فعلها من عَز يعَز بالفتح ، كما قال سبحانه مثلا في سورة يس { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } يعني قوينا وأيدنا بثالث .
وأما العزة بمعنى الامتناع فهذه يأتي فعلها مكسورا عَز يعِز .
وأما القهر والغلبة فيكون فعلها المضارع مضموما عز يعُز عِزة ، المصدر في الجميع عزة ، لكن المضارع يختلف المعنى ، هكذا قرره ابن القيم وغيره ـ العلماء ـ .
......
نعم القهر والغلبة هذه متعدية ، والقوة هذه لازمة .
قال { عَمَّا يَصِفُونَ } { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } .
وبهذا يصح أن تقول لله جل وعلا بهذا الدليل رب الرحمة ، رب السمع ، رب البصر ، رب العزة ، رب الجمال ، رب النور ، ونحو ذلك بمعنى صاحب يعني المتصف بهذه .
قال (عَمَّا يَصِفُونَ)
يعني عن الذي يصفون ، والمفعول به - الذي هو الضمير - محذوف
يعني (عما) عن الذي يصفونه يعني هو الله جل وعلا به .
ومن هم الواصفون الذين نزه الله جل وعلا نفسه عن وصفهم ؟
هم الذين لم يستجيبوا للرسل .
فقال (وسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)
وذلك لأن المرسلين أنزل الله جل وعلا عليهم السلام , وهو جل وعلا السلام ، من أسمائه السلام ، وهو الذي يعطي السلامة .
وقال هنا عن نفسه { سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } فهو الذي جعل الأنبياء والمرسلين أهل للسلامة .
والسلامة متبعضة : هناك سلامة في القول في صحته ومطابقته للواقع ، وسلامة في الفهم ، وسلامة في العبودية ، وسلامة في الاعتقاد ، وسلامة في التبليغ .
فجهات السلامة كثيرة ، والله جل وعلا أعطاها عباده المرسلين .
ولهذا قال هنا { سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } وأفاد الإعطاء التعدية بـ(على) قال { سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } .
وفي قوله (على) ما يفيد أن السلامة صارت عليهم وقد أحاطت بهم .(1/68)
وهذا في هذا المقام ظاهر الفائدة لأن المرسلين وصفوا الله جل وعلا بالصفات العلا وسموه بالأسماء الحسنى .
وفي هذه السورة التي هي سورة الصافات ذكر الله جل وعلا عن المشركين أنهم استكبروا عن قول لا إله إلا الله فقال فيها { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } وذكر في آخر السورة أنهم جعلوا الملائكة بناتا لله جل وعلا , وهذا فيه وصف لله جل وعلا .
والأنبياء والرسل لم يصفوا الله جل وعلا بذلك بل هم سالمون مسلّمون في أقوالهم وفي أعمالهم وفي تبليغهم ، ولهذا قال هنا { وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } لسلامة ما وصفوه به من النقص والعيب وهذا لا شك أنه واسع المعنى .
ثم قال (وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
والحمد مر معنا معانيه كثيرة في أول هذه الرسالة .
وقوله هنا { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } هذا فيه فائدة نبهنا عليه مرارا وهو أن هذه الآية دليل على أن الربوبية غير الألهية لأنه قال (الحمد لله)
والمعتمد عندنا أن لفظ الجلالة (الله) مشتق وعليه يكون مشتقا من الألوهة ، لأن الاشتقاق يكون من المصدر .
والرب من الربوبية ، والربوبية إذن غير الألوهية .
و قد قال الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إن اسم الرب والإله من الأسماء التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت ، وذلك إما بدلالة اللفظ أو بدلالة التضمن واللزوم .
قال (رَبِّ الْعَالَمِينَ)
العالمون جمع العالم ، والعالم كل ما سوى الله جل وعلا ، فكل ما سوى الله جل وعلا عالم وسمي عالما من العلامة ، لأنه علامة على أنه مربوب وأن له ربا خالقا , أو من العلم لأن به علم ما لله جل وعلا من الحق والأسماء والصفات كما قال الشاعر :
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد(1/69)
قال بعدها شيخ الإسلام (فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ، وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ؛ لِسَلاَمَةِ مَا قَالُوهُ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيما وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بينَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ)
الله جل علا جمع بين النفي والإثبات في قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }
نفى في قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وأثبت في قوله { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
كذلك قال { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فأثبت ثم قال { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } فنفى
وقال سبحانه { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ } فيها إثبات في هاتين الآيتين ، ثم نفى فقال { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } .
وهذا فيه بيان لقاعدة أهل السنة والجماعة في ذلك بأعظم وأوضح استدلال بأنهم يجمعون في عقائدهم في الأسماء والصفات بين النفي والإثبات .
وعندهم النفي يكون مجملا كما أجمله الله جل وعلا .
وعندهم الإثبات يكون مفصلا كما فصله الله جل وعلا .
وأما النفي المفصل الذي جاء في القرآن كقوله { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } وكقوله { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } وكقوله { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } فإن النفي لا يكون كمالا ولا يمدح به المنفي إلا إذا كان النفي يراد به إثبات كمال الضد.
الله جل وعلا نفى عن نفسه الظلم والغرض من ذلك إثبات كمال ضد صفة الظلم وهو العدل .
{ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } في هذا إثبات لكمال اتصافه بضد الظلم وهو العدل .(1/70)
وبعض العلماء يسمي هذه الصفات السلبية يعني الصفات المسلوبة عن الله جل وعلا .
وما الفائدة من السلب ؟
الفائدة منه أن يثبت كمال ضده ، { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } وذلك لكمال حياته سبحانه .
وقد يكون النفي لإثبات صفة واحدة وقد يكون النفي لإثبات صفتين معا - يعني النفي يكون المراد منه إثبات الصفتين جميعا - .
يدل على ذلك قوله { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ } العجز الذي نفاه الله جل وعلا عن نفسه قال العلماء إما أن يكون لأجل عدم العلم .
عَجَزَ عن الشيء لأجل أنه ليس بعالم به ، وإما أن يكون العجز لأجل عدم القدرة عليه ، لأجل عدم القدرة عليه وغير قادر عليه .
عجزت عن الكتابة لأني غير قادر عليها ، عجزت عن المسير لأني غير قادر عليه .
لكن عجزت عن جواب سؤال لأني غير عالم به .
فقوله هنا في هذا النفي { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ } يراد به إثبات كمال ضد العجز .
وكمال ضد العجز يكون بكمال صفتين :
وهي صفة العلم وصفة القدرة ولهذا قال جل وعلا في آخر هذه الآية قال { إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا }
قال { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } .
وقد تقرر أن كلمة (إنه) في القرآن من أساليب التعليل لما قبلها إذا كان خبرا أو أمرا أو نهيا أو حكما أو استفهاما ، يكون ما بعد إن تعليل لما قبلها .
{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ } ما علة ذلك ؟
قال { إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } وهذا فيه ظهور أن النفي هنا أريد به إثبات كمال ضده وهما صفتان صفة العلم وصفة القدرة .(1/71)
ولذلك وصف الله جل وعلا نفسه بذلك في قوله { إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } مع ما في (كان) من إثبات الكمال السابق واللاحق ، وما في قوله { عَلِيمًا قَدِيرًا } من إثبات الكمال بدلالة صيغة المبالغة عليه .
قال هنا (بينَ النَّفْيِ وَالإِثْبَاتِ)
المبتدعة عندهم عكس ذلك ، عندهم الإثبات مجمل ، نثبت لله صفات الكمال ما هي ؟
عندهم إجمال ، أما النفي فإنه يكون مفصلا .
يقولون الله جل وعلا ليس بذي دم وليس بذي جوارح وليس بذي روح ولا بذي أبعاض ولا هو فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا بذي جهة وليس بداخل العالم ولا خارجه ... الخ .
عندهم النفي كما ترى في كتاب التمهيد وغيره وكتب أهل الكلام ـ التمهيد يعني للباقلاني ـ ترى أنه يأتي في وصف الله في النفي في صفحتين أو أكثر كلها نفي مفصل ، ليس بكذا وليس بكذا وليس بكذا ، وإذا أتى الإثبات أجمله فقال وله صفات الكمال ، ما هي ؟
الصفات التي يثبتونها وهي الصفات السبع العقلية .
قال (فَلاَ عُدُولَ لأَهْلِ السُّنَّةٌ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ)
وهذه كلمة عظيمة تدل على أن أهل السنة والجماعة يعني السلف الصالح أنهم تبعوا المرسلين .
و (لا عدول لهم) يعني لا ميل لهم ولا انحراف ، ولا يعدلون لا يوازنون بما جاء به المرسلون شيئا
بل هم متبعون للمرسلين ، وأما غيرهم فهم متبعون للمشركين أو لليهود أو للنصارى أو للملحدين
فكل بدعة في الأسماء والصفات ظهرت في هذه الأمة فإنها لم تُستقى من الأنبياء والمرسلين وحاشاهم من ذلك وإنما أخذت من المشركين وأهل الكتاب .
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام (لتتبعن سنن من كان قبلكم) وبين عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر الذي رواه البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال (إن أبغض الرجال إلى الله ثلاثة) وذكر منهم (مبتغ في الاسلام سنة الجاهلية) .(1/72)
وإذا رأيت فإن المشركين نفوا عن الله جل وعلا اسما من أسمائه الحسنى فنفوا اسم الرحمن عن الله .
قال سبحانه { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } فورثه النفاة - نفاة الأسماء في هذه الأمة - واتبعوا سبيل أهل الجاهلية فنفوا عن الله جل وعلا الأسماء الحسنى .
أولئك وصفوا الله بما لم يصف به نفسه ونفوا عن الله جل وعلا ما وصف به نفسه من اليهود والنصارى وجعلوا له مثيلا وشبيها فورثهم المجسمة وورثهم المؤولة .
فإذن كل بدعة حصلت في هذه الأمة في أبواب الأسماء والصفات فإنها من ابتغاء سنة الجاهلية ، فإن أهلها إنما أخذوها من اليهود والنصارى والمشركين .
كذلك في باب الإيمان ، الذين قالوا بالجبر إنما أخذوها من الجبرية وهم طائفة كانت قبل النبي عليه الصلاة والسلام موجودة .
كذلك الذين قالوا بالإرجاء ورثوها ممن قبلهم .
وكذلك في أبواب الإمامة ، فإن اجتماع الناس على إمام واحد يطيعونه ويرضونه هذا إنما جاءت به الرسل أما أهل الجاهلية فإنهم يعدون التفرق مفخرة ويعدون الاتباع والطاعة لولي أمر واحد يعدون ذلك مسبة وذلا ، وهكذا ، في أبواب الصحابة ، المشركون يسبون أتباع الرسل { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ } وفي هذه الأمة في باب العقائد خالف من خالف في العقيدة في الصحابة في أتباع الرسل فسبوهم .
يعني أن أهل السنة والجماعة تبعوا المرسلين وكل من خالف أهل السنة والجماعة فإنما تبع أهل الجاهلية وهذه جملة يطول تفصيلها .
قال (فَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ)
يعني الطريق الوحيد الموصل لرضا الله جل وعلا .
(صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ والصَالِحِينَ)
وهذه جملة يؤخذ تفسيرها من الآية ونقف عند قوله (وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ: مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ) أكرر وأقول إن ما ذكر هذا عرض إجمالي لا بد منه - لما ذكر من الكلمات والجمل - .(1/73)
وأما تفصيل الكلام على الصفات في مواضعها إن شاء الله تعالى وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } حمدا كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد :
فهذه الجمل التي سيأتي بيان ما فيها من العلم النافع من كلام شيخ الاسلام والمسلمين أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى .
هذه الجمل هي كالتفصيل بل هي تفصيل لما سبق من ذكر مجمل أركان الإيمان فإنه ذكر أركان الإيمان مجملة دون تفصيل ، ولهذا قال بعد أن ذكر أركان الإيمان قال (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
قال (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ)
يعني أن الإيمان بالصفات ، الإيمان بما وصف الله جل وعلا به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فيما ثبت في السنة أن هذا بعض الإيمان بالله .
وذلك لأن الإيمان بالله جل وعلا متركب من ثلاثة أشياء :
الإيمان بأن الله جل وعلا واحد في ربوبيته ، واحد في إلهيته واحد في أسمائه وصفاته .
فالإيمان بتوحيد الأسماء والصفات هو بعض الإيمان بالله ولهذا قال (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ) .
وهذه الجملة تفيد أن أهل السنة والجماعة الذين يقررون هذا الاعتقاد أنهم ساعون في تكميل الإيمان بالله بإيمانهم بالأسماء والصفات التي أخبر الله جل وعلا بها عن نفسه وأخبر بها عنه أعلم الخلق بربه النبي محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وذكر ها هنا القاعدة العظيمة في هذا الباب وذلك بقوله (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) .(1/74)
وهذه تقرير لقاعدة هذا الباب ، وهذا الباب أعني باب الأسماء والصفات سيكون في هذه الرسالة في أكثرها فإنه أطال عليه المؤلف رحمه الله تعالى إطالة لشدة الحاجة إليه ولكثرة المخالفين فيه ولكثرة الاشتباه في هذا الباب .
ذكر قاعدة هذا الباب بقوله (الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) وهذه الجملة نأخذ منها أن هذا الباب إنما عمدته على كتاب الله جل وعلا وعلى السنة التي ثبتت عن المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فإذن مصدر توحيد الأسماء والصفات إنما هو الكتاب والسنة ، وهذا كما قال أئمتنا رحمهم الله تعالى ومنهم الإمام أحمد بن حنبل الشيباني رحمه الله إذ قال في الصفات (لا نتجاوز القرآن والحديث) يعني في الأسماء والصفات وفي الأمور الغيبية ، لا نتجاوز القرآن والحديث .
فصارت قاعدة أن ما جاء في كتاب الله وما ثبت في السنة أنه يثبت لله جل وعلا من الأسماء والصفات والأفعال وكذلك في الاعتقادات في الأمور الغيبية .
وإذا تقرر هذا وأن القاعدة أن كل ما جاء في الكتاب من صفة الله جل وعلا ومن أسمائه ومن أفعاله أنه يُثبَتُ لله جل وعلا ، وما ثبت في السنة يثبت لله جل وعلا ، إذا تقرر هذا فثم بيان وهو أن ما يوصف الله جل وعلا به مما يكون في كلام أهل العلم مما لم يأت في الكتاب والسنة هذا على أقسام
فإن القاعدة كما ذكرنا أنه لا يتجاوز القرآن والحديث ، ولكن ربما استعمل بعض أهل العلم من أئمة السنة ألفاظا هي داخلة في باب الصفات أو داخلة في باب الأفعال ولم تثبت صفة لله جل وعلا في الكتاب والسنة .
وهذا الباب قال أهل العلم إنه من باب الإخبار، والقاعدة عندهم أن (باب الأخبار أوسع من باب الصفات كما أن باب الصفات أوسع من باب الأسماء) .
وهذا القسم سيأتي إن شاء الله إيضاح هذه القاعدة بعد ذكر بقية الأقسام .(1/75)
وتارة يكون ثَمَ ذكرٌ لصفة من الصفات أو لفعل من الأفعال ولا يصح أن ينسب إلى الله جل وعلا.
فقد يطلق بعض التابعين أو بعض العلماء كلمة لا تصح أن تكون صفة لله جل وعلا .
أطلقوها إما من جهة الاجتهاد أو من جهة الحاجة إليها في زمن معين ونحو ذلك .
وإذا كانت الصفة لا يصح أن يوصف الله جل وعلا بها فإنها ترد لأن قاعدة هذا الباب أن لا يتجاوز القرآن والحديث .
ومن الأقسام في هذا أيضا وهو القسم الثالث أن يكون ثَمَ إطلاق لبعض الكلمات التي فيها وصف لله جل وعلا لكن ليس هناك ظهور في معناها من أنها تحمل معنى صحيحا يصح أن يقال إنه من باب الإخبار عن الله جل وعلا بما ثبت جنسه أو معناه في الكتاب والسنة .
وقد يكون أنها تحتمل المعنى الصحيح أو تحتمل معنىً غير صحيح .
وذلك في مثل تسمية الله جل وعلا بـ (الدليل) مثلا ، فإن بعض أهل العلم سموا الله جل وعلا بذلك من باب الإخبار خاصة في الدعاء من مثل ما أرشد به الإمام أحمد حيث أرشد من يدعو إلى أن يدعو بقوله (يا دليل الحيارى دلني على صراطك المستقيم) أو نحو ذلك .
فأثبت طائفة هذا الاسم ولكن هذا يحتمل ، يحتمل المعنى الصحيح ويحتمل معنى آخر .
ولهذا فإن هذا الباب يطلق فيه مما لم يأت في الكتاب والسنة مما جاء على هذا مما هو محتمل يطلق فيه على الوجه الذي يكون فيه كمال لله جل وعلا .
وهذا في مثل هذا الاسم وهو الدليل ، فإن الله جل وعلا دليل دل العباد عليه ، فإن العباد ما استدلوا على الله جل وعلا إلا بدلالته ، فالله جل وعلا دليل وهو جل وعلا مدلول عليه أيضا ، ولهذا المعنى الصحيح ساغ الإخبار بمثل هذا ، وسيأتي إن شاء الله مزيد تفصيل .
المقصود أن القاعدة المقررة عندهم هي أن لا يتجاوز القرآن والحديث ، فما لم يأت في الكتاب والسنة من الصفات مما ليس جنسه موجوداً في الكتاب والسنة ، ليس معناه ، فإنه لا يصح أن ينسب إلى الله جل وعلا ولو في باب الأخبار .(1/76)
ولكن إذا كان في باب الأخبار قد جاء مثله فإنه ينسب وقد يسمى الله جل وعلا بذلك من باب الأخبار مثل ما يقال إنه جل وعلا (قديم) أو إنه (صانع) أو أنه (مريد) ونحو ذلك ، فهذه الألفاظ لم تأت لا في القرآن ولا في السنة أن الله جل وعلا قديم أو أنه مريد يعني بالاسم أو التسمية الخاصة باسم الصانع .
وذلك لأن هذه الأشياء تنقسم إلى ما فيه كمال وما فيه نقص فلاحتمالها لم تطلق في باب الصفات وإنما يجوز أن تطلق في باب الخبر عن الله جل وعلا ، يعني يخبر عن الله جل وعلا بأنه موجود ، بأنه مريد ، يخبر عن الله جل وعلا بأنه قديم ، وهذا ليس من باب الاسم ولا من باب الصفة .
يتبع هذا أن نذكر قواعد مهمة في مقدمة شرحنا لهذا الكتاب العظيم وهو العقيدة الواسطية .
قواعد مهمة في باب الأسماء والصفات هي كالتفصيل لهذه القاعدة التي نبه عليها شيخ الإسلام بقوله (وَمِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتِابِهِ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) .
" فمن القواعد المقررة في ذلك أن باب الأسماء لله جل وعلا أضيق من باب الصفات وأن باب الصفات أضيق من باب الأفعال وأن باب الأفعال أضيق من باب الإخبار .
ومعنى هذا بعبارة مختلفة : أن باب الأخبار أو باب الإخبار عن الله جل وعلا أوسع من باب الأفعال وباب الأفعال أوسع من باب الصفات وباب الصفات أوسع من باب الأسماء .
فإذا ثبت في الكتاب والسنة صفة لله جل وعلا لا يعني أنه يسوغ أن يشتق منها اسم لله جل وعلا بل قد يكون ثم صفة ُوصِف الله جل وعلا بها ولا يلزم أن يشتق له منها جل وعلا اسم .
لأن هذا الباب مبناه على التوقيف ، ليس مبناه على الاشتقاق ، مبناه على التوقيف .
فإذا أطلق الاسم تقيدنا بذلك بإثبات الاسم إذا أطلقت الصفة تقيدنا بذلك بإطلاق الصفة .(1/77)
لكن إذا ثبت الاسم لله فإننا - كما سيأتي في القاعدة التي تلي إن شاء الله - فإنه لأن باب الأسماء أضيق فإن الاسم يشتمل على دلالة على الذات وعلى دلالة على الصفة ، فيشتق من الاسم صفة ، فمثلا الله جل وعلا (الرحمن) فنقول إنه جل وعلا موصوف بصفة الرحمة ، الله جل وعلا (السميع) نقول إنه جل وعلا موصوف بصفة السمع ، الله جل وعلا (حيي) نقول إنه جل وعلا موصوف بصفة الحياء ونحو ذلك ، وهذا كثير في هذا الباب .
كذلك باب الأفعال أوسع من باب الصفات .
يعني قد يكون في الكتاب والسنة وصف الله جل وعلا بالفعل ولكن لم تأت الصفة من الفعل فهنا يُتقيد بالكتاب والسنة فنثبت لله جل وعلا ما أثبته لنفسه بالفعل وأما الصفة أو الاسم من باب أولى فإنه لا يذكر ـ يعني لا يوصف الله جل وعلا به ـ
مثلا إنه جل وعلا وصف نفسه بأنه ( يستهزئ) وأنه (يخادع) وأنه جل وعلا (يمكر) وهذه أفعال هي لله جل وعلا على وصف الكمال ونعت الكمال الذي لا يشوبه نقص .
وقد أطلقت في الكتاب والسنة بالمقابلة ، قال جل وعلا (يستهزئون) في سورة البقرة ، يستهزئون { اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } وقال جل وعلا { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } وقال جل وعلا { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ } .
فإذن هذه ُوصِف الله جل وعلا بها من باب ذكر فعله جل وعلا .
فلا يشتق له من ذلك اسم كما غلط من غلط في ذلك من أمثال القرطبي في شرحه للأسماء الحسنى في قوله إنه يشتق من يمكر ماكر أو أن من صفاته المكر هكذا بإطلاق ، أو أنه يشتق له من قوله (يستهزئ) أنه مستهزئ ، أو أن له صفة الاستهزاء بإطلاق ونحو ذلك .
وإنما المقرر أن لا يتجاوز القرآن والحديث ، فيقال يوصف الله جل وعلا بأنه يستهزئ بمن استهزأ به
فنأتي بصيغة الفعل لأن هذا هو محض الاتباع .
أما إطلاق اشتقاقات فإن هذا فيه شيء .
نعم قد يطلق الاشتقاق مقيدا وهذا ينفي النقص .(1/78)
فنقول ، فيقول القائل مثلا الله جل وعلا يوصف بمخادعة من خادعه ، يوصف بالاستهزاء بمن استهزأ بمن استهزأ به أو بأوليائه ، يوصف بالمكر بمن مكر به أو بنبيه أو بأوليائه ،وهذا إذا كان على وجه التقييد إذا كان على وجه التقييد فإنه أجازه العلماء لأنه ليس فيه نقص وليس فيه تعد بالمعنى لأن المعنى المراد هو إثبات الصفة مقيدة .
ولكن الأولى أن يُلزَم ما جاء في الكتاب والسنة .
مثل صفة (الملل) ، الله جل وعلا لا يقال إنه يوصف بالملل .
هذا باطل ، لأن الملل نقص ولكن الله جل وعلا وصف نفسه بأنه يمل ممن مل منه وهذا على جهة الكمال .
فإن هذه الصفات التي تحتمل كمالا ونقصا فإن لله جل وعلا منها الكمال .
والكمال فيها يكون على أنحاء منها أن يكون على وجه المقابلة .
قال جل وعلا { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } وقال جل وعلا { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ } فهو جل وعلا يخادع من خادعه ، يستهزئ بمن استهزأ به ، وهذا كمال لأنه من آثار أنه جل وعلا .
عزيز جبار ذو الجلال وذو الكمال وذو القدرة العظيمة فهو جل وعلا لا يعجزه شيء .
" ومن القواعد - وتفصيل أيضا - باب الإخبار أوسع من باب الأفعال ، يعني أن باب الأفعال مقيد بالنصوص .
ولكن قد يكون باب الإخبار نخبر عن الله جل وعلا بفعل أو بصفة أو باسم ، لكنه ليس من باب وصف الله جل وعلا به وإنما من جهة الإخبار لا جهة الوصف .
وهذا سائغ كما ذكرت لك آنفا لأن باب الأخبار أوسع هذه الأبواب .
فإذا كان الإخبار بمعنى صحيح لم ينفَ في الكتاب والسنة وثبت جنسه في الكتاب والسنة فإنه لا بأس أن يخبر عن ذلك .
مثل أن يخبر عن الله جل وعلا بأنه (الصانع) فإنه جاء في القرآن قوله جل وعلا { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } وقد جاء أيضا في الحديث (إن الله صانع ما شاء) وكذلك (إن الله صانع كل صانع وصنعته) -
......(1/79)
(إن الله صانع) هذه رواية الحاكم في المستدرك
(إن الله صانعُ كل صانع وصنعته) بلفظ صانع
والذي في مسلم (إن الله خالق ما شاء - أو إن الله صانع ما شاء -) هذا أيضا من هذا الباب فإن لفظ الصانع مثل (المريد) .
قال بعض أهل العلم ومنه (الشيء) فإنه يخبر عن الله جل وعلا بـ ( الشيء ) .
وهذا فيه نظر لأنه جاء في الصحيح صحيح البخاري أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (لا شيء أغير من الله جل وعلا) والمقصود من هذا أن هذه القاعدة مهمة لك جدا فيما سنأتي من بيان الأسماء والصفات وتقرير عقيدة أهل السنة والجماعة في ذلك .
من القواعد في هذا الباب أن
....
- أنا ذكرت لك هذا ، تقيّد بما قيدت به في النصوص فالله جل وعلا لم يصف نفسه بأنه يستهزئ دون مقابلة وإنما وصف نفسه بأنه يستهزئ بمن استهزأ به فقال { مُسْتَهْزِؤُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } لم يصف نفسه مطلقا بأنه يخادع بل وصف نفسه بأنه يخادع من خادعه .
وهذا كله تقييد وذلك لأن هذه الصفات تحتمل كمالا ونقصا فإنها عند الناس ، عند الناس أن ذو الاستهزاء وذو المخادعة وذو المكر ونحو ذلك أنها ليست بجهات كمال ، والله جل وعلا كل كمال في المخلوق هو جل وعلا أحق به ، كل كمال في المخلوق الله جل وعلا أحق به .
وهذه الأشياء مثل مثلا الاستهزاء فإن الذي لا يردّ على الاستهزاء في العرف العام هذا قد يكون مأخذه العجز وقد يكون مأخذه الضعف ، مثل من يستهزئ به كبير قوم أو يستهزئ به أمير أو ملك أو رئيس أو نحو ذلك ، فمن جهة الضعف لا يرد ذلك والله جل وعلا موصوف بصفات الكمال .
ولهذا مع أن العرب تعلم أن الجهل مذموم وتذم الجاهلين وتذم الجهل لكن قال عمرو بن كلثوم مثبتا لنفسه كمال هذا الوصف بقوله :
ألا لا يجهلنْ أحد علينا ... فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا(1/80)
وذلك لأن الجهل منه على من جهل عليه هذا من آثار قوته وعزته ومن آثار جبروته ومن آثار ملكه وسلطانه فلهذا صار كملا بهذا الاعتبار ، على كل حال هذه لها تفاصيل يأتي إن شاء الله مزيد بيان لها عند الآيات التي فيها تقرير ذلك ـ من القواعد المقررة في ذلك .
.....
نعم .. هو جل وعلا ، يعني قصدك أنه يوصف ، يسمى بأنه ماكر ؟ أو من جهة أنها لم تأت بالمقابلة ؟
هو جاء في السياق ما يدل على ذلك بقوله { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ } فهم ، فالله جل وعلا يمكر وهم يمكرون والله جل وعلا خير من يمكر ، إذا كانوا يمكرون فالله جل وعلا يمكر بهم ، وقد يكون في بعض النصوص إطلاق غير هذه ، استحضر أنا بعض النصوص فيها إطلاق لكنها المعروف أنها تقيَّد بما قيدت به في النصوص الأخرى .
" نقول أيضا من القواعد المقررة في هذا الباب أن أسماء الله جل وعلا لا تحصر بعدد معين كما جاء في الحديث الصحيح - أو الحسن - أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بيَن أن لله جل وعلا أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده ، قال عليه الصلاة والسلام في تعليمه الدعاء (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ماض فيَ حكمك عدل فيَ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي) إلى آخر الحديث ، فدل هذا الحديث على أن أسماء الله جل وعلا لا تُحد بحد ، أما ما جاء في الصحيحين أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة) فهذا تخصيص لتسعة وتسعين اسما بهذا الفضل بأن من أحصاها دخل الجنة وليس معناه حصر الأسماء الحسنى في هذا العدد .(1/81)
وأسماء الله جل وعلا حسنى كما قال سبحانه { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } ومعنى كون أسماء الله جل وعلا حسنى أنها بالغة في الحسن نهاية الحسن وبالغة في الجمال والجلال والكمال نهاية الجلال ونهاية الجمال ونهاية الكمال .
وأسماء الله جل وعلا هذه التسعة والتسعين ، التسعة والتسعين التي قال فيها عليه الصلاة والسلام (من أحصاها دخل الجنة) فُسِّر الإحصاء بأشياء وجماع ذلك ثلاثة أمور ، الإتيان بها مجتمعة هو معنى الإحصاء :
الأول حفظها .
الثاني : معرفة معانيها .
الثالث : التعبد لله جل وعلا بها. حفظها معرفة معانيها التعبد لله جل وعلا بها بسؤاله بها بدعائه بها ونحو ذلك . ...
" القاعدة التالية أن أسماء الله جل وعلا وصفات الله جل وعلا تنقسم باعتبارات ، فمن انقسامها أنها تنقسم إلى صفات ذاتية وصفات فعلية :
- ونعني بالصفات الذاتية الصفة التي لا ينفك لا تنفك عن الله جل وعلا ، يعني أن الله جل وعلا موصوف بها دائما ليس في حال دون حال بل هو جل وعلا موصوف بتلك الصفات الذاتية مثل (الرحمة) فإن الله جل وعلا من صفاته الذاتية أنه (رحيم) أنه (ذو رحمة) وكذلك (الغنى) ، فالله جل وعلا (غني) هذا من صفات الذات ، كذلك (القدرة) فالله جل وعلا (قدير) كذلك من صفات ذاته ، كذلك (العلو) فالله جل وعلا موصوف بأنه (ذو العلو) ونعني بالعلو جميع أقسامه : علو الذات وعلو القهر وعلو القدر وهذا كله صفة ذاتية لله جل وعلا لا تنفك عن الموصوف ، فالله جل وعلا (سميع) هذه صفة ذاتية له جل وعلا ، الله جل وعلا (بصير) صفة ذاتية.(1/82)
- القسم الثاني الصفات الفعلية ، ونعني بالصفات الفعلية التي يتصف الله جل وعلا بها بمشيئته وقدرته ، يعني أنه ربما اتصف بها في حال وربما لم يتصف بها مثل صفة الغضب مثلا ، فالله جل وعلا ليس من صفاته الذاتية الغضب فإنه يغضب ويرضى ، يغضب حينا ويرضى حينا وهذا كما جاء في آية سورة طه قال جل وعلا { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } وهنا الغضب يحل وهذا أيضا جاء مبينا في حديث الشفاعة أنه عليه الصلاة والسلام قال (إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) وهذا باب واسع ، مثل الاستواء فإن الاستواء صفة فعلية باعتبار أن الله جل وعلا لم يكن مستويا على العرش ثم استوى على العرش ، وهذا باب واسع .
وهذا يسمى عند كثير من العلماء يسمى بالصفات الاختيارية وهي التي نفاها ابن كلاب ومن شابهه وأخذ نهجه من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم كما سيأتي تفصيله إن شاء الله في مواضعه .
" أيضا من التقسيمات أن أسماء الله جل وعلا وصفاته من حيث معناها منها ما هو وصف جلال أو أسماء جلال ومنها ما هي أوصاف أو أسماء جمال ومنها ما هي أوصاف أو أسماء لمعاني الربوبية ومنها أوصاف أو أسماء لمعاني الألوهية ونحو ذلك ، فهذه انقسامات للمعاني .
أسماء الله جل وعلا منها أسماء جلال ومنها أسماء جمال وضابط ذلك :(1/83)
- أن أسماء الجمال ما كان فيها فتح باب المحبة من العبد لربه جل وعلا من جنس أسماء وصفات الرحمة كصفة الرحمة والأسماء المأخوذة منها كالرحمن والرحيم ونحو ذلك من جهة أو من مثل اسم الله جل وعلا الجميل أو صفة الجميل صفة الجمال لله ، اسم الله جل وعلا النور أو صفة النور لله جل وعلا ، أن الله جل وعلا رزاق اسم الله الرزاق وأنه ذو الرَّزق ونحو ذلك مما فيه إحسان بالعباد ، هذا يقال له صفات جمال ولهذا يقول شيخ الاسلام في ختمه للقرآن الختم المشهور النسبة إليه يقول في أوله يقول (صدق الله العظيم المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيما وتكبيرا الذي نزل الفرقان على عبده) إلى آخره ، هنا قال (متوحد في الجلال بكمال الجمال) وذلك أن أسماء الله جل وعلا منها جلال ومنها جمال .
- أما أسماء الجلال وصفات الجلال فضابطها أنها الأسماء والصفات التي فيها معاني جبروت الله جل وعلا وعزته وقهره من مثل اسم الله العزيز والقهار والجبار والقوي والمنتقم ونحو ذلك من الأسماء والصفات ، فمعاني العزة ، معاني الجبروت ، معاني القهر ونحو ذلك ،هذه كلها جلال لأنها تورث الإجلال ، تورث التعظيم تورث الخوف والهيبة لله جل وعلا ومن الله جل وعلا .
صفات أو أسماء من جهة الربوبية وذلك اسم الله جل وعلا الرب ، المالك ، الملك ، والسيد عند من أطلقه اسما لله جل وعلا ، ومدبر الأمر ، الذي يجير ولا يجار عليه ، الرزاق ، ونحو ذلك ، معاني الربوبية ، الأسماء التي هي من معاني الربوبية ، هذه كلها يقال لها أسماء فيها معاني الربوبية وقد تكون ببعض الاعتبارات أسماء جلال وقد تكون أسماء جمال ، وهذا باب واسع يطلب من مظانه .
" من القواعد المقررة في الأسماء والصفات أن العقل
......
نعم ، يسأل عن معاني الألوهية ، يعني الأسماء التي فيها معاني الألوهية
هذا مثل الله ، نعم ، والمعبود يعني مع أن المعبود ما أطلق باسم(1/84)
يعني ما فيه معاني تدل على إفراد الله جل وعلا بأفعال العبيد .
..... نعم ، التقسيم هذا من جهة المعنى ، هذا التقسيم يقول دليله ؟
هذا دليله اللغة هذا المعنى ، يعني صفات الجلال هكذا هي في اللغة هذه صفات جلال ، صفات الجمال هي هكذا صفات جمال (إن الله جميل يحب الجمال) هو جميل جل وعلا في ذاته وفي أسمائه وصفاته وأفعاله ، وهو جل وعلا ذو الجلال والإكرام ، فوصف نفسه بأنه ذو الجلال ووصف نفسه بأنه جميل ، والله جل له جمال الذات وله جلال الذات ، وله جلال الصفات والأسماء وله جمال الصفات والأسماء وهذا مأخذه مع النصوص أيضا مأخذه اللغة لأن الجلال غير الجمال ومأخذ الجلال من الأسماء غير مأخذ الجمال من الأسماء ، وهذا ذكره شيخ الاسلام ابن تيمية في مواضع وذكره ابن القيم في مواضع ، وهو مقرر عند العلماء في شرح حديث (إن الله جميل يجب الجمال) وكذلك عند قوله { ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } .
" من القواعد المقررة في هذا أن العقل تابع للنقل وأن النصوص نصوص الكتاب والسنة لا يُحَكّم فيها القوانين العقلية التي اصطلح عليها طوائف من الخلق بل نأخذ القواعد العقلية من النصوص ، النصوص مصدر للقواعد العقلية كما أنها مصدر للشرع وللأحكام ، وهذا فيه إبطال لمن قدم العقل على النقل أو جعل أن العقل أصل والسمع فرع ، وهذه القاعدة هي التي كتب فيها شيخ الاسلام كتابه العظيم العجاب درء تعارض العقل والنقل والذي قال فيه ابن القيم رحمه الله تعالى مثنيا عليه معظما له ، قال :
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ... ما في الوجود له مثيل ثاني
وصدق فإنه في َدحضِ أصول المتكلمين وأصول المبتدعة من الأشاعرة ونحوهم والمعتزلة فإنه أصل ليس ثم مصنف يعدله في هذا من مصنفات علماء المسلمين .
......(1/85)
الدرء ؟ درء التعارض ؟ ايه مطبوع ، مطبوع طبعة التي بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم في نحو أحد عشر مجلدا . وهذه القاعدة سنستفيد منها في الرد على أولئك في مواضعه وتفصيلها يأتي إن شاء الله تعالى .
" من القواعد المقررة في هذا الباب التي سنحتاجها إن شاء الله تعالى فيما سنأتي من بيان معاني الآيات والأحاديث التي فيها الصفات أن الواجب على العباد أن يؤمنوا بما أنزل الله جل وعلا في كتابه ، والإيمان بما أنزل الله جل وعلا في كتابه أو أخبر به نبيه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من الأسماء والصفات يكون بأشياء :
- الأول إثبات الصفة ، لأن الله جل وعلا أثبتها فتثبت كما أثبتها الله جل وعلا ، وهذا أول درجات الإيمان .
- الثاني أن يثبت المعنى الذي يدل عليه ظاهر اللفظ فإن القرآن نزل بلسان عربي مبين تعقل معانيه وتفهم ألفاظه بلسان العرب وبلغة العرب وآيات الصفات وآيات الأسماء هي من القرآن فهي تفهم باللسان العربي .
فكل اسم من أسماء الله له معنى يدل عليه ، وكل صفة من صفات الله لها معنىً تدل عليه بظاهر اللفظ فيجب إثبات الصفة من حيث هي ويجب إثبات المعنى الذي في اللفظ
أو نقول ما سبب ذلك ؟ إثبات المعنى لم ؟
لأن الله جل وعلا قال { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } وقال { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } يعني بين واضح ، وهذا يعني أن آيات الكتاب ومنها آيات الأسماء والصفات أنه يتعلق بها التدبر والفهم ، والتدبر فرع العلم بالمعنى .
ليست الأسماء والصفات غير معلومة المعنى فإن معانيها معلومة ، والتدبر للمعاني .
أما لو لم تكن بمعان صارت بمنزلة الأحرف الهجائية ألف باء تاء ثاء إلى آخره ليس لها معان خاصة تدل عليها ، وهذا يعني أنها لا ُتعقَلُ ولا تُتدبر
ولكن الله جل وعلا أمرنا أن نعقل وأن نتدبر كتابه ، وأعظم ما في القرآن الدلالة والعلم بالله جل وعلا ووصف الله جل وعلا ونعوت كماله جل وعلا .
وهذه كلها متعلق بها التدبر .(1/86)
كيف يكون التدبر لغير هذا المطلب الأعظم .
أيضا من الإيمان بها أن يؤمَن بمتعلقاتها في الخلق وبآثارها في الخلق فإن الأسماء والصفات لها آثار متعلقة بخلق الله ، متعلقة بملكوت الله .
فكل اسم وكل صفه له أثر ، فنؤمن بالصفة من حيث هي ونؤمن بما اشتملت عليه من المعنى ونؤمن بالأثر الذي للصفة .
وهذا قد يسمى متعلَّق الصفة ، فمثلا الله جل وعلا موصوف بأنه ذو سمع وأنه السميع وهذا نثبت فيه أن الله جل وعلا له السمع ونثبت معنى السمع ، ثم نثبت أثر هذه الصفة في الخلق وأن الله جل وعلا لا يعزب عنه مسموع (سبحان من وسع سمعه الأصوات) .
......
السمع ، سؤال جيد يقول ما معنى السمع ؟
السمع من حيث هو معناه إدراك ما يُسمع ، هذا معنى السمع ، السمع إدراك ما يسمع .
وهنا تنبيه : وهو أن المعاني يصعب تفسيرها بخلاف الذوات والأعيان فإنه يسهل التعريف بها
ولهذا تجد أن معاني القلوب مثلا أو ما يقوم بالقلوب بالقلب قلب البشر من الصفات فإنه إذا عرّفه فإنه يُعرِف ما قام بقلبه بتعلقه بذاته ، تعلقه بالبشر
مثلا لو طلب تعريف الرحمة فإنها معنى قلبي كل واحد يدرك منّا معنى الرحمة لأنها معنى قلبي يشعر به ، والدلالة بما يشعر به هذه دلالة أعظم من دلالات الألفاظ ، فإذا أراد أن يعبر عنه ربما عسر عليه أن يعبر بتعبير مطلق يعني بتعبير عام ، يشمل ما في قلبه ويشمل غيره ، ربما عسر على كثير من الناس بل ربما عسر على كثير من أهل العلم ولكن الخاصة يؤتيهم الله جل وعلا من ذلك ما يشاء .
انتهى الشريط الثالث من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الرابع
مثلا لو طُلِب تعريف الرحمة فإنها معنى قلبي .
كل واحد يدرك منّا معنى الرحمة لأنها معنى قلبي يشعر به ، والدلالة بما يشعر به هذه دلالة أعظم من دلالات الألفاظ .(1/87)
فإذا أراد أن يعبر عنه ربما عسر عليه أن يعبر بتعبير مطلق يعني بتعبير عام ، يشمل ما في قلبه ويشمل غيره ، ربما عسر على كثير من الناس بل ربما عسر على كثير من أهل العلم ولكن الخاصة يؤتيهم الله جل وعلا من ذلك ما يشاء .
فإذا عرّف مُعَرِف (الرحمة) فإنه ربما يعرفها بالنظر إلى حاله مثل ما عرفها الأشاعرة .
كل أعمال القلوب التي في الإنسان ووصِف الله جل وعلا بها عرفوها بناء على أنها أعمال القلوب للإنسان ولهذا نفوها عن الله جل وعلا ، وهذا في المعاني كثير .
لهذا نقول إن المعاني تُعقلُ معانيها .
الصفات هذه التي هي من هذا الجنس تعقل معانيها وأما تفسيرها فلا بد أن تقف عليه بعبارة من عبارات أهل العلم المحققين لأن تفسير تلك المعاني قد يكون من المفسر بالنظر إلى بعض متعلقاتها :
يفسر (الرحمة) من جهة تعلقها بالمخلوق يفسر (الحياء) من جهة اتصاف المخلوق به ، يفسر (الغضب) من جهة اتصاف المخلوق به ، يفسر (الرضا) من جهة اتصاف المخلوق به وهكذا .
فإن هذه وجودها مطلقا - وجودها مطلق - من دون إضافة كما هو معلوم إنما يوجد في الأذهان أما في الخارج يعني في الواقع فإنما توجد مضافة :
رحمة الله ، رحمه الإنسان ، فإذا عَرَّفَ مُعَرَفٌ هذه المعاني فإنه قد ينظر في ذلك ، ينظر إلى ما يعقله من نفسه .
ولهذا ضل من ضل في هذا الباب من هذه الجهة .
فتنبهوا لهذه القاعدة وهي أن المعاني تفسيرها من دون إضافة قد يعسر على كثيرين فخذ تفسيرها من أهل العلم المحققين .
حتى بعض اللغويين يفسرها باعتبار من قامت به :
ربما فسر الحياء وهو ينظر إلى حياء المخلوق ، لكن الحياء الذي هو مطلق عن الإضافة الذي هو وجود كلي في الذهن ، معنى كلي في الذهن قد لا يصل إلى تعريفه لأنه إنما وجد في ذهنه بتخصيص .(1/88)
ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في التدمرية في قاعدته المعروفة في الفرق بين التعميم أن المعاني هذه لا توجد كلية إلا في الأذهان أما في الخارج فإنما توجد بالإضافات والِنسب .
القواعد في هذا كثيرة وقد ذكر ابن القيم رحمه الله منها ربما يضيق الوقت عليها على تعداد ما سنستخدمه ، أنا ذكرت أشياء سنستخدمها إن شاء الله في فهم النصوص والرد على المخالفين من المؤولة والمعطلة والمشبهة والمجسمة ونحو ذلك من أصناف أهل الضلال في هذه الأبواب .
" بقي القاعدة الأخيرة التي نختم بها وهي أن ظاهر النصوص مراد ، وأن الإيمان إنما يكون بظاهر النص لأن الظاهر هو ما يتبادر إلى الذهن من النص وهذا هو الذي كلفنا الله جل وعلا بالإيمان به إذ لم نُكلّف بالغيبيات بأن نؤمن بأشياء وراء الظاهر لأنها لا تُدرك ، وهذه الغيبيات لا بد من إدراكها .
نقول إن الظاهر هو الذي يجب الإيمان به فما هو ظاهر النصوص ؟
ظاهر النصوص هو إثبات المعنى دون إثبات الكيفية .
ولهذا وجب الإيمان به لأن فيه إثبات معنى دون إثبات الكيفية :
الله جل وعلا وصف نفسه بأنه استوى على العرش وهذا إثبات لمعنى دون إثبات لكيفية .
وصف الله جل وعلا نفسه بأنه يغضب { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } وهذا إثبات للمعنى دون إثبات للكيفية ، وصف الله جل وعلا نفسه بأنه يرضى وهذا إثبات للمعنى دون إثبات للكيفية .
فظاهر النص هو المعنى الذي دل عليه ، أما كيفية الاتصاف فإن هذه لا يدل عليها ظاهر النصوص.
ولهذا ضل من ضل حيث زعم وظن أن ظاهر النصوص فيه التشبيه أو فيه التمثيل .
ففهم من الغضب غضب المخلوق - يعني كيفية غضب المخلوق -
فهم من الرضا رضا المخلوق يعني كيفية رضا المخلوق فيفسرون الغضب مثلا بأنه ثوران دم القلب أو غليان دم القلب وهذا أثر الغضب في المخلوق وليس هو معنى الغضب بل الغضب له معنى كلي لا يتقيد بالمخلوق .(1/89)
وهذا الباب مهم جدا ، فإن الإيمان بظاهر النص هو إيمان بالمعنى الذي دل عليه هذا الظاهر .
وهذا الظاهر أحيانا يكون إفراديا نفهمه من كلمة واحدة ، وأحيانا يكون هذا الظاهر تركيبيا نفهمه من تركيب الكلام .
يعني أن الظاهر ينقسم إلى قسمين : ظاهر إفرادي وظاهر تركيبي :
" الظاهر الإفرادي هو الذي دل عليه أفراد الكلام يعني كلمة واحدة كقوله { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } وكقوله { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي } وكقوله { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } ونحو ذلك من الصفات .
" وأما الظاهر التركيبي فهو الذي يُفْهَم لا من جهة لفظه ولكن من جهة الكلام كله ، وهذا حجة وهو أصل في اللغة وهو مقرر عند أئمة أهل اللغة من السنيين وكذلك أئمه أهل السنة في كتب العقائد وغيرها ، مثاله قوله تعالى { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ } .
{ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ } هنا لا يُفْهَمُ منه صفة الإتيان لله جل وعلا لكن هنا يُفْهمُ الكلام بظاهره التركيبي وهو أن الله جل وعلا أتى بنيانهم من القواعد ، ومعلوم أن تركيب الكلام لا يدل على أن الإتيان كان بالذات وإنما الإتيان كان بالصفات ولهذا فسره المفسرون بأنه إتيان بعذابه أو بقدرته أو بنحو ذلك ، كذلك قوله جل وعلا { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } إلى آخر الآيات ، قال { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } هنا ليست رؤية إلى الله جل وعلا يعني إلى الذات ولكن تركيب الكلام وظاهر الكلام الذي أمرنا بالإيمان به هنا ظاهر تركيبي ليس لفظيا وذلك لأنه دل على معنى قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ } دل على معناها قوله { كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } وهذه قاعدة مهمة جدا .(1/90)
وهذا الذي ذكرت لك بينه شيخ الاسلام رحمه الله في مواضع ومنها في أول المجلد الثالث من رده على الرازي ، ببيان تلبيس الجهمية أو الرد على كتاب التأسيس والتقديس أو يسمى نقض التأسيس والتقديس وهذا القسم لم يطبع وهو من الأقسام المهمة جدا في الكتاب .
كذلك الحقيقة تنقسم إلى قسمين حقيقة تفهم من مفرد الكلام ، وحقيقة تفهم من تركيب الكلام وهي مرتبطة بتقسيم ظاهر الكلام إلى ظاهر إفرادي وظاهر تركيبي .
فمثلا ادُعِيَ المجاز في قوله تعالى ادعي المجاز في قوله تعالى { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } وادعي المجاز في قوله تعالى { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } وادعي المجاز في قوله تعالى { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وادعي المجاز في أشياء كثيرة ، وهم يزعمون أن مثل قوله { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } فيها إثبات للمجاز لأن الحقيقة - حقيقة اللفظ -لم تعن بيقين ، وفهموا من حقيقة اللفظ هنا أن السؤال متوجه إلى القرية والسؤال متوجة إلى العير ففهموا من قوله { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } أن السؤال يتوجه إلى القرية .
ونقول هذا ليس بظاهر الكلام وليس بحقيقته أيضا ، لأن الحقيقة هنا تركيبية ، ولأن الظاهر هنا ليس هو ما دل عليه مفرد اللفظ ، كما زعموا ، بل الحقيقة التركيبية هي المفهومة من قوله { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } ومعلوم أن السؤال لم نؤمر بتوجيهه إلى جدران القرية وبيوتها وأرضها وإنما لمن يفهم السؤال ويجيب عليه وهم أهل القرية فهذا يسمى حقيقة تركيبية أو ظاهر دل عليه تركيب الكلام وفيه نفي للمجاز .
نقف عند هذا وأسأل الله جل وعلا أن يعلمنا ما ينفعنا وأن يوفقنا للهدى والرشاد وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الجمع بين النفي والإثبات
في وصفه تعالى(1/91)
وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ: مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، حَيثُ يَقُولُ: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4) } [الصمد].
وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتِابِهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة:255].
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد:3].
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان:58].
وَقَوْلُه: { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [التحريم:2]، { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1) } [سبإ:1]
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [سبإ:2]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :(1/92)
فبدأ شيخ الاسلام رحمه الله تعالى وشرع في ذكر الأدلة التي فيها إثبات صفات الله جل وعلا وفيها تفصيل ما كان سبق أن ذكر من أن آيات القرآن فيها الجمع بين النفي والإثبات وأيضا أن من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
فقال رحمه الله تعالى (وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ: مَا وَصَفَ اللهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ)
(قَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ) يعني بالجملة ما تقدم ، وقد يحتمل أن يكون مراده بالجملة قوله (مِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ) ويكون هذا تفصيل لقوله (الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ)
ثم ذكر الأدلة من القرآن التي فيها وصف الله جل وعلا نفسه .
ويحتمل أن يكون المراد ما تقدم من ذكر أن الطريقة لأهل السنة والجماعة هي الجمع بين النفي والإثبات ، حيث ذكر أن طريقتهم هي أنهم يجمعون بين النفي والإثبات كما جمع ذلك الله جل وعلا في كتابه في قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
ولكن على هذا الثاني يكون فيه إشكال من جهة أنه يصدق على ما ذُكر السورة سورة الإخلاص يعني الاستدلال الأول والاستدلال الثاني وذلك أن سورة الإخلاص فيها نفي وإثبات ، فيها النفي المجمل وفيها الإثبات المفصل ، وكذلك آية الكرسي فإن فيها الإثبات المفصل وفيها النفي المجمل ، ولكن ما بعد ذلك من الآي قد لا يكون فيها نفي وإثبات ولهذا نقول إن قوله (وقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ) الأحسن والأنسب أن يكون متعلقا بالأول وهو قوله (ومِنَ الإيمَانِ بِاللهِ: الإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ)
قال (وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ) قال رحمه الله (وَقَدْ دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ: مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ)(1/93)
الوصف هو النعت ، يعني ما كان نعتا لله ، ويراد بهذه الكلمة (مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ) ما يشمل الأسماء والصفات والأفعال ، لأنها تدخل جميعا في إطلاق اسم صفات الله .
فإذا قيل صفات الله ، مذهب أهل السنة في الصفات ، فإنه يدخل ذلك الكلام في الأسماء والكلام في الصفات والكلام في الأفعال ، أفعال الله جل وعلا .
وذلك لأن الأسماء ليست أعلاما محضة بل هي من جهة أعلام دالة على الذات مترادفة من حيث دلالتها على الذات ، ومن جهة أخرى كل اسم مشتمل على صفة من صفات الله غير الصفة التي في الاسم الآخر .
فلهذا كانت الأسماء بهذا الاعتبار من الصفات والأفعال كذلك ، أفعال الله جل وعلا تجمع بين ـ يعني فيما أخبر الله في كتابه أو أخبر عن أفعاله رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ـ يجمع إطلاق الفعل عليه وإثبات الفعل له بين الحدث الذي هو المصدر وبين الزمن .
وهذا ـ أعني الحدث ـ وصف مثلا في قوله { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ } هذا فعل ماض .
الفعل الماضي متركب من شيئين الحدث وهو السماع ، وكون الحدث في الزمان الماضي .
ولهذا تدخل الأفعال بهذا الاعتبار في الصفات ، كذلك الفعل المضارع { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } (نسمع) هذا فعل مضارع فيه الدلالة على الحدث وهو المصدر وهو السماع أو السمع وفيه دلالة على زمنه وهو الحاضر الحال.
ولهذا في قوله هنا (دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ: مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ) يشمل الأسماء بالاعتبار الذي ذكرنا ويشمل الصفات ويشمل الأفعال أيضا كما أوضحت .
إذن قولنا إن مذهب أهل السنة والجماعة في الصفات النفي المجمل والإثبات المفصل نعني به أيضا ما يدخل في الأسماء والأفعال ، ما يدخل فيه الأسماء والأفعال أيضا ، لكنه في الصفات هذا هو المقصود وإذا ذُكِرَت الأسماء فباعتبار أنها مشتملة على الصفة وإذا ذكرت الأفعال فإنها باعتبار أنها مشتملة على الصفة .(1/94)
قال (فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ)
سورة الإخلاص هي سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) }
وتسمية سور القرآن :
- تارة يكون باعتبار ذكر كلمة في السورة ليست في غيرها .
- أو باعتبار ذكر قصة في السورة مفصلة أكثر من غيرها من السور .
- أو باعتبار المعنى الذي في السورة وهذا ـ أو غير ذلك ـ
وهذه التسمية (سورة الإخلاص) بهذا الاعتبار الثالث ، وهي أنها سميت سورة الإخلاص مع أنها ليست فيها كلمة الإخلاص وذلك لأنها اشتملت على الإخلاص ، واشتمالها على الإخلاص من جهتين :
" الأولى أنها تورث صاحبها أعني المتدبر لها القارئ لها الإخلاص العلمي الاعتقادي لأنها صفة الله جل وعلا وقد جاء في الصحيح أن الصحابي قال للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لما ذُكِرَ له أنه يقرأ سورة الإخلاص في مفتتح كل ركعة من الجهرية قال إنها صفة الرحمن وإني أحبها. فهي إذن فيها وصف الله جل وعلا ، ولهذا من تدبر هذا الوصف صار عنده الإخلاص في العلم والاعتقاد ونتبرأ من الشرك في العلم والاعتقاد ، والشرك في العلم والاعتقاد بكونه لا يُوَحِدُ الله في الأسماء والصفات ، والإخلاص في العلم والاعتقاد بكونه يوحد الله جل وعلا في الأسماء والصفات .
" ومن جهة أخرى فإنها ـ أعني سورة الإخلاص ـ أُخلِصَت لذكر صفة الله جل وعلا ، فهي مشتملة على صفة الله جل وعلا وحده ليس فيها وصف لغيره ، وليس فيها خبر عن غيره وليس فيها قصة وليس فيها حكم بل هي وصف لله جل وعلا ، فقد أخلصت لهذا .
فبالمعنى الأول ظاهر الاعتبار ـ أعني أنها من جهة أن من تدبرها يخلص لله جل وعلا - وبالاعتبار الثاني بالجهة الثانية أيضا المعنى صحيح لأنه يقال أخلص الشيء يخلصه إخلاصا وتخليصا بمعنى جعله متجردا لشيء دون غيره .
قال هنا (الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ)(1/95)
وهذا من كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وذلك فيما رواه البخاري في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حيث إن رجلا أخبر عن رجل أنه سمعه يقرأ سورة الإخلاص هذه ليلة كاملة يرددها حتى أصبح فأخبر النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يعني ذلك الرجل أخبر النبي كأنه يتقالُها يعني يقول قرأ الليلة كلها بسورة واحدة يرددها فقال النبي عليه الصلاة والسلام (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن) .
وكونها تعدل ثلث القرآن وجهها أبو العباس ابن سريج أحد أئمة الشافعية وتبعه العلماء على هذا التوجيه من أن القرآن منقسم إلى ثلاثة أقسام :
- فهو إما خبر عن الله جل وعلا وصفاته
- وإما خبر عن الأولين
- وإما أحكام
وقال غيرهم قالوا إنه منقسم إلى ثلاثة أقسام : أحكام وعقائد ووعد ووعيد .
وهذه السورة بهذا الاعتبار هي ثلث القرآن ، فإنها تعدل من هذه الجهة ثلث القرآن ، وكونها تعدل ثلث القرآن هذا يدل على أنها أفضل من بعض القرآن وذلك لأنها تعدل ثلثه ، يعني من الجهة التي ذكرت أي أنها في وصف الله جل وعلا ، وكونها تعدل ثلث القرآن يعني أن فيها فضيلة على غيرها من سور القرآن أو على غيرها من بعض سور القرآن .
وهذا المعنى مما تنازع الناس فيه ، يعني كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ما وجهه ؟
اختلف الناس في ذلك والذي عليه أئمة أهل السنة والجماعة بل والسلف بعامة وهو شبه إجماع بينهم أن كونها تعدل ثلث القرآن يدل على أنها أفضل من بعض القرآن ، والقرآن بعضه أفضل من بعض كما أن صفات الله جل وعلا بعضها يفضل بعضا .(1/96)
قال عليه الصلاة والسلام داعيا الله جل وعلا (أعوذ برضاك من سخطك) قال أيضا مخبرا عن ربه جل وعلا (إن رحمتي سبقت غضبي) وهذا يدل على أن بعض الصفات أفضل من بعض وأيضا بعض الصفة قد يكون أفضل من بعضها الأخر وهذا يترتب عليه أن يكون بعض القرآن أفضل من بعضه الآخر ، ولهذا صارت الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن وآية الكرسي هذه أعظم آية في القرآن وسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن .
هذا مذهب أهل السنة والجماعة في تفضيل بعض صفات الله على بعض وتفضيل بعض القرآن على بعض .
وقال المبتدعة من الأشاعرة وغيرهم إن صفات الله لا تتفاضل وكذلك كلامه لا يتفاضل ، ومأخذ هذا عندهم أنه واحد بالعين فلا يمكن أن يفضل بعضه بعضا لأنه قديم وكله واحد ، كله أمر واحد ، كله نهي واحد ، كله خبر واحد وإنما الذي عبر عنه جبريل فيمنعون التفاضل .
وعلى هذا فإن تفسيرهم لكون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن يرجعونه إلى الثواب ، فيقولون هي تعدل ثلث القرآن باعتبار الثواب يعني أن من قرأها يثاب لا أنها في نفسها أفضل من غيرها.
وهذا الكلام هو بعض جهة التفضيل لكن ليس كل جهة التفضيل ، يعني أن سورة الإخلاص نعم تفضل من جهة أن قارئها له ثواب أعظم من تلاوته لغيرها فلا يستوي من جهة الثواب قراءة سورة الإخلاص مع قراءة سورة { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } التي هي قبلها مثلا .
ولكن ليس هذا وحده بل أيضا لأن كلام الله جل وعلا بعضه أفضل من بعض وأشكل عليهم هذا من جهة أن الكلام واحد عندهم ، وهذا لإبطاله موضع سيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام على صفات الله جل وعلا ، وتبيين بعض ذلك أن الكلام له نسبتان :
- الأولى من جهة المتكلِّم به ... ... - والثانية من جهة المتكلَّم فيه
فإن الكلام يتفاضل عند الناس في عرفهم من هاتين النسبتين :(1/97)
- إما من جهة أن المتكلم أفضل من المتكلم الثاني : كلام الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ليس ككلام أبي بكر بل كلامه عليه الصلاة والسلام أفضل من كلام أبي بكر وذلك بالنظر إلى اعتبار أن المتكلم هو النبي عليه الصلاة والسلام .
- الجهة الثانية المتكلَّم فيه فيتفاضل الكلام باعتبار المتكلَّم فيه فمثلا تتكلم أنت في العلم ، وتتكلم تارة أخرى في غير العلم ، كلامك في العلم أفضل من كلامك في غيره وذلك لأن المتكلَّم فيه أفضل
فإذن يكون التفضيل ها هنا من جهة المتكلَّم فيه ، يعني موضوع الكلام ، وموضوع الكلام يجمع شيئين : المعاني والألفاظ .
فإذن في كلام الله جل وعلا (سورة الإخلاص) تفضل على غيرها ، كذلك الفاتحة تفضل على غيرها ، وآية الكرسي أعظم من غيرها من جهة الاعتبار الثاني ، من جهة المتكلِّم .
المتكلِّم بالجميع هو الله جل وعلا فمن هذه الجهة لا تفضيل لأن الجميع كلام لله جل وعلا .
لكن من جهة المتكلَّم فيه فإن سورة الفاتحة مثلا فيها أصول ما في القرآن من العلوم والهداية .
آية الكرسي صفة الله جل وعلا أعظم آية في القرآن لما فيها من الإخبار عن الله جل وعلا في وحدانيته في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ونعوت جلاله وعظمته وجبروته ونحو ذلك .
سورة الإخلاص من جهة ما تعلقت به من جهة ما فيها من المعنى هي أفضل من سورة مثلا تبت يدا أبي لهب وتب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام وغيره لأنها متعلقة بأسماء الله جل وعلا وصفاته ونعته وتلك خبر عن بعض المتوعَّدين من خلقه ولا شك أن الكلام عن صفة الله أفضل من الكلام عن خلق الله .(1/98)
فإذن جهة التفضيل موجودة والقرآن بعضه أفضل من بعض ومن أنكر ذلك فإنه مناقض لكلام السلف وقد قال جل وعلا { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } وفي القراءة الأخرى { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْْهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وقوله هنا { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } مطلق يحتمل أن تكون الخيرية في الحكم أو أن تكون الخيرية في الموضوع في الفضل ولهذا قال بعدها (أو مثلها) وذلك بالاعتبار الثاني
وعلى هذا تكون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن بهذا المعنى المتركب من شيئين وهو أنها أفضل من غيرها باعتبار ما فيها من صفة الله ، وأيضا هي أفضل من غيرها باعتبار ما يترتب من الثواب لقارئها ، هذا ما قرره أئمة أهل السنة والجماعة في ذلك .
قال رحمه الله بعد ذلك (فِي سُورَةِ الإِخْلاَصِ الَّتِي تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، حَيثُ يَقُولُ: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4) }
هذه السورة عظيمة جدا من جهة معناها ، عظيمة جدا لأنها تتعلق بصفة الله جل وعلا لهذا يقول العلماء (شرف العلم بشرف المعلوم) ، يشرف العلم بشرف المعلوم فما هو المعلوم ؟
هنا المعلوم في هذه السورة هو الله جل وعلا لأنها صفة الرحمن سبحانه ولأنها اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة .
قال سبحانه (قل) يا محمد و (قل) هذه من الأدلة لأهل السنة على أن القرآن حرف وصوت وأن جبريل قد سمعه على هذا النحو فبلغه على نحو ما سمع ، { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } .
هذه السورة لنزولها سبب وقد قال بعض المفسرين إنها مكية وقال آخرون إنها مدنية ، ولنزولها سبب وقد اختلفوا في سببه ، فقال بعضهم - وهذا أيضا نذكر الأقوال ثم بعد ذلك نأتي للإسناد -
قال بعضهم إن المشركين قالوا للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ انسب لنا ربك ، فنزلت هذه السورة .(1/99)
قال آخرون نزلت في الجواب عن سؤال اليهود حيث قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام من أي شيء ربك من أي شيء إلهك فنزلت .
وهناك أقوال غير هذه في سبب النزول والمعتمد هو الأول وهو ما رواه الترمذي وابن جرير وجماعة من أهل العلم كثير من أن سبب نزولها أن المشركين قالوا للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ انسب لنا ربك أو انسب لنا إلهك فنزلت هذه السورة .
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إذن هذه السورة في بيان صفة الله جل وعلا .
قال جل وعلا (قل) يا محمد لأولئك المشركين أو لأولئك اليهود والنصارى .
(هو) يعني الذي سألتم عنه .
{ هُوَ اللَّهُ أَحَدْ } و الله هذا علم على المعبود بحق سبحانه ، و قوله (أحد) هذا أصلها من (وحد) من الوحدانية .
والأحدية جاءت في القرآن تارة منفية وتارة مثبتة ، فأما المنفية فهي لغير الله جل وعلا وأما المثبتة فهي لله جل وعلا : يعني أن لفظ (أحد)لم يطلق في الإثبات على غير الله جل وعلا ولكنه في النفي (إما الصريح أو المضمَّن) فإنه يطلق على غير الله جل وعلا كما قال هنا { وَلَم يَكُن لَّه كُفُوًا أَحَدٌ } وقال { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } ونعني بالنفي الذي ذكرناه النفي أو ما يكون في معناه عند البلاغيين وهو الشرط والاستفهام ونحو ذلك ، قال { هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ } هذا استفهام له مقام النفي { وَإِنْ أَحَدٌ } هذا شرط أيضا له معنى النفي { لَم يَكُن لَّه كُفُوًا أَحَدٌ } هذا نفي .
فإذن كلمة (أحد) أتت في القرآن في سياق النفي أو الاستفهام أو الشرط وهذه لغير الله جل وعلا ، أما في الإثبات فهي لله جل وعلا لا تطلق على هذا الوجه بدون نفي إلا لله جل وعلا .
(قل هو) الذي سألتم عنه (الله أحد) و(أحد) بمعنى الواحد الذي لم يَشرَكهُ شيء في وحدانيته .(1/100)
وأحدية الله جل وعلا يعني وحدانيته في ربوبيته وفي إلهيته وفي أسمائه وصفاته ، فهو جل وعلا واحد في ربوبيته لا شريك له ، أو نقول واحد في ربوبيته لا شريك له أي لا مشارك لا وزير له لا معاون له وهذه كلها ادعاها المشركون ، وهو واحد جل وعلا في إلهيته لا شريك له فيها أي استحقاق العبادة وهو واحد جل وعلا في أسمائه وصفاته لا مثيل له ولا نظير ولا كفو ولا سمي له في أسمائه وصفاته .
فإذن قوله { هُوَ اللَّهُ أَحَدْ } هذا يشمل أنواع التوحيد الثلاثة ، توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات .
هنا بعدها بين جل وعلا بعض التفصيل لكلمة (أحد) فقال سبحانه :
{ اللَّهُ الصَّمَدُ } هذا مبتدأ الله ، خبره الصمد ، ويقول علماء البلاغة إن الخبر إذا جاء معرفا بالألف واللام فإنه يقتضي الحصر { اللَّهُ الصَّمَدُ } يعني الذي ليس صَمَد إلا هو { اللَّهُ الصَّمَدُ } يعني الله الذي لا يستحق الصمدية إلا هو ، { اللَّهُ الصَّمَدُ } يعني هو الذي قُصِرت عليه وحُصِرت فيه معاني الصمدية على وجه الكمال ، وأما البشر فإنهم يقال عنهم فلان صمد ، فلان صمد إذا كان يُصمَد إليه ـ ويأتي معنى ذلك إن شاء الله تعالى .
إذن فقوله { اللَّهُ الصَّمَدُ } فيها حصر الصمدية ، حصر الصمْد في الله جل وعلا ، فالله من أسمائه (الصمد) فما معنى (الصمد) ؟
المفسرون من السلف اختلفوا في تفسيرها على قولين مشهورين وكل قول فيه تفاصيل وأيضا القول منهما يدل على الآخر بنوع من الدلالة .
- أما القول الأول فهو أن (الصمد) هو الذي لا جوف له ، (الصمد) كما فسرها ابن مسعود ورويت عنه موقوفة ومرفوعة أيضا لكن لا يصح المرفوع وأيضا رويت عن ابن عباس وعن جماعة من مفسري السلف بأن (الصمد) الذي لا جوف له ، وهذا بمعنى أنه لا يتخلل ذاته جل وعلا شيء بل هو جل وعلا واحد بالذات .(1/101)
والمخلوقات غير الملائكة لها جوف يدخل فيها ما يدخل ويخرج منها ما يخرج ويلدون ويحمل منهم من يحمل ويلد من يلد ويأكلون ويشربون ويتغوطون وهذه كلها من صفات النقص ، ولهذا فسرها بعضهم بأن (الصمد) الذي لا يأكل ولا يشرب .
- وقال بعضهم (الصمد) تفسيره ما بعده وهو قوله { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } وهذه كلها في المعنى واحدة وهو أن (الصمد) الذي لا جوف له لأن الأكل والشرب يحتاج إلى جوف يمر فيه ، وكذلك الولادة يحتاج أن تخرج من جوف والله جل وعلا (صمد) { اللَّهُ الصَّمَدُ } هذا هو المعنى الأول، وهذا قال ابن قتيبة وابن الأنباري هذا مأخوذ من (الصَمَت) بالتاء ، فكأن الدال هنا في قوله (الصمد) مبدلة من التاء ، من الصمْت أو المُصمَت من الشيء المصمت وهو الذي لا شيء في داخله ، قالوا الدال مبدلة من التاء ، وهذا رده شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله وقال ليس هذا بوجيه بل الأولى أن يحمل هذا على الاشتقاق الأكبر وهذا صحيح ، لأن (الصمد) والصَمَت يعني المُصمَت و (الصمد) بينهما اشتقاق أكبر ، فبينهما اتصال في المعنى .
- أما القول الثاني وهو أيضا مروي عن ابن عباس وجماعة كثير من المفسرين من السلف فمن بعدهم أن (الصمد) هو الذي كَمُلَ في صفات الكمال وهو الذي يستحق أن يُصمَد إليه في الحوائج يعني يُسأل ويُطلب ويرغب فيما عنده وهو الذي يأتي بالخيرات وهو الذي يدفع الشرور عن من يَصمِد إليه ، وهذا مروي من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في صحيفة التفسير الصحيحة المعروفة حيث قال (الصمد) هو السيد الذي كمل في سؤدده ، الشريف الذي كمل في شرفه ، العظيم الذي كمل في عظمته ، الحليم الذي كمل في حلمه ، العليم الذي كمل في علمه .
يعني أن (الصمد) هو الذي اجتمعت له صفات الكمال .(1/102)
وعلى هذا هو الذي يُصمَد إليه يعني يُتوجه إليه بطلب الحوائج إما بجلب المسرات أو دفع الشرور والمضرات ، وهذا معروف من جهة الاشتقاق ، من جهة الصَّمْد ، صَمَدَ إلى الشيء بمعنى توجه إليه وقد جاء في السنن (أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كان إذا صلى إلى عمود أو إلى سارية لم يَصْمُدْ إليه صَمْدا وإنما جعله عن يمينه أو عن يساره) وهذا الحديث استدل به شيخ الاسلام في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم في موضع وفي إسناده ضعف لكن المقصود هنا من الشاهد اللغوي ، كان لا يصمد له بمعنى لا يتوجه إليه صمدا ، يتوجه إليه دون غيره بمعنى يكون مقابلا له متوجها له دون ما سواه .
وهذا إنما هو لله جل وعلا ، أما المخلوق فإنه وإن صُمِدَ إليه بمعنى إن تُوُجِّه إليه في الحاجات فهو أيضا يحتاج إلى أن يصْمُد وأن يَصْمِد إلى غيره ، أما الله جل وعلا فهو الذي كملت له أنواع الصمود وهو أنه الذي لا يستغني شيء عن أن يتوجه إليه وعن أن يصمِد إليه ، وهو جل وعلا مستغنٍ عن أن يَصْمِد إلى شيء ، ولهذا فسرها من فسرها من السلف قال (الصمد) هو المستغني عما سواه الذي يحتاج إليه كل ما عداه ، فسرت (الصمد) بذلك وهذا يعني أن الصمدية راجعة إلى صفة الله أولا ثم إلى فعل العبد ، يعني العباد هم الذين يصمدون إليه .(1/103)
فإذن على هذين التفسيرين يكون قوله { اللَّهُ الصَّمَدُ } فيها صفة الله جل وعلا ـ القول الأول - والثاني فيها أنواع صفات الله جل وعلا لأن معنى (الصمد) السيد الذي قد كمل في سؤدده الشريف الذي كمل في شرفه يعني (الصمد) من كملت له صفات الكمال ، وهذا ثابت في حق الله وأيضا على هذا يكون (الصمد) الذي يُصمَد إليه في الحوائج ، فيكون على هذا التفسير يكون قد جمعت كلمة (الصمد) بين توحيد الأسماء والصفات وبين توحيد الألهية ، لأن الذي يُصْمَد إليه وحده في الحوائج يُرغب إليه وحده يُطلب منه السؤال وحده يُحتاج إليه وحده ، هو (الصمد) وهو الله جل وعلا ، وفي هذا رد على المشركين الذين ألهوا غير الله أو وصفوا الله جل وعلا بصفات النقص من اليهود والنصارى والمشركين ومن شابههم .
قال هنا { اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } ، ما قبلها وهي كلمة (الصمد) ذكرت لكم أن منهم من فسرها بما بعدها وهي قول { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }
......
نعم كلا المعنيين صحيح ورجح شيخ الاسلام أن المعنى الأول والثاني متلازم ، متلازم ، هذا وهذا ، هذا يلزم هذا وهذا يلزم هذا .
قال هنا { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } وهذا نفي ، وقوله { لَمْ يَلِدْ } يعني لم يخرج منه ولد فيرثه في ملكه ، وقوله { لَمْ يَلِدْ } يعني لم يخرج من شيء فيكون هو وارثا له ، بل هو جل وعلا المستحق للملك بذاته ، هو جل وعلا ذو الملكوت هو صاحب ذلك المستحق له لم يحتج جل وعلا إلى غيره سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً .(1/104)
وهذا النفي قوله { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } كما قررت لك فيما سلف في الدرس الماضي أن النفي في الكتاب والسنة إذا كان في صفات الله فإنه لا يكون مدحا إلا إذا اقتضى إثباتَ الصفة ، وهذه الصفة التي تثبت هي ضد الصفة المذكور نفيها ، وهنا نفيت عن الله جل وعلا صفتان ، صفة أنه يلد وصفة أنه يولد ، وهاتان الصفتان هي في المخلوق من صفات النقص لا من صفات الكمال لأن المخلوق يحتاج في إيجاده إلى أن يُحمَلَ به ويحتاج هو إلى أن يلد حتى يبقى ، فإذن كونه ولد وكونه يولد هذا من صفات النقص فيه لأنها دليل على عدم استغنائه ، دليل على حاجته دليل على فقره دليل على ضعفه وهذا منتفٍ عن الله جل وعلا .
فإذن { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } هذا نفي وهذا النفي يراد به إثبات كمال ضده ، وكمال ضد هذا النفي هو كمال (غنى ) الله جل وعلا ، { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } لِم ؟
لكمال غناه ولكمال صمديته ـ الذي هو بالمعنى الأول ـ ولكمال جبروته ولكمال قهره جل وعلا ولكمال صفاته ، فإذن { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } فيها إثبات لكمال صفة مضادة لهذا وهي صفة (الغنى) لله جل وعلا وعدم الاحتياج بخلاف المخلوقين الذين يحتاجون إلى أن يولدوا ويحتاجون إلى أن يلدوا وهم محتاجون إلى كلتا الجهتين في كل مخلوق يلد ويولد .
قال بعدها { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } هذا النفي مجمل { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وما قبله إثبات مفصل ، وهذا أحد الأدلة على أن القرآن فيه النفي المجمل وفيه الإثبات المفصل :
أما الإثبات المفصل في هذه السورة فهو قوله { اللَّهُ أَحَدٌ } و (أحد) فيها إجمال لكنها باعتبار أفرادها بأنواع التوحيد الثلاثة يكون ذلك مفصلا ، وقوله { اللَّهُ الصَّمَدُ } ما يشمله من الصفات كذلك باعتبار أفرادها يكون مفصلا .(1/105)
قوله { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } هذا نفي مجمل ، أما قوله { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } فهل يعد من النفي المفصل ؟
هذا الجواب عنه أن هذا النفي من جنس ما في القرآن من النفي وهو أنه لا يراد به تفصيل النفي وإنما يراد به إثبات كمال الضد .
ومعنى ذلك أن النفي إذا ورد في القرآن مفصلا فهو محمول على الإثبات المفصل لأن المراد منه إثبات كمال الضد ، وكمال الضد في قوله { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } هي صفة (الغنى) التام وأنواع الكمال في الأوصاف وهذا من الإثبات المفصل .
قال هنا { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } ، أحد هذه اسم يكن ، لم يكن كفوا له أحدٌ ، هذا السياق ، هنا قال { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فقدم خبر يكن على اسمها لأنه هو المقصود ، فالمقصود نفي المماثلة ، نفي أن يكون ثم كفؤ وليس المقصود الإخبار ، ليس المقصود أن يثبِت لغيره المشابهة وإنما المقصود أنه ليس له كفوا أحد وهذا من أسرار التقديم ، فإنه إذا كان الخبر أهم فإنه يقدَّم ، إذا كان هو المقصود يكون مقدما لأن المقصود بالإخبار تارة يكون المبتدأ وتارة في النفي يكون الخبر .
قال هنا سبحانه { وَلَمْ يَكُن لَّهُ } يعني لهذا الذي وصف لله جل وعلا (كفوا) و (كفوا) فيها قراءتان ، قراءة هذه قراءتنا بضمتين الكاف مضمومة والفاء مضمومة { لَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } .
وأما قراءة غير حفص فإنه يقرؤها ـ مثل نافع وغيره ـ يقرؤنها بالإسكان { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا } فمن الغلط أن تُقرأ { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } لمن يقرأ بقراءة حفص عن عاصم يعني برواية حفص عن عاصم .
(الكفو) المنفي هنا ذكرنا لكم معناه فيما سبق وهو أن (الكفو) المثيل والنظير والشبيه قال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً } و (الأنداد) جمع ند وهو الكفؤ والنظير والمثيل ، وذكرت لكم قول الشاعر :(1/106)
أتهجوه ولست له بكفؤ - حسان في مدح النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ - يعني ولست له بند ، فالكفو والكفؤ من المكافأة وهي المسواة ، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا } يعني لم يكن له ندا ، لم يكن له نظيرا ، لم يكن له مثيلا ، لم يكن له سميا (أحد) .
و (أحد) هنا نكرة في سياق النفي فهي تعم كل من صدق عليه اسم أحد في النفي ، تعم كل أحد { لَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ } يعني من خلقه ، فلا أحد يكافئه ولا يماثله لا في ذاته جل وعلا ولا في صفاته ولا في أسمائه فإنه لا مثيل له ولا نظير ولا مكافئ ولا عِدْل ، تبارك ربنا وتقدس وتعاظم.
هذه السورة فيها إذن إثبات الصفات .
وهذه السورة يفسرها من يفسرها من أهل البدع بتفسيرات مختلفة :
فمثلا الأحدية عندهم يقولون { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ، (الأحد) هو الواحد بالذات المتنزه عن الأبعاض والأركان والجهات ، هذا مثلا تفسير من تفاسير المبتدعة .
أو يقولون (الأحد) هو الواحد في ذاته لا قسيم له ويعنون بذلك أن ذاته غير منقسمة وهذا ليس هو معنى الأحدية لأنهم يريدون بذلك نفي الصفات التي هي بالنظر إلى كل صفة فإنها تكون غير الأخرى ، فالوجه من الذات ولكنه غير اليدين.
فإذن إذا قالوا واحد في ذاته لا قسيم له يريدون أن ينفوا عنه الصفات الذاتية كالوجه واليدين ونحو ذلك .(1/107)
تفاسير المبتدعة في هذا كثيرة جدا ، ولا شك أن هذه السورة في وصف الله جل وعلا فيما اشتملت عليه مما تؤلف فيه مؤلفات طويلة تحتاج إلى بسط وتطويل في بيان ما تشمله كلماتها من المعاني العظيمة ، فلا شك أنها تعدل ثلث القرآن ، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى إن الأخبار التي فيها أن { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن تبلغ مبلغ التواتر ، وهذا لعظمها وعظم شأنها ، فلا غرو إذن أن يتلوها النبي عليه الصلاة والسلام في أحيانه كلها عند الصباح والمساء وكثيرا في النوافل في الوتر وركعتي الفجر وركعتي الطواف وفي كثير من أحيانه لأنها صفة الله جل وعلا .
نقف عند هذا لأن آية الكرسي تحتاج أيضا إلى بسط وقد ذكرنا شيئا من التفصيل على سورة الإخلاص لأهمية ذلك وأسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم بما سمعنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا واختم لنا بالخير إنك أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ، أما بعد :
فقد ذُكِرَ فيما سبق القاعدة التي ينبني عليها فهم توحيد الأسماء والصفات ألا وهي أن القاعدة هي أن يجمع بين النفي والإثبات ويكون الإثبات مفصلا والنفي مجملا ، وكل ما ثبت في الكتاب أو السنة من أسماء الله جل وعلا وصفاته فإنه يثبت لله جل وعلا ولا يُتعرض لذلك بنوع من التأويل أو التعطيل أو التحريف أو التمثيل أو أشباه تلك الطرق الكلامية المبتدعة .
تفرعةً على هذا الأصل وتلك القاعدة ذكر شيخ الاسلام أنه (دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ) وقد ذكرت لكم معنى قوله (دَخَلَ فِي هِذِهِ الْجُمْلَةِ) ذكر سورة الإخلاص وتبين لنا ما فيها من الدلالة على تلك القواعد وما فيها من أسماء الله جل وعلا وصفاته .(1/108)
ثم ذكر آية الكرسي ، وآية الكرسي هي أعظم آية في كتاب الله جل وعلا ، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لأبي بن كعب لما سأله أي آية في القرآن أعظم ؟ قال آية الكرسي قال (ليهنِك العلم أبا المنذر) ، وهذا يدل على أن معرفة فضل هذه الآية وأنها أعظم أنه من العلم العظيم الذي يهنَّأ به ، والمهنئ هو رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وسمى معرفة ذلك والعلمَ بكونها أعظم آية سماه علما وأنه يُهنأ به وذلك لأنها صفة الله جل وعلا وفيها من بيان حق الله وبيان ما له من الصفات المثبتة ، وكذلك ما نُفِيَ عنه من الأوصاف التي لا تليق بجلاله جل وعلا وبعظمته .
آية الكرسي سميت بهذا الاسم لأن فيها ذكر كرسي الله جل وعلا ، ولم يرد ذكر الكرسي في آية غير تلك الآية قال جل وعلا { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا }
{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } يعني كان الكرسي كرسي الرحمن جل وعلا (وهو موضع قدمي رب العزة جل وعلا)كان واسعا للسماوات والأرض ، فالسماوات والأرض في جوف الكرسي .
وقد جاءت الأحاديث التي تبين هذا القدر الذي هو كون السماوات والأرض في جوف الكرسي وكون الكرسي شاملا واسعا محتويا على السماوات والأرض .
قال جل وعلا { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم }
وهذا أول نعت لله جل وعلا قال { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } وهذا النعت والوصف الأعظم لله هو أنه لا يستحق العبادة الحقة إلا هو لا يستحق العبادة المخلصة إلا هو كما قال جل وعلا { وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا } فلا يستحق العبادة إلا هو جل وعلا
قال هنا { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } تبين لنا فيما مضى معنى كلمة التوحيد على وجه التفصيل(1/109)
قال جل وعلا واصفا نفسه ومخبرا عن اسمه جل وعلا (الله) قال { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وهما اسمان من أسماء الله جل وعلا .
و (الحي) يعني ذو الحياة ، وأسماء الله لها دلالة على الذات ولها دلالة على الصفات ، فهي جميع الأسماء تدل بالمطابقة على شيئين معا يفهمهما العقل بمجرد إطلاق الاسم ، وهذان الشيئان هما : الذات والوصف .
فاسم الله (الحي) نفهم منه أنه جل وعلا له الحياة ، والحياة موصوف بها ذاته جل وعلا ، هذا بالمطابقة ، ويدل الاسم على أحد هذين بالتضمن ، فيدل اسم الله (الحي) على الحياة بالتضمن ويدل على الذات بالتضمن .
يعني أن اسم الله جل وعلا (الحي) يتضمن الذات ويتضمن الصفة فيكون مركبا .
يعني دلالته اللغوية تكون مركبة من شيئين : الأول دلالة على الذات المتصفة بالشيء الثاني الذي هو صفة الحياة .
وصفة الحياة لله جل وعلا هذه من الصفات الذاتية اللازمة ، وهنا جاء إثباتها على تلك القاعدة التي هي الإثبات المفصل ، وحياة الرحمن جل وعلا كاملة الكمال المطلق الذي ليس فوقه من جهة الحياة شيء ، فحياته جل وعلا أكمل حياة .
ولهذا يلزم من ذلك أنه جل وعلا لا يعتريه سِنة ولا نوم لأن السنة والنوم سِمة وصفة ونعت من حياته ناقصة ، أما ذو الحياة الكاملة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه فهو لا يحتاج إلى راحة لا كما يقول قتلة الأنبياء وهم اليهود إن الله جل وعلا تعب من خلق السماوات والأرض فاستراح يوم السبت فهذا من وصفهم بالنقائص لله جل وعلا .
حياة الله جل وعلا لها آثار في ملكوته ولها آثار في نفس عبد الله المؤمن ، أما آثارها في ملكوته جل وعلا فهي أنه جل وعلا جعل الحياة في أصناف كثيرة من خلقه بل كل مخلوق لله جل وعلا فيه حياة خاصة .(1/110)
والحياة متنوعة فحياة الملائكة غير حياة الإنس ، وحياة الجن غير حياة الإنس وحياة الحيوانات تختلف عن حياة الإنس والجن والملائكة إلى آخره ، حتى الجمادات فاضت عليها آثار اسم الله جل وعلا (الحي) فكانت حية .
فالجماد هو من ليس فيه حياة ظاهرة ، وليس هو الذي لا يتحرك - يعني الجامد الذي لا يتحرك -
لا ، الجماد هو الذي ليس فيه حياة ظاهرة ، لا يقال ليس فيه حياة فقط ، كذلك يعني شرعا أو نظرا في الأدلة الشرعية فإن الجمادات فاضت عليها ما يناسبها من الحياة ولهذا فإن النبي عليه الصلاة والسلام يصف أحدا فيقول (أحد جبل يحبنا ونحبه) ولما حن الجذع أحد سواري المسجد التي بني بها مسجد النبي عليه الصلاة والسلام وكان النبي عليه الصلاة والسلام يتوكأ عليه ، يعني يستند عليه إذا خطب الجمعة ثم لم اتخذ المنبر وعلاه عليه الصلاة والسلام حنّ الجذع حنين العشار ، لفقده رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يعني أن في الجذع حياة خاصة تناسبه أحبَّ بها رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، فأتى النبي عليه الصلاة والسلام وضمه إلى صدره كما يضم الحبيب حبيبه فسكن الجذع لأن له حياة خاصة ، كذلك الأشجار لها حياة خاصة ، حياة النماء وأيضا حياة أخرى بها يسبح وبها يوحد الله جل وعلا ، كذلك الجدران كذلك الجبال { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ } (أحد جبل يحبنا ونحبه) الصخر كذلك ، يقول عليه الصلاة والسلام (إن بمكة حجر لم ألقه إلا سلم عليّ) يسلم ، ويقول ابن مسعود كما رواه البخاري في الصحيح (كنا نسمع التسبيح على عهد رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من الطعام) .
وهذا كله يبين أن اسم الله جل وعلا (الحي) له آثار في خلقه .
فكل شيء فيه حياة تخصه ، والحياة مراتب ودرجات والذي يعلمها على وجه التفصيل هو الله جل وعلا .(1/111)
وأيضا هذا الاسم وهذه الصفة لله جل وعلا وهي صفة الحياة لها أثر في قلب المؤمن ، أثر خاص في قلب المؤمن فلها آثار في ملكوت الله ولها أثر في قلب المؤمن.
ومن آثارها في قلب العبد المؤمن أن المؤمن يشعر ويوقن بأنه بدون إحياء الله جل وعلا لبدنه ولقلبه فإنه لا حياة له .
كذلك يؤمن بأن الهداية التي هي حياة القلوب أنها بيد الله جل وعلا فإذا علم ذلك صار عنده من الفقه والعلم بهذا الاسم الكريم .
بهذا الاسم الذي هو من الأسماء الحسنى ما يفتح على قلبه أنواعا من العلوم والإيمان { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } وقال جل وعلا { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } في سورة الحديد بعد أن ذكر أن القلوب تقسو فقال { وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }
فالله جل وعلا من آثار اسمه (الحي) أنه يحيي الأرض الميتة ويحيي الأجساد البالية وكذلك يحيي القلوب الميتة ويحيي القلوب المريضة ، قال هنا { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } .
فإذن أسماء الله جل وعلا لها آثار عظيمة في الملكوت ولها آثار عظيمة في قلب العبد المؤمن .(1/112)
والإيمان بها يشمل هذه المرتب جميعا : فيؤمن بالاسم وأنه دال على الذات وعلى الصفة ويثبت الصفة على مقتضى لغة العرب دون تحريف أو تأويل أو تعطيل أو تمثيل ويؤمن بأن هذه الصفة لها آثار في ملكوت الله جل وعلا ، ثم يؤمن بأن هذه الصفة لها أثر في نفسه يشعر ويراه في نفسه ، يرى اسم الله جل وعلا (الحي) في نفسه كل يوم ، فحياته كل لحظة إنما هي من آثار إحياء الله جل وعلا له وإحياء الله جل وعلا له من أثر صفته واسمه (الحي) جل وعلا وهذا باب عظيم يحتاج الناس إلى العناية به .
قال هنا { الْحَيُّ الْقَيُّومُ }
و (القيوم) هو الذي يقوم على كل شيء وبه قيام كل شيء .
فهو سبحانه قائم بنفسه غير محتاج إلى غيره وكذلك هو مقيم لغيره ، فما من شيء إلا وهو قائم به لا يستغني شيء ولا أحد عن الله جل وعلا طرفة عين ، قال جل وعلا { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ }
وقيوميته جل وعلا على خلقه لها أصناف كثيرة ، جماعها أنه جل وعلا هو المتولي بقيام الناس وقيام المخلوقات ، فلو ترك إقامة هذه المخلوقات لهلكت حتى العرش وحتى حملة العرش فإن العرش إنما قام بالله جل وعلا ، وإن حملة العرش ما قامت إلا بالله جل وعلا وهذا يعني أن الخلق جميعا محتاجون إليه أعظم الحاجة وأنه جل وعلا هو المستغني عنهم الذي يفتقر إليه كل شيء وهو جل وعلا مستغنٍ عن كل شيء .
ثم لما أثبت جل وعلا نفى ، والنفي هنا يُقصد به إثبات الصفة لأن النفي جاء مفصلا .
قال هنا { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ }
{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } وقد مر معنا أن قاعدة الصفات هي الجمع بين النفي والإثبات ، والنفي يكون مجملا والإثبات يكون مفصلا ، فإذا جاء النفي فيه تفصيل في القرآن أو في السنة فإنما يُعنى به إثبات كمال ضده من الصفات .(1/113)
قال جل وعلا هنا { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } وذلك فيه يعني هذا النفي فيه إثبات كمال الضد وضد أخذ السنة والنوم الذي هو (الحياة) الكاملة .
فإذن يكون هنا تأكيد لما سبق ذكره من قوله { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } وذلك لكمال حياته جل وعلا ولكمال قيوميته جل وعلا
والسِنة أخف من النوم ، السنة النعاس والنوم أعظم منه والنوم وفاة { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } فالنوم وفاة وقيل أيضا إن النوم موت أصغر وهذا صحيح ، والسنة النعاس ، والنعاس يغشى الإنسان وفيه راحة ومقدمة للنوم وفيه راحة أيضا له .
ويدل النعاس في الإنسان الذي هو السنة على نقص قواه وعلى أنه ليس بقوي بل جسمه يضطرب ويضعف حتى يحتاج إلى راحة إما في عقله وإما في أعضاءه ، والله جل وعلا منزه عن ذلك كله فله الحياة الكاملة الكمال المطلق ، ومن كمال حياته الكمال المطلق أنه جل وعلا لا يحتاج إلى السنة ولا يحتاج إلى النوم { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } يعني لا يغلبه شيء من ذلك ولا يحتاج إليه لكمال حياته جل وعلا
قال سبحانه بعدها { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }
يعني له مِلكا ، له مِلك السماوات والأرض ، وذلك لأن اللام إذا أتى بعدها أعيان فإنها تعني المِلك غالبا(1/114)
قال هنا { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } يعني له مُلك السماوات والأرض ، وهذا كما قال في الآيات الأخرى { لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ } وقوله { لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ونحو ذلك { الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ } هذا نوع ، وقوله { مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } هذا عام يعني له الذي في السماوات والذي في الأرض فيعم كل شيء لأن (ما) اسم موصول والأسماء الموصولة تعم ما كان في حيز صلتها .
قال هنا بعدها { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ }
{ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } هذا فيه حصر استفيد من مجيء إلا بعد من .
يعني لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه ، وهذا شرط فالشفاعة لا تكون عند الرحمن إلا بعد أن يأذن كما قال سبحانه { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } فلا بد من الإذن بالشفاعة .
فالشفيع عند الله ليس كالشفيع عند الخلق ، فالشفيع عند الخلق إذا شفع إنسان عند من عنده ، من يملك شيئا من الأمر أو بيده مسؤولية يمكن أن ينفع ، فإنه يشفع عنده بدون إذنه يبتدئ بالشفاعة ، وذلك لأن الشافع يحتاج ، والشفيع أيضا يعني المشفع أيضا يحتاج .
فحياة الناس في الشافع والمشفع هؤلاء هذا يحتاج إلى هذا وهذا يحتاج إلى هذا ، فتقوم حياتهم بذلك لأجل نقصهم وأن بعضهم يكمل بعضا .(1/115)
وأما الله جل وعلا فهو (الغني) الأعظم ذو الجبروت وذو القهر وذو العزة وذو القوة وذو الملك التام ، كل من في السماوات والأرض عبد له جل وعلا عبادة اختيار أو عبادة اضطرار ، لهذا لا أحد يسبق عند الله جل وعلا ويشفع بدون إذنه بل الله جل وعلا يعلم ما في نفس الشافع فإذا شاء أن يأذن أذن له ولا يبتدئ أحد عند الله فيشفع بدون إذنه .
قال هنا { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وحقيقة الشفاعة أن يكون السائل شفعا لصاحب الحاجة يعني بدل أن يكون صاحب الحاجة واحدا يأتي آخر ويصير شفعا له يعني ثانيا يرفع حاجته إلى المعظم ، والشفاعة معناها طلب الحاجة ، والدعاء طلب الدعاء بعض الشفاعة وليس كل الشفاعة .
قال هنا { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ } يعني من هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ، وهذا فيه كما ذكرت لك حصر بأنه لا يشفع أحد عند الله إلا بعد إذنه وهذا شرط .
الشرط الثاني في الشفاعة أنه لا يشفع أحد عند الله جل وعلا إلا في من يرضاه الله جل وعلا بأن يرضى أن يُشفع له ، والله جل وعلا لا يرضى أن يشفع لغير أهل التوحيد غير أهل محبته وتوحيده وطاعته الطاعة التي هي إخلاص الدين له ، فلا حظَ لمشرك بشفاعة أحد عند الله جل وعلا حاشا ، حاشا النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في شفاعته لأبي طالب بأن يخفف عنه شيء من العذاب ، وهذه شفاعة ليست لإخراجه من النار لكن بتخفيف العذاب عنه ، قال هنا { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }(1/116)
الشرط الثاني هذا الذي هو الرضى يعني أنه يشترط في الشفاعة المقبولة عند الله أن يأذن الله للشافع أن يشفع والثاني أن يرضى الله عن المشفوع له ، ولهذا في حديث الشفاعة العظمى فإن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يأتي بين يدي العرش فيسجد بين يدي العرش ، قال عليه الصلاة والسلام (فأحمد الله بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن) ولا يبتدئ عليه الصلاة والسلام بين يدي الله بالشفاعة بل يحمد الله بمحامد يفتحها عليه ، يثني عليه والله جل وعلا أعلم بما في نفس عبده الذي يريد أن يشفع ثم يقول الله جل وعلا لنبيه (يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تُشَفَّعْ) ... (1)
من الألفاظ التي تدل على علو الله جل وعلا في القرآن والسنة لأنها عندية ذات يعني عندية علو ، { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ } يعني في علوه جل وعلا .
قال بعدها { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }
هذا فيه إثبات صفة العلم لله جل وعلا ، وصفة العلم لله جل وعلا من الصفات الذاتية .
وعلمه جل وعلا متعلق بما كان وما سيكون وما لم يكن ولم يشأ الله أن يكون لو كان كيف يكون.
فإذن علم الله شامل للسابق وللحاضر وللآتي وأيضا شامل لما لم يحدث في ملكوت الله لو حدث كيف يكون وعلمه جل وعلا بكل شيء بالجزئيات والكليات بصغار الأمور وبعظام الأمور.
والعلم جاء في القرآن - يعني العلم الذي وُصف الله جل وعلا به - جاء تارة مستأنفا وتارة بالماضي وتارة بالمستقبل ، وما كان في معنى الاستئناف فإنه يراد به إظهار ذلك للخلق لكي يعلموه وذلك من مثل قوله جل وعلا { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } .
__________
(1) 1 هنا يوجد مسح في الشريط(1/117)
الله جل وعلا يعلم من سيتبع الرسول ممن سينقلب على عقبيه من دون هذه الحادثة ، قال جل وعلا { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ } ونظائره في القرآن متعددة { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } أي ليكون العلم بذلك ظاهرا للناس حتى تقوم الحجة عليهم .
فالعلم هنا استدل به الذين يقولون إن علم الله جل وعلا مستأنف ، استدلوا بمثل هذه الآيات .
وهذا غلط ولا شك من جهات ، منها : أن علم الله جل وعلا في القرآن لما كان وما سيكون والحاضر والمستقبل وكل شيء وأيضا يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون .
انتهى الشريط الرابع من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الخامس
فالعلم هنا استدل به الذين يقولون إن علم الله جل وعلا مستأنف ، استدلوا بمثل هذه الآيات .
وهذا غلط ولا شك من جهات :
منها أن علم الله جل وعلا في القرآن لما كان وما سيكون والحاضر والمستقبل وكل شيء وأيضا يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون .
وأما ما ذُكر فيه تعليل الشيء حتى يعلمه الله جل وعلا فهذا يراد به (إظهار العلم السابق لله جل وعلا) لكي يكون العلم به مشتركا بين سائله وبين الله جل وعلا ، حتى تكون الحجة على العباد أعظم .
قال جل وعلا { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } استدل أهل العلم بهذه الآية على الجزء الأخير من مُتَعَلَّق العلم وهو أن الله جل وعلا يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون .
قال هنا جل وعلا { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }
{ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني من الزمن ، ما يستقبلونه ، ما يفعلونه الآن وما يستقبلونه ، ويعلم { مَا خَلْفَهُمْ } ما خلفوه من الأعمال وهذا متعلق بالجليل والصغير من الأمور ، فالكل يعلمه الله جل وعلا وهذه صفته تبارك وتعالى .(1/118)
قال هنا { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ }
عِلمُ الله جل وعلا لا يحيط به أحد من خلقه إلا إذا عَلَّمَ الله جل وعلا الخلق شيئا من ذلك .
فإذن الأصل أن الخلق لا يعلمون شيئا إلا بتعليمه من الله جل وعلا :
إما من جهة التعليم الغريزي وإما من جهة التعليم التجريبي وإما من جهة التعليم الشرعي
يعني من جهة ما يكتسبونه في حياتهم من العلوم كما قال { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } إلى آخره ، أو العلم التجريبي أو العلم الشرعي
وأما علم الغيب فهذا خاص بالله جل وعلا ، لا يعلم أحداً الغيب إلا الله جل وعلا إلا أن الله يطلع الرسل بخاصة - يعني الرسل والأنبياء - على بعض الغيب ، كما قال سبحانه في سورة الجن { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } يعني فإن بعض الرسل يطلعهم الله جل وعلا على بعض المُغيبات .
والنبي عليه الصلاة والسلام أُطْلِعَ على كثير من المُغيبات ليكون ذلك دلالة من دلالات نبوته عليه الصلاة والسلام ، فقد أخبر بأشياء ستكون ، وكل ذلك ليس علما ذاتيا له عليه الصلاة والسلام بل كان بتعليم الله جل وعلا له كما قال هنا { إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } وكما قال في هذه الآية { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلا بِمَا شَاءَ } وجه الدلالة على ما ذكرنا : أن قوله (بِشَيْءٍ) هذه نكرة جاءت في سياق النفي في قوله { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ } وهذه النكرة تدل على العموم لأنها جاءت في سياق النفي ، فالنفي إذا جاء بعده نكرة دل على العموم ، وأيضا هذا عموم في الأشياء .
والشيء هو ما يصح أن يعلم .(1/119)
{ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ } ، الشيء ما يصح أن يُعلم إما نظرا إلى الحاضر أو نظر إلى أنه سيؤول إلى العلم ، كما قال سبحانه { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا } يعني لم يكن يصح أن ُيعلَم علما مذكورا ، يعني لم يكن شيئا يستحق أن يُذكر لأنه لم يكن شيئا يستحق أن يُعلم لأنه غائب ، قال { لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا } لأنه في صلب أبيه أو في ترائب أمه .
قال هنا { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } (مِنْ) هنا تبعيضية { مِنْ عِلْمِهِ } يعني من بعض علمه ، وهذا فيه تأكيد آخر.
قال { إِلا بِمَا شَاءَ } يعني إلا بمشيئته ، إلا بمشيئته ، فإذن لا أحد يعلم شيئا من علم الله إلا إذا أذن الله جل وعلا بذلك .
قال بعدها { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ }
و (الكرسي) كما ثبت عن ابن عباس أنه قال الكرسي موضع القدمين لله جل وعلا .
وكرسي الله جل وعلا هو موضع قدميه ، وهو ليس العرش ومن فسره بالعرش من السلف كالحسن وغيره فإن هذا غلط ، فالكرسي شيء والعرش شيء آخر ، هكذا دلت السنة .
وأصل مادة (الكرسي) أصلها من (الجمع والائتلاف) .
الجمع والائتلاف ، هذا أصل مادة الكرسي .
وإذا تبين ذلك فإن الكرسي مشتق من (التكرّس) وهو الجمع أو من (الكَرْسِ) وهو الجمع وهو غير مادة العلم تماما .
ومادة (العرش) هي مادة العلو والارتفاع ، قال { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } { نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا } هذا العرش يدل على الارتفاع .
أما مادة (الكرسي) في اللغة فهذه دالة على الجمع المؤتلف ، ولهذا تسمى (الكُرّاسة) كُراسة لأن فيها جمع الأوراق على وجه الائتلاف وعدم التنافر بينها وسمي (الكرسي) كرسيا لأن العيدان تجمع على نحو مؤتلف بحيث يمكن استخدامه للجلوس عليه .(1/120)
وقد قال بعض الناس إن الكرسي هنا في قوله { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } إن (الكرسي) هو العلم وينسب ذلك لابن عباس ، وقد ساق ذلك ابن جرير ولكن إسناده ضعيف لا يحتج به ولا يمكن أن يَقْوَى لمضادة الرواية الأخرى عن ابن عباس التي هي { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } بمعنى أن الكرسي موضع القدمين لله جل وعلا مع ما دل من السنة على ذلك .
مادة (العلم) غير مادة (الكرسي) ومن الأخطاء البينة الظاهرة التي حشيت بها بعض كتب العقيدة ما جاء في حاشية كتاب (شرح العقيدة الطحاوية) في الطبعة الأخيرة التي علق عليها الأرناؤوط حيث جعل في موضع منها تعليقا واسعا حينما تكلم عن الكرسي رجح فيه أن الكرسيَّ العلم ، واستدل على ذلك بهذه الرواية التي ذكرت - رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس بأن الكرسي هو العلم - وغمز بعض الأئمة الذين ضعفوا الرواة كـ (ابن مندة) وغيره بعبارات لا تليق بل عبارات منكرة ، ورجح أنها العلم ، هذا مما يجب أن يُتقى في تلك التعليقات التي لا تَمُتُّ إلى العقيدة السلفية بِصِلَة .
مادة (الكرسي) غير مادة (العلم)
يقولون إن ابن جرير ذكر بيتا أو شطر بيت يدل على أن (الكرسي) هو العلم ذلك هو قوله قول الشاعر في وصف رجل قانصٍ قال :
حتى إذا ما احتازه تكرّسا
(حتى إذا ما احتازه) يعني احتاز ما قنصه (تكرسا)
قالوا معنى (تكرسا) أي (علم) يعني علم أنه صاده .
وهذا مع أن ابن جرير حام إليه مستدلا لمن قال إن (الكرسي) هو (العلم) لكن هذا باطل من جهة أن قوله (حتى إذا ما احتازه تكرسا) هذا على المادة من أن الكرْس والتَكَرُّس هو (الجمع) وذلك أن الذي يقتنص شيئا إذا احتازه وصار في يديه جمعه له .
(حتى إذا ما احتازه تكرسا) يعني جمع نفسه له وضمه إليه وهذا وصف أنه ـ يعني من الشاعر ـ وصف أن هذا حريص على هذا القنْص ، على هذا الذي صاده وأنه من حرصه عليه بعد حيازته ضمه إلى نفسه متمسكا به خاشيا من فراره .(1/121)
قالوا ويقال للعلماء (الكراسي) وذلك لأنهم أهل العلم ، وهذا يدل - على قولهم - يدل على أن معنى الكرسي هو العلم .
ولكن هذا أيضا باطل فإن مادة ( الكرسي) غير مادة (العلم) تماما .
هذا من التأويلات الباطلة فإن (الكرسي) الذي عليه إجماع أهل السنة والجماعة بدون خلاف بينهم أن الكرسي هو موضع قدمي رب العزة جل وعلا وتعالى وتعظّم وتعاظم وتقدس .
قوله هنا { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } إذن الكرسي هو موضع القدمين وأما القولان الآخران فباطلان وهما :
" قول من قال إن (الكرسي) هو (العرش) .
" والثاني قول من قال إن (الكرسي) هو (العلم) .
والصواب أن (الكرسي) غير (العرش) وغير (العلم) .
{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ }
......
نعم . الأشاعرة (الكرسي) عندهم هو (العرش) قد يجعله بعضهم هو(العلم) لأن عندهم (الكرسي) و(العرش) واحد .
قال { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } وقد دلت السنة على أن السماوات والأرض أنها في جوف الكرسي كدراهم ملقاة في تُرس ، يعني أنها قليلة ، يعني أنها بالنسبة للكرسي محدودة الحجم ، الحيز ، وأن الكرسي أعظم منها بكثير ، والكرسي بالنسبة للعرش أيضا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض ، والعرش لا يَقْدُرُ قدْرُه إلا ربه جل وعلا .
قال هنا { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُه }
يعني لا يقله ، لا يثقل الله جل وعلا حِفْظُهُمَا
{ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } هنا (آد ، يؤود) بمعنى (ثقل يثقل) .
وقوله هنا { لا يَؤُودُهُ } يعني لا يثقله .
(حِفْظُهُمَا) يعني حفظ السماوات والأرض ، وحفظ السماوات والأرض متنوع كما قال جل وعلا في آية فاطر قال { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } فالله جل وعلا حافظ للسماوات وحافظ للأرض ، قامت السماوات بأمره وبحفظه ، وقامت الأرض بأمره وبحفظه جل وعلا .(1/122)
{ لا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال شيخ الإسلام هنا (أي لا يكرثه ولا يثقله حِفْظُهُمَا) .
ثم قال جل وعلا { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }
وهذان اسمان جليلان ، اسمان آخران مع الأسماء التي سبقت { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } .
(الْعَلِيُّ) يعني من له العلو الكامل المطلق : ذلك أن الألف واللام هنا إذا دخلت على (عليّ) فإنها تدل على العموم ، كما هي الألف واللام التي دخلت على (الْعَظِيمُ) لأن الألف واللام إذا دخلت على اسم الفاعل أو اسم المفعول فإنها تدل على عموم ما اشتمل عليه اسم الفاعل أو اسم المفعول من المصدر .
قال هنا { وَهُوَ الْعَلِيُّ } يعني الذي له جميع أنواع وأوصاف العلو .
والعلو ثلاثة أنواع :
- علو الذات . ... ... - وعلو القَهْرْ. ... ... - وعلو القَدْرِ .
والله جل وعلا له هذه جميعا ، له علو الذات وله علو القَهر وله علو القَدْرِ سبحانه وتعالى { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } .
إذن فقوله جل وعلا هنا { وَهُوَ الْعَلِيُّ } تفسير (الْعَلِيُّ) أنه ما يشمل جميع أنواع العلو الثلاثة :
علو الذات وهو العلي في ذاته ، العلي في قهره ، العلي في قَدْرِهِ جل وعلا .
المبتدعة ، المؤولة يؤولون جميع ما في القرآن من صفة (العلو) أو صفة (الفوقية) بغير صفة (علو الذات) لأنهم ينكرون علو الرحمن جل وعلا علو الذات ، فتجد أن المبتدعة قد يثبتون ( العلو ) ويقولون ( العلو ) لله ثابت ، ويعنون به (علو القدر وعلو القهر) أما (علو الذات) فهو مما يَشْرَقُونَ به ، بل عندهم أن ذلك يلزمه الجهة ، ويلزمه التحيز والتجسيم ، إلى آخره ، وعندهم أن الله جل وعلا في كل مكان حالّ بذاته تعالى جل وعلا وتقدس وتعاظم عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
{ وَهُوَ الْعَلِيُّ } يعني من له أوصاف العلو وأنواع العلو جميعا { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } سبحانه وتعالى.
(الْعَظِيمُ) الذي كَمُلَتْ له أنواع العظمة .(1/123)
قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد ذلك (وَلِهَذَا كَانَ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ فِيْ لَيْلَةٍ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ حَافِظْ وَلا يَقْرَبُهُ شَيْطَانْ حَتَى يُصْبِحْ)
ذلك لأنها - آية الكرسي - التي هي أعظم آية في كتاب الله جل وعلا وفيها اسم الله الأعظم .
وتبين بهذه الآية أن فيها قاعدة في الصفات ففيها (الوصف المفصل) ، وفيها (النفي المجمل) ، وفيها إثبات الكمالات لله وفيها أنواع من أسماء الله جل وعلا وأنواع من صفات الله جل وعلا ، ففيها :
" أولا أن المستحق للعبادة ، فيها إثبات توحيد الإلهية بقوله { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ }
" وفيها إثبات اسم الله (الْحَيُّ) وأنواع الحياة ، و (الْقَيُّومُ) وما في ذلك من الصفات .
" فيها إثبات الشفاعة عنده وأنها لا تنفع إلا بعد الإذن .
" وفيها إثبات صفة العلم .
" و كرسي الرحمن جل وعلا .
" وأسماء الله جل وعلا (الْعَلِيُّ) و (الْعَظِيمُ) .
أما النفي الذي جاء فيها ففي قوله { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } وفي قوله { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } وفي قوله { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } هذا نفي مفصل لكن كما ذكرنا النفي المفصل لا يُعنى به حقيقة النفي وإنما يراد منه إثبات كمال الضد ، وضد الإكتراث والثِّقل ضده كمال (القوة) وكمال (القهر) وكمال (الجبروت) وكمال (العزة) و (القدرة) له جل وعلا .
{ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } لِمَ ؟
لكمال عزته وقوته وقهره جل وعلا وكمال جبروته وقدرته سبحانه وتعالى .
نعم .
......
إثبات ايش ؟
يعني فيه إثبات الشفاعة ؟
نعم ، الشفاعة هنا أُثْبتت ونُفيت ، فيه إثبات أن الشفاعة نافعة عند الله ، وفيه نفي أنها تنفع عند الله مطلقا بل إنما تنفع بشرط ذُكِر هنا وهو إذن الله جل وعلا .
... ...
نعم ، صحيح ، لكنه جمْع بين الإثبات والنفي هذا متعلق بالشفاعة ، مو في إثبات الصفات .(1/124)
يعني ، نقصد بالجمع بين النفي والإثبات في الصفات ، هنا الشفاعة إذا نظرنا إلى قبول الشفاعة نعم ، هذا من الله جل وعلا ، لكن الشفاعة نفسها هذه من العبد ، الإذن من الله جل وعلا ، الإذن مُثبت ، { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } نُفي أن يكون ثَم شفاعة إلا بإذن الله جل وعلا ، ولهذا ذكرت لك أنه حصر ، هذا أحسن من الآخر .
يأتينا بعد ذلك تفصيل الكلام على علو الله جل وعلا وقربه وأزليته وأبديته ، نجيب عن بعض الأسئلة :
- هذا مسألة علم الله جل وعلا بالكليات دون الجزئيات هذا قول طائفة من الفلاسفة ، وحُذاق الفلاسفة ردوا عليهم مثل (ابن ملْكا) الفيلسوف في كتابه المعتبر ، أثبت بالعقل أن الله جل وعلا يعلم الكليات والجزئيات ، وهذا سؤال ما نحب نطوّل على الكلام عليه .
- يقال من ذكر الإجماع على أن الكرسي هو موضع القدمين من أهل العلم ؟
الإجماع الذي يذكر في العقائد غير الإجماع الذي يذكر في الفقه .(1/125)
إجماع أهل العقائد معناه أنه لا تجد أحدا من أئمة الحديث والسنة يذكر غير هذا القول ويرجحه ، هذا معناه الإجماع ، وإذا خالف أحد ، واحد أو نحوه فلا يعد خلافا ، لأنه يعد خالف الإجماع ، فلا يعد قولا آخر ، فنجد أنه مثلا أنهم أجمعوا على أن الله جل وعلا له (صورة) وذلك لأنه لا خلاف بينهم على ذلك كلهم يوردون ذلك ، فأتى (ابن خزيمة) رحمه الله تعالى رحمة واسعة فنفى حديث الصورة وتأوله - يعني حديث الخاص (أن الله خلق آدم على صورة الرحمن) وحمل حديث (خلق الله آدم على صورته) يعني على غير صورة الرحمن ، وأنكر ذلك ، وهذا عُدّ من غلطاته رحمه الله ولم يُقل إن ذلك فيه خلاف للإجماع أو إنه قول آخر ، فإذن الإجماع في العقائد يعني أن أهل السنة والجماعة تتابعوا على ذكر هذا بدون خلاف بينهم ، مثل مسألة الخروج على أئمة الجَور ، على ولاة الجور من المسلمين ، هذا كان فيه خلاف فيها عند بعض التابعين وحصلت من هذا وقائع ، وتبع التابعين ، والمسألة تذكر بإجماع ، يقال أجمع أهل السنة والجماعة على أن السمع والطاعة وعدم الخروج على أئمة الجور واجب ، وهذا مع وجود الخلاف عند بعض التابعين وتبع التابعين لكن ذلك الخلاف قبل أن تَقَرّرَ عقائد أهل السنة والجماعة ، ولما بُيِّنَت العقائد وقُرِّرَت وأوضحها الأئمة وتَتَبَّعوا فيها الأدلة وقرروها تتابع الأئمة على ذلك وأهل الحديث دون خلاف بينهم ، ففي هذه المسألة بخصوصها رُدَّ على من سلك ذلك المسلك من التابعين ومن تبع التابعين لأن هذا فيه مخالفة للأدلة فيكون خلافهم غيرَ معتبر لأنه خلافٌ للدليل ، وأهل السنة الجماعة على خلاف ذلك القول ، إذن الخلاصة أن مسألة الإجماع معناها أن يتتابع العلماء على ذِكْر المسألة العقدية ، إذا تتابعوا على ذِكرها بدون خلاف فيقال أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك .
يقول كيف يسترق الشياطين السمع ؟ وكيف يصل إليهم قبل بعثة الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ؟(1/126)
الشياطين لهم أوصاف غير أوصاف ابن آدم ، فمما جاء من استراقهم السمع أن بعضهم يركب بعضا ويعلو بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء - يعني الدنيا - فيسمعون ما أوحَى الله جل وعلا ، فربما لقف أحدهم الخبر من السماء قبل أن يصله الشهاب فيلقيه على من تحته ثم يصل إلى الأرض ، واستراق الشياطين للسمع له ثلاثة أحوال :
- قبل بعثة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
- وفي أثناء بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ـ يعني في حياته .
- وبعد حياته عليه الصلاة والسلام .
قبل البعثة كان كثيرا جدا ، كثير جدا تخطف الشياطين الخبر وتلقيه على الكهنة وعظُم شأن الكهنة جداً .
أما في عهد النبي عليه الصلاة والسلام فإنه امتنع ذلك إلا في النادر جدا ، امتنع ، كما قال الله جل وعلا { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا } وقال في الآية الأخرى { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } ، فملئت السماء حرسا شديدا وشهب حتى إذا بُلِّغ الوحي للنبي عليه الصلاة والسلام وسُمع الوحي في السماء فإنه لا يخطفونه فيقع الابتلاء والفتنة من جهة الوحي ، فلم يخطفوا شيئا من الوحي الذي أوحاه الله جل وعلا لنبيه .
وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام أيضا عظم استراقهم ولكن دون ما كان قبل بعثته عليه الصلاة والسلام وفوق ما هو أثناء بعثته عليه الصلاة والسلام .
... ...
الماضي والمستقبل هي المذكورة في آية الكرسي { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } هذا الماضي والمستقبل ، والمستأنف اللي ذكرت لكم ، اللي قالوا إن العلم أُنف ، هنا { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } كيف ؟ يعني الله جل وعلا قبل ما يعلم ؟(1/127)
لا ، يعلم ، المقصود هنا (إظهار العلم ليكون حجة على الخلق) .
- هل في قول بعض الناس إن الله لا تحيط به الجهات خطأ ؟
طبعا ، الله جل وعلا لا يقال لا تحيط به الجهات ، هذي من التعابير ، من التعبيرات المبتدعة ، التعبيرات اللي ما وردت عن السلف تُتْرك في النفي وكذلك في الإثبات .
يقول العلم الذي جاء في القرآن جاء على ثلاثة معاني ، الرجاء توضيحها ؟
يعني اللي أنا ذكرته ؟ يمكن يقصد الماضي والمستقبل والمستأنف ؟ وضحته لك .
نكتفي بهذا القدر .
الجمع بين علوه وقربه
وأزليته وأبديته
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الحديد:3].
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان:58].
وَقَوْلُه: { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [التحريم:2]، { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1) } [سبإ:1]
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [سبإ:2]، { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام:59]، وَقَوْلُهُ: { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين .
أما بعد فهذه صلة للكلام على ما سبق من تفصيل الكلام على آيات الصفات لدخول ذلك في جملة الإيمان بالله جل وعلا .(1/128)
الإيمان بالله منه الإيمان بما أثبت لنفسه من الأسماء وما أثبت لنفسه من الصفات ، وهذه جملة تشتمل على آيات كثيرة دلت على أسماء الله جل وعلا أو على صفاته .
من تلكم قوله جل وعلا { هُوَ الأول وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
وهذه الآية من الآيات العظيمة التي فيها أربعة أسماء لله جل وعلا وهي (الأول) (وَالْآخِرُ) (وَالظَّاهِرُ) (وَالْبَاطِنُ) .
فهذه كلها أسماء لله جل وعلا .
والاسمان الأولان يطلقان غير متلازمين ، وأما الاسمان الآخران فإنهما يطلقان متلازمين .
فـ (الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)، يعني (الْبَاطِنُ) لا يطلق إلا ومعه (َالظَّاهِرُ) وذلك لأن كمال ما يشتمل عليه هذا الاسم من الصفة يكمل باسم الله جل وعلا (الظَّاهِرُ) .
مثل (النافع) و (الضار) فإن اسم الله جل وعلا (الضار) لا يطلق إلا مقترنا مع اسم الله (النافع) وذلك لأن كماله إنما يظهر مع الاسم الآخر ، وهذا له نظائر في أسماء الله جل وعلا الحسنى ، فمنها ما يطلق على وجه الانفراد ومنها ما يطلق على وجه الاقتران ولا يطلق على وجه الانفراد .
هنا في قوله { هُوَ الأول وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } هذه أسماء فسرها النبي عليه الصلاة والسلام في ثنائه على ربه في دعائه بالليل حيث قال عليه الصلاة والسلام (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء)
خرجه مسلم وغيره وهذا الحديث فيه تفسير واضح لهذه الأسماء الأربعة .
الاسم الأول قال عليه الصلاة والسلام (أنت الأول فليس قبلك شيء) يعني أن لله جل جلاله سبق الأشياء ، بل كل شيء موجود إنما هو أثر من آثار أولية الله جل وعلا ، يعني أن سبْق الله جل وعلا على كل شيء ، كل شيء بعده جل وعلا إنما صدر عنه ، هو الخالق له وهو الذي جعله شيئا مذكورا ، فهو سبحانه (الأول) وليس قبله شيء .(1/129)
و (أوليته) سبحانه بمعنى (الأزلية) يعني أنه جل وعلا لم يزل .
وكلمة أزلية ، هذه منحوتة من الكلمتين (لم) (يزل) فقيل فيها أزلية وتفسيرها (لم يزل) فالله جل وعلا (أول) بمعنى لم يزل بذاته ولم يزل بأسمائه ولم يزل بصفاته ، فهو سبحانه (أول) في ذاته فليس قبل ذاته شيء ، وهو (أول) جل وعلا بصفاته وبأسمائه جل وعلا وبأفعاله ، فإن أسماء الله تبارك وتعالى ، وإن صفات الله جل وعلا لم يكتسبها جل وعلا اكتسابا بعد حصول الخلق .
كما هو الحال في المخلوقين ، فإن الصفة أو الاسم في المخلوق إنما تكون بعد اكتسابه للصفة ، فيقال فلان كاتب بعد أن حصلت منه الكتابة ، وفلان قادر أو قدير بمعنى أنه حصلت منه هذه القدرة يعني في أجناسها وهكذا ، فلان صانع صنع الشيء بمعنى حصلت منه ، حصل منه ذلك.
وقد يطلق على المخلوق الصفة قبل فعله لها بمعنى كونه قابلا لها ، كما يقال في الإنسان حين ولادته إنه ناطق بمعنى أنه يقبل ذلك .
والله جل وعلا لم يزل بذاته ولم يزل بأسمائه ولم يزل بصفاته ولم يزل بأفعاله ، يعني أن أسماء الله جل وعلا فيها صفة (الأولية) كما أن ذاته جل وعلا لها صفة (الأولية) فكذلك أسماء الله جل وعلا كذلك صفاته كذلك أفعاله .
يعني أن الله جل وعلا هو (الأول) بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا يعني أنه جل وعلا - كما يعبر طائفة من أهل العلم - سبق الأشياء ، وهذا السبْق وإن كان يجوز من باب الإخبار لكن لا يفهم أنه من باب الصفة أو من باب الإطلاق الوارد ، بل الذي ورد في ذلك إنما هو الأولية ، الله جل وعلا (أول) .
وهذه الآية بينها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (أنت الأول فليس قبلك شيء) يعني أنه جل وعلا إنما كانت الأشياء بإيجاده لها وبخلقه لها وبصنعه لها ، فهو جل وعلا أوجد الأشياء ولهذا تكون الأشياء حادثة .(1/130)
قوله هنا عن الله جل وعلا (الأول) يعني الذي لا يوصف بأنه حادث ولهذا قال بعض الناس إن معنى الأول أنه هو معنى اسم الله الذي سموه به (القديم) ، قالوا إن (الأولية) هي (القِدَم) وهذا غير صحيح ، لأن القديم وإن كان يحتمل الأزلية لكنها احتمال من الاحتمالات ، وذلك أن اسم القديم يطلق في العربية ـ وجاء استعماله أيضا في القرآن ـ على نحوين :
- الأول : أن يكون مطلقا ، يعني من الزمن ، يعني قِدم على جميع الأشياء .
- ومنها أن يكون قدما نسبيا ، يعني أن يكون قديم - يعني إطلاق اللفظ - قديم على بعض الأشياء
الأول واضح ، والثاني كقوله تعالى { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } قال { أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ } وهذا فيه قِدم نسبي ، ولهذا لما احتمل هذا اللفظ أن يكون فيه المعنيان ـ معنى القِدم المطلق والقِدم النسبي - لم يصح أن يطلق في أسماء الله جل وعلا وأن يقال إن من أسمائه القديم ، وذلك للاحتمال.
فأسماء الله جل وعلا كلها حسنى ، كلها أسماء كمال ، وأما الاسم الذي يحتمل شيئين فإنه لا يطلق في أسماء الله جل وعلا وليس من أسماء الله الحسنى وهذا مثل (الصانع) ومثل (المريد) وأشباه ذلك .
أما الصفات أو الآثار - آثار الصفات - هذا قد يطلق عليها أنها قديمة كما قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (أعوذ بوجهك الكريم وسلطانك القديم) وهذا أخص من أن يكون اطلاق اسم (القديم) عليه جل وعلا ، بل هو إطلاق على بعض ما له جل وعلا .
(أعوذ بوجهك الكريم وسلطانك القديم) فـ (القديم) ليس نعتا لله جل وعلا ، بل نعت للسطان ، ولهذا لا يصح أن يقال إن من أسماء الله جل وعلا (القديم) لهذا الأمر .
(الأول) أعظم - اسم الله الأول - أعظم وأجل من القديم ، وهو الذي جاء في الكتاب والسنة وهو الذي يشتمل على أنواع ( الأولية ) للذات والأسماء والصفات والأفعال تبارك ربنا وتعالى وتقدس .(1/131)
قال جل وعلا (وَالْآخِرُ) (َالْآخِرُ) كما فسرها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بأنه الذي (ليس بعده شيء) يعني الذي يبقى بعد ذهاب الأشياء كما قال سبحانه { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } ويقول جل وعلا في سورة غافر { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ثم يجيب نفسه جل وعلا بقوله { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } فكل شيء إلى الفناء والهلاك وهو جل وعلا (َالْآخِرُ) الذي يبقى بعد فناء الأشياء .
وهذا لا شك دليل عظمته وقهره وجبروته وملكه للأشياء وأن كل شيء في هذا الملكوت إنما هو بتدبيره يحيي من يشاء ويميت من يشاء وهو جل وعلا (الأول) الذي له الأزلية و (َالْآخِرُ) الذي له السرمدية جل وعلا .
قال هنا (وأنت الآخر فليس بعدك شيء) وآخريته جل وعلا المراد منها هذا الي وصف .
وأما نعيم أهل الجنة وما هم فيه فإن النصوص أطلقت أنهم خالدون فيها أبدا لأن أهل الجنة يخلدون فيها أبدا ، وأهل النار النصوص جاء فيه الاطلاق بأن أهل النار خالدون فيها أبدا .
وهذه الأبدية لا تنافي كون الله جل وعلا آخرا ، لأن آخريته جل وعلا معناه الذي (ليس بعده شيء) وهو جل وعلا يهلك المخلوقات جميعا ويبقى جل وعلا وحده ويقول أنا الملك أنا الجبار أين ملوك الأرض ؟ ، لمن الملك اليوم ؟ ، ثم يجيب نفسه الجليلة العظيمة جل وعلا بقوله لله الواحد القهار .
قال سبحانه وتعالى هنا (وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)
(الأول وَالْآخِرُ) اسمان لاستغراق الزمان ، استغراق الزمان كله من مبتدئه إلى منتهاه ، فلو تُصُوِّر أن للزمان ابتداء فالله جل وعلا (أول) هو قبل ذلك ، ولو تُصُوِّر أن للزمان انتهاء فإن الله جل وعلا (آخر) أي بعد ذلك .
فإذن الزمان مستغرق في هذين الاسمين (الأول وَالْآخِرُ) واسم الله (الأول) .(1/132)
واسم الله (َالْآخِرُ) دلالتهما أكثر وأعظم من دلالة الزمان ، يعني أن الزمان جميعا لو تُصُوِّر له ابتداء وله انتهاء فإن هذين الاسمين لله تبارك وتعالى تسع ذلك الزمان كله وغيره ، يعني أن الزمان لو تُصُوِّر أنه موجود بكماله ـ زمان لا بداية له وزمان لا نهاية له ـ فالله جل وعلا ليس قبله شيء والله جل وعلا ليس بعده شيء لا الزمان ولا غيره .
قال سبحانه وتعالى هنا (وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) وهذان اسمان لعلو الله وفوقيته .
فـ (َالظَّاهِرُ) كما فسره النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بقوله (أنت الظاهر فليس فوقك شيء).
والمراد بالظهور هنا (العلو) و (الفوقية) كما فسره عليه الصلاة والسلام .
و (علوه) جل وعلا و (فوقيته) الذاتية هي معنى كونه جل وعلا ظاهرا (الظاهر فليس فوقك شيء) يعني (الظَّاهِرُ) بذاته ، لأن معنى (ظهر على الشيء) : علا عليه ، كما قال سبحانه { فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } { فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ } يعني أن يعلوا على السُّد الذي جُعل بين يأجوج ومأجوج وغيرهم .
قال هنا (وَالظَّاهِرُ) فإذن الظهور هنا هو كونه جل وعلا فوق كل شيء يعني بذلك (علو الذات) (فوقية الذات) وأنه جل وعلا مستو على عرشه فوق خلقه أجمعين .
وليس المراد بالظهور هنا ظهور أثر الصنعة ، (الظَّاهِرُ) يعني الذي ظهرت آثار صنعته ودلت الأشياء عليه كما قال الشاعر :
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
ليس المراد ذلك ، بل الظهور هنا كما فسره النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بقوله (فليس فوقك شيء)(1/133)
ويحتمل أن يكون في معنى الظهور على الصفات ، لأن اسم (الظَّاهِرُ) اسم فاعل (ظاهر) دخلت عليه الألف واللام فدخول الألف واللام على أسماء الفاعلين يدل على عموم ما اشتمل عليه الاسم - اسم الفاعل - من المصدر ، واسم الفاعل (ظاهر) اشتمل على مصدر وهو الظهور و (الظهور) بمعنى (الفوقية) يكون (فوقية ذات وفوقية صفات) يعني أن يكون (الظهور) ، ظهور ذات كما فسره النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، ويحتمل أن يكون أيضا مشتملا على (ظهور الصفات) يعني على أن صفاته جل وعلا فوق كل الصفات لأن العلو كما ذكرت لكم سابقا والفوقية تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
" علو الذات وفوقية الذات .
" وعلو القدر وفوقية القدر .
" وعلو القهر وفوقية قهر .
ومن أهل السنة أي من العلماء من يقول العلو قسمان ، يعني هذا تقسيم والمعنى واحد ، منهم من يقول العلو قسمان والفوقية قسمان :
" علو الصفات .
" وعلو الذات .
وعلو الصفات يدخل فيها جميع أنواع الصفات والتي منها (القدر) و (القهر) .
والتوفيق بين القولين أن مَن قال من أهل السنة وهم الأكثر يعني خصوا العلو والفوقية بالثلاثة أقسام هذه - فوقية الذات وفوقية القدر وفوقية القهر - أن (القدر) و (القهر) هؤلاء قد نازع فيهما - يعني هذان المصدران وهاتان الصفتان - نازع فيها أهل البدع .
فقال طائفة من أهل البدع نقول بفوقية القدر والقهر دون غيرها من الفوقيات ودون غيرها من أنواع العلو ، أما علو سائر الصفات فهذا متفق عليه ، وهم لما نصوا على إثبات هذين دون إثبات علو الذات وفوقية الذات احتاج أهل السنة إلى أن يقسموا الفوقية إلى هذه الثلاث وهي :
- فوقية وعلو الذات .
- وفوقية وعلو القدر .
- وفوقية وعلو القهر .
باعتبار أن المبتدعة أثبتوا علو القدر وعلو القهر ونفوا علو الذات ، وإلا فإننا نقول إن صفات الله جل وعلا كلَّها عُلا له الصفات العلا ، كما أن له الأسماء الحسنى ، فكل صفاته هي العليا جل وعلا .(1/134)
فإذن العلو يُقسم إلى علو ذات وعلو صفات ، ويقسم أيضا علو ذات وعلو قدر وعلو قهر .
الثاني هذا علو الذات وعلو القهر والقدر هو الأكثر في كتب أهل السنة مراعاه لحال المبتدعة في نفيهم لذلك .
(الظَّاهِرُ) لا شك في قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء) يدل على علو الذات ويدل على استوائه جل وعلا على عرشه ، لكن دلالته على الاستواء دلالة لزوم بضميمة ما جاء في الآيات من ذلك .
قوله (وَالْبَاطِنُ) ، اسم الله الْبَاطِنُ فسره النبي عليه الصلاة والسلام بأنه الذي (ليس دونه شيء) واختلف العلماء والمفسرون في هذا الاسم كثيرا ، والذي عليه أهل التحقيق أن يقال :
إن اسم الله (الْبَاطِنُ) يوقف فيه على تفسير النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ دون غيره لأنه اسم لا تُفسره اللغة ولا يفسره السياق ويحتاج في تفسيره إلى معرفة كلام المعصوم له .
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (وأنت الباطن فليس دونك شيء) وهذا التفسير حُمل على أن معنى البُطون (القرب) والقرب في هذا يُعنى به القرب العام من المخلوقات .
والقرب العام من المخلوقات لا بد أن يفهم مع اسم الله (الظَّاهِرُ) .
لأن القرب العام من المخلوقات إما أن يكون قربا بالذات ، وإما أن يكون قربا بالصفات .فإذا كان قربا بالذات ناقض هذا قوله (الظَّاهِرُ)فلا بد أن يكون قربا بالصفات .
ولهذا قالوا إن (الْبَاطِنُ) اسم لقرب الله جل وعلا ، وقربه نوعان :
- قرب عام في الإحاطة والعلم والقدرة - وهذا تمثيل بهذه الصفات - .
- وقرب خاص من أوليائه بالإجابة وبنصرهم ونحو ذلك بسماع دعائهم إلى آخره .(1/135)
إذن لفظ (الْبَاطِنُ) ينتبه إلى أنه لا يُدخل كثيرا في بحثه ولا في تفصيل الكلام عليه لأنه مزِلّة أقدام ، (الْبَاطِنُ) ، ومن هذا الاسم دخل كثيرا من غلاة الصوفية في أنواع من الضلال في الاعتقادات حتى وصلوا في تفسيرهم لاسم الله (الْبَاطِنُ) إلى القول بالوحدة والقول بالحلول والاتحاد .
أحسن تفسير له بل التفسير الذي يتعين تفسيرا دون غيره هو قول النبي عليه الصلاة والسلام (أنت الباطن فليس دونك شيء) فسره أهل السنة بأنه يدل على قرب الله جل وعلا ، قرب الإحاطة والعلم والقدرة ونحو ذلك .
قال سبحانه وتعالى بعدها { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وهذا فيه إثبات أن متعَلّق العلم هو كل شيء.
قد تقدم لك أن كلمة (شيء) في نصوص الكتاب والسنة أنها تفسر بأنها (ما يصح أن يُعلم) { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ما يصح أن يعلم ، سواء أكان واقعا أم لم يكن واقعا ، سواء أكان ماضيا أم كان حاضرا أم مستقبلا ، وسواء أكان مقدَّرا أم حاضرا - يعني غير مقدر - .
إذن قوله { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } هذا يشمل كل شيء ، ولهذا استدل به أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على بطلان قول القدرية الذين يقولون إن الأمر أنُف - مستأنف - وأن الله جل جلاله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، وكذلك رُد به قول طائفة من الفلاسفة الذين يقولون إن الله يعلم الأمور الكلية دون التفصيلات والجزئيات ، كل هذا يرده قوله { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
قال سبحانه في الآية التي بعدها { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ }
قوله { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } فيها اسم الله جل وعلا (الْحَيِّ) هذا هو الشاهد ، وهذا كما في آية الكرسي { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وقد تقدم الكلام على اسم الله (الْحَيِّ) .(1/136)
وهذه الآية فيها الأمر بالتوكل على الله جل وعلا بقوله { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } والتوكل مما اختلفت فيه عبارات العلماء ، بم يُفسر ؟
ولعله أن يكون من أحسنها أن التوكل هو (صدق التجاء القلب إلى الله جل وعلا بتفويض الأمر إليه بعد فعل السبب) وذلك يجمع شيئين :
- التفويض .
- وفعل الأسباب .
وهناك التفويض ، وقد فسر التوكل بأنه تفويض الأمر إلى الله ، وهذا ليس بصحيح ، وإن كان لغة (وكلتك بالأمر) أو تقول العرب (توكلت على فلان) يعني فوضت أمري إليه ، (توكلت على الله) يعني فوضت أمري إليه ، لكن جاء الشرع ببيان أن الأسباب وتحصيل الأسباب أنه من التوكل ، وهذا في قوله عليه الصلاة والسلام (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا) وذلك من الطير عمل ، فإذن التوكل يجمع فعل السبب وتفويض الأمر إلى الله وصدق اللجأ إلى الله في أن يحصل المقصود .
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ } التوكل عبادة قلبية عظيمة من العبادات القلبية العظيمة ، والعبادات القلبية منها :
ما يجوز إظهاره على اللسان .
ومنها ما لا يجوز التعبد به لسانا .
فهذا التوكل مما يجوز التعبد به لسانا لمجيء السنة بذلك ، تقول (توكلت على الله) ، (اللهم إني متوكل عليك) تظهر ذلك بالكلام ، وهناك من العبادات ما لا يكون التعبد بإظهاره كالحب ونحو ذلك من العبادات القلبية ، فإذن هي تنقسم إلى قسمين :
- منها ما يتعبد بذكره ( توكلت على الله ) .
- ومنها ما لا يتعبد بذكره كالمحبة (أحببت الله) (أحبك يا الله) ونحو ذلك .
هناك في تفصيلات للتوكل لكن مكانها في الكلام على توحيد العبادة ، وتقسيمات التوكل ، والفرق بين التوكل والوكالة ونحو ذلك .(1/137)
هنا مسألة يكثر السؤال عنها في التوكل وهي قول القائل (توكلت على الله ثم على فلان) من أهل العلم من أجازها ومنهم وهم الأكثر من منعها ، والمانعون على الأصل من أن التوكل فعل قلبي وأنه لا يسوغ التوكل على أحد إلا على الله جل وعلا قال سبحانه { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } اختصاص ذلك بالله أما المخلوق فيقال (وكلت فلانا) ونحو ذلك (اعتمدت على فلان) أما التوكل بخصوصه فليس للمخلوق منه نصيب لأن الذي يفعل الأمور وينفذها على ما يرجو العبد هو الله جل وعلا والمخلوق قد يكون سببا ، وإذ كان سببا فإنه لا يصح أن يفوض الأمر إليه.
قال طائفة من أهل العلم لا بأس أن يقال (توكلت على الله ثم على فلان) باعتبار أن العامي إذا أطلقها لا يعني بها التوكل الذي هو عبادة القلب ، وإنما يعني به ما تكون فيه الوكالة والاعتماد ظاهرا دون عمل القلب .
(التوكل) انقسامه من حيث الحكم أنه شرك أكبر أو أصغر لكن مو من حيث صحته.
الأخ يسأل يقول التوكل قال العلماء أنه ينقسم ؟
نقول قولهم ينقسم ليس من جهة أنه ينقسم إلى ما يجوز وما لا يجوز ، لا ، قالوا ينقسم إلى ما هو شرك أكبر وما هو شرك أصغر ، فإذا توكل على مخلوق ممن لا يقدر على شيء وفوض الأمر إليه ، والتجأ قلبه إليه هذا يكون شركا أكبر ، ممن لا يقدر يعني فوض أمره إليه ، كما يحصل عند عُبّاد القبور ونحو ذلك وعُبّاد الأولياء فإنه يتوكل على هذا الميت في حصول مقصوده من جلب رزق له أو دفع ضر أو نحو ذلك ، هذا شرك أكبر .(1/138)
والقسم الثاني من التوكل هو إذا توكل على مخلوق فيما كان مقدورا له ، توكل على مخلوق فيما كان مقدورا له يعني أنه يعلم أن المخلوق سبب ولكنه توكل عليه ، فوض الأمر إليه ، يجد في قلبه ميلا لهذا المخلوق وتفويض الأمر إليه وتعلق القلب بأن هذا المخلوق سيحصل المقصود ، وإذا كان عند هذا القلب هذا التوجه وهذا الاندفاع نحو المخلوق فهذا القسم الثاني الذي هو شرك أصغر أو نوع تشريك ، لأنه يعني الضابط بينه وبين الأول أن الأول (استقلال) ، والثاني (سبب) الأول (غير مقدور) والثاني (مقدور) من هذه الجهة ، ليس من جهة أنه يجوز أو لا يجوز .
الآية التي بعدها قال وقوله تعالى { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }
......
قوله ( توكلت على الله ثم عليك ) يظهر ، الأظهر فيه عدم الجواز لأن التوكل عبادة قلبية بحتة ليس للمخلوق فيها نصيب .. حتى (توكلت على فلان) لأنه أعظم .
قال هنا { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } هذان اسمان من أسماء الله في هذه الآية ، قال جل وعلا { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } اسمان من أسماء الله (الْحَكِيمُ) و (الْخَبِيرُ)
و (الْحَكِيمُ) هذا فعيل جاء قبله الألف واللام ، و (حكيم) مبالغة ، صيغة مبالغة من اسم الفاعل الذي هو (حاكم) أو (مُحكِم) صيغة مبالغة منه ، وكل من الاسمين راجع إلى إما (الحكمة) أو (الحُكم)
فتلخص إذا أن قوله (الْحَكِيمُ) يشمل شيئين بدلالة اللغة وأيضا بدلالة النصوص الكثيرة التي جاء فيها تفصيل اسم الله الْحَكِيمُ(1/139)
- (الْحَكِيمُ) بمعنى (الحاكم) ، فالله جل وعلا له الحكم في الأولى وله الحكم في الآخرة ، حكمه جل وعلا في ملكوته نافذ هو جل وعلا يأمر وكل شيء مطيع له جل وعلا ، أمره نافذ فهو (الحاكم) الذي يحكم في السماوات وفي الأرض ، هو ذو الحكم في الأولى والآخرة ، هو ذو الحكم في الأمور الكونية القدرية من إحياء وإماتة صحة وسقم إغناء وفقر ، طول عمر وغيره ، وكذلك هو ذو الحكم في الأمور الشرعية ، يحكم بين العباد فيما اختلفوا فيه كما قال جل وعلا { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }
فقوله هنا (الْحَكِيمُ) إذن أول معنى لها أن يكون (الْحَكِيمُ) بمعنى (ذو الحكم)
* والثاني أن يكون (الْحَكِيمُ) بمعنى (المُحكِم)
حكيم من أحكم الشيء ،وهو معنى صار محكما له ، الله جل وعلا (أحْكَمَ) بمعنى أتقن كل شيء خلقه ، وهو جل وعلا أحكم مخلوقاته جل وعلا { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ } أحكم كونه وأحكم القدر وأحكم الشرع ، وأحكم الآيات الشرعية وأحكم الأحكام الشرعية ، فكل هذه على وجه الإتقان ، فملكوته جل وعلا جار على غاية الإتقان وغاية الجمال لا ترى فيه تفاوت ولا اختلاف .
كذلك الحكم الشرعي جار على غاية الإتقان كما قال جل وعلا { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } وكذلك قوله { الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } فإحكامٌ للقرآن وإحكام للأحكام التي في القرآن وإحكام لما جاءت به الرسل ، سواء في باب الاعتقاد أو في باب الشرائع .(1/140)
- المعنى الأخير لـ (الْحَكِيمُ) أنه (ذو الحكمة) و (حكيم) بمعنى (ذي الحكمة) وهذا الذي يفهمه أكثر الناس حينما يقال (فلان حكيم) بمعنى أنه (ذو حكمة) والله جل وعلا (الحكيم) بمعنى أنه (ذو الحكمة) ، وحكمة الله جل وعلا بالغة كما قال سبحانه { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } والحكمة هذه معناها الذي تفسر به أنها :
(وضع الشيء في موضعه الموافق للغايات المحمودة منه)
وأما وضع الشيء في موضعه دون نظر للغايات المحمودة منه إما لعجز أو لعدم رعاية ، فهذا لا يسمى حكمة .
وضع الأشياء في مواضعها هذا (عدل) والظلم وضع الشيء في غير موضعه والعدل وضع الشيء في موضعه .
الحكمة عدل وزيادة ، عدل بمعنى أنها (وضع الشيء في موضعه المناسب له) وزيادة أنها (يراعى فيه الغايات المحمودة من الأشياء) .
فالله جل وعلا (حكيم) بمعنى (ذو الحكمة) في أفعاله ، في خلقه ، في شرعه ، في قَدَرِه ، كل ذلك على وفق حكمة الله جل وعلا ، بمعنى أن الله جل وعلا في هذه الأشياء يعني في خلقه وقَدَرِه وفي شرعه ودينه وضع الأشياء مواضعها التي توافق الغايات المحمودة منها .
وكونه جل وعلا (حكيما) يعني أنه يفعل الأشياء لعلة ولحكمة ، ففي اسم الله (الْحَكِيمُ) إثبات لأن أفعال الله جل وعلا معللة .
وهذا هو الصحيح وأهل السنة يقررون ذلك تقريرا بالغا ، ويردون على المبتدعة من الأشاعرة وأشباههم الذين يقولون إن أفعال الله لا يدخلها التعليل ، فيفعل من غير علة ولا رعاية لغايات محمودة ، بل يفعل الأشياء ، يعني له أن يفعل الأشياء هكذا من غير علة .
والحكمة لا بد فيها من مراعاة الغايات المحمودة حتى تصير حكمة ، ولهذا يكون التعليل داخلا في أفعال الله جل وعلا.
هناك تفصيلات أيضا لهذا الاسم يضيق المقام عن بسطها .
قوله (الْخَبِيرُ)
......
عندكم { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }
....
يعني الثنتين ؟
{ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }(1/141)
على كل حال قوله { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم ُ } فيها إثبات صفة (العلم) لله وهذا تقدم الكلام عليها عند قوله { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وفيها اسم الله (الْحَكِيمُ) وهذا في هذه الآية ، فشرح هذه الآية مع ما قبلها يغني عن شرح قوله تعالى { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } أو { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } ونحو ذلك .
قوله هنا (الْخَبِيرُ) اسم من أسماء الله متضمن لصفة (الخبرة) ، وخبرته جل وعلا بالأشياء معناها (أنه جل وعلا يعلم بواطن الأشياء على ما هي عليه)
فإن معنى أن فلانا خبير غير معنى كونه عليما ، لأن العلم هو في الظاهر ، وأما الخبرة ففيها الباطن ، وأعظم من ذلك (اللطيف) فثم ثلاثة أسماء :
- الْعَلِيمُ ... ... - الْخَبِيرُ ... ... - واللطيف
فـ(الْعَلِيمُ) للظاهر ، و(الْخَبِيرُ) لمعرفة الأمور الباطنة وخبرتها على حقيقتها وعلى ما هي عليه وعلى ما يصلح لها والثالث (اللطيف) وهذا من أوسعها معنى وأبطنها دخولا في الأشياء { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء } سبحانه وتعالى .
فإذن في هذه الآية اسمان من أسماء الله وهما (الْحَكِيمُ) و (الْخَبِيرُ) وقد عرفت قول المبتدعة في الحكمة وأنهم يخالفون أهل السنة في بعض معاني اسم الله (الْحَكِيمُ) .
.....
لاحظ الخبرة ما هي بالعلم ، الخبرة غير العلم ، الخبرة معرفة الأمور الباطنة على ما هي عليه ، قد تكون معلومات ، يعني قد تكون مسموعات وقد لا تكون ، وقد تكون مُبصَرات وقد لا تكون ، وقد تكون مُعَللات وقد لا تكون .(1/142)
بمعنى أن العلم { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } السر لا شك معلوم لله جل وعلا حتى ما يناجي به المرء نفسه هو معلوم له جل وعلا ليس في ذلك شك ، لكن الخبرة أدق من ذلك أو أعم من ذلك ، فهي معرفة بواطن الأمور التي لا تظهر ، السر لا بد أن يكون معلوما لأحد حتى لك ، أنت ما تذكره لنفسك بينك وبين نفسك هو معلوم لك ، بينك وبين واحد { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا } السر ولو كان خفيا لا بد أن يكون معلوما لأحد .
هذا معنى كونه ظاهرا ، يعني فيه نوع ظهور ، أما (الْخَبِيرُ) هذا يتعلق ببواطن الأمور حتى من جهة الخلق ومن جهة التقدير ليس فقط من جهة المعلومات ، - ظاهر - ، يعني المعلومات يعني المتعلق علم الرحمن جل وعلا بها هذه أخص من اسم الله (الْخَبِيرُ) ، (الْخَبِيرُ) فيه علم بهذه وغيرها سبحانه وتعالى .
أنا ذكرت لكم سابقا أن أسماء الله جل وعلا بعضها يجري مجرى التفصيل لبعض مثل قوله جل وعلا { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } (البارئ) و (المصور) فيها (البَرء) و (التصوير) والبرء والتصوير هي بعض الخلق ، يعني الخلق يشمل التصوير ثم البرء ثم الإيجاد التام ، فإذن اسم الله (الخالق) يُفَصَّل في غيرها من الأسماء بعدة أسماء ، لكن (التصوير) قد يكون وحده بدون خلق ، وقد يكون (البرء) هنا أخص ، فلهذا أسماء الله جل وعلا لا تفهمها أن كل اسم مستقل بمعنى لا يشركه فيه الاسم الآخر ، ليس كذلك ، هي مختلفة نعم من جهة دلالتها لكن قد يشترك الاسم مع الآخر في بعض الدلالة وهذا أمر لا شك واسع يحتاج إلى مزيد بيان .
نقف عند هذا ... نجيب عن بعض الأسئلة هنا :
يقول هل مصطلح التواكل له أصل شرعي أو لغوي وذلك لشيوعه بين الناس ؟(1/143)
له أصل لغوي ، وكذلك له أصل شرعي ، وقد جاء في الحديث عن عمر أنه رأى أقواما جاءوا من اليمن وليس معهم زاد يحجون بيت الله الحرام فسألهم عن ذلك فقالوا نحن المتوكلون ، قال بل أنتم المتأكلون - في رواية قال بعضهم - بل أنتم المتواكلون ، من التواكل لأنه يعني جعل غيره وكيلا له ، التواكل تفاعل يعني جعل غيره وكيلا له في ذلك
...
ذكرتم أن التوكل الصحيح هو ما جمع بين التفويض وبين فعل السبب - سؤالي ذكر بعض أهل العلم كابن رجب رحمه الله حالات القصص عن السلف الصالح مفادها بأنهم فوضوا قلوبهم إلى الله فوصلوا إلى درجة من التوكل بحيث لم يحتاجوا إلى فعل السبب ، واستدل بحديث ابن عباس وقال هي رتبة الخواص ؟
لا ، لا سنة إلا بحركة ولا إيمان إلا بتوكل ، ولا توكل إلا بفعل السبب ، كما قاله غير واحد من السلف ، فعل السبب من التوكل ، التفويض أمر آخر ويفوض يصبح مفوضا أمره إلى الله وهي عبادة قلبية عظيمة { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أما التوكل فهو فعل للسبب أولا ثم تفويض الأمر إلى الله ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وإن كان عده بعض العلماء من الضعيف قال رجل للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يا رسول الله أترك ناقتي وأتوكل أو أعقلها وأتوكل ؟ قال (بل اعقلها وتوكل) (اعقلها) فعل السبب ، ثم قال (وتوكل) بواو العطف لأنه يشمل ، الأول داخل في الثاني ، يعني (العقل) بعض (التوكل) لأنه فعل السبب ، و هذا لا شك أمر ظاهر .
... ...(1/144)
هذه ، الصحيح أنها تقيد بهذه الأفعال ولا يقاس عليها غيرها ، لأن هذه الأفعال العرب لهم اعتقاد فيها خاص ، العرب يعتقدون في (الكي) اعتقاد خاص ويعتقدون في (الرقية) اعتقاد خاص ، ويعتقدون في (التطير) ونحو ذلك ، فقوله { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يعني تركوا فعل تلك الأشياء توكلا على الله جل وعلا لأن فيها حاجة للخلق ، وبعض السلف كأبي بكر وغيره امتنع من إتيان الأطباء ومن العلاج .
ولهذا تنازع أهل العلم هل التداوي من المباح أم من المستحب أم من الواجب ؟
الإمام أحمد عنه روايتان :
قال في رواية إنه مستحب وذلك لأمر النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بقوله (تداووا عباد الله)
وفي رواية أخرى قال مباح تركه بعض السلف ، مباح تركه بعض السلف ، يعني أن التداوي مباح إن شئت تتداوى وإن شئت لا تتداوى ، هكذا قال ومن أهل العلم من حمل الأمر على الوجوب قال (تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام) والتحقيق في هذه المسألة أن من فعله من السلف آنس من قلبه قوة يقين وتفويض الأمر إلى الله وصدق لجأ إليه ويعلم من نفسه أنه مع حبه لربه وصدق لجئه إليه أنه لن يندم ، وهذا لا يصلح أن يُرشد إليه الناس ، لأن بعض الناس يجي قال لا أتداوى الأفضل إني ما أتداوى و يجي مع نفسه ويترك الدواء فيقع في مصيبة أعظم فيندم على ما فعل فيقع في محرم آخر ، فيترك أمرا مستحبا ويفعل أمرا مستحبا ويقع في محرم عظيم .
... ...
أي نعم الأكثر أنهم فعلوا التداوي ، أكثر السلف فعلوه والنبي عليه الصلاة والسلام كوى وأمر بالتداوي ونحو ذلك ، ورَقى عليه الصلاة والسلام ورُقي ، وكل هذا من جنس التداوي .
- ما رأيك فيمن يقول اللهم إني وكلتك بجميع من ظلمني إن شئت أن تغفر له فاغفر له وإن شئت أن تعاقبه فعاقبه ولا تحرمني الأجر ؟
إذا ظلمك أحد فالمستحب للمرء أن يعفو عمن ظلمه كما جاء في قوله تعالى { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }(1/145)
والعفو عمن ظلم مستحب ، والظلم قد يكون في بعض صوره يجتمع فيه حقان :
حق للعبد ، وحق لله جل وعلا .
فحقك أنت لك أن تحلل تقول اللهم حلل فلانا اللهم إني عفوت عن فلان ونحو ذلك .
وهاهنا تنبيه على مسألة مهمة الحقيقة ولا بد - خاصة الشباب - أن يرعوها وهي مسألة التحليل ، التحليل الذي جاء في السنة الأمر به في الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (من كانت عنده مظلِمة لأخيه في مال أو عرض) - لاحظ - (في مال أو عرض فليتحلله منه اليوم قبل أن يكون يوم لا درهم فيه ولا دينار) ، (فليتحلله منه اليوم) هذا أمر ، يعني : أنت فيه مظلِمة بينك وبين أحد تروح تحلل منه ، نلت من عرضه ، تحلل منه ، يا فلان حللني ، هنا المستحب أيضا لمن سئل التحليل أن يُحلل دون سؤال عن السبب ، وهذا من الخلق بل من الأمور التي ينبغي للشباب أن ينشروها وأن يتواصوا بها ، مسألة التحليل :
فلان حللني
الله يحللك ..
بدون ما يعترض . ولهذا العلماء تنازعوا فيمن اغتاب غيره هل يسأل غيره أن يحلله ، فمنهم من قال : لا ، لا يسأل كشيخ الإسلام وغيره لأنه قد يقع من ذلك مفسدة ، ومَنْعُ هذه المفسدة بأن يكون المُستحَل منه ، يعني المُتحَلل منه ، أن يقول حللتك بدون السؤال عن السبب ، قد يكون اغتابه قد يكون وقع فيه ثم تاب ، وهي وسيلة من وسائل تحقيق المحبة في القلوب ، لأننا - ونسأل الله جل وعلا للجميع الهداية - في هذا الزمن كثر وقوع الناس بعضهم في بعض ، وخاصة الشباب ، وقوع بعضهم في بعض واغتياب بعضهم لبعض وربما يكون في ذلك ظلم وأحيانا كذب ، فالتحليل أولى من يفعله هؤلاء الملتزمون لأنهم أقرب الناس إلى محبة ما تحصل به السنة ثم يرشدون الآخرين ، التحليل طيب لأنه يوم القيامة ما في إلا أن تؤخذ إما من حسناتك فتوضع له أو من سيئاته فتوضع عليك .
ونختم بهذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد
إحاطة علمه
بجميع مخلوقاته(1/146)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد فهذه صلة لما سبق الكلام عليه من أن الإيمان بالله جل وعلا يشتمل على الإيمان بأسماء الله جل وعلا وبصفاته كما جاءت في النصوص .
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله فيما سبق جملة من النصوص التي تدل على أسماء الله وعلى صفاته ، ثم ذكر منها قوله تعالى { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } وذكر أيضا الآيات المتعلقة بعلمه جل وعلا كقوله { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } وكذلك في قوله { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } وهذه الآيات فيها جميعا إثبات صفة (العلم) لله جل وعلا وأن الله سبحانه وتعالى هو (الْعَلِيمُ) بصفة وهي صفة (العلم) .
وهذا فيه مخالفة للمعتزلة الذين قالوا إن الله جل جلاله يعلم لكن ليس بعلم ، يعني يقولون إن الله عالم لكن ليس بعلم ، يعني ليس بصفة زائدة على ذاته جل وعلا بل هو يعلم بذاته لا يعلم بصفة إنما العلم يأتي من ذاته جل وعلا .
وهذا باطل لأن اسم الله جل وعلا (الْعَلِيمُ) مشتمل على صفة العلم ، والعلم أُثبِت له جل وعلا كغيره من الصفات بالاسم كـ (الْعَلِيمُ) وبالصفة يعني المجردة وكذلك بالأفعال ، والأفعال تدل على حصول الحدث ، يعني تدل على حصول المصدر مع الزمن المقترن به ، وهذا كله يدل على أن العلم الحاصل لله جل وعلا هذا شيء زائد عن الذات ، يعني شيء متعلق بزمن ، والذات غير متعلقة بشيء من ذلك .(1/147)
فإذن دل على أن صفة العلم لله جل وعلا أنها كسائر الصفات لله تبارك وتعالى وهي أنها صفة مستقلة ذاتية قائمة بالذات لكن ليست هي عين الذات فـ (الْعَلِيمُ) من أسماء الله جل وعلا هو ذو العلم الواسع وليس معناه أنه (الْعَلِيمُ) بذاته وإنما هو (عليم) بالعلم .
يعبر المعتزلة عن ذلك بقولهم عليم بلا علم .
معنى قولهم (عليم بلا علم) يعني عليم بلا صفة زائدة عن ذاته هي العلم ، وهكذا يقولون في سائر الصفات سميع بلا سمع ، يعني بلا صفة زائدة هي السمع بصير بلا بصر وحفيظ بلا حفظ ، وهكذا ، يعني أن الأسماء إما أن يفسروها بمخلوقات منفصلة وإما أن يفسروها بالذات .
ومما ينبه عليه هنا أن أهل السنة يقولون (يعلم بعلم) وأما ما وقع في بعض الكتب من الكتب المنسوبة لأهل السنة ككتاب (الحيدة) مثلا من أنه جل وعلا (يعلم بلا علم) هذا غلط ، أو قولهم (إننا لا نطلق هذه العبارة بعلم أو بغير علم لعدم ورودها) كذلك هذا غلط .
والذي جاء في (الحيدة) هو كذلك في غيرها (أننا نقول يعلم ولا نقول بعلم ولا بغير علم)
وهذا باطل لأن كونه جل وعلا يعلم معنى ذلك أن علمه متجدد بتجدد زمن الفعل ، لأن الفعل ينحل عن زمن وعن مصدر ، والمصدر مجرد من الزمن ، والزمن لا بد له من تجدد والذات لا يمكن أن تكون كذلك .
فإذن التجدد راجع إلى حصول هذه الصفة باعتبار متعلقاتها ، وإذا صارت هذه الصفة متجددة باعتبار متعلقاتها يعني باعتبار المعلوم صار ذلك بعلم زائد على الذات ، المقصود من ذلك أن في هذه الآيات رد على طائفة من الضلال في باب الصفات وهم الذين يقولون إن صفات الله جل وعلا هي بالذات وليست زائدة عن الذات . الصفات غير الذات ، نعم ، صفات الله جل وعلا القول فيها كالقول في الذات لكن ذاته جل وعلا هي المتصفة بالصفات .(1/148)
فالصفات أمر زائد على الذات ولا يعقل أن توجد ذات ليست بمتصفة بالصفات بل الصفات تكون للذات ، وليس الذات وجودها عينه هو وجود الصفات ، بل ثم صفات وثم ذات .
نعم الصفات لا يمكن أن تقوم بنفسها بل لا بد لها من ذات تقوم بها ، فإذن صفات الله جل وعلا ومنها (العلم) على ذلك ، وهذه مقدمة تصلح لجميع أنواع الصفات التي ستأتي .
قال سبحانه وتعالى هنا { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا }
وجه الدلالة هنا قوله (يَعْلَمُ) وكما ذكرت لكم ، الفعل المضارع ينحل عن مصدر وعن زمن .
يعني بالمصدر اللي هو الصفة (يعلم) فيه العلم (العلم زائد زمن) فإذن فيه إثبات الصفة وهذا معنى كون الأفعال فيها إثبات الصفة لأن الفعل هو حدث وزيادة على الحدث وهو الزمن .
قوله { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ } وجه الدلالة أيضا أنه أتى بـ (مَا) وهي اسم موصول تدل على عموم ما كان في حيز صلتها ، يعني يعلم جميع الوالج في الأرض ، والوالج في الأرض متجدد ، متغير ؟
كذلك يعلم جميع الذي يخرج من الأرض وهذا متغير .
إذن فالعلم صفة لله جل وعلا ذاتية ، قائمة بذاته لكن المعلومات متجددة ، فإذن صفة العلم لله جل وعلا ثابتة أصلا وآحادها متعلقة بالمعلومات وبتجدد المعلومات .
هنا قال { وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا }
كذلك ، وهذه الآية تدل على علم الله جل وعلا - كما ذكرت لكم غير مرة - على علم الله جل وعلا بالصغير وبالكبير ، وبالجزئيات وكذلك بالكليات ، وجه الدلالة أنه أتى بـ (مَا) وهي لفظ يدل على عموم الأشياء ، يعني جميع ذلك ومنها أشياء يسيرة جزئية وليست كلها بكلية.
قال جل وعلا بعدها { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ }
انتهى الشريط الخامس من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السادس(1/149)
قال جل وعلا بعدها { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ }
وقوله (عِنْدَهُ) (العندية) تُشْعِر بالاختصاص وبالقرب أيضا ، { الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } يعني المختصون بذلك القريبون ، فـ (العندية) فيها مع العلو الاختصاص والقرب .
قوله هنا { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } يعني أن هذه يختص الله جل وعلا بها .
و { مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } هي مجامعه وأصوله ، يعني أن مجامع الغيب وأصوله ، أو كما قال بعض أهل العلم الطرق الموصلة له التي ينكشف بها هي له جل وعلا وحده وليست لأحد من الخلق ولكن قد يطلع الله جل وعلا بعض خلقه على بعض مفردات الغيب لا على مفاتحه ، أما المَفَاتِحُ وهي الأصول والمجامع فهي عنده جل وعلا وحده .
قال هنا { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } وهذه ، قوله { لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } فيها حصر ، ووجه الحصر أنه أتى بأداة الاستثناء (إِلا) بعد النفي (لا) وأداة الاستثناء إذا أتت بعد النفي بـ (لا) أو بغيرها دلت على (الحصر والقصر) وأيضا قد تدل على (الاختصاص) .
فهنا فيه حصر وقصر ، يعني علمها محصور فيه جل وعلا ، وهذا كما جاء في آية لقمان { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } الآية ، وقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (خمسٌ لا يعلمهن إلا الله) وذكر هذه الخمس المذكورة في آية لقمان ، لكن هذه الخمس فيها تفصيل من جهة اختصاص الله جل وعلا بعلمها .
قال هنا { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }
عموم ، يدل على ما ذكرت لك في الآية التي قبلها .
{ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا }
هذا أيضا حصر .
{ وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }(1/150)
هنا في آخرها قال { إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } وهذه دالة على صفة (العلم) أيضا كسابقتها ، يعني كالجملة في أول الآية .
وجه الدلالة أن (الكتابة) لا تكون إلا بعد (العلم) .
قال هنا { وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ } ولا يكون فِي كِتَابٍ (إلا قبل أن توجد هذه الأشياء ، ومعنى ذلك أن (علم) الله جل وعلا شامل لما كان وما سيكون وأيضا يشمل لما لم يكن لو كان كيف يكون .
قوله هنا { إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } يعني به (اللوح المحفوظ) هو الكتاب المبين ووصفْه بأنه (مُبِينٍ) يقتضي شيئين :
* الأول أن ما فيه بيّن واضح ليس فيه اشتباه وليس فيه مداخلة بل كل ما فيه بيّن واضح { فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } ، من (أبان) اللازمة ، وذلك أن يكون الشيء بيّنا واضحا في نفسه .
* كذلك هو (مُبِينٍ) من (أبان) المتعدية ، أبان غيره ، (أبان الشيء) يعني (أوضحه وجلاّه) ، وأيضا في صفة (اللوح المحفوظ) أنه يُبين الأشياء ويظهرها ، لأن كل الأشياء تكون على وفق ما في (اللوح المحفوظ) .
فإذن ما في هذا الكتاب وهو (اللوح المحفوظ) بيّن في نفسه واضح لأن الله جل وعلا كتبه بـ (علم) وأيضا هو (مُبِينٍ) لغيره موضح لغيره وهذا فيه دلالة واضحة على هذه المسألة وهي علم الله جل جلاله .
ذكرت لك وجه الدلالة أن :
- أولا في لفظ الكِتَابٍ ما يفهم منه يفهم منه صفة (العلم) وذلك أن الكتابة لا تكون إلا بعد (العلم) ، يعني المجهول لا يُكتب ، إنما يكتب ما علم ، وهذا فيه إثبات صفة (العلم) .
- ثانيا كلمة (مُبِينٍ) هذه أيضا فيها صفة (العلم) يعني مضمنة صفة (العلم) لأن هذا الكِتَابٍ بيّن في نفسه واضح ، وهذا معناه يحتاج إلى (علم) - علم مَن كتبه - أيضا (مُبِينٍ) لغيره ، وهذا أيضا يقتضي (علم) من كتبه على التفصيل ، يعني علمه بالتفصيل والدقائق جميعا ، كما قال سبحانه في أول الآية { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } .(1/151)
هذه الآية فيها إثبات صفة (العلم) لله جل وعلا وإحاطة (علم) الله جل وعلا بجميع المخلوقات ، يعني أنه لا يعزب شيء عن (علم) الله جل وعلا بل كل المعلومات معلومة لله جل وعلا ، كل شيء يعلمه الله تبارك وتعالى ، لا يعزب عنه علم أي شيء ، لا يعزب عنه جل وعلا علم أي شيء ، بل كل المعلومات ، كل شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى .
قال هنا { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ }
هذا فيه ذكر صفة (العلم) لله جل وعلا بقوله { إِلا بِعِلْمِهِ } والكلام عليها كالكلام على ما سبق
قال جل وعلا بعدها ، يعني ذكر الشيخ - رحمه الله - الآية التي بعدها بقوله :
{ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }
في هذه الآية فيها صفة (القدرة) لله جل وعلا وفيها صفة (العلم) لله جل وعلا .
وأيضا في أوله (التعليل) { لِتَعْلَمُوا أَنَّ } ، وهذا (التعليل) راجع لما سبق ذكره في أول السورة اللي هي سورة (الطلاق) { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يعني ما سبق ذُكِرَ وشُرِع وأُنْزِلت الآيات (لِتَعْلَمُوا) ذلك ففيها إثبات دخول (التعليل) في أفعال الله جل وعلا القدرية وكذلك في أفعال الله جل وعلا الشرعية .
فإذن في قوله (لِتَعْلَمُوا) اللام هذه لام (كي) أي لام (التعليل) ففيها إثبات (التعليل) من الجهتين ، يعني في أفعال الله القدرية وأفعال الله الشرعية .
قال هنا { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
و (القدرة) صفة من صفات الله جل وعلا .
واسم الله الـ(قَدِيرٌ) هو ذو القدرة البالغة لأن (قَدِيرٌ) صيغة مبالغة من (قادر) ، يعني هو من قامت به (القدرة) قياما عظيما ] هذا الـ (قَدِيرٌ) ، (القادر) اسم فاعل (القدرة) أو اسم من قامت به (القدرة) ، والـ (قَدِيرٌ) مبالغة عن ذلك يعني من قامت به (القدرة) قياما عظيما.(1/152)
فالله جل وعلا له (القدرة) العظيمة المطلقة التي لا يعجزه جل وعلا بها شيء ، بل قدرته شملت كل شيء .
وقوله هنا { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيه أن (القدرة) متعلقة بكل شيء ، وأنه ما من شيء إلا وهو متعلق بقدرته جل وعلا ، يعني ما من شيء إلا وهو داخل تحت قدرته ، فـ (قدرة) الله جل وعلا شاملة لجميع الأشياء ، وهذا يدخل فيه :
- أفعال العباد خلافا للقدرية .
- يدخل فيه ما لم يشأ الله جل وعلا أن يكون خلافا للأشعرية والماتريدية .
لأن الأشعرية والماتريدية يقولون إن قدرة الله جل وعلا متعلقة بما يشاؤه ، ويجعلون لها نوعين من التعلق ، يسمون الأول التعلق الصلوحي ، ويسمون الثاني التعلق التنجيزي ، وهذا ليس محل إيضاحهما .
المقصود أنهم يقولون إن قدرة الله جل وعلا ليست شاملة لكل شيء بل هو قدير على ما يشاؤه جل وعلا ، ولهذا يكثر عندهم التعبير بقولهم (هو على ما يشاء قدير) (والله على ما يشاء قدير) ويعدلون عن ما قال الله جل وعلا { وَاللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } يعدلون عن استعمال كلمة { كُلِّ شَيْءٍ } إلى (ما يشاء) وذلك لأن (القدرة) تتعلق عندهم بما يشاؤه الله جل وعلا .
و { كُلِّ شَيْءٍ } التي في النصوص يعني (كل شيء شاءه) وليس (كل شيء شاءه أو لم يشأه) .
وهذا لا شك أنه باطل وذلك لأن الله جل وعلا بيّن أن قدرته متعلقة بكل شيء ، وما لا يشاؤه داخل في هذا العموم ، فمن أراد إخراجه من العموم فلا بد أن يكون عنده دليل على ذلك ، بل الدليل دل على أن (قدرة) الله جل وعلا متعلقة بما لم يشأه جل وعلا وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } .
{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } هذه مُنعت عن هذه الأمة .(1/153)
فإذن لم يشأها الله جل وعلا أن تقع على هذه الأمة .
{ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } لم يشأها الله جل وعلا أن تقع في هذه الأمة .
{ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } قال النبي عليه الصلاة والسلام (هذه أهون) .
فإذن دلت الآية على أن الله جل وعلا (قادر) على ما لم يشأه وعلى ما شاءه جل وعلا .
إذن في الآية هذه التي معنا وغيرها تعلق (قدرة) الله جل وعلا بكل شيء ، وهذا التعلق يشمل ما قضى الله جل وعلا وقدر أن يكون ، أو ما علم الله جل وعلا أنه لا يكون ، فقدرته شاملة لكل شيء .
فمما تجب مخالفة المبتدعة فيه أن لا تستعمل هذه الكلمة (على ما يشاء قدير) لأنها مما يختصون به
قد جاء في السنة في مواضع - ليس هذا محل تفصيل تام لهذا لكن إشارة - جاء في السنة كصحيح مسلم وغيره أن الله جل وعلا قال (إني على ما أشاء قادر) وهذا اعتُرِضَ به على ما أسلفت من الكلام لكن ليس فيه اعتراض ، لأن قوله على ما أشاء قادر :
* هذا أولا داخل في ضمن { كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فإننا نقول : هو يقدر على ما يشاء وعلى ما لم يشأ.
* ثانيا أن هذه قالها الله جل وعلا متعلقا بشيء حصل وهذه قصة الرجل الذي دخل الجنة وقال الله جل وعلا له (أترغب في شيء) أو (هل لك من شيء) قال يا رب أتهزأ بي ، قال (لا ، ولكني على ما أشاء قادر) وهذا بعد حصول الشيء ، وهذا يختلف عن إطلاق أولئك هذه الكلمة لأنهم يطلقونها قبل حصول الأشياء غير متعلقة بشيء معين حصل ، إلى آخر الكلام في هذه المسألة.
المقصود قوله هنا { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيه إثبات صفة (القدرة) وأنها متعلقة بكل شيء .
ثم قال { وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }
(قَدْ أَحَاطَ) (الإحاطة) له جل وعلا أحاط هو سبحانه { بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } و (عِلْمًا) هنا متعلقة بـ (أَحَاطَ)(1/154)
إذن فأَحَاطَ في هذه الآية مخصوصة بالإحاطة بـ(العلم) وهذا بعض معنى (إحاطة) الله جل وعلا بخلقه ، التي هي من معنى اسم الله ، أو من معنى قول الله جل وعلا { أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } .
{ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } (الإحاطة) هنا أعم من كونها إحاطة علم ، لأن (الإحاطة) تُفَسر - يعني في قوله { أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } - تُفسر بأنها :
إحاطة (علم) و (قدرة) و (سعة) و (شمول) .
يفسر أهل السنة الـ (مُحِيطٌ) بهذه الأربعة إحاطة (علم) و (قدرة) و (سعة) و (شمول).
وقوله هنا { قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } هذا إحاطة بالعلم ، فليس فيها نفي لأنواع الإحاطة الأخرى بل هذا تخصيص للاحاطة العلمية بالذكر جل تعالى وتقدس وتعاظم .
هذه الآية فيها الدلالة على صفة (العلم) كما أسلفت لك .
قال سبحانه وتعالى { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }
قال شيخ الإسلام (وقوله) يعني وقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } وهذا فيه اسم من أسماء الله وهو (الرَّزَّاقُ) وفيه اسم من أسماء الله وهو (الْمَتِينُ) .
و (الْمَتِينُ) فيه منازعة هل يدخل في أسماء الله جل وعلا التسعة والتسعين أم لا ؟
أما (الرَّزَّاقُ) فهو من أسماء الله جل وعلا الحسنى التسعة والتسعين .
(الرَّزَّاقُ) هذه من حيث اللفظ صيغة مبالغة من (رازِقْ) .
و (الرَازِقْ) اسم فاعل (الرَزْْقْ) بالفتح .(1/155)
(الرَّزْق) هو المصدر ، مثل (الخَلْقْ) و (البَرْءْ) ونحو ذلك ، أما (الرِزْقْ) بالكسر ، فلا يقال إن الله جل وعلا متصف بصفة (الرِزْقْ) حاشا وكلا ، إنما الله جل وعلا متصف بصفة (الرَزْقْ) لأن (الرَّزْق) هو الحدث هو الوصف ، أما (الرِزْقْ) فهو العين المرزوقة (الرِزْقْ) هو الشيء ، إذا أتاك أكل هذا رِزق ، إذا أتاك مال هذا رِزق ، الهداية رِزق ، يعني (الرِزْقْ) في المخلوقات هو أثر (الرَزْقْ) .
أثر صفة الله (الرَزْقْ) (الرِزْقْ) .
فإذن (الرَزَاقْ) نقول صيغة مبالغة من (الرَازِقْ) ، و (الرَازِق) اسم فاعل (الرَزْقْ) و (الرَزْقُ) هو إعطاء ما تمس الحاجة إليه .
إذن في قوله (الرَزَاقْ) فيه إثبات صفة (الرَزْقْ) لله جل وعلا ، لذلك نقول مثلا في توحيد الربوبية نقول توحيد الربوبية هو [ توحيد الله بأفعاله ] مثل (الخلق) و (الرَزْقْ) - تنتبه ما تقول (الرِزْقْ) - (الخلق) و (الرَزْقْ) و (الإحياء) و (الإماتة) لأن (الرِزْقْ) هو العين المرزوقة ، فإذا قلت إن الله جل وعلا من صفته (الرِزْقْ) هذا باطل ، لأن (الرِزْقْ) هو الشيء المرزوق ، لكن من صفته (الرََزق) يعني أن يعطي العباد ما يحتاجون إليه .
هنا قال (الرَزَاقْ) و (الرَزَاقْ) كما ذكرت لكم ما دام أنها صيغة مبالغة من فاعل وهي (رازِق) ودخلت عليها الألف واللام فتفيد استغراق أنواع (الرَزْقْ) و أنواع (الرَزْقْ) لله جل وعلا هي أنواع ما أعطى العباد مما يحتاجون إليه ] فتدخل في ذلك
......
فـ (الهداية) تُرزَقٌ وذلك لأن العباد محتاجون إليها في حياتهم وفي آخرتهم .
إذن وجه الدلالة في شمول اسم الله (الرَزَاق) على نوعي (الرَزْقْ) الرِّزق في الدنيا والرِّزق في الآخرة(1/156)
قال في الآخرة { يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } (الرَّزق) غير متعلق بالدنيا ، بالدنيا والآخرة ، كذلك هو بالمال والطعام والمشرب والملبس إلى آخره ، وكذلك (الرَّزق) الديني وهو إعطاء الهداية وأسباب الهداية إما بالتوفيق والإلهام وإما بالإرشاد والدلالة ، وهذا لا شك يكون فيه عموم لاسم الله جل وعلا (الرَّزَّاقُ) .
قال { ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ }
{ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } و(الْمَتِينُ) - (ذُو الْقُوَّةِ) واضح -(الْمَتِينُ) هذا في صفة الله جل وعلا هو البالغ في صفاته نهايتها هذا معروف عند العرب أن (المتانة) في الشيء بمعنى بلوغه الكمال .
(هذا شيء متين) يعني بالغ نهاية ما يناسبه ، والله جل وعلا في اتصافه بالصفات له الكمال المطلق الذي لا يعتريه النقص ولا يلحقه نقص ولا شائبة نقص بوجه من الوجوه ، وهذا كله مستفاد من اسم الله (الْمَتِينُ) .
فإذن (الْمَتِينُ) هو البالغ في الصفة نهايتها .
هنا لما قال { ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين } لو فسرتها بأنها ذو القوة البالغ في قوته نهايتها ، البالغ في قدرته نهايتها صار هنا متعلقا بـ (القوة) .
أو جعلت (الْمَتِينُ) نعت لـ (الرَّزَّاقُ)
{ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } نعت لـ (الرَّزَّاقُ) ونعت باعتبار الذات لا باعتبار الصفة ، لأن أسماء الله جل وعلا إذا تكرر اسمان الواحد تلو الآخر فإما أن تكون نعتا باعتبار الذات وإما أن تكون خبرا ثانيا أو مفعولا ثانيا أو اسما ثانيا باعتبار الصفات .
مثلا { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الْغَفُورُ) هذه كيف تعربها ؟ (الْغَفُورُ) خبر ، صحيح ؟
(الرَّحِيم) هل هي نعت لـ (الْغَفُورُ) أو خبر ثاني ؟(1/157)
الأنسب عند كثير من أهل العلم أن يقال خبر ثاني ، لأن هنا { الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (الرَّحِيمُ) هنا غير (الْغَفُورُ) فلا يناسب أن يكون نعتا له، لكن هو يناسب باعتبار الذات ، يعني لأن اسم الله (الْغَفُورُ) يدل على الذات ، وهذه الذات موصوفة - يعني منعوتة نعتا ما هو بالوصف اللي هو الوصف بالصفات - بأنها (الرَّحِيمُ) ، تقول فلان الكريم الجواد ، الجواد هنا أيضا وصف للرجل يعني نعت له في باب النحو.
فإن هنا قوله { ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } هنا (الْمَتِين) إما أن تكون خبر (إن) ثاني { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الْمَتِينُ } هذا خبر ثاني ، وإما أن تكون نعتا لـ (الرَّزَّاقُ) أو نعتا لقوله { ذُو الْقُوَّةِ } باعتبار الذات ، انتبه لهذه لأنها مهمة وهي مزالق أقدام أيضا في عبارات بعض المبتدعة في التفسير .
إذن هنا إذا جعلناها كذلك يكون (الْمَتِين) إما - إذا قلنا إنه خبر ثاني { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الْمَتِينُ } خبر ثاني - يصير معناه البالغ في صفاته نهاية كمالها .
وإذا قلنا إن (الْمَتِين) نعت لقوله { ذُو الْقُوَّةِ } يصير البالغ في القوة نهايتها .
وإذا جعلناه نعتا لـ (الرَّزَّاقُ) نقول البالغ في كمالات الرِّزق نهاية ذلك .
......
نعم
هي محتملة ، والخبر الثاني واضح لأنه يفيد الاستقلال ، لأن الخبر الثاني فائدته ما يكون متعلق بـ (الرَّزق) أو متعلق بقوله { ذُو الْقُوَّةِ } ، يكون مستقل ، أو نعت على ذلك .
إثبات السمع والبصر
لله سبحانه
قال شيخ الإسلام رحمه الله بعد ذلك وقوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } وَقَوْلُه { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا }
هذان الاسمان وهما اسم (السَّمِيعُ) و (البَصِيرُ) لله جل وعلا وقوله { كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } هذه متضمنة ، مشتملة لصفة (السمع) و (البصر) لله جل وعلا .(1/158)
و(السمع) و (البصر) من الصفات التي يثبتها (الصفاتية) يعني يثبتها الكلابية والأشاعرة والماتريدية ، ويثبتها أهل السنة والجماعة .
فإذن صفة (السمع) و (البصر) ليس فيها خلاف بين الأشاعرة وأهل السنة ، وإنما الخلاف فيها مع المعتزلة وأشباههم ، لأنها عندهم الصفات ثلاث فلا يدخل فيها (السمع) و (البصر) .
الأشاعرة والماتريدية و المتكلمون بعامة يجعلون صفة (السمع) و (البصر) من الصفات التي دل عليها العقل ، ولهذا جعلوها في الصفات السبع لأن الصفات السبع التي يثبتها القوم أثبتوها لدِلالَةِ العقل عليها .
فإذن هنا في استدلالنا بذلك بهذه الآيات نستدل عليها بالسمع لا بالعقل ، فبابها باب غيرها من الصفات فدليل صفات الله جل وعلا جميعا واحد وهو الدليل السمعي النقلي .
فـ (السمع) و (البصر) نستدل عليهما بالآيات والأحاديث كما نستدل بالآيات والأحاديث على غيرها من صفات الله جل وعلا .
وأما المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية ونحوهم ممن يثبت صفة (السمع) و (البصر) ، فيثبتونها لأن أصلها مأخوذ من العقل .
فإذن اشتركنا معهم في الإثبات واختلفنا في مورد الإثبات وهذا مع تحصيل النتيجة لا يكون فيه كبير فرق من حيث إثبات الصفة ، لكن فيه فرق من حيث الدليل لأن العقل لا يسوغ أن يستدل به قبل النقل فإن العقل دليل صحيح إذا كان يوافق النقل إذا كان يوافق السمع ، وأما إذا لم يوافقه فنعلم أن عقل صاحب ذلك العقل لم يكن بصواب لأنه خالف كلام الله جل وعلا الذي وهب الناس العقول والذي يُعَلِم الناس الحق وليس بعد الحق إلا الضلال .
قوله هنا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }
{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } معناها ليس مثله شيء ليس مثله شيء ، والكاف هذه في قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } الكاف هذه للعلماء فيها توجيهان :(1/159)
* منهم من يقول هي بمعنى (مثل) تقدير الكلام (ليس مثل مثله شيء) ونفيُ (مثل المثل) فيه إعراض - انتبه للكلام - نفي (مثل المثل) فيه إعراض عن إثبات (المثل) لاستحالته .
يعني حينما قدرها بعضهم قدر الكاف بـ (مثل) كونه يكون المعنى (ليس مثل مثله شيء) رُدَ بأنه لو قدر بذلك لكان يمكن أن يكون فيه إثبات للمثل لأنه قال (ليس مثل مثله) فهل معنى نفي مثل المثل أن فيه إثبات المثل ؟
الجواب أنه على هذا القول ليس كذلك لأن العرب تنفي - يعني في لغتها - مثل المثل لأن وجود المثل مستحيل ولأنه لا يستحق أن يذكر ، فينفى مثل المثل مبالغة في نفي المثل ، هذا واحد .
* الثاني قالوا الكاف هذه (صلة) زائدة ، والحروف تُزاد في الآيات وزيادتها يعني أن تكون زائدة إعرابا ، أما من حيث المعنى فلها أكبر الفائدة وهي أن تكون في مقام تكرير الجملة وتأكيدها ، وأعلى ما تؤكَّد به الجملة في لغة العرب أن يكون تكراراً لثلاث مرات .
تكرار ثلاث مرات أعلى ما تؤكد به العرب ، إذا أردت أن تؤكد بالتكرار تؤكده ثلاث مرات ، فإذا زادت حرفا فإن هذا في مقام تكرارها ثلاث مرات كقوله هنا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } يعني كأن الله جل وعلا قال ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء وهو السميع البصير ، وهذه قاعدة في الزيادات ، زيادات الأحرف في القرآن ، مثلا في قوله { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } ، فَبِمَا رَحْمَةٍ والمعنى فبرحمة من الله ، (مَا) هنا هذه حرف زائد إعرابا لكن فائدته في الكلام هو التوكيد { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } يفهم منها العربي أن الكلام طرق سمعه ثلاث مرات قال فبرحمة من الله لنت لهم فبرحمة من الله لنت لهم فبرحمة من الله لنت لهم ، ولو كنت فظا غليظ القلب ولا تأتي المؤكدات بالحرف الذي هو (صلة) أو زائد إلا لما عظُمَ تأكيده .(1/160)
ما أتى كثيرا في القرآن { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } (لا) هنا (صلة) يعني حرف زائد ، ليس معناه نفي القسم ، هو فيه إثبات القسم بتكراره ثلاث مرات [ أقسم بيوم القيامة أقسم بيوم القيامة أقسم بيوم القيامة ] كذلك { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ } يعني [ فبنقضهم ميثاقهم لعناهم فبنقضهم ميثاقهم لعناهم فبنقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ] إلى آخره ، فإذن تكون الكاف على هذا (صلة) فيكون معنى الجملة تأكيد [ ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء وهو السميع البصير ] .
قوله هنا { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } هذا فيه تنبيه على أن صفة (السمع) و صفة (البصر) هذه تُثبت لله جل وعلا من غير تشبيه يعني من غير تمثيل لأنه نفى قال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وهذا فيه رد على المجسمة والممثلة ، وقال { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ففيه رد على المعطلة الذين يُخلون الله جل وعلا من صفاته .
قال بعض أهل العلم سبب ذكر صفتي (السمع) و (البصر) ها هنا أنهما صفتان مشتركتان بين أكثر الكائنات التي حياتها بالروح .
تجد أن الكائنات التي حياتها بالروح لها (سمع) و (بصر) البعوضة لها (سمع) و (بصر) ، النملة لها (سمع) و (بصر) ، الذبابة لها (سمع) و (بصر) الهدهد الطائر له (سمع) و (بصر) وهكذا ، الإنسان له (سمع) و (بصر) ، السبع له (سمع) و (بصر) ، لكن الإنسان يعلم أنه ، يعرف أن سمعه وبصره مع ثبوته له ليس له شك في ذلك لكن ليس كسمع وبصر البعوض ليس كسمع وبصر النملة .
فإذا علم ذلك ، علم أن إثبات صفة (السمع) و (البصر) لله جل وعلا إنما هو إثبات معنى لا إثبات كيفية له تبارك وتعالى ، وذلك لأن كيفية اتصاف الإنسان ما هي بكيفية اتصاف النملة في السمع والبصر ، يختلف في الكيفية .(1/161)
فنقول إذن ينتج من ذلك أن ذكر (السمع) و (البصر) بعد قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } لهذه المناسبة وهو أن (السمع) و (البصر) صفتان مشتركتان بين غالب أو أكثر الكائنات التي حياتها بالروح .
قال هنا { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا }
هذا كالآية التي قبلها { السَّمِيعُ البَصِيرُ } (السَّمِيعُ) طبعا فعيل هي أيضا فيها مبالغة من (سامع) يعني الذي لا يفوت سمعه شيء .
كذلك (البَصِيرُ) مبالغة من (المبصر) وهو الذي لا يفوت بصره شيء ، يعلم ويرى دبيب النملة السوداء ويسمع ذلك يرى النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء ، بل ويرى من هذه النملة العروق ، بل ويرى ما يجري فيها من طعام ، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى (ويرى نياط عروقها) سبحانه وتعالى .
فإذن (بصره) متعلق بكل المُبصَرات .
صفة (السمع) معناها إدراك المسموعات .
صفة (البصر) معناها إدراك المبصرات وهذا سبق وتقدم الكلام عليها .
بقي هنا على الآية تنبيه وهو قوله { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } هنا في صفات الله جل وعلا يكثر أن تأتي بالماضي بـ (كَانَ { كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } ، (سَمِع) ونحو ذلك ، وذلك أن إثبات الصفات بالفعل الماضي مقتضٍ لثبوتها أزلا وثبوتها فيما بعد ذلك من الزمان .
يعني [ كان على ذلك ] وإذا كان على ذلك فإنها لا تسلب منه ، كان على ذلك وهو جل وعلا لم يزل على ذلك .
فإذن إثبات الصفات بالفعل الماضي يدل على أن اتصافه جل وعلا بها (أَوَل) لأن (كان) ليس له حدود فيحمل على أوليته .
نقف عند هذا لأن إثبات المشيئة والإرادة يحتاج إلى تفصيل .
هنا سننبه إلى أنه لعارض عَرَضْ ستقف الدروس بعد نهاية هذا الأسبوع لمدة أرجو أنها لا تطول - لعارض السفر -
... ...(1/162)
لا ، المعنى الثاني أوجه ، المعنى الثاني أظهر أنها (صلة) ، أما المعنى الأول وهو أن تكون الكاف بمعنى (مثل) هذا صحيح عربية لكنه دون أن تكون (صلة) .
هذا سؤال يحتاج إلى تفصيل ربما يضيق المقام عليه ، وهو إطلاق كلمة (مبتدع) على كثير من الناس وقد يكون متمسكا بالدين ، فما هو الضابط الشرعي لكلمة مبتدع ومن تطلق عليه ومتى ؟
هذا لعلنا نحفظ هذا السؤال إن شاء الله يكون عندنا وقت نجيب عليه بتفصيل لأن هذه صار فيها أخذ ورد واعتداء نسأل الله جل وعلا السلامة والعافية والناس فيها ما بين مُفْرِط ومُفَرِّط ، بين من يمتنع من إطلاق كلمة الـ (مبتدع) على من هو مبتدع فعلا ، وبين من يطلقها على من ليس كذلك .
هل يصح أن يقال إن لله (علما) علمه العباد وعلما لم يعلمه العباد ؟
لو قال ، نعم ، { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } - العبارة الصحيحة - لكن لو قيل إنها في الغيب ، غيب أطلعه ، غيب أطلع العباد عليه ، وغيب لم يطلع العباد عليه.
هذا كلام عن نقل للإمام البغوي يحتاج إلى تأكيد عن قوله في الأول (القديم) وفي الآخر (الرحيم) والظاهر (الحليم) والباطن (العليم) أراجعه إن شاء الله وأجيبكم بعد ذلك .
نقف على هذا وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
إثبات المشيئة والإرادة
لله سبحانه(1/163)
وَقَوْلُهُ: { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ } [الكهف:39]، وَقَوْلُهُ: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [البقرة:253]، وَقَوْلُهُ: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } [المائدة:1]، وَقَوْلُهُ: { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [الأنعام:125].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والثبات على الحق حتى لُقياه .
ثم إن في وصف النبي عليه الصلاة والسلام بـ (السيادة) فيما قرأ الأخ بارك الله في الجميع ، حيث يقول كثيرون (وصلى الله وسلم على سيدنا محمد) وهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم
ووصفه بالسياده وصف يستحقه عليه الصلاة والسلام ولا شك ولكن لا يدخله جهة التعبد من القائل ، بخلاف وصفه عليه الصلاة والسلام بمقام النبوة أو بمقام الرسالة فإنه وصف أعظم وأعلى من وصفه بالسيادة ثم يؤجر العبد عليه لأنه إقرار منه بنبوة ورسالة النبي عليه الصلاة والسلام .
فقول القائل في ابتدائه للكلام مثلا (الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد أو على نبينا ورسولنا محمد) هذا أفضل لأنه فيه الوصف الشرعي له عليه الصلاة والسلام ويؤجر العبد على ذلك لأن فيه الإقرار بنبوته عليه الصلاة والسلام وبرسالته .(1/164)
ولهذا كان العلماء جميعا أعني علماء السلف يفضلون بل الشائع عندهم هو وصفه عليه الصلاة والسلام بالنبوة والرسالة وقلما تجد بل لا تكاد تجد الثاني وهو أن يقولوا (والصلاة والسلام على سيدنا محمد) .
واستحب طائفة من العلماء من فقهاء المذاهب أن يضاف على اسم النبي عليه الصلاة والسلام حيثما ورد لفظ السيادة حتى في الأدعية النبوية وحتى في أدعية الصلاة من مثل التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقولون تقولوا - يقول القائل - (اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد) إلى آخره .
وسُئِلَ الحافظ ، سُئِلَ جمع من العلماء عن ذلك ومنهم الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتوى أو في استفتاء وجه إليه فأجاب بأن هذا خلاف الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النبي عليه الصلاة والسلام علم الصحابة تلك الأدعية وتلكم الأذكار ولم يشرع لهم الزيادة عليها ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام لما علم دعاء النوم وقال من علمه (آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت) قال له عليه الصلاة والسلام (لا ولكن قل وبنبيك الذي أرسلت) كما علمه عليه الصلاة والسلام أولا فدل على أن ما علمه النبي عليه الصلاة والسلام يراعى فيه لفظه وهذا هو كمال الأدب معه عليه الصلاة والسلام لأنه اتباع له من كل الجهات وطرح للرأي مع رأيه ، والنبي عليه الصلاة والسلام لا شك هو سيد ولد آدم ولكن لم يكن من شعار العلماء هذه العبارة .
وإطلاق لفظ (السيد) بدون الإضافة عليه لا تجوز لأن السيد هو الله جل وعلا ، يعني هكذا (السيد) إذا قيل هكذا ويُعنى به النبي عليه الصلاة والسلام فإن هذا منهي عنه ، قد قال عليه الصلاة والسلام (السيد الله) ولما قيل له (أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا) قال (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان) أو قال (ولا يستهوينكم الشيطان) ونحو ذلك(1/165)
فدل على أن الكمال في الأجر أن يقول القائل (نبينا ورسولنا محمد) لأنه يؤجر على هذه العبارة ، لأن فيها وصف إيماني بما يعتقده المرء من الأمور التي رُتِّب عليها الإسلام ، رُتبت عليها الأجور العظام .
ثانيا أن إطلاق لفظ (السيد) بالتعريف هذا فيه نوع تنديد ولا يقال هكذا (السيد) وبالإضافة لا بأس به أن يقال (فلان سيد قومه) النبي عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم كما قال (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ونحو ذلك ، والعلماء فرقوا في هذه اللفظة لفظة (سيد) جمعا بين الأحاديث ، بين مواجهة المُخاطَب بها أو عدم مواجهته ، فإذا واجهه بقوله (أنت سيدنا) مثلا فإن هذا منهي عنه كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان) وأما إذا وصف المرء بما فيه بدون مواجهة فإن هذا لا بأس به كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (إن ابني هذا سيد) وكان صغيرا ، وقال (هذا سيد قومه) (وفلان سيد قومه) وقال (أنا سيد ولد آدم) ونحو ذلك ، فالإضافة جائزة ولا يواجه بها من قيلت فيه فإن هذا فيه فإن هذا هو الذي دل عليه حديث (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم) .
نصل إلى ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى من الآيات .
هذا في قوله وَقَوْلِه { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ }
قوله (وَقَوْلِهِ) هذا معطوف على ما سبق من قوله (ودخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في كتابه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم) وذكر قال (في قوله تعالى) ثم ذكر الآيات فقوله (وَقَوْلِهِ) معطوف على (في قوله) الأولى .
والمقصود بذكر الآيات هذه إثبات الصفات لله جل وعلا ، وهذه الآيات فيها إثبات صفة (الإرادة) و (المشيئة) لله جل وعلا .(1/166)
فقوله هنا وَقَوْلِهِ: { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } ) فيها إثبات صفة (المشيئة) لله جل وعلا و (القوة) لله جل وعلا والمقصود منها إثبات صفة (المشيئة) .
وكذلك قوله في الآية التي بعدها { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } قال { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ } فيه إثبات (المشيئة) وأيضا فيها إثبات (الفعل) لله ، وإثبات (الإرادة) لله جل وعلا بقوله { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .
كذلك في الآية التي بعدها في قوله - آية المائدة - { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } فيها إثبات صفة (الإرادة) لله جل وعلا .
وكذلك الآية الأخيرة { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ } هذه صفة (الإرادة) كذلك قال { وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } .
و(المشيئة) لله جل وعلا و(الإرادة) إرادة الله جل وعلا ليستا بمتفقتين دائما وذلك أن (الإرادة) لله جل وعلا تنقسم إلى قسمين :
- إرادة كونية قدرية .
- وإرادة شرعية دينية .
ومعنى (الإرادة الكونية القدرية) أن الإرادة متعَلَّقها ما يكون في ملكوت الله من التكوين ومن القَدَر
و(الإرادة الشرعية الدينية) المراد منها ما يكون في آيات الله جل وعلا المَتلٌوَة من إرادات الله جل وعلا من العباد ، الإرادات الشرعية .
فـ (الإرادة الشرعية) قد يمتثلها العبد وقد لا يمتثلها ، يعني قد يأتي بفعل يوافق مراد الله الشرعي ، وقد يكون فعله غير موافق لمراد الله الشرعي .
وأما (الإرادة الكونية القدرية) فهي ما يكون في ملكوت الله لا بد ، لا يحصل شيء إلا وهو موافق لإرادة الله الكونية القدرية .(1/167)
و(الإرادة الكونية القدرية) هذه قد يكون منها ، لا تقوم الأشياء إلا بها ، وقد تكون الأشياء من محبوبات الله وقد لا تكون من محبوبات الله ، فالله جل وعلا أراد الإيمان كونا من المؤمن وحصل العبد عليه ، وأراد الكفر كونا من الكافر وكان العبد كافرا .
وأما (الإرادة الشرعية الدينية) فهي محبوبة لله جل وعلا ، كما أراد الإيمان يعني طلبه مريدا له من العباد فحققه المؤمن .
فإذن يجتمع في المؤمن الطائع (الإرادة الكونية القدرية) و (الإرادة الشرعية الدينية) وأما الكافر أو العاصي فيكون في حقه (الإرادة الكونية القدرية) وهو يكون غير ممتثل لـ (الإرادة الشرعية) .
فمثلا في قوله هنا { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } يعني كونا ، وقوله في الآية التي بعدها { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } يشمل الحكم الشرعي كما جاء في الآية { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ } هذه حكم شرعي { يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } في كونه و { يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } أيضا في شرعه ودينه ، كذلك { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ } هذه في (الإرادة الكونية) { وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } في (الإرادة الكونية)
إذا تبين لك ذلك ، فما صلة (المشيئة) لله جل وعلا بـ (الإرادة) ؟
(مشيئة) الله جل وعلا مشيئة كونية ، لا تنقسم المشيئة إلى شرعية دينية وإلى كونية قدرية .
(المشيئة) قسم واحد بخلاف (الإرادة) .
فإذن (إرادة) الله جل قسمان :
إرادة كونية وإرادة شرعية .
وأما (المشيئة) فهي شيء واحد وهي الإرادة الكونية القدرية .(1/168)
فإذن في قوله { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } هنا { مَا شَاءَ اللَّهُ } يعني (المشيئة) هنا التي هي الكونية القدرية والتي ليس لها قسيم هي قسم واحد ، ومع قوله هنا { مَا شَاءَ اللَّهُ } يعني أن ذلك حاصل بمشيئة الله كما سيأتي تفسيرها .
إذا تبين لك ذلك فهذا التفصيل في (الإرادة) من أن (الإرادة) تنقسم إلى كونية قدرية وإلى دينية شرعية هذا ليس في (الإرادة) فحسب فثَم ألفاظ في الكتاب والسنة تنقسم إلى هذا التقسيم ، وقد عدها العلماء في اثني عشر قسما .
أعني المحققين منهم شيخ الإسلام وابن القيم ومن تبعهم على المنهج الصحيح رحم الله جل وعلا الجميع وأسبغ عليهم رضوانه ، فثَم اثنا عشر لفظا في الكتاب والسنة تنقسم إلى هذين القسمين من مثل (الإذن) ومن مثل (الجعْل) ومن مثل (الحكم) ونحو ذلك و(الأمر) ، فإذن هنا ألفاظ لا بد أن تنتبه هل جاءت في الآية ويراد بها الكوني المعنى الكوني الذي لا بد أن يحصل ؟ أو المعنى الشرعي الديني الذي يطلب من العبد تحصيله ؟
انظر مثلا لفظ (الجعل) الذي جاء في الآية الأخيرة في قوله { وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا }
هذا الجعل كوني أو شرعي ؟
كوني
قال { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } لأن العبد ليس له في تحصيل ذلك ، لم يطلب منه أن يفعل ذلك
فإذن ، الصنف الكوني من هذه الألفاظ ما هو راجع إلى (فعل) الله جل وعلا وليس مطلوب من العبد أن يحصله ، وأما الشرعي الديني فهو ما كان من (فعل) الله جل وعلا ويطلب من العبد أن يحصله .
فمثلا ، خذ مثلا في (الإرادة) قال الله جل وعلا { يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } هذه في (الإرادة) أيش ؟
الشرعية لأنه لو كانت (إرادة) كونية كان تاب على الجميع الكافر والمشرك ، لكن { يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } يعني شرعا فكونوا مريدين للتوبة محصلين لها ولأسبابها .(1/169)
هنا في (الجعل) مثلا قال الله جل وعلا { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } هذه شرعية ولاّ كونية ؟
هذه شرعية ، لماذا ؟
لأن الكعبة قيام للناس يعني اجعلوها هكذا ، اجعلوا الكعبة قياما للناس مكان أمن واطمئنان ، العباد فرطوا في ذلك وصارت الكعبة يعني الحرم في أزمان في التاريخ محل خوف بل ومحل قتل ومحل ظلم - نسأل الله العافية - ولو كان (الجعل) قدريا لكانت الكعبة أمنا واطمئنانا رغم أنوف العالمين ، لكن الله جل وعلا قال { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ } يعني اجعلوها كذلك .
وهكذا في ألفاظ كثيرة يأتي إن شاء الله تفصيلها في مواضعها بإذن الله .
إذن بعد أن عرفت أنه يعني إثبات (المشيئة) لله و (الإرادة) والفرق بين الإرادة الكونية والقدرية والتفريق هذا مهم في باب القدر لأن كثيرا من فرق الضلال ضلت بسبب عدم التفريق بين (الإرادة) الكونية القدرية و (الإرادة) الشرعية الدينية ، وبسبب عدم التفريق ضل أناس كثيرون وقد قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ساق هذا التفريق في النونية قال ما حاصله (هذا بيان طالما ضلت به الناس مدى الأزمان) يعني التفريق هذا إذا لم يحصله الناظر في هذا الأمر - في أمر القدر - ضل في هذا الباب .
قال وَقَوْلِه { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ }
هذه الآية فيها الحض على أن يقول العبد إذا أعجبه شيء ولو في نفسه ولو في ماله أن يقول هذه العبارة { مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } وهي تعصم من أثر العين لأن العين حق فإذا برّك الناظر أو برك السامع - إذا لم يكن يبصر - برّك إذا تعلق قلبه بشيء وأعجبه قال (بارك الله لك ، ما شاء الله تبارك الله) أو قال ما في هذه الآية { مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } فإن ذلك يمنع الأثر السيئ للعين .(1/170)
وقوله هنا { قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } هنا في قوله { لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } الحصر وهي في المعنى كقوله - كما تعلم - في قوله (لا حول ولا قوة إلا بالله) يعني أنه لا قوة لك في أمر من الأمور ولا قوة لك في تدبير أمرك ولا في تدبير مالك ولا في تحصيل شيء إلا بالله جل وعلا .
فالعبد كما هو معلوم ضعيف إلا بربه جل وعلا .
فإذن في قوله { مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } فيها تحقيق التوكل وتفويض الأمر إلى الله جل وعلا وحسن الظن بالله وإثبات أن الله جل وعلا هو ولي الفضل وهو ولي الإحسان وهو ولي الإنعام وهو الذي ملّك العباد ما شاء جل وعلا وأن العباد ليس منهم شيء وليس إليهم شيء وإنما هو فضل الله جل وعلا يسوقه إلى عباده .
هنا في قوله { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
هنا ذكر (المشيئة) وذكر (الإرادة) تقدم لنا أنهما هنا بمعنى الإرادة الكونية .
(المشيئة) هنا - معروف طبعا بمعنى ما شاءه كونا - و(الإرادة) كذلك بمعنى الإرادة الكونية .
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
هذه فيها أن الله جل وعلا هو الذي يقدر الأشياء ويقدر أسبابها فهو جل وعلا لو لم يشأ قتالهم ، لو كان جل وعلا لم يشأ قتالهم ما حصل منهم اقتتال ، لو لم يشأ الله جل وعلا أن يموت بعضهم بسبب بعض ما حصل منهم اقتتال فإذن الله جل وعلا هو الذي شاء الاقتتال والاقتتال سبب في إزهاق الأرواح.
فإذن الله جل وعلا شاء الأشياء وأسبابها ، وهذا يعني أن (مشيئته) جل وعلا متعلقة بكل ما يحدث في الملكوت من الغايات والأسباب بل وأسباب الأسباب .(1/171)
فما يشأ من شيء له سبب إلا والله جل وعلا قد شاءه كونا ، ولو لم يشأ الله جل وعلا ذلك لم يقع كما قال جل وعلا { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فـ (مشيئة) الله نافذة .
وهذه مرتبة من مراتب الإيمان بالقدر عند أهل السنة والجماعة كما سيأتي مفصلا إن شاء الله في موضعه فإن من مراتب الإيمان بالقدر الإيمان بتعلق مشيئة الله جل وعلا بكل ما يحصل في الملكوت فليس ثَم شيء حصل إلا وقد شاءه الله جل وعلا كونا إذ لا مغالب لله جل وعلا في ملكه .
قال هنا { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } هذه الآية فيها إثبات أن الله جل وعلا يفعل الأشياء لـ (إرادة) تعلقت بذلك الشيء ، وفي ضمن ذلك إثبات الحكمة لله جل وعلا من وراء الأشياء .
فإن الله جل وعلا { يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وفعله لحكمة .
فإذن اقتتالهم كان مرادا من الله جل وعلا ، واقع بـ (مشيئة) الله وكان مرادا من الله جل وعلا .
وطبعا لفظ (الإرادة) غير لفظ (المشيئة) ، لفظ (المشيئة) قد لا يكون معه علة (شاء فلان هذا الشيء) لكن لفظ (الإرادة) (أراد هذا الشيء) يكون ثَم علة لذلك الشيء .
فإذن لفظ (المشيئة) و لفظ (الإرادة) ليستا متساويتين من جميع جهاتها ، نعم يلتقيان في [ الإرادة الكونية ] لكن أيضا (المشيئة) لا تساوي (الإرادة الكونية) من كل جهاتها فإن (الإرادة) فيها معنى أنه (فعل لشيء) وأما (المشيئة) فليس فيها هذا المعنى .
فإذن نقول الإرادة الكونية القدرية مشيئة وزيادة .
زيادة تفهم منها أن ثم حكمة ، ثم علة لذلك .
قال { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } و { مَاُ } بمعنى الذي ، يعني يفعل الذي يريده ، وهذا فيه عموم لأن الأسماء الموصولة عند كثير من أهل العلم تفيد عموم ما كان في حيز صلتها .(1/172)
قال هنا في ما بعد ذلك وَقَوْلِه { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }
هنا ذكر لفظ (الحكم) وهذا يراد به الحكم الشرعي أو الحكم الكوني ؟
يراد به [ الحكم الشرعي ] لأنه ذكر قبلها حكما شرعيا { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ } هذا (حكم) .
حكم كوني أو حكم شرعي ؟
هذا (حكم) شرعي .
فإذن هنا في هذه الآيات في لفظ (الإرادة) في لفظ (الجعل) في لفظ (الحكم) وكلها منقسمة إلى [إرادة كونية وشرعية] وإلى [حكم كوني وشرعي] وإلى [جعل كوني وشرعي] .
(الحكم) الكوني دليله - هذه فيها الحكم الشرعي - (الحكم) الكوني هل ثَم دليل عليه ؟
نعم
{ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ } يعني في كونه أو في دينه ؟
قد يكون في الدين لأنه من الحكم بين المتخاصمين . لكن الحكم الكوني
...
{ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } نعم ، هذا ليس مطلوبا من العبد هذا حاصل من الله جل وعلا .
الآيات ما استحضرتها الآن لكن ثَم آيات كثيرة فيها أن (الحكم) كوني قدري ، وكذلك يكون (الحكم) شرعيا دينيا .
هذه الآية فيها الحكم الشرعي الديني .(1/173)
{ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } هذه الآية فيها أن بهيمة الأنعام حلال ، فبهيمة الأنعام الأصل فيها طبعا أنها حلال أحلها الله جل وعلا ، ولفظ { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ } لا يقتضي أنه كان قبلها تحريم فبهيمة الأنعام حلال ولم تُحَرَّم ، لم يحرمها الله جل وعلا بل هي حلال ، فقوله هنا { أُحِلَّتْ لَكُمْ } يعني جعلها الله جل وعلا حلالا وليس معناها أنه سبق ذلك تحريم لها { إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } يعني ما يتلى عليكم سيأتي من { الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ } إلى آخره هذه كلها من أنواع ما لم يُحَل .
ثم قال { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } المقصود بقوله { وَأَنْتُمْ حُرُم } يعني قد دخلتم في الإحرام إما بحج أو بعمرة فالمرء إذا وصل للميقات وأحرم بحج أو بعمرة فإنه يحرم عليه الصيد كما قال هنا { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يحرم عليه أن يَصيد أو أن يعين على صيده أو حتى يشير إلى الصيد بلسانه أو بيده أو نحو ذلك فالصيد -الاصطياد- لا يباح للمحرم .
قال جل وعلا بعد ذلك بعد هذه الأحكام { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } يعني في شرعه و { مَا يُرِيدُ } هنا يعني ما يريده شرعا ويدخل في ذلك أيضا ما يريده كونا .
فإذن قوله { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } في هذه الآية المراد بها (الحكم) الشرعي و (الإرادة) الدينية الشرعية ، ويدخل في العموم { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } (الإرادة) و (الحكم) الكوني القدري .(1/174)
هنا في قوله { إِنَّ اللَّهَ } المتقرر عند علماء الأصول وكذلك عند علماء العربية وعند علماء التفسير أيضا أن كلمة { إِنَّ } بعد الأمر والنهي والخبر تفيد التعليل - تعليل ما سبق - والتعليل قد يكون لكل الجملة وقد يكون لأصلها وقد يكون لبعضها فهنا { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } هذا تعليل للإحلال { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ } وتعليل لعدم إحلال بعض بهيمة الأنعام في قوله { إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } وذلك أن المشركين قالوا هذه التي ماتت حتف أنفها إنما أماتها وقتلها الله وتلك التي ذُكِّيت فإنما أماتها المخلوق وما أما ته الله جل وعلا أولى بالحل مما أماته المخلوق وهذا لا شك أنه مغالطة لذلك ، الله جل وعلا قال هنا { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } .
ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن سبب (الطبع) هو (الكفر) سبب عدم الهداية - هدايتهم - هو (كفرهم) فإذن نقول في الآية هذه حالان :
* الحال الأولى حال المؤمنين .
* الحال الثانية حال الكافرين .
المؤمن يشرح الله صدره للإسلام مِنّة وتفضلا من الله جل وعلا وذلك قد يكون بسبب من العبد .
وأما القسم الثاني وهم (الضالون) وهم الكفار ممن لم تُشرح صدورهم قال جل وعلا فيهم { وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } وهذا يكون بمجازاة العبد بذلك .
فإذن (الطبع) بسببهم ، وعدم هدايتهم بسببهم ، وأما الهداية فهي قد يكون العبد له تحصيل ولكن التوفيق بيد الله لأن العبد له أنواع مما يصده عن اتباع الحق (الشيطان) يصده (الأهواء) تصده (الشهوات) تصده (الشبهات) تصده ، فهو لو وُكِل إلى نفسه قد لا يخلص من تلك الأعداء الكثيرة ، لكن الله جل وعلا يمن على العبد ويوفقه ويلهمه حتى يكون منشرح الصدر بالهداية .(1/175)
فإذن هنا قال { يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ } فلهذا يجد العبد المؤمن في نفسه الإقرار لله جل وعلا بأنه ذو الفضل عليه أن مَنَّ عليه بالإسلام ، ذو الفضل عليه أن هداه ذو الفضل عليه أن وفقه ، أن أعانه ، كما قال تعالى { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قوله هنا { يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ } يشمل نوعي (الهداية) هداية الإرشاد والدلالة ، و(هداية) التوفيق والإلهام .
ونكتفي بهذا القدر عند قوله وَقَوْلِه { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
... ...
(الحول) الانتقال من حال إلى حال
(لا حول) يعني لا انتقال لنا من حال إلى حال .
أما (القوة) فتحتاجها في الحال الأولى وفي الحال الثانية .
يعني أنت الآن تنتقل من هذا المكان إلى ذاك المكان ، تنتقل من بيتك إلى المسجد هذا (الحول) لا انتقال لك إلا بالله ، كذلك لا (قوة) لك على ذلك الانتقال في الحالين وفيما بينهما إلا بالله ، هذا فيه (التجريد) في كل شيء فيه (التجريد) في جميع الأحوال ، (تجريد) الأمر لله جل وعلا ولهذا فيها محض (التوكل) وتفويض الأمر إليه جل وعلا .
... ...
(توكلت على الله ثم عليك) هذه فيها قولان لأهل العلم ، أما العلماء المتقدمون فإنهم لا يجيزون مثل هذا وذلك لأن (التوكل) عمل قلبي ، (التوكل) عمل القلب ، لأن فيه التفويض وفيه الاعتماد وفيه الالتجاء وكل ذلك عمل القلب ، وإذا كان هو من عمل القلب فلا يصلح إلا لله ، فلهذا ليس فيه ترتيب (ثم عليك) لأنه كله لله (توكلت على الله) ، هذا وجه الذين يمنعونه .(1/176)
وبعض العلماء مثل الشيخ عبدالعزيز بن باز (حفظه الله) فيما نُقِل عنه - وإلا أنا ما سمعته منه - أنه يجيز ذلك ، ووجه الجواز أن الناس ما يعتقدون المعنى القلبي هم يعتقدون ظاهر اللفظ ، يعني ما عندهم المعنى القلبي (توكلت على الله ثم عليك) يعنون به توكلت على لله ثم وكلتك بهذا الأمر أو اعتمدت عليك في ها الأمر ونحو ذلك ، ما يعنون التوكل الشرعي ، لأن الذي يقولها أكثرهم جهال بالمعنى الشرعي للتوكل ، فهم ينطقون بلفظ لا يدرون معناه .
لكن إرشاد الناس إلى كون الشيخ قال بالجواز لا يعني أنه يسوّغه مطلقا للناس يستعملونه ، لكنه ما يشدد فيه ، من يغلط فيه ، ليس شركا وليس بحرام عند الشيخ لأن الناس لا يعنون به المعنى الباطل ، ونهي الناس عنه وإرشادهم إلى الكمال في ذلك والأفضل تجريد التوحيد ، هذا لا شك أنه أولى ، وقد سئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن قول القائل (توكلت على الله ثم عليك) فقال لا يجوز لأن التوكل عمل القلب .
قول القائل أرجوك ؟
أرجوك معناها سهل ، بس .. قال (وفيك رجائي) مما فيه إخلاصه ، لأن (الرجاء) يحصل من العبد ، لكن (فيك رجائي) أو مثل قول القائل (لك الشكر) مما فيه الاختصاص والكمال ، تقديم الجار والمجرور أو تقديم ما حقه التأخير هذا فيه الاختصاص ، هذا لا يسوغ إلا لله ، أو يقول (مع خالص الشكر لك) خالص الشكر لله ، ونحو ذلك ، هذه ألفاظ كثيرا ما يُسأل عنها ، مثل لفظ (الشكر) و (الرجاء) ونحو ذلك ما كان فيه عبارة التجريد عبارة الإخلاص الكامل هذا لا تكون إلا لله ، وهذه تكون إما بقول (خالص) (مع خالص الرجاء) (مع خالص الشكر) أو (لك شكري) و (فيك رجائي) ونحو ذلك هذه لا تسوغ ولا تصلح إلا لله ، الثانية أنه يستخدمها كما قال الله جل وعلا { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [ اشكر لي واشكر لوالديك ] .
... ..
ما في شك الواحد قد (يعين) نفسه ، ما في شك قد يصيب بالعين نفسه وماله .
... ...(1/177)
وكذلك (القضاء) مثل { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ } هذا (قضاء) ايش ؟ شرعي ...
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبرحمته تكمل الطاعات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد :
فهذه الآيات التي سمعتم هي في معرض الاستدلال على صفة (المشيئة) لله جل وعلا وصفة (الإرادة) لله جل وعلا .
وقد ساق شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قبل ذلك آيات فيها إثبات صفات لله جل وعلا متنوعة .
وشيخ الإسلام في سياقه لتلك الآيات تارة يكون مرتبا لها لمعاني وتارة تكون الصفة بعد الصفة هكذا اتفاقا .
فهذه الصفة وهي صفة (المشيئة) و (الإرادة) ذكرها بعد صفة (السمع) و (البصر) في قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا }
ومن المناسبة في ذلك أن (السمع) و (البصر) و (الإرادة) و (المشيئة) ثم يعقبها بعد ذلك بـ (المحبة) و (الرضا) و (الحياة) ونحو ذلك من الصفات هذه الصفات يثبتها الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم في ذلك .
وهي صفات يثبتونها بالعقل وهي ثابتة أيضا كما ذكر الأدلة على ذلك بالسمع .
فهو يريد أن يقول إن هذه الصفات التي أثبتها أولئك المبتدعة على الأصل العقلي عندهم هي ثابتة بالأدلة المنقولة بما جاء في كتاب الله جل وعلا من الآيات الكثيرة في ذلك وما ذكر إنما هو على جهة التمثيل وما ثبت أيضا في ذلك من السنة كما سيأتي الاستدلال ببعض الأحاديث على الصفات.(1/178)
وصفة (الإرادة) و (المشيئة) لله جل وعلا الأدلة على إثباتها من الكتاب والسنة أكثر من أن تُحصر ، بل من الواجب عند أهل الفطر السليمة أن الله جل وعلا (يفعل) ما يشاء و (يفعل) ما يريد ، لأن ذلك من مقتضيات كونه ربا جل وعلا فإن الربوبية مقتضية لأن يفعل في ملكه ما يريد ، لأنه لو فُعِل في ملكه ما لا يريده كونا لكان في ذلك منازعة له في الربوبية .
ولهذا فإن صفة (الإرادة) و (المشيئة) هذه لم ينكرها إلا طوائف من الفلاسفة الضلال وهم لا ينكرونها مطلقا وإنما ينكرون بعضها .
والمتكلمون على وجه العموم يثبتونها بالعقل ، ودليلها من العقل عندهم (التخصيص) .
و (الإرادة) عندهم (إرادة) قديمة وتعلقها بما (علم) الله جل وعلا أنه سيكون بـ (الإرادة) القديمة هذا التعلق بما سيحصل تعلقه بـ (القدرة) المحدِثة له يسمونه (تخصيصا) ويسمون (التخصيص) (الإرادة) .
فإذن عندهم أن (الإرادة) هي تخصيص المقدورات بالمقدروات المعلومة أزلا لله جل وعلا بما خصصت به .
ويعنون بـ (التخصيص) أنواعا من التخصيص منها أنها كانت في هذا الزمن دون غيره ، مثلا خلق الله الشيء المعين في هذا الوقت دون غيره لِمَ خلق في هذا الوقت دون غيره ؟
تخصيص المخلوق أو الحادث بما حدث له في زمن دون غيره هذا التخصيص عندهم هو معنى (الإرادة) .
هذا من جهة التعلق بالزمن .
كذلك من جهة الطول والِقصر والضخامة والضآلة ، من جهة تكامل الصفات فيه وغير تكامل الصفات فيه - يعني في المعيّن - طول مدة بقائه وقلة مدة بقائه ، انعدامه أو غير انعدامه ونحو ذلك ، كل هذه تسمى عندهم (تخصيصات) وهذا (التخصيص) في الأشياء هو الدليل العقلي الذي نصبوه على صفة (الإرادة) .
ولا شك أن هذا الدليل من حيث هو استنتاج صحيح فإن التأمل في هذه الأشياء التي خلقها الله جل وعلا على اختلافها لا شك يُنتِجُ أن تلك التخصيصات المختلفة إنما جاءت من جهة (إرادة) الله جل وعلا لهذه الأشياء أن تكون على ما هي عليه .(1/179)
وقد أثبت شيخ الإسلام رحمه الله هذا الدليل في شرح العقيدة الأصفهانية وأثبته أيضا في تائيته القدرية حيث قال رحمه الله تعالى :
وفي الكون تخصيص كثير يدل من ... له نوع عقل أنه بإرادةِ
وهذا ولو كان صحيحا ، لكن القاعدة أن الصفات إنما تثبت بالنصوص ، فإذا جاء العقل مثبتا لصفة فإنما هو تابع لما دل عليه النص .
وهذا هو ما يعتمده أهل السنة في الدلالات العقلية للصفات .
يعني في إثبات الصفات عن طريق الدليل العقلي فإنهم قد يذكرونه وقد لا يذكرونه وذلك لاستغنائهم بالوحيين .
ولا يعني ذلك أن إثبات الصفات لا يكون بطريق عقلي بل منها كثير يكون إثباته بطريق عقلي صحيح ولكن لا يذكر أهل السنة الطرق العقلية لأن الكتاب والسنة عندهم كافيان في إثبات الصفات لأن الله جل وعلا أعلم بنفسه والعقل معرض للخطأ ومعرض للزلل وأما النص فهو الكامل من كل جهاته .
إذا تبين لك ذلك فهذه الأدلة التي ذكرها فيها إثبات (المشيئة) لله جل وعلا كقوله تعالى { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } .
وفيها إثبات (المشيئة و الإرادة) في قوله تعالى في الآية الثانية { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .
وفيها إثبات (الإرادة الشرعية) في قوله { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } أو (الإرادة الكونية والشرعية) معا
وكذلك (الإرادة الكونية) في قوله { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ } فهذه الآيات فيها إثبات صفة (المشيئة) وصفة (الإرادة) لله جل وعلا وفيها إثبات غير هاتين الصفتين ولكن مقصود شيخ الإسلام من الاستدلال بهذه الآيات صفة (المشيئة) وصفة (الإرادة) .
والذي دلت عليه النصوص أن (الإرادة) إرادة الله جل وعلا للأشياء هذه تنقسم إلى :(1/180)
- إرادة كونية قدرية ، يعني متعلقة بالكون بمخلوقات الله من حيث إيجادها وإعدامها ، من حيث تقلباتها وأحوالها .
- وهناك الإرادة الشرعية الدينية وهذه المتعلقة بالأمر .
فـ (الإرادة الكونية) متعلقة بالخلق و (الدينية) متعلقة بالأمر والله جل وعلا له الخلق والأمر .
و (المشيئة) مشيئة الله جل وعلا هي (الإرادة الكونية) فإذا قلنا (شاء الله كذا) يعني أراده (كونا)
وإذا قلنا (أراد الله كذا) فهذا يحتمل أن يكون المراد من (الكونيات) أو أن يكون المراد من (الشرعيات) .
وأما (المشيئة) فليس ثَم دليل لا في الكتاب ولا في السنة على انقسامها إلى (مشيئة كونية ودينية) وإنما الذي ينقسم (الإرادة) .
فإذن صارت (المشيئة) بعض الإرادة فـ (الإرادة) من أقسامها (المشيئة) ومن أقسامها (الإرادة) .
انتهى الشريط السادس من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السابع
فإذن صارت المشيئة بعض الإرادة فالإرادة من أقسامها المشيئة ومن أقسامها الإرادة الدينية الشرعية.
إذا تبين لك ذلك فهذه النصوص في قوله تعالى { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ }
{ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ } (مَا) هذه مبتدأ أو خبر ، فإذا كانت مبتدأ يعني هي موصولة يعني الذي شاء الله ، لكن أين خبره ؟ (ما شاء الله كان) أو (ما شاء الله حصل) أو أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف تقديره (الأمر ما شاء الله) (الذي كان وحصل هو الذي شاءه الله جل وعلا) ، (هذا - المشار إليه - ما شاء الله) الذي شاء الله يعني { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ } يعني هلاّ حين دخلت جنتك قلت هذا الذي شاء الله ، ففيه نفي للمشيئة عن مالك الجنة وعن الذي عمل فيها وإحالة ذلك إلى الله جل وعلا لأنه ما شاء الله كان .(1/181)
وهذا طبعا فيه إثبات المشيئة العامة التي تتعلق بصغار الأمور و بكبارها .
كذلك في قوله تعالى { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا }
هذا فيه أن الاقتتال وقع بالمشيئة وفيه أيضا أن مشيئة الله جل وعلا و إرادته الكونية معللة ، فإن الله جل وعلا لو شاء ما اقتتل أولئك ولكنه أراد قتالهم لحكمة يعلمها جل وعلا فمشيئة الله مرتبطة بحكمته جل وعلا فهو يشاء جل وعلا لحكمة و يريد لحكمة .
وهذه الحكمة هي الغايات المحمودة عند الله جل وعلا للمُرادات ، هذه هي الحكمة في حق الله هي الغايات المحمودة للمُرادات .
وقوله هنا جل وعلا { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
فيها إثبات صفة (الإرادة) كما مر وفيها أيضا إثبات أن الذي (أراده) الله جل وعلا يفعله قال { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وهذا صفة كمال له جل وعلا لأن كل المخلوقات لا تفعل ما تريده ، ليس كل شيء تريده تفعله بل قد تريد أشياء ولا تستطيع فعلها لتخلف (القدرة) .
فإن المقدور المعيّن الذي سيحدث أو الذي يُراد أن يحدث يكون (بإرادة) جازمة و(بقدرة) تامة فإذا حصلت (الإرادة) الجازمة بتحقيقه وحصلت (القدرة) على إيقاعه حصل هذا الشيء وكان .
وهذا يتخلف في المخلوق كثيرا فالمخلوقات فيها من جهة (الإرادة) صفة النقص وهي أنها (تريد) أشياء ولكن لا تحصل المرادات ، والذي يتفرد بأنه يفعل ما يريد وهو فعال لما يريد وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن هو الواحد القهار جل وعلا وهذا من مقتضيات كونه هو (المالك) (الأحد) (الفرد) (الصمد) الذي له هذا الملكوت العظيم جل وعلا وتقدس وتعاظم سبحانه .
وقوله جل وعلا بعد ذلك في الآية الأخيرة في آية المائدة { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }
فيها أيضا صفة (الإرادة) و (الحكم) هنا راجع إلى الحكم الشرعي ، و (الإرادة) هنا أيضا فيما يظهر راجعة إلى (الإرادة الشرعية) .(1/182)
وقوله في الآية الأخيرة وَقَوْلِه { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلام }
هذه (الإرادة الكونية) { فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ } إرادة كونية أن يهديه ، أما (الإرادة الشرعية) فالله جل وعلا مريد أن يهتدي الناس وأن يحصل منهم الإسلام لأنه أمرهم بذلك فمن يرد الله أن يهديه كونا يشرح صدره للاسلام ومن يرد كوناً أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصًعد في السماء .
إذا تبين لك ذلك فالإرادة عند أهل السنة والجماعة أو المشيئة صفة قائمة بالله جل وعلا من صفاته جل وعلا الذاتية.
يعني أنه جل وعلا لم يزل مريدا لم يزل شائيا ، فإنه لم تنفك عنه هذه الصفة وهي صفة المشيئة و الإرادة .
وهي مع ذلك متعلقة من جهة الأفراد بكل فرد حصل في ملكوت الله .
فإذن هي من حيث النوع قديمة ، ومن حيث الأفراد متجددة ، فكل شيء يحدث في ملكوت الله هو بإرادته جل وعلا الكونية و بمشيئته جل وعلا .
وهذه الصفة قائمة بالله جل وعلا ومتعلقة بالذي حدث حال حدوثه ، متعلقة به حال حدوثه .
فالإرادة إذن ، الله جل وعلا لم يزل مريدا وهذا من أوائل اعتقاد أهل السنة والجماعة في ذلك .
أما غير أهل السنة والجماعة فيقولون إن الإرادة قديمة .
هذا قول الأشاعرة والماتريدية ، يقولون الإرادة و المشيئة يعني الإرادة الكونية والمشيئة وحتى الإرادة الشرعية عندهم قديمة .
ما معنى كونها قديمة ؟
عندهم أن الإرادة وهي التوجه بتخصيص بعض المخلوقات بما خصصت به زمانا أو مكانا أو صفات هذا التخصيص أو هذا التوجه للتخصيص قديم من جهة الإرادة قديم ، إرادته قديمة .
الإرادة عندهم لها جهتان :
- جهة يسمونها (صلوحية) يعني راجعة إلى ما يصلح وما لا يصلح ، فيقولون من جهة الصلوحية فالإرادة تابعة للعلم .
- ولها جهة ثانية يسمونها الجهة (التنجيزية) يقولون هي من جهة التنجيز تابعة للقدرة .(1/183)
يريدون بذلك مخالفة أهل الاعتزال ، لأن المعتزلة - يأتي إن شاء الله كلامهم في ذلك - يخالفون في هذا ويجعلون (الإرادة) راجعة - هم يثبتون صفة الإرادة ويجعلونها راجعة - إلى العلم من جهة القدم ، وأما الذي حدث إذا حدث فإنهم يجعلون (الإرادة) حادثة في ذلك الوقت ، وليس عندهم إرادة التي هي صفة قديمة كما عند الأشاعرة وإذا أثبتوها فإنهم يرجعونها إلى العلم .
الأشاعرة عندهم هذا التفصيل ، وكل الأمرين عندهم قديم ليس بمتجدد الآحاد مثل (الكلام) .
صفة (الكلام) عندهم صفة قديمة ، ما عندهم كلام يحدث ، الله جل وعلا تكلم عندهم بالقرآن في الأزل ، وكلامه جل وعلا انتهى ، تكلم بما شاء ثم انتهى من الكلام ، كذلك (الإرادة) يقولون أراد ما شاء في الأزل ، ولا تتعلق (الإرادة) بالأشياء تجديدا .
هل معنى ذلك أن لا يريد هذه الأشياء ؟
لا ، يقولون يريدها ولكن (الإرادة) هنا جهتها تنجيزية ، يعني تنجيز وإنفاذ للإرادة القديمة .
أهل السنة والجماعة يخالفون في هذا كما ذكرت لك قولهم فيقولون إن إرادة الله جل وعلا متجددة ، فما من شيء يحدث في ملكوت الله إلا وقد شاءه الله جل وعلا حال كونه ، كما أنه جل وعلا شاءه في الأزل .
فمشيئته في الأزل بمعنى إرادة إحداثه في الوقت الذي جعل الله جل وعلا ذلك الشيء يحدث فيه .
فإرادته للأشياء جل وعلا القديمة ليست إرادة ومشيئة تنفيذية في وقتها .
فلهذا نقول الإرادة من حيث هي صفة : قديمة ، لكن من حيث تعلقها بالمعين هذا متجددة ، فلا نقول إن الله جل وعلا شاء أن يخلق أحمد - مثلا - شاء أن يخلق أحمد منذ القدم في الأزل شاء أن يخلق أحمد - هذا من الناس - في ذلك الحين ، ولكن لم يخلق إلا بعد كذا وكذا من الزمن .(1/184)
نقول هو جل وعلا شاء أن يخلق أحمد إذا جاء وقت خلقه ، فإذا شاء الله أن يخلقه خلقه ، وأما الصفة القديمة صفة (الإرادة) فهي متعلقة به جل وعلا يعني مريد لم يزل مريدا ، وتعلق (الإرادة) به بتجدد تعلق الحوادث .
ولهذا نقول إن إرادة الله جل وعلا ومشيئته المعينة للشيء المعين هذه هي التي نعني بها بتجدد الأفراد ، ومن حيث هي صفة فإن الله جل وعلا لم يزل متصف بتلك الصفة .
وسبب هذا الخلاف بينهم أن أهل السنة والجماعة يقولون بأن الله جل وعلا لم يزل حيا فعالا لما يريد ، فلا ينفون عن الله جل وعلا الإحداث والخلق في ما شاء جل وعلا من الزمان .
بخلاف المبتدعة من الأشاعرة والماتريدية والمتكلمة فإنهم يقولون الله جل وعلا متصف بالصفات لكنه لم تظهر آثار تلك الصفات إلا في وقت معين .
نعم متصف بالخلق لكنه لم يخلق زمانا طويلا ثم بعد ذلك خلق ، متصف بالعلم ولا معلوم ، متصف بالقدرة ولم تظهر آثار القدرة إلا بعد أن وجد مقدور وهكذا .
فإذن عند أهل السنة والجماعة أن إرادة الله جل وعلا أزلية لم يزل الله جل وعلا كذلك ، الله جل وعلا هو (الأول) وصفاته كذلك ، لم يزل متصفا بتلك الصفات ، ومقتضى ذلك أن يكون لتلك الصفات آثار في ملكوته .
على كل حال هذا بحث ذكرته بهذا الشيء من التفصيل لأن هناك في هذا الزمن من يثير هذه القضية على شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ويجعل من مستنداته بحث الإرادة وهل هي قديمة أم جديدة ؟
(الإرادة) من حيث مذاهب الناس فيها ، الأقوال فيها في صفة (الإرادة) أربعة :(1/185)
" فالفلاسفة يقولون إن حدوث الملكوت حدوث المحدثات هذا لم يكن عن إرادة لأنه كالمعلول للعلة ، يعني أنه لا بد أن يحدث ، فما دام أن الله جل وعلا موجود فلا بد أن يكون - مباشرة - أن يكون محدثات لأن الله محدِث فلا بد أن يكون ثَم محدثات ولهذا قالوا بأن العالم قديم والله قديم ، لماذا ؟ لأن عندهم تلازم ، تلازم فوري ، فإن عندهم المحدثات بالنسبة للمحدِث كالمعلول بالنسبة للعلة يعني مثل النور مع الشمس ، الشمس ، توجد الشمس وجد النور ، فالنور نتيجة للشمس نتيجة حتمية ، مثل وقوف الرجل في الشمس ، لا بد إذا وقف في الشمس أن يظهر ظل فهذا الظل بالنسبة للشخص هو المعلول بالنسبة للعلة ، يعني حتمي ما يكون متعلق بإرادته أن يظهر له مرة ظل أو لا يظهر ظل ، فإذن هذا قول نفاة الإرادة أصلا في حدوث العالم ، طبعا يتبع ذلك قضايا كثيرة ليس هذا محل بيانها .
" الثاني من أقوال الناس في الإرادة: قول المعتزلة ، والمعتزلة يقولون بإثبات الإرادة ولكنها إرادة حادثة لا في محل ، يعني لم تقم بالله جل وعلا لأن عندهم أن الإرادة متجددة ولا يجوز أن تقوم المتجددات بالله جل وعلا بل الذي يقوم بالله جل وعلا هي الثابتة عندهم التي هي القدرة والصفات الثلاث التي يثبتونها القدرة والحياة وغيرها .. (1) لأنهم فروا من قيام الحوادث به .
" القول الثالث قول الأشاعرة وقد مر معك مفصلا وأن الإرداة إرادة قديمة وتعلق المرادات بها قديم وإحداثها يكون بالتنجيز بتعلقها بالقدرة .
" القول الأخير اللي هو قول أهل السنة والجماعة لذلك وقد مر معك مفصلا .
هذه الأقوال من حيث (الإرادة) عام .
انقسام الإرادة إلى شرعية دينية وإلى كونية قدرية هذه يثبتها أهل السنة والجماعة وكذلك يثبتها الأشاعرة والماتريدية ، فعند الأشاعرة كما نصوا عليه والماتريدية كما نصوا عليه في كتاب المسامرة مثلا أو المسايرة في شرح المسامرة في حواشيهم أثبتوا أن الإرادة تنقسم .
__________
(1) 1 مسح في الشريط(1/186)
ويشيع عند بعض الناس أن الأشاعرة والماتريدية ينفون انقسام الإرادة إلى كونية قدرية وشرعية دينية هذا ليس بصحيح ، فهم يثبتون ذلك ويدللون عليه ، أما الذي ينفي هذا التقسيم فهم القدرية ، القدرية الجبرية ، أو القدرية النفاة الذين ينفون القدر .
القدرية النفاة مثل المعتزلة ، والقدرية الجبرية معروفون مثل الجهمية وغلاة الصوفية .
الأشاعرة هم جبرية متوسطة لكنهم لم يقولوا هنا بعدم الانقسام هذا من ثمرات الخلاف أو من أنواع الخلاف في هذه المسألة .
الثالث أنه يتبع ذلك التزام الإرادة بالمحبة والرضا .
هل الإرادة والمشيئة ملتزمة بصفة المحبة والرضا ؟
عند من نفى الإرادة الشرعية قال كل ما شاءه الله جل وعلا فهو مراد له محبوب لأنه لا يحدث في ملكه شيء لا يحبه ، وبالتالي قالوا إن كفر الكافر وعصيان العاصي هذه وقعت والله جل وعلا لا يحبها فإذن الله جل وعلا لم يردها ولم يشأها فإذن دخلوا في أن أفعال العبد منقسمة إلى أفعال أرادها الله وشاءها وأفعال لم يردها الله جل وعلا ولم يشأها .
ما الذي شاءه وأراده ؟
طاعة المطيع إيمان المؤمن .
ما الذي لم يرده ولم يشأه جل وعلا ؟
هو عصيان العاصي وكفر الكافر ، وهذا على قول الذين ينفون التقسيم أو لا يقولون به .
وأما عند المقسمة إلى إرادة دينية شرعية وإرادة كونية قدرية فإن هذا التلازم عندهم ليس واردا لأن الإرادة عندهم إذا كانت كونية فإنها قد تقع بما يحبه الله جل وعلا ويرضاه وقد تقع بما لا يحبه الله جل وعلا ولا يرضاه ، فإن الكفر كونا حصل في ملك الله بمشيئة الله وهو جل وعلا لا يرضاه ، والإيمان حصل في ملك الله وفي ملكوت الله وهو يرضاه ، والإيمان أَمَر به والكفر نهى عنه .
ولهذا يقول علماؤنا إنه في حق المؤمن المطيع تجتمع الإرادتان الشرعية الكونية و القدرية الدينية ، وفي حق العاصي إما بالمعصية وهو من أهل الإيمان أو بكفر الكافر فهذا يكون في حقه الإرادة الشرعية أو الإرادة الكونية ؟(1/187)
في حقه الإرادة الكونية لأنه خالف الإرادة الشرعية .
إذا تبين لك هذا فإن (إرادة) الله جل وعلا لها جهتان :
- جهة في فعله جل وعلا .
- والجهة الأخرى في فعل العبد .
أما فعله جل وعلا وتعلق (الإرادة) به فكما قال جل وعلا { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } فالله جل وعلا ما أراده فعله لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا لمشيئته جل وعلا.
وأما فعل العبد فهو من حيث (الإرادة) مراد له - للعبد - وهو مراد لله جل وعلا إذا توجهت (إرادة) العبد باختياره إليه ، فإن العبد يريد فعلا يفعله من الطاعة أو من المعصية هو مختار إذا توجهت (إرادته) - إرادة العبد - لهذا الفعل وفعله فإن الله جل وعلا ما مكنه من فعله إلا بعد أن شاء ذلك وذلك لأنه لا يحدث في ملكوت الله إلا ما يريده جل وعلا وما يشاؤه وأذن الله جل وعلا كونا بحصول الأشياء التي يريدها العبد مما لا يرضي الله جل وعلا ابتلاء للعباد وحكمة لأن حقيقة الابتلاء لا تحصل إلا بذلك .
فإذن من جهة (إرادة) العبد - من جهة العبد - فإن العبد يريد ، له مشيئة ، له إرادة ، وإذا أراد الشيء فإنه لا يكون إلا إذا أراده الله جل وعلا كونا .
وهذا يلاحظه المرء في نفسه فإنك تجد أن مثلا الصالح من عباد الله يتوجه إلى شيء من الفعل ويريده ثم يُصرف عنه بشيء لا يدري ما سببه ، يُصرف عنه بأنواع من الصوارف وهذا لأن الله جل وعلا لم يرد أن يُحْدِث ذلك لعبده المعين .
العبد تارة يكون عنده القدرة التامة على تحصيل هذا الشيء وعلى فعله وأراده لكن الإرادة كانت إرادة جازمة لكنه صُرِف عنه ، صُرِف عنه ذلك الشيء ولم يُترك ونفسه بل منحه الله جل وعلا عونا خاصا صرفه عن ذلك السوء الذي أراد أن يفعله .(1/188)
كذلك ما يريد العبد أن يفعله من الطاعات وعنده القدرة عليه فإنه يلحظ من نفسه أنه لا يستطيع أن يُحْدِث بإرادته وبقدرته الفعل المعيّن بمجرد إرادته وقدرته وإنما يجد أن ثَََم إعانه خاصة أتته منعت مضادات الإرادة ومضادات القدرة .
مثلا العبد أراد أن يصلي أن يأتي للصلاة في المسجد وعنده هذه الإرادة وعنده القدرة على المشي في ذلك قد تصده شواغل كثيره يتسلط عليه الشيطان تتسلط عليه فتنة في نفسه أو في بصره في عينه أو يُثَبَّط عن ذلك فالمطيع الذي وُفِّق صُرِفت عنه أنواع المعيقات هذه من (إرادة) الله ، الله جل وعلا أراد منه أن يصلي ولو لم تُصْرف عنه هذه ربما قعد عن ذلك ، لو كانت عنده ذلك ثم أتته الشواغل فإن الله جل وعلا كونا لم يرد منه أن يصلي في المسجد ولذلك لم يقع منه الصلاة في المسجد .
في الحال الأولى الإعانة الخاصة على تحقيق إرادته المقترنة بالقدرة هذا يسمى (التوفيق) والآخر وهو سلبه الإعانة الخاصة التي تصرف عنه المضادات لما يريده من الخير هذا يسمى (الخِذلان) .
وهذا وجه تعلق (التوفيق) و (الخِذلان) بإرادة الله جل وعلا وقدرته وإرادة العبد وقدرته .
إذن يتضح لنا مما سبق أن هذا البحث واضح بحمد الله ألا وهو صفة (المشيئة) و (الإرادة) لله جل وعلا على مذهب أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح وقولهم فيها واضح سهل ميسور لا يكاد أحد لا يفهمه ممن عنده نوع عقل كما قال شيخ الإسلام ، يعني أي واحد عنده بعض العقل يفهم هذا القول ، المشئية متعلقة بكل شيء و (الإرادة) منها شرعي ديني ومنها كوني قدري وهذا مذهب أهل السنة والجماعة .
أما أقوال المخالفين ففيها تعقيد لا يكاد يفهمها كل أحد فلا بد فيها من فهم خاص وتعليم خاص فهي لا تناسب فطر ، ولا تناسب العوام وإنما تحتاج إلى تعليم تلو تعليم حتى تُفهم ، وهذا من الدلائل على عدم مناسبتها لهذه الشريعة لأن هذه الشريعة أمية كما قال النبي عليه الصلاة والسلام (نحن أمة أمية)(1/189)
قال الشاطبي في الموافقات الشريعة أمية يعني أنها تناسب الأمة جميعا بجميع صفات أهلها ، من ذكاء وبلادة ومن غني وفقير ومن عال ونازل إلى آخر هذه الأصناف .
نكتفي بهذا القدر ، إذا كان في أسئلة في الموضوع ، يأتي إن شاء الله بحث المحبة والرضا وتعلق ذلك بالإرادة الآيات في ذلك .
يقول هل هناك فرق بين المشيئة والإرادة غير التقسيم الذي ذكرتم ؟
ما أذكر عن أحد من أهل العلم أن ثَم تفريقا آخر ، المشيئة والإرادة تتفقان إذا كانت الإرادة بمعنى الإرادة الكونية ، وتختلفان إذا كانت الإرادة هي الإرادة الشرعية .
وهل أفردها العلماء بتعريفات خاصة ؟
نعم ، المشيئة والإرادة في لها تعريفات لكن هذه التعريفات ليس حاصلها التفريق بين المشيئة والإرادة ، أحيانا يكون تعريف لغوي ، فرق لغوي لكن فرق عقائدي بين هاتين الصفتين هو الذي كان الكلام فيه ، ليس ثَم تفريق فيما أعلم إلا التفريق الذي ذكرت .
هذه كلمات عندهم يستعملونها في الصفات بسبب تعلقاتها ، يعني تعلق الصفة عندهم تعلق صلوحي يعني تعلق بما يصلح له من الصلاحية ، يعني مثل ما تقول تعلق صلاحي يعني بما يصلح له قالوا تعلق صلوحي يعني بما يصلح له ، هذا التعلق الصلوحي أزلي ، يعني قديم ، تعلق تنجيزي هذه عندهم في القدرة والإرادة وفي بعض الصفات يستعملون هذا التقسيم .
التعلق التنجيزي يعني تعلق الصفة بالأثر حال تنجيزه حال إنجازه ، حال إنفاذه ، مثلا : الإرادة ، الله جل وعلا أراد بَعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، نعم ، أراد إرساله ، من حيث الإرادة عندهم هذه من حيث - عند الأشاعرة - هي مرادة في القدم الله أرادها قديما ، لكن تعلقها من حيث القدم هل هو تعلق للإنفاذ أو تعلق من جهة العلم ، عندهم هنا يقولون تعلق صلوحي لأنها راجعة للعلم ، يعني صلحت لذلك ، صلح محمد عليه الصلاة والسلام للبَعثة لأن الله جل وعلا علم ذلك
- ظاهر -(1/190)
لكن التنجيزي ما حدث ذلك وأُنْجِز إلا بعد أن أمر الله جل وعلا جبريل عليه السلام أن يأمر محمدا عليه الصلاة والسلام بإنذار الناس ، التعلق الصلوحي اللي هو القديم والتنجيزي اللي هو لإنجاز الشيء وإنفاذه .
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } ، المعقبات هنا الملائكة الذين يتعاقبون على العبد لأن العبد موكَّل به ملائكة منهم ملائكة للكتابة - كتابة أعمالهم - ومنهم ملائكة لحفظه وهؤلاء الملائكة يقال لهم المعقبات ، وقوله هنا { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } قال بعض العلماء هم أربعة اثنين من بين يديه واثنين من خلفه { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } مِنْ ها هنا اختلف فيها المفسرون فقوله { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } بعضهم أجرى مِن على معناها الأصلي وقال إن معنى الآية يحفظونه وذلك الحفظ له مِن أمر الله ، - ظاهر -
مِن قالوا على معناها الأصلي ، وهؤلاء أيضا اختلفوا :
- فقال بعضهم من هنا على معناها الأصلي و يحفظونه قَدَرْ يحفظونه ، وحفظهم له من أمر الله ، حفظهم له ليس من جراء أنفسهم ولكن الله جل وعلا أمرهم بذلك ،هذا قول .(1/191)
- قال آخرون - اللي قالوا إن مِن معناها هو المعنى الأصلي - { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } كما قال ابن عباس وغيره قال فإذا أتى قدر الله خلّوا بين العبد وبين ما قدر الله ، يحفظونه من المرض فإذا أتى أمر الله - اللي هو الأمراض - أمر الله جل وعلا الكوني الذي ذكرت اللي هو وقوع الآفات أن يقع به حادث ، أن يعتدي عليه أحد ، فالملائكة تحفظه من ذلك الشيء ، تحفظ أن ينتقل له المرض ، هي تحفظ أن يصاب بهذا الشيء تحفظه من ذلك تحفظه { مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } يعني مما سيصيب العبد لو تركته الملائكة يعني الذي هو من أمر الله الذي يحدث في ملكوته ، فوجود الأمراض وجود الآفات وجود المصائب وجود ما ينغص على العبد هذه كلها وقعت بأمر الله الكوني ، صحيح ؟ الملائكة تحفظ العبد من هذه الأشياء التي هي من أمر الله . - ظاهر - هذا الذي أبقوا (من) على معناها .
وآخرون قالوا من هنا بمعنى الباء وقوله { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } يعني يحفظونه بأمر الله .
وهناك من يقول بالتضميم طبعا اللي هو الأصح وتكون هنا { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } بمعنى من الأصلية اللي هو يحفظونه وذلك الحفظ والحراسة من أمر الله جل وعلا وليس من فعل الملائكة وحدهم يعني من جهتهم دون أمر الله لهم .
هذا فيه بيان فضل الله جل وعلا على العبد ونحو ذلك .
والله أعلم ...
يقول بعض الناس إذا فعل شيئا غير صحيح أي غير موافق للشريعة قال هذا من مشيئة الله لأن الله أراد أن أكون كذا ، فماذا نرد عليه ؟
هو من جهة وقوع الذي حصل من المعصية لا شك أنه ما وقع إلا بمشيئة الله لكن مشيئة الله جل وعلا الكونية ما يحتج بها العبد فيما يُعابُ به .
ما يحصل للعبد نوعان مما يلام عليه :
- نوع من المصائب .
- ونوع آخر هو من المعايب .(1/192)
والاحتجاج بالمشيئة أو بالإرادة إرادة الله الكونية أو بالقدر يجوز أن يُحتج به في المصائب أما في المعايب فلا يجوز الاحتجاج به ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين في حديث احتجاج آدم وموسى أن آدم عليه السلام قال لموسى هل رأيت أن الله كتب عليّ هذا قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟
قال نعم .
قال فحج آدم موسى .
وجه كون آدم حج موسى أن هذه التي هي الإخراج من الجنة مصيبة أصيب بها آدم وأصيبت بها ذريته وموسى لام آدم على ما أصاب موسى وما أصاب ذرية آدم من جراء تلك المعصية التي هي جرّت تلك المصيبة ، فإذن هو يسألة عن المصيبة وحج آدم موسى لأنه احتج بالقدر على ما أصابه وهو إخراجه من الجنة .
بهذا القدر والإحالة على إرادة الله إذا كانت ثَم مصيبة على العبد فإنه يحيلها إلى القدر لأن هذا فيه نوع التسليم والرضا بقضاء الله جل وعلا .
أما إذا كانت من المعايب والآثام فلا يجوز أن يحيل إلى القدر لأنه له علاقة هو بما فعل لم يُصَب بذلك وإنما له علاقة بما فعل ألا وهو معصيته وعدم موافقته للإرادة الشرعية .
لهذا يقول علماء الحديث يُحْتَجُّ بالقدر في المصائب لا في المعايب ...
نسأل الله جل وعلا لنا ولكم التوفيق والسداد والهداية والاستقامة والثبات وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
إثبات محبة الله
ومودته لأوليائه
على ما يليق بجلاله(1/193)
وَقَوْلُهُ: { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [البقرة:195]، { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [الحجرات:9]، { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين } [التوبة:7]، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة:222]، وَقَوْلُهُ: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } [آل عمران:31]، وَقَوْلُهُ: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة:54]، وَقَوْلُهُ: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } [الصف:4].
وَقَوْلُهُ: { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } [البروج:14].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذه صلة لما سبق الكلام عليه من إثبات صفات لله جل وعلا وسياق النصوص التي تدل على ذلك من كتاب الله جل وعلا .
فلما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله الأدلة التي فيها إثبات صفة (الإرادة) لله جل وعلا و (الإرادة) من الناس من أثبتها وجعلها ملازمة للمحبة :
- فقال بعض الطوائف إن كل ما أراده الله جل وعلا فقد أحبه فجعلوا هناك تلازما بين (المحبة) و (الإرادة) فجعلوا كل مراد محبوبا مرضيا لله جل وعلا لهذا ساق شيخ الإسلام رحمه الله الأدلة التي فيها إثبات صفة (المحبة) لله جل وعلا .
وصفة (المحبة) لله جل وعلا من جملة الصفات التي يتصف الله جل وعلا بها .(1/194)
(ومحبته) جل وعلا لمن شاء من عباده هذه موافقة لأمره ونهيه فإنه جل وعلا يحب التوابين ، يحب المتطهرين ، يحب المقسطين ، يحب المتقين ، يحب المحسنين ، يحب المؤمنين ، وهؤلاء هم الذين امتثلوا أمره واجتنبوا نهيه ، فالمشركون ليس لهم من محبة الله جل وعلا نصيب .
والمؤمن الذي يخلط عملا صالحا وآخر سيئا هذا فيه خصلتان :
- خصلة تقتضي محبة الله جل وعلا له وتلك الخصلة هي الإيمان الذي معه .
- وخصلة تقتضي عدم محبة الله جل وعلا له وتقتضي بغضه وهذا لأجل ما معه من شعب الكفر وشعب المعصية .
لهذا يجتمع في المعين - يعني المؤمن - يجتمع فيه محبة من جهة وبغض من جهة أخرى .
لهذا يقول أهل السنة والجماعة إن محبة الله جل وعلا تتفاضل فيحب بعض الناس أعظم من محبته للبعض الآخر ، ومحبة الله جل وعلا لإبراهيم عليه السلام بل وللنبي محمد عليه الصلاة والسلام أعظم من محبته لسائر خلقه ولذلك جعل الله جل وعلا إبراهيم خليلا وكذلك جعل محمدا عليه الصلاة والسلام خليلا والخلة أعلى المحبة .
المقصود من هذا أن (المحبة) صفة قائمة بالله جل وعلا وهو جل وعلا يحب من امتثل أمره الشرعي وإرادته الشرعية ، أما من كان منساقا مع إرادته الكونية ولم يمتثل للمراد الشرعي فإن هذا ليس محبوبا لله جل وعلا .
فكل شيء في ملكوت الله منساق لمراد الله جل وعلا الكوني وما يقع في ملكوت الله من الكفر والظلم والمعصية ونحو ذلك هذا مُبغض لله جل وعلا وممقوت من الله جل وعلا .
فـ (المحبة) صفة قائمة به ، وفي النصوص جاءت صفة (المحبة) مع صفات أخر فيها معنى المحبة .
فالمحبة نوع فيه عدد من الصفات ، مثلا :
- (الخلة) نوع من المحبة وهي أعلى أنواع المحبة .
- (المودة) نوع من المحبة وهذان الوصفان جاءا في الكتاب والسنة فإن الله جل وعلا اتخذ ابراهيم خليلا والله جل وعلا يحب كما سمعت من النصوص وكذلك له صفة المودة جل وعلا فهو يود المؤمنين ، يود المحسنين ونحو ذلك .(1/195)
إذا تبين لك ذلك فمعتقد أهل السنة والجماعة أن صفة (المحبة) إثباتها لا يعني إثباتُ جميع مراتبها ، فإن المحبة مراتبها كثيرة فمن مراتبها وأنواعها ما جاء إثباته في النصوص ، ومن مراتبها وأنواعها ما لم يجئ إثباته في النصوص ، مثل ما ذكرت لك :
(الخلة) جاء إثباتها .
(المحبة) أثبتت .
(المودة) أثبتت .
لكن (العشق) مثلا (التتيم) (الهوى) (الصبابة) (العَلاقة) ونحو ذلك من مراتب المحبة هذه لم تُثْبت لله جل وعلا ولا يوصف الله جل وعلا بها ، فإذن مدار هذا الباب ، باب صفة (المحبة) لله جل وعلا على النص ولا يقاس شيء من مراتب المحبة على ما ذُكِرْ .
وهذا كما أنه من جهة الله جل وعلا فهو أيضا من جهة العبد ، فالله جل وعلا وصف عباده بأنهم يحبونه وأن من عباد الله من جعل الله جل وعلا خليلا له (لو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله) يعني نفسه عليه الصلاة والسلام .
فإذن الجهتان جهة محبة الله للعبد وجهة محبة العبد لله يوقف فيها على الوارد .
هذه هي طريقة أهل السنة .
وأما من خالف فمنهم من يقول بالقياس فيثبت في حق العبد كل أنواع المحبة ويتوجه بها العبد إلى الله فيقال (فلان عشيق الإله) (وقد عشق الله جل وعلا) أو (تتيم بربه) أو (هوي - فلان - ربه) يعني أحبه .
المقصود هذه المراتب التي لم تذكر في النصوص ، المتصوفة وبعض المبتدعة من غيرهم يثبتونها ويجيزونها في حق العبد قياسا على ما ورد .
وهي صفة من صفات الله جل وعلا والله جل وعلا جعل في قلوب عباده محبة له لكن لا يوصف الله جل وعلا إلا بما ورد فلا يقال (الله جل وعلا عشَق محمدا) على أساس أن النبي عليه الصلاة والسلام اتخذه الله خليلا .
يقولون (الخلة) أعظم ، ففي إثبات الأعظم إثبات الأدنى .(1/196)
هذا باطل لأن كما قرره الأئمة (العشق) مثلا فيه اعتداء من العاشق للمعشوق و هذا لا شك أنه ينزه عنه الله جل وعلا وكذلك ينزه عنه أولياؤه ، لأن من مراتب المحبة ما فيه اعتداء ، ومنه ما فيه إهمال مثل (العلاقة) :
عٌلِقتها عرضا وعُلِّقت رجلا ... غيري وعُلِّق أخرى ذلك الرجل
وعُلِّقتْه فتاة ما يحاولها ... من أهلها ميت يهذي بها وهِلُ
فيه نوع تجاهل ، وهذا كله الذي ذكرت يعني أن الإثبات في هذا الباب مداره النصوص ، والناس في هذه الصفة - قبل أن ندخل في معنى الآيات - الناس في هذه الصفة صفة (المحبة) لله جل وعلا على أصناف :
- فأول من أنكر هذه الصفة ، أو أول بدعة جاءت في الصفات هي إنكار صفة (المحبة) وذلك أن جعد بن درهم كان في مكة وأنكر أن الله جل وعلا يتخذ من الخلق محبوبين و أخِلاء فأنكر أن الله اتخذ إبراهيم خليلا وكذلك أنه لم يكلم موسى عليه السلام تكليما ، فضحى به خالد القسري أمير الأمير وكان ذلك في يوم الأضحى بعد سنة مئة وعشرين للهجرة تقريبا .
أخذ هذه المقالة عنه في نفي الصفات وخاصة صفة (المحبة) بأن الله جل وعلا لا يُحِبُ وكذلك لا يُحَب أخذها عنه الجهم بن صفوان الترمذي وأيضا كان مصيره مصيرَ شيخه في ذلك ، وضحى به أمير خراسان سلْم بن أحْوَذ جزاه الله جل وعلا عن ذلك خير الجزاء وقتله مرتدا لأنه نفى صفات الله جل وعلا .
ورث هذه الأقوال طوائف ، منهم من ورث كل مقالة جهم ومنهم من ورث بعضها وكان ممن حظي ببعضها المعتزلة ، وكان ممن أخذ أصولهم أيضا الأشاعرة وهكذا ما بين مقل ومستكثر وقد أجمع المسلمون على أن الرجلين قتلا لخروجهما من الدين .
وهل خروجهما من الدين مكفر أو غير مكفر ؟
عند أهل السنة أن الرجلين كافران (الجعد بن درهم والجهم بن صفوان) لأنهما أنكرا صفات الله جل وعلا الواردة الثابتة في النصوص .
هذا مذهب من ينكر محبة الله جل وعلا لعباده ، يعني لبعض عباده .(1/197)
كذلك ينكرون محبة العبد لربه فيقولون إن الله لا يُحِبُ ولا يُحَب ، وأخذ هذا أيضا أهل الاعتزال.
المعتزلة يقولون إن الله جل وعلا لا يُحِب ولا يُحَب .
إذا كان كذلك فكيف يفسرون الآيات والأحاديث التي فيها محبة الله لعبده ومحبة العبد لربه ؟
ما الجواب ؟ ..
كيف يفسرون ، يعني محبة الله لبعض عباده ومحبة العباد لله جل وعلا التي جاءت في النصوص مثل { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } كيف يفسر أولئك مثل هذه الآية ؟نعم
......
يفسرون الحب بالطاعة .
طيب ، وحب الله ؟
أصبت بعضا وأخطأت بعضا .
في قول آخر ؟
... ... .
هذا هو القسم الذي أصاب فيه ، إكرام الله جل وعلا لهم وإحسانه إليهم وإنعامه عليهم هذا الذي يفسرون به المحبة .
لكن محبة العبد لله يفسرونها بأنها محبة أمره ومحبة طاعته ، فإذن { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } عند المعتزلة وأهل التجهم { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } يحبهم يعني يحسن إليهم ويثيبهم وينعم عليهم ، و (يحبونه) أي يحبون طاعته ودينه والجهاد في سبيله .
فيجعلون المحبة ليست لله ولكن لأوامر الله ومحبة الله يجعلونها الإنعام ، أثر المحبة ، يفسرون المحبة بالأثر .
من الأقوال في هذا إثبات محبة العبد لربه وإنكار محبة الرب لعبده .
يعني تأويل محبة الله لبعض عباده وإثبات محبة العباد لله ، وهذا قول أكثر المنتسبين إلى الأشعرية أو كثير من المنتسبين للأشعرية فإنهم يثبتون هذا النوع ، يثبتون محبة العبد ولكن لا يثبتون محبة الله جل وعلا ، وذلك لأن المحبة صفة تقوم بمن اتصف بها ويقولون لا مانع أن يتصف العبد بذلك .
إذا تبين لك ذلك وظهر لك قول أهل السنة والجماعة فالأدلة على ما قرره أئمتنا رحمهم الله تعالى كثيرة في الكتاب والسنة ، شيخ الإسلام ذكر بضعا من الآيات منها قوله جل وعلا { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
قوله جل وعلا { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ }(1/198)
ذكرت لكم أن (إنَ) إذا أتت بعد أمر أو نهي أو خبر أنها تفيد التعليل .
والله جل وعلا أمر بالإحسان بقوله { وَأَحْسِنُوا } وعلل ذلك بأنه يحب المحسنين .
من المتقرر في الأصول أن حذف ما يتعلق بالفعل يفيد العموم .
الأصل أن يقال (أحسن إلى نفسك) (أحسن إلى والديك) (أحسن إلى أهلك) (أحسن إلى ذبيحتك) ونحو ذلك .
هنا الله جل وعلا أمر بالإحسان ولم يذكر الذي يتوجه إليه الإحسان
{ أَحْسِنُوا } نحسن إلى من ؟
هذا يفيد العموم .
{ أَحْسِنُوا } إلى من ؟
لم يذكر من يتوجه إليه الإحسان فذلك دليل على أنه مأمور بالإحسان لكل أحد ، فهذا فيه عموم ، طبعا إلا ما خصه الدليل من الكفار الذين أظهروا العداوة للمسلمين .
قال هنا { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } قوله { يُحِبُّ } هذا فيه الفعل المضارع ، والفعل المضارع ينحل كما سبق أن ذكرت لكم ينحل إلى مصدر و زمان الحاضر .
فقوله { يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } أفاد قوله { يُحِبُّ } وهو الفعل المضارع - خلوكم معي - أفاد قوله { يُحِبُّ } هو الفعل المضارع إثبات المحبة لأن الفعل المضارع يشتمل على مصدر - هذا واحد - .
(يحب) يعني له المحبة في الزمان الحاضر ، لأنه فعل مضارع (أحب يحب) وفيها إثبات أن محبة الله جل وعلا للمحسنين ليست قديمة وإنما هي حديثه وهذا من جنس كثير من الصفات التي يقال فيها قديم النوع حادث الآحاد .
فالله جل وعلا من صفاته أنه يحب والمحبة من صفات الله جل وعلا وتعلقها بمن أحبه تعلق حاضر ليس تعلقا قديما .
وهذا من فوائد قوله { يُحِبُّ } { يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
من فوائد الآية أيضا أن الله جل وعلا يحب من امتثل أمره .
والأمر هنا بالإحسان ، وكما هو معلوم الإحسان يتفاضل .
يعني فعل العبد في امتثال هذا الأمر اللي هو (أحسنوا) هل هو على مرتبة واحدة أم على مراتب ؟
من الناس من يأتي بالإحسان كله ومنهم من يأتي بأكثره ومن يأت ببعضه ، فالناس في امتثال الأمر يتفاوتون .(1/199)
وبناء عليه فإن المحبة تتفاوت لأن الله جل وعلا { يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } والمحسنون تتفاضل مراتبهم فينتج من ذلك تفاضل المحبة .
قوله جل وعلا { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
{ أَقْسِطُوا } يعني اعدلوا ، فـ (أقسط) اسم الفاعل منها (مقسِط) يعني عادل .
بخلاف قسَط الثلاثية فإن اسم الفاعل منها (قاسِط) وهؤلاء هم الظلمة (قَسَطَ) الثلاثي بمعنى ظلم وتعدى ، كما قال جل وعلا { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } .
أما (المقسِط) فهو من أسماء الله جل وعلا وهو (العادل) الذي له كمال العدل وهو أعظم من اسم العادل .
ولهذا ليس في أسماء الله (العادل) وإنما في أسماء الله جل وعلا (المقسط) .
من صفات الله جل وعلا أنه (الحَكَمُ العَدِلْ) والعدل - يعني أنه ذو العدل - والعدل اسم (المقسط) أعظم دلالة من (العدل) لأن الإقساط عدل وزيادة .
قال هنا { أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } مثل الكلام في الأولى في أن في فوائدها من حيث التعليل وأن { يُحِبُّ } في دلالتها على الصفة وعلى الزمان وكذلك على تفاضل هذه الصفة بتفاضل الامتثال لهذا الأمر .
ها هنا بحث يرد كثيرا وهو أن الله جل وعلا له صفات وله أسماء ويحب من العبد أن يكون فيه ما يناسبه من تلك الصفات .
مثلا في الحديث الذي رواه مسلم وغيره قال (إن الله جميل يحب الجمال)
في آخر الحديث المشهور قال في آخره (الرجل يحي أن يكون نعله حسنا وثوبه حسنا ، قال عليه الصلاة والسلام إن الله جميل يحب الجمال ،الكبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس) .
قوله (إن الله جميل يحب الجمال) والله جل وعلا (مقسط) ويحب (المقسطين) وهو جل وعلا (محسن) ويحب (المحسنين)
هذه مسألة وهي امتثال العبد لصفات الله جل وعلا وتأثره بذلك وإتيانه بها ، الناس فيها ما بين جافٍ وغالٍ ، وأما أهل السنة فإنهم أثبتوا ذلك على ما جاء في النصوص .
بيان ذلك :(1/200)
أن الصوفية والفلاسفة - يعني غلاة الصوفية والفلاسفة - يقولون إن الفلسفة هي التخلق بصفات الله على قدر الطاقة ، التخلق بصفات الله ، هكذا يجعلون الفلسفة اللي هي عندهم أعلى الحكمة ، عند الصوفية أن صفات الله جل وعلا تُمتثل وسواء في ذلك الصفات التي هي راجعة إلى الجمال أم الصفات التي هي راجعة إلى الجلال أم الصفات التي هي راجعة إلى الربوبية أم الصفات التي هي راجعة إلى الألوهية .
يقولون تمتثل ولذلك دخلوا في مسائل في الفناء إلى آخره يعني ليس هذا محل بيانه .
أهل السنة في هذا قالوا هذه المسألة ينظر إليها بمعرفة العبد لنفسه وبعلم العبد بربه جل وعلا فإن العبد إذا علم حق الله جل وعلا وعلم ما يستحقه جل وعلا من الصفات التي لا يشاركه فيها أحد وعلم الصفات التي أحب من عباده أن يتمثلوها في أنفسهم صار عنده الفرق ، وتارة يكون الفرق بالنظر إلى الدليل وتارة يكون الفرق بالنظر إلى علم العبد بصفات الله جل وعلا ، فمثلا ما ورد من الصفات نثبته ، نقول الله جل وعلا (محسن) وقد أثبت شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله تعالى في أسماء الله جل وعلا (المحسن) وقالوا الله جل وعلا هو المحسن ويحب المحسن من عباده
فهذا يثبت ، نقول يتمثل العبد بهذه الصفة ويتأثر بها ويفعل ما يستطيع من ذلك .
(الرحمة) الله جل وعلا (رحيم) ويفعل ذلك (الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) .
كذلك (الجمال) (إن الله جميل يحب الجمال) فإذا كان الجمال بما يوافق الشرع فإن الله جل وعلا يحبه من العبد .
فإذن قالوا مدار ذلك على ما جاء في النصوص ، فإذا كان في النص ما يدل على امتثال العبد لصفات الله ، يعني بمعنى تمثله بها وفعله ما يستطيع من ذلك بما يناسب عبوديته فإنه يفعل ذلك لدلالة النصوص على ذلك ، وهذا بحث واسع ربما يطول الكلام فيه لكن هذه خلاصة الكلام .(1/201)
قوله جل وعلا بعد ذلك { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين } .
فيها { مَا اسْتَقَامُوا } هذه (ما) شرطية يعني [ إن استقاموا لكم فاستقيموا لهم ] لكنها فيها شرط مع الزمان .
قال { فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } الشاهد منها الأخير وهو قوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين } وهذا فيه إثبات صفة المحبة وكما ذكرنا سالفا بأن المحبة تتفاضل لأن التقوى تتفاضل .
(التقوى) اسم جامع لطاعة الله واجتناب معصيته ، هذه هي التقوى ، (التقوى) اسم جامع لطاعة الله واجتناب معصيته ، وأصلها من (الاتقاء) اتقاء الشيء ، تقول (اتقيت الشيء بالشيء) إذا جعلت بينك وبينه وقاية ، والعرب تعرف ذلك كما قال شاعرهم :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
يعني النصيف ما يجعل على الوجه ، ما ينصف الوجه ، كانت عليها النصيف فلما سقط قال الشاعر (سقط النصيف) ومن عفافها أنها (لم ترد إسقاطه) قال :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... ... فتناولته - يعني يإحدى اليدين - واتقتنا باليد...... (1)
وتوقوا مخالفة الأمر هؤلاء هم المتقون ، ولذلك قلت لك إن أقوى التعاريف للمتقين أنهم هم الذين قامت بهم التقوى ، و(التقوى) اسم جامع لماذا ؟
اسم جامع لامتثال طاعة الله واجتناب نهي الله .
قال الله جل وعلا بعدها { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } التوابون جمع (التواب)
و (التواب) صيغة مبالغة من التائب ، تاب يتوب توبة وهو التائب
و (التائب) اسم فاعل التوبة أو اسم من قامت به التوبة
والمبالغة منه (التواب) وتاب بمعنى رجع من شيء إلى شيء ، مثل يعني قريب منه (ثاب) و (آب) ونحو ذلك.
من هم (التوابون) ؟
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(1/202)
التوابون هم الذين كثر منهم الرجوع من معصية الله إلى طاعته ومما لا يحبه الله جل وعلا إلى ما يحبه ومن غير الله إلى الله قلبا وجوارحا .
وهذا اسم من أسماء العباد الذين تحققت فيهم هذه الصفة .
والله جل وعلا هو (التواب) أيضا فإن من أسماء الله (التواب) أليس كذلك ؟
فما معنى (التواب) في أسماء الله ؟
......
(التواب) في أسماء الله ؟
التواب بمعنى يقبل التوبة كذا ؟
......
التواب ما هو ؟ يقبل التوبة ، ما الدليل ؟ يعني وين جبت هالكلام ؟
تواب ، تواب بمعنى يقبل ، أو من الآية { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } هذا المعنى صحيح أو ليس بصحيح ؟
هذا صحيح بنص الآية { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ } .
فإذن الله جل وعلا (التوا ب) بمعنى أنه يقبل التوبة .
هل من معنى آخر ؟
......
التواب في أسماء الله جل وعلا متعلق بالتائبين ، وتعلقه بالتائبين تعلقان .
أحد التعلقين قبل التوبة والآخر بعد التوبة .
فالله جل وعلا هو (التواب) فتعلقه بالتائب قبل أن يتوب ، هو (التواب) على التائب قبل أن يتوب بمعنى هو الذي وفقه وأعانه على أن يتوب .
فهو جل وعلا التواب الذي يوفق التائب إلى التوبة ولو كان العاصي لنفسه دون إعانة ولا توفيق من الله جل وعلا لم تحصل منه التوبة ، لأن أعداء الإنسان كثر والشياطين كثر يريدون أن يضلوه ، فالله جل وعلا تواب بمعنى وفق التائب إلى التوبة ، وأذن له بذلك ، هذا قبل وقوع التوبة .
وبعدها بعد وقوع التوبة ، الله جل وعلا (التواب) بمعنى أنه يقبل التوبة عن عباده ويحقق أثر القبول وهو الاعتداد بها يقبل التوبة ويحقق أثر القبول وهو الاعتداد بها .
ما أثر قبولها ؟(1/203)
أن تمحى عنه سيئاته (التوبة تجب ما قبلها) { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } أجمع المفسرون على أنها نزلت في التائبين .
إذن قوله تعالى هنا { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } هؤلاء هم العباد ،
ومن أسماء الله (التواب) وعرفت أن التواب في أسماء الله جل وعلا له جهتان ، جهة قبل وقوع التوبة من العبد وجهة بعد ذلك ، وكلها صحيحة دلت عليها الآيات .
قوله جل وعلا { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }
مثل ما سبق فيها دلالة على تفاضل محبته جل وعلا لهؤلاء ولهؤلاء لأن من الناس من يتوب من كثير من الذنوب لكن لا يتوب من بعض الذنوب فإذن محبته ليست كمحبة من يتوب من كل ذنب .
{ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } الذين تطهروا من أنواع النجاسات الحسية والمعنوية ، يعني صاروا أهل طهارة وهؤلاء أيضا يتفاضلون .
قال جل وعلا بعدها { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ }
{ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ } هذه نزلت في وفد نصارى نجران حيث زعموا أنهم يحبون الله ، فقال جل وعلا لمحمد عليه الصلاة والسلام ليخاطبهم بقوله { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } .
إن كنتم تزعمون أنكم تحبون الله فليس هذا هو الشأن ولكن الشأن أن يحبكم الله جل وعلا وسبيل محبة الله جل وعلا هو أن تتبعوا رسوله الخاتم محمدا عليه الصلاة والسلام .
لهذا قال من قال من السلف (ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب) أخذا من هذه الآية .
ليس الشأن أن تحب الله ليس الشأن أن تحب الإسلام ليس الشأن أن تحب الدين ليس الشأن أن تحب النصرة نصرة الله جل وعلا .
ولكن الشأن أن تُحَب ، يعني أن يحبك الله بأعمالك تلك كلها .(1/204)
وإذا نظرت فإن النصارى يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه لكن هل هم كذلك ؟
لا
هذه دعوى مجردة والبرهان الاتباع { فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه ُ } .
الخوارج في الفرق الإسلامية ، الخوارج يزعمون أنهم يحبون الله بل كانت عبادتهم تُحقَر معها عبادة الصحابة كما قال عليه الصلاة والسلام للصحابة في الحديث الذي في الصحيحين وغيرهما قال (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية أينما وجدتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم لمن قتلهم أجرا عند الله) ، لأنهم أهل صلاة عظيمة وأهل صيام عظيمين وهم يزعمون أنهم أهل محبة الله وهم في قلوبهم من محبة الله الشيء العظيم قلوبهم وجلة خائفة محبون لله لكنهم لما لم يتبعوا السنة ، لم يتبعوا طريقة الصحابة وخالفوا ذلك كانوا أهل وعيد وكانوا من المَرَقة من الدين ، نسأل الله جل وعلا العافية .
وهكذا كل طائفة من طوائف الضلال .
الصوفي الضال أو بعض أهل الابتداع من غيرهم من الفرق الكلامية تجد أن عنده خوف وخشية ودموع وخوف من الله جل وعلا ومحبة .
لكن ليس الشأن في أن الله جل وعلا يُحِبُ العبد أن يُحِبَ العبدُ اللهَ .
كما قال من قال من السلف (ليس الشأن أن تحب لكن الشأن أن تُحَب) .
المسألة العظيمة ليست أن تحب أنت إنما المسألة العظيمة أن تسعى في محبة الله جل وعلا لك وهذا إنما يكون عن طريق واحد وهو اتباع النبي عليه الصلاة والسلام ظاهرا وباطنا وسواء في ذلك سلوك الفرد في نفسه أم سلوكه في غيره .
فهذه مسألة عظيمة وهي مسألة المحبة ، محبة العبد لربه ومحبة الرب لعبده .
وقد كتب شيخ الإسلام في ذلك قاعدة اسمها (قاعدة في المحبة) طبعت ضمن مجموع الرسائل ثم انتزعت مستقلة وهي رسالة نفيسة في هذا الأمر في محبة العبد لربه ومحبة الرب جل وعلا لعبده وابن القيم رحمه الله كتب كتابا عظيما في ذلك وهو كتاب (روضة المحبين) وفصَل فيها هذه المسألة تفصيلا جيدا .(1/205)
في آخر الآيات التي ذكرها قال { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }
ذكرنا معناها
قال في آخرها { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ }
{ الْوَدُودُ } هذا من أسماء الله جل وعلا .
قبلها آية الصف { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ }
{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ } يحبهم محبة قائمة به صفة من صفاته التي اتصف بها جل وعلا حين قاتلوا ، هو متصف بالمحبة في الأزل ، لم يزل الله جل وعلا متصفا بذلك لكن تعلق المحبة بالمقاتلين حين قاتلوا ، ليست محبة أزلية قديمة ، وتتعلق بالحادثات فيما بعد ليست كذلك وإنما هي محبة تتعلق بما يحصل من ما يحب الله جل وعلا .
فإذا تطهر العبد أحبه الله ، المجاهد يحبه الله المقاتل في سبيله { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ } حالة كونهم على تلك الحال يحبهم الله جل وعلا وهذا هو ما يقرره أهل السنة في ذلك .
{ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ }
الْوَدُودُ في أسماء الله جل وعلا الحسنى له معنيان ، وأصله من اتصف بالمودة أو التودد .
و { الْوَدُودُ } فعول ، وفعول في اللغة يعني في اللسان العربي تارة تكون بمعنى فاعل ، وتارة تكون بمعنى مفعول .
يعني (مودود) فالْوَدُودُ في أسماء الله لها معنيان :
(وَدُودُ) فعول بمعنى فاعل يعني (وادّ) ، يعني محب .
(وَدُودُ) فعول بمعنى مفعول يعني (مودود) .
فإذن في هذا الاسم إثبات أنه يُحِب ويُحَب جل وعلا ، يَوَد ويُوَد جل وعلا .
{ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } يعني الذي يحب ويُحَب ويَوَد ويُوَد جل وعلا .
كيف لا وآلاؤه وإنعامه وفضله على عباده يرونه أمامهم في كل لحظة { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } سبحانه وتعالى .(1/206)
بهذا يكمل الكلام عن هذه الصفة صفة المحبة والمقدمة التي قدمت لك بها هي في المذاهب في ذلك والأقوال مهمة في هذا الموضوع .
....
هل يجوز للمرء أن يتخذ خليلا وهل لذلك شروط وضوابط ؟
نعم ، المرء له أن يتخذ خليلا لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال (لو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله) فهو عليه الصلاة والسلام منعه من جعْل أبي بكر خليلا له أنه مشغول بخلة الله جل وعلا ، وهذا يدل على أنه من لم يكن على هذه الصفة فإنه يجوز له أن يتخذ أخلاء .
وأبو هريرة رضي الله عنه بل الصحابة جميعا خليلهم هو النبي عليه الصلاة والسلام .
يقول أبو هريرة (أوصاني خليلي) والخليل هو الذي له المحبة العظيمة الذي تخللت محبته القلب والروح ، وقد قال جل وعلا { الْأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ }
فهناك من هو من المتقين ويكون له خليل وخلته مع خليله على خير لأنها في طاعة الله وفي تقوى الله
......
يقول قال تعالى { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } قالوا في هذه الآية الرد على الجبرية والقدرية وكذلك فيها التعليل والحكمة أرجو التوضيح .
هذا من كلام ابن القيم رحمه الله وقد نقله بعض الشراح .
هذه الآية { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } نعم فيها الرد على الجبرية والقدرية وكذلك فيها التعليل والحكمة .
أما الرد على الجبرية فإنه أمر بالإحسان والجبرية يقولون العبد يفعل الشيء مجبورا عليه ، والمجبور على الشيء لا يؤمر به .
كذلك فيها الرد على القدرية ، القدرية الذين ينفون القدر - يعني القدرية النفاة - الذين ينفون القدر إما جميع مراتبه أو بعض مراتبه ووجه ذلك أنه أمر أيضا بقوله { وَأَحْسِنُوا } ووجه الاستدلال أن الامتثال لهذا الأمر يكون حادثا والله جل وعلا يحب المحسنين ...
انتهى الشريط السابع من - شرح العقيدة الواسطية -(1/207)
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثامن
كذلك فيها الرد على القدرية ، القدرية الذين ينفون القدر - يعني القدرية النفاة - الذين ينفون القدر إما جميع مراتبه أو بعض مراتبه .
ووجه ذلك أنه أمر أيضا بقوله { وَأَحْسِنُوا } ووجه الاستدلال أن الامتثال لهذا الأمر يكون حادثا والله جل وعلا يحب المحسنين ، وقوله { يُحِبُّ } فيها إثبات صفة (المحبة) لهؤلاء الذين تحققوا بالإحسان ، وهو جل وعلا يحبهم قدرا ، كتب محبتهم لما سيفعلونه وهو يحبهم إذا فعلوا أيضا.
كذلك فيها التعليل والحكمة ، التعليل في قوله { إِنَّ } ، { وَأَحْسِنُوا إِنَّ } مجيء (إن) بعد الأمر هذا فيه التعليل والحكمة في ذلك أيضا ، يعني التعليل والحكمة متصلان .
هل ثبت عن شيخ الإسلام ابن تيمية القول بفناء النار وكذلك ابن القيم ؟
هذه مسألة طويلة جداً ، كثير من الناس يخوضون فيها وهو لا يعقلونها .
هذه مسألة عظيمة كما ذكر شيخ الإسلام .
يقول ابن القيم سألته عن هذه المسألة قال فالتفت إلي وقال : هذه مسألة عظيمة ، وسكت شيخ الإسلام .
والناس ما يعقلونها ، وقد كتبت فيها كتابات متنوعة لكن تدل على عدم عقل هذه المسألة ، وأكثر الناس لا يعون معنى كلام شيخ الإسلام .
كلام شيخ الإسلام من العجب أنهم يأتون يردون عليه بقول الله جل وعلا { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } ومن المعقول أنهم إذا استحضروا هذه الآية في الرد على شيخ الإسلام أن لا يظنوا بشيخ الإسلام رحمه الله أنه يجهل هذه الآية .
شيخ الإسلام لا يجهل هذه الآية ، ودلالة الآية على مكانها ودلالتها اللغوية أيضا على مكانها .
شيخ الإسلام يفهم هذه المسألة بفهم بعيد عن ما دندن حوله كثير ممن كتب في هذه المسألة لكن الله المستعان ، وهي من المسائل التي لا يحسن الخوض فيها .(1/208)
لكن طريقة أهل السنة والجماعة في ذلك أنهم يثبتون أن الجنة والنار مخلوقتان لا تبيدان ولا تفنيان .
الجنة مخلوقة الآن والنار مخلوقة لا تفنيان ولا تبيدان .
أهل الجنة إذا دخلوا فيها خلود فلا موت وأهل النار إذا دخلوا فيها خلود ولا موت ، وأما كلام شيخ الإسلام ومقاصده بكلامه فذاك له بحث آخر .
ما القول الصحيح في مؤولي الصفات وفي منكري الصفات هل يحكم بكفرهم أم بفسقهم وما موقف المسلم منهم ؟
مؤولو الصفات يختلفون عن المنكرين للصفات فهما صنفان :
- أما المنكرون للصفات إذا أنكر جميع الصفات هذا كافر ، مثل الجهمية ومن شابههم ، إذا أنكر جميع الصفات قال إن الله لا يتصف بصفة هذا كافر بإجماع الأمة , أما إذا كان ينكر بعض الصفات مثل المعتزلة فهذا فيه نظر : هل الصفة مما يتضح دليلها أم مما يحتاج دليلها إلى إيضاح ، بعض الصفات دليلها واضح بيِن مثل رؤية الله جل وعلا مثل كلام الله جل وعلا ونحو ذلك هذه دليلها بين واضح ، كُرِّر في القرآن كثيرا ونُوِّعت الأدلة على ذلك فإنكار ذلك هو إنكار للواضح ، وإنكار الواضحات لا يحتاج فيه المرء إلى إقامة الحجة إلا في حال من عنده شبهة معينة في ذلك فتزال مثل حال المأمون ونحو ذلك فإن أئمة الحديث رحمهم الله لم يحكموا بكفره وذلك لأجل الشبهة التي قامت عنده وما اتسع الزمان لمن يقيم عليه الحجة إقامة بينة واضحة ، لأنه توفي ولم يصل إليه أحد من أئمة السنة وإنما وصلوا لمن بعده من الولاة .(1/209)
- أما مأولوا الصفات مثل الأشاعرة والماتريدية ونحو ذلك اللي يسمون الصفاتية يثبتون سبع صفات أو عشرين صفة فهؤلاء لا يحكم بكفرهم وإنما هم من المبتدعة الضُلال الذين عندهم فسق بما خالفوا فيه النص لأن الفسق يكون [ بعدم امتثال الأمر أو عدم اعتقاد الخبر ] فإن الله جل وعلا إذا أخبر بخبر فإن اعتقاده واجب ، كذلك إذا أمر بأمر فإن امتثاله واجب فإذا لم يُمتَثَل الأمر الذي هو من الواجبات ولا عذر لأحد في تركه فإن تركه فسق ، كذلك عدم اعتقاد الخبر فإنه فسق ، وأولئك الذين أوّلوا لم يعتقدوا ما دلت عليه النصوص فهم مبتدعة بالتأويل و فسقة لأجل عدم اعتقادهم ، وأما تكفيرهم فلم يحكم أحد من أهل السنة على الأشاعرة بالكفر وإنما يحكمون عليهم بالبدعة قد تكون مغلظة وقد تكون دون ذلك بحسب حال المؤولين .
وهم درجات ، الأشاعرة درجات منهم أشاعرة أهل الحديث مثل (الخطابي) و (البيهقي) ونحو ذلك فهؤلاء أهل الحديث يعني أهل الرواية مثل ما قسمهم شيخ الإسلام في الاستقامة ، أشاعرة رواة الأحاديث أو حفاظ الأحاديث أو أهل الحديث بهذا المعنى وإلا فأهل الحديث هم [ الذين يعتقدون ما اعتقده أئمة الحديث والأثر في صدر الإسلام وما اعتقده لصحابة ومن بعدهم ] هؤلاء الطبقة هم أخفهم مثل (البيهقي) و (الخطابي) ونحوهم .
هناك طبقة ممن أخذوا ببعض الحديث ولكن لم يفقهوه وعندهم نصيب من الكلام وهؤلاء أخف منهم .
وأدنى درجاتهم يعني أعظم الأشاعرة غلظة وبدعة هم المتكلمون مثل الرازي والآمدي وعضد الدين الإيجي صاحب المواقف ونحو ذلك من أئمتهم .
هل لكم ملاحظات على كتاب روضة المحبين ؟
هذا له مجال آخر ، روضة المحبين بعض الناس يستغرب يقول ابن القيم ذكر فيه أخبار المحبين اللي أحب الجواري واللي أحب ما أحب من الدنيا واللي أحب زوجته وأشعار وأخبار ويقول ويستغرب لماذا يذكر ابن القيم هذا الكلام ؟
هو ذكره لقصد .(1/210)
ابن القيم يقول هؤلاء تعلقت قلوبهم بمحبوبيهم لِما ظهر لهم من أثر محبوبهم عليهم إما أن يشرح صدره وإما أنه تلتذ له عينه إذا رآه وإما أنه يلتذ له بدنه إذا رآه أو إذا خالطه يلتذ سمعه لما سمع ونحو ذلك .
فأسباب المحبة فيمن أحب أحدا في الدنيا تكون ببعض هذه الأنواع .
وإذا كانت كذلك فهي على ضآلتها وعلى حقارتها في محبة بعض أهل الدنيا للدنيا هي لا تساوي شيئا في جنب محبة المتقين لربهم جل وعلا ، لأنهم رأوا من الآثار ومن صفاته ومن آثار صفاته في خلقه ورأوا وعلموا من شرعه ما يوجب محبتهم له جل وعلا وإذا كان أولئك أحبوا أحبتهم وتناشدوا فيهم الأشعار وأطاع من أطاع :إن المحب لمن يحب مطيع
لأجل ما قام في نفوسهم من المحبة فكيف ينبغي أن يكون عليه حال من علم حق الله جل وعلا وعلم آثار صفات الله جل وعلا في ملكوته وعلم شرع الله جل وعلا وحكمته البالغة ونعمه المتواترة المتتابعة كيف ينبغي أن يكون عليه في باب محبة الله ؟
فإذن ما ذكره هو من باب التمثيل الذي هو للتحقير ، هذه محبة هؤلاء كيف فنوا في محبوبيهم فكيف حال من يحب ربه جل وعلا ، فلا تعجل في الانتقاد حتى تعرف مقاصد أهل العلم بكلامهم
هل لأحد أن يتسمى باسم محسن ؟
نعم ، محسن من جنس الأسماء التي يشترك فيها المخلوق مع الخالق جل وعلا ، فالله جل وعلا هو الملك وسمى بعض خلقه بملك ، والله جل وعلا هو السميع وسمى الإنسان بأنه سميع بصير والله جل وعلا هو الرؤوف الرحيم وسمى نبيه بذلك وهكذا المحسن والمقسط وأمثال ذلك .
أسأل الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
ذكر رضى الله
وغضبه وسخطه وكراهيته
وأنه متصف بذلك
قَوْلُهُ: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } (1) ،
__________
(1)(1/211)
{ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [النساء:93]، وَقَولُهُ: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } [محمد:28]، { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الزخرف:55]، وَقَوْلُهُ: { وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } [التوبة:46]، وَقَوْلُهُ: { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [الصف:3].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين ، أما بعد :
فهذه الآيات فيها إثبات جملة من الصفات الاختيارية .
وذكر المؤلف رحمه الله ما يدل على إثبات صفة (الرضا) وإثبات صفة (الغضب) وإثبات صفة (السخط) وإثبات صفة (الكراهية) وإثبات صفة (المقت) لله جل وعلا ، فالله سبحانه وتعالى يغضب ويرضى لا كأحد من الورى ، وهو جل وعلا في غضبه ورضاه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } .
كذلك كراهية الله جل وعلا وسخطه وبغضه ومقته وأسفه كل هذا يليق بجلاله وعظمته .
وأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات جميعا لأنها قد جاءت في الآيات والأحاديث في مواضع كثيرة .
ونُوِّع إثباتها بتنوع الدلالات عليها تارة بالفعل الماضي وتارة بالفعل المضارع وتارة بالمصدر ونحو ذلك من الدلالات .
فإذن هذه الصفات الاختيارية هي ثابتة لله جل وعلا كما أثبتها لنفسه وكما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم .(1/212)
ونعني بقولنا الصفات الاختيارية أي [ التي تقوم بذات الله جل وعلا بمشيئته جل وعلا وقدرته ] .
وهذه الصفات مما حصل فيها النزاع قديما .
وأول من أحدث هذا القول بأن الصفات الاختيارية لا تثبت لله جل وعلا وإنما تُأوّل هم (الكلابية) ، وقبل ذلك قبلهم الجهمية .
والمعتزلة يقولون هذه الصفات هي مخلوقات منفصلة مثل ما قال المعتزلة أن كلام الله مخلوق كذلك قالوا في هذه الصفات التي تقوم بمشيئة الله يقولون هي مخلوقات منفصلة ، فـ (الغضب) عندهم مخلوق منفصل ويجعلون الغضب هو أثر الغضب وكذلك (الرضا) يجعلونه مخلوقا منفصلا يقولون مجاز عن النعمة أو مجاز عن الإنعام أو الإحسان أو نحو ذلك ، يعني أن هذه تفسر عندهم بالمخلوقات المنفصلة .
فرام ابن كلاب أن يأتي بقول يرد به قول أولئك ويثبت به ما دل الكتاب والسنة على إثباته فأخذ طريقة وسطا فقال هذه الصفات الاختيارية لا تقوم بذات الله جل وعلا بمشيئته وقدرته وإنما هي صفات قديمة .
فعنده (الغضب) قديم و (الرضا) قديم و (الكراهية) قديمة ومع ذلك فإنه يؤول .
يقول هذه مردها إلى صفة (الإرادة) ويقولون مثل ما يقول الأشاعرة والماتريدية يقولون (الغضب) إرادة الانتقام (والرضا) إرادة الإحسان ونحو ذلك ، فيرجعون الصفة القديمة إلى (الإرادة) .
فإذن الأشاعرة والماتريدية خالفوا أهل السنة والجماعة في هذا الباب في كون :
- أولا الصفة قديمة وليست قائمة بذات الله بمشيئته واختياره .
- ثانيا قالوا الصفة لا تليق بالله ولهذا يؤولونها بالإرادة وسيأتي بيان ذلك .
إذن فتحصل لك أن أولئك المخالفون للكتاب والسنة على مذاهب شتى في هذه الصفات الاختيارية ، وأهل السنة والجماعة يثبتون ما دلت عليه النصوص من إثبات صفة (الغضب) و (الرضا) .(1/213)
قال جل وعلا { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } وقال جل وعلا { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } وتلحظ هنا من قوله { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } أن زمن (الرضا) هو وقت المبايعة قال جل وعلا { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ } يعني حين يبايعونك ، و (إِذْ) ظرف زمان وظرف الزمان ينصب بالواقع فيه كما قال ابن مالك في الألفية قال :
فانصبه بالواقع فيه مُظهَرا ... كان أو انْوِهِ مُقَدَرا
وما وقع في هذا الزمن هو (رضا) الله جل وعلا { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } هذا ظاهر في أن (الرضا) حصل في وقت المبايعة أو بالمبايعة ، وهذا يعني أن (الرضا) لم يكن قديما وإنما كان (الرضا) مع المبايعة .
وكذلك قال الله جل وعلا في آية النساء التي ذكرها الشيخ { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } فيها إثبات صفة (الغضب) لله جل وعلا .
وهذه الآية فيها إثبات صفة (الغضب) وفيها أن (الغضب) رُتِّب على القتل ، قال { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَـ } فأوله شرط وما بعد الفاء هو جزاء الشرط قال { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } هذا أول الجزاء { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } فإذن وقوع (الغضب) بعد القتل وكذلك وقوع اللعنة بعد القتل كما أن جهنم كانت جزاء له بعد أن ارتكب تلك الكبيرة .
وهكذا ترى أن النصوص دلت على إثبات هذه الصفات الاختيارية بأنواع من الدلالات ، وفي هذه النصوص إثبات تلك الصفات وفيها أن الصفة قائمة بذات الله جل وعلا بمشيئته وقدرته .(1/214)
ما معنى أنها قائمة بذات الله بمشيئته وقدرته ؟
يعني أنه جل وعلا غضب على المعين بعد أن لم يكن غاضبا عليه ، رضي عليه بعد أن لم يكن راضيا عنه ، ودلالات الكتاب فيما ذكرت لك ظاهرة .
كذلك من السنة بل أيضا من القرآن دليل واضح على ذلك في صفة (الغضب) قال جل وعلا في سورة طه { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } .
فقوله { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي } يدل على أن (الغضب) حل .
وأولئك يقولون هو قديم والله جل وعلا قال { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } فإذن دلت الآية على أن (الغضب) يحل بعد أن لم يكن حالا.
وهذا أيضا جاء مبينا في السنة في نصوص كثيرة فيها إثبات هذه الصفات .
وفيها أنه قائمة بذات الله بمشيئته وقدرته يتصف الله جل وعلا بها متى شاء كيف شاء جل ربنا وتعالى وتعاظم وتقدس.
في الحديث الذي في الصحيحين في بيان حال أهل الجنة أن الله جل وعلا قال - يعني في حديث فيه طول - قال الله جل وعلا لأهل الجنة قال (أحل عليكم رضواني) يعني ثواب لأهل الجنة ، قال (هل تريدون شيئا ؟) قالوا قد أعطيتنا وأعطيتنا قال (بقي شيء أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا) الشاهد منها قوله جل وعلا في هذا الحديث (أحل عليكم رضواني) يعني أن (الرضوان) حل عليهم ، وقال بعدها (فلا أسخط عليكم بعده أبدا) كذلك (السخط) يكون في وقت دون وقت .
هذا أيضا كما جاء في الحديث الآخر ، في حديث الشفاعة المعروف الذي رواه مسلم وغيره ، قال عليه الصلاة والسلام في سياق ما يحصل في عرصات القيامة قال (إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) .(1/215)
قال (غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فإذن دل على أن غضب الله جل وعلا الذي صار وكان في عرصات القيامة أنه لم يكن مسبوقا بمثله ولن يكون ملحوقا بمثله ، فإذن هذه صفة اتصف الله جل وعلا بها متى شاء .
وهذه الأصول مبينة واضحة جدا بحمد الله وتوفيقه .
إذا تبين لك ذلك فإذن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن ما وصف الله جل وعلا به نفسه فإنه يوصف به جل وعلا سواء أكان ذلك من الصفات الذاتية أم من الصفات الفعلية ، وكذلك إذا كان من الصفات اللازمة أم من الصفات الاختيارية .
وقول الجهمية والمعتزلة في تفسير تلك الصفات بأنها مخلوقات منفصلة هذا باطل لأن في هذا نفي للصفة والله جل وعلا أثبت لنفسه تلك الصفات .
ثم إن بسبب نفيهم لتلك الصفات أن الجهمية الذين أصلوا أصول البدع في نفي الصفات وتأويلها وجحدها وتحريفها أولئك أصلوا أصلاً ألا وهو أن الله جل وعلا ليس بمتصف إلا بصفة واحدة ألا وهي صفة الوجود .
هذا قول الجهمية ، والصفات الأخرى يقولون هذه إذا أثبتت لزم منها حلول الأعراض في من اتصف بها .
وإذا قيل بجواز حلول الأعراض في من اتصف بها لزم منه أن يكون من حلت به جسماً وهذا باطل.
فقدموا لهذا بمقدمة باطلة فنتج عنها نتائج باطلة ثم أولوا النصوص .
وهذا أصل عند الجهمية وهو الذي به انحرف المعتزلة وانحرف الكلابية وانحرف الأشعرية والماتريدية وكل فرق الضلال في باب الصفات .
ما هذا الأصل ؟
هو ما يسميه أهل العلم بـ (حلول الأعراض) ولا بأس أن نعرِّجَ عليه بقليل من الإيضاح لأن فهمه يُفْهِمُك لماذا نفى الجهمية الصفات ؟
يُفْهِمُك لماذا نفى المعتزلة الصفات ؟
يُفْهِمُك لماذا نفى الكلابية والأشعرية والماتريدية الصفات، لماذا نفوها ؟
نفوها لهذا الأصل ألا وهو القول بأن إثبات وجود الله جل وعلا لا يكون إلا عن طريق دليل حدوث الأعراض .
ما هذا الدليل ؟(1/216)
هذا أصلاً الجهمية ، تعرفون قصة جهم بن صفوان فإنه تحير هو في ربه جل وعلا لما قال له طائفة من السومانية - من أهل الهند التناسخية الذين لا يقولون بإله ولا برب خالق ولا بمعبود لهم - قالوا له أثبت لنا أن هذه الأشياء مخلوقة وأن لها خالقا .
فتتفكر مدة من الزمن - جهم - ثم أخرج هذا الدليل العقلي .
طبعا أولئك لا يقرون بالقرآن فاضطر إلى أن يحتج عليهم بهذا الدليل العقلي .
ما هذا الدليل العقلي الذي قال به جهم ؟
قال لدينا أعراض لا يمكن أن تقوم بنفسها ، يعني لا يمكن أن نراها ليس لها هيئة .
ما هذه الأعراض ؟
قال مثل اللون مثل الحرارة مثل البرودة
هذه أشياء ترى ؟
ما ترى .
مثل الحركة ، الحركة ترى ؟
يعني من حيث هي حركة ، المشي من حيث هو هل يرى ؟
الارتفاع ارتفاع الشيء علوه أو هبوطه هل يرى ؟ يعني هل ثَم شيء اسمه علو تراه مجسما ؟
هل ثَم شيء اسمه مشي تراه وحده مثل ما ترى البناء ، ترى جبل صحيح ، لكن ما يمكن أن ترى شيء اسمه مشي ، لأن المشي هذا ايش ؟ صفة ، مثل الحرارة مثل البرودة مثل الارتفاع مثل النزول إلى آخره .
يعني أن المعاني هذه سماها أعراضا وقال هذه المعاني لا يمكن أن تقوم بنفسها - يخاطب أولئك الضالين يخاطب السومانية - قال هذه المعاني لا يمكن أن تقوم بنفسها صحيح ؟
قالوا صحيح .
قال لهم إذن إذا حلت بشيء فهذا الشيء إذن احتاج لغيره .
فليس ثَم جسم إلا وفيه أعراض .
لا يقوم الجسم إلا بالأعراض أليس كذلك ؟
ليس ثَمَ جسم ليس فيه حرارة ولا برودة ولا يوصف بهذه الأوصاف اللي هي المعاني أليس كذلك ؟
قال لهم الجسم إذن هذا حلت فيه الأعراض معناه أن الجسم محتاج إلى هذه الأشياء .
قالوا صحيح .
قال ما دام أن الجسم محتاج فإذن ليس مستقلا بإيجاد نفسه .
لأن المحتاج إلى غيره في بعض وجوده أن يكون محتاجا إلى غيره في أصل الوجود أولى .(1/217)
يعني لو كان هو أوجد نفسه لو هذه الأشياء أوجدت نفسها لكان يمكن أن تستغني عن هذه الأعراض ، أليس كذلك؟
فإذن قال إثبات هذه الأجسام وأنها لا يمكن أن توجد بنفسها كان عن طريق إثبات حلول الأعراض فيها
والأعراض لا يمكن أن تقوم .
فكذلك الأجسام لا يمكن أن تقوم بنفسها .
إذن فالجسم محتاج إلى غيره في وجوده .
استقام الكلام الآن ؟
قال إذن فلا بد من موجد له .
قالوا سلّمنا ، صحيح .
فإذن أثبت لهم أن الأشياء لا بد لها من موجد .
قال لهم هذا الموجد هو الله ، هذا الموجد هو الرب هو الخالق الذي أوجد هذه الأشياء من العدم ، سلموا بوجود الله جل وعلا .
لما سلموا قالوا إذن صف لنا هذا الرب .
فلما أتى يريد الوصف نظر في الأوصاف التي في القرآن فكلما أراد أن يصف بوصف وجد أن إثبات هذا الوصف ينقض الدليل ، الدليل الذي أقامه ولم يجد غيره على وجود الله جل وعلا .
إذا أثبت أن الله جل وعلا متصف بالصفات الصفات الذاتية مثل اليدين مثل الوجه إلى آخره ، هل هذه تقوم بنفسها ؟
يقولون هذه لا تقوم بنفسها فإذن من حلت به جسم مثل الأجسام .
فإذن هو محتاج إلى غيره .
فكذلك الصفات هذه مثل الغضب والرضا والعلو ونحو ذلك من الصفات من باب أولى .
هذه النظرية أو هذا الأصل الذي وضعه جهم - عامله الله جل وعلا بما يستحق - هذا الأصل أضل الأمة .
كل من أتوا بعده قالوا لا يوجد دليل لإثبات وجود الله لمن لا يؤمن بالله لم لا يؤمن بكتاب ولا بسنة ولا برسالات إلا بهذا الدليل اللي هو دليل حدوث الأعراض حلول الأعراض في الأجسام .
وإذا كان كذلك ، فكل ما ينقض هذا الدليل لا بد من نفيه أو تأويله .
فأصّل هذا وقال جهم ليس لله صفة إلا صفة واحدة هي الوجود المطلق ، الوجود المطلق .
الجود المطلق طبعا ما دام أنه خالق لا بد أن يكون موجودا ، فقال وجود مطلق .
طيب يا جهم هذه الصفات التي في الكتاب والسنة ماذا تقول فيها ؟(1/218)
قال هذه كلها مخلوقات منفصلة الله هو السميع ، قال السميع يعني المسموعات ، البصير يعني المبصرات ، طيب ، وهكذا في كل الصفات سواء الذاتية أو الفعلية أو الاختيارية كلها أولها بمخلوقات منفصلة .
أتى المعتزلة بعده وقالوا هناك صفات عقلية .
الدليل الذي أقامه جهم قالوا صحيح ، انتبه ، الدليل الذي أقامه جهم قالوا صحيح .
إذا كان صحيحا قالوا هو دليل عقلي والعقل الصحيح لا يطعن في العقل الصحيح .
العقل الصحيح لا يطعن في العقل الصحيح ، أو العقل الصريح لا يطعن في العقل الصريح .
ماذا تريدون أيها المعتزلة ؟
قالوا نريد أن نقول أنه ثَم صفات عقلية دل عليها العقل أنه لا بد أن يكون الخالق متصفا بها
فأثبتوا ثلاث صفات دل عليها العقل .
أتي الكلابية أتباع عبدالله بن سعيد بن كلاب ، عبدالله بن سعيد بن كلاب نفسه وأتباعه
وكانوا لهم ميل إلى أهل الحديث لكنهم وجدوا أن أهل الحديث لم يقيموا دليلا عقليا على وجود الله ، والسلف لم يقيموا دليلا عقليا .
فأخذوا بطريقة خلطوا فيها كما يزعمون طريقة الجهمية وطريقة أهل الحديث .
فأثبتوا مع التأويل .
أثبتوا ماذا ؟
أثبتوا صفات عقلية سبع .
مثل ما قال المعتزلة العقل الصريح لا يناقض العقل الصريح قالوا هي ليست ثلاث صفات هي سبع.
وتبعهم على ذلك الأشعرية .
الماتريدية زادوا على ذلك بصفة ثامنة هي صفة (التكوين) قالوا هي ثمان صفات ليست بسبع كلها صفات عقلية .
المقصود من هذا أن تفهم حينما يقول لك أحد من أئمة السلف فلان ولو كان أشعريا فلان جهمي لماذا ؟
تقول كيف ؟
تستعظم ، بعض الناس يستعظم ، يقولون لماذا يقولون عن فلان اللي أول صفة هذا جهمي ؟
لأنه ما أوَلَ إلا بأصل الجهمية ، ما أوَلَ الصفات إلا وقد رضي أصل الجهمية الذي من أجله أوَلَ .
فإذن هو تبعهم في تأصيل ما يُثْبَت أو ما يُنْفَى من صفات الله جل وعلا ، من حيث التأصيل .
نعم خالفوهم في البعض لكن من حيث التأصيل رضوا بتلك الطريقة .(1/219)
هذه الصفات التي معنا في هذا الدرس اليوم صفة (الغضب) و (الرضا) وصفة (الكراهية) و (المقت) و (الأسف) و (البغض) من الله جل وعلا كل هذه الصفات الاختيارية يسمونها أعراضا .
ويقولون لا يجوز القول بأن الله متصف بها لأن معنى ذلك حلول الأعراض فيه جل وعلا أو تارة يقولون حلول الحوادث فيه جل وعلا ومعنى ذلك أنه جسم إلى آخره .
فيمنعونها يقولون لأنه يقتضي أنه محل للحوادث .
طيب إذا صار محلا للحوادث وش يصير يا أشاعرة أو يا ماتريدية أو يا كلابية ؟
قالوا إذا صار محل الحوادث معناه أنه جسم ، ولهذا بعضهم يختصر فيقولون هذا التأويل لماذا ؟
قالوا لأن هذا يقتضي الجسمية بعضهم يختصر هذا الطريق فيقول نأول .
لماذا تأول ؟
يقول لأن إثباتها يقتضي الجسمية إلى آخره .
إذن هذا التأصيل البشع الضال المضل الذي أصله جهم وتبعه عليه الذين يعتقدون في أنفسهم أنهم عقلاء هذا كان أضر شيء على نصوص الصفات .
أضر شيء على الأمة فيما يتصل باعتقادها في نصوص الصفات .
فخاض غمرة ذلك أكثر الأمة ورضوا بهذا الأصل البشع الذي أصله الكافر المضل جهم بن صفوان عليه من الله ما يستحق .
هذا الأصل إذا أردت أن تنقض مسألة من مسائل أهل البدع تذكر هذا الأصل .
لأنهم إذا كانوا حُذاقا في طريقتهم فإنهم يعلمون هذا الأصل .
ولهذا شيخ الإسلام في التدمرية نقض هذا الأصل بعدد من القواعد التي ربما مرت على بعض منكم.
هذه الآيات نرجع إليها دلت على إثبات صفة (الرضا) لله جل وعلا .
و (الرضا) صفة لله جل وعلا قائمة به يرضى متى شاء كيف شاء جل وعلا .
ومن قال إن (الرضا) قديم فليس هذا مقولة للسلف ، ليس هذا مقولة للسلف .
يعني يقولون رضاه عن فلان قديم ، رضاه عن المؤمن قديم ، وغضبه على الكافر قديم ليس هذا بمقولة للسلف .
بل هي مقولة لأهل البدع لماذا ؟
لأننا نقول : إن الله جل وعلا رضي عن المؤمن بعد إيمانه .
فإذا كفر غضب عليه .(1/220)
فيكون في حق المرتد عند أهل السنة والجماعة (رضىً) عنه لما كان مؤمنا و (غضبٌ) عليه لما ارتد .
وأولئك - الأشاعرة والماتريدية وغيرهم يقولون (الرضا) قديم ، فمن علم الله جل وعلا منه أنه يوافيه بالإيمان يعني يموت في الإيمان فهو راض عنه ولو كان كافرا .
يعني خالد بن الوليد عندهم في أيام معركة أحد وهو يرمي المسلمين بالنبل ويقتل من يقتل من المسلمين كان إذ ذلك مرضيا عنه .
أبو سفيان لما قاتل النبي صلى الله عليه وسلم في بدر وفي أحد كان إذ ذاك عندهم مرضيا عنه لماذا ؟
قالوا : لأن الله علم أنه يوافي بالإيمان يعني يموت على الإيمان .
كذلك ، المؤمن إذا كان في علم الله جل وعلا يوافي يعني يموت على الكفر فإنه حتى في حال إيمانه فهو مغضوب عليه .
ولا شك أن هذا يلزم منه لوازم باطلة ، في حال الإيمان مغضوب عليه فوفق إلى أعمال كثيرة .
هل الله يوفق من هو مغضوب عليه ؟
يعني يلزم على أقوالهم لوازم باطلة كثيرة ، إذن فهذه المسألة مهمة لأن بعض الناس قد لا يدقق فيها
وهي أن (الرضا) و (الغضب) و (البغض) و (الكره) و (المقت) و (الأسف) أن هذه الصفات التي سمعت الأدلة فيها هذه كلها متعلقة بمشيئة الله جل وعلا ، وليس (الرضا) القديم عن أولئك .
هذه الآية وهي قوله { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ }
(رضا) الله جل وعلا عن العبد صفة من الصفات كما ذكرت .
و (الغضب) في قوله { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ } (الغضب) صفة من الصفات أيضا .
ماذا يقول المؤولة ؟
يقولون (الرضا) إرادة ، إرادة الإنعام ، (الغضب) إرادة الانتقام .
طيب ما الغضب ؟ إذا سألتهم عن الغضب ما هو ؟ لماذا قلتم الإرادة ، لماذا ما قلتم الغضب هو الغضب ؟
قالوا لأن الغضب هو ثوران دم القلب وهذا ليس بلائق بالله ، لأن الغضب إثباته يقتضي إثبات الجسمية وهذا غير لائق بالله .
فيقال لهم (الغضب) صفة من الصفات يشترك فيه الخالق والمخلوق .(1/221)
وأنتم حددتم في تعريف الغضب ما عقلتموه من المخلوق أليس كذلك؟
يعني فسروا الغضب بأنه ثوران دم القلب ، طيب هذا ثوران دم القلب هذا في المخلوق لكن هل هذا هو الغضب بشكل عام في المَلَك وفي الإنسان وفي جميع المخلوقات ؟
الجواب الثاني أن يقال ثوران دم القلب هل هو الغضب عينه أم هو أمر نشأ عن الغضب ؟
المتأمل يرى أن ثوران الدم وامتلاء العروق بالدم كما يقولون ، يقولون هذا الغضب ، هو في الواقع ، غضب أولا ثم حصلت هذه الأشياء .
فإذن غليان دم القلب وانتفاخ العروق والأوداج وتغير لون الوجه إلى آخره ، هذه ليست الغضب عينه وإنما هي أشياء نتجت عن الغضب في الإنسان .
فإذن إذا عُرِّف الغضب بهذا التعريف صار باطلا لأنه تعريف للشيء بأثره وهذا ليس بمستقيم عند المعرِّفين حتى عند أهل اللغة وعند جميع العقلاء .
إذن فكلامهم باطل لأن من قال (الغضب) إرادة الانتقام ، (الرضا) إرادة الإنعام أو الإحسان هذا نفي للصفة لأنه نفى صفة الرضا والغضب وجعل بدلها صفة الإرادة وهذا باطل .
نقول بعد ذلك ، والإرادة ما هي ؟
يعني الآن تتعجب منهم إذا أتيت تناقش المعتزلة يعني أصحاب الفرق هذه الضالة ، تتعجب انهم أحيانا يعتزون بعقولهم وفي الواقع يخطئون في أساسيات ، لكن سبحان من طمس على بصائرهم .
طيب الإرادة ما هي ؟ إذا أتيت تسأله أنت فسرت الغضب بالإرادة ليش ؟
قال لأن الغضب ما يليق بالله لأنه من آثار الأجسام .
طيب الإرادة ما هي ؟ ما هي الإرادة ؟ عرف الإرادة ؟
طيب لله إرادة والمخلوق ليس له إرادة ؟
قالوا المخلوق له إرادة لأنه لا يستطيع أن ينفي الإرادة عن المخلوق .
فإذا كان للمخلوق إرادة فمعنى ذلك أن التشبيه حصل ؟ أليس كذلك ؟
إذا كان المخلوق له إرادة معناها أن الإرادة هذه من صفات الأجسام ؟ أليس كذلك ؟
فكيف وصفتم الله جل وعلا بها ؟
قالوا دل الدليل العقلي على وجوب الإرادة ، على وجب الاتصاف بالإرادة .(1/222)
طيب ، وإرادة المخلوق لماذا ما حصل دليل على أنها الإرادة في الله جسم تثبت الجسمية كما أن الإرادة في المخلوق تثبت الجسمية ؟
قالوا لا ، الإرادتان مشتركتان في اللفظ لكن مختلفتان في الحقيقة ، إرادة المخلوق تناسبه ، وإرادة الله جل وعلا تناسبه.
إذا قالوا ذلك كما قال شيخ الإسلام في التدمرية ، قال فقد طعنوا أنفسهم .
لهذا يقول ليس ثَم أحد من المبتدعة ما يثبت صفة ، حتى الجهمي اللي ما يثبت ولا صفة يثبت صفة الوجود .
فيقول إذا مسكت الجهمي فاطعنه بهذه الصفة التي أثبتها .
المخلوق متصف بالوجود أو غير متصف ؟ متصف بالوجود إذن اقتضى التماثل اقتضى التشبيه ، اقتضى التجسيم لأنهما اشتركا في صفة .
فاطعنه بذلك فيلزمه فيما بقي ما لم يثبته .
كذلك الكلابي أو المعتزلة أو الأشعرية أو الماتريدية إلى آخره يلزمهم ذلك .
إذن لا فرار عند أي ناف للصفات أن يثبت ولو صفة واحدة .
فإذا أثبت صفة ، فقل له ما معنى الصفة ؟
فإذا قال معنى الصفة كذا ، قل له والمخلوق فيه هذه الصفة ، فإذن اقتضى التجسيم أو التشبيه .
فإذا قال لا هذه تناسب هذا تناسب الخالق وهذه تناسب المخلوق ، فقل قل أيضا ذلك في كل الصفات .
إذ القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر وكذلك القول في بعض الصفات كالقول في الذات يحتذى فيه حذوه ويُنهج فيه منهاجه .
إذن هذه الصفات لا شك أن قول المبطلين في ذلك واضح البطلان ، لكن فصلت لك بالخصوص لأن كثيرا من الذين يسمعون كلام بعض المفسرين أو خاصة بعض الذين يُدَرِسون في الكليات أو أحيانا في الثانوي قد يأتون إلى هذه النقاط ويرمي بعض الأشياء ويأتي طالب العلم ولا يحسن الرد ولا إقامة الحجة فلا يقيم الحجة .
وحجج أهل السنة والجماعة بحمد الله هي من أوضح الحجج في العقليات وهي من أوسع الحجج في النقليات ولله الحمد والمنة .(1/223)
هذه الصفات التي ذكرها الشيخ رحمه الله فيما استدل عليها من الآيات فيه ثَم صفات مشتركة في الأصل ، مثل صفة (الغضب) ، مثل صفة (البغض) .
الغضب { فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ }
هنا الأسف يطلق على [ شدة الغضب ] ويطلق على [ شدة الحزن والحسرة ] يعني في اللغة يطلق تقول (أسفت) (وآسفني فلان) إذا أغضبه أو أحزنه .
فهنا (الأسف) هو من جنس الغضب .
لهذا تنتبه إلى أن الصفة يكون لها أصل ، الصفات تكون متنوعة اللفظ لكنها مشتركة في الأصل .
الغضب منه أيش ؟
الغضب منه الأسف وقد يكون منه أشياء أخر .
كذلك (البغض) البغض أثبت ، يعني استدل الشيخ على إثبات (البغض) لله جل وعلا بقوله { وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } وقوله جل وعلا { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ } .
هنا (السخط) هذا من جنس الغضب ، يعني الغضب ذكرنا الأسف وهنا السخط - لكن هنا (الكراهية) هذه في البغض ، مثل (المقت) في قوله { كَبُرَ مَقْتًا } (المقت) هو [ أشد البغض ] .
فإذن (البغض) جنس منه - يعني من هذا الجنس - الكراهية ومنه المقت إلى آخره .
فإثبات أصل الصفة لا يعني أن الصفات الأُخَر مردها إلى هذا الأصل .
يعني لا نقول : (المقت) هو (البغض) لا نقول المقت هو البغض ، (الكراهية) هي (البغض) .
لا ، صفات الله جل وعلا كل صفة تُثبت على ما دل عليه النص .
لكن لها أصل ، لها جنس فمثل ما ذكرت لك (المقت) من جنس (البغض) ولذلك فسروه بأنه [أشد البغض] فليس هو البغض فقط ولكن البغض الشديد وهذا له مراتب ، البغض مراتب متعددة ، وهكذا .
إذن الخلاصة من هذا الأمر أن هذه الصفات وإن كانت عند التفسير قد يقرب بعضها من بعض لكن لا يقال إن معنى صفة أثبتها الله جل وعلا لنفسه هو معنى الصفة الأخرى بالترادف المطلق(1/224)
لا ، ولكن يقال هي من جنسها ، مثل ما تكلم الأئمة في الصفات التي هي من جنس - كما يقول شيخ الإسلام وغيره - التي هي من جنس الحركة كالإتيان والمجيء والنزول ، والعلو إلى آخره .
بقي من الكلام على الآيات
قوله جل وعلا { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ }
اللعن من الله جل وعلا هو [ الطرد والإبعاد من الرحمة ] و الطرد والإبعاد من الرحمة قد يكون طردا وإبعادا دائما وقد يكون طردا وإبعادا مؤقتا .
ففي حق المؤمن الذي ثبت له الإسلام يكون اللعن في حقه ، يعني إذا لعن الله جل وعلا من فعل كذا مثل هنا القاتل { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } فيكون اللعن هنا طرد وإبعاد مؤقت عن رحمة الله جل وعلا ، يعني أنه يعذب في النار حينا من الزمن ثم يخلص منها بإسلامه وتوحيده .
ما جاء في النصوص من اللعن لمن فعل كذا ولو كان مسلما يحمل على أنه طرد وإبعاد مؤقت
مثل لفظ التحريم (حرم الله على الجنة من فعل كذا) هذا التحريم تحريم مؤقت ، وهناك التحريم الأبدي هذا للكفار .
فإذن اللعن طرد وإبعاد من رحمة الله هو دائم بالنسبة للكافر ، ومؤقت بالنسبة للمسلم الذي فعل الكبيرة التي استحق بها اللعن أو مات على ذلك ولم يتب .
كيف يحصل اللعن من الله جل وعلا ؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله وأئمة السنة (يحصل اللعن من الله بالقول) وليس بالمعنى فقط .
(بالقول) يقول الله جل وعلا (العنوا فلانا) أو (لعنت فلانا) أو نحو ذلك ، يعني اللعن يحصل من الله بالقول .
فإذن قوله جل وعلا هنا { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } أي لعنه بقوله بكلامه جل وعلا .
هذا ما يتصل بهذه الآيات .
نعم .
......
{ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ }
ايه ، لعنة الله يعني إذا جاء في النص لعن الله كذا يعني أنه يلعن بالقول جل وعلا { لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } كذلك بالقول .
لعنة الملائكة والناس دعاء بأن يُلعن .(1/225)
يعني ما معنى { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } ؟ لعنة الله هذه ما معناها ؟
أن الله يلعنه قولا ، يعني يأمر بطرده وإبعاده من رحمته قولا .
وأما الملائكة والناس فهم يدعون بأن يكون من الملعونين ، يدعون بأن يكون أولئك من الملعونين .
نكتفي بهذا القدر ونأخذ في بعض الوقت إجابة على بعض الأسئلة .
هذا سؤال مهم يقول ما تعريف الغضب ، إذا قلنا إن الغضب ليس هو ثوران الدم فما هو الغضب؟
هنا قاعدة أنه ثَمَ أشياء فطرية تعلم بالاضطرار ، لا يمكن أن تُحد بحد بتعريف يجمع معانيها جميعا
مثل المعاني القلبية جميعا مثل الرحمة ، المحبة ، المودة ، الخلة ، الغضب ، الرضا ، السخط ، الكراهية ، الحقد ، البغضاء إلى آخره ، الرحمة ، الصبر ، التوكل .
المعاني القلبية صعب أن تحدها بحدود لا تخرج عنها .
وذلك لأنها ليست بأشياء ماثلة أمامك يمكن أن تحدها .
الشيء الماثل أمامك يمكن أن تحده لأنك تراه .
يمكن أن تعرفه بتعريف جامع مانع لأنك تراه .
أما المعاني القلبية فلا يمكن أن تُعَرَفَ بتعريف دقيق ولكن بالاضطرار الواحد يعلم من نفسه معنى الكراهية بأي لغة ، معنى البغض بأي لغة ، معنى الغضب بأي لغة ،
هذا يعلمها من نفسه لأنها معاني نفسية .
مثال ذلك لو قلت لأحد منكم ما الهواء ؟ الهواء هذا المهم يقدر واحد يعرفه منكم ؟ الهواء ما هو ؟
الهواء لكن ما هو الهواء وش تعريفه ؟
من يوم طلعتم من بطون أمهاتكم وأنتم تشمونه ولا تعرفون ، أبَسْألك أنا عطني الهواء ؟
......
كيميائي عطنا الكيميائي وش هو ؟ ..
......
هذه مكوناته مو بتعريفه ، يعني يقول لنا مكوناته كذا وكذا ، هذا شيء ثاني ، تقول المكونات كذا ، وبعدين المكونات هذي أيضا فيها بحث ، يعني بس أنه المكونات غير التعريف .
يعني الآن جاك واحد قال يا أخي واحد قال لي وش الهواء عطني وش الهواء ؟ ماذا ستقول له ؟(1/226)
تقول الهواء هذا الذي تشمه هذا الذي لا تقوم الحياة إلا به ، لماذا ؟
لأن ما الفائدة من التعريف أن يوصل المعرَّف إلى فهم السائل ، هذه فائدة التعريف .
يعني مثلا يجي واحد يقول ما المنديل ؟
يقولون في منديل ورق
المعروف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن المنديل يكون من قماش ، صح ؟ من خِرَق ، قال في منديل ورق يقولون في منديل ورق ، تأخذ هذا وتقول له هذا منديل ورق ، صح ؟
حصل له الفهم ، لماذا ؟ لأن هذا جسم يمكن أن تريه فتنطبع عنده المعرفة بهذا الشيء .
المعاني النفسية ليست بمشاهَدَة .
ولهذا إذا عُرِّفت فسيضطر المعرِّف إلى أن يرعى فيها ما يعرفه ألا وهو حالة الإنسان أو ما يشهده .
فإذا أراد أن يعرف الرحمة مباشرة هو ماذا يعرف من الرحمة .
الرحمة التي في الإنسان .
لكن هل سيعرِّف الرحمة التي يعلمها والتي لا يعلمها ؟
رحمة الله جل وعلا لا يعلمها على الحقيقة .
فهو إذن حينما يعرفها سيعرفها بالنسبة للإنسان وهذا يكون غلطا في المعنى .
فإذن الكليات هذه في المعاني يصعب تعريفها وتحال إلى ما يعلمه المرء بالاضطرار .
الواحد يعرف معنى الرحمة ، يعرف معنى الرأفة ، يعني بالاضطرار من داخله من نفسه .
نعم من أهل العلم من المحققين من أهل السنة من عرف كثيرا من تلك الأشياء لكن ما عُرَّفت جميعها .
لهذا ابن القيم رحمه الله لما أتى إلى المحبة في مدارج السالكين ، ذكر عبارات القوم في المحبة وقال : كل هذا تقريب .
لما أتى إلى الاستعاذة ، تعريف الاستعاذة ، قال معنى طلب العَوذ ، كيف تستعيذ ؟ عرِّف لي معنى الاستعاذة ؟ طلب العوذ ، طيب ما هو العوذ ؟
ذكر أشياء ثم قال وهذا تقريب ، وإلا فما يقوم بالقلب من ذلك لا تحيط به العبارة ولا يدركه الوصف .
المقصود من هذا أن تنتبه لهذا الأصل العظيم في الصفات لأن الصفات هذه التي هي معاني أما الوجه فنقول الوجه ما تحصل به المواجهة .
اليد نقول اليد ما يحصل بها القبض والبسط والعطاء والمنع .(1/227)
هذا يمكن أن يُعرف .
لكن المعاني القلبية لأنها معاني لا يمكن أن تجمعها في عبارة تشمل كل من اتصف بتلك المعاني .
......
الرحمة ، قال الرحمة رقة القلب ، صحيح هذا في الإنسان .
فيك الرحمة رقة في القلب لكن أيضا هي ليست رقة في القلب فقط ، رقة القلب ومعها أشياء
رقة القلب وانعطافه ومحبته في عدة أشياء .
لأن التحقيق أن اللغة ليس فيها ترادف ، عند المحققين من أهل اللغة اللغات جميعا ليس فيها ترادف
يعني ما في لفظ يقوم مقامه لفظ آخر من جميع الجهات .
هذا ليس بصحيح وفي اللغة العربية وفي اللسان العربي الشريف لا شك أنه ليس هناك ثم ترادف محض .
يعني هذه تساوي هذه من كل جهة ، لا ، وإنما تفسر اللفظ بلفظ آخر لمراد التقريب والإفهام .
......
لا ، مهي بأثر هي الرحمة .
ليست الرقة لأن الرقة في القلب ما تقول يعني شيء ينشأ ، هو فسر الرحمة برقة القلب .
يمكن ان تقول إنها أثر لأن تفسير الشيء بالشيء غير مطابق .
يعني الرحمة صفة ينشأ عنها الرقة ، يمكنك أن تقول ذلك .
الأخ يسأل عن قول من يقول يا من لا تغيره الحوادث ، كذا ؟
والله يعني هذه عجيبه ، وجه التوقف عندي مسألة (تغيره) أما الحوادث ما في شك استعمالها هنا خطأ .
......
هي في أقل التقديرات أنها محتملة لذلك يُنهى عنها لأجل الاحتمال لأن التغيير تغيير الحوادث ، وش معناه ؟
معناه أن كل ما يحدث مما لم يكن حادثا قبل لا يغير صفةً في الله جل وعلا هذه محتملة لهذا وهذا .
وعلى العموم مثل هذه الألفاظ في العقيدة التي فيها الاحتمال هذا ينهى عنه ، لأنه لا يجوز أن تأتي بلفظ محتمل لأنه قد يكون فهم الفاهم له يعني المستمع له أو الناظر فيه يكون على المعنى الباطل.
لكن هي عبارة منكرة طبعا ليست من استعمال السلف ، لكن هل نقول إنها مثلا إنها كفر ؟
لا ليست بصحيحة
......
لا ما نقول صحيحة باعتبار ، ليست بصحيحة لأن المعنى غير واضح منها .(1/228)
هذا سؤال يتكرر ما حكم من نفى الصفات أو شبه صفات الله بالمخلوق مع حكم من أنكرها ؟
مر معنا هذا في هذه الدروس .
ما هو المقصود بالكلابية ؟
الكلابية أتباع عبدالله بن سعيد بن كلاب ، عبدالله بن سعيد بن كلاب توفي قريبا من وفاة الإمام احمد أظن سنة 241 أو 240 كان أتى بمذهب جديد خطير سمي بمذهب الكلابية ثم انقرض لأنه تبناه الأشعري والماتريدي ، لأن الأشعري بعد ما انتهى من فترة الاعتزال ذهب يطلب الحديث فرأى أصحاب ابن كلاب يتدارسون بعض الأمور فجلس عندهم فأخذ عنهم مذهبه المسمى بمذهب الأشعرية وهو مذهب الكلابية بأكثر مسائله .
هل يوصف الله جل وعلا .. بالمكر ويقال إن مكره غير مكر المخلوقين ؟
الله جل وعلا أخبر عن نفسه بأنه ذو مكر جل وعلا ولكنه أخبر بأن مكره بمن مكر بأنبيائه أو مكر بأوليائه ، قال جل وعلا { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ } فإذن المكر من الصفات التي تثبت مقيدة ، فيقال يثبت لله جل وعلا صفة المكر بمن مكر به ، وإذا قيل يثبت لله جل وعلا صفة المكر ويكون مراد القائل أن المكر مقيد هذا أيضا من باب التوسع لا بأس به لوجوده في بعض عبارات أهل العلم المتأخرين ، لكن يوصف الله جل وعلا بأنه يمكر بمن مكر به ، بأنه يخادع من خادعه ، بأنه يستهزئ بمن استهزأ به وهكذا في هذا الجنس
ونكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
ذكر مجيء الله
لفصل القضاء بين عباده
على ما يليق بجلاله(1/229)
وَقَولُهُ: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } [البقرة:210]، { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } [الأنعام:158]، { كَلا إِذَا دُكَّتْ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا(21)وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر:21-22]، { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا } [الفرقان:25].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أكرم الأكرمين .
أما بعد فهذه الآيات فيها ذكر صفات من جنس واحد وهي صفة (الإتيان) و (المجيء) و (النزول) لله جل وعلا .
وشيخ الإسلام رحمه الله ذكر هذه الآيات كمثال وإلا فالآيات والأحاديث التي فيها ذكر (مجيء) الله جل وعلا وذكر (إتيانه) وذكر (نزوله) كثيرة بحيث يُقْطَعُ معها أن المراد بها - يعني بتلك الصفات - حقائقها التي دلت عليها ظواهر الألفاظ لتلك الصفات .
ففي آية سورة البقرة قال جل وعلا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } ، قوله { إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ } يعني يوم القيامة للفصل بين العباد ، وذكر هذه الصفة لله جل وعلا ووصف الله بها نفسه وهي صفة (الإتيان) فقال { إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ } .
وفي الآية الثانية قال جل وعلا { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } ، فقوله { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } فيه إثبات هذه الصفة لله جل وعلا وهي صفة (الإتيان) .(1/230)
وقال جل وعلا { كَلا إِذَا دُكَّتْ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا()وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } ، قوله { وَجَاءَ رَبُّكَ } فيها إثبات صفة (المجيء) لله جل وعلا .
وقوله { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا } ، قوله { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } فيها إثبات صفة (النزول) لله جل وعلا يوم القيامة لفصل القضاء .
وجه الدلالة أن تشقق السماء بالغمام هو مقدمة ذلك النزول كما بينت ذلك السنة وكما دل عليه قوله جل وعلا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ } .
فقوله { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } تفسرها آية البقرة وكذلك السنة ففيها (إتيان) الله جل وعلا يوم القيامة للفصل بين العباد وكذلك فيها إثبات (نزوله) جل وعلا .
يظهر لك أن هذه الصفات في هذه الآيات ذُكرت بصيغة الفعل فقال جل وعلا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ } { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } وقال { وَجَاءَ رَبُّكَ } وقال { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } ، يعني (وجاء ربك) أو (وأتى الله) والتعبير بالفعل كما هو معروف مشتمل على شيئين :
مشتمل على (زمن) و (حدث) والحدث هو مصدر لذلك الفعل .
فإذن في قوله { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ } فيها زمن ذلك الفعل وهو المستقبل ، وفيها الحدث الذي هو (الإتيان) .
كذلك قوله { وَجَاءَ رَبُّكَ } فيه الزمن وفيه (المجيء) الذي هو المصدر .
وهكذا في غيرها من الآيات ولا يشكل على هذا قول طائفة من أهل السنة إن باب الأفعال أوسع من باب الصفات ، وذلك أن مرادهم بقولهم باب الأفعال أوسع من باب الصفات أنه قد يطلق الفعل ولا يراد به إثبات الصفة من كل وجه .(1/231)
وهذا مثل قوله جل وعلا { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } ومثل قوله { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } مثل قوله { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ } ونحو ذلك مما فيه الفعل فهذا منقسم ، وما ذُكِر من الآيات هذه الجميع كل فعل يطلق لا شك أنه مشتمل على الحدث والحدث وصف.
وما قالوه من أن باب الأفعال أوسع يعنون به أن ليس كل فعل أضيف إلى الله جل وعلا سيكون فيه إثبات الصفة على وجه الإطلاق بل قد يطلق الفعل ويراد به إثبات الصفة على وجه التقييد .
فباب الأفعال أوسع لا شك من باب الصفات فربما يطلق الفعل ويكون عند إثبات الصفة مقيداً كما نقول (يمكر الله جل وعلا بمن مكر به) (الله جل وعلا من صفاته الاستهزاء بمن استهزأ به) (من صفاته خداع من خادعه) (من صفاته كيد من كاده ، من كاد أولياءه) ونحو ذلك .
قوله جل وعلا في هذه الآيات { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ }
والآية الأخرى { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } وفي الثالثة { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } ونحو ذلك هذه الصفات هي من جنس واحد وهي صفة (الإتيان) و (المجيء) و (النزول) ومثلها صفة (الهرولة) ونحو ذلك من الصفات التي هي كما يقول شيخ الإسلام وغيره من جنس الحركة .
وهذه الصفات جنس واحد ودلالتها متقاربة
ففيها إثبات صفة (الإتيان) إثبات صفة (المجيء) والمجيء يكون عن إتيان ، والإتيان يكون بمجيء
كذلك فيها إثبات صفة (النزول) .
فهذه الآيات دالة على إثبات هذه الصفات .
أما لفظ (الحركة) فهو لفظ لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة إثباته لله جل وعلا وقولهم إنه من جنس الحركة كما قاله عثمان بن سعيد الدارمي في رده على بشر المريسي وكما قاله بعض أصحاب أحمد وكما قاله شيخ الإسلام استعمالهم لفظ الحركة .
قالوا الحركة يراد بها معناها في اللغة حينما نقول ذلك وهو أنه فيها الانتقال بالفعل من شيء إلى شيء .(1/232)
هذا أصله ، وقد تكون حركة نفس وقد تكون حركة ذات وقد تكون حركة فعل وقد تكون حركة صفة .
وهذا في اللغة يعني بابها فيه سعة ولهذا لم تستعمل في الكتاب ولا في السنة لله جل وعلا بلفظ الحركة .
أما أفرادها فكثيرون منها وصف الله جل وعلا به كصفة (الإتيان) كما ذكرنا و (المجيء) و (النزول) و (التقرب) و (الهرولة) ونحو ذلك .
قوله جل وعلا هنا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ }
سمعت قول أهل السنة في ذلك ، وأما المبتدعة فهم يدعون في صفات الأفعال ، الصفات الفعلية هذه أنها مجاز .
والمجاز معناه عندهم أن ثَمَ حذف في الكلام .
فقوله جل وعلا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ } يعني [ إلا أن يأتيهم أمر الله ] أو [ إلا أن يأتيهم عذاب الله ] { فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ } وكذلك قوله { وَجَاءَ رَبُّكَ } عندهم أي [وجاء أمر ربك] أو [ وجاء مُلْكُ ربك ]
وهذا ونحوه يسمونه مجاز الحذف ، يعني أنه حُذِف بعد الفعل كلمة هي فاعل الفعل أو هي التي يضاف إليها الفعل .
أما الله جل وعلا عندهم فليس بمتصف بمجيء ولا إتيان ولا نزول ولا غير ذلك .
فكل موضع فيه إثبات تلك الصفات لله جل وعلا يحرفونه بالمجاز ، ويقولون ثَم مجاز حذْف .
ومن أصول الرد عليهم - الرد عليهم يطول المقام به - لكن من أصوله أن المجاز أولا كما ذكرت لكم آنفا أن المجاز فيه ترك للمعنى الأول إلى المعنى الثاني وذلك لعلاقة بينهما ، وهذا لا يُصار إليه إلا إذا امتنع الأول أو لم يناسب .
- يعني هذا على كلامهم -
يعني نتنزل معهم في إثبات المجاز يعني نقول المجاز نجاريكم في أنه مثبت .
وعلى قاعدة المجاز عندكم بأنه لا يقال بالمجاز بنقل اللفظ من المعنى الأول إلى المعنى الثاني لعلاقة إلا إذا لم يناسب المقام أو لم يصح الكلام .(1/233)
مثل ما قالوا في قوله { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } قالوا هنا فيه مجاز حذف يعني [ واسأل أهل القرية ] لأن القرية لا تُسأل في نفسها وإنما يُسأل أهلها .
قالوا كذلك واسأل { الْعِيرَ } على هذا النحو يعني [ واسأل أصحاب العير ] وهكذا في كل موضع فيه مجاز حذف كما ادعوه .
نقول إن قيل به - والبحث سبق لنا بحث مفصل في المجاز لكن إبطاله نقول المجاز أصلا ليس بصحيح لكن هنا تنزلا نقول حتى ولو على إثبات المجاز فليس المقام مقاما واحدا لأن مجاز الحذف يُصارُ إليه إذا كان الكلام مشكلا ولا يمكن إلا بإثبات مجاز الحذف ، وهذا إذا قيل به في { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } واسأل { الْعِيرَ } ونحو ذلك فذلك للإشكال الواقع لأن القرية لا تُسأل وأما قوله جل وعلا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ } فنفْيُ (الإتيان) لو كان (الإتيان) الذي أثبته الله جل وعلا لنفسه في موضع واحد أتى في موضع واحد هو ونظائره - يعني مثل (المجيء) و (النزول) إلى آخره - لكان ربما يكون لهم وجه في التعلق لكن النصوص متكاثرة في إثبات (الإتيان) وفي إثبات (المجيء) ومحال أن يكون الكلام كله على هذا ذاهب إلى الحذف في كل موضع لأن معنى ذلك أن كل الصفات الفعلية كلها فيها مجاز حذف .
وهذا معناه نفي كل صفة فعلية لله جل وعلا وهذا يؤول إلى تعطيل الله جل وعلا عن صفاته الفعلية ولا شك أن هذا باطل .
أيضا هذه الآيات فيها إثبات الحقيقة ولا يمكن أن يقال إن الآيات لا تدل على حقيقة ما جاء فيها من الصفات إذ إن هذه الآيات ظاهر فيها أن المراد الصفة فانظر مثلا إلى قوله { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ } .
المجاز الذي ادعوه [ أن يأتي أمر الله أن يأتي عذاب الله ] إلى آخره { فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ } لا يناسب ذلك ، لا يناسبه البتة .(1/234)
كذلك قوله جل وعلا { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } لا يناسب أن يكون المقام [ وجاء أمره أو وجاء عذابه أو نحو ذلك ] لأن السياق يدل على أن (المجيء) و (الإتيان) ونحو ذلك بذاته جل وعلا ، إذن فما ادعوه من هذا يُبْطَل بأوجه :
- أصلها رد المجاز من أصله كما سبق أن أوضحناه مفصلا فيما قبل .
- الثاني تنازل معهم وإبطال ما ادعوه من أن هذه الآيات فيها مجاز بنفي دعوى المجاز فيها بخصوصها .
إذا تقرر هذا فنقول (الإتيان) و (المجيء) ونحوه في القرآن والسنة ورد على جهتين :
- الأولى : أنه يرد مطلقا .
- والثانية : أن يرد مقيدا .
ونعني بالمطلق أنه لا يتعدى ، ونعني بالمقيد أن يكون متعديا .
ومثال المطلق { وَجَاءَ رَبُّكَ } هذا لم يتعد المجيء إلى شيء ، مثاله { إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ } يعني يأتي الله أولئك ، هذا معناه هو تعدى من جهة المفعول لكن ليس من جهة ، يعني كون الله جل وعلا أتاهم { إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ } فيه أن (الإتيان) هنا صفة لله جل وعلا وهذا من قسم المطلق لأن التعدي هنا ليس تعديا بالفعل .
يعني بالفعل أقصد به بالصفة وإن كان في اللغة الفعل تعدى إلى المفعول .
يعني حتى لا تشتبه المطلق ما فيه الوصف .
وأما المقيد فما يكون مُعَدّا إلى شيء بحرف أو بمفعول وتكون التعدية هذه ليس ظاهرا فيها الصفة
مثاله قوله جل وعلا { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } هنا تعدى الإتيان إلى البنيان ، وقال فيه { مِنَ الْقَوَاعِدِ }
قال ابن القيم رحمه الله فدلت الآية على أن هذه الصفة وهي الإتيان هذه إتيان عذابه وذلك لأنه ما بين البنيان وبين القواعد .(1/235)
كذلك قوله في الحديث (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت) هنا (يأتي بالحسنات) هذا عُدِّي فيكون الإتيان هنا ليس إتيان الذات وإنما هو إتيان الصفات ، وهكذا في مواطن كثيرة يأتي الإتيان مقيدا فيكون المراد الإتيان بالصفات ، إما عذاب الله وإما رحمته وإما بملائكته ونحو ذلك ، الصفات كعذاب الله ورحمته أو ببعض خلقه كملائكة ونحو ذلك .
أما المطلق هذا فيه إثبات الصفة وهذا ظاهر من نحو الأمثلة التي ذكرنا .
قوله جل وعلا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ }
{ هَلْ يَنظُرُونَ } فيها من البحث أن النظر هنا بمعنى الانتظار { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا } فالنظر يكون له استعمالان :
- ومنها أن يكون النظر بمعنى الانتظار ومن ضوابطه أن يكون بعد النظر (إلا) وقبله (استفهام) فيكون النظر بمعنى الانتظار .
- وقد يكون النظر بمعنى (الرؤية) إذا عُدّي بـ (إلى) أو .. محل النظر وهو الوجه فيكون رؤية العين .
فإذن يكون النظر يأتي :
1) بمعنى الانتظار هذا له ضابط .
2) يأتي بمعنى الرؤية إذا عدي بـ (إلى) أو ذكر محله وهو الوجه .
3) يكون النظر محتملا أن يكون الانتظار أو الرؤية إذا عدي إلى المفعول بنفسه كما تقول (نظرت محمدا) فيحتمل أن يكون المعنى انتظرته أو يكون المعنى رأيت محمدا .
وقوله هنا { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا } بمعنى هل ينتظرون ويأتي بحث ذلك مفصلا إن شاء الله في رؤية الله جل وعلا .
قوله { إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ }
(الظُلَلْ) جمع ظُلَّةْ والظُلَةْ هي ما يظل المرء أو يظل الشيء وقد تكون بالغمام وقد تكون بغيره مما يظل ، (يظل) من الإظلال بالظاء .
انتهى الشريط الثامن من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط التاسع
قوله { إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ }(1/236)
(الظُلَلْ) جمع ظُلَّةْ ، والظُلَّةْ هي ما يظل المرء أو يظل الشيء وقد تكون بالغمام وقد تكون بغيره مما يُظِل .
(يُظِلُ) من الإظلال بـ (الظاء) ، لهذا قال بعدها { مِنْ الْغَمَامِ } .
و (الغمام) هو [ السحاب الأبيض الرقيق الناصع البياض الخفيف الجميل ] وهذا يسبق نزول الله جل وعلا للفصل بين العباد ، فصل القضاء يوم القيامة { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ } وهذا كما قال جل وعلا في آية الفرقان { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا } .
قوله { وَالْمَلَائِكَةُ } الملائكة ينزلون أيضا ويكونون صفوفا كما دلت عليها آية الفجر { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } ويكونون صفوفا ، هل يحيطون بأهل المحشر أو صفوفا يحيطون بالأرض من أطرافها ؟
فهذا فيه قولان والأظهر أنهم يحيطون بأهل المحشر من الجن والإنس وذلك بحسب ما يكونون عليه من الأرض .
والملائكة تنزل وتُحْدِقُ بالناس والجن ، تحدق بالإنس والجن وتكون من ورائهم صفوفا صفا بعد صف .
قال جل وعلا في الآية الأخرى آية الأنعام { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ }
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ } هذا مثل الأولى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا } يعني [هل ينتظرون إلا]
{ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ } يعني بالعذاب
{ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } لفصل القضاء بينهم
{ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } وهي طلوع الشمس من مغربها لهذا قال بعدها { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } .(1/237)
فطلوع الشمس من مغربها إذا حصل آمن الناس بها أجمعون ، يعني آمن الناس بالله أجمعون وسلَموا وهذا لا ينفعهم لأنهم قد رأوا آيات الله جل وعلا العظام .
وطلوع الشمس من مغربها هي بعض الآيات في تفسير عامة السلف في قوله { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسرها بذلك .
والآيات العظام لأنه قال هنا { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك } ويُعنى بها أشراط الساعة العظام ، وأشراط الساعة العظام عشر مرتبة كما جاءت في الأحاديث وهي :
1- خروج المسيح الدجال ... 2- ثم نزول عيسى بن مريم عليه السلام
3- ثم خروج يأجوج ومأجوج ... 4- ثم خسف بالمشرق
5- ثم خسف بالمغرب ... 6- ثم خسف بجزيرة العرب
7- ثم الدخان ... 8- ثم طلوع الشمس من مغربها وهي الثامنة
9- ثم خروج الدابة على الناس ضحى ... 10- ثم النار تحشر الناس إلى أرض محشرهم
هذه هي الآيات العشر العظام ولهذا قال هنا في آية الأنعام { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ رَبُّكَ } يعني بعض العشر العظام التي هي دليل على الإيذان للكفار بالهلاك والعذاب السرمدي الذي { لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } .
وآية الفجر وهي قوله جل وعلا { كَلَّا إِذَا دُكَّتْ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا()وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا }
في قوله { وَجَاءَ رَبُّكَ } كما ذكرنا إثبات صفة (المجيء) لله جل وعلا .
وقوله { وَالْمَلَكُ } المراد الملائكة كما في آية البقرة وغيرها ، الملائكة يأتون { صَفًّا صَفًّا } على نحو ما وصفت لك ، ويكون مجيء الملائكة قبل مجيء الله جل وعلا ، يعني كون الملائكة ينزلون في صفوف يَطْبِقُونَ بالناس قبل مجيء الله جل وعلا للفصل بين العالمين .(1/238)
إذا تقرر هذا فنبه ابن القيم رحمه الله في كتابه الصواعق على أن ما ورد مقيدا من هذه الصفات التي ذكرنا مما لا يراد به الصفة وإنما يراد به مجيء العذاب ، الإتيان بالعذاب ، الإتيان بالرحمة ونحو ذلك كقوله { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } ونحو ذلك .
قال وهذا المقيد يفسر بأنه الإتيان بعذاب الله أو في موضع آخر الاتيان برحمته أو إتيان الملائكة .
قال ولا يمتنع أن يكون إتيان الله جل وعلا لهذه مع ذلك حقيقيا ويكون كدنوه جل وعلا .
وهذا منه إعمال لكل المواضع مع أنه هو الذي قَسَمَها إلى مطلق ومقيد ، وجعل المقيد لا يراد به الصفة .
لكن قال لا يمتنع أن يكون يراد به مع ذلك أن يأتي الله جل وعلا بذاته ويكون ذلك كدنوه كما يكون جل وعلا يدنو من أهل عرفة ، وكما ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ونحو ذلك فيكون في ذلك الإتيان الدنو مع أن المراد بالإتيان إتيانه جل وعلا بصفاته أو بملائكته أو بعذابه ورحمته ونحو ذلك .
قوله جل وعلا في آخر آية { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا }
{ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } المراد يسبقه التشقق ، تشقق السماء بالغمام .
ولهذا قال بعض أهل العلم ، قالوا التشقق إيذان بنزول الله جل وعلا .
{ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } إيذان بنزوله فهو منه لأن الإيذان بعض المُؤْذن به ، يريد أنه مقدمة ، وإذا كان مقدمة كان دالا عليه وهو بعض الصفة فيكون الدليل على أن هذه الآية المراد بها نزول الله جل وعلا أن التشقق إيذان بنزول الله .
وإلا يكون إيراد شيخ الإسلام لهذه الآية في هذا الموطن ليس له وجه مناسبة ، لأن الكلام على مجيء الله وإتيانه ونزوله فما معنى إيراده لقوله تعالى { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا } ما مناسبتها لإتيان الله ونزوله يوم القيامة لفصل القضاء ؟(1/239)
مناسبتها هذه وهي أن التشقق إيذان بالنزول ، وقالوا الإيذان بالشيء هذا منه يعني يدل عليه ، فإذا أوذن بشيء دل عليه
كما تقول أنت إذا علمت مصاحبة فلان لفلان دائما تقول (جاء محمد) ولم تره وإنما رأيت من يصاحبه دائما لا ينفك عنه وهو عبدالله مثلا ، فإذا رأيت عبدالله استدللت على ذلك بقدوم محمد .
كذلك الأشياء المتلازمة مثل سماع الصوت مع الشخص ، ومثل الرعد والبرق مع المطر ونحو ذلك من الأشياء .
المقصود وجه دلالة الآية [ أن فيها إيذان بنزول الله وذلك دال على نزوله ] فتكون الآية من آيات الصفات بهذا المعنى
......
كيف ؟
......
لا ما يفهم منه كيف يعني من صفة الله ؟ لا ليس من صفة الله لكن هو يعني بسبب الإتيان ، من صفة الإتيان ، يعني التشقق من صفة الإتيان مو من صفات الله .
التشقق تشقق السماء هو من صفات السماء فهو بسبب الإتيان .
يعني أن الله جل وعلا إذا نزل إلى الأرض كما يليق بجلاله وعظمته لفصل القضاء تشققت السماء فيكون تشقق السماء إيذان بنزوله فهو دليل حتمي { السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا } سبحانه وتعالى .
......
التشقق حسي نعم ، التشقق { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } التشقق حسي حقيقي ، السماء تتصدع وتنزل بالغمام وهذا يكون تشقق السماء يكون في موطنين :
- الموطن الأول بين النفختين .
- وهذا هو الموطن الثاني .
......
التشقق هذا للنزول الأخير ، النزول لفصل القضاء أما نزول الله جل وعلا إلى السماء الدنيا كل ليله أو نزوله عشية عرفة فهذا كله ليس معه تشقق ، يعني هذاك إتيان ، هذا نزول ..
يقول سبب مجيء الملائكة يوم القيامة هو لقبض الأرواح أم لتعذيب الكفار في الآية الأولى { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } ؟(1/240)
ابن جرير رحمه الله ذكر قاعدة في التفسير في مجيء الملائكة فيقول إذا ذكر مجيء الملائكة أو إتيان الملائكة فيراد به إتيانهم بالعذاب المستأصل للكفار أو إتيانهم لقبض الأرواح .
يقول هذا الذي جاء في القرآن فكل موضع يكون فيه ذكر مجيء الملائكة أو إتيان الملائكة فإنما هو لأحد شيئين :
- إما لقبض الأرواح .
- أو للعذاب المستأصل للكفار .
فإذن في قوله هنا في آية البقرة { هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ }
هل هذا لقبض الأرواح أو للعذاب السرمدي للكفار ؟
هو للعذاب السرمدي للكفار ولهذا قال بعدها { وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } .
يقول هنا كيف يوفَّق بين قوله { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ } وقوله { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ؟
هذا في موطن وهذا في موطن .
طي { السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } هذا قبل ، بين النفختين { فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ }
يعني أن أحوال السماء والأرض مختلفة ، فالتشقق والطي ونحو ذلك هذا يكون بين النفختين لأنها تتغير السماء { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } بين النفختين ، بين النفخة الأولى اللي هي نفخة الصعق ونفخة البعث ، هذا تتغير أشياء كثيرة ، الجبال تروح والأودية ترتفع وتكون الأرض ملساء صافية الناس جميعا ينظرون إلى مكان محشرهم ، تعلو الظلمة إلى آخره حتى تشرق { الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } جل وعلا .
يعني في بعض الأسئلة ما تكون إشكال واضح فهذا الأفضل لطالب العلم التي تكون الأسئلة التي ليست بإشكال يرجع لها بنفسه يعني يطالعها بنفسه في التفاسير أو في كتب العقيدة ونحو ذلك .
يقول هل ممكن أن نقول أن الحركة وإطلاقها على الله من باب الأفعال ؟(1/241)
ما في شك جنسها من باب الأفعال أما الحركة ما تطلق على الله كما ذكرت لك .
جنسها من باب الأفعال ، يعني (المجيء) فعل (الإتيان) فعل (النزول) فعل إلى آخره .
وأفعال الله جل وعلا صفات قائمة به ليست قائمة بغيره كما ذكرنا لكم قاعدة ذلك ، إلى آخره .
ما معنى قول الله تعالى في الحديث القدسي (إني إذا أطعت رضيت وإذا رضيت باركت وليس لبركتي نهاية ، وإذا عُصِيتُ سخطت وإذا سخطت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد) وما ذنب ذريته والله سبحانه يقول { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ؟
أولا هذا ليس بحديث قدسي هذا في الآثار الإلهية يعني في آثار بني إسرائيل ذكرها الإمام احمد وغيره (إنني أنا الله لا إله أنا إذا أطعت رضيت وإذا رضيت باركت وليس لبركتي نهاية ، وإنني أنا الله لا إله إلا أنا إذا عُصِيتُ غضبت وإذا غضبت لعنت وإن لعنتي تبلغ السابع من الولد) يقول ما ذنب ذريته ؟ الحديث طبعا ليس بحديث قدسي وإنما هو من أخبار بني إسرائيل وإذا كان كذلك فليس فيه إشكال .
ما حكم الحلف بصفات الله مثل قول القائل يا غضب الله ؟
طبعا السائل واضح أنه ما هو فاهم الفرق بين الحلف والنداء(1/242)
الحلف بالصفات جائز بالإجماع ، فتحلف تقول وكلام الله وقدرة الله ومجيء الله وسمع الله وبصر الله هذا وتقول بسمع الله كان كذا وببصر الله كان كذا وبكلام الله كان كذا ، هذا جائز بالإجماع لأن صفات الله جل وعلا غير مخلوقة ، والذي يمتنع الحلف بالمخلوق ، أما تمثيله بقوله (مثل قول القائل يا غضب الله) هذا ليس بحلف هذا نداء ونداء الصفة لا يجوز وهو محرم بل قال شيخ الإسلام في رده على البكري في أوائله قال نداء الصفة كفر بالإجماع ، وهذا يعني به صفة معينة وهي (الكلام) الكلمة اللي هو (يا كلمة الله) ويُعنى بها المسيح عليه السلام أو على نحو معتقدات النصارى ، فهو كان يؤصله للفرق بين الكلام عند أهل السنة وغيرهم وضلال النصارى فقال دعاء الصفة - ويعني به دعاء الكلمة - ، قال كفر بالإجماع ، وأما نداء الصفات الأخر فنقول محرم وذلك لأن الصفات من جهة النداء والدعاء غير الذات في ذلك المقام .
قول (هذا من حسن الطالع) طبعا هذا لا يجوز لأن الطالع اللي هو النجم لا يملك ولا يدل على حسن ولا على قبح وليس له تأثير بل هذه الكلمة أتت إلى المسلمين من جراء مخالطتهم لغيرهم وهذه كلمة باطلة والطالع ليس بذي حسن وليس بذي قبح إنما هو خلق من خلق الله .
.......
هذا ليس نداء هذا استعاذة لهذا أنا ذكرت لك قلت الصفة في باب الدعاء والنداء غير الذات من هذا الوجه يعني في هذا المقام ، أما الاستعاذة فتستعيذ بالله جل وعلا وبصفاته ، الاستعاذة من جنس القسم والقسم يكون بالله وبصفاته وبأفعاله ، أما النداء الدعاء فليس الدعاء إلا للذات المتصفة بالصفات .
يقول ذكرت أن الهرولة صفة وهي صفة لم ترد إلا في حديث واحد (وإذا جاءني يمشي أتيته هرولة) ومن المعلوم أن العبد لا يمشي إلى الله وإنما المراد به التقرب إليه ، وليس المراد ظاهره فوجب أن يكون معنى الهرولة على خلاف ظاهر دلالة السياق وقد ذكر هذا بعض أهل العلم فما قولكم في هذا الكلام ؟(1/243)
طبعا أهل السنة في الهرولة الأصل فيها أن تُثبت لله جل وعلا فهي من جنس باقي الصفات هذا قول عامة أهل السنة ، لكن شيخ الإسلام رحمه الله ذكر في رده على الرازي في القسم المخطوط الذي لم يطبع لأن الرازي استدل بهذا الحديث على أنه لا يراد بها الصفة بالإجماع .
شيخ الإسلام قال له هذا لأن الكلام ليس في الصفات فقوله جل وعلا (من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا) قال معلوم أن التقرب لا يكون من العبد إلى الله لا يكون بالمساحة ، يعني ما يكون بالأمتار ما يكون بقطع شيء إلى الذات وعليه يكون مقابله ليس كذلك ، كذلك قوله (ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا) معلوم أن التقرب الأول الذي يحصل من العبد لا يكون بالمساحة قال فكذلك ما رتِّب عليه وهو تقرب الله جل وعلا من العبد باعا قال وكذلك قوله (من أتاني يمشي أتيته هرولة) معلوم أن العبد لا يأتي الله جل وعلا ماشيا يعني إلى ذات الله بالمساحة وإنما يكون إتيانه إلى طاعة الله أو حركة روحه إلى الله جل وعلا وقرب روحه من الله جل وعلا فيكون (أتيته هرولة) بمقابلة ذلك .
هذا الكلام منه من شيخ الإسلام تفصيلي يخالف بعض الكلام الذي أورده في بعض المواضع في الفتاوى على هذه الصفة من جهة أنه أثبت أصل (التقرب) طبعا هو القرب من الله جل وعلا عاما بما يشمل التقرب بالقرب بالذات والقرب بالصفات .
وعليه فيمكن أن يقال إن كلام شيخ الإسلام رحمه الله إما لأنه في مقام المناظرة ، في مقام الرد ، أو أنه لشيخ الإسلام رحمه الله قول غير ما أصل في الفتاوى ، وفي الفتاوى لم يذكر نص (الهرولة) فيما وقفت عليه ، فنقول له قول في هذا يخالف عموميات أقواله وهو أن لا تكون الهرولة من صفات الله جل وعلا
وذلك يقول لأن السياق يدل على أنه لم يُرَدْ الصفة (من أتاني يمشي أتيته هرولة) لم يرَد الأول وهو أن العبد يأتي إلى الله ماشيا فإذن الثاني غير مراد .(1/244)
هذا كلام شيخ الإسلام في رده على الرازي والكلام فيه نوع إشكال والمقصود أن عامة أهل السنة يثبتون (الهرولة)
ووقفت على كلام لعثمان بن سعيد رحمه الله في رده على بشر المريسي يقول فيه :
وقد أجمعنا أو اتفقنا وإياكم على إثبات صفة (الهرولة) وهو من النقول القديمة عن السلف في إثبات هذه الصفة .
المقصود أن هذا أصل البحث في هذه المسألة ولهذا من أهل العلم من قال يمكن أن يقال في قوله (ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) أنه يمكن أن يقال إنه من أتاني يمشي في عبادة تفتقر إلى المشي أتيته بثواب ورحمة سريعين .
وقد ذكر هذا الشيخ ابن عثيمين في القواعد المثلى ورجَح كما هو قول عامة أهل السنة القول الأول الذي ذكره وهو أنها صفة وهذا هو الصحيح ، فهي من جنس الصفات ، من جنس الحركة والله جل وعلا يتصف بما شاء سبحانه وتعالى وليس له حدود يعني ليس لصفاته حدود والعباد إنما يأخذون ذلك من الكتاب والسنة ولا يخوضون في ذلك بأفهامهم ولا بعقولهم فالمسألة عظيمة
هذا سؤال نرجئ الجواب عنه لأنه سؤال جيد إن شاء الله نشوف الجواب عنه بإذن الله .
إثبات الوجه
لله سبحانه
وَقَوْلُهُ: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [الرحمن:27]، { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص:77].
وَقَوْلُهُ: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ص:75]، { وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [المائدة:64].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين ، أما بعد :(1/245)
فهذه الآيات فيها ذكر صفتين من صفات الله جل وعلا التي تكاثرت الأدلة على إثباتها في الكتاب والسنة ويجب الإيمان بها وإثباتها لله جل وعلا ودحض ومنع التأويلات التي تخرجها عن حقائقها مع نفي الكيفية ونفي التمثيل والمشابهة بين صفات الله جل وعلا وصفات خلقه .
صفة (الوجه) لله جل وعلا ذكر عليها من الأدلة قوله جل وعلا { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } وذكر قوله { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ }
......
ثم ذكر صفة (اليد) لله جل وعلا وذكر جملة من الأدلة على إثباتها مما سيأتي .
أما صفة (الوجه) لله جل وعلا فهي من الصفات الذاتية ، والله جل وعلا أثبت لنفسه وجها كما أثبت لنفسه العلية كما أثبت لذاته (يدين) وكما أثبت له نبيه صلى الله عليه وسلم (عينين) وكما أثبت لنفسه سائر الصفات الذاتية كـ (السمع) و (البصر) ونحو ذلك .
فهذه الصفة صفة (الوجه) من جنس تلك الصفات التي وصف الله جل وعلا بها ذاته ، وصف الله جل وعلا بها نفسه .
وهذه الآيات التي فيها الصفات يجب أن يُصَدق بها وأن يُؤمَن بها لأن باب الصفات باب واحد لا فرق فيه بين صفة وصفة ، فكما أننا نثبت صفة (السمع) وصفة (البصر) وصفة (الكلام) وصفة (الحياة ) وصفة (الإرادة) إلى آخر تلك الصفات التي يثبتها المبتدعة ويثبتها أهل السنة نثبت أيضا الصفات الذاتية صفة (الوجه) وصفة (اليدين) وغير ذلك من الصفات .
فالباب باب الصفات باب واحد هذا أصل وقاعدة عظيمة في ذلك .
فإن أهل السنة لم يفرقوا بين صفة وصفة لم يفرقوا بين نعت ونعت بل أجروا الجميع مُجْرىً واحدا
فكل ما كان صفة لله جل وعلا أثبتوه ومنعوا تحريفه وآمنوا به على الوجه اللائق به جل وعلا من ذلك صفة (الوجه) لله جل وعلا .
و (الوجه) جاء إثباته في آيات كثيرة وفي أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :(1/246)
منها قوله جل وعلا { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } فقوله { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } فيه إثبات صفة (الوجه) لأنه أضاف الوجه إلى الرب جل وعلا ثم نعته نعت الوجه بقوله { ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } كذلك قوله جل وعلا { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } هنا أضاف الوجه الذي هو صفة أضافه لنفسه وفي هذا إثبات كونه صفة لله جل وعلا .
أما الآية الأولى وهي قوله { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }
فقد قال فيها الشعبي عامر بن شراحبيل إمام من أئمة التابعين قال :
لا تقف على قوله { فَانٍ } وإنما صل { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } ، تصل بين الآية الأولى والآية الثانية لأن فناء الأشياء ليس مما يمدح لكن يمدح الإفناء ، والله جل وعلا يفنيها والذي في هذه الآية هو فناؤها { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } وإنما أريد بالآية ما هو حمد وثناء على الله جل وعلا بكون كل شيء يفنى ويبقى وجه الله جل وعلا ذو الجلال والإكرام .
قال جل وعلا { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } يعني كل من عليها هالك { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } ففي ذلك إثبات أن الأشياء هالكة فانية وأن الذي يبقى هو الله جل وعلا وهنا ذكر البقاء لوجهه جل وعلا وذلك مقتضٍ لتشريفه وتعظيمه .
كذلك قوله جل وعلا { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ }
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ } من المخلوقات
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ } يعني يفنى ويذهب وليس موصوفا باستحقاق البقاء ، وإنما الذي يبقى هو وجه الله جل وعلا .
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } والله جل وعلا يبقى .(1/247)
كما جاء في آية سورة غافر قال جل وعلا { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } بعد أن يفني كل شيء فيقول { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ثم يجيب جل وعلا نفسه العظيمة بقوله { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } .
إذا تبين لك ذلك فقوله جل وعلا { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } الكلية في الآية الأولى وكذلك الكلية في الآية الثانية على هذا التفسير الذي قدمت وهو أن المراد بـ { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } و { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ُ } على أن المراد به الإفناء والإهلاك للذوات الكلية هنا يدخلها التخصيص وذلك أن { كُلُّ } من ألفاظ الظهور في العموم قد يستثنى منها أشياء يعبر عنها كثير من أهل العلم بقولهم (عموم { كُلُّ } في كل مقام بحسبه)
لهذا قال جل وعلا في وصف الريح قال { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } فقال { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } بقيت المساكن مع أنه جل وعلا قال { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } وذلك أن { كُلَّ شَيْءٍ } يعني مما أتت عليه الريح فهو عموم مخصوص ولهذا قال جل وعلا في الآية الأخرى في آية الذاريات { مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } وكذلك قال جل وعلا في وصف ملكة اليمن بلقيس قال { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } مع أن ثم أشياء لم تؤت إياها بل اختص بها سليمان عليه السلام ، وإنما المقصود { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } يؤتاه الملوك في الغالب .
فإذن عموم { كُلّ } فيه الظهور وهذا يقبل الاستثناء أو نقول إن العموم في كل مقام بحسبه .(1/248)
المستثنى : ما شاء الله ، كما قال جل وعلا { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } فهنا استثناء أنه يصعق كل شيء ويفنى كل شيء إلا من شاء الله ، وهذا على أحد التفسيرين .
والتفسير الثاني لهاتين الآيتين أن المراد بقوله { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } و { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } المراد به الأعمال التي تُعْمَل وعلى هذا جمع من السلف في تفسير آية القصص { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } .
قال طائفة منهم : كل شيء هالك من الأعمال إلا ما أريد به وجهه جل وعلا ، فالأعمال المُخْلَصة التي أخلص فيها أصحابها هي التي تبقى لهم ، أما أعمال المشركين فهي هالكة ويفنيها الله جل وعلا كما قال { الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } وقال { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } وكما قال جل وعلا { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } .
فإذن يكون المعنى هنا { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } يعني [كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه]
{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } هل تحتمل هذين التفسيرين ؟
هذا فيه نظر ، ومنهم ن جعل هذه الآية مثل آية القصص { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } يعني من الأعمال
لكن هذا ليس بوجيه لمجيء { مَنْ } فيها وقوله { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }
لكن منهم من جعلها من جنس آية القصص ، لكن آية القصص فيها نص من السلف على أنهم فسروها - يعني طائفة منهم - فسروها بأن المراد: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه .
إذا تقرر ذلك فما معنى كون البقاء لوجه الله والأشياء تهلك إلا وجه الله ؟(1/249)
ما فائدة التخصيص هنا بقوله { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } ؟
هذا يستفاد منه :
- أولا بقاء الله جل وعلا لأنه إذا بقيت صفة من صفات الله الذاتية فالله جل وعلا باق .
- والثاني أن يقال هنا خصص الوجه لجلاله وإكرامه وعظمته وتشريفه بذلك لكون المخلوقات تقصد وجه العظيم ، فهنا خص لأجل هذا فيكون هذا أبلغ في نفس المستمع ، أبلغ في نفس المخلوق .
ويعبر بعضهم ها هنا تعبيرا لا يليق يقول هنا في قوله { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } يقول هذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل .
والنتيجة صحيحة لكن التعبير ليس بجيد .
وذلك لأن الله جل وعلا لا يعبَّر عن صفاته بالجزء والكل وإنما يقال هذا فيه إثبات بقاء الوجه وهذا يقتضي إثبات بقاء الذات ، تخصيص الوجه هنا لعظمته ولتشريفه أو لأن الناس يقصدونه أو نحو ذلك .
إذا تقرر ذلك ووضح لك المراد من وجه الاستدلال بهذا ومعنى الآيتين فإن المخالفين في هذه الصفة منهم من أوَّلْ الوجه .
منهم من قال : الوجه هنا مجاز والمراد به الذات والله جل وعلا ليس له وجه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا
قال يراد به الذات .
ومنهم من قال الوجه يراد به الثواب يعني ويبقى ثواب ربك
ولا شك أن هذين من جنس التحريفات التي يقولونها في الصفات
وكما تنظر في الآية بل في الآيتين أن الله جل وعلا قال { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } وفي الآية الثانية قال { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ }
والقاعدة في العربية وهي في صفات الله جل وعلا أن الأشياء التي تضاف إلى الله على قسمين :
- أعيان ... ... ... - وصفات .
الأعيان يعني ذوات كما قال الله جل وعلا { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } (بيت الله) (كعبة الله) ونحو ذلك فهذه الإضافة إضافة مخلوق إلى خالقه ، مملوك إلى مالكه .
وهذه تقتضي أن يكون لمن أضيف إلى الله مزيد تشرف لأنه خُص بالإضافة(1/250)
كذلك وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عبد الله لأنه مخصوص بهذه الصفة { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } .
فإذن إضافة الذات الذوات الأعيان إلى الله جل وعلا هذه إضافة تكريم وتشريف فيها تخصيصها لمزيد بيان فضل هذه الأشياء .
القسم الثاني إضافة صفات ، وإضافة الصفات أيضا على قسمين :
- إضافة صفات مستحقة لله جل وعلا وهذه يأتي بعدها لام الاستحقاق .
- والثاني إضافة صفات يتصف الله جل وعلا بها .
القسم الأول كقوله جل وعلا { الْحَمْدُ لِلَّهِ } { سُبْحَانَ اللَّهِ } فهذا { سُبْحَانَ اللَّهِ } ، سُبْحَانَ ليس من صفات الله ولكن التسبيح سُبْحَانَ يعني تسبيح هذا مستحق لله { الْحَمْدُ لِلَّهِ } يعني الحمد مستحَق لله (صَلَاتِي وَنُسُكِي لِلَّهِ) يعني مستحقة لله أو تكون مملوكة له جل وعلا .
القسم الثاني من هذا النوع هو ما كان صفة لله جل وعلا ، ولا يقال هو مستحق لذلك لأن العبد ليس له فعل في هذا النوع مثل ما جاء هنا (وجه الله) { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } هذه هنا أضاف صفة الوجه إلى الله .
والوجه صفة ليس بعين يعني ليس بذات تقوم بنفسها فهو صفة .
والصفة هنا ليست مستحَقة لله - يعني مستحقة يفعلها العبد يتوجه بها إلى الله - وإنما هي صفة من الصفات التي يستحقها الله جل وعلا استحقاق موصوف لصفته ، كذلك { يَدُ اللَّهِ } من هذا الجنس (سمْع الله) من هذا الجنس (قدرة الله) (قوة الله) (كلام الله) { رَحْمَةُ اللَّهِ } (سلام الله) كلها من هذا الجنس .
فإذن هي إضافة صفات إلى متصف بها وإذا كان كذلك فهذا الذي في هذه الآيات وفي غيرها في هذا الباب فالإضافة تقتضي رد قول من أوّل أو قال إن في الآية مجازا لأنهم قالوا { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } قالوا يعني ويبقى ربك والوجه هذا المراد به الذات ، ويبقى ذات ربك أو ويبقى ثواب ربك ونحو ذلك .(1/251)
نقول هنا الوجه صفة من صفات الله جل وعلا لأنه أولا أضافه إلى نفسه وهو منطبق على ما ذكرنا من القاعدة .
ثانيا أن قوله { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } هنا نَعَتَ الوجه بأنه ذو الجلال والإكرام فقال { وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ } فـ (ذُو) نعت للوجه ولو أراد أن النعت للرب جل وعلا لقال (ذي الجلال والإكرام) كما جاء في آخر السورة سورة الرحمن حيث قال جل وعلا { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }
وذلك أن الجلال والإكرام للرب جل وعلا لا لاسمه وذلك أن أسماء الله منقسمة كما سيأتي .
هنا قال { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } فإذن الجلال والإكرام هاتان صفتان لوجه الله جل وعلا
{ ذُو الْجَلَالِ } وجه الله وهو ذو { الْإِكْرَامِ } هذا يمتنع عربية أن يكون نعتا للرب (وجه ربك ذي) لا قال { وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ } فهو نعت للوجه ، وهذا ظاهر واضح من حيث العربية ومن حيث القواعد في الصفات .
من المنتسبين للأشاعرة أو الذين جروا على طريقتهم وإن كانوا أخف طبقات الأشاعرة منهم من يفرق في الصفات بين صفات الذات وصفات الفعل مثل (الخطّابي) و (البيهقي) .
(البيهقي) له تأويلات من جنس الأشاعرة لكنه هو و (الخطابي) ومن على شاكلتهم أخف الأشاعرة لأنهم لم يتابعوهم في كل أصولهم وإنما في الصفات حرفوا على أصولهم مثل ما جعلهم شيخ الإسلام في أخف طبقات الأشاعرة أو الذين تأثروا بالأشاعرة .
(البيهقي) مثلا في الأسماء والصفات يفرق :
- فالصفات الذاتية عنده يقول تُثبت
- الصفات الفعلية أو ما تأول بالفعل يقول لا تثبت .(1/252)
يميز بينها (البيهقي) في كتابه الأسماء والصفات بقوله (باب الوجه لله) أو (باب اليدين لله) أو (باب إثبات الوجه لله) (باب إثبات اليدين لله) ، وأما الأخرى فيقول (باب ما جاء في الإصبع) (باب ما جاء في النزول) (باب ما جاء في كذا) فيفرق بين هذه وهذه فيثبت البعض ويخالف في إثبات الأخريات والجواب أن الباب باب واحد فكل من نفى بعضا وأثبت بعضا فهو متناقض فيما فرق فيه .
قوله جل وعلا هنا { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } (ذو) بمعنى صاحب ، يعني صاحب الجلال الموصوف بالجلال والإكرام .
فإذن الجلال والإكرام هذه صفة للوجه ، وهو صفة لله جل وعلا كما في آخر السورة { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } .
والجلال هو التعظيم والهيبة وأسماء الله وصفاته منقسمة إلى قسمين بأحد الاعتبارات :
- صفات جلال وأسماء جلال .
- وصفات جمال وأسماء جمال .
ولهذا في الختمة ، ختمة القرآن المنسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية فيها هذا التفريق حيث قال في أوله (صدق الله العظيم المتوحدُ بالجلال بكمال الجمال) وهذه من الألفاظ التي أشعرت كثيرا من أهل العلم بصحة نسبة تلك الختمة لشيخ الإسلام ابن تيمية
المقصود أن صفات الله وأسماء الله جل وعلا منقسمة إلى جلال وجمال .
معنى الجلال يعني الصفات والأسماء التي تورث العظمة والهيبة والخوف (هذا واحد) ، مثل ايش ؟
(القوي) (العزيز) (الجبار) (القهار) (القدير) إلى آخر هذه الصفات والأسماء .
صفات وأسماء الجمال هذه هي التي ينبعث عنها المحبة والرغب .
فكل صفة ينشأ عنها المحبة يقال لها صفة جمال .(1/253)
فمن صفات الله جل وعلا أنه (جميل) هذه من صفات الجمال ، الله جل وعلا هو (الرحمن الرحيم) هذه من صفات الجمال (السلام) من صفات الجمال (المؤمن) (الودود) ونحو ذلك ، الأسماء والصفات التي هي من تفريعات الربوبية ، ربوبية الله على خلقه هذه من قسم الجمال وهي التي تورث حسن التوكل على الله جل وعلا .
المقصود أن هذا باب - يعني فيه تقسيم الصفات على هذا النحو يحتاج إلى مزيد إيضاح - لكن المقصود ما يناسب قوله جل وعلا { ذِو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }
الإكرام هنا الإكرام من (الكريم) أو من (الكَرامة)
وقد ذكرنا لكم فيما مضى أن الكريم والكرامة في اللغة ما معناها ؟ من هو الكريم في اللغة ؟
الكريم هو الذي فاق جنسه في صفات الكمال هذا الكريم .
وصفات الكمال هنا اللي هي صفات الجمال فقال هنا { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }
يعني الذي فاق في أوصاف الجمال .
فجمعت الآية بين الجلال والجمال اللذَين تنقسم إليهما الصفات ، فدل على أن وجه الله جل وعلا فيه صفة الجلال وفيه صفة الإكرام وهو جل وعلا ذو الجلال والإكرام في صفاته وذاته جل وعلا .
قال بعض أهل العلم المراد بـ { ذُو الْجَلَالِ } يعني أهل الجلال يعني أهل لأن يجل أهل لأن يكرم كما قال في آية المدثر { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } يعني أهل لأن يتقى أهل لأن يغفر .
هنا { ذُو الْجَلَالِ } قال بعضهم معناها أهل الجلال يعني المستحق لأن يجل المستحق لأن يكرم .
ويكرم يعني يتوجه إليه بالعبادة الكاملة .
ويجل يعني يعظم التعظيم اللائق به جل وعلا .
إذا تبين لك ذلك الوجه الأول بأن يُجل ويكرم جل وعلا ، ومن قال إنه يقال هو المستحق للإجلال المستحق للإكرام فإن معنى ذلك أنه يوهم أن الأول منفي وذلك لأن الصفة - صفة الجلال والإكرام - أثبتت لله جل وعلا فلا يريد أن يثبتها للوجه بخصوصه لكن هذا ليس بسديد لما ذكرت .(1/254)
هذا بعض ما يتصل بالكلام على هاتين الآيتين فالواجب إذن الإيمان بنصوص الصفات والتسليم بها وإثبات ما أثبت الله جل وعلا لنفسه وعدم الخوض في ذلك بما يصرفها عن حقائقها اللائقة به جل وعلا ، فالباب باب الصفات باب واحد فمن فرق فيه بين صفة وصفة فقد عطل وتناقض .
إثبات اليدين
لله تعالى
ثم القسم الثاني من الآيات متصل بإثبات صفة اليد لله جل وعلا قال شيخ الإسلام رحمه الله وَقَوْلِهِ: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }
هذا سؤال بالمناسبة يقول ما حكم إطلاق صاحب الجلالة على البشر كأن يطلق على ص(4) منصب كملك أو أمير أرجو التوضيح .
سئل هذا السؤال الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله فقال لا بأس لأن له جلالة تناسبه وقد وُصِفَ ابن عباس وجماعة بأنهم ذو جلالة ، فصاحب الجلالة يعني الذي له جلالة تناسبه ، الاشتراك هنا بأن الجلالة يريد منها أنها يمنع إطلاقها على البشر هذا ليس صحيح مثل ما أطلق الله على من يملك في الدنيا بأنه الملك { وَقَالَ الْمَلِكُ } وهو جل وعلا الملك ، الجلالة منقسمة ، الجلالة معناها يعني وصف يقتضي هيبة ، يعني هو ذو المهابة والتعظيم وله تعظيم ومهابة تناسبه والنبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل إلى ملك الروم قال (من محمد بن عبد الله رسول الله إلى عظيم الروم) فله عظمة تناسبه ، فإذن العظمة والجلالة والهيبة لكل أحد بما يناسبه وليست هي من الصفات المختصة وجواب الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله حينما سئل عن ذلك قال (لا بأس لأن له جلالة تناسبه) مثل الرحمة تناسب المخلوق المُلك يناسب المخلوق ، السمع يناسب المخلوق إلى آخره .
الجملة الثانية من الآيات فيها إثبات صفة اليدين لله جل وعلا
قال سبحانه لأبليس { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }
هنا ثنا اليد
{ يَدَيَّ } مثنى يد ، يعني كأنه قال ما منعك لأن تسجد لما خلقت بيدي الثنتين(1/255)
وقال جل وعلا { وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }
فاليهود قالوا { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } يعني مكفوفة عن الإنفاق .
قال جل وعلا { بَلْ يَدَاهُ } يعني الثنتان { مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }
وهذه الآيات وغيرها فيها إثبات صفة اليد لله جل وعلا ومن الأدلة على إثباتها أن الله جل وعلا وصف نفسه بأنه ذو يدين .
والمتأولة قالوا اليد بمعنى القدرة أو اليد بمعنى النعمة .
وهذا القول لا يناسبه عند ذوي العقول أن يكون مثنى ، لأن القدرة والنعمة جنس وأما قوله { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } فلا يناسبه أن تكون (بقدرتَيَّ أو بنعمتَيَّ) .
ولهذا الدارمي في رده على بشر المريسي من أوجه الرد قال (وأي قدرتين أراد ؟) هذا لا شك أنه من الباطل أن يقال إن هذا بمعنى القدرتين لأن القدرة واحدة ، ولِمَ القدرتان بخصوصهما وأي القدرتين التي أراد ؟ أي النعمتين ؟ ونحو ذلك ، فإذن هذا كله فيه إثبات الصفة صفة اليد لله جل وعلا .
والنصوص التي جاء فيها إثبات صفة اليد لله جل وعلا جاءت على ثلاثة أنحاء :
" منها إثبات صفة اليد مفردة كقوله { وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } .
" ومنها إثبات صفة اليدين مثناة كقوله جل وعلا { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وكقوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } .
" ومنها أن تكون مجموعة كما قال جل وعلا { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } ، { أَيْدِينَا } هذا جمع ، { أَيْدِينَا } جمع .
فإذن وردت على الإفراد والتثنية والجمع .
لهذا نظر فيها أهل السنة في ذلك وقالوا :
التثنية هذا نص ، والجمع { أَيْدِينَا } لا يمنع التثنية والإفراد لا يمنع التثنية .(1/256)
ذلك أن الإفراد للجنس ، فمن له أكثر من شيء قد يطلق مفردا وذلك لإرادة الجنس .
أما الجمع - هذا مثله مثل صفة العين كقوله { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } ونحو ذلك - فإن الجمع له قاعدة في اللغة قاعدة في النحو ، وذلك أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير تثنية أو ضمير جمع فإنه يجوز فيه أن يجمع - يعني المثنى - تخفيفا وهذا أفصح ويجوز فيه أن يبقى على تثنيته وهذا أقل في الاستعمال .
يعني أقول ، أنا أقول (يد محمد) و (يدا محمد) و (يد محمد وخالد) و (يدا محمد وخالد) ثم أقول (يد محمد وخالد ويداهما) .
هذا ضمير تثنية ، هذا يصح وأيضا يصح في اللغة أن أقول (يد محمد وخالد وأيديهما) لأن القاعدة أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير تثنية أو ضمير جمع جاز جمعه وهو الأفصح .
ويدل عليه في القرآن قول الله جل وعلا في سورة التحريم { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فخاطب جل وعلا عائشة وحفصة بقوله { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ } عائشة لها قلب واحد وحفصة لها قلب واحد والمجموع قلبان فقال { فَقَدْ صَغَتْ } يعني مالت { قُلُوبُكُمَا } فجَمَع لماذا ؟
لأنه أراد الإضافة إلى ضمير التثنية ، المقصود هذه قاعدة ، لهذا نقول :
ما ورد مثبتا بصيغة الجمع كقوله { عَمِلَتْ أَيْدِينَا } ونحوها من الآيات فهذا فيه إثبات التثنية لأن التثنية نُص عليها بخصوصها والتثنية لا تحمل إلا على التثنية .
المثنى نص في المثنى أما الجمع فليس نصا عند الأصوليين بما زاد عن الاثنين.
كذلك المفرد ليس نصا عند الأصوليين بالواحد بل يحتمل أن يكون المراد أكثر من الواحد .
لهذا نقول : المفرد { يَدُ اللَّهِ } هذا يفسر باليدين لأن المراد الجنس .
{ عَمِلَتْ أَيْدِينَا } المراد (يدَيْنا) لكنه أضافه إلى ضمير الجمع ، أضاف المثنى إلى ضمير الجمع فجمع المثنى تخفيفا على الأفصح في لسان العرب .(1/257)
إذا تبين لك ذلك فمن الباطل أن يقال إن الله جل وعلا له أيدي كما قاله بعض من لم يفقه ، أو أن الله جل وعلا له أعين كما قاله بعض من لم يفقه فهذا فيه غلو في الإثبات وعدم فقه للسان العرب والله جل وعلا موصوف بأن له يدين وهي نص فيها .
وأما الجمع فيرجع إليه ولهذا جاء في السنة ما يبين هذا التنصيص بقوله صلى الله عليه وسلم (على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين) (يديه) (كلتا يديه يمين) كل هذي نص بأنهما اثنتان .
أما الذين تأولوا :
- فمنهم من ذهب إلى المجاز في نفي اليد وقال إنها مجاز عن القدرة مجاز عن الإنعام .
- ومنهم من قال إن ذلك يُأَوَّل والمراد لازم ذلك ومما استدلوا به أن العرب تقول (لفلان عليّ يد) يعني نعمة وفضل .
فنقول هذا الكلام صحيح فإن العرب تقول (لفلان عليّ يد) وتريد النعمة يعني له علي نعمة لكن العرب لا تستعمل ذلك إذا أرادت النعمة إلا على وجه واحد فقط ألا وهو القطع عن الإضافة ما تقول (يد فلان علي) (يد محمد علي) إذا صار لمحمد فضل عليه تقول (يد محمد علي) هذا لحن ولم تستعمله العرب قط وإنما تقول (لمحمد عليّ يد) بالقطع عن الإضافة لأنه بالقطع خرجت إرادة الصفة .
(يد) هنا ليست يد محمد لكن يد بمعنى النعمة ، فتقول (لفلان عليك يد) يعني عليك نعمة لأنك قطعت ولا يجوز أن تقول (يد محمد علي) بمعنى نعمة محمد علي .
فإذن استعمال يد بمعنى النعمة صحيح في لسان العرب والشواهد عليه معروفة ولكن هذا جاء على نحو واحد وهو أن يقطع عن الإضافة .
أما إذا أضيفت اليد إلى الذات فإنه يراد الذات المتصفة باليد .
مما قيل في ذلك يعني في صفة اليد لله جل وعلا وكذلك صفة الوجه لله جل وعلا مما اعترض به على أهل السنة ولكن اعتراض باطل هو أن الله جل وعلا قال في الوجه قال { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
شيخ الإسلام لما اعْتُرِضَ عليه بذلك حيث قال لما جاءت المناظرة في الواسطية قال :(1/258)
أتحداكم وأمهلكم ثلاث سنين لو ظفر واحد منكم - يعني من العلماء اللي حوله - لو ظفر واحد منكم بآية في الصفات تأولها السلف .
فقالوا أرجئنا يوما واحدا ، فلما أتى من غد قالوا ظفرنا بذلك .
قال أظنكم تريدون قوله جل وعلا { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ }
قالوا نعم .
قال هذا معناه الوجهة ، فأينما تولوا فثم وجهة الله يعني فثم القبلة وليس هذا من نصوص الصفات .
يعني قصده من ذلك النصوص التي هي ظاهرة في الصفات .
ومثله - مثل هذا - في قوله جل وعلا في اليد قال { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }
{ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } قالوا هنا معنى (أيد) يعني القوة .
و (أيد) هذه أصلها (أيدي) لكن لما جرت هنا حذفت الياء يعني أصلها (والسماء بنيناها بأيديٍ) هكذا قالوا .
والجواب أن هذا ليس بصحيح ، وذلك أن (الأيد) في لغة العرب (الأيد) بمعنى القوة .
وليس ثَم علاقة بين الأيد واليد وذلك أن الهمزة في (أيد) أصلية
(أيد) الهمزة فيها أصلية : آد يؤود أيدا ، والأيد القوة ولها معانٍ أخر
فالهمزة هنا ليست للجمع ولكنها همزة أصلية في الكلمة .
هذا لأجل أن معناها القوة .
فإذن هذه الآية { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } ليست هنا جمع (يد)
يعني (والسماء بنيناها بقوة وإنا لموسعون) ويدل عليه قوله جل وعلا في سورة ص { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ }
هنا { ذَا الْأَيْدِ } يعني أيش ؟
هنا يصفه جل وعلا بما لم يشترك فيه مع غيره .
من جهة اليدين كل إنسان له يدين .
جل وعلا يصفه بما ليس في غيره وهو أنه ذو القوة التي اختصه بها ، خصه الله جل وعلا بها فقال { ذَا الْأَيْدِ }
{ الْأَيْدِ } صارت عندنا (أل) التعريف مع كلمة (أيد) التي هي القوة .
و(أيد) هذه الثانية هي التي في سورة الذاريات { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } يعني بقوة ،(1/259)
{ ذَا الْأَيْدِ } يعني ذا القوة ونحو ذلك وهذا باب معروف والمناظرة أو الرد على أولئك من السهل والحمد لله .
نكتفي بهذا القدر ونجيب على بعض الأسئلة في الدقائق التي بقيت ، نعم ......
(كلتا يديه يمين) العرب تصف الشمال بالنقص ، اليد اليمنى واليد اليسرى ، اليد اليسرى عندهم ناقصة عن اليمنى ، فاليمنى في الإنسان عند العرب هي ذات الكمالات ، واليسرى هي لما لا يحمد من الأمور ، فيها العجز وفيها مزاولة ما لا ينبغي ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما أثبت ذلك قال (على يمين الرحمن) حتى لا يتوهم أن إحدى اليدين يمين في ذاتها وصفاتها والأخرى ليست كذلك رفع ذلك الاحتمال بقوله (كلتا يديه يمين) يعني (يعني كلتا يديه شريفة متصفة بصفات الكمال ليست إحدى اليدين مفضلة على الأخرى) ثم هنا بحث : هل توصف الثانية بأنها شمال أم لا ؟ هذا فيه بحث معروف يأتي إن شاء الله في موضعه . هو متصل الحقيقة باليدين لكن يحتاج إلى شيء من التفصيل .
كتاب عبدالرحمن حبنّكه يسأل عنه (أسس العقيدة الإسلامية) ؟
ما تحتاج لكتب المعاصرين الآن طالب علم تقرأ كتب السلف ، كتب المعاصرين الذين لا يبينون عقيدة أهل السنة قصدا ويوضحونها ما تحتاجها في العقيدة ، خاصة العقيدة إياك ، يعني حتى تضبط عقائد السلف بتفصيلاتها ثم بعد ذلك يمكن أن تقرأ في بعض الكتب في ذلك ، هذا الكتاب من جنس كتب الشيخ عبدالرحمن حبنّكة الميداني هو عنده ميل إلى الأشعرية أو التصريح بها في مواضع وله كتاب اسمه (ضوابط المعرفة) كتاب فلسفي يعني المعرفة عند الفلاسفة ...
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
إثبات العينين
لله تعالى(1/260)
وَقَولُهُ: { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [الطور:48]، { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ(13)تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ } [القمر:13-14]، { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طه:39].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد فهذا درس هو آخر الدروس قبل الحج ومعنا يوم الاثنين إن شاء الله في الزاد ويوم الثلاثة ليس فيه درس ونقف إن شاء الله إلى أول الأسبوع من الدراسة يعني نبدأ مع بداية الدراسة إن شاء الله .
ذكر المؤلف رحمه الله هذه الآيات التي فيها إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا وهذا كله داخل في جملة أركان الإيمان لأن أركان الإيمان منها الإيمان بالله جل وعلا وللتذكرة ذكرنا أن الإيمان بالله جل وعلا هو الإيمان بربوبيته وبألوهيته وبأسمائه وصفاته ، ودخل في هذه الجملة - جملة الإيمان بالله - الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه من هذه النصوص التي ساقها شيخ الإسلام من أول ما بدأنا إلى هذا الموضع وإلى ما بعده .
فمن تلك الصفات إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا .(1/261)
وذَكَرَ الأدلة الدالة على إثبات تلك الصفة لله جل وعلا قال جل وعلا { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } وقال جل وعلا { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُر * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِر َ } وقال جل وعلا { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } فيجب الإيمان بهذه الصفة لله جل وعلا والنصوص من الكتاب والسنة دلت على إثبات هذه الصفة فيجب أن يُصَدَّق خبر الله جل وعلا إذ لا يصف الله جل وعلا أحد أعلم به من نفسه جل وعلا من نفسه فالإيمان بها واجب وتأويلها وردها هو من جملة التحريف الذي هو كفر بالصفات كما قال جل وعلا { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي } { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } لما أنكروا اسم الرحمن لله جل وعلا وقالوا لا نعرف إلا رحمان اليمامة فكل من أنكر صفة من صفات الله جل وعلا فهو كافر بها .
هذه الأدلة دلت على إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا .
وفي هذه الآيات ذكرت العين مفردة وذكرت مجموعة :
- ذكرت مفردة مضافة إلى المفرد في قوله جل وعلا { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } .
- وذكرت مجموعة مضافة إلى ضمير العظمة ضمير الجمع قال جل وعلا { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } وكذلك قوله { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا }
هذا فيه إثبات صفة (العين) لله جل وعلا وعلى هذا أهل السنة والجماعة قاطبة .
وجاء في السنة بيان أن لله جل وعلا عينين وذلك في مثل حديث ابن عمر المتفق عليه بين البخاري ومسلم وخرجه جمع كثير وهو العمدة في الباب قال عليه الصلاة والسلام (إن ربكم ليس بأعور وإن الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية) ، كذلك جاء في حديث أنس وفي حديث غيرهما أن الدجال أعور وأن الله ليس بأعور .(1/262)
قال أهل اللغة (إن الأعور هو من فقد أحد عينيه) وذلك لأن مخلوقات الله المعروفة لدى العرب من الإنسان كذلك الحيوان كلها لها عينان فوضعت العرب هذا الاسم (العَوَر) لمن فقد أحد عينيه
فهو خاص بذلك وليس العور هو ذهاب البصر .
لهذا دل هذا الحديث (إن ربكم ليس بأعور) على إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا بدلالة الوضع اللغوي من أن (العَوَر) في اللغة عند العرب هو فقد أحد العينين .
إذا تبين لك ذلك فأهل السنة والجماعة يفهمون النصوص الواردة في صفة (العينين) لله جل وعلا بما يوافق بعضها بعضا :
- ففيها الإفراد في قوله جل وعلا { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } والإفراد لا ينافي التثنية في السنة كذلك لا ينافي الجمع ، لأن السنة مبينة للقرآن ومن المعلوم أن المفرد المضاف لا يدل على الوَحْدة بل قد يدل وهو الأكثر على الكثرة كما في قوله مثلا { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } { نِعْمَةَ اللَّهِ } هنا لم يرد بالنعمة واحدة النعم وإنما أراد الجنس وهي كثرة .
وهذا متقرر في العربية أن المفرد إذا أضيف فإنه قد يفيد الكثرة وهو الغالب وقد يفيد الوَحْدة كما تقول (هذا كتاب فلان) يعني الكتاب واحد وقد يفيد الكثرة .
ولذلك هنا الإفراد لا ينافي الجمع الذي جاء في الآيتين الأخريين اللتين ساقهما شيخ الإسلام ولا ينافي التثنية التي جاءت في الحديث وذلك لأن المفرد يدل على أكثر من الواحد إذا أضيف ، يعني قد يدل على أكثر من الواحد إذا أضيف .
كذلك قوله جل وعلا { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }
هنا جمع فقال (أعين) ثم أضافها إلى ضمير العظمة هو الموافق للجمع فقال { بِأَعْيُنِنَا } .
و(الأعين) جمع والجمع يصدق على الاثنين فما زاد عند كثير من أهل العلم أو على الثلاثة فما زاد بإجماع أهل السنة من أهل العربية أهل الأصول .(1/263)
السنة فيها إثبات العينين لله جل وعلا ، فكيف نفهم الجمع ؟
مرت معكم القاعدة في ذلك في العربية في بحث يدي الله جل وعلا وبينت لكم أن من قواعد العربية (أن المثنى إذا أضيف إلى ضمير تثنية أو جمعٍ جُمِع على الأفصح) كما قال جل وعلا { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
قال { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } السارق تقطع منه يد واحدة والسارقة تقطع منها يد واحدة فصار المجموع يدين ، والله جل وعلا قال { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } والأيدي جمع يد والمثنى يديهما .
ولم جمعت ؟
لأنه أضيف إلى ضمير تثنية قال { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
أصل الكلام (فاقطعوا يديهُما) لكن فيه ثقل والقاعدة عرفتها فصارت { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } هذا هو الفصيح ،كذلك قوله جل وعلا { إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } والمرأتان لكل واحدة منهما قلب فعائشة لها قلب وحفصة لها قلب فصارا لهما قلبان إذا أضيفا إلى ضمير التثنية جمعا فقال { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } .
وهكذا النصوص التي جاءت في (اليدين) أو جاءت في (العينين) لله جل وعلا هي على هذا الأصل.
قال جل وعلا { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } هنا الأعين يعني العينين .
ليس لله جل وعلا أكثر من عينين بل له عينان جل وعلا .
هذا معتقد أهل السنة لدلالة السنة على ذلك وموافقتها للسان العربي الشريف .
كذلك الآية الثانية قال { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ()تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا }
فجمع لأن المثنى أضيف إلى ضمير جمع ، قال { بِأَعْيُنِنَا } فجمع المثنى لأن المثنى أضيف إلى ضمير جمع فجعل المثنى جمعا للّتناسب كما جاءت القاعدة .
إذا تبين لك ذلك وأن الإيمان بأن الله جل وعلا متصف بأن له (عينين) جل وعلا فهما صفتان ذاتيتان من صفات الذات .(1/264)
إثبات صفة العين لله جل وعلا وأن له جل وعلا (عينين) هذه من صفات الذات التي لا تنفك عنه جل وعلا مثل (الوجه) و (اليدين) وغيرها من الصفات هذا معتقد أهل السنة والجماعة .
أما المعطلة معطلة الصفات :
- فالمعتزلة ينفون صفة البصر لله جل وعلا وينفون صفة العين والعينين لله جل وعلا فعندهم أن الله جل وعلا ليس له عين وليس له بصر جل وعلا .
- والأشاعرة تناقضوا فأثبتوا صفة البصر لدلالة لعقل على ذلك ونفوا صفة العينين لله جل وعلا .
وأهل السنة أعملوا النصوص فأثبتوا البصر لله جل وعلا وأثبتوا (العينين) لله جل وعلا ، وأبو الحسن الأشعري - رحمه الله - في كتابه الإبانة أثبت صفة (العينين) لله جل وعلا ..
انتهى الشريط التاسع من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط العاشر
وأبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه الإبانة أثبت صفة (العينين) لله جل وعلا ولا شك أن في هذا مخالفة لقول المعتزلة وكذلك قول الكلابية وأصحاب أبي الحسن الأشعرية .
إذا تبين لك ذلك فقول الله جل وعلا { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }
فيه إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا .
بأي دلالة ؟
بدلالة السنة لأن السنة مفسرة ومبينة للقرآن ، وهنا قال (أعين) والسنة بينت أنهما عينان .
فنقول : في الآية إثبات صفة (العينين) لله جل وعلا لأن السنة مفسرة ومبينة للقرآن .
ما معنى الآية ؟
معناها [ { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ } - يأتي شرح أولها - { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } يعني فإنك بمرأى منا وبصر وعناية ورعاية وكلاءة وحفظ ] .
وهذا التفسير هو تفسير السلف لذلك ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بعين الله التي هي صفته وإنما هو عليه الصلاة والسلام بأعين الله الذي هو أثر اتصافه بـ (العينين) .
ولهذا أهل السنة حين يفسرون بهذا يعدون هذا من باب (التضمن)
والتضمن أحد دلالات اللفظ ، لأن اللفظ :(1/265)
" له دلالة بالمطابقة .
" وله دلالة بالتضمن .
" وله دلالة دلالات باللزوم .
فهذا اللفظ بالمطابقة - المطابقة إثبات صفة العين لله جل وعلا -
ما المعنى ؟
هنا يحتاج إلى دلالة التضمن .
فقالوا معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم بمرأى وبصر وكلاءة ورعاية وحفظ من الله جل وعلا
وذلك لأنه مضمون قوله { بِأَعْيُنِنَا } .
فإذن ليس هذا من باب التأويل كما زعمه من لم يفقه بل هذا من باب التضمن .
والتضمن دلالة عربية واضحة من اللفظ .
قال السلف هذا مع إثبات صفة العينين ، فإن السلف قد يفسرون بالتضمن وقد يفسرون باللازم ويظن الظان أن هذا من التأويل وهذا غلط .
فإن التضمن شيء واللزوم شيء هذا من دلالة اللفظ .
وأما التأويل فهو محو لدلالة اللفظ .
التضمن واللزوم هذا من دلالات اللفظ ، دلالات اللفظ على المعنى ، أما التأويل فهو صرف اللفظ عن معناه .
إذا تبين هذا فإذن قول الله جل وعلا { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } هذا أمر لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يصبر لحكم الله .
والصبر في اللغة الحبس ، (قتل فلان صبرا) أي حبسا ، محبوسا يعني مربوط أو شيء محبوس عن الحراك والتصرف ممنوع من التصرف والحركة فيقتل ، (صبر فلان شيئه) يعني حبسه ، (صبر فلان ماله) يعني حبسه وكنزه .
الصبر في الشرع هو [حبس اللسان عن التشكي وحبس النفس عن الجزع أو حبس القلب عن الجزع وحبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك يعني في خصوص أقدار الله المؤلمة]
هنا الصبر قال الله جل وعلا { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } واضح أن الصبر أمر به فمعنى ذلك أنه واجب وقال
..
{ وَاصْبِرْ } وهذا أمر هذا معناه أن الصبر واجب هذا هو الصحيح فإن من أهل العلم من قال إنه مستحب هذا غلط والصواب أنه واجب للأمر به في آيات كثيرة .
قال الإمام أحمد (أمر بالصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعا) .
قال { لِحُكْمِ رَبِّكَ } الحكم نوعان كما تقدم الكلام عليه :
" حكم كوني قدري .(1/266)
" وحكم شرعي ديني .
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر على النوعين :
- أمر بالصبر على حكم الله الكوني القدري وما فيه مما يسر النفس أو مما يؤلمها ، ما فيه من المصائب ما فيه من معاندة المشركين وابتلاء الله جل وعلا نبيه بذلك فيحتاج إلى صبر
- كذلك الصبر على الحكم الشرعي وهو الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي
فإذن صار الصبر على حكم الله الكوني وحكم الله الشرعي تضمن أنواع الصبر الثلاثة
فإن الصبر على حكم الله الكوني فيه (الصبر على أقدار الله المؤلمة) والصبر على حكم الله الشرعي هذا فيه (الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية) فجمعت هذه الآية أنواع الصبر الثلاثة { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّك }
" الصبر على الطاعات .
" صبر عن المعاصي .
" صبر على أقدار الله المؤلمة .
قال { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } وهنا ذكرت الباء فقال { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } والباء تفيد الإلصاق الذي يفيد معنى الملازمة والدوام ، يعني [ فإنك دائما بمرأى منا وببصرنا وفي كلاءتنا ورعايتنا ] وهذا من دلالة الباء اللفظية .
لاحظ الآية الأخرى قال جل وعلا { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي }
قال { عَلَى عَيْنِي } { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } والمعنى أي [ على كلاءة مني ورعاية وحفظ ] .
فما الفرق بين (الباء) و (على) ؟
هذا تنويع لأجل دلالة الحال فإن موسى عليه السلام كان يُسْتَخْفَى به كحال أطفال بني إسرائيل وقال جل وعلا في منته على موسى { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } .
ففي قوله (على) ما يفيد ظهوره وعلوه لأن (على) تفيد الاستعلاء ، وأطفال بني إسرائل كان يُسْتَخْفَى بهم في السنة التي يحق عليهم القتل ، والله جل وعلا يمن على موسى بأنه صنعه على عينه لأن في ذلك الاستعلاء والظهور لشأن موسى لكلاءة الله وحفظه ورعايته .(1/267)
هذا من أوجه الفرق ، هذا هو الفرق بين (الباء) و (على) وليس ثَم فروق أخرى كما يدعيه بعض المؤولة .
هنا قال جل وعلا { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ () تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا }
معلوم أن السفينة لا تجري في عين الله وإنما تجري بحفظه وكلاءته ورعايته وحفظه ،حفظ السفينة ومن فيها من كل الآفات ، قال جل وعلا { وَحَمَلْنَاهُ } أي حملنا نوحا { عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } يعني على السفينة ذات ألواح
والدسر هي المسامير التي تربط بها الألواح وتشد بها .
قال جل وعلا { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } يعني أن النصر سيكون له وأن غير هذه السفينة سيكون هالكا لأن الرعاية والحفظ كان لها ولمن فيها .
{ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } تفاسير السلف مثل الأولى دائرة على أنها تجري في حفظ منا وكلاءة ورعاية وهذا تفسير تضمن .
قال جل وعلا في الآية الأخيرة قال جل وعلا { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي }
يعني يحبه آل فرعون ويحبه بنوا إسرائيل وكذلك يحب موسى عليه السلام كل مؤمن بالله ، لأن المؤمنين بالله جل وعلا يحبون الرسل من عرفوا منهم ومن لم يعرفوا من شهدوهم ومن لم يشهدوهم
فنوح عليه السلام وأتباعه يحبون كل أنبياء الله جل وعلا ورسله مع أن نوحا هو أول الرسل ، كذلك من بعده يونس كذلك إبراهيم كذلك الرسل ، كل رسول ومن اتبع ذلك الرسول يؤمن بجميع الرسل ويحب جميع الرسل ، الذين بعثوا إليهم وكذلك الذين بعثوا إلى غيرهم ممن لم يعرفوهم(1/268)
والمحبة عامة ومن كذب برسول كما تعلمون فقد كذب بجميع المرسلين قال جل وعلا { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } وهم قد كذبوا نوحا وحده لأنه أول الرسل فسماهم الله جل وعلا مكذبين لجميع المرسلين لأنهم كذبوا رسولا واحدا ، فمن جحد رسالة رسول فقد جحد برسالة جميع الرسل ومن تنقص رسولا قد تنقص جميع الرسل لأنهم أوجب الله جل وعلا محبتهم وأجب الله جل وعلا طاعتهم ، كل يطاع بحسب أمر الله جل وعلا في خصوص الأقوام الذين يبعثون إليهم .
إذن هذه الآيات فيها إثبات صفة العينين لله جل وعلا والسنة موضحة ة لذلك .
إثبات السمع والبصر
لله سبحانه
بعد هذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله صفة السمع لله جل وعلا
وذكر قوله جل وعلا { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا }
وهذه الآيات التي ذكرها في إثبات صفة السمع لله جل وعلا لم ينفها إلا المعتزلة وأما أهل السنة فيثبتون السمع لله بدلالة النصوص .
كذلك الأشاعرة والماتريدية والكلابية يثبتون ذلك بدلالة النصوص .
وتنوعت الأدلة ففيها الإخبار بلفظ الماضي { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ } { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } ونحو ذلك من الآيات .
فيها المضارع وفيها الماضي .
عائشة رضي الله عنها قالت (سبحان من وسع سمعه الأصوات) فجاءت بالصفة والله جل وعلا أثبت الاسم صيغة المبالغة التي هي من اسم الفاعل فقال { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .
فتنوعت الدلالات في النصوص على إثبات صفة السمع فلذلك إنكارها أبشع ما يكون لأن الدلالات كانت متنوعة :
أتى بلفظ الماضي والمضارع واسم الفاعل والصفة ، كلها جاءت فتحريفها أو نفي دلالتها هذا من المحال إلا بنوع هوى .(1/269)
وتنويع الدلالة على الصفة لا شك يقوي إثبات الصفة ويكون ذلك أوضح وأوضح عند النظر .
هذه الصفة المذكورة في هذه الآيات وهي صفة سمع الله جل وعلا ، سمع الله جل وعلا متعلق بالمسموعات .
فقوله { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ } متعلق بذلك القول ، فسَمِعَ جل وعلا لما قالت المرأة
هذا معتقد أهل السنة .
الأشاعرة والماتريدية وجماعات يقولون سمعه قديم .
يثبتون السع ولكن السمع عندهم ليس بحادث ، السمع قديم .
فسمع الكلام في القدم لعلمه به هكذا يزعمون .
وهذا الكلام فيه التكذيب للقرآن ولولا التأويل لكانوا كفارا بذلك ، لأن الله جل وعلا يقول { وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } وقال { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ } وإذا كان السماع في الماضي قبل مجيء الكلام وقبل حصوله وقبل حصول المجادلة بين المرأة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يصح أن يقال { قَدْ سَمِعَ } بصيغة الماضي ؟
وإنما يقال { قَدْ سَمِعَ } إذا كان الأمر قد وقع وانتهى ولهذا
....... (1)
قال نجد في النصوص لفظ الماضي ولفظ المضارع فقد يكون في إثبات السمع القديم البصر القديم دون البصر الحادث والسمع الحادث والكلام الحادث فيه نفي لدلالات النصوص وفيه تكذيب لها لأن الله جل وعلا يقول { قَدْ سَمِعَ } وهؤلاء يقولون سمعه قديم .
كيف ؟ سمع في القدم قبل حدوث الكلام ؟
هذا لا يصح أن يقال { قَدْ سَمِعَ } .
قال جل وعلا { وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } هذا فعل مضارع دلالته على الحال يعني يسمع تحاوركما الآن .
قد قالت عائشة (سبحان من وسع سمعه الأصوات أتت المجادلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجادله في زوجها وليس بيني وبينها إلا جدار لم أسمعها) .
الله يسمع ، حين الكلام سمع ذلك جل وعلا .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(1/270)
وهذا ما يثبته أهل السنة والجماعة ، هذا ولا شك يعظم الصفة في نفس المؤمن لأنه يعلم أن الله جل وعلا يسمع سره ونجواه { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } يسمع جل وعلا السر والنجوى فلا يخفى عليه شيء ، سمعه وسع الأصوات ، ما من شيء يُسْمَع إلا والله جل وعلا يسمعه ، يسمع صوت دبيب النمل فوق الصفا ، وهذه الصفة يجب الإيمان بها كما ذكرت بدلالاتها
السمع في النصوص السمع من حيث هو فعل { سَمِعَ } أتى على أربعة أنحاء :
" الأول { سَمِعَ } بمعنى السمع المتعلق بالمسموعات يعني بالأصوات ، هذا واحد .
" الثاني السمع المتعلق بالمعاني وهو سمع الفهم والعلم والعقل .
" الثالث السمع بمعنى الإيجاب ، (سمع) بمعنى أجاب ، وهذا متعلق بالسؤال .
" الرابع سمع بمعنى الانقياد ، { سَمِعَ } بمعنى انقاد ، (سمع فلان لفلان) بمعنى انقاد له .
هذه أربعة جاءت في القرآن والسنة هذه الأربعة ولا خامس لها .
الأول : { سَمِعَ } تعلقه بالأصوات كالآيات التي سمعت وهي قوله جل وعلا { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } هذا سماع للمسموعات يعني للأصوات { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } هذا أولا .
الثاني : سمع فهم وعقل وإدراك كقوله جل وعلا { وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } ليس المنفي هنا سماع الأصوات { وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } يعني سمع الإدراك والفهم والعقل ، قال جل وعلا { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ } يسمعون يعني يفهمون ، قال جل وعلا { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } يعني ألقى قلبه ، سمعه اللي هو سمع الفهم ليس الأذن فقط . هذا الثاني .(1/271)
الثالث : سمع بمعنى أجاب وهو متعلق بالسؤال وهذا في قولنا في الصلاة (سمع الله لمن حمده) يعني أجاب الله سؤال من حمده أو أجاب الله حمد من حمده ، والإجابة هنا تكون بالثواب أو بالعطاء .
الرابع : سمع الانقياد والطاعة وهذا كما قال جل وعلا { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } يعني منقادون لهم ، وكذلك قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا } يعني انقادوا واتبعوا وأطيعوا ،كذلك قوله { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } يعني سمع الانقياد .
إذا تبين لك ذلك فهي مُرتبة على هذا الترتيب فقد يسمع سمع الأصوات ولا يفهم كما قال جل وعلا { وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } سمعوا الصوت ولم يفهموا الكلام على وجهه .
قد يكون سمع عقل وفهم ولا يكون إجابة لسؤال .
أن يُسأل فلان فيفهم ، يسمع الأصوات يفهم ويعقل معنى السؤال ولكن لا يجيب .
الثالث سمع إجابة متضمن للإجابة وللفهم ولسمع الصوت .
الرابع الانقياد وهو متضمن للجميع .
وهذه كلها مثبتة لله جل وعلا على وجه الكمال .
- المثبت لله جل وعلا هذه الثلاثة أما الرابع اللي هو سمع الانقياد والطاعة هذه خاطب الله جل وعلا بها المخلوق - .
أما المخلوق فلا يتصف من تلك الصفات إلا بأقلها فله سمع يناسب ذاته الحقيرة ، سمع للأصوات .
إذا فهم فيفهم الفهم الذي يناسب عقله وذاته ، إذا أجاب فإنما يجيب بما يقدر عليه من الأشياء الحقيرة التي في يديه ، وإذا انقاد فإنه ينقاد على وجه النقص أيضا ، حاشا الكُمَلِ من خلق الله جل وعلا وهم الرسل فإن انقيادهم لله جل وعلا وطاعتهم كاملة ومع ذلك يستغفرون الله جل وعلا.
إذا تبين لك ذلك فيظهر لك عظم هذه الصفة صفة السمع لله جل وعلا واسم الله (السميع) فإنه جل وعلا يسمع الأصوات ويعلم جل وعلا معاني كلام الخلق على اختلاف لغاتهم وعلى تفنن حاجاتهم(1/272)
يخاطبه جل وعلا العربي ويخاطبه جل وعلا العجمي يخاطبه صاحب كل لسان والله جل وعلا هو الذي خلق اللغات وخلق الألسنة وهو جل وعلا يسمع ذلك ويجيب ويثيب ويحاسب تبارك وتعالى.
هذا ملخص الكلام على صفة (السمع) لله جل وعلا .
نجيب على بعض الأسئلة ..
هذا سؤال عجيب أقرأه عليكم ، سؤال من فاهم يعي معنى الكلام :
يقول السلام عليكم ، هذه مناقشة أريد أن أصل فيها إلى حل إشكال لي ، وهي :
لو قال مبتدع المراد بيد الله قوته ونعمته فرددت عليه بأن هذا تأويل باطل ، قال لك : أنتم تفسرون { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } بالحفظ والرعاية وهذا تأويل باطل فلماذا تثبت هنا وتنفى هناك إذ هذا تحكم ، قال السنى : إنما فسرنا آية { أعيننا } بالحفظ والرعاية لأجل فساد معنى تفسير أن المراد بالآية العين الباصرة ، قال المبتدع : وأنا قلت بأن المراد باليد القوة .. وصرفته عن الحقيقة لأجل فساد المعنى لأجل التجسيم ، فلماذا تنهاني عن تفسيري لهذه الآية بمعنى يخالف الحقيقة وأنت تفسر الآية بمعنى يخالف الحقيقة ؟
هذا السائل فاهم من جهة ، فاهم معنى التأويل ولكنه مخلط من جهة أخرى وذلك أن :
- أنا أعطيه فرقا يقصر معه الجواب -هو أن أهل السنة حينما يفسرون بالتضمن لا ينفون المطابقة لا ينفون الحقيقة فهم إذا فسروا { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } يعني بكلأنا ورعايتنا قالوا العين مثبتة .
أما المبتدعة فإنهم حينما يقولون { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } أي بقدرتيّ وقوتيّ ينفون معنى اليد .
من لوازم إثبات الصفة إثبات المعاني التي يقولها المبتدعة ، من لوازمها لكن ليست هي .
فأهل السنة يثبتون الصفة ويثبتون ما تضمنته ويثبتون اللوازم ، فالأعين يثبتونها ، لأنا الآن نسوق الآيات في إثبات صفة العين ، ويقول : هذا تأويل ، ما نفينا صفة العين حتى يكون تأويلا ، نحن أثبتنا صفة العينين لله جل وعلا ، فنقول : فيها إثبات صفة العينين والمعنى ، المعنى أيش ؟(1/273)
المعنى تجري بكلأنا ورعايتنا ، فليس فيها نفي الصفة
لو قال قائل : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لو قال قائل : يعني تبارك الذي تحت قدرته وتصرفه الملك ، هذه قد يقولها رجل من أهل السنة ويقول معها : هذه الآية فيها إثبات صفة اليد لله تعالى والملك تحت قدرة الله تعالى وتصرفه ، فيكون الكلام صحيحا ، هذا تفسير بالتضمن ، تفسير باللازم ، لأنه يلزم من كون الملك بيد الله جل وعلا أن يكون تحت تصرفه وتدبيره وقدرته هنا يلزم من إثبات العينين لله جل وعلا أن الله جل وعلا يكون مع الذين اتقوا ، مع المؤمنين
يلزم من قول الله جل وعلا { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أن هذا تشديد على نكث البيعة ، لهذا المفسرون من أهل السنة قالوا في قوله { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } قالوا { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } فيها إثبات صفة اليدين لله جل وعلا والمعنى تشديد أمر نكث البيعة { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } تشديد أمر نكث البيعة ، لماذا ؟
لأن الله جل وعلا شدد ذلك بذكر صفته وهي اليد فيكون المعنى اللازم عن ذلك مرادا مع إثبات الصفة.
فالفرق بين المبتدعة وأهل السنة أن السلف يفسرون اللفظ بالمطابقة ، يفسرون آيات الصفات بالمطابقة ويفسرنها أيضا بالتضمن واللازم ، وأما المبتدعة فينفون الدلالات هذه ويقولون بالتأويل ولابد من - يعني المناقشة مع أهل البدع - لا بد فيه من معرفة أصول الفقه ، لأن أصول الفقه فيها حل هذه الإشكالات لأنها هي المرجع لفهم دلالات الألفاظ ، لفهم الكلام .(1/274)
فإذن نقول اللفظ يدل على معناه بالمطابقة أو يدل على معناه بالتضمن أو بالمطابقة والتضمن جميعا ويدل على المعنى اللازم ، فاللفظ له ثلاث دلالات تجتمع جميعا لا ينفى ، فيدل على المعنى جميعا بالمطابقة ، يدل على بعض المعنى بالتضمن ، يدل على أمر خارج باللازم ، هذه دلالات اللفظ ، المؤولة ينفون دلالات اللفظ ويقولون هذا غير مراد ، يذهبون إلى شيء آخر ، ظاهر ؟
فإذن هذا الكلام الذي قدره السائل مناقشة بين سني وبدعي ليس هكذا ، ولا أظن مبتدعا حاذقا يقول بمثل هذا الكلام
لأن المبتدعة حذاق لو قالوا بهذا الكلام رد عليهم بسرعة ، لكن هم يقولون هذا تجسيم ، تجسيم ، تجسيم ، فينفون الصفات لأجل بشاعة هذا اللفظ ، تجسيم ، تجعلون الله جل وعلا جسم ، هذا تشبيه هذا تمثيل إلى آخره ، وهذه هي أقوى متعلقاتهم الخبيثة
وأما أهل السنة فالحمد لله يفهمون المعاني كلها فهم أفقه الخلق بدلالات الكتاب والسنة وأيضا دلالات اللغة العربية ولله الحمد
فهم ما أثرت فيهم لوثات اليونان ولا أثرت فيهم لوثات الفلاسفة ولا العقليات الباطلة وإنما جمعوا بين السمع والعقل .
ونأخذ سؤالا آخر ، نعم .
......
الآن الباء للملاصقة
قرأتها في النحو ؟ .. وش معناه ؟ ..
جميل ، صح ، الملاصقة في النحو على درجتين :
ملاصقة للشيء بالشيء ذاتا .
وقرب الشيء من الشيء .
هذه ذكرها سيبويه في الكتاب ، تقول (مررت بفلان) كيف مررت ؟ لاصقته يعني ؟ (مررت بك) يعني ايش ؟ هذه الباء للملاصقة .
قالوا معناها يعني بمكان ملاصق لمكانه يعني بقربه ، فإذا كان كذلك لا تفهم الملاصقة معناها المماسة ، هذا في بعض المواضع . { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ملاصقة ، يعني إلصاق ذات بذات ، صحيح ؟
هنا { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } هذا يدل على القرب ، طيب .(1/275)
هذه باء الملاصقة للقرب ، النوع الثاني ، واضح لك
فافهم الملاصقة ما هي معناها أن هذه في هذه ، أو أن هذه ملاصقة ذاتا ، لا .
وإذا كان معناها القرب ، يعني التصاق القرب فكان - هنا القرب ما فائدته - معناها في كلاءتنا ورعايتنا ونحو ذلك .
واضح ؟ ما في باقي شي من حجج المبتدعة ؟
شيخ الإسلام رحمه الله فاهمهم ، يعني ضابطهم وهو أقدر من أتى في هذه الأمة من بعد ظهور هذه الأهواء المضلة يعني من بعد القرن الثالث ، أقدر من أتى على رد إفك المبتدعة ، لماذا ؟
لأنه دخل معهم في القواعد { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ } بعث الله جل وعلا شيخ الإسلام ابن تيمية للناس عالما مجددا يأتيهم من القاعدة ، يزلزل القاعدة ، ومن الإشكالات العقلية المهمة في المناقشات أنه يجي يقدم مقدمة ثم يبني عليها أشياء ، تروح تنشغل أنت بالنتائج تنسى المقدمة ، يصعب الرد ، مثل الآن - اللي ذكرني به - الكلام أن الباء للملاصقة ، وكيف ؟ يشكل عليه ، لو سلمنا بمعنى الملاصقة على ما كان في الذهن كان الإشكالات تصير قائمة ولا نستطيع حلها .
شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم ومدرسة شيخ الإسلام جميعا تميز بأنه يغوص معهم في القواعد ، شوف ، يبدأ من النقطة اللي بدؤوا منها ، إذا جابوا مقدمة من أول الطريق يمسك المقدمة وينسفها ، خلاص ، ما عاد يبقى شيء ، يصير ما بني على باطل فهو باطل ، وهذه من المهمات لأهل العلم ، من المهم أن تفهم الأساس ، القول الأساس اللي بني عليه هذا القول .
إذا عرفت الأسس التي بنيت عليها الأقوال سواء الأقوال الحقة أو الأقوال الباطلة أمكنك تصور الحق من أساسه بحيث لو أتى واحد بيشبّه عليك ما تتزلزل عنه لأنك فهمته من أوله ، كذلك الأقوال الباطلة إذا فهمتها من أساسياتها استطعت أن ترد عليهم بنقض أساسياتهم ، لأن نفس الأساس اللي بنوا عليه هذا باطل .(1/276)
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على بينا محمد .
{ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه:46]، { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } [العلق:14]، { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الشعراء:218-220]، { وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } [التوبة:105].
وَقَوْلُهُ: { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } [الرعد:13]، وَقَوْلُهُ: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران:54]، وَقَوْلُهُ: { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } [النمل:50]، وَقَوْلُهُ: { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15)وَأَكِيدُ كَيْدًا } [الطارق:15-16].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
.. ما سمعتم من الآيات العظيمة التي ساقها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فهي من جنس الآيات السالفة قبلها التي استدل بها شيخ الإسلام رحمه الله على إثبات الصفات ، فهذه الآيات وأمثالها مما يؤمن بها أهل السنة والجماعة .
ومعنى إيمانهم بها كما سبق أن أوضحناه مرارا أنهم يعتقدون ما جاء فيها من الصفات ويثبتون ذلك لله جل وعلا بألسنتهم ويقوم في قلوبهم أثر تلك الصفات .
هذا معنى الإيمان بالصفة والواجب منها اعتقاد ذلك بعد بلوغ الخبر .. ،
فنؤمن بأن الله جل وعلا متصف بكل صفة وصف بها نفسه في كتابه أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ونخبر بذلك ، وإذا كان للصفة أثر على العبد فإنه يؤمن .
ومعنى ذلك يعمل بذلك الأثر .
ذكر الآيات التي فيها وَصْفُ الله جل وعلا برؤيته لخلقه ولعباده .(1/277)
والرؤية ، رؤية الله جل وعلا لعباده ثبتت في نصوص كثيرة بلفظ الرؤية كقوله جل وعلا لموسى وهارون حين قالا { رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } ففيها إثبات صفة المعية لله جل وعلا وصفة السمع .
صفة المعية يأتي الكلام عليها ، سنعرض لبعض الكلام بما يوضح المراد من الآية .
وصفة السمع سبق الكلام عليها في الآيات السابقة والمقصود من استدلاله هاهنا هي صفة رؤية الله جل وعلا لعباده يعني أن الله جل وعلا يرى عباده ويبصر ما هم عليه ، ونحو هذا قوله جل وعلا { وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة } ومثله قوله جل وعلا { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ()و َتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } ففي هذه الآيات إثبات أن الله جل وعلا يرى عباده ، يرى خلقه جميعا ، يراهم ويبصر تصرفاتهم ، يرى أحوالهم وما هم عليه ، فيرى كل شيء .
ومتعلق الرؤية هو متعلق البصر لله جل وعلا ، وذلك أنها متعلقة بكل مرئي كما أن سمع الله جل وعلا متعلق بكل مسموع .
كذلك الرؤية متعلَّقها كل مرئي فالله جل وعلا يرى كل مرئي ، يعني يرى كل موجود ، كل شيء يراه جل وعلا على ما هو عليه سواء كان ذلك الشيء صغيرا أو كبيرا ، خفيا أم غير خفي ، ظاهرا أم باطنا ، يراه جل وعلا إذا كان من الذوات التي ترى وهذا من جنس البصر ، فإن الله جل وعلا بصير ، ومتعلق البصر المبصرات ، فهو جل وعلا بصير بكل شيء يُبْصَر يعني بكل الموجودات فلا تغيب عنه غائبة جل وعلا في السماء ولا في الأرض ولا تخفى عليه خافية بل هو جل وعلا يعلم كل شيء ويبصر ويرى كل شيء ويسمع كل الأصوات سبحانه وتعالى .
قال جل وعلا في آية سورة طه لموسى ولأخيه هارون { لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }(1/278)
وهذه الآية فيها إثبات ثلاث صفات لله جل وعلا :
" الأولى هي المعية .
" والثانية هي السمع .
" والثالثة هي الرؤية .
وهذه الرؤية ، رؤية الله جل وعلا لخلقه ، هذه غير صفة الرؤية التي هي رؤية الله جل وعلا في الآخرة ، يعني رؤية العباد ربهم جل وعلا في الآخرة .
هذه غير تلك ، تلك العباد يرون ربهم ، ورؤية الله واقعة في الآخرة ، أما هذا المقام فالمراد به وصف الله جل وعلا بأنه يرى كل شيء ، فهو الرائي جل وعلا وفي تلك الصفة هو المرئي جل وعلا ففرق بين البحثين وفرق بين المقامين .
قال جل وعلا هنا { لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } وقوله { إِنَّنِي مَعَكُمَا } يعني بالنصر والتأييد والتوفيق والإعانة والدفاع عنكما ، وهذا هو الذي فسرها به المحققون من أهل التفسير ها هنا .
{ مَعَكُمَا } التي هي المعية الخاصة معية النصر والتأييد والتوفيق وذلك لأنها جاءت في مقابلة خوفهم { قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا } فمعيته هنا خاصة تنفي الخوف وتزيل الخوف من قلب موسى وهارون لما أرسلهما الله جل وعلا إلى فرعون وملئه .(1/279)
قال الله جل وعلا هنا { إِنَّنِي مَعَكُمَا } فلا تخافا من بطشه فأنا معكم بنصري ولا تخافا من إيذائه فأنا معكم بنصري وتأييدي ، ولا تخافا من حججه فأنا أنبئكما بما يدلي به من الحجج وما يُرَد به عليه ، ولهذا كلام موسى عليه السلام الذي حج به فرعون من الحجج والبينات التي أؤتيها موسى عليه السلام من الله جل وعلا فهي من آثار معية الله جل وعلا لموسى ولأخيه هارون ، حيث قال فرعون لموسى وهارون { فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى } فأجابه موسى عليه السلام { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } فسأله فرعون { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى } فأجاب موسى { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى } وهذا التوفيق لهذه الأجوبة العظيمة ، وكذلك ما جاء في سورة الشعراء من أجوبة موسى على فرعون حيث قال له فرعون : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ } إلى آخر ما جاء في أجوبة موسى على فرعون ، هذا كله من آثار معية الله جل وعلا لموسى فإن معية الله الخاصة لعباده المؤمنين للرسل لأهل الصلاح لأهل العلم هذه المعية الخاصة معناها التوفيق والتأييد والإعانة والنصرة على أعدائهم .
لهذا قال جل وعلا في سورة براءة حينما أخبر عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وما كان من شأنه في الغار قال { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } يعني { معنا } بنصره وتأييده وتوفيقه ، ومن كان الله معه فالخوف منه بعيد والأذى عنه بمراحل .(1/280)
أما المعية العامة فهي الإحاطة العامة ، معية العلم كما فسرها السلف ويأتي تفصيل الكلام على المعية في موضعه حين يأتي استدلال شيخ الإسلام رحمه الله بقوله { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } وكذلك ما ساقه بعد ذلك حيث قال وقوله { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } إلى أن قال { وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } إلى آخر الآيات في ذلك والأحاديث التي ستأتي مبينة إن شاء الله تعالى في موضعها .
إذن فالمعية معيتان :
" معية عامة .
" ومعية خاصة .
ومعنى المعية العامة العلم ، ومعنى المعية الخاصة التي هي خاصة بأولياء الله بالرسل والأنبياء والعلماء المستقيمين وبالصالحين والعباد هذه معية توفيق ونصرة وتأييد .
قال هنا جل وعلا { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } ومعنى { أَسْمَعُ } يعني أسمع ما يقوله فرعون وألهمكم الجواب عليه ، { وَأَرَى } مكانه ومكانكم ، أرى عمله وعملكم ، أرى ما يخفيه عنكم مما قد يكيدكم به أو قد يؤذيكم به فأخبركم به حتى تكونوا في أمان من ذلك .
{ لا تَخَافَا } فإن جهات الخوف متنوعة ، قد يكون الخوف من الحجج التي يدلي بها فرعون ، قد يكون الخوف مما يمكر به ، الخوف من إيذائه ، الخوف من تحذيره ونحو ذلك ، والله جل وعلا مع موسى ومع فرعون يسمع مقالهم ومقاله ، ويسمع كلامه وكلامهما ويلهم الله جل وعلا موسى بالحجة ، ففيه إثبات الرؤية لله جل وعلا { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }
كذلك قوله جل وعلا { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ()وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }(1/281)
{ يَرَاكَ } هذا من الرؤية التي هي إبصار الله جل وعلا لعبده .
{ يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } يعني إلى الصلاة أو حين تقوم في أي شأن من شؤونك .
ويرى أيضا { تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } في المصلين ، ففيها إثبات رؤية الله جل وعلا لعبده .
كذلك قوله جل وعلا { وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ }
{ فَسَيَرَى اللَّهُ } هذه فيها إثبات الرؤية لله جل وعلا .
وإذا تبين ذلك فهذه الآيات وغيرها من الآيات التي فيها إثبات هذه الصفة لله جل وعلا نعتقد ما دلت عليه من أن الله جل وعلا يرى عباده ويراهم جل وعلا ويبصرهم بعينيه جل وعلا ليست رؤية وإبصار علم كما يقوله المبتدعة بل هي رؤية وإبصار بعينه جل وعلا لأن الله جل وعلا أخبر بأن له عينين جل وعلا والعين بها تكون الرؤية وبها يكون البصر .
وأما المبتدعة فيتأولون أن الرؤية والبصر يثبتها الأشاعرة والماتريدية ويقولون هي رؤيا وبصر سبيلها العلم .
يعني هو يرى ليس بعينيه جل وعلا لأنهم لا يثبتون العينين لله جل وعلا ولكن يكون رؤيا وسمع وبصر بإدراك تلك الأشياء عن طريق العلم ، إدراك المبصرات بالعلم ، إدراك المسموعات بالعلم ، إدراك المرئيات بالعلم .
و المعتزلة كما تعلمون ينفون ذلك كله ولا يثبتون رؤية ولا بصرا ولا سمعا وكذلك لا يثبتون علما هو صفة وإنما يقولون هو عليم بلا علم .
في قوله جل وعلا { وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } { وَقُلْ اعْمَلُوا } هذا لمفسري السلف فيه وجهان :
- منهم من يقول هذا تهديد
- ومنهم من يقول هذا إخبار بأن العمل سيراه الجميع
ومنهم من يقول هذا تهديد وتخويف للذين يعصون الله جل وعلا .وقوله { وَقُلْ اعْمَلُوا } يعني - كما فسرها ابن جرير رحمه الله تعالى - : وقل اعملوا من الطاعات ما تشاءون وقل اعملوا من الخيرات ما تشاءون وقل اعملوا مما يقربكم إلى الله جل وعلا ما تحبون(1/282)
ومن ذلك التوبة لأنها سيقت بعد الكلام عن التائبين ووعدهم بأنه سيرى عملهم قال { وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } .
فهنا في قوله { فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } إما أن تكون هذه الرؤية في الدنيا وإما أن تكون في الآخرة .
وهما وجهان أيضا عند محققي التفسير فإذا كانت في الدنيا { فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } في الدنيا يعني سيظهر الله عملكم في هذه الدنيا ، وقد جاء في بعض الآثار وقد جاء في الحديث رواه الإمام أحمد لكن ما يحضرني الحكم عليه قال (لو عمل العامل - بمعنى الحديث - أنه لو عمل في مكان مغلق وقد أوصد عليه الباب لأخرج الله عمله كائنا ما كان) ، وبه فسرت { فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } أي فسيظهر الله عملكم حتى يكون مرئيا لأن الله جل وعلا مطلع على كل شيء { قُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } .
وقال آخرون هنا { وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } يعني إذا وقع ، إذا فعلتموه فإن الله جل وعلا يراه وهذا فيه البشرى للعبد بأنه إذا عمل العبد العمل ويعلم أن الله جل وعلا يراه وهو مطلع على عمله فإنه ينشرح صدره لذلك ويقبل على العبادة أكثر لما في قلبه من تعظيم الله جل وعلا .
وهذا الثاني أوجه لأن قوله { فَسَيَرَى } أن الرؤية تكون بعد وقوع المرئي ، وليس سبيلها سبيل العلم في نحو قوله جل وعلا { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } العلم يختلف لأن الله جل وعلا يعلم الأشياء قبل وقوعها .
لذلك فُسِرَ قوله { إلا لنعلم } أي إلا ليظهر علمنا بمن اتبع الرسول ممن انقلب على عقبيه .(1/283)
أما قوله { فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } فإن الرؤية عند أهل السنة رؤية الله جل وعلا تكون بعد حصول المرئي ولهذا فيكون هذا التفسير أوجه وأحسن فيكون { فَسَيَرَى } يعني بعد حصول العمل فإن الله يرى ذلك بعد حصول العمل وفي هذا من البشرى والاطمئنان لأهل الإيمان إذا عملوا الصالحات ما فيه ، كذلك فيه التهديد والوعيد لمن عملا عملا من الأعمال التي لا يحبها الله جل وعلا فقال { وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } وسيراه { رَسُولُهُ } وسيراه { الْمُؤْمِنُونَ }
ولا شك أن العبد يخفي عمله القبيح ولا يحب أن يظهر وفي هذا من التهديد والوعيد لمن عملوا بالمعاصي والآثام وما لا يرضي الله جل وعلا في الخلوات فإن هذا فيه تهديد لهم وتخويف من ذلك
ووجه مناسبة ذلك أنه ذكر بعد أن ذكر التائبين حيث قال جل وعلا قبلها { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ }
وقال بعدها { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } فهي في التائبين الذين خلطوا هذا وهذا وهم مرجون لأمر الله ، فيناسب هنا أن تكون الآية فيها البشرى وفيها التهديد والوعيد .
البشرى لمن عمل عملا صالحا والتهديد والوعيد لمن عمل غير ذلك .
أما قوله جل وعلا بالمناسبة في آية البقرة { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ }
قوله { عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } لما ذكرناها هذه فيها أوجه من التفسير ، ونذكر من ذلك وجهين أحدهما لابن جرير والآخر للمحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره .(1/284)
قال ابن جرير رحمه الله في قوله { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } قال { لِنَعْلَمَ } أضاف الله جل وعلا العلم لنفسه وذلك لأنه أراد (إلا ليعلم رسولي وأوليائي والمؤمنون) وذلك أن الله جل وعلا جمع هنا ونسبه لنفسه كما ينسب العظيم الشيء لنفسه وإن لم يباشره ومَثَلَ عليه بقول القائل (فتح عمر سواد العراق) و (فتح عمر فارس) يعني فتحه بجنوده ، واستشهد لذلك واستدل عليه بالحديث المعروف الذي رواه مسلم - لكن طبعا ابن جرير لا يعزو لمسلم - قال الله (يا عبدي مرضت فلم تعدني و استقرضتك ولم تقرضني قال كيف أعودك وأنت رب العالمين قال ألم تعلم أن عبدي فلان مرض فلم تعده ولو عدته لوجدتني عنده) ساق بعض هذا باللفظ الذي يرويه ابن جرير رحمه الله قال هذا فيه أن الله جل وعلا أضاف الفعل لنفسه قال (مرضت فلم تعدني) (مرضت) والذي مرض هو عبده فيكون المعنى في قوله { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } أي إلا ليعلم رسولي وأوليائي والمؤمنون { مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } .
والوجه الثاني أن العلم قسمان :
" علم باطن .
" وعلم ظاهر.
والله جل وعلا يعلم الأشياء قبل وقوعها ولكن علمه بالأشياء قبل وقوعها لا يحاسب عليه العباد ولا يذم العباد به
وإنما يحاسب العباد فيجزيهم على أعمالهم فيثيب المحسن ويعاقب المسيء إذا عملوا ذلك ظاهرا وصار علمه ظاهرا لأنه قبل أن يعملوه فليس من العدل أن يحاسبهم على شيء لم يعملوه ، فلهذا قال جل وعلا { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } قال المحققون يعني إلا ليظهر ما علمناه ، فيترتب على ظهور العلم المحاسبة لهم وجزاء المحسن الذي اتبع الرسول وجزاء المذنب المسيء المنافق الذي انقلب على عقبيه وهذا هو قول جمع من المحققين كشيخ الإسلام وغيره .(1/285)
فالعلم هنا بمعنى الظهور ظهور العلم { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } يعني إلا ليظهر علمنا في هؤلاء ، وهذا في المواضع التي في القرآن التي فيها إضافة العلم إلى الله جل وعلا للأمور بعد وقوعها ليس المراد أنه لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها بل هو جل وعلا يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، وإنما المراد بقوله { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } ونظائر ذلك ، مراده إلا ليظهر علمنا فيهم ذلك الظهور الذي يكون عليه المحاسبة والجزاء على ما عملوا .
هذه بعض ما يتصل بهذه الآيات التي استدل بها شيخ الإسلام على صفة رؤية الله جل وعلا لعباده التي هي معنى البصر .
الله جل وعلا البصير ويبصر ويرى عباده لا يخفى عليه خافية ، لكن لم يأت من أسماء الله جل وعلا الرائي ، الذي يرى ، الرائي بمعنى الذي يرى وإنما أتى البصير .
فيسمع ويبصر ويرى ، يبصر ويرى الاسم منهما البصير هو جل وعلا ولم يشتق منها الرائي لأنها لم ترد في النصوص .
إثبات المكر والكيد
لله تعالى
على ما يليق به
الآيات بعدها في ذكر صفة الكيد والمكر بمن كاد ومكر أولياء الله جل وعلا هذه الصفة يثبتها أهل السنة والجماعة مقيدة مختصة ، وهذه الآيات تدل على ذلك وهي قوله جل وعلا { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } وقوله جل وعلا { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } وقوله جل وعلا { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } وكذلك قوله جل وعلا { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا()وَأَكِيدُ كَيْدًا } ففيها إثبات هذه الصفة صفة المكر والكيد لله جل وعلا إثباتا مقيدا مختصا ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله .
فقوله جل وعلا { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }(1/286)
{ الْمِحَالِ } فسرت بعدة تفسيرات ومنها الكيد والمكر يعني وهو شديد الكيد والمكر بمن كاده ، كاد أولياءه أو بمن مكر أولياءه ........ (1)
وصف الله
بالعفو والمغفرة
والرحمة والعزة والقدرة
وَقَوْلُهُ: { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } [النساء:149]، { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور:22].
وَقَوْلُهُ: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [المنافقون:8]، وَقَوْلُهُ عَنْ إِبْلِيسَ: { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ص:82].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وصفيه وخليله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد : فهذه صلة للكلام على ما يثبت لله جل وعلا من الصفات ، صفات الذات .
يعني الصفات الذاتية الملازمة لله جل وعلا والتي لا تنفك عنه سبحانه وتعالى .
والصفات الفعلية التي يتصف بها في حال دون حال بمشيئته وقدرته .
وهذه الآيات فيها إثبات جملة من هذه الصفات ، ففيها :
إثبات صفة العفو لله جل وعلا
وإثبات صفة المغفرة لله جل وعلا
وإثبات صفة العزة لله جل وعلا
__________
(1) 1 هنا مسح بالشريط وقد أكمله من قام بتسجيل هذه المادة بجزء من الشريط الحادي عشر من الدقيقة 25 إلى 44.02 قمت بوضعها في الشريط 11 ، وهذه هي نسخة دار ابن رجب(1/287)
وفيها أن الله جل وعلا يتسمى بالأسماء الحسنى المتضمنة للعلمية وللصفات كما قال جل وعلا { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } وقوله { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } قال { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وهذا كثير من أن الله جل وعلا يعرف عباده بصفاته وبأسمائه الحسنى بما يخاطبهم به من الأوامر والنواهي .
وفي هذه الآيات إثبات صفة العزة لله جل وعلا وأهل السنة والجماعة بابهم في هذا باب واحد يثبتون هذه جميعا لله جل وعلا ، فما أثبته الله جل وعلا لنفسه من الصفات أثبتوه وما نفاه نفوه وما سمى نفسه به من الأسماء الحسنى سموه به جل وعلا وما نفاه عن نفسه نفوه .
فالباب عندهم باب واحد في الصفات لا يفرقون بين صفة وصفة ولا بين نص ونص لأن الباب باب واحد في ذلك جميعا لأن الآية أو الحديث إذا ثبت أنه من آيات الصفات أو من أحاديث الصفات فإنهم يجرون عليه قاعدة الإثبات لما تضمنه من الأسماء والصفات والأفعال ..
انتهى الشريط العاشر من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الحادي عشر
وأهل السنة والجماعة بابهم في هذا باب واحد يثبتون هذه جميعا لله جل وعلا ، فما أثبته الله جل وعلا لنفسه من الصفات أثبتوه وما نفاه نفوه وما سمى نفسه به من الأسماء الحسنى سموه به جل وعلا وما نفاه عن نفسه نفوه فالباب عندهم باب واحد في الصفات لا يفرقون في ذلك بين صفة وصفة ولا بين نص ونص لأن الباب باب واحد في ذلك جميعا ، لأن الآية أو الحديث إذا ثبت أنه من آيات الصفات أو من أحاديث الصفات فإنهم ُيجْرون عليه قاعدة الإثبات لما تضمنه من الأسماء والصفات والأفعال .(1/288)
في الآية الأولى فيها إثبات صفة العفو لله جل وعلا .
قال سبحانه في سورة النساء { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا }
سمى الله جل وعلا هنا نفسه بأنه العفو قال { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } ومن أسماء الله الحسنى العفو ، وكذلك قال { قَدِيرًا } ومن أسماء الله جل وعلا الحسنى القدير
فهو سبحانه قدير وعفو وعفوه جل وعلا لا عن ضعف ولكن عن قدرة وعزة وعظمة وجلال .
وقوله هنا { أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ } يعني أن لا تؤاخذوا من أتى بالسوء في حقكم أن لا تؤاخذوه بذلك بل تمحوا ذلك ولا ترتبوا أثر السوء الذي أصابكم على من أتى به بل تعفون عن ذلك ولا تعاقبوا من أتى به
وهذه هي صفة العفو ، لأن العفو معناه (عدم المؤاخذة بالفعل)
وهذا إنما يكون لمن يملك المؤاخذة ، فالعفو صفة من صفات الجمال لله جل وعلا .
ويكون العفو كمالا إذا كان عن غير عجز ، إذا كان العفو عن قدرة وعن استطاعة في إنفاذ العقوبة كان العفو كمالا لأنه يكون عن عزة .
وقد يعفو الضعيف فيكون عفوه عن ضعف لا عن قدرة والله جل وعلا له من الصفات العلا وله من الأسماء الحسنى فله صفة العفو ، وهو أنه لا يؤاخذ المذنب بجريرته على ما دلت عليه النصوص من قيود وشروط في ذلك ، ولا يؤاخذه بذلك بل يمحو ذلك عنه ولا يعاقبه لعفوه عنه جل وعلا وذلك لقدرته .
ولهذا قال هنا { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } يجمع بين العفو وقدرته على إنفاذ العقوبة .
وهذا بخلاف صفة المغفرة وصفة قبول التوبة ، فإن الله جل وعلا من أسمائه العفو ومن أسمائه الغافر والغفار والغفور ومن أسمائه جل وعلا التواب .
وهذه تختلف ليس معناها واحدا ، بخلاف من قال إن معنى العفو والغفور معناهما واحد هذا ليس بصحيح بل الجهة تختلف والمعنى فيه نوع اختلاف مع أن بينهما اشتراكا .(1/289)
فكما ذكرت لك العفو (عدم المؤاخذة بالجريرة ، عدم المؤاخذة بالسيئة) يسيء وسيئته توجب العقوبة فإذا لم يؤاخَذ صار عدم مؤاخذته بذلك عفوا .
وأما المغفرة فهي (ستر الذنوب) أو (ستر أثر الذنوب) .
وهذا جهته أخرى غير تلك ، لأن تلك فيها ترك المعاقبة على الفعل وهذا ستر دون تَعَرُضٍ للعقوبة.
والتواب هو (الذي يقبل التوبة عن عباده) ومعنى ذلك أنه يمحو الذنب ولا يؤاخذ بالسيئات إذا تاب العبد وأتى بالأسباب التي تمحو عنه السيئات .
فإذن هذه ثلاثة أسماء من أسماء الله الحسنى لكل اسم دلالته غير ما يدل عليه الاسم الآخر
هنا في هذه الآية قال { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } يعني لا يؤاخذ العباد بجرائرهم ولا يوقع العقوبة بهم على ما فعلوا إذا شاء ذلك وذلك لكمال عفوه وكمال قدرته سبحانه .
ولولا عفوه جل وعلا لفسدت الأرض ولهلك الناس لأن العباد ما من لحظة فيها إلا وهم يستحقون عليها العقوبة .
لأن الشرك أكثر من الإيمان وأهل الإشراك أكثر من أهل الإيمان
والأرض من أزمان طويلة منذ أن تَنَسَخَ العلم وفترته قبل رسالة نوح عليه السلام فقد عم فيها الشرك وعم فيها الكفر حتى أتى نوح عليه السلام وأرسله الله جل وعلا فطهر الله جل وعلا الأرض من الكافرين استجابة لدعاء نوح { رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } فطهر الله جل وعلا الأرض بالتوحيد ثم عاد بعد ذلك الشرك .
والشرك أكثر في الأرض ولو يؤاخذ الله جل وعلا الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة وهذا جاء في آيات في سورة النحل وفي سورة فاطر
ولهذا متعلَّق العفو عند أهل العلم هو الذنوب ، فإن الذنوب موجبة للعقوبة كما قال جل وعلا { وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } يعني لا يأتيكم بالمصائب التي هي بسبب ذنوبكم وعدم الإتيان هو بسبب العفو .(1/290)
وقال جل وعلا { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ألا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
فالعبد إذا عفا وصفح عن المذنب الذي أذنب في حقه فإن الله جل وعلا يغفر له وهذه نزلت في امتناع أبي بكر من النفقة على قريبه مسطح ونزل فيها هذه الآية و عفا بعد ذلك أبو بكر عن مسطح وذلك رغبة فيما وعد الله جل وعلا به في هذه الآية .
قال { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وغفور هذا مبالغة للكثرة يعني كثير المغفرة
لأن غفور فعيل من غافر ، وغافر اسم فاعل المغفرة والمغفرة (ستر الذنب)
فلا يفضح الله جل وعلا العبد بذنوبه ولا يخزيه بل يغفر له ذلك ويستره إذا طلب المغفرة
وإذا كان مع طلب المغفرة ، مع طلب الستر ، إذا كان معه توبة وإنابة إلى الله جل وعلا مُحِيَت تلك السيئات ، فيكون سترها بمعنى محوها أن توجد في صحائف أعماله ، وهذا كما قال جل وعلا { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } .
بل قد يبدل الله جل وعلا بالتوبة السيئات حسنات كما قال جل وعلا { إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا () وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا } .
من المعلوم أن عدم المؤاخذة وعدم العقوبة هذا يشترط له الإسلام فإن المشرك ليس بداخل في أثر هذا الاسم في الآخرة ويدخل في أثره في الدنيا لأن الله لا يعاجله بالعقوبة في الدنيا .
قد يكون المشرك يشرك ثم يموت ولم ير عقابه .
وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بخامة الزرع التي تتكفأها الرياح مرة ها هنا ومرة هنا والكافر يأتيه الموت مرة واحدة فيكسره عن ذلك .
يعني أن العفو أثره في المسلم وأما المشرك فليس من أهل العفو في الآخرة - يعني جنس المشرك لا المشرك المعين - .(1/291)
وأما في الدنيا فإن العفو كما ذكرت لك وسع أهل الأرض جميعا ، ولو لم يعف الله جل وعلا عنهم لعاجلهم بالعقوبة .
الآية الثالثة فيها إثبات صفة العزة لله جل وعلا .
قال سبحانه مخبرا عن قول إبليس { فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }
وصفة العزة لله جل وعلا ثابتة ، وذِكْرْ شيخ الإسلام هذه الآية التي فيها ذكر صفة العزة بعد الآية التي فيه المغفرة والآية التي فيها العفو ، ذلك لأن عفو الله جل وعلا ومغفرته عن عزة ، وهذا كمال بعد كمال .
فإن صفات الكمال لله جل وعلا منها صفة العزة ، منها صفة المغفرة ، منها صفة العفو ، والعفو كما ذكرت لك إن كان عن عزة يعني عن قدرة على إنفاذ الوعيد ، عن قدرة على إيقاع العقوبة ، كان عفوا على كمال وأما إذا كان عجز وعدم عزة فليس بكمال بل هو عن ضعف .
وإلا فقد سبق أن ذكر شيخ الإسلام كما تعلمون ذكر الآيات التي فيها اسم الله جل وعلا العزيز
وقدمنا لك أن العزيز من أسماء الله جل وعلا الحسنى ، وهو المتصف بالعزة سبحانه وتعالى .
والعز في في صفة الله جل وعلا له ثلاثة معاني ، والعزيز له ثلاث معان ذكرناها لكم فيما سبق
يجمعها قول ابن القيم رحمه الله تعالى :
وهو العزيز فلن يرام جنابه ... أنى يُرام جنابُ ذي السلطان
وهو العزيز القاهر الغلاب لم ... يغلبه شيء هذه صفتان
وهو العزيز بقوة هي وصفهم ... فالعز حينئذ ثلاث معان
وهي التي كملت له سبحانه
كملت له هذه الثلاث معاني :
" فالأول من معاني العزيز : الذي لا يرام جنابه ، عزيز ممتنع لا يرام جنابه لا يصل أحد إلى ضره فيضره ولا يستطيع أحد أن يسلبه شيئا أو أن يُنقص من صفته أو من فعله أو من ملكه شيئا بل هو جل وعلا الممتنع الذي لا يرام جنابه .(1/292)
" والثاني أنه العزيز القاهر ، بمعنى القاهر الغلاب عزيز يقهر غيره ، عزيز يغلب غيره لا يستطيع أحد أن يغالبه أو أن يقهره بل هو جل وعلا لتمام قدرته وقهره وجبروته وعظمته هو الذي يقهر ولا يقهر وهو الذي يغلب ولا يغلب { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } .
" والثالث أن العزة بمعنى القوة .
وهي التي اجتمعت هذه الثلاث معاني اجتمعت لله جل وعلا .
فإذن قوله { فَبِعِزَّتِكَ } فيها إثبات صفة العزة لله جل وعلا على نحو ما أوضحناه مختصرا .
هذا قول أهل السنة جميعا يثبتون هذه الصفات التي يتصف الله جل وعلا بها .
والعزة صفة ذاتية لم يزل الله جل وعلا عزيزا وهو جل وعلا على ما كان عليه من العزة .
العزة وصف ذاتي له جل وعلا لا ينفك عنه .
وأما العفو والمغفرة فهي صفات فعل ، صفات اختيارية إن شاء عفا وإن شاء لم يعفو ، إن شاء غفر وإن شاء لم يغفر .
وعلى ذلك تكون من الصفات الاختيارية التي هي متعلقة بمشيئة الله جل وعلا وقدرته .
أما المبتدعة فإنهم على طريقتهم في ذلك :
- فأما أهل الاعتزال فإنهم يفسرون العفو ويفسرون المغفرة وغير ذلك من صفات الفعل يفسرونها بأثرها
- والأشاعرة والماتريدية ونحوهم يؤولونها ، فيجعلون المغفرة إرادة كذا ، ويجعلون العفو إرادة كذا ،
فيرجعون هذه الصفات إلى الصفات السبع التي ثبتت عندهم بالعقل
وهذا على نظائره مما سبق أن مر معنا مرارا في ذلك من طريقة المعتزلة في مثل هذه الصفات وطريقة الأشاعرة في التأويل .
في قوله جل وعلا { فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } فيها أن صفات الله جل وعلا يجوز القسم بها وأن صفاته جل وعلا منه سبحانه وتعالى
نعم ......
ما في شك ، لأن إبليس يعرف صفات الله جل وعلا ، إبليس يثبت الصفات وأما بعض هذه الأمة هو ينفي هذه الصفات عن الله جل وعلا .(1/293)
إبليس كفر لا عن معرفة بالله بل هو عالم بالله عارف به جل وعلا ولكن كفر إباء واستكبارا قال { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ } وإلا هو عالم ولهذا قال جل وعلا مخبرا عن قيله بأنه أقسم بصفة العزة لله جل وعلا قال { فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } .
وهذا فيه أن القسم بالصفات جائز ، لا بأس ، الصفات يقسم بها إذ القسم بالله جل وعلا وبأسمائه وبصفاته فتقسم باسم الله العلي باسم الله الحكيم والعلي والحكيم والخبير والقدير والمقيت والحسيب
وتقسم بصفات الله جل وعلا أيضا ، ورحمة الله تقصد رحمة الله جل وعلا التي هي صفته ، وعزة الله وكلام الله ونحو ذلك كل هذا جائز لأنه قسم بما ليس بمخلوق وأما الذي يمتنع فهو القسم بالمخلوقين .
فالقسم يكون بالله جل وعلا وبأسمائه وصفاته والبحث معروف في باب الأيمان من كتب الفقه .
كذلك الصفات الفعلية ، الباب واحد لكن إذا كانت الصفة محتملة لشيئين مثل الرحمة (ورحمة الله) سواء كانت فعلية أو غيرها مثل (ورحمة الله):
- الرحمة قد تكون صفة لله جل وعلا
- وقد تطلق الرحمة ويراد بها الأثر كما قال جل وعلا { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمةِِ اللَّهِ } يعني المطر ، والجنة قال فيها الله جل وعلا في الحديث القدسي (أنت رحمتي) يعني الرحمة المخلوقة ، وقال (إن لله مئة رحمة يرحم بها عباده أمسك تسعة وتسعين وأرسل واحدة بها يتراحم الناس) يعني هذه الرحمة التي يتراحم بها الناس هي الرحمة المخلوقة .
فإذن هذه تنقسم وإذا كانت تنقسم فلا يجوز أن يقسِم إلا بنية أنه يقسم بصفة الله جل وعلا ، هذا معروف وله نظائر مثل (وأمانة الله) وأمثال ذلك .
فإذن إذا كانت الصفة لا تنقسم فهذا واضح ، إذا كانت تنقسم ثم خلاف بين العلماء :
- هل يعتبر قسما مطلقا باعتبار أن الأصل أنها صفة
- أم يعتبر قسما بالنية فيكون مجراه مجرى الكنايات؟(1/294)
والصواب في ذلك أنه يعتبر قسما إذا كان القسم بها شائعا وأما إذا كان غير شائع فلا بد أن يأتي بالنية حتى يظهر الفرق بين مراده للقسم هل هو قسم بالصفة أم قسم بأثر الصفة يعني الأثر المخلوق
إثبات الاسم لله
ونفي المِثل عنه
بعد هذه الآيات ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى آيات كثيرة فيها بيان طريقة أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات ، ففي قوله جل وعلا { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وفي قوله { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وفي قوله { فلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وفي قوله { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ }
كل هذه فيها بيان طريقة أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات ، وهي أنهم يثبتون صفات الله جل وعلا إثباتا مفصلا ، وينفون نفيا مجملا .
فقاعدة أهل السنة والجماعة في الصفات أن الإثبات يكون مفصلا والنفي يكون مجملا .
ولهذا في النفي قال { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وفي النفي قال جل وعلا { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وفي النفي قال جل وعلا { فلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا } وفي النفي قال جل وعلا { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } .
وفي الإثبات قال جل وعلا { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجلال وَالْإِكْرَامِ } الذي هو الإثبات المفصل ، وفيه قال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } نفى مجملا ثم أثبت مفصلا .
وهذه هي قاعدة أهل السنة والجماعة أوضحها بهذه الجملة الكثيرة من الآيات .
وهذا مبني على أصل وعلى قاعدة وهي أن النفي المحض ليس بكمال بل الكمال هو الإثبات المفصل(1/295)
والله جل وعلا يوصف بصفات الكمال ، لا يوصف بصفات النقص أو يوصف بصفات ليست بالكمال تحتمل النقص ، بل يوصف جل وعلا بصفات الكمال لأنه جل وعلا هو الحق وأسماؤه حق وصفاته حق ، فله من ذلك الكمال المطلق الذي لا تشوبه شائبة النقص بوجه من الوجوه .
وإذا كان كذلك فإن الله جل وعلا يوصف بصفات الكمال ، وصفات الكمال إنما تكون بالتفصيل في الإثبات .
ولهذا في القرآن التفصيل كثير والنفي قليل ، الأكثر الإثبات المفصل قال جل وعلا { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا } { وكان الله على كل شيء حسيبا (1) } { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) } { الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) } { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ }
في آيات كثيرة
الأصل في القرآن في الصفات الإثبات ، وهو الكثرة الكاثرة ، وأما النفي فهو قليل ، والنفي كما ذكرت لكم في القاعدة أنه ليس بكمال .
ومتى يكون النفي كمالا ؟
يكون النفي كمالا إذا كان المراد بالنفي إثبات كمال الضد .
__________
(1) 1 لم أجدها في المصحف وإنما وجدت { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا }(1/296)
إذا كان المراد بالنفي إثبات كمال الضد فهو كمال وإذا كان المراد بالنفي النفي المحض وليس في مراد النافي إثبات ضد ذلك فإنه يكون نقصا .
قد تقول مثلا (فلان لا يظلم أحدا) أو تقول (لا يقاتل أحدا) نفيت عنه ذلك لعجزه ، فتنفي عنه هذه الصفة قد يكون لعجزه .
فالنفي لا يكون دائما كمالا وقد يكون كمالا إذا كان المراد من النفي إثبات كمال ضد الصفة .
ولهذا قال الشاعر في وصف بعض القبائل قال :
قُبَيِلَةٌ لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
لا يغدرون لأجل - هذا في الجاهلية - لأجل أنهم عجزة لا يستطيعون أن يغدروا ، كذلك (لا يظلمون الناس حبة خردل) لأنهم عجزة أن يظلموا الناس
والكمال عند أهل الجاهلية (ومن لا يظلم الناس يظلم) الكمال عندهم :
ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ولهذا ذمهم بنفي وسلب الصفات هذه عنهم وهذا النفي قد يظهر لك أنه كمال (لا يغدرون بذمة) لكن هو في الحقيقة أراد ذمهم بذلك لعجزهم .
إذا جاء النفي في الكتاب أو في السنة فكما ذكرت لك يراد به إثبات كمال الضد .
قال جل وعلا { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } فنفى جل وعلا عن نفسه أن تأخذه السنة أي الغفلة والنعاس وأن يأخذه النوم ، هل المراد نفي هذه الصفات بالذات؟
لا ، المراد أنه جل وعلا لكمال قيوميته ولكمال حياته فإنه لا يعتري حياته الكاملة ولا قيوميته الكاملة نقص ولا شائبة نقص بوجه من الوجوه ولذلك نفى .
فيكون المراد بالنفي تقرير وتأكيد إثبات كمال الحياة وكمال القيومية قال { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } وذلك لكمال حياته ولكمال قيوميته
فيكون المراد هنا تقرير كمال الحياة وكمال القيومية .(1/297)
كذلك في قوله { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } المراد منه النفي الذي فيه إثبات كمال العدل لله جل وعلا فإن الله جل وعلا موصوف بكمال العدل ، وبعدله جل وعلا قامت السماوات والأرض ، أمر به في سمائه كونا وأمر به في أرضه كونا وشرعا جل وعلا ، فما يخلقه مبني على العدل وما يقدره مبني على العدل ، كذلك أمر في الشرع بالعدل : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } .
كذلك قال جل وعلا { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد ٌ } وقال { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وذلك لكماله في أسمائه الحسنى وكماله في صفاته العلا ، فمن كماله جل وعلا في ذلك وتوحده بذلك أن لا يشركه أحد في أسمائه على وجه الكمال ولا في صفاته على وجه الكمال ولا فيما يستحقه جل وعلا .
كذلك قال الله جل وعلا { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } كما ذكرت لكم فيما سلف أن النفي هنا نفى الله عن نفسه العجز والعجز يكون بسبب عدم العلم أو بسبب عدم القدرة ولهذا علل بعد هذا النفي بقوله { إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } فلا يأخذه جل وعلا العجز ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض ذلك لكمال علمه ولكمال قدرته جل وعلا
وهذا باب واسع في أن طريقة أهل السنة والجماعة الإثبات المفصل والنفي المجمل .
قال جل وعلا هنا .
......
لا ما في تكليف ، كونا .
المقصود شرعا يعني في الكتاب بما أنزله الله جل وعلا على رسله أما الملائكة ومن في السماء فلا تكليف لأنهم مأمورون ونافذ في ذلك أمره جل وعلا نافذ فيهم كونا غير مكلفين باعتبار أنهم غير مخاطبين بما أنزل الله جل وعلا على رسله ، في خلاف أحدثه بعض أهل العلم هل النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الملائكة أم لا ؟ ليس هذا موضعه ، محله معروف في موضعه .(1/298)
قال هنا { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }
هذا فيه الإنكار يعني : لا أحد سمي لله جل وعلا ، والسمي هو المثيل والنظير والشبيه ، مثل الند ، ومثله قوله جل وعلا { وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ } وقوله { وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى } يعني وله النعت والوصف والاسم الأعلى وأما خلقه فلهم الأرذل من ذلك أو ما يناسب ذاتهم مما فيه درجات .
وقال { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وقال { فلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا }
يعني نظراء وشبهاء ، وأمثالا تجعلونها موازية لله جل وعلا ومماثلة فيما يستحقه جل وعلا .
هذه الآيات ظاهرة في الدلالة على ما ذكرنا والمبتدعة لهم في ذلك طريقة وهي أن الأصل عندهم أن النفي يكون مفصلا والإثبات يكون مجملا .
النفي عندهم مفصل :
إذا أخذت كتاب من كتب المعتزلة أو كتاب من كتب المتكلمين أو كتاب من كتب الأشاعرة فتجد عندهم النفي المفصل ، يقولون ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم ولا ذي جوارح ولا دم ولا أعضاء ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا هو حديث ولا هو غائب ولا هو مركب ولا إلى آخره ، يأتي لك بصفحة فيها لا ، لا ، لا ، كلها نفي فيتعرفون ويعلمون ما يستحقه جل وعلا بالنفي
لأن الأصل عندهم أن الإثبات فيه التشبيه والتمثيل ، فلهذا يلجؤون إلى طريقة النفي هذه .
هذه الطريقة للمعتزلة ولأهل الكلام ولمتكلمي الأشعرية .
وبعض الأشعرية يثبت إثباتا مفصلا على حد ما عندهم .
......
المعطلة هذا اسم ، هو يشمل كل من عطل صفة أو صفات قلّت أو كثرت ، فالجهمية معطلة والمعتزلة معطلة والماتريدية معطلة والكلابية معطلة والأشاعرة معطلة وأهل الكلام معطلة ، فإذا قيل المعطلة فيعنى بها الجميع ، يعنى بها هؤلاء جميعا .
وإذا قيل المشبهة يعنى بها من مثل الله جل وعلا ببعض خلقه .
فيستعمل لفظ المعطلة إذا أريد جهة تعطيل الله جل وعلا عن صفاته ، وأما إذا تكلم بالتفصيل
......(1/299)
نعم الأشاعرة درجات ، منهم معتزلة ، يعني يثبتون وينفون كما ينفي المعتزلة ، لكن في الجنس معلوم أن أقرب تلك الفرق إلى السنة هم الأشاعرة ، هم أقرب الفرق إلى السنة مع ما عندهم ، يعني أقرب مع بعد المسافة ، يعني لو كان بيننا وبين ذولاك مثلا مسيرة أيش ؟ كذا وكذا من المسافات فهم الأشاعرة أقرب من غيرهم ، لأن الأشاعرة يخالفوننا في الصفات ويخالفوننا في الإيمان ويخالفوننا في القدر ويخالفوننا في بعض مسائل الإمامة ، في بعض مسائلها لا جميع المسائل وعندهم في هذه الأمور من مخالفة السنة والبدع ما يوجب خروجهم عن مسمى أهل السنة والجماعة ، فهم من جملة الفرق الضالة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم (وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) .
إذا تبين لك ذلك فأهل البدع فهموا من النفي في النصوص أن النفي هو المقصود واستدلوا على ذلك بتقديمه ، قال جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
والتقديم يدل على الاهتمام فلما قدم النفي دل على أن النفي أهم من الإثبات .
قالوا : ولهذا يقدم النفي فيقال ليس بكذا وليس بكذا وليس بكذا وليس بكذا ، وبعد ذلك إذا جاء الإثبات قالوا وله العلم والحياة والقدرة مثل ما عند المعتزلة أو له الصفات السبع مثل ما عند الأشاعرة أو نحو ذلك طريقة أهل الكلام .
وهذا ليس بصحيح بل هو باطل ، والنفي ليس المقصود منه الاهتمام به ولكن النفي تخلية والإثبات تحلية .
ومن المتقرر في اللغة وعند العقلاء أن التخلية تسبق التحلية .
يُخْلِي القلب ثم بعد ذلك يبدأ يضع فيه .
حتى إن هذه قاعدة عند العقلاء لو أنت بتغير مثلا تغير ما في هذا المسجد من فرش لازم أنك تخليه تطلعه برع بعد ذلك تأتي بالجديد .(1/300)
وقلوب المشركين كان فيها من الزيغ في الاعتقاد ومن التشبيه ومن نفي الصفات ما فيها ، فالله جل وعلا نفى حتى يخلي القلب من المماثلة ، من اعتقاد المماثلة أو اعتقاد المشابهة ويكون القلب سالما من براثن التشبيه والتمثيل .
ثم أثبت حتى يكون القلب أيضا سالما من التعطيل .
ففي قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } كما يقول العلماء رد على المشبهة ، وفي قوله { وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } رد على المعطلة .
فإذن قولهم أن هذا لأجل الاهتمام نقول هذا لغويا ليس بصحيح بل اللغة فيها أن البداءة بالشيء يدل على الاهتمام به هذا صحيح ، ولكن الاهتمام هنا لا يعني أن الاهتمام لأجل أن يكون النفي مفصلا ، لا لأن التجسيم أو التشبيه هذا شر ويجب أن ينفى ، وأما تقديم النفي على الإثبات فإنه لأجل أن التخلية تسبق التحلية .
نكمل إن شاء الله في قوله { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجلال وَالْإِكْرَامِ } وما بعدها من آيات الإثبات إن شاء الله تعالى في المرة القادمة .
يقول إذا اجتمعت صفة العفو مع العزة أو القدرة على إنفاذ العقوبة لأحد البشر هل يصح أن نقول إنه عفو كمال ؟
نعم يصح ، تقول هذا عفو كمال بالنسبة للبشر ، فالبشر لهم صفات كمال بقدر ما عندهم ، بقدر ذاتهم ، بقدر ما يناسبهم ، وليست صفة كمال تساوي صفة الله جل وعلا ، فما بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات .
ما حكم القسم بصفة المكر والغضب ؟
ما يجوز القسم بهذه الصفات لأن هذه لا تثبت مطلقة بل تثبت مقيدة .
هل يصح لعن الكافر المعين ؟ وهل ورد ذلك عن السلف الصالح ؟(1/301)
لعن الكافر المعين من جهة الجواز جائز ، الكافر المعين بعينه جائز ، والأفضل تركه هذا هو التحقيق في هذه المسألة والعلماء لهم كلام طويل في لعن المعين ، ففي لعن المعين من المسلمين خلاف و الأكثرون - أكثر أهل السنة والجماعة - على أنه لا يجوز لعن المعين من أهل الفسوق وإن كان يشمله اللعن في العموم ، مثلا يشمله اللعن في قوله { أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } لكن لا تخص ظالما بلعنة ، الفاسق يشمله اللعن ولكن لا تخص فاسقا بلعنة ، يعني فاسقا معينا ، ولهذا لما أتي بأحد الصحابة يدعى بعبد الله حمار وقد كان يكثر شرب الخمر فلما أتي به في المرة الثالثة أو الرابعة قال أحد الصحابة (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به) فقال النبي عليه الصلاة والسلام (لا تقولوا هذا فإنه يحب الله ورسوله) فدل على أن المسلم مرتكب الكبيرة لا يلعن بعينه ، لا يخص بعينه ، ومن السلف من أجاز لعن المعين من الفسقة ولعن المعين من أهل البدع وهذا ليس الذي عليه عامة أهل السنة ، وسئل الإمام أحمد فقيل له ألا تلعن هؤلاء يعني رؤوس أهل البدع ؟ فقال متى رأيت أباك - يقول لأحد أبنائه أظنه عبد الله يقول - متى رأيت أباك يلعن أحدا ؟ وهذا في الفاسق المعين من المسلمين ، والكافر كذلك فيه خلاف ، والخلاف أيضا جاري بين أهل السنة هل يلعن الكافر المعين أم يترك لعنه ؟(1/302)
لكن ترك لعنه لا لأجل عدم استحقاقه ولكن لأجل تنزيه اللسان عن اللعن ، وإلا فإن الكافر يستحق اللعن ولكن تنزيه اللسان عن اللعن لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن كفرة بأعيانهم هذا لما حصل لهم من إيذائهم للمسلمين وقتلهم ما حصل كما هو معروف أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أقواما ثم عند كثير من أهل العلم أن هذا منسوخ نسخه قول الله عز وجل { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } فاللعن للكافر من حيث الجواز جائز لكن المسلم ليس بلعان ولا طعان وليس بفاحش ولا بذيء .
......
تلعن المبتدعة ، نعم ، لكن المعين ما تلعنه ، من لعنه فذلك - يعني فيه من قال بلعنه -، لعن المعين من أهل البعد بشرط كونه مبتدعا ، ووصف البدعة إنما هو لأهل العلم إذا كان عالما يعلم أن هذا مبتدع وحكم عليه بالبدعة يجوز له ذلك عند بعض السلف
أما أن يترك الأمر كل من شاء وصف فلانا بالبدعة ثم لعنه ، هذا لا شك ليس من طريقة أهل السنة والجماعة البتة.
......
ما في بأس اللعنة بدون تعيين
......
إبليس أهل العلم في لعنه على قولين : منهم من يقول لا يجوز لعنه ، ومنهم من يقول يجوز مع الكراهة ، والأفضل ترك اللعن ، ومن أجاز اللعن مع الكراهة استدل بقول الله جل وعلا في إبليس { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا (117) لَّعَنَهُ اللَّهُ } والمانعون من لعنه استدلوا بحديث صحيح في الباب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تلعنوا الشيطان فإنه يتعاظم) إذا لعن ، ينتفخ ، يعني أنه صار شيء بحيث أنه يلعن .. والأولى أن لا يلعن ، يعني هذا هو الأولى أنه يترك لعنه .
هل جميع ما نفى الله عن نفسه أثبت كمال ضده في مواطن أخر ؟ أو يكون ذلك أي كمال الضد من اللوازم وإن لم يذكر في مواطن أخر ؟(1/303)
هذا يحتمل ، يحتمل هذا ويحتمل هذا ، يعني بعض ما نفي أثبت كمال ضده مع في الآية أو في موضع آخر ومنه ما يعرف باللازم . نكتفي بهذا القدر .
نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من عباده المتقين .و صلى الله وسلم على نبيه محمد
نفي الشريك عن
الله تعالى
وَقَوْلُهُ: { وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } [الإسراء:111]، { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [الجمعة:11]، وَقَوْلُهُ: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا(1)الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [الفرقان:1-2]، وَقَوْلُهُ: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(91)عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [المؤمنون:91-92]، { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل:74]، { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف:33].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/304)
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذه الجملة من الآيات فيها معنى التوحيد وفيها نفي الشريك عن الله جل وعلا وفيها تحريم ضرب الأمثال لله جل وعلا ، وهذه الآيات التي فيها نفي الشريك عن الله جل وعلا يراد منها
مع أجناسها وما كان في معناها مما لم يذكره الشيخ رحمه الله يراد منها :
" التنزيه .
" والإثبات .
وذلك لأن التنزيه وحده ليس بكمال ، وكماله - كمال النفي - إنما يكون في الإثبات مع التنزيه. فنفيُ أن يكون لله جل وعلا شريكا في ربوبيته معه كمال حمد الله جل وعلا في ربوبيته .
يعني إثبات جميع أنواع الكمالات في الربوبية لله جل وعلا .
فهنا التسبيح والتنزيه ولهذا أورد الآيات التي فيها التحميد والآيات التي فيها التسبيح .
وآيات التسبيح فيها التنزيه وهو النفي والتخلية ، وآيات التحميد فيها الإثبات .
وهذه قاعدة أهل السنة أنهم يجمعون بين النفي والإثبات .
وعندهم أن النفي مجمل وأن الإثبات مفصل .
فذكر قول الله جل وعلا { وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا }
ثم قول الله جل وعلا { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحِمْدُ وَهوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْر }
فهاتان الآيتان متقابلتان ، الآية الأولى فيها حمد الله والآية الثانية فيها تسبيح الله .
والتسبيح معناه في اللغة وأيضا في القرآن معناه (التنزيه والإبعاد) .
تقول العرب (سبحان فلان من كذا) إذا أرادت أنه بعيد من كذا كما قال الأعشى في بعض شعره:
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
يعني بعيد هذا ، فالتسبيح معناه الإبعاد والتنزيه عن هذا الشيء :
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
يعني سبحان الفاخر من علقمة ، يعني يبعد أن يكون ثم مفتخر بعلقمة ، بعيد ذلك(1/305)
إذا كان كذلك فمعنى التسبيح لله جل وعلا تنزيه الله جل وعلا وإبعاد الله جل وعلا عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته
ففي معنى ذلك :
" تنزيهه عن الشركة في ربوبيته .
" وتنزيهه عن الشريك في ألوهيته .
" وتنزيهه عن الشريك في أسمائه وصفاته .
" وتنزيهه عن الشريك في قضائه وقدره .
" وتنزيهه عن الشريك في حكمه وأمره .
فهذه خمسة أشياء يقابلها الإثبات ، في :
" إثبات جميع كمالات الربوبية لله جل وعلا وهذا معنى الحمد .
" وإثبات جميع كمالات الألوهية لله جل وعلا .
" وإثبات جميع كمالات الأسماء والصفات لله جل وعلا .
" وإثبات جميع كمال القضاء والقدر لله جل وعلا ، يعني القضاء والتقدير .
" وإثبات جميع كمالات الحكم والأمر لله جل وعلا .
هذا معنى الحمد
فإذن في قوله { وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ } فيها إثبات للكمال في الربوبية ولهذا قال في الآية الأولى جل وعلا قال { وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا }
فكون الله جل وعلا لم يتخذ ولدا هذا من أسباب حمده جل وعلا
فهو يحمد على كماله في الربوبية وعلى كماله في الأسماء والصفات وعلى وجوب وثبوت جميع أنواع الجلال والكمال له في ذلك .
ولهذا لم يتخذ ولدا .
فلأجل ثبوت الحمد له لم يتخذ ولدا ، لأجل ثبوت الحمد لله جل وعلا لم يكن له شريك .
ولهذا أعظم الكلمات التي تجمع بين هذين الأمرين اللذين يحبهما الله جل وعلا كلمة التسبيح والتحميد (سبحان الله والحمد لله) و (سبحان الله وبحمده) ونحو ذلك مثل ما جاء في الحديث (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) لأنها تشتمل على التنزيه والإثبات .
أيضا من أفراد الإثبات لله جل وعلا أنه قال { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } وهذه هامة { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ } و { شَرِيكٌ } هنا نكرة أتت في سياق النفي فيشمل جميع ما يمكن من أنواع الشَرِكَةِ في الملك(1/306)
والشركة في الملك :
" قد تكون شركة على وجه الاستقلال هذا واحد .
" وقد تكون شركة على وجه البعضية ، يعني لا ينفرد الشريك بملك ولكن يشارك في بعضه.
" وقد تكون الشركة بغير ذلك .
فالله جل وعلا نفى جميع أنواع الشركة له في ملكه جل وعلا .
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ } هذا النفي المتكرر في قوله { لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ } هذا كله لأجل ثبوت الحمد له جل وعلا
ولهذا قال { وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي } الحمد للمنعوت بأنه { لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ }
الولي يعني : الناصر ، والذل يعني : الضعف والاحتياج .
وبعدها الآية { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحِمْدُ }
قال أهل العلم إن التسبيح كما ذكرت لكم هو التنزيه لله جل وعلا عما لا يليق به ولا يليق بجلاله وعظمته
وقوله هنا { لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحِمْدُ } هذا في مقام التعليل
يعني ثبت التسبيح له لعلة كونه جل وعلا له الملك وله الحمد ، قال { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحِمْدُ وَهوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْر } وقوله { لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحِمْدُ } و { يُسَبِّحُ لِلَّهِ } هذه الثلاث من اللامات مختلفة :
فمعنى الأولى { يُسَبِّحُ لِلَّهِ } معناها يسبح الله
(سبح فلان الله) { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } اللام هذه للإخلاص لأنهم يسبحونه لا يسبحون غيره جل وعلا ، وكل ما في السماوات والأرض يسبح الله { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ } يعني يسبح الله { بِحَمْدَهِ } .
قوله { لَهُ الْمُلْكُ } اللام هذه لام المِلك(1/307)
يعني هو جل وعلا ذو المُلك وذو المِلك
والمُلك والمِلك نوعان :
المُلك منها المَلِك وهو الذي ينفُذُ أمره في ملكه
وأما المِلك بالكسر فمنها مالك يعني هو الذي يملكه مِِلك الأعيان
ولهذا في آية الفاتحة { مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } جاءت و { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ }
فـ { مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } هذا من المِلك و { مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ } هذا من المُلك
والله جل وعلا هو مالكه ليس لأحد فيه نصيب وأيضا هو ملكه الذي ينفُذُ فيه أمره ولا أحد ينفذ أمره فيه يعني في ذلك اليوم .
الثالث { وَلَهُ الْحِمْدُ } مثل قوله { الْحَمْدُ للَّهِ } هذه لام الاستحقاق ، وضابطها أنها التي يكون بعدها أو التي تضيف المعاني إلى الذوات .
ولام المِلك هي التي تضيف الأعيان أو الذوات للذوات .
مثلا تقول (الفخر لي) (المجد لفلان) (العز لفلان) هذه كلها معاني ، اللام ، (العز لفلان) (المجد لفلان) (الاجتهاد لفلان) يعني على جهة الاستحقاق .
أما إذا كان قبلها عين ، ذات فهي تجعل هذه الذات مِلكا لمن أضيفت له فتقول (الكتاب لأحمد) يعني مِلكا ، هذان نوعان في هذا السياق .
بقي نوع ثالث وهي لام الاختصاص أو شبه المِلك وهي كثيرة أيضا في القرآن ، ليس هذا محل إيضاحها.
كذلك في قوله جل وعلا { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا () الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ }
هنا قوله { تَبَارَكَ } هذا لفظ خاص بالله جل وعلا فلا يجوز أن يقال في حق أحد غير الله جل وعلا (تبارك فلان) لأن الله جل وعلا هو الذي له البركة وهو الذي تبارك .
ومعنى تبارك يعني (دام كماله وخيره وثبت واستقر) فمن الذي يدوم خيره ؟
هو الله جل وعلا
ابن عباس قال { تَبَارَكَ } تعاظم(1/308)
قال طائفة من المحققين : لا يريد ابن عباس بقوله ( { تَبَارَكَ } تعاظم) أنه تفسير للفظ ولكن يقول هي على وزنها من جهة كونها مقصورة لأن الأصل في (تفاعل) أن يكون بين اثنين لا يكون لازما
تقول (تقاتل فلان وفلان) (تشاجر آل فلان وآل فلان) وهكذا ، فتفاعل في الأصل أنها تكون بين اثنين .
ابن عباس رضي الله عنه فسرها { تَبَارَكَ } بمعنى تعاظم يريد أنها لازمة لا يريد معنى كلمة تبارك وإلا فإن البركة معناها دوام الخير وثباته واستقراره .
وهذا مشتق عند العرب من البروك والبِرْكة ونحو ذلك ، والبروك به يستقر البعير ويثبت في مكانه ، والبِرْكة هي التي فيها يدوم الماء ويستقر ويثبت بعد المطر .
إذن هنا { تَبَارَكَ } فيها دوام الخير وكماله وثباته واستقراره
فنفهم من ذلك أن { تَبَارَكَ } فيها إثبات جميع الكمالات لله جل وعلا الذاتية وما يفيضه الله جل وعلا على عباده من الخيرات ، ولهذا فيها معنى الإثبات الذي في الحمد ولهذا قال جل وعلا هنا { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } وإنزال الفرقان الذي هو القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا من أعظم بل هو أعظم الخير الذي أوتيه عليه الصلاة والسلام وهو أعظم الخير الذي أعطيَتْه هذه الأمة ، لهذا ناسب في تنزيله أن يقول { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } لأن هذا من النعم العظيمة
فدام خير الله وكمل ، الذي صفته أنه { نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ } النبي { لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا }
قال هنا { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ }
هذه مثل ما سبق في معناها أنها فيها نفي الولد عن الله جل وعلا
ونفي الولد عن الله جل وعلا لأجل كمال غناه وكمال ربوبيته وكماله في أسمائه وصفاته(1/309)
وكذلك نفي الشريك عن الله جل وعلا في الملك لكماله في ربوبيته وفي أمره وفي أسمائه وصفاته .
كذلك قوله جل وعلا { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ }
قوله هنا { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ } كسابقاتها في نفي الولد عن الله جل وعلا
وادعاء الولد لله جل وعلا ادعته طوائف من الناس ، ومن أشهر أولئك :
- النصارى في أكثر فرقهم ادعوا أن عيسى ابن لله وولد له ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
- ومنهم اليهود ، فادعت طائفة قليلة منهم أن عزيرا ابن الله ، وليس هذا من القول المشتهر عند اليهود ، يعني في طائفة ليست هي الأكثر بين اليهود .
الله جل وعلا نفى ذلك ونفى أيضا ما تعتقده العرب في الملائكة بأنها بنات الله فقال جل وعلا { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ } فيه رد على النصارى ورد على اليهود ورد على مشركي العرب .
وقوله { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } هذا فيها التنصيص الصريح بنفي إلهية أحد مع الله جل وعلا
وذلك لأن النكرة هنا وهي (إِلَهٍ) جاءت في سباق النفي وجاء قبلها حرف الصلة الذي هو (من).
حرف الجر (من) هذا الذي هو مزيد قبل النكرة في سياق النفي ليفيد نقل النفي من ظهوره في العموم إلى كونه نصا في العموم ، يعني لا يستثنى من ذلك شيء .
قوله { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ } كذلك هذا نفي لجميع الولد ، لكن لو قال مثل ما في المواضع الأخرى ، لو كانت كل المواضع (لم يتخذ ولدا) لكان هذا ظهور في العموم يحتمل أن يستثنى منه بعض الحالات
يحتمل وإن كان الاحتمال مرجوحا ضعيفا كما هو مقرر في الأصول
لكن قوله هنا { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ } في زيادة (من) قبل النكرة في سياق النفي يفهمنا أن المواضع التي نفي فيها الولد عن الله جل وعلا أن المراد منها التنصيص الصريح على نفي الولد وهذا لا يخرج عنه أحد ولهذا شملت جميع أولئك .(1/310)
كذلك قوله { ومَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } والإله هو المعبود كما هو معلوم لكم وقررناه أكثر من مرة ، الإله فعال بمعنى مفعول معبود لأنه مأخوذ من الألوهة والألوهة بمعنى العبادة أو العبودية .
من له الألوهة ؟ من له العبادة ؟ من له العبودية ؟
هي لله جل وعلا
إذن قوله { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } يعني لم يكن معه أحد يستحق أن يعبد .
ثم قال جل وعلا { إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ ولعلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ }
إذا كان ثم أحد يصح أن يكون إلها فلا بد أن يكون مالكا ولا بد أن يكون خالقا لما ملك
فالله جل وعلا قال في هذه الآية { إِذًا } يعني لو كان ثم إله معه لكان هذا الإله مالكا لشيء وإذا كان مالكا لشيء فهو خالقا له ولهذا قال { إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ } فصار عدة أنواع من الملكوت وكل ملكوت له خالق وكل خالق يعبده من في ذلك الملكوت .
وهذا من أعظم الفساد الذي يكون وهذا هو الذي نفي في آية الأنبياء .
قال سبحانه هنا { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ } وهذا لأجل أن الألوهية والربوبية - لأن الخلق من أفراد الربوبية
الخلق والرَّزق والإحياء والإماتة من أفراد الربوبية
فهنا قال { إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ } وذلك لما بين الألوهية والربوبية من الترابط
فالألوهية متضمنة للربوبية والربوبية مستلزمة للإلهية ، يعني من كان إلها فهذا متضمن
يعني كونه إلها ، كونه اعتُقد فيه أنه إله أو ادعى أنه إله - يتضمن هذا الادعاء أنه رب أنه خالق وأنه مالك على وجه الاستقلال متضمن له
لأن ثبوت الإلهية يعني ثبوت استحقاق العبادة لا يكون إلا بعد ثبوت الربوبية
وأما الربوبية فهي مستلزمة للإلهية ، ولهذا تجد في آيات القرآن أن الله جل وعلا يحتج على المشركين فيما أنكروه من توحيده جل وعلا في إلهيته وأنه لا إله غيره(1/311)
يحتج عليهم فيما أنكروه بما أقروا به وهو توحيد الربوبية من مثل قول الله جل وعلا { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ }
فأثبت أنهم يقرون بتوحيده في ربوبيته وفرع عليها ، رتب عليها ما يلزم من ذلك وهو أن يفردوه في إلهيته ، وكذلك قوله تعالى { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } هذه جميعا أفراد الربوبية ، { فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ }
فلما قامت عليهم الحجة في الربوبية قال جل وعلا لنبيه { قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } والفاء هذه عاطفة لما بعدها على جملة محذوفة قبلها بعد الهمزة دل عليها السياق
يعني : أتقرون بأنه واحد في ربوبيته فلا تتقون الشرك به { قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ }
يعني فذلكم الإله المستحق للعبادة وحده { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ }
لهذا قال جل وعلا في هذا بعد أن نفى الشريك ذكر التسبيح
قال { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }
يعني تنزيها لله عن كل ما وصفه المشركون .
{ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
فنزه الله جل وعلا نفسه وعالى جل وعلا نفسه عما ادعاه المشركون .
قال جل وعلا بعد ذلك في الآية الأخيرة التي ساقها شيخ الإسلام { فلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لأ تَعْلَمُونَ }(1/312)
(لا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ) الأمثال جمع مثل وهي النعوت والأوصاف والأقيسة
وذلك أن المشركين عبدوا غير الله بالقياس على عبادتهم لله
فعبدوه بالأقيسة وجعلوا الخلق مثلا وضربوا لله جل وعلا نعوتا وأوصافا من عندهم وأمثالا شبهوها حتى تستقيم عبادتهم للأوثان والأصنام .
فقوله هنا { فلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } يعني فلا تجعلوا لله النعوت والأوصاف والأمثال والتشبيهات وذلك لأنكم جاهلون بما يستحق الله جل وعلا وما يجب تنزيهه عنه
وعلل ذلك النهي بقوله { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُون َ } لما تقرر أن (إن) وما دخلت عليه إذا أتت بعد النهي أو الأمر فإنها تفيد التعليل
فإذن لماذا نهوا عن ضرب الأمثال لله ؟ لماذا نهي كل الخلق عن أن يضربوا لله الأمثال ؟
نهوا عنها لأنهم لا يعلمون
والذي يعلم ما يجب له وتفاصيل ما يستحق وما يصلح له من الأمثال وما لا يصلح هو الله جل وعلا لهذا قال { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }
ثم بعدها ضرب الله جل وعلا الأمثال التي تصلح له جل وعلا بقوله { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا } إلى أن قال في الآية بعدها { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
...... (1)
__________
(1) 1 يوجد خنا مسح بالشريط(1/313)
فيها شيئان : فيها تنزيهه جل وعلا عما ادعاه المشركون لأن المشركين فيما ادعوه لله ضربوا الأمثال فهذه الآية جعلها شيخ الإسلام بعد الآيات السابقة لأنها في معنى التسبيح ، الله جل وعلا نزه نفسه عما قاله المشركون ومن ضمن ذلك أنه نهى أن تضرب له الأمثال لتنزيهه جل وعلا وتسبيحه عما ادعاه المشركون فيه جل وعلا .
وفي الآية الأخيرة قال { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لأ تَعْلَمُونَ }
هذا من جنس الآيات التي قبلها فالمشركون قالوا على الله بغير علم وقاسوا الآلهة على الله وقاسوا ما تستحقه الآلهة على ما يستحقه الله فجعلوا بعض خصائص الألوهية لهذه الآلهة من البشر والحجر ومن الصالحين وغيرهم .
هذه الآيات كما ترى فيها نفي الشريك عن الله جل وعلا وهذا محتمل :
" لنفي الشريك عنه في ربوبيته .
" ونفي الشريك عنه في إلهيته .
" ونفي الشريك عنه في أسمائه وصفاته .
" ونفي الشريك عنه في قضائه وقدره .
" ونفي الشريك عنه في حكمه وأمره .
وهذه كلها جاءت مفصلة في القرآن هذه الخمسة التي هي أصول معاني التسبيح والتحميد
... ...
{ فلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } هذا كما سبق في الآيات فيه التسبيح وفيه التحميد ، ذكرت أولا أن فيه التنزيه وهذا هو مقام التسبيح
فيه تنزيه الله جل وعلا لأن المشركين ضربوا الأمثال ولم ينزهوا الله جل وعلا ولم يسبحوه يعني أبعدوه عن كل نقص ولم ينزهه عن نقص بل جعلوا لبعض المخلوقين ما لله جل وعلا ففاتهم التنزيه فضربوا الأمثال فوقعوا في أنهم جعلوا بعض خلق الله كالله جل وعلا في ما يستحق وما لا ينبغي معه(1/314)
والثاني إثبات الكمالات التي هي الحمد وأن المشركين لم يثبتوا ما يستحق الله جل وعلا من الكمالات فلذلك المشرك ليس بمسبح ولا بحامد لله جل وعلا على وجه الكمال
من الذي يسبح الله ويحمده على وجه الكمال ؟
هو المؤمن ، المسلم ، أما المشركون فقد يسبحون الله في بعض الأمور ، ينزهون الله في بعض الأمور ويشركون به في بعض آخر فمثلا : إذا أتى في الربوبية ينزهون الله عن الشريك ، في القضاء والقدر ينزهون الله عن الشريك ، لكن في الأسماء والصفات لم ينزهوا الله عن الشريك لم يسبحوه جل وعلا عن الشركاء ، كذلك في الألوهية عبدوا معه غيره كذلك في الحكم والتحاكم والأمر لم ينزهوا الله جل وعلا عن أن يكون معه أحد يشترك معه في تشريع الحكم كما قال سبحانه { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ } .
فهذان الشيئان ، وكل هذين الأمرين يعني كونهم لم يسبحوا ولم يحمدوا هذان الأمران لأجل أنهم لا يعلمون فإذن العلم فيه إثبات التسبيح والحمد لله جل وعلا على أكمل الوجوه .
التحميد كما ذكرت لكم إثبات الكمالات في الربوبية والألوهية ، والربوبية ليس هو الذات فقط
فيها أشياء ذاتية وفيها متعدية ، مثل الخلق متعدي ، الإحياء متعدي ، الإماتة ، إلى آخره
ففيها متعدي ...
إثبات استواء
الله على عرشه
وَقَوْلُهُ: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5]، { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (1) فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ:
فِي سُورَةِ الأَعْرَافِ؛ قَوْلُهُ: { إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف:54].
__________
(1) وردت هذه الآية في القرآن في ستّ مواضع:
الأعراف:54، يونس:3، الرعد:2، الفرقان:59، السجدة:4، الحديد:4.(1/315)
وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: { إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [يونس:3].
وَقَالَ فِي سُورَةِِ الرَّعْدِِ: { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الرعد:2]
وَقَالَ فِي سُورَةِ طَهَ: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5].
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [الفرقان:59].
وَقَالَ فِي سُورَةِ آلم السَّجْدَةِ: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [السجدة:4].
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الحديد:4].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الآيات هي معطوفة على ما سبق الاستدلال به من آيات على إثبات الصفات لله جل وعلا
ومن الصفات المثبتة لله جل وعلا صفة الاستواء على العرش .
والاستواء على العرش ذكر في مواضع عدة من كتاب الله جل وعلا مثل ما ذكر لكم في هذه المواضع السبعة .
وكونه يتكرر في هذه المواضع باختلاف أيضا في التقديم والتأخير { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وآية طه { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وآية سورة الفرقان { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } يعني ثم استوى الرحمن على العرش { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فاسأل به خبيرا } .
فإذن تنوعت الآيات من حيث التركيب في الدلالة على هذه الصفة
ولهذا هذا اللفظ { اسْتَوَى } هو من الاستواء ، والاستواء معروف معناه في اللغة(1/316)
ولهذا لما كانت هذه الصفة فيها إثبات بوضوح لصفات الله جل وعلا وفيها عند المبتدعة ما يُتَوَهَم فيه المماثلة أو مشابهة المخلوقين كانت هذه الصفة فاصلة بين أهل السنة وبين غيرهم .
فالإقرار باستواء الله على العرش حقيقة كما يليق بجلال الله جل وعلا وعظمته هذا لا يقول به إلا سني .
وأما غير أهل السنة كالأشاعرة والماتريدية وغير هؤلاء من الفرق فإن هذه الصفة عندهم محل فرقان
فإذا أتى من يثبتها نفوه أن يكون منهم وذلك لأجل الخلاف القديم في هذه الصفة وفي أمثالها .
وقد سئل كما تعلمون الإمام مالك عن الاستواء فقال (الاستواء غير مجهول) وفي لفظ آخر قال (الاستواء معلوم) لكن الأشهر (الاستواء غير مجهول) يعني غير مجهول المعنى في اللغة (والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب وإنكاره بدعة وما أراك إلا مبتدعا)
هذه الصفة صفة الاستواء كما قال الإمام مالك (الاستواء غير مجهول) أو (الاستواء معلوم)
يعني في اللغة
فلهذا أهل السنة قاعدتهم في هذه الصفات أنهم يؤمنون بما وصف الله جل وعلا به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات ويفهمون ذلك ويثبتونه على مقتضى اللسان العربي
ومعلوم أن اللسان العربي من حيث فيه المعاني الكلية وفيه المعاني الإضافية
فهناك معاني كلية هذه - بشرط الكلية - لا توجد إلا في الأذهان
يعني أن نتصور معنى عام للاستواء من غير إضافته لأحد
هذا بحث لغوي بحت لكنه في الواقع غير موجود ، فكيف إذن تفسر الألفاظ اللغوية ؟
الألفاظ اللغوية تفهمها العرب وتفسرها بالمعنى العام الكلي الذي يكون في الذهن
وإذا صار مضافا في الخارج إلى لأشخاص فإنه تكون الإضافة فيه بحسب ما يليق بالمضاف إليه .
فمثلا الاستواء ، الاستواء في اللغة معلوم المعنى غير مجهول المعنى ومعناه معنى الاستواء العلو والارتفاع ، فتقول مثلا (استويت على الراحلة) إذا علوت عليها ، الاستواء هو العلو والارتفاع
لكن هذا العلو والارتفاع مضاف إلى أي شيء ؟(1/317)
علو وارتفاع المخلوق ، علو وارتفاع رجل ، علو وارتفاع صاعد لجبل
هل هو علو وارتفاع الخالق ؟ أي علو وارتفاع ؟
فإذن تفسير الاستواء بالمعنى العام في اللغة هذا هو الذي ينفي التشبيه وينفي التمثيل
لأنه يقع التمثيل إذا سوِّي في الخارج بين من أضيف له الاستواء
فقيل في الرجل استوى والله جل وعلا على العرش استوى
الملك استوى على عرشه والله جل وعلا استوى على عرشه
الاستواء من حيث كونه معنى كليا في الذهن معناه واحد ،
لكن إذا أضيف ، إذا خصص به فإن المعنى يختلف ، يكون بحسب من خصص به
وهذه قاعدة مهمة (أن المعاني الكلية تختلف معانيها بالإضافة والتخصيص)
الإضافة والتخصيص إلى من فعل الفعل أو من اتصف بالوصف
فعندنا صفة المحبة ، الله جل وعلا له المحبة والمخلوق أيضا له المحبة
المحبة من حيث اللغة إذا قال ما المحبة ؟
إذا فسرها لغوي بما يجعل في ذهنه أن المراد بالمحبة محبة المخلوق فإنه هنا يغلط
لأن الواجب في تفسير الألفاظ اللغوية أن تفسر بالمعاني الكلية التي لا توجد في الخارج
لكي تشمل جميع الأصناف : تشمل محبة المخلوق تشمل محبة الإنسان الطبيعة كمحبة الرجل للمرأة ، المرأة للرجل محبة الحيوانات الأم لولدها والولد لأمه ، محبة الملائكة ، تشمل محبة الله
هذا المعنى الكلي هو الذي يشمل الجميع ، وإنما يختلف في الخارج باختلاف الإضافة والتخصيص
ولهذا في الاستواء الله جل وعلا أثبت أن بعض خلقه له الاستواء فقال { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ }
يعني علوتم وارتفعتم على الفلك { فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .
كذلك في قوله { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } يعني موسى عليه السلام ، هنا استوى بلا حرف جر
، لكن من الذي استوى ؟
هنا موسى
انتهى الشريط الحادي عشر من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى(1/318)
الشريط الثاني عشر
في قوله { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } يعني موسى عليه السلام ، هنا استوى بلا حرف جر ، لكن من الذي استوى ؟
هنا موسى .
الله جل وعلا أيضا استوى على العرش فقال { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } .
الاستواء من حيث هو معنى كلي هو (العلو والارتفاع) .
إذا أضفته وخصصته فيكون (ارتفاع المخلوق وعلوه بما يناسب ذاته) وإذا أضفته إلى الله صار (ارتفاع وعلو الله جل وعلا بما يناسب ذاته العلية) .
ولهذا من القواعد المقررة عند أهل السنة في هذا أن [ الفرق بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات ] .
الفرق بين صفة المخلوق وصفة الله إذا اشتركا في أصلها الفرق بينهما كما الفرق بين الذات والذات .
ولهذا شيخ الإسلام في التدمرية وفي كتبه الكبار يقول : لا توجد فرقة من الفرق التي ظهرت في هذه الأمة تنفي عن الله جل وعلا جميع الصفات ولا تثبت له صفة واحدة ، ما يوجد ، بل أغلا الفرق هي الجهمية ، والجهمية تثبت صفة واحدة وهي صفة الوجود - وهذا نؤصل لك المسألة ونفصل الكلام عن الاستواء إن شاء الله في الدرس القادم - الجهمية تثبت صفة واحدة وهي صفة الوجود ، هناك المعتزلة يثبتون ثلاث صفات ، الأشاعرة المتقدمون يثبتون سبع وبالتفصيل تصير عشرين ، الماتريدية ثمان ويزيدون على ذلك ، وأهل السنة والجماعة يثبتون جميع الصفات .
يقول : لا يوجد أحد ينكر جميع الصفات بمعنى لا يثبت صفة واحدة ، الجهمية وهم الغلاة يقولون له صفة الوجود ، ما صفة الرب ؟ ما صفة إلهكم ؟ ما صفة الله عندكم - يعني عند الجهمية - ؟ فيقولون صفته الوجود المطلق .
فيقول شيخ الإسلام في كتبه وهي حجة دامغة يقول : إذا كان كذلك فيُلْزَم كل من أنكر صفة لمعنى المماثلة والمشابهة والتجسيم أن يقولها فيما أثبت من الصفات .
فمثلا عندك الجهمية يقول : اطعن على الجهمي بصفة الوجود ، فيقول ألست بموجود يا جهم
تخاطب الجهمي تقول يا جهمي ألست بموجود ؟(1/319)
الله موجود ، أليس في هذا تمثيل ؟
فلا بد له أن يجيب بقوله ، ليس له محيد عن جواب واحد وهو أن يقول: وجود الخالق غير وجود المخلوق لأنه ليس ثم حيلة إذا نفى حتى صفة الوجود عن الله صار عدما إله معدوم ، هذا ما يقوله عاقل .
فهم نفوا جميع الصفات لأجل التمثيل وقالوا الوجود هذا لا بد منه لأنه ما يستقيم إلا به .
يقول تبدأ معه بالطعن بهذه : ما الفرق بين ما أثبتَّ وما نفيت ؟
تذهب إلى المعتزلة كذلك في تفصيل هذه المسألة : ما الفرق بين إثباتك الحياة ونفيك ذلك ، .... أو القدرة ونفي بقية الصفات ؟
يقول له قدرة تناسبه ، دل العقل على ذلك وأما قدرة المخلوق فتناسبه .
نقول هذه قاعدة في جميع الصفات يجب أن تُطْرَد .
فيكون هنا الكلام إذن على أن القول في الصفات كالقول في الذات يحتذى فيه حذوه وينهج فيه منهاجه ، يعني كالقول في الذات .
كما أن إثبات الذات لله جل وعلا هو إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات هو إثبات وجود لا إثبات كيفية ، كذلك [ الفرق بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات ] .
هذه قاعدة أخرى وهذه القواعد مما ذكرها الخطابي في كتبه معالم - .. في كتابه في التوحيد يعني سلك به مسلك الأشاعرة لكنه قعد تقعيدات جيدة أظنه معالم أصول الدين أو نحو هذه الكلمة -
المقصود قعد فيها قواعد وأهل السنة استفادوا هذه التقعيدات منه لأنها تقعيدات صحيحة .
الفرق بين الصفة والصفة كما أن الفرق بين الذات والذات .
الله جل وعلا هو المَلِك وأثبت أن بعض خلقه ملك فقال { وَقَالَ الْمَلِكُ } .
الله جل وعلا سميع بصير كذلك بعض خلقه سميع بصير .
فإذن الفرق بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات .
صفة الاستواء من الصفات التي وقع فيها الاشتباه معناها هو العلو والارتفاع على العرش ، علو خاص وارتفاع خاص .
العلو صفة ذاتية لله جل وعلا لا تنفك عن الله جل وعلا .(1/320)
العرش الله جل وعلا لم يكن مستويا على العرش يعني لم يكن عاليا ومرتفعا على العرش علوا خاصا
هو له العلو المطلق الذي هو صفة ذاتية .
لكن العلو الخاص والارتفاع الخاص على العرش هذا لم يكن مستويا عليه جل وعلا ثم استوى ، وهذا لأجل أن الأدلة التي فيها الاستواء في أكثرها ذكر (ثم) ومن المعلوم أن (ثم) هذه للتراخي تفيد أنه لم يكن كذلك ثم كان كذلك .
لهذا صفة الاستواء على العرش معناها أن الله جل وعلا قد علا وارتفع على عرشه علوا وارتفاعا خاصا وإلا فإن صفة العلو له جل وعلا على وجه الاطلاق .
نقف عند هذا القدر ونكمل إن شاء الله في الأسبوع القادم ...
وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين ، اللهم بصرنا بالحق ومن علينا باتباعه وبصرنا بالباطل ومن علينا باجتنابه ، اللهم إنا نعوذ بك من الحَورِ بعد الكَورْ ، ونعوذ بك أن نَضِل أو نُضَل أو نَزِل أو نُزَل أو نجهل أو يُجهل علينا ، أما بعد :
فهذه الجملة من الآيات فيها إثبات صفة الاستواء ، استواء الله جل وعلا على عرشه .
وهذان الأمران الاستواء والعرش قد خالف فيهما أهلَ السنة والجماعة من خالف .
ففي عقائد المبتدعة الاستواء عندهم ليس هو الاستواء عند أهل السنة ، وكذلك العرش عندهم ليس هو العرش عند أهل السنة والجماعة .
هذه الآيات فيها إثبات الاستواء ، استواء الله جل وعلا على عرشه .
والعرش الذي استوى ربنا جل وعلا عليه هو مخلوق من مخلوقاته العظام وصفه الله جل وعلا بصفات في كتابه كقوله في وصفه إن العرش عظيم في قوله { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } ووصفه بأنه كريم في قوله { رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } ووصفه بأنه مجيد ، وهذه الصفات لها معاني .
كذلك وصف الله جل وعلا عرشه العظيم الكريم المجيد .
وصف عرشه بأنه يُحمَل فقال جل وعلا { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } .(1/321)
ووصف جل وعلا أيضا عرشه بأنه يطاف به وأن حوله الملائكة قال سبحانه { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } .
وفي السنة جاء وصف العرش بأن له قوائم وأنه يُحمَل كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يصعق الناس فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ أو قال باطش بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جُوزِيَ بصعقة الطور) ونحو ذلك من الأحاديث والآيات التي فيها وصف العرش بأنه من جنس العروش التي تُعْهَد للملوك .
وهذا هو الذي تقتضيه اللغة ، فإن العرش في لغة العرب هو (سرير المَلِك) .
يعني في اللغة : (المكان أو الكرسي الذي يجلس عليه الملك إذا أراد مقابلة من يدخل عليه)
وهذا جاء في قصة بلقيس حيث قال جل وعلا { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }
وقال جل وعلا { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا } .
إذا تبين لك ذلك فإن العرش في لغة العرب سمي عرشا لعلوه على غيره .
فإن التَعَرُش وعَرَش فلان بمعنى رفع فلان .
(عرش فلان اللحم) إذا رفعه فأكله .
وعرش فلان بيته إذا رفعه ، والعريش سمي عريشا لأنه معروش مرفوع ، وقد قال جل وعلا { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } يعني ومما يرفعونه مما يبنون .
فأصل هذه المادة في لغة العرب راجعة إلى الارتفاع ، وسمي العرش الذي هو سرير المَلِك سمي بذلك لارتفاعه إذ الملك يجلس عاليا على من حوله وهذا معنى هذا اللفظ في لغة العرب .
ووصْفُ العرش في القرآن وفي السنة بأن له قوائم وأنه يحمل وأنه عرش عظيم وأنه مجيد وأنه كريم
هذه الصفات تقتضي أنه فاق العروش في بهائه وحسنه وعظمته .
فقوله جل وعلا { رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } في آخر سورة المؤمنون { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }(1/322)
بالرفع في سورة المؤمنون { رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } وهو جل وعلا رب العرش العظيم قال { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } .
ومعنى كون عرش الله كريما ، كريم يعني (فاق جنس العروش في صفات الكمال) .
فالعروش المعهودة لها صفات وعرش الرحمن هو أكرم تلك العروش ، يعني هو الذي فاق تلك العروش في صفات الكمال ، إذ الكرم في لغة العرب معناه (أن يفوق من وصف به غيره الذي من جنسه في صفات الكمال) فيقال فلان كريم إذا فاق غيره في الصفات ، صار يبذل نفسه يبذل ماله ، يطعم ، صاحب نجدة ونحو ذلك هذا يقال له كريم يعني كثرت فيه الصفات التي تميز بها عن غيره.
فإذن عرش الله جل وعلا كريم .
فوصْفُهُ بأنه كريم في قوله { رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } وصْفُهُ بأنه كريم يقتضي أنه من جنس العروش لأن الكريم في لغة العرب هو الذي فاق جنسه في صفات الكمال .
والعرش من صفته في اللغة أنه عال فكذلك عرش الرحمن .
عرش الرحمن موصوف بالعلو .
ولهذا قال أهل العلم على ما جاء في السنة إنه - عرش الرحمن - هو فوقُ الجنة يعني سقف الجنة ، وأن عرش الرحمن عال على السماوات وعلى الكرسي فهو أعلى المخلوقات ، فليس ثم شيء من المخلوقات أعلى من عرش الرحمن ، وفوق العرش رب العالمين جل وعلا .
إذن نصل من هذا إلى تقرير أن لفظ العرش في اللغة يقتضي العلو ، وأن وصف العرش في القرآن وفي السنة يدل على أنه مخلوق منفصل له صفات وأنه من جنس العروش ، لكن فاقها في صفات الكمال ، يعني أنه يشترك مع بقية العروش في أصل المعنى .
كما أن صفات الله جل وعلا تشترك مع صفات المخلوقين في أصل المعنى وما بين الصفة والصفة كما بين الذات والذات ، فكذلك عرش الرحمن هو يشترك مع عروش الملوك في أصل المعنى لكن بين عرش الرحمن وعروش الملوك التي كانت تعتادها الملوك كما بين الذات والذات .(1/323)
إذا تقرر هذا فنعلم أن إثبات العرش عند أهل السنة هو إثبات مخلوق عال فوق المخلوقات وأن له صفة وأنه يحمل وأن له قوائم وهو أعلى مخلوقات الرب جل وعلا .
إذا تقرر هذا فنقول : معنى قوله { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } يقتضي أن يكون معناه علا على العرش
لأن العرش موصوف بالعلو ومعنى استوى على العرش يعني علا على العرش .
وقبل الدخول في تفصيل هذا ، المبتدعة نازعوا في أن العرش على ما وصفنا ، وسبب المنازعة أنهم رأوا أنهم لو قالوا إن استوى بمعنى استولى كما هو المشهور عن الأشعرية والمعتزلة ومن شابههم قالوا استوى بمعنى استولى .
فيكون هنا تخصيص الاستيلاء بالعرش يفهم منه أن غير العرش لم يستولي عليه .
استولى على العرش ، وغير العرش ؟
فلهذا قالوا العرش ليس على هذا الذي وصفتم وإنما العرش معناه المُلْك فـ { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } يعني استولى على المُلك .
هذا قول المبتدعة وهذا بينته لك لأبين سبب وأصل الخلاف في هذه المسألة والتأويلات التي جاءت فيه .
إذن فقول الله جل وعلا { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } ونحو ذلك من الآيات السبع التي ذكرها المصنف هي دالة على أن الله جل وعلا مستو على عرشه ، وأن استواء الله على عرشه أن هذا لا يقبل التأويل ولا يقبل صرفه عن ظاهره لأنه نُوِّعت العبارة .
ثم إن العرش فيه من معنى الاستواء ، فإن العرش والتعرش فيه العلو ، والاستواء فيه العلو كما سيأتي
فإذن هذه النصوص ، هذه الآيات السبع نص في صفة الاستواء .
ومعنى كونها نصا أنها لا تقبل معنى آخر ، بخلاف الذين زعموا أن الاستواء له عدة معان ربما كان كذا وكذا ، خمسة عشر معنى بعضهم يقول ويحرف الكلم عن مواضعه .
هذه الآيات نص في صفة الاستواء
إذا تبين ذلك فقوله { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } (استوى) هذه فسرها السلف بعدة تفسيرات :(1/324)
" قالوا (استوى) علا .
" (استوى) استقر .
" { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } يعني ارتفع .
" { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } بمعنى صعد .
علا ، ارتفع ، استقر ، صعد ، هذه التفاسير المنقولة عن السلف ، وسبب هذه أن علا وارتفع وصعد واستقر هذه كلها لها صلة بالمعنى اللغوي بل هي من التفسير باللغة ، لأن (استوى) في اللغة معناها علا .
قال ابن الأعرابي - أحد أئمة اللغة - : إن العرب لا تعرف (استوى) إلا بمعنى علا .
وجاء أحد أهل اللغة في زيارة أحد الأعراب فنظر إليهم وهو على سطح بيته فقال : استووا إليّ ، يعني اصعدوا إليّ .
وهذا هو معنى (استوى) في اللغة ، فـ (استوى) في اللغة بمعنى علا وارتفع .
(استوى الشيء) يعني علا وارتفع ، (استوى على بيته) يعني علا وارتفع عليه .
قال جل وعلا { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } يعني علوتم وارتفعتم عليه .
فإذن معنى (استوى) في لغة العرب العلو والارتفاع .
ولهذا الآيات التي فيها إثبات الاستواء لله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } هذه فسرها السلف بـ (علا وارتفع وصعد واستقر) وهذه كلها من التفسيرات اللغوية .
إذا تبين لك هذا فإن الآيات التي ذكر فيها الاستواء في القرآن على قسمين :
" القسم الأول : ذكر فيها الاستواء بدون تعدية .
" والأخرى ذكر فيها الاستواء مُعَدّى .
بدون تعدية يعني بلا حرف جر بعد الفعل .
قال جل وعلا في قصة موسى { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } هذا بدون تعدية .
إذا لم يُعَدّى يكون معنى (استوى) أي كمل وتم .(1/325)
معلوم أنه كمل وتم هذا من معنى يعني بلغ غاية علوه وارتفاعه لأن الشاب يرتفع ، يطول ، يطول ثم يبلغ شدته ، واستواؤه يعني علوه وانتصاب قامته ، ثم بعد ذلك يبدأ في النزول والانحناء ، ولهذا قالوا في { بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } يعني تم وكمل لأن التمام والكمال هذه مقارنة لعلوه وارتفاعه في بنيتة ، هذا المطلق .
والمقيد قُيِّد بحرف (إلى) وقُيِّد بحرف (على) :
" فمن المقيد بحرف (إلى) قوله جل وعلا { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } .
" من المقيد بحرف (على) { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ }
أصل معنى (استوى) واحد لا يختلف وهو العلو والارتفاع .
فهنا { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } هذا عُدِّي الاستواء بحرف (إلى) فعُلِم منه أن الاستواء ضُمِّنَ معنى فعل آخر يصلح للتعدية بـ (إلى) .
ما معنى هذا الكلام ؟
معناه أن العرب تستعمل في لغتها التضمين ، والتضمين هو في مقام العطف ، فبدل أن تعطف فعلا على آخر فيطول الكلام تثبت الفعل الأصلي وتُعَدِّيه بحرف جر لا يناسب هذا الفعل وإنما يناسب فعلا آخر ، فنستدل بالفعل على المعنى الأصلي .
نستدل بـ (استوى) على العلو والارتفاع ، ونستدل بـ (إلى) على الفعل الذي ضُمِّن في (استوى) يناسب (إلى) .
ولهذا تجد أن من التفاسير كما تجد في تفسير ابن كثير والبغوي وغيره في قوله { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } يعني عمَد وقصد
هذا تفسير ليس لِلَفظ (استوى) ولكن تفسير لما عُدِّي بـ (إلى) ، لأن (استوى) بمعنى علا وارتفع .
فمعنى قوله { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } يعني على وارتفع وقصد إلى السماء .
ففيها إثبات للمعنى الأول لـ (استوى) وفيها إثبات للمعنى الثاني المُضَمَّن في فعل (استوى) الذي يناسب التعدية بـ (إلى) .(1/326)
ولهذا قال بعضهم إن هذا تأويل من البغوي أو تأويل من الحافظ ابن كثير أو تأويل من بعض السلف الذين قالوا { اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء } بمعنى قصد هذا ليس كذلك ، بل هذا من التفسير باللازم أو من تفسير الآية بما يُحتاج إلى التنبيه عليه .
أما (استوى) عُلِم أنه بمعنى علا وارتفع .
هنا { اسْتَوَى إِلَى } المعروف استوى على فلماذا هنا قال { اسْتَوَى إِلَى } ؟
نقول : لأنه أراد أن يُضَمِّن (استوى) الذي هو بمعنى علا وارتفع معنى فعل قصد .
يعني : علا وارتفع قاصدا إلى السماء ، هذا نوع .
النوع الثاني من المُقيَّد الذي يقَيَّد بـ (على) فهذا يفيد أنه ارتفاع وعلو خاص .
لأن (استوى) أصلا بمعنى علا وارتفع فإذا عُدِّي بـ (على) صار الاستواء بمعنى العلو والارتفاع الخاص ، لأن (على) أيضا تفيد الاستعلاء ، أليس كذلك ؟
(قمت على الأمر) (على) تفيد الاستعلاء { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء } فيها استعلاء
فهنا عدَّى (استوى) بـ (على) ليفيد أنه ارتفاع وعلو خاص ، يعني فيه مزيد ، وهذا ما جاء في القرآن .
وفي اللغة و ما جاء في القرآن فيه قولهم (استوى فلان وفلان) (استوى الماء والخشبة) (استوى الساج والباب) مثلا ، هذا استوى كذا وكذا بمعنى تساوى يعني صار ارتفاعهما أو علوهما واحد فتساويا .
(استوى الماء والخشبة) يعني صارا في مستوى واحد ، هذا ليس في القرآن .
إذا تقرر ذلك فهذه معاني الاستواء في اللغة .
فقوله تعالى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } يعني علا وارتفع على العرش .
الله جل وعلا لم يزل عاليا ومرتفعا على خلقه أجمعين ، فهو جل وعلا له العلو ، علو الذات فوق مخلوقاته و هو محيط بمخلوقاته وليس شيء من مخلوقاته يحيط به جل وعلا ، ولهذا هو جل وعلا خلق العرش ، ولما خلق العرش أراد جل وعلا بمشيئته وقدرته أن يستوي عليه فاستوى عليه يعني علا وارتفع علوا خاصا على العرش .(1/327)
فهذا معنى قوله { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وهذا معتقد أهل السنة أنهم يثبتون الاستواء من غير تكييف كما قال الإمام مالك (الاستواء معلوم والكيف غير معقول) يعني مجهول غير معقول ، كيف ما نعرفه ، لكن الاستواء في اللغة (الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) ثم قال للسائل (ولا أراك إلا مبتدعا فاخرج).
هذا الاستواء معلوم كذلك في كل الصفات .
.....
هو كلام مالك وربيعة شيخة ويروى عن بعض أمهات المؤمنين مرفوعا وموقوفا لكن هو ثابت عن مالك وعن شيخه ربيعة .
فإذن قوله (الاستواء معلوم) يعني في لغة العرب (الكيف غير معقول أو مجهول) يعني كيفية الاستواء.
فإذن إثبات الاستواء على العرش إثبات معنى لا إثبات كيفية فما توهم ذهنك في كيفية الاستواء فحقيقة الاستواء بخلافه فلا يكون عندك تشبيه ولا تمثيل في استواء الله جل وعلا على عرشه إذ استواء الله على عرشه ليس كاستواء الملوك على عروشها وليس كاستواء الناس على ما يجلسون عليه ، بل هو إثبات معنى دون إثبات الكيفية .
نؤمن بالصفة على ما جاءت ، وهذه قاعدة عامة في كل النصوص أننا نثبت ما جاء في النصوص ونقول بهذا الجواب كما ذكر الترمذي في كتابه يعني في جامعه أن أئمة السنة لم يزالوا يقولون هذا الجواب في كل ما يُسألون عنه من الصفات .
الاستواء معلوم تقول النزول معلوم والكيف غير معقول ، اليد معلومة والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، الرحمة معلومة والكيف غير معقول أو مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، في كل الصفات .
وقد قال أبو داود الطيالسي (أدركت سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والليث وشريك لا يحدون ولا يمثلون ولا يشبهون فإذا سئلوا نطقوا بالأثر) يثبتون الصفات على ما جاء في الأثر ، أما تحديدها يعني تكييفها فيبتعدون عنه ، تمثيلها يبتعدون عنه ، التشبيه يبتعدون عنه .(1/328)
إذا تبين لك هذا فنقول إن استواء الله جل وعلا على عرشه هذا من صفاته جلاله جل وعلا إذ نعلم أن الأرض بالنسبة للسماوات أنها صغيرة ومتناهية في الصغر ، وأن السماوات السبع بالنسبة إلى الكرسي الذي هو موضع قدمي الله جل وعلا أنها كسبعة دراهم ألقيت في ترس ، الترس كما تعلمون مُقَبَّب ، والكرسي كالقبة على السماوات ، السماوات في داخله صغيرة ، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ألقيت في فلان من الأرض ، والعرش فوق ذلك ، والله جل وعلا مستو على العرش يحيط بالعرش ولا يحيط به العرش جل وعلا إذ هو جل وعلا بكل شيء محيط { أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } .
فهذه العقيدة عقيدة الاستواء تورث إجلال الله جل وعلا ، تورث تعظيمه إذ يعلم أنه - ابن آدم - في الأرض أنه كالهباء يعني صغير بالنسبة للأرض ، وأن الأرض بالنسبة للسماوات أيضا متناهية في الصغر ، والسماوات السبع بمن فيها وما فيها بالنسبة للكرسي متناهية في الصغر ، والكرسي بالنسبة للعرش كذلك ، والعرش يحيط به رب العالمين والله جل وعلا بكل شيء محيط فهذا يورث التعظيم والإجلال وينقطع العبد عن الإدراك إلا بما جاءت به النصوص .
يورثه ذلك معرفة فقره وضعفه ويورثه ذلك إجلال الله جل وعلا وتعظيمه ومعرفة ربوبيته ولاستحقاق لأن يعبد وحده وأن يجل وأن يناب إليه .
هذه العقيدة وما تورثه هذه حُرِمَهَا المبتدعة .
أما اللغوي فلأن الاستواء في اللغة يأتي بمعنى الاستيلاء قال الشاعر - حسب كلامهم -
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
(قد استوى بشر على العرق) يعني استولى بشر على العراق ،
من القائل ؟
قالوا هذا البيت قاله الأخطل .
بحث أهل العلم في ديوان الأخطل الذي يرويه المعروفون فلم يجدوا هذا البيت في ديوانه
فمن نسبه للأخطل ؟
لم ينسبه إلا المعتزلة إليه .
قال الأخطل ، لماذا خصوا الأخطل ؟(1/329)
حتى يجعلوه في حدود من يحتج بشعرهم لأن شعر العرب يحتج به إلى سنة 150 للهجرة وما بعد ذلك لا يحتج بالشعر لأنه كثر فيه الموَلًّد واستعمال الألفاظ غير العربية فاختاروا الأخطل لذلك ولاختلاف نُسَخِ ديوانه ، إلى آخره وهو لا يوجد في شيء من ذلك .
وقد أورده - أورد هذا البيت - صاحب كتاب الصحاح الجوهري وغُلِّط في ذلك ولم يعزه إلى ديوان معروف برواية عالم معروف .
وهذا ما من شك أنه على أصولهم يبطل ، لماذا ؟
لأننا نقول لهم أيها المبتدعة وأيها الأشاعرة وأيها المعتزلة إذا كان استوى بمعنى استولى واحتججتم فيه بذلك بما يثبت عقيدة .
وأنتم من المعروف لديكم أنكم تقولون ليس خبر الآحاد بحجة في العقائد .
حديث النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لا يحتج به في العقيدة ، لماذا ؟
قالوا لأنه نقل آحاد وإن صح السند وعلمنا الرجال وهم ثقات لكن هم أفراد والأفراد يجوز عليهم الغلط ، فردوا أحاديث الصفات لأجل نقل الآحاد .
فنقول : ألا حكمتم على أنفسكم بمثل ما اعترضتم به ، فهذا البيت لم ينقله أحد ، ليس ثَمَ إسناد إلى الأخطل أصلا وإنما هي نسبة من غير صحة ، ولو صح الإسناد فمقتضى كلامكم أنه لا يؤخذ بهذا .
لا يؤخذ بنقل الآحاد ، لا بد يكون نقلا مشتهرا ، مع أنه ليس موجودا في كتب الأخطل وليس ثم إسناد إليه .
فهو إذن أدنى وأدنى من مرتبة نقل الآحاد ، فعلى مقتضى أصولهم يجب عليهم إذا كانوا منصفين أن يبطلوا الاحتجاج بذلك .
الحجة الثانية عندهم قالوا عقلية .
هنا الاستواء على العرش إذا قيل استوى بمعنى علا وارتفع مثل ما أثبت أهل السنة اقتضى ذلك التشبيه ، اقتضى ذلك التجسيم لأن الاستواء على العرش بمعنى العلو والارتفاع عليه لا يعقل منه معنى إلا أن يكون ثم جلوس عليه واستقرار عليه .
ومعنى ذلك أن يحوي المجلوسُ عليه الجالس ، وهذا باطل .
نقول : هذا من الباطل ، ذلك لأنكم شبهتم الله جل وعلا بخلقه .(1/330)
فررتم من التشبيه كما تزعمون ولكن أنتم الذين شبهتم لأنكم توهمتم أن اتصاف الله جل وعلا بصفاته هو من جنس ومن مثل اتصاف الخلق بالصفات فظننتم أن استواء الله جل وعلا على عرشه هو من جنس استواء الملك على عرشه أو استواء المخلوق على كرسيه وهذا تمثيل ، وقد وقعتم فيما نهي عنه .
فالله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } يقل فأنتم شبهتم أولا ثم عطلتم ثانيا ، مثلتم الله جل وعلا بعقولكم ثم نفيتم ثانيا الصفة فوقعتم في محذورين :
" توهم التجسيم والتمثيل .
" ثم بعد ذلك النفي والتأويل والتحريف .
هذا باطل وهذا باطل .
لأجل مسألة الاستواء قالوا العرش هو المُلْك .
لاحظ العرش عندهم هو الملك .
العرش هو المٌلك ، من أين أخذتم ذلك ؟
قالوا : العرب تقول : ثُل عرش بني فلان ، ثُل عرش سبأ ، إذا ذهب ملكهم ، فثُل العرش يعني ذهب المُلك .
فنقول :
" أولا :العرش وصفه الله جل وعلا في القرآن بأنه يوم القيامة يحمله ثمانية { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } فهل المُلك يحمل ؟ المُلك أمر معنوي ، ليس هو المملكة إنما هو المُلك ، فهل المُلك يحمل ؟ هذا واحد .
" ثانيا :موسى عليه السلام قال فيه عليه الصلاة والسلام (فإذا موسى باطش بقائمة أو قال آخذ بقائمة من قوائم العرش) فهل للمُلك قوائم ؟ .(1/331)
" الثالث: نقول : ما احتججتم به في اللغة صحيح من أن (ثُل عرش بني فلان) يعني ثُل ملكهم وذهب ملكهم وذلك لأن غاية ما يحافظ عليه أهل مملكة هو عرش الملك لأنه الذي يستقر عليه ويصدر الأوامر منه ، فآخر ما يوصل إليه من المملكة آخر ما يوصل إليه من المكان الذي فيه الوالي فيه الملك هو عرشه ، أليس كذلك ؟ آخر ما يوصل إليه ، فإذا دُخل بيته وكُسِر عرشه فقد ذهبت ولايته وذهب ملكه ، هذا آخر ما يوصل إليه ، فإذن العرب قالت (ثُل عرشه) لأنه من لوازم ذهاب العرش ذهاب المَلِك وإذا ذهب المَلِك ذهبت المملكة ، فإذن نقول احتجاجكم هذه اللغة صحيحة العرب تقول (ثُل عرش بني فلان) يعني ذهبت مملكة بني فلان ، وأما كون هذا يدل على أن العرش بمعنى المُلك نقول هذا ليس بصحيح ، النقل صحيح لكن الفهم ليس بسديد .
على كل حال بحوث الاستواء كثيرة والعرش .
وما ذكرنا يدل على أن الله جل وعلا متصف بأنه مستو على عرشه جل وعلا وتعاظم وتقدس وتبارك ربنا ، وأن عرشه ومن يحمل العرش أنهم محتاجون إلى الله جل وعلا ، فقراء إليه والله جل وعلا غني عنهم ، وهو الذي جل وعلا يحمل العرش ويعين حملته بقدرته جل وعلا وبقوته .
فليس جائزا في هذا المقام التوهم والتمثيل ودخول الأوهام في هذا الباب العظيم بل هذه الصفة تورث في القلب الإجلال والمهابة والتعظيم لله جل وعلا .
أثبتنا بذلك - بما ذكرنا - قول أهل السنة وأدلة أهل السنة على ما ذهبوا إليه وقول المبتدعة في الاستواء وفي العرش وأدلة ما ذهبوا إليه وبعض النقض لذلك .
نعم بحوث هذه المسألة وما شابهها طويلة لكن نذكر مقتضبا يناسب مستوى المتوسطين من الحضور
نعم
......
هنا { اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فسر باستقر ..
هو لازمها كما ذكرت ، تفسير باللازم ، يعني علا وارتفع ولم يزل على استوائه استقر على هذه الصفة ، استقر على العرش ، يعني هو جل وعلا استوى عليه ولم يتخلى من استوائه عليه ، ولم يخل من استوائه..(1/332)
هو أنت أخذتها استقر بمعنى لم يزل ، ما قلنا استقر بمعنى لم يزل ، استقر يعني قر القرار يعني ما صار في انتقال عن حالته ، نقول أنت الآن أتيت واستقررت في مكانك هذا يعني خلاص ما برحت عنه ذهبت تنزل قال والله استقريت في البيت ، استقريت يعني خلاص ما عاد لك روحة لبيتك الأول وُ جَيّه ، خلاص استقريت في هذا المكان ، فإذن هنا علا وارتفع قال جل وعلا { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فقبل ذلك لم يكن مستويا عليه يعني لم يكن عاليا ومرتفعا عليه العلو والارتفاع الخاص أما هو جل وعلا له العلو المطلق هو عال ومرتفع عليه من قبل لكن العلو والارتفاع الخاص الذي اسمه الاستواء لم يكن كذلك ، فهو جل وعلا لم يكن مستويا عليه ثم استوى عليه جل وعلا ، فلما استوى عليه هل فارق هذه الحال ؟ هنا فسروه من هذه الجهة بمعنى استقر ، يعني علا وارتفع وصعد واستقر ولهذا الصحيح أن كلها صحيحة كل هذه تجتمع في معنى الاستواء ليست تفسر الواحدة بالواحدة ، هو علا جل وعلا وارتفع وصعد واستقر ، كلها صحيحة ، جميعا توضح المعنى المراد .
في بحث نعطيكم عنوانه وقد ما يناسب تفصيله مستوى المتوسطين وهو : هل الاستواء على العرش صفة ذاتية أم صفة فعلية أم كانت فعلية ثم أصبحت ذاتية ؟ وسبب هذا ، هذا يحتاج إلى مزيد تفصيل وتطويل ، الراغب يبحث عنه ...
إثبات علو الله
على مخلوقاته(1/333)
وَقَوْلُهُ: { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [آل عمران:55]، { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } [النساء:158]، { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر:10]، { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [غافر:36-37]، وَقَوْلُهُ: { أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ(16)أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [الملك:16-17].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله .
هذه الآيات في إثبات علو الله جل وعلا .
والاستواء كما ذكرت لكم آنفا هو بمعنى العلو والارتفاع ، لكن الاستواء هو علو وارتفاع خاص على العرش .
وأما هذه الآيات ففيها علو الله جل وعلا { يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } فيها أن عيسى مرفوع وأن الله جل وعلا هو الرافع لعيسى إليه .
فيها إثبات العلو لله جل وعلا .
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } فيها إثبات العلو لله جل وعلا ، وقد مر معنا فيما سبق مسألة العلو لله جل وعلا على وجه الاقتضاب
والمسألة من الواضحات وكما قال بعض أهل العلم إن في القرآن ألف دليل يدل على علو الله جل وعلا
وعلو الله جل وعلا قسمه بعض العلماء إلى قسمين فقالوا العلو ينقسم إلى :
" علو الذات .
" وإلى علو الصفات .
والمشهور عند أهل العلم أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، العلو هو :
" علو الذات .
" علو القَهْرْ .
" وعلو القَدْرْ .
القولان متقاربان لأن علو الذات قسم وعلو الصفات جعلوا منه القهر والقدر وغير ذلك من الصفات(1/334)
أهل السنة يثبتون جميع هذه الأنواع لله جل وعلا ، يثبتون لله جل وعلا علو الذات وعلو القدر وعلو القهر وعلو الصفات جميعا .
لهذا يقولون له الأسماء الحسنى والصفات العلا .
الله جل وعلا عال على خلقه بذاته وعال على خلقه بقهره ، وعال على خلقه بقدره جل وعلا
أما أهل البدع فيقولون العلو الذي في النصوص هو علو القدر وعلو القهر ، أما الذات فليس لها علو لأنهم يقولون إن الله جل جلاله في كل مكان .
يُسْتَدَل لعلو الذات أن الله جل وعلا عال بذاته على خلقه بأدلة من الكتاب والسنة والعقل والفطرة
الاستواء ما يستدل له بالعقل - الاستواء على العرش - أما العلو فدليله عقلي مع الاستدلال عليه بالكتاب والسنة والفطرة .
ذَكَر أدلة من القرآن كقوله جل وعلا { أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } فالله جل وعلا هو الذي في السماء كما قال { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ } .
{ فِي السَّمَاءِ } هنا (في) بمعنى (على) كقوله { لأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } يعني على جذوع النخل .
{ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ } العندية في النصوص عندية العلو .
أيضا في السنة الأدلة على هذا كثيرة .
أما دليل الفطرة - وأدلة السنة ستأتينا في قسم الاستدلال بالسنة - الاستدلال بالفطرة في هذا الموطن فهو الذي يكون من أقوى الحجج على المبتدعة .
ودليل الفطرة معناه الضرورة التي يجدها كل إنسان في قلبه أنه إذا دعا توجه إلى العلو .
يجد ضرورة في نفسه ، روحه إذا أراد أن يدعو تتجه في طلب الفرج إلى جهة العلو .
وهذه ضرورة ليست واقعة في القلب نتيجة عن استدلال بل هي أمر ضروري .
يعني لا َيحتاج إلى استدلال ، فليس ثَم أحد إذا دعا توجه إلى السفل حتى من سجد فإنه إذا دعا يجد أن روحه تتوجه إلى العلو في طلب إجابة ما دعا .(1/335)
وهذا الدليل الفطري يعني الشيء المغروس في الفطر ، الضروري ، هذا مما احتُج به على زعماء المبتدعة حيث قال - الجويني - قال إنه فرح بدليل يدل على أن الله في كل مكان .
فما هذا الدليل الذي فرحت به ؟
فقال : إن ذا النون في بطن الحوت - ذا النون يونس - ومحمد عليه الصلاة والسلام حينما عُرج به كان هذا وهذا في قربهما من الله جل وعلا سواء .
قال : لهذا قال عليه الصلاة والسلام (لا تفضلوني على يونس بن متّى } - هذا حسب كلامه - أو (ما ينبغي لعبد أن يكون أفضل من يونس بن متّى } على حسب ما يروون .
استدل بهذا على أن هذا المقام وهذا المقام بالنسبة للقرب واحد وأن جهة التفضيل من جهة القرب هذا قريب وهذا قريب فليس ثم مزية لمحمد عليه الصلاة والسلام على يونس .
هذا الكلام من جهة ما استدل به له بحث .
المقصود قابله أحد الحاضرين الهمذاني - الهمذاني منسوب إلى بلد - وقال له : أيها الشيخ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا إذا دعا أحدنا توجه إلى العلو وإذا سأل الله شيئا تعلقت روحه بمن في العلو ، هذه الضرورة أخبرنا عنها ما تفسيرها ؟
كيف غُرست هذه الضرورة فينا من غير تعليم ؟ فقال حيرني الهمذاني ، حيرني الهمذاني .
هذا سؤال ما له جواب ، ولهذا في بعض الرحلات مثل رحلة ابن فضلان وهي مطبوعة .
ابن فضلان في القرن الرابع وجهه بعض الخلفاء إلى بلاد روسيا يعني لينظروا أخبار أهلها المهم ذكر القصة فيها في رحلة شيقة ولما وصل ذكر فيما ذكر في رحلته أنه رأى أمرا عجبا ، ما هذا الذي رأيت ؟ قال : رأينا أن الترك - الترك يعني بهم أهل روسيا وشمال الصين تلك الجهات - قال رأيناهم لا يعرفون إلها وليس عندهم رسالة ولا يعبدون أحدا ولكن إذا أصابتهم شدة خرجوا خارج البلد وتوجهوا جميعا إلى السماء يطلبون الفرج .
هذه الضرورة والفطرة ما يستطيع أحد أن يأتي عليها بدليل ولا أن ينكرها لأنها شيء في القلب مغروس في الفطر .(1/336)
ولهذا نقول من دلائل العلو علو الله جل وعلا بذاته أن القلوب جُبِلَتْ ، جعل الله جل وعلا فيها ضرورة إذا دعت واحتاجت إليه جل وعلا وتوسلت إليه وابتغت ما عنده أنها تتجه إلى العلو .
وذلك يعني تتجه إلى الله جل وعلا المستوي على عرشه .
الدليل العقلي ليس هذا محل بيانه .
إذن العلو له أدلة ، دليل من الكتاب ومن السنة ومن العقل ومن الفطرة .
والاستواء دليله سمعي - الاستواء على العرش - ولذلك قال أهل العلم من أنكر العلو ، علو الله جل وعلا (علو ذاته) مع توافر هذه النصوص حوالي ألف دليل أو أكثر قالوا يكفر ، علو الذات إنكار العلو وادعاء أن الله جل وعلا حال في كل مكان هذا قالوا من ادعى ذلك أو من اعتقده فإنه يكفر .
قال ذلك جمع كثير من العلم وإن لم يكفر أئمة السنة الأشاعرة مع أنهم يعتقدون نفي علو الذات عن الله جل جلاله لأن الأدلة كثيرة ، فهم يردون النصوص في ذلك .
العلو يقال علو الله ويقال فوقية الله ، ولهذا نصوص الفوقية هي نصوص العلو .
{ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } هذا دليل على العلو لأن فوقية الله بمعنى علو الله .
فإذا قلت لك مثلا ما أقسام الفوقية فوقية الله جل وعلا ؟
نقول : هي فوقية الذات ، وفوقية الصفات .
فوقية الذات ، وفوقية القدر ، وفوقية القهر .
قال أهل العلم النصوص - أي الأدلة - التي فيها ذكر الفوقية وقبل ذلك حرف (من) مثل { يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } هذا يدل على النص الصريح في العلو الذي لا يقبل التأويل ، لماذا ؟
لأن أصل الكلام يخافون ربهم فوقهم
هنا زيدت (من) للتنصيص ، زيدت (من) لينتقل الكلام من الظاهر إلى النص .
وعلى العموم بحث العلو طويل ونكتفي بهذه المقتطفات منه وسيأتينا بحثه مرة أخرى في دلالة السنة
أقول قولي هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وأستغفر الله وأتوب إليه .
إثبات معيّة
الله لخلقه(1/337)
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الحديد:4]، وَقَوْلُهُ: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [المجادلة:7]، { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة:40]، وَقَوْلُهُ: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه:46]، { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } [النحل:128]، { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال:46]، { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة:249].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أسأل الله جل وعلا لي ولكم العفو والعافية والفقه في الدين والبصيرة فيه وأن يمن علينا برؤية الحق حقا ثم يمن علينا باتباعه ، وأن يمن علينا برؤية الباطل باطلا ثم يمن علينا باجتنابه .
ثم إن هذه صلة لما سبق الكلام عليه من الآيات الدالة على صفات الله جل وعلا .
وما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في أول الكلام على الإيمان بالله أن الإيمان بالله يدخل فيه الإيمان بما وصف الله جل وعلا به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم .(1/338)
فالصفات التي ذكرت في الكتاب يجب الإيمان بها على القاعدة المعروفة عند أهل السنة أنه إثبات لما جاء في الكتاب والسنة من الصفات إثبات من غير تكييف وإمرار من غير تعطيل ، فهم يُمِرّونها كما جاءت وليس إمرارهم لها كما جاءت يُعنى به تعطيلها .
كذلك يثبتونها وليس إثباتهم لها بإثبات المثلية أو المماثلة بل هم رضي الله عنه عنهم ورحمهم يثبتون ولا يكيفون ويمرون ولا يعطلون وذلك لأن الله جل جلاله هو الذي أخبر عن نفسه بذلك { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا } { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا } .
وبعد أن ذكر شيخ الإسلام رحمه الله الآيات التي دلت على استواء الله جل وعلا على عرشه ذكر الآيات الدالة على علو الله جل وعلا ثم ذكر الآن الآيات التي تدل على أن الله جل وعلا مع خلقه.
وهذا الترتيب مقصود لأنه لعدم رعاية ذلك حصل الخلل في طوائف من هذه الأمة
فإثبات استواء الله جل وعلا على عرشه على الحقيقة كما جاء في ظاهر النصوص وإثبات أن الله جل وعلا عال على خلقه بذاته كما أنه عال على خلقه بقدره وقهره جل وعلا كذلك هو مع علوه ومباينته لخلقه سبحانه إذ هو ليس بحال فيهم ولا بمختلط بهم اختلاط الذوات بل هو جل وعلا على العرش استوى ، له علو الذات على خلقه جل وعلا وعلو القهر وعلو القدر ، كذلك هو مع خلقه لا تغيب عنه جل وعلا من شؤون خلقه غائبة .
والله جل وعلا موصوف بأنه مع خلقه .
موصوف بصفة معيته لخلقه ، فهو جل وعلا مع خلقه جميعا .
و معيته لخلقه دلت عليها آيات منها قول الله جل وعلا .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }(1/339)
في هذه الآية أخبر جل وعلا أنه مع خلقه أينما كانوا قال { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ } وهذه معية لم يخصص الله جل وعلا بها بعض خلقه دون بعض بل قال { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ } والعموم أو الشمول فيها من جهة الخلق ومن جهة الأمكنة ، لأن { أَيْنَمَا } تدل على الأمكنة وقوله { وَهُوَ مَعَكُمْ } يعني مع خلقه جل وعلا .
كذلك الآية الثانية { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
ذكر فيها معيته جل وعلا لكل من يتناجى وهذا يعم المسلم والكافر ويعم الصالح والطالح ويعم صاحب السنة وصاحب البدعة ، فالله جل وعلا معيته لخلقه في أي مكان كانوا ثابتة .
وهذه المعية التي لم يُخْتَص بها طائفة دون طائفة هذه هي المعية العامة لجميع الخلق .
وهذه ثابتة لله جل وعلا كما أخبر سبحانه بقوله { إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا } فهذه الآيات وما كان مثل ذلك هذه فيها المعية العامة لله جل وعلا .
لماذا قلنا المعية العامة ؟
لأن المجموعة الأخرى من الآيات التي ساقها شيخ الإسلام أثبتت معية لمتصفين بصفات فقال جل وعلا { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع الصديق ، { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } لموسى وهارون من الرسل ، قال { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا } وهذه معية جعلها الله جل وعلا للمتقين ، { مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا } ومع الذين { هُمْ مُحْسِنُونَ } معية جعلها الله جل وعلا للمحسنين { وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } هذه معية جعلها الله للصابرين .(1/340)
وهذه الآيات دلت على أن ثَمَ معية جعلها الله جل وعلا لمن حقق أوصاف المؤمنين :
التقوى ، الإحسان ، الصبر .
ومعية خاصة بالرسل .
وتلك المعية في الآيات الأول لم تخص بطائفة .
لأجل هذا قال أهل العلم : معية الله جل وعلا لخلقه منقسمة ودليل الانقسام المجموعة الثانية من الآيات التي فيها التخصيص إذ التخصيص دليل على أن هؤلاء خُصُوا بمعية ليست هي المعية التي في الآيات الأُوَل ، فمعنى ذلك أن هذه المعية من لم يكن على هذه الصفات لا تشمله ، فقوله { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } نعلم أن هذه المعية التي خص بها أهل التقوى وخص بها أهل الإحسان ليست للكافر .
فإذن إذا قلت إن الكافر ليس الله معه المعية التي جاءت في هذه الآية نقول هذا صحيح إذ هذه المعية خصت بالمتقين بالمحسنين خصت معية في آيات أخر بالصابرين ونحو ذلك .
فإذن إذا كان كذلك ثبتت المعية الخاصة ، فيقتضي ذلك أن هذه المعية تختلف عن المعية العامة التي جاءت في الآيات السابقة .
فإذن نتج من هذا أن هذه الآيات دلت على أن معية الله جل وعلا لخلقه قسمان :
القسم الأول : معية عامة وهذه المعية العامة هي التي لا يُخَصُ منها بعض خلق الله بل كل أحد من خلق الله اللهُ جل وعلا معه بالمعية العامة .
وهذه المعية العامة فسرها السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام فسروها بمعية العلم والإحاطة والاطلاع والبصر والسمع ونحو ذلك .
وأجمعوا على أن المراد بها في الآية الأولى آية الحديد المراد بها معية العلم ، أجمعوا على أن تفسير قول الله جل وعلا { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قالوا هذه معية العلم .
وكذلك في آية المجادلة التي بعدها قالوا هي معية العلم .
فإذن المعية العامة هي معية العلم .(1/341)
العلم علم الله جل وعلا بخلقه هذا يقتضي الإحاطة كما قال جل وعلا { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } معهم بعلمه أيضا بسمعه وبصره جل وعلا يسمع ما يقولون ويبصر أفعالهم وهو معهم جل وعلا بعلمه { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } .
المعية العامة هي معية العلم والسلف فسروها بمعية العلم لأجل ما قام بالاضطرار من أن الله جل وعلا ليس مع خلقه بذاته فهو جل وعلا ليس حالا في كل مكان وليس بذاته مع الخلق في كل مكان وإنما هو جل وعلا مستو على عرشه بائن من خلقه موصوف بعلو الذات .
وهذا الأدلة عليه كثيرة جدا كما ذكرنا لكم في الدرس الماضي .
فإذن تكون المعية معيةٌ لا تناقض الاستواء ، معيةٌ لا تناقض علو الذات لأن الآيات والسنن يجب أن يفهم بعضها بما دل عليه البعض الآخر .
ما نضرب بعض القرآن ببعض ولا نضرب بعض السنة ببعض ولا السنة بالقرآن ولا القرآن بالسنة
بل هذا وهذا كلها أتت من عند الله جل وعلا فبعضها يصدق بعضا ويدل على بعض .
لهذا نقول إن معية الله جل وعلا المعية العامة تفسر بمعية العلم .
وأما المعية الخاصة التي جاءت في قوله تعالى { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } فهذه معية قد تفسر بالنصر وقد تفسر بالتأييد وقد تفسر بالتوفيق وقد تفسر بالكلاءة والرعاية والعناية ونحو ذلك .
فالمعية الخاصة تُفَسَر بما يقتضي توفيق الله جل وعلا لمن كان معهم معية خاصة ونصرته لهم وكلاءته لهم وحراسته لهم جل وعلا وعنايته جل وعلا بهم العناية الخاصة .(1/342)
لهذا اختلفت التفاسير فيها ، مثلا { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا } هنا { مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا } بحفظه وكلاءته ، بعضهم في قوله { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } { مَعَ الصَّابِرِينَ } بنصره وتأييده وتقويته وهكذا .
فإذن المعية الخاصة فسرت بما يقتضي عناية الله جل وعلا بمن كان معهم معية خاصة ونصرته لهم وفسرت بتأييده لهم وتوفيقه ونحو ذلك .
المعية عند أهل السنة والجماعة - المعية الخاصة - تتفاضل ، لأن الأوصاف التي ذكرها الله جل وعلا لمن هو معهم معية خاصة هذه أوصاف تتفاضل ، قوله مثلا { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا } التقوى عند أهل السنة والجماعة ليست بشيء واحد إما أن يأتي وإما أن يذهب بل الناس في التقوى متفاضلون فكذلك معية الله جل وعلا معهم تتفاضل .
حفظ الله لعباده يختلف بقدر حفظهم له جل وعلا حفظهم لحدوده .
تقواه تقوى العباد لربهم جل وعلا كلما زاد كلما ازدادت المعية .
فإذن هذه الأوصاف : الصبر ، التقوى ، الإحسان ، هذه تتفاضل ، فمعية الله جل وعلا الخاصة تتفاضل بتفاضل ذلك .
أيضا نقول إن معية الله جل وعلا هي - يعني المعية الخاصة - هي من جنس محبته جل وعلا ومودته لمن أحب وَوَدَّ من عباده ، فالله جل وعلا يحب وهو جل وعلا يود { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } الذي يُود ويَود ، والله يحب وينتج من محبته ومودته لمن أتى بما يحبه الله جل وعلا ويوده أن يكون الله جل وعلا معه .
ولهذا باب الوَلاية والأولياء وكرامات الأولياء هذا من فروع الإيمان بالمعية الخاصة فالله جل وعلا يكرم أولياءه بما يكرمهم به لأنه معهم معية خاصة ، لأنه يحبهم كما أنهم يحبونه(1/343)
ولهذا في حديث الولي قال جل وعلا (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به) معناه كنت معه في سمعه الذي يسمع به يعني أوفقه وأسدده في سمعه (وبصره الذي يبصر به) يعني كنت معه في بصره الذي يبصر به يعني أوفقه في بصره (ويده التي يبطش بها) يعني كنت معه إذا بطش فلا يبطش إلا بما يحب الله جل وعلا ويرضى ، ولهذا المعية والمحبة والمودة من الله جل وعلا لعباده المؤمنين تتفاضل بتفاضل صفاتهم فهذا ظاهر من قوله { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا } والتقوى صفة تفاضل { وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } ومحسن اسم فاعل الإحسان والإحسان يتفاضل كذلك كل أحد أتى بنصيب من ذلك له من المعية الخاصة نصيب .
إذا تبين ذلك فأهل البدع في هذه المسألة قالوا إن معية الله التي دلت عليها هذه النصوص هي معية ذاتٍ بحلوله جل وعلا في كل مكان .
فعندهم أن الله جل وعلا في كل مكان وليس فوق العرش رب وليس الله بعال على خلقه بذاته بل هو جل وعلا حال في كل مكان .
حال في وليس حال بكل مكان .
حال في كل مكان حتى ما ندخل في الحلول بالأشياء ، لا ، هو حال فيها يعني في أي مكان يوجد ، في أي مكان تذهب يوجد الله .
هذا اعتقاد أهل البدع من الأشاعرة وغيرهم فيقولون إن الله ليس على العرش وهو في كل مكان
سبب ذلك أنه قال هنا { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ } قالوا هذا دليل على أنه مختلط بالخلق ووجه الاستدلال على حسب زعمهم قالوا إنه ذكر (مع) و (مع) هذه معناها معية الذات ، وهذا القول منهم لأجله أبطلوا الاستواء ولأجله أبطلوا علو الذات .
ونقول هذا باطل وذلك :
لأن الله جل جلاله بين أنه { مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } { مَعَ الصَّابِرِينَ } وهذا يقتضي بمفهوم المخالفة - وهذا مفهوم صفة والصفة لها مفهوم مخالفة - أن من لم يكن كذلك فليس هو جل وعلا معه .(1/344)
فمعنى هذا على قولهم أنه جل وعلا ليس مع الكافر أينما توجه ، وهذا مضادة لنص القرآن .
فإذن الدليل الأول على بطلان ما قالوا أن المعية حينما خُص بها أهل التقوى وأهل الإحسان وخص بها أهل الصبر وخص بها النبي صلى الله عليه وسلم والصديق هو عليه الصلاة والسلام مع الصديق في الغار قال { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } والمشركون فوق الغار والله جل وعلا أيضا معهم .
فعلى مقتضى كلام المبتدع كلام الأشاعرة ومن شابههم في ذلك ، معية الله جل وعلا التي معية ذات بالاختلاط والحلول لما قال النبي صلى الله عليه وسلم { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } ليس ثم مزية له عليه الصلاة والسلام على الكفار لأنها معية ذات ، أليس كذلك ؟
فهؤلاء فوق الغار وهو في داخل الغار فما الفرق إذا كانت المعية فقط معية ذات وهو حال في هذا المكان .
فعُلِم أن قوله { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } أنه ليس المراد بها معية الذات لأنها في هذا الموطن فيها شرف للنبي صلى الله عليه وسلم وشرف لصاحبه رضي الله عنه ، هذا وجه من حيث دلالة الآية .
أما من حيث اللغة فنقول ما ذكرتموه باطل من جهة اللغة وذلك لأن كلمة (مع) في اللغة تدل على مطلق المصاحبة والاقتران :
" قد يكون المقارنة والمصاحبة في المعاني .
" وقد تكون في الذوات مع اختلاط الذوات وتقاربها .
" وقد تكون في الذات والذات بعيدة عن الذات .
هذه ثلاثة أشياء :
أما الأول فالله جل وعلا قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } قال { وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } معهم بذواتكم ، هناك من الصادقين الأنبياء والرسل الذين كانوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم ونحن مأمورون أن نكون معهم .
معهم بأي شيء ؟
بأن نكون مقارنين لهم ومصاحبين لهم في هذه الصفة صفة الصدق في الإيمان وعدم التردد فيه والاستجابة لما أمر الله جل وعلا به ورسوله .(1/345)
فإذن قوله { اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } يعني معهم في صفة الصدق ، يعني قارنوهم وصاحبوهم في هذه الصفة .
هذا نوع في المعاني .
أيضا في المعاني مثاله من كلام العرب يقال (فلانة مع زوجها) يعني بالذات أو بالعقد ؟
تريد العرب إذا قالت (فلانة مع زوجها) يعني أنها لم تزل باقية في ذمته لم يطلقها ، هي معه بحكم العقد ، فهذا في المعنى أما هو فقد يكون في بلد وهي في بلد ، ويُسأل : هل فلانة مع زوجها ؟
يقول نعم فلانة مع زوجها ، وهي مثلا في الرياض والزوج في أقصى الدنيا لا يمنع لأن هذا معية بالمعنى .
النوع الثاني أن تكون معية ذوات فيقول (أتاني فلان وفلان معا) يعني حالة كونهم مجتمعين ، هذا في الذوات ، أين فلان ؟ (فلان مع امرأته) يعني في البيت ، هذا في الذوات ..
انتهى الشريط الثاني عشر من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثالث عشر
النوع الثاني أن تكون معية ذوات فيقول (أتاني فلان وفلان معا) يعني حالة كونهم مجتمعين ، هذا في الذوات ، أين فلان ؟ (فلان مع امرأته) يعني في البيت ، هذا في الذوات .
الثالث : أن يكون معية معنى مع عدم غياب الذات ، وهذه المعية لا تقتضي حلولا ولا اختلاطا .
ويمثل شيخ الإسلام لها في ما سيأتي من قسم السنة بالقمر .
يقول : القمر هو مع من في الحضر من في المدينة ، ومع المسافر وغير المسافر جميعا ، مع أن ذاته - ذات القمر - بعيدة في علوها ومع ذلك هو لا يغيب عن المسافر ولا عن غير المسافر .
فهذه هنا ضوء القمر شمل الجميع ، رؤية القمر شملت الجميع شهود القمر هذا شمل الجميع ، ومع ذلك فالقمر ليس مع كل ذات في كل مكان .(1/346)
ولهذا نقول : إن تفسيركم بأن المعية تقتضي واحدا من هذه الأنواع وهو معية الذوات هذا باطل لأنه أحد أوجه ثلاثة عند العرب ، وما ذكرتموه يجب أن لا يؤخذ به لأن الأدلة دلت على خروج هذا القسم ، أدلة الاستواء ، أدلة علو الذات التي سبق أن ذكرناها في الدرس الماضي دلت على أن هذا النوع ليس بممكن لأن الله جل وعلا مستو على عرشه ، لأن الله جل وعلا له علو الذات .
فإذن معية ذات لذات متقاربتين بذواتهما كما تعقل من مقارنة ذات فلان لفلان هذا لا يمكن لمناقضته لما سبق .
فإذن نقول : معية الله جل وعلا بما تقتضيه اللغة تحتمل الأول وتحتمل الثالث ، هذا أو هذا ، أو قد يكون المراد هما معا :
- أما الأول فإن فيها معية المعاني ، والله جل وعلا كما قلنا موصوف بأنه مع خلقه جميعا بعلمه وإحاطته لهم ، هذا واحد .
- أما الثالث فهو كما قال هو معهم ، نقول كما أن القمر مع المسافر وغير المسافر لا يغيب عنهم بل هو مطلع عليهم ناظر إليهم هم تحت بصره وتحت سمعه لا تخفى عليه منهم خافية ، وذاته جل وعلا غير غائبة عن خلقه كما أن القمر غير غائب عمن في الأرض جميعا ، وهذا بعض مخلوقات الله جعله الله جل وعلا مثلا في ذلك فكيف بالعزيز العليم .
إذن هو جل وعلا مستو على عرشه ولا يخفى عليه شيء ، مُطَّلِعٌ على أحوالهم ... (1)
لأن قول القائل إذا قال معنا بذاته يوهم أقوال أولئك أهل البدع ، والعبارات الموهمة في العقيدة يجب نفيها ، يجب البعد عنها .
__________
(1) 1 مسح بالشريط(1/347)
إذا صار القول محتملا ممكن يُفْهَمْ على كذا وممكن يُفْهَمْ على كذا نقول نجتنب هذا القول لأن الله جل وعلا قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا } (راعنا) لأن اليهود كانت تستعمل هذه الكلمة من الرعونة ، راعنا وتريد بها الرعونة ، يعني أنت على هذه الحال ، فنهي أهل الإيمان عن استعمال هذه اللفظة لمشابهتها اليهود ، واليهود يريدون بها معنى آخر ومع ذلك نُهِينا عنها .
وكذلك في المعية ما تقول معية ذات ، لأجل أن في إطلاق هذا اللفظ :
" أولا : خروج عن ما استعمله السلف .
" وما دلت عليه النصوص .
" ثم ثالثا فيه مشابهة لأقوال أولئك .
طبعا من قال - يعني فرِّق بين قول من قال - إن المعية معية ذات وهو حال في كل مكان وينفي استواء الله على عرشه هذا من أقوال أهل البدع ، وقول من قال إنه مع خلقه بذاته مع أنه مستو على عرشه .
هذا القول : مع خلقه بذاته مع استوائه على عرشه وعدم حلوله في خلقه أو في كل مكان هذا القول الإشكال فيه زيادة كلمة (بذاته) ، وهو كله من كلام السلف لكن زيادة (بذاته) هذا الذي أخرج هذا القول عما نعلم من أقوال السلف .
وهذا لا يُعنى به قول المبتدعة ، لا ، هذا شيء وهذا شيء .
وإنما صُرِّح فيه لفظ (بذاته) لأن من الناس من أنكر أن تكون المعية محتملة للمعنى الثالث الذي ذكرت لكم في التقسيم ، فاحتاج إلى التنصيص حتى لا يخرج المعنى الثالث .
لكن كلام السلف في ذلك واضح أنهم أجمعوا على عدم إطلاق كلمة (بذاته) ولم نعلم أحدا من السلف أطلق هذه الكلمة أنه قال مع خلقه بذاته معية عامة ، أو مع المؤمنين بذاته معية خاصة أو نحو ذلك ، مع أن المعية حق على حقيقتها ، وإذا فسرناها بمعية العلم فهذه من مقتضياتها وإذا فسرناها بمعية النصر والتأييد والتوفيق والإلهام ونحو ذلك فهذا من مقتضياتها .
لكن لفظ (معية ذاتية) أو (معهم بذاته) فهذه لا تطلق لعدم جريان كلام السلف عليها .
......(1/348)
هي معية حقيقة مثل بقية الصفات ، معية الله جل وعلا لخلقه ليست معية مجازية ، لا ، معية حقيقة ، وتفسيرنا لها بالعلم أو بالتوفيق اللي هي المعية الخاصة هذا تفسير لها على حقيقتها ، فهي معية حقيقة كما يليق بالله جل جلاله .
......
لا ، ما يصلح ، لا تقصد بالذات ، أنت تقول معية حقيقية نعم هذه أطلقها أئمة السنة ، المعية الحقيقة تنقسم إلى معية علم وهي معية عامة وإلى معية خاصية وهي كذا وكذا ، هذه من كلام أهل السنة ، أما معية ذاتية فهذه هي التي جرى فيها الكلام مؤخرا ، و كلمة مشتبهة فالأولى تركها لعدم جريان كلام السلف عليها .
شيخ الإسلام يقول معية حقيقية ، حتى الشيخ محمد بن إبراهيم الجد رحمه الله لما أتى لهذا الموضع من الواسطية قال هي معية حقيقة تقتضي بالنسبة لجميع الخلق العلم ، وتقتضي بالنسبة لخاصة الخلق من المؤمنين والمتقين والمحسنين والصابرين تقتضي النصر والتأييد والتوفيق ، قال: وإلا فهي معية حقيقية كما يليق بالله جل جلاله ، هذا استعمال كلام أهل العلم والمحققين في هذا ، والألفاظ قد يريد بها الواحد معنى صحيحا لكن قد تحتمل معنى آخر ، فتجنب المحتملات في باب العقيدة واجب
نعم ...
إثبات الكلام
لله تعالى(1/349)
وَقَوْلُهُ: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا } [النساء:87]، { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا } [النساء:122]، { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ } [المائدة:116]، { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } [الأنعام:115]، { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } [النساء:164]، { مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } [البقرة:253]، { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [الأعراف:143]، { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } ، وَقَوْلُهُ: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الشعراء:10] ، { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } [الأعراف:22]، وَقَوْلُه: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ } [القصص:65].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الآيات فيها ذِكر صفة الكلام لله جل وعلا ، ونوّع شيخ الإسلام رحمه الله صفة الكلام ، الأدلة على أن الله جل وعلا متكلم وأنه يتكلم كيف شاء وأن الكلام صفة له جل جلاله ، وأنه - أعني كلام الله - له حروف وأصوات .(1/350)
فذكر آية النساء { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا } فذكر لفظ الحديث ، وذكر الآية أيضا آية النساء التي قبل هذه { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا } القول ، { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ } أيضا قول ، { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } هنا في ذكر الكلام ، { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } هذا في الكلام ، ثم ذكر النداء { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ } ، ذكر النجا قال { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } المناجاة ، وأيضا ذكر المناداة بعد ذلك { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى } { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } .
إذن هذه الآيات فيه تنويع للأدلة على هذه الصفة ، فالله جل وعلا هو أصدق حديثا من خلقه ، ومعنى ذلك أن الله جل وعلا يوصف كلامُه بأنه حديث .
كذلك الله جل وعلا يقول قال { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا } { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ } الله جل وعلا يتكلم { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } ينادي يناجي ، هذه كلها أدلة على أن كلام الله جل وعلا يَتَصَرَفْ هذه التَصَرُفَاْت .
فالله جل وعلا إذا شاء نادى وإذا شاء ناجى سبحانه وتعالى .
هو جل وعلا وصف كلامه بأنه قول ، ووصف كلامه بأنه حديث .
فهذه تدل على أن الكلام - كلام الله جل وعلا - هو من حيث المعنى معنى هذه الصفة مشترك مع كلام الخلق في أصل المعنى ، لأن هذه التصريفات هي تصاريف كلام الخلق ، فالخلق يتكلمون يقولون يتحدثون ينادون يناجون ، هذا الذي يُعْهد ، أنت فيما تعهد تقول (قلت تحدثت تكلمت ناديت ناجيت) .(1/351)
هذه تصاريف كلام الخلق ، والله جل وعلا أثبت لنفسه صفة الكلام بأنواع ما يعهده الناس من تصاريف كلامهم فدل على أن كلامه جل وعلا ليس من غير جنس كلام الخلق ، يعني ليس من جهة المعنى .
فالخلق لا يتكلمون بقلوبهم إنما يتكلمون بشيء يُسمَع ، أليس كذلك ؟
إذا نادَوا معنى ذلك أن كلامهم يسمعه البعيد وهو الكلام العالي .
إذا ناجَوا فكلامهم يسمعه القريب .
قول ، معنى ذلك أنه يقول القول يعني الذي يقوله عن نفسه أو عن غيره .
يتحدث يعني أن الكلام فيه صفة الحداثة أنه حديث ، محدَث .
إذن هذه تدل - انتبه لكلماتي - هذه تدل على أن كلام الله جل وعلا ليس بخارج عن جنس كلام الخلق :
- فهو جل وعلا متكلم بكلام يُسمَع كما أن كلام الخلق يُسمَع .
- يتكلم بكلام يتصف بالجدّة والحداثة كما أن كلام الخلق يتصف بالجدّة والحداثة .
فمثلا : خذ رجلا عمِّر ثمانين سنة وتكلم منذ سبعين سنة بكلمة وهو الآن مثلا يتكلم ، هو متكلم من ثمان وسبعين سنة وهو يتكلم ، صحيح ؟ لكن كلامه القديم الذي تكلم به من سبعين سنة هذا موصوف بأنه قديم وكلامه الجديد موصوف بأنه حديث ، فإذا قال (هذا حديثي منذ سبعين سنة) هذا غير مناسب في لغة العرب ، لكن يقول (هذا خبري ، هذا قولي ، هذا كلامي ، الذي تكلمت به) فالحديث إذن موصوف به الصفات الجديدة يعني الكلام الجديد.
إذا تبين لك ذلك فهذه الآيات التي نوعها شيخ الإسلام رحمه الله بدقة وغوص على أوجه الاستدلال التي يُحتج بها على الخصوم تبين لك على أن كلام الله جل وعلا من جنس الصفات الأخر .
فنحن نتكلم والله جل وعلا يتكلم ولكن كلامنا وكلام الله جل وعلا يشتركان في أصل المعنى ، لكن لا يختلفان بأن كلام المخلوق شيء آخر لا يشترك مع كلام الله ولا في أصل المعنى ، هذا باطل.(1/352)
والذين تأولوا كما سيأتي قالوا كلام الله معنى وكلام المخلوق هو الذي يكون حروفا وأصواتا وهو الذي يسمع إلى آخره ، هذا باطل ، بل بين الكلامين اشتراك في أصل الصفة ، لكن ثم فرق عظيم ، فكلام المخلوق يناسب ذاته وكلام الله جل وعلا يناسب ذاته .
لكن بينهما اشتراك في أصله ، هذا الأصل أو القدر المشترك بينهما هو أن الجميع حروف وأصوات تُسمَع .
فكلام المخلوق هو ما يخرجه من حروف وأصوات تُسمع ، كذلك الكلام كلام الله جل وعلا حروف وأصوات تُسمع .
لهذا في قوله مثلا هنا { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى } وعيسى عليه والسلام سمع منه (يا) ، و (يا) هذه حرفان فإذن سُمِعَ منه حرفان .
وهذا يثبته أهل السنة بما دلت عليه هذه الأدلة من أن كلام الله جل وعلا صفة كما يليق بجلاله وعظمته تصف بها الله جل وعلا كما يليق بجلاله وعظمتة .
صفة نثبتها له من غير تمثيل لكلامه ولا تكليمه بكلام خلقه ولا قوله بقول خلقه سبحانه ، ونقول كلامه جل وعلا حروف وأصوات يسمع .
إذا شاء الله جل وعلا نادى ، وإذا شاء جل وعلا ناجى { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ } فهذه مناداة { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } لاحظ كلمة { وَقَرَّبْنَاه } واستعمال { نَجِيًّا } مع التقريب ، { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ } هذا المناداة مع البعد ، ثم قال { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } .
وهذا على أصل أنه تُثبت الصفات مع عدم المماثلة { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
إذن اعتقاد أهل السنة والجماعة على أن الله موصوف بصفات الكمال التي منها صفة الكلام ، وكلامه جل وعلا دلت عليه الأدلة بأنواع :
" فمنها الأدلة التي فيها القول .
" منها الأدلة التي فيها الكلام .
" منها الأدلة التي فيها المناداة .
" منها الأدلة التي فيها المناجاة .(1/353)
" منها الأدلة التي فيها الحديث { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ } و { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا } ونحو ذلك .
إذا تبين ذلك فأهل السنة يقررون في هذا الباب ، يقررون أن صفة الكلام لله جل وعلا قديمة النوع حادثة الآحاد .
يعنون بذلك أن الله جل وعلا لم يزل متكلما ، حادثة الآحاد ، لم يزل الله جل وعلا متكلما سبحانه ، يتكلم كيف شاء إذا شاء متى شاء .
كلامه قديم وأفراد الكلام حديثة .
يعني أن كلام الله جل وعلا لعيسى بقوله { يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ } هذا لم يكن كلاما في الأزل
بل كان كلاما حين وُجِدَ عيسى وصار هذا الكلام متوجها إليه ، هذا كلام أهل السنة .
ما كلام المبتدعة - ويأتينا تفصيله - كلام المبتدعة يقولون إن الله تكلم بكلام قديم حتى { يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ } هذا كلام قديم ، فليس عندهم كلام حديث .
عندهم أن الله تكلم بكلام وانتهى فلم يعد يتكلم تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .
بل الله جل وعلا موصوف بصفة الكلام وهو يتكلم كيف شاء إذا شاء تبارك ربنا وتعالى .
......
هو كلامه جل وعلا قديم .. يعني ليس له بداية ، نعم ، لأن البدايات هذه أزمنة والله جل وعلا هو الذي خلق الزمان .
إذن نقول هنا كلامه قديم النوع حادث الآحاد ، يعني أن السورة التي نزلت حين نزلت على محمد عليه الصلاة والسلام سمعها جبريل من الله جل وعلا ، سمع الصوت وسمع الحروف والآيات على نحو ما أنزل على محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هذا محدَث ، من حيث الزمن حديث ، وكلامه جل وعلا لموسى { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } هذا تكلم الله جل وعلا به قبل تكليمه لمحمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، تكليم الله جل وعلا لآدم قبل ذلك ، قوله جل وعلا في كلماته الكونية للشيء كن فكان في خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق آدم وقبل أن يخلق حواء هو قبل ذلك .(1/354)
فكلامه جل وعلا قديم النوع حادث الآحاد ، يعني لا تزال آحاده تتجدد لا يزال الله جل وعلا متكلما، لم يزل متكلما يتكلم جل وعلا كيف شاء إذا شاء .
وهذا يخالف فيه أهل البدع في مسألة الكلام مختلفون :
" والمشهور كما تعلمون أن المعتزلة والجهمية ينفون صفة الكلام ويقولون كلام الله مخلوق .
{ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } يقولون هو كلام بمعنى مخلوق خلق في المكان المعين ، فعند الجهمية والمعتزلة أولا أن كلام الله مخلوق ، يعني خلق شيئا ، خلق حروفا وأصواتا في شجرة فسمى هذا المخلوق كلاما ، فصار كلام الله مثل ناقة الله ومثل بيت الله ، واضح ؟ هذا قول المعتزلة والجهمية .
" الثاني قول الأشاعرة والكلابية قبلهم أنه معنى نفسي واحد يلقيه في رُوعِ جبريل ، فلما ألقى الله جل وعلا المعنى النفسي - لاحظ - لما ألقى الله جل وعلا المعنى النفسي لجبريل بإرادة أنه التوراة صار توراة ، وبإرادة أنه الإنجيل صار إنجيلا وبإرادة أنه القرآن صار قرآنا .
فجبريل أخذ المعنى النفسي الذي أُلقِيَ في رُوعِهِ بتوجه إرادة الله عندهم للتوراة فصار توراة ، بتوجهها للإنجيل فصار إنجيلا ، بتوجهها للقرآن صار قرآنا .
فلم يسمع عندهم جبريل من الله جل وعلا شيئا وإنما شيء وقع في صدره ، ألقي في رُوعه ، ألقي في نفس جبريل فبلغها جبريل .
هذا قول طائفة أو هو المشهور قول الأشاعرة والكلابية ولهذا يقولون هو معنى واحد إن عُبِّر عنه بالعربية كان قرآنا ، عُبِّر عنه بالسريانية كان كذا ، عُبِّر عنه بالعبرانية كان كذا إلى آخره .
على كل حال مسألة الكلام مسألة شائكة وطويلة وتحتاج إلى مقدمات ما نفصل فيها أكثر من ذلك .
المهم أن هؤلاء قالوا بالمعنى النفسي - افهم هذه الكلمة - أنهم قالوا بالمعنى النفسي .(1/355)
يعني أن الله جل وعلا لم يتكلم بكلام يُسْمَعُ منه وإنما هو معنى قام بنفسه فسمي كلاما ، وأما في الأزل فهو جل وعلا تكلم بكلام ، بالذي يريد أن يتكلم به بما يخلق به الأشياء ثم انتهى من الكلام ، ثم المعنى النفسي هذا يتجدد من حيث إيحاؤه لجبريل .
ولهذا يقولون هو عبارة عن كلام الله ، يعني عن الكلام القديم .
طبعا هذا باطل ، ونستدل على بطلانه بما قاله الآمدي - وهو أحد كبار هؤلاء المتكلمين - ويُكتفى بذلك .
قال إن هذه المسألة أشكلت عليه جدا - مسألة الكلام - ومما شككني في قول الأشاعرة أو قول المتكلمين أن الله جل وعلا قال { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } .
قال وكلام المرأة الذي سُمع إنما كان بعد بعثة محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
فإذا كان الله جل وعلا قد قال { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ } قبل أن يخلق الخلق هذا ينافي الصدق .
يقول { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ } وهو لم يسمع بعد هذا ينافي الصدق .
يقول هذا من أعظم الأدلة على بطلان هذا القول .
وهي حجة جيدة وهذه على طريقتهم ، لكن عندنا من الحجج الكثيرة ، وكيف وألف شيخ الإسلام التسعينية ، تعرفونها ، الرسالة التسعينية أبطل فيها هذا القول وهو قول الأشاعرة والكلابية في المعنى النفسي .
على العموم نكتفي بهذا القدر ، وأسأل الله جل وعلا لي ولكم الانتفاع وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، والأسئلة نجمعها ونجيب عنها في مرة قادمة إن شاء الله ...(1/356)
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } [التوبة:6]، { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ } [الفتح:15]، { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } [الكهف:27]، وَقَوْلُهُ: { هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [النمل:76].
{ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } (1) ، { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [الحشر:21]، { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(102)وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } [النحل:103].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذه الآيات في بيان أن القرآن العظيم هو كلام الله جل وعلا لفظه ومعناه ، وأنه كلام الله جل وعلا بما فيه من الحروف ، وأن كلام الله جل وعلا يسمع وأنه يكون قرآنا وكتابا وهما بمعنى واحد
__________
(1) الأنعام:92، و155.(1/357)
وقد مر معنا في الدرس الماضي أن كلام الله جل وعلا صفة له جل وعلا وهو قديم النوع حادث الآحاد وأن الله جل جلاله يتكلم كيف شاء إذا شاء متى شاء وأن كلامه يُسمَع منه بحرف وصوت
هذا الذي عليه أهل السنة والجماعة أعني أتباع السلف الصالح .
قالوا : (القرآن هو كلام الله منزَّل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود) .
وقولهم في القرآن (هو كلام الله) لهذه الأدلة التي ساقها شيخ الإسلام رحمه الله والتي منها قوله { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } وقوله { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ } وكلام الله هنا كما سيأتي يحتمل التوراة أو القرآن وإن كان أكثر التفسير على أنه التوراة ، وقوله جل وعلا { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } فوصف الله جل وعلا القرآن بأنه كلامه .
ولهذا قالوا (القرآن كلام الله) بهذه الأدلة.
وقالوا (منزَّل) (كلام الله المنزَّل) أو (القرآن كلام الله منزَّل غير مخلوق) .
(منزل) قالوها لهذه الأدلة التي سمعت كقوله جل وعلا { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ } وقوله { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } وقوله { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } ونحو ذلك من الآيات ، فوصف الله جل وعلا القرآن بأنه منزَّل .
وقولهم (غير مخلوق) لأن الله جل جلاله قال في سورة الأعراف { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } .
والواو تقتضي المغايرة فتدل على أن الخلق غير الأمر .
والقرآن دل الدليل على أنه من الأمر وليس من الخلق في قول الله جل وعلا { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .(1/358)
فقال جل وعلا { رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } وهذا هو القرآن فجعله من الأمر .
فإذن انقسام الأشياء في آية الأعراف قال { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } فثم شيئان :
" خلق .
" وأمر .
والخلق غير الأمر لأنه عُطِف بالواو ، ولما قال في القرآن إنه من الأمر دلنا على أنه غير مخلوق .
إلى غير ذلك من الأدلة على بطلان قول من قال إن القرآن مخلوق .
قالوا (القرآن منه بدأ وإليه يعود) (كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود) .
فقولهم (منه بدأ) يعني أنه تلقاه جبريل عليه السلام من الله جل وعلا سماعا ، ولم يأخذه جبريل من اللوح المحفوظ كما هو قول طائفة من المبتدعة ، ولم يأخذه جبريل من بيت العزة كما هو قول طائفة من المبتدعة ، ولم يعبِّر به جبريل عن كلام الله جل وعلا النفسي كما هو قول طائفة أو أنه حكاية وعبارة .
قالوا (منه بدأ) والقاعدة عندهم أن (من) إذا كان الابتداء من الله جل وعلا فهي تقوم مقام إضافة الأشياء إلى الله فتأخذ القسمين :
" إضافة الأعيان .
" وإضافة المعاني .
كما سيأتي إيضاح بعضه إن شاء الله .
قالوا (وإليه يعود) وقولهم (إليه يعود) يعني ما ثبت أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (يُسرَى على القرآن في ليلة حتى لا يبقى في الأرض منه آية واحدة)
يعني في آخر الزمان يعود القرآن إلى الله جل وعلا .
لأنه أنزله للعمل به ولأخذه بقوة ، فإذا رغب جميع الخلق عنه ولم يعودوا إليه أسري به إلى الله جل وعلا حتى لا يبقى منه في الأرض آية ، هذا معنى قولهم (وإليه يعود) (منه بدأ وإليه يعود) .
إذن هذا التعريف للقرآن (كلام الله المنزَّل غير المخلوق منه بدأ وإليه يعود) ، هذا التعريف كما رأيت مأخوذ كله من الأدلة .
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا وهذا الأصل عندهم به فهموا معاني الآيات .(1/359)
ففي قوله جل وعلا { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } وكذلك قوله { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ }
في هاتين الآيتين بُيِّن أن كلام الله يُسمَع ، وقوله { حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } { يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ } هذا يدل على أن المسموع هو كلام الله ، والمسموع هو القرآن إذا تُلي على الناس القرآن ، ومع ذلك فإن المتكلم به ابتداء هو الله جل وعلا .
والناقل له هو الذي أسمع القرآن ، يعني المتكلم به نقلا ، القائل له نقلا .
فقال { حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } فهنا كلام الله يسمع ، فدل على القارئ التالي للقرآن يُسمِع كلام الله .
فإذن القول ليس هو قول القارئ أو التالي .
القرآن ليس هو قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ إنشاء ولا هو قول جبريل إنشاء ولا هو قول من قرأ القرآن إنشاء .
وإنما هؤلاء إذا قرؤوا القرآن يقال إن هذا الذي خرج منهم هو قولهم بلاغا وإسماعا .
ففرق بين المنشيء للقول والمبلغ له .
ولهذا هنا حين قال { يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } نعلم أن قوله { كَلامَ اللَّهِ } هنا إضافة صفة إلى متصف بها.
وفرق بين باب الإبلاغ والإسماع وباب الإنشاء .
فالقرآن تكلم الله جل وعلا به وهو قول الله جل وعلا إنشاء ، من الله جل وعلا بدأ هو المتكلم به وسمع منه هو المنشيء له .
وجبريل سمع القرآن وأسمعه ، فيقال القرآن قول جبريل بلاغا كما في آية سورة التكوير قال { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } الذي هو جبريل .
{ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } في آية الحاقة وهو المراد به النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(1/360)
فإذن هنا أضيف القرآن من جهة القول إلى جبريل وأضيف إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهؤلاء قالوه مُسْمِعين له .
وهذه الآية دلت على أن من أسمع كلام الله لا يعني ذلك أن هذا المسموع خرج عن كونه كلام الله لأنه قال { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } ومن المعلوم أنه لن يسمع الكلام من المنشيء له وهو الله جل جلاله وجل ثناؤه ولكن سيسمعه من التالي له القائل له .
ولهذا قال الله جل وعلا { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وهنا القول قول جبريل وجبريل مبلغ له .
هو قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بلاغا وأما الكلام فهو كلام الله جل وعلا إنشاء .
ففي هذا الباب من المهم أن تفرِّق بين باب البلاغ وباب الإنشاء لأن الله جل وعلا هو الذي ابتدأه (منه بدأ) .
قال في هذه الآية { حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } قوله { كَلامَ اللَّهِ } (كلام) صفة من الصفات لأنها ليست عينا قائمة وإنما هي صفة تقوم بالشيء .
لا يوجد عندنا شيء نراه اسمه الكلام وإنما الكلام يقوم بالأعيان التي تُرى ، فكلام خالد وكلام محمد وكلام صالح وكلام أحمد إلى آخره هذه صفات قامت بمن اتصف بها وليست بالأعيان .
كذلك قوله { حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } هنا أضاف الصفة إلى الذات المتصفة بها .
أضاف صفة الكلام إلى الله جل وعلا وهذه إضافة صفة إلى موصوف .
ومن المتقرر في قواعد الأسماء والصفات أن الإضافة - إضافة الأشياء إلى الله جل وعلا نوعان :
- إضافة مخلوق إلى خالقه وذلك إذا كان المضاف عين منفصلة ، مثل (بيت الله) مثل (ناقة الله) ونحو ذلك ، (أرض الله) (مال الله) { وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } هذه كلها أعيان منفصلة فإضافتها إلى الله إضافة مخلوق إلى خالقه .
- والقسم الثاني إضافة صفة - معاني - إلى الله جل وعلا فهذه لا تحتمل إلا أن تكون صفة مضافة إلى موصوف .(1/361)
وقوله جل وعلا { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } الروح هنا عين منفصلة ليست معنى وإنما هي شيء منفصل يقوم بذاته ولهذا صارت الإضافة هنا إضافة مخلوق إلى خالقه جل ربنا وتعالى وتقدس .
قوله { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ }
هذا أيضا فيه نفس الدلالة من جهة أن الكلام أضيف إلى الله جل وعلا فهي من إضافة الصفة .
قال جل وعلا { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ }
فيه أولا الوحي ، والوحي هو الإعلام والإخبار في خفاء ، إذا كان الإعلام في خفاء .
وقال بعض أهل اللغة في سرعة وخفاء سمي وحيا .
وفي الاصطلاح الوحي هو إعلام الله رسله بالشيء إما مشافهة وإما عن طريق رسول وإما في منام أو بإلهام ، هذا في الاصطلاح .
فإذن الذي أوحي إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هنا هو كتابه قال { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } .
والكتاب كتاب الله جل وعلا هو المكتوب ، ما كُتِبَ فيه كلام الله جل وعلا .
وهو كتاب من جهة صفة الكتابة ، وقرآن من جهة صفة القراءة .
فيقال : كلام الله جل وعلا الذي أنزله على رسوله محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو كتاب إذا نُظِرَ إليه من جهة أنه مكتوب { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ } وهو مقروء قرآن إذا نظر إليه من جهة أنه يُقرأ.
وهذا يدل على أن الكتاب والقرآن التغاير بينهما تغاير في الصفات لا في الحقيقة .
قال جل وعلا { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } هنا الكتاب والقرآن واحد من جهة الحقيقة
ولكن من جهة الصفة الكتاب نُظر فيه إلى كونه مكتوبا والقرآن نظر فيه إلى كونه مقروءا .
فإذن الواو هنا في قوله { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } هي واو العطف التي تقتضي المغايرة ، والتغاير قد يكون تغاير صفات لا تغاير ذوات .
هذا نقوله تقريرا لمذهب أهل السنة في أن الكتاب والقرآن واحد .(1/362)
والكُلابية ومن نحا نحوهم يقولون الكتاب شيء والقرآن شيء آخر .
القرآن عندهم غير الكتاب وذلك مرتبط بقولهم في مسألة الكلام التي سيأتي بيان كلامهم فيها إن شاء الله .
إثبات تنزيل القرآن
من الله تعالى
قال جل وعلا { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ()قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } الآية .
في هذه الآيات فيها لفظ الإنزال { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَك ٌ } { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وكذلك قوله { نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين } الآيات .
ولفظ (الإنزال) كما مر معنا هو داخل في تعريف القرآن لأنه منزل .
وإذا كان كذلكم فلفظ (أنزَل) و (أُنزِل) وما جرى مجراها في القرآن جاءت على أنحاء منها :
" أولا أن يكون مطلقا { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أنزله من أي مكان ؟
ما ذكر ، { أَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } من أين جاء الإنزال ؟ لم يُذكر ، هذا نوع .
" النوع الثاني أن تُبَيَّن الغاية { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء } هذه بُيِّنَت فيها الغاية .
" الثالث أن يكون ابتداء الغاية من الله جل وعلا { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ } .
(أنزلنا) هنا إذن هو نزل من الله { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ } يعني نزل من الله جل وعلا .
وإذا كان كذلك فهنا ينظر فيما ذكر فيه الإنزال بـ (من) على قاعدة الإضافة :(1/363)
- فإذا كان المنزَل عينا صار إنزال مخلوق .
- وإذا كان المنزَل صفة كانت هذه الصفة قائمة بالله جل وعلا .
وهنا - يعني على هذه القاعدة - يستقيم استدلال شيخ الإسلام رحمه الله بهذه الآيات على أنه صفة الله جل وعلا لأن الإنزال ما دام أنه من الله جل وعلا فمعنى ذلك أنه إضافة إلى من اتصف بها جل ثناؤه وتقدست أسماؤه .
......
هو (من) إذا كان أتت (أُنْزَِِل من الله) (نَزَلَ من الله) ونحو ذلك (من ربك) فهذه تدخل في قاعدة الإضافة التي ذكرناها عند قوله { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } ، يعني أن هذا الذي ذُكر أنه أنزل من الله إذا كان عينا منفصلة عينا تقوم بنفسها فهذا يكون مخلوقا .
وإذا كان معنى فإنه يكون صفة للموصوف بها وهو الله جل وعلا ، مثل ما قلنا في الكلام ، الفرق بين (كلام الله) و (ناقة الله) أن (ناقة الله) هذه مخلوق عين قائمة معروف أنها ناقة وأضيفت إلى الله هذه تسمى إضافة تشريف إضافة تكريم لأن هذه مخلوق مستقل اللي هو الناقة فتكون الإضافة إضافة مخلوق إلى خالقه بخلاف (كلام الله) (رحمة الله) (سمع الله) ونحو ذلك هذه معاني لا تقوم بنفسها فيكون إضافتها إلى الله إضافة صفات .
كذلك (نزل) و (أُنزِل) هنا إذا كان منفصلا عينا قائمة دخلت في أنها إنزال مخلوق من الله .
إذا كانت ليست عينا وإنما هي معنى دخلت في الصفات .
هذا تقرير لما استدل به الشيخ رحمه الله من هذه الآيات العظيمة .
وأهل السنة يقولون إن كلام الله جل وعلا حرفٌ وصوت وأن القرآن هو كلامه جل وعلا الذي سمعه منه جبريل وأمره أن يبلغه إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
لأن جبريل يسمع كلام الله جل وعلا .
لكن القرآن أُمِرَ جبريل بأن يبلغه إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فصار قرآنا .
وهناك ما يؤمَر أن يبلِّغَ جبريل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ولا يكون قرآنا ، يكون فتوى يكون حديثا قدسيا إلى غير ذلك .(1/364)
لكن إذا بلغه وقال هذا قرآن وله صفاته المعروفة يعرفها النبي عليه الصلاة والسلام فهذا هو القرآن .
القرآن من حيث هو كلام الله جل وعلا له مراتب :
- فهناك مرتبة الكتاب وهو أن القرآن كتبه الله جل وعلا في كتاب وجعله في اللوح المحفوظ قال جل وعلا { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيد ٌ(21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } ، هذه مرتبة الكتاب ، هو في لوح محفوظ ، وهذه المرتبة من مرتبة الكتابة هي التي جاء فيها أثر ابن عباس في أن جبريل (أخذ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به إلى بيت العزة ثم نزل بعد ذلك مفرقا) .
قوله هنا (في بيت العزة) يعني في مرحلة الكتاب لأنه أول ما أوحي إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ القرآن أُكْرِمَ بيت العزة في السماء الدنيا بأن جُعل فيه القرآن المكتوب قبل أن يتكلم الله جل وعلا به كله لأنه نزل بالوقائع .
ليس كلام الله جل وعلا به قديما ، بالقرآن ، لا هو جل وعلا يتكلم به فإذا تكلم به سمعه جبريل فبلغه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في ثلاث وعشرين سنة ، هذه مرتبة الكتاب .
كذلك من مرتبة الكتابة المكتوب بين أيدينا المصحف الموجود هنا ، من حيث كونه مصحفا هو مكتوب ، كتاب .
- مرتبة أخرى مرتبة القرآن المتكلَّم به ، المسموع .
الله جل وعلا حين أراد أن يبعث نبيه محمدا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ إلى الناس تكلم بكلام سمعه جبريل وأمره أن يبلغه محمدا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قرآنا .
هو الكتاب الذي أعطيه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وهو القرآن الذي هو حجة النبي عليه الصلاة والسلام .
فإذن حين بلغ جبريل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قول الله جل وعلا { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } كان قد سمعه كذلك غضا طريا ..
فسمعه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ من جبريل فبلغه الأمة على أنه كلام الله الذي يؤجر المرء بتلاوته(1/365)
وابتلي به الناس - الذي هو القرآن - وسماه هذه آيات القرآن ، فرق بينها وبين الفتوى أو الحديث القدسي إلى آخره .
هنا إذا اقترنت القراءة بالكتابة يعني : أخذ يقرأ من القرآن ، أخذ يقرأ من المصحف .
عندنا هنا مكتوب ومكتوب فيه ، ومقروء وصوت .
هنا مقروء مسموع شيء مسموع ، وصوت سمع .
السلف فرقوا بين هذه وقالوا في قاعدتهم المعروفة (الكلام كلام الباري والصوت صوت القاري) يعني في مسألة اللفظ المعروفة فقالوا الكلام كلام الله والصوت صوت القارئ ؟
(الكلام كلام الباري والصوت صوت القاري) لأن الله قال { حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } فالمسموع من جهة الصوت هو صوت القارئ ، ومن جهة الألفاظ والحروف والمعاني هذه هي كلام الله جل وعلا .
كذلك من جهة الكتابة ، المكتوب هو القرآن هو كلام الله جل وعلا في مرتبة الكتاب أو في نوع الكتاب ، وأما نفس الورق والمداد والألوان ونحو ذلك فهذه مخلوقة .
فإذن من جهة القارئ ثَم شيء مخلوق وشيء هو صفة الله وهو كلامه فالكلام كلام الباري والصوت صوت القاري ، هذا من جهة التالي .
وكذلك المكتوب يعني الكتاب المصحف المكتوب فيه هو كلام الله جل وعلا الذي هو صفته غير مخلوق ، وأما الورق والمداد إلى آخره فهذه مخلوقة صنعها البشر .
القارئ إذا قرأ لا يجوز أن نقول (لفظه بالقرآن مخلوق) ولا يجوز أن نقول (لفظه بالقرآن غير مخلوق) .
بل هذا بدعة وهذا بدعة .
وذلك لأن اللفظ كلمة لفظ هذه فعْل تحتمل المفعول وتحتمل الفعل - التلفظ - .
فإذا قال القائل (لفظي بالقرآن) أنا أفهم منه أحد شيئين :
- إما أن يريد (لفظي بالقرآن) : تلفظي بالقرآن .
- وإما أن يقول : ملفوظي .
لفظي احتمال أنها تلفظي واحتمال أنه ملفوظي .
التلفظ الذي هو حركة لسانه وإظهار صوته هذا مخلوق .
والملفوظ هذا هو القرآن الذي هو صفة الله جل وعلا غير مخلوق .
ولهذا بدّع السلف من قال لفظي بالقرآن مخلوق أو من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق .(1/366)
وتعلمون المحنة التي جرت على الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في مسألة اللفظ حينما ظُنَ أنه قال لفظي بالقرآن مخلوق .
إذا تقرر هذا عندك من حيث تأصيل هذه المسألة .
باختصار كما تعلمون أن مسألة الكلام والقرآن هذه مسألة طويلة الذيول وكثير الكلام فيها حتى سمي علم الكلام بها ، لأنها هي أعظم مسائله وأشكل مسائله وأول ما تُكُلِّمَ في الصفات في كلام الله جل وعلا .
إذا تقرر لك مذهب السلف وأهل السنة والجماعة فإن المخالفين لهذا المذهب على أنحاء :
" فمنهم الذين قالوا إن كلام الله جل وعلا مخلوق .
وأول من أظهر هذه المقالة الجعد بن درهم وأخذها منه الجهم بن صفوان ثم تلقفها منه المعتزلة ، قالوا القرآن مخلوق ، كلام الله مخلوق ، هو إضافة مخلوق إلى خالقه ، لماذا ؟
قالوا : لأن الكلام لا يعقل أن يسمى كلاما حتى يكون بحروف وأصوات وهذا منزه عن الله جل وعلا .
فالمعتزلة حذاق من جهة التأصيل ، فقالوا لا يمكن أن يسمى الكلام كلاما حتى يكون بحروف وصوت ، كلام لا بد أن يكون بحرف وصوت .
والحرف والصوت يستلزم أشياء يستلزم التجسيم إلى آخره فقالوا فننفي ذلك عن الله جل وعلا
مثل كلامهم في مسألة الرؤية ، نفوا الرؤية كما سيأتينا لماذا ؟
قالوا : لأنه لا تكون الرؤية إلا إلى جهة ويستحيل أن يكون الله في جهة فنفوا الرؤية .
بخلاف الأشاعرة الذين نفوا الحرف والصوت وأثبتوا الكلام .
فإنهم تناقضوا يعني كلام أولئك غير معقول كما سيأتي .
إذن هؤلاء ما شبهتهم ؟
قالوا : لا كلام إلا بحرف وصوت وهذان لا يجوز وصف الله بهما لأنه يقتضي أن يكون له لسان ولهاث إلى آخره شبهوه بالبشر فنفوا ، أو أنه محل للحوادث ، أو أنه يكون ذلك في حلول الأعراض به جل وعلا فنفوا ذلك .
ما دليلكم على أن القرآن مخلوق ؟
قالوا : قول الله جل وعلا { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } .(1/367)
والقرآن شيء ، فدلت الآية على أن القرآن مخلوق لأنها داخلة في عموم قوله { كُلِّ شَيْءٍ } .
والجواب عن الأولى أن نقول : إن قولكم الكلام لا يمكن إلا بحرف وصوت نقول هذا صحيح فإن الكلام فيما نعهد في لسان العرب أنه لا يمكن أن يكون كلاما نفسيا ولا كلاما معنويا في داخل الفؤاد بل لابد أن يكون بحرف وصوت ، وهذا هو الذي نثبته لله جل وعلا لكن كما يليق بجلال الله وعظمته .
فصوت الله جل وعلا ليس كأصوات المخلوقين ، وتكلمه جل وعلا ليس كتكلم المخلوقين .
وقد جاء في صفة الصوت في البخاري أن الله جل وعلا (ينادي بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب) في الموقف .
وهذه ليست صفة صوت المخلوق قال (يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) .
فإذن نقول نلتزم بأن الكلام بحرف وصوت لكن نقول على القاعدة إن اتصاف الله جل وعلا بذلك كما يليق بجلاله وعظمته { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
فإثبات الصفات إثبات وجود ومعنى لا إثبات كيفية .
لأنه لا تُعلَمُ كيفية اتصاف الله جل وعلا بصفاته ، لا يعلمها إلا هو جل جلاله وتقدست أسماؤه .
أما قولهم في الاستدلال بقوله { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } فنقول :
من جهة اللغة (كل) هذه تدل على ظهور في العموم .
والظهور في العموم يكون في كل شيء بحسبه .
ولهذا جاء استعمال كلمة (كل) و (كُلِّ شَيْءٍ) فيما لم يرد به العموم الاستغراقي التنصيصي كما في قوله جل وعلا في قصة بلقيس { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } يعني وأوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك .(1/368)
وكذلك قوله في ذكر الريح التي أرسلها الله جل وعلا قال { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } وقال { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } الآية ، فإذن صار هنا قال { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ } { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ } ثم قال { فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } فدلل على أن عموم كل - نعم هي من ألفاظ العموم - على أنها هي بحسبها .
يعني عموم يدل عليه السياق وهو ظهور في العموم قد يخرج منه أشياء لدلالة المقام على ذلك ، كذلك نقول قوله { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } هنا (كل شيء صار مخلوقا) بهذه الآية فكل شيء خلقه الله جل وعلا .
وآية الأعراف دلتنا على أن الأشياء نوعان : خلق وأمر ، قال { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ }
والقرآن كلام الله من الأمر وليس من الخلق .
فدلت على أنه لا يدخل في الآية ، لأن الذي يدخل في آية الأنعام { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وآية الزمر إلى غيرها الذي يدخل فيه المخلوقات وأما الأمر فلا يدخل فيه والقرآن من الأمر وليس من الخلق .(1/369)
والكلام معهم طويل الذيول ، لأنه في المرة الماضية بعد الدرس الماضي كان الكلام متوسطا في كلام الله جل وعلا وكلام الناس يعني آراء الناس في ذلك فذكر لي بعض الاخوة بعد ما خرجنا قالوا الكلام كان صعبا ونريد أن يعاد الدرس بكماله - الدرس الماضي - مع أنه هذه المسألة تعلمون أنها من أكثر المسائل في الصفات بحثا ، الكلام فيها كثير وطويل من حيث تقرير مذهب أهل السنة وغيره وصنفت فيها مصنفات كثيرة ومجلدات فالذي نذكره ما يناسب المتوسطين قد المبتدئ ما يحكم ذلك جميعا وقد يكون الذي حضر مجالس متنوعة يكون هذا الكلام عنده مكرر أو الفائدة فيه ليس جديدا عليه بكماله لكن نذكر هنا ما توسط يعني ما يناسب المستوى المتوسط للإخوة لا للمبتدئ ولا للمنتهي إنما هو بينَ بين .
هذا قول المعتزلة بتقرير خفيف لأدلتهم والجواب عليها .
" القول الثاني الذي هو قول الكُلاّبية .
والكُلاّبية هم أول من أحدث القول بأن كلام الله قديم .
أول من أحدث في الأمة أن القرآن كلام الله مخلوق هم : الجعدية ، الجهمية ، المعتزلة .
وأول من أحدث أن القرآن هو كلام الله وهو قديم وهو معنى نفسي هم الكُلاّبية أتباع عبد الله بن سعيد بن كُلاّب وتبَِع ابن كلاب على ذلك الأشعري ومن تبعه على مذهبه .
والسبب أن هذه المسألة لما أن الأشعري ترك المعتزلة وخلع مذهبه ذهب في بغداد اللي هي دار الخلافة العباسية ، يُدَرِس فيها في المساجد ، المعتزلة يُدَرِسون والكلابية يُدَرِسون والكرامية ، أصحاب كل مذهب لهم حلقات ، فلحق بحلقة أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب ، فسمعهم يتكلمون في مسألة الكلام فأعجب بكلامهم في أن كلام الله جل وعلا قديم وأنه معنى نفسي وأنه يختلف بالعبارة فأخذ كلامهم ونصره وصار كُلابيا اللي هو أبو الحسن الأشعري .
وهكذا يعد مذهب الأشاعرة يعد مذهبا كُلابيا .
المقصود : قالوا إن كلام الله قديم هنا هو معنى نفسي .(1/370)
هذا المعنى النفسي واحد من حيث الصفة متعدد من حيث المعني .
إن تعلق بالمأمور سمي أمرا وإن تعلق بالنهي سمي نهيا وإن تعلق بالخبر سمي خبرا .
ومجموعها يقال له كلام الله ، وهو واحد ولكنه متعدد من جهة ما ألقي في رُوع جبريل ، فألقى الله جل وعلا كلامه القديم في رُوع جبريل بالعبرانية فصار توراة ، وبالسريانية فصار إنجيلا وبالعربية فصار قرآنا .
يعني عندهم أن الكلام معنى نفسي ليس عندهم الكلام يكون بحرف وصوت بل هو معنى نفسي قديم ، لماذا ؟ ما حجتكم في ذلك ؟
قالوا مستحيل أن يكون الكلام بحرف وصوت .
والأدلة دلت على أن الكلام صفة لله جل وعلا ، الأدلة التي ذكرنا التي سمعتم دلت على أن الكلام صفة الله جل وعلا ، والكلام مستحيل أن يكون حرفا وصوتا .
لأن معنى ذلك أنه يشبَّه الله جل وعلا بخلقه ، فما المخرج ؟
قالوا وجدنا في كلام العرب قول الشاعر :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جُعل اللسان على الفؤاد دليلا
ووجدنا قول عمر فيما حصل في سقيفة بني ساعدة أنه قال (فزوّرت في نفسي كلاما)
فدل - على قولهم - على أن الكلام يحتمل شيئين :
- يحتمل أن يكون بحرف وصوت
- ويحتمل أن يكون معنى نفسيا في داخل المتكلم ، والحرف والصوت ممتنع في حق الله جل وعلا فجعلنا ذلك معنى نفسيا ، لأن الكلام صفة ثابتة بالنصوص لا يمكن إنكاره .
- ردا على المعتزلة - فإذن هم ردوا على المعتزلة أن القرآن مخلوق وأن كلام الله مخلوق وقالوا لا بل هو صفة وأتوا بالأدلة .
لكن لأجل أن المعتزلة قالوا هو حرف وصوت وكان ذلك دليلا عندهم على أنه مخلوق هربوا من ذلك إلى ضده فأتوا بالمعنى النفسي أخْذا من قول الأخطل كما زعموا النصراني :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جُعل اللسان على الفؤاد دليلا
وبقول عمر فيما زعموا أيضا (فزوّرت في نفسي كلاما) .
والجواب عن هذا أن نقول : إن الكلام في لغة العرب لا يحتمل المعنى النفسي بل لا بد أن يكون بحرف وصوت .(1/371)
والمعتزلة من حيث اللغة أحذق من الأشاعرة ، الأشاعرة أكثرهم عجم والمعتزلة لهم تحقيق في مسائل اللغة .
فلما قالوا الكلام حرف وصوت نقول نعم كلام العرب دل على أن الكلام لا يكون إلا بحرف وصوت واستدل على ذلك ابن جني في كتابه الخصائص بأن هذه الأحرف الثلاثة (الكاف ، واللام ، والميم) في لغة العرب في اللسان العربي الكريم كيفما جمعتها لا تدل على لين وسهولة وإنما تدل على قوة وشدة ، كيف ذلك ؟
قال خذ (كَلَمَ) يعني جرح ، خذ (مَلَكَ) خذ (كَمُلَ) خذ (لَكَمَ) إلى آخره ، فتصريفاتها تدل - بتقليباتها الذي يسمى الاشتقاق الأكبر - هذه تدل على قوة وشدة ولا تدل على لين وسهولة والذي يدل على القوة والشدة هو إخراج الكلام بحرف وصوت أما المعنى النفسي الداخلي فهذا مبالغة في اللين والسهولة لا يناسب معنى (تكلم) في لغة العرب .
وهذا الذي ذكره نفيس وصحيح لأنه يوافق الاشتقاق الأكبر ويوافق ما نعلمه من لغة العرب من أسرار في مثل ارتباط الكلمات وتصريفاتها وتقليبات الأحرف والكَلِم بعضها مع بعض .
هذا واحد .
قولكم إن الكلام يكون في الفؤاد نقول :
1 - هذا ما أخذتموه إلا من البيت الذي زعمتموه من قول الأخطل والأخطل أولا نصراني ، الأخطل التغلبي نصراني ، والنصارى أعظم ضلالهم في مسألة الكلام لأن قالوا الله جل وعلا سمى عيسى كلمة الله فجعلوا الكلمة هي من معنى أنه صفة الله فالنصارى ضلت في باب الكلام في نفسه هذا أولا ، وإذا كانت ضلت فلا يؤمَن أن النصراني هذا استعمل شيئا مما ورثه من ديانته ، هذا واحد .
2 - الثاني هذا البيت لم نجده في نسخة لا أصل ولا مشروحة من نسخ ديوان الأخطل ولا في ملحقاتها مما حفظه أهل اللغة ، لا يوجد في كلام في ديوان من دواوين الأخطل لا المشروحة ولا الأصول ، فمن أين أتيتم به ؟
3 - الثالث نقول : روي هذا البيت على وجه آخر ، روي بقوله :
إن البيان لفي الفؤاد وإنما ... جُعل اللسان على الفؤاد دليلا(1/372)
فهذا يدل على أن لفظة الكلام غير محفوظة ، وإذا كان كذلك فلا يسوغ الاحتجاج في اللغة بما يهدم الأصل بكلام غير محفوظ .
وقوله (إن البيان لفي الفؤاد) هذا يوافق اللغة .
البيان في الفؤاد لكن الكلام لا يمكن أن يكون في الفؤاد .
أما قولهم عن عمر أنه قال (فزورت في نفسي كلاما) نقول :
الرواية المحفوظة (فزورت في نفسي مقالا) وأما (فزورت في نفسي كلاما) فعلى فرْض صحتها فهو قال (زورت في نفسي كلاما) ولم يقل (قلت في نفسي كلاما) .
فزور في نفسه شيئا سماه كلاما باعتبار أنه سيخرجه لا باعتبار وجوده في داخل نفسه فافترق الأمر.
الجواب على كلامهم في هذا يطول .
المقصود من هذا أن قول الكلابية والأشاعرة في القرآن يقولون هو كلام الله ، كلام الله معنى نفسي
طيب القرآن الموجود بأيدينا وش يقول الكلابية و الأشاعرة فيه ؟
القرآن الذي بأيدينا يقولون مخلوق فيتفقون مع المعتزلة في أن القرآن الذي بأيدينا مخلوق لأنه جعلوا كلام الله على قسمين :
" كلام الله القديم صفته غير مخلوق ، صفة الله جل وعلا ولا يوصف بالخلق .
" وهذا الذي جُعِل في روع جبريل فعبّر عنه جبريل ، هذا مخلوق .
ولهذا من جعل القرآن مخلوقا على أي الجهتين - نسأل الله العافية - فهو راد لقول الله جل وعلا { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } وقد مر معنا في الدرس الماضي إثبات أن الكلام كلام الله جل وعلا حروف وأصوات والدليل على ذلك بتفصيل .
المسألة لها بحوث وكلام آخر لكن لعل فيما ذكرنا كفاية إن شاء الله تعالى .
أسأل الله لي ولكم الهدى والسداد والتوفيق والرشاد ...
نعم .. هو من كلام الله وهو كلام الله { حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } ...(1/373)
يقول : فرق بعض أهل العلم بين الكلام والقول فقالوا يطلق الكلام على منشيء الكلام ابتداء والقول على من حكى أو بلغ الكلام ، ولكن ينشأ عن هذا إشكال نجد كثيرا ونقلا عن منشئ الكلام في قول عمر (وافقت ربي في ثلاث) فهل هذا المنقول كلام أو قول ؟
نعم هذا راجع إلى أن إطلاق لفظ الكلام (تكلم فلان) (هذا كلام فلان) لا يقال إلا لمن أنشأ لأنه أضافه إليه والإضافة تقتضي إضافة الكلام إلى منشئه .
أما المبلغ له يقال (قال فلان) لكن إذا مثلا أنا قلت (قال شيخ الإسلام ابن تيمية كذا وكذا) الكلام هذا كلام من؟ شيخ الإسلام ، والقول قولي إبلاغا لكلام شيخ الإسلام لكن أيضا هذا الكلام من الذي تكلم به ؟ إنشاءً تكلم به شيخ الإسلام وتبليغا تكلمتُ به ، لكن حين نقول هذا كلام من ؟ هو كلام شيخ الإسلام ليس كلامي ، لأنه إذا دار الأمر بين الإنشاء والتبليغ فيضاف إلى من أنشأه لا إلى من بلغه .
هذا قول من ؟ سمعت مني هذه الإضافة تنقسم إلى قسمين ، إذا سأل سائل ، سأل واحد منكم زميله فقال هذا قول من ؟ واحد يقول هذا قول فلان وآخر يقول هذا قول أئمة السنة ، قول شيخ الإسلام ابن تيمية ، قول ابن القيم ، قول البخاري قول الإمام أحمد ، طبعا هؤلاء هم الذين أنشؤوا القول وهو قولي من جهة أني ذكرته وتكلمت به عندكم فهو قول لي لكن لا يلزم أني أنا الذي أنشأته وإنما استفدته فيكون حظي البلاغ به ، فإذن مسألة الكلام نعم في قوله (كلام فلان) و (قول فلان) الكلام إذا قيل كلام فلان يعني هو الذي أنشاه ، هذا كلام شيخ الإسلام يعني هو الذي أنشأه ، هذا كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يعني من حيث الإنشاء ، وأما التبليغ فلا يقال إلا مع القرينة .
إثبات رؤية المؤمنين
لربهم يوم القيامة(1/374)
وَقَوْلُهُ: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22)إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:21-22]، { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس:26]، وَقَوْلُهُ: { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ق:35]، وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ، مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، اللهم نسألك علما نافعا وعملا صالحا وقلبا خاشعا ودعاء مسموعا ، اللهم اغفر ولوالدينا ولإخواننا الذين سبقوا بالإيمان ، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا ودلنا على ما تحب وترضى ومُنَ علينا بالبصيرة والفهم في دينك وأَنِلْنا لذة النظر إلى وجهك يا أكرم الأكرمين ، أما بعد :
فهذه الجملة من الآيات هي آخر الاستدلال من القرآن على صفات الله جل وعلا وذكر فيها الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى صفة النظر إلى وجه الله الكريم ..
انتهى الشريط الثالث عشر من - شرح العقيدة الواسطية -
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الرابع عشر
وذكر فيها الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى صفة النظر إلى وجه الله الكريم .
والناظر هم المؤمنون والمنظور إليه هو الله جل وعلا .
وقول من قال صفة النظر يعني أن الله جل وعلا يُرى بالأبصار يوم القيامة .(1/375)
قد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك ، ومن أدلة القرآن هذه الآيات التي ذكرها الشيخ رحمه الله ، فمنها قوله جل وعلا { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وقول الله جل وعلا { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } كذلك قوله جل وعلا { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وقوله جل وعلا { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }
وفي السنة أيضا إثبات أن الله جل وعلا يُرى يوم القيامة .
وهذه الصفة أو هذه الآيات فيها الدلالة على أن الله جل وعلا يُرى يوم القيامة وأن رؤية وجه الله الكريم هي أعلى نعيم أهل الجنة لأنه جعلها الزيادة فقال { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } والحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم .
ولما جعل للذين أحسنوا الحسنى وعطف عليها الزيادة دلنا على أن الزيادة هذه نعيم مخصوص وهو أعلى من نعيم الجنة وإن كان هو حاصلا في الجنة .
ومسألة الرؤية من المسائل التي قررها أهل العلم من أهل السنة وصنفوا فيها المصنفات لكثرة المخالفين فيها .
والأدلة دلت بوضوح على أن الله جل وعلا يُرى بالأبصار في الآخرة يراه المؤمنون في عرصات القيامة ويراه المؤمنون متلذذين متنعمين في دار الكرامة دار الحبور والسرور .
أما الآية الأولى فهي قوله جل وعلا { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }
سَبكُ الكلام : (وجوه يومئذ ناظرة ، ناظرة إلى ربها) .
فقوله { إِلَى رَبِّهَا } هذا الجار والمجرور متعلق باسم الفاعل (ناظر) لأن القاعدة أن الجار والمجرور - يعني شبه الجملة - يتعلق بالفعل أو بما في معنى الفعل كاسم الفاعل كما هنا .
قال { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } كأنه قال : (وجوه يومئذ ناظرة إلى ربها) .
فوصف الوجوه أو أخبر عن الوجوه بشيئين :(1/376)
" أخبر عنها بأنها { نَاضِرَةٌ } .
" وأخبر عنها بأنها { نَاظِرَةٌ } .
والنُّضرة :هي الحسن والبهاء .
وأما النظر : الذي منه (ناظر) فهذا هو نظر العين لأنه قال فيه { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .
وكذلك قوله { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ }
{ يَنظُرُونَ } هنا حَذَفَ ما يتعلق به - يعني حذف جهة النظر أو حذف ما يُنظر إليه -
{ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } ينظرون أيَّ شيء ؟
قال أهل العلم هنا في قوله { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } يعني ينظرون إلى كل نعيم .
ومن النعيم لذة النظر إلى وجه الله جل وعلا .
فيكون قوله { يَنظُرُونَ } يعني يَرَوْنَ بأبصارهم كل ما يسرهم لأنه من المتقرر أن الحذف يفيد أشياء ، ومما يفيده : التعميم أو الشمول أو عدم الاختصاص .
إذا تقرر هذا فلفظ (النظر) في القرآن جاء على أنحاء :
" فمنه ما جاء في كون النظر غير معدَّى بحرف جر ، (نَظَرَ) هكذا بدون تعدية .
" والثاني أنه يُعَدَّى بـ (في) (نَظَرَ في) .
" الثالث أنه يُعَدَّى بـ (إلى) (نَظَرَ إلى) .
وكل واحد من هذه الاستعمالات له معنى خاص .
واللازم منها يعني غير المُعَدَّى (نظر فلان) يعني : انتظر .
فـ { هَل يَنظُرُونَ إلا الساعة } يعني هل ينتظرون .
فإذا لم يعدَّ النظر بحرف (في) ولا بحرف (على) فهو بمعنى الانتظار .
وكذلك قوله { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ } .
{ هل يَنظُرُونَ } يعني هل ينتظرون .
{ فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } يعني ينتظرون ، هذا القسم الأول.
القسم الثاني أن يُعَدَّى النظر بـ (في) : { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } هنا عُدِّيت بـ (في) .(1/377)
إذا عُدِّي النظر بـ (في) { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } .
فيكون النظر بمعنى الرؤية المضمَّنة للاعتبار والتأمل والتفكر .
القسم الثالث أن يعدَّى النظر بـ (إلى) : فإذا عُدِّي النظر بـ (إلى) فيكون معناه الرؤية البصرية البحتة .
فقوله جل وعلا { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } هذا فيه تعدية النظر بـ (إلى) .
فيكون { نَاظِرَةٌ } هنا بمعنى رائية بمعنى الرؤية البصرية .
ويقوي ذلك ويؤكده أنه أضاف النظر إلى الوجوه .
والوجوه إذا كانت هي التي تنظر معنى ذلك أن المقصود من النظر الرؤية لأن الوجوه هي محل الرؤية لأن فيها العينين .
كذلك قوله { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ } يعني يَرَوْن .
هنا { يَنظُرُونَ } لم يُعَدِّها فعلى ما ذكرنا من القاعدة يكون المعنى : على الأرائك ينتظرون.
والاحتمال الثاني أن يكون { يَنظُرُونَ } بمعنى ينظرون إلى كذا وكذا ، فحذفت .
تعيَّن الثاني وهو أنه (ينظرون إلى) فحذف لأن هذا في سياق ذكر نعيم أهل الجنة .
ونعيم أهل الجنة لا يناسبه انتظارهم لما ينعَّمون به بل أهل الجنة إذا اشتهوا شيئا أتاهم فورا ، فلا ينتظرون حتى إن أحدهم ليشتهي الشواء فينظر إلى الطير في السماء - في سماء الجنة - فيأتيه مشوياً كما يشتهي في لحظة .
إذن نقول هنا في قوله { يَنظُرُونَ } نعم هي محتملة للانتظار من حيث اللفظ لأنها لم تُعَدَّ .
لكن لا يناسب نعيم أهل الجنة الانتظار .
ولذلك استدل بها الشيخ هنا على مسألة الرؤية لأن ذلك هو الذي يناسب نعيم أهل الجنة .
قوله جل وعلا { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }
{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا } يعني أخلصوا لله وتابعوا سنة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وكانوا من أهل الإحسان لهم الحسنى جزاءً وفاقا ، فكما أحسنوا فلهم الحسنى .(1/378)
والحسنى هي الجنة لأنها هي البالغة في الحسن نهاية المخلوقات وهي غاية النعيم من المخلوقات وغاية الجمال من المخلوقات وعرش الرحمن الكريم البهيّ الجميل هو سقف الجنة .
قال { وَزِيَادَةٌ } الزيادة فسرها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بأنها النظر إلى وجه الله الكريم كما رواه مسلم في الصحيح .
وقوله { وَزِيَادَةٌ } يعني زيادة على الحسنى ، والحسنى جعلها جزاءً للإحسان .
وأما الزيادة هذه وهي لذة النظر إلى وجه الله الكريم فإنه لا ينالها العبد البتة بسبب من الأسباب إلا بفضل الله جل وعلا ورحمته هو الذي تفضل على عباده بذلك .
الحسنى التوحيد الأعمال الصالحة هي سبب دخول الجنة والجنة يدخل لها العبد برحمة الله جل وعلا وأما الزيادة فهي محض فضل الله جل وعلا وكرمه ومِنَّته على عباده بهذا النعيم المقيم بالنظر إلى وجه الله الكريم .
لهذا قال { وَزِيَادَةٌ } يعني زيادة على أجر عملهم ، { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } هذا جزاء لهم وأعمالهم سبب في ذلك ، وأما الزيادة فهي كرم من الله جل وعلا .
قال وَقَوْلُهُ { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }
فُسِّر قوله { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } أيضا بالنظر إلى وجه الله الكريم كما ذكر في الآية السالفة .
إذا تقرر ذلك فهذه الآيات فيها إثبات رؤية المؤمنين لله جل وعلا لأنها جميعا في أهل الإيمان : الأولى والثانية والثالثة والرابعة كلها في أهل الإيمان .
وأما الكفار والمنافقون فهم محجوبون عن رؤية الله جل وعلا قال سبحانه { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } قال الشافعي وغيره (لما حجب أهل الكفر عن رؤيته دل على أن أهل الإيمان يرونه) أو كما قال .
وأهل السنة يثبتون الرؤية ويقولون : رؤية الناس لربهم جل وعلا في العرصات وفي الجنة بقوة يجعلها الله جل وعلا في أعينهم تناسب مقام الرؤية .(1/379)
وأما في الدنيا فإنه لا يمكن لأحد أن يرى الله جل جلاله .
لا يمكن لأحد أن يقوى بصره لرؤية الله جل جلاله .
ولما سأل موسى الكريم سأل ربه الرؤية قال الله جل وعلا له { لَن تَرَانِي } يعني في الدنيا { تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا } وفي تفاسير السلف قالوا (تجلى الله جل وعلا للجبل كقدر هذه) فخر الجبل وخر موسى صعقا وساح الجبل .
ففي الدنيا لا يمكن لأحد أن يرى الله جل جلاله .
والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ليلة أسري به أيضا لم ير الله جل جلاله وإنما رأى نورا .
رأى الحجاب والله جل وعلا هو النور وحجابه النور .
سئل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هل رأيت ربك قال (رأيت نورا) وفي رواية أخرى قال (نورٌ أنى أراه) يعني ثَمَ نور فأنى أراه يعني كيف أراه ؟
والنور هذا هو الحجاب الذي جاء في الحديث (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سَبُحاتُ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) .
والبصر بصر الله جل وعلا ليس له نهاية فمعنى ذلك أنه لو كشفه لاحترق كل شيء جل وعلا وتقدس وتعاظم ربنا .
فإذن الرؤية عند أهل السنة أنها لا تكون في الدنيا ولا في البرزخ وإنما هي يوم القيامة بقوة يجعلها الله جل وعلا في أعينهم ، في أعين المؤمنين فيرونه .
وهذه الرؤية رؤية من غير إحاطة لأن الله جل جلاله لا يحاط به قال سبحانه { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } .
{ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } يعني لا تحيط به الأبصار ، وكيف يحيط به البصر والأرض جميعا قبضته يوم القيامة جل وعلا فكيف بمخلوق واحد على أرض الله جل جلاله .
إذن نقول بامتناع رؤية أحد لله جل وعلا في الدنيا .
أما المخالفون لأهل السنة هم ثلاث طوائف :(1/380)
- طائفة تزعم أن الرؤية ممكنة في الدنيا وفي الآخرة : وهؤلاء هم الصوفية ومن نحا نحوهم .
يقولون الله جل وعلا يُرى في الدنيا ويُرى في الآخرة .
وتقول رابعة العدوية - وهي منسوبة لهم - تقول لله جل جلاله :
أحبك حبين حب الهوى ... وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحُجْبَ حتى أراكا
وكل واحد منهم يزعم أنه رأى الله جل جلاله في اليقظة .
وهذا باطل وذلك لأن الرؤية حُجِبَت عن موسى عليه السلام فقال الله جل وعلا لموسى .
{ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } .
نقول لا يُرى الله جل وعلا في الدنيا في اليقظة .
أما في المنام فأهل السنة يثبتون إمكان رؤية الله جل وعلا في المنام .
ورؤيته في المنام جل وعلا ليست على صورته جل وعلا التي هو عليها لأن هذه لا يمكن لأحد أن يراه فيها .
وإنما قالوا يراه الرائي على قدْر إيمانه لأن الرؤية يكون المقصود بها رؤية من يؤمن به .
فإن كان إيمانه قويا رأى صورة حسنة كما رأى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ربه جل وعلا في أحسن صورة قال عليه الصلاة والسلام (رأيت البارحة ربي في أحسن صورة) .
وقوله (في أحسن صورة) لأنه عليه الصلاة والسلام أكمل المؤمنين إيمانا .
وهذا من جهة الإمكان .
والإمكان لا يدل على تكرار الوقوع لكن قد يحصل ، قد يراه يرى الرائي رؤية قبيحة فيكون ذلك دالا على ما في نفسه ونحو ذلك .
وهذه لا تسمى رؤية لله جل وعلا وإنما يرى ما يتمثل له إيمانه فيه .
ليس هذا محل البحث الذي هو رؤية المنام لأنها ليست رؤية إلى ذات الله جل وعلا وإنما هي شيء آخر ضرْب للأمثال يأذن الله جل وعلا بها لحكمة .(1/381)
الطائفة الثانية : تقابل هذه وهي طائفة الخوارج والمعتزلة ، طوائف الخوارج والمعتزلة ومن شابههم من الذين يقولون إن رؤية الله جل وعلا لا يمكن أن تكون لا في الدنيا ولا في الآخرة .
قالوا من جهة الآيات هذه التي ذكرنا قوله { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } يعني منتظرة .
والنظر يأتي بمعنى الانتظار .
والجواب عليه بما سبق من التفصيل في معنى النظر من أن النظر ينقسم إلى ثلاثة أقسام .
وما ذكروه باطل وممتنع لأنه هنا عَدَّى النظر بـ (إلى) وذكر محل النظر الذي هو الوجه فلا يمكن أن يكون بحال بمعنى الانتظار .
قالوا وأما قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } فتفسير الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم هذا من الآحاد والآحاد لا تقبل في العقيدة وإنما الزيادة هنا هي نعيم يزيدهم الله جل وعلا .
هكذا زعموا .
قالوا ومن الأدلة قوله جل وعلا { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } والإدراك بمعنى الرؤية .
فقوله { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } يعني لا تراه الأبصار ، وهذا عام يشمل الدنيا والآخرة .
والجواب أن قوله جل وعلا { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } الإدراك ليس بمعنى الرؤية في اللغة وإنما الإدراك بمعنى الإحاطة .
قال جل وعلا { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } هو أثبت أن الجمعين قد رأى بعضهم بعضا فقال { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ } يعني رأى هذا الجمع ذاك الجمع ورأى الجمع الآخر ذاك الجمع فأثبت أن الجمع رأى الجمع.
ثم قال { فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } فدل على أن معنى الإدراك غير الرؤية .
ومعنى قولهم { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } يعني إنا لمحاط بنا .
فقوله { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } يعني لا تحيط به الأبصار وهذا مقطوع به ، تبارك ربنا وتعاظم .(1/382)
قالوا قول الله جل وعلا لموسى حينما سأله قال موسى { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } .
قال موسى لله { رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } فقال { لَن تَرَانِي } .
قالوا قوله { لَن تَرَانِي } هذا يشمل الدنيا والآخرة لأن (لن) تفيد التأبيد تفيد تأبيد النفي مطلقا. يعني ما بعدها منفي إلى الأبد ما لم يأت استثناء .
والجواب أن القول بأن (لن) تفيد التأبيد هذا غلط والمحققون من النحاة ردوا هذا القول واعتبروه دخيلا على النحو .
قال ابن مالك في منظومته الكافية الشافية :
ومن رأى النفي بلن مؤبدا ... فقوله اردد وسواه فاعضدا
(من رأى النفي بلن مؤبدا) يعني المعتزلة (فقوله اردد وسواه فاعضدا) .
فإن النفي بـ (لن) لا يدل على التأبيد كما ذكر ابن هشام في المغني ... (1)
فزمن النفي يستفاد من دليل آخر وهناك أيضا شواهد تدل على أنَّ (لن) لا تفيد التأبيد .
المقصود من هذا أنهم استدلوا بهده الأدلة على هذا النحو ويوردون شواهد على ذلك .
وفي هذا الزمن بخصوصه يتبنى مسألة الرؤية بقوة الإباضية ويدْعون الناس إلى ذلك ويقيمون الأدلة على ما زعموا والأدلة التي يستدلون بها عند التحقيق والنظر والعلم كلها ساقطة لا تصلح للاعتماد ولا الاعتضاد أصلا لنفي دلالاتها التي زعموها .
من أدلة المعتزلة على نفي الرؤية قالوا : الرؤية لا يمكن أن تكون إلا إلى جهة والجهة ممتنعة في حق الله جل وعلا لأنه إذا كان جل وعلا في جهة معنى ذلك أنه متحيز وإذا كان متحيزا معناه أنه شبيه بالأجسام وهذا باطل ، وقالوا ننفي الرؤية لأجل هذا .
والجواب أن هذا القول صحيح غلط .
صحيح من جهة أن الرؤية لا تكون إلا إلى جهة ، هذا صحيح .
ولكن كون الجهة من صفة الأجسام هذا مبني على تشبيههم الحال بالحال .
والله جل وعلا نثبت له العلو والعلو أحد الجهات .
فهو جل وعلا في العلو والناس يرونه وهو جل وعلا عال عليهم بذاته سبحانه وتعالى .
__________
(1) 1 هنا مسح بالشريط(1/383)
وأما التحيز فهو منفي لأن الرؤية معها عدم الإحاطة .
وعدم الإحاطة بسبب أن الله جل وعلا بكل شيء محيط لا يحيط البشر به وهو جل وعلا محيط بهم { أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } سبحانه وتعالى .
الطائفة الثالثة - هذا مختصر الإيرادات والأجوبة - الطائفة الثالثة الأشاعرة والماتريدية ..
قالوا نثبت الرؤية كما دلت عليها الأدلة ، الأدلة من الكتاب والسنة دلت على الرؤية قالوا فنثبت أن الله جل وعلا يُرى .
ولكن الرؤية إما أن تكون إلى جهة أو إلى غير جهة .
فإذا كانت إلى جهة اقتضى ذلك التحيز فنمنع ذلك ونقول الرؤية تكون إلى غير جهة .
بالعين ؟
قالوا لا ، ولكن بإدراك يُجعل في العين .
إذن عندهم إثبات الرؤية مع سلب صفات الرؤية ، إثبات الرؤية إلى غير جهة وهذا غير معقول
ثانيا مع سلب البصر تلك الرؤية وجعل الرؤية إدراك يكون في العين يعني أن العين لا تنظر ولكن الله جل وعلا يخلق إدراكا في العين لذلك .
وهذا القول باطل أيضا لأن الله جل وعلا جعل الرؤية للوجوه في قوله جل وعلا { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } .
والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (سترون ربكم كما ترون البدر ليلة التمام) وقوله (كما) تشبيه للرؤية بالرؤية وليس تشبيها للمرئي بالمرئي .
وتشبيه الرؤية بالرؤية يعني أن رؤيتكم للبدر ليلة التمام فيها :
- أن الرؤية بالبصر .
- والثاني أن الرؤية لمن هو عال عليك (إنكم سترون ربكم كما ترون البدر ليلة التمام) .
- والثالث أنه لا يزدحم الناس في رؤيته بل يراه المؤمنون جميعا كما جاء في الحديث (لا تضامّون في رؤيته) وسيأتي في قسم السنة إن شاء الله .
وكون ثَمَ رؤية إلى غير جهة نقول هذا غير معقول .
لهذا المعتزلة أحذق فقالوا ليس ثَمَ رؤية إلا إلى جهة فإذا أثبتم الرؤية فأثبتوا الجهة وهذا الكلام صحيح ، فإذا أثبتت الرؤية فتثبت الجهة .
ولكن الجهة مجملة أيُّ جهة ؟(1/384)
نقول هي جهة العلو لأن العلو ثابت لله جل وعلا .
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } .
هذا ملخص ما في هذا البحث .
قال رحمه الله تعالى بعد ذلك (وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللهِ كَثِيرٌ)
ويعني بهذا الباب يعني باب الصفات أو باب الإيمان بالله جل وعلا على وجه العموم .
ومن أراد الهدى (أخذْ الإيمان من القرآن) ، فإن ذلك في القرآن كثير من جهة آيات الصفات وآيات الغيبيات والأسماء والأفعال والجنة والنار والصراط والميزان وأمور الإيمان كلها في كتاب الله جل وعلا .
قال (مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ)
تدبر القرآن واجب لأن الله جل جلاله حث عليه وأمر به فقال سبحانه { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } دلت الآية على أن من لم يتدبر القرآن فإن على قلبه قُفلا .
وقال { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا } .
وقال جل وعلا { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الأَوَّلِينَ } .
وقال سبحانه { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } .
وقال جل وعلا { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } وقال { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } ونحو ذلك من الآيات
فإذن القرآن عربي يُفهم عن طريق هذا اللسان وأنزِل للتدبر وحث الله جل وعلا على تدبره بل وأمر بذلك فـ (مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ) .
وقول الشيخ رحمه الله (طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ) يدل على أن من الناس من يتدبر القرآن ولكن ليس على طلب الهدى منه ولكن لطلب التأويل والاعتساف والتحريف وهذا حاصل عند أهل الأهواء المضلة(1/385)
فإن المعتزلة منهم من تدبر القرآن لكن لا لطلب الهدى ولكن لطلب صرف وجوه الآيات عن ظاهرها وعن حقائقها إلى تأويلات باردة وتحريفات زائغة .
فـ (مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ) وهذا و(3) أن يتدبر القرآن لأجل أن يأخذ الهدى منه لأن القرآن جعله الله جل وعلا هاديا للتي هي أقوم قال سبحانه { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } وقوله { لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } .
و هذا عام يشمل العقيدة يعني يشمل الأخبار والأحكام .
ففي باب الأخبار القرآن يهدي للتي هي أقوم وفي باب الأحكام القرآن يهدي للتي هي أقوم .
فمن أراد الهدى فهو في القرآن في كتاب الله جل وعلا من أراد إصلاح النفس فهو في القرآن من أراد بيان الإيمان فهو في القرآن من أراد الأحكام فهي في القرآن ، والسنة مبينة للقرآن وشارحة له ودالة عليه ومفسرة له كما قال جل وعلا { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
وهذه الجمل الأخيرة التي ذكرها الشيخ للدلالة على شيء وهو أن أهل الباطل الذين خالفوا طريقة القرآن إنما أخذوا طريقتهم من أقوال أهل الكلام من أقوال المناطقة من أقوال اليونان .
واليونان أثّروا في صياغة ذهن الناظرين في العقائد .
لأن اليونان جاءوا بالفلسفة - والمنطق من الفلسفة - والفلسفة على قسمين :
" قسم فيه إصلاح للعقل كما يزعمون .
" وقسم فيه إصلاح للنفس .
أصحاب إصلاح العقل وضعوا القوانين التي بها تعرف حقائق الأشياء .
ويسلم بها المنطق والعقل من الخطأ .
وأصحاب إصلاح النفس هؤلاء يقال لهم (الإشراقيون) أتباع أفلوطين الاسكندراني هذا جعل الفلسفة لإصلاح النفس .
وطائفة كأرسطو وأفلاطون إلى آخره جعلوها لإصلاح العقل .
هاتان المدرستان دخلتا على البلاد الإسلامية لما ترجمت الكتب .(1/386)
فمن أهل الإسلام من أراد إصلاح عقله عن هذا الطريق فنتج أنهم وجدوا أشياء مصادمة للنصوص فأرادوا أن لا يخرجوا من الإسلام بل يقبلوا ما جاء به أولئك من العقول الصحيحة - لأن اليونان كانوا يُمدحون كثيرا - ويأخذون بما جاء في الشريعة .
فنتج من هذا الخليط ما يسمى (علم الكلام) .
والإشراقيون ترجمت كتبهم ودخلت في بلاد الإسلام وكان أناس ينظرون في هذه الكتب ونتج من نظرهم أن وجدوا تلك الطريقة طريقة الإشراقيين في إصلاح النفس تخالف طريقة أهل الإسلام .
فأخذوا منها بما لا يخالف عندهم طريقة أهل الإسلام فنتج من هذا الخليط التصوف .
وهذا كله نشأ عن طريق دخول تلك الأفكار اليونانية إلى بلاد المسلمين .
ولهذا الشيخ ينبهك إلى هذا الأصل بقوله (مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرُيقُ الْحَقِّ) فطريقة أهل الكلام في إثبات وجود الله أخذوها من المناطقة وليس من القرآن ، طريقة مختلفة .
أولئك يثبتونها عن طريق حدوث الأعراض والقرآن يثبت وجود الله جل وعلا افتقار الإنسان وأنه لم يصنع شيئا لنفسه { إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ } إلى آخره .
طريقة إصلاح النفس عند هؤلاء شيء وفي القرآن شيء آخر ، إلى آخره .
هؤلاء ترهبوا وفي القرآن { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } .
إشراق النفس منه أن المرء يصل بتربية النفس إلى رؤية الله جل وعلا .
فدخل على المسلمين بذلك .
في بحث يطول ويسمى صلة التفكير الإسلامي بالفكر اليوناني عند كثير من الباحثين .
هذا به ننتهي من القسم الأول وهو ذِكر الآيات الدالة على الصفات .
شيخ الإسلام أطال في هذه الآيات ولم يستوعب .
لأنه مختصر لأجل أن يثبت هذا الباب ، لأن هذا الباب فيه ضلال كثير عند المخالفين .(1/387)
القسم الثاني يأتي السنة وسيكرر الكلام على الصفات أيضا التي ثبتت في السنة ومنها الصفات التي سبق إيضاحها .
بهذا إذا أتينا للقسم الثاني إن شاء الله تعالى سنذكر كلاما وجيزا فيها وسنحيل على ما سبق الكلام عليه من أصل الصفات .
لأن إيضاح الواسطية قد يكون إيضاحا تفصيليا وقد يكون إيضاح مباحث وهكذا كتب الاعتقاد
فالإيضاح التفصيلي أن تأخذ كل آية تفسيرها وما يتعلق بها من مباحث والتي من مباحثها إثبات الصفة التي فيها .
الطريقة الإجمالية على طريقتنا نأخذ مجموع الآيات ومراد الشيخ من الاستدلال بها وما تضمنته من الصفات أو من الإيمان ثم يعرض للمبحث بشكل عام .
إن شاء الله من الأسبوع القادم نبتدئ بقسم السنة ثم بعد قسم السنة ندخل في مباحث مهمة أيضا اللي هي مباحث العقيدة العام .
نعم
......
هذه بعض أهل العلم كابن القيم يقول إن الكفار يرون الله ولكن رؤية عذاب لا رؤية نعيم وهذا فيه نظر ، لكن الصواب أنهم يلقون الله جل وعلا يعني يلقونه محاسبا لهم من غير رؤية .
نعم .
{ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ } استدل بذلك على إثبات الرؤية وكذلك قال تعالى { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } ما الجواب عن هذه الآيات ؟
{ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ } اللقاء فسرها طائفة من السلف بالرؤية اللقاء بالمعاينة، يعني فمن كان يرجو رؤية ربه ، واللقاء لقاء الله جل وعلا من المؤمن معناه رؤيته لله تبارك وتعالى .
هل هناك دليل على أن الحسنى هي الجنة ؟
نعم قول الله جل وعلا { وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ } .
كيف نرد على من احتج بأن القرآن يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة ، فكيف تنفك الصفة عن الموصوف ؟(1/388)
الله جل وعلا يجعل القرآن أو بعض القرآن يوم القيامة يعني ثواب القرآن يجعله مظللا العبد
كما جاء في السنة (أن سورة البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غيايتان أو قال غيابتان أو فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما) .
هذا يدل على أنه يجعل الله جل وعلا ثوابه ذلك ، هذا قول .
القول الثاني على أن الله جل وعلا يجعلها أجساما كذلك وليست هي القرآن ولكن يجعل ذلك أجساما لتكون المحاجة وأما القرآن فهو كلام الله جل وعلا منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود .
في هذا القدر إن شاء الله كفاية .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
فَصْلٌ في
أسماء الله وصفاته
في سنة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ، وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك.َ
فَمِنْ ذَلِكَ:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن اهتدى بهداه ، اللهم إنا نسألك علما نافعا وقلبا خاشعا وعملا صالحا ودعاء مسموعا ربنا علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين ... (1)
أن السنة في الدلالة على صفات الله جل وعلا قرينة القرآن .
وأن الصفات يتلقاها أهل السنة من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وقوله هنا (ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) أنه ذكر قبل ذلك ما جاء في القرآن من إثبات الصفات .
فالإيمان بالله جل وعلا يدخل فيه الإيمان بربوبيته وبإلهيته وبأسمائه وصفاته .
ودلالة ذلك أو الدليل على ذلك القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(1/389)
ذكر الأدلة من القرآن ثم الآن ذكر الأدلة من السنة على ذلك.
لأنه قد قال قبل ذلك في قوله (من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه) قال (وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص) إلى وقوله إلى أن أتم الاستدلال من القرآن على ما أراد .
ثم قال هنا (فَصْلٌ : ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) .
والفصل جعله ليميز ما بين الأدلة من السنة عن الأدلة من القرآن وهذه طريقة أهل السنة والجماعة فإنهم يذكرون في المسائل الأدلة من الكتاب ثم يذكرون الأدلة من السنة .
وقوله (ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) السنة تطلق بإطلاقات :
" تطلق ويراد بها الطريقة العامة العملية ، وهذه جاء فيها حديث : (من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) .
" وتطلق السنة ويراد بها ما يقابل القرآن وهو كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأفعال النبي عليه الصلاة والسلام وذلك كما جاء في الحديث ، حديث أبي مسعود البدري أنه قال : قالَ رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) يعني بالسنة ما بلّغه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أمته مما ليس من القرآن أو ليس من كلام الله جل وعلا الذي نماهُ عليه الصلاة والسلام إلى ربه .
" وتطلق السنة ويراد بها كل ما يضاف إلى النبي عليه الصلاة والسلام من قول أو فعل أو تقرير أو وصف أو هَمْ أو إرادة أو خَلْقٍ أو خُلُقْ كل هذا يدخل في السنة وهذا عند المحدثين .(1/390)
" وتطلق السنة ويراد بها الطريقة المرضية في الدين ، وهذه تُقَابَلُ بها البدعة فيقال السنة كذا والبدعة كذا يعني الطريقة المرضية في الدين كذا إما في العبادات أو في السلوك والبدعة كذا فيقابل بين السنة والبدعة .
هذه هي الإطلاقات للسنة ، ومراد شيخ الإسلام رحمه الله بهذا الاستدلال هو قول النبي عليه الصلاة والسلام أو فعله .
والقول كثير والفعل في مقام الاعتقاد من مثل مجيء الحَبر من أحبار اليهود إليه وقال (يا محمد إن الله يضع السماوات على ذِهْ والأرض على ذِهْ) الحديث يعني أصابعه ولما أتم كلامه قال (فضحك رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ تعجبا من قول الحَبر أو الحِبر) هذا يستفاد منه أو يستدل به على إثبات الأصابع لله جل جلاله ، وهذا ليس فيه قول منه عليه الصلاة والسلام وإنما هو فعل يؤخذ منه التقرير .
لكن هذا قليل والكثير في هذا الباب هو النقل بقول النبي عليه الصلاة والسلام في هذه المسائل .
إذن نقول قوله (ثُمَّ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
يعني بها أقواله عليه الصلاة والسلام التي فيها ذكر الأمور الغيبية أو ذكر صفات الله تبارك وتعالى .
قال (فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرآنَ ، وتُبَيِّنُهُ ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ)
هذه عبارة الإمام أحمد : السنة تفسر القرآن تبينه تدل عليه وتعبر عنه .
والسنة في القرآن تأتي بلفظ (الحكمة) كما قال جل وعلا { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }
وكقوله { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } وكقوله { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } هذه الحكمة يراد بها سنة الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(1/391)
وأيضا في القرآن يأتي الدلالة على السنة بأن الرسول عليه الصلاة والسلام آتانا إياها كقوله { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } .
ما آتاكم الرسول وما نهاكم عنه هذا دليل على السنة يعني على التعبير عن السنة بذلك .
كذلك يعبَّر عن السنة أو توصف السنة بما كان فيه أسوة كقول الله جل وعلا { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } .
وقولي هنا (بما كان فيه أسوة) يعني ما كان يشرع فيه الاتساء .
يخرُج بذلك الأفعال الِجِبِليَة التي لا يشرع فيها الاتساء .
المقصود أن السنة في القرآن لها ألفاظ وكل هذه الأدلة تدل على أن السنة من الشرع وأنها حجة من عند الله .
هذه أدلة خاصة وكل آية فيها الأمر بطاعة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هي أمر بطاعة سنته عليه الصلاة والسلام .
وهذه الأوامر كقوله { قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ } وكقوله { وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ } وكقوله { وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وكقوله { فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } وكقوله { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ } وكقوله { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } ونحو هذه الآيات هذه فيها الأمر بطاعة الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وهذه الأوامر عامة لم يَخُصَّ جل وعلا شيئاً مما بلغه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ دون شيء .
وطاعة الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ تكون في الأخبار وتكون في الأحكام :
- فأما طاعته في الأخبار بتصديقها وباعتقاد ما دلت عليه .
- وطاعته في الأحكام عليه الصلاة والسلام بامتثال ما أَمر به أو نَهى عنه .(1/392)
والأدلة عامة لم تفرق بين الأحكام والأخبار فكانت طاعته صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الجميع واجبة
وسبب ذلك أنه عليه الصلاة والسلام يبلغ ما أوحَى إليه ربه به جل وعلا .
فالسنة من جهة المصدر من الله جل وعلا وجبريل ينزل على النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن وقد قال جل وعلا في نبيه { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى }
وهذا في كل ما أخبر به عليه الصلاة والسلام أو أمر به أو نهى أو شرعه لعباد الله فإن ذلك كله من وحي الله جل وعلا ، ووحي الله الذي أوحى به إلى النبي عليه الصلاة والسلام :
- منه ما هو بلفظه ومعناه من الله جل جلاله وهو القرآن والحديث القدسي .
- ومنه ما معناه من الله جل وعلا ولفظه من النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لأنه قد يكون من جهة الإلهام وقد يكون مناما ونحو ذلك فيكون النبي عليه الصلاة والسلام يبلغه بعبارته وهذا هو حديثه عليه الصلاة والسلام وسنته .
والسنة كما ذكر الشيخ هنا (تُفَسِّرُ الْقُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ، وتَدُلُّ عَلَيْهِ، وتُعَبِّرُ عَنْهُ) وذلك لأن الله جل جلاله قال { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فقال { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } .
فالسنة للبيان { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ، فوظيفة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ التبليغ والبيان .
والسنة مع القرآن لها أربع مراتب :
" الأولى أن تكون مُقَرِرَة لما جاء في القرآن .
فهي تأكيد له وتثبيت لما جاء فيه ، يكون موضوع الحديث قد جاء في الآية ، الآية تغني عن الحديث ولكن يكون مجيء الحديث لتثبيت ذلك والتذكير به وإقراره بلفظه عليه الصلاة والسلام.(1/393)
" المرتبة الثانية أن تكون السنة مبينة للقرآن شارحة له .
فيكون في القرآن ما ليس بواضح فتأتي السنة وتبين ذلك ، يدخل في ذلك :
(التفسير) كما فسر النبي عليه الصلاة والسلام قوله تعالى { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } بأن الزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم .
وكما فسر القوة في قوله { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } بأنها الرمي .
أو (بيان للمجمل) يكون الآية فيها إجمال فتحتاج إلى بيان
والإجمال ما لم يعرف له معنى معينا يحتمل كذا ويحتمل كذا .
أو أن تكون الصفات والأحوال غير معروفة فتأتي السنة لبيان المجمل .
أمر الله جل وعلا بالصلاة فأتت السنة ببيان أوقاتها وعدد ركعاتها .
أتى القرآن بإيجاب الزكاة فأتت السنة بالبيان ، هذا يسمى تبيين للمجمل ، هذا كثير .
كذلك تأتي السنة في هذا المرتبة (بتقييد المطلق) وذلك كقوله جل وعلا { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فإنه هنا لم يحد اليد لم تُحَد اليد فقال { فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } واليد هنا أطلقت فما قُيِّدَت ، فأتت السنة بأن اليد المراد بها الكف إلى الكوع .
أو (توضيح معنى عام أو توضيح عموم أو تخصيص عام) مثل قوله جل وعلا { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } ، { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } هذا عموم لأن (ظلم) نكرة في سياق النفي فتعم والنبي عليه الصلاة والسلام بيّن أن العموم هنا غير مراد وأن المراد الخصوص وليس الخصوص فيكون هذا من العام المراد به الخصوص فقال (ليس هو ما تذهبون إليك إنما الظلم الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ) إلى آخر أنواع هذا القسم .(1/394)
" والمرتبة الثالثة هي أن تكون السنة منشئة لحكم جديد لم يأت في القرآن البتة .
مثل حكم النَمْصْ وحكم التَفْليجْ للحُسُنْ ونحو ذلك ، يعني على قول أنه ما جاء في القرآن وأنه لا يدخل في قوله تعالى { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } ، المقصود مثل النمْص ونحو ذلك أو مثل الأحكام المستقلة التي جاءت ببيان آداب الأكل وآداب الشرب وآداب السفر ونحو ذلك .
هذه أحكام كثيرة تكون في السنة ما ليس في القرآن أصلا .
وهذا القسم يُنازَع فيه ، لكن هو موجود فتكون السنة منشئة لأحكام لم تأتِ في القرآن وذلك لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ينُزَل عليه بالوحي بالسنة كما يُنزَل عليه بالقرآن فهما من مشكاة واحدة .
" القسم الرابع أو المرتبة الرابعة والأخيرة النسخ .
أن تكون السنة ناسخة لحكم في القرآن كما نَسَخَ قولُ النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (لا وصية لوارث) آيةَ البقرة .
إذن هذه أقسام أربعة للسنة فإذن السنة كلام شيخ الإسلام هنا على وجه العموم .
يريد أن يبين أن السنة (تُفَسِّرُ الْقُرآنَ، وتُبَيِّنُهُ) يعني تفسر المراد في القرآن مثل الزيادة فسرتها السنة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم .
(وتُبَيِّنُه) يعني إذا كان ثم مجمل فإن السنة تبين هذا المجمل .
(وتَدُلُّ عَلَيْهِ) يعني بيما وافقت فيه السنة القرآن .
(وتُعَبِّرُ عَنْهُ) هذه هي السنة : تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه ، والكلمات متقاربة .
لما فرغ من ذلك قال (وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك)(1/395)
يعني كما وجب الإيمان بنصوص القرآن وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال (ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشِك رجل شبعان على أريكته يأتبه الأمر من أمري والنهي من نهيي فيقول ما وجدنا في كتاب الله أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه) قال (وإن ما حرم رسول الله - صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ - مثل ما حرم الله) كذلك ما أحل الرسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مثل ما أحل الله كذلك ما أخبر به النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو مثل ما أخبر الله لأن الجميع من جهة الكلام هي كلها من الله جل وعلا هي كلها موحى بها من الله جل وعلا والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لم يأت بشيء من عند نفسه .
وإذا رُد كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ معنى ذلك أنها ردت رسالته عليه الصلاة والسلام .
فإذن كل ما وصف به رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الله جل وعلا وجب الإيمان به بشرطين :
الشرط الأول : أن يكون الحديث صحيحا .
والثاني : أن يتلقاها أهل المعرفة بالقبول .
فإذا كانت الأحاديث صحيحة وتلقاها أهل المعرفة بالقبول يعني صحت أسانيدها وتلقاها أهل المعرفة بالقبول ولم يقولوا إن في متونها نكارة فيكون هذا حجة يجب الإيمان بما دلت عليه .
وهذا على أقسام ما بلغت به السنة الناس .
فإن السنة منها ما هو متواتر ومنها ما هو آحاد .
والتواتر منه ما هو تواتر لفظا ومعنى ومنه ما هو متواتر من جهة المعنى .
وكذلك الآحاد منه ما هو مستفيض مشهور - المشهور ليس بالمعنى الاصطلاحي عند علماء الحديث - ومنه ما هو آحاد غير مستفيض إنما ينقله الواحد عن الآخر .
فما كان فيه التواتر فهذا حجة بالإجماع .
وما كان من جهة الآحاد فأهل السنة يسلِّمون بذلك كما قال شيخ الإسلام ويؤمنون بالأحاديث الصحاح .(1/396)
فمن الأحاديث المتواترة في الصفات حديث النزول حديث النزول رواه أكثر من ثمانية وعشرين نفساً عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ منهم من هو متقدم الإسلام ومنهم من هو متأخر الإسلام وروايته مشهورة عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد أسلم بعد فتح خيبر أو في سنة فتح خيبر ، ومنهم من رواه من المتقدمين فدل على أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كان يقوله في أكثر من مجلس في مجامع مختلفة .
من الأحاديث ما هو متواتر معناً لا لفظا .
يعني دلت الأحاديث على هذا المعنى بتواتر معناه أما اللفظ فهو مختلف .
يعني مختلف الدلالة لكن المعنى واحد ، مثل أحاديث رفع اليدين في الدعاء فإنها متواترة من جهة المعنى ، مثل أحاديث خروج المهدي فإنها متواترة من جهة المعنى ، مثل أحاديث نزول المسيح عليه السلام فإنها متواترة من جهة المعنى و هي متواترة من جهة اللفظ عند كثير من أهل العلم إلى آخره
هنا قيده بما وصف به الرسول صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ربه عز وجل .
القسم الثاني الآحاد .
الآحاد منها ما هو مستفيض يعني نقله اثنين ثلاثة أربعة خمسة من الصحابة لكن لك يبلغوا به حد التواتر .
والقسم الثاني منه آحاد نقله واحد .
فالقاعدة في هذه جميعا أنه (إذا صح الإسناد وتلقى الخبر أهل المعرفة بالقبول فإنه يجب الإيمان بما دل عليه) .
ويريد بقوله (الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ) المصطلح الخاص بالصحيح وهو (ما نقله العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة) .
وهذا يخرج الأحاديث الحسنة عند جمع من أهل العلم .
لأن الحديث الحسن غير متفق على الحكم عليه بل يكون بعضهم يضعفه وبعضهم يحسنه .
فالحديث الحسن دائما أو غالبا يكون مختلَفا فيه .
لكن الحديث الحسن إذا كان ما اشتمل عليه من الصفة قد تلقاه أهل المعرفة بالقبول فإنه يكون له حكم الأحاديث الصحيحة من جهة قبول ما فيه .
وهذا إنما يكون من جهة المعاني .(1/397)
مثل أحاديث حسنة تكون في العلو ، مثل أحاديث حسنة تكون في الاستواء على العرش .
لأن أصلها ثابت فتروى الأحاديث الحسنة لتقويتها ذلك الأصل .
أما ما كان فيه ضعف في راويه .
تفرد بلفظة ضعيفة .
فهذا لا يُثْبت صفة لله جل وعلا .
وثمت صفات يتنازع العلماء في إثباتها لأجل تنازعهم في صحة الإسناد .
مثل الحديث الذي فيه إثبات الشمال لله جل وعلا فإن مسلما رواه والعلماء متنازعون في صحة هذه اللفظة بخصوصها هل هي ثابتة أم غير ثابتة ، فمن صححها أثبت الشمال لله جل وعلا ومن لم يصححها ورأى أنها شاذة لم يثبت الشمال لله جل جلاله .
.....
نعم.
هذا حديث صحيح وشذ ابن خزيمة في تضعيفه .
الحديث صحيح صححه أحمد وابن المديني وإسحاق وجماعة كثيرون وكان هو الفيصل بين السني والجهمي هذا الحديث ، هذا الحديث تلقاه أهل المعرفة بالقبول وإنما أنكره ابن خزيمة رحمه الله في كتاب التوحيد وأجمع أهل السنة على أن ابن خزيمة زل في ذلك .
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : وزل ابن خزيمة في حديث الصورة غفر الله له .
ورد شيخ الإسلام على ابن خزيمة كلامه في تضعيف هذا الحديث وفي ألفاظه في نحو مئة صفحة في رده على الرازي في جزء مخطوط لم يطبع وقد أورده الشيخ حمود التويجري رحمه الله تعالى في كتابه عقيدة أهل الإيمان .
المقصود أن قوله (وَمَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ؛ وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك) يعني وجب الاعتقاد بما دلت عليه من الصفات لأن كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ واجبٌ الإيمان به من جهة الأخبار .
فنصدق بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام .
وهذا القدر وهو قبول الأحاديث على النحو الذي ذكرت هو طريقة أهل السنة والجماعة من أهل الحديث فقط وأما غيرهم فاختلفوا في ذلك :(1/398)
- فذهب أهل الاعتزال والتجهم إلى أن العقائد لا يؤخذ فيها إلا بالقرآن أو بالمتواتر .
وأن غير ذلك - يعني المتواتر اللفظي - وأن غير ذلك فإنه لا يجوز أخذ العقائد منه وهذا مذهب المعتزلة كما ذكرت والجهمية والفلاسفة وطوائف تبعوهم في ذلك ..
- الثانية الأشاعرة و الماتريدية ومن نحا نحوهم و الكلابية قبلهم .
قالوا نثبت الأحاديث أحاديث الآحاد ولكن إذا كانت أحاديث الآحاد توهم تشبيها فإنّا نفوضها أو نؤولها على قاعدتهم المعروفة :
وكل نص أوهم التشبيها ... أوله أو فوض ورم تنزيها
(كل نص) يعني من الكتاب أو السنة آحاد أو غير آحاد .
(أوهم التشبيه أوّله) أوّله اصرفه عن معناه الظاهر إلى معنى آخر بقرينة عدم جواز التشبيه القرينة العقلية .
(أو فوض) أثبت لفظا مجردا عن المعنى .
(ورم تنزيها) تنزيها لله جل وعلا .
وهذا الذي قالوه فيه سلب لأحاديث النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن الدلالة في هذا الباب العظيم .
وباب الصفات باب عظيم جدا بل هو باب المعرفة والعلم بالله جل وعلا فإذا كان لا يقبل فيه كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فمن يُقبل في هذا الباب ؟
وما أحسن قول الجويني حيث يقول : إنني كنت زمانا على عقيدة أو على طريقة المؤولين ، قال : ثم إني تأملت ورأيت أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كان يتكلم بالكلام الذي فيه الإخبار عن صفات الله جل وعلا في مجالسه وفي خطبه وفي أسفاره وفي حضره ويسمع ذلك منه الذكي والبليد ويسمع ذلك منه الأعرابي والحاضر ويسمع ذلك منه المهاجر وغير المهاجر ولا يُتْبِعه عليه الصلاة والسلام ولو في مرة واحدة بما يصرف كلامه عن ظاهره .
قال : فدلنا هذا على القطع بأن ظواهر الأخبار التي قالها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الصفات أو في الغيبيات عموما أن ظاهرها مراد .(1/399)
وهذا هو الذي يثبته أهل السنة وهي حجة جيدة منه لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يجوز له أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة .
وأحاديث الصفات هذه لا شك أنها إذا كانت ظواهرها غير مرادة فإنها تفضي في نفس العامة إلى التشبيه وإلى التمثيل .
وهذا لا يجوز أن يقع في قلوب العامة .
فدل إذن على أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أخبر بها لأجل إثبات ظاهرها لله جل وعلا ولكن على ما يليق به إثبات معنى لا إثبات كيفية لأن القاعدة فيما وصف الله جل وعلا به نفسه أو وصفه به رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } فإذن :
- موقف المعتزلة والفلاسفة من أخبار الآحاد الرد مطلقا .
- وموقف الأشاعرة و الماتريدية وقبلهم الكلابية من أخبار الآحاد التشاغل بتأويلها أو تفويضها .
بعض أهل العلم يسلك طريقة بين هذه وتلك .
يعني بين طريقة الأشاعرة وبين طريقة أهل السنة وهو البيهقي والخطابي وجماعة ممن هم على رأس طبقات الأشعرية الذين اشتغلوا بالحديث وينسبون إلى أهل الحديث من جهة اعتنائهم به لا من جهة اعتقادهم .
فالبيهقي مثلا في كتابه الأسماء والصفات ينوع ، فإذا كانت الصفة دل عليها القرآن والسنة وليس عنده فيها تأويل يثبت الصفة يقول : (باب إثبات الوجه لله) (باب إثبات اليدين لله) إلى آخره
إذا كان ثَمَ تأويل عنده فإنه يعبر عنه بأنه (باب ما جاء في كذا) (باب ما جاء في ضحك الله) (باب ما جاء في نزول الله) (باب ما جاء في كذا) إلى آخره .
وهذا تفريق ليس عليه دليل ولا حجة إلا أنه أراد أن يسلك طريقة أهل الحديث فلم يقوَ لأجل رواسب الأشعرية في باب الصفات عنده .
وقوله (وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك) وجب يعني أن الإيمان بها فرض لا يجوز ترْكه فمن ترَكه كان مخالفا في هذا الأصل مبتدعا فيه .(1/400)
لأن من قال أن هذه النصوص في الصفات لا يجب عليّ الإيمان بها ولا التصديق بها لأنها أمور غيبية ولكن أنا أستجيب وأعمل وأطيع الله جل وعلا ورسوله في العمليات وهذه الاعتقاديات للخلاف في ذلك إلى آخره فإنه لا يجب عليّ أن أعتقد فيها اعتقادا معينا .
نقول هذا باطل ومحرم وبدعة عظيمة وكبيرة من كبائر الذنوب لأن ما أنزل الله في كتابه أو أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام فهذه يجب الإيمان بها .
لأن معنى الإيمان والشهادة له بأنه الرسول عليه الصلاة والسلام معنى ذلك أن تصدِّقه فيما أخبر به
فإذا ما صدقت أو شككت أو قلت لا يجب علي ذلك فلم تأت بالشهادة على وجهها .
وكان ذلك من نواقص الشهادة للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بالرسالة .
- فمن لم يعتقد ما جاء به الرسول فهو كافر بالله جل وعلا .
- ومن رد ما جاء به الرسول فهو كافر بالله جل وعلا .
- ومن قال في نص من النصوص لم يجب عليّ الإيمان بذلك بهذا النص فإنه مبتدع ضال وقد يصل إلى الكفر .
وشيخ الإسلام في هذا ينبهك إلى هذا الأصل العظيم بقوله (وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك) .
وهذا الوجوب لمن سمعها يعني هو وجوب على من سمع وليس الواجب هذا مما يصَحَّح به الإيمان لأن واجبات الإيمان منها :
- ما هو ركن - يعني شرط - .
- ومنها ما هو واجب على من بلغه .
فهناك من أمور الإيمان ما لو لم يعتقده المكلف كان كافرا غير مؤمن أصلا .
ومنه ما لو لم يعتقده لصح إيمانه لكن إذا بلغه وجب عليه الإيمان بذلك .
وهذا تعرفون الكلام عليه في الفرق بين الإيمان الإجمالي والإيمان التفصيلي وأن المخاطَب به الناس جميعا الإيمان الإجمالي بما أوجب الله جل وعلا الإيمان به ، وأما الإيمان التفصيلي فهو لمن بلغه النص الخاص في كل مسألة من تلك المسائل في الأمور الغيبية صفات الله أو أسمائه إلى آخره .
وقوله (وَجَبَ الإيمَانُ بِهَا كَذَلِك) يعني من جهة الحكم .
كذلك من جهة الطريقة .(1/401)
فنحن نؤمن بالصفات التي جاءت في كتاب الله من غير تحريف ولا تمثيل ولا تعطيل فنثبت الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية كذلك ما جاء في السنة على هذا النحو لا تتجاوز القرآن والحديث .
بدأ في ذِكر ما جاء في السنة .
وما سيذكره منه ما لم يأت في أدلة الكتاب ومنه ما جاء في أدلة الكتاب .
فمثلا يذكر النزول والفرح والضحك ونحو ذلك وهذا لم يأت في القسم الأول .
ويذكر المعية والرؤية والعلو وهذا قد جاء في القسم الأول .
قال رحمه الله تعالى .
في أحد بيسأل هنا ؟
......
على كل حال أنا عبارتي أظنها دقيقة إن شاء الله ضابطة لكن أعيد لك معناها :
إنكار ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام إذا أقر أنه كلامه عليه الصلاة والسلام ثم لم يؤمن به هذا كافر ، يقول أنا أعلم أن هذا كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لكن ما أؤمن به أو ما أصدقه فهذا كفر بالله جل جلاله .
أما إذا قال لا يثبت هذا عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، لا هذا ليس بصحيح هذا آحاد ويعنون بالآحاد ما نقله واحد عن واحد وناس يغيرون المعنى وعجم وإلى آخره نقلوا هذا الأحاديث العظيمة فلا نأخذ بها في العقيدة ، هذا يكون عدم تصديق بالنقل وليس عدم تصديق بكلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، يعني أنه لم يثبت عندهم أنه كلام رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .(1/402)
فإذا ثبت عند أحد كلام النبي عليه الصلاة والسلام وقال أنا أعلم أن هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام ولكن لا أؤمن به فهذا كافر بالله جل جلاله ، أما إذا رده لأجل عدم صحة النقل أو شك في النقل مثل ما يكون من البعض في هذا العصر يشككون حتى في روايات البخاري ومسلم فما يشكك هو أو ما يرد المتن لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قاله ، لا ، هو يقول هذا دخله التحريف ، هذا نقْله ولو صححه البخاري هذا فيه ضعف لأنه ما يعقل أن يكون كذا ولا يعقل أن يكون كذا ، هذا ليس بكفر ، هذا ليس بكفر لكنه طريقة من طرق المبتدعة .
أما من ثبتت عنده السنة ثبت عنده قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وقال أعلم أن هذا كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وأرده لا أؤمن بهذا فهذا لا شك أنه كافر بالله جل وعلا لأنه لم يلتزم بما جاء به الرسول ولم يقبل .
......
لا ما يدخل في ذلك لأنه ما تلقاه ، أولا ليس من الحديث هذا واحد وليس من كلام النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثم هذا من اجتهاد مجاهد يكون هذا اجتهاد من مجاهد ذكره اجتهادا وهو ما يُثْبَت صفة من الصفات .
لكن أثر مجاهد هذا كان فاصلا بين أهل السنة وغيرهم في زمن من الأزمنة ، في الأزمنة الأولى كان هو الفارق أثر مجاهد في إجلاس النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ على العرش وقال به جماعة من أهل العلم لأجل أن الإجلاس فيه إثبات استواء الله على عرشه بذلك سبحانه ، ولهذا يهتمون به ، فمن أنكر خبر مجاهد فهو جهمي لماذا ؟ لأنهم لا يريدون - من أنكره - لا يريد إنكار الفضيلة الخاصة بالنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وإنما يريد إنكار الاستواء على العرش وعلو الله جل وعلا بذلك ..
انتهى الشريط الرابع عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الخامس عشر
فمن أنكر خبر مجاهد فهو جهمي لماذا ؟(1/403)
لأنهم لا يريدون - يعني من أنكره - لا يريد إنكار الفضيلة الخاصة بالنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وإنما يريد إنكار الاستواء على العرش وعلو الله جل وعلا بذلك .
ولهذا كان هذا الأثر عن مجاهد في إجلاس النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ على عرش الله جل وعلا أنه فارق بين أهل السنة وأهل البدعة والتجهم ، لأن أهل السنة يروونه ويقبلون ما جاء به مجاهد في هذا الحديث لكن ما تفرد به من جهة الإجلاس لا يأخذون به ويقولون هو من قول مجاهد وعلى عهدته لكن هو يشمل العلو والاستواء وهذا رواه أهل الحديث والأمة وتلقته - تلقت يعني مضمونه - بالقبول .
هذا مثل حديث الأوعال ، له نظائر ، في أحاديث تضعف أسانيدها وبعضها يكون واهيا .
لو رأيت مثلا كتاب العرش وما جاء فيه لابن أبي شيبة تجد فيه أخبارا ضعيفة وأخبارا ضعيفة جدا إلى آخره يريد الناقل يريد المؤلف بذلك أن هذه الأخبار قبلها أهل السنة يعني قبلوا بمضمونها بما دلت على استواء الله على عرشه ودلت على علو الذات لله تبارك وتعالى .
فلا يدخل أثر مجاهد في ذلك لأن هذا الكلام يراد به ما جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام .
ثبوت النزول الإلهي
إلى السماء الدنيا
على ما يليق بجلاله
قال رحمه الله تعالى (َفَمِنْ ذَلِكَ)
ومن ذلك هذا يُشعِر بأنه لن يأتِ بكل السنة وإنما سيأتي بطرف مما يستحضره من ذلك .
قال:مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : " يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ومن حديث غيره وكما ذكرت لكم هذا الحديث من المتواتر .(1/404)
تَواتَرَ الحديث بنزول الله جل وعلا في الليل ، واختلفت الألفاظ ولكن النزول من حيث هو متواتر .
هذا الحديث فيه إثبات النزول لله جل وعلا لأنه قال (يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ)
وقوله (يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا)
النزول لما كان صفة لأن النازل هو الله جل وعلا والذي ينزل إلى سماء الدنيا هو الله جل وعلا ، ونزوله جل وعلا نزول يليق بجلاله وعظمته { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } فليس كنزول المخلوق من أنه ينتقل من مكان إلى مكان فيكون المكان الأول إذا كان أرفع قد أظله بعد نزوله إلى المكان الذي هو أخفض منه ، هذا في حق المخلوق ولا يلزم ذلك في حق الله جل وعلا بل هو جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
فإذن نثبت النزول إثبات معنى لا إثبات كيفية وإثبات من غير تمثيل ومن غير تجسيم ونزول الله جل وعلا كما يليق بجلاله وعظمته .
أهل السنة اختلفوا في النزول : هل يقال ينزل الله جل وعلا بذاته ؟ أم لا يقال ؟ أم يطلق اللفظ ؟ على ثلاثة أقوال :
" منهم من قال ينزل ربنا بذاته وهذا قول طائفة من أهل الحديث والسنة وذلك لأن ينزل ربنا بذاته نحتاجها حتى لا يتوهم متوهم أنه نزول أمره كما يؤوله المؤولة أو نزول رحمته .
" قال آخرون : لا ، لا نقول ينزل بذاته ونمنع من هذا القول ، فعندهم قول القائل ينزل ربنا بذاته أو إثبات النزول لله إلى سماء الدنيا بذاته أن هذا باطل ومردود ، هذا قول طائفة أخرى أيضا من أهل السنة .
" والقول الثالث وهو الصواب أن لا يطلق هذا ولا هذا ، لا يُنْفَى ولا يُثْبَتْ ، لأن قاعدتهم في السنة أنه لا يتجاوز القرآن والحديث ، فالحديث أثبت النزول ولم يقل فيه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بذاته فنثبته كما أثبته عليه الصلاة والسلام .(1/405)
(يَنْزِلُ رَبُّنَا) نقول ينزل الله جل وعلا فيه إثبات صفة النزول لله ولا نقول (بذاته) ولا نقول (لا يجوز أن نقول بذاته) لا نثبت ولا ننفي .
وإذا قال قائل : هل النزول بذات الله جل وعلا ؟ هل تقولون النزول بذات الله ؟
نقول نعم ، نقول النزول بذات الله لكن هذا عند المناظرة ، عند الحِجاج بنفي التأويل ، وهذه طريقة يسلكها الدارمي في رده على المريسي وغيره فيثبتوا ألفاظا عند المناظرة والرد لا تُثْبت على وجه الاستقلال - وهذه قاعدة مهمة فيما يُثبَت عند الردود لأجل نفي التأويل والمعاني الباطلة وما لا يثبت من ذلك - .
هنا في قوله (يَنْزِلُ رَبُّنَا) ثَم بحث معروف وهو ما أثاره بعضهم من أنه : هل نزوله بخلو العرش منه أم لا ؟
قال بعض أهل الحديث والسنة : يخلو منه العرش ، وأداه إلى هذا القول وألجأه إليه أن النزول في فهمه لا يكون حقيقة حتى يلتزم بهذا .
وهذا الذي التزمه باطل ، بل الصواب الذي عليه المحققون وعامة أهل السنة وأهل الحديث وأئمة سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أن الله جل وعلا مستو على عرشه وينزل كما يليق بجلاله وعظمته فينزل مع استوائه على عرشه ويدنو من خلقه عشية عرفة مع استوائه على عرشه ، ويأتي لفصل القضاء يوم القيامة مع استوائه على عرشه جل وعلا .
وقوله هنا (حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ)
هذه اختلفت فيها الروايات ففيها (حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ) وفيها (حين يبقى نصف الليل) وفيها (حين يمضي ثلث الليل) وفيها شك (حين يمضي نصف الليل أو ثلث الليل) أو (حين يبقى ثلث الليل أو نصف الليل) يعني رويت بالشك ، وأصحها هذا اللفظ الذي ساقه المصنف ، وبعده الأحاديث التي فيها ذكر النصف (حين يبقى نصف الليل) أو (حين يمضي نصف الليل) .
(فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟)(1/406)
(فَأسْتَجِيبَ) هذا منصوب لأنه جواب الحض (مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟)
وقوله (مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟) الدعاء يعم دعاء المسألة ودعاء العبادة ، والاستجابة هي استجابة لدعاء المسألة ولدعاء العبادة .
ففي دعاء المسألة يُعْطَى السؤال وفي دعاء العبادة يعطى الأجر ، وقد يكون هذا وهذا وقد يمنع من واحد ويعطى الآخر .
فالاستجابة - استجابة الله لدعاء الداعي - أعم من إعطاء عين المسؤول ، فقد يسأل شيئا بعينه فلا يعطاه ومع ذلك من دعا الله استجاب له وذلك لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (ما من داع يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعطى سؤاله وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها وإما أن تدخر له يوم القيامة)
وهذه الثلاث جميعا هي استجابة .
فالله جل وعلا يجيب الدعاء ويستجب من دعاه فقد يكون بإعطاء عين المسؤول وقد يكون يُصرَف عنه من الشر مثل ما سأل ، يكون يسأل حاجة والله جل وعلا لم يشأ ولم يرد أن يعطيه عين حاجته لحكمته جل وعلا فيصرف عنه من الشر مثلها أو يدخرها له يوم القيامة .
ولهذا جعل بعد الدعاء الذي هو العام جعل بعده السؤال الخاص فقال (مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟)
ثم العطاء قد يكون عطاء مغفرة وقد يكون عطاء حاجة وقد يكون عطاء عافية .
ولهذا انتقل منه إلى ما هو أخص بقوله (مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟) - متفق عليه - .
فإذن أهل السنة يثبتون النزول حقيقة لله جل جلاله وأما المبتدعة من المعتزلة وتلامذتهم الأشاعرة والكلابية والماتريدية إلى آخره فينكرون النزول ، منهم من ينكره أصلا ويفسره بالمخلوق مثل المعتزلة ومنهم من يقول ينزل أمره هؤلاء المؤولة الأشاعرة وغيرهم ينزل أمره وتنزل رحمته ونحو ذلك وهذا باطل بما سنوضحه إن شاء الله في الدرس القادم .(1/407)
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
إثبات أن الله
يفرح ويضحك ويعجب
وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهُ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزَلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ". حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهَا قَدَمَهُ] فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فهذه الأحاديث التي ذكرها شيخ الإسلام مستدلا بها على إثبات صفة (الفرح) و (الضحك) و (العَجَبْ) و (القدم) لله جل وعلا هي من جنس النصوص الأخر التي فيها إثبات صفات الله جل وعلا .
والنصوص جاءت بإثبات الصفات لله جل وعلا الصفات الذاتية والصفات الفعلية ، والصفات الفعلية اللازمة وكذلك الصفات الفعلية المتعدية .
فباب النصوص جميعا باب واحد إذا أُقِرَ بأخذ صفة من نص فإنه في ضمن ذلك الإقرار أنه تؤخذ الصفة من النصوص الأخر .(1/408)
فلهذا أهل السنة والجماعة يُجرون النصوص مجرى واحدا ويثبتون الصفات التي في النصوص دون تفريق بين نص ونص ، فإذا ثبتت الصفة بكتاب الله جل وعلا أو بسنة رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فإنهم يثبتون ذلك ونفوسهم مطمئنة دون حرج وتحرج في النفس لأنهم يثبتون النصوص على قاعدة { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } سبحان ربنا وتعالى .
وصفات الله جل وعلا كما سبق أن ذكرنا لكم منها صفات ذاتية ومنها صفات فعلية
والصفات الذاتية تفسر بأحد تفسيرين :
" منهم من فسر الصفة الذاتية بأنها الصفة التي لم تنفك عن الموصوف أزلا ولن تنفك عنه أبدا .
" ومنهم من قال الصفة الذاتية هي التي لا يزال الله متصفا بها لا تنفك عنه بدون ذكر الأزل والأبد .
وبين هذين فرق لأن بعض الأفعال التي فعلها الله جل وعلا واتصف بها اتصف بها جل وعلا ليس في الأزل وإنما اتصف الله جل وعلا بها لما شاء أن يتصف بها وذلك مثل الاستواء على العرش فإن الاستواء على العرش صفة فعل من جهة أن الله جل وعلا لم يكن مستويا على العرش ثم استوى عليه ، وهي صفة لازمة .
وعلى حد التعريف الثاني للصفة الذاتية فإنها تدخل في الصفة الذاتية بأن الله استوى على العرش ولا يزال مستويا عليه .
وأما التعريف الأول فلا يُدخَل فيه مثل صفة الاستواء لأن صفة الاستواء لم تكن ملازمة لله جل وعلا أزلا وإنما هو جل وعلا لم يكن متصفا بها ثم اتصف بها بمشيئته وقدرته سبحانه وتعالى .
فإذن قد تكون الصفة فعلية من جهة وذاتية من جهة أخرى ونقصد بالفعلية أنها التي تكون قائمة بمشيئة الله جل وعلا وبقدرته .(1/409)
أهل السنة ما فرقوا في النصوص بين هذه الأنواع وإنما أجروا الجميع مُجرى واحدا وما ثبت في السنة عندهم مثل ما ثبت في القرآن لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو الذي أخبر بذلك وما يخبر به عن ربه جل وعلا صادق فيه مصدوق يجب تصديقه فيه لأنه صادق عليه الصلاة والسلام فيما يبلغ عن الله .
والصفات وذكر الصفات هي من أعظم مهمات الرسل لأن بها العلم بالله جل وعلا .
لهذا نقول إن طريقة أهل السنة في السُنن وفيما جاء في القرآن من ذكر الصفات أن الجميع عندهم واحد وسواء ثبت ذلك في السنة في الصحيحين أو في غيرهما ما دام الحديث صحيحا وكذلك إذا ثبت في قراءة مشهورة أو في قراءات أُخَرْ ما دامت أنها متواترة فإنهم يثبتون الصفة بذلك .
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ذكر في هذا الموضع صفات فعلية ومنها صفة (الفرح) وصفة (الضحك) وصفة (العَجَبْ) .
وهذه الصفات فعلية لازمة - يعني أنها غير متعدية - لأن ضحك الله جل وعلا صفة لازمة لم يفعلها بغيره ، صفة الضحك لازمة لم يفعلها بغيره .
كذلك فرح الله جل وعلا لازم لم يفعله بغيره ، كذلك عجب الرب جل وعلا لازم لم يفعله بغيره.
والمؤولة يقولون : فعل بغيره هذه الأشياء .
أضحك غيره ، عجّب غيره ، أفرح غيره إلى آخره .
فيجعلونها ليست من الصفات وإنما هي من الأفعال المنفصلة مثل الخلق وغيره فأرجعوها إلى أنها مخلوقة أو أن المراد بها التأويل كما سيأتي تفصيله .
المقصود من ذلك أن هذه الأفعال هي من أشد ما ينكره المبتدعة من أهل التجهم والاعتزال والأشعرية والماتريدية
وصفة الفرح وصفة الضحك وصفة العَجَبْ هذه ليس فيها غرابة بل هي من جنس صفة اليد لله جل وعلا وصفة العلو لله جل وعلا وصفة العينين لله جل وعلا وصفة الأصابع لله جل وعلا لأن الباب باب واحد(1/410)
ومن دخل في التشبيه تعاظم أن تكون هذه الصفات لله جل وعلا وأما من أيقن بأن المقصود بالإثبات هنا إثبات معنى لا إثبات كيفية لأن الله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فإنه يكون هذا الباب يسيرا عليه بفضل الله جل وعلا وبنعمائه .
الحديث الأول قال شيخ الإسلام (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ)
هذا الحديث فيه إثبات صفة الفرح لله جل وعلا بل فيه إثبات أن فرح الله جل وعلا يفاضَل بفرح غيره لأنه قال (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا) فيها إثبات صفة الفرح وفيها إثبات أن فرح الله جل وعلا هو أشد من فرح غيره .
وهذا يدل على الاشتراك في أصل معنى الفرح بين المتفاضلَيْن لأن المتفاضلَيْن لا بد أن يكون بينهما قدر مشترك حتى يستقيم التفاضل .
قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هنا (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ التَّائِبِ مِنْ أَحَدِكُمْ) إلى آخره
(لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا) هذا واضح أن هذه الصفة ملازمة لله جل وعلا لأنه فرح سبحانه وتعالى .
وفرحه جل وعلا كما ذكرت آنفا صفة فعلية لكنها لازمة .
وأهل السنة يثبتون الفرح ويقولون إن الفرح معلوم المعنى والضحك معلوم المعنى والعَجَبْ معلوم المعنى ولا يمكن حده بحد واضح بين لأن هذه المعاني راجعة إلى القلب - يعني قلب الإنسان - ولما كانت راجعة إلى القلب فإن الإنسان إذا فسرها فسيفسرها بمعهوده ، سيفسرها بما أدرك في الخارج والمعاني هذه معان كلية توجد كلية في الذهن ، توجد كلية في التصور أما في الخارج فتختلف بالتخصيص والإضافة .
ففرح فلان غير فرح فلان وضحك فلان غير ضحك فلان آخر ، أما مجموع اسم الضحك أو اسم الفرح فإن هذا يوجد في معنى كلي في الذهن وأما في الخارج فلا يوجد إلا مضافا .(1/411)
وإذا كان كذلك كانت المعاني الذهنية العامة يصعب التعبير عنها بعبارة جامعة تحدها وتخرج عداها
ولهذا لا تجد من أهل السنة من يفسر هذه الألفاظ تفسيرا يُخْرِجُ ما عداها عنها ويقولون فرح الله جل وعلا معناه كذا وكذا .
فيقولون الفرح معلوم وقد يفسرونه ببعضه من باب التقريب لكن الفرح معنى كلي يعلمه العبد يعلمه الناس ، كلٌّ في لغته يدرك معنى الفرح لأن الفرح شيء يحسه المرء ضرورة في نفسه والضحك شيء يحسه المرء ضرورة في نفسه والعَجَبْ شيء يحسه المرء ضرورة في نفسه .
وسيأتي أن انفراج الشفتين وظهور الأسنان أن هذا أثر الضحك وليس هو الضحك نفسه .
المقصود من ذلك أن مثل تفسير هذه الألفاظ وأمثالها مما سيأتي أنها لا يمكن أن تحد بحد جامع لأنها لا توجد كلية إلا في الأذهان ولهذا نقول الفرح معلوم ، وبالنسبة للإنسان يفسر الفرح بكذا وكذا ، بالنسبة لبعض خلق الله إذا كان يفرح نقول يوصف بكذا يعني المخلوق وفرحه معناه كذا وكذا يعني بما نراه
ولهذا ما نقول إن فرح الله معناه كذا لأن من فسر بذلك فإنه لا بد أن يقوم في ذهنه الواقع الذي شاهده والله جل وعلا متنزه عن مماثلة الخلق في صفاته .
فتُثبت الصفة بما يليق بجلال الله جل وعلا في معناها الكامل وأشد الكمال اللائق به جل وعلا .
ولهذا نقول الفرح معلوم ، وأهل السنة يفسرون ذلك على قاعدة الإمام مالك حين سئل عن الاستواء قال (الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ولا أراك إلا مبتدعا فاخرج) .
وقال أهل السنة مثل هذا في النزول ، ويقولون مثل هذا في الفرح وفي الضحك وفي العَجَبْ إلى آخره .
الفرح معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ، وهكذا في الضحك ، الضحك معلوم والكيف غير معقول إلى آخره .
وذلك لأن هذه الصفات المقصود منها إثبات المعنى أما الكيفية فلا نعلم كيفية اتصاف الله جل وعلا بصفاته .(1/412)
إذن في هذا الحديث إثبات صفة الفرح لله جل وعلا وهذا الإثبات على القاعدة أنه إثبات من غير تمثيل ومن غير تعطيل .
والممثلة مجسمة والمعطلة نفاة وأهل السنة بين هؤلاء وهؤلاء فيثبتون ولا يعطلون ولا يكيفون ولا يمثلون
أما المخالفون في هذه الصفة فالمعتزلة يجعلون الفرح - على قاعدتهم - يجعلونه مخلوقا منفصلا يعني مما شأنه أن يفرِح .
والشيء إذا كان من شأنه أن يُفْرِح يسمى فرحا .
فهنا (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا) لأن هذا الفعل أو هذا الذي حصل في القصة وقول هذا الذي ضاعت راحلته وفقدها (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) هذا شيء من شأنه أن يُفْرِح لأن هذا العبد تاب توبة من وجد راحلته بعد أن ضاق عليه الأمر وقال هذه الكلمة .
فهذا الفعل الذي هو وجود الراحلة وقول هذا وتحصيله للراحلة بعد فقدها هذا يكون منه أشد الفرح والله جل وعلا يفرح بل هو أشد فرحا بتوبة العبد من هذا .
فهذا العبد بما حصل له من شأنه أن يُفْرِحَه وكذلك التوبة من شأنها أن تفرح العبد فصار الفرح عندهم يطلق عندهم على ما من شأنه أن يفرح اللي هي توبة العبد .
والأشاعرة يؤولون ويقولون الفرح ليس المراد منه الحقيقة لأن الفرح إذا أثبت على حقيقته فإنه يقتضي التغير .
ويفسرونه بأن الفرح هو الرضا والرضا عندهم يفسر بإرادة الإحسان .
فرجع الأمر إلى أن الفرح يرجع عندهم إلى الإرادة لأنهم يرجعون الصفات إلى الصفات العقلية السبع التي أثبتوها .
فإذن يجعلون هذا تأويلا - كما ذكر الرازي في أساس التقديس وغيره - فيؤولون الفرح بأنه إرادة الإحسان الفرح عندهم هو الرضا والرضا إرادة الإحسان فرجع الفرح إلى أنه إرادة .
ولا شك أن هذا التفسير باطل كما أن التفسير الأول للمعتزلة أو التحريف الأول باطل لأن في كل منهما نفي للصفة .
فأمَّا أن تُجْعَل الصفة مخلوقا منفصلا فهذا لا شك بأنه مضاد لظاهر الدليل لأن الله جل وعلا (أَشَدُّ فَرَحًا) فظاهرٌ من اللفظ أنه لا يدخل فيه المخلوق المنفصل .(1/413)
(أَشَدُّ فَرَحًا) يعني هو (أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كان على رَاحِلَتِهِ) إلى آخره .
فإذن هو (أَشَدُّ فَرَحًا) من هذا الذي وُصِف وهذا يعني أنه ليس مخلوقا منفصلا ولا يمكن أن يكون لا في حقيقة الكلام ولا في مجازه ، بل هو وصف ملازم لأنه ميزه أيضا بأفعل التفضيل قال هو (أَشَدُّ فَرَحًا) بكذا وإذا كان كذلك لم يحتمل أن يكون مخلوقا منفصلا .
وقول الأشاعرة أقرب من قول المعتزلة لأنه يرجع إلى التأويل فأولوا الفرح بالإرادة ويُرد عليهم :
بأن الفرح شيء أولا والرضا شيء آخر وكل عبد يعلم من نفسه الفرق بين رضاه عن الشيء وبين فرحه به فإن الرضا عن الشيء فيه الطمأنينة إليه وأما الفرح به فيه الطمأنينة وزيادة البهجة والسرور واللذة بتحصيله أو بمشاهدته أو برؤيته أو بسماعه إلى آخره ، هذا في حق المخلوق ، فإذا كان في حق المخلوق نرى لزاما أن ثم فرقا بين الرضا والفرح كان ذلك دليلا على أن معنى الرضا غير معنى الفرح فإن الرضا يقصر عن الفرح ليس كل رضا فرحا .
والرضا محمود والفرح قد يكون بغير حق .
فلهذا ثم فرق بين الرضا والفرح .
الرضا طمأنينة النفس إلى الشيء وارتياحها إليه - يعني هذا من باب التقريب - لأن المعاني هذه لا يمكن أن تُحَد بحد بين لأن ما لها وجود في الخارج مثل ما ذكرت لكم في أول الكلام المعاني لا يمكن أن تُحَد بحد جامع لأن الذي يُحَد بحد جامع مانع الذي له وجود في الخارج الذي تراه ، فهذا الشيء الذي تراه أو تحسه ضرورة بأحد الحواس الخمس هذا الذي يمكن أن تحده لكن الذي يمكن أن تحده بحد جامع مانع هو الذي يُرى هذا يمكن أن تحده.
أما المعاني فليس ثم حد جامع مانع فيها .(1/414)
لهذا مثل الهواء لا يمكن أن يحد بحد جامع مانع لأنه إنما أُحِسَّ به إحساس ولم يُرَ ، كذلك ما يسمى في العصر الحاضر الجاذبية ما يمكن أن تُحَد هي نفسها وإنما تعرف بأثرها وهكذا في أشياء كثيرة مما تعلمون ، إذا لم يكن الشيء يرى بنفسه لا يمكن أن يحد حدا جامعا دقيقا .
لذلك نقول : هذه المعاني إذا فُسرت فهي تفسير تقريب ونحن نرى الفرح من الإنسان ونرى الرضا من الإنسان .
لذلك نقرب الرضا منه بالمعنى ونقرب الفرح منه بالمعنى .
فنقول الرضا في تفسير الأشاعرة بأن الفرح هو الرضا نقول هذا غلط لأن رضا الإنسان يعلم هو من نفسه أنه غير فرحه فقد يكون راضيا غير فرح وقد يكون فرحا مسرورا بشيء وهو غير راض عنه من كل جهة .
فإذن الرضا يختلف عن الفرح ، فالرضا كما هو تقريب معناه كما ذكرت طمأنينة وارتياح للشيء أما الفرح ففيه زيادة عن ذلك بأنه بهجة وسرور تنال نفس المرء ولذة تكتنف قلبه من جراء ما شاهد أو حصل عليه إلى آخره .
إذن فتفسير الفرح بالرضا نقول :
" هذا لغة باطل ، هذا واحد .
" الثاني أن اللغة ليس ثم فيها ترادف وأن كل لفظ في اللغة يختلف عن المعنى الآخر ، والنصوص جاء فيها استعمال لفظ الفرح وجاء فيها استعمال لفظ الرضا قال جل وعلا { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وقال { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } وأما لفظ الفرح فجاء في السنة في قوله (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِه) إلى آخره فإذن استعمال لفظ الفرح غير استعمال لفظ الرضا فدل على أن لهذا معنى ولذاك معنى .(1/415)
" الجواب الثالث نقول إنكم جعلتم الفرح بمعنى الرضا والرضا رجع عندكم إلى معنى الإرادة وما السبب في ذلك ؟ السبب أنكم قلتم إن إثبات الفرح فيه التشبيه والتمثيل والتجسيم لأن الفرح شيء من التغير وهذا يتنزه عنه الله جل وعلا ، ونقول : يلزمكم فيما أثبتم من جنس ما نفيتم لأنكم تثبتون الإرادة والإرادة تكون للمخلوق وتثبتون الوجود والوجود يكون للمخلوق وتثبتون الكلام والكلام يكون للمخلوق إلى آخره ، وهذه الأشياء إذا كانت ثبتت للمخلوق فإذن إثباتها لله جل وعلا تجسيم لأنها ما قامت فيما رأيتم إلا بالأجسام ، المريد هو الجسم - يعني الإنسان الجسم الخاص - والمتكلم هو الإنسان إذن فيلزمكم فيما أثبتم من جنس ما نفيتم وإلا حصل التناقض والتناقض مبطل للحجة .
وهذا واضح جلي ولهذا يُلزم كل من نفى صفة من الصفات سواء كانت من الصفات الذاتية أو الفعلية اللازمة أو المتعدية أو الأفعال يُلزم بأن ما نفيت هو مثل ما أثبت فما الفرق بينهما ؟
من أين أخذت أن الله جل وعلا يريد الإحسان ؟
الصفة عندك الإرادة لكن يريد الإحسان أخذتها من الدليل ، فإذن تثبت هنا كما أثبت هناك .
وهذا واضح ، فينبغي لك أن تتفهم هذه الحجة في مناقشة المؤولين لأن من أعظم ما يرد به عليهم ادعاء التناقض ، أنت تثبت صفة وتنفي صفة فما الفرق بين ما أثبتَّ وما نفيت ؟
ولا يقولون بفرق .
حتى الجهمي يعني ما في أحد أثبت وجود الله جل وعلا إلا وقال إن لذلك الموجود صفة حتى جهم الذي نفي جميع الصفات سئل عن صفته فقال هو موجود .. فأثبت صفة الوجود ونفى البقية لأجل أنها صفات للمحدثات .
فيقال أيضا الوجود صفة للمحدثات والموجود محتاج إلى موجِد على رأيك وإذا كان كذلك فإن الموجود لما حصل الاشتراك الموجود اسم اشترك أو صفة اشتركت بين الإنسان وبين الله جل وعلا فلماذا لم تنفها لقصد التجسيم والتمثيل ؟
كذلك المعتزلة انتبهوا لهذه الحجة فنفوا الصفات كلها وأثبتوا ثلاث .(1/416)
(والأشاعرة) نفوا الصفات كلها وأثبتوا سبع لأجل هذه الحجة ، لأنه رأوا أنه يلزمهم الإثبات فأثبتوا .
أما أهل السنة فلم يفرقوا بين شيء من كلام الله جل وعلا وأثبتوا الجميع كما جاء في الكتاب والسنة .
الصفة التالية صفة الضحك قال (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ؛ كِلاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ")
هذا فيه إثبات صفة الضحك لله جل وعلا .
وقوله (يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ) (يَضْحَكُ) فعل ولكن الفعل مشتمل على مصدر وهو الضحك ولهذا يثبت منه صفة الضحك لله جل وعلا لأن المقصود هنا الإثبات سياق الإثبات .
والضحك صفة لازمة مثل ما ذكرنا فعلية لازمة تقوم بالله جل وعلا بمشيئته وقدرته وهي لازمة وأهل السنة على قاعدتهم يثبتون الضحك لله كما يليق بجلاله وعظمته .
الضحك في المخلوق يُرى بانفراج الشفتين وظهور الأسنان إلى آخره والله جل وعلا لا يثبت له أسنان ولا فم وذلك في حق المخلوق ثابت .
لهذا نقول إن الضحك لله جل وعلا كما يليق بجلاله وعظمته لا نعلم كيفية ذلك ، أما هذا الأثر فإنه نتيجة للضحك - يعني انفراج الشفتين وظهور الأسنان أو تغير بشرة الوجه وتغير السنحة بعض الشيء وانضمام بعض جلد الوجه والخدين بعضه إلى بعض - هذا كله أثر من آثار الضحك ليس هو الضحك ... (1)
يردون إثبات هذه الصفة قالوا الضحك هو تغيير سنحة الوجه وانفراج اللهوات إلى آخره وهذا منزه عنه الله جل جلاله .
نقول لا ، الضحك أصله صفة قلبية ينشأ عنها أثر في المخلوق في الإنسان بهذا الذي تراه أما هو فهو شيء ينشأ ثم بعد ذلك يحصل في الإنسان هذا الأثر .
فإذن تفسير الضحك بأثره هذا غلط لأنه تجن على اللغة وإنما يُعلم الشيء بلازمه ففي الإنسان يعلم الضحك بهذا الشيء إلى آخره .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(1/417)
فإذن الضحك صفة من الصفات التي تثبت لله جل وعلا وعلى طريقة أهل السنة أنها من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تشبيه ولا تعطيل .
أما المبتدعة فعلى قاعدة أهل الاعتزال أنهم يجعلون الضحك مخلوقا منفصلا .
والأشاعرة يجعلون الضحك هو مثل الفرح ، يجعلون الضحك رضا أو علامة - يعني دليل الرضا ونحو ذلك - .
والرازي وغيره من المؤولة لما أتوا لهذه الصفة قال لا يمكن أن نصف الله جل وعلا بالضحك وقال أولا لأن الله جل وعلا قال { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } وإذا كان الله جل وعلا هو الذي أضحك وأبكى فيكون الإضحاك صفة أو فعل فعله بغيره فلا نثبت صفة له لأنه فعل فعله بغيره وإذا كان فعله بغيره فيمتنع أن نصفه به .
والجواب عن هذا أن الله جل جلاله كذلك يُرْضي عباده مع أنه موصوف بالرضا وهو جل وعلا يفعل بعباده ما يشاء من إغنائهم وهو جل وعلا أغنى وهو جل وعلا الغني وهو سبحانه وتعالى يتصف بالصفة ويظهر أثر هذه الصفة في خلقه ، الله جل وعلا غني ويغني والله سبحانه وتعالى يَضحك وكذلك يُضْحِك .
ولهذا قال إنه جاء في هذا اللفظ ضبط آخر أنه - يعني في حديث آخر - غير هذا أنه يُضحِكُ الله جل وعلا فرام من ذلك نفي صفة الضحك أصلا وهذا باطل بهذا اللفظ الذي أورده الشيخ قال (يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ) هذا ينفي أن تكون يُضحِكُ لأنه ذكر الفعل وذكر المفعول وهذا يمنع ما أولوه .
أيضا مما ذُكر أن الضحك هو تغير سنحة الوجه كما ذَكر وهذا عندهم يجري في كثير من الصفات مثل الغضب قالوا غليان دم القلب ولهم في ذلك أمثال فهذه الأشياء يفسرونها ، يعني هذه الألفاظ يفسرونها بآثارها .
نعم غليان دم القلب هو أثر الغضب في الإنسان يغلي دم قلبه لأن له دم وله قلب لكن هذا أثر ليس هو تفسير الغضب نفسه وإنما شيء ينشأ عن الغضب .
كذلك الانفراج وتغير سنحة الوجه إلى آخره من آثار الضحك هذا شيء ينشأ عنه .(1/418)
فكونه ينفي الشيء لأجل انتفاء الأثر هذا تحكم وباطل من جهة اللغة وأيضا من جهة النصوص أيضا في هذا النفي تعطيل للنص وإثبات صفة الضحك جاءت في غير ما نص في عدة نصوص بألفاظ مختلفة وهذا يدل على أن إثباتها متعين لا يجوز تأويله بأي صفة أخرى مما يرمون .
وأولئك - يعني الأشاعرة - يجعلون الضحك بمعنى الرضا كما ذكرت أو بمعنى القبول .
يعني (يَضْحَكُ اللهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ) إلى آخره يعني أن الله قبل توبة هذا ودخوله في الإسلام ورضي عنهم فأدخلهم الجنة .
فيفسرون الضحك بالرضا والقبول ففيه من الرد عليهم ما سبق أن ذكرنا في الكلام على صفة الفرح .
الحديث الذي بعده قال (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ" حَدِيثٌ حَسَنٌ)
ويعني بالحديث الحسن ما تقاصر رواته عن رتبة الصحيح بأن نقله عدل خف ضبطه أو كما عرِّف
عرفه الخطابي وغيره أن الحديث الحسن هو ما اشتهر مخرجه وعدلت نقلته .
المقصود بالحديث الحسن يعني الحديث الحسن الاصطلاحي .
شيخ الإسلام تارة يستعمل الحسن بمعنى حسن المعنى وتارة يستخدم الحسن ويريد به الحسن الاصطلاحي ولكن أكثر ما يستعمله بمعنى الحسن الاصطلاحي وأما الحسن من جهة المعنى فإنه استعمله عدة مرات في أحاديث وحملت على أن المعنى حسن وليس حسنا على طريقة أهل الحديث
قال (وَقَوْلُهُ "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ) أولا هنا في بعض النسخ (وقرب خيره) وهذا ليس بجيد بل الصحيح (وَقُرْبِ غِيَرِهِ) والغِيَر يعني التغيير وقرب تغييره الشيء من حال إلى حال(1/419)
(عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ) إذا لم يأتهم المطر أو زادت عليهم الشدة والبأس فإنهم يقنطون والله جل وعلا يعجب (مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ) يعني وقرب تغييره .
و (قرب خيره) هو في معنى تغييره يعني قرب إرسال الخير إليهم .
(عَجِبَ رَبُّنَا) (عَجِبَ) هذا فعل ماضي وفيها إثبات صفة العَجَبْ لأنه مشتمل على المصدر .
وصفة العَجَبْ لله جل وعلا على ما يليق بجلاله وعظمته .
وقد جاءت هذه الصفة في عدة أحاديث عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كما في قوله (عجب ربنا من شاب ليست له صبوة) الحديث رواه أحمد في المسند وفي إسناده بعض الكلام
وفي سورة الصافات قال الله جل وعلا لنبيه { بل عجِبْتُ ويسخرون } { بل عَجِبْتُ } فيها إثبات صفة العَجَبْ لله جل وعلا على قراءة حمزة والكِسائي فإن فيها ضم التاء من (عجبتُ) والقراءة المشهورة { بل عجِبْتَ ويسخرون }
{ بل عجِبْت ُ } يعني عجب الله جل وعلا
وكذلك قوله جل وعلا { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } في سورة الرعد .
{ إِن تَعْجَبْ } أنت { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } يعني تعجب من عدم إيمانهم أو إنكارهم البعث إلى آخره مما قالوه { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } فالمتعجب هو الله جل وعلا في هذه الآية أيضا إثبات صفة العَجَبْ لله جل وعلا .
إذن صفة العَجَبْ لله سبحانه وتعالى دل عيها القرآن والسنة في نصوص متعددة
والعَجَبْ يكون من أحد شيئين :
" إما أن يكون العَجَبْ والتعجب من جهة عدم توقع حصول الشيء والجهل بحصوله ثم حصل على نحو ما فيُتَعَجَّب منه لأنه لم يكن يُتَوقَّع أو لم يكن يُظَنَّ أن يحصل كذا وكذا هذا المعنى الأول للعجب في اللغة أو في استعمالها .
" والثاني أن العَجَبْ يكون إذا حصل شيء لأحد من الخلق ويكون بالنسبة له - بالنسبة للمخلوق - فيه عدم علمه بالعاقبة وعدم نظره في حال نفسه ، فيكون يُتَعَجَّبُ منه لأجل حاله .(1/420)
فإذن المعنى الأول راجع إلى جهل المتعجِّب ، والمعنى الثاني راجع إلى حال المتعجَّبِ منه .
والمعنى الأول لما كان فيه الجهل وفيه عدم العلم صار منفيا عن الله جل وعلا والمثبَتُ لله جل وعلا المعنى الثاني وهذا من جهة التقريب كما ذكرت لكم وليس من جهة الحد .
يعني أن مورِد العَجَبْ هو (عجب ربنا) هو أنه حصل من المخلوق ما يُتَعَجَّبُ منه مما يدل على جهله بالعاقبة أو عدم علمه بحال نفسه أو بتقلباته إلى آخره .
المقصود أن يُثبتُ لله جل وعلا العَجَبْ على جهة الكمال ، أما العَجَبْ الذي فيه الجهل ومؤداه الجهل وعدم العلم والشك ونحو ذلك أو التفاجؤ بالأمر والانصدام به والانذهال بالشيء هذا كله ينزّه عنه الله جل وعلا لأن الله سبحانه يعلم ما حصل وما سيحصل وليس شيء عنده جل وعلا جديدا ولا غريبا ولا هو جل وعلا سبق علمه جهل أو نسيان فيتعجب لأجل نسيانه أو عدم علمه بل هو جل وعلا الكامل في صفاته .
وإنما يكون التعجب لحال المتعجَّبِ منه يعني فعل فعلا غريبا بالنسبة إلى نظرائه أو عجيبا بالنسبة إلى نظرائه فيدل ذلك على أن المتعجَّب منه لا يعلم العاقبة لا يعلم الحال على جهله على عدم النظر في حاله وقت عمل شيء من الأعمال .
إذن فقوله (عجب ربنا) يُثبت العَجَبْ على الوجه اللائق بالله وهو العَجَبْ بحق أو العَجَبْ الكامل لله جل وعلا الذي ليس فيه نقص ولا يؤدي إلى نقص بوجه من الوجوه وهو إثبات مثل الصفات الأخر لكن اضطرنا إلى التفسير ما سيأتي من ضرورة الرد على من أول هذه الكلمة .
قال (يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ) أيضا فيه إثبات صفة الضحك على ما ذكرنا .(1/421)
إذا تقرر ذلك فالعَجَبْ لله جل وعلا ثابت وهو دليل على كماله وعزته وقهره لخلقه وأن خلقه ضعاف فقراء إليه جل وعلا لا يعلمون ما يستقبلون ولا يعلمون أحوالهم بل أحوالهم على التردد وعدم فهمهم لأحوالهم كما ينبغي والله جل وعلا هو العالم بما سيكون وما يكون سبحانه وتعالى فيتعجب من حال عباده .
إذن فالعَجَبْ إثبات صفة كمال لله جل جلاله .
أما النفاة فنفوا هذه الصفة على ما ذكرنا في نظائرها فيما سبق وقالوا : العَجَبْ يطلق ويراد به المخلوق المنفصل مثل ما ذكرنا فيما سبق يعني ما يُتَعَجَّب منه .
فـ (عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ) هنا (عَجِبَ) يعني أنه نظر إلى ما يتعَجَّبُ منه الخلق وإلا فالله جل وعلا لا يتعجب عندهم .
فالشيء الذي وقع يُتَعَجَّبُ منه يَتَعَجَّبُ منه الخلق لو اطلعوا على ذلك لو عرفوا ذلك يتعجبوا والله جل وعلا أضاف الفعل هنا إلى نفسه عندهم لأنه حصل شيء يتعجبون منه .
ومنهم من يقول وإن صفة العَجَبْ لله جل وعلا أن معنى صفة العَجَبْ - اللي هم الأشاعرة - لله جل وعلا إظهار غرابة ما من شأنه أن يُتَعَجَّب .
فالمعتزلة عندهم أن العَجَبْ منفصل .
والأشاعرة عندهم أنه إظهار لما يُتَعَجَّب منه إما بالقول .. أو بالإشادة به أو بتعجيب الخلق منه وإما بالفعل بأن بفعل بهم فعل ما يُتَعَجَّب منه .
وهذا لا شك من جميع الجهات باطل لأن فيه نفي لصفة الله جل وعلا .
والذي قادهم إلى ذلك أن العَجَبْ فيه نوع نقص لأنهم قالوا إن العَجَبْ لا يكون إلا ممن لا يعرف الحقيقة ولا يعرف المستقبل ولا يعرف أن هذا سيحصل ، والجواب الذي أسلفنا ذكره هو أن العَجَبْ ينقسم إلى ما يكون من جهة عدم العلم وما يكون من جهة المتعجَّب منه وهم أوّلوا ذلك من جهة المتعجَّب منه .
فإذن يثبتون العَجَبْ لله جل وعلا ويكون عجبه لأجل حال المتعجَّب منه وليس مؤولا بأن عجب الله جل وعلا هو حال المتعجَّب منه وإنما عجبه لأجل حاله .(1/422)
وفرق بين أن يكون متعجِّبا لأن يكون هو المتعجِّب من أجل الحال أو أن يكون عجبه جل وعلا هو الحال نفسه أو يؤول بما ذكرت من التأويلات التي ذكروها .
المقصود من ذلك أن هذه الصفات ينفيها المبتدعة وأهل السنة يثبتونه جميعا وما ذكروه من التأويلات كل ذلك باطل والحمد لله جل وعلا على ظهور المحجَّة وضعف ما أوردوه فيما أولوا به تلك الصفات .
إثبات الرجل والقدم
لله سبحانه
قال (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ: قَدَمَهُ] فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط")
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الحديث فيه إثبات صفة القدم لله جل وعلا ، ورواية في الرِّجْل تُفسر برواية القدم وأن الله جل وعلا متصف بهذه الصفة .
والله سبحانه متصف بالساق ومتصف بالرجل ومتصف بالقدم ولم يرد غير هذه الثلاث :
القدم والرجل والساق لله تبارك وتعالى .
ونثبت ذلك كما جاء في النصوص من غير تأويل ومن غير تمثيل ومن غير أن يطرأ على بالنا نفي أو تشبيه الصفة أو تمثيل هذه الصفات بصفات خلق الله جل جلاله .
في هذا قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قدمه)
والمؤولة قالوا إن القدم هنا بمعنى ما تقدم من الشيء فيكون القدم ما تقدم من الله جل وعلا إلى جهنم .
وهذا عندهم كقوله جل وعلا { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } قال { لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ } وهو ما يتقدم ومنه سميت القدم قدما لأنها تتقدم في المشي .(1/423)
وهذا الذي قالوه من جهة التأويل هذا مردود وذلك لأن لفظ { لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ } يختلف عن لفظ (قدمه) فقوله { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ } أضاف القدم إلى الصدق والصدق له أثر يتقدمه لأن الصدق يهدي إلى البر ولهم قدم صدق يتقدمهم ذلك أمامهم أما في هذه الرواية ففيها (قدمه) أضاف القدم إليه جل وعلا وهذه إضافة صفة لم يضف القدم إلى معنى ، وفسرتها الرواية الثانية التي فيها رجله وهذه تنفي الاحتمال الوارد في رواية (قدمه) .
الوجه الثاني أن مما ينفي هذا الاحتمال أنه قال في أول الحديث (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ) (حَتَّى يَضَعَ) والموضوع هي القدم والواضع هو الله جل وعلا وهذا يمنع أن يكون المعنى التقدم وأولئك قالوا صفة القدم منفية عن الله جل وعلا وهذا الحديث باطل ولو كان متفقا عليه فهو موضوع أو ضعيف ، لماذا ؟
قالوا لأن الله جل جلاله يقول عن النار { لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } فجعل ملء جهنم من الجنة والناس وهذا الحديث فيه أنها لا تملأ حتى يضع الجبار فيها قدمه ورجله جل وعلا وهذا منافي للآية .
وهذا لا شك أنه من التماحل في رد النصوص لأن ملء الشيء قيِّد في الآية بأنه من الجنة والناس { لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } فالجنة والناس سَتُملأُ بهم جهنم ولكن هنا هل ملؤها بهذا أنه لا يكون بعدها فيه ثم شيء ؟
الجنة ستملأ وسينشئ الله جل وعلا لها خلقا آخر يملؤها (وكذلك النار أيضا لها ملؤها ولن يكفيها ما فيها وسينشئ الله جل وعلا لها خلقا آخر (1)
والشمس والقمر على عظم الشمس وعظم القمر ستكون في النار يوم القيامة كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح .
__________
(1) 1 هنا أخطأ الشيخ وسيبين ذلك فيما بعد(1/424)
فإذن قوله { لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } هذا يراد بهم أنهم سيملؤونها يعني تكون جهنم الغالب عليها ملؤها بهؤلاء وليس في ذلك أنه لا يكون فيها متسع لشيء غير ذلك .
ولهذا الموحدون يكونون في طبقة من طبقات جهنم ثُمَ دلت النصوص أنهم يخرجون منها إلى الجنة فتظل هذه الطبقة من طبقات جهنم خالية ليس فيها أحد لأنها طبقة عصاة الموحدين الذين خرجوا منها .
فإذن النصوص يفسر بعضها بعضا فكون الله جل وعلا أقسم أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين لا يعني أنه لا يكون فيها متسع لغير ذلك بل الله جل وعلا (ينشئ لها خلقا آخر) .
ثم قال هنا (لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟)
يعني ألا من مزيد ، وذلك لأن الله جل وعلا وعدها بملئها
(حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ)
فيكون ذلك تحقيقا لقوله { لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } .
فمن أهل العلم من قال : جهنم اسم لبعض النار وجهنم أخص من النار ، النار اسم لها جميعا أما جهنم فاسم خاص لبعض طبقاتها والنار اسم عام ولكن الصحيح أن جهنم والنار اسمان لمسمى واحد باعتبار اختلاف الصفة .
إذن في هذا الحديث إثبات صفة القدم والرِّجل لله جل وعلا على نحو ما أسلفنا من طريقة أهل السنة في الإثبات أنه من غير تمثيل ولا تجسيم ولا تعطيل سبحان ربنا وتعالى وتقدس .
ونكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
إثبات النداء والصوت والكلام
له سبحانه(1/425)
وَقَوْلُهُ: "يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ".
وَقَوْلُهُ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ: "رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجِعِ؛ فَيَبْرَأَ".حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ، وَقَوْلُهُ: "أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ". حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَوْلُهُ:"وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ". حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، وَقَوْلُهُ لُلْجَارِيَةِ: "أَيْنَ اللهُ؟". قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: "مَنْ أَنَا؟". قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: "أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
ففي الكلام على الحديث السابق الذي فيه إثبات القدم لله جل وعلا(1/426)
قال شيخ الإسلام رحمه الله وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ [وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهَا قَدَمَهُ] فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط) مُتَّفقٌ عَلَيْهِ)
هذا الحديث ذكرنا أن فيه إثبات الرجل وإثبات القدم لله تبارك وتعالى على ما يليق بجلاله تبارك وتعالى .
وهذه الصفة صفة القدم جاءت هنا بلفظ الإفراد وهما قدمان لله جل وعلا لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكرسي أنه (موضع القدمين لله تبارك وتعالى) .
فهو سبحانه وتعالى متصف بهذه الصفة وإثباتها كإثبات بقية الصفات مع تنزيه الباري جل وعلا عن مماثلة خلقه وإثبات بلا تعطيل وإثبات بلا تمثيل كما أنه تنزيه لله عن المماثلة بلا تعطيل على قاعدة أهل السنة في نظائرها .
وقوله (لا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟) يعني تطلب المزيد أو تسأل عن ذلك (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ) وقوله هنا (يَضَعَ) يدل على أن المراد أن القدم المعروفة لأنها هي التي توصف بالوضع أما ما يتقدم من الأمر فإنه يوصف بالإتيان ونحو ذلك كما أوضحت لكم .
قال (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ) و (رَبُّ الْعِزَّةِ) العزة صفة من صفات الله جل وعلا والرب هو الصاحب ، رب الشيء هو صاحبه والمتصف به أو المالك له ونحو ذلك
والصفات تضاف إلى ربوبية الله جل وعلا باعتبار أنه صاحبها الذي يوصف بها لا باعتبار أنه المالك لها لأن الصفات قائمة بذات الله تبارك وتعالى كما قال سبحانه { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ()وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ()وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين َ }(1/427)
فقوله عليه الصلاة والسلام هنا (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا أو عَلَيْهَا قَدَمَهُ) فيها تصحيح أن يقال (رب العزة) و (رب الجلال) ونحو ذلك من الصفات و (رب الرحمة) على اعتبار أن معنى الربوبية هنا أنه الصاحب المتصف بها .
أما المِلك فلا يراد هنا لأن الله جل وعلا مالك لخلقه وأما صفاته جل وعلا فهي منه جل وعلا وتبارك وتقدس .
قال (فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، فَتَقُولُ: قَط قَط) يعني بعد أن يضع عليه الجبار جل وعلا قدمه ينزوي بعضها إلى بعض يعني يلتقي طرفاها فتصغر جهنم بعد ذلك بعد وضع الجبار عليها قدمه فتكون مملوءة بعد ذلك بأهلها .
فالجنة وعدها الله جل وعلا ملأها ويدخل أهل الجنة فيها ثم يبقى فيها فضل كما جاء ذلك في السنة يبقى فيها فضل فينشيء الله جل وعلا للجنة خلقا آخر يدخلهم ويسكنهم الجنة بفضله وبرحمته .
وأما النار فهي دار عدله ودار جزائه فإذا بقي فيها فضل فإن الله جل وعلا يضع عليها قدمه فينزوي طرفاها وتصغر حتى تمتلئ بأهلها الذين دخلوها وهذا معنى قوله جل وعلا { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ }
فالنار لها ملؤها والجنة لها ملؤها وأما إنشاء الخلق للنار فهذا ليس بصحيح والنار دار عدل الله جل وعلا ولا ينشيء الله لها خلقا فيملؤها بل ملؤها يكون من الجنة والناس .
وأما الجنة فهي التي يبقى فيها فضل فينشيء الله جل وعلا لها خلقا آخر .
فما ذكرته في المرة الماضية كما ذكر لي أحد الإخوة من أن النار يُنْشَأ لها خلق يعني كانت على وجه العطف في كلامي فإن هذا ليس بصحيح وهي زلة ما قُصدت .
المقصود إثبات ما ذكرت لك الآن وهي أن النار هي دار عدل الله تبارك وتعالى ودار جزائه ولا يُنشأ لها خلق لأن ذلك لم يثبت ولم يأت الدليل به أما الجنة فنعم ينشيء الله لها خلقا آخر والنار لها ملؤها والجنة لها ملؤها .
وطريقة أهل السنة هي إثبات صفة القدمين لله جل وعلا .(1/428)
وأما أهل البدع فإنهم أولوا ذلك ونفوه وقالوا لا يتصف الله جل وعلا بالقدم لأن القدم قالوا مجاز عن تقدم الأمر كما قال جل وعلا في أول سورة يونس { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ }
قال { قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } القدم هنا بمعنى تقدُم الشيء الذي يَسْبِقُ فَيَتَقَدَم غَيرَهُ .
والقدم سميت في اللغة قدما لأنها تتقدم البدن عند المشي
وقالوا ما دام أنه قال { قَدَمَ صِدْقٍ } ولم يُعنَ بها الصفة فاحتملت أن تكون كذا وكذا فيكون القدم هنا معناها تقدم أمره لجهنم .
وهذا باطل لأن النص ثبت بالقدمين في غير هذا وثبتت القدم في غير هذا النص ثم في هذا النص دلالة على إبطال ذلك التأويل أو ذلك التحريف لأنه قال فيه (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ عَلَيْهَا قَدَمَهُ) أولا قوله (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ .. قَدَمَهُ) لفظ (يَضَعَ) ثم قال (قَدَمَهُ) يعني قدم رب العزة يضعها على جهنم وهذه لا تحتمل أن تكون تقدم الأمر لأن ذلك يعبر عنه بالإتيان ، أتى أو نحو ذلك أما الوضع وضع القدم على الشيء هذا لا يحتمل التقدم .
وأيضا هنا أضاف القدم لله جل وعلا فقال (قَدَمَهُ) (رجله) وهذا يدل على أن هذه الصفة أضيفت إلى الله جل وعلا ومن المعلوم أن إضافة الصفات لله جل وعلا نعني بإضافة الأشياء لله جل وعلا مما لا يقوم بنفسه أنها إضافة صفات كما نقول (رحمة الله) وكما نقول (فضل الله) وكما نقول (يد الله) وكما نقول (علم الله) وكما نقول (كلام الله) الباب باب واحد فإنه إضافة صفة التي لا تقوم بنفسها أو إضافة الشيء الذي لا يقوم بنفسه إلى الله جل وعلا تكون إضافة صفة كما مر معنا تقريره مفصلا في القسم الأول .
فإذن هي إضافة صفات أما إضافة الأعيان المنفصلة فهذه تقتضي التشريف مثل الناقة (ناقة الله) و (بيت الله) ونحو ذلك هذه تقتضي التشريف كما نبهت على ذلك مرارا .(1/429)
المعتزلة في مثل هذا يرون أن هذه الصفات تفسر بمخلوقات منفصلة ، يعني القدم - إذا ما نفيت - إذا ما نفوا الأدلة أصلا فإنهم إذا أثبتوا الدليل فسروه بمخلوقات منفصلة .
والمعتزلة إذا ناقض الدليل القرآن - يعني الدليل من السنة القرآن - حكموا بإبطال الدليل من السنة كما ذكرت لكم عن الرازي حيث إنه قال أن هذا باطل ولو كان متفقا عليه هذا ضعيف أو موضوع لأنه في القرآن أن الملء سيكون من الجنة والناس وهذا الحديث فيه أن الحديث سيكون بوضع الجبار عليها قدمه فهذا تناقض أو مضادة لما في القرآن فيكون هذا الحديث باطلا .
وهذا من جراء سوء الفهم منه لأن الملء حاصل ولكن بعد الوضع فالنار لها ملؤها .
الدليل من السنة دل على أن الملء سيكون للنار من الجنة والناس هذا الدليل من القرآن على أن الملء سيكون من الجنة والناس .
ودليل إثبات القدم هذا فيه أنه سيسبق هذا الملء وضع الجبار عليها قدمه فهي ستمتلئ منهم لا من غيرهم بعد أن يضع الجبار فيها أو عليها قدمه تبارك وتعالى كما ذكرت فينزوي بعضها إلى بعض فيلتقي طرفاها فتطيق فتمتلئ بأهلها ، وهذا ظاهر .
فالواجب أن يجعل الكتاب والسنة متفقين غير مختلفين لأنها من مشكاة واحدة كلها من عند الله تبارك وتعالى .
الأحاديث التالية في هذا الحديث من حيث ما تضمنته من الصفات سبق الكلام عليه مفصلا .
فأوله قال : (وَقَوْلُهُ: "يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ!) يعني قوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ("يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ". مُتَّفقٌ عَلَيْهِ
وَقَوْلُهُ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ") هذه فيها إثبات صفة الكلام لله جل وعلا وأن كلام الله جل وعلا بحرف وصوت .(1/430)
دل على أنه بحرف وصوت قوله (يَقُولُ تَعَالَى: يَا آدَمُ) و (يا) حرف نداء والنداء لا بد أن يكون بصوت و (يا) حرفان فدل على إثبات الحرف في كلام الله جل وعلا والنداء صوت فلا بد من إثبات الصوت لله تبارك وتعالى .
ولهذا فسره بعد ذلك بقوله (فَيُنَادِي بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِن ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلَى النَّارِ) وهذا اللفظ وهو قوله (فَيُنَادِي) روي أيضا في الصحيح (فَيُنَادَى بِصَوتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ)
وقد قيل إن المنادي غير الله جل وعلا الذي ينادي الملائكة لأن فيه (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ) .
وهذا ليس بجيد لأن الروايات يجب أن تأتلف وأن يفسر بعضها بعضا فرواية (فَيُنَادَى بِصَوتٍ) هي رواية (فَيُنَادِي بِصَوتٍ) فالمنادي هو الله جل وعلا .
وإذا قيل (فَيُنَادَى) لأجل الفرار من إثبات الصوت لله جل وعلا والحرف في كلامه تبارك وتعالى فهذا ثابت في قوله (يا آدم) إذ من أدلة إثبات الحرف والصوت لله تبارك وتعالى النداء ، فالنداء والنجاء هذه من لوازمها أو مما لا تحصل إلا به أن تكون بحروف وأصوات والله جل وعلا في كتابه العظيم أثبت أنه ينادي ويناجي { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ } وقال سبحانه { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا }
فالنداء ثابت في القرآن والنجاء ثابت في القرآن والنداء هو المخاطبة بصوت مرتفع يعني للبعيد والنجاء هو المخاطبة للقريب وهذا طبعا حسب العرف يعني حسب الوضع اللغوي .
فالنداء ، إثبات النداء لله يدل على أنه بحرف وصوت لأن المعنى النفسي لا يقال فيه نداء .(1/431)
المقصود من ذلك أن هذا الحديث فيه إثبات صفة الكلام لله جل وعلا وأن كلامه جل وعلا بحرف وبصوت وقد مرت معنا المسألة في تقريرها مفصلة عند قوله تعالى في القسم الأول { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وقوله { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } إلى آخر ما ذكر رحمه الله تعالى من الاستدلال على مسألة الكلام .
قال أيضا (وَقَوْلُهُ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ")
(مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ) هذا فيه التنصيص الصريح على أن كل أحد سيكلمه الله .
والتنصيص الصريح استفدناه من مجيء (من) بعد (ما) النافية (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) لأن (من) تأتي قبل النكرة في سياق النفي فتدل علة نقل العموم من ظهوره إلى نصه .
وهذا يعني أنه ليس أحد إلاَّ و سَيُكَلِّمُهُ الله جل وعلا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ .
ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام لله جل وعلا وأن كلام الله جل وعلا ليس من جنس كلام البشر تبارك ربنا وتعالى .
وكلام الله ومحاسبته للناس يوم القيامة يكون في وقت قصير كما قال سبحانه واصفا نفسه العلية وذاته الجليلة قال جل وعلا { وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } قال أهل التفسير معنى قوله { وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } الذي يحاسب الخلق فيقررهم بأعمالهم ويقيم عليهم الحجة من أنفسهم في ساعة جميع الخلائق { وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } يحاسبهم في ساعة يعني في لحظة تبارك وتعالى وتقدس وتعاظم ربنا .
قال (إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ) وهذا كما ذكرت لك فيه الحصر لما سبق يعني كل أحد سيكلَّم .(1/432)
(لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ) ووجه الدلالة من قوله (تَرْجُمَانٌ) أن الترجمة والترجمان وظيفته نقل ما يسمع من لغة إلى لغة ففيها إثبات أن كلام الله جل وعلا لمن سيكلمه مسموع ولا يحتاج فيما بينه وبينه إلى ترجمان يعني إلى من يسمع وينقل العبارة فالمكلَّم يسمع كلام الله والله جل وعلا متكلم ويتكلم مع كل أحد يوم القيامة فيقرره على أعماله .
إذن هذا فيه إثبات صفة الكلام لله جل وعلا وأن كلام الله جل وعلا بصوت يُسْمَع .
ومن صفة كلام الله تبارك وتعالى أنه إذا تكلم جل وعلا فإنه يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب فلا يحتاج في إسماعهم لكلامه إلى أن يكون كلامه للبعيد غير كلامه للقريب بل الكلام للبعيد والقريب واحد فهذا من صفات كلام الله ولا يكون أحد من البشر له هذه الصفة ، لا يكون أحد من خلق الله له هذه الصفة فالله جل وعلا يتكلم بكلام يوم القيامة فيسمعه من بعُد كما يسمعه من قرُب الجميع على حد سواء .
وصفة الكلام لله تبارك وتعالى مر معنا أنها من الصفات التي تثبت بالسمع وأن كلام الله جل وعلا قديم النوع حادث الآحاد .
كلامه جل وعلا بالقرآن حديث يعني حين بعث رسوله محمدا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ تكلم بالقرآن
م يتكلم به منذ القدم بل سمعه جبريل منه فبلغ جبريل ما سمع من الله جل وعلا إلى النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فهو حديث ومحدث يعني حديث العهد بربه ليس بقديم كما قال جل وعلا { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } وكما قال في آية الشعراء { مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ } فهو حديث كما قال { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا } وهو محدَث يعني حديث التكلم به لأن لفظ محدث يُعنَى بها حديث الزمن يعني أن الله تكلم به فبُلِّغَه الناس .(1/433)
وهذا ظاهر في نصوص كثيرة وقد قال عليه الصلاة والسلام في وصف ابن أم عبد (من سره أن يسمع القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) فكلام الله قديم النوع حادث الآحاد وهو قسمان : كلام شرعي وكلام كوني .
- كلام الله الكوني هو المتعلق بما يحدثه الله جل وعلا في كونه مما يشاء .
- وكلام الله الشرعي هو المتعلق بخبره وأمره ونهيه في الكتب التي أنزلها على رسوله .
وهذا الثاني هو المراد بقوله جل وعلا { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } فـ { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } أو (من قاتل لتكون) - كما في الحديث - (لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) المقصود بكلمة الله ، كلمات الله الشرعية .
وأما كلماته الكونية فهي عالية لأن الله جل وعلا لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه والواجب على العباد أن يجاهدوا حتى تكون كلمة الله - يعني كلمات الله الشرعية التي أنزلها على عبده محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ - لتكون هي العليا ولتكون كلمة الذين كفروا السفلى .
فإذن الكلام منقسم إلى هذا وهذا ، وهذه يمكن زيادات على ما ذكرت لكم آنفا من تقرير هذه الصفة فأصل تقريرها والرد على المخالفين فيها تقدم في الكلام الذي سبق في قسم الأدلة من القرآن العظيم .
......
الحديث ما فيه إثبات الرؤية ، قد يسمع الكلام بدون أن يراه ، الرؤية هل هي ثابتة في العرصات عرصات القيامة لكل أحد أم لا ؟
الصحيح أنها ليست لكل أحد وإنما الذي يراه أهل الإيمان فقط .
قال رحمه الله (.وَقَوْلُهُ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ: "رَبَّنَا اللهَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)
أو (رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ) (تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ) إلى آخر الحديث .(1/434)
قال (حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيرُهُ) وأُعِلَ بأشياء والصواب كما ذكر شيخ الإسلام أنه حسن لمجموع طرقه .
وهذا من الأدعية التي لها أثرها في الرقية جدا كما ذكر ذلك ابن القيم وغيره .
ورقية المريض المقصود منها ما يتلى على المريض ويتلى عليه مع النفث لشفائه .
فالرقية كانت في الجاهلية بل هي في كل أمة من أمم الأرض عندهم رقى والرقى مؤثرة في دفع المكروه أو رفع المرض إذا حل ...
انتهى الشريط الخامس عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السادس عشر
فالرقية كانت في الجاهلية بل هي في كل أمة من أمم الأرض عندهم رقى .
والرقى مؤثرة في دفع المكروه أو رفع المرض إذا حل ولهذا كان الناس يتعاطونها وكان أهل الجاهلية فيهم من يرقون وكثر ذلك فيهم وقد قال عليه الصلاة والسلام (إن الرقى والتمائم والتِّوَلَة شرك) يعني بها الرقى التي كان يتعاطاها أهل الجاهلية التي تشتمل على الشرك ، فسئل النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن الرقى فقال (اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا) وفي لفظ (ما لم يكن فيه شرك) أو (ما لم يكن شرك)
فالرقى جائزة أو مستحبة وأفضلها ما كان بالأدعية النبوية يعني ما كان بالكتاب والسنة ما كان مأخوذا عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ والاجتهاد فيها جائز ولكن لا بد أن يتوفر فيه شروط صحة الرقية .
وقد أجمع العلماء على أن الرقية الجائزة هي ما اجتمع فيه ثلاثة شروط :
- أن تكون بأسماء الله وبصفاته أو بكلامه .
- الثاني أن تكون باللسان العربي أو بما يفهم معناه ويعرف من الألسنة الأخرى .
- الثالث أن يعتقد الراقى والمرقي أنها لا تؤثر بنفسها وإنما هي سبب وتأثيرها ونفعها بإذن الله جل وعلا .(1/435)
هذه أجمع العلماء على جوازها ، فإن كانت من غير ذلك ففيها اختلاف ، مثل الرقية بغير كتاب الله يعني بغير القرآن ، رقية بالتوراة أو بالإنجيل أو أن يرقى يهودي أو أن يرقى نصراني أو نحو ذلك
لا شك أن الرقى مؤثرة فاليهود يرقي بعضهم بعضا وتنفع رقاهم ، والنصارى يرقي بعضهم بعضا وتنفع رقاهم وهم إنما يرقون إذا رقوا الرقى المأذون بها عندهم ما كانت بكلام الله جل وعلا في التوراة أو في الإنجيل .
ومن المعلوم أن كلام الله جل وعلا في التوراة والإنجيل منه ما لم يُحرَّف ، منه ما هو باق على ما أنزله الله جل وعلا ، هذا إذا تلي على المريض فإن ذلك جائز ولا يشترط في حق أولئك أن يرقوا بكلام الله .
فمثلا لو وجدتَّ نصرانيا يرقي أخاه بالإنجيل فإن هذا لا بأس به ليس هذا بالمنكر لا بأس به ، فقد يرقي بغير القرآن يعني بالتوراة أو بالإنجيل وينفع ذلك إذا كان من كلام الله جل وعلا .
وقد كانت عائشة ربما فعلت أو ربما رقاها رقية بغير القرآن ..... (1)
أو (اللهم ربَّنا الذي في السماء تقدس اسمك)
أو تكون خبرا (ربُّنا الله الذي في السماء تقدس اسمك) فيكون على جهة الإخبار .
والشاهد منه أن فيه قوله (الذي في السماء) وهذا (ربُّنا الله الذي في السماء) ففيها إثبات صفة العلو لله جل وعلا لأن قوله (الذي في السماء) يعني الذي في العلو ، والسماء تطلق ويراد بها العلو كما قال الله جل وعلا { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } قال { وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء } يعني في العلو ، كذلك قوله { أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء } يعني من في العلو { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء } يعني من العلو ، وكذلك منه قول الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رأيناه وإن كانوا غضابا
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(1/436)
(إذا نزل السماء) يعني المطر سماه سماءً لأنه أتى من جهة العلو ، فإذن السماء المقصود بها العلو .
فقوله (ربُّنا الله الذي في السماء) يعني في العلو .
وإن أريد بالسماء السماء المخلوقة المعروفة يعني واحدة السماوات فيكون المراد بالسماء هنا السماء السابعة و (في) تكون بمعنى (على) يعني ربنا الله الذي على السماء السابعة لأن الله جل وعلا ليس في السماوات السبع بل هو جل وعلا مستو على عرشه بائن من خلقه وعرشه فوق سماواته ، وكرسيه فوق سماواته وعرشه على سماواته مثل القبة كما في حديث الأطيط .
(تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ، اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا ، أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ، أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجِعِ ؛)
قال (فَيَبْرَأَ) يعني بإذن الله جل وعلا ، هذا سبب من الأسباب فيه الاستغاثة بالله والاستعانة به ورجاء رحمته وفيه حسن الظن به ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال : قال الله تعالى (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) فإذا حسّن العبد ظنه بالله وهو يرقي المريض أو يرقي نفسه بأن الله سيكشف ما به من عين أو سحر أو مرض أو نحو ذلك فإن ذلك من أعظم الأسباب المؤثرة في رفع المرض وفي الشفاء منه .
......
ذكرت لك الوجهين .. والذي يرجح عندي أنها (ربُّنا الله الذي في السماء تقدس اسمك)
قال (وَقَوْلُهُ: "أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ")
هذا فيه دلالة لإثبات صفة العلو لله جل وعلا .(1/437)
قال وَقَوْلُهُ:"وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ". حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ) قال (وَقَوْلُهُ لُلْجَارِيَةِ: "أَيْنَ اللهُ؟". قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: "مَنْ أَنَا؟". قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: "أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
هذه الأحاديث فيها إثبات صفة العلو لله جل وعلا وعلو الله ثابت له بنوعيه :
- علو الذات ... ... - وعلو الصفات .
وثابت له بثلاثة أنواع :
- علو الذات ... ... - وعلو القهر ... ... - وعلو القدر .
فعلو الله تبارك وتعالى على خلقه هو علو ذات كما دلت عليه هذه الأحاديث وهو أيضا علو صفات علو قَدْرْ وعلو قَهْرْ .
فهو جل وعلا عال على خلقه بقَهْرِهِ وكذلك هو عال على خلقه بقَدْرِهِ جل وعلا فقَدْرُهُ جل وعلا أعظم وأجل وقد قال سبحانه { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } .
وقوله في حديث (والعرشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ)
هذا الماء فوق السماوات السبع فوقها ماء كما جاء في هذا الحديث والعرش فوق الماء والعرش لا يُقْدَرُ قدْرُه ، عظيم جدا .
العرش هو أعظم المخلوقات ، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض والسماوات السبع بالنسبة للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس فالعرش أمره عظيم وهو أعظم مخلوقات الله قد وصفه الله جل وعلا بأنه عظيم وبأنه كريم .
فقال هنا عليه الصلاة والسلام (والعرشُ فَوْقَ الْمَاءِ، وَاللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ) هذا فيه إثبات الفوقية ، وإذا مر معك لفظ الفوقية فهو بمعنى العلو فكل دليل للفوقية دليل لعلو الله جل وعلا ففوقية الله على عرشه هي علو الله على عرشه .
وتفصيل الكلام على علو الله والعرش والردود على المخالفين في ذلك مر معنا مفصلا في القسم الأول وإنما المراد هنا تأكيد دلالة السنة على ما دل عليه القرآن من إثبات الصفات .(1/438)
قال (وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)
يعني أن علو الله جل وعلا لا يضاد معيته جل وعلا لخلقه المعية العامة التي معناها العلم بما هم عليه .
قال (وَقَوْلُهُ لُلْجَارِيَةِ: "أَيْنَ اللهُ؟". قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ.)
(أَيْنَ اللهُ) هذا سؤال عن المكان لأن (أين) يسأل بها عن المكان والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ سأل الجارية عن ذلك فدل على أن الله جل وعلا جهة مكانه العلو .
وكل موجود لا بد أن يكون له جهة والذين منعوا وصف الله بالعلو قالوا :
لأن الجهات من عوارض المخلوقات - الجهة ، أن يكون في جهة معينة -
ولأنه إذا أثبتت الجهة اقتضى ذلك التحيز وأن الجهة تحوزه وتشمله وتحوطه .
وهذا باطل لأن الجهات ثَمَ جهات يعلمها البشر بما عهدوا وهي : أمام وخلف ويمين وشمال وتحت وفوق وهذه بالنسبة للبشر يتصورونها ، كذلك الجهات شمال وجنوب وشرق وغرب يعني اللي هي .. فهذا بالنسبة للبشر يقتضي الحصر لأنهم يرون هذه الجهات منحصرة في غيرها
أما الله جل وعلا فله جهة العلو .
هو سبحانه في جهة العلو .
والسؤال بـ (أين) فيه سؤال عن الجهة والجهة هي المكان .
فجهة الله جل وعلا هي العلو ولهذا الداعي إذا سأل الله جل وعلا توجه إلى العلو ونظر إلى العلو ورفع يديه إلى العلو يطلب الفرج .
والعلو نوعان :
" علو نسبي : - يعني العلو بالنسبة للبشر يعني هذا علو إضافي نسبي يعني بالنسبة للبشر - .
" وعلو مطلق .
والله جل وعلا في العلو المطلق الذي هو العلو بالنسبة لجميع جهات الأرض ، فسُفْلُ الأرض ما ينحدر إلى مركزها وعلو الأرض ما يتباعد عن محيطها كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية فيكون العلو لله تبارك وتعالى العلو المطلق والعبد إذا دعا الله ورفع يديه إليه سواء كان في أي جهة من الأرض سواء كان في شمالها أم في جنوبها في ظهرها أم في الجهة الأخرى فإنه إذا رفع يديه فإنه يرفع يديه إلى العلو المطلق - وانتبه إلى هذه الكلمة فإنها مهمة - .(1/439)
فإن علو الله جل وعلا جهة ، فإن الله في العلو وعلو الله جل وعلا هو علو الذات وسؤال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بقوله (أين الله) قالت في السماء هذا دليل على إثبات جهة العلو لله تبارك وتعالى وهذا مهم لأن بإثبات جهة العلو لله تُثبَت صفات أخر كثيرة .
النفاة للعلو اعترضوا على هذا باعتراضات مرت معنا في القسم الأول لكن الذي يناسب الدليل من هاهنا أنهم قالوا : قوله (أين الله) هذا اللفظ ليس بثابت في بعض نسخ مسلم ، قالوا ولهذا أنكره البيهقي في كتاب الأسماء والصفات وقال ليس في نسختنا من مسلم لفظ (أين الله) في الحديث .
وهذه شبهة أدلى بها بعض المعاصرين الذين ينفون صفة العلو لله تبارك وتعالى .
والجواب عن ذلك أن مسلما رحمه الله لم يروِ كتابه عنه إلا رجل واحد .
وكتاب مسلم ليس كالبخاري ، البخاري ثَم له رواة فيرويه عنه الفِرَبْرِي ويرويه عنه حماد بن شاكر ويرويه عنه فلان وفلان ، وكل من هؤلاء له رواة أيضا ورواية الفربري المشهورة في البخاري أيضا فيه ثَم رواية أبي ذر ورواية أبي الوقت ورواية ابن عساكر والكُشْميهَني وهذه الاختلافات موجودة في نسخ البخاري تابعة لرواية الفربري وحده ، أما مسلم رحمه الله فإن كتابه الصحيح لم يروه عنه إلا شخص واحد وهو ابن سفيان رحمه الله وقد رواه عنه مسموعا في أكثر الكتاب وفاته سماع أو لم يُقرئ مسلم الراوي ثلاثة مواضع ، فلم يسمعها من مسلم أصلا ، ثلاثة مواضع كبيرة بعض المواضع يأتي على عشرين ثلاثين صفحة ، فليس له إلا رواية واحدة لأن مسلما ما تيسر له أن يُقرئ كتابه قبل وفاته بل اخترمته المنية قبل أن يُقرئه وإنما رواه عنه ابن سفيان وحده وهذا يدل على أنه ليس ثَم في مسلم اختلاف روايات بل هو رواية واحدة فما يقال في مسلم أن في بعض رواة مسلم رواها كذا وبعض رواة مسلم رواها كذا ، هذا من الجهل .(1/440)
وأما نسخة البيهقي التي ذكرها بأنه ليس في نسختنا فالنسخ معلوم أن النسخ قد يحصل فيه غلط قد يحصل فيه نقص والرواية إذا كانت ثابتة عن الذي روى عن مسلم هذه اللفظة فإنه يُعتمَد عليها وتكون هي الحجة ، وأما أن يكون في بعض النسخ محذوف فيه هذه فإن ذلك ليس بدليل على نفيها لأن الرواية رواية واحدة وليست بروايات متعددة حتى يقال إن مسلما رجع عن هذه أو اختلفت نسخ مسلم إنما هي نسخة واحدة فيكون الخلل من جهة النُسّاخ وليس من جهة الرواية .
وهذا فرق كبير ، إذا كان الخلل من جهة الناسخ غير ما إذا كان الخلل من جهة الرواية ، مثلا في - أضرب لكم مثلا في البخاري - في دعاء الأذان المعروف أن من سمع المؤذن فقال (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة وابعثه اللهم مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد) هذه بهذا الطول يعني بزيادة (والدرجة العالية الرفيعة) وبزيادة (إنك لا تخلف الميعاد) هذه في بعض نسخ البخاري في رواية الكشميهني عن البخاري ، ولهذا بعض أهل العلم ينسبها للبخاري كما نسبها شيخ الإسلام وغيره وهذه نسبة صحيحة .
ولكن رواية الكشميهني هنا خالفت الروايات الأخر فنقول الثابت من رواية الصحيح عدم إيراد هذه فتكون هذه ضعيفة لأجل شذوذ من رواها عن الفربري عن البخاري ، هذا بحث واضح من جهة الحديث ومن جهة نقل الكتب وسماع كتب السنة هذا واضح .
أما مسلم رحمه الله فمع الأسف ما له إلا رواية واحدة حتى فاته السماع في ثلاثة مواضع راويه ابن سفيان رحمهم الله تعالى .
فإذن هذه الحجة حينما قالوا إن هذا الحديث أو هذه اللفظة ليست موجودة في بعض نسخ مسلم فيدل أنها ليست بثابتة في مسلم فهذا ليس بحجة جيدة .(1/441)
أيضا من الجواب أنها موجودة في غير كتاب مسلم بالأسانيد الصحيحة وليس فيها غرابة ، ما فيها غرابة ، هذا اللفظ فيه السؤال عن الجهة والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هو السائل وجهة العلو ثابتة لله جل وعلا في غير هذا الدليل كما في قوله { أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ } كقوله (أَلاَ تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ) واضح (مَنْ فِي السَّمَاءِ) يعني من في العلو (من) هذه لمن يعلم تبارك وتعالى .
نقف عند هذا ، بعض الأسئلة :
يقول : هل يجوز سؤال الأطفال والعامة بقولهم أين الله ؟
هذا مما لا تتحمله العقول ، ليس عقل كل أحد يتحمل هذه الكلمة خاصة في مثل هذا الزمان هذه ليست من كلمات الابتلاء ولكن تعلم العامة والأطفال صفات الله جل وعلا أما امتحان الناس بهذا السؤال فليس بجيد .
هل من صفات الله القرب من عباده مع كونه جل وعلا فوق عرشه ؟ وهل يستدل على قربه بقوله تعالى { فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } إلى آخره ؟
قرب الله جل وعلا الذي ثبت في النصوص أن قربه خاص بخلاف المعية ، المعية تنقسم إلى معية عامة وخاصة ، أما القرب فهو قرب خاص ليس ثم قرب عام من جميع خلقه جل وعلا .
{ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ } هل المقصود بكلام الله في الآية الكلام الكوني أم الكلام الشرعي؟
لا ، المقصود منه الكلام الشرعي .
......
لا ، القرب خاص ما هو بعام ، القرب العام إذا قلت إن القرب منه عام صار قرب علم لأن الله فوق عرشه فيصير مثل المعية أما قرب الله جل وعلا إنما ثبت أنه قريب من المؤمنين ، قريب ممن يدعونه ، قريب من المحسنين ، والقرب العام ما ثبت في الأدلة ، وما ورد من الدليل فيه القرب العام فإنما هو قرب الملائكة ملائكة الله جل وعلا كقوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ونحو ذلك.(1/442)
هل يجوز أن يقال الله أفصح (الفاصحين) ؟ أو أفصح الفصحاء ؟
من باب الخبر الله جل وعلا هو أفصح المتكلمين ، نعم ، لكن من جهة الصفات ما أعلم أن هذه الصفة ثابتة لله تبارك وتعالى .
وفي هذا القدر كفاية ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
إثبات معيّة الله لخلقه
وأنها لا تنافي علوه
فوق عرشه
وَقَوْلُهُ: "أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ" حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ؛ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ" رِوَايَةُ مُسْلِمٌ، وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لَمَّا رَفَعَ الصَّحَابَةُ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: "أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا، إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/443)
وَقَوْلُهُ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
... إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رِسُولُ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ؛ فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ؛ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ؛ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ؛ بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ.
فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ أهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَة.
وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ.
وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ.
وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ.
وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .(1/444)
أما بعد : فأسأل الله جل وعلا لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح والقلب الخاشع ، وأن يزيدنا إيمانا وثباتا وتوفيقا فإنه على كل شيء قدير ، اللهم نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة ، أما بعد :
فهذه صلة لما تقدم الكلام عليه من ذكر نصوص الصفات من السنة ، وكما ذكرت لكم من قبل أن النصوص التي ساقها شيخ الإسلام في هذا الفصل سبق الكلام على أكثر ما اشتملت عليه من الصفات في الاستدلال بالقرآن العظيم على الصفات .
فذكر هنا بعض الأحاديث في المعية وفي القرب ونحو ذلك فقال : (وَقَوْلُهُ: "أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ" حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) إلى آخر الأحاديث ،
هذا الحديث الأول الذي هو حديث المعية (أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ)
فيه إثبات صفة المعية لله جل وعلا وأن العلم باتصاف الله جل وعلا بهذه الصفة أنه أفضل الإيمان فدل على أن العلم بأسماء الله جل وعلا وبصفاته هو أفضل الإيمان ذلك لأن الإيمان قول وعمل واعتقاد .
والاعتقاد هو الاعتقاد في الله جل وعلا يعني في أسمائه وصفاته واستحقاقه للربوبية والألوهية وللأسماء الحسنى والصفات العلا .
فجعل عليه الصلاة والسلام أفضل الإيمان العلم بمعية الله جل وعلا العامة لخلقه ، والمعية الخاصة للمؤمنين لأنه قال هنا (أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ) يعني أفضل الإيمان علمك لأن (أن تعلم) موصول حرفي مع الفعل فيقدر بمصدر فأفضل الإيمان علمك أن الله معك حيثما كنت .(1/445)
وهذا دليل على أن العلم بصفات الله جل وعلا من أفضل مقامات الإيمان بل هو أفضل مقامات الإيمان لأن الإيمان أركانه ستة وأعلى هذه الأركان الإيمان بالله جل جلاله ، والعلم بالصفات هو العلم بالله جل وعلا فهو راجع إلى أفضلها وهو الإيمان بالله .
قال (أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ) ذكرنا لك فيما سلف أن معية الله جل وعلا تنقسم إلى :
- معية عامة لجميع الخلق ... ... - وإلى معية خاصة للمؤمنين .
والمعية العامة هي معيته جل وعلا لهم بالعلم والإحاطة جل وعلا فلا تغيب عنه جل وعلا منهم غائبة كما قال سبحانه وتعالى { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } وشهودُ الله جل وعلا لعمل جميع الخلق هذا من معيته العامة لهم فهي معية علم وإحاطة واطلاع ورؤية سبحانه وتعالى .
وأما المعية الخاصة فهي معيته جل وعلا لأهل الإيمان بتسديده وتوفيقه وإعانته ونصره لهم فإنها معية مقتضية لذلك .
والله جل وعلا جعل معيته عامة وخاصة في القرآن ، فقال في المعية الخاصة { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } وذكرنا لك أن معنى المعية في لغة العرب هي الاقتران .
(مع) يعني اقترن هذا الشيء بذاك الشيء ، فقولهم (الرجل مع القبيلة) يعني مقترنا بهم ، و (الزوجة مع زوجها) يعني لا زالت في عصمته مقترنة به ، وقد قال جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } يعني كونوا معهم في الاقتران بإيمانهم وأخلاقهم وكونكم معهم في ما اتصفوا به من الصدق في المعاملة مع ربهم جل وعلا .(1/446)
فالمعية سبق الكلام عليها مفصلا وترجع إلى ما سبق الكلام عليه في التدليل عليها وأقسامها وبيان تفصيل الكلام عليها لأن هذا الموضع هو موضع استشهاد من السنة واستدلال من السنة على الصفة أما الكلام على الصفة مفصلا فسبق .
قال (وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ؛ فَلاَ يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ ")
هذا فيه إثبات صفتين لله جل وعلا بل عدة صفات لكن يُستَدَل به على صفتين :
أما الصفة الأولى فهي صفة قرب الله جل وعلا من خلقه يعني من عباده المؤمنين أهل الصلاة وإحاطته جل وعلا بخلقه .
وأما القرب سيأتي الكلام عليه ، وأما الإحاطة فإنه جل وعلا محيط بكل شيء وإحاطته جل وعلا بكل شيء جاءت في عدة آيات وفي أحاديث كثيرة كقول الله جل وعلا { أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } وكقوله { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا } ونحو ذلك من الآيات .
وإحاطته جل وعلا بجميع خلقه تقتضي بل منها علوه جل وعلا فكون المصلي يصلي ويكون الله جل وعلا قبل وجه المصلي حال الصلاة هذا لأجل أن الله جل وعلا محيط بكل شيء وهو جل وعلا عال على خلقه مستو على عرشه ومع ذلك هو قبل المصلي حين الصلاة وذلك لإحاطته جل وعلا بكل شيء فـ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } سبحانه وهو عال على عرشه قريب من المصلي بل هو محيط بكل شيء بل إن الله جل وعلا قبل وجه المصلي حال صلاته
والإحاطة فيما ذُكِر من النصوص في قوله { أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } وقوله { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا } ونحو ذلك فسرها أهل السنة بأربعة معان ، فُسِرًت الإحاطة
- بإحاطة العلم ... ... - والسَّعة ... ... - والقدرة ... ... - والشمول(1/447)
إحاطة علم وسعة وقدرة وشمول ، وهو جل وعلا محيط بهم من جهة العلم ومحيط بهم من جهة القدرة ومحيط بهم من جهة السَعَة حيث دل على ذلك هذا الحديث ومحيط بهم من جهة الشمول .
وهذا يوضحه أن الخلق جميعا يعني من على الأرض ومن في السماوات بالنسبة إلى الكرسي كدراهم ملقاة فيه وأن الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض والكرسي وسع السماوات والأرض والكرسي هو موضع قدمي الله جل وعلا ، فإذن المسألة يصعب تصورها من جهة الواقع لكن تصورها يكون من جهة العلم بما دلت عليه النصوص .
هذا الحديث فيه أيضا إثبات صفة القرب لله جل وعلا ، والقرب يأتي ذكره في الحديثين الآتيين .
قال (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "اللهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ)
هذه أربعة أسماء لله جل وعلا في هذا الحديث (الأول والآخر والظاهر والباطن)
فأما الأولان الأول والآخر فهما اسمان لأزلية الرب جل وعلا وأبديته .
فالأول مُتَنَاهٍ في الزمان من جهة الأولية والآخر مُتَنَاهٍ في الزمان من جهة الآخرية .
فهو جل وعلا بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله أول ليس قبله شيء لم يسبق ذاته جل وعلا ذات ولم يسبق صفاته جل وعلا صفات ولم يسبق أسماءه جل وعلا أسماء ولم يسبق أفعاله جل وعلا أفعال لأحد بل هو جل وعلا الأول الذي ليس قبله شيء .(1/448)
كذلك جل وعلا هو الآخر الذي ليس بعده شيء وهذا تفسير لمعنى الآخر في آية الحديد { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } ففسرها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في هذا الحديث بقوله (أَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ) فمعنى آخرية الله جل وعلا ، معنى كونه جل وعلا الآخر أنه جل وعلا الأبدي يعني الذي هو آخرٌ أبديٌ بذاته وصفاته وأفعاله جل وعلا ، فليس بعده شيء جل وعلا .
وهذا يدل على أن جميع المخلوقات من جهة الزمان أن الله جل وعلا محيط بها فهو جل وعلا قبلها وبعدها ، كذلك الصفات والأسماء هو جل وعلا قبلها وبعدها ، كذلك الأفعال هو جل وعلا قبلها وبعدها سبحانه وتعالى .
وفي هذا دليل على بطلان قول من قال إن أسماء الله محدثة أحدثها الخلق .
وفيها دليل على بطلان قول من قال إن صفات الله جل وعلا اتصف بها بعد خلقه للخلق .
وفيها دليل على بطلان قول من قال إن هذا العالم المنظور قديم أو أزلي كقول الفلاسفة .
وفيها إثبات أن جنس المخلوقات قديم وأن الله جل وعلا يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه إذ إنه جل وعلا بصفاته أول .
والصفات لا بد وأن تظهر آثارها في الخلق .
وأهل السنة يأخذون بالفرق بين هذين المقامين العظيمين فيقولون إن هذا الاسم من أسماء الله الأول يدل على أنه جل وعلا أول بأسمائه وصفاته وأفعاله ولا بد لأسمائه من أن تظهر آثارها في خلقه ولا بد لصفاته أن تظهر آثارها ولا بد لأفعاله أن تظهر آثارها .
فجنس ما تظهر فيه آثار أسماء الرب وصفاته وأفعاله قديم .
وأما قول أهل الباطل فإنهم يقولون إن هذا العالم الذي نراه السماوات والأرض والأفلاك والنجوم أن هذا قديم هذا باطل ، لأن الله جل وعلا أخبر أنه خلق هذه خلق السماوات والأرض ووصف لنا ذلك وأنه قدّر مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وهذا يدل على أنها معروفة الأَول وأما جنس المخلوقات فلا تُحَد .(1/449)
وهذا يوضح الفرق بين قول أهل السنة وقول الفلاسفة وقول المعتزلة وقول الأشاعرة والماتريدية .
أنا ذكرت لك خمسة أقوال فيما سلف من الكلام ، وسيأتي مزيد بسط لها في موضع آخر فيما نستقبل إن شاء الله تعالى .
قال (وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) هذان الاسمان الظاهر والباطن اسمان لعلو الله جل وعلا وقربه .
واسم الظاهر يطلق منفردا .
وأما اسم الباطن فلا يطلق على الله جل وعلا إلا على وجه الاقتران بالظاهر لأن الظاهر هو ذو العلو في ذاته وأسمائه وصفاته وفسره عليه الصلاة والسلام بقوله (فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ) والفوقية هي فوقية الذات وفوقية الصفات .
وأما الباطن ففسره عليه الصلاة والسلام بقوله (وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) وقوله (لَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) من حيث اللفظ يحتمل أن يكون ليس دون ذاته شيء أو ليس دون علمه وقدرته وقربه شيء .
الأول اللي هو أنها تحتمل أن يكون المعنى ليس دون الذات - يعني ليس دون ذاته شيء - هذه تدل على أنه جل وعلا في كل مكان وعلى أنه مختلط بالخلق ولهذا استدل بهذا المعنى المعتزلة والأشاعرة فقالوا هو في كل مكان وهذا قول كل من ينفي الاستواء .
وأهل السنة قالوا هذا المعنى وإن احتمله لفظ (لَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) فإنه ينفيه قوله (أَنْتَ الظَّاهِرُ) فإثبات ظهوره جل وعلا ، إثبات أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، إثبات أنه عال على عرشه مستو عليه وأنه عال على خلقه بذاته يُبْطِل أن يكون البطون بطون ذات بل هو جل وعلا باطن من جهة قربه وعلمه فيكون بطون بعض الصفات(1/450)
وهذا ظاهر لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قرن في التفسير بين الفوقية وبين البطون وبين كونه جل وعلا ليس دونه شيء ولا يمكن أن يُفهَم البطون إلا مع الظاهر كما قال جل وعلا { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وكونه جل وعلا باطنا يعني ليس دونه شيء يعني في صفاته التي هي العلم والقدرة والإحاطة والقرب ونحو ذلك .
فإذن يكون معنى قوله (أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ) أنها فيها إثبات علو الله جل وعلا بذاته على خلقه و (أَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) فيها إثبات إحاطته وقربه ومعيته جل وعلا لخلقه .
فيكون هذان الاسمان الظاهر والباطن لإثبات علو الله جل وعلا بذاته وقربه وإحاطته وعلمه جل وعلا بخلقه .
وهذا المعنى خالف فيه كما ذكرت لكم من خالف .
ولفظ الباطن هذا من الأسماء التي كثر في تفسيرها الخلاف وأهل السنة فسروا الباطن بما فسره به النبي عليه الصلاة والسلام وتفسيره يُفهَم مع قوله (أَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ) ومع قوله { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } فكل أدلة علو الله جل وعلا على اختلاف أنواعها وجميع أدلة الاستواء مفسِّرة لمعنى البطون ومُخرِجة لبطون الذات عن معنى قوله (فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ) .
فإذن هو جل وعلا ليس دونه شيء من جهة القرب من جهة العلم من جهة المعية
فمعيته جل وعلا عامة وعلمه جل وعلا عام .
هل القرب هنا عام ؟
من أهل السنة من قال القرب يكون عاما ويكون خاصا .
شيخ الإسلام رحمه الله وابن القيم في مواضع قالوا قرب الله جل وعلا إنما هو لخاصة عباده وليس ثَمَ قرب عام من جميع خلقه ، وإنما القرب العام فيما جاء في النصوص يكون قربه جل وعلا من جميع خلقه بملائكته .(1/451)
فقوله جل وعلا { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } هنا القرب فُسِّر بأنه - يعني فسره شيخ الإسلام وابن القيم - بأنه قرب الله جل وعلا بملائكته ، وقوله في آخر سورة الواقعة { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } قال هذا القرب العام من كل ميت قربٌ بالملائكة ، بجنوده ، فهو جل وعلا قريب منهم لأن جنوده الذين هم الملائكة قريبون من خلقه .
أما القرب قرب الله جل وعلا فإنه القرب الخاص من أوليائه ، من المصلي من الداعي من عباد الله المؤمنين ، فهو جل وعلا قريب من عباده المؤمنين بما يليق بجلاله وعظمته ، مع كونه على العرش ومع كونه عال على الخلق بذاته هو قريب منهم جل وعلا كما يليق بجلاله وعظمته .
وهذه لا يمكن للعباد أن يتصوروها بما يعلمون من الأحوال ، من أحوال المخلوقات لأن الله جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
قال (وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لَمَّا رَفَعَ الصَّحَابَةُ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: "أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا، إِنَّ الَّذي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ")
في هذا الحديث إثبات أن قرب الله جل وعلا من الداعي متحقق وأنه أقرب إلى الداعي من نفسه (أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ) من أقرب الأشياء إليه ، فلو ناجاه المناجي بالهمس فإنه جل وعلا قريب يسمع النجوى يسمع دعاء الداعي ، وإذا ناداه ورفع صوته بالدعاء فإن الله جل وعلا قريب منه يسمع دعاءه .
ففي الحديث إثبات قرب الله جل وعلا الخاص من الداعي ومن الداعين الذين هم من خاصة المؤمنين .
إثبات رؤية المؤمنين
لربهم يوم القيامة(1/452)
قال (وَقَوْلُهُ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ - وفي لفظ آخر أو ضبط آخر (لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ) فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن لاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا؛ فَافْعَلُوا"
الحديث فيه دلالة على أن الرب جل وعلا سيراه المؤمنون لأنه قال (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ)
والخطاب للمؤمنين ومثّل الرؤية برؤيتهم للقمر فقال (كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ) .
القمر اسم لما بعد الثالثة من الليالي ، فيطلق عليه إلى الثالثة هلال ثم ما بعد ذلك يطلق عليه القمر ولذلك قال (كما ترون القمر ليلة البدر) يعني القمر ليلة الخامس عشرة وهي ليلة اكتماله ، ليلة البدر ، وهذا يكون واضحا للناس جميعا يرونه في وسط السماء فهو في ليلة البدر يشرق مع غروب الشمس يطلع مع غروب الشمس ويغيب مع شروقها فهو في منتصف الليل أو في أثناء الليل يكون واضحا يراه كل أحد .
فالنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ شبه الرؤية بالرؤية فقال (سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ) يعني كرؤيتكم القمر ليلة البدر من جهة الوضوح ومن جهة عدم العناء في الرؤية ومن جهة عدم التضام فيها والتنازع بل الجميع يرون القمر ليلة البدر والكل يراه ومع ذلك ليس هو خاص بواحد دون آخر .
فشبه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الرؤية بالرؤية وفي هذا دليل على أن الله جل وعلا يرى بالأبصار يوم القيامة .(1/453)
وقوله (سَتَرَوْنَ) يعني بالبصر لأن الرؤية إذا عديت - يعني فعل (أرى) - إذا عدي إلى مفعول واحد كان بمعنى الرؤية البصرية ، وإذا عدي إلى مفعولين كان بمعنى العلم ، وهنا عدي إلى مفعول واحد وهو قوله (رَبَّكُمْ) (سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ) الفاعل هم يعني (الواو) والمفعول الذي وقع عليه الفعل (رَبَّكُمْ) لفظ الجلالة (رَبَّكُمْ) فإذن فهي بمعنى الرؤية البصرية .
ولذلك أهل السنة أثبتوا أن الرؤية هنا رؤية بصر وليست رؤية علم .
والنفاة قالوا هي رؤية علم لأن الله جل وعلا يعلمه يوم القيامة الجميع فإنه يُعلم يوم القيامة يعلمه كل أحد .
وهذا باطل لأن الرؤية التي بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين ... فعلمهم في الآخرة { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ } { بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ } يعني سيدركون العلم في الآخرة وقال { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } يعني هل ينظرون إلا ما تؤول إليه حقائقه فيعلم الناس كل شيء ، يعلم الناس ما أخبرت به الرسل وأن الله جل وعلا هو المتفرد بالألوهية والعبادة .
رؤية الله جل وعلا يوم القيامة سبق الكلام عليها عند قوله جل وعلا { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ()إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وهي خاصة بالمؤمنين في العرصات وفي الجنة ، وفي الجنة هي أعلى نعيم المؤمنين .
وقوله (كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) يعني في العرصة في عرصات القيامة (لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ) والرؤية رؤية الله تبارك وتعالى ممنوعة عن الكفار لقوله { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }
فحجب أهل الكفر عن رؤيته وأثبت الرؤية لأهل الإيمان به جل وعلا .
وسيأتي مزيد لذلك في الفصل الذي بعده إن شاء الله .
موقف أهل السنة
من الأحاديث التي فيها إثبات
الصفات الربانية(1/454)
قال (إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ)
يعني أن هذا الذي ذكره شيخ الإسلام إنما هو على وجه التمثيل وليس على وجه الحصر لأحاديث الصفات فأكثر الأحاديث في صفات الله جل وعلا .
فأعظم الأبواب من الدين التي بينها النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هي أبواب العلم بالله وذلك لأنها أفضل الإيمان .
العلم بالله جل وعلا بأسمائه بصفاته بأفعاله ما يليق بجلاله وعظمته هذا أعظم الأبواب التي جاءت في السنة ولهذا قال الشيخ هنا رحمه الله (إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عَن رَّبِهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ) يعني أنه عليه الصلاة والسلام يخبر ويبلغ صفة ربه للناس والسنة وحي من الله جل وعلا والمخبر فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو أعلم الخلق بربه جل وعلا لا ينطق عن الهوى { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
قال (فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ)
في قوله (إِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) مر معنا معنى هذه الألفاظ في أول الدروس عند بداية هذه العقيدة المباركة وبينا أن الفرقة الناجية في قوله (أَمَّا بَعْدُ : فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الطائفة الْمَنْصُورَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) فأهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة ما يدل على أن الفرقة الناجية وأهل السنة والجماعة والطائفة المنصورة ألفاظ لمعنى واحد لكن اختلفت باعتبار الصفات .(1/455)
فهي فرقة ناجية يعني من النار ، ومنصورة باعتبار الدنيا منصورة في الدنيا ومنصورة أيضا يوم القيامة { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } وهم أهل السنة لأنهم يتابعون السنة ولا يخرجون عنها وهم أهل الجماعة لأنهم لا يرضون بالفرقة ولا الافتراق في الأبدان ولا الأديان .
ولهذا يكون هذا باعتبار تعدد الأوصاف فهم موصوفون بأنهم ناجون (كُلُّهَا فِي النَّار إلاَّ وَاحِدَةً)
وموصوفون بأنهم منصورون (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) وهم أهل السنة لأنهم يتابعون السنة وينبذون العقل فيما لا يجوز فيه إعمال العقل ويجعلون العقل تابعا للسنة ، وهم أهل الجماعة الذين أخذوا بهذا الأصل العظيم الذي هو الاجتماع في الدين والاجتماع في الأبدان لأن الله جل وعلا أمرهم بذلك في قوله { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ } و في قوله { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } إلى غير ذلك من الأحاديث .
قال (يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ)
القاعدة ذكرها (مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ) .
ومعنى هذه الألفاظ الأربعة التحريف التعطيل التكييف والتمثيل في أول هذه الدروس أيضاً فترجع إليه .
ثم قال (بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ؛ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ)(1/456)
الله جل وعلا وصف هذه الأمة بقوله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } فإن هذه الأمة أعني أمة الإسلام أمة محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ هي بين الأمم ، بين اليهود في تشديداتهم وبين النصارى في جفائهم وتساهلهم .
من جهة الاعتقاد: اليهود قتلوا أنبياء الله ونفوا النبوة والنصارى ألهوا النبي وجعلوه ابنا لله جل وعلا من جهة العبادات : اليهود في الطهارة متشددون حتى إن أحدهم إذا وقعت النجاسة على ثوبه قطع هذه البقعة من الثوب والنصارى متساهلون حتى إنه يمضي على أحدهم المدة من الزمان لم يتطهر بل يتفاخرون بذلك أن فلانا العابد منهم أو الراهب مر عليه أربعون سنة لم يمس الماء ونحو ذلك .
فهذه الأمة جعلها الله وسطا في الأمم في العقيدة وفي العبادات وكذلك في المعاملات وكذلك في الحكم والتحكيم وما يصلح الناس به .
أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية الطائفة المنصورة وسط في فرق هذه الأمة فهم وسط بين الغلاة والجفاة ، وسط بين النفاة والمجسمة ، وسط بين المعطلة والممثلة ، وسط بين المكفرة والمرجئة ، وسط في ذلك جميعا وهذا يدل على أنهم محمودون بما حُمد به أهل الإسلام بين الأمم .
وقوله { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } معنى الوسط يعني العدل الخيار جعلناكم أمة عدلا خيارا مختارة من بين الأمم كما قال جل وعلا { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ } .
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ } الله جل وعلا جعل هذه الأمة خير أمة أخرجت فهي خير الأمم التي أخرجها الله جل وعلا .
وقوله { للناس } متعلق بما قبله يعني كنتم للناس خير أمة أخرجت .(1/457)
فهذه الطائفة المنصورة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة كذلك هم خير أمة أخرجت فهم خير أهل الأرض وهم الذين امتدحهم الله جل وعلا وهم الذين وعدهم الله جل وعلا في الدنيا بالنصر وفي الآخرة بالنصر والنجاة من النار فهم الذين يوصفون بأنهم عدل خيار .
فكل من التزم بطريقة أهل السنة والجماعة وبعقائد الفرقة الناجية وأخذ بذلك قولا وعملا فإنه موعود بكل خير وهو العدل الخيار بين هذه الأمة .
مكانة أهل السنة والجماعة
بين فرق الأمة
شرح ذلك رحمه الله في بيان وسطية أهل السنة والجماعة فقال (فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ)
المبحث هذا يسمى في باب العقيدة مبحث الوسطية .
ومبحث الوسطية تارة يكون بين الأديان ، وسطية أهل الإسلام بين الأديان والكلام عليه طويل وكذلك مبحث الوسطية وسطية أهل السنة بين الفرق .
فقال (هُمْ) يعني أهل السنة والجماعة (وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سُبْحَانَهُ بَيْنَ أهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَة)
في باب صفات الله تعالى تنازع الناس وأهل القبلة المنتسبون إلى القبلة تنازعوا في الصفات .
هل تعطل أم تثبت ؟
فقالت طائفة التي هم الجهمية ومن تبعهم إن الصفات لله جل وعلا يجب أن تكون عن طريق العقل فلا يثبتون أي صفة لله جل وعلا إلا عن طريق العقل ولهذا نفى الجهمية جميع صفات الله جل وعلا إلا صفة الوجود المطلق .
وقابلهم أهل التجسيم فنظروا في الصفات الجائية في الكتاب والسنة وأثبتوا ذلك على وجه المماثلة
فقالوا لا نعقل من اليد إلا أنها كأيدينا ولا نعقل من الوجه إلا أنه كوجوهنا ولا نعقل من الكلام إلا أنه ككلامنا إلى آخره ، فأثبتوا الصفات على وجه التجسيم ، على وجه التمثيل فقالوا هو جل وعلا جسم كالأجسام وهذا نقيض قول الأولين .(1/458)
وهدى الله أهل السنة فأثبتوا الصفات ونفوا عنها التمثيل فقالوا صفاته جل وعلا كما يليق بذاته فكما أننا نثبت ذاتا لا كالذوات فنثبت الصفات لا كالصفات كما قال جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } .
فأهل التعطيل أنواع وأهل التمثيل أنواع .
وقوله (أَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَة) يريد به تشبيه الخالق بالمخلوق في الصفة يعني في المعنى والكيفية أو في كل المعنى وهذا من أقوال أهل البدع والضلال فإن الله جل وعلا ليس كمثله شيء في صفاته كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته .
فإثبات الصفات إثبات معنى ووجود لا إثبات كيفية ولا إثبات مماثلة وبهذا يتبين طريقة أهل السنة في أنهم يثبتون وينزهون .
فالمعطلة يعبدون العدم .
والممثلة المجسمة يعبدون صنما وهذا الصنم هو الذي تخيلوه في أذهانهم .
صوروا صورة في أذهانهم فجعلوها لله جل وعلا فعبدوا هذا الذي تخيلوه .
ولهذا يقول أهل السنة : (المعطل) يعني الذي ينفي الصفات (يعبد عدما) لأنه ليس ثم شيء موجود إلا وله صفات لا بد ، والله جل وعلا متصف بصفات الكمال والجلال والجمال .
(المعطل يعبد عدما والممثل المجسم يعبد صنما) جعله لنفسه .
وقال بعد ذلك (وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ)
وغيرهم ، وهذا الباب الذي هو باب أفعال الله يأتي بيانه في القدر مفصلا ونقول هنا إن أهل السنة في باب أفعال الله وسط بين الجبرية والقدرية ، والجبرية قسمان :
- جبرية الظاهر والباطن .
- وجبرية الباطن .
فجبرية الظاهر والباطن هم الجهمية والجبرية المشهورون بقولهم إن الإنسان في أفعاله كالريشة في مهب الريح ليس له اختيار البتة بل هو كالهباءة والريشة تلعب بها الريح كيف شاءت فهؤلاء جبرية الظاهر والباطن وهم الجهمية وغلاة الصوفية .
والطائفة الأخرى جبرية الباطن لا الظاهر ، يقولون في الظاهر مختار وفي الباطن مجبور ، وهذا قول الأشاعرة .(1/459)
ولأجل هذا التفريق اخترع أبو الحسن الأشعري لفظ الكسب وقال أفعال العباد كسب لهم .
كسب يعني : تضاف إليهم وإلا فالفاعل هو الله .
وهم لا يضاف إليهم الفعل حقيقة وإنما يضاف إليهم الفعل مجازا .
هو في الباطن مجبور في الظاهر مختار .
ما وظيفته ؟
قال هو كالسكين في يد القاطع وعمله القطع .
والقطع فعل العبد والسكين آلة وحامل السكين الذي يمرها على الشيء الذي يراد قطعه هو الفاعل
فالفاعل حقيقة هو الله والمفعول يعني الفعل الذي حصل الذي فعله في الحقيقة هو الله .
والإنسان آلة فُعِل بها أو أضيف إليها الفعل وصار مكسوبا له .
ولهذا قال أهل العلم (مما يقال) يعني قال بعض أهل العلم :
مما يقال ولا حقيقة تحته ... معقولة تدنو لذي الأفهامِ
الكسب عن الأشعري والحال عنـ ... ... ـد البهشمي وطفرة النظّامِ
ثلاث ما لها حقيقة ، ولهذا اختلف الأشاعرة الذين يقولون بالجبر في الباطن في تفسير الكسب الذي اخترعه أبو الحسن الأشعري إلى اثني عشر قولا مذكورة في الشروح المطولة للجوهرة وغيرها .
يأتي تفصيل الكلام إن شاء الله في موضعه .
المقصود أن الجبرية قسمان جبرية الظاهر والباطن وجبرية الباطن فقط والظاهر يقولون هو مختار .
والقدرية أيضا قسمان :
- القدرية الغلاة نفاة العلم هؤلاء هم الذين ينفون العلم السابق وهي التي جاء فيها قول السلف (ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا) .
يُعْنَى بالقدرية الغلاة الذين ينكرون علم الله السابق للأشياء ويقولون إن الله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها ويقولون إن الأمر أنف يعني مستأنف ، وهؤلاء هم الذين قال فيهم ابن عمر (أخبرهم أني منهم بريء) .
- والقدرية الثانية هم الذين يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه وهم المعتزلة .
فأولئك قالوا مجبور العبد مجبور وهؤلاء قالوا يفعل كما يريد وكما يشاء والله جل وعلا لا يخلق فعل العبد بل هو يخلق فعل نفسه .(1/460)
فإرادته يخلقها وقدرته يخلقها وما ينتج عنها يخلقها العبد فيكون فعل العبد مخلوقا له .
أهل السنة وسط في باب أفعال الله فقالوا أفعال .
.....
يعني في القدر ، يقصد بأفعال الله يعني في القدر ، وهذه المسألة هي المقصود بها أفعال العباد ، فأفعال الله يعني القدر والقدر متعلق بأفعال العباد .
فالجبرية قالوا إن القدرة والقدر هو الذي يجري والعبد ليس قادرا على شيء أصلا بل القادر هو الله جل وعلا فهو الذي يفعل ما يشاء والعبد مجبور .
والقدرية ناقضوهم كما ذكرت لك .
أهل السنة قالوا العبد يفعل الفعل حقيقة والذي خلق فعله هو الله جل وعلا لأن الله جل وعلا يفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء وهو جل وعلا خالق كل شيء وقد قال جل وعلا { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } يعني وعملكم .
فالعبد يفعل الفعل وفعله له حقيقة لأنه اختار هذا الفعل وقَدِرَ عليه فوجه إرادته وقدرته إليه فالفعل ينسب إليه حقيقة لكن ليس ثم خالق إلا الله جل وعلا فالله هو الذي خلق فعل العبد .
والعبد مختار ولا يشاء شيئا فيقع إلا وقد شاءه الله جل وعلا فليس لأحد في ملكوت الله جل وعلا إجبار ولا اختيار بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وما شاءه العبد إذا شاءه الله كان وإذا لم يشأه الله لم يكن ، كما قال { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } .
فإذن أهل السنة يثبتون فعل العبد وأنه يفعل حقيقة لكن الخلق الله جل وعلا هو الخالق .
طبعا هذه المسألة عرضت لها بشيء من الاختصار والسرعة فقد لا تكون مفهومة من جميع جهاتها ، يأتي تفصيلها إن شاء الله في الكلام على القدر بعد حين .
قال (وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ) وبين (الْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ)(1/461)
طبعا الأول قوله القدرية هم سُمُوا قدرية في قوله (وَسَطٌ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ) سموا قدرية لأنهم نفاة للقدر ، جبرية لأنهم يقولون بالجبر وقدرية لأنهم ينفون القدر .
هذا على غير المعتاد ، لأن المعتاد أن النسبة تكون لمن يقول بها لكن هؤلاء ينفون القدر فسموا قدرية لأجل نفيهم للقدر إما النفي الكامل بجميع مراتبة من العلم وما بعدها وإما النفي لبعض مراتبه من أن الله جل وعلا هو الخالق وحده وأن العبد يفعل الفعل حقيقة .
قال (وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وبين الْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ) يريد أن أهل السنة في باب الوعيد يعني ما توعد الله به العصاة أنهم وسط بين أهل الإرجاء الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب ، وبين الوعيدية الذين يقولون إذا فعل المؤمن كبيرة من كبائر الذنوب خرج من الإيمان ودخل في الكفر .
الوعيدية منهم الخوراج ومنهم المعتزلة وهو المراد بقوله (من الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ) القدرية يعني المعتزلة الذين يقولون إن فاعل الكبيرة مخرج من اسم الإيمان وهو في منزلة بين المنزلتين ، (وَغِيْرِهِمْ) كالخوارج على اختلاف فرقهم .
والمرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب بل فاعل الكبيرة والذي لم يفعل الكبيرة الجميع في أصل الإيمان سواء .
والمرجئة منهم :
" المرجئة الغلاة كالجهمية .
" ومنهم المرجئة المتوسطون كالأشاعرة .
" ومنهم مرجئة الفقهاء .
فالمرجئة أصناف وهم الذين يرجئون بعض أركان الإيمان عن مسمى الإيمان إما إرجاء العمل وإما إرجاء الاعتقاد وإما إرجاء القول على اختلاف مللهم مما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى .
بقي مسألتان نرجئها إن شاء الله المرة القادمة ونذكر بدرس التفسير بعد الأذان إن شاء الله .
نكتفي بهذا القدر وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
بسم الله الرحمن الرحيم(1/462)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا يا أرحم الراحمين ربنا لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين واغفر لنا حوبنا وخطايانا ، أما بعد :
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذه العقيدة المباركة عن أهل السنة والجماعة في الفصل الثاني منها قال :
(وَهُمْ وَسَطٌ) يعني أهل السنة والجماعة وسط (فِي بَابِ أَفْعَالِ اللهِ بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وغيرهم وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغِيْرِهِمْ.وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَبين الْخَوَارِجِ)
في قوله هنا رحمه الله (وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الإِيمَانِ والدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ) يريد رحمه الله أن أهل السنة والجماعة وسط في مسألة الأسماء والأحكام بين الخوارج الحرورية ومن شابههم في ذلك كالمعتزلة هؤلاء في طرف وبين المرجئة والجهمية ومن شابههم في طرف آخر .
ويعني بقوله (أَسْمَاءِ الإِيمَانِ والدِّينِ) مثل الإسلام والإيمان والإحسان أو مسلم مؤمن من أهل الوعد من أهل الوعيد ونحو ذلك .
ومثلها مسألة الأحكام ، الحكم عليه أنه من أهل الدين أو أنه خارج من الدين في هذه الدنيا وفي الآخرة الحكم عليه بأنه من أهل الخلود في النار أو من أهل الجنة ونحو ذلك .
فهذه المسائل التي تسمى مسائل الأسماء والأحكام هذه مما كان أهل السنة رحمهم الله تعالى فيه في الوسط بين الغالين والجافين
لأن هذا الدين وسط بين الغلو والتقصير بين الغلو والجفا .(1/463)
فالذين غلوا فسلبوا أسماء الدين والإيمان عمن يستحقها شرعا ، هؤلاء هم الحرورية والمعتزلة أو الأحكام في ذلك .
وبين الذين وصفوا بأسماء الدين والإسلام وأسماء الإيمان ونحو ذلك من لم يستحقها وهم المرجئة .
وأصل هذه المسألة مبني على اعتقاد الحرورية والمعتزلة والمرجئة والجهمية فلا بد من معرفة اعتقادهم في هذه المسائل :
- أما الحرورية : فيراد بهم الخوارج ، منسوبون إلى موضع تجمعوا فيه أول ما خرجوا على علي رضي الله عنه ، والخوارج كفّروا بالمعصية كفّروا بالذنب .
والمعصية التي هي من الكبائر من فعلها عندهم هو كافر خارج من الملة يطلق عليه اسم الكافر في الدنيا وفي الآخرة خالد في النار أبدا مثل سائر الكفرة .
- المعتزلة : يعتقدون أن فاعل الكبيرة في الآخرة حكمه أنه من أهل النار خالدا مخلدا فيها وفي الدنيا يقولون : لا نعطيه اسم الإيمان ولا نعطيه اسم الكفر ولا نسلب عنه في الدنيا اسم الإسلام جملة وإنما نقول هو في منزلة بين المنزلتين ، وهذه المنزلة هي التي ابتدعها المعتزلة عمرو بن عبيد ومن معه وواصل بن عطاء وقالوا إن فاعل الكبيرة ليس كما تقول الخوارج كافر في الدنيا وليس كما يقول المرجئة أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ولكنه في الدنيا ليس من أهل الإيمان وليس من أهل الكفران بل هو فاسق يطلق عليه اسم الفاسق .
وهل هل فاسق مؤمن ؟
عندهم لا ، لأن اسم الفسق اللي هو الكبيرة يخرجه من مسمى الإيمان إلى منزلة بين منزلة الإيمان والكفر .
وهذا غلو في مسألة فاعل المعصية أو فعل الكبيرة ، لأن الكبيرة من كبائر الذنوب إذا فعلها العبد فإن الأدلة دلت على أنه لا يخرج من اسم الإيمان ولا يدخل في اسم الكفر بل هو جامع بين الإيمان وبين الفسق .
فالخوارج قالوا يكفر والمعتزلة قالوا يفسق ولا يسمى مؤمنا والمرجئة قالوا يسمى مؤمنا ولا يسمى فاسقا يعني في إطلاق .(1/464)
- وأما أهل السنة فقالوا يُجْمَع بين هذه الأسماء جميعا ، فيكون فاعل الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته لأن الله جل وعلا ما سلب الإيمان عن من فعل الكبيرة قال سبحانه { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } فسماهم مؤمنين مع حصول القتال والقتل فيما بينهم وهذا كبيرة من كبائر الذنوب فدل على أن فعل هذا الأمر الذي هو كبيرة القتل على أنه لا يُخرج من اسم الإيمان ، فيبقى معه الإيمان ولكن هو مع الإيمان فاسق بهذه الكبيرة ، نقص إيمانه جدا بفعله لهذه الكبيرة .
هذا طرف : اللي هو طرف الحرورية الخوارج والمعتزلة .
ووسطية أهل السنة .
والطرف الآخر المرجئة والجهمية : المرجئة طائفة أرجأت في الأصل أرجأت الكلام على من حصل منهم الكبائر حتى آل الأمر إلى أنهم أرجؤوا العمل عن مسمى الإيمان فقالوا (الإيمان قول واعتقاد) وأما العمل فأخرجوا العمل عن المسمى .
منهم من يقول هو لازم له خارج عنه - لازم -.
ومنهم من يقول هو خارج عنه وليس بلازم أيضا .
ومن المرجئة من سلبوا أيضا القول فقالوا يكفي الاعتقاد .
ومن هؤلاء من قالوا الاعتقاد يجمع العلم والتصديق الجازم فقالوا نكتفي فيه أيضا بالعلم وصار المرجئة على مراتب و على أنواع منهم الجهمية .(1/465)
فقوله (وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ) يعني بالمرجئة من كان عليه اسم الإرجاء كمرجئة الفقهاء الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان ، أو كالأشاعرة ونحوهم ، والجهمية الذين قالوا الإيمان هو المعرفة فقط ، قالوا الإيمان العلم ، معرفة ، هل لابد أن يكون مع التصديق ؟ لا لو لم يكن مع التصديق فيكفي ذلك في اسم الإيمان ، في اسم الإسلام .
فهؤلاء أدخلوا في الإسلام وأبقوا في الإسلام من تدل الأدلة على خروجه منه .
والحرورية والمعتزلة أخرجوا من الإسلام من دلت الأدلة على بقائه في الإسلام والإيمان .
أهل السنة وسط بين هؤلاء .
وهذه مسألة عظيمة لأنها من المسائل التي أوجبت الافتراق والاختلاف في هذه الأمة لأن مسألة الاسم ، من تُطْلِق عليه الاسم أسماء الإيمان ، أو من تُطْلِق عليه أسماء الفسوق هذه من الأسباب التي أحدثت الافتراق في الأمة فدائما إذا توبع فيها الشر ما حصل الاختلاف والافتراق ، وإذا بغى الناس بغى بعضهم على بعض فإنه يحصل الافتراق والاختلاف .
كذلك من الأسماء البدعة والتبديع والفسق والتفسيق والإيمان الإسلام الشهادة الإحسان الإمامة ، كل هذه الأسماء يجب أن لا تطلق إلا على من دل الدليل على استحقاقه لها ، أو دل الدليل على استحقاقه بسلبه إياها .
والخروج فيها عن مقتضى الأدلة وعن مقتضى كلام أهل السنة يوقع الفرقة والاختلاف .
أول ما حصل الخلاف من الخوارج في هذه المسألة فإنهم قالوا هؤلاء كفار لأجل الحكم ثم ناقضهم طائفة .
فصار عندنا طوائف ثلاث في أول الأمر الذين هم الخوارج الذين كفروا عليا والرافضة الذين ألهوا عليا رضي الله عنه والمرجئة الذين أرجؤوا والناصبة الذين ناصبوا العداء .
وظهرت أسماء وفرق من جراء الخلاف في الأسماء والأحكام .
لهذا يجب على طالب العلم أن لا يطلق هذه الأسماء إلا على ما علم بالدليل الواضح أنه يُطْلَقُ على صاحبه شيء من هذه الأسماء .(1/466)
وليست المسألة مسألة ظن أو يطلق عليه بحسب الاجتهاد لأن الإطلاق على الناس إطلاق هذه الأسماء أو الأحكام على الناس هذه تسبب الخلاف والفرقة لأنه لا بد أن يكون ثم اختلاف في المعين فإذا صار الخلاف في المعين من جهة الرأي حصل الافتراق وإذا حصل النظر في جهة المعين من جهة الدليل والشرع حصل الاتفاق .
فهذا يقول فاسق والآخر يقول صالح ، هذا يقول إمام والثاني يقول زنديق وهذا يقول مبتدع والثالث يقول مجاهد أو إمام أو عالم أو نحو ذلك فتَقَابُل هذه الأسماء يخرج الناظر فيها عن دليل الشرع .
والواجب على أهل العلم وعلى طلبة العلم أن يقتفوا سيرة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة لأجل أن لا يحصل الفرقة والخلاف في الأمة فلا يطلقوا هذه الأسماء إلا على من استحقها شرعا .
وطلاب العلم الذين ابتدؤا في طلب العلم أو توسطوا فإنهم فيما ينبغي أن يتباعدوا عن هذه الإطلاقات ويتركوها لأهل العلم الذين يعلمون حدود هذه الإطلاقات نفيا وإثباتا ومن يوصف باسم أسماء الإيمان ومن يسلب عنه ذلك إما أصله أو كماله ومنه مسألة التكفير فيمن يكفر لا يدخل فيها بعض صغار طلاب العلم أو المتوسطون لأنه تتبعها مسائل كبيرة .
وحصل في هذا الزمن خلاف كما ترون وتسمعون في مسائل التكفير في كثير من أمصار المسلمين من جراء الخلاف في الأحكام ، وظهرت فرق وجماعات جديدة لأجل الخلاف في الأسماء والأحكام هذه .
فهذه المسألة مهمة ووسطية أهل السنة والجماعة فيها (أن لا يطلق القول باسم من الأسماء على المعين أو أن يسلب عنه شيء من أسماء الدين أو حكمه في الآخرة أو حكمه في الدنيا إلا عن دليل شرعي .
وهذا الدليل الشرعي يكون مؤصلا عند أهل السنة والجماعة) يعني أقرت دلالته أهل السنة والجماعة
يأتي في موضع آخر ربما ذكر الجهمية والمرجئة في مسائل الإيمان وتفصيل الفرق بينهما يعني بدقة عند الكلام على مسائل الإيمان إن شاء الله تعالى .(1/467)
فإذن هذه الوسطية دلتنا على أن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن لكن إيمانه ناقص ، مسلم وإسلامه ناقص أيضا لأنه خرم شيئا من ظواهر الإسلام لأن الإسلام هو الظاهر والإيمان هو الباطن فبينهما تلازم من هذه الجهة ...
انتهى الشريط الساس عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط السابع عشر
فإذن هذه الوسطية دلتنا على أن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن لكن إيمانه ناقص .
مسلم وإسلامه ناقص أيضا لأنه خرم شيئا من ظواهر الإسلام لأن الإسلام هو الظاهر والإيمان هو الباطن فبينهما تلازم من هذه الجهة .
قال رحمه الله (وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَبين الْخَوَارِجِ)
هنا في أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، الصحابة يجب على المؤمنين أن يتولوهم وأن يعلموا أنهم هم أفضل هذه الأمة كما قال عليه الصلاة والسلام (خيركم قرني) وقال جل وعلا { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } وقال جل وعلا { الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } والأدلة في ذلك كثيرة وكما في آخر سورة الفتح مثلا قال { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } وهؤلاء هم الصحابة لأنه قال في أولها { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء } الآية .(1/468)
فصحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يجب توليهم واعتقاد أنهم أفضل هذه الأمة ومحبتهم ونصرتهم والدفاع عن أعراضهم وعدم الرضا أن ينالوا بشيء .
هذا الواجب تجاه صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
وأهل السنة توسطوا في الصحابة بين الذين ألهوا بعضهم وبين الذين كفروهم .
الذين ألهوا بعض الصحابة مثل الرافضة والذين كفّروا الصحابة مثل الخوارج .
فالصحابة رضوان الله عليهم بشر من البشر وهم خير هذه الأمة وأعظمها علما وأقلها تكلفا وأقربها بل أصحها متابعة لرسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
الرافضة هؤلاء فرقة تنازع أهل السنة هل هم من الثلاث والسبعين فرقة أم لا ؟
فقال بعضهم : الرافضة يخرجون من الثلاث وسبعين فرقة ، ومن يَخْرُجُ الرافضة والجهمية من بين الفرق العامة المنتسبة لهذه الأمة ، وعلى هذا يكون الرافضة كفرقةٍ كُفار - يعني كطائفة - .
وقال آخرون هم من الثلاث والسبعين فرقة ، هي فرقة من الثلاث والسبعين فرقة ، ولم يُخْرِجُوا من الفرق المنتسبة إلى القبلة إلا الجهمية .
والرافضة اسم لمن رفض إمامة (زيد بن علي بن الحسين) لأنه لما حصل الخلاف في زمن هشام بن عبدالملك - أحد خلفاء بني أمية - بين شيعة علي حصل الخلاف في الإمامة فجُعل الإمام زيد بن علي فطلب منه طائفة أن يتبرأ من الشيخين وأن يلعن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فرفض ذلك وأبى وترضّى عنهما رضي الله عنهما وعنه ، فرفضوا إمامته .
هؤلاء الذين رفضوا إمامته سموا رافضة لرفضهم إمامة زيد بن (علي) وصار شعارهم من البداية لعن وسب الشيخين .
والذين أيدوا زيد بن علي بن الحسين ، الذين أيدوه سُمُّوا زيدية .
وأصل مبدأ خروج الشيعة كما تعلمون في زمن علي رضي الله عنه ، فإن الذين لازموا عليا وكانوا حوله دائما هؤلاء يسمون شيعة علي ، شيعة علي لأنهم شايعوه .
وكان في الأصل من شايع عليا لم يبغض عثمان ولم يبغض عمر ولم يبغض أبا بكر .(1/469)
ثم بعد ذلك حصل تأليه علي والغلو في ذلك وأول من بدأه عبدالله بن سبأ اليهودي الذي أسلم وتظاهر بالإسلام وأدخل في هذه الملة اعتقاد أن عليا إله وعلي رضي الله عنه حرّق أولئك وعاقبهم بأشد العقوبة وقال في شعره المشهور :
لما رأيت الأمر أمراً منكراً ... أججت ناري ودعوت قَمبراً
فحفر لهم الأخاديد وحرّقهم بالنار .
هؤلاء الغالية الذين زعموا أن عليا إله .
لكن إلى هنا لم يظهر الرِّفض وإنما كان هؤلاء الشيعة ، شيعة علي من معه وهؤلاء شيعة غلاة
ولم يسموا بالشيعة الغلاة في ذلك الوقت وإنما سموا سبأية نسبة إلى عبدالله بن سبأ .
ثم بعد زمن ظهر الاجتماع حول زيد بن على إلى أن صار الخلاف فتفرقوا إلى زيدية ورافضة .
والرافضة فرق منهم الإمامية الاثني عشرية الموسوية ومنهم الجعفرية .
فيدخل في اسم الرافضة عند السلف الباطنية والإسماعيلية ويدخل فيهم الموسوية ، لأن هذا الاسم كان قبل التفرق وتفرق الرافضة إلى إسماعيلية وموسوية هذا كان بعد الكلام على الحادثة مع زيد بن علي كان بعد ذلك بزمن فافترقت الرافضة إلى إسماعيلية وإلى موسوية .
والإسماعيلية والموسوية هؤلاء ينتسبون إلى جعفر الصادق لأن إسماعيل بن جعفر وموسى بن جعفر ، فخرج من الإسماعيلية الباطنية وخرج من الموسوية الإمامية الاثني عشرية الذين يعرفون الآن باسم الرافضة .
فقد تجد أنه يُسَمَى الإسماعيلي رافضي وهذا صحيح ، تسمية صحيحة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله ، وبسبب الرافضة بنيت القباب على القبور وعُبد الموتى من دون الله ويَقْصُدْ بالرافضة الإسماعيلية الباطنية الذين أعلنوا دولتهم الفاطمية .
المقصود من هذا أن اسم الرافضة يشمل هنا الإسماعيلية و الإمامية الاثني عشرية الموسوية ويشمل كثيرا من الفرق في ذلك لكن يخرج منه اسم الزيدية .
قال (وَبين الْخَوَارِجِ) الخوارج يعني الحَرورية .(1/470)
فإن الرافضة غلو والخوارج جفوا ، الخوارج كفروا الصحابة والرافضة ألهوا عليا ، الرافضة يتبرءون من جميع الصحابة إلا من عدد والخوارج يتبرءون من الصحابة إلا من عدد .
وأهل السنة والجماعة بين هؤلاء لا يتبرءون من أي صحابي بل يترضون عن الجميع ويحمدون الجميع لأن الجميع تشرفوا بصحبة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ .
إلى آخر مباحث هذا الأمر اللي هو مبحث الوسطية عند أهل السنة والجماعة بين الفرق .
كل هذه الفرق ما بين غال وجاف ، ما بين غال ومقصر وأهل السنة دائما يذكرون في عقائدهم كما ذكره الطحاوي في آخر عقيدته وكما ذكره جماعة أيضا ، يذكرون مبحث الوسطية هذا ليبينوا أن أهل السنة رحمهم الله بين هؤلاء وهؤلاء ، ليسوا من الغلاة لنهي الله جل وعلا عن الغلو وليسوا من الجفاة لنهي النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عن الجفاء
قال جل وعلا في الغلو { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } وقال جل وعلا أيضا في الآية الأخرى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ نهى عن الغلو فقال (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) ونهى عن الغلو في رميهم للجمار عليه الصلاة والسلام فقال (بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو)
والغلو يدخل في الاعتقاد ويدخل في الأعمال ويدخل في السلوك .
فأهل السنة ليسوا من الغلاة بل تابعوا السنة والتزموا بها فكانوا على خير .
ويقابلهم أهل الجفاء إما في الاعتقاد ، أهل التقصير في الاعتقاد ، وإما في الأعمال وإما في السلوك ، وهؤلاء طرف آخر بعيد ، وأهل السنة بين هؤلاء وهؤلاء فطريقتهم هي طريقة الصحابة رضي الله عنهم .(1/471)
نكتفي بهذا القدر من بيان مسائل الوسطية وإن كانت مسائلها كثيرة والكلام يطول عليها لكن سيأتي إن شاء الله مزيد تفصيل في مواضعه في بعض ما يكون فيه أهل السنة وسط في مثل مسائل الإمامة ومسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوَلاية يعني الأولياء ومن مثل مسائل السلوك والأخلاق ونحو ذلك فيما نستقبل من الرسالة إن شاء الله .
وجوب الإيمان
بالاستواء والمعيّة
وأنه لا تنافي بينهما
فصل : وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَّسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا، يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ؛ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ في َقَوْلِهِ: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الحديد:4]، وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ) أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ، اللُّغَةُ، بَلِ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرُ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهِم... إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَّعَانِي رُبُوبِِيَّتِهِ.(1/472)
وَكُلُّ هَذَا الْكَلامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ -مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ مَعَنَا- حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لاَ يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ؛ مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: (فِي السَّمَاء)، أَنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّهُ أَوْ تُقِلُّهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهُوَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ؛ إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال رحمه الله تعالى (فَصْلٌ:وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَّسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا، يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ) .
هذا الفصل ذكر فيه شيخ الإسلام علو الله جل وعلا على عرشه ومعيته على خلقه كذلك أنه جل وعلا مع علوه فهو قريب ، قريب في علوه عال جل وعلا في دنوه سبحانه وتعالى .
فهذا الفصل نص فيه شيخ الإسلام رحمه الله على ذكر مسألة العلو والمعية والقرب والدنو لأجل أن هذه المسألة هي أشهر المسائل التي فيها الخلاف مع الأشاعرة أو مع المعطلة عموما .
مسألة علو الذات علو الله جل وعلا على عرشه علو ذات تبارك ربنا وتقدس وتعالى .(1/473)
تلحظ أنه في الفصل الأول ذكر أدلة العلو ، وفي الفصل الثاني من السنة ذكر أيضا أدلة العلو والمعية والقرب وهنا أيضا عقد هذا الفصل لبيان علو الله ومعيته لخلقه العامة والخاصة وقرب الله جل وعلا من بعض عباده وذلك لتأكيد هذا الأمر ألا وهو أنه مما دخل في الإيمان بالله الإيمان بالعلو .
الذين أخرجوا العلو - يعني علو الذات - عن الإيمان بالعلو وقالوا الإيمان بالعلو هو الإيمان بعلو القدر والقهر هؤلاء لم يؤمنوا بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله عليه الصلاة والسلام وأجمع عليه سلف هذه الأمة .
قال (دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ الإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ، وَتَوَاتَرَ عَن رَّسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ)
ذكرنا لكم تفصيل هذه الجمل فيما سبق وتستفيد من هذا الكلام أن مسألة علو الذات لله جل وعلا أنها في الكتاب بدلالة قطعية والقرآن قطعي الثبوت وأدلة العلو أيضا علو الذات قطعية الدلالة وكذلك تواتر عن رسوله ذلك وبالتواتر صارت الدلالة قطعية ، صار الثبوت قطعيا ، وما جاء في هذه الأحاديث دلالته أيضا قطعية ، وأجمع سلف الأمة على ذلك والإجماع له صفة القطعية فإذن مسألة علو الذات لله تبارك وتعالى على عرشه هذه مسألة مقطوع بها .
علو الله جل وعلا بذاته على خلقه وأنه ليس في كل مكان جل وعلا وليس حالا بكل الأمكنة هذه قطعية في الثبوت وقطعية في الدلالة ... (1)
وأنكر ما دل عليه الإجماع إجماع السلف رحمهم الله تعالى .
ولكن لأجل التأويل اختلف أهل السنة في تكفير نفاة العلة ، لأجل التأويل لأنهم أولوا العلو بعلو الصفات علو القدر القهر وطائفة من أهل السنة كما ذكرت لك كفروا نفاة العلو لأنهم أنكروا ما تواترت به الأدلة وكان قطعي الدلالة .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(1/474)
هذا الذي تواتر قال فيه رحمه الله (مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ، عَلَى عَرْشِهِ، عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا)
يعني مع علوه ومع كونه جل وعلا فوق سماواته على عرشه فهو معهم يعلم ما هم عاملون .
(كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ في َقَوْلِهِ: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } )
فبدأها بالعلم في قوله { يعلم } وختمها بالعلم في قوله { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
فصار تفسير المعية بما دلت عليه أول الآية وآخر الآية صار تفسيرها عند السلف أنها معية علم ، وهذه هي المعية العامة كما ذكرنا لكم من قبل وأما المعية الخاصة فهي من خاصة أوليائه فهو معهم جل وعلا بتوفيقه وتأييده وإلهامه ونصره إلى غير ذلك من مقتضيات المعية الخاصة .
قال في بيان معنى المعية لأجل أن الشبهة التي دعت النفاة ، نفاة العلو إلى نفي علو الذات الشبهة هي قوله { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } لأن هل هذه المعية تقتضي حلولا في جميع الأماكن أم لا ؟
شيخ الإسلام استحضر هذا فأورد هذه الشبهة ونفاها .
في قوله (وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ) أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ اللُّغَةُ)
ولولا تكرار الكلام وإطالة الحديث لكررت لكم أو أفضت بزيادة عما ذكرته لكم سالفا(1/475)
قد ذكرت لكم فيما قبل أن كلمة (مع) في اللغة لا تقتضي اختلاطا ولا تقتضي أن تكون معية قرب بالذات بل هي تقتضي المقارنة والاقتران بين الشيئين والصحبة بينهما كما قال جل وعلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } كونوا معهم يعني في صحبتهم ومن الصادقين صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ونحن معهم مع تفاوت ما بيننا في الزمان والتفاوت فيما بين الأبدان
فإذن المعية مطلق الاشتراك والمقارنة والصحبة ولهذا قال (لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَهُوَ مَعَكُمْ) أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ؛ فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ اللُّغَةُ)
فقوله (لاَ تُوجِبُهُ) تنبيه على أنه تجيزه اللغة لأن الاختلاط بالذوات هو أحد معاني المعية ، تقول (أنا مع فلان) ، (أين كنت؟) (كنت مع فلان) يعني من جهة أن ذاتك مع ذاته كنت أنت وهو بالأبدان في مكان واحد ، ويكون على غير ذلك كما قلنا في الآية كما يقول الرجل (فلانة) يعني زوجته (معي) يعني لا زالت في ذمته وفي عصمته في صحبته مقترنة به ولم تخرج عن ذلك .
فإذن كلمة (مع) في اللغة لا توجب معنى اختلاط الذات بالذات ولكن هذا أحد المعاني ومعنى (مع) في اللغة كما ذكرت لكم أوسع من ذلك ولهذا عبر شيخ الإسلام بقوله (فَإِنَّ هَذَا لاَ تُوجِبُهُ اللُّغَةُ).
قال - في بعض النسخ (لا توجهه اللغة) .
......
لكن الصحيح (لا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ) هذا هو المعروف (لا توجبهُ اللُّغَةُ) لأن اللغة تجيز ذلك ولا توجبه وشيخ الإسلام خاصة في المسائل اللغوية دقيق النظر - .
قال (وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق)
ذكر هنا دليل الفطرة تكون أدلة علو الله جل وعلا على خلقه بذاته أربعة أنواع من الأدلة وكلها قطعية :
" فذكر أولا دليل الكتاب قال (أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ) وهذا تواتر النقل به معلوم .
" وتواتر السنة .
" والإجماع .(1/476)
" ثم ذكر قال (وخلاف ما فطر الله عليه الخلق) وهذا الذي يسمى الدليل الفطري .
لأن أدلة علو الله بذاته على خلقه أربعة أنواع من الأدلة : الكتاب والسنة والإجماع والفطرة.
وهذه الفطرة هي أنه ما من أحد إلا وإذا أراد أن يفزع في أمر ليس له به طاقة توجه إلى العلو حتى ولو لم يكن ذا دين .
وقد ذكرت لكم أن ابن فضلان في رسالته التي يذكر فيها رحلته إلى بعض بلاد الترك - يعني بلاد روسيا في ذلك الزمان القرن الرابع الهجري - ذكر أنه أتى قوما وهؤلاء القوم لا يعرفون الله - يريد أن يبين لهم الإسلام ومن معه - ولا يعرفون الله قال ولكني رأيتهم إذا نابتهم شدة أو أصابهم قحط أو احتاجوا إلى شيء فإنهم يجتمعون ويتوجهون إلى السماء ويهمهمون ، وهذا شيء فطري مغروس في القلب ، حتى الملحد إذا مرض فإنه يتوجه إلى السماء فطرة ، وإذا عارض فإنه ينفيه بقسر نفسه على النفي لكن هذا في القلب تعلق النفس بمن في السماء ، هذا هو دليل الفطرة .
قال (بَلِ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرُ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ)
يقول هذا تمثيل ببعض آيات الله والله جل وعلا له المثل الأعلى سبحانه .
قال (الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ) أنت الآن تمشي في الأرض وتنظر إلى القمر ومن يبعد عنك بمئات الكيلوات أيضا في نفس الليلة ينظر إلى القمر مثلا في نصف الشهر البدر في وسط الليل تنظر أنت إلى القمر والقمر معك لا يفارقك وأيضا من هو بعيد عنك بمئات الكيلوات لا يفارقه القمر والقمر معك ومع غيرك أيضا .(1/477)
وهل ذات القمر حالة بالأرض ؟ هل ذات القمر حالة في كل مكان ؟ ليست كذلك بل هذا القمر وهو من أصغر مخلوقات الله مع المسافر ومع الحضر ومع غير المسافر مع تباعد ما بينهم من الأمكنة جداً هو معهم جميعا ، معهم يعني من جهة الاقتران والملازمة والصحبة والله جل وعلا له المثل الأعلى .
وهذا تمثيل من شيخ الإسلام رحمه الله تمثيل صحيح وهو قياس صحيح لأن قياس الأولى هذا مُقَر به عند أهل السنة والجماعة وذلك لأن القمر من مخلوقات الله وهو مع المسافر وغير المسافر ، والقمر عظيم الخلقة أيضا وأنت تراه صغير الخلقة والله جل وعلا في علوه إذا كان بعض مخلوقاته يكون مع من في الأرض مع اختلاف بلدانهم يعني إذا طلع القمر عليهم وتباعد ما بينهم فالله جل وعلا أعظم وأجل من مخلوقاته فهو سبحانه مع كل خلقه جل وعلا بعلمه واطلاعه وإحاطته جل وعلا .
هذه المباحث ذكرتها نمر عليها مرا سريعا لأنها مرت مفصلة مؤصلة فيما سبق .
قال (وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ، رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ، مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهِم إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِن مَّعَانِي رُبُوبِِيَّتِهِ)
ومعاني الربوبية هي المعاني التي يقتضيها اسم الرب ويقتضيها تصريف الأمر ويقتضيها المُلك .
فهذه المعاني فيها الرقابة على الخلق والهيمنة عليهم والقهر لهم والاطلاع عليهم إلى غير ذلك من المعاني الراجعة إلى الربوبية ، يعني لأنه هو الخالق هو المتصرف في الأمر وهو الذي بيده الملكوت وهو الذي يجير ولا يجار عليه إلى غير ذلك .
قال (وَكُلُّ هَذَا الْكَلامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ -مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَأَنَّهُ مَعَنَا- حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ، لاَ يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ)(1/478)
قال : (كل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش حق على حقيقته) يعني ليس ذلك مجازا عن شيء وإنما هو على حقيقته التي يفهم منها وهو أن الله جل وعلا عال بذاته على عرشه سبحانه وتعالى على حقيقة اللفظ والعرش لا يُقْدَر قَدْرُهُ والكرسي كذلك لا يقدر قدره فالله جل وعلا فوق ذلك هو العظيم الأجل تبارك ربنا وتقدس وتعاظم .
كذلك معيته قال (حَقٌّ عَلَى حَقِيقَته) وأنه معنا حق على حقيقته (لاَ يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ) .
قوله في المعية أيضا (حَقٌّ عَلَى حَقِيقَته) هذه يفهم منها أن معنى المعية معنى معية الله جل وعلا لخلقه أن معناها فيما فسرت به من معية العلم أو معية النصر والتأييد والتوفيق إلى غير ذلك المعية العامة والخاصة ، أن هذا المعنى على حقيقته وليس صرفا للفظ عن ظاهره إلى غيره أو صرفا للحقيقة إلى المجاز .
كذلك يدل هذا الكلام (وَأَنَّهُ مَعَنَا حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ) الذي قاله شيخ الإسلام على أن المعية تفسر بمعية العلم ومعية التوفيق والتأييد يعني المعية الخاصة هذا التفسير بالمقتضى أيضا .
ولهذا رأى السلف ما تحتمله لفظة أن تفسير المعية العامة والخاصة أنها من مقتضيات المعية أنه يفتح الباب لأهل الحلول الذي يقولون بأنه حال في كل مكان فلم يقولوا إن تفسير المعية بمعية العلم أو معية الإحاطة والنصر والتأييد أن ذلك بالمقتضى .
وفي الأصل هذا تفسير بالمقتضى .
يعني ما تقتضيه معية الله العامة أن تكون بالعلم ، ما تقتضيه معية الله الخاصة أنها بالتوفيق والتأييد.(1/479)
والسلف تركوا هذا اللفظ أن هذا تقتضيه المعية لأنه يكون فيه مجال أن يكون قول من قال إنه حال في كل مكان له شبهة فقالوا معنى المعية العلم في الآيات العامة ، ومعنى المعية النصر والتأييد في الآيات الخاصة { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } قالوا هذه معية نصر وتأييد وتوفيق ، ولم يقولوا معية تقتضي ذلك وذلك لأجل عدم فتح الباب لأولئك ولكن كما قال شيخ الإسلام هو جل وعلا معنا على حقيقة معنى المعية وما ذُكِرَ هو من مقتضياتها .
لكن لا يفصل القول في ذلك ولا يقال للناس إن هذا من المقتضيات يعني بشكل عام أو أنها معية ذات ومع استواء الله جل وعلا على عرشه لأن ذلك قد يفتح بابا للذين يقولون إن الله جل وعلا حال في كل مكان .
فالسلف تركوا لفظ معية ذاتية وتركوا لفظ معية مقتضاها كذا لأجل أن لا يدخل من قال إنه حال في كل مكان ، يدخل في تحريف العلو ونفي العلو لله جل وعلا بأدلة المعية .
قال (يَحْتَاجُ إَلَى تَحْرِيفٍ) لأنه متواتر (وَلَكِنْ يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ) مثل ماذا الظنون الكاذبة ؟
قال (مِثْلِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: (فِي السَّمَاء)، أَنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّهُ أَوْ تُقِلُّهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَهُوَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ؛ إلاَّ بِإِذْنِهِ، وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ).
(يُصَانُ عَنِ الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ) الظن هنا يعني الوهم يعني ما يأتي في الذهن من الأوهام من التخيلات .
فإذا قُلْتَ إن الله في السماء يتخيل البعض أنه في جوفها .(1/480)
هذا باطل ، لأن معنى قوله { أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } السماء هنا بمعنى العلو قد ذكرت لكم ذلك مفصلا فيما قبل ، كذلك { فِي السَّمَاءِ } بالتفسير الثاني (في) بمعنى (على) فتكون بمعنى على السماء
فإذن إذا توهم المتوهم من قوله { فِي السَّمَاءِ } (أَنَّ السَّمَاءَ تُظِلُّهُ أَوْ تُقِلُّهُ) فإن هذا أتى من جهة وهمه الكاذب وظنه الكاذب الذي لم يأت عن دليل ولا عن علم ولا برهان .
هذا باطل ولا يقوله أهل العلم بالسنة وإنما يقولون معنى قوله { فِي السَّمَاءِ } يعني في العلو { فِي السَّمَاءِ } على السماء ، ولهذا مثّل بقوله (فَإنَّ اللهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) الكرسي الذي هو موضع قدمي الرحمن جل وعلا وسع السماوات والأرض فالسماوات السبع والأرضين السبع في داخل كرسي الرحمن أو الكرسي يسعها جميعا هو أعظم منها وأكبر .
والكرسي موضع القدمين ، فإذن قدما الرحمن جل وعلا عالية على الكرسي وعالية على السماوات وعالية على الأرض فليست السماء ظرف لله جل وعلا بل هو جل وعلا سبحانه على عرشه مستو عليه بذاته تبارك وتعالى ولا يحيط به شيء بل هو جل وعلا الذي يحيط بكل شيء .
قال (وهو يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ) يعني السماوات والأرض بحاجة إلى الرحمن جل وعلا والله جل وعلا غني عن خلقه .
قال (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاَّ بِإِذْنِهِ) فالسماء محتاجة إلى الرحمن محتاجة إلى الرب والله جل وعلا غني عنها وهذه كلها مخلوقات لله جل وعلا هو جل وعلا بائن منها .
كذلك قال جل وعلا (وَمَنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ) هذه آية من آيات الله أن السماء والأرض إذا أمرها الله جل وعلا قام فيها أمره تبارك وتعالى .
يريد من ذلك التمثيل على بطلان هذا الظن الكاذب .(1/481)
وهذا الفصل مر معنا تفصيل الكلام عليه كما ذكرت لك مرارا والكلام عليه ما يحتمل التطويل .
لهذا نكتفي بهذا القدر .
وتراجع ، يعني من أراد أن يراجع المسائل الماضية في القسم الأول اللي هو أدلة الكتاب فإنه يجد الكلام مفصلا .
أتى سؤال يقول : نريد أن تفصل الكلام عن القرب مرة أخرى - يعني اللي مر علينا في الدرس الماضي .
ونقول سيأتي الكلام عليه في الفصل الذي بعده (فصل :وَقَد دَّخَلَ فِي ذَلِكَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ)إن شاء الله تعالى .
ما صحة القول بأن الله في كل مكان بعلمه ؟
هنا في كل مكان ، الله في كل مكان بعلمه نقول علمه جل وعلا في كل مكان ، ولكن ما نقول هو في كل مكان بعلمه الأحسن أن تقول إنه جل وعلا علمه في كل مكان قال جل وعلا { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ }
يقول : هل الأئمة الأربعة اختلفوا في العقيدة أم الفقه ؟ أرجو توضيح ذلك .
إذا قيل الأئمة الأربعة فيُعنى بهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي وأبو عبدالله أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى جميعا وهم أئمة الفقه ، إذا قيل الأئمة الأربعة يعني في الفقه ، وأما في الاعتقاد فلا يعني حين يقال الأئمة الأربعة بهم أئمة الاعتقاد لأن أبا حنيفة رحمه الله من مرجئة الفقهاء وله مخالفات لمنهج السلف ولعقيدة السلف في مواضع فهو من الأئمة في فقه الأئمة الذين كان لهم أتباع ولفقههم أنصار لكن في العقيدة ليس هو من أئمة السلف في الاعتقاد بل عنده مخالفات في ذلك رحمه الله وهو معذور في أكثر ذلك والكلام على إمامتهم في الفقه معروف للجميع .
كيف يمكن الرد على من أول الصفات وفسرها بمقتضاها ولازمها واستشهد على ذلك بتفسير المعية بالمقتضى ؟(1/482)
أحيانا يصح تفسير الصفة باللازم أو تفسير الصفة بالمقتضى ، والفرق بين المؤول وغيره أن المبتدع الذي يؤول الصفات إذا أتت صفة من الصفات في القرآن فهو ينفي - المؤول - ينفي دلالة الظاهر ويفسر باللازم وأما أهل السنة فيثبتون الظاهر ويثبتون اللازم ، فمثلا في قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } قد تفسر هنا { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } بأن هذا تشديد في أمر النكث وأن الله جل وعلا شدد في أمر نكث البيعة بقوله { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } هذا هو معنى الآية لكن هل من قال ذلك ينفي الصفة ؟ أو يثبتها ؟ فإن كان ينفي صفة اليد كان هذا الذي قال تأويل وإذا كان يثبت صفة اليد فيكون هذا الذي قاله تفسير باللازم فيكون صحيحا ، كذلك قوله جل وعلا { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } إذا قال قائل { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } يعني بقبضته وتحت تصرفه ومشيئته فإنه إن كان يثبت صفة اليد لله جل وعلا فيكون هذا من التفسير باللازم ، يعني هو يفسر لك المعنى البعيد أما المعنى الظاهر الواضح من الآية هذا مثبت ، وإذا أتى المؤول فإنه يُعْرِضُ عن إثبات الصفة ويفسر بهذا فيكون تأويلا ، فمثلا السني يقول { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } هذا فيه إثبات لصفة اليد وأن ملك الرحمن جل وعلا بيده وتحت قهره وتصرفه وتدبيره في ملكه وهذا صحيح ولها نظائر كثيرة .
فإذن الفرق بين التأويل والتفسير بالمقتضى واللازم أن ينظر إلى أصل المعنى فإذا كان أصل المعنى مثبت يثبته المتكلم ثم فسر باللازم صار ذلك تفسيرا صحيحا وإن كان ينفي أصل المعنى ويذهب عنه إلى المعنى الآخر فيكون ذلك من التأويل
.....
لا { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } ليس كذلك .(1/483)
نقف عند هذا القدر وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ..
انتهى الشريط السابع عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثامن عشر
وجوب الإيمان بقرب الله
من خلقه،
وأن ذلك لا ينافي
علوه و فوقيته
وَقَد دَّخَلَ فِي ذَلِكَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ؛ كَمَا جَمَعَ بينَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ... } [البقرة:186]الآيَة، وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِن عُنقِ رَاحِلَتِهِ". وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتِابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لاَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فهذا الكلام الذي سمعت في هذا الفصل هو كالتفصيل لما ذُكِر من قبل ، وذلك أن الإيمان بعلو الله جل وعلا وأنه عال على خلقه بذاته وأنه مستو على عرشه قد عورض بقربه جل وعلا الذي ورد في النصوص وببطونه جل وعلا و بمعيته جل وعلا لخلقه .
فذكر في الفصل الذي مضى ما يتصل بالمعية وأن معية الله تبارك وتعالى لا تنافي علوه فهو عال جل وعلا على خلقه بذاته ، مع أنه معهم سبحانه وتعالى في كل حال المعية العامة ومع عباده المؤمنين المعية الخاصة .
وهذا الفصل فيه ذكر لصفة القرب لله جل وعلا .
وقال (وَقَد دَّخَلَ فِي ذَلِكَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ من خلقه مُجِيبٌ)
و (دَّخَلَ فِي ذَلِكَ) يعني في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره .(1/484)
دخل في أركان الإيمان الإيمان بهذه الصفة وأنه جل وعلا (قَرِيبٌ من خلقه مُجِيبٌ) سبحانه .
وإذا كان كذلك فإن ما دخل في الإيمان بنص الكتاب والسنة لا يناقض ما دخل فيه بنص الكتاب والسنة لأن الحق لا يناقض الحق وإنما يناقض الحقَّ الباطل ويناقض الحقُّ الباطلَ وأن ما كان مورده واحدا وهو الدليل من الكتاب والسنة فإن الجميع حق والحق يؤيد الحق ولا يعارضه ولا يناقضه بل الكل حق وخارج مخرجا واحدا في الدلالة على ما يجب اعتقاده .
ومما جاء في الكتاب والسنة من الحق أن الله جل وعلا عال على عرشه مستو عليه وأنه عال على خلقه بذاته سبحانه وتعالى .
وأتى أيضا في الكتاب والسنة أن الله جل وعلا قريب قال سبحانه ( { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ... } ) وقال جل وعلا { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وقال جل وعلا { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن الله جل جلاله قريب من عباده وأنه عال على عرشه سبحانه .
فهذا الكل هذه الطائفة من الآيات والطائفة الأخرى التي فيها إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالى هذه كلها توافق بعضها بعضا ولهذا قال شيخ الإسلام (وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتِابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لاَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ) لأن الكل جاء من الله جل وعلا وإنما قد يتصور بعض الخلق لما في أذهانهم من التصورات السقيمة ، قد يتصورون أن هذا يناقض هذا ، وهذا باطل .
وسبب هذا التصور أنهم جعلوا الرب تبارك وتعالى في نعوته وصفاته وأحواله أنه جل وعلا ممثلٌ بخلقه ، ولما لم يكن ممكنا فيما شاهدوه من الخلق أن يكون المخلوق قريبا عاليا في نفس الوقت قالوا الله جل وعلا لا يمكن أن يكون قريبا وعاليا في نفس الوقت والله جل جلاله ليس كمثله شيء .(1/485)
فالذين جعلوا المنافاة بين قربه تبارك وتعالى ومعيته وبين علوه علو الذات واستوائه على عرشه هم مشبهة لأنهم ما نفوا ذلك ولا جعلوا هذا يعارض ذاك وهذا ينافي ذاك إلا من جهة أنهم مثلوا وشبهوا فجعلوا الله في صفاته ممثلا بخلقه مشبها بهم ولما جعلوه كذلك لزم التناقض ولزم التنافي بين صفات الله جل وعلا .
فهذا الفصل معقود لبيان علو الله جل وعلا واستوائه على عرشه وأن ذلك لا ينافي قربه تبارك وتعالى .
قال سبحانه { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي } قد سأل الصحابة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فقالوا (أبعيد ربنا فنناديه أم قريب فنناجيه ؟) فنزلت هذه الآية { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } فالله جل وعلا وصف نفسه بأنه قريب ووصف نفسه بأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه فدل ذلك على أن القرب المذكور في هذه الآية هو قرب الإجابة من العباد ، قرب الإجابة ممن سأله تبارك وتعالى ، قرب الإجابة ممن دعاه جل وعلا .
ولهذا قلنا فيما سلف أن قرب الرب جل وعلا في الكتاب والسنة قرب خاص ويقرب جل وعلا من أوليائه ، يقرب جل وعلا من الساجد ، يقرب جل وعلا من العابد من الداعي إلى غير ذلك فهذا قرب خاص .
وأما القرب العام فإنه يفسر بقرب الإحاطة والبطون والله جل وعلا قريب من جميع خلقه لكن ليس هو القرب الخاص وإنما هو قرب الإحاطة وقرب البطون الذي فسره النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في قوله (وأنت الباطن فليس دونك شيء)
وفرقٌ بين القرب من غير إضافة والقرب الذي يضاف إلى الإحاطة والبطون .(1/486)
ولهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجماعة من المحققين أن قرب الله جل وعلا الذي جاء في الكتاب والسنة إنما هو قرب خاص لأنه ما جاء الدليل بالقرب العام وقال بعض أهل العلم : القرب قربان :
" قرب عام .
" وقرب خاص .
فالقرب العام من جميع الخلق بإحاطته جل وعلا وبقدرته عليهم وهذا هو الذي جاء في قوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } وقوله { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } والقرب الخاص هو الذي جاء في الآيات والأحاديث الأخر التي فيها أنه جل وعلا قريب من خاصة خلقه .
وهذان وجهتان لأهل السنة : هل القرب ينقسم أم لا ينقسم ؟
ومُحَصَلُ ذلك أن قرب الله جل وعلا عند الجميع صفة من صفاته اللائقة به سبحانه وتعالى .
قال جل وعلا { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } وهذا القرب في هذه الآية خاص وقد جعله قرب إجابة جل وعلا وقرب الإجابة نوعان :
" قرب عطاء .
" وقرب إثابة .
فمن سأل الله جل وعلا في دعائة كان داعيا دعاء المسألة فيكون قرب الله جل وعلا منه قرب من يعطي ، وإذا دعا العبد ربه جل وعلا في عبادة وطاعة - يعني دعاء - عبادة كان قرب الله جل وعلا منه قرب إثابة .
فإذن الإجابة في تفسير السلف في قوله { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } فسرت بأنها إعطاء السؤال أو إثابة الداعي ، وكل أحد يسأل الله جل وعلا شيئا أو يدعو الله جل وعلا شيئا فإن الله جل وعلا يعطيه ويجيب دعاءه { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ولا بد فإنه ما من داع يدعو إلا والله جل وعلا يجيب دعاءه .
ولكن إجابة الدعاء أعم من إعطاء عين السؤال فإن العبد قد يدعو بدعاء فيه مسألة وقد يدعو بدعاء ليس فيه مسألة خاصة ، فإذا سأل العبد ربه مسألة خاصة (أعطني كذا) فإنه يجاب بإحدى ثلاث خصال :(1/487)
إما أن يعطى عين ما سأل (اللهم هيء لي زوجة صالحة) (اللهم هيء لي من أمري رشدا) (اللهم اجعل هذا الأمر خيرا لي) فيجاب في سؤاله فيعطى عين ما سأل هذا حال .
والثانية أن لا يعطى عين ما سأل ولكنه يؤخر له ذلك في الآخرة فيكون جواب السؤال في الآخرة ، هذا أعظم في بعض الأحوال .
والثالث أن يصرف عنه من السوء مثل ما سأل فهو سأل شيئا وقضى الله جل وعلا بحكمته أن لا يعطي العبد عين ما سأل فيصرف عنه من السوء مثل ما سأل وهذا قد جاء في الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح وغيره (ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال) وذكر هذه الخصال التي أسلفت .
فإذن إجابة الداعي قد تكون إجابة للسائل وقد تكون إثابة للعابد ، وإجابة السائل أعم من إعطاء عين المسؤول ولهذا في حديث التنزل الإلهي تبارك ربنا وتقدس (فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الآخر من الليل فيقول هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأجيبه) ومعلوم أن الاستغفار والسؤال والدعاء الأولى تدخل في الثانية فإن المستغفر سائل وليس كل سائل مستغفرا كما أن السائل داع وليس كل داع سائلا ، ولهذا نقول الدعاء ينقسم إلى قسمين :
" دعاء مسألة .
" ودعاء عبادة .
وهذا جميعا داخل في قوله جل وعلا { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي }
قال رحمه الله (وَقَوْلِهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِن عُنقِ رَاحِلَتِهِ")
(إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ) فعلق القرب هنا بقربه جل وعلا ممن دعاه .
وذلك أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالدعاء فبين لهم النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أن الله قريب منهم.(1/488)
وهذا يشهده العبد في هذا القرب الخاص ويشهده أيضا إذا تأمل اسم الله الباطن الذي ليس دونه شيء فيجد أنه إذا قوي علمه بمعنى اسم الله الباطن فإنه يظهر له ظهورا جليا لا لبس معه في قلب العبد المؤمن العالم بأسماء الله وصفاته أنه إذا حدث نفسه بحديث فإن الله جل وعلا معه قريب يسمع جل وعلا ما حدَّث به نفسه مطلع عليه يعلمه وذلك لأن الله جل وعلا الباطن الذي ليس دونه شيء .
فلا تتصور أن ثم شيء يمكن أن تكون فيه خفيا على رب العالمين ولو كان ذلك بأقل حديث نفس ولو بخطرة نفس أو بخطرة بال فإن الله جل وعلا ليس دونه شيء يعلم ذلك ، وهذا من آثار اسم الله الباطن فإنه جل وعلا ليس دونه شيء كما أوضحنا ذلك مفصلا في معنى البطون في تفسير حديث النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فيما مضى .
قال (إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِن عُنقِ رَاحِلَتِهِ) والتمثيل هنا أو المفاضلة بعنق الراحلة لأجل شدة قربها من جهة مَنْ على الراحلة فإن عنق الراحلة قريب منه جدا فإذا تحدث بحديث خفي فإن مَنْ على عنق الراحلة سيسمعه والله جل وعلا أقرب من ذلك ، فهذه المفاضلة للتقريب لتقريب معنى الصفة (إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُم مِن عُنقِ رَاحِلَتِهِ) فليس العبد بحاجة إلى أن ينادي في الدعاء بل الأمر أمر مناجاة والله جل وعلا قرب موسى عليه السلام فناجاه كما قال سبحانه { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } فالمناجي هو من حاله القرب والعبد المؤمن العابد لله تبارك وتعالى الذي يستحضر أسماءه وصفاته ويستحضر آثار ذلك في ملكوته وفي نفسه وفي خلق الله تبارك وتعالى فإنه إذا نادى الله جل وعلا يحس بقرب الرب تبارك وتعالى من العبد الداعي خاصة .
وهذا مراد شيخ الإسلام أن القرب ، قرب العبد من الله يستلزم قرب الرب جل وعلا من العبد .(1/489)
وليس هذا القرب قرب مساحة بأن من قَرُبَ شيئا مساحة من الأرض أو قُرْبْ مسافة فإن المقابل يقرب منه ، ليس قُرْبْ مسافة ولكنه قُرْبٌ كما يليق بالله جل وعلا .
ولهذا في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا) وهذا التقرب فإن الله جل وعلا يقرب من العبد إذا قرب العبد منه (وأقرب ما يكون العبد من ربه جل وعلا وهو ساجد) .
وهذا قرب لا تحيط به العبارة .. لكن نعلم أنه ليس قربا بالمسافة يعني بحركة البدن لأن العبد وهو ساجد ، اثنان يصليان هذا بجنب هذا ويكون أحدهما قريبا جدا من ربه تبارك وتعالى والآخر يكون بعيدا جدا من ربه تبارك وتعالى .
وهذا القرب لا تحيط به العبارة ولكنه حق يحسه العابد إحساسا بينا لا يحتاج معه إلى أن يدلل عليه وهذا ظاهر ، هل هو قرب الروح والعلو علو النفس أم شيء آخر ؟
ولهذا قال بعض السلف (القلوب والأرواح جوالة فمنها ما يجول حول العرش ومنها ما يجول حول الحُشْ)
فالقلوب جوالة بعضها يرتقي يرتقي يرتقي حتى يصير قريبا .
المقصود من ذلك أن النصوص فيها قرب العبد من الله وفيها قرب الله جل وعلا من العبد وليس الأمر مستلزما ، ما نقول قرب العبد من الله يستلزم قرب الله من العبد لأن العبد قد يكون من أهل الخشوع والبكاء ونفسه متعلقه بالله جل وعلا أعظم تعلق ويكون من الممقوتين كما قال طائفة من السلف (ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب) فهو يتعلق قلبه بالله جل وعلا ولكن يكون على ضلالة وعلى غواية فلا يلزم من قرب العبد من ربه في ظنه أن يكون الله جل وعلا قريبا منه.
ولهذا نقول أن قرب الله تعالى صفة له تبارك وتعالى وأما العبد المؤمن المُسَدَد الصالح فإنه إذا تقرب من الله جل وعلا فإن الله يقرب منه كيف يشاء .(1/490)
فهذا الاستلزام في حق العبد الصالح إذا قرب من الله جل وعلا فإن الله يقرب منه كما قال جل وعلا (من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) .
قال رحمه الله (وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتِابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لاَ يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ)
ما ذُكِرَ في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذُكِرَ من علوه وفوقيته لأن الجميع حق والحق كما ذكرت لك لا يناقض حقا أبدا بل يكون معه يسير معه ويدل عليه ويبينه ويكون أحدهما دالا على الآخر والآخر دالا على الأول وهكذا .
قال (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ) هذا تعليل (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ)
هو سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته ، ليس كمثله شيء سبحانه في علوه علو الذات ، ليس كمثله شيء في استوائه على عرشه ، ليس كمثله شيء في قربه ليس كمثله شيء في معيته الخاصة ليس كمثله شيء في معيته العامة ، ليس كمثله شيء في إحاطته ، ليس كمثله شيء في قهره ، ليس كمثله شيء في جبروته ، ليس كمثله شيء في جماله ، ليس كمثله شيء في جلاله تبارك ربنا وتقدس ليس كمثله شيء البتة ، وذلك أن العبد لا يمكن أن يتصور شيئا إلا كان الله جل وعلا بخلافه لأن عقل الإنسان لا يمكن أن يطرأ عليه شيء إلا وقد صار لهذا مقدمة وهو أنه :
" قد رأى مثيلا لما طرأ على ذهنه .
" أو يكون رأى شبيها له .
" أو يكون رأى ما يقيسه عليه .
وإلا لا يمكن أن يتصور شيئا { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } فهذه وسائل الإدراك السمع والأبصار والأفئدة حتى يحصل القياس حتى تحصل المعرفة والمعرفة إنما تحصل بالوسائل .(1/491)
والعبد لا يمكن أن يتصور شيئا حتى يكون ذلك الشيء قد رآه .
إذا قلت لك كتاب تتصور الكتاب لأنك قد رأيته أو رأيت مثيله ، كتاب تتصور كيفيته لكن أي كتاب ؟ هل هو كبير هل هو صغير ؟ لكن يقوم في ذهنك تصور معنى ودلالة هذه الكلمة .
أو تصور لشبيهها لما يشبهها من بعض الصفات .
أو تصور لما يقاس على ما ذكر فتقول الإنسان فإذا قيل لك الإنسان في العلو يعني إذا علا فإنه يخف ويطير في السماء ، فإنك ما تتصور هذه العبارة إلا بتصورك للإنسان وما يقاس عليه وتصورك لطيرانه وهو إنسان ومن صفة الإنسان أنه يمشي ليس من صفته أنه يطير ، لكن إنسان يطير ما تتصوره ، يسبح في الهواء لا تتصوره لأنك هنا إذا ألقي إنسان من فوق فإنه لا بد أن ينزل إلى السفل لكن تتصور ذلك لأن المقدمات موجودة ، السباحة تعرف معناها ، السقوط تعرف معناه الإنسان بحركته تعرف معناه ، فيمكن أن تقيس الحال المجهولة على هذه الحال المعلومة .
والله جل وعلا لم يُر ، ولم يُر مثاله ولم يُر شبيها له ولم يُر ما يقاس عليه فلهذا لا يمكن أن يخطر في البال شيء ، الله جل وعلا يكون شبيها لما طرأ في البال .
ولهذا يكون إثبات الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية اتصاف ، فإننا لا نقول يتصف باليد وهذه اليد متصلة مثلا بالجمع ، أو نقول متصف بالعينين وهاتان العينان في وجهه على صفة كذا هذا غير مقول ، وإنما نثبت الصفة ولا نثبت الكيفية ، الكيفية مفوضة لله جل وعلا { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ } .
ولهذا من جعل منافاة بين قربه تبارك وتعالى وبين علوه وفوقيته فإنه يكون مبطلا ، لماذا ؟
لأنه لم يتصور المنافاة حتى قام في قلبه وعقله التشبيه ، فلما قام التمثيل والتشبيه قال لا يمكن أن تجتمع هذه وهذه ، لماذا ؟
لأن ذهنه شبه أو مثل ثم بعد ذلك سعى في نفي ما عقده الذهن مشبَّها وممثَّلا ، أما المسلِّم لنصوص الكتاب والسنة فإنه يثبت الصفات إثبات معنى لا إثبات كيفية .(1/492)
ومما يدلك على بطلان هذا التشبيه والتمثيل وبطلان من ادعى المنافاة بين القرب والمعية وبين العلو والفوقية إذا تصورت أن الله جل وعلا من عظمته وجلاله وسعته تبارك وتعالى وإحاطته ، أن السماوات السبع في كف الرحمن تبارك وتعالى كخردلة في كف أحدكم ، تأخذ حبة خردل وتضيع في راحتك ، الله تبارك وتعالى السماوات السبع في كف الرحمن كخردلة في كف أحدكم ، فكيف بالأرض التي هي صغيرة جدا بالنسبة للسماوات السبع .
ولهذا يقرِّب لك ذلك فهم أن اتصاف الله بالصفة لا يعلم كيفيته إلا هو وإنما علينا التسليم .
فمن جعل بعض النصوص مناقضة لبعض وبعض النصوص لا تتفق مع بعض آخر حتى يُعْمِلَ فيها عقله يكون قد أُتي من جهله ومن تشبيهه وتمثيله وضلاله لأنه جعل اتصاف الله جل وعلا بصفاته كاتصاف المخلوق بصفاته وهذا من أصول الضلال التي بها ضل كثير من الخلق .
قال رحمه الله (فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ)
وقد قدمنا لكم أن قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } كما قال جل وعلا { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } أن هذه فيها تأكيد نفي المماثلة لأن الكاف هنا في قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } هذه صلة على الصحيح ، صلة جاءت لتوكيد الكلام ، يعني زائدة لفظا مؤكدة معنى ، زائدة لفظا يعني إعرابا ... ثلاث مرات ، أو أكثر فقال { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } يعني ليس مثله شيء ليس مثله شيء ليس مثله شيء ، فكأنه كُرِّرَ الكلام تأكيدا مرارا ، أفادنا ذلك مجيء الكاف .(1/493)
وقال آخرون إن الكاف هنا اسم وليست حرفا وتكون بمعنى مثل وذلك كقوله جل وعلا { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } قال { أو أشدُّ } وجعل (أشد) مرفوعة وهي معطوفة على الكاف قال { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } من الحجارة ، فصارت الكاف هنا اسما بمعنى مثل ، ومنه أيضا قول الشاعر :
لو كان في قلبي كقدر قُلامة ... حبا لغيِركِ ما أتتك رسائلي
قال (لو كان في قلبي كقدر قلامة) لا بد أن تكون الكاف اسما لأنه إن لم تكن اسما فلا يكون ثَمَ خبر لـ (كان) لأنه تكون كلا الكلمتين شبه جملة (لو كان في قلبي كقدر قلامة) فلا بد أن تكون الكاف اسم أو صلة حتى يستقيم الكلام .
المقصود من ذلك أن قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فيها إثبات نفي المثلية .
قال (فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ)
(فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ) النعوت عند أكثر أهل العلم هي الصفات ، فيقال صفات الرحمن ونعوت الرحمن
ومن أهل العلم من يفرق بين الصفات والنعوت فيجعل الصفات مما يتعلق بالذات ويجعل النعوت مما يتعلق بالأفعال ، والأمر فيه واسع ، وطريقة شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن النعوت والصفات متقاربان من جهة الدلالة فهي غير مختصة بالأفعال بل هي نعوت الله جل وعلا وصفاته الذاتية والفعلية وغيره كلها الباب واحد .
قوله هنا (فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ) هذا فيه التنبيه على أنه لا يفرق في نفي المثلية بين بعض الصفات وبعض وهذا معلوم من طريقة أهل السنة .
وطائفة من المبتدعة يجعلون عدم المماثلة في النعوت متعلقا ببعض الصفات دون بعض .
فما كان من جهة الأفعال قالوا يقاس على الخلق وما كان من جهة الذات فلا يقاس على الخلق.(1/494)
وهذا باطل فإن الباب باب واحد في جميع نعوته سبحانه ليس كمثله شيء سواء في الأفعال أو في الصفات ، صفات الذات أو صفات الفعل ، الصفات الذاتية أو الاختيارية ، الباب جميعا باب واحد ليس كمثل الله جل وعلا شيء في جميع النعوت ، نعوت الجمال ونعوت الجلال ونعوت الكبرياء ونعوت الربوبية ونعوت الألوهية كل ذلك هو جل وعلا متفرد فيه ليس كمثله شيء .
قال (وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّه، قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ)
هذه من كلمات السلف المشهورة أنه جل وعلا (علي في دنوه) وعلوه جل وعلا المقصود هنا (علي) علو الذات في دنوه تبارك وتعالى الذي جاء في بعض الأحاديث (كدنوه من أهل عرفة) في المشهد يدنو الرحمن جل وعلا منهم ثُمَ يباهي بهم الملائكة .
وهو جل وعلا (قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ) يعني أنه سبحانه يدنو ويقرب من عباده كيف شاء وهو على عرشه مستو عليه عال على خلقه بذاته تبارك وتعالى .
فعلو الرحمن علو الذات والقهر والقدر وفوقية الرحمن فوقية الذات والقدر والقهر ، أو العلو والفوقية الراجعة إلى الذات والراجعة إلى الصفات كل ذلك لا ينافي دنوه تبارك وتعالى ولا ينافي قربه تبارك وتعالى بل هو جل وعلا علي في دنوه قريب في علوه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } تبارك ربنا وتقدس وتعاظم .
نقف عند هذا وهذا الدرس هو آخر الدروس في هذا الفصل ثم نستأنف إن شاء الله تعالى بعد ذلك ، والفصل القادم قد يطول الكلام عليه بعض الشيء لأنه في الكلام على صفة الكلام لله جل وعلا وأن القرآن كلامه هذا يتطلب كلاما مفصلا .
نجيب على بعض الأسئلة فيما بقي من الزمن
.....
يقول : ذكرت أن آية { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } تدل على قرب الله للعبد يكون أقرب من حبل الوريد فهل هذا النوع من الاستدلال يدل على ذلك وأن الله أقرب إلى العبد من حبل الوريد وقد سمعت من قال إن المعنى قرب الملائكة ؟(1/495)
هذا ذكرته لكم المرة الماضية بأن القرب عند من جعله قربا واحدا خاصا يفسر الآيات التي فيها القرب العام بأنه قرب الملائكة ، هذه طريقة شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله .
يقول : الكلام على أن السماوات السبع في يد الله كالخردلة هل معنى هذا معرفة نسبة السعة وتكون بذلك محددة أم المعنى يقصد به التقريب ؟
المقصود بهذا الحديث أن السماوات السبع هي صغيرة بالنسبة لعظمة الله جل وعلا ، هذا المقصود ، ليس المقصود تحديد النسب ..
يقول : بناء على قاعدة نفي المماثلة هل نثبت البطون لله عز وجل بذاته أم أنه باطن بصفاته ؟
ذكرنا لكم من قبل أنه بطون الإحاطة وليس بطون الذات ، بطون الذات هو تفسير الذين يجعلونه حالا بكل مكان .
يقول : ما معنى قولنا ليس مثل مثله شيء إذا قلنا معنى الكاف مثل ؟(1/496)
ليس مثل مثله شيء ، يعني إذا صارت الكاف بمعنى مثل فيكون معنى قوله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } يعني ليس مثل مثله شيء وهذا التركيب ظُن أن فيه إثبات المثلية لأنه نفى مثل المثل ، ونفي مثل المثل لا يلزم منه عقلا نفي المثل ، ولأنه نفى البعيد وليس معنى نفي البعيد أن ينفى القريب ، ولكن هذا احتجاج عجمي ليس احتجاجا عربيا وأما أهل اللسان العربي يعلمون أن نفي مثل المثل هذا من باب التنزيه والتعظيم فإن من لا يشابهه أحد ولا يماثله فإن من تعظيمه وإجلاله أن لا تُنْفَى المثلية عنه مباشرة بل تُنْفَى المثلية عن الأبعد لدلالة أنه متنزه متعال عظيم عن أن يكون له مثل في الأصل ، فإذن قولهم ليس مثل مثله شيء على هذا التقدير يكون ذلك إبعادا لوجود المثل على اللسان العربي لأن مثل ذلك يستعمل لمباعدة النفي عمن لا يستحق وجود الأصل فالله جل وعلا لا يوجد له مثيل ولكن على هذا التقدير إذا صار الكلام ليس مثله شيء عند من قدر هذا التقدير يكون ليس فيه المبالغة في نفي وجود المثيل وليس فيه التعظيم لله جل وعلا عن وجود المثيل فيكون التعبير عندهم أن الكاف بمعنى مثل لأجل المبالغة في نفي وجود المثيل ثم لأجل تعظيم الله جل وعلا عن وجود المثيل جميعا ، فإذن يكون هذا التقدير فيه التنزيه والتعظيم لله جل وعلا عن أن يوجد له مثيل باللسان العربي ، بعضهم تصور من ذلك أنه نفي لوجود مثل المثل وليس نفيا لوجود المثل نقول هذا كلام عجمي عقلي أما الكلام العربي فإنه يُفْهَم على اللسان العربي ما يُفْهَم على لسان العجم
هذا سؤال عن الخوارج : ما معنى قول ابن القيم في نونيته في وصف الخوارج :
ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأتوا من التقصير في العرفان
هل تصح العبارة أن الخوارج أرادوا الآخرة وضلوا الطريق ؟(1/497)
كل المتأولة من هذه الأمة الجميع يريد الآخرة الجميع يريد الجنة الجميع يريد رضا الرحمن جل وعلا فليس كفر من كفر وضلال من ضل عن عناد بل ضلوا عن جهل أو عن تأويل أو عن شبه ، فإذا تُصُوِر أن ثم من يعتنق مذهبا عنادا فإن هذا يكون من جهة عناده هذا يكون لا يريد الآخرة لكن أراد الدنيا فعاند فأخذ هذا المذهب ، وليس هكذا الفرق التي افترقت عن طريق أهل السنة والجماعة عن طريق الصحابة يعني الثنتين وسبعين فرقة ، هذه الفرق جميعها افترقت بتأويل حصلت الفتنة الأولى كما يقول شارح الطحاوية بين عثمان وبعده بين علي ومعاوية حصلت هذه الفتنة الأولى فخرجت عدة فرق خرجت الشيعة خرجت الخوارج خرجت الناصبة وخرج المرجئة ، حدثت الفتنة الثانية فظهر فرق ، حدثت الفتنة الثالثة فظهر الجهمية و المعتزلة إلى آخره ، فدائما الفتن تحدث هذا الافتراق وسبب الافتراق بعد الفتن أن المرء يدخل فيها بتأويله يدخل فيها بعقله ، وكل أصحاب البدع كما يقول شارح الطحاوية في آخرها كل أصحاب البدع عندهم بعض الحق ليس ثَمَ صاحب بدعة إلا وعنده بعض الحق ولكنه خَلط الحق الذي معه برأيه وهواه وعدم تسليمه للأمر الأول فخلط رأيه بالحق فصار عنده خليط من البدعة ومن السنة فيأتي الآتي فينظر إليه فإما أن يذمه جميعا ويقول كل ما عليه هذا ضلال وإما أن يمدحه جميعا وهم طائفته وحزبه ويقول كل ما عليه حق مثل طوائف الخوارج طوائف المرجئة القدرية وهكذا طوائف أهل الضلال ، وإما أن ينظر إليه فيقال هذا صاحب بدعة معه حق ومعه باطل ، فهم ينظرون إلى النصوص واستدلوا بالنصوص فلهم في النصوص فهم لكنه فهم قاصر مثل ما قال ابن القيم في الخوارح :
ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأُتوا من التقصير في العرفان(1/498)
ومن العجمة أتي من انحرف عن الحق والسنة كما يقوله طائفة من السلف ، فأولئك لهم نصوص لهم أدلة لكن قصروا في فهمها ، أخذوا المتشابه وتركوا المحكم ، لهم كل واحد له دليل ما في أحد ما له دليل ، لا بد ، كل طائفة من طوائف الضلال لها دليل ، فليس الشأن في الاستدلال ولكن الشأن أن يكون الاستدلال على وفق طريقة الصحابة رضوان الله عليهم وعلى فهم أئمة السنة ، أما وجود المنزع من الاستدلال فإن الله ابتلى هذه الأمة بأن جعل القرآن فيه متشابه يمكن أن يأخذ منه النصراني الحجة على مذهبه بأن محمدا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ رسالته مخصوصة بالعرب قال النصراني قال تعالى { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } فهذا دليل من القرآن على أن رسالة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ خاصة للعرب ، الذي لا يحرم الخمر قال : الله جل وعلا قال { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وقال في اجتنابها { فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فعلله بالفلاح وقال { اجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ } وهذا فيه تردي يدل على أن المستحب والأفضل تركه لكن لا يدل على حرمته ، الخوارج { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } قالوا هذا دليل على تكفير مرتكب الكبيرة ، المعتزلة { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } قالوا يؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر ولو كان في ذلك الخروج عن الإمام الحق فإنه ينهى عن المنكر لعموم الدلالة { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ(1/499)
وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ } فأي منكر وجد فإنه لا بد من إنكاره باليد إن استطاع الناس دون النظر إلى التفريق بين الإمام وغيره وبين المقدور عليه وغير المقدور عليه والشرائط التي عند أهل السنة وهكذا ، وهكذا فإن كل طائفة خرجت عن الحق ينطبق عليها كلام ابن القيم هذا:
ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأُتوا من التقصير في العرفان
وسبب ذلك المجملات ، المجملات من أنواع المتشابه لدلالتها على أكثر من حال ، والمجمل إذا ما بُيِن واتضح بيانه من النصوص وأفهم بيانه أهلُ العلم فإنه يحصل الالتباس في هذه المجملات يعني التي تحتمل أكثر من شيء ، ولهذا يقول ابن القيم أيضا في النونية بعد كلام له في بعض مسائل القدر وهو انقسام الإرادة يقول :
فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ ... إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود ...
(عليك بالتفصيل والتبيين) إذا كان العالم يتكلم فإنه يفصل ويبين في المؤلَّف وكذلك في الكلام يفصل ويبين فإن أكثر الناس يتعلق بالمجملات ويقع منه اشتباه من جهة ما سمع لأجل عدم التبيين فيقول (عليك بالتفصيل والتبيين) التفصيل والتبيين لنصوص الكتاب والسنة (فالإجمال والإطلاق دون بيان قد أفسدا هذا الوجود) يعني أن من أخذ بالمجمل ولم يأخذ بالمبين من أخذ بالمطلق ولم يأخذ بالمقيد من أخذ بالنص يعني بالدليل مع الكتاب والسنة ولم ينظر في فهمه إلى فهم أهل العلم فإنه يحصل له من البعد عن طريقة أهل السنة بقدر ما بعد من جهة فهمه للأدلة .
هذه مسألة عظيمة لا بد لطالب العلم من أن يرعاها تماما .
......
على كل حال المُشتَرَك اللفظي هو الذي يكون يصدق على كذا واحد بدون تداخل .
عين هذه العين الباصرة وعين الماء والذهب إلى آخره ، هذه كل واحدة لها معنى .
أو يكون المشترك مما يدل على معنيين فأكثر ولا يعرف دلالته مثل القُرْءْ يدل على الطهر ويدل على الحيض ، وهل يحمل المشترك اللفظي على معنى واحد أو على معنيين أو على معانيه ؟(1/500)
الصحيح أنه يحمل على معانيه جميعا ما لم يدل الدليل على واحد منها وهذه قاعدة من قواعد التفسير ، على كل حال المعية معية الله تبارك وتعالى لعباده ليست من جهة المشترك ، هي معية هذه المعية الخاصة لها معناها والمعية العامة لها معناها وكل ذلك من مقتضيات معية الله جل وعلا لعباده ...
يقول ذكرت أن أهل السنة أخرجوا الجهمية من الإسلام فما هي الفرق التي أخرجت من الإسلام ؟
الجهمية أخرجهم من الإسلام عبدالله بن المبارك وجماعة يعني أخرجوهم من الثنتين وسبعين فرقة ، أصلا ، وأخرجهم من الإسلام أصلا يعني جعلوهم مرتدين أكثر بل كل أهل السنة :
ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان
و الرافضة أيضا ألحقوا بالفرق التي لا تدخل في الثنتين وسبعين فرقة ، وبعض أهل العلم يرى دخول الرافضة في الثنتين والسبعين فرقة وذلك لأن قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة) هذا الافتراق لا يدل على أن هذه الثنتين وسبعين فرقة من هذه الأمة على أنها مخلدة في النار لا يدل عليه بل هي متوعدة بالنار ، و المعتزلة يسأل عنهم السائل ليسوا بخارجين من الإسلام كطائفة ، هم من الطوائف الثنتين وسبعين فرقة لكن منهم يعني من المعتزلة من يخرج من الإسلام .
هل يجوز أن أُسَلِمَ على أخت جدتي والتي تعتبر بالنسبة للوالدة خالة ؟.
نعم ، خالة أمك خالتك محرمة عليك يعني يجوز أن تسلم عليها .
وفي هذا القدر كفاية .
وأسأل الله جل وعلا لي ولكم الهدى السداد .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
وجوب الإيمان
باليوم الآخر وما فيه(2/1)
فصل :وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ.
فَأَمَّا الْفِتْنَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُمْتَحَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَيُقَالُ للرِّجُلِ: مَن رَّبُكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَن نَّبِيُّك؟ فـ { يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [إبراهيم:27] فَيَقُولُ الْمؤْمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، وَالإِسْلاَمُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ نَبِيِّي. وَأَمَّا الْمُرْتَابُ؛ فَيَقُولُ: هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ إلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ؛ لَصُعِقَ.
ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ.
وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ. فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ.
فَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ بِهَا أَعْمَالُ الْعِبَاد، { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(102)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [المؤمنون:102-103].(2/2)
وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(13)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [الإسراء:13-14].
وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فهذا الفصل فيه ذِكْرٌ لركن من أركان الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر .
والإيمان باليوم الآخر واجب وفرض ومن لم يؤمن به فلا يصح إسلامه .
والقدر الذي يصح به الإسلام منه أن يؤمن بأن هناك بعثا بعد الموت وحسابا وجنة ونار ، هذا القدر لا يسوغ أو لا يسع أحدا أن يجهله ، فإذا آمن بالبعث بعد الموت يعني بيوم القيامة وآمن بالجنة والنار صح إيمانه بهذا الركن .
هذا من حيث القدر الواجب الذي يُصَحِح الإسلام ، ثم هناك تفاصيل في هذه الجملة من الإيمان باليوم الآخر وهذه التفاصيل يلزم ويجب اعتقادها لمن علمها بدليلها فمن علم شيئا من ذلك بدليله وجب عليه أن يعتقده وأن يصدق خبر الله وخبر رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في ذلك .
واليوم الآخر اسمٌ ليوم القيامة سمي يوما آخرا لأنه يوم طويل .(2/3)
و (آخر) لأنه آخر الأيام وبعده حياة جديدة جنة ونار دائمة لا انقطاع لها .
ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله ها هنا (فَصْلٌ: وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ) ما بعد الموت من الموت فما بعده ، دار البرزخ ثم الدار الأخرى هذه كلها داخلة في هذا الاسم - يعني داخلة في الحكم في حكم الاسم - وذلك لأن الإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالقيامة والإيمان بالقيامة يشمل نوعي القيامة :
" القيامة الصغرى .
" والقيامة الكبرى .
فالقيامة الصغرى هي الإيمان بما بعد الموت لأن من مات فقد قامت قيامته والإيمان بالقيامة الكبرى فإذن اسم اليوم الآخر يطلق على ما ذكرنا من يوم القيامة الكبرى وكذلك يدخل فيه ما بعد الموت إلى أن يبعث الله جل وعلا الأجساد .
قال رحمه الله هنا (وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ)
يعني الإيمان الواجب (الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ) .
الموت مخلوق خلقه الله جل وعلا كما قال { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } فليس الموت عدما للحياة وإنما الموت مخلوق كما أن هذه الحياة الدنيا مخلوقة .
حقيقة الموت انفصال التعلق الظاهر بين الروح والبدن هذا هو الموت .
وذلك أن الروح مع البدن لها أنواع من التعلقات أربعة :
" الأول ما يكون في رحم الأم حين يبعث الملك فيؤمر بأن ينفخ في الجنين الروح ، وهذا فيه حياة للبدن والروح لكن التعلق هنا تعلق خاص ليس كما إذا خرج الجنين من بطن أمه .(2/4)
" النوع الثاني من التعلق تعلق الروح بالبدن على هذه الحياة الدنيا ، فإن الحياة للأبدان والروح تبع للبدن ، يعني أنه يقع النعيم أو التنعم في الدنيا ويقع التألم ونحو ذلك على الأجساد والروح تبع له فإنها تألم بألمه وتسعد بسعادته ، وقد يكون أيضا هناك استقلال للروح في تنعمها وحزنها ونحو ذلك .
" الثالث ما بعد الموت ، حياة البرزخ الحياة هناك للروح والبدن تبع عكس الحياة الدنيا ، الحياة الدنيا الأبدان تتحرك والأرواح غامضة وما بعد الموت في البرزخ الحياة للأرواح والعذاب والنعيم على الأرواح والأبدان تبع لها يكون لها نصيب من العذاب ومن النعيم لتبعيتها للروح .
" الرابع والأخير هو تعلق الروح بالبدن يوم القيامة العظمى وما بعده وهذا أكمل تعلق فإن الروح مخلوق منفصل والبدن مخلوق منفصل ويكون التنعم يوم القيامة والعذاب واقعين على الروح والبدن جميعا في أكمل تعلق لهما ، وهذا أسراره يعلمه الله جل وعلا .
هناك نوع من التعلق ذكره طائفة من أهل العلم زيادة على ما ذكرنا وهو (حال المنام) وهو أن النائم للروح تعلق بالبدن لكن ليس كالحياة الدنيا فيه نوع اختلاف وذلك أن الروح منها ما - يعني بعض الروح بعض روح المعين المكلف - ما يمسكها الله جل وعلا حال المنام ومنها ما تسرح وتذهب وتجيء ويكون منها الأحلام ، ومنها ما يكون ملازما للبدن وبه تكون حياته البدنية ، ولهذا قال طائفة : إن الأنفس التي تتكون منها الروح ثلاثة :
" نفس تكون بها الحياة تتضح هذه الأنفس في المنام تكون بها الحياة حياة البدن .
" ونفس يمسكها الله جل وعلا .
" ونفس تذهب وتجيء ويكون منها لقاء الأرواح ولقاء الأنفس وتكون منها الرؤى إذا لقيت الأرواح الطيبة ، وتكون منها الأحلام إذا لقيت الشياطين أو الأرواح الخبيثة أو نحو ذلك .(2/5)
وهذا كما قال الله جل وعلا { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } فجمع قال الأنفس ثم قال { مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } الآية ، المقصود من ذلك أن الموت مخلوق تكون بعده حياة أخرى جديدة فكما أن لحظة نفخ الروح في الجنين تكون بها حياة لهذا الجنين فإن نزع الروح من البدن تكون بها حياة جديدة للروح ، وهذا تفصيل مهم في فهم ما يتعلق بالعذاب والنعيم إلى آخر ذلك .
قال هنا رحمه الله (الإيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ)
يعني بعد انفصال الروح من البدن ، وانفصال الروح من البدن يعني بالموت يكون على أنحاء :
" ومنها أن يكون القبض للروح من البدن والبدن سليم لا علة فيه .
" وآخر يكون البدن غير قابل صار فاسدا لا يقبل أوامر الروح ولا يقبل أن تسكنه الروح ، فإذا كان البدن فسد ولا يصلح أن تسكنه الروح فإن الروح تخرج يقبضها ملك الموت لأجل عدم مناسبة البدن لسكنى الروح لأن البدن مسكن الروح .
قال طائفة أيضا من أهل العلم إن القلب هو محل الروح ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) ومعلوم أنه لا يقصد القلب من حيث كونه لحما ودما من حيث كونه مضغة بل إنما يقصد القلب من حيث كونه محلا للتكليف محلا للعبادات محلا للمشاعر ولهذا قال طائفة إنه مسكن الروح ومكانها.
المقصود من ذلك أن الإيمان بما بعد الموت هذا فرض واجب لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أخبر بذلك .
فأخبر شيخ الإسلام عن أهل السنة بأنهم (يُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ)(2/6)
بفتنة القبر وبعد الفتنة يكون عذاب ويكون نعيم ، ثم فصل ذلك ، فصل هذه الثلاثة فقال :
(فَأَمَّا الْفِتْنَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يُمْتَحَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ)
سمى بعض ما يحصل في القبر فتنة لأن الفتنة هي الابتلاء والإختبار ، فتن الشيء يعني اختبره وامتحنه
والمقصود من هذه الفتنة مجيء ملكين خاصين يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير أو منكر ونكير ويسألان الناس عن ربهم وعن نبيهم وعن دينهم ، يسألان الناس هذه الثلاث مسائل العظيمة والأصول الثلاثة العظيمة ، هذه هي فتنة القبر .
يعني إذن فتنة القبر هي سؤال الملكين للناس في قبورهم عن هذه المسائل الثلاث العظيمة .
قال رحمه الله (فَأَمَّا الْفِتْنَةُ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يفتنون فِي قُبُورِهِمْ) أولا إذا قيل فتنة القبر فإن المقصود به فتنة البرزخ وذلك لأن الفتنة واقعة لما بعد الموت وما بعد الموت هو الحياة البرزخية وإنما سمي ذلك بفتنة القبر لأن غالب الناس يُقْبَرون ولكن لا يخص ذلك من قُبِرَ دون من أُحْرِقَ مثلا وذُرَّ أو من فُتِّتت عظامه أو نحو ذلك الكل يقع عليهم الافتتان ويأتيهم الملكان والله جل وعلا قادر على كل شيء .
قال العلماء سمي ذلك فتنة القبر لأن معظم الناس يُقْبَرون وأما غير المقبور فإنها حالات خاصة فأطلق هذا الاسم باعتبار الغالب .
قوله هنا رحمه الله (فَإِنَّ النَّاسَ يفتنون فِي قُبُورِهِمْ) قوله (النَّاسَ) هذا يشمل الصغير والكبير والذكر والأنثى من المسلمين والمنافقين والكافرين ، هذا لفظ الناس .
الناس لفظ عام يدخل فيه جميع الإنس وإذا كان كذلك هل هذا المفهوم مراد ؟
هل هذا اللفظ مراد بأن هؤلاء جميعا يفتنون ؟
الجواب : نعم ، فإن فتنة القبر تقع على جميع الخلق من الناس ، يمتحن المسلم ويمتحن المنافق ويمتحن الكافر ويمتحن الرجل وتمتحن المرأة ويمتحن الصغير ويمتحن الكبير ، فهذه كلها جاءت بها الأدلة وفيها خلاف :(2/7)
" قال طائفة من أهل العلم إن الفتنة فتنة القبر تقع على المسلم والمنافق دون الكافر أما الكافر فإنه لا يفتن .
" وقال طائفة إنها تقع على المسلم والكافر بعد بعثة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ خاصة وأما من قبل بعثة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فإنه لا فتنة عليهم في قبورهم .
والجواب أن هذا ليس بصحيح بل الصواب تعميم ذلك ، وما استَدَلَ به من حصر الفتنة مثلا في هذه الأمة قالوا إن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (إنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم) قال(أوحي إلي أنكم) قالوا الخطاب لهذه الأمة ومعنى ذلك أن الفتنة خاصة بها ، والجواب أن هذا من باب الخطاب وليس من باب الحصر فهم يفتنون في قبورهم لبعث النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ عليهم وغير هم أيضا يفتن فهذا اللفظ لا يدل على التخصيص والأصل أن الفتنة عامة وذلك لقوله جل وعلا { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء } قال أهل التفسير : نزلت في فتنة القبر وهذا اللفظ في آية إبراهيم هذه ليس خاصا بهذه الأمة .
فإذن هذا الأول أن الصحيح أن فتنة القبر غير خاصة بأمة محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بل بالجميع .
الثاني : هل هي خاصة بالمسلمين والمنافقين دون الكفار ؟
الجواب : لا أيضا ، بل الكافر يفتن كما دل عليه حديث البراء ، فقول القائل (سمعت الناس يقولون شيئا فقلته) لا يدل على أنه للمنافق والمسلم فقط بل في حديث البراء أنه يقول (فأما الكافر أو المنافق) وهذا يدل على دخول الجميع في ذلك ، ويدل عليه أيضا قول الله تعال { وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء } .(2/8)
أما الصغير فإن طائفة كثيرة من أهل العلم قالوا إنه لا يفتن ، وقد ثبت أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ دعا لصغير بأنه يعيذه الله من عذاب القبر ، كذلك أبو هريرة دعا لصغير في ذلك ، وإذا كان ثبت أن ثمة على الصغير عذابا في القبر فإنه يعني أنه يمتحن ، لا يقال إنه انعقد الإجماع على أن أطفال المسلمين في الجنة ، نقول هذا صحيح ولكن خبر النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ودعاؤه هذا أيضا يجب الإيقان به والدعاء للصغير لا يعني أن يكون حتما يعذب ولكن دعاء بأن يعاذ من العذاب وأن يعاذ من التعذيب فيه فمعنى ذلك أنه دعاء له بأنه إذا سئل أسئلة فتنة القبر فإنه يجيب جواب المصيب المسلم المسدد .
وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة أيضا من أهل العلم من تلامذته كابن القيم وغيره .
المقصود من ذلك أن قوله (النَّاسَ يفتنون فِي قُبُورِهِمْ)عام لهذه الأمة ولغيرها للكفار والمسلمين والمنافقين والصغير والكبير للرجل وللمرأة .
قال (فَيُقَالُ للرِّجُلِ) (يُقَالُ)
القائل هما الملكان منكر ونكير .
(فَيُقَالُ للرِّجُلِ مَن رَّبُكَ؟)
هذا السؤال الأول ، وهو أعظم الأسئلة (مَن رَّبُكَ؟)
السؤال عن المعبود والرب هنا ليس المقصود به الخالق الرازق المحيي المميت وإنما المقصود به الذي يعبد لأن الرب يطلق في القرآن والسنة على السيد المتصرف المطاع ويطلق على المعبود وهو في حق الله جل وعلا على المعنييْن ، لهذا قال تعالى { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا } يعني معبودين ، وقال { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ } يعني معبودين من دون الله { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ } وهذا يدل على أن الربوبية تأتي ويكون معناها العبودية وهذا :
- إما أن يكون بطريق اللزوم لأنه يلزم ممن هو رب أن يكون معبودا وحده دون ما سواه .(2/9)
- وإما أن يكون بطريق اجتماع الألفاظ وافتراقها ، قد قال إمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (إن لفظ الإله والرب والألوهية والربوبية في الكتاب والسنة تدخل في الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت وإذا تفرقت اجتمعت) وهذا ربما يكون لأجل التضمن واللزوم الذي بين اللفظين .
المقصود من ذلك أن قول الملكين للمقبور (مَن رَّبُكَ؟) يعني من معبودك ، ودليل ذلك أن المحنة والرسالات والابتلاء بالنبوات إنما وقع في العبودية ولم يقع في الاعتراف بالربوبية فإذن (مَن رَّبُكَ؟) يعني من معبودك من الذي تعبد ، هذا هو السؤال الأول ، والمسلم يجيب (رَبِّيَ اللهُ) يعني معبودي الله ، المنافق يقول (هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ) والكافر يصرح يقول معبودي كذا من الأوثان والأصنام ، وهذا معنى قوله { وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء }
قال أيضا (فَيُقَالُ للرِّجُلِ مَن رَّبُكَ؟وَمَا دِينُكَ؟)
الدين يعني ما يلتزمه من الدين ، ما هو الدين الذي تلتزمه ، ما هو الدين الذي تعتنقه ؟ فيجيب المسلم بالإسلام والكافر بدينه وهكذا والمنافق أيضا يتردد والشاك والمرتاب يتردد ويقول (سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ) .
(مَن نَّبِيُّك؟)
السؤال عن النبي الذي أرسل إليه وبعد بعثة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ السؤال عن محمد عليه الصلاة والسلام .(2/10)
قال أهل العلم في قول المرتاب (هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ) في قول المرتاب ذلك ما يدل على أن العقائد لا ينفع فيها التقليد بل لا بد فيها من معرفة الحق بدليله لأنه قال (سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ) وهذا هو التقليد ، أن يقلد غيره دون حجة فإذن يكون مقتضى ذلك أن من يثبَّت ويُلهم الحجة هو من عرف أجوبة هذه المسائل بدليلها وهذه المسائل الثلاث هي التي أورد أدلتها وبينها الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في الرسالة المشهورة باسم ثلاثة الأصول فإن هذه الأصول هي الثلاثة (من الرب ما الدين من النبي) .
قال فـ { يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }
في الحياة الدنيا يثبتهم الله بالقول الثابت يعني بالتوحيد والإسلام والقول بالشهادتين وذكر الله جل وعلا حتى يتوفاهم الله على ذلك ، وفي الآخرة يعني إذا ابتدأت آخرتهم وابتدأت قيامتهم قامت عليهم القيامة الصغرى ، يعني بالموت يثبتهم الله عند سؤال الملكين .
(فَيَقُولُ الْمؤْمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، وَالإِسْلاَمُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ نَبِيِّي)
هذا جواب المؤمن الذي عرف أجوبة هذه المسائل بدليلها .
قال (وَأَمَّا الْمُرْتَابُ؛ فَيَقُولُ: هَاه هَاه؛ لاَ أَدْري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ)
وهذا حال المنافق ، والكافر يجيب بما يعبد وما يدين به .
(فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَة) أو بمرزبَّة (مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ إلاَّ الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ؛ لَصُعِقَ)(2/11)
وهذا نوع من أنواع العذاب والميت يسمع قرع نعال من يثخَلِّفُونَه حال تخليفهم إياه ، فإذن له حياة خاصة وله في روحه وبدنه تعلقات خاصة والله جل وعلا على كل شيء قدير ، فهذا المنافق يعذب وأول عذابه أنه يضرب بهذا النوع من العذاب (بِمِرْزَبَة مِنْ حَدِيدٍ، يَصِيحُ صَيْحَةً) من أثرها (يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ إلاَّ الإِنْسَانَ) هذا يدل على أن الجن والحيوانات تسمع عذاب المعذبين.
ومن هذا الأصل أخذ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إبطال عبادة من كان يعبد في دمشق عمود من الأعمدة كان مبنيا هناك وكانوا يتوسلون به ويتمسحون به ويعتقدون في هذا العمود وكان من إبطال شيخ الإسلام لذلك أن الدواب إذا أتت عنده يعني عند هذا العمود تسلح وتخرج ما في بطنها قال شيخ الإسلام وهذا يدل على أن هذا العمود تحته قبر كافر أو منافق يعذب ولهذا تسمعه الحيوانات فتسلح وتتغير .
وهذا من عظيم فقهه في النصوص فأُبطل ذلك وهُدِم ووجد تحته قبر يقال إنه قبر نصراني .
المقصود أنه يعذب والعذاب تتأذى منه البهائم وتسمعها البهائم ولكن الله جل وعلا جعل لها من الاحتمال ما ليس للإنسان في ذلك .
قال (وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ؛ لَصُعِقَ) وذلك لأن روح الإنسان بتلقي هذه الأشياء غير روح ونفس الحيوانات ، والله جل وعلا له الحكمة البالغة في خلقه .
قال رحمه الله (ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ)
بعد هذه الفتنة يكون القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار ، والعذاب في القبر نوعان :
" عذاب أمدي ، فترة ثم ينقطع وهو عذاب عصاة الموحدين أو بعض غيرهم .(2/12)
" وعذاب أمدي لا ينقطع وهو عذاب الكفار أو طائفة من الكفار لأن الله جل وعلا قال في وصف آل فرعون { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } فبين أنهم قبل قيام الساعة يعرضون على النار غدوا وعشيا وهذا يكون في قبورهم .
......
النوع الأول عذاب أمدي يعني مدة ثم ينقطع ، وهذا لأن دار البرزخ نوع من الدور قد يجعل الله جل وعلا العذاب فيها من المكفرات يعني يكون العبد عنده ذنوب فيُزال أثر هذه الذنوب وتُكفَّر عنه بالعذاب في البرزخ ، لأن هناك عشرة أشياء يزال بها العذاب أو أثر الذنب ومنها ما يكون من العذاب والمصائب في البرزخ وكذلك في عرصات القيامة إلى غير ذلك من الأنواع العشرة المعروفة.
القبر أيضا له ضمة كما هو معروف والقبر حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة .
وضمة القبر لا ينجو منها أحد ، وقد رأت عائشة رضي الله عنها صغيرا ميتا يُحْمَل فبكت وقالت أشفقت عليه من ضمت القبر ، وضمة القبر لم ينجُ منها أحد وقال عليه الصلاة والسلام (لو نجا منها أحد لنجا منها سعد) .
وهذه الضمة تختلف فأما ضمة الكافر فإن الأرض حمقة عليه حمقة غاضبة عليه فتضمه ضم عذاب وأما المسلم المؤمن فإن الأرض إذا كان المسلم على ظهرها وفقدته فإنها تبكي على فقده حين تسمع ذكره وفقدت مكان صلاته وفقدت مصلاّه وفقدت تنقله للخير فتكون الأرض في ضمها لهذا المقبور كما قال طائفة من أهل العلم تضمه ضمة الحبيب لحبيبه ولكن هذه الضمة يكون منها شدة على المضموم يعني على المقبور .
يعني أن الضمة لا بد منها ولكن فرق بين ضمة مسلم وضمة كافر أو منافق ، نسأل الله جل وعلا لنا ولكم حسن الختام والموت على الشهادة .(2/13)
ومن الدلائل على النعيم والعذاب أو عذاب القبر أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مر بقبرين فقال (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير بلى إنه كبير أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) فهذا دليل من أدلة عذاب القبر وهو حق أجمع أهل السنة والجماعة عليه والأدلة عليه كثيرة كبيرة ومن الحديث المتواتر أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كان يعلمهم الناس كما يعلمهم السورة من (الصلاة) أن يدعو في آخر الصلاة بالاستعاذة من أربع (اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال) وهذا دليل ظاهر ولا حجة لمن منع النعيم والعذاب في القبر بل هو مخالفة للنصوص وضلال بيِّن .
قال رحمه الله (إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى)
يعني يلبثون في قبورهم إلى أن تقوم القيامة الكبرى وهم في حال كونهم في قبورهم أرواح المؤمنين مقرها الجنة كما ثبت عن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أنه قال (نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة) (نسمة المؤمن طائر) ووصف نفس الشهيد فقال (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تروح وتسرح في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش) المقصود من ذلك أن مقر أرواح المؤمنين في الجنة ومقر أرواح الكفار في النار ، ولا يمنع ذلك أن تكون هذه الروح لها تعلق بالقبر بل تذهب تصل إلى القبر في لحظات وتذهب إلى مكانها في لحظات ولا يمنع هذا أيضا من أن من الناس من تحبس أرواحهم على قبورهم على حسب ما جاء في الأدلة فالأدلة يصدق بعضها بعضا وبعضها يُفهم البعض الآخر .
قال (إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ)(2/14)
وهذا من الاختصار اختصره شيخ الإسلام رحمه الله لأن إعادة الأرواح إلى الأجساد يسبقها شيء كثير فيلبث الناس في القبور إلى أن يموت جميع الخلائق وذلك بنفخة الصعق فتعاد الأرواح إلى الأجساد بنفخة البعث والنفخات وذِكرها هي من جملة ما جاء في النصوص بيانه فيدخل في الإيمان باليوم الآخر والذي دلت عليه الأدلة أن النفخات ثلاث ، ثلاث نفخات :
" أما النفخة الأولى فهي نفخة الفزع التي جاء في سورة النمل في قوله تعالى { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ }
انتهى الشريط الثامن عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط التاسع عشر
والذي دلت عليه الأدلة أن النفخات ثلاث ، ثلاث نفخات :
" أما النفخة الأولى فهي نفخة الفزع التي جاء في سورة النمل في قوله تعالى { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ } .
" والنفخة الثانية هي نفخة الصعق .
" والنفخة الثالثة هي نفخة البعث والقيام .
وهما اللتان ذكرتا في قوله تعالى في سورة الزمر وغيرها { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } .
هذا التقسيم إلى ثلاثة أقسام هو الذي رجحه شيخ الإسلام وابن القيم وجماعة من المحققين ودل عليه أيضاً حديث أبي هريرة المعروف بحديث الصُّوْر الطويل الذي رواه ابن جرير وأبو يعلى و الطبراني والبيهقي وجماعة لكن الحديث ضعيف لأن فيه مجهولا وضعيفاً كما أعله الحافظ ابن حجر بذلك ولكن هو موافق في ذلك لظاهر القرآن لأن في القرآن ثلاث نفخات :
- نفخة فزع ... ... - ونفخة صعق ... ... - ونفخة بعث .(2/15)
قال كثير من أهل العلم إن النفخات إنما هما ثنتان ونفخة الصعق طويلة تمتد أولها فزع وآخرها صعق ، ودل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (أول من يسمع - أو كما قال يعني معناه - أول من يسمع النفخ في الصور رجل يلوط حوضه فيُصْغِي لِِيْتَاً ويرفع لِِيْتَاً - يعني جهة عنقه - قال ثم يصعق الناس) فهذا دليل على أن الفزع يتبعه صعق .
وعلى العموم القول الأول أظهر من حيث دلالة الآيات وأن النفخات ثلاث : نفخ { فِي الصُّورِ فَفَزِعَ } ونفخ { فِي الصُّورِ فَصَعِقَ } { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } ..
والنفخة الأولى على هذا التقسيم هي نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق .
ومعنى الصعق يعني الموت فهي نفخة يموت منها من سمعها ومن استثنى الله من ذلك الذين في قوله { إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ } يستثنون من الصعق فلا يصعقون ، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (المقصود بمن استثنى الله هم الحور والولدان والغلمان في الجنة) وقال طائفة (وأرواح الشهداء) والأقوال في ذلك كثيرة .
نفخة الصعق هذه يكون فيها الإهلاك - يعني الموت - ، تموت الخلائق ويستعدون للقيامة الكبرى العظيمة للقيام لله رب العالمين .
بين نفخة الصعق ونفخة البعث ثَمَ مدة زمنية جاء بيانها في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يقول (بين النفختين أربعون) قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما ؟ قال أبيَتُ ، قالوا أربعون شهرا ؟ قال أبيتُ ، قالوا أربعون سنة قال أبيت . يعني أبيت أن أقول ما ليس لي به علم لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال أربعون وسكت ، قال (وكل شيء يبلى من ابن آدم إلا عَجِبَ الذَنَبْ ومنه يركب الخلق يوم القيامة) .(2/16)
وبيان ذلك كما جاء في الأحاديث الصحيحة أن الله جل وعلا بعد صعق الناس يُنْزِلُ بل قبل ذلك يغير الله جل وعلا الأرض تتغير الأرض ومعالم الأرض وتتغير معالم السماء فالأرض تغيرت ، تُدَكُّ الجبال { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } يعني الأرض ، فتكون منبسطة بسطا واحدا فيستوي حين ذلك من دفن بين الجبال ومن دفن في الأرض السهلة فيستوون جميعا وتحصل أمور عظام و { تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ } وقال { إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } يعني أن هذه الأمور تحصل بين النفختين .
ثم بعد ذلك يأمر الله جل وعلا السماء فتحمل مطرا كماء الرجال فتُمطَر به الأرض أربعون صباحا فتنبت منه أجسام الناس ، لأن أجسام الناس بقي منها بذور هي آخر عظام .. تنبت منه الأجسام هكذا فتنبت الأجسام كالأشجار تشقق الأرض وتنبت الأجسام بلا أرواح فتظل هكذا أجساما مستعدة قابلة للأرواح كحال الجنين ثم يأمر الله جل وعلا إسرافيل بأن ينفخ في الصور النفخة الأخيرة والعظيمة الجليلة هي نفخة البعث فتتفرق الأرواح إلى الأجساد فتهتز الأجساد بالأرواح ، قال ابن القيم رحمه الله في جميل ما قال في وصف ما يحصل إذ ذاك قال :
وإذا أراد الله إخراج الورى ... بعد الممات إلى المعاد الثاني
ألقى على الأرض التي هم تحتها ... والله مقتدر وذو سلطان
مطرا غليظا أبيضا متتابعا ... عشرا وعشرا بعدها عشران
فتظل تنبت منه أجسام الورى ... مثل النبات كأجمل الريحان
حتى إذا ما الأم حان ولادها ... - يعني الأرض -
حتى إذا ما الأم حان ولادها ... وتمخضت فنفاسها متداني(2/17)
أوحى لها رب السما فتشققت ... فإذا الجنين كأكمل الشبان
فيظل الناس هنا بعد عود الأرواح في غرابة من هذه الأرض فلا يعرفون هذه الأرض ولا يعرفون السماء ولهذا قال جل وعلا في آية الزمر { فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } ينظرون ما عرفوا هذه الأرض ولا عرفوا تلك السماء لأنها تغيرت وهذا من عجائب صنع الله هو جل وعلا الذي بدأ الخلق وهو الذي يعيده فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس والله سبحانه وتعالى له في خلقه عجائب وعجائب .
قال رحمه الله (إِلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرى)
يعني اليوم الآخر (فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأجْسَادِ) يعني بنفخة البعث ، والذي ينفخ نفخة البعث هو ملك موكل بذلك اسمه فيما شاع إسرافيل .
إسرافيل هو الملك الذي وكل بالنفخ ، وقد قال عليه الصلاة والسلام (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن ينتظر متى يؤمر بالنفخ) ... (1)
وهذا هو الذي يكون فيه الإيمان باليوم الآخر ، الإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالأصالة بهذه القيامة العظمى .
قال (تَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهُ) صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ)
وهذه القيامة كائنة لا محالة وهي قريبةٌ قريبة ومن مات من أول الخلق يعني آدم ومن مات قرب قيام الساعة فهم في علم الله سواء لا يبعد بعد الزمن بمن مات متقدما ولا بقرب من مات متأخرا ،قرب الساعة ، لا يفترقان في الحقيقة وهما أرواح حلت في أجساد ثم فارقتها الأرواح ثم الجميع ينتظرون متى ينفخ ويستجاب لله جل وعلا وما أعظم قوله تعالى { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } .
قال (فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)
يقومون لرب العالمين لأنه هو الذي دعاهم لذلك .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(2/18)
يقومون فيختلف حال المسلم عن حال غيره ، حال خاصة بالمؤمنين أنهم يحشرون إلى الرحمن وافدين كما قال جل وعلا { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } يحشر المتقون إلى الرحمن وفدا يعني وافدين ، قال المفسرون : تجعل لهم نجائد من الجنة تنقلهم من قبورهم إلى عرصات القيامة وأما المجرمون فيساقون إلى جهنم وردا يعني بغلظة وشدة .
قال (حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً)
يعني على هيأتهم كأنهم خرجوا من بطون أمهاتهم والأرض أُم { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } فيخرجون كحال خروجهم من بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلا ، ومعنى غرلا أي غير مختونين ، وقد استعجبت عائشة حينما قال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ذلك فقال : يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ فقال عليه الصلاة والسلام (يا عائشة الأمر أعظم من ذلك) يعني كل يقول نفسي نفسي لا يهمه أن يرى عاريا أو ما حوله { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } يوم القيامة هو يوم العذاب العظيم { إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ(7)مَا لَهُ مِن دَافِعٍ } .
(حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً) يظلون كذلك حفاة عراة غرلا يسيرون من قبورهم إلى أن يجتمعوا في العَرَصَات إلى أن يجتمعوا في عرصات القيامة ، و العَرَصَات المقصود منها الساحات العظيمة التي أعدها الله جل وعلا من الأرض لاجتماع الناس فيها ، ثم ينتظرون
فـ (تَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيَلْجُمُهُمُ الْعَرَقُ)
وحينذاك يُكسى الخلائق ، فأول من يكسى من الخلائق إبراهيم عليه السلام ثم يكسى الناس أكسية لتستر عوراتهم .(2/19)
(تَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ) الله جل وعلا جعل الشمس إذ ذاك لها حالة أخرى فتدنو فـ (يَلْجُمُهُمُ الْعَرَقُ) ويشتد عليهم الحر ومن عجائب صنع الله في ذلك اليوم أن العرق بكل واحد خاص به وكل واحد يسبح في عرقه والآخر بجنبه لا يتأثر بعرق من بجانبه كل بحسب عمله .
(تَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ) ويظلون على ذلك زمنا طويلا ، يظلون في ذلك زمنا طويلا طويلا { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ثم يحصل من ذلك مجيء الملائكة في ظلل من الغمام وشيئا فشيئا فيطوقوِّن الناس صفا صفا يطوقوِّن الناس ، يطوقوِّن الناس ثم بعد ذلك ينزل الله جل وعلا في ظلل من الغمام .
ثم يتبع الناس بعد طول المقام طلبا في الشفاعة وأحاديث الشفاعة في ذلك معروفة لكن نريد أن نصل إلى نصب الموازين .(2/20)
يفزع الناس من الخلق إلى آم عليه السلام فيقال له يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول نفسي نفسِي اذهبوا إلى نوح ، فيذهبون إلى نوح ثم يذهبون إلى إبراهيم ثم يذهبون إلى موسى وكلٌ يذكر ذنبا أذنبه وهو منشغل في ذلك الموقف العظيم بذنبه فيُحِيل إلى من بعده حتى يأتون عيسى فيقول عليكم بمحمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ولا يذكر ذنبا ، فيأتون للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ويطلبون منه الشفاعة العظمى فيقول (أنا لها) عليه الصلاة والسلام فيأتي ويخر تحت العرش فيحمد الله جل وعلا بمحامد يفتحها عليه قال عليه الصلاة والسلام (لا أحسنها الآن) محامد يعني أنواع من الثناء بين يدي الله جل وعلا فيظل ساجدا يثني على ربه حتى يقول له الرب جل وعلا (يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع) فيشفع عليه الصلاة والسلام أول الشفاعات وأعظمها في أن يعجِّل الله جل وعلا حساب الناس حتى يستريحوا من عذاب الموقف ومن هوله وما فيه فيحصل من ذلك أمور فيُعَجَّل للناس الحساب وتنصب كما قال شيخ الإسلام (الْمَوَازِينُ) والموازين جمع ميزان ، والميزان هو الذي يوزن به ، والميزان عند الله جل وعلا له كفتان كما قال جل وعلا { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } .
وقال هنا (تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ)
يعني أنها يُؤتَى بها فتُنْصَب بين الخلائق حتى يوزن بها أعمال العباد ويوزن بها العباد وتوزن بها الصحائف .
والموازين جمع ميزان ويوم القيامة هل ثَم ميزان واحد أو موازين ؟
" قال طائفة من أهل العلم هو ميزان واحد .(2/21)
" وقال آخرون هي موازين لظاهر قوله تعالى { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } ، ولأجل هذا الظاهر قال شيخ الإسلام و(تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ) وهو الظاهر أنها موازين وليست ميزانا واحدا ، وكل منها ميزان حقيقي ليس وهميا ولا معنويا ، ميزان حقيقي له كفتان وله لسان كما جاء ذلك في الأحاديث وكما هو ظاهر لفظ الميزان
قال (فَتُوزَنُ فيها أَعْمَالُ الْعِبَاد) ( { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ () وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } )
قوله (تُوزَنُ فيها أَعْمَالُ الْعِبَاد) هذا أحد ما يوزن يوم القيامة ، والذي دلت عليه النصوص أن ما يوزن يوم القيامة في الموازين ثلاثة أشياء :
" الأول الأعمال .
" والثاني صحائف الأعمال .
" والثالث صاحب العمل ، ويدل على هذا الثالث قوله عليه الصلاة والسلام في ابن مسعود حينما ضحك الصحابة من حموشة ساقيه أو دقة ساقيه قال (إنهما في الميزان يوم القيامة أثقل من جبل أحد) وثبت أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة) إذ الوزن للأجسام المراد منه ما في الروح من حقائق الإيمان فمن كان أعظم إيمانا كان أثقل ولهذا من كان أعظم إيمانا ثَقُلَ ولم يزِل عند العبور على الصراط .
قال (وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ)
وهذا يتطلب أيضاً كلاما أيضا فيه شيء من التفصيل لأن شيخ الإسلام اختصر بعض ما يحصل في ذلك الموقف ، وهذا من العلم المهم أن يعلم طالب العلم ما يكون بحسب ما دلت عليه النصوص منذ موت الميت إلى أن يدخل أهل الجنة الجنةَ وأهل النار النارَ ، العلم بذلك على تفاصيله من العلم النافع الذي يمتاز به المريدون للعلوم النافعة وقد قال ابن القيم في وصف العلوم النافعة :(2/22)
والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للديان
و الأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني
فهذا ثلث العلم : العلم بالجزاء وكيف يجازي الله جل وعلا وما يحصل وبما يجازي وما جزاء الحسنة وما جزاء السيئة إلى آخر ذلك .
وللموضوع إن شاء الله تعالى تتمة وتفصيلات في الأسبوع القادم بإذن الله .
نجيب على بعض الأسئلة في هذا المقام :
يقول : هل يقع السؤال في القبر والفتنة على أولاد المشركين وأهل الفترة ؟
الجواب : نعم ، السؤال عام ويكون جوابهم بحسب ما يؤول إليه حالهم وما يعلمه الله جل وعلا عنهم لكن لا يُنَعَّمون إذا كانوا من أهل النعيم ولا يعذبون إذا كانوا من أهل العذاب يعني أولاد المشركين وأهل الفترة إلا بعد قيام الحجة عليهم ببعث رسول لهم في عرصات القيامة .
هل صح حديث بأن اسم الملكين منكر و نكير ؟
نعم هذا الحديث حسن وله طرق ولهذا صححه جماعة من أهل العلم وأثبتوا بذلك اسم المنكر والنكير ، بعض من ألف في ما يحصل في القبر قال هو مُنْكِر ونكير ليس منكَر هو مُنْكِر لأنه ينكر على المقبور بفتنته لكن الصواب أنه مُنْكَر ونكير من جهة أشكالهما فإن أشكالهما تُنكَر وتَرُوعُ الميت .
هذا السؤال جيد ، يقول : هل أحد يستثنى من فتنة القبر ؟
نعم ورد في الأدلة أصناف من الناس لا تشملهم فتنة القبر فمنهم الشهداء مع النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، الشهداء ، من يموت ليلة الجمعة أو يوم الجمعة ، هؤلاء يُؤمَنُونَ الفتان وهذا بابه جمع الأحاديث الواردة في هذا وهي أحاديث كثيرة منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف وهذا الذي ذكرت لكم الذي صحت به الأحاديث أو قبلت به الأحاديث .
ما الدليل على أن الكافر يصرح بمعبوده ؟
لأنه لا بد أن يجيب ، فإذا سئل من ربك فإنه لا بد وأن يجيب على ذلك .(2/23)
لا يعني ما جاء في الحديث أنه يقول سمعت الناس يقولون شيئا فقلته أو يقول لا أدري أن هذا يشمل كل الكفار ، الكافر يجيب بحسب الحال .
متى يكون الحوض على الصحيح ؟
ما يتعلق بالحوض يأتينا إن شاء الله تعالى بحثه .
هل تذكر لنا كتابا ذكر ما يحصل في يوم القيامة مرتبا واهتم المؤلف بالأحاديث الصحيحة .
الحافظ ابن كثير في كتابه النهاية ذكر ذلك مرتباً جيدا في علم واسع فيه ، وثَمَ كتاب لكنه لم يطبع للسفَّاريني ذكر فيه أحوال القيامة وما يحصل فيها من النشور إلى دخول أهل الجنة الجنةَ وأهل النار النارَ مرتبا وذكر فيها الأدلة لكن طُبع جزء منه في الهند قديما الجزء الأول منه ولم يطبع بقيته فهو في حكم المفقود ، وأظن حققت رسالة في كلية أصول الدين أو شيء لكن لا زال لم يطبع .
ما هو الدليل على أن للموازين كفتين يوم القيامة ؟
الموازين لها كفتان لأن الله جل وعلا سماها ميزانا وإذا سماها ميزانا فهو على ظاهر اللفظ فهو ميزان وموازين وكل ميزان له كفتان ولسان ، وهذه ذكرها ابن قدامة في لُمعة الاعتقاد وقال له كفتان ولسان ، وهذا لأجل ظاهر الآية وأظن جاء فيه حديث لكن لا يحضرني الآن .
هل ورد أن الشهيد والمبطون والذي مات مرابطا في سبيل الله ومن مات يوم الجمعة يؤمَنون من فتنة القبر
هذا سبق الجواب عليه .
......
هذا استدلال جيد ، حديث البطاقة قال (فتوضع في كفة فترجح سيئاته فيقال هل لك من عمل فيقول لا فيؤتى له ببطاقة مكتوب فيها لا إله إلا الله فتوضع قال فتطيش السجلات) يعني سجلات الذنوب ، هذا استدلال جيد ، كذلك حديث أبي سعيد المعروف أن موسى قال لربه جل وعلا (يا رب علمني شيئا أدعوك وأذكرك به) قال (يا موسى قل لا إله إلا الله) قال (يا رب كل عبادك يقولون هذا) قال (يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع كانت في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله) .
هل الموتى يسمعون ؟(2/24)
هذا بحث يطول تقريره ويكفي في ذلك حديث (وإنه ليسمع قرع نعالهم) وهم يسمعون ولا يسمعون { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } هم يسمعون في حال ولا يسمعون في حال .
ما الدليل على أن الخلائق يكسون يوم القيامة الثياب ؟
الدليل قول النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ (أول من يكسى من الخلائق إبراهيم) ...
......
يوزن ثلاثة أشياء العمل والصحائف وصاحب الأعمال .
......
هو العمل منه ، قول وعمل واعتقاد هذا منه { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } هذا ليس من الاكتساء هذا عذاب لهم في النار .
هل السؤال والجواب في القبر يكون باللغة العربية ؟
الجواب أن عامة أهل العلم على أن السؤال والجواب يكون باللغة العربية إذا كان المقبور من أهل العربية وشذ بعضهم فقال إنه ورد أن لغة أهل الجنة هي السريانية وبالتالي يكون السؤال بهذه اللغة ، وهذا غير صحيح فإن المقصود من السؤال سؤال القبر جواب المقبور وهذا المجيب يجيب بلغته فكل يرد بلغته
....
...(2/25)
يعني حديث موسى هذا رواه مسلم في الصحيح ولكن أُعِلَ أيضا وكون موسى عليه السلام يصلي ومر عليه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهو يصلي في قبره هذا لا يعني أن روحه لا تكون في الجنة فهو عليه الصلاة والسلام مر في حال الإسراء ورأى موسى يصلي وصعد تلك الليلة في المعراج ورأى موسى في السماء يعني روحه في السماء ، فهذا يدل على أن حال الأرواح لا تَقِسْ ذلك بحال الدنيا ، الله جل وعلا أعلم بحقيقة ذلك ، ترى الأرواح في المنام مثلا يحصل عجائب لروحك وأنت نائم عجائب فيمن تلتقي به إلى آخره ، وتحصل إلتقاء أرواح موتى بأحياء في حال المنام ويخبر الميت هذا الحي بأشياء لا يعرفها الحي ، يخبره بأشياء لا يعرفها ، يقول مثلا قل لفلان كذا وكذا وكذا وهو ما يعرف أصلا القصة ويخبره بأشياء لا تُعْرَف ، فهذا عالم عجيب الله أعلم به وحقيقته { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } .
......
... الحديث (نسمة المؤمن طائر يعلق من ثمار الجنة) نسمة المؤمن طائر ، وأما أرواح الشهداء في في حواصل طير خضر .
......
... الأحاديث (نسمة المؤمن طائر) هذا شيء فالمؤمن نسمته طائر يعلق من ثمار الجنة (وأرواح الشهداء في حواصل طير خضر) هذا قسم ثاني ، إذا ورد - أنا ما أحفظ الآن ما أتذكر شيئ - يعني ورد أن أرواح المؤمنين جميعا في جوف طير ، لكن إن ورد فيقصد بهم الشهداء لأنه يكون مطلق وذاك يكون مقيد إن ورد ، لكن يراجع البحث في الطحاوية أظنه غير ما ذكر .
......
ما صعد نعم هو لقيه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ... لقيه في السماء ما صعد .. يعني هو لقيهم عليه الصلاة والسلام في المسجد صلى بهم ولقيهم في السماء لكن ما مشوا معه .. لأنه هو ذهب بجسده وروحه عليه الصلاة والسلام وهم بأرواحهم ...
.....(2/26)
يعني أنت تقصد أن هذا خاص بموسى ؟ و لا بكل الأنبياء وكل الأموات منهم في الجنة أجسادهم تصعد فوق في الجنة ... لأن جسده في الأرض مدفون ، اللي رُفع جسده من الأنبياء عيسى عليه السلام فقط وليس ثم أحد غير عيسى ... لكن كونه عليه الصلاة والسلام لقي ليلة عرج به لقي الأنبياء فلان وفلان قال العلماء يعني لقي أرواحهم إلا عيسى السلام فإنه لقيه جسدا وروحا لأنه هو الذي رفع إلى السماء ظاهر؟
فإذن الأنبياء مقبورون مدفونون والذي في السماء منهم يعني في الجنة منهم من المؤمنين إنما هي الأرواح وإلا هم مكانهم في الأرض ، ما ترفع الأجساد من الأرض ، اللي رفع حيا عيسى عليه السلام وإذا نزل آخر الزمان إلى الأرض فإنه يموت ويدفن كما دفن بقية الأنبياء ... { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } ما أستحضر أن المراد رفع الجسد والله أعلم ...
(نسمة المؤمن طير) والشهيد (في حواصل طير خضر) يعني الشهيد جمع بين الأمرين بين كونه طير وفي جوف طير ، لكن ليس كل مؤمن في حواصل طير ، لا ، وأنها (تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش) هذا خاص بالشهداء .
في هذا القدر كفاية .
وأسأل الله جل وعلا أن ينفعنا وإياكم بالعلم وأن يرزقنا الاستعداد ليوم المعاد .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا(13)اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [الإسراء:13-14].
وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ؛ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.(2/27)
وَأَمَّا الْكُفَّارُ؛ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حَسَنَاتَ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا.
وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَن يَّشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا.
وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجِسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطِفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِم.
فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصَّ لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ.
وَأَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ مُحَمَّدٌ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ، وَأَوَّلُ مَن يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ.
وَلَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ:(2/28)
أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى: فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى بْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة.
وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا.
وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ.
وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
اللهم إنا نسألك علما نافعا وقلبا خاشعا وعملا صالحا ودعاء مسموعا اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملا ودرجة إنك ولي ذلك ولا حول ولا قوة إلا بك ، أما بعد :(2/29)
فهذا الذي سمعتم تتمة لتفاصيل ما يحصل في اليوم الآخر وذكر مشاهده وما يكون فيه من الأمور التي هي من جملة ما يجب أن يؤمَن به لأنها من اليوم الآخر ومن فرائض الإيمان الإيمانُ باليوم الآخر ، ومن علم من ذلك شيئا فإنه يجب عليه أن يعتقده وأن يؤمن به لأنه مأخوذ عن الكتاب أو السنة وما كان فيهما وجب اعتقاده ووجب الإيمان به وحَرُمَ الشك فيه أو التردد .
ذكرنا فيما سبق نصب الموازين وأن الله جل وعلا ينصب الموازين في ذلك اليوم العظيم { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ()وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } .
ومما يحدث في ذلك اليوم نشْر الدواوين قال شيخ الإسلام رحمه الله فيما سمعتم (وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ وَمِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ) إلى آخر كلامه قال :
(وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ، وَهِيَ صَحَائِفُ)
تنشر أي تُظهر والنشر هو الإظهار حتى لا يكون خفيا .
و (الدَّوَاوِينُ) جمع ديوان والديوان اسم لما يدوَّن فيه يعني لما يكتب فيه ، فلهذا فسر شيخ الإسلام الدواوين بأنها (صَحَائِفُ الأَعْمَالِ) .
فالدواوين هي الكتب وهي صحائف الأعمال :
فهي كتب باعتبار الناس وباعتبار الأمم فلكل أمة كتاب ولكل أمة إمام وكذلك لكل إنسان كتاب
وهي صحائف أعمال الناس .
فهذه يوم القيامة تنشر يعني ينشر ما فيها فيُرَى ذلك والناس يرون ذلك ويعلمون ما عملوا .
وهذه الكتب وتلك الدواوين أو تلك الصحف يؤتاها الإنسان وهي التي طارت عنه كما قال جل وعلا { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا } .(2/30)
{ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ } الطائر هو ما يطير عن الإنسان من العمل من خير أو شر لأنه كأنه كان في سعة قبل أن يعمل فلما عمل طار عنه ولم يعد يتمكن من إرجاعه إن كان خيرا فخير وإن كان شرا فشر فسمي ما يعمله الإنسان طائرا لأنه طار عنه ، وقال بعض أهل العلم : سمي طائرا لأنه يحصل منه - يعني من العمل - يحصل منه وبسببه السعادة أو الشِقوة وهكذا كانت العرب تتطير بالطيور فيحصل من تطيرها فيما يعتقدون إما أن يقْدموا وإما أن لا يقدموا على العمل أو السفر فسمي طائرا باعتبار النهاية أنه يحصل منه السعادة والشقاوة بحسب ما جرى من الاستعمال . والأول هو الصحيح وأن الطائر سمي طائرا - يعني العمل سمي طائرا - لأنه طار عن المرء فلا يمكن استرجاعه ودوِّن في كتاب .
قال جل وعلا { وَكُلَّ إِنسَانٍ } هذا عموم يشمل المسلم والكافر .
{ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } يعني جعل ذلك الذي خرج منه الذي صدر منه من الأقوال والأعمال أقوال القلوب وقول اللسان وعمل القلب واللسان والجوارح جعل ملازما له في عنقه كالقلادة لا تنفك عنه فهي ملازمة له يوم القيامة لأن هذه كتبتها الملائكة فهي ملازمة للإنسان ، يوم القيامة يُخرَج له كتاب كما قال جل وعلا
{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا } فيوم القيامة تخرج الدواوين وتنشر ويراها المرء ويُريها أيضا ، قال سبحانه
{ يَلْقَاهُ مَنشُورًا } يعني ينشر ولهذا قال شيخ الإسلام (وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ) فتعبيره بـ (تُنْشَرُ) لأجل هذه الآية ولغيرها { صُحُفًا مُّنَشَّرَةً } يعني تنشر ويعرفها وتُعرف أيضا .
هذا الكتاب هو الديوان فهذه الكتب تتطاير والناس يوم القيامة كما ثبت في الحديث الصحيح يُعْرَضُون ثلاث عرضات على الله جل وعلا :
" فعرضتان جدال ومعاذير .
" ثم العرضة الثالثة تتطاير حينها الصحف ، وتتطاير الدواوين والكتب .(2/31)
وهذه العرضة الثالثة التي فيها التطاير يكون بعدها التقرير ، ولهذا نشر الدواوين يكون قبل الحساب قال جل وعلا { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا }
قال { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } فدل على أن ذلك الحساب يكون بعد نشر تلك الدواوين وبعد أخذ الصحف باليمين ، فمن أخذ صحيفته باليمين فإنه تكون تلك الصحيفة هي التي سُجِّلَت فيها الأعمال فيحاسب على ما فيها .
أما المؤمن فإنه يحاسب حسابا يسيرا تعرض عليه عرضا دون محاققة في الحساب ودون مناقشة ولو نوقش أحد الحساب لهلك ، مجرد تقرير : فعلت كذا ، فعلت كذا ، فعلت كذا ، ألم تفعل كذا ، أعرفت ذنبك كذا ، أعرفت فعلك كذا ، يقول الله جل وعلا له ذلك فإذا أقر قال الله جل وعلا له كما ثبت في الصحيح (إني سترتها عليك في الدنيا وإني أسترها عليك الآن) أو (أغفرها لك الآن) وأما الآخر فإنه يأخذ كتابه بشماله وراء ظهره كما سيأتي .
قال جل وعلا { اقْرَأْ كِتَابَكَ } يعني اقرأ صحيفة عملك ، اقرأ هذا الكتاب الذي كتبته الملائكة مما عملت ومما قلت .
{ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } في قوله هنا { كَفَى بِنَفْسِكَ } يعني كفى نفْسُكَ إذ الباء هنا صلة للتأكيد فـ (نفس) هنا فاعل يعني كفى نفسُك اليوم عليك حسيبا يعني تكفي نفسك في نفسك كفاية اليوم عليك حسيبا .
والله جل وعلا مطلع على أعمال العباد وهذا النشر للدواوين وهذا الحساب الذي سيأتي بيانه أيضا هذا كله من رحمة الله جل وعلا بالعباد ولكي يقرر العباد بذنوبهم وبأعمالهم فلا يأخذ أحدا إلا بما صدر عنه .(2/32)
قال { كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } يعني بعد أخذ الكتاب اقرأ كتابك فأنت تحاسب نفسك يعني تقرر نفسك على ذلك العمل لأنه ليس ثَم حجة له .
وهذا لا ينفي ما يكون من بعض الناس من جدال في بعض ما يحصل لكن الجدال والمعاذير تكون عند تقرير الأعمال قبل إعطاء الصحف كما مر معك في الحديث أنها ثلاث عرضات عرضتان منها جدال ومعاذير فإذا جاء الكتاب ورأى ما عمل فإن الحجة قامت عليه ولا يُجْحَدُ شيئا كما قال جل وعلا { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } يعني خاصة من عصى وكذلك عامة الناس أيضا لا يكتمون الله شيئا .
قال بعد ذلك (وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ)
ترتيب شيخ الإسلام هنا حيث جعل المحاسبة بعد نشر الدواوين هذا صحيح إذ إن الحساب وهو تقرير الأعمال يكون بعد نشر الدواوين وبعد أخْذ من أخَذ كتابه باليمين وأخْذ من أخَذ كتابه بالشمال .
مر معنا فيما سبق أن الناس في أخذ الكتب ينقسمون إلى قسمين :
" (آخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) - يعني في كلام شيخ الإسلام - .
" (وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ وَمِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ) .
فهما قسمان :
فمنهم من يأخذ الكتاب باليمين وهم المؤمنون أهل التوحيد أهل الإيمان .
ومنهم من يأخذ كتابه بالشمال من وراء الظهر وهم الكفار والفجار أعني المنافقين ، فهؤلاء يأخذون الكتاب بالشمال من وراء الظهر .
والله جل وعلا جعل أخذ الكتب في آية للكفار بالشمال وفي آية من وراء الظهر ، فمن أهل العلم من قال إنها ثلاثة أصناف ، يعني إن الناس الخلائق ثلاثة أصناف :
" منهم من يأخذ كتابه باليمين .
" ومنهم من يأخذ كتابه بالشمال .
" ومنهم من يأخذ كتابه وراء الظهر .(2/33)
والصواب هو القول الثاني الذي عليه أكثر المفسرين وهو أن من يأخذ كتابه بالشمال يأخذه بشماله من وراء ظهره فكما أنه ترك كتاب الله جل وعلا ظِهْرِيا ولم يُقبِل على كتاب الله جل وعلا فإنه يجازى بصفة أخذه لكتابه بأنه من شماله من وراء ظهره ، قالوا فتخلع شماله حتى يكون أخذ ذلك الكافر أو المنافق للكتاب من وراء ظهره .
المقصود أن قوله (وآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ وَمِنْ وَّراءِ ظَهْرِهِ) هؤلاء صنف واحد وليس بصنفين .
قال بعد ذلك (وَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ)
الحساب هو المقصود من الإيمان باليوم الآخر ، فإن الإيمان بالبعث معناه الإيمان بيوم يرجع فيه الناس إلى الله فيحاسَبُون فحقيقة الإيمان بالبعث هو الإيمان بالحساب لأنه ما ثَم شيء إلا سيحاسب الله جل وعلا عبده عليه ، وهذا الآيات فيه كثيرة في إثباته والأحاديث فإنكاره كفر بالله جل وعلا من أنكر الحساب يكون منكرا للبعث .
قال (يُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ) قوله (الخَلائِقَ) هذا ظاهر منه أنه يعم جميع الخلق ولكن هو من الظاهر العام المراد به الخصوص وهم خصوص المكلفون ، خصوص من كلفه الله جل وعلا ، إذ المحاسبة على ما عمل العبد من خير أو شر إنما هي للمكلف والمكلفون هم الإنس والجن فيحاسب الله الإنس ويحاسب الله الجن لأن الجن منهم المسلم ومنهم الكافر ، منهم من يدخل الجنة ومنهم من يدخل النار كما قال جل وعلا في حور الجنة { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ } فدل على أن الجن والإنس يدخلون الجنة كذلك يدخلون النار .
فإذن قوله (ويُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ) يعني المكلفين الجنة منهم والناس .(2/34)
قال (وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ) هذا معنى المحاسبة أن الله جل وعلا (يَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) والمحاسبة في ذلك المقام بالنسبة للمؤمن سرا ، يخلو الله جل وعلا بالعبد سرا ولا يعلمه أحد لأنه إذا حوسب على الملأ فإن في ذلك فضيحة له ، والله جل وعلا (يَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ) كما ذكرت لكم من الأحاديث (أتعرف ذنب كذا ، أتعرف ذنب كذا) فيُقَرَرً بالذنب ويُقَرَرُ بالعمل وهذا معنى الحساب وكل واحد سيكلمه الله جل وعلا ليس بينه وبينه ترجمان كما ثبت ذلك في الأحاديث ، وحساب الناس جميعا ، حساب الخلائق جميعا في ذلك المقام حساب سريع فالله جل وعلا لا يُشغِله شأن عن شأن وليس حسابه لعباده كحساب المخلوقين قال سبحانه { أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } هو أسرع الحاسبين لتمام علمه وقدرته وقوته وهيمنته جل وعلا فيحاسب الناس ، يحاسب المؤمنين ويحاسب الخلائق في وقت قصير قال بعضهم كلمحة بصر .
إذن محاسبة المؤمنين فيها تقرير العمل الصالح وتقرير العمل غير الصالح .
فيها تقريرهم بما لهم وما عليهم.
وأما الكفار فهل يحاسبون ؟
قال رحمه الله (وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حساب لَهُمْ)
وذلك لقول الله جل وعلا { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } ولقوله جل وعلا { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } فإنهم ليس عندهم حسنات حتى توازن حسناتهم وسيئاتهم.
والمقصود من المحاسبة هنا أن تعد عليهم أعمالهم ، ما عملوه في الدنيا من خير وما عملوه من شر فتحصى فيوقفون عليه ويقرون بها ويجزون بها .
أما ما عملوا من خير فإن أعمال الكفار في الدنيا :(2/35)
" منها ما يشترط فيه الإسلام والنية .
" ومنها ما لا يشترط فيه ذلك .
فأما ما يشترط فيه الإسلام فإنها لا تقبل منهم ولا تنفعهم لا في الدنيا ولا في الآخرة .
وأما ما لا يشترط فيه النية والإسلام كمثل حسن الخلق وكمثل التيسير على المعسر وكمثل العتق وصلة الرحم ونحو ذلك فإن هذه يجازون عليها في الدنيا .
فيُبَيَّنُ لهم أن هذا ما لكم وأن هذا قد جوزيتم عليه لإظهار كمال عدل الله جل وعلا في خلقه .
فتبقى أعمالهم التي يظنون أنها تنفعهم في الدنيا أنها تنفعهم أعمالهم التي يظنون أنها صالحة من عبادات كانوا يتعبدون بها أو صلوات كانوا يصلونها أو دعوات كانوا يدعون بها فيجعلها الله جل وعلا هباء منثورا كما قال سبحانه { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا } يعني الأعمال التي يظنون أنها ستنفعهم في الآخرة وأما ما ينفع الكافر مما لا يشترط فيه الإسلام والنية فإنه ينفعه في الدنيا وأما في الآخرة فإنه يجعل هباء منثورا .
قال (لا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ حساب لَهُمْ) يعني لا وزن ، أراد بقوله (لاَ حساب لَهُمْ) يعني لا وزن ، والكافر لا يقام له يوم القيامة وزنا كما قال جل وعلا { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } .
ويكون بعد ذلك عد لأعمالهم ، تحصى أعمالهم (يوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا) هذا ما عملت جاءتك الأنبياء جاءتك الرسل - الأنبياء يعني الرسل - و بلغوك كما قال جل وعلا { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ } الآيات .
قال بعد ذلك (وَفِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
.....(2/36)
ما في شك أن قوله (يحاسب الخلائق) - يعني تنبيه جيد جزاك الله خير - (ويُحَاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ) فيه من لا يحاسب أصلا وهم السبعون ألفا الذين لا حساب عليهم ولا عذاب الذين أتوا في الحديث المشهور قال عليه الصلاة والسلام عن أمته (وفيهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب) وهؤلاء هم الذين حققوا التوحيد وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) إشارة إلى صفات تدل على تحقيقهم للتوحيد ، فهناك من لا حساب عليه ولا عذاب وهؤلاء هم السبعون ألفا.
حوض النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
ومكانه وصفاته
قال (وَفِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ)
(عرصة) هذه العرصة هي الفناء الواسع الذي لا بناء فيه ، ساحة عظيمة لا بناء فيها وهكذا الأرض يوم القيامة فإنه لا بناء فيها لأحد ، وعرصات القيامة هي الأماكن التي يجتمع فيه الناس وينتظرون فيها حسابهم ، هذه هي عرصات القيامة ، وهناك عرصات الجنة وهي ما بعد جواز الصراط وقبل دخول الجنة هناك أيضا عرصات ساحات كبيرة يجتمع فيها الخلق لدخولهم لدار المقام
قال (فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ الْحَوضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ) يعني أن حوض النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الذي جاءت به الأحاديث الذي دل عليه قوله جل وعلا { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } هو في عرصة القيامة يعني أنه ليس بعد العبور على الصراط وإنما هو في عرصة القيامة في الأماكن التي يقوم فيها الناس لرب العالمين ، وهذا من شيخ الإسلام رحمه الله إثبات لأن الحوض قبل الصراط .
والعلماء تنازعوا : هل الحوض قبل الصراط أم بعد الصراط على أقوال :
" منهم من يقول إنه قبل الصراط .
" ومنهم من يقول هو بعد الصراط .(2/37)
" ومنهم من يقول هو قبل الصراط وبعده حوض واحد ممتد من عرصات القيامة إلى العرصات التي قبل الجنة .
" ومنهم من يقول هما حوضان : قبل الصراط حوض وبعد الصراط حوض .
والله جل وعلا أعلم بكيف يكون الصراط على هذه الحال وجهنم واسعة والصراط منصوب على متنها .
وما ذكر من أن الحوض قبل الصراط هذا ظاهر وهذا صحيح وذلك أن الناس يجتمعون يوم القيامة بعد أن يخرجوا من قبورهم يجتمعون في ذلك المقام العظيم بين يدي الله رب العالمين لانتظار نزول الرب جل وعلا والحساب فيكرم الله جل وعلا نبينا محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ بأن يعطيه ذلك الحوض الذي امتداده يعني مدده من جهة الماء من الجنة ، فيعطيه ذلك في عرصات القيامة .
قال العلماء : كون الناس يخرجون من قبورهم ويظلون في ذلك الموقف وقتا وزمانا طويلا وعظيما يناسب أن يكون الحوض قبل الصراط لأنه من شرب منه شربة لم يظمأ بعده أو بعد تلك الشربة أبدا ، فناسب أن يكون تخفيفا على المؤمنين الذين يرِدون على النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ... (1)
الصراط لأن المُقَام في ذلك اليوم يوم القيامة لأنه مُقَامٌ طويل جدا والناس في حاجة إلى أنواع من الأمن فيه ومن الأمن أن يسقوا شربة لا يظمؤون بعدها أبدا ، وهذا صحيح ، فإن ذلك الحوض قبل الصراط .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(2/38)
وهذا لا يمنع أن يكون ثَمَ حوض آخر بعد الصراط وذلك لأنه قد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (يرد علي ناس من أمتي الحوض فأعرفهم) وفي لفظ (يرد على ناس من أصحابي الحوض فأعرفهم ثم يُخْتَلجُون دوني فأقول رب أمتي أمتي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) وفي رواية أخرى (قال أصحابي أصحابي ، قال إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم مذ تركتهم) يعني من ارتد بعد النبي عليه الصلاة والسلام (فيُخْتَلَجُون) يعني يؤخذون إلى النار ، قالوا فهذا دليل على أنه يكون بعد العبور على الصراط لأنهم يؤخذون فيدفعون إلى النار .
وكلام شيخ الإسلام هنا ظاهر في أن الحوض الذي أوتيه محمد عليه الصلاة والسلام فإنه يكون قبل الصراط وهذا واضح ، وقد وصف في الأحاديث بصفات تأتي إن شاء الله .
والحوض ليس خاصا بالنبي عليه الصلاة والسلام بل لكل نبي من الأنبياء حوض ، فإنه تكرِمَة لكل نبي وأمن لأتباع الأنبياء والمرسلين وقد جاء ذلك في حديث رواه الترمذي واعتمده به العلماء من أنه لكل نبي حوض .
وأول تلك الأحواض يظهر ويرد عليه الناس هو حوض النبي عليه الصلاة والسلام فإن هذه الأمة آخرة ولكنها سابقة كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال (نحن الآخرون السابقون الأولون يوم القيامة بَيْدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا) يعني إلا أنهم أو غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، فهذه الأمة آخرة ولكنها سابقة يوم القيامة .(2/39)
هذا الحديث يدل على أن هذه الأمة تسبق الأمم جميعا في كل شيء في ذلك اليوم العظيم ، فتسبق في الحشر في أرض المحشر وتسبق في الشربة من حوض النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وهذا الحوض يظهر وتشرب منه هذه الأمة قبل أحواض الأنبياء وتسبق في المحاسبة وتسبق في الوزن وتسبق في أخذ الصحف إلى آخر ذلك إذ اللفظ عام (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) ولم يقيد أو لم يخص ذلك بنوع من أنواع السبق ، كذلك يسبقون إلى دخول الجنة قبل غيرهم من الأمم ، فمحمد عليه الصلاة والسلام هو أول من يدخل الجنة ثم الأنبياء والمرسلون ثم هذه الأمة تكرِمة من الله جل وعلا لها فهم السابقون يوم القيامة .
فهذا الحوض هو أول الأحواض ظهورا وأول من يرد عليه ، أول من يرد على تلك الأحواض هم أمة محمد عليه الصلاة والسلام يكون لهم استراحة وطمأنينة في ذلك .
وها هنا سؤال معروف وهو : أنه تتكرر أشياء في يوم القيامة ونتيجتها أنها أمن وأمان للمؤمن ، فهل يستمر خوف المؤمن في كل ما يحصل ذلك اليوم ؟ يعني من حوسب فوجد الحساب يسيرا فإنه مؤمن ومن أخذ الكتاب باليمين فإنه مؤمن ومن شرب من الحوض فإنه لا يشرب منه أصلا إلا مؤمن ، فما معنى هذا التكرير أنه يحصل له ذلك ؟ هل يظل خائفا أم أنها زيادة طمأنينة ؟(2/40)
الظاهر أنه ما يحصل في ذلك اليوم والله أعلم ، أنه ما يحصل في ذلك اليوم ليس مُسْتَتْبَعاً فيه العلم الذي في الدنيا ، هذه تحتاج منكم إلى بحث ونظر وسؤال ، فإن ما يحصل ذلك اليوم ليس مُسْتَتْبَعاً فيه ما علمت في الدنيا يعني أن ما علمت في هذه الدنيا مما يحصل يوم القيامة فإنه في الظاهر والله أعلم أنه لا يصحب الإنسان لا يصحب المسلم المؤمن في ذلك اليوم فإذا شرب فإنه لا يأمن ، وإذا أعطي كتابه باليمين فإنه لا يأمن وإذا حوسب فإنه لا يأمن يعني أن يكون ممن حقت عليهم بعض كلمات الله جل وعلا أو أن يكونوا ممن يعذبون شيئا يعني في عرصات القيامة أو ممن حقت عليهم الكلمة فيعذبون شيئا في النار .
هذه مسألة بحث تأملوها .
على العموم هي زيادة طمأنينة للمؤمن فإنه يطمئن بالشرب من الحوض وأنه من أتباع محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ويطمئن بالورود تحت لواء النبي عليه الصلاة والسلام ويطمئن بأن يكون حسابه حسابا يسيرا ، ولهذا قال العلماء في قوله { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا } إلى أهله يعني من في الجنة من الحور والأهل ينقلب إليهم مسرورا ليس إلى أهله الذين كان يعهدهم في الدنيا وإنما أهله الذين جعلهم الله جل وعلا أهلاً له في الجنة .
فهذه أنواع من الطمأنينة يحصل بها للمؤمن الأمن والأمان وعدم الحزن في ذلك الموقف العظيم .
قال رحمه الله في وصف الحوض (ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ)
(ماؤُه أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ) كما جاء في بعض الأحاديث في الصحيحين وجاء في بعضها أنه أشد بياضا من الوَرِقْ يعني الفضة ، وأطيب رائحة من المسك (وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ) فله هذه الصفات يعني لمائه :
" أنه (أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ) .(2/41)
" ورائحته أطيب من المسك يعني المسك الخالص الطيب الذكي الذي كان معروفا في زمنه عليه الصلاة والسلام فهو أطيب المشمومات .
" (وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ) العسل الخالص .
وهذا الماء مدده من الجنة قال جل وعلا { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } والكوثر نهر أعطاه الله جل وعلا محمدا صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الجنة .
وقال عليه الصلاة والسلام في وصف كوثره (وهو حوضي ترد عليه أمتي يوم القيامة) .
فـ (الكوثر) نهر وهو حوضه ، وجاء في حديث آخر أنه (يَشْخُبُ في الحوض ميزابان من نهر الكوثر في الجنة) وسمي حوضا له لأنه - الحوض - ماؤه من ذلك النهر فإذن ماء النهر يصب في هذا الحوض فكلما شرب منه أناس ونقص صار ملآناً بما يُمد به من الكوثر الذي هو نهر أعطيه النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة .
قال (آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ)
وفي لفظ آخر قال عليه الصلاة والسلام (آنيته كنجوم السماء) فهذان اللفظان مختلفان :
" الأول (آنيته عدد نجوم السماء) وهذا من جهة العدد يعني من جهة الكثرة أنه ككثرة نجوم السماء .
" وفي الثاني قال (آنيته كنجوم السماء) والكاف هذه مثليّة وهي مثلية تشمل العدد والوصف يعني من جهة الإضاءة واللمعان .
فإذن (آنِيَتُهُ) الآنية المعلقة على جوانب ذلك الحوض موصوفة بأنها كثيرة جدا كثرة نجوم السماء وموصوفة أيضا بأنها ذات لمعان وضياء كلمعان وضياء النجوم التي في السماء .
قال في وصفه عليه الصلاة والسلام أيضا (طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ)
وجاء في رواية أخرى أيضا في الصحيح (زواياه سواء) وهذا (طُولُهُ شَهْرٌ) يعني مسيرة الإبل (وَعَرْضُهُ شَهْرٌ) وقال (زواياه سواء) هذا يقتضي أنه مربع طوله وعرضه سواء يعني مربع ، قال بعض أهل العلم (طُولُهُ شَهْرٌ، وَعَرْضُهُ شَهْرٌ) يحتمل أن يكون مدوّرا لكن في الحديث الآخر (زواياه سواء) يعني أنه مربع والله أعلم .(2/42)
(مَن يَّشْرَبْ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا)
هنا (مَن) تكون شرطية يعني اسم موصول مُضَمَّنْ الشرط (مَن يَّشْرَبْ مِنْهُ شَرْبَةً) فما جزاء ذلك ؟ قال (لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا) أو (لا يظمأْ بعدها أبدا) (مَن يَّشْرَبْ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا) أو تقول (مَن) هنا موصولة بدون شرط يعني بمعنى الذي : الذي (يَّشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً؛ لاَ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا) .
الميزان والحوض مما أنكره المعتزلة وأقر به عامة المخالفين لأهل السنة يعني من الأشاعرة وغيرهم ، والمعتزلة يجعلون الميزان بمعنى العدل وأنه ليس ثَم ميزان له كفتان يعني ميزان حسي وإنما هو ميزان معنوي وهو إقامة العدل ونفيُ الظلم في ذلك الموقف العظيم .
كذلك الحوض أيضا ينكرونه ويقولون لا حوض - يعني لا يُتصور هذا - وإنما الحوض المقصود منه ما يحصل في قلوب المؤمنين من البرد والطمأنينة بنعمة الله وإنعامه عليهم في ذلك المقام .
وهذه الأدلة من الكتاب والسنة تدل بالتواتر على - يعني من جهة النقل متواترة وتدل دلالة قطعية على - أنه كما وصف لأنه وصف صفات عديدة لا مجال فيها إلى أن يؤوَّل ، ثم إن أمور الغيب لا تقاس على أمور الشهادة والله جل وعلا يخلق خلقه وينشئُ ما يشاء ويبدع ما يشاء لا معقب لحكمه يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد .
ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى الصراط ، وقبل الدخول في ذلك ، نعيد ترتيب ما يحصل مما سبق :
إذا نُشر الناس من قبورهم ووافوا الموقف فإنه يكون الحوض هذا أولا ، يعني ترتيب ما سبق ، الحوض .
ثم يأمنون فيظلون هكذا زمانا طويلا يقومون بين يدي الله جل وعلا رب العالمين قبل أن ينزل الله جل وعلا لفصل القضاء وفي هذه الحال الشمس قد دنت منهم وتفاوت عرقهم بحسب أعمالهم .
ثم تنزل الملائكة وتجيء صفا صفاً وتحيط بالخلائق .(2/43)
ثم ينزل الله جل وعلا كما يليق بجلاله وعظمته فيقوم الناس لرب العالمين خاشعين منيبين فيطول عليهم الموقف جدا ثم يذهبون إلى النبي عليه الصلاة والسلام طلبا للشفاعة بعد أن يطلبوها من آدم إلى آخره كما سيأتي ، فيشفع فيبدأ الحساب ، يشفع في أن يعجل فصل القضاء فيُبدأ بالحساب .
وقبل الحساب يكون العرض ، عرضات فيها جدال ومعاذير وهي من الحساب لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حينما سألته عائشة فقالت له أوليس الله يقول { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } قال (ذلك العرض ، ومن نوقش الحساب هلك) وفي رواية (عذِّب) يعني أن اسمه حساب وهو عرض .
قبل الحساب - يعني هذا العرض نحن ذكرنا العرض - ثُمَ تنشر الدواوين وتطير الصحف فآخذ كتابه باليمين وآخذ كتابه بالشمال في أثناء العرضة الثالثة ، يعني عرضتان جدال ومعاذير ، وفي أثناء الثالثة تطير الصحف ويأخذ الناس ، فيأتي المؤمن في بقية تلك العرضة فيحاسب حسابا يسيرا ، اطلاع ، يطلع على عمله فقط ويستر عليه ، ويحاسب الكافر على ذلك .
ثم يكون الوزن ، بعد الحساب يكون الوزن وهذا هو الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .(2/44)
بعد الوزن يكون الناس قد عرفوا ، عرف كلّ ما له وما عليه ، وعرف كلّ مصيره فينادي منادي أن تتَّبِعَ كل أمة ما كانت تعبد ، فهنا يحشر الناس ويكون الناس أزواجا { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ } { الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } يعني نظراءهم وأشباههم وقرناءهم في الكفر ، فيقال أن تتَّبِعَ كل أمة ما كانت تعبد ، قال جل وعلا عن فرعون { فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } فيأتي كل معبود وكل طاغوت فيتَّبِعُهُ من كان يعبده فيتهافتون في النار قبل نصب الصراط لأن الصراط هو لجواز المؤمنين إلى الجنة ، لعبور المؤمنين من على النار إلى الجنة فيتهافتون في النار تهافتا لأنه ثَمَ قبل الصراط وقبل النار ظلمة وهذه الظلمة التي قبل النار لا يعرف الكفار فيها أين المسير ، بل يذهبون يتقدمون يتبعون معبودهم حتى يتهافتون في النار ، وأما من كان يتبع معبودا صالحا كمن كان يعبد عيسى والعزير قال بعض أهل العلم إنه يُمَثَّلُ لهم ملك في صورة المسيح أو في صورة العزير أو من عبد محمدا عليه الصلاة والسلام في صورة محمد عليه الصلاة والسلام، ملك ، هذا جاء في حديث الصور (فيمثل لهم ملك في صورة عيسى وفي صورة العزير) فيتبعونه فيهوي بهم فيقودهم إلى جهنم ، قال آخرون يُمَثَّلُ لهم - لأن حديث الصور فيه ضعف كما ذكرت لكم - يُمَثَّلُ لهم شيطان على هيئة عيسى ، أو الشيطان الذي أمرهم بعبادة عيسى فإنه يتمثل لهم في تلك الصورة ، أو الشيطان الذي أمرهم بعبادة العزير أو إلى آخره يمثل لهم بتلك الصورة فيتبعونه حتى يتهافتون في النار والعياذ بالله .
ثم تنتهي الأمم ، يتهافتون فيدخل أهل النار النار حتى لا يبقى إلا المسلمون الذي أسلموا ظاهرا وباطنا أو ظاهرا ، يعني تبقى هذه الأمة والأمم وفيهم المنافقون .(2/45)
ثم يُنْصَبُ الصراط على متن جهنم ، وأول من يجوز الصراط أمة محمد عليه الصلاة والسلام فيتقدم عليه الصلاة والسلام إلى الصراط .
وقبل الصراط ثَمَ ظُلْمَة (أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات) قال (هم في الظلمة دون الجسر) يعني دون الصراط ، ثَمَ ظلمة عظيمة ، هذه الظلمة يمضي فيها المسلمون ، يأتيها يعني يقدم عليها المسلمون والمنافقون ، الجميع كانوا في نور ، ثم إذا قبل النار أتت هذه الظلمة فيبصر المؤمن بنوره والمنافق ينطمس نوره ، فيقول المنافق للمؤمن { انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ } يعني بعد العبور على الصراط ، فيؤتى كل واحد نور على قدر عمله .
ثم يؤتى بالصراط ، ثم يكون الصراط منصوبا على متن جهنم ثم يأتي النبي عليه الصلاة والسلام فيعبر ثم تعبر هذه الأمة قبل الأمم .
وهذا العبور سيأتي بيان الكلام على الصراط وصفة العبور ، هذا العبور هو ما جاء في القرآن بأنه الورود ، ورود المؤمن على النار ، قال { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } الورود ورودان :
1 - ثَم ورود ورود دخول ... ... ... 2 - وثَم ورود مرور .
ورود المؤمن على النار هو ورود مرور عليها إذا كان ممن سيعبر الصراط وإذا كان من أهل الوعيد ممن سيدخلون النار ويطهرون فإنهم سيدخلونها .
إذن هذا تفاصيل ما سيحصل من البعث إلى نصب الصراط .
الصراط
معناه ومكانه وصفته مرور الناس عليه
ثم تعبر الأمم كما ذكر شيخ الإسلام هنا قال (وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الْجَسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ)(2/46)
منصوب على متن جهنم يعني على ظهرها ، لأن جهنم يجاء بها يوم القيامة ولها سبعون ألف زمام ولها ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ثم يوضع الصراط بعدما ذكرت لكم .
قال شيخ الإسلام (منصوبٌ) يعني أنه ينصب ..
انتهى الشريط التاسع عشر من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط العشرون
قال شيخ الإسلام (منصوبٌ)
يعني أنه ينصب .
قال (وَهُوَ الْجَسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ)
(الْجسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) ليس معناه أنه هو الوُصلة بين الجنة والنار ولكن يعني من عبره فإنه من أهل الجنة ، يعني لا طريق إلى الجنة إلا على هذا الصراط .
والأنبياء حين يعبرون عليه كل يقول (اللهم سلم سلّم) .
هذا الصراط وُصف بأنه دحْض مزلة وبأنه أدق من الشعر وأحد من السيف كما في صحيح مسلم عن أبي سعيد بلاغا ، فله صفات .
قال بعض أهل العلم الصراط واسع لأن لفظ الصراط يدل على سعته ولأن كونه دقيقا وحادا هذا لم يثبت به الدليل الصحيح والأنسب أن يكون عريضا واسعا حتى يعبر الناس منه .
لكن ذلك هو المشهور عند أهل العلم وجاءت به أحاديث وأنه دحض مزلة أدق من الشعر وأحد من السيف عليه كلاليب .
فهذا هو الذي يجب أن يؤخذ به وأما من قال إنه واسع فإن هذا ليس بظاهر ، إذ اعتمادهم على اللغة على لفظ كلمة (صراط) في اللغة وهذا لا يُقضى بها على ما جاء في الحديث والأثر .
قال (يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ)
يعني أن كل أحد من الناس الذين يعبرون على الصراط يعني من أتباع الأنبياء كل واحد يُعطى سرعة أقصاها على قدر عمله ، لا يستطيع أن يتعدى تلك السرعة ، فمنهم - يعني لا شك أنهم يرون النار تحتهم - وهذا الصراط منصوب وكل سيأتي بأعظم ما عنده من السرعة فلهذا قال
(مِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ)(2/47)
يعني لحظة ، على عظم جهنم وعلى سعتها وعلى طول ذلك الصراط ، لحظة كلمح البصر يعني مجرد التفاته يعني أقل من لحظة كما قال جل وعلا { كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } يعني لمح البصر متناهي في الزمن .
قال (وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْبَرْقِ)
البرق زمنه أطول من لمح البصر هذا أقصى ما عندهم من السرعة ، الطائفة الثانية .
وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ)
والريح سريعة .
(ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَالْفَرَسِ وَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كَركابِ الإِبِلِ، ومِنْهُم مَن يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُم مَن يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُم مَن يَزْحَفُ زَحْفًا)
يعني على اختلاف أعمالهم وسرعتهم .
قال (وَمَنْهُم مَن يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ؛ فَإِنَّ الْجَسرَ عَلَيْهِ كَلاَلِيبُ تَخْطِفُ النَّاسَ)
يعني أن من الناس من يمر لكنه إذا مر قليلا فإنه على جَنَبَتَي ذلك الصراط كلاليب .
والكلاليب هي الخطاطيف المعروفة المائلة هذه فإنها تجذب الناس ، ترتفع وتجذب هذا وتجعله في جهنم لأن معها ملائكة يفعلون ذلك .
هؤلاء هم عصاة الموحدين يكونون في الطبقة العليا من النار فتخطفهم تلك الكلاليب وتجعلهم في النار .
قال (فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)
يعني من عبر الصراط ضمن دخول الجنة لأن هذه النار تعداها ، نسأل الله جل وعلا ذلك بمنه وكرمه .
القنطرة بين
الجنة والنار
(فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ)
يعني بعد العبور عليه يكون الاجتماع في عرصات أُخَرْ وتلك عرصات أيضا واسعة قبل أن يأتوا إلى باب الجنة .(2/48)
قال العلماء يدل على هذا التراخي قوله جل وعلا { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } لما قال { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } دل على أن ثمة زمن قبل فتح الأبواب ، وهذا الذي استُفيد من الآية ظاهر فإنه عند العبور يعني بعد العبور على الصراط فإنه يكون ثم مدة من الزمن يجتمع فيها المؤمنون ثم تكون هناك شفاعات أيضا يشفع النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ شفاعات قبل دخول الجنة ومنها شفاعته لأهل الجنة أن يدخلوها وأنواع من الشفاعة يأتي بيانها إن شاء الله .
قال شيخ الإسلام هنا (إِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ؛ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) القنطرة والصراط متقاربة فإن الصراط هو الطريق الواسع في اللغة والقنطرة كذلك لكن صفتها أنها مرتفعة يعني مرتفع من المكان واصل أيضا بين تلك العرصات ودخول الجنة ، يُحْبسُون على تلك القنطرة مدة .
(فيُقْضى لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ)
يعني من كان بينه وبين أخيه خصومة فإنه يقضى بينه وبينه في ذلك حتى يدخل الناس الجنة أعني حتى يدخل المؤمنون الجنة وليس في قلب أحد على أحد شيئا (فَيُقْتَصَّ لِبَعْضِهِم مِن بَعْضٍ) .
يسبق الفقراء ويتأخر الأغنياء قال عليه الصلاة والسلام في حديث (يتأخرون نصف يوم) يعني خمسمائة سنة وفيهم من هو من سادات الصحابة ومن المبشرين عبدالرحمن بن عوف وغيره وذلك لأن المال - يعني الأغنياء يتأخرون - لأن المال فيه حقوق كثيرة متنوعة فيتأخرون ليُعْطَى كل ذي حق حقه ويسبق الفقراء مع النبي عليه الصلاة والسلام .
فيأتي عليه الصلاة والسلام إلى الجنة فيستفتح وهو أول من يستفتح فيقول له خازن الجنة (من) فيقول (محمد) فيقولون له (بك أمرنا أن لا نفتح لأحد قبلك) عليه الصلاة والسلام ، فيدخل عليه الصلاة والسلام الجنة ويدخل الأنبياء والمرسلون .(2/49)
والجنة لها ثمانية أبواب وكل باب له اسم فثَمَ باب الصلاة وثَم باب الزكاة أو الصدقة وثَم باب الريان باب الصيام وباب الجهاد إلى آخره يدخل من كان مختصا بنوع من أنواع العبادات في النفل أو بصفة مزيدة في العبادات في الفرض في أدائها أو صفتها يختص بأحد هذه الأبواب فمن كان مختصا بصفة دخل من باب من تلك الأبواب ومنهم من يُدْعَى من أكثر من باب إذا كان اختصاصه بأكثر من صفة .
قال شيخ الإسلام في الذين يحبسون على تلك القنطرة :
(فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ)
يعني هؤلاء الذين عليهم التهذيب والتنقية ، من كان عليه تهذيب وتنقية فإنه لا يدخل إلا بعد أن يهذب وينقى .
معنى ذلك أنه ما من أحد إلا وسيحبس على تلك القنطرة ولكن الناس يختلفون في التهذيب والتنقية بعضهم أشد من بعض ، لا يؤذن لهم حتى لا يدخل الجنة إلا من سلم قلبه وأُخِذَ الحق منه .
قال (فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا؛ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ) يعني بعد اقتصاص بعضهم من بعض ، قال جل وعلا { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } والآيات في ذلك معلومة .
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (وَأَوَّلُ مَن يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ مُحَمَّدٌ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وَأَوَّلُ مَن يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ)
ظاهر من هذا الترتيب أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ يستفتح وأن أول الأمم دخولا هذه الأمة وهذا على نحو ما ذكرت لك من الترتيب أنه عليه الصلاة والسلام يدخل أولا ثم الأنبياء والمرسلون ثم تسبق هذه الأمة غيرها من الأمم .
وهذه الأمة هي خير الأمم كما قال جل وعلا { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ } والوقف هنا على { أُخْرِجَتْ } وقف لأجل الاستدلال لأن قوله { لِلنَّاسِ } ليس متعلقا بأخرجت .
تركيب الكلام : كنتم للناس خير أمة أخرجت .(2/50)
بعض الناس قد يفهم أنها : كنتم خير أمة أخرجت تلك الأمة للناس .
لا ، كنتم للناس خير أمة أخرجت ، فخير أمة أخرجها الله جل وعلا هي هذه الأمة وهي خير الأمم للناس لأنها وسط لأنها شاهدة عليهم ولأنها أمة التوحيد وأمة الاستجابة عددها كثير واستجابتها للنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وقيامها بأمره ونهيه أعظم من قيام غيرها من الأمم بأمر أنبيائها ورسلها ..
شفاعات
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
قال رحمه الله تعالى (وَلَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ:أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى: فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ)
إلى آخره (لَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فثلاث شفاعات) الشفاعة في الأصل يعني في اللغة الشفاعة هي ضَمُ طالِبِ طَلَبَهُ إلى غيره ، يعني ثَم طالب يطلب طلبا فيأتي آخر يضم طلبه إلى طلب الطالب الأول
فله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ شفاعات يوم القيامة أعظمها هذه الثلاث التي ذكرها شيخ الإسلام .
أو الشفاعة هي التوسط { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً } يعني يتوسط في أمر حسن { مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً } يعني يتوسط في أمر سيء .
قال (لَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) يعني يوم القيامة .
(أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى: فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ تتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى بْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ)(2/51)
هذه الشفاعة هي الشفاعة العظمى التي قال الله جل وعلا فيها لنبيه عليه الصلاة والسلام { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } وهي التي جاءت في الحديث الذي يدعو به الداعي بعد الأذان فيقول فيه (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة و ابعثه مقاما محمودا الذي وعدته) .
المقام المحمود الذي وعده هو مقام الشفاعة وذلك كما ذكرت لكم أن الناس ينتظرون في الموقف زمانا طويلا حتى يأتوا إلى الأنبياء فيطلبون من كل نبي من آدم يعني هؤلاء الأنبياء الستة يطلبون منهم الشفاعة : (آدَمُ) ثم (نُوحٌ) آدم نبي مكلم ثم نوح هو أول المرسلين ثم (إِبْرَاهِيمُ) ثم (مُوسَى) ثم (عِيسى) ثم آخرهم محمد عليه الصلاة والسلام وكل يحيل إلى غيره ويذكر ذنبه إلا عيسى عليه السلام فإنه لا يذكر ذنبا وإنما يأمر بالذهاب إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وهذا لأجل أنه عليه السلام - يعني عيسى - ينزل في آخر الزمان ويكون من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام فلا يذكر ذنبا وإنما هو عليه الصلاة والسلام مقدم على عيسى بن مريم عليه السلام ، فيأتون إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيذكرون له هول الموقف (ألا ترى ما بنا ألا ترى إلى ما نحن فيه ألا تشفع لنا عند ربنا) فيقول عليه الصلاة والسلام (أنا لها أنا لها) فيأتي فيخر تحت العرش فيحمد الله جل وعلا بمحامد قال عليه الصلاة والسلام (فأحمده بمحامد يمن بها علي - يعني الله جل وعلا وفي لفظ (يفتحها علي) - لا أحسنها الآن) فيدعو بتلك الدعوات يعني يحمد بتلك المحامد ويثني على الله جل وعلا بما هو أهله ثم يقول جل وعلا له (يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تُشَفَّع) قال الراوي (فيشفع في قوم أن يدخلوا الجنة بلا حساب ولا عذاب) .
والمقصود من هذا الحديث الشفاعة العظمى يعني يشفع لفصل القضاء .(2/52)
والشفاعة كما هو معلوم هذه الشفاعة العامة متفق عليها بين الفرق ، هذه الشفاعة العامة متفق عليها لا أحد ينكرها لأنها شفاعة في الإراحة من الموقف وكذلك الشفاعة الثانية التي فيها دخول أهل الجنة الجنة كذلك هذه متفق عليها بين الفرق وإنما الخلاف في الشفاعة الثالثة .
والشفاعة في العموم نوعان :
" شفاعة نافعة .
" وشفاعة مردودة .
والشفاعة النافعة في الكتاب والسنة هي ما كان فيها شرطان ، يعني ما توفر فيها شرطان :
الشرط الأول الرضا .
والشرط الثاني الإذن .
والرضا ينقسم إلى قسمين : رضا عن ... (1)
{ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا } يعني لا تنفع شفاعتهم .
{ إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء } يعني ممن يريد أن يشفع .
{ وَيَرْضَى } يرضى عن الشافع وعن المشفوع له .
والإذن الذي هو الشرط الثاني أيضا هو إذن كوني وإذن شرعي .
هذه هي الشفاعة النافعة ، والله جل وعلا يوم القيامة يجعل نبينا محمدا عليه الصلاة والسلام أول الشفعاء وسيد الشفعاء في ذلك المقام العظيم .
بعد الشفاعة العامة هذه الأولى يُحاسَبُ الناس .
قال (وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة)
يعني بعد أن يجتاز المؤمنون من الأمم الصراط وينتظروا قبل دخول الجنة ، ينتظروا دخول الجنة فإنهم لا يدخلون إلا بشفاعة ، يشفع النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في دخولهم للجنة فيخر تحت العرش فيحمد الله جل وعلا بمحامد ثم يقال له ما قيل له آنفا فيقول (أي رب) فيسأل الله جل وعلا الشفاعة ، فيسأل الله جل وعلا إدخال تلك الأمم الشفاعة ، وهذه الشفاعة الثانية ثابتة أيضا ومتفق عليها والفِرق تثبت هذه الشفاعة ومعها شفاعة أخرى أيضا في رفع درجات من كان مستحقا لمرتبة في الجنة أن ترفع مرتبته ، هذه الشفاعة الثانية .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(2/53)
قال (وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ)
يعني أن غيره من الأنبياء لا يَشْرَكُهُ ولا الملائكة ولا العلماء ولا الشهداء ، لا أحد يَشْرَكُهُ في هاتين الشفاعتين ، فدل على أن غيرهما من الشفاعة يدخل فيها غيره من الأنبياء ، فإن الشفاعات متعددة.
أيضا من الشفاعات الخاصة له عليه الصلاة والسلام شفاعته في عمه أبي طالب ، فإنها خاصة به إذ لا ينفع أحدا من الكفار نافع إلا النبي عليه الصلاة والسلام حين يشفع لعمه أن يخفف عليه عذاب النار ، كما ثبت في الصحيح أنه سئل عليه الصلاة والسلام (هل جزيت عمك بشيء لقاء ما عمل) فقال (نعم هو في ضحضاح من النار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) ففي ذلك شفاعته لعمه أبي طالب ويخفف عنه من العذاب بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام .
قال (وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ)
لفظ (اسْتَحَقَّ النَّارَ) هذه يعني استحق النار فدخلها .
(وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ)
وهذا ثابت فإن الملائكة تشفع والأنبياء يشفعون والعلماء يشفعون والصالحين يشفعون وذلك بإذن الله جل وعلا ورضاه عنهم .
هذه الشفاعة الثالثة فصَّلها شيخ الإسلام فقال (فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا)
أما الأولى وهي قوله (فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا) هذه تواردت عليها كلمات أهل العلم ولكن كما قال ابن القيم رحمه إنها مما لم يظفر عليه بدليل أنه يشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها ابتداء ، وإنما هي شفاعة قال - يعني هذه أثبتها العلماء - لكن ابن القيم يقول (لم أجد عليها دليلا) وهذا ظاهر ، والشفاعة التي هي ثابتة في هذا النوع هي أنه (يَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا) .(2/54)
وهذه الشفاعة هي الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وهي التي خالف فيها المعتزلة والخوارج والوعيدية الذين يقولون لا يخرج أحد من النار بعد أن يدخلها ، ويستدلون على ذلك بقوله جل وعلا { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } ويستدل أيضا المعتزلة والخوارج أيضا على نفيهم لهذه الشفاعة بقوله جل وعلا { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } والجواب أن قوله { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } هي في الكفار ، لا ينفع أحدا من الكفار شفاعة شافع في أن يخرج منها وهذا يقول به أهل السنة ، وأما قوله جل وعلا { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } قوله { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } يعني الذين دخلوا فإن الدخول في الكتاب والسنة دخولان :
" ثَم مطلق لدخولٍ .
" وثَم الدخول المطلق .
أما مطلق الدخول يعني أصله يعني حصول الدخول .
وأما الدخول المطلق يعني الذي يكون داخلا في النار ومستقرا فيها ، وهذه هي حالة أهل الكفر يعني الدخول الكامل الأبدي .
ومن دخل ليخرج هذا يصدق عليه أنه دخل ولكن دخوله لخروج وليس دخوله لمقام ، ولهذا قال جل وعلا في الآية { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } والذي يخزى إنما هو الكافر ولهذا قال بعدها { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } .
فذلك النصير والشفيع المنفي هو في حق من دخوله للنار دخول أبدي أما من كان دخوله دخولا أمديا ويخرج بعد ذلك فهو وارد لها والوارد غير المستقر .
وأما قوله جل وعلا في هذه الآية { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } قالوا إن الظالمين هو كل من ظلم وفاعل الكبيرة ظالم .(2/55)
والجواب أن اسم الظلم إذا أطلق ينصرف في الكتاب والسنة أولا إذا لم يقيد بالشرك كما قال جل وعلا { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } فسرها عليه الصلاة والسلام بأن المقصود من الظلم الشرك .
المقصود لهم أدلة في نفي ذلك وهذه الشفاعة ثابتة وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) قد قال له أبو هريرة رضي الله عنه : يا رسول الله من أحق الناس بشفاعتك ؟ قال : (أحق الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قِبَل نفسه) وفي لفظ (خالصا من قلبه ونفسه) وفي رواية يقول عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة (لقد علمت أنه لن يسألني عن هذا أحد قبلك لما أعلم من حرصك على الحديث) فقوله (لما أعلم من حرصك على الحديث) يدل على أنه سبق أن ذكر شفاعته ، شفاعته لأهل الكبائر لأنه قال (لمن قال لا إله إلا الله من قلبه ونفسه) وكل مؤمن يقول لا إله إلا الله لكن هذا شرط خاص فدل على أنه بعض من يقول لا إله إلا الله ينتفع بتلك الشفاعة في الخروج من النار .
وقول شيخ الإسلام هنا (ويَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا) ظاهره أنه كل من دخل النار يشفع له عليه الصلاة والسلام في الخروج منها .
والظاهر أن الذين يشفعون متعددون فيشفع النبي عليه الصلاة والسلام ويشفع الأنبياء ويشفع العلماء كلّ يشفع إذا أذن الله جل وعلا له أن يشفع ، فيخرج من استوجب النار وعُذِبَ فيها بتلك الشفاعات .
وهناك شفاعات أخر غير هذه ذكرها أهل العلم فمنها :
" شفاعته عليه الصلاة والسلام لقوم من أهل الجنة أن تزاد درجاتهم وهذه ذكرت لك آنفا أنها قد تدخل في الشفاعة الثانية في أهل الجنة لأن تلك في أهل الجنة أن يدخلوها وهذه في أهل الجنة أن تُزاد درجاتهم .(2/56)
" وقال السادس شفاعته صلى الله ..((نحن ذكرنا الآن كم ؟ .. ذكر شيخ الإسلام الشفاعة (فيمن استحقوا النار أن لا يدخلوها وفيمن دخلوها أن يخرجوا منها) إذا اعتبرت هذه واحدة فهذا الخامس وإذا اعتبرتها ثنتين وهو أحسن فيكون هذه السادسة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، نحن ذكرنا أيضا شفاعته في عمه أبي طالب فصارت سبع شفاعته عليه الصلاة والسلام لأهل الكبائر كما جاء في الحديث الذي في الصحيح أنها تتكرر أربع مرات ، أربع مرات يشفع لهم عليه الصلاة والسلام ، مرة فيَحُدُ له حدا ومرة أخرى فيحد له حدا وثالثة ورابعة كما جاء في حديث أنس المعروف في الصحيح .
هذا بعض مهمات الشفاعة ولو كنا أجلناها لا شك أنه سوف يكون ثَم كلام أطول من هذا وأبسط يعني من البسط لأنها فيها مسائل ، فيها خلاف والأدلة والرد عليها لكن لعله فيما ذكر الكفاية إن شاء الله تعالى .
إخراج الله
بعض العصاة من النار برحمته
وبغير شفاعة
قال شيخ الإسلام بعد ذلك رحمه الله (وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ)
الله جل وعلا ثبت في الحديث أنه يقول (شفع الأنبياء وشفعت الملائكة وشفع وشفع وبقي أرحم الراحمين فيأخذ الله جل وعلا بقبضته من النار فيُخرج قوما لم يعملوا خيرا قط فيدخلهم الجنة) وهؤلاء الذين لم يعملوا خيرا قط من أهل العلم من استشكل معنى قوله (لم يعملوا خيرا قط) .
والظاهر أن معنى قوله (لم يعملوا خيرا قط) أنهم ليس لهم عمل إلا التوحيد ، يعني عندهم أعمال كثيرة جدا لم يعملوا خيرا قط يكون سببا في نجاتهم ، لم يعملوا خيرا قط يكون سببا في شفاعة الشفعاء لهم فيظلون لا عمل لهم يشفع في خروجهم من النار السريع ولا شفيع لهم شفع فالله جل وعلا أرحم بعباده المؤمنين فيأخذ هؤلاء ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته .(2/57)
قال (وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ)
(يَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا) وصف الله جل وعلا الجنة بأن عرضها عرض السماوات والأرض { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ } { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } فيبقى فيها فضل بعد دخول المؤمنين جميعا من أتباع الرسل والأنبياء فينشئ الله جل وعلا لها خلقا ، وجاء أيضا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنه (ينشئ للنار من يشاء فيلقيها فيها حتى تمتلئ) وهذا اللفظ بعض أهل العلم اعتمده وقال هو في البخاري وبعضهم قال إنه انقلب على بعض الرواة ولم يفهموه ، لم يفهموا أصل الحديث فانقلب عليهم رواية ، والإنشاء يكون للجنة ، وأما النار فيضع الله جل وعلا فيها قدمه حتى تقول قط قَط ، وهذا هو الصحيح فإن الله جل وعلا لا يعذب أحدا بالنار إلا بذنب ارتكبه وظاهرٌ ما جاء في الأحاديث من وضع الجبار جل وعلا قدمه في النار .
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ)
(أَصْنَافُ) يعني أنواع .
(مِنَ الْحِسَابِ) الْحِسَابِ مر معك معناه .
(وَالثَّوَابِ) (الثَّوَابِ) أُخِذَ من ثاب يثوب إذا رجع ، (ثاب الشيء) رجع وذلك أن العمل يخرج من العامل فيرجع إليه ثواب ، يرجع إليه شيء ، هذا الراجع سمي ثوابا يعني جزاء العمل رجع ، فسمي ثوابا لأنه رجوع لما خرج منه من العمل .
(وَالْعِقَابِ) الْعِقَابِ ما يحصل من العقوبة .(2/58)
(وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ) الجنة مخلوقة الآن من مخلوقات الله جل وعلا وسميت جنة إما لاستتارها عن العيون أو لأنها مُشَبَّهَة بما يعرف الناس من الاجتنان في الدنيا لأن من دخلها فإنه لا يُرَى ، فهي جنان أيضا والجنة اسم جنس ، هي مخلوقة الآن وموجودة والنبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ حين عرج به إلى السماء رآها ورأى النار أيضا عليه الصلاة والسلام ، والنار أحد أسماء دار الجحيم يقال لها النار والجحيم وسقر وأسماء كثيرة وهذه الأسماء باعتبار تباين الصفات .
قال (وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ)
وذلك لشدة الحاجة إلى هذا العلم لأن علم الجزاء من أهم العلوم بل هو ثلث العلم كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى .
فتفاصيله مذكورة في كل الكتب المنزلة من السماء ، والأنبياء يذكرون تفاصيل ذلك وهو حق على حقيقته كما أخبر الله جل وعلا به لا يجوز أن نتأول شيئا من أمور الغيب وأن نحمله على غير ظاهره
وقاعدة أهل السنة في جميع الغيبيات في الصفات وفي ما في الملكوت من خلق الله وما يحصل يوم القيامة قاعدتهم جميعا في الغيبيات أن يحملوا ما جاء في الشرع من ألفاظ يوصف بها ما غاب عنا أن يحملوها على ظاهرها وأن لا يؤولوها بتأويلات تصرفها عن ظاهرها المتبادر منها .
فما في يوم القيامة من حشر وما في يوم القيامة من ركوب وما في يوم القيامة من نور وظلمة وعرق ودنو الشمس والحوض والميزان إلى غير ذلك كل ما في ذلك يُحْمَل على حقيقته ، والنار حقيقة نار تستعر والجنة دار مقام إلى آخره وفي كل هذه بحملها على غير ما يتبادر منها خالف فيها من خالف إما من مبتدعة المتكلمين وإما من الفلاسفة في أصناف شتى من أهل الأقوال التي تُنْسَبُ لهذه الأمة .
(وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ) عليهم السلام .(2/59)
قال (وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ) عليهم السلام .
قال (وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ)
وقد صنف العلماء في ذلك مصنفات كثيرة ذكروا فيها الآيات وذكروا فيها الأحاديث التي فيها تفاصيل ما يكون في ذلك اليوم العظيم الذي هو لا بد كائن ، الذي هو كائن لا محالة ولا بد آت وهو قريب قريب والنبي عليه الصلاة والسلام إذا ذكر الغيب مهما امتد زمانه يقول (يوشك أن يفعل أحدكم كذا) (يوشك أن يلقى أحدكم كذا) (يوشك أن ينزل فيكم كذا) إلى آخره ، فهو قريب قريب وإن تباعدته النفوس أو بعض العقول فإنه قريب لأن الزمن ما دام أنه يجري فإن غدا لناظره قريب .
وإذا تقرر هذا فإن على المؤمن أن يستعد لذلك اليوم أشد الاستعداد ، لأنه يوم مَهِيلٌ أصيل وكل أحد سيلقى ما عمل وهي الحياة الباقية التي ليس ثَم حياة بعدها ولا دار للتصحيح بعدها ولا مكان بعدها يمكن أن تعمل فيه فتتغير حالك ، فالمكان الذي اختبرت فيه وابتليت فيه بالاتباع بالاستجابة هو هذه الدار فإن كنت فيها مفلحا ناجحا فأنت في الآخرة كذلك وإن كنت فيها أعمى فأنت في الآخرة أعمى .(2/60)
ولهذا يجب على المؤمن أن يثمر في قلبه الإيمان باليوم الآخر ثمرات عظيمة وعديدة وأعظم تلك الثمرات أن يكون قلبه معلقا بالآخرة في حركاته وأعماله ، وأن يكون الله جل وعلا أعظم في قلبه من الخلق فيكون عمله لله إذا رضي الله عنه فإنَّ غضب الناس عليه أو سخطهم عليه فإنَّ هذا ليس بشيء لأن الله جل وعلا هو الذي خلق وهو الذي رزق وإليه المآب وإليه الرجعى فإذا كان كذلك فإنما المسير إليه وإنما العمل سيُرَى بين يديه ولهذا يجب على المؤمن أن يأخذ حِذْرَه وأن لا يتمنى على الله الأماني وأن لا يأخذ حياته هكذا تذهب دون استعداد ودون جد في حياته لأنك إذا كنت جادا في هذه الدنيا فإن الآخرة ستجد فيها ثمرة ذلك .
ومن أعظم ما يكون أن المرء إذا عمل عملا صالحا وعزم في قلبه على أعمال صالحات كثيرة فإنه يكتب له ذلك وإن توفاه الله جل وعلا .
وهذه من العظائم ، قال جل وعلا { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللَّهِ } فمن سعى في شيء وقلبه معلق بأنَّه يعمل كذا وكذا وكذا من الخيرات إذا امتد به الزمن إذا امتدت به الحياة فإن الله جل وعلا كريم يعطي عباده بغير حساب ويجزل لهم الثواب ومن رحمته وكرمه بعباده المؤمنين أنه إذا كان قلبه معلقا بشيء في المستقبل أن يعمله من الطاعات متى ما حان الأوان فإنه يؤتيه ذلك .
وكم من رجل تمنى أن يموت شهيدا في سبيل الله ولم يحصل له لقاء الأعداء في الجهاد فمات على فراشه فبلغه الله جل وعلا منازل الشهداء وكم من رجل تمنى أن يكون في علمه عالما وإماما للمتقين فمات قبل ذلك فلعل الله جل وعلا أن يبلغه ذلك .
وهكذا فإن النيات عظيمة وهي مطايا وإذا خلص قصد العبد ومحبته لله جل وعلا ولرسوله فإنه يحصل على الخير والله جل وعلا يعلم ما في الصدور ويعلم ما تكنه قلوب الناس .(2/61)
فإذا نَوَيْتَ خيرا فأبشر بالخير وإذا نَوَيْتَ غير ذلك فأنت وما ترتضي لنفسك .
لهذا من الخير أن تجعل أمانيك عظاما أن تجعل أمنياتك من الخيرات عظيمة وأن لا تقنع في أمرك مثلا في العلم والتعلم بشيء يسير بل كن كما قال الله جل وعلا في وصف المؤمنين الصالحين { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا } دعوا بدعوة قد يكونوا صاروا أئمة وقد لا يكونون لكن فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء .
وثم فرق عظيم بين حب الإمامة في الدين وبين الترفع وحب الجاه والرغبة في أن ينظر الخلق إلى ذلك الرجل وقد ذكر هذا الفرق ابن القيم وغيره .
فمصدر محبة الإمامة في الدين الرضا عن الله جل وعلا وعن شرعه ودينه والرغبة في الآخرة وقلب الرجل معلق بالآخرة ولا ينظر إلى الدنيا فهو يريد أن يكون إماما للمتقين لكي يهديهم إلى دين الله ولكي يبصرهم في أمر الله ونهيه وبما جاء في كتابه فيحب ذلك لا لنفسه ولكن محبة لدلالة الخلق على خالقهم وإرشاد الخلق إلى ما يرضي ربه جل وعلا .
وأما الآخَر فمراده وقصده أن يكون له في الناس جاه وسمعه ورفعه إذا حصل له ذلك حصل له مبتغاه .
فهذا من الشيطان وأما الآخر فهو من الإخلاص .(2/62)
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يقدم على أمور الخير ويخلص فيها نيته وقصده ويجاهد نفسه في ذلك فإنه على شعبة من شعب الخير ، وإذا رأى من نفسه حب الشهرة أو حب الجاه أو حب السمعة أو حب الرفعة حتى في كلمة تقولها بين أصحابك فإنه يوم القيامة لا بد وأن تحاسب على كل شيء والإخلاص هو الذي به تصلح الأعمال وتحسن وفرق بين المقامات ، والله جل وعلا هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
أسأل الله جل وعلا لنا جميعا أن يغفر ذنوبنا وأن يكفر عنا سيئاتنا وأن يجعلنا ممن كتب له المقام العظيم في جنات عدن ، نسأل الله جل وعلا الفردوس الأعلى من الجنة ونسأله جل وعلا أن يجعلنا من الذين تعلموا فعملوا ومن الذين كانوا أئمة للمتقين بغير حب لنظر الخلق وفي غير محبة لإعجاب الناس أسأل الله جل وعلا لي ولكم ذلك وأن يعفو عنا ويتسامح .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ...
شفاعات
النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ
- 2 -
وَلَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ:
أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى: فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى بْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة.
وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ.
وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا.(2/63)
وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ.
وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
فهذا المبحث الذي هو مبحث الشفاعة ذكره شيخ الإسلام رحمه الله بما يتصل بما يحصل في اليوم الآخر وكأنه عنده من جملة ما هو داخل في الإيمان باليوم الآخر لأنه يحصل فيه .
وهذا ظاهر لأن الشفاعة تكون في ذلك اليوم ، في يوم القيامة ، وجاء تفصيل الكلام عليها في الأدلة من السنة في كلام المصطفى صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وفي كلام الصحابة فيما فسروا به بعض الآيات مما يكون يوم القيامة .
وإذا كان كذلك فهي داخلة في تلك الجملة وهي قوله (واليوم الآخر) يعني الإيمان باليوم الآخر .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (وَلَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ)
أصل كلمة الشفاعة هذه مأخوذة من شفع يشفع إذا طلب لأن الطالب واحد فإذا أتى معه آخر صار شفعاً له بعد أن كان فردا ، فسمي شفيعا فعيل بمعنى فاعل يعني شافع شفع غيره ، يعني صار الطلب بعد أن كان من واحد صار من اثنين ، لهذا سميت شفاعة ، هذا من جهة اللغة .(2/64)
ومن جهة الشرع فيها أصل المعنى اللغوي وزيادة أن الشفاعة هي ما يُطلب من الله جل وعلا بشروطه الشرعية .
يعني أن من الشفاعات ما يكون شفاعة لكن يكون مردودا لعدم توفر الشروط فيه ولهذا قال جل وعلا { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } { وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } .
فإذن ليست كل شفاعة نافعة شرعا ومسماة شفاعة في الشرع حتى تكون يوم القيامة قد جاء صاحبها بشروطها وإن كانت شفاعة في اللغة .
وشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام في يوم القيامة منها شفاعة متفق عليها بين جميع الفرق ومنها شفاعة أو شفاعات مختلف فيها يقر أهل السنة منها ما دلت عليه الأدلة وينفيها طائفة من الفرق المنتسبة إلى القبلة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (ولَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) (ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) يعني للمؤمنين وهي التي تكون يوم القيامة فذكر هذه الشفاعات وهي غير مختصة بهذه الثلاث بل هناك شفاعات لم يذكرها رحمه الله تعالى مثل شفاعته لعمه ومثل بعض الشفاعات الأخر كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
معلوم أن الشفاعة جاءت في الكتاب والسنة منفية وجاءت مثبتة .
وهناك فرق يبن الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية ، يعني الشفاعة النافعة هي المثبتة والشفاعة المنفية غير النافعة .
وهناك فرق أيضا بين الشفاعة في الدنيا والشفاعة في الآخرة .
فالله جل وعلا أثبت أن الشفاعة عنده تنفع بشروط قال { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } وقال جل وعلا { وَكَم مِّن مَّلَك فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } يعني أن أصل الشفاعة عند الله جل وعلا ثابتة.(2/65)
وهذه الشفاعة في مقام الافتقار وليست في مقام الوجاهة ، وبيان ذلك أن العبد إذا شفع عند الله جل وعلا فإنه يشفع وهو عبد ذليل مفتقر إلى الله جل وعلا ليس كحال الشفاعة عند أهل الدنيا وذلك أن الشفاعة عند الناس تكون بمن له جاه وعز عند المشفوع عنده حتى يجيب ، والمشفوع عنده كملك أو أمير أو مسؤول أو عالم أو شيخ أو تاجر إلى آخره يكون يرجو من هذا الشفيع شيئا فيجيب شفاعته لما يرجو من إجابة شفاعته ، ولهذا يكون الشفيع متفضلا على الشافع .
وأما الشفاعة عند الله جل وعلا فهي ليست من هذا القبيل وإنما هو جل وعلا هو الذي يكرم من شاء من عباده أن يكون شفيعا ثم يكرم من شاء من عباده أن يؤذن له في الشفاعة وأن يلهمه القول الحسن فيها حتى يجاب .
فالفضل فيها لله جل وعلا ابتداء وانتهاء ، وهذا بخلاف الشفاعة عند أهل الدنيا ولهذا ظن المشركون أن الشفاعة عند الله جل وعلا من جنس شفاعة الناس بعضهم لبعض فاتخذوا الآلهة والأصنام شفعاء لأنهم يظنون أنهم يشفعون عند الله جل وعلا ولو لم يأذن الله جل وعلا في ذلك أو لم يرض فلهم المقام عند الله الذي يجعل الله جل وعلا يجيب سؤالهم ويجيب شفاعتهم .
فإذن في هذا الباب يطول البحث لكن تفرق بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية التي هي الشفاعة النافعة والشفاعة غير النافعة والشفاعة في الدنيا والشفاعة في الآخرة والشفاعة عند المشركين في فهمهم والشفاعة في الشرع ، ما هي الشفاعة عند المشركين وما هي الشفاعة في الشرع ، وبهذا يتقرر هذا الباب بما ينفع في باب الاعتقاد العام يعني هنا وفي توحيد العبادة .
شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا على رجاء الإجابة ، قد يجاب وقد لا يجاب وهكذا شفاعة الأنبياء والمرسلين قد يجابون وقد لا يجابون ولكنهم على رجاء الإجابة ، فنوح مثلا لم تجب دعوته في ابنه وإبراهيم لم تجب دعوته في أبيه .(2/66)
لأن حقيقة الشفاعة هي الدعاء ، شفع يعني دعا ، طلب ، فالشفاعة طلب ودعاء ، فنوح طلب من الله جل وعلا أن يكون ابنه معه من الناجين فلم يجب وإبراهيم دعا فلم يُجَبْ والنبي عليه الصلاة والسلام دعا أيضا لعمه ولم يُجَبْ حتى نزل فيه قول الله جل وعلا { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } ونهي عن ذلك في قوله { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى } ولما دعا على أناس قال الله جل وعلا له { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } المقصود أن الشفاعة في الدنيا قد تجاب وقد لا تجاب حتى من الأنبياء وذلك أنها يشترط فيها شروط ، يعني الشفاعة النافعة يشترط فيها شروط :
" يشترط أولا الإذن .
" والثاني الرضا .
الشرط الأول : الإذن ، والشرط الثاني : الرضا وقد جاء في قوله تعالى { إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى } وقال { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } ونحو ذلك من الآيات .
والإذن نوعان :
" إذن كوني .
" وإذن شرعي .
والرضا نوعان :
" رضا عن الشافع .
" ورضا عن المشفوع له .
فالإذن الكوني : بمعنى أنه لا تحصل شفاعة إلا من بعد أن يأذن الله للشافع كونا ، فلا يمكن أن يشفع شافع من عند نفسه إلا بعد أن يأذن الله له بالشفاعة في كونه ، فلا يحدث شيء في ملكوت الله إلا من بعد إذنه الكوني ، يعني ليس لأحد حق الابتداء ، فإن الله قد يصرف الشافع فلا يُمَكِّنَه من أن يشفع أصلا ، يصرف قلبه يصرف نفسه فلا تقع أصلا لأنه لا بد أن يكون ثَم إذن كوني بحصول الشفاعة من الشافع .(2/67)
الثاني الإذن الشرعي ، والإذن الشرعي معناه أن يكون حصول الشفاعة على وفق الشروط الشرعية فيمن شفع له الشافع وفي الشافع نفسه ، فالمشرك لا تنفع شفاعته لأنه مشرك ، والمشرك لا ينفع أن يُشْفَع له كما قال { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } فإذن هو لا ينفع أن يشفع ولا أن يشفَّع فيه إلا أبا طالب في حالة خاصة ، وهذا ظاهر في حال ابن نوح وحال أبي إبراهيم وحال عم النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ في الدنيا إلى آخره .
الثاني الرضا ، الرضا عن الشافع والرضا عن المشفوع له ، وهذا ظاهر .
والرضا إنما يكون عن أهل التوحيد وذلك لما ثبت في الصحيح أن أبا هريرة سأل النبي عليه الصلاة والسلام فقال له : من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله ؟ قال (لقد علمت أنه لن يسألني أحد قبلك عن هذا لما أعلم من حرصك على الحديث ، أحق الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه) وفي رواية (خالصا من قلبه ونفسه) فهذا شرط الإخلاص وهو لأهل التوحيد .
فإذن الذي يرضى عنه الله جل وعلا هم أهل التوحيد ، فالشفاعة لا تنفع إلا أهل التوحيد أما أهل الإشراك بالله جل وعلا فلا تنفعهم الشفاعة لأنها إنما هي لمن ارتضى ربنا جل وعلا وهو لا يرضى سبحانه إلا التوحيد وقال في المشركين { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } وقال أيضا { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } وقال { لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ }
الرضا عن الشافع والرضا عن المشفوع له .
وهذا الرضا عن الشافع والرضا عن المشفوع له مع الشرط الأول هذا كله ، كل هذه شروط للانتفاع بالشفاعة .
قد تقع الشفاعة مع عدم وجود بعض هذه الشروط .
قد تقع الشفاعة من غير إذن شرعي فلا تنفع ، الإذن الكوني طبعا لا بد منه .
قد تقع من غير رضا عن الشافع أو رضا عن المشفوع له فتقع لكنها لا تنفع إلا إذا وجدت هذه الشروط مجتمعة .(2/68)
وهي في حق النبي عليه الصلاة والسلام في يوم القيامة ظاهرة وواضحة في أتم ظهور فإنه عليه الصلاة والسلام لا يشفع إلا بعد أن يأذن الله جل وعلا .
وفي الشفاعة العامة في أهل الموقف أن يحاسبوا فإن الناس إذا طال بهم الموقف في ذلك اليوم العظيم يأتون إلى الأنبياء إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى ثم إلى عيسى وكل لا يجيب إلى أن يشفع إلى الرحمن حتى تنتهي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيقول عليه الصلاة والسلام (أنا لها أنا لها) فيسجد تحت العرش ، قال عليه الصلاة والسلام (فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي) يعني الله جل وعلا يفتح على نبيه أن يحمده ويثني عليه بذلك الثناء العظيم قال عليه الصلاة والسلام (لا أحسنها الآن) .
وهذا يدل على أن الشفاعة محض تفضل من الله جل وعلا فهو في الحقيقة الذي تُطْلَبُ منه الشفاعة { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } لأنه هو الذي يأذن وهو الذي يأمر وهو الذي يوفق لها فتُطْلَبُ منه أن يشفَّع في العبد النبيُّ عليه الصلاة والسلام .
قال عليه الصلاة والسلام (لا أحسنها الآن) فيقال (يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفَّع) فهذا بعد الإذن ، يعني لا يبتدئ الشفاعة بل يحمد ويثني ويعلم الله جل وعلا ما في نفسه ثم يرفع رأسه فيشفع ، فيشفع عليه الصلاة والسلام عدة شفاعات وتأتينا إن شاء الله تعالى .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (وَلَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ)
قوله (لَه) اللام هنا هي لام الاستحقاق وهذا الاستحقاق بتفضل من الله جل وعلا يعني هو لا يملكها لأن الشفاعة إنما يملكها الله جل وعلا { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } الشفاعة ملك لله وحده سبحانه لكن تفضل الله على نبينا محمد صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فأعطاه شفاعات فصار مختصا بها ، فاللام هذه إما لام الاستحقاق لأنه تفضل الله عليه بها ، وإما أن تكون لام الاختصاص يعني هو مختص بهذه .(2/69)
وقوله (ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) العدد هنا لا مفهوم له يعني ليس مفهومه أنها ليست بأربع
قال (لَه صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ) يعني التي يريد أن يبينها شيخ الإسلام رحمه الله في هذا المقام .
وجمعه شفاعات باعتبار تعددها لأنها تحصل مرة بعد مرة لا تحصل دفعة واحدة يعني في مقام واحد ، هذه ثم هذه ثم هذه أو باعتبار تنوعها فإن بعضها في الإراحة من الموقف في الحساب وبعضها في التجاوز عن أهل الكبائر ، وبعضها تلك الشفاعات في أهل الجنة أن يدخلوها .
فصّل ذلك قال (أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُوْلَى: فَيَشفَعُ فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ؛ آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسى بْنُ مَرْيَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ)
على نحو ما ذكرت لك فتنتهي إليه فيقول (أنا لها أنا لها) عليه الصلاة والسلام فهو أول شافع في ذلك المقام في كل مقامات الشفاعة ، وأول شافع من حيث حصول الشفاعة بالإراحة من الموقف وهو أول شافع لأهل الكبائر وهو أول شافع في دخول أهل الجنة يعني بين الأنبياء .(2/70)
هذه الشفاعة قال (فَي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ) وذلك أنهم يمكثون زمانا طويلا في ذلك اليوم الذي يبلغ طوله خمسين ألف سنة فيمكثون ويمكثون ويمكثون عَلَّهُمْ أن يُرَاحُوا من ذلك الموقف حتى يتقدم طائفة فيسألون الأنبياء الشفاعة وهو سؤال لحي حاضر يقدر أن يجيب على ذلك ، فيشفع عليه الصلاة والسلام ، في الأحاديث التي جاءت في بيان هذا قال (بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ) الذي في الأحاديث بعد ان قال عليه الصلاة والسلام (فآتي تحت العرش فأسجد فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقال يا محمد ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه عليه الصلاة والسلام فيشفع فيمن يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب) هذا الذي ذُكِرْ في الأحاديث ولم يذكر بعد هذه القصة إلا الشفاعة فيمن يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب .
قال العلماء : خُصَ ذلك لأجل أن الرواية هذه اشتملت على عدد من أنواع الشفاعة ، والشفاعة العظمى متفق عليها فكأن الرواة اختصروا الحديث وذكروا ما فيه اختلاف من حيث العقيدة بين أهل السنة وبين الفرق وهذا الجواب أجاب به شيخ الإسلام ونقله عنه شارح الطحاوية كما هو معروف وإلا فإن المقصود من هذه الشفاعة في القضاء بين الناس ، ليس المقصود من هذه الشفاعة في دخول من لا حساب عليهم ولا عذاب الجنة وإنما المقصود منها الإراحة من الموقف.(2/71)
إذن حصل اختصار في هذه الأحاديث فإذا نظرت في هذه الأحاديث ولم تجد أن فيها سؤال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ أن يقضى بين العباد فقالوا هذا اختصر لأجل أنه متفق عليه فذكروا احتجاجا بهذا الحديث ما يُقَرَّر على أهل البدع الذين ينفون بعض أنواع الشفاعات وإلا فإن الشفاعة هذه ثابتة وهي التي ذكرها الله جل وعلا في قوله { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } المقام المحمود هو المقام الذي تحمده عليه الخلائق تحمد النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك المقام الخلائق وهو أن يعجل في القضاء .
فهو عليه الصلاة والسلام محمد في الدنيا ومحمد في الآخرة يعني كثير خصال الحمد كثير الصفات التي يُحْمَدُ عليها في الدنيا وهو عليه الصلاة والسلام كثير الصفات التي يُحْمَدُ عليها في الآخرة ومن أعظم الصفات التي يُحْمَدُ عليها في الآخرة مقام الشفاعة :
فذو العرش محمود وهذا محمد - عليه الصلاة والسلام -
ثم مباحث متعلقة بالشفاعة العظمى لكنها واضحة إن شاء الله تعالى .
قال (وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة)
(يَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة) إذ أهل الجنة لا يدخلونها بعد جواز الصراط وبعد أن يقضى بينهم ، وأول فئة تدخل الجنة وهو عليه الصلاة والسلام أول من يستفتح باب الجنة فهو السابق إلى ذلك فهو الذي يشفع في أهل الجنة .
قد قال عليه الصلاة والسلام (أنا أول شافع وأول مشفَّع) .(2/72)
(أول شافع) يعني في كل مقام فيه الشفاعة ، فدخول الجنة هو عليه الصلاة والسلام الذي يشفع وهو أول من يدخل الجنة فيأتي فيستأذن في دخول الجنة فيقول له الملائكة (من أنت) فيقول (أنا محمد بن عبدالله) فيقال له عليه الصلاة والسلام (بك أمرنا أن لا نفتح لأحد قبلك) فتفتح تلك الأبواب وعرض ما بين البابين كذا وكذا كما بين السماء والأرض من عِظَمِها فيدخل الناس الجنة ، يدخل معه يعني بعده عليه الصلاة والسلام الأنبياء ثم فقراء أمته ثم تتابع الأمم ، فأول من يدخل الجنة بشفاعته عليه الصلاة والسلام الأنبياء ثم أمته ثم بعد ذلك تأتي الأمم .
قال (فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة) وقوله (فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ) يعني الذين استحقوها بفضل من الله جل وعلا وإحسان ورحمة .
وقيل فيهم أهل الجنة لأن الله جل وعلا جعلهم من أهل الجنة منذ خلق أرواحهم (هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي) وظهر علمه السابق فيهم جل وعلا يوم القيامة فيظهر أهل الجنة من أهل النار .
يشفع فيهم (أَن يَدْخُلُوا الْجَنَّة) كما أوضحت لك في شأن هذه الشفاعة .
قال شيخ الإسلام (وَهَاتَانَ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ)
عليه الصلاة والسلام ، يعني أن الشفاعة في دخول الجنة هي خاصة به فهو الذي يشفع في دخول الجنة فينتفع بشفاعته بقية الأنبياء والمرسلين ثم أمته ثم بقية الأمم الذين أجابوا المرسلين .(2/73)
ومن الشفاعات الخاصة به عليه الصلاة والسلام الشفاعة في أبي طالب فإنه عليه الصلاة والسلام يشفع في عمه كما ثبت في الصحيحين أنه قيل له عليه الصلاة والسلام (هل نفعت عمك بشيء ؟) قال (نعم إنه في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) عليه الصلاة والسلام ، فهذه شفاعة في تخفيف العذاب وليس في الإخراج من النار ، في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب وهذه خاصة به لا يشفع أحد غير النبي عليه الصلاة والسلام في مشرك أبدا وإنما هي خاصة به عليه الصلاة والسلام .
قال (وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ)
أما الشفاعتان الأُوليان ، الأولى والثانية فهذه متفق عليها لا يخالف فيها أهل البدع وأما الثالثة هذه فهي التي فيها الخلاف قال - يعني الشفاعتان الأوليان الشفاعة في القضاء والشفاعة في دخول أهل الجنة - الثالثة التي ذكرها شيخ الإسلام قال :
(وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا)
قوله (فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ) هذا يشمل حالين فصَّلَهُما شيخ الإسلام بعد ذلك :
" استحق النار فدخل .
" استحق النار فلم يدخل .
قال (وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ) وذلك لما جاء في الحديث الصحيح أن الله جل وعلا يقول يوم القيامة (شفع الأنبياء وشفع الشهداء وشفع الصالحون ولم تبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيُخْرِجُ من النار أقواما لم يعملوا خيرا قط)
فإذن غير النبي عليه الصلاة والسلام يشفع ، في أي شي ؟(2/74)
يشفع فيمن استحق النار ، فالأنبياء يشفعون والصالحون يشفعون والآباء يشفعون والصغار يعني من ماتوا من المسلمين وهم صغار يشفعون ومن قدَّمَ مجموعة من الأولاد يعني ماتوا شفعوا له وهكذا فيما جاءت به الأدلة .
قال (فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا) دليل هذا النوع من الشفاعة قوله عليه الصلاة والسلام (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وكذلك ما جاء في حديث أنس الطويل أنه ذكر لهم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم في حديث طويل مضمونه أنه يشفع عليه الصلاة والسلام أربع شفاعات في أهل الكبائر في أربع مرات ذلك اليوم ، وقوله (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) هذه تشمل أهل الكبائر الذي ماتوا على التوحيد لأنه قال (فهي نائلة منهم من مات لا يشرك بالله شيئا) وفي الحديث الذي ذكرت لكم أنه قال عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه)
قال (فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا) وهذه الجملة ذكرها العلماء أنها مما يشفع فيه النبي عليه الصلاة والسلام في أقوام استحقوا النار أن لا يدخلوها ، قبل الدخول يشفع لهم فلا يدخلونها وقد قال ابن القيم رحمه الله فيما أذكر (أن هذا لم أجد عليه دليلا) وقال إن هناك شفاعات يذكرها العلماء لم أقف فيها على دليل ومنها هذه يعني فيمن لم يدخل النار أن لا يدخلها ، لمن استحق النار ولم يدخلها ألا يدخلها .
وقد يُسْتَدَلُ لهؤلاء يعني يستدل لهذا النوع من الشفاعة بقوله عليه الصلاة والسلام (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) فأثبت عليه الصلاة والسلام شفاعته في أهل الكبائر ، ومعلوم أن أهل الكبائر يشمل من استحق النار ممن دخل أو لم يدخل ، فقوله (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) فيها شمول لمن دخل ولمن لم يدخل فيُسْتَدَل بعموم هذا الحديث على صحة هذا النوع من الشفاعة ، يعني على صحة كونه شفاعة .(2/75)
(فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَن لاَّ يَدْخُلَهَا وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَن يَخْرُجَ مِنْهَا) وهذه هي الشفاعة في أهل الكبائر وهذا النوع هو الذي نازعت فيه المبتدعة من الخوارج والمعتزلة فقالوا :
إن الشفاعة لا تنفع من دخل النار ولا تنفع أهل الكبائر لأن الله جل وعلا قال { كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } وقال جل وعلا { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } وقال جل وعلا { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } فاستدلوا بهذه الآيات على أن من دخل النار فهو موصوف بالظلم وهو من أهل الوعيد والله جل وعلا نفى الشفاعة عن هذا الصنف ، فقالوا النبي عليه الصلاة والسلام لا يشفع في أهل الكبائر لأن أهل الكبائر في النار مخلدون على أصلهم في أن الكبيرة تخلِّد في النار يوم القيامة .
الخوارج يجعلونه في الدنيا كافرا وفي الآخرة مع الكفار خالدا مخلدا في النار .
والمعتزلة يجعلونه في الدنيا ليس بمؤمن ولا كافر في منزلة بين المنزلتين وفي الآخرة يتفقون مع الخوارج في أنه خالد مخلد في النار .
وإذا كان كذلك فمعناه أنه لا تنفعه الشفاعة ذلك أن الله جل وعلا قال عن المؤمنين في دعائهم { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } فمن دخل النار خَزي وليس له نصير بنص هذه الآية .(2/76)
والجواب عن هذا الاستدلال أن هذه الآية في حق من دخلها من الكفار وذلك أنه قال { مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } ولفظ (الدخول) ولفظ (الخزي) يحمل على المطلق منه لا على مطلق الدخول ومطلق الخزي يعني يحمل على الدخول الكامل لا أصل الدخول والخزي الكامل لا أصل الخزي ، لأن هذا الأصل في إطلاق هذه الألفاظ ، ولهذا قال بعدها { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } والذين يوصفون بأنهم ظالمون هم الكفار والمشركون بدليل قوله تعالى في سورة الأنعام { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } وثبت في الصحيح أنه فسرها عليه الصلاة والسلام بأن الظلم الشرك .
فدل على أن قوله { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } يعني وما للمشركين من أنصار لأن الظالمين جمع تصحيح للظالم والظالم اسم فاعل الظلم والظلم هو الشرك ، فهي إذن ليست في أهل الكبائر .
نعم أهل الكبائر إذا دخلوا النار فلهم نصيب من الخزي لكن ليس الخزي المطلق وليس الدخول المطلق الذي لا خروج بعده بل هو دخول بعده خروج ، كذلك قوله جل وعلا { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } في سورة غافر هذه أيضا في المشركين (الظالمين) يعني المشركين وكذلك قوله { لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِه وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } فهي في المشركين فهم الذين في حقهم الشفاعة المنفية ، فإذن ثَم شفاعتان :
شفاعة مثبتة ، وشفاعة منفية .
المثبتة في القرآن لأهل التوحيد ولو كانوا من أهل الكبائر ، والمنفية عن أهل الشرك بالله جل وعلا يعني الشرك الأكبر الكفار والمشركين فهؤلاء هم الذين نفيت عنهم الشفاعة .(2/77)
هذه أنواع الشفاعات التي ذكرها ، وهناك أنواع أُخَرْ لم يذكرها شيخ الإسلام هنا لأن هذه العقيدة المباركة مبنية على الاختصار ليست مبنية على التفصيل فهاهنا أنواع من الشفاعات أخر لم يذكرها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فمنها :
" أنه عليه الصلاة والسلام يشفع في من يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب وهذه يدل عليها حديث تراجع الأنبياء في الشفاعة ثم سؤال النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ الشفاعة وأنه حُد له حد فجُعِل أولئك يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وأيضا يستدل له باعتبار أنه يشفع في قوم لم يستحقوا أن يكونوا ممن لا حساب عليهم ولا عذاب فيكون بشفاعة النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ كذلك يستدل له بقوله لعكّاشة بن محصن في الحديث المشهور حيث قال (وفيهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب) قالوا يا رسول الله من هم ؟ قال (هم الذي لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال (اللهم اجعله منهم) بهذه الرواية بالدعاء (اللهم اجعله منهم) دليل على هذا النوع من الشفاعة ، والرواية الأخرى المشهورة (قال أنت منهم) والأخرى فيها الدعاء .(2/78)
" ومن الشفاعات أيضا للنبي عليه الصلاة والسلام شفاعته في زيادة ثواب بعض أهل الجنة ، وهذه أيضا مما ليس فيها دليل واضح صريح ومما استشكله ابن القيم رحمه الله وقال يمكن أن يستدل له بدعاء النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ للميت بقوله (اللهم ارفع درجته في المهديين) فهذا دليل على رفع الدرجة وهو دعاء وشفاعة من النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ لذاك ، هذا النوع - اللي هو الشفاعة في من لا حساب عليه ولا عذاب - متنازع فيها ، لكن هذا في زيادة الثواب هذا غير متنازع فيها يعني يتفق أهل الفرق مع أهل السنة في أن هذه الشفاعة تحصل لأنها محض تكرم وفضل فيمن دخل الجنة ليس فيها إخراج أحد من النار ولا إسقاط العذاب عمن استحقه
" ومن الشفاعات أيضا له عليه الصلاة والسلام الشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم في أن يدخلوا الجنة وهؤلاء على أحد أقوال المفسرين أنهم هم أهل الأعراف الذين قال الله جل وعلا فيهم { وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ } ففيها تفاسير ومنها أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيوقَفون يُرجؤون حتى ينظر فيهم ، فيشفع فيهم النبي عليه الصلاة والسلام فيدخلون الجنة
إخراج الله
بعض العصاة من النار
برحمته وبغير شفاعة
- 2 -
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ)
يعني بل برحمته ، كما جاء في الصحيح أنه جل وعلا يقول (شفعت الأنبياء وشفع الشهداء وشفع الصالحون وشفعت الملائكة وبقيت رحمة أرحم الراحمين فيخرج أقواما من النار لم يعملوا خيرا قط)
فهذا هو الذي قال فيه شيخ الإسلام (وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغِيرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ)(2/79)
وهذا ظاهر من حيث الأحاديث فإن الجنة ينشيء الله جل وعلا لها خلقا فيسكنهم الجنة والجنة يدخلها المؤمنون من المكلفين يعني من الإنس والجن .
قد جاء كما ذكرت لكم في بعض الأحاديث حديث أبي هريرة في الصحيح أن النار كذلك ينشيء الله لها خلقا وذكرت لكم أن هذا غلط وانقلب على بعض الرواة وأن الصواب أن إنشاء الخلق إنما هو للجنة دون النار .
قال بعد ذلك شيخ الإسلام رحمه الله(وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالآثَارِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنِ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ)
وهذا ظاهر فإن ما يحصل يوم القيامة فيه من الآيات وتفصيل ذلك وما بينته السنة من معانيها ما هو من العلم العزيز وأنواع ما يحصل في ذلك اليوم وأصناف ما يحصل كثير بين واضح من ابتغاه وجده ، والنبي عليه الصلاة والسلام بين ذلك بيانا كافيا شافيا والعلم بالجزاء يوم المعاد هو أحد العلوم الثلاثة النافعة فهو ثلث العلم .
من علم أحوال الناس يوم القيامة وما يحصل في ذلك اليوم وما يكون فإن هذا من ثلث العلم فإن هذا ثلث العلم .... (1)
والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله ... و كذلك الأسماء للديان
والأمر و النهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني
فهذه العلوم الثلاثة :
" التوحيد .
" الحلال والحرام .
" علم الجزاء .
__________
(1) 1 يوجد مسح بالشريط(2/80)
وهذا العلم لا شك أنه يطلب تفصيله من النصوص لأنه لا استنباط فيه ولا مدخل للفهم فيه وإنما هو علم مبني عن دليل فقط ليس محل اجتهاد ، وكذلك مسائل الاعتقاد كلها على ذلك لأن أمرها غيبي والأمور الغيبية موقوفة على الدليل وليس فيها مسرح للاجتهاد والرأي .
لما انتهى شيخ الإسلام من هذا الركن من أركان الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر ذكر القدر والإيمان بالقدر إذ هو آخر الأركان الستة ...
انتهى الشريط العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الحادي و العشرون
الإيمان بالقدر
ومراتب القدر
وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ.
وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ.
فَالدَّرَجَةُ الأُولَى: الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى عَلِيمٌ بِالْخَلْق،ِ وَهُمْ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً وَأَبَدًا، وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ، ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ.(2/81)
فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج:7] ، وَقَالَ: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحديد:22]، وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً:
فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ.
وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ.. وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَهَذَا التَّقْدِيرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ.(2/82)
وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ؛ فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ: الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ، لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ.
وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهُ الْكُفْرَ، وَلاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة ، والدرجة الواجبة منه أو القدر الواجب منه الذي هو ركن أن يؤمن بالقدر خيره وشره ، يعني أن الله جل وعلا سبق تقديره بما كان وما يكون .
فإذا آمن بأن كل شيء بقدر فإنه قد حقق ذلك من الخير والشر ، إذا آمن بأن كل شيء بقدر مما يحصل له من الخير والشر فإنه يكون قد أتى بالقدر الواجب ، وهناك تفاصيل هذه لمن علم تلك التفاصيل من الأدلة من الكتاب والسنة .
فمن علم شيئا من الدليل يتصل بهذا الركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالقدر وجب عليه اعتقاده لأن الذي أخبر به صادق عليه الصلاة والسلام ، يعني إذا صح الدليل به من السنة أو كان في كتاب الله جل وعلا .(2/83)
قال (وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)
(بِالْقَدَرِ) الذي تؤمن به أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية هذا هو الذي جاء مفصلا في هذا البحث يعني في هذا الكلام الذي هو على درجتين كل درجة تتضمن شيئين ، فهم يؤمنون بذلك على وجه التفصيل .
وأهل السنة فصَّلُوا هذه الدرجات وهذه المراتب لأجل أنه في كل واحدة خالف من خالف فاضطروا إلى التفصيل لأجل التقسيم حتى يُعْرَفَ من وافقهم ومن خالفهم ، وكل مرتبة دلَّ عليها دليل ، كل درجة دلَّ عليها دليل ففصلت لأجل مخالفة المخالفين لهم في ذلك .
وقوله (بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) القدر يُعَرَّف بأنه - يعني في الشرع عند أهل السنة والجماعة - بأنه (تقدير الله السابق للأشياء وعلمه بها ثم كتابته لها في اللوح المحفوظ ومشيئته العامة وخلقه لكل شيء) هذا هو القدر .
فإذا تأملت التعريف وجدت أنه يشمل المراتب جميعا :
فهو تقدير الله للأشياء قبل حصولها .
فالقدر مأخوذ من التقدير وأصل هذا في لغة العرب يقال (قدَّرتُ أقَدِّرُ) إذا علم ما سيفعل قبل فعله وعلم ما سيحصل قبل فعله ثم يجعل الشيء على وفق ما يقدره .
والبشر قاصرون فقد يكون ما يفعلون موافقا لما يُقَدِّرُون وقد يكون ما يفعلون مخالفا لما يُقَدِّرُون لعجزهم وقصورهم ، أما الله جل وعلا فإنه قدَّرَ الأشياء وهي واقعة كما قدَّرَها سبحانه لأنه علم ما العباد عاملون إلى يوم القيامة فكتب ذلك سبحانه وتعالى .
قال جل وعلا { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } قوله { كُلَّ شَيْءٍ } هذا عموم لأن { كُلَّ شَيْءٍ } هذا من الألفاظ الظاهرة في العموم ، كل شيء خُلِقَ بقدر .
وقوله (شيء) عندنا أن الشيء هو (ما يصح أن يُعْلَمَ أو يؤول إلى العلم) فيسمى الشيء شيئا إذا كان يُعْلَم يعني يصح أن يُعْلَم أو يؤول إلى العلم .(2/84)
فكل ما سيكون مما يُعْلَم أو يصح أن يُعْلَم أو يؤول إلى العلم فإنه الله جل وعلا خلقه بقدر ، قدر سابق ، بتقدير منه جل وعلا بما سيحدث من حيث مكانه - مكان حدوثه - وزمانه وصفته وهيئته وقدره وتفاصيل ذلك ، فلا تعدو ما قدره الله جل وعلا وقال سبحانه { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } .
فالإيمان به فرض ولازم ، وكما تعلمون أن حديث مجيء جبريل الذي جاء في حديث عمر وحديث أبي هريرة وفيه ذكر الإيمان بالقدر ظاهر الدلالة على ذلك ، ولن يستقيم إيمان أحد حتى يؤمن بالقدر .
وقد قال علي رضي الله عنه لمن نازعه في القَدَرْ (القدر سر الله فلا تكشفه) .
فلا يمكن لأحد أن يعلم الحكمة في جعل الأشياء مُقَدَّرَةً على هذا النحو لأنها مبنية على العلم ، والعلم - علم العبد- قاصر وعلم الله جل وعلا كامل .
وفي قصة الخَضِرْ مع موسى ما يبين أن اعتراض موسى عليه السلام على الخَضِرْ كان على وفق علمه فاعترض على القدر يعني على ما حصل من الخَضِرْ ولم يفهم حقيقة ذلك القدر من الله جل وعلا وذاك قال { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } وكان ما فعله موافقاً للحكمة .
فقدر الله جل وعلا موافق لحكمته ، وحكمة الله سبحانه وتعالى صفة من صفاته .
الحكمة صفة من صفات الله إذ هو جل وعلا الحكيم من أسمائه الحكيم بمعنى الحاكم وبمعنى المُحْكِم وبمعنى ذو الحكمة .
إذ اسم الله الحكيم يفسر بهذه الثلاثة الأشياء :
" حكيم بمعنى حاكم يحكم ما يشاء سبحانه .
" حكيم بمعنى مُحْكِم { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } { مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ } .
" وحكيم بمعنى ذو حكمة .
فهو جل وعلا فيما قدَّرَهُ ذو حكمة بالغة سبحانه وتعالى ، وإنما يَضِلُ العباد إذا دخلوا في القدر على وفق أهوائهم ورغباتهم .
وسبب الضلال في هذا الباب هو الخوض في تعليل الأفعال .(2/85)
أصل الضلال في باب القدر هو الخوض في الأفعال : لِمَ فعل ؟ لِمَ كان كذا ؟ لمَ قُدِّر علي كذا ؟ هذا عاش هذا مات هذا غني هذا فقير إلى آخره .
وقد قال شيخ الإسلام في تائيته العظيمة ، تائيته في القدر ، قال :
وأصل ضلال الخلق من كل فرقةٍ ... هو الخوض في فعل الإله بعلةِ
فإنهمُ لم يفهموا حكمة له ... فصاروا على نوع من الجاهليةِ
ولا شك أننا لا نستطيع أن ندخل في معرفة الحِكَمْ والأسرار ، قد نعلم بعض الأشياء قليلة جداً وأشياء كثيرة لا نعلمها ، وما أحسن قول القائل :
وما سبب الخلاف سوى اختلاف الـ ... علوم هناك بعضا أو تماما
فكان من اللوازم أن يكون الـ ... إله مخالفا فيها الأناما
فلا تجعل لها قدرا وخذها ... شكورا للذي يحيي الأناما
من أعظم ما ينفع في هذا الباب أنك تختلف مع ابنك الصغير أو مع أخيك الصغير فلا يقتنع بفعلك وفعلك موافق للمصلحة وهو لا يقتنع بذلك ويعارض وسبب الخلاف هو الاختلاف في العلوم ، تعلم ما لا يعلم فكان فعلك موافقاً لما تعلم وفعله واعتراضه موافقاً لما يعلم ، وسبب الخلاف اختلاف العلوم .
فإذن كان من اللوازم أن يكون الإله جل وعلا ، الرب سبحانه مخالفا فيها الأناما لأن علمه كامل شامل محيط بكل شيء وعلم العبد قاصر لا يعدو شيئاً يسيراً بجانبه .(2/86)
إذن فهذا الباب باب القدر مبني على عدم الخوض في الحِكَمْ ، عدم الخوض في التعليلات ، على التسليم ، لأن ذلك سر الله جل وعلا ، فإذا درسناه فإننا ندرسه لأجل فهم الأدلة وما ثبت في الدليل ، ما ثبت في الحديث أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (إذا ذكر القدر فأمسكوا) يعني أمسكوا عن الخوض فيه بغير علم أما الكلام في القدر بعلم فإنه فهم للنصوص ، فهم للكتاب والسنة وما دام أن الله جل وعلا أخبرنا بذلك وأخبرنا رسوله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ فإن فهمه والعلم به وتدارسه وذكره هذا فهمٌ للشرع فليس مما يُسْمَكُ عن الكلام فيه وإنما يُمْسَكُ الكلام في الخوض في هذه المسائل بدون علم ، يعني في تعليلات في آراء ، أما إذا كان تفقها في دلالات الكتاب والسنة فإن هذا من العلم النافع بل من العلم الذي يجب على طائفة من هذه الأمة أن تتفقه في ذلك وتعلمه حتى تحفظ على الأمة دينها .
قال شيخ الإسلام رحمه الله (بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) ويقصد خير القدر وشر القدر بالنسبة إلى العبد ، فإن العبد هو الذي يُوصًفُ الفعل الذي تعلق به بأنه خير وشر ، أما من جهة تقدير الله جل وعلا فهو خير محض لأن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ وصف ربه جل وعلا بقوله (والشر ليس إليك) .
فالله جل وعلا ليس بِشَرْ وليس في أفعاله شر وليس في صفاته شر بل هو جل وعلا ذو الرحمة الواسعة وذو الخير العميم الذي عم به عباده ، وتقديره خير محض .
لكن بالإضافة إلى العباد قد يكون في حق العبد المعين شراً ، وقولنا يكون شر بالنسبة له هذا جاء في الحديث كما قال (بالقدر خيره وشره) فهو شر إضافي بالنسبة للعبد أما الله جل وعلا فليس إليه شر سبحانه وتعالى .
قال (وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ)(2/87)
هذه تسمى مراتب الإيمان بالقدر (عَلَى دَرَجَتَينِ؛ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ الأُولَى) لماذا قسموها إلى درجتين وقالوا كل درجة تتضمن شيئين ؟
قسمها شيخ الإسلام إلى ذلك لأن هذه المراتب منها ما يكون قبل وقوع المُقَدَّر ومنها ما يكون معه أو بعده ، منها ما يكون قبل وقوعه ومنها ما يكون مع وقوعه في أثناء وقوعه .
فما كان قبله هذا درجة ، وما كان معه هذا درجة .
فقبل وقوع المقدر يعني قبل القضاء هذه درجة قبل ذلك وهي التي ضمت :
" العلم السابق
" والكتابة .
وما يكون في أثناء وقوعه هي التي ضمت :
" مشيئة الله جل وعلا الشاملة .
" وخلقه جل وعلا لكل شيء .
فإذن هذا التقسيم في قوله (وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ) لأجل هذا المعنى لأن منه شيء سابق ومنه شيء موافق .
تقدير الله جل وعلا لهذا الذي وقع ثَمَّ شيء من مراتب القدر سابق له وثَمَّ شيء مقارن له .
السابق [ العلم والكتابة ] والمقارن [ المشيئة وخلق جل وعلا كل شيء من الطاعات والمعاصي وأفعال العباد وكل ما يحصل في ملكوته ] .
يتصل بهذا - مبحث القدر كما تعلمون طويل وفيه تفريعات كثيرة لكن ننبه على المهمات فيه - يتصل بهذا البحث المعروف في الفرق بين القضاء والقدر ، ما الفرق بين القضاء والقدر ؟
- قال جماعة من أهل العلم القضاء والقدر هما بمعنى واحد ، قضى سبحانه بكذا يعني قدره فما قدره كائن وما قضى كائن .
- وقال آخرون القدر إذا وقع كان قضاءً والقضاء قدر لكن إذا وقع القدر سمي قضاء ، وهذا مأخوذ من لفظهِ (القضاء) يعني قُضِيَ فانتهى كما قال { قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } يعني انتهى .
فإذن هو مُقَدَّرٌ ومَقْضِي فإذا وقع سُمِيَ قضاء لأنه انتهى .(2/88)
وهذا تفريق جيد من حيث الفهم لكن من حيث دلالات النصوص فيها هذا وفيها هذا ، قد يطلق القضاء على القدر وقد يطلق القدر على القضاء ، أما في الاستعمال الخاص فإن كثيرين يستعملون القضاء (قضي علي بهذا) (هذا قضاء الله جل وعلا) (اصبر لما قضى الله سبحانه) هذا لما وقع وانتهى من القدر .
قال (وَالإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَينِ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ الأُولَى: الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ عَلِمَ ما الخلقُ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ)
هذه المرتبة هي مرتبة العلم والله جل وعلا عِلْمُهُ كما قال شيخ الإسلام هنا (قديم) و (مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً) والعلم من صفات الذات والله جل وعلا هو الأول بذاته وصفاته فعلمه سبحانه وتعالى أول يعني أزلي .
واستعمال شيخ الإسلام لفظ (بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ) يعني وصْفْ العلم بالقِدَم هنا يعني الأزلية لا يريد القديم المعنى اللغوي لأن القديم في اللغة يعني (ما سبقه شيء) لكن هذا يقْصِدْ به كما يَقْصِدْ الناس إذا قالوا - يعني المتكلمين ومن شابههم - إذا قالوا في أسماء الله القديم أو أخبروا عنه بالقديم .
فهو جل وعلا يُخْبَرُ عنه بأنه قديم وأن صفاته كذلك قديمه وقد يُسْتَأْنَسُ لذلك بدعاء الداخل إلى المسجد (أعوذ بوجه الله الكريم وسلطانه القديم) على اعتبار أن السلطان يشمل الصفة.
(الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً)
إذن الدرجة الأولى ، أو الأولى من الدرجتين السابقة لوقوع المقدر قال شيخ الإسلام (الإيمَانُ بِأَنَّ اللهَ عَلِمَ ما الخلقُ عَامِلُونَ) فهذا العلم السابق .
هل العلم هذا حدث في وقت ؟(2/89)
قال (بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلاً) يعني عَلِمَ بِعِلْمْ ، وهذا العلم متى عَلِمَهُ جل وعلا ليس له بداية ، عَلِمَهُ جل وعلا أزلا ، عِلْمُهُ جل وعلا بما سيحصل هذا أول يعني لا نستطيع ، الزمان يتناهى ، الزمان مخلوق ، يتناهى ، فلا نستطيع أن نقول بدايته كذا لأن الزمان مهما امتد له بداية ، صفر ، والله جل وعلا من صفاته جل وعلا (أول) سبحانه وصفاته جل وعلا قديمة .
قال (وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِم مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ) - سبحانه - (ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ)
(كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ) هذه هي المرتبة الثانية .
قوله في المرتبة الأولى (عَلِمَ) يعني في الدرجة الأولى (عَلِمَ ثُمَّ كَتَبَ) هذه تشمل شيئين
" العلم ، واحد .
" والكتابة ، ثاني .
العلم لجميع الأحوال والكتابة لجميع الأحوال .
فالعلم بـ (الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ) يعني أنه جل وعلا لم يأته شيء في حدوث الطاعات والمعاصي أو حدوث الأشياء يكون مُستأنفاً جديداً عليه جل وعلا ، بل هو سبحانه عَلِمَ هذا في الأزل لا يخفى عليه شيء ، عَلِمَ ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
فإذن هذه المرتبة فيها :
" العلم الأزلي ، هذا واحد ، فيها عِلْمُهُ جل وعلا بما سيكون من جميع الأحوال طاعات ومعاصي وأرزاق وآجال على التفصيل ، يعلم الكليات سبحانه والجزئيات .(2/90)
" قال (ثُمَّ كَتَبَ اللهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ) وهذه هي المرتبة الثانية وهي التي جاءت في الآية التي استدل بها شيخ الإسلام حيث قال جل وعلا { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } فجمعت هذه الآية بين هاتين المرتبتين : العلم والكتابة .
الكتابة في اللوح المحفوظ ، وهذا بعد خَلْقِ القلم .
وخَلْقُ القلم كان عند الكتابة .
خَلَقَ الله جل وعلا القلم للكتابة ، فحين خَلَقَهُ أمره أن يجري فَكُتِبَ في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة .
وقوله هنا (فَأَوَّل مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ)
هذه كما جاءت في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره (أولُ ما خلق الله القلم قال له اكتب) هكذا يرويها بعضهم (أولُ) .
وشيخ الإسلام رحمه الله لا يختار هذا النحو ، لا يختار أن يقال (أَوَلُ) .
وإنما يختار أن تُقْرأ (أَوَّلَ) فتكون قراءته هنا فيما ذكر (فَأَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ) .
ومعنى (أوَّلَ) يعني حين ، يعني أَوَلْ شيء بعد خلقه قال له كذا (فَأَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ) .
فتكون الرواية (أَوَّلَ ما خلق الله القلم) .
وهي التي فُهِمَتْ أنها (أوَّلُ) فنُقِلَتْ ورُوِيَتْ (إن أَوَّلَ) كما هي ألفاظ .
في لفظ (إن أَوَّلَ ما خلق الله القلم) ولفظ (أَوَّلْ ما خلق الله القلم)
(أَوّلْ ما خلق الله القلم) هذا هو المعتمد ، هل هو (أَوَلُ) أو (أَوَلَ)
الصحيح أنه (أَوَلَ) يعني حين ، وذلك لأن القلم على الصحيح خُلِقَ بعد العرش .
فإذن لا يكون أَوَلْ مخلوقات الله القلم بل العرش كان مخلوقا قبل .
وهذه المسألة مرتبطة بمسائل أُخَرْ مما يسمونه التسلسل وقِدَمْ الجنس جنس المخلوقات إلى آخره .(2/91)
المقصود من ذلك الذي يهمنا هنا أن القلم خُلِقَ فلما خُلِقَ أمره الله جل وعلا أن يكتب والعرش كان مخلوقا قبل ذلك وهذا هو الصحيح أن العرش قبل القلم .
والقول الثاني أن القلم قبل العرش لأجل دِلالة هذا الحديث (أَوَلُ ما خلق الله القلم فقال له اكتب) في رواية بالفاء وهذه لا تناسب (أَوَلَ) قالوا أيضا فيه (إن أَوَلَ ما خلق الله القلم) وأنا بينت لكم التوجيه أن هذه مروية بالمعنى ولهذا ابن القيم رحمه الله :
والناس مختلفون في القلم الذي ... كُتِبَ القضاء به من الديانِ
هل كان قبل العرش أو هو بعده ... قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق (هذا كلام ابن القيم)
والحق أن العرش قبل لأنه ... عند الكتابة كان ذا أركانِ
وهذا هو الصحيح أن القلم مخلوق بعد العرش والعرش قبل ذلك .
فإذن يكون قوله هنا (فأَوَّلَ ما خَلَقَ الله القلم قال له اكتب) يعني حين خَلَقَ الله القلم .
(أَوَّلَ ما خلق الله القلم) يعني حين خَلْقِ الله فتكون (ما) هنا ليست موصولة وإنما هي مصدرية.
(أَوَّلَ خَلْقِ الله) (ما) هنا مصدرية .
إذا كانت موصولة يعني (أَوَّلُ الذي خَلَقَ الله) ، يعني يصير أوَّلُ المخلوقات القلم .
وهذا ليس بصحيح كما ذكرنا فتكون (ما) هنا مصدرية .
(أَوَّلَ ما خَلَقَ الله القلم) يعني أَوَّلَ خَلْقِ الله القلمَ .
يعني (أَوَّلَ) حين خَلْقِ الله القلم قال له اكتب .
يعني عند الَخْلق قال له بعد أن خلقه الله قال .
وهذا هو الذي يقرره شيخ الإسلام فتُفهَمُ عقيدته هذه على نحو ما يقرر في كتبه .
(قَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
فهذا يدل على أن غاية ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ إلى يوم القيامة وما بعد ذلك غير داخل فيما كُتِبَ في اللوح المحفوظ .
فإذن هذه المرتبة تشمل تقدير الأشياء إلى يوم القيامة .
لكن العلم يشمل ما بعد ذلك ، لأن علم الله جل وعلا ليس محدودا بزمن .(2/92)
أما ما خلق الله جل وعلا وهو كتابة القلم هذه ، يعني ما خلق الله جل وعلا الذي هو القلم وما كتب القلم من المقادير هذا محدود بيوم القيامة .
قال شيخ الإسلام (فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُن لِّيُصِيبَهُ، جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ)
وهذا مأخوذ من حديث ابن عباس المشهور الذي قال فيه النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ له (يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك) إلى آخره ، في آخره قال (جفت الأقلام وطويت الصحف) يعني أن الكتابة انتهت وأنه لن يكون شيء إلا على وفق ما كتب وقُدِّر .
وقد ثبت أن النبي - في صحيح مسلم - أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (إن الله قَدَّرَ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)
فقوله (قَدَّرَ مقادير الخلائق) تنصرف إلى أي مرتبة ؟
إلى العلم ليس بصحيح لأن علم الله سابق لا يعلم شيئا بعد أن لم يكن علمه بل هو جل وعلا عالم بكل شيء لكن قدرها بالكتابة .
فتكون إذن مرتبة الكتابة هذه هي التي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة فيكون معنى الحديث (إن الله قدر مقادير الخلائق) يعني بالكتابة .
قال (فَمَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ) يعني أن المرء سيأتيه ما كُتِبَ له ، وما كتب على المرء أو ما كتب له سيلاقيه لا مفر منه لأن الله جل وعلا عالم بأحوال العباد وعالم ما سيحصل مما أردت أن يحصل بك أو مما لم تُرِدْ أن يحصل بك مما فُعل بك مثلا أو جُني عليك أو ظُلِمْتَ كل هذا علمه عند الله فكتب ما سيحصل .
فإذن كتابته جل وعلا وعلمه سبحانه ليس بإجبار للعبد أن يفعل وإنما هو كشف لما يحصل .(2/93)
وهذا الكشف لأن الله جل وعلا أعطى العبد - يعني في حق العبد المختار - أعطاه اختيارا فيختار إما هذا وإما هذا والنهاية التي يختارها وتحدث هي التي عَلِمَهَا الله جل وعلا منه وهي التي كُتِبَتْ عليه .
نعم هناك توفيق وهناك خذلان .
ففي هذه في قوله (مَا أَصَابَ الإِنْسَانَ لَمْ يَكُن لِّيُخْطِئَهُ) يعني لا يتصور العبد أنه لو فعل غير هذا الفعل لم يكن يصيبه هذا ، لأنه لا بد أن يفعل هذا فيصيبه هذا ، لأن الجميع بقدر فلا يمكن أن يخرج عن ذلك .
هو باختياره فعل ونتيجة الاختيار حصلت وهذا هو الذي كان مكتوبا عليه لأن الله جل وعلا قَدّرَ مقادير الخلائق وكل شيء خلقه جل وعلا بِقَدَرْ ولا بد أن يكون ما قَدَّرَ سبحانه وتعالى .
هناك توفيق وهناك خذلان والتوفيق والخذلان من الألفاظ التي يختلف فيها قول أهل السنة عن قول غيرهم .
- فالتوفيق عند أهل السنة هو إعانة الله العبد على الفعل وإضعاف الأسباب أو إبطال الأسباب التي تعيق الفعل .
الله جل وعلا يوفق للطاعات .
أعطى اختيارا سبحانه ، أعطى العبد أن يختار هذا أو هذا، وهذا الخيار عدل منه جل وعلا يَحْبُو بعض العباد سبحانه - يعني يمن - جل وعلا على بعض العباد بأن يوفقه .
يعني يعين على الطاعة ، يعين على هذا الأمر سبحانه ، يعطي العبد قوة عليه يعينه على ذلك ، ويثبط أو يبطل أو يعطل أو يضعف الأسباب التي تعوق دون فعله .
هذه لها تفاصيل لكن بالمثال يقرب الكلام .
يعني أن العبد لا شك في تحصيله لأي فعل من الأفعال لا بد له من إرادة وقدرة .
لا يمكن أن يحصل فعل إلا بإرادة وقدرة .
إرادة جازمة وقدرة تامة .
فإذا كانت إرادته قاصرة مترددة ما حَصَلْ فِعْل ، لأنه لا بد أن يتوجه إلى الفعل بإرادة جازمة ثم بقدرة تامة إذا كانت قدرته ناقصة ما تَمَ الفعل أو كان ليس عنده قدرة لم يُتِمَ الفعل .
فإذا كان هذان الاثنان القدرة والإرادة تَمَ الفعل ، هذا من جهته .(2/94)
فإعانته على أن يريد ، على أن يتوجه قلبه لذلك هنا فيه إعانة خاصة .
إقداره على ذلك في بعض الأعمال التي تحتاج قدرة خاصة ، يعني قد ما يتوجه إليها العبد ابتداء مثل الجهاد الأعمال العظيمة ، الله جل وعلا يُقْدِر عبده يعني يزيده في ذلك ، هذا يتوجه إلى الفعل .
هناك مثبطات ، الشياطين ، هناك مثبطات من عمل شياطين الجن والإنس من الملهيات من الشهوات إلى آخره .
إضعاف الأسباب المثبطة عن الفعل أو إبطال تلك الأسباب وعدم تعرضها لهذا العبد المُوَفَّقْ هذا من التوفيق .
فإذن التوفيق عندنا يشمل شيئين :
" الأول إعانة خاصة على الإرادة أو القدرة .
" والثاني إضعاف أو إبطال أو تعطيل الأسباب المثبطة عن العمل .
هذا هو التوفيق عند أهل السنة .
أما الخذلان فإن الخذلان ترك العبد ونفسه .
أن تُتْرَكَ أنت ، تُعامَل بالعدل ، لا تُعان بإرادة ولا قُدرة ولا تُثَبَّطْ عنك الأسباب أو تُضْعَف أو تُبطَل أو تُعَطَّل - الأسباب المانعة - .
فإذا خُذِل العبد تسلطت عليه الشياطين - شياطين الإنس والجن - تسلطت عليه الشهوات وخُذِلَ فوُكِلَ إلى نفسه .
لهذا من وُكِلَ إلى نفسه خسر خسرانا مبينا .
لهذا كانت (لا حول ولا قوة إلا بالله) كنز من كنوز الجنة لأنها سبب كل خير ، وسبب الأعمال التي تُدْخِل إلى الجنة هي (لا حول ولا قوة إلا بالله) لأن معناها أنه لا توفيق إلا بالله ولا إعانة إلا من الله ، فطَلَبٌ للتوفيق وإبعاد عن الخذلان .
أما الأشاعرة - وهذه تكثر عند النووي في شرحه على مسلم وغيره - فإنهم يفسرون :
- التوفيق بأنه خَلْقْ القدرة على الطاعة .
- والخذلان منع القدرة عن الطاعة ، هذا عندهم وعند المعتزلة .
وهذا ليس بجيد لأن خَلْقَ القدرة على الطاعة هذه مقارنة والتوفيق سابق .(2/95)
خَلْقْ القدرة على الطاعة هذه مقارنة أما التوفيق فسابق { وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ } هذا ظاهر من لفظ الكلمة (وُفِّقَ إلى كذا) يعني سبق فعمل (وُفِّقَ إلى هذا) هُدِيَ إلى ذلك الشيء بما ذكرنا ، أُعينَ عليه وأُبْطِلَتْ الأسباب المثبطة عنه ، إلى تفاصيل تزيد على ذلك ..
نقف عند هذا وإن شاء الله مبحث القدر له تفصيلات كثيرة نسأل الله جل وعلا لنا ولكم العفو والعافية .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ....
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، أما بعد :
.... نعود إلى ما كنا بصدده وهو الكلام على القدر وأخذنا منه شيئا ..
وصلنا إلى قوله رحمه الله (جَفَّتِ الأَقْلاَمُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ) ذكر شيخ الإسلام بعد ذلك الأدلة على تلك المرتبتين الأولى والثانية : العلم ثم الكتابة ، فقال رحمه الله تعالى :
قَالَ تَعَالَى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
وَقَالَ: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
الآية الأولى دلت على أن علم الله جل وعلا شاملٌ لما في السماء وما في الأرض كما قال { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } .
وقوله جل وعلا { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } هذا دليل على مرتبة العلم لأن قوله { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } هذا علمٌ غير مخصوص بزمن فهو علمٌ بما يكون في السماء والأرض ، فهو جل وعلا عالم بكل شيء سبحانه .(2/96)
قال { إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ } الإشارة بقوله { ذَلِكَ } إلى المعلوم مما يكون في السماء والأرض ، وذلك أن القَدَرْ يعني ما جَعَلَهُ الله جل وعلا في اللوح المحفوظ مكتوباً هذا متعلق بما يحدث في السماوات والأرض إلى قيام الساعة .
قال { إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ } فما يكون في السماء والأرض جعله الله جل وعلا في كتاب .
والكتاب هو المجموع سُمِيَ كتاباً لأنه يُجْمَعُ فيه إما الصحف وإما الكلام .
ولهذا قيل للكتابة كتابة لأن الكاتب يجمع الحروف وهذا يبين أن الكتابة في اللوح المحفوظ حقيقة كتابة بالقلم على ما يُفْهَمُ من قول القائل (كَتَبْتُ الشيء) يعني كَتَبَهُ بقلمه ، كَتَبَهُ ليكون مقروءا بعد الكتابة .
قال جل وعلا { إِنَّ ذَلِكَ } يعني المعلوم { فِي كِتَابٍ } ، { إِنَّ ذَلِكَ } يعني ما ذُكِر من كتابة ذلك في كتاب وعلمه جل وعلا بكل شيء { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } فالله جل وعلا لا يُعجزهُ شيء في السماوات ولا في الأرض كما قال سبحانه { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } .
فمن أسباب أن الأشياء يسيرة عليه جل وعلا أنه عليم سبحانه ، قدير سبحانه ، فعلمه تام كامل من جميع الوجوه وقدرته تامة كاملة من جميع الوجوه .
قدير هو جل وعلا على كل شيء : على ما يشاؤه وعلى ما لم يشأه سبحانه ، فقدرته عامة على كل شيء ، ولهذا قال هنا { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وعلمه جل وعلا بتفاصيل كل شيء وكتابته لذلك هذا يسير على الله سبحانه وتعالى وذلك لعظمته وجلاله وكمال أسمائه وصفاته وكمال علمه وقدرته جل وعلا .(2/97)
وقال جل وعلا { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } يعني أن الله جل وعلا كتب في اللوح المحفوظ ما يُصيبُ الناس وما يقع في الأرض من مصائب ومفهومه أيضا ما يقع في الأرض من خيرات .
فالكل مكتوب وخَصَّ المصيبة في هذه الآية لأنها هي التي يُتَحَسر عليها ويقع في نفس الإنسان منها ما يقع من سَخَطْ ونحو ذلك ، فإذا عَلِمَ أن كل شيء بقدر وأنه مكتوب وأن القدر سابق اطمأنت نفسه وحسن ظنه بربه جل وعلا وعلم أن ذلك موافق لحكمته سبحانه.
{ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } يعني ما ذكر هو عليه جل وعلا يسير .
هذا استدلال من شيخ الإسلام على تَيْنِكَ المرتبتين .
قال بعدها (وَهَذَا التَّقْدِيرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً: فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ. وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ)
هذا فيه إشارة من شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن التقدير أو القَدَرْ هو بالنسبة إلى العِلم العام وهي المرتبة الأولى وإلى التقدير بمعنى الكتابة في اللوح المحفوظ ، هذا على وجه الإجمال .(2/98)
وهناك أيضا إيمان بالقدر على وجه التفصيل ، وذلك أن عِلْمَ الله جل وعلا يكون بحسب المعلوم ، فهو جل وعلا علم الأشياء في الأزل قبل أن تحدث وإذا حدث الشيء علمه جل وعلا فيوافق علمه السابق ، ولهذا قال جل وعلا في آيات في القرآن في مثل قوله سبحانه { سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } إلى قوله { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن الله جل وعلا جَعَلَ الأشياء وقَدَّرها لكي يعلم .
فهذا فيه دليل على أن العلم يكون بعد وقوع الشيء .
وهذا لا ينافي العلم السابق .
فالعلم السابق فيه أدلته والله جل وعلا يعلم الأشياء جملة وتفصيلا الكليات والجزئيات بالعلم الأزلي السابق وكذلك إذا حدث الشيء عَلِمَهُ .
وما جاء في الآيات من مثل آية البقرة هذه { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } ونحو ذلك فهذا المراد منه عند المحققين إظهار العلم الذي تكون به الحجة على العباد .
ففي قوله { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } هو جل وعلا يعلم ذلك قبل حدوثه ولكن هذا لإظهار العلم الذي تقوم به الحجة على العبد .
فالله جل وعلا يعلم قبل ذلك ، وإنما خَصَّ هنا هذه المسألة وأمثالها - يعني مسألة تحويل القبلة وأمثال ذلك - بأنه شَرَعَ أو فَعَلَ لِيَعْلَمَ ، فجعل ذلك لأجل أن يُظْهِرَ علمه السابق وتقوم الحجة على العبد .
وهذه الآية وأمثالها استدل بها الذين يقولون إن علم الله مستأنف كما يأتي في بيان تلك الطائفة لأن قوله { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } هذا فيه دليل على أن العلم يكون بعد الوقوع ففيه التخصيص بذلك .
قالوا وهذا يدل على أن علم الله مستأنف .(2/99)
وهذه هي أول مرتبة من مراتب القدر نُفِيَتْ ، التي هي العلم السابق فجُعِلَ الأمر أُنُفْ ومستأنف يحدث بلا علم سابق وبلا قَدَرٍ سابق .
وبيَّنتُ لك أن معنى هذه الآيات هو إظهار العلم السابق لكي يكون حجة على العباد ، فالآيات متوافقة غير متعارضة .
كذلك بالنسبة للكتابة هناك أنواع من التقدير الكتابي .
وأصله في أم الكتاب في اللوح المحفوظ وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام (إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء) (قدر مقادير الخلائق) يعني كتبها .
هذا التقدير العام في اللوح المحفوظ ، وهو الذي جاء في قوله { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } يعني الكتاب الأصل الذي لا يتغير ولا يتبدل وهو اللوح المحفوظ .
هذه الكتابة العامة السابقة للخلق .
وهناك كتابات تفصيلية .
هذه الكتابات التفصيلية تفصيلٌ لما كُتِبَ في اللوح المحفوظ ، فمنها ما ذكره شيخ الإسلام هنا :
- قال في الكتابة العامة (كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ) هذه الكتابة الأصل .
- ثم ذكر نوعا آخر من الكتابة قال (وَإِذَا خَلَقَ) جل وعلا (جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأْرْبَعِ كَلِمَاتٍ) وفي الحديث أيضا في الرواية (فيؤمر بِكَتْبِ أربع كلمات) (فَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ) .
وهذه ذَكَرْ شيخ الإسلام أنه قبل نفخ الروح لقوله في الحديث ( ثم يؤمر بنفخ الروح) .
هذه كتابة خاصة متعلقة بهذا الإنسان الذي ستُنْفَخُ فيه الروح ، وهذا الكَتِبْ هو تفصيل لما في اللوح المحفوظ ، هو مكتوب في اللوح المحفوظ ويؤمرون بذلك ، فيكون كتابة تفصيلية في حق هذا المعين .(2/100)
- كذلك هناك التقدير السنوي الذي يكون في ليلة القدر ، قال جل وعلا { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } سميت ليلة القدر لأنها يُقَدَّرُ فيها ما يحصل في تلك السنة ، (يُقدَّر) بمعنى يُكتب ، أما التقدير الأصلي فهو في اللوح المحفوظ ، وهي التي في قوله تعالى في أول سورة الدخان { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُل أَمْرٍ حَكِيمٍ } وهذا الفَرْقْ { يُفْرَقُ كُل أَمْرٍ } يعني يُفْصَل من اللوح المحفوظ إلى الصحف التي بأيدي الملائكة كما هو أحد وجهي التفسير ، فهذه كتابة سنوية .
هاتان الكتابتان : العُمُرِيَة والسنوية هذه يكون فيها التعليق .
يعني يقال فيها (إن فعل العبد كذا سيكون القدر كذا وإن فعل العبد كذا يكون القدر كذا) فإن وصل رَحِمَهْ زِيْدَ في عمره ، إن وصل رَحِمَهُ وُسِّعَ له في رزقه .
فما يكون فيه المحو والإثبات هو في هذه الصحف التي فيها التقدير السنوي أو العمري الذي بأيدي الملائكة ، وهذه تكون معلقة كما قال ابن عباس في تفسير آية الرعد وهي قوله جل وعلا { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } .
- فهناك أشياء من القدر تقبل المحو والإثبات .
- وهناك أشياء من الكتابة لا تقبل المحو والإثبات بل هي آجال لا تقبل التغيير أو أشياء لا تقبل التغير ، وذلك ما في اللوح المحفوظ .(2/101)
أما ما في صحف الملائكة فإنه يقبل التغيير ، وكل ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ يعني مكتوب التفصيل والنهاية لكنه لا يقبل المحو والإثبات ، أما ما في صحف الملائكة فإنه يقبل المحو والإثبات كما قال جل وعلا { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } وهذا الوجه هو الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه وهو وجهٌ ظاهر البيان والصحة لأنه موافق للأدلة كما قال جل وعلا { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } وقال عليه الصلاة والسلام (من سرَّهُ أن يُبْسَط له في رزقه ويُنْسَأُ له في أثره فليصل رَحِمَهُ) فكان وصلُ الرحم سببا في زيادة الرزق وسبباً في نسأ الأثر في زيادة العمر و(إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) هذا كله بما في صحف الملائكة وما يكون فيها .
فإذن هاتان المرتبتان : العلم والتقدير فيها إجمال ، يعني فيها جملة ، عِلْمٌ جُمْلِي وهناك علم تفصيلي ، أو علم بالكليات والجزئيات ، وكذلك التقدير في تقدير عام لجميع المخلوقات وهناك تقديرات أُخَرْ وأنواع من الكتابة التفصيلية وقد فَصَّلَ فيها ابن القيم رحمه الله في كتابه شفاء العليل ذكر هذه المراتب وذكر أنواع التقدير الخمسة وذكر الأدلة عليه بما يُحالُ به عليه لأنها كلها تفصيلات للقدر السابق .(2/102)
* قوله هنا (وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ؛ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا) وقد جاء في الصحيح ، صحيح مسلم أنه مما يُؤْمَرُ به أهو ذكر أم أنثى ، يعني يُعلَمْ أهو ذكر أو أنثى ، فالملك يُؤمر بهذه الكتابات (اكْتُبْ: رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ) وكذلك يُقالُ للملك أذَكر هذا الجنين أم أنثى ، فإذا كان كذلك فيكون بإعلام الملائكة بهذا العلم ألا وهو هل هو ذكر أم أنثى خرج ذلك المعلوم من كونه غيبا مختصا بالله جل وعلا ، فإذن عِلْمُ نوعِ ما في الرحم هل هو ذكر أم أنثى هو مختص بالله جل وعلا قبل نفخ الروح ، وإذا نُفِخَتْ فيه الروح فإن الملائكة تعلم فإذن يكون غير مختص بالله جل وعلا فليس من الغيب الذي لا يطَّلِع عليه أحد .
ولهذا في هذا الزمن يطَّلِعُونَ على هذا الجنين بالأجهزة هل هو ذكر أم أنثى لأنهم يرون ما يتميز به الذكر مما تتميز به الأنثى تقريبا من الشهر الخامس فما فوق ، وهذا ليس من الغيب المختص بالله بل هو مما يُدْرَكْ ، وقد ذكر ابن العربي المالكي وغيره أنه يمكن معرفة نوع الجنين بدلائِلْ يقينية عند أهل الاختصاص والمعرفة حتى في زمنه ، إذن فما يكون عند نفخ الروح في الجنين من جهة الكتابة هذه الكلمات الأربع (الرزق والأجل والعمل وشقي أم سعيد) .
قال بعض أهل العلم الأجل يختلف عن العُمُرْ ، فالعمر يقبل التغيير وأما الأجل فهو الذي لا يقبل التغيير وذلك لقوله جل وعلا { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } وقال { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } والآيات في ذكر الأجل وعدم الاستئخار والاستقدام فيه كثيرة ، وقال في العُمُرْ { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } قالوا فهذا يدل على أن الأجل لا يقبل التغيير ولا يقبل الاستئخار والاستقدام والعمر يقبل ذلك .(2/103)
وهذا الذي قالوه باعتبار ما جاء في القرآن صحيح أما باعتبار ما جاء في السنة فإنه ليس بظاهر لأن هذا الذي يُكتب من الأجل هو يقبل التغيير لقوله عليه الصلاة والسلام (من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره) وفي بعض ألفاظ هذا الحديث (ويُنسأ له في أجله) وهذا ظاهر لكن الاستعمال أو ما جاء في القرآن من ذلك واضح في التفريق بين الأجل والعمر .
قال شيخ الإسلام بعد ذلك (فَهَذَا القَدَرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا، وَمُنْكِروهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ)
يقصد بغلاة القدرية الذين ينكرون العلم السابق ، وهم الذين ظهروا في عهد ابن عمر في البصرة ، غيلان الدمشقي ومعبد الجُهَني ومن كان على هذه الشاكلة فإنهم زعموا أن الله جل وعلا لا يعلم الأشياء إلا بعد أن تحصل قالوا الأمرُ أُنُفْ ، مستأنف .
وأول حديث في صحيح مسلم حديث ابن عمر المعروف عن عمر وفي حديث جبريل فيه هذه البدايات وأنه أناس في البصرة كانوا يَتَقَفَرُونَ العلم قالوا إن الأمر أُنُفْ قال ابن عمر أخبرهم أني منهم براء ثم ساق الحديث .
الذين كانوا ينكرون القدر كانوا ينكرون مرتبة العلم السابق وهؤلاء هم غلاة القَدَرِيَة.
وقوله (غُلاةُ الْقَدَرِيَّةِ) يعني أن هناك قدرية غير غلاة ،هل هذا المفهوم صحيح من كلامة ؟
نعم ، هو صحيح لأن القَدَرِيَة أنواع منهم الغلاة ومنهم من ليسوا بغلاة .
وبعض أهل العلم يعبر يقول (المتوسطون) ، وبعض أهل العلم يثبت ثلاث طبقات للقدرية :
" الغلاة .
" والمتوسطون
" ومن مُخالفتهم في القدر خفيفة .(2/104)
وقوله (الْقَدَرِيَّةِ) هذا اسم لمُنكِر القدر ، والأصل أن النسبة تكون للمثبِت لا للنافي فإذا أثبت شيئا ننسبه إليه ، كما يقال (الصفاتية) لمثبتةِ الصفات ، (العقلانيين) لمقدمي العقل ، ونحو ذلك ، لكن هؤلاء قيل لهم القدرية لأنهم نفاة القدر فهذا اصطلاح خاص ، فالذين ينفون القدر سواء الغلاة أم غير الغلاة يقال لهم قدرية ، ويشمل طائفتين كبيرتين :
" الأولى الغلاة الذين أنكروا العلم .
" والطائفة الأخرى المعتزلة الذين أنكروا أن الله جل وعلا يخلق فعل العبد وزعموا أن العبد يخلق فعل نفسه كما سيأتي في المرتبة الأخيرة .
ويقابل القدرية (الجبرية) ويأتينا بيان فرقهم في آخر الكلام إن شاء الله .
قال (وَمُنْكِروهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ) وهذا في وقت شيخ الإسلام يعني منكروا العلم السابق قليل.
والذين ينكرون العلم في زمنه وفي هذا الزمن هم الفلاسفة ومن كان على مذهب غلاة القدرية من بعض الناس الذين لا ينتسبون إلى طائفة ، الفلاسفة يزعمون - يعني الفلاسفة الإسلاميين - أن الله جل وعلا يعلم الكليات دون الجزئيات ، وهذا إنكار للعلم ، يقولون العلم السابق هو علم كُلِّي لا تفصيلي ، علم بالكليات دون الجزئيات وهو نوع من إنكار العلم السابق .
هؤلاء هم الذين قال فيهم الشافعي رحمه الله كلمته المشهورة (ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خُصِمُوا وإن أنكروه كفروا) .
لما انتهى من ذلك شيخ الإسلام قال (وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ)
يعني من درجتي القدر
(فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ)
ذكرنا أن الدرجة الأولى قديمة : العلم والكتابة قديمة ، والدرجة الثانية تُقَارِنُ المقدور ، تُقَارِنُ المقضي .
فالقدر إذا وقع أو إذا شاء الله جل وعلا أن يقع لا بد أن يكون بقدر سابق وبقدر مقارن .
هذا القدر المقارن هو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة ، وهذه هي الدرجة الثانية وتشمل مرتبتين .(2/105)
فصّل ذلك شيخ الإسلام بقوله - يعني - (مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ)
قال (وَهُوَ)
يعني هذه الدرجة كيف يكون الإيمان بذلك ؟
(الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ ، لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ)
إلى آخر كلامه ، هذه الدرجة الثانية مرتبتها الأولى وهي المرتبة الثالثة من مراتب القدر (الإيمان بمشيئة الله) مشيئة الله النافذة ، وهو جل وعلا ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
والأدلة على هذه المرتبة كثيرة جدا منها قوله جل وعلا { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } الآية ، وكذلك قوله جل وعلا { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } وكذلك قوله { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } فهو سبحانه يحكُمُ ما يشاء ويفعل ما يريد مشيئته نافذة ، ومنها قوله جل وعلا { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ } وقوله { مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } والآيات في هذا الباب كثيرة جدا .(2/106)
فإذن مشيئة الله شاملة ، مشيئة الله نافذة ، فهو ما شاء كان ، ومعنى قوله (نافذة) يعني أنه جل وعلا لا معقب لحكمه ولا يخاف جل وعلا أحدا ولا يتردد جل وعلا فيما يشاؤه سبحانه وتعالى ، بل ما شاء كان وهذه المشيئة هي الإرادة الكونية لأن الإرادة الكونية تفسيرها المشيئة .
وكما ذكرنا لكم أن الإرادة قسمان :
" إرادة كونية .
" وإرادة شرعية .
الإرادة الكونية هي المشيئة ، فإذا قلت شاء الله كذا بمعنى أراده كونا ، فلا تكون المشيئة في الأمور الشرعية .
وقوله هنا (مَا شَاءَ اللهُ كَانَ) يعني كونا .
أما الأمور الشرعية فإنها لا يطلق عليها المشيئة لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
وأما الشرعيات فتدخلها الإرادة الشرعية التي توافق محبة الله جل وعلا ما أراده الله شرعا هو موافق لمحبته إذ لا يريد جل وعلا شرعا إلا ما يحبه ، وما أراده شرعا قد يفعله العبد وقد لا يفعله { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } لكن من العباد من لا يختار أن يتوب الله عليه ، فهذه إرادة شرعية ، أما الإرادة الكونية وهي المشيئة النافذة فهذه كما قال (مَا شَاءَ اللهُ كَانَ) .
فإذا آمن العبد بأن - يعني اعتقد اعتقادا جازما - بأن ما شاء الله كان وأنه جل وعلا يتصرف في هذا الملك كما يشاء وأنه جل وعلا لا معقب له يحكم في ملكه كما يشاء فما شاءه حصل ووقع وما لم يشأه جل وعلا لا يحصل ولو اجتمع عليه من بأقطارها من في السماوات ومن في الأرض فإنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا هو جل وعلا لا يشاؤه بل إن مشيئتهم تابعة لمشيئة الله جل وعلا كما قال سبحانه { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُ العالَمِينْ } .
قال (وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ) (مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ) لأنه ليس الأصل السكون وليس الأصل الحركة بل السكون بمشيئة ، بقدر ، والحركة بمشيئة وبقدر .(2/107)
فمن قال إن الأصل هو السكون والحركة خلاف الأصل زعم أن القدر راجع إلى المتحركات دون الساكنات .
ولكن هذا باطل بل إنه ما من سكون إلا بمشيئة وما من حركة في مُتَحَرِكْ إلا بمشيئة .
فسكون الساكن ليس عن اختياره وليس لأن الأصل فيه السكون بل لأن الله قدر جل وعلا أن يكون ساكنا ، وشاء منه في هذه اللحظة أن يكون ساكنا ، إذا قلنا قدر يعني في الماضي تقدير بالعلم والكتابة وفي هذه اللحظة التي رأيت الساكن فيها ساكنا فهو بمشيئة الله جل وعلا والله سبحانه له ملائكة وكَّلَهُم جل وعلا بفعل ما يشاؤه سبحانه ، وكَّلَهُم توكيلا ، هم مُوَكَلُون بذلك كما قال جل وعلا { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } فهم موكلون .
قال (مِنْ حَرَكَةٍ وَلاَ سُكُونٍ؛ إلاَّ بِمَشِيئَةِ اللهِ) حتى سقوط الورقة ، هبوب الريح ، هَبَاءَه ماشِيَة تراها شعاع فيه غبار هذا كله بمشيئة الله جل وعلا لا يخرج شيء عن مشيئة الله جل وعلا النافذة وعن قدرته سبحانه الشاملة .
قال (لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ) هذا تعليل لما سبق
(وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ) هذه القدرة الشاملة .
عبَّر شيخ الإسلام بقوله (قدرته الشاملة) وذلك لأنه في القرآن وفي السنة فيها القدرة الشاملة على الموجودات والمعدومات .
ففي القرآن في آيات كثيرة { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقال { إنَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } وقال { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا } والآيات في ذلك كثيرة .
قال (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) و (كُلِّ) من ألفاظ الشمول والظهور في العموم فتشمل المعدوم والموجود و (شَيْءٍ) اسم لما يقبل العلم ، يعني للمعلوم أو لما يؤول إلى العلم ، والمعدوم يقبل العلم ، فإذن صارت مشيئة الله نافذة وقدرته شاملة للموجود لما رأيته وللمعدوم أيضا .(2/108)
وقوله (المعدوم) يعني لما لم يشأه الله جل وعلا فهو سبحانه ما شاءه كان ، لكن ما يقدر عليه سبحانه ربما يكون ، وربما لا يكون ، بحسب حكمته جل وعلا ، وهذا لأجل إطلاق الشمول في النصوص في قوله { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن قدرة الله شاملة للمعدومات والموجودات كما قال سبحانه { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } فإذن الإسماع إسماع الاستجابة ما حصل ولو أسمعهم إسماع الاستجابة لتولوا وهم معرضون .
وهذا تابع للعلم وهو تابع أيضا للقدرة كما قال جل وعلا { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } ففي هذه الآية إثبات أن الله جل وعلا قادر على هذه الثلاثة أشياء { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ } هو قادر على هذا الشيء ، وهل هذا الشيء حصل ؟ موجود أو معدوم ؟
قال عليه الصلاة والسلام حينما تلا هذه الآية (أعوذ بوجهك) فأُجِيبْ ، وقال أيضا في قوله { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال (أعوذ بوجهك) فأُجِيبْ وقال في قوله { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } (هذه أهون) لأن الله جل وعلا لم يُعْطِهِ ذلك .
قال العلماء دلت الآية على أن قدرة الله على ما شاءه وعلى ما لم يشأه ، فقوله { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيه عموم في القدرة على ما شاءه وعلى ما لم يشأه وهذا مذهب أهل السنة .
والأشاعرة والماتريدية وغيرهم يقولون إن القدرة لها تعلقان :
تعلق صلوحي ، وتعلق قديم .
هذا بحث يحتاج إلى تفصيل لكن أيضا مما يناسب الكلام هذا هنا يقولون إن القدرة ، قدرة الله جل وعلا متعلقة بما شاءه .(2/109)
ولهذا يقول الأشاعرة كثيرا في كتبهم (والله على ما يشاء قدير) .
وهذه عند أهل السنة والجماعة باطلة لا يجوز أن يخالف المرء نص القرآن ويقول (والله على ما يشاء قدير) هو نَعَمْ هو جل وعلا على ما يشاء قدير لكن قدرته على ما يشاء وعلى ما لم يشأ فهو سبحانه قدير على ما شاءه وقدير على ما لم يشأه .
فعندهم القدرة متعلقة بما شاءه وعند أهل السنة القدرة متعلقة بما شاءه جل وعلا وبما لم يشأه لقوله سبحانه { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ } .
نعم جاء في بعض الأحاديث (إني على ما أشاء قادر) (وإني على ما أشاء قدير) وهذا يثبته أهل السنة لأنه دليل على أنه جل وعلا على ما يشاء قدير وهذا دلَّ عليه قوله { عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لكن عندهم شعار أنهم يُعرِضون عن قوله { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } إلى قولهم (والله علم ما يشاء قدير) .
وإذا كان شعارا لأهل البدع فإن استعماله فيه موافقة لهم مع صحته في نفسه معنى .
وقول القائل (إنه جل وعلا على كل شيء قدير) هذا يشمل ما شاءه وما لم يشأه وفيه موافقة للنصوص من الكتاب والسنة .
هذا معنى قول شيخ الإسلام (مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ) هو على كل شيء قدير من الموجود والمعدوم .
طبعا هذا كله متعلق بما يمكن أما المُحال مما أحالَهُ أو مَنَعَهُ جل وعلا أن يكون في ملكه وأوجب ذلك على نفسه فهو جل وعلا قدير على كل شيء على هذا وذاك ، ولكن لما جعل ذلك مُحالا فهو لا يكون ، وقدرته شاملة جل وعلا لكل شيء ، ولكن المحال هو الذي جعله جل وعلا محالا .
مثل أن يكون ثَم إله بحق فهذا محال فلا يكون البتة ، هل هذا متعلق بالقدرة ؟(2/110)
نقول نعم القدرة متعلقة بكل شيء لكن هذا محال لا يكون ، كذلك أن يوجد إله آخر هذا محال ، كذلك أن يكون له جل وعلا ولد هذا محال ، إلى آخره ، وهذه المحالات هو جل وعلا الذي جعلها محالة سبحانه وتعالى .
فإذن لا تُبحَثْ هذه كما بحثها الفلاسفة وطائفة هل تدخل تحت القدرة أو لا تدخل ، لأن هذه جعلها الله جل وعلا محالات فما يُبْحَثْ هو ما جاءت فيه النصوص وأما ما جعله الله جل وعلا محالا فإننا نأخذه على ما جاء في النص ولا نخوض فيه بهل تشمله القدرة أو لا تشمله لأنه لا فائدة منه ولأن فيه استدراكا واعتراضا على النصوص .
قال بعد ذلك (فمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إلاَّ اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُهُ، وَلاَ رَبَّ سِوَاهُ. وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ) قوله (وَمَعَ ذَلِكَ) يعني مع وجود القَدَرْ السابق فالله جل وعلا أمر العباد بطاعته ، فالقدر لا يعني عدم العمل بل القدر ، قدر الله جل وعلا هو عِلْمُهُ جل وعلا بما سيكون ، كتابته جل وعلا لما سيكون وما قدَّرَهُ سبحانه وتعالى على عباده ، ومع ذلك أمر العباد بالطاعة ونهاهم عن المعصية وهو جل وعلا يحب المتقين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ...... (1)
إذا كانت المعاصي داخلة تحت المشيئة فكيف تدخل تحت المشيئة مع أنها داخلة تحت ما يُبغِض الرب جل وعلا ؟
وهذا الضلال أو هذه الشبهة أوقعت طوائف في الضلال .
__________
(1) 1 مسح بالشريط(2/111)
وأهل السنة قالوا إنه يجتمع في حق المعين من المسلمين الإرادة الكونية والشرعية فيما أطاع الله جل وعلا فيه ، يجتمع فيه المحبة والإرادة الكونية ، ومن خالف - الكافر أو العاصي حين معصيته - نفذت فيه المشيئة والإرادة الكونية ولكنه في هذه الحال لم يوافق الإرادة الشرعية ، فالمسلم تعلق به في طاعته حين يطيع الإرادة الكونية التي هي المشيئة والإرادة الشرعية والعاصي حين عصى أو الكافر تعلق به الإرادة الكونية دون الإرادة الشرعية .
انتهى الشريط الحادي و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثاني و العشرون
فالمسلم تعلق به في طاعته حين يطيع الإرادة الكونية التي هي المشيئة والإرادة الشرعية .
والعاصي حين عصى أو الكافر تعلق به الإرادة الكونية دون الإرادة الشرعية .
فلهذا صارت المحبة والرضا تبع للإرادة الشرعية :
فالمسلم الذي عمل الطاعة واجتمعت فيه الإرادة الشرعية والكونية حصل له محبة من الله جل وعلا لإتيانه بما أراده الله شرعا .
فالمحبة تبع للإرادة ، المحبة تبع لتنفيذ الإرادة الشرعية ، والبغض تبع لعدم الإتيان بما يريده الله جل وعلا شرعا .
وهذا يجتمع في حق المعين من المسلمين ، يجتمع موجب المحبة وموجب البغض ، وفي الكافر تكون فيه الإرادة الكونية .
إذا تبين ذلك فإن الله يرضى كما ذكر الشيخ عن المتقين ويحب المتقين والمحسنين والمقسطين .
وهذه مسألة ضل فيها طوائف وذهبوا لأجلها إلى الجبر وبعضهم ذهب إلى نفي القدر وبعضهم ذهب للدخول في التعليل فضلوا .
والقدرية أصناف وأصل ضلالهم هو الدخول في الأفعال .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته القدرية :
ويدعى خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طُرّاً معشر القدريةِ
سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا ... به الله أو ماروا به في الشريعةِ
فهذه طوائف القدرية من حيث العموم :
" النفاة بأصنافهم الذين سبقوا .(2/112)
" و من سعى ليخاصم أو مارى به في الشرع .
وهاتان الطائفتان (من مارى به في الشرع) يعني من مارى بالقدر في الشرع يعني في الامتثال راجع إلى عدم التفريق بين الإرادة الكونية والشرعية ، إلى عدم فهم أنه يجتمع في حق المعين المشيئة الكونية وما لا يريده جل وعلا شرعا ، وهذا ظاهر بين ، و شيخ الإسلام ألمح إلى هذا في هذه الكلمات .
طبعا مسائل القدر متنوعة وشُبَهْ القوم والدخول فيها لا يناسب لأنها تحتاج إلى ردود تفصيلية وتأصيلية ، ولها مجالس أخر إن شاء الله تعالى .
انتهى من هذه المرتبة قال بعدها :
وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ خَلَقَ أفْعَالَهُم وَالْعَبْدُ هُوَ: الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي، وَالصَّائِمُ. وِلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَقُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ؛
وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية .
هذه الدرجة التي هي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وأن الله جل وعلا هو الذي خلق أفعال العباد ، هذه مرتبتان :
" المرتبة الأولى عموم القدرة ونفوذ المشيئة ، هذه المرتبة الثالثة من مراتب القدر .
" والمرتبة الرابعة أن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد .
فانتهى من المرتبة الثالثة وهي الأولى من الدرجة الثانية ، ثم ذكر الأخيرة من مراتب القدر فقال :
(وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ خَالِقٌ أفْعَالَهُم)
العباد جمع عبد ، من هذا العبد الذي يريده المؤلف ؟
فصَّلَ ذلك قال :
(الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ)
(الْمُؤْمِنُ، وَالْكَافِرُ، الْبَرُّ، وَالْفَاجِرُ) هو الذي يفعل فعله حقيقة ليس فعله الذي فعل مجازا وإنما فعل حقيقة ، ما معنى ذلك ؟
يعني حين صلى من المصلي ؟ من الذي فعل الصلاة ؟
هو العبد ، حين تصدق من الذي تصدق على الحقيقة ؟ من الذي فعل الصدقة ؟(2/113)
هو العبد ، حين - والعياذ بالله - شرب الخمر حين سرق حين ارتشى حين أكل الربا حين زنا إلى آخره ، من الذي فعل هذه الأفعال على الحقيقة ؟
الذي فعلها العبد ، هل معنى ذلك أن العبد هو الذي خلق فعل نفسه ؟
نقول : لا ، العبد له قدرة وإرادة وهو الذي فعل هذا الفعل ، فالفعل يُنسب للعبد لأنه هو الذي اختاره وفعله بنفسه لم يُكْرَهْ عليه.
ومع ذلك من الذي خلق فعله ؟
قال شيخ الإسلام :
(وَاللَّهُ خَالِقٌ أفْعَالَهُم)
فإذن اجتمع أن يكون العبد هو الذي فعل على الحقيقة ليس فعلا مجازيا كما يقوله الأشاعرة والماتريدية وطوائف ، وليس هو الذي يخلق فعل نفسه كما يقوله المعتزلة يعني القدرية ، وإنما هو يفعل حقيقة والله هو الذي خلق فعله ، وذلك لمجيء هذه في النصوص :
أما الفعل حقيقة فلأنه جاء في النصوص نسبة الفعل إلى العبد قال جل وعلا { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فالعبد هو التواب وإذا كان هو التواب فالتواب صيغة مبالغة من اسم الفاعل تائب ، وتائب اسم فاعل التوبة ، المتطهر هذا اسم فاعل التطهر .
فإذن العبد هو الذي فعل التوبة وهو الذي فعل التطهر بدِلالة اللغة .
وإذا كان كذلك فهذه الدِلالة حقيقية ، فهو الذي فعل التوبة حقيقة لأن الله جل وعلا جعله توَّابا وجعله مُتطهراً .
والأصل كما هو معلوم أن ما أُسْنِدَ إلى العبد فهو الحقيقة باتفاق الناس ، الأصل هو الحقيقة باتفاق الناس ، سواء الذين قسموا لغة العرب إلى حقيقة ومجاز أو الذين لم يقسموا ، بالاتفاق أن الأصل هو الحقيقة .
فإذن عند الجميع ما أسنده الله جل وعلا من الأفعال للعبد هو الذي فعلها حقيقة لأنه هو الأصل.
ولهذا في الأدلة جميعا : صلى ، صام ، تصدق ، إلى آخره ، أمر الله جل وعلا بالصلاة بالصوم بالتصدق ، فَعَلَ العبد هذه الأشياء فهو إذن يفعلها حقيقة ، لكن كيف فعلها ؟(2/114)
جعل الله جل وعلا له قدرة - ركز معي - جعل له قدرة وجعل له إرادة ، هذه القدرة التي جعلها في العبد من الذي خلقها ؟
خلقها الله ، وهذه الإرادة التي جعلها للعبد من الذي خلقها ؟
خلقها الله جل وعلا ، فَفِعْلُ العبد ينتج عن هاتين الصفتين القدرة والإرادة .
والقدرة والإرادة مخلوقتان فإذن ما يحصل منهما مخلوق .
فإذن اجتمع أن العبد يفعل حقيقة وأنه لا يخلق فعله ، لأنه إذا كان يصح أن يقال يخلق فعله معناه ما أحدثه - يعني الأسباب أو الآلة التي جعلته يفعل - يكون هو الذي خلقها ، والآلة التي جعلته يفعل الجوارح أو هذه الصفات القدرة والإرادة هو لم يخلقها وإنما خلقها الله جل وعلا .
فإذن النتيجة هي أن الله خلق فعل العبد لأنه خلق له القدرة وخلق له الإرادة .
والعمل - فعل العبد - لا يكون مطلقا أبدا إلا بقدرة وإرادة ، لا يمكن أن يعمل عملا حتى تكون عنده قدرة وإرادة.
والإرادة نعني بها الإرادة الجازمة والقدرة نعني بها القدرة التامة ، فضابط الإرادة التي يحصل بها الفعل هي الإرادة الجازمة ، والقدرة التي يحصل بها الفعل هي القدرة التامة .
يعني قد يكون مريدا للشيء لكن إرادته مترددة فهل يحصل الفعل ؟
لا يحصل لأنه ما يدري يقول أنا متردد أريد أن أذهب إلى المسجد وأريد أن أذهب إلى مكان كذا ، فإرادته مترددة ، هذه الإرادة المترددة لا يحصل بها الفعل حتى تتحول إلى إرادة جازمة ، فإذا توجه جزم باختيار إحدى الإرادتين صارت إرادته جازمة .
فإن كان عنده قدرة عنده آلات عنده رجل يمشي بها أو أراد أن يكتب وعنده قدرة على الكتابة متعلم للكتابة ويده صحيحة حصل له مراده .
فإذن النتيجة -الفعل - لا يحصل حتى يكون عند العبد إرادة جازمة لهذا المعين من الفعل وقدرة تامة على هذا المعين من الفعل .
في أناس عندهم إرادة جازمة ولكن عندهم قدرة ناقصة ، يريد مثلا أن يسافر هذه اللحظة إلى مكان كذا وكذا هذه إرادة جازمة لكن هل عنده قدرة على ذلك ؟(2/115)
ما عنده قدرة فلا يحصل الفعل .
فإذن نقول الفعل لا يكون من العبد إلا بإرادة جازمة وقدرة تامة .
والإرادة والقدرة مخلوقتان ، فالفعل مخلوق .
هذا من حيث التدليل العام .
ومن حيث التدليل الخاص قال جل وعلا { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } وفي قوله هنا { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } وجهان من التفسير :
" الأول أن تكون (ما) بمعنى (الذي) [ والله خلقكم والذي تعملون ] يعني تعملونه .
" الثاني أن تكون (ما) مصدرية تُقَدَّرْ مع الفعل بمصدر فيكون معنى الآية [ والله خلقكم وعملكم ] .
فإذن في الآية دليل على أن الله خالق لأفعال العباد .
لهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه العقيدة المباركة ، قال :
(ولِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ)
الصفات هذه من الذي خلقها ؟
رب العالمين ، هم الذين يفعلون ، من الذي خلقهم ؟
رب العالمين ، إذن النتيجة أن الذي يحصل منهم من الأفعال الذي خلقه رب العالمين .
لكن الفعل فعل من ؟
فعل العبد حقيقة .
قال (وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ)
هذه الدرجة من القدر ، يعني الدرجة الثانية ، الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وكذلك بأن الله هو الذي يخلق فعل العبد يكذب بها عامة القدرية .
ويعني بالقدرية هنا المعتزلة ومن شابههم في نفي القدر .
نفاة القدر هم القدرية :
- الغلاة ينفون العلم
- وهؤلاء ينفون المشيئة النافذة ومنهم من لا ينفي هذه المشيئة النافذة أو القدرة الشاملة ولكن ينفي أن الله خلق فعل العبد .
وتعلمون أنه من المشهور أن المعتزلة يقولون أن العبد يخلق فعل نفسه ، لماذا قالوا ذلك ؟(2/116)
قالوا لأن العبد يعمل المعاصي ، وإذا قلنا إن المعصية خلقها الله جل وعلا فيكون ذلك محذورا من وجهين :
" الأول أن يكون الله هو الذي فعل المعصية .
" والثاني أن يكون أجبرهم عليها .
وهاتان ممتنعتان شرعا وعقلا .
وهذا صحيح فإن الله جل وعلا ليس هو الذي فعل بل الذي فعل العبد ولكن الله خلق ، وقولهم (هذا يعني الإجبار) نقول وكذلك الإجبار منفي .
لكن هل يصح أن يكون هذا الفعل دليلا على أنه يُجْبِرْ ؟
هل يصح أن ذلك دليلا على أنه هو الفاعل ؟
نقول لا ، هذا ليس بصحيح بل النصوص دلت على التباين ، على أن العبد يفعل والله جل وعلا هو الذي يخلق وعلى أن العبد يفعل المعصية والله جل وعلا يأذن بها كونا ولا يرضاها شرعا.
فاجتمع في ذلك المرتبتين اللتين في هذه الدرجة .
فإذن في حق العاصي ، يعني المعتزلة نظروا أنه في حق العاصي ، هذا عصى وحين يشرب الخمر من الذي خلق هذا الفعل ؟
قالوا إذا قلنا إن الله هو الذي خلقه فمعناه هو الذي فعل لأن هناك تلازم عندهم بين الفعل والخلق ، كونه فعل يعني خلق ، وهذا ممتنع فإذن يكون العبد هو الذي خلق .
أيضا لو قلنا إن الله هو الذي خلق ذلك معناه ألغينا إرادة العبد وإذا ألغينا إرادة العبد كان مجبورا على المعصية وهذا يقدح في العدل والله جل وعلا منزه عن الظلم وله صفة العدل .
هذه شبهتهم ، وهذا الذي قالوه باطل واضح البطلان لأنهم لم يفرقوا بين الفعل والخلق ، وكوننا نقول إن الله جل وعلا هو الذي خلق هذا الشيء بمعنى أنه جل وعلا هو الذي خلق ما يكون به هذا الشيء .
ومعلوم أن الأسباب في الشرع تُحْدِثُ المُسَببَّات ، الماء ينزل فينبت به النبات ، الله جل وعلا جعل الماء سببا ، يتزوج الذكر ويضع ماءه في رحم الأنثى فيكون منه الولد .
فالعبد يفعل لكن الذي خلق هو الله جل وعلا ، فالأسباب التي تنتج المسببات مخلوقة فإذن النتائج مخلوقة .(2/117)
وهذه هي التي فاتت أهل الاعتزال ولا غرابة أن يكونوا غلاة في إثبات الأسباب ويناقضون والأشاعرة يقابلونهم في أنهم ينفون الأسباب وينكرون ذلك .
قال شيخ الإسلام هنا (الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ) وهذا قد جاء في حديث في السنن عن ابن عمر وعن غيره (القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم و إن ماتوا فلا تشهدوهم) وهذا الصواب أنه مرسل ولا يصح مرفوعا ، وروي عن غيره .
بعض أهل العلم قال مجموع هذه الروايات يصل إلى الحُسْنْ .
قال بعد ذلك شيخ الإسلام بعد ذلك (وَيَغْلُو فِيهَا) - يعني في هذه الدرجة - (قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ، حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا)
هذه احتوت على جملتين :
الأولى (وَيَغْلُو فِيهَا قَومٌ مِنْ أَهْلِ الإثْبَاتِ) يعني أن الذين أثبتوا هذه المرتبة ، أثبتوا المشيئة النافذة وأثبتوا القدرة الشاملة - يعني على ما يشاء - أثبتوا أن الله هو الذي خلق فعل العبد ، غلوا في ذلك حتى سلبوا العبد قدرته (وَاخْتِيَارَهُ) يعني إرادته وهم الجبرية ، غلوا في إثبات القدر حتى قالوا إن العبد مسلوب القدرة والاختيار -ي عني مجبور - وهؤلاء الجبرية طائفتان مشهورتان :
- الأولى غلاة الجبرية وهم الذين يقولون إن العبد مجبور على كل شيء وهو بمنزلة المقصور المضطر إلى الفعل فهو كالريشة في مهب الهواء وكحركة القلم في يد الكاتب ، العبد مجبور ليس له اختيار ، مسلوب بتاتا وهو مجبور ولا بد أن يفعل ، هؤلاء الغلاة ، غلاة الجبرية ومنهم الجهمية والصوفية وطوائف .
- وهناك متوسطون في الجبر وهم الأشعرية والماتريدية .
وهؤلاء يقولون إن العبد مجبور باطنا لا ظاهرا .
مجبورٌ في الباطن لكن في الظاهر شكله شكل المُختار .(2/118)
تَنْظُرُ إليه عنده قدرة وإرادة لكنه في الواقع في الباطن مجبور ، وهذا معنى القَدَرْ عندهم أنه الجبر .
لكن هل هو مجبور ظاهرا ؟
يقولون لا ، مجبور باطنا .
إذا كان كذلك فما تقولون في فعل العبد ؟ هل هو يفعل الفعل على ذلك عندكم حقيقة ؟
قالوا لا ، إذا كان مجبورا فمعناه أن الفعل ليس فعلا له حقيقة .
إذن فعل له على أي شيء ؟
قالوا فعل له مجازي .
إذا كان كذلك فمن الذي فعل ؟
قالوا الفاعل هو الله .
العبد ما مهمته ؟
قالوا العبد محلٌ للفعل .
ما معنى محل الفعل ؟
قالوا كما تكون السكين في يد القاطع يقطع بها الخبز .
فالسكين ظاهراً لمن رآها والخبز دون اليد المحركة ، هي التي قطعت .
وفي الواقع هي محلٌ مجبورةٌ على أن تقطع .
فإذا قال كيف قُطع الخبز ؟
يقال بالسكين .
لكن في الواقع من الذي حرك السكين ؟
تحتاج إلى محرك .
فلهذا قال شيخ الإسلام هنا (سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ) فيكون جعلوا العبد بمنزلة الجمادات .
هنا الاجتماع هذا عندهم بين أنه يفعل الفعل مجاز كيف إذن تُنسب له الأعمال ؟
وكيف يحاسب على العمل إذا هو مجبورا عندهم ، يعني عند الأشاعرة والماتريدية الجبرية المتوسطة ؟
قالوا العبد يَكْسِبُ فعله فللعبد كَسْبٌ وهو مجبور على هذا الكَسْبْ .
ما تعنون بالكسب ؟
أنتم تقولون لا يفعل حقيقة وإنما هو بمنزلة السكين ، كيف يكون له كَسْبْ إذا كان مجبورا ؟
اعترف عقلاؤهم وحذاقهم أنه لا مناص من الإجابة عن هذا السؤال .
وهذا الذي أوقع الأشعري في أن يُخْرِجَ الكَسْبْ ، هذه اللفظة خرجت جوابا عن هذا الإشكال هذا الإيراد ، وهذا الكَسْبْ ما تفسيره ؟
الأشاعرة لهم في شروح عقائدهم اختلاف في تفسير الكسب إلى اثني عشر قولا ذُكِرَت في شروح الجوهرة وغيرها .
إذا كان اختلفوا في تفسيره على اثني عشر قولا معناه أن الشيء غير معروف ، والذي ابتدعه الأشعري ، ولهذا قال القائل :(2/119)
مما يقال ولا حقيقة تحته ... معقولة تدنو لذي الأفهامِ
الكسب عن الأشعري والحالُ عنـ ... ـد البهشمي وطَفْرَةُ النظّامِ
فهناك ثلاثة أشياء اخترعها أصحابها لا وجود لها في الواقع إنما هي موجودة في أذهان أصحابها ، شيء لا حقيقة له ، لهذا قال :
مما يقال ولا حقيقة تحته ... معقولة تدنو لذي الأفهامِ
الكسب عند الأشعري
هذا الكسب الذي قاله أن العبد يفعل مجازا هو مجبور في الباطن .
في الظاهر مختار مجبور في الباطن .
وينسب له العمل كسبا ويحاسب عليه كسبا وهو مجبور .
هذا شيء لا يُفهم ، ولهذا ما حقيقة هذا الكسب حتى يُحاسِبْ الله العبد عليه ؟
اختلفوا فيه إلى اثني عشر قولا وكلها أقوال متضاربة ، فمعنى ذلك أنهم اخترعوا شيئا وقعدوه وهم لم يفسروه بتفسير يتفقون هم عليه وهم أهل هذا القول وهذا من أدلة بطلان المسائل كما دَلَّنا ذلك على بطلان قول أبي هاشم في الحال والطفرة عند النَّظَّام .
إذن هذا خلاصة لمذهب الجبرية المتوسطة ولهذا يستعملون كثيرا لفظة الكسب (وهذا من كسبه) (والعبد يكسب الفعل) ويكثرون من هذه اللفظة لأجل هذه العقيدة عندهم .
وأهل السنة والجماعة يستعملون كثيرا بل يستعملون دائما لفظ (فَعَلَ العبد) (عَمِلَ العبد) (صلى العبد) ما يقولون (كسب العبد كذا) .
ما ورد من لفظ الكَسْبْ في القرآن وفي السنة لا يُعني به طبعا هذا المصطلح المحدث وإنما يُعنى به العمل ، { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } يعني لها ما عملت وعليها ما عملت من شر ، لها ما كسبت من خير وعليها ما عملت من شر ، فما ورد في القرآن أو في السنة من لفظ (كَسَبَ) فإنه يراد به العمل ، أما (الكَسْبْ) الخاص ، المصلح الخاص ، فإنما حدث هذا بعد ثلاثة قرون وهذا شيء كما ذكرنا لا حقيقة له .
فإذن هؤلاء سلبوا العبد قدرته واختياره ، قالوا لا يَقْدِرُ وإنما الله الذي فعل ، لا يريد هو وإنما الله الذي أراد .
المعصية من الذي فعلها ؟(2/120)
هل الله جل وعلا هو الذي فعل المعصية ؟
قالوا لا ، الذي فعلها العبد مجازا ، أُجْبِرَ عليها ففعل فصار محلا لهذا الشيء ، بمنزلة الأشياء الجامدة.
وهذا لا شك فيه والعياذ بالله كما قال المعتزلة في ردهم على الأشاعرة فيه نسبة الظلم إلى الله جل وعلا ، وهكذا كل جبري فإنه ينسب الظلم إلى الله جل وعلا .
إذن إذا كان على ما قالوا ما قولهم في الحكمة ؟
هل الله جل وعلا أفعاله معللة ؟
طبعا استحضروا هذا الشيء ، هل في هذا إثبات الظلم ؟
إذن هذا ليش حصل هذا الشيء ؟
فاضطروا إلى أن ينفوا الحكمة فيقولون إن الله جل وعلا لا يُوصَفُ بالحكمة ولا يُوصَفُ بأن فعله موافق لحكمة أو فعله معلل .
وهذه هي آخر جملة ذكرها لك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال (وَيُخرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا) إذا كان كذلك فهو لا شك نتيجة أنهم ينفون الحِكَمْ وينفون المصالح لأنهم لا يقولون بالاختيار ولا يقولون إن العبد يفعل وإذن يكون هناك أن الله فعل ولا حكمة له في ذلك حتى يتخلصوا من نسبة الله جل وعلا إلى الظلم .
وأصل الضلال في ذلك كما ذكرنا ، أصل الضلال في باب القدر في جميع الفرق سواء فرقة الغلاة الإبليسية أو المشركين كل هؤلاء الأصل في ضلالهم هو الخوض في الأفعال .
وكل أحد على الفطرة - ما خاض في هذه المسائل - يُحِسُّ من نفسه أنه مختار ، يُحِسُّ من نفسه أنه يفعل هذا أو هذا وهذا شيء فطري ضروري ، كل واحد يحس أنه يختار هذا الفعل ويختار هذا الفعل فإما هذا وإما هذا .
فإن عامل الله جل وعلا العبد بِعَدْلِهِ وخَذَلَهُ ، عامله بالعدل وتركه ونفسه جعله يختار بدون إعانة.
يختار يعني ما بدا له اختاره وما لم يَبْدُ له تركه إلى آخره - والله أعطى العبد القدرة والاختيار .
وإذا أراد الله جل وعلا بالعبد خيرا أعانه .
أعانه على أن تكون إرادته في الخير وأعانه على تكون إرادته فيما يحب ويرضى .(2/121)
وهذه الإعانة هي التي تسمى بالتوفيق .
فالتوفيق أمر زائد على الاختيار .
كل أحد يختار أعطاه الله جل وعلا الاختيار { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } هو يريد ويحس ذلك فطرة ، المطيع هل إذا أطاع وتعبد الله وأفلح وتابع وأخلص هل هذا الفعل إذا أَحَسَّ هو بالإرادة يُقْنِعُ نفسه بأنه هو الذي حَصَّلَ هذه الأشياء ؟
لا ، ولكن يعلم أنه أُعِينَ عليها ، وهذا هو التوفيق .
فكل أحد من أهل الفطرة إذا فعل طاعة يعلم أنه هو الذي اختار وهو الذي فعل لكن لو شاء الله جل وعلا لصرفه عن ذلك بمعنى ، ما معنى لو شاء الله لصرفه ؟
بمعنى أن يكله إلى نفسه فلا يوفقه ولا يعينه فإذا تُرِكَ ونفسه فإنه يَضِلْ .
فإذن المؤمن يُحِسُّ بتوفيق الله له ، يُحِسُّ بالإعانة يُحِسُّ بأنه حُبِّبَ إليه الخير وكُرِّهَ له الشر ، ومن عومل بعدل الله جل وعلا : هو أمامك اختر هذا الطريق أو هذا الطريق .
إذن في مذهب أهل السنة والجماعة فيه إثبات هذه المراتب وفيه إثبات أن أفعال الله معللة ، أفعال الله الكونية وكذلك أحكام الله جل وعلا الشرعية .
ففعلُ الله في كَوْنِهِ مُعِلَّلْ .
يعني فَعَل الله جل وعلا لعلة ، لحكمة قد نعلمها وقد لا نعلمها ، وقد ذكرت لكم أن الحكمة في صفات الله تفسر بأنها وضع الشيء في موضعه الموافق للغايات المحمودة منه .
وضع الشيء في موضعه هذا عدل ، فإذا كان وضع الشيء في موضعه موافق لغاية محمودة منه صار حكمة .
الظلم وضع الشيء في غير موضعه مقابل للعدل .
فإذن الله جل وعلا تُثْبَتُ له الحكمة والتعليل في أفعاله الكونية وفي أحكامه الشرعية ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة ، والنصوص في ذلك كثيرة بينة .
هذا نهاية مبحث القدر في كلام شيخ الإسلام ، هذا المبحث طويل جدا لكن ذكرنا منه ما يتعلق بكلام شيخ الإسلام خاصة في مباحث الأفعال والأحكام إلى آخره .(2/122)
ومما ينبغي لطالب العلم أن يستحضره دائما في هذا الباب ما ابتدأنا به الكلام وهو أن القدر سر الله جل وعلا ، كما قال علي رضي الله عنه (القدر سر الله في تكشفه) .
لا يستطيع أحد أن يكشفه ، ولكن كيف يحاول ويروم ذلك ؟
إذا خاض في الأفعال والتعليلات .
الله جل وعلا فعله معلل لكن لم يُطْلِعْ العباد على علل ذلك جل وعلا وتبارك وتقدس ربنا ، ولهذا قال شيخ الإسلام في التائية :
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلةِ
فإنهمُ لم يفهموا حكمة له ... فصاروا على نوع من الجاهليةِ
فإنك إذا لم تعلم علم الله فإنك لن تفهم الحِكًمْ .
وتريد أن تفهم الحِكًمْ والأسرار بعلمك القاصر ، هذا مستحيل .
وقد تخاصم الملائكة في الملأ الأعلى كما قال جل وعلا { مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإٍ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } حديث اختصام الملأ الأعلى معروف ، كذلك وقع بين موسى عليه السلام والَخِضْر في السورة التي تُكَرَرْ دائما في يوم الجمعة سورة الكهف ، وقع بينه وبين الَخِضْر تلك المساءلات وموسى مع أنه كليم الله لكنه لم يدرك العلل ، ما عرف فاعترض وكان الصواب مع الَخِضْر لأنه عُلِّمَّ من لدن الله جل وعلا علما .
فإذن أساس هذا الباب الإيمان والتسليم ، العلم بأن علم الله جل وعلا لا يمكن للعباد أن يحيطوا بشيء منه إلا بما قُدِّرَ لهم ، وأن الخوض في الأفعال والتعليلات : لم فعل ؟ ولم حصل لي كذا ؟ ولم أفقرت ؟ ولم غنيت ؟وليش كذا ؟ هذا باب من أبواب الشيطان يُدْخِلُها على العبد ، وقد ذكر هذه الخلاصة الأخيرة أحد العلماء في أبيات جميلة قال فيها :
تَسَلَ عن الوِفاق فربنا قد ... حكى بين الملائكة الخصاما
كذا الخَضِرُ المُكَرَّمُ والوجيه الـ ... ـمُكَلَّمُ إذ ألَمَّ به لِماما
تَكَدَّرَ صفوُ جمعِهمها مرارا
لماذا تكدر الصفو ؟
بالأسئلة .
حُرِم موسى علما ، ليش ؟(2/123)
لأنه سأل ، وهكذا من خاض في القدر فإنه يحرم العلم ومن لم يسلم فيه يحرم العلم ، قال :
كذا الخَضِرُ المُكَرَّمُ والوجيه الـ ... ـمُكَلَّمُ إذ ألَمَّ به لِماما
تَكَدَّرَ صفوُ جمعِهمها مرارا ... فَعَجَّلَ صاحِبُ السِرِّ الصَّراما
ففارقه الكَليمُ كَليم َقلبٍ ... وقد ثنَّى على الخَضِرِ الملاما
وما سبب الخلاف سوى اختلاف ال ... ـعلوم هناك بعضا أو تماما
فكان من اللوازم أن يكون الـ ... إله مخالفا فيها الأناما
فلا تجهل لها قدرا
يعني هذه الحكمة البليغة وهذا البيان
فلا تجهل لها قدرا وخذها ... شكورا للذي يحيي الأناما
فهذا باب هدى الله جل وعلا فيه أهل السنة كما هداهم في غيره ونحمد الله جل وعلا أن جعلنا منهم ونسأله لنا ولكم الثبات على القول الصالح والعمل الصالح وأن يميتنا ثابتين غير خزايا ولا مفتونين وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
حقيقة الإيمان
وحكم
مرتكب الكبيرة
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، قَوْلٌ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَأَنَّ الإيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ.(2/124)
وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ؛ بَلِ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة:178]، وَقَالَ: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(9)إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } [الحجرات:9-10].
وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمَ الإيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلاَ يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّار؛ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ.(2/125)
بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } [النساء:92]، وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا } [الأنفال:2]، وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرِبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ". وَيَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ، فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، أما بعد :
فإن عقيدة أهل السنة والجماعة من حيث بيانها وتبويبها كما ذكرنا لكم مرارا يَقْسِمُونها إلى ثلاثة أقسام .
" والأول من هذه الأقسام هو الكلام على أركان الإيمان الستة ، وقد بين شيخ الإسلام فيما مضى الكلام على الإيمان بالله وذكر ما دخل في تلك الجملة العظيمة من الإيمان بأسمائه وصفاته والقواعد في ذلك وإثبات الصفات وما خالف فيه المبتدعة أهلَ السنة في ذلك فقرره رحمه الله أحسن تقرير.
" ثم ذكر مسائل متصلة أيضا ببقية أركان الإيمان .(2/126)
" وهذا الفصل معقود لبيان معنى الإيمان أصلا لأن تلك إيمان بالله بالملائكة باليوم الآخر بالكتب بالرسل بالقدر خيره وشره وهذا معنى الإيمان ما هو ؟
بم يحصل الإيمان ، ومسألة الحكم ، ومتى يسلب الإيمان ، ومتى يطلق عليه اسم المؤمن أو اسم المسلم إلى غير ذلك مما يسمى مسائل الأسماء والأحكام .
وهذا الكلام من الأمور المهمة يعني بيان مسألة الإيمان وهي التي كَثُرَ كلامُ السلف فيها رحمهم الله تعالى ، وذلك لأن الخلاف فيه كان متقدما .
فأول خلاف جرى في هذه الأمة هو الخلاف في مسائل الإيمان من جهة الأسماء والأحكام ، فحصل خلاف الخوارج ثم حصل خلاف المرجئة ثم المعتزلة إلى آخر ذلك .
فمسألة الإيمان من المسائل المهمة العظيمة ، ولذلك صَنَّفَ فيها السلف مصنفات مستقلة كثيرة.
وفي داخل كتب أهل السنة من الصحاح والمسانيد والسنن وكتب الاعتقاد والشريعة أصول كثيرة مُقَرِّرة لهذه المسألة ، ولهذا قال شيخ الإسلام هنا :
فصل : وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ)
وهذا أمر مجمع عليه ، قال البخاري رحمه الله (طفت الأمصار وأدركت نحو ألف من علماء المسلمين علماء الأمصار كلهم يقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص) ولهذا يقال إن البخاري رحمه الله لم يُخَرِّجْ في صحيحه إلا لمن قال إن الإيمان قول وعمل .
وهذا القَدْرْ مُجْمَعٌ عليه بين أهل السنة وهو أن الإيمان قول عمل .
وبعض الأئمة كأحمد وغيره يزيد ويقول (قول وعمل ونية) .
و(القول والعمل) اثنان و(قول وعمل ونية) ثلاثة ولكنها ترجع إلى الاثنين كما سيأتي .
فتعدد عبارات السلف في بيان أركان الإيمان كلها ترجع إلى معنى واحد ، فليس ذلك من الخلاف كما سيتضح عند بيان كلام الشيخ رحمه الله .(2/127)
قال من أصولهم (أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ) الدين يشمل مراتب الدين الثلاثة : الإسلام والإيمان والإحسان ، وعَطْفْ الإيمان عليه من باب عطف الخاص على العام وذلك للاهتمام به ولأن الكلام كان في الإيمان .
فالإيمان إذن قول وعمل ، فصَّل ذلك فقال :
(قَوْلٌ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ)
القول يرجع إلى القلب وإلى اللسان ، والقلب له قول واللسان له قول :
- أما القلب فقوله اعتقاده ، لأنه باستحضار أنه ينطق في قلبه بهذه المعتقدات أو يقولها قلبا.
- واللسان بتكلمه بالشهادتين .
- وعمل القلب هو النية .
- وعمل اللسان هو ما يجب أن يتكلم به المرء في عباداته بلسانه من مثل الفاتحة والأذكار الواجبة إلى غير ذلك مما يجب .
- والجوارح عملها بما يتصل بعمل اليدين والرجلين وسائر جوارح ابن آدم أو سائر جوارح المكلفين .
هذا من حيث الجملة في صلة هذه الكلمات .
فإذن رَجَعَ أن (القول والعمل والنية) هو القول والعمل .
فإذا قلت إن الإيمان (قول وعمل) عند أهل السنة فالعمل هو عمل القلب واللسان والجوارح وعمل القلب هو نيته .
فإذن من قال هو (قول وعمل ونية) فَصَّلَ العمل فأخرج عمل القلب فنص عليه وقال هو النية .
ومعلوم أن عمل القلب أوسع من النية يدخل فيه أنواع عبادات كثيرة كما سيأتي بيانه ، إنما أردت بذلك أَنَّ تَنَوُعْ العبارات في هذا راجع إلى شيء واحد وإنما هو تفصيل لبعض المجملات ، فمنهم من فصّل ومنهم من قال قول وعمل واكتفى بذلك والكل صحيح موافق للأدلة .
هذه مقدمة لبيان تنوع العبارات في الإيمان .
والإيمان من الألفاظ التي لها استعمال في اللغة ولها استعمال في الشرع .
لها استعمال في الكتاب والسنة ولها استعمال في اللغة .
فالإيمان لغة مشتقٌ من الأَمْنْ (أمِنَ يأمنُ أمانا) واشتُقَ منه (إيمان) .
فالإيمان من حيث الاشتقاق راجع إلى الأمن .
ومعنى الإيمان في اللغة : التصديق والاستجابة .(2/128)
التصديق الجازم والاستجابة إذا كان فيما صُدِّقَ استجابة له بعمل ، بل إن التصديق في الحقيقة في اللغة وفيما جاء في القرآن لا يطلق إلا على من استجاب .
ولهذا بعض أهل العلم يقول : الإيمان في اللغة هو التصديق الجازم ولا يذكر قيد الاستجابة وذاك لأن التصديق لا يقال له تصديق حتى يكون مستجيبا في ما كان يحتاج إلى الاستجابة في أمور التصديق .
وقد قال جل وعلا في قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل قال { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام كان مصدِّقا للرؤيا لأنه هو الذي رآها فلم يكن عنده شك من حيث اعتقاد أنه رأى ، ورأى هذا الشيء الذي رآه ، ولكن سمي مصدقا للرؤيا لما استجاب بالفعل { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } متى ؟
لما { أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } .
فإذن التصديق الجازم في لغة العرب :
" تارة يكون من جهة الاعتقاد .
" وتارة يكون من جهة العمل .
فما كان من الأخبار فتصديقه باعتقاده وما كان من الأوامر والنواهي يعني من الإنشاءات فتصديقه بامتثاله ، هذا من جهة دلالة اللغة وكذلك جاءت في استعمال القرآن .
لهذا نقول إن الإيمان يقال عنه في اللغة التصديق الجازم هذا صحيح واشتقاقه من الأمن كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان وغيره من أهل العلم .(2/129)
والأوضح أن يقال التصديق والاستجابة ، الإيمان التصديق والاستجابة ، وذلك لأنه يعدى في القرآن باللام ، يعدى الإيمان اللغوي في القرآن باللام كما أنه في اللغة أيضا قد يعدى باللام ، قال جل وعلا { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } عَدَّى الإيمان باللام لأن الإيمان هنا تصديق واستجابة ، وقال جل وعلا { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } { مَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا } عداه باللام لأن الإيمان هنا هو التصديق ، وقال جل وعلا أيضا في قصة موسى في سورة الدخان { وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ } يعني التصديق معه الاستجابة ، هذا الإيمان اللغوي ، في هذه الآيات الإيمان اللغوي ، فضابط استعمال الإيمان اللغوي في القرآن أنه يُعدى باللام غالبا.
وأما إذا عُديَ الإيمان في القرآن بالباء فإنه يراد منه الإيمان الشرعي المخصوص { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } هذا بالباء (آمن بكذا) هذا الإيمان الشرعي ، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ } بالباء ، والآيات في تعدية الإيمان بالباء كثيرة.
لماذا عُدِّي الإيمان في تلك المواضع باللام ؟
عُدِّي لأنه مُضَمَّنٌ معنى الاستجابة أو لأن معناه التصديق والاستجابة ، والاستجابة في اللغة تُعَدَّى باللام { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ } (استجاب لفلان) (سمع الله لمن حمِده) لأن السماع هنا مُضَمَّن معنى الإجابة يعني (أجاب لمن) وهذا يوضح أن لفظ الإيمان في اللغة تصديق معه الاستجابة .
فإذن في اللغة الإيمان اعتقاد واستجابة .
وفي الشرع صار الإيمان بأشياء مخصوصة ، اعتقاد خاص واستجابة خاصة ، وزيادة مراتب وشروط وأركان .(2/130)
إذا تبين ذلك فإن الإيمان الشرعي له صلة كما ذكرنا بالإيمان اللغوي ، والإيمان اللغوي منه العمل ، منه الاستجابة ، حتى التصديق لا يقال إنه صدق الأمر حتى يمتثل في اللغة .
يعني التصديق الجازم متى ؟
إذا امتثل ، { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } متى صار مصدقا ؟ لما { أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } .
الإيمان عند أهل السنة والجماعة أخذوا أركانه بما دلت عليه النصوص فقالوا إن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص ، وهذه هي الجملة التي ذكرها شيخ الإسلام هنا فقال :
(مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الدِّينَ وَالإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ قَوْلٌ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَأَنَّ الإيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ)
قول وعمل (قَوْلٌ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ) هذا ركن القول .
" قول القلب واللسان :
أما قول القلب فهو جملة الاعتقادات التي تكون في القلب :
- الاعتقاد بالله وملائكته وكتبه ورسله
- الاعتقاد بجميع الأخبار الاعتقاد بالتزام جميع الأوامر والتزام جميع النواهي ونعني بكلمة (التزام) أنه يعتقد أنه مُخاطَبٌ بذلك غير اعتقاد الوجوب ،لا ، اعتقاد الالتزام ، قول القلب جملة الاعتقادات .
قول اللسان الذي يدخله في الإسلام وهو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
" ثم عمل القلب :
أعمال القلب كثيرة متنوعة فأول الأعمال وأعظمها النية والإخلاص .
النية والإخلاص مترادفان تارة وأحدهما يفارق الآخر تارةً أخرى .
النية تارة تستعمل لتمييز العبادة عن غيرها ، وتارة تستعمل النية في إخلاص القصد ، إخلاص العمل لله .
فإذا قلنا إن عمل القلب يدخل فيه النية والإخلاص فنعني :
- بالنية تمييز العبادة عن غيرها حتى يكون يتعبد وقد ميَّزَ هذا العمل من غيره .(2/131)
- والإخلاص أن يكون قصد وجه الله جل وعلا وحده بإسلامه بالعمل الذي يعمله باعتقاداته إلى آخر ذلك .
يدخل في عمل القلب الصبر والتوكل والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والرغب والرهب إلى آخر أنواع أعمال القلوب وهي واجبات .
" وعمل اللسان الواجب : يعني ما كان امتثاله من الأوامر راجعا إلى اللسان .
أُمِرَ بأن يقول كذا في الصلاة فقوله لتلك الأشياء في الصلاة هذا عمل اللسان الواجب ، أُمِرَ أن يقول كذا حين يهل بالحج هذا من عمل اللسان الواجب .
" وعمل الجوارح يعني امتثال الأوامر واجتناب النواهي الراجعة إلى أعمال الجوارح يعني غير اللسان.
والمقصود بعمل الجوارح هنا عند أهل السنة والجماعة جنس الأعمال لا كل عمل ولكن جنس الأعمال هي التي تدخل في ركن الإيمان .
فلو تُصُوِّر أن أحدا لم يعمل عملا البتة ، يعني لم يمتثل أمرا ولم يجتنب نهيا ما عمل شيئا البتة فهذا لم يأت بهذا الركن من أركان الإيمان الذي هو العمل ، لأن العمل لا بد فيه : قلب ولسان وجوارح جميعا .
لكن لو تُصُوِّر أنه أتى ببعض الطاعات وترك بعضا ، امتثل أمرا ، أمرين ، ثلاثة ، عشرة ، أو امتثل التحريم يعني النهي عن فعل ، فعلين ، ثلاثة ، فهذا يدخل في الإيمان وقد أتى بهذا الركن عند أهل السنة والجماعة .
في مسألة الصلاة خلاف ، هل هذا العمل هو الصلاة أم غير الصلاة ؟
هذا فيه خلاف بين أهل السنة والجماعة .
هل العمل المشترط هو الصلاة أم غير الصلاة ؟
والبحث هنا يكون هل ترك الصلاة تهاونا وكسلا يخرج به من الإيمان أم لا ؟
ومنهم من قال يخرج به من الإيمان يكفر ، ومنهم من قال لا .
من قال إنه لا يخرج من الإيمان بترك الصلاة فإنه يقول لو ترك جنس العمل لخرج من الإيمان .(2/132)
يعني لو كان لم يعمل خيرا قط لم يصل ولم يزك ولم يحج ولم يصم ولم يصل رحمه طاعتة لله ولم يبر بوالديه طاعة لله ولم يترك الزنا طاعة لله يعني فُرِض أنه لم يوجد شيء البتة فهذا خارج من اسم الايمان لم يأت بهذا الركن بالاتفاق ، ثم في الصلاة الخلاف المعروف عندكم .
فإذن صارت أركان الإيمان بصيغة أخرى قول وعمل واعتقاد .
ولهذا تعرفون العبارة المشهورة أن الإيمان عند أهل السنة والجماعة (قول اللسان واعتقاد الجنان وعمل بالجوارح والأركان يزيد بطاعة الرحمن وينقص بطاعة الشيطان) .
فشمل الإيمان عندهم هذه الخمسة أشياء ، والعمل ركن من أركان الإيمان وذلك لأن الله جل وعلا سمى الصلاة عملا فقال سبحانه { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } والإيمان هنا كما هو معروف في سبب نزول هذه الآية هو الصلاة لأنها لما نزلت آيات تحويل القبلة قال بعض الصحابة ما شأن صلاتنا حين توجهنا إلى بيت المقدس ، وقال آخرون ما شأن الذين ماتوا قبل أن يدركوا القبلة الجديدة ؟ ضاعت أعمالهم ؟
فأنزل الله جل وعلا قوله { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } وجه الاستدلال : أنه سمى الصلاة إيمانا ، وتسمية الشيء أو إطلاق الكل وإرادة الجزء دال على أنه من ماهيته يعني ركنا فيه كما هو مقرر في الأصول .
وبهذه القاعدة استدل أهل العلم على أن القراءة في الصلاة واجبة بقوله تعالى { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } والمراد بالقرآن هنا الصلاة فسمى الصلاة قراءة فأطلق عليها ذلك لأنها جزؤها فهذا دليل من دلائل الركنية .(2/133)
فإذن دليلُ أنَّ العمل ركن من أركان الإيمان قوله جل وعلا { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ومن الأدلة على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لوفد عبد القيس (آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام وأن تؤدوا الخمس من المغنم) وفي بعضها إسقاط الحج فأدخل أداء الخُمُس وأدخل الصلاة والزكاة في الإيمان في تفسير الإيمان وهذه أركان الإسلام بالاتفاق : الصلاة والزكاة والصيام . أركان الإسلام وجعلها تفسيرا للإيمان فدل على أنها ركن له .
ولهذا عند أهل السنة أن الآيات التي عُطِفَ فيها العمل على الإيمان أنه من باب عطف الخاص على العام ، قال جل وعلا { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وقال { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } فعطف العمل على الإيمان وهذا من عطف الخاص على العام
لا يعني أنه ليس بركن كما استدل به المرجئة قالوا هو خارج عن الماهية بل هذا من عطف الخاص على العام .
هل يعطف الخاص على العام ؟
نقول نعم يُعطفُ الخاص على العام كما أن العام يعطف على الخاص ، قال جل وعلا { مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } قال { مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ } ثم قال { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وجبريل وميكال من الملائكة ومن الرسل أيضا يعني من رسل الملائكة إلى البشر ، نريد من هذا تقرير أدلة أهل السنة والجماعة على مثل هذه المسائل .
فالإيمان عندهم هو قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص .(2/134)
أما الزيادة والنقصان فإن أدلتها كثيرة ، والأدلة للزيادة هي أدلة النقصان قال جل وعلا { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } وجه الاستدلال أن في الآية حصرا ، قال { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ } فحصر وصف المؤمنين بأنهم { إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } فإذن دل على أن صفة الإيمان بالحصر يكون فيها الزيادة وإذا كانت فيها الزيادة فإنه يكون فيها النقصان لأن الاسم ليس شيئا واحدا وإنما هو متفاوت فما كان فيه من زيادة فإنه إذا تركت الزيادة أو ذهبت الزيادة رجع إلى نقص ، قال جل وعلا { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ } .
فأهل السنة والجماعة عندهم زيادة الإيمان ثابتة في الأدلة ، وكل دليل فيه زيادة الإيمان فيه حجة على نقص الإيمان ، يعني على أن نقص الإيمان داخل في المسمى ، يعني أن الإيمان يزيد وينقص ، فعرَّفوا الإيمان بما دلت عليه الأدلة ، عندهم الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .
من أهل السنة من قال (هو يزيد ولا ينقص) وذلك لأن الأدلة دلت على زيادته ولم تدل على نقصانه وهذا ليس بجيد لأن الشيء إذا زاد فإذا ذهب عنه ما كان سببا في الزيادة فإنه ينقص ، وما كان قابل للزيادة فإنه قابل للنقصان كما قرره العلماء .
قال بعد ذلك شيخ الإسلام رحمه الله (وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ)
يعني مع إقرارهم بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص فإنهم لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي .(2/135)
والمراد بأهل القبلة من ثبت إسلامه ، فأهل القبلة اسم يطلق على أهل التوحيد ، وليس المراد به من صلى إلى القبلة وكان مشركا أو كان مرتكبا لشيء كفري بل المراد بأهل القبلة هم أهل التوحيد.
وقد جاء هذا في حديث صحيح (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فهو المسلم) واستقبال القبلة أُخِذَ منه أهل القبلة ، وقد جاء هذا التنصيص لفظ (أهل القبلة) في بعض الأحاديث التي في إسنادها مقال
(هُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ) يعني من ثبت له الإسلام .
وقوله (لا يُكَفِّرُونَ) يعني لا يخرجونه من الإيمان ، لأن الكفر والإيمان شيئان متضادان إذا ثبت اسم الإيمان طُرِدَ الكفر وإذا ثبت اسم الكفر طُرِدَ الإيمان ، فوجود أحدهما دال على انتفاء الآخر ، هما ضدان ، إذا وجد الإيمان إذا كان مؤمنا فإنه ليس بكافر وإذا كان كافرا فإنه ليس بمؤمن .
ولهذا (لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ) يعني أهل التوحيد بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي ، فالإيمان عند أهل السنة قول وعمل واعتقاد وبالتالي لا يكون التكفير بترك بعض العمل إذا فعل المعصية أو الكبيرة فإنه لم يترك العمل كله وما ارتكب ما يقدح في أصل العمل فلهذا لا يَخْرُجُ من الدين لا يَخْرُجُ من الإيمان .
قال (بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي) المقصود بقوله مطلق المعاصي يعني وجود المعصية .
واستعمال شيخ الإسلام في هذا الفصل استعمل بعض اصطلاحات الأصوليين وهذا الاصطلاح هو التفريق بين مطلق الشيء والشيء المطلق .
فقال هنا (مُطْلَقِ الْمَعَاصِي) فَفَرْقٌ بين المعاصي المطلقة أو المعصية المطلقة وبين مطلق المعصية .
فقوله (مُطْلَقِ الْمَعَاصِي) يعني أصل المعصية ، وجود المعصية .
فمطلق الشيء وجود أدنى درجاته .
والشيء المطلق وجود كل درجاته أو وجود كماله .
فقوله (لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ) يعني بوجود بعض المعاصي والكبائر (كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ)(2/136)
لم لا يكفرون ؟
لأنه إذا ثبت له اسم الإيمان بحصول القول والعمل والاعتقاد فإنه لا يخرج عنه بانتفاء بعض أجزائه.
يعني العمل ركن فلو انتفى بعض العمل لا يكفرونه ، القول ركن إذا انتفى بعض القول الذي ليس هو شرط في الدخول في الإيمان فإنهم لا يكفرونه ، إذا انتفى بعض الاعتقاد فإنهم لا يكفرونه يعني بمطلق وجود هذا الشيء حتى يوجد اعتقاد خاص يضاد أصل ذلك الاعتقاد ، حتى يوجد عمل خاص يضاد أصل الاعتقاد أو العمل ، حتى يوجد قول خاص يضاد أصل القول .
فإذا ثبت اسم الإيمان بيقين فإن أهل السنة لا يُخْرِجُون أحدا ثبت له اسم الإيمان باليقين إلا بشيء يقيني بمثل الذي أدخله في الإيمان .
فهو ثبت له اسم الإسلام والإيمان فلا يخرجونه عنه بشيء لا ينقض أصل الإيمان .
ولهذا أهل السنة فيما صنفوا في كتب الفقه يجعلون أن الردة تحصل بقول وعمل واعتقاد .
المرجئة الذين منهم الأشاعرة يجعلون الإيمان هو الاعتقاد والقول ، فلهذا يجعلون الكفر هو مضادة الاعتقاد الذي هو إما الاعتقاد أو التكذيب وحده .
ولهذا تجد أن الذين يعرفون الكفر من أهل السنة لهم فيه تعريف ، والذين يعرفون الكفر من الأشاعرة لهم فيه تعريف .
مِثِلْ مثلا الرازي يعرف الكفر بالتكذيب ، الغزالي يعرف الكفر بالتكذيب ، لماذا ؟
لأن أصل الإيمان عندهم هو الاعتقاد لأنهم أشاعرة والأشاعرة مرجئة .
إذن قول شيخ الإسلام هنا (وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي) هذا بالنظر إلى أحد أركان الإيمان وهو العمل وذلك لأن أول شيء وقع في هذه الأمة هو إخراج المسلم من إسلامه بعمل ، وهذا الذي حصل من الخوارج فإنهم قالوا إن من ارتكب الكبيرة فإنه كافر خارج من الإيمان والإسلام فكفروا كثيراً من الصحابة والتابعين والعلماء بذلك نسأل الله العافية والسلامة.
......
المرجئة درجات يأتيتنا تفصيل الكلام عليهم .(2/137)
قوله (بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ) الكبائر جمع كبيرة والكبائر لفظ استعمل في القرآن ، قال جل وعلا { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وفي السنة أيضا جاء استعمال لفظ الكبائر .
فبيقين أن الذنوب منها كبائر ومنها صغائر .
والكبيرة ضابطها هي [ ما كان فيه حد في الدنيا أو وعيد بالنار في الآخرة ] هذا في الإجمال .
حد في الدنيا والمقصود بالحد هنا الحد في اصطلاح الفقهاء ليس الحد في الاستعمال الشرعي لأنه يُستَعْمَل في النصوص لفظ الحد وقد يدخل فيه التعزير ، فالمقصود هنا بالحد الحد عند الفقهاء ، أو وعيد في الآخرة ، وزاد شيخ الإسلام ابن تيمية على ذلك [أو جاء نفي الإيمان أو اللعن أو الغضب] إذا اقترن بالمعصية نفي لإيمان من فعلها أو لعنة من فعلها أو الغضب على من فعلها .
وهذا نظمه الناظم بقوله :
فما كان فيه حد في الدُّنا أو توعد ... بأخرى فسِمْ كبرى على نص أحمدِ
وزاد حفيد المجد أو جا وعيده ... بنفي لإيمان ولعن لمبعدِ
فإذن الكبيرة هي ما كان فيه حد في الدنيا أو وعيد بالنار في الآخرة أو اقترنت بنفي لإيمان (لا يؤمن) أو اقترنت بغضب أو لعنة . هذه الكبائر ، فإذا فعل شيئا يصدق عليه هذه فإنه عند أهل السنة لا يخرج من الإيمان ، وعند الخوارج يخرج من الإيمان ويكون كافرا .
أما الصغائر فهي ما كان دون الكبائر يعني (ما حُرِّمَ ولم يلحقه ذلك الوعيد) حُرِّمْ : معصية جاء النهي عنها وكان النهي فيها للتحريم ولم يأت فيها الوعيد ذاك الذي نُصَ عليه في ضابط الكبائر .
من أهل العلم من قال الكبيرة والصغيرة لا تنضبط بهذه الأوصاف وإنما ما عَظُمَت مفسدته في الشرع فإنه كبيرة وما خفَّتْ مفسدته فإنه صغيرة ، وهذا ليس بجيد والأول أظهر .
وكم عدد الكبائر ؟
هي إلى السبعين أو إلى السبع مائة أقرب ، هي كثيرة .
وقد قال بعض السلف (لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار) .(2/138)
وقال بعض أهل العلم إن الصغيرة قد يقترن بها من الاستخفاف وعدم الخوف وعدم المبالاة ما يلحقها بالكبائر ، وقد يقترن بالكبيرة حين يفعلها صاحب الكبيرة من الوجل والخوف وتعظيم نهي الله جل وعلا ما يجعلها ملحقة بالصغائر ، فإذن هذا يدل على أن الصغيرة قد تُلْحَقْ بالكبيرة والكبيرة قد تُلْحَقْ بالصغيرة لكن ذاك من جهة الضابط العام .
(كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارَجُ)لأن الخوارج ابتدعوا هذه المسألة وهي أن فاعل الكبيرة كافر خارج من الملة فيطلقون عليه اسم الكافر في الدنيا ، وفي الآخرة هو مع الكفار مخلد في النار لا تنفعه شفاعة ولا يخرج من النار بشفاعة أحد ، مع الكفار ، مثله مثل الكفار .
وأما المعتزلة فإنهم شابهوا الخوارج في الآخرة ، قالوا في الآخرة نعم هو من أهل النار خالدا مخلدا في النار لكنه في الدنيا لا يطلق عليه اسم الإيمان ولا اسم الكفر بل هو في منزلة بين المنزلتين ليس بمؤمن ولا بكافر ، في شيء بينهما .
ما هذا الشيء الذي بينهما ؟
ليس له اسم ، اسمه المنزلة بين المنزلتين وهذا أحد أصولهم الخمسة .
قرر شيخ الإسلام بعد ذلك الأدلة على أن قول الخوارج باطل وعلى أن قول أهل السنة حق قال :
(بَلِ الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } ) وهذا في القتل (وَقَالَ: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } )(2/139)
فسماهم مؤمنين مع وجود الاقتتال ، والقتال كبيرة من الكبائر ، ولهذا أهل العلم يستدلون بهذه الآية على إبطال قول الخوارج لأن الله جل وعلا سماهم مؤمنين مع وجود هذه الكبيرة منهم وهي الاقتتال ، مع وجود كبيرة قتل المسلم ، قال { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } وقال بعد ذلك { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } فسمَّاهم مؤمنين مع وجود الاقتتال وسماهم إخوة مع وجود الاقتتال .
والأخوة لفظ يدل على الاقتران (هذا أخ لهذا) يعني مشترك ومقترن به في وصف :
" قد تكون أخوة قبيلة كما قال { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } .
" وقد تكون أخوة أب بعيد .
" وقد تكون أخوة أب قريب فيقال (هذا أخ لفلان) يعني هو والثاني يشتركان في أب واحد.
" وقد تكون في صفة ، صفة صالحة أو صفة سيئة .
من صفات الصلاح الإيمان قال { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } لأنهم اشتركوا فيه ، فدل على أن هذا الاشتراك في اسم الإيمان بقي مع وجود القتال ، مع وجود أن هذا يقتل هذا وذاك يقتل ذاك .
وفي الكفر قال جل وعلا { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } .
إذن دل على أن لفظ الأخوة هو للاشتراك في الصفة ، فهذا وذاك اشتركا في صفة الاقتتال ومع ذلك اشتركا في صفة الإيمان فلم يسلب الإيمان بوجود القتال ، قال بعد ذلك يعني بعد هذين الدليلين :
(وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمَ الإيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ )
والفاسق هو من حصل منه الفسق ، لأن الفاسق اسم فاعل الفسق .
والفسق في اللغة الخروج عن الشيء ، يقال (فسقت المرأة) إذا خرجت عن طاعة زوجها (فسق النوى عن الرطب) إذا خرج عنه (فسقت النخلة) إذا خرجت وهكذا ، خرجت عن أصلها .
في الشرع أطلق اسم الفاسق على من خرج عن الطاعة .
أي طاعة ؟(2/140)
طاعة الأوامر والنواهي .
هل كل الأوامر والنواهي ؟
لا ، ولكن الأوامر التي تَرْكُهَا كبيرة ، والنواهي التي فعلها كبيرة .
فالفاسق هو صاحب الكبيرة .
إذن قوله (وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ) يعني فاعل الكبيرة .
فإذن الفسوق اسم لفاعل الكبيرة والفاسق هو فاعل الكبيرة .
لاحظ أن من أهل العلم من يجعل الإصرار على الصغائر من الكبائر ، فإذا كان كذلك فيكون المصر على الصغائر عندهم داخل في اسم الفاسق .
هذا الفاسق (الْمِلِّيَّ) المنتسب للملة الذي بقي عليه اسم الإسلام مهما كثر فسوقه وكثرت كبائره فإنه عندهم لا يسلب عنه الإسلام بالكلية ، قال شيخ الإسلام هنا :
(وَلاَ يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ الإسْلامْ)
(لاَ يَسْلُبُونَ) يعني أهل السنة .
(الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ) يعني مرتكب الكبيرة المنتسب للملة ، لا يسلبون عنه الإسلام بِالْكُلِّيَّةِ .
(وَلاَ يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّار؛ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ ، بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق)
الفاسق بقي عليه اسم الإسلام وبقي عليه اسم الإيمان وقد قال عليه الصلاة والسلام (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) والزنا والسرقة من الكبائر ، فحين فعل هذه الكبيرة ليس بمؤمن معناه أنه يبقى عليه اسم الإسلام وحين ينتهي عن هذه الكبيرة يرجع إليه اسم الإيمان .
وقد جاء هذا في حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده أنه قال عليه الصلاة والسلام (الزاني إذا زنى ارتفع عنه الإيمان فبقي عليه كالظلة فإذا ترك عاوده) وهذا يدل على أن اسم الإسلام يبقى على فاعل الكبيرة وعلى من حصل منه الفسوق .
قال (بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ }(2/141)
{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } الرقبة المؤمنة هي التي حصل لها اسم الإيمان والإسلام بالإجماع .
والرقبة التي - يعني العبد - الذي أسلم ، المسلم يجوز أن يكون في كفارة في هذه الكفارة بالإجماع ولو كان فاسقا .
فقوله { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } هنا أطلق الإيمان ولم يقيده بقيد يعني قيد الكمال أو قيد أصله فدل على أن الإيمان هنا مُطلقٌ من القيد .
هنا في إشكال في هذا المقام إشكال معروف في كلام شيخ الإسلام وهو أنه قال هنا (يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق) .
وقد قررنا لكم آنفا أن الإيمان المطلق هو الكامل ، أليس كذلك ؟
وأن مطلق الإيمان هو أصله فكيف يستقيم هذا مع كلام شيخ الإسلام هنا ؟
وقد قال بعد ذلك شيخ الإسلام في آخر الفصل (فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ) وهنا قال (بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق) فهل بين هذا وذاك تعارض ؟
الجواب أنه لم يُرِد بقوله (اسْمِ الإيمَان المطلق) ذاك الاصطلاح الذي ذكرنا والذي استعمله في آخر كلامه في الفصل ، وإنما أراد بقوله (اسْمِ الإيمَان المطلق) يعني اسم الإيمان الذي لم يُقَيَّدْ حين إطلاقه في هذا المقام .
(يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق) يعني في اسم الإيمان الذي لم يُقَيَّدْ ولا يقصد به (اسْمِ الإيمَان المطلق) يعني اسم الإيمان الكامل ، ولهذا قال (كَمَا فِي قَوْلِهِ: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } ) وهنا لم تقيد بقيود.
قال بعدها (وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ) يعني الذي لم يقيد (كَمَا فِي قَوْلِهِ { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } ) هنا ما قُيِّدَ بالكمال ، فهنا لا يدخل في اسم الإيمان المطلق .(2/142)
فإذن استعماله في هذا الموضع للإيمان المطلق قوله إن (الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق) (وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ) لا يعني بالإيمان المطلق الإيمان الكامل كما عرَّفنا سابقا لكم وكما سيأتي في آخر كلامه إنما يعني به الإيمان الذي لم يقيَّد بقيد في النص كما قال { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فلم يقيد الإيمان هنا بصفات (وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ) كما في قوله تعالى ( { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا } ) فهنا لم يُقَيِّدْ أن هؤلاء هم المؤمنون كاملوا الإيمان لذلك لا يدخل في اسم الإيمان المطلق يعني الذي لم يُقَيَّدْ .
ذكر دليل الزيادة والنقصان ودليل أن فاعل الكبيرة لا يخرج من اسم الإيمان قال :
(وَقَوْلُهُ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ : "لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرِبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ") - هذه واضحة - وَلاَ يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ")
(يَنْتَهِبُ نَهْبَةً) يعني يأخذ شيئا جهرا قهرا ، يعني أمام الناس بالقهر ، يعني غصب يقهر عليه مالِكَهُ فينتهب هذه النهبة والناس ينظرون إليه هذا ليس من فعل المؤمن لأن المؤمن حيي يستحي فلا يفعل ذلك علانية فإذا فعل ذلك علانية دل ذلك على استخفافه بها فهو مرتفع عنه اسم الإيمان حين ينتهبها .
فالنهبة ضابطها أن تكون جهراً قهراً كما قال الحافظ رحمه الله في شرحه للحديث في فتح الباري .
قال (ونقول: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ)
يعني أن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن لكن ناقص الإيمان .(2/143)
(أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ)
قولهم (مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ) يعني الإيمان الذي ثبت له بدخوله في الإسلام وذلك أن الإسلام لا يصح إلا بالإيمان .
لا يصح الإسلام إلا بقدر من الإيمان بمطلق من الإيمان يُصَحِّحْ الإسلام .
فلا يُتَصَوَّر مسلم ليس بمؤمن البتة بل كل مسلم معه قدر من الإيمان يصح به إسلامه كما أن كل مؤمن لا بد له من قدر من الإسلام يُصَحِّحْ به إيمانه .
فالإسلام والإيمان متلازمان لكن حين نقول الإسلام والإيمان نعني بالإسلام الأعمال الظاهرة وبالإيمان الاعتقادات الباطنة كما جاء في المسند من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (الإيمان في القلب والإسلام علانية)
هذا إذا اجتمعا .
إذا اجتمعا يكون الإسلام للأعمال الظاهرة والإيمان للأعمال الباطنة يعني أعمال القلب .
انتهى الشريط الثاني و العشرون من شرح العقيدة الواسطية
للشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى
الشريط الثالث و العشرون
قال (ونقول: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ)
يعني أن مرتكب الكبيرة عند أهل السنة مؤمن لكن ناقص الإيمان .
(أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ)
قولهم (مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ) يعني الإيمان الذي ثبت له بدخوله في الإسلام .(2/144)
وذلك أن الإسلام لا يصح إلا بالإيمان ، لا يصح الإسلام إلا بقدر من الإيمان بمطلق من الإيمان يُصَحِح الإسلام ، نفلا يُتَصَوَّر مسلم ليس بمؤمن البتة بل كل مسلم معه قدر من الإيمان يصح به إسلامه كما أن كل مؤمن لا بد له من قدر من الإسلام يصحح به إيمانه ، فالإسلام والإيمان متلازمان لكن حين نقول الإسلام والإيمان نعني بالإسلام الأعمال الظاهرة وبالإيمان الاعتقادات الباطنة كما جاء في المسند من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قال (الإيمان في القلب والإسلام علانية) هذا إذا اجتمعا ، إذا اجتمعا يكون الإسلام للأعمال الظاهرة والإيمان للأعمال الباطنة - يعني أعمال القلب - ولهذا نقول مؤمن بايمانه فاسق بكبيرته .
الكبيرة تجعله فاسقا وقد يكون خرج من اسم الايمان إلى اسم الإسلام .
وفاعل الكبيرة على قسمين :
" منهم من يفعلها ويبقى معه اسم الايمان ، يعني يقال هو مؤمن بعد تخلصه من الكبيرة ، يعني بعد فراغه من الكبيرة ، بعد تركه لها يقال هو مؤمن ، وحين المزاولة لا يقال هو مؤمن ، هذا حال .
" والحال الثانية : أنه يفعل الكبيرة ويُسلَب عنه اسم الايمان أصلا ويقال هو مسلم .
وثَمَ بينهما فروق ، ومن الفروق التي ذكرها شيخ الإسلام وغيره :
- أن من فعل الكبيرة ولم يكن ذلك ديدنا له (فعلها هكذا غلبته نفسه ، غلبته شهوته فسرق ، غلبته نفسه وشهوته فزنى) فهذا يبقى عليه اسم الايمان إذا ترك ذلك الفعل .(2/145)
وأما من اجترأ على ذلك وصار ديدنا له ، مدمن للزنا ، مدمن للخمر ، مدمن للسرقة ، مدمن للنهب ، فإن هذا لا يطلق عليه اسم الايمان بل يقال هو مسلم ، قال جل وعلا { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } هذا في حق من أسلم جديدا فإنه دخل في قلبه اسم الاسلام وصار اسم الاسلام منطبقا عليه ، دخل في قلبه الاسلام وعمل بالاسلام لكن لم ينتقل إلى مرتبة الايمان .
وكذلك من فعل الكبائر واجترأ عليها وصار مدمنا عليها مستخفا ، فإن هذا يطلق عليه اسم الاسلام ويسلب اسم الايمان فلا يقال فلان مؤمن .
فإذن قول شيخ الاسلام هنا (مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ) هذا على اختلاف الأحوال .
و(فَاسِقٌ) : الفسق له جهتان :
" الجهة الأولى : جهة اعتقاد .
" والجهة الثانية جهة عمل .
فمن الفساق من هم صالحون عُبَّاد من جهة العمل لكن من جهة الاعتقاد فَسَقَة .
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله الفسق فسقان ، فسق اعتقاد وفسق عمل :
- أما فسق الاعتقاد فهو اعتقاد البدع كاعتقادات المعتزلة والخوارج والمرجئة ونحو ذلك .
- وفسق عمل بفعل هذه الكبائر .
فإذن المبتدع فاسق ، ومرتكب الكبيرة فاسق أيضا ، فهؤلاء لا يسلب عنهم اسم الايمان أو الاسلام ، ولهذا نقول مثلا الأشاعرة مسلمون مؤمنون ، لا يُسلب عنهم ببدعتهم ، بفسقهم ، بهذه البدعة ، بدعة الاعتقاد اسم الايمان والاسلام ، وهكذا من فعل المعاصي من جهة الشهوة .
قال : (فَلاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ)
هذا الذي قدمنا الكلام عليه :
قال (لاَ يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ) يعني اسم الاسلام الكامل أو اسم الايمان الكامل .(2/146)
(وَلاَ يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ) يعني لا يسلب مطلق الايمان ولا مطلق الاسلام ، بل نقول معه أصلٌ من الاسلام وأصلٌ من الايمان صَحَّ به اسلامه وايمانه ، لكن ليس بكامل الايمان وليس بكامل الاسلام .
هل الاسلام يزيد وينقص ؟
قال شيخ الاسلام وغيره ، نعم الاسلام يزيد وينقص ، مثل الايمان لكن العبارة ليست بمشهورة لأنه حين يقال الايمان يزيد وينقص فإنه يدخل في الايمان فروع الاسلام كما قال عليه الصلاة والسلام (الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله) وهي من الإسلام .
فالاسلام في الحقيقة يزيد وينقص ، الاسلام الذي هو الاستسلام لله ، لكن أهل السنة لا يستعملون هذه العبارة : الاسلام يزيد وينقص ، بل يقولون الايمان يزيد وينقص ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، ويدخل في الايمان هنا الاسلام .
إذا تقرر ذلك ، هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة ، وبيان موقف الخوارج والمعتزلة من الكبائر .
نرجع إلى تلخيص الكلام في هذه المسألة وذلك بأن نقول :
إن الايمان جَمَعَ ثلاثة أشياء مهمة : القول والاعتقاد والعمل ، وأنه يزيد وينقص .
في كل واحدة من هذه الثلاث القول والعمل والاعتقاد خالَفَ فيها من خالَفَ .
فمن الناس ، من الطوائف المنتسبة إلى القبلة :
" من خالفوا في العمل ، فقالوا (الايمان قول واعتقاد) وهؤلاء الذين يُسَمَّونْ المرجئة ، أرجؤوا العمل عن مسمى الايمان ، فقالوا الايمان قول واعتقاد وأما العمل فليس من مُسَمَّى الايمان وإنما هو لازم له - يعني لابد أنه يعمل لكن لو لم يعمل ما خرج عن اسم الايمان - فجعلوا العمل مرجَأً عن اسم الايمان ، فقالوا الايمان قول واعتقاد فقط وهؤلاء هم مرجئة الفقهاء .
ومن الطوائف التي تدخل في ذلك الماتوريدية والأشاعرة : هم يقولون إن الايمان قول واعتقاد إذا قال لا إله إلا الله محمد رسول الله واعتقد الاعتقاد الصحيح يعني أركان الايمان فإنه مؤمن ولو لم يعمل خيرا قط .(2/147)
فقالوا العمل ليس داخلا في المسمى ، هو خارج عنه ، فهذه أول مخالفة .
هؤلاء يجعلون الكفر هو منافاة القول والاعتقاد ، لا يجعلون الكفر راجعا إلى العمل (يعني نقض الايمان ، نقض ذلك العقد بنقض القول أو بنقض الاعتقاد) .
فالعمل لمَّا لم يكن من مُسَمَّى الايمان فإنه لا يتصور أن يُنْقَضَ الايمان بعمل ، لم ؟
لأنه ليس داخلا عندهم في مسماه فليس ركنا من أركانه فلذلك لو تُرِكَ العمل أو جاء بعمل يقضي على أصل الاستسلام فإنه ليس داخلا في نواقض الايمان ولا رافعات الايمان لأنه غير داخل في الايمان أصلا .
" الطائفة الثانية من المرجئة الذين أرجؤوا الاعتقاد مع العمل جميعا ، قالوا (هو قول فقط) .
وهؤلاء هم الكَرَّامية (طائفة ذهبت ، وإن كان كثير من أهل العلم لا يطلق عليهم اسم الارجاء لكن في الواقع هم أرجؤوا الاعتقاد والعمل) لم ؟
قالوا لأن المنافقين اكْتُفِىَ منهم بالقول مع أن اعتقادهم باطل وعمل أولئك باطل وحصل منهم القول فقط وسماهم أو دخلوا في الخطاب { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ودخلوا بالخطاب بالإسلام فدل ذلك على أنه يُكتفي في الاسلام والايمان بالقول فقط .
" ومن المرجئة وهم الغلاة من قالوا : الايمان (اعتقاد فقط) يعني لا قول ولا عمل ، لا القول يُحتاج إليه ولا العمل يُحتاج إليه ، وإنما هو اعتقاد فقط ، اعتقاد الجَنان ، وهؤلاء هم الجهمية ومن وافقهم
وهؤلاء انقسموا : هل الاعتقاد يكون معرفة فقط ؟ أو اعتقاد بعقد القلب على صحة ذلك الشيء؟
فغلاة الجهمية يقولون بالمعرفة فقط ويتبعهم في ذلك غلاة الصوفية ، يقولون يصح الايمان أو يبقى اسم الايمان بالمعرفة ، فيُطْلَقُ على من عرف أنه مؤمن ، فإبليس على لازم كلامهم مؤمن ، وفرعون على لازم كلامهم مؤمن لأنه أتى بالمعرفة .(2/148)
والذين قالوا إن الايمان هو الاعتقاد لا يُكتفي بالمعرفة فقط ، قالوا إن إبليس عنده معرفة ولم يسمى مؤمنا وفرعون عنده معرفة ولم يسمى مؤمنا فلهذا لا يصح إطلاق المعرفة فقط بل فلا بد من الاعتقاد ، أما القول والعمل فإنهما لازمان للاعتقاد ، فإنه إذا اعتقد اعتقادا جازما فلا بد له أن يقول ولابد له أن يعمل ، فصار القول عندهم والعمل من لوازم الاعتقاد الصحيح ، كما أن المرجئة - يعني مرجئة الفقهاء - قالوا إن العمل من اللوازم ، هؤلاء قالوا حتى القول أيضا من اللوازم لا يدخل في أصل الكلمة ، واستدلوا على ذلك على بأن أصل الايمان في اللغة هو التصديق الجازم ، وقالوا في الشرع لم يُنقَل إلى شيء آخر بل هو التصديق الجازم الذي هو الاعتقاد .
فهؤلاء جميعا خالفوا أهل السنة في هذه المسائل .
من المسائل المتصلة بالايمان أيضا أن الخلاف في الايمان مع المرجئة خلاف جوهري وليس خلافا صُوْرِياً .
ونقول ذلك لأن صاحب الطحاوية والشارح ابن أبي العز رحمهما الله جل وعلا قالوا إن العمل من لوازم الايمان وليس بداخل في أصله ، هذا قاله الطحاوي ، وشارح الطحاوية قال : إن الخلاف مع الذين يجعلون العمل من الايمان خلاف شكلي ، وليس خلافا حقيقيا ، خلاف صوري .
والجواب عن هذا :
" أن الخلاف حقيقي ، وذلك أن الأدلة دلت على أن العمل جزء من الايمان ، على أن العمل ركن من أركان الإيمان ، فإذا أَخرَجَ أحد هذا الركن عن حقيقة الايمان صار مخالفا في فهم الدليل ، وإذا خالف في فهم الدليل وترك فهم أهل السنة والجماعة للدليل فإنه خالف أهل السنة والجماعة في حقيقة تعريف الايمان .
" الثاني : أنه لو تُصُوِّرَ أن أحدا أتى بالقول والاعتقاد ولم يعمل شيئا البتة ، لا صلاة ولا زكاة ، لم يعمل خيرا البتة فهل هذا ينجو أم لا ينجو ؟
عندهم ينجو لأنه مؤمن ، وعند أهل السنة والجماعة هو كافر مخلد في النار .(2/149)
" الثالث : أن نفي دخول العمل في مسمى الايمان قد يلزم منه أن لا يُجْعَل الخروج من الايمان بعمل ، وأهل السنة أخرجوا من الايمان بعمل ، بل إن الحنفية الذين قالوا إن الايمان قول واعتقاد ولم يجعلوا العمل من مسميات الايمان كفَّروا وأخرجوا من الايمان بأشياء يسيرة من العمل :
فجعلوا من قال مسيجد ومصيحف ونحو ذلك ، جعلوا هذا كفرا - هذا من جهة الأقوال - وجعلوا من عمل عملا كُفريا مثل إلقاء المصحف في قاذورة أو السجود لصنم ، جعلوه أيضاً كفرا ، مخرجا من الملة ، الجهة عندهم انهم كفَّروه بالعمل لمناقضته لأصل الاعتقاد .
نقول قد يلزم من جعل عدم العمل من الايمان ، من جعل عدم العمل والخلاف فيه صوريا مع أهل السنة قد يلزم منه الخلاف في التكفير ، وهذا قد حصل فعلا .
ولهذا نقول إن الخلاف الذي ذكره صاحب شرح الطحاوية من انه صوري وليس بحقيقي أن هذا ليس صوابا بل الصواب أن الخلاف حقيقي ولهذا صنف أهل السنة كتب الايمان وجعلوا فيها الأدلة على أن العمل من الايمان .
من أصول أهل الإرجاء أنهم يقولون لا يضر مع الايمان ذنب كما أنه لا تنفع مع الكفر طاعة .
لا يضر مع الإيمان ذنب يعني أن الإيمان شيء واحد يستوي فيه الناس جميعا فايمان أبي بكر وعمر وآحاد المؤمنين واحد ، كله واحد لأنه هو التصديق الجازم .
والتصديق الجازم اعتقاد وهذا لا يقبل المفاضلة ، فالتفاضل جاء بالعمل ، والعمل خارج عن مسمى الايمان عندهم فلهذا قالوا لا يضر مع الايمان ذنب .
فإذا وجدت الذنوب فإن أصل الايمان لا يتغير لأنه عندهم قول واعتقاد .
وهذا يدل على أن الخلاف معهم خلاف حقيقي وليس صوريا ، لأن من لوازم إخراج العمل عن مسمى الايمان أن يُجْعَلَ الذنب غير مؤثر في الايمان .
وفي هذا القدر كفاية .
بعض الأسئلة
....(2/150)
كلها الجملة كلها (وَلاَ يَسْلُبُونَ) اقرأها من أولها ، هذا كله (لاَ يَسْلُبُونَ) مع الجملة التي بعدها هي الكلام على المعتزلة ، الخوارج سبق الكلام عليهم ، والآن الكلام على المعتزلة أنهم يسلبون عن الفاسق الملي اسم الإيمان ويجعلونه ليس بكافر يعني كاسمٍ ولكنه في منزلة بين منزلتين وفي الآخرة يخلدونه في النار ، فقوله (كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ) راجع إلى الجملتين ليس راجعا إلى الجملة الأخيرة ، أنهم يخلدون ويسلبون ، هؤلاء المعتزلة
....
الخوارج يقولون في الدنيا كافر أما المعتزلة يقولون في الدنيا نسلبه اسم الإيمان والإسلام .
طيب كافر ؟
قالوا : لا ، ما نقول هو كافر في الدنيا لكن عندنا في الدنيا نسلبه اسم الإيمان والإيمان ، هل يطلق عليه مسلم ؟
لا .
هل يطلق عليه مؤمن ؟
لا .
ما اسمه ؟
قالوا هذا في منزلة بين المنزلتين ، لكن الخوارج يقولون هو في الدنيا كافر ، في الآخرة اتفقت الخوارج والمعتزلة على أن فاعل الكبيرة الذي مات مصرا عليها أنه مخلد في النار .
......
لكن اللي ذكرنا ووجهناها هي الموجودة في كثير من النسخ ، أنه (يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإيمَان المطلق ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَقَدْ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } ) وهذه العبارة موجودة ولا إشكال فيها لأنه يعني مثل ما ذكرت لكم بالمطلق ما خلا عن القيد .
نسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم وأن يعفو عنا .
الواجب نحو الصحابة
وذكر فضائلهم(2/151)
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ سَلاَمَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [الحشر:10]، وَطَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْفِي قَوْلِهِ: "لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهُ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ". وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَّةُ وَالإِجْمَاعُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ.
وَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ -وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ- وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلَ. وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الأَنْصَارِ.
وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ -وَكَانُوا ثَلاثَ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ-: "اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". وَبِأَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، بَلْ لَقَدْ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِ ماِئَة. وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، كَالْعَشَرَةِ، وَثَابِتِ بْنِ قِيْسِ بنِ شَمَّاسٍ، وَغَيْرِهِم مِنَ الصَّحَابَةِ.(2/152)
وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ. وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانَ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثَارُ، وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانُ فِي الْبَيْعَةِ.
مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُمَا -بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ: وَسَكَتُوا، أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيٍّ، وَقَدَّم قَوْمٌ عَلِيًّا، وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا.
لَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ.
وَإِنْ كَانَتْ هَذِه الْمَسْأَلَةُ -مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ- لَيْسَتْ مِنَ الأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ. لَكِنِ الَّتِي يُضَلَّلُ فِيهَا مَسْأَلَةُ الْخِلاَفَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ. وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلاَفَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلاءِ؛ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ.
وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وَيَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: "أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي".(2/153)
وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّه -وَقَدِ اشْتَكَى إِلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ- فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ؛ للهِ وَلِقَرَابَتِي".
وَقَالَ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ".
وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ؛ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُؤْمِنُونَ بَأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الآخِرَةِ:
خُصُوصًا خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أُمَّ أَكْثَرِ أَوْلاَدِهِ، وَأَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاَضَدَهُ عَلَى أَمْرِه، وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ.
وَالصِّدِّيقَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ".
وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ. وَطَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.
وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِيهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمَنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ: إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ.(2/154)
وَهُم مَّعَ ذَلِكَ لاَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُم مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ -إِنْ صَدَرَ-، حَتَّى إنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُم مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لاَ يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُم مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْأَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ، وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّن بَعْدَهُمْ.
ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ؛ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بَحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَو غُفِرَ لَهُ؛ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ، أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْالَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ، أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاَءٍ فِي الدُّنْيَا كُفِّرَ بِهِ عَنْهُ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ؛ فَكَيْفَ الأُمُورُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ: إنْ أَصَابُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَؤُوا؛ فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَالْخَطَأُ مغْفُورٌ.
ثُمَّ إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْفُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.(2/155)
وَمَن نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خِيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ؛ لاَ كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلُهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله ، أشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد فصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذا الفصل ذكر فيه شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى أصلا من أصول أهل السنة ألا وهو اعتقادهم في الصحابة رضوان الله عليهم ، وما يعقدون عليه قلوبهم وما ينطقونه بألسنتهم في أمر صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
وأصل هذه المسألة أُدخِلَت في العقائد لأجل مخالفة من خالف فيها ، لأن أمر الجماعة قبل أن تتفرق الأمة كان على هذا الاعتقاد ،كان على اعتقاد جميع ما جاء في الكتاب والسنة من الأصول والفروع ، من القواعد والتفريعات لكن ثَمَّ مسائل ظهرت طوائف خالفت فيها .
لهذا أفرد أهل السنة لتلك المسائل التي الجماعة فيها على عقيدة واضحة بينة ، خالفوا فيها عقائد الضالين ، أفردوا لها فصولا وكتبا وبينوا فيها ما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة وما قاله الصحابة فمن بعدهم فيها .
ومن تلك مسألة الصحابة فإن مخالفة الخوارج والروافض وقبلهم الشيعة الغلاة ، إن مخالفتهم في ذلك جعلت تلك الفرق بائنة عن طريقة الجماعة أي طريقة أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.(2/156)
وكما ذكرنا لكم آنفا أن الخلاف في الصحابة كان ظاهرا لما حصلت الفتنة في مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه فإن الناس بعده انقسموا :
- منهم من تولى عليا وغلا فيه .
- ومنهم من تولى عليا وعَدَلَ فيه ، يعني كان فيه على ما جاءت به النصوص والأدلة وهم الصحابة جميعا ومن تبعهم على ذلك .
- ومنهم من جفا عليا وجفا من معه من الصحابة حتى صارت الأقوال هذه ، يعني ما بين غال وجاف ومعتدل ، صارت إلى فرق :
" فالسبئية الشيعة الغلاة غلوا في علي حتى ألَّهوه وكفَّرُوا أكثر الصحابة ، وكانوا يكرهون عامة الصحابة إلا أربعة نفر وكفَّرُوا الأكثرين منهم .
" ثم الخوارج قابلوا أهل السنة ، قابلوا الصحابة بالقتال لما حصلت مسألة التحكيم وتبع ذلك أن قالوا في الصحابة رضوان الله عليهم أنَّ من لم يعتقد اعتقاد الخوارج فإنه كافر مردود ولو كان من أصحاب رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ.
" ثم جاءت النواصب الذين قابلوا أولئك .
" ثم تنوعت الفرق في الصحابة رضوان الله عليهم .
فكان من اعتقد الاعتقاد الحق في الصحابة في ما لهم من المكانة والمنزلة وفي اعتقاد اجتهادهم وفي توليهم وحبهم وسلامة الألسنة وسلامة القلوب في حقهم ، كان من اعتقد ذلك الاعتقاد وبقي على ما كانت عليه الجماعة كان هو صاحب القول الحق وهو الذي عليه الصحابة فمن بعدهم رضوان الله عنهم أجمعين .
إذن سبب ذكر تلك المسألة المُخالَفَة .
وتبع هذا الذكر أن كثيرا من أهل السنة خالفوا أيضا تلك الطوائف في أشياء :(2/157)
يعني أظهروا هذه العقيدة في الصحابة وبينوها وكانت لأهل السنة شعارا وأدخلوها في أشياء من العبادات وفي كلامهم كما فعلوا في إدخال الترضّي عن الصحابة و الترضي عن أمهات المؤمنين والترضي عن جميع الآل في خطبة الجمعة وفي غيرها من الخطب ، فإن إدخال الترضي عن الصحابة وعن زوجات النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ْلم يكن بالأمر الأول ، لم يكن في عهده عليه الصلاة والسلام ولا في عهد أبي بكر وعمر ولا في عهد عثمان ، ثم بعد ذلك الأئمة من التابعين فمن بعدهم أدخلوا هذا الترضي وأدخلوا هذا الشعار لأنه صار شعارا لأهل السنة في مقابلة غيرهم من الروافض والخوارج والنواصب ومن شابه اولئك .
كذلك في مسألة الصلاة على النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، الأصل فيها أن الصلاة عليه ، عليه الصلاة والسلام وعلى آله كما جاء ذلك مبينا في حديث أبي حميد وغيره في الصحيحين وغيرهما فإن النبي صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ علمهم أن تكون الصلاة عليه وعلى آله ، فأدخل أهل السنة إذا ذكروا الصلاة عليه ، عليه الصلاة والسلام ، وأرادوا أن يذكروا الآل ، أدخلوا معهم الصحابة ، فقالوا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ولم يقتصروا على الآل ، وهذا عند أكثر أهل السنة لأجل ألا يشابهوا الرافضة والشيعة في توليهم للآل دون الصحب .
هذا كله تفريع عن هذه المسألة العظيمة .
فهذا الفصل ذكر فيه شيخ الإسلام اعتقاد أهل السنة والجماعة في صحابة رسول الله صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، وهذا ليس من أركان الايمان الستة ولكنه من أصول أهل السنة والجماعة لأنهم خالفوا به أهل الضلال وفرق الضلال التي تفرقت عن الجماعة الأولى والتي قال فيها عليه الصلاة والسلام (كلهم في النار إلا واحدة وهي الجماعة) .(2/158)