اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ [نوح:28] فقد ذكروا أن والديه كانا مسلمين. والنهي عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى، يدل على أنهم لو كانوا مسلمين لانتفعوا بهذا الاستغفار، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر موت عمه أبي طالب وطلب منه أن ينطق بالشهادة فلم يفعل، وكان آخر كلامه أن قال: هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، ومفهومه: أن لهم أن يستغفروا للمسلمين، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فمنعني) يعني بعموم هذه الآية: (ولو كانوا أولي قربى) فهذا يفيد: أنهم ينتفعون بالاستغفار إذا كانوا مؤمنين، ولا ينتفعون به إذا كانوا مشركين، ومعلوم أن الاستغفار دعاء، فإنه إذا قال: رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين، فقد دعا الله لنفسه ولوالديه وللمؤمنين، وهذا الدعاء يفيد وينفع. وقد اشتهر الاستدلال بعموم الآيات مثل قول الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان [الحشر:10] فنحن نقول: ندعو لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان قديماً وحديثاً، فندعو للصحابة وبيننا وبينهم عدة قرون، وللتابعين وللأئمة وللعلماء في كل قرن وفي كل زمان، فإن هذه دعوة آبائنا وأجدادنا ومن خلفنا وإخواننا وأقاربنا وأصحابنا وأصدقائنا من المؤمنين الذين سبقونا بالإيمان، فلا شك أن ذلك ينفعهم. ورد في بعض الكتب أن إنساناً رأى بعض الأموات في منامه فأخبره ذلك الميت بأنه يأتيهم من دعاء الأحياء أمثال الجبال من الهدايا، التي هي دعاء وصدقات وأعمال ونحو ذلك، تنور عليهم قبورهم(3/427)
وتزداد بها حسناتهم، وتحط بها سيئاتهم. والأعمال التي تهدى إليهم كثيرة منها الدعاء، ولا شك في انتفاع المدعو به إذا كان الداعي والمدعو له أهلاً لذلك. ومنها الصدقة: وقد دل عليها الحديث الذي فيه: (إن أمي افتلتت نفسها ولم تتصدق، وأظنها لو تكلمت تصدقت، ألا أتصدق عنها؟ قال: نعم). ومنها الحج: وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أذن للخثعمية أن تحج عن أبيها مع أنه حي ولكنه لا يستطيع الثبوت على الراحلة، وسمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة ، فقال: (أحججت عن نفسك؟ قال: لا، فقال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة)فأفاد بأنه ينتفع إذا حج عنه، ولو كان بعيداً في النسب، ما دام أنه حج عنه وأهدى إليه عمل حجته. وكل ذلك يفيد أن الأموات ينتفعون بإهداء أعمال الحي، وقد تقدم لنا التفصيل في ذلك، وعرفنا القول الصحيح والأدلة عليه. ......
الرد على من زعم أن الدعاء لا فائدة فيه
…(3/428)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة إلى أن الدعاء لا فائدة فيه! قالوا: لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء! وقد يخص بعضهم بذلك خواص العارفين! ويجعل الدعاء علة في مقام الخواص! وهذا من غلطات بعض الشيوخ، فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية، فإن منفعة الدعاء أمر اتفقت عليه تجارب الأمم، حتى إن الفلاسفة تقول: ضجيج الأصوات في هياكل العبادات، بفنون اللغات، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات! وهذا وهم مشركون. وجواب الشبهة بمنع المقدمتين، فإن قولهم عن المشيئة الإلهية: إما أن تقتضيه أو لا، فثمّ قسم ثالث، وهو: أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه، وقد يكون الدعاء من شرطه، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ولا توجبه مع عدمه، وكما توجب الشبع والري عند الأكل والشرب، ولا توجبه مع عدمهما، وحصول الولد بالوطء، والزرع بالبذر، فإذا قدر وقوع المدعو به في الدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب، فقول هؤلاء كما هو مخالف للشرع فهو مخالف للحس والفطرة. ومما ينبغي أن يعلم ما قاله طائفة من العلماء، وهو أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومعنى التوكل والرجاء يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع. وبيان ذلك: أن الالتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه، ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوق ما يستحق هذا؛ لأنه ليس بمستقل، ولا بد له من شركاء وأضداد، مع هذا كله، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر. وقولهم: إن اقتضت المشيئة المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء! قلنا: بل قد تكون إليه حاجة، من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجله، ودفع مضرة أخرى عاجلة وآجلة،(3/429)
وكذلك قولهم: وإن لم تقتضه فلا فائدة فيه، قلنا: بل فيه فوائد عظيمة من جلب منافع ودفع مضار، كما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم، بل ما يعجل للعبد من معرفته بربه وإقراره به، وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم، وإقراره بفقره إليه، واضطراره إليه، وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية، التي هي من أعظم المطالب. فإن قيل: إذا كان عطاء الله معللاً بفعل العبد، كما يعقل من إعطاء المسئول للسائل، كان السائل قد أثر في المسئول حتى أعطاه؟! قلنا: الرب سبحانه هو الذي حرك العبد إلى دعائه، فهذا الخير منه وتمامه عليه، كما قال عمر رضي الله عنه: إني لا أحمل هم الإجابة، وإنما أحمل هم الدعاء، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه، وعلى هذا قوله تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5] فأخبر سبحانه أنه يبتدئ بتدبير الأمر، ثم يصعد إليه الأمر الذي دبره، فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد حركة الدعاء، ويجعلها سبباً للخير الذي يعطيه إياه، كما في العمل والثواب، فهو الذي وفق العبد للتوبة، ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، فما أثر فيه شيء من المخلوقات، بل هو جعل ما يفعله سبباً لما يفعله، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير أحد أئمة التابعين: نظرت في هذا الأمر، فوجدت مبدأه من الله، وتمامه على الله، ووجدت ملاك ذلك الدعاء]. وهذا يتعلق بالدعاء الذي أمر الله به والذي حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم، والذي نهجه علماء الأمة وحثوا عليه ورغبوا فيه، وهو سؤال الله تعالى الحاجات، فعلى العبد أن ينزل حاجاته بربه، وأن يسأله قضاءها، وأن يرغب إليه بأن ييسر كل يسير، وأن يعطيه كل مطلب، وقد تقدمت أدلة تفيد الأمر بالدعاء والحث عليه، مثل قوله تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ(3/430)
الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] من هو الذي يجيبه؟ هو الله. ولما قال الصحابة: (يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه أنزل الله: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]) فهذا خبر من ربنا تعالى أنه قريب وأنه يجيب دعوة من دعاه، وكما أمر بذلك في قوله: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]. وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الدعاء وأخبر بأنه عبادة في قوله: (الدعاء هو العبادة، وقرأ هذه الآية: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60])، وكذلك حث عليه الصلاة والسلام على الإكثار من الدعاء، وروي عنه أنه قال: (إن الله يحب الملحين في الدعاء) والإلحاح: هو تكرار الدعاء والإكثار منه. ......
قد يعطي الله الداعي خيراً مما دعا به فيظن أن دعوته لم تجب
…(3/431)
وإذا قيل: إن الكثير قد يدعون ولا يرون أثراً للإجابة فأين معنى: (ادعوني أستجب لكم )؟ نقول: ورد في بعض الأحاديث: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أجاب الله دعوته، أو ادخرها له في الآخرة، أو دفع عنه من الشر مثلها) فلا يخلو من ثلاث حالات: إما أن تجاب دعوته عاجلاً ويرى أثرها، وإما أن يدفع عنه شر بسبب هذه الدعوة، كما يدفع بالأعمال الصالحة، وإما أن يدخرها الله له في الآخرة فيثيبه عليها كما يثيبه على الأعمال الصالحة، أي: كما يثيبه على الصلاة والصدقات والزكوات والصيام والحج والجهاد.. ونحوها، فكذلك يثيبه على الدعاء. ومعلوم أيضاً أن الدعاء وإن أجيب الداعي وأعطي سؤله في الدنيا فإن الله بكرمه يثيبه في الآخرة، بمعنى: أنه يدفع عنه السوء، أو يعظم له الأجر، أو يجزل له الثواب، وسبب ذلك: أن الإنسان الذي يعلم أن ربه هو الذي يقضي الحاجات، وهو الذي يفرج الكربات، وهو الذي يجيب الدعوات، وهو الذي يقضي حاجات عباده، ثم ينزل حاجته بربه، لا شك أنه -والحال هذه- قد عبد ربه فإنك إذا رفعت يديك تدعو الله تعالى ولم يتعلق قلبك بأي مخلوق، أليس ذلك دليلاً على أنك أردت أنه الذي يقضي حاجتك، وأنه الذي يملكها وحده، وأنه هو الذي يفرج الكروب، وأنه علام الغيوب؟ لا شك أن هذه عبادة قلبية، أليس يستحق الداعي ثواباً على ذلك؟ إذاً: فالدعاء يثاب عليه في الدنيا بأن يجيب الله دعوته، وفي الآخرة بأن يعطيه جزاءً على عبادته ومعرفته. ......
الدعاء سبب من الأسباب التي يجب الأخذ بها
…(3/432)
وقد تقدم اعتراض بعض الفلاسفة ونحوهم على الدعاء، وقولهم: إن الدعاء لا فائدة فيه، وقولهم:إذا كان هذا القدر قد قدر الله أنه يأتي، فسوف يأتي دعوت أو لم أدع، وإذا لم يقدره الله فلن يأتي ولو دعوت ثم دعوت، إذاً: فلا موجب للدعاء. هذه شبهتهم. وبعبارة أخرى إذا قلنا له مثلاً: ادع ربك أن يفرج عنك هذا الكرب، وأن يقضي عنك هذا الدين، وأن يزيل عنك هذا الهم والغم، وأن يوسع عليك في الرزق، وأن يصحك في بدنك، وأن يرزقك ولداً؛ فإنه يقول: إن كان الله قد قدر أنه يرزقني فسوف يرزقني سواء دعوت أم لم أدع، وإذا كان الله لم يكتب لي هذا الرزق فلا فائدة في هذا الدعاء، دعوت أو لم أدع، هكذا يقول أحدهم. ونقول: هذا ليس بصحيح، وذلك لأننا نقول: إن ربنا سبحانه قد قدر لك هذا الأمر، ولكن جعل له سبباً، وجعل له سبباً وهو الدعاء، فكأنه كتب في الأزل أنك تدعو فترزق، ولو لم تدع لم ترزق، فيكون الدعاء سبباً من أسباب هذا الأمر الذي حصل لك. ومعلوم أن الأسباب مرتبطة بمسبباتها، وأن الله سبحانه جعل في هذه الدنيا أسباباً وأمر العباد بمباشرتها، وجعل لتلك الأسباب تأثيراً، وإن كان قد قدر ذلك أزلاً، وكتبه في اللوح المحفوظ، وقد ذكر الشارح الأسباب الحسية، والأسباب الحسية لا ينكرها منكر، في ذلك أن الإنسان لو ترك الأكل وهو ينظر إليه ويجده حتى مات اعتبر قاتلاً لنفسه، لأن الله تعالى جعل هذا الأكل سبباً في بقاء الحياة، وقدر أن الإنسان يأكل من هذا الطعام فيعيش، وأمر بذلك في قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] وكذلك جعل الشراب سبباً في بقاء الحياة، ولو تركه الإنسان وهو قادر على أن يشرب حتى مات ظمأً لعد قاتلاً لنفسه. وكذلك الأسباب الأخرى يشاهد أنها مؤثرة في مسبباتها، فالنكاح والوطء سبب في حصول الولد، فالله تعالى أمر بذلك بقوله فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:3]، وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ(3/433)
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [النور:32]، وذلك لأن النكاح سبب في الولد، فلو أن إنساناً قال: لا أتزوج، وإذا كان الله قد قدر لي أولاداً حصلوا وإن أتزوج، وإن لم يقدر لي أولاداً فلا فائدة في الزواج، نقول: ليس كذلك، فالله إذا قدر لك ولداً فإنه قد جعل سببه في النكاح، فعليك أن هذا السبب حتى يحصل ما قدره، وعليك أن تدعو الله فهو الذي يقدر ذلك. ولو قال إنسان لا حاجة في أن أبذر هذه الأرض، فإن كان الله قدر أنها تنبت ويكون فيها قمح وزرع فذلك سيحصل، سواء زرعتها وسقيتها وحرثتها أو لم أفعل، وإذا قدر أنها لا تنبت فإنه لا يحصل فيها شيء، فلا فائدة في زرعي لها، فهل هذه المقالة صحيحة؟ لا شك بأنها مقالة باطلة؛ وذلك لأن الله تعالى قد أمر بالسبب الذي هو بذر الأرض وزرعها، وهو الذي إذا شاء جعله مثمراً، قال تعالى أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة:63-64]، فأثبت لهم حرثاً ( تحرثون )، وأخبر بأنه هو الذي ينبته ولو شاء لم ينبت، ولهذا قال لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا [الواقعة:65] فهذا بيان أن الأسباب لها فائدة ولو كان ذلك مكتوباً أزلاً. إذاً الدعاء سبب كما أن النكاح سبب، وكما أن البذر سبب والزرع سبب والغرس سبب، وهذا يبين أن هذه الأسباب تؤثر بإذن الله تعالى، فهناك من يعتمد على الأسباب كلها، وقد تقدم أن الاعتماد على الأسباب يعتبر شركاً، يعني أن الاعتقاد بأن السبب هو المؤثر يعتبر شركاً بالله، أي: أنه جعل لغيره تأثيراً ولم يدعه لتقدير الله، فالله تعالى أخبر بأنه هو الذي يخلق الخلق وهو الذي يرزقهم. ......
الاعتماد على الأسباب كفر وتركها قدح في الشرع والعقل
…(3/434)
لو قال إنسان: الإنسان هو الذي يخلق ولده؛ لأنه يصبه في الرحم ثم يتكون ولداً، ولم يجعل الله خالقاً؛ كان هذا كفراً بالله الذي هو مسبب الأسباب، فهذا الحكم الأول، والحكم الثاني: الذين يعرضون عن الأسباب وينفونها ولا يلتفتون إلى الأسباب، لا شك أن هذا محو للأسباب وهو نقص في العقل، إذ لا يليق بالعاقل أن يترك العقل فيقول: إذا قدر الله لي أن أعيش فإني سوف أعيش وإن لم آكل. كذلك أيضاً طلب الرزق، فمن يقول: سينزل علي من السماء طعامي وشرابي وحاجتي، وإن لم أتحرك، فهذا نقص في العقل، وإعراض عن الأسباب، وهو قدح في الشرع. فالحاصل أن الاعتماد على الأسباب يعتبر شركاً وقدحاً في التوحيد، ومحوها نقص في العقل، ومحو تأثيرها قدح في الشرع، وعلى كل حال فهذا الدعاء قد أمر الله به وحث عليه ورغب فيه، وأخبر بأنه يحب الذين يدعونه، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، ففيه حث على أن الإنسان يدعو الله حتى يحصل على رضاه، وأن بعض السلف كان يقول: سلوا الله حاجاتكم كلها حتى ملح للطعام، وإن كان ذلك يستدعي أن الإنسان يفعل السبب مع عدم اعتماده عليها، ومن جملتها أن يدعو الله تعالى، والدعاء يحصل بخيري الدنيا والآخرة، فيدعو بأمور الدنيا ويدعو بأمور الآخرة، ويعلم أنها بيد الله، وأنه سبحانه هو الذي يعطي عباده ولا تنفذ خزائنه، مهما أنفق ومهما أعطى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمنيه)، وكما في الحديث القدسي يقول: (قال الله تعالى: يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، وأشباه ذلك مما ورد في الأحاديث التي فيها الحث على الدعاء والترغيب فيه، وبيان أهميته وفائدته، وبيان أن قول(3/435)
الذين قالوا إنه لا فائدة فيه، قول باطل، بمقدمتين: المقدمة الأولى قولهم: إذا كان الله قدره فسوف يأتي، نقول: نعم قدره ولكن جعل له سبباً، والمقدمة الثانية قولهم: إذا لم يقدر فلا فائدة في الدعاء، كيف يدعو بشيء قد قدر الله أنه لا يحصل، نقول: بل له فائدة، ولو لم يكن فيه إلا تضرع العبد لربه، وإظهاره الافتقار إليه، والرغبة فيما عنده، لكان ذلك كافياً وإن لم تحصل له طلبته. ......
الواقع يشهد بفائدة الدعاء
…
والواقع يشهد بفائدة الدعاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل مرة وهو على المنبر أن يدعو الله تعالى بالغيث، رفع يديه وقال: (اللهم أغثنا) مرتين أو ثلاثاً فاستجاب الله دعاءه فنزل المطر في ذلك اليوم، واستمر نزوله أسبوعاً، وفي الجمعة الثانية دعا بقوله: (اللهم حوالينا ولا علينا)، فانفرجت السماء وصارت كالإكليل استجابة لدعوته، فدل على أنه يؤثر بالدعاء، سيما إذا كان مستجاب الدعوة وهو الذي تتم فيه الصفات التي يكون بها أهلاً لأن تجاب دعوته، فيأتي بشروط إجابة الدعوة، فإن للدعاء شروطاً مذكورة في الكتب المطولة، وقد جمع العلماء ما وصلهم أو ما صح عندهم من الأدعية، ففي صحيح البخاري كتاب اسمه: كتاب الدعوات أورد فيه كثيراً من الأدعية المرفوعة، سواءً كانت تتعلق بأمور الدنيا أو بأمور الآخرة، مثل: سؤال الجنة والنجاة من النار، وسؤال الخير ومحو الشر وأشباه ذلك, والتحفظ مثل: الاستعاذة من الشرور ونحوها. كذلك في صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء جمع فيه أدعية كثيرة، وأفردت الأدعية أيضاً بكتب من أوسعها كتاب الدعاء للبيهقي مطبوع في ثلاثة مجلدات، وإن كانت فيه مقدمة طويلة وفهارس ,لكن فيه أدعية كثيرة، واهتم بذلك العلماء متقدمهم ومتأخرهم، وكل أفرد ما يسر الله أن يطلع عليه وما عَنّ له من الأدعية، ولا شك أن ذلك دليل على إجابة الدعاء. ......
بيان السبب في أن الداعي قد لا يعطى شيئاً أو يعطى غير ما سأل
…(3/436)
قال المؤلف رحمه الله: [وهنا سؤال معروف، وهو: أن من الناس من قد يسأل الله فلا يعطى شيئاً، أو يعطى غير ما سأل؟ وقد أجيب عنه بأجوبة، فيها ثلاثة أجوبة محققة: أحدها: أن الآية لم تتضمن عطية السؤال مطلقاً، وإنما تضمنت إجابة الداعي، والداعي أعم من السائل، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له). ففرق بين الداعي والسائل، وبين الإجابة والإعطاء، وهو فرق بين العموم والخصوص، كما أتبع ذلك بالمستغفر وهو نوع من السائل، فذكر العام ثم الخاص ثم الأخص، وإذا علم العباد أنه قريب يجيب دعوة الداعي علموا قربه منهم وتمكنهم من سؤاله، وعلموا علمه ورحمته وقدرته، فدعوه دعاء العبادة في حال، ودعاء المسألة في حال، وجمعوا بينهما في حال، إذ الدعاء اسم يجمع العبادة والاستعانة، وقد فسر قوله وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر:60] بالدعاء الذي هو العبادة، والدعاء الذي هو الطلب، وقوله بعد ذلك: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر:60] يؤكد المعنى الأول. الجواب الثاني: أن إجابة دعاء السؤال أعم من إعطاء عين السؤال، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله إذاً نكثر، قال: الله أكثر)، وقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا بد في الدعوة الخالية من العدوان من عطاء السؤال معجلاً، أو مثله من الخير مؤجلاً، أو يصرف عنه من السوء مثله. الجواب الثالث: أن الدعاء سبب مقتض لنيل المطلوب، والسبب له شروط وموانع، فإذا حصلت(3/437)
شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب، وإلا فلا يحصل ذلك المطلوب، بل قد يحصل غيره، وهكذا سائر الكلمات الطيبات من الأذكار المأثورة، المعلق عليها جلب منافع أو دفع مضار، فإن الكلمات بمنزلة الآلة في يد الفاعل، تختلف باختلاف قوته وما يعينها، وقد يعارضها مانع من الموانع، ونصوص الوعد والوعيد المتعارضة في الظاهر من هذا الباب، وكثيراً ما تجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكر الحسنة، أو صادف وقت إجابة ونحو ذلك فأجيبت دعوته، فيظن أن السر في ذلك الدعاء، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواءً نافعاً في الوقت الذي ينبغي، فانتفع به، فظن آخر أن استعمال هذا الدواء بمجرده كافٍ في حصول المطلوب، وكان غالطاً، وكذا قد يدعو باضطرار عند القبر فيجاب فيظن أن السر للقبر، ولم يدر أن السر للاضطرار وصدق اللجوء إلى الله تعالى، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله تعالى كان أفضل وأحب إلى الله تعالى. فالأدعية والتعوذات والرقى بمنزلة السلاح، والسلاح بضاربه لا بحده فقط، فمتى كان السلاح سلاحاً تاماً، والساعد ساعداً قوياً، والمحل قابلاً، والمانع مفقوداً، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير، فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء، أو كان ثم مانع من الإجابة لم يحصل الأثر.] هذه الأجوبة قد تقدمت الإشارة إلى بعضها، والسؤال هو: أن بعض الناس يدعو ويكرر الدعاء، ومع ذلك لا يستجاب دعاؤه، والله تعالى يقول ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر:60].؟! وقد يقال: لماذا لا يستجيب وقد وعد بالإجابة؟ وكذلك قوله: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، فكيف لم تحصل الإجابة؟ ومن هذه الأجوبة التي(3/438)
ذكرها الشارح: القول بأن الإجابة أعم من الإعطاء، حيث إن الله: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وقال: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ [البقرة:186]، ولم يقل: أعطيه مطلبه، ولا أعطيه ما سأل، فالإجابة يدخل فيها الثواب، ويدخل فيها التلبية لطلبه أو نحو ذلك، أو السماع، أي أنه سمع دعوته سماع قبول وقبل دعوته، فيكون هناك فرق بين إعطائه سؤله وبين إجابة الدعوة، فالله ذكر إجابة الدعوة ولم يذكر إعطاء المسئول، فلا يكون هناك اعتراض على الآية. وسمعنا الاستشهاد بحديث النزول الذي يقول الله فيه: (من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، ويظهر هنا الفرق بين السؤال والدعاء، ففي السؤال قال: أعطيه، أما في الدعاء فقال: أجيبه، والآية ليس فيها إلا الدعاء: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر:60]، فإذا أجابه بأن سمع دعاءه أو بأن قبل دعاءه صدق عليه أنه أجابه، فيقال: أنت ممن قبل الله دعاءك وإن لم يعطك سؤلك. أما الجواب الثاني ففيه: أن الداعي لا يسلم من إحدى ثلاث: الحالة الأولى: أن يعطى سؤله في الدنيا. الحالة الثانية: أن يدخر له في الآخرة. الثالثة: أن يصرف عنه من الشر مثله. فهو رابح بكل حال. أما الجواب الثالث فهو: أن الدعاء قد يتخلف سبب الإجابة فيه؛ وذلك لأن الإجابة لها أسباب وموانع، فمثلاً: كون الإنسان مؤمناً صحيح الاعتقاد هذا يعتبر سبباً من أسباب الإجابة، وكذلك الإلحاح في الدعاء، واستحضار القلب، واجتماع القلب واللسان على الدعاء، وكذلك الاضطرار، بأن يقع المرء في شدة وضرورة فيلجأ إلى ربه صادقاً في دعائه أن يرزقه وأن يستره وأن ينصره، ومن ذلك أن يستعمل المرء أدعية مأثورة، وكذلك تحري أوقات الإجابة وأماكن الإجابة، فإذا اجتمعت فيه الأسباب أعطي سؤله. فلو حصل ذلك لرجل فسمع به رجل آخر وقال: فلان أعطي سؤاله لما دعا بقوله مثلاً: اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له، أو لما قال: اللهم ارزقني رزقاً(3/439)
حسناً ويسر لي اليسرى وجنبني العسرى، وأنا دعوت ولكن لم يستجب لي، فأنا لا أزال في شدة، ولا أزال في جهد. نقول: تخلف فيك سبب من أسباب الإجابة، فلو اجتمعت الأسباب فيك لاستجيب دعاؤك، ولكن العلة أنه تخلف سبب أو وجد مانع، فمثلاً: قد يكون التقصير في شيء من الأعمال مانعاً من الإجابة، وارتكاب شيء من السيئات والمخالفات يكون مانعاً من الإجابة. ثم ما مثل به الشارح رحمه الله بقوله: قد يوجد مثلاً من إنسان دعاء عند قبر ولكنه دعا وهو مضطر، ودعا وهو صادق الرغبة فظن أن إجابته بسبب ذلك القبر، فسمعه الآخرون فقالوا: هذا القبر تستجاب عنده الدعوة، وهذا القبر يجيب من دعاه، وليس كذلك في الحقيقة، بل الأمر إنما حصل إما مصادفة، وإما بأمر سماوي، وإما بحاجة حصلت له، فالحاصل أن الإنسان عليه أن ينظر ويأتي بالأسباب التي تكون مؤثرة ومفيدة في إجابة الدعاء. نحمد الله على ما أولى من النعم، ودفع من النقم، نحمد الله على طول الأعمار والتردد في الآثار، نحمد الله على ظهور فضله ونسأله سبحانه الإعانة على ذكره وشكره وحسن عبادته. ......
…
شرح العقيدة الطحاوية [79]
قد أثنى الله على نفسه بأنه مالك كل شيء، ووصف نفسه سبحانه بصفات ذاتية وصفات فعلية، وقد أنكر الصفات الفعلية كالغضب والرضا كثير من الأشعرية، وأولوها بالإرادة زعماً منهم أن الله منزه عنها لاتصاف المخلوقين بها، ولعلماء السنة أجوبة عليهم واضحة مستندة إلى الكتاب والسنة.
أهمية الدعاء وإنكار بعض طوائف القدرية له
…(3/440)
مما درسناه في مسائل الاعتقاد مسألة الدعاء، وأن ربنا سبحانه أمر أن ندعوه ووعدنا أن يستجيب لنا، قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر:60]، وقال تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وقال تعالى: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف:56]، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55] والآيات في أمر الله عباده بأن يدعوه كثيرة. وقد عرفنا أن الدعاء هو النداء، وأنا إذا قلنا: اللهم اغفر لنا! اللهم أعطنا سؤلنا! فذلك يستدعي نداءً منا لربنا، والمعنى: يا الله! يا ربنا! وهكذا الأدعية التي في القرآن مثل قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] التقدير: يا ربنا! لا تؤاخذنا. وقد ذكرنا أن الدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وأن كلاً منهما يلزم منه الآخر، فدعاء المسألة يستلزم دعاء العبادة، ودعاء العبادة يتضمن دعاء المسألة، ودعاء العبادة يدخل فيه كل العبادات، فمثلاً: الصلوات دعاء عبادة، والأذكار دعاء عبادة، والقراءة دعاء عبادة، والأوراد دعاء عبادة، والصدقات والصلات والبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه ذلك من الأعمال الخيرية، وهكذا ترك المنكرات دعاء عبادة كلها، ولكن هي في الحقيقة تتضمن دعاء المسألة، وذلك أن العابد ربه ما قصد إلا المسألة، فكأنه يقول: أقصد من صلاتي الثواب.. أقصد من صدقتي الثواب.. أقصد من دعائي ومن ذكري ومن قراءتي الحياة الطيبة، أو كأنه يقول: أصلي لك يا ربي! أو أحج لك يا ربي! لتغفر لي ولترزقني ولتصلح أحوالي، إذاً: فهو داع، إلا أنه في حقيقة أمره يقصد الأجر على هذه العبادات. وقد ذكرنا أن الاشتغال بالدعاء والذكر يقوم مقام السؤال؛ لأنه ورد في الحديث القدسي أن الله يقول: (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، ولأجل ذلك وردت أدعية في القرآن لفظها لفظ الدعاء ولكنها ذكر وثناء،(3/441)
مثل قول الله تعالى في سورة آل عمران قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27] هذه الآيات ليس فيها سؤال، إنما فيها مجرد الثناء على الله، ولكن هذا الثناء يستلزم الدعاء. نقول: هذه هي حقيقة الدعاء، وقد ذكرنا أن المسائل التي تلحق بهذا الكتاب غالباً يكون فيها خلاف مع بعض المبتدعة. ......
افتقار الخلق إلى الله وحاجتهم إليه
…(3/442)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: ( ويملك كل شيء ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين. كلام حق ظاهر لا خفاء فيه، والحين بالفتح الهلاك]. قوله: ( ويملك كل شيء ولا يملكه شيء ) كلام ظاهر، بمعنى: أن الله تعالى هو المالك لكل شيء، كما أخبر تعالى بقوله: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْد [التغابن:1]، وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]، ولا شك أن الملك والمالك من أسماء الله، فهو الذي يملك التصرف الكامل، فهو مالك الدنيا ومالك الآخرة، ومالك العباد، ومالك البلاد، ومالك الرقاب، ومذلل الصعاب، هو المالك لكل شيء، ولا يملكه شيء، فهو الخالق وما سواه مخلوقون، والمالك وما سواه مملوكون، فمعنى هذه الجملة: الاعتراف بأن الملك ملكه، وبأن العبيد كلهم وما في أيديهم مملوكون له، وملكهم لما تحت أيديهم وتحت تصرفهم ملك خاص لا يملكون له استقلالاً، وهو أيضاً ملك مؤقت، فإذا قلت مثلاً: هذه الدولة يملكها فلان أو رئيسها فلان، نقول: إن ملكه خاص ومؤقت، وإذا قلت مثلاً: هذه المزرعة ملك فلان أو هذه العمارة ملك فلان، فالمعنى أنه يملكها ملكاً خاصاً وملكاً مؤقتاً، ربما تنتزع منه أو ينتزع منها أو يموت ويتركها، فعرف بذلك أن الملك الحقيقي هو الله تبارك وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1]، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء [يس:83]. وأما كونه سبحانه لا غنى لأحد عنه طرفة عين فقد تقدم معنى ذلك في الجمل المتقدمة والتي ذكر فيها أن العباد بحاجة إلى ربهم، وأنهم مضطرون إلى سؤاله، وهو سبحانه يحب منهم أن يسألوه ويدعوه، ويرغبهم في أن يسألوه ويستعطوه من فضله مع كونهم بحاجة إلى عطائه وهو غني عنهم، يقول الله تعالى يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]،(3/443)
ويقول تعالى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُم [محمد:38]، فوصف نفسه بأنه الغني والعباد فقراء إليه، ورد في الحديث القدسي الصحيح (يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم). فإذاً لا أحد يستغني عن الله طرفة عين، والذين يظهرون أنهم يملكون نعم الله هم في الحقيقة فقراء ولو ذللت لهم الدنيا، ولو سخرت لهم الدنيا حتى انخدع كثير منهم، حتى ذكر لي عن بعض الكفرة الذين كانوا بين المسلمين لما قيل لأحدهم: اعبد الله فإن الله هو الذي رزقك، أنكر ذلك والعياذ بالله وقال: إنما رزقتني يميني. أعوذ بالله من ذلك، يعني: اعتمد على أنه الذي كسب أو لم يكسب، ونسي أن الله حنن عليه أبويه في طفولته، وأنه وكل به من يطعمه ويسقيه ويغذيه في حالة عجزه، حتى اشتد عظمه وقوي هيكله، فنسي فضل الله عليه، واعتقد أنه هو الذي أغنى نفسه، ولو شاء الله لانتقم منهم ولسلبهم ما أعطاهم، فعلى الإنسان أن يعترف أنه فقير إلى الله وأن ربه هو الغني، وأن العباد لا غنى لهم عن ربهم طرفة عين. ......
صفات الله الفعلية كالغضب والرضا
…(3/444)
قال المؤلف: [وقوله: ( والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى ) قال تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم [المائدة:119]، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وقال تعالى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْه [المائدة:60]، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَه [النساء:93]، وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه [البقرة:61] ونظائر ذلك كثيرة. ومذهب السلف وسائر الأمة إثبات صفة الغضب والرضا والعداوة والولاية والحب والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى، كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات، كما أشار إليها الشيخ فيما تقدم بقوله: ( إذا كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين ). وانظر إلى جواب الإمام مالك رضي الله عنه في صفة الاستواء كيف قال: الاستواء معلوم والكيف مجهول. وروي أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً عليها ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال الشيخ رحمه الله فيما تقدم: ( من لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه ) ويأتي في كلامه: ( إن الإسلام بين الغلو والتقصير والتشبيه والتعطيل ) . وقول الشيخ رحمه الله: ( لا كأحد من الورى ) نفى التشبيه ولا يقال: إن الرضا إرادة الإحسان، والغضب إرادة الانتقام، فإن هذا نفي للصفة، وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحب ويرضى، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه، وينهى عما يسخطه ويكرهه ويبغضه ويغضب على فعله، وإن كان قد شاءه وأراده، فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده، ويكره ويسخط ويغضب لما أراده. ويقال لمن تأول الغضب والرضا بإرادة الإحسان: لم تأولت ذلك؟ فلا بد أن يقول: لأن الغضب غليان دم القلب، والرضا الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى! فيقال له:(3/445)
غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب، لا أنه هو الغضب، ويقال له أيضاً: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا، فهي ميل الحي إلى الشيء أو إلى ما يلائمه ويناسبه، فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة، أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده، ومفتقر إليه، ويزداد بوجوده، وينقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذاك، وإن امتنع هذا امتنع ذاك. فإن قال: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهما حقيقة، قيل له: فقل: إن الغضب والرضا الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كان كل منهما حقيقة، فإن كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات لم يتعين التأويل، بل يجب تركه؛ لأنك تسلم من التناقض، وتسلم أيضاً من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام، ولا يكون الموجب للصرف ما دله عليه عقله، إذ العقول مختلفة، فكل يقول: إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر. وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله تعالى لامتناع مسمى ذلك في المخلوق، فإنه لابد أن يثبت شيئاً لله تعالى على خلاف ما يعهده حتى في صفة الوجود، فإن وجود العبد كما يليق به، ووجود الباري تعالى كما يليق به، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم، وما سمى به الرب نفسه وسمى به مخلوقاته، مثل الحي والعليم والقدير، أو سمى به بعض صفاته كالغضب والرضا، وسمى به بعض صفات عباده، فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله تعالى، وأنه حق ثابت موجود، ونعقل أيضاً معاني هذه الأسماء في حق المخلوق، ونعقل أن بين المعنيين قدراً مشتركاً، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركاً، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركاً إلا في الأذهان، ولا يوجد في الخارج إلا معيناً مختصاً،(3/446)
فيثبت في كل منهما كما يليق به، بل لو قيل: غضب مالك خازن النار وغضب غيره من الملائكة، لم يوجب أن يكون مماثلاً لكيفية غضب الآدميين؛ لأن الملائكة ليسوا من الأخلاط الأربعة، حتى تغلي دماء قلوبهم كما يغلي دم قلب الإنسان عند غضبه، فغضب الله أولى]. أما الكلام الذي بعده فيتعلق ببعض الصفات ومنها صفة الغضب والرضا والسخط والحب والبغض ونحوها، وهذه تسمى صفات فعلية، لأنه قد تقدم أن الصفات تنقسم إلى قسمين: صفات ذاتية، وصفات فعلية، فالصفات الذاتية هي الملازمة للموصوف؛ كصفة الكلام والحياة وصفة الوجه واليد والسمع والبصر ونحوها، وأما صفة العلو والنزول وصفة الحب والبغض والكراهية والسخط والغضب والرضا فهذه صفات فعل، أي أن الله يفعلها إذا شاء، وقد تكاثرت الأدلة على إثبات صفات الأفعال في القرآن وكذا في السنة، ومع كثرتها فقد أنكرها الكثير من المبتدعة، فأنكرها المعتزلة وإن كانوا قد أنكروا أيضاً الصفات الذاتية، وأنكر الأشعرية هذه الصفات الفعلية. ولكن أهل السنة لم ينكروها، بل أقروا بها؛ وذلك لأنهم رأوا الأدلة عليها من القرآن والسنة متواترة وواضحة فقول الله تعالى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح:6]، هل ننكر دلالة هذه الآية على صفة الغضب؟ وكذلك قوله: وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا [النور:9]، وكذلك قوله في القاتل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْه [النساء:93]، وكذلك قوله في قوم هود لما أغضبوه: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه [البقرة:61]، ونحو ذلك. وكذلك آيات السخط مثل قوله تعالى: بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّه [آل عمران:162]، وكذلك وردت آيات الرضا كثيراً في القرآن: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه وهكذا أيضاً الأحاديث كحديث الشفاعة إذا جاء أهل الموقف إلى آدم(3/447)
يقولون: (اشفع لنا إلى ربنا، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)، وهكذا يقول نوح وإبراهيم وباقي أولي العزم من الرسل، فيقرون بأن الله تعالى قد غضب اليوم غضباًَ لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله، فلا شك أن هذا دليل على أن الأنبياء والرسل يعترفون لربهم بأنه يتصف بصفة الغضب كما يليق به، وعلى هذا فلابد من إثبات هذه الصفة، ولكن إذا أثبتناها فإنا: أولاً: لا نكيفها، ولا نقول كيفية الغضب كذا وكذا في حق الله. ثانياً: ننزهها عن مشابهة غضب المخلوق، ولهذا يقول الطحاوي رحمه الله: ( لا كأحد من الورى ) أي: لا كغضب أحد من الخلق، إذاً غضب الله يليق به، وغضب المخلوق يليق به. وقد أنكر الأشاعرة هذه الصفة وقالوا: إن الغضب الذي نعرفه هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا الوصف لا يليق بالله، فقال لهم أهل السنة: فبماذا تفسرون الآيات والأحاديث التي فيها إثبات الغضب؟ فقالوا: نفسره في حق الله بأنه إرادة الانتقام، قلنا: كيف صرفتم غضب الله إلى إرادة الله أن ينتقم؟ والأشاعرة إنما صرفوه إلى هذا المعنى لأنهم يعترفون بالإرادة، فيثبتون صفة الإرادة لله، وإذا قلنا لهم: الإرادة هي ميل النفس إلى المراد، قالوا: لا، هذه إرادة المخلوق، قلنا: الغضب الذي هو غليان دم القلب هذا غضب المخلوق أيضاً، فأنتم فررتم من شيء ووقعتم في مثله، فالأولى لكم أن تثبتوا صفة الغضب وتنفوا عنها التشبيه، وتكلون كيفيتها إلى الله تعالى، كما تفعلون ذلك في سائر الصفات؛ وذلك لأن المخلوق قد وصف بكثير من الصفات التي هي من صفات الله، ومع ذلك يوجد فارق بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فإذا أثبتنا صفة السمع والبصر كما أثبتها الله تعالى لنفسه وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134]، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:61]، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة:1]، وكذلك الإنسان، قال تعالى: فَجَعَلْنَاهُ(3/448)
سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2]، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِر [مريم:38]. فالإنسان سميع والله سميع، فهل يلزم التشابه بين سمع الخالق وسمع المخلوق؟ لا يلزم. فاشترك سمع الله وسمع المخلوق في معنى عام وهو التشبيه العام، أي أنه إذا قيل: أليس السمع هو إدراك الأصوات؟ قلنا: نعم، السمع هو إدراك الأصوات، ولكن سمع الله لا يحجبه شيء، فهو يسمع دبيب النملة على الصخرة الصماء، وسمع الله أيضاً لا تختلف عليه الأصوات، ولا تغلطه كثرة المسائل مع اختلاف اللغات والمسئولات، وسمع المخلوق ليس كذلك، فأنت إذا تكلم عندك اثنان في آن واحد اشتبه عليك ما يقول هذا بما يقول هذا، أما الرب تعالى فإنه لا يشغله سمع عن سمع، فيكون الفرق ظاهراً. وكذلك يقال في البصر، فالله تعالى موصوف بالبصر والإنسان موصوف بالبصر، والاشتراك إنما هو في المعنى العام وهو أن يقال: أليس معنى البصر إدراك الأشباح التي تتمثل أمام العينين؟ فنقول: نعم، لكن بصر الله ليس كبصر المخلوق، فالله تعالى موصوف بالبصر ولا يحجبه شيء عن أن يبصر مخلوقاته بعيدهم وقريبهم، أما المخلوق فلا يخرق بصره هذا الجدار أو هذا الحجاب، وإذا كان هذا فارقاً فكذلك نقول في الغضب والرضا، وفي السخط والبغض والكراهية والمحبة نقول: إن بين محبة الله ومحبة المخلوق فرقاً، ولا نقول: إن محبة الله هي ميل النفس إلى المحبوب أو الانعطاف نحو الشخص المحبوب أو نحو ذلك. كذلك مثلاً قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، فارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، رحمة المخلوق معناها عطفه وحنوّه على الضعيف ورقته عليه حتى ينقذه من شدة أو يفرج عنه هماً أو ينصره من مظلمة أو يؤويه أو نحو ذل......
…
شرح العقيدة الطحاوية [80](3/449)
يثبت أهل السنة الصفات الفعلية لله، وينكر ذلك الجهمية والأشاعرة والكلابية، معتمدين على أصل فاسد، وهو أن الله ليس محلاً للحوادث، ولكن الكتاب والسنة على خلاف ما هم عليه، ولا عبرة باللوازم الباطلة.
إنكار طوائف أهل البدع لأسماء الله وصفاته
…
معلوم أن أشد البدع وأكثرها فشواً وانتشاراً بدعة التعطيل التي هي تعطيل الله عن صفات الكمال؛ وذلك لأن الذين روجوها وأدخلوها كأنهم اكتسبوا الناس بالعقول، وأقنعوا من اتصلوا به أو من دعوه إلى أن أدلتهم العقلية، وأن العقل هو الأصل في النقل، وأنهم ما عرفوا صدق الرسل إلا بالعقل، فلا يمكن أن يصدقوا الرسل فيما يخالف العقل أو فيما لا يقره العقل. ومعلوم أن المعطلة يقال لهم الجهمية؛ لأن الجهم بن صفوان هو الذي نشر بدعة التعطيل التي أخذها عن الجعد بن درهم ، والجعد هو الذي قتله خالد القسري في يوم عيد الأضحى وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فقتله، وفي ذلك يقول ابن القيم في النونية: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ قسري يوم ذبائح القربان إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان فكل صاحب سنة شكره على هذه الضحية، فهكذا أسس البدعة الجعد بن درهم ثم تبعه الجهم بن صفوان الذي قتله سلم بن أحوز ، ثم انتشرت هذه البدعة، وصارت عقيدة لطائفة تسموا بالمعتزلة أنكروا صفات الله تعالى، بل أنكروا أسماءه وجعلوها أعلاماً لا تدل على صفات، فقالوا: إن الله عليم بلا علم، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، رحيم بلا رحمة، وهكذا.. وأنكروا أيضاً صفات الأفعال وصفات الذات، فأنكروا علو الله تعالى على خلقه، وأنكروا ما أثبته لنفسه من صفات، حيث أثبت لنفسه الوجه في قوله: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك [الرحمن:27]، وأثبت لنفسه اليدين في قوله: بَلْ يَدَاهُ(3/450)
مَبْسُوطَتَان [المائدة:64]، وأثبت لنفسه العين في قوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر:14]، فجاء المعطلة ونفوا ذلك كله. كذلك نفوا الصفات الفعلية، فنفوا أن الله تعالى يرحم أو يحب أو يغضب أو يرضى، ووافقهم على هذا النفي طائفة متأخرة تسموا بالأشاعرة، انتسبوا إلى أبي الحسن الأشعري ، ولكن الأشعري تبرأ منهم ورجع عن طريقتهم، واعتقد معتقد الإمام أحمد ومن كان على طريقته من أهل السنة، لكن هؤلاء الذين تسموا بالأشاعرة اتخذوا طريقة عن الأشعري كان قد رجع عنها. ومن عقيدتهم أنهم لا يثبتون إلا سبع صفات، وأنهم ينكرون صفات الأفعال، فصفة الغضب يثبتها أهل السنة ويقولون: إن الله يغضب لا كغضب المخلوق، ويرضى لا كرضا المخلوق، ويحب لا كمحبة المخلوق، ويسخط ويكره، كما أخبر عن نفسه في عدد من الآيات، ويبغض من يشاء كما يحب من يشاء، ويرحم من يشاء. ولا شك أن هذه صفات كمال، ولو كانوا يتوهمون أنها مستحيلة فنحن نقول: نثبت أن الله تعالى يحب من يشاء، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِه [الصف:4]، ونثبت أن الله يرضى، كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه [المائدة:119]، ونثبت أنه يغضب، كما قال تعالى وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُم [الفتح:6]، ونثبت أن الله يكره، كما قال تعالى: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُم [التوبة:46]، وهكذا.. فهذه كلها تسمى صفات فعلية، ولكن ننزه الله أن تكون هذه الصفات كصفات المخلوقين، بل صفات المخلوق تناسبه وصفات الخالق تناسبه، ولا نفسرها تفسيراً أكثر من إثباتها وأنها حقيقة، فالذين نفوها قالوا: إنها لا يتصف بها إلا المخلوق، وإنه يلزم من إثباتها تشبيه الله بالمخلوق، وإن الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وأن المحبة هي ميل النفس إلى المحبوب، وأن الرحمة رقة تكون في الراحم، وأن هذا لا يليق أن يكون في الخالق، وما أشبه ذلك، ولكن(3/451)
عمدتهم أن العقل يستبعدها، أي أنه لا يمكن أن يتصف بها الخالق عقلاً، فقدموا العقل على النقل، واعتمدوه دليلاً. فيقال لهم: ما دمتم قد اعترفتم بأن الرسل صادقون، وبأن عقولكم دلت على صدق الرسل، فعليكم أن تتقبلوا كل ما جاء عنهم، وألا تردوا شيئاً دون شيء؛ لأنكم إذا رددتم بعضاً دون بعض فقد صدقتم بشيء وكذبتم بشيء فيصدق فيكم قوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85]، ويتحقق فيكم الوعيد الذي توعد الله به اليهود. وبذلك نعرف أننا إذا آمنا بجميع ما جاء في كتاب الله وفي شريعة رسوله فيما يتعلق بالأسماء والصفات، وفيما يتعلق بالبعث والنشور، وفيما يتعلق بالعبادات والمعاملات، وفيما يتعلق بالأحوال الشخصية، وفيما يتعلق بسائر الأحكام، آمنا بالله وبما جاء عن الله وعلى مراد الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله، وآمنا بالكتاب كله، ووكلنا ما لا نعرف تأويله إلى عالمه وتوقفنا عن التأويلات التي يتأولها أولئك المحرفون للكلم عن مواضعه، فصرنا بذلك مؤمنين بكتاب الله، متبعين لرسول الله، مصدقين لما جاء به، وهذا هو الإيمان الذي أمر الله به وأمر به رسوله، وهذا هو معتقد أهل السنة. فإن شاء الله أن أهل السنة الذين يعتقدون هذا سيحشرون مع سلف الأمة وأئمتها.......
إنكار الجهمية لأسماء الله وصفاته
…(3/452)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد نفى الجهم وكل من وافقه كل ما وصف الله به نفسه، من كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وأسفه ونحو ذلك، وقالوا: إنما هي أمور مخلوقة منفصلة عنه، ليس هو في نفسه متصفاً بشيء من ذلك. وعارض هؤلاء من الصفاتية ابن كلاب ومن وافقه، فقالوا: لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلاً، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته قديمة أزلية، فلا يرضى في وقت دون وقت، ولا يغضب في وقت دون وقت، كما قال في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله). وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب! وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب! وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) فيستدل به على أنه يحل رضوانه في وقت دون وقت، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخط، كما يحل السخط ثم يرضى، لكن هؤلاء أحل عليهم رضواناً لا يتعقبه سخط. وهم قالوا: لا يتكلم إذا شاء، ولا يضحك إذا شاء، ولا يغضب إذا شاء، ولا يرضى إذا شاء، بل إما أن يجعلوا الرضا والغضب والحب والبغض هو الإرادة، أو يجعلوها صفات أخرى، وعلى التقديرين فلا يتعلق شيء من ذلك لا بمشيئته ولا بقدرته، إذ لو تعلق بذلك لكان محلاً للحوادث، فنفى هؤلاء الصفات الفعلية والذاتية لهذا الأصل، كما نفى أولئك الصفات مطلقاً بقولهم: ليس محلاً للأعراض. وقد يقال: بل هي أفعال، ولا تسمى حوادث، كما سميت تلك صفات ولم تسمّ أعراضاً، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى، ولكن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلا م في الصفات في المختصر في مكان واحد، وكذلك الكلام في القدر ونحو ذلك، ولم يعتن فيه بترتيب. وأحسن ما(3/453)
يرتب عليه كتاب أصول الدين، ترتيب جواب النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) الحديث، فيبدأ بالكلام على التوحيد والصفات، وما يتعلق بذلك، ثم بالكلام على الملائكة، ثم .. وثم إلى آخره]. يتعلق هذا الكلام بالرد على الذين يثبتون بعض الصفات دون بعض، أو ينفون الصفات كلها، وعرفنا أن الجهمية ينفون الصفات بل ينفون الأسماء، وعلة النفي عندهم أنه ليس محلاً للحوادث، ويقولون: إننا ننزه الله عن الأعراض وعن الأبعاض، وما أشبه ذلك. ولا شك أن هذا قول بعيد عن الصواب، وذلك لأنا لا نقول بالأعراض، بل نقول: إن الرب سبحانه وتعالى بصفاته واحد فلا أعراض هناك ولا أبعاض ولا حوادث ولا غير ذلك.
إنكار الأشاعرة لصفات الله الفعلية
…(3/454)
أما الأشاعرة ومثلهم الكلابية فيسمون الصفاتية، والذي سماهم بهذا الاسم المعتزلة، فالمعتزلة والجهمية ينكرون الصفات كلها، فلما أن الأشاعرة والكلابية أثبتوا سبع صفات وهي: العلم والإرادة والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام، سمتهم المعتزلة الصفاتية. والصفاتية منهم الكلابية أتباع محمد بن سعيد بن كلاب ، وكذلك الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري، وهؤلاء أنكروا الصفات الفعلية، فأنكروا قول الله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم [المائدة:119]، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم [الفتح:6]، فَلَمَّا آسَفُونَا [الزخرف:55]، وقوله لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُم [غافر:10] فأنكروا المقت والأسف والحب والبغض والغضب والرضا والكراهية والسخط والرحمة وما أشبهها، وكان سبب إنكارهم لها -على زعمهم- لأنها حوادث، والله لا تحل به الحوادث، ويعللون بهذا التعليل في كتبهم قديماً وحديثاً. وكان من آخر علمائهم عالم مصري يقال له: زاهد الكوثري ، الذي مات في أواسط القرن الماضي، فهو في تعليقاته على كثير من الكتب، وفي تحقيقاته لها ينكر هذه الصفات، ويرد على من أثبتها بأنهم جعلوا الله محلاً للحوادث، بمعنى أنه حدث عليه الرضا بعد أن لم يكن راضياً، وحدث عليه المحبة بعد أن لم يكن محباً، وحدث عليه السخط بعد أن لم يكن ساخطاً، وحدث عليه المقت بعد أن لم يكن ماقتاً، والكراهية بعد أن لم يكن كارهاً، وهكذا، هذا معنى قولهم: إنه محل للحوادث. ونحن نقول: ليس كذلك، بل الله تعالى يحب إذا شاء ويبغض إذا شاء وله المشيئة التامة، كما قال تعالى وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه [الإنسان:30]، فجعل له المشيئة والإرادة متى شاء، وكذلك أيضاً أخبر بأنه يكره متى شاء ويغضب متى شاء ويرضى إذا شاء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يغضب في وقت دون وقت، وذلك في حديث الشفاعة الذي يأتي فيه أهل الموقف إلى الأنبياء طلباً للشفاعة(3/455)
فيقولون: (يا آدم! اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباًلم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) وهكذا يقول نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، فأثبتوا أن الله تعالى غضب في ذلك اليوم غضباً شديداً، أي: على أولئك الذين وافوه بالكفر والشرك، ووافوه بالمعاصي والمخالفات، فلابد أن ينتقم منهم وأن يعذبهم وأن ينزلهم دار عذابه التي يستحقونها، فما ورد في هذا الحديث دل على مخالفة قول ابن كلاب ومن معه من أن الغضب لا يكون في وقت دون وقت. فهؤلاء الصفاتية يقولون: هذه الصفات لا تتغير، فإن كان موصوفاً بالغضب فالغضب صفة له دائمة، وإن كان موصوفاً بالرضا فالرضا صفة له دائمة، وعلى هذا يكون موصوفاً بأنه غاضب وبأنه راض دائماً في آن واحد، وبأنه محب ومبغض في آن واحد، وكاره وراض في آن واحد، فيجمعون بين النقيضين، ويجعلونها صفات ملازمة له، فخالفوا بقولهم الأدلة، والتي فيها ما جاء في قول الله لأهل الجنة: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، فدل على أنه رضي عنهم رضاً مستمراً، وأن هذا الرضا هو الذي أحله بهم في دار الكرامة، وهو أكبر نعيم لهم، قال الله تعالى في سورة التوبة وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] أي: أكبر نعيم لهم هو هذا الرضا عنهم، فهذا دليل على أن الله يرضى إذا شاء ويغضب إذا شاء، وكذلك نقول في بقية الصفات.
شرح العقيدة الطحاوية [81]
من عقائد أهل السنة محبة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد مدحهم الله في كتابه، ومدحهم رسوله عليه الصلاة والسلام في سنته، فمحبتهم إيمان، وبغضهم نفاق.
عقيدة أهل السنة في الصحابة
…(3/456)
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: ( ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرؤ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان). يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الروافض والنواصب، وقد أثنى الله تعالى على الصحابة هو ورسوله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، ووعدهم الحسنى كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]. وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا [الفتح:29] إلى آخر السورة، وقال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض [الأنفال:72] إلى آخر السورة، وقال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد:10]، وقال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا(3/457)
الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:8-10] وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار، وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، وتتضمن أن هؤلاء هم المستحقون للفيء، فمن كان في قلبه غل للذين آمنوا ولم يستغفر لهم لا يستحق في الفيء نصيباً بنص القرآن. وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) انفرد مسلم بذكر سب خالد لعبد الرحمن دون البخاري ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لخالد ونحوه: (لا تسبوا أصحابي) يعني: عبد الرحمن وأمثاله؛ لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون، وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان، وهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ومنهم خالد بن الوليد ، وهؤلاء أسبق ممن تأخر إسلامهم إلى فتح مكة، وسموا الطلقاء، منهم أبو سفيان وابناه يزيد و معاوية]. هذا ابتداء الكلام في فضل الصحابة رضي الله عنهم، وسبب الكلام في الصحابة أنه وجد طوائف يطعنون في الصحابة ويضللونهم ويبدعونهم ويرمونهم بالنفاق ويرمونهم بالردة،(3/458)
ويتبرءون منهم بل ويشتمونهم ويلعنونهم قديماً وحديثاً، وهؤلاء الطوائف فرقتان: الروافض والنواصب؛ فالروافض: هم الذين يغلون في علي وذريته من أهل البيت فقط، ويزيدون في حبهم، وأما بقية الصحابة أو أكثرهم فإنهم يكفرونهم، أما النواصب: فهم الذين يضللون علياً وذريته أو من كان قريباً منهم، ويميلون إلى بني أمية أو إلى من والاهم، وسموا نواصب؛ لأنهم نصبوا العداوة لأهل البيت، ولكن الرافضة هم الذين كثروا وظهر تمكنهم فيما هم فيه، فأصبحوا ينتشرون في الأرض وتقوى شوكتهم. ......
ثناء الله على الصحابة
…(3/459)
حب الصحابة رضي الله عنهم جميعاً من الإيمان، ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق) ومعلوم أن المهاجرين أقدم من الأنصار، وأفضل منهم، والله تعالى يقدم ذكرهم على الأنصار في القرآن، ومع ذلك فالأنصار لهم ميزتهم ولهم فضلهم، ولهم مكانتهم في السبق والفضل، كذلك أيضاً قد أثنى الله تعالى على جميع الصحابة كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَه [الفتح:29] فلم يخص الله بعضهم، بل قال: ( والذين معه ) أي: كل الذين يجاهدون معه، والذين يجالسونه، والذين يصلون معه، كلهم مدحهم الله بقوله: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] هذا وصف لهم، وينبغي أن يكون هذا الوصف في أتباعهم، وهو أن تكون أيها المسلم! شديداً على الكفار رحيماً بالمؤمنين ( أشداء على الكفار ) يعني: تبغضهم وتمقتهم وتحقر شأنهم وتغلظ لهم القول، وتتبرأ من طريقتهم، وتجاهدهم بما تستطيع من أنواع الجهاد، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم [التوبة:73] فوصف الله الصحابة بأنهم أشداء على الكفار، وكأنه يمدح الذين كانوا على هذه الطريقة في الشدة على الكفار، ومدحهم بأنهم رحماء بينهم، أي: يرحم بعضهم بعضاً، وما أجله من وصف أن يكون المؤمن رحيماً بإخوانه مشفقاً عليهم، محباً لهم؛ لأنهم مسلمون وهو مسلم. ووصف الله الصحابة بقوله: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ [الفتح:29] سيماهم التي هي علامة على وجوههم من كثرة سجودهم، ( ركعاً سجداً ) دائماً يشتغلون بالركوع والسجود، وهذا دليل على أن من أخل بهذا الوصف وترك الركوع والسجود والصلاة فإنه مخالف لطريقة الصحابة، ومخالف لطريقة الأمة. ووصفهم الله بأنهم ( يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ) أي: يطلبون(3/460)
فضله ورضوانه. ووصفهم في آخر الآية بقوله: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار [الفتح:29]، نقول لمن أبغضهم: إنهم قد أغاظوك، فأنت داخل في هذه الآية، فكل من أبغضهم قد صار في قلبه غيظ عليهم، وحقد وشنئان وبغضاء شنيعة لهم، لذلك نصفه بأنه داخل في هذه الآية، فمن أغاظه الصحابة فهو كافر، الله تعالى يقول: ( ليغيظ بهم الكفار ) فالمبغض لهم الذي أغاضه ما من الله به عليهم، من هؤلاء الكفار. وقد مدح الله تعالى الصحابة بالسبق في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ [التوبة:100] والسابقون يعني: المتقدمون من المهاجرين الذين أسلموا بمكة قبل الهجرة بعشر سنين وبثلاث عشرة سنة، ومن الأنصار الذين أسلموا قبل الهجرة بسنة أو سنتين أو أسلموا بعد الهجرة، ومن الذين اتبعوهم بإحسان يعني: ساروا على نهجهم واتبعوهم إلى يوم القيامة، مدح الله الجميع بقوله: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه [التوبة:100]، وهذا فضل كبير أن رضي الله عنهم ورضوا عنه، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَار [التوبة:100] وما أعظمها من كرامة. كذلك أيضاً مدحهم بالآيات التي في آخر سورة الأنفال فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّه [الأنفال:72] آمنوا إيماناً ثابتاً راسخاً في قلوبهم، وهاجروا من بلادهم التي هي بلاد كفر إلى بلاد الإسلام، وجاهدوا بالأموال، وجاهدوا بالأنفس، بذلوا كل ما يملكونه من الأموال، وبذلوا أنفسهم في سبيل الله، هؤلاء هم المهاجرون، وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا [الأنفال:72] أي: الأنصار الذين آووا إخوانهم ونصروهم أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ(3/461)
بَعْض [الأنفال:72]، ثم قال بعد ذلك: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:74] مدحهم بأنهم المؤمنون حقاً، ثم قال بعد ذلك: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا [الأنفال:75] أي: المتأخرون الذين آمنوا في آخر الأمر وهاجروا وجاهدوا فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم [الأنفال:75] وما أعظمها من مزايا لهؤلاء الصحابة، ولكن الرافضة قوم لا يعقلون.. قوم لا خلاق لهم. وقال الله تعالى في سورة الحديد: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَل [الحديد:10] يعني: السابقون الذين أنفقوا وقاتلوا -سواءً من المهاجرين أو الأنصار- قبل الفتح، يعني: قبل صلح الحديبية الذي فتح الله به على المؤمنين أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْد وَقَاتَلُوا [الحديد:10] يعني: بعد الفتح، ولكن يقول الله تعالى وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10] وعد الله المتقدم منهم والمتأخر بالحسنى، وهو الثواب الكبير والثواب العظيم. وكذلك لما ذكر الله تقسيم الفيء في سورة الحشر، ذكر أن أول من يستحقه هؤلاء الفقراء من المهاجرين الذين هاجروا بأنفسهم وتركوا ديارهم، وتركوا أموالهم وعشائرهم وأهليهم ونجوا بأنفسهم الَّذِينَ أُخْرِجُوا [الحشر:8] لما ضيق عليهم هربوا، أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ [الحشر:8] لماذا؟ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] ثم قال في الأنصار: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِم [الحشر:9] أي: هؤلاء الأنصار يحبون المهاجرين؛ لأنهم إخوانهم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9] لو أعطي(3/462)
المهاجرون ما أعطوا من الفيء ومن الغنائم ما غضب أولئك الأنصار، بل يوافقون على ذلك وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الحشر:9] أي: يقدم الأنصار إخوانهم من المهاجرين على أنفسهم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9] أي: جوع وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، ثم قال: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِم [الحشر:10] سواءً كانوا آخر الصحابة الذين أسلموا بعد الفتح، أو الذين جاءوا بعدهم إلى يوم القيامة، هؤلاء منهم بشرط أن يدعو لهم، وأن يقولوا: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا)، ومن كان في قلبه غل وحقد وبغض وشنئان وغضب عليهم، فإنه بريء منهم، ولأجل ذلك استنبط العلماء أن الذين في قلوبهم غل على الصحابة وحقد عليهم ولا يدعون لهم بقولهم: (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان)؛ فليسوا من أهل الفيء ولا يستحقون أن يعطوا من بيت المال؛ وذلك لحقدهم على المسلمين وبالأخص الصحابة رضي الله عنهم. وقد اشتهر أن هؤلاء الرافضة يبغضون الصحابة ويدعون عليهم ويشتمونهم، ولكن ذلك لا يضر الصحابة بل فيه خير لهم؛ لأنهم قد ختم على أعمالهم وانتهت أعمارهم، وحصلوا على ما حصلوا عليه من الثواب، وتستمر لهم الحسنات من هؤلاء الذين يسبونهم، روي عن بعض السلف أنه قال: ما أرى الناس ابتلوا بسب الصحابة إلا ليجري عليهم عملهم، أي: ليكون عمل الصحابة مستمراً غير منقطع، فيأخذون من حسنات هؤلاء الذين يسبونهم، وكأنهم لما حقدوا عليهم ورأوا أنهم ضلال وكفار عاد الضلال والكفر على هؤلاء والعياذ بالله، ودخلوا في قوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29].
تفاضل الصحابة رضوان الله عليهم
…(3/463)
الفضل يعم المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ولكن بلا شك أن الصحابة رضي الله عنهم يتفاوتون كما في قول الله تعالى في سورة الحديد: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ [الحديد:10] يعني: صلح الحديبية وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10] فنحن نفضل السابقين الذين أدركوا بيعة الرضوان التي رضي الله بها عنهم، وأنزل فيهم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم [الفتح:10] وذلك في صلح الحديبية تحت شجرة، حيث قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (بايعوني)، وكانوا نحو ألف وأربعمائة وزيادة، وكلهم بايعوه على أن يقاتلوا ولا يفروا حتى ولو ماتوا، وجاء عن بعضهم قوله: إننا بايعناه على الموت، وقيل: بايعوه على ألا يفروا، وكلها متلازمة، يعني: أنا لا نفر، بل نقاتل إلى أن ينصرنا الله أو نقتل دونك، هكذا بايعوه، وصدقوا في ذلك، قال الله تعالى في وصفه لهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23] صدقوا في النصرة، ووفوا بهذه البيعة، وحصل أن الله رضي عنهم، يقول تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]، ولا شك أن من رضي الله عنهم فإنهم يثبتون على هذا الرضا، ولا يمكن أن يسخط الله عليهم وقد علم أنهم أهل للرضا، إذ كيف يرضى عنهم وهو يعلم أنهم سيرتدون أو سيكفرون فيما بعد؟ فالله لم يستثن أحداً من أهل البيعة، ولهذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل(3/464)
النار أحد بايع تحت الشجرة) أي: كلهم من أهل الجنة، وسمعنا أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتأخرين من الصحابة كالذين أسلموا بعد صلح الحديبية أو في سنة ثمان وما بعدها: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) المد: ربع الصاع، والنصيف: نصف المد، أي: لو أن أحدكم أنفق نفقة من الذهب مثل هذا الجبل الذي يضرب به المثل في عظمه وضخامته ما بلغ مد أحدهم، سواءً من طعام أو نحوه، فكيف بمن أنفقوا أكثر أموالهم أو كلها في سبيل الله رضي الله عنهم وأرضاهم.
تزكية الله عز وجل لسائر الصحابة
…(3/465)
زكى الله تعالى الصحابة بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29] كل الذين معه، يعني: على الإسلام أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم [الفتح:29] إلى آخر الآيات. وزكاهم بقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]. وزكاهم بقوله: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة [التوبة:117]. وزكاهم بقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18]. فعلم الله أن قلوبهم مؤمنة الإيمان الصادق. وزكاهم بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72] والآيات كثيرة كما تقدم، وإذا كان الله تعالى هو الذي زكاهم فلابد أن هذه التزكية لها أثرها، بمعنى: أنهم عدول، وأنه لا يطعن فيهم طاعن، فمن طعن فيهم فقد كذب خبر الله، ولا شك أن من كذب خبر الله تعالى وكذب ما جاء من عند الله يعتبر كافراً، حيث إنه خالف كلام الله، وطعن فيما أخبر الله به، فالله تعالى يعلم ما كان وما يكون، ويعلم بإيمانهم ويطلع على ما في قلوبهم، ولهذا قال: (( فعلم ما في قلوبهم )) علم الله أن قلوبهم مطمئنة بالإيمان، فإذاً: الذين طعنوا فيهم يطعنون في الله تعالى وأنه لم يعلم أنهم سوف يرتدون، وهذا هو معتقد الرافضة، فهم يقولون: إن هذه الفضائل التي ذكروا بها كانت قبل أن يرتدوا، وبطل مفعولها بعد أن ارتدوا، فهم بذلك يكفرون أجلاء الصحابة، وعليه فهم يطعنون فيما أخبر الله به، ولازم قولهم أن الله لم(3/466)
يعلم ما في قلوبهم.
الصحابة خير الناس بعد الأنبياء
…
لم يزل المسلمون يعترفون بهدي الصحابة ويروون فضائلهم ويعرفون أن الله تعالى هو الذي زكاهم، وهو الذي طهرهم، وهو الذي اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أنهم خيرة الأمة وصفوتها، وهذه الأمة خير الأمم وأزكاها عند الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) الآخرون وجوداً، والسابقون يوم القيامة، فأخبر بأن هذه الأمة تسبق غيرها من الأمم، أي: الأمم السابقة، ولا شك أن خير هذه الأمة هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنتم خير من أبنائكم, وأبناؤكم خير من أبنائهم) وقال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) (خير الناس) أي: خير جميع الناس من الأولين والآخرين؛ القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: من المؤمنين، وهذه بلا شك تزكية من النبي صلى الله عليه وسلم. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، ولما قال لأصحابه: (إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، قالوا: الله أكبر! فقال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة.). وقد زكاهم الله بقوله: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14] يراد بالأولين -على الصحيح- الأولون من هذه الأمة، أي: الصحابة، فذكر أن الأكثر من السابقين الأولين هم من القرن الأول الذين هم الصحابة، وكذلك من تبعهم وسار على نهجهم.
عقيدة الرافضة في الصحابة ولازم قولهم فيهم
…(3/467)
لم تزل عقيدة المسلمين أن الله سبحانه وتعالى فضل هؤلاء الصحابة، وذكر ميزتهم وذكر فضلهم، فقبلوا خبر الله تعالى، وقبلوا ما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم، واعتقدوا ميزة هؤلاء الصحابة، وفضلوهم؛ لأنهم الذين حملوا هذه الشريعة الإسلامية إلينا، فهم الذين بلغوا القرآن كلام الله، وهم الذين حفظوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وبلغوها لمن بعدهم، وعملوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب)، وعملوا بقوله: (بلغوا عني ولو آية) فإذا كانوا -كما تقول الرافضة- كفاراً مرتدين فكيف يقبل خبرهم؟ وكيف يقبل تبليغهم؟ ومعنى كلام الرافضة أن دين الله مغير، وأن كلام الله مبدل، وأن شريعة الله غير محفوظة، وأن الله ما صدق في كلامه بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] ولم يحفظ دينه وكتابه، بل وكله إلى كفرة فجرة -في زعم أولئك الرافضة- غيروا فيه وكتموا وكذبوا، وزادوا ونقصوا وحرفوا، وقالوا ما يشتهونه، وولوا من يريدونه، وعزلوا من يبغضونه، هذا مقتضى قول هؤلاء الرافضة. إذاً: فينبني على قول الرافضة أن الله ما حفظ شريعته، وأن هذه الشريعة ليست هي الإسلام؛ لأن طعنهم في الصحابة ليس طعناً في ذواتهم خاصة بل هو طعن في الشريعة، وطعن في الإسلام، وطعن في الدين، وطعن في القرآن، وطعن في السنة، وطعن في الأحاديث النبوية، وطعن في الأحكام، وطعن في الأوامر والنواهي، وطعن في الوعد والوعيد، وطعن في الخبر والأمر، وطعن في كل ما جاء في هذه الشريعة، هذا لازم طعن هؤلاء الرافضة، لكن الله تعالى قيض هؤلاء الصحابة حتى حفظوا الشريعة وبلغوها، وقيض لهم تلامذة يتقبلون منهم، ويأخذون عنهم السنة، وقيض للتلامذة آخرين من تلامذتهم إلى أن حفظت الشريعة الإسلامية في الأقوال والأفعال، وصدق الله في حفظ شريعته من الضياع لتقوم الحجة على الآخرين كما قامت على الأولين، فإن الله تعالى له الحجة(3/468)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ [الأنعام:149] وليست الحجة لأحد من خلقه، فإذا كنت الحجة لله سبحانه؛ فإن كلامه لم يتغير، فيكون حجة علينا وحجة على آبائنا وعلى أبنائنا، وعلى الخلق كلهم إلى أن تقوم الساعة، أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:19]، ولئلا يقول الناس: رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:47]. فإذاً: قد جاءهم الرسول، وقد بلغ الرسول الشريعة، وقد حفظت شريعته التي بلغها، وقد قيض الله له صحابة أتقياء أنقياء ليس فيهم طعن، اعترفت الأمة بفضلهم، ورأوا فضائلهم التي في القرآن والتي في السنة، وأقروها في شروحهم وفي كتبهم ومؤلفاتهم، فتجدون مؤلفات أهل السنة مليئة بذكر فضائلهم، فقد ألف الإمام أحمد كتاباً مطبوعاً في مجلدين سماه: فضائل الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك في صحيح البخاري كتاب الفضائل، ذكر فيه فضائل الصحابة بدءاً بالخلفاء الراشدين، وهكذا صنع مسلم رحمه الله في كتابه الصحيح، فجعل كتاباً في فضائل الصحابة روى فيه فضائلهم بدءاً بالخلفاء الأربعة على ترتيبهم في الخلافة، وهكذا أكثر المؤلفين ذكروا فضائلهم، ورووها بالأسانيد الصحيحة الثابتة التي لا مطعن فيها؛ اعترافاً منهم بأن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم هم أزكى هذه الأمة، وهم الذين حازوا هذه الفضائل، وهم الذين أجمعت الأمة على فضلهم، وأجمعت على تقديمهم، ومع تفاوتهم في الفضل، فأفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، وهكذا بقية الصحابة، ولم تزل الأمة تترضى عنهم كما رضي الله عنهم، والله تعالى ذكر الرضا عنهم في قوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِين [الفتح:18]، وإذا رضي الله عنهم، فمتى علمتم -يا رافضة!- أنه سخط عليهم بعد الرضا؟ وكيف يسخط عليهم(3/469)
وقد رضي عنهم؟! يقول الله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَار [التوبة:100] أعدها لهم، وكذلك لمن اتبعهم بإحسان لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِين ، لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:117]، فإذا تاب عليهم فكيف يعذبهم؟ فعلى المسلم أن يعرف فضلهم, وأن يعترف بفضائلهم، وأن يصدق ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يترضى عنهم ويحبهم، وينشر بين المسلمين فضائلهم، وأن يحذر من الرافضة الذين يطعنون فيهم ويكفرونهم، وينزلون عليهم الآيات التي جاءت في المنافقين، ويجعلونهم منافقين أو مرتدين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك تعرف طريقة أهل السنة وطريقة الرافضة الذين سموا أنفسهم شيعة، ولعله يأتينا كلام أوسع من هذا على هؤلاء الصحابة في الشرح إن شاء الله. ......
لا يعدل فضل الصحبة شيء
…(3/470)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [والمقصود أنه نهى من له صحبة آخراً أن يسب من له صحبة أولاً؛ لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه، حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كان قبل فتح مكة فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؟ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وقيل: إن السابقين الأولين من صلى إلى القبلتين، وهذا ضعيف؛ فإن الصلاة إلى القبلة منسوخة ليس بمجرده فضيلة؛ لأن النسخ ليس من فعلهم، ولم يدل على التفضيل به دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة التي كانت تحت الشجرة. وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فهو حديث ضعيف، قال البزار : هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال:( قيل لعائشة رضي الله عنها: إن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر و عمر! قالت: وما تعجبون من هذا، انقطع عنهم العمل فأحب الله ألا يقطع عنهم الأجر ). وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ( لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة -يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم- خير من عمل أحدكم أربعين سنة ) وفي رواية وكيع : ( خير من عبادة أحدكم عمره ). وفي الصحيحين من حديث عمران بن الحصين وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ... )، الحديث. وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي(3/471)
صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة). وقال تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117]، ولقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصفه حيث قال: ( إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء) وفي رواية: (وقد رأى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر ) وتقدم قول ابن مسعود : ( من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات ) إلى آخره عند قول الشارح: ونتبع السنة والجماعة. فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المسلمين، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين، بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة، قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: من خير أصحاب ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة. وقوله: ( ولا نفرط في حب أحد منهم ) أي: لا نتجاوز الحد في حب أحد منهم كما تفعل الشيعة، فنكون من المعتدين، قال تعالى يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُم [النساء:171]]. ......
لا يكون أحد بعد الصحابة أفضل منهم
…(3/472)
فضائل الصحابة رضي الله عنهم أكثر مما سمعنا، ولو لم يكن إلا هذا الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، وكذلك هذا الأثر عن بعض الصحابة: ( لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة خير من عبادة أحدكم عمره -وفي رواية- خير من عبادة أحدكم أربعين سنة ) وما ذاك إلا لأنهم آمنوا في وقت أزمة وشدة، وفي وقت كفر وضلال، وفي وقت شرك وعبادة أوثان، فآمنوا واهتدوا، واعتنقوا الإسلام، وفارقوا الأهل والبلد والمال، وأخلصوا دينهم لله، ووقرت محبة الله ومحبة رسوله في قلوبهم، وثبت الإيمان ورسخ في قلوبهم حتى كان أرسى من الجبال، ثم ظهرت عليهم آثار ذلك ففدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بآبائهم وأمهاتهم، وبأنفسهم وبأموالهم، وأنفقوا كل ما يملكونه طاعة لله وطاعة لرسوله، واجتهدوا في العمل الصالح الذي يحبه الله ويرضاه، فتفوقوا على من جاء بعدهم بأضعاف مضاعفة، من الذين ولدوا في الإسلام، والذين نشئوا فيه ولو كانوا أكثر منهم عملاً، ولو كانوا أطول منهم أعماراً، ولو كانوا أكثر منهم جهاداً، أو أكثر منهم نفقات، لكن النفقة من أولئك مضاعفة أضعافاً كثيرة كما في هذه الآثار، فهذا من جهة. ومن جهة ثانية: ما جاء في قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه [المائدة:119]، لا شك أنه مدح لهم وإخبار بأن الله قد رضي عنهم، وفي قوله: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ [التوبة:100] إخبار بأنهم من أهل الجنة، وخبر الله تعالى صادق: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، وفي قوله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة [التوبة:117] يعني: غزوة تبوك، وكانوا حينها أربعين ألفاً أو نحو ذلك، فذكر الله تعالى أنه تاب عليهم كلهم،(3/473)
فلم يستثن منهم أحداً، وكذلك ما أخبر الله عز وجل من أنه رضي عن طائفة منهم وهم أهل بيعة الرضوان في قوله: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وأخبر بأن بيعتهم كأنها بيعة مع الله، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم [الفتح:10]، وحاشاهم أن ينكثوا بيعة الله، وحاشاهم أن يكذبوا في مبايعتهم، سواءً كانت مبايعتهم على الموت أو مبايعتهم على ألا يفروا، روي أنه لما نزل أول سورة الفتح وفيها قول الله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:2] قالوا: (هنيئاً لك يا رسول الله! فما لنا؟ فقرأ عليهم: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح:4].. إلى قوله: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الفتح:5].. إلى قوله: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا [الفتح:26]) كل هذا اختص بأولئك الصحابة، ولكن الرافضة طمس الله تعالى على قلوبهم، وأعمى بصائرهم؛ فصدوا عن هذه الآيات، ولم يتفكروا فيها، وأخذوا ينقبون الآيات التي وردت في المنافقين، ويطبقونها على الصحابة فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]. ونقول لهم: متى سخط الله عليهم بعد الرضا؟! ومتى لم يتب عليهم بعد أن تاب عليهم؟! لا شك أن الله تعالى لا يخلف وعده، وأنه قد صدقهم ما وعدهم، لما صدقوا الله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ(3/474)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ [الأحزاب:23] هذه صفات الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم. وجاء في كلام ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( إن الله تعالى نظر في قلوب العباد فاختار قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ونظر في قلوب الأمم فوجد قلوب أصحابه أبر وأزكى وأطهر فاختارهم لصحبته ) اختارهم الله لصحبة هذا النبي، فدل هذا على أن الصحابة رضي الله عنهم هم خلاصة الأمة وهم صفوتها. وتقدم قول ابن مسعود رضي الله عنه: ( من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: أبر هذه الأمة قلوبا،ً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولحمل دينه؛ فاعرفوا لهم حقهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ) شهادة منه رضي الله عنه بأنهم كانوا على الهدى، وأن من خالفهم وخرج عن طريقتهم فليس على الهدى، بل هو على الضلال. فالأدلة الواضحة من الكتاب والسنة الشاهدة بأن الله رضي عنهم أكثر من أن تحصر، ولكن كما قالت عائشة رضي الله عنها في الأثر الذي تقدم: ( لما انقطع عملهم بموتهم، أجرى الله لهم حسنات غيرهم )، فهؤلاء الذين يسبونهم ويحقدون عليهم، إنما يهدون إليهم حسناتهم وأجور أعمالهم، فهم يعملون ويتصدقون ويصلون ويقرءون ويركعون، ولكن يذهب ثواب أعمالهم إلى أولئك الصحابة الذين سبهم هؤلاء. وروي ذلك أيضاً عن الإمام أحمد أنه قال: ( ما أرى الناس ابتلوا بسب الصحابة إلا ليجري الله لهم عملهم )؛ لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث، ولكن إذا كان هناك من يسبه فإنه يأخذ من حسنات الذين يسبونه، وتضاف إلى حسناته كما ورد ذلك في الأحاديث، فيكون ذلك رفعة له، وزيادة في درجاته، وزيادة في أعماله. كذلك تقدم قول ابن مسعود : ( فما رآه المسلمون حسناً -يعني: الصحابة- فهو عند الله حسن ) وقد رأى المسلمون -يعني: الصحابة- أن أبا بكر رضي الله عنه أولى بالخلافة فاتفقوا عليه، وولوه أمر المسلمين، فذلك بلا(3/475)
شك اتفاق منهم على أهليته، وعلى أفضليته، وعلى أحقيته بالخلافة، ولهذا سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بلا شك أهل لهذه الخلافة، ولهذا قام بها أتم قيام، وصمد فيها وصبر، وعمل بما كان يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقدم أيضاً ما ذكر عن اليهود والنصارى مما يبين أن اليهود خير من الرافضة، والنصارى خير من الرافضة؛ لأن اليهود يقولون: أفضل بني إسرائيل أصحاب موسى، والنصارى يقولون: أفضل أتباع عيسى أصحابه الذين هم معه، وهم الحواريون، أما الرافضة فهم يقولون: شر هذه الأمة أصحاب محمد، فتفوقوا على اليهود، يعني: صاروا بذلك أشر من اليهود؛ لأن اليهود فضلوا أصحاب موسى، والنصارى فضلوا أصحاب عيسى، والرافضة تفوقوا عليهم في الكفر وجعلوا أشر قرون هذه الأمة وأكفرها وأضلها وأدناها وأبعدها عن الحق هم أصحاب محمد، ولم يستثنوا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا أفراداً قليلين كعلي وأولاده، وعمار و سلمان و خباب ونحوهم، وكذلك الذين هم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم القدامى كحمزة ونحوه، أما بقية الصحابة فإنهم عندهم ضلال وكفار! قاتلهم الله أنى يؤفكون، فلا يغتر بقولهم، وبذلك يعرف أفضلية هؤلاء الصحابة، وأما أهل السنة والحمد لله فلا يشكون في ذلك، ولكن من باب التأكيد والتقرير حتى يعرف كفر وضلال هؤلاء الرافضة.
إيمان من أحب الصحابة وكفر ونفاق من أبغضهم
…(3/476)
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا نتبرأ من أحد منهم كما فعلت الرافضة) فعندهم لا ولاء إلا ببراء، أي: لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر و عمر رضي الله عنهما، وأهل السنة يوالونهم كلهم، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإقساط، لا بالهوى والتعصب، فإن ذلك كله من البغي الذي هو مجاوزة الحد، كما قال الله تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُم [الجاثية:17]، وهذا معنى قول من قال من السلف: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، يروى ذلك عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين، منهم: أبو سعيد الخدري و الحسن البصري و إبراهيم النخعي و الضحاك وغيرهم، ومعنى الشهادة: أن يشهد على معين من المسلمين أنه من أهل النار أو أنه كافر، بدون العلم بما ختم الله له به. وقوله: ( وحبهم دين وإيمان وإحسان ) لأنه امتثال لأمر الله فيما تقدم من النصوص، وروى الترمذي عن عبد الله بن مغفل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الله الله في أصحابي! لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه). وتسمية حب الصحابة إيماناً مشكل على الشيخ رحمه الله؛ لأن الحب عمل القلب، وليس هو التصديق، فيكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، وقد تقدم في كلامه أن الإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، ولم يجعل العمل داخلاً في مسمى الإيمان، وهذا هو المعروف من مذهب أهل السنة، إلا أن تكون هذه التسمية مجازاً. وقوله: ( وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) تقدم الكلام في تكفير أهل البدع، وهذا الكلام نظير الكفر المذكور في قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] وقد تقدم الكلام في ذلك]. نقول: إن حبنا للصحابة رضي الله عنهم -كما سمعنا-(3/477)
إيمان، فحب الصحابة من الإيمان، وبغضهم من النفاق، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق)، وكذلك الحال في المهاجرين: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، والمهاجرون أقدم من الأنصار وأفضل، فبغضهم كفر ونفاق، وحبهم زيادة في الإيمان وقوة في الإيمان, وباعث على الأعمال الصالحة التي تنبعث من القلب.......
بعض الأسباب الباعثة على حب الصحابة
…
من أسباب حب الصحابة: لسبقهم لمن بعدهم حيث إنهم سبقونا بالإيمان، فنقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] أي: طهر قلوبنا من أن يكون بها حقد وبغض لأولئك الصحابة الذين تقدمونا وكانوا مؤمنين. ونحبهم لأن لهم المنة علينا؛ وذلك لأنهم حفظوا الشريعة، وبينوها وبلغوها. ونحبهم لأنهم دعوا إلى الله وجاهدوا في سبيل الله، ونصروا الله ورسوله، وانتشر بواسطتهم الإسلام. ونحبهم لأنهم أهل الأعمال الصالحة، وأهل النفقات في سبيل الله. ونحبهم لأنهم أهل التصديق القوي وأهل الإيمان القوي. ولا شك أن هؤلاء هم أولى بالمحبة ممن سموا أنفسهم شيعة، وادعوا أنهم يوالون ويعادون ونحو ذلك.
اعتقاد الرافضة أن تولي آل البيت لا يتم إلا بالبراءة من سائر الصحابة
…(3/478)
الرافضة يقولون: لا ولاء إلا ببراء، ومعنى ذلك: أن من تولى أهل البيت لزمه أن يتبرأ من غيرهم من الخلفاء الثلاثة وبقية الصحابة، ونحن نقول: صحيح أنه لا ولاء إلا ببراء، ولكن من الذي نتولاه؟ نتولى المؤمنين كلهم وهم الصحابة ومنهم أهل البيت، ومن الذين نتبرأ منهم؟ نتبرأ من المنافقين، ونتبرأ من الكافرين عموماً، ونتبرأ ممن أمرنا بالبراءة منه ولو كانوا أقارب، كما قال إبراهيم عليه السلام: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26]، إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه [الممتحنة:4] هؤلاء هم الذين نتبرأ منهم، فلا ولاء إلا ببراء، فيكون ولاؤنا للمؤمنين ومن جملتهم الصحابة، وبراؤنا من الكافرين ولو كانوا أقارب، ولاؤنا لأولياء الله الذين قال فيهم: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُو [البقرة:257] وبراؤنا وتبرؤنا من أعداء الله ومن جملتهم أولياء الشيطان الذين قال الله فيهم: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة:257]. أما الرافضة فعندهم أن الولاء هو ولاء أهل البيت خاصة الذين هم علي وذريته وزوجته وأم زوجته التي هي خديجة ومن كان معهم من المقربين عنده أو نحوهم، وأما البراء فإنه البراء من غيرهم، كالبراء من أبي بكر و عمر ، والبراء من جابر و أنس ، والبراء من ابن عمر و ابن عباس وسائر أجلاء الصحابة، والبراء من أبي هريرة وغيره من الصحابة، ولماذا البراء منهم؟! يقولون: نتبرأ منهم؛ لأنهم مرتدون وخارجون عن الإسلام!
وسطية أهل السنة في حب الصحابة
…(3/479)
أهل السنة يقولون: نحن نحب الصحابة، ولكن لا نغلو في حب أحد منهم؛ لا الخلفاء الثلاثة، ولا أهل البيت، فحبنا لهم حب متوسط ليس فيه غلو وليس فيه جفاء، الرافضة غلوا في أهل البيت حتى رفعوهم عن طورهم وأعطوهم شيئاً من حق الله، بل صاروا يعبدونهم من دون الله، ويدعونهم في الشدائد، ويدعونهم في الكربات، وينسون الله تعالى، وأما بقية الصحابة فجفوا في حقهم وضللوهم وبدعوهم وتبرءوا منهم، فقد جمعوا بين الغلو والجفاء، ولم يتوسطوا في واحد منهما توسط أهل السنة، فخير الأمور أوسطها، فلا غلو ولا جفاء، ورد في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي : (تهلك فيك طائفتان) يعني: طائفة غلوا، وطائفة جفوا، فالطائفة الذين جفوا هم النواصب والخوارج؛ فإن الخوارج خرجوا على علي وكفروه وقالوا له: حكمت الرجال، وقالوا له: لا حكم إلا لله، وقاتلوه إلى أن قتله أحدهم، وهو عبد الرحمن بن ملجم ، حيث زعم أنه مرتد بقبوله قول الحكمين، واشترطوا في توبته أن يعترف أنه كفر، ويعترف بأن عمله وجهاده كله باطل، وأن يعتبر نفسه يستقبل عملاً جديداً، فهؤلاء ماذا نسميهم؟ نسميهم جفاة، جفوا في حق أهل البيت، بل نسميهم هالكين؛ لأنهم هلكوا حيث كفروا من هو من أجلاء الصحابة، وضللوا علياً ومن كان في بيت علي ممن رضي الله عنه، وقد كثر مذهب أولئك الخوارج الذين يكفرون علياً ، بل ويمدحون من قتله ، كما روي أن عمران بن حطان كان من أهل السنة، وروى أحاديث عن عائشة وعن غيرها من الصحابة، ثم تزوج امرأة من النواصب - أي: من الخوارج- ورجا أن يؤثر عليها حتى ترجع وتكون من أهل السنة، ولكن أثرت عليه، ولقنته مذهب الخوارج، فأصبح من الخوارج إلا أنه ليس من المتعصبين، لكنه من قعدتهم الذين يقعدون ولا يخرجون، وهو الذي مدح ابن ملجم في أبيات مشهورة يقول فيها: يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا(3/480)
يعني: ابن ملجم الذي قتل علياً، فهؤلاء بلا شك طرف هالك حيث أبغضوا هذا الصحابي رضي الله عنه الذي هو من أجلاء الصحابة، أما الطرف الثاني فهم الشيعة، ومذهبهم معروف بالغلو في آل البيت.
شرح العقيدة الطحاوية [82]
الرافضة من أعظم وأخطر المبتدعة، وقد قويت شوكتهم في هذا الزمان، فعلى المسلم أن يعرف أول نشأتهم، وحقيقة مذهبهم، وبحمد الله قد بين أهل العلم فضائحهم وبطلان مذهبهم.
فضائح الرافضة
…
......
ادعاء بعض طوائف الرافضة ألوهية علي رضي الله عنه
…(3/481)
مر بنا عقيدة أهل السنة في الصحابة رضي الله عنهم، وما خصهم الله تعالى به، وما ميزهم به من الفضائل التي مدحهم بها، وأثنى عليهم، وما تميزوا به من السبق إلى الإسلام وإلى الأعمال الصالحة، وما تميزوا به من فضل، وأنهم أفضل قرون هذه الأمة، وهذه الأمة أفضل الأمم، وذكرنا الأسباب التي تميزوا بها، ومع ذلك فقد انتصب لهم أعداء الله الرافضة، وناصبوهم العداوة، وألصقوا بهم التهم، وحملوا عليهم كل الجرائم، ورموهم بالرذائل، ورموهم بالكفر، ووسموهم بالنفاق، كذباً وبهتاناً، وبالغوا في ذلك أشد المبالغة، ولا شك أن هذا الفعل من الرافضة من زيغ القلوب، ومن الانتكاس والعياذ بالله إلى الحضيض. والرفض أصله: الترك، ومنه قولهم: رفضت هذا القول، أي: تركته، وهؤلاء الرافضة خرج مقدمهم وأولهم في عهد علي رضي الله عنه وفي حياته، وكان سبب ذلك أن يهودياً دخل في الإسلام نفاقاً يقال له: عبد الله بن سبأ ويعرف بابن السوداء ، أظهر الإسلام ولكن باطنه الكفر، وأراد بذلك أن يشكك في الإسلام، وأن يدعو إلى أسباب الانحلال، فهو من الذين دعوا الثوار إلى قتل عثمان ، حيث جمع الجموع، وحشد الحشود، وأثار من أثار حتى اجتمعت عصابات خرجوا من مصر ومن العراق ومن غيرها وحاصروا عثمان رضي الله عنه، وانتهى الأمر بأن قتل شهيداً رضي الله عنه، وكان من أسباب ذلك هذا المنافق، ولما قتل عثمان وتمت البيعة لعلي، ورأى أنه محجوز عند أهل العراق حيث استقر بينهم، أراد أيضاً أن يبطل إسلامهم وأن يوقعهم في الكفر، فدعاهم إلى أن يغلو في علي ، فبدل أن يكون خليفة وإماماً يجعلونه رباً وإلهاً، فقال لهم: علي هو الرب.. علي هو الإله، وانخدع به خلق كثير، واعتقدوا هذا الاعتقاد الفاسد، فخرج عليهم مرة وهم صفوف في أعداد هائلة، فما إن رأوه حتى خروا له سجداً، فقال: ما هذا؟! قالوا: أنت إلهنا! فعجب من ذلك، ودعا أكابرهم ليتوبوا، ولكن أقاموا على ما هم عليه ولم يتوبوا، ثم اشتهر أنه(3/482)
أحرقهم، حيث خد لهم أخاديد، وأظرم فيها النيران، ثم استتابهم وأمرهم بالرجوع فمن لم يتب ألقي في تلك الأخاديد، وكان علي رضي الله عنه ينشد قوله: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً وقنبر هو غلامه، فما زادهم هذا الإحراق إلا تمسكاً بما هم عليه، وقالوا: الآن عرفنا أنك الرب؛ لأنك الذي تحرق بالنار، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، فتمسكوا بما هم عليه، وقتل من قتل منهم بالإحراق، وقد أنكر عليه ابن عباس رضي الله عنه الإحراق، وقال: إن النار لا يعذب بها إلا الله، وقال: لو كنت أنا لقتلتهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) وأما بقية الأمة فإنهم متفقون على أنهم يقتلون وأنهم كفار. فهؤلاء الغلاة من الرافضة الذين جعلوا علياً إلهاً، هم أتباع ابن سبأ ، ولا يزال كثير منهم على هذه العقيدة، ويحفظ من شعرهم قولهم: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حاجب عليه إلا سلمان ذو القوة المتين لما كان سلمان من الفرس جعلوه هو الحاجب على الله، وجعلوا علياً هو الله، وحيدرة هو: لقب علي؛ جاء من قوله لما كان يقاتل في خيبر: أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندرة فصار هذا الاسم علماً عليهم، فهم يقولون: لا إله إلا علي ، لا إله إلا حيدرة ، وهذا الاعتقاد مشهور فيهم، وهؤلاء السبئيون هم بقية ورثة ابن سبأ ، ويقال لهم: الغلاة، ولما قتل علي رضي الله عنه اعتقدوا أنه لم يقتل، بل قالوا: إنه رفع إلى السحاب، واعتقدوا أنه سوف يرجع، فلذلك يقال لأحدهم: فلان يؤمن بالرجعة، ولا يزال كثير منهم يؤمنون بالرجعة إلى اليوم، ولهم في ذلك كتب جديدة، ويذكر بعضهم أنه جاءه أحد علماء الرافضة وقال: إني ألفت كتاباً، قال: في أي شيء؟ قال: في الرجعة، فقال: كيف تكون الرجعة وقد قتل علي ؟! وكيف يرجع وقد قال الله تعالى وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا(3/483)
[المنافقون:11]، أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95] فقال: قد آمن بها أسلافنا ومشايخنا، وقد كتبوا فيها، فقال: كل ذلك خطأ، أتقلد في الخطأ؟! فقال: بل أنت المخطئ، فلما رأى أنه متشدد في الإنكار ذهب ذلك المؤلف وهو يقول: واإسلاماه! واإسلاماه! بمعنى: أنه لم يجد من يؤيده، أو لم يؤيده هذا الشيخ على الإيمان بالرجعة. إذاً: فهي عقيدة لا تزال موجودة يعتنقها كثير في العراق وفي إيران، وفي كثير من البلاد التي يكثر فيها الرفض.
ادعاء طوائف من الرافضة أن علياً رسول من عند الله
…
توجد طائفة منهم غلوا في علي حتى جعلوه رسولاً من عند الله، وادعوا أن الرسالة له، وأن جبريل أخطأ، كما قالوا: إنه كان مأموراً بأن ينزل على علي ، ولكنه خان ونزل على محمد، فعلي أحق بالرسالة من محمد، ولذلك يقول قائلهم: خان الأمين وصدها عن حيدر والأمين هو جبريل، فهم يقولون: إنه خان الرسالة! والله تعالى سماه الأمين: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193]، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:21]، وهؤلاء المخونة موجودون أيضاً، ويعتقد هذه العقيدة كثير من الرافضة في العراق وفي إيران، بل وفي المملكة، فقد ذكر لنا بعضهم أن رافضة المدينة قبل أن يسلموا من الصلاة يضربون بأيديهم على ركبهم ويكررون: خان الأمين، خان الأمين، ثم يسلم أحدهم، فهذه طائفة منهم، وهم أيضاً من الغلاة.
سبب انتشار الرافضة
…(3/484)
الرافضة يسمون أنفسهم الإمامية، وهم في الحقيقة الرافضة، وعقيدتهم أن علياً هو الإمام، وأن الأئمة قبله مغتصبون، فأبو بكر عندهم مغتصب للخلافة، وكذا عمر ، وعثمان ، وكذا من تولى الخلافة غير علي وذريته، يعتقدون أنهم مغتصبون لما ليس لهم به حق، وأصل تكاثرهم كان في العراق، ثم انتشارهم فيما بعد سببه -والله أعلم- ما حدث من بعض ولاة بني أمية منتصف القرن الأول، لما تولى ابن زياد على العراق، وكان سبباً في قتل الحسين، واستمر في العراق إلى أن قتل، ثم مات بعده يزيد ، فتولى العراق بعد ولاية آل الزبير الحجاج بن يوسف الثقفي ، وكان هؤلاء الولاة يميلون إلى بني أمية، وفي أنفسهم حقد على علي، كان يزين لهم أنه ممن داهن في قتل عثمان، ويقولون: إنه كان قادراً على أن ينصر عثمان لكنه لم ينصره! فكانوا يسبونه في الخطب على المنابر في العراق، وكذلك في الشام، ولا شك أن في العراق كثيراً من المحبين لعلي، من الذين ألفوه في حياته، وأحبوه محبة صادقة، هؤلاء إما أن يكونوا معتدلين في حبه وإما أن يكونوا غلاة من أتباع الغلاة، فإذا سمعوا هؤلاء الخطباء يلعنونه على المنبر في العراق وفي الشام ساءهم ذلك، فإذا سمعوا ذلك أخذوا في مجالسهم يذكرون فضائل علي ، فدخل بينهم الغلاة، وصاروا في مجالسهم الخاصة -التي هي مجالس أتباع علي المحبين له- يكذبون، ويغلون في الكذب، ويروجون الكذب بدلاً من أن يذكروا فضائله الصحيحة ومزاياه التي مدحه بها النبي صلى الله عليه وسلم.
أدلة الرافضة في تفضيل آل البيت والطعن في الصحابة
…(3/485)
ثبت لعلي رضي الله عنه فضائل كثيرة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، ولكن الرافضة بلا شك لم يقنعوا بذلك بل صاروا يزيدون، فصارت مجتمعاتهم التي يجتمعون فيها لا يتذاكرون فيها إلا فضائل علي، فلا يرون من يقتنع بقولهم فيكذبون أكاذيب، وحديث غدير خم الذي يجعلونه عيداً لهم جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) وقال: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) هذا هو الثابت ( أذكركم الله في أهل بيتي )، وقوله: ( إني تارك فيكم كتاب الله وعترتي ) ولكن ما اقتصروا عند هذا، بل صاروا يضيفون إليه حتى ألفوا كتباً في هذا الحديث، وجعلوه بألفاظ عديدة، فقالوا إنه قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)، وذكروا في أكاذيبهم أن علياً مكتوب اسمه على قائمة العرش، وأنه ممن خلقه الله وقرنه باسم محمد أو فضله على خلقه، وأنه وزوجته مكتوبان في غرف الجنة كلها، وأنه وأنه.. إلى غير ذلك من الأكاذيب التي يلفقونها، وهذه الأكاذيب التي يكذبونها ويروجونها إذا سمعها تلامذتهم وإذا سمعها أحبابهم أخذوا يروونها، وإذا سمعها الآخرون فماذا يقولون؟ لا شك أنهم يقولون: كيف تكون هذه مزاياه؟ وكيف تكون هذه فضائله؟ ومع ذلك يتقدم عليه غيره، ويكون غيره أفضل منه؟ وكيف قدم عليه أبو بكر وعمر وعثمان ؟ بل كيف فضل عليه فلان وفلان؟ لابد أن يكون هو الأفضل، وهو الإمام، فلما أنهم سمعوا تلامذتهم ومن كان حولهم يتكلمون بهذا أرادوا أن يشككوهم فقالوا: هلم فلنكذب أكاذيب نشكك بها تلامذتنا حتى لا ينكروا علينا ما نحن فيه، فكذبوا أكاذيب لفقوها ورموا بها أبا بكر وعمر وعثمان وبقية الصحابة، وادعوا أنهم مغتصبون وخونة، وادعوا أنهم ظلمة، فامتلأت الرافضة بالسب والكذب على هؤلاء الصحابة، أكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان، سببها ومبدأ(3/486)
أمرها التشكيك بأتباعهم حتى لا ينكروا عليهم، ولما اشتهرت هذه الأكاذيب فيما بينهم اعتقد تلامذتهم كفر أئمة الصحابة، واعتقدوا أن الصحابة ليسوا على هدى، حيث إنهم بايعوا غير الإمام الحق، وخلعوا الإمام الحق من إمامته وهو علي، وبايعوا أبا بكر وهو مغتصب ظالم، ثم بايعوا أيضاً عمر وهو ظالم ليس له حق، فجعلوهم بذلك مرتدين، وأبطلوا بذلك فضائلهم التي رواها أئمة الصحابة، وخرجت في الصحيحين وغيرها، وقالوا: إن فضائلهم التي وردت في القرآن بطلت بمجرد ردتهم، وأنهم ارتدوا بعد موت محمد صلى الله عليه وسلم، فما هي ردتهم على قول هؤلاء؟ ردتهم أنهم منعوا علياً من حقه، فمنعوه أن يكون هو الإمام، وبايعوا مغتصباً ظالماً هو أبو بكر، هكذا أقوالهم، وهكذا رسخت هذه العقيدة في نفوسهم، وتوارثوها، وأخذوا يتناقلون هذه الأكاذيب، فصاروا ينقلون فضائل علي ويبالغون فيها، وكذلك فضائل الحسن و الحسين و ابن الحنفية و زين العابدين وأولادهم وأولاد أولادهم، ويكذبون لأجل فضائلهم أكاذيب لا تليق بعاقل ولا يصدقها ذو عقل سليم، ولو قرأتم في كتبهم التي يروونها لعجبتم كيف يصدقون بهذه الأكاذيب! وكيف تروج عليهم! ولكن سلبت عقولهم، فلأجل ذلك يذكر بعض العلماء أنهم ليس لهم عقول، وأن الرافضة قوم لا خلاق لهم، فلا يصدق بتلك الأكاذيب إلا من طمست بصيرته، والردود التي ردت عليهم لو قرأتموها لعجبتم كيف يصدقون بهذه الأكاذيب! ولا يزالون على هذا المعتقد إلى هذا اليوم وللأسف؛ على الرغم من تفتح الناس وتبصرهم، ولا يزالون يروون ويتناقلون في كتبهم تلك الأكاذيب، ويؤولون عليها الآيات القرآنية. ذكر بعض الإخوان أنه اطلع على تفسير كبير عندهم موجود في العراق وفي إيران -وهو تفسير لأحد أئمتهم- فقرأ في قول الله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ [الرحمن:19] فذكر أن البحرين في قوله: (مرج البحرين يلتقيان) هما علي و فاطمة و(يلتقيان) يعني: في النكاح، وقوله:(3/487)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] اللؤلؤ والمرجان هما الحسن و الحسين اللذان خرجا من علي و فاطمة ، هكذا راجت هذه الأكاذيب. وفسروا قول الله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوت [النساء:51] فقالوا: (الجبت) هو أبو بكر ، و(الطاغوت) هو عمر ، قاتلهم الله أنى يؤفكون! وفسروا قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] فقالوا: (يدا أبي لهب ) هما: أبو بكر و عمر. وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] قالوا: البقرة التي أمروا أن يذبحوها هي عائشة بنت أبي بكر وهذه كلها أكاذيب، لكن كيف راجت عليهم؟ راجت عليهم لأنهم سلبوا المعرفة، فما زال غلاتهم على هذه العقيدة، وما زالوا مصرين عليها.
أول نشأة الرافضة
…(3/488)
في آخر ولاية بني أمية خرج رجل من ذرية علي اسمه زيد بن علي ، ولما خرج دعا الناس إلى بيعته؛ فجاءه الرافضة الذين في العراق فقالوا: نبايعك على أن تتبرأ من أبي بكر وعمر؛ وذلك لأنهم قد ارتسم في أذهانهم أنهما أكفر من أبي جهل وفرعون ، فلابد أن يتبرأ منهما، ولكنه رضي الله عنه امتنع من ذلك وقال: هما صاحبا جدي فلا أتبرأ منهما، قالوا: إذاً نرفضك، فرفضوه؛ فمن ثم عرفوا بالرافضة ، هذا هو اسمهم الذي ينطبق عليهم منذ ذلك الوقت، وهم الآن لا يعترفون به، بل يشنعون على من سماهم بهذا الاسم، مع أن الذي سماهم هو زيد، وهو ابن أحد أئمتهم، وهو زين العابدين علي بن الحسين أحد الأئمة الاثني عشر، أما الذين بايعوه فهم من سموا بالزيدية ، والزيدية يوالون أبا بكر وعمر وأكثر الصحابة، ولكنهم يتبرءون من بني أمية، أما الذين خالفوه فهم المعروفون بالرافضة. أما تسميتهم بالشيعة فهم الذين يطلقون هذا على أنفسهم وذلك ليتمدحوا به فيقولون: نحن من شيعة علي ، ومعنى شيعته أي: أنصاره، والشيعة في الأصل هم: الأنصار والأعوان، كقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ [الصافات:83]، وقوله تعالى هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّه [القصص:15] يعني: أتباعه؛ لأن الشيع هم: الفرق الضالة الذين ذمهم الله تعالى بقوله: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32] فالأصل أنهم فرق كثيرة متشعبة، ومنهم الباطنية.
علاقة الباطنية بالرافضة
…(3/489)
كان أول ظهور الباطنية في أوائل القرن الرابع، وقد استولوا على شطر هذه البلاد، فاستولوا على منطقة القصيم والأحساء والبحرين وما اتصل بها، وكان لهم قوة ونفوذ، وهم الذين قتلوا الحجاج في الحرم في سنة ثلاثمائة وسبعة عشر وهم يطوفون بالبيت، حيث قدموا في صورة حجاج ومعهم أسلحتهم ولما توسطوا في المسجد الحرام سلوا سيوفهم وأخذوا يقتلون الحجاج وهم في نفس الحرم، فجعل الحجاج يلوذون بالكعبة ويتعلقون بأستارها، ولكنهم جعلوا يقتلونهم، حتى كان يقول قائدهم: أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا وأخذ سترة الكعبة وشققها بين أصحابه، وقلع الحجر الأسود، وذهب به معه إلى بلاده التي هي القطيف، وبقي عندهم إلى سنة ثلاثمائة واثنين وثلاثين حيث ضعفت دولتهم، وقويت دولة الإسلام، وهددوا بأن يردوه وإلا غزاهم المسلمون وقتلوهم، فردوه وهم كارهون والحمد لله، وأعيد الحجر الأسود إلى مكانه، فهذه الطائفة من أكبر الطوائف ومن أكثرها ومن أخبثها؛ وذلك لأن بعض العلماء يقولون: إنهم يظهرون الرفض، ولكنهم كذبة، فظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، فهؤلاء طائفة منهم، ولا شك أن هؤلاء من ورثتهم الذين يظهرون أنهم مع المسلمين، وأنهم بين المسلمين، ويظهرون أنهم إخواننا كما يقولون، ويدعوننا إلى التقارب، ويدعون أنهم على الحق، وأن مذهبهم الذي يذهبون إليه هو مذهب كسائر المذاهب الفرعية وهي: مذهب الشافعي و مالك و أبي حنيفة و أحمد، وكذبوا بذلك؛ لأنهم مخالفون للمسلمين في العقيدة التي هي الأصل والأساس، فكيف يجمعون مع المسلمين؟! وكيف يأمنهم المسلمون؟! ولا شك أنهم يظهرون للمسلمين العداوة والبغضاء، ولعلكم تحفظون من الحكايات عنهم أكثر مما أحفظ، وبلغكم وبلغ أفرادكم أكثر مما بلغني. إذاً: فهم أعداء لله وأعداء للإسلام والمسلمين، فلا يغتر بدعوتهم إلى ما يسمونه بالتقريب، ولا شك أن هذا كله كفر وضلال، فعلى المسلم أن يعرف أعداء الله ولا ينخدع بدعاياتهم(3/490)
وبأقوالهم وبما هم عليه، بل نأخذ حذرنا منهم.
استغلال الرافضة لما في تاريخ ابن جرير للترويج لمذهبهم
…
كان العلماء الأولون منتبهين للرافضة في القرون الأولى، وقد كانوا يتسترون في تلك الفترة -القرن الأول والقرن الثاني والثالث- ولا يظهرون أمرهم، ولكن مع الأسف تولوا ولايات، ووثق بهم أكثر العامة، وصاروا يروون عنهم تلك الأخبار، وصار منهم أخباريون، وإن لم يكونوا من غلاتهم، فلذلك دخل الكذب في كتب التاريخ؛ بسبب الرواية عنهم أو عن كثير منهم، فتجدون مثلاً أن كتب التاريخ -حتى فيما يكتبه أهل السنة- مملوءة بما يدل على أنه من الرافضة، فمن المشهورين في نقل الأخبار وحفظها رجل شيعي يقال له: لوط بن يحيى ، ويشتهر بأبي مخنف ، يروون عنه في كتب التاريخ، ويقول ابن جرير : قال أبو مخنف .. وذكر أبو مخنف ، هذا الراوي يُذكر أنه من أهل السنة، ولكنه يميل إلى الشيعة، دليل ذلك أنه يتتبع أخبار أهل البيت، ويبالغ في نقلها، ويطيل فيها، ويتابعها المتابعة الزائدة، ويستقصي أخبارها، فمثلاً: في تاريخ ابن جرير ذكر واقعة قتل الحسين، وهي حادثة واحدة، حيث قتل ومعه من أهل بيته نحو الأربعين، وهذه الواقعة كان يكفيها ثلاث صفحات أو أربع صفحات، ولكن استغرقت نصف مجلد -أي: أكثر من مائتين وخمسين صفحة- في تاريخ ابن جرير ، وذلك بسبب اعتماده على نقل كلام هؤلاء الأخباريين، و ابن جرير رحمه الله من أهل السنة، ولكن بلاده طبرستان بإيران كانت مليئة في زمانه بهؤلاء الرافضة ، فكانوا يدخلون عليه شيئاً من أخبارهم -وإن كان محدثاً ومفسراً وإماماً- فينخدع بهم، وقد ألف بعضهم كتاباً يقع في مجلدين في غدير خم، يقول ابن كثير : ذكر فيه ما لا يصلح أن يذكر، وحشد فيه الطيب والخبيث، والغث والسمين، والصحيح والسقيم، واستوفى فيه كعادة المؤلفين في ذلك الوقت، فكثرت عنده تلك الأخبار، كدليل على أن أخبار الرافضة في ذلك الزمان قد كثرت، وفي القرن الثالث استولى على(3/491)
العراق -بل وعلى مصر وعلى إيران ونحوها- بنو بويه، فأسسوا دولة رافضية، وقد تسلطوا في زمن خلافة بني العباس، وأعلنوا مذهب الرافضة، وزادوا في التوغل فيه، ونشروه النشر الزائد، وانتشر في زمانهم وتمكن، فتمكن في العراق؛ لأنها وطنهم، وتمكن في إيران وفيما بعدها، وصاروا يدعون إليه بالقول وبالفعل، ويشجعون كل من يعتنقه، ويولونه الولايات، ولا شك أن هذه من الدعايات في تمكين هذا المذهب، وإلا فهو مذهب باطل خبيث، ولما تمكن وكثر معتنقوه صار لهؤلاء مراجع ومؤلفات، فصاروا يؤلفون الكتب لتقرير مذهبهم، ويدرجون فيها ما لا يصدقه العقل، فانتشر هذا المذهب، وانتشرت كتبهم، حتى صار عندهم الآن من الكتب في العراق وفي إيران ما لا يحصيه العباد، وكلها تركز على تأييد هذا المذهب. كذلك لما انتشرت تلك المؤلفات فيما بينهم، وكثر المؤلفون، تمكن هذا المذهب وظهر وقوي، وانخدع به من انخدع، ولا يزالون يخدعون الناس إلى هذا اليوم، ولا يزالون يسعون لجر الناس إلى اعتناق واعتقاد هذا المذهب الباطل إلى هذا اليوم، وينخدع كثير من الناس بحسن معاملتهم وبملاطفتهم وبحسن كلامهم وبمدحهم لأنفسهم، فيظهرون شيئاً من الأخلاق ومن الأدب ومن الصدق في الوعد، ومن كذا وكذا، فيجتذبون الناس بمثل هذه المعاملة الحسنة، وإلا فالأصل أنهم كفرة، وعقائدهم سيئة، نقول هذا بموجب ما يحكى لنا عنهم، ولا أتجرأ أن أذكر تلك الحكايات التي يذكرها لنا بعض الإخوان الذين اشتغلوا معهم في المنطقة الشرقية في شركة (أرامكو) وغيرها من احتيالهم على أهل السنة، ومقتهم وبغضهم لهم، وحقدهم عليهم، وحرصهم على أن يوصلوا إليهم كل ضلال وكل شر، ورغم ذلك ينخدع الكثير بإعلاناتهم وبدعاياتهم أنهم مسلمون، وأنهم على مذهب متبع ومعترف به, وأنهم وأنهم.. يذكر لنا بعض المشايخ الذين جاءوا إلى الأحساء أنهم وجدوا أهل الأحساء يعتقدون أنهم مسلمون، وليس بينهم من الفرق إلا كما بين من يقول: إني شافعي وإني(3/492)
مالكي، ولم يدروا أنهم ضلال وكفار حتى ظهر لهم الحق. لا شك أن هذا هو المعتقد السيئ عندهم، نقول: لما كان كذلك اهتم العلماء رحمهم الله بذكر فضائل السلف وفضائل الصحابة رضي الله عنهم، وذكروا ذلك في عقائدهم، كما ذكر ذلك صاحب هذه العقيدة الذي هو الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى، وكما ذكر ذلك أهل العقائد نظماً ونثراً، فيقول مثلاً أبو الخطاب الكلوذاني في عقيدته: قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد يا له من مسعد يعني: أبا بكر ، ثم ذكر خلافة من بعده من الخلفاء إلى أن وصل إلى خلافة علي رضي الله عنه، وهو رابعهم: قالوا فرابعهم فقلت مجاوباً من حاز دونهم أخوة أحمد يعني: علي رضي الله عنه، فعلى هذا اهتم السلف بذكر فضائل الصحابة في العقيدة؛ لأن الكتاب ما جاءنا إلا بواسطتهم، والأحاديث النبوية ما وصلنا إلا عن نقلهم، فإذا كانوا كفاراً -كما يقولون- فإن أخبارهم لا تقبل!
طريقة الرافضة في الاستدلال بآيات القرآن للطعن في الصحابة
…(3/493)
شبه الرافضة في الطعن في الصحابة، أن الآيات التي ذكرت في المنافقين يحملونها على الصحابة رضي الله عنهم، فمثلاً: قول الله تعالى في قصة بدر: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الأنفال:5-6] قالوا: هؤلاء جادلوا الرسول كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، فهم كفروا بذلك، بينما الله تعالى ما كفرهم به، وإنما سماهم مؤمنين ( وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ) فكيف يكفرونهم والله سماهم مؤمنين؟! نعم كرهوا مقاومة ومقابلة الكفار مخافة أنهم يقضى عليهم وهم عدة من المسلمين، ومعهم الرسول، ومعهم خيار الصحابة، ولكن الله تعالى نصرهم وأيدهم، هذه هي الكراهية والمجادلة، يعني: كأنهم يقولون: لو ذهبنا إلى العير لكان أفضل، فهل يخرجهم ذلك من الإيمان؟ ما يخرجهم، ولكن الرافضة جعلوها كدليل على أنهم كفار، فكفروهم بمثل ذلك. أما الآية الثانية التي استدلوا بها، فهي الآية التي في آخر سورة الجمعة: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11] قالوا: هؤلاء الذين انفضوا عن الرسول وهو يخطب وتركوه قائماً ارتدوا بذلك، والله تعالى لم يكفرهم بذلك، بل عفا عنهم، ثم نقول: من هم الذين بقوا ومن هم الذين انفضوا؟ معلوم أنهم خرجوا ينظرون إلى هذه الإبل فرجعوا وأتموا صلاتهم؛ لأنه لا يليق أن يتركوا الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قد يكون معهم بعض أهل البيت، وقد يكون معهم سلمان ، وقد يكون معهم أحد الذين يمدحونهم كعمار وصهيب ونحوهم، فما دام كذلك فلا حجة لهم بمثل هذه الآيات التي يستدلون بها، ثم لو قدر أنهم صادقون وأن تلك الأشياء التي وقعت منهم حقيقية فهل يليق أن نكفرهم بها؟ لا يليق ذلك، خاصة وأن لهم من السوابق ما(3/494)
يعفى عنهم إذا صدر منهم أي ذنب من الذنوب، ولابد أنه قد تاب منه، والتوبة تجب ما قبلها، أو محيت عنه بسوابقه وبحسناته التي عملها، فسوابقهم وأعمالهم مضاعفة (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فالحسنات يذهبن السيئات، فكيف مع ذلك ننسى حسناتهم ونتذكر أشياء طفيفة وسيئات خفيفة، على حد قول بعضهم: ينسى من المعروف طوداً شامخاً وليس ينسى ذرة ممن أسا ينقبون الذرات والأشياء الصغيرة عليهم، وينسون فضائلهم وجهادهم، ولكنهم قوم لا يفقهون. فعلى المسلم أن تكون عقيدته نحو الصحابة سليمة محبتهم، والترضي عنهم، والثناء عليهم، والاعتراف بما لهم من المزية، وبما لهم من السبق، ومعرفة أنهم خير قرون هذه الأمة، لا كان ولا يكون مثلهم، وأن فضائلهم لا يدركها غيرهم، فإذا اعترفنا بذلك عرفنا عندها كفر من كفرهم، وضلال من ضللهم، وبعد الذين عادوهم وناصبوهم وناصبوا كل من والاهم من أهل السنة والجماعة العداء، فما علينا إلا أن نشهر ونعلن فضائل الصحابة كما أعلنها وكما أشهرها الأئمة قبلنا، وقد تقدم أن العلماء أظهروا فضائلهم؛ فالبخاري جعل كتاباً في صحيحه ذكر فيه فضائل الصحابة، وبدأه بفضائل الخلفاء الأربعة، وهكذا فعل مسلم رحمه الله، وهكذا فعل الترمذي، وهكذا ألف الإمام أحمد كتابه المعروف فضائل الصحابة، والكتب المؤلفة في ذلك كثيرة، وكل ذلك في الثناء على هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم، وعلى أتباعهم. فإذا قرأ المسلم تلك الأخبار وعرف صحتها؛ عرف بذلك أن من عاداهم فهو ضال مضل خارج عن الإسلام، طاعن في عقيدة الإسلام، بل في أصل الإسلام الذي هو الكتاب والسنة. أما ما يتعلق بأحوال هؤلاء الرافضة وأعمالهم فهم وأعمالهم والعياذ بالله في ضلال، نبرأ إلى الله منهم ومن عقائدهم ومن أعمالهم السيئة، ونتمسك بما نحن عليه إن شاء الله، ونسأل الله أن يحيينا على محبة الخير وأهله، وأن يميتنا وإخواننا المسلمين على الإسلام والتمسك بالسنة.(3/495)
شرح العقيدة الطحاوية [83]
أبو بكر الصديق أفضل هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام، وهو أول الخلفاء، وفضائله كثيرة مشهورة، ولهذا أجمع الصحابة على تقديمه.
مجمل معتقد أهل السنة في الصحابة
…
المسلمون يترحمون على الصحابة ويترضون عنهم كما ترضى الله تعالى عنهم في قوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة [الفتح:18]، وإذا رضي الله عنهم فقد علم أنهم أهل للرضا فلا يسخط عليهم، كما وعد أهل الجنة بذلك في قوله: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً)، وكذلك يقول تعالى وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه [التوبة:100] أخبر بأنه رضي عنهم، وإذا رضي عنهم فلا يسخط عليهم، وهم أهل للرضا، وكذلك يقول تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة:117]، وإذا تاب الله عليهم -ومنهم نبيهم صلى الله عليه وسلم- ومدحهم بأنهم اتبعوه في ساعة العسرة؛ فإنه تعالى هو التواب الرحيم، ولا شك أنه قبل توبتهم بعد أن كانوا مشركين في الجاهلية فأسلموا وتابوا فقبل منهم وبقوا على هذا الإسلام، ولا يمكن أن يتوب الله عليهم ويخبر بأنهم أهل للرضوان وهو يعلم سبحانه أن فيهم من يرتد، وأن فيهم من يكفر، وأنهم ليسوا أهلاً لذلك على حد زعم أعدائهم. هذا هو مقتضى علم الله تعالى، فالله سبحانه عليم بما كان، عليم بما يكون، علم أن هؤلاء الصحابة خيرة خلق الله من هذه الأمة، اصطفاهم صحباً لنبيه، وحملة لشريعته، وأهلاً لرضاه، وأهلاً لدينه، وأهلاً لتوبته، فهم أهل لذلك في وقت نزول القرآن وفيما بعده، وفي حياة نبيهم صلى الله عليه وسلم وبعد موته، لا يمكن أن يغيروا ولا أن يبدلوا، هذه سنة الله وهذا علم الله. كذلك(3/496)
نترضى عنهم؛ لأنهم حملة شريعة الله التي وصلت إلينا، فهم الذين بلغوا أمر الله، وبلغوا أمر رسوله، بلغوا القرآن وبلغوا السنة، ونقلوها إلى من بعدهم كما هي عملاً بقول نبيهم صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) فمن حفظ منهم آية علمها وبلغها، ومن حفظ حديثاً أداه كما سمعه على ما قال نبيهم صلى الله عليه وسلم، حيث قال في حجة الوداع لما خطبهم: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت، فقال: ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فلعل بعض من يبلغه أوعى ممن سمعه) فأمر الشاهد الحاضر أن يبلغ الغائب، ولا شك أنهم امتثلوا هذا الأمر فبلغوا ما أمروا بأن يبلغوه وما تحملوه، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك بقوله: (رحم الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فهذا البيان والبلاغ أول وأولى من قام به صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولما كانوا حملة هذا القرآن، وحملة هذه الشريعة، وحملة السنة النبوية، والذين أدوها إلى تلامذتهم، وأدوها إلى من بعدهم؛ اعتقد أهل السنة أنهم أوفياء، وأنهم بررة أتقياء، وأنهم كلهم عدول ليس فيهم من يتهم بكذب، وليس فيهم من يقول كذباً أو يختلق حديثاً لا أصل له، وإنما حدث الكذب فيمن بعدهم، فعرفنا بذلك عدالة هؤلاء الصحابة وثقتهم، وأنهم حملة الشريعة، ولو طعن فيهم لبطلت الشريعة، ولبطل الدين، ولبطلت ثقتنا بالقرآن، لكن ثقتنا بكتاب ربنا ثقة قوية، وكذلك ثقتنا بالأحاديث، وثقتنا بالأعمال التي نحن نعملها ثقة راسخة وعقيدة ثابتة لا يمكن أن ننساها، ولا يمكن أن نتركها، ولا يمكن أن يتصدى لها طاعن أو نقبل فيها قول قائل؛ لأننا ما وثقنا بها إلا لأنها بلاغ أولئك الأصحاب، فهي بلاغ وبيان منهم، وهم أهل الثقة وأهل العدالة وأهل التقوى. ......
أصل مصادر أهل البدع في طعنهم في الصحابة وموقف المسلم منهم
…(3/497)
أعداء الله وأعداء صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم لم يتلقوا عقيدتهم عن موثوقين، وإنما تلقوها عن كذبة وعن فجرة وعن مولدين دخلوا في الإسلام نفاقاً كابن سبأ الذي يقال له: ابن السوداء فإنه يهودي دخل في الإسلام نفاقاً، ولما دخل فيه أراد أن يفسد معتقد المسلمين، وأراد أن يفرق بينهم، فأدخل فيهم الكفر بخفية، وولد فيهم بغض الصحابة أو بعضهم والغلو في بعضهم إلى أن حصلت به فتنة عظيمة، فكذلك من تبعه. ومن غلا في بعض الصحابة وتنقص بعضاً من أتباع هذا الرجل أو ممن هو على شاكلته، ما هو معتمده؟ أدلتهم ونصوصهم وبراهينهم جاءتهم من طريق أولئك الكذبة الكفرة الفجرة فلا يوثق بهم، فإذا عرفنا معتمد أهل السنة ومعتقدهم أنه عن طريق الصحابة الثقاة العدول، إيمانهم بالأحاديث، وإيمانهم بالآيات، وإيمانهم أيضاً بالأعمال التي تلقوها، وعرفنا معتقد الرافضة ومعتقد الباطنية والنصيرية والمكرمية كما يسمون، والنخاولة وما أشبههم؛ عرفنا معتقدهم، فما هو معتقدهم؟ وما هو معتمدهم؟ وما هو سندهم الذي اعتمدوه؟ لا نجد لهم سنداً صحيحاً، أسانيدهم ترجع إلى منافقين ويهود وكفرة دخلوا في الإسلام تستراً، وأرادوا بذلك إدخال الفساد على المسلمين، وقد تمكنوا من ذلك حيث انخدع بهم خلق كثير وللأسف، ولا يزال يدافع عن أولئك الكفرة ويسير على نهجهم الخلق الكثير والجمع الغفير، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظ دينه كما ضمن ذلك بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فلا يضره كثرة من يطعن في هؤلاء الصحابة أو يطعن في هذه المعتقدات، ولا يضر المؤمنين طعن الطاعنين ما دامت أصولهم وأسسهم التي يعتمدونها موجودة، حيث عندهم كتاب الله الذين ضمن الله حفظه، فهو موجود محفوظ في المصاحف، ومحفوظ في الصدور، كذلك سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد تحرى العلماء لها وتثبتوا، ونقلوها بالأسانيد، واختاروا الرجال الأثبات، والعلماء العدول،(3/498)
واطرحوا الأحاديث التي في أسانيدها ضعفاء أو أهل كذب أو بدعة أو ما أشبه ذلك، واقتصروا على أحاديث الأئمة العدول الثقات الأثبات، وأثبتوها في الصحيحين وفي السنن وفي المسانيد، وبينوا أحوال رجالها، وتثبتوا منها، متى كان هذا التحري إلا عند أهل السنة؟! متى كان هذا التثبت إلا عند أهل السنة؟! إذا نظرنا في كتب الرافضة هل نجد فيها هذا التثبت؟ لا نجد فيها هذه الأسانيد القوية التي كان حملتها أعلاماً، وجبالاً في الحفظ، والعلم، وكانوا علماء ربانيين بررة حفاظاً يضرب بحفظهم المثل، حفظ الله تعالى بهم شريعته وتولى حفظ هذه الشريعة بواسطتهم، وذلك فضل الله ومنته على عباده، فعلى هذا فإن الطاعن في هؤلاء العلماء وهؤلاء الصحابة إنما هو في الحقيقة يطعن في الله، وفي شرع الله، وفي دين الله، وفي كتاب الله وسنة رسوله، فكأن هؤلاء الرافضة بطعنهم في الصحابة يطعنون في كتاب الله ويطعنون في سنة رسول الله، فلا يبقى للمسلمين شيء يتشبثون به ولا يعتمدون عليه. كتب الرافضة التي يعتمدون عليها ليس لها أسانيد صحيحة، ولا ما يعتمد عليها، فما لهم معتقد بخلاف أهل السنة. وبذلك نعرف أدلة أهل السنة ومعتقدهم، وأدلة أعدائهم الرافضة ومعتقدهم، في الصحابة وفيمن بعد الصحابة من أهل السنة. ......
عقيدة أهل السنة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه
…(3/499)
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة). اختلف أهل السنة في خلافة الصديق رضي الله عنه: هل كانت بالنص أو بالاختيار؟ فذهب الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث إلى أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة، ومنهم من قال: بالنص الجلي، وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية إلى أنها ثبتت بالاختيار. والدليل على إثباتها بالنص أخبار: من ذلك ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه، قال: (أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ كأنها تريد الموت، قال: إن لم تجديني فاتئي أبا بكر)، وذكر له سياقاً آخر وأحاديث أخر، وذلك نص على إمامته. وحديث حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر) رواه أهل السنن. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه، فقال: ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتاباً، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر)، وفي رواية (ولا يطمع في هذا الأمر طامع)، وفي رواية قال: (ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر لأكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه، ثم قال: معاذ الله أن يختلف المسلمون في أبي بكر) وأحاديث تقديمه في الصلاة مشهورة معروفة، وهو يقول: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، وقد روجع في ذلك مرة بعد مرة فصلى بهم مدة مرض النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو فنزعت منه ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم استحالت غرباً فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقرياً من(3/500)
الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن). وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم. قال على منبره: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر). وفي سنن أبي داود وغيره من حديث الأشعث عن حسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: (من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً أنزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر ، فرجحت أنت بأبي بكر ، ثم وزن عمر و أبو بكر فرجح أبو بكر ، ووزن عمر و عثمان فرجح عمر ، ثم رفع فرأيت الكراهة في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء). فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ولاية هؤلاء خلافة نبوة، ثم بعد ذلك ملك، وليس فيه ذكر علي رضي الله عنه؛ لأنه لم يجتمع الناس في زمانه، بل كانوا مختلفين لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك، وروى أبو داود أيضاً عن جابر رضي الله عنه أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر ، ونيط عثمان بعمر ، قال جابر : فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما المنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه). وروى أبو داود أيضاً عن سمرة بن جندب أن رجلاً قال: (يا رسول الله! رأيت كأن دلواً دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت منه، فانتضح عليه منها شيء). وعن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي ملكه من يشاء -أو- الملك)]. ......
الأدلة العقلية والنقلية على أحقية أبي بكر بالخلافة(4/1)
…
تكلم العلماء على الخلفاء الراشدين وهم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وقالوا: هؤلاء هم الخلفاء الراشدون، وتسميتهم تسمية نبوية لحديث العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) فجعلهم خلفاء، والخليفة هو الذي يخلف غيره، وسماهم رأس الدين، والراشد هو: ضد الغاوي، أي أنهم على رشد، ووصفهم أنهم مهتدون غير ضالين، فهذه إشارة إلى خلافة هؤلاء الأربعة، وكذلك من سار على نهجهم أو اقتدى بهم كعمر بن عبد العزيز ، فقد قيل: إنه من الخلفاء الراشدين؛ لأنه أشبه سيرتهم، كذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخلافة ثم الملك بحديث سفينة الذي قال فيه: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً) وقد كان ذلك، فإن خلافة أبي بكر سنتان ونصفاً، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتا عشرة سنة، فهذه أربع وعشرون سنة ونصف سنة، وخلافة علي خمس سنين إلا بعض السنة، وتتمتها خلافة الحسن فأصبحت هذه ثلاثين سنة أو نحوها، وهذه هي الخلافة التي أخبر بأنها خلافة نبوة، ثم بعدها يكون ملكاً؛ وذلك لأن الملك لما انتقل إلى معاوية ثم إلى بني مروان أصبحوا كأنهم يعملون عمل الملوك، ولو كان فيهم شيء من السيرة الحسنة والجهاد، لكن عملهم ليس كعمل الخلفاء الراشدين، حيث إنهم جعلوها وراثة، وصاروا يعهدون بالخلافة إلى أبنائهم أو من يطلب منهم، فأصبحت الخلافة النبوية ثلاثين سنة ابتدأت بخلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقد أجمع الصحابة على تقديمه وفيهم أهل البيت كعلي و الحسن و الحسين و العباس و ابن العباس ، وجميع الصحابة اتفقوا على خلافة أبي بكر ، والله تعالى لا يجمع الصحابة على ضلالة، فلا يجتمعون إلا على حق، وهذه حجة قوية في صحة خلافة أبي بكر ، فأين الرافضة من هذا الإجماع؟ الرافضة يقولون: إن أبا بكر مغتصب، وأنه تجرأ على شيء ليس له، وأن الصحابة خانوا هذه الأمانة التي هي عهد لعلي(4/2)
بالخلافة، ولكن خانوا في ذلك وكتموا، وبايعوا أبا بكر خيانة وضلالاً، وظلموا حق علي ، هكذا يقولون! ومعناه: أنهم كلهم أجمعوا على هذا الظلم وحاشاهم من ذلك، ولا شك أنهم عندما بايعوا أبا بكر عملوا بهذه الإشارات التي سمعنا من الأحاديث الدالة عليها، فإن قوله صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة لما قالت: (أرأيت إن لم أجدك؟ فقال: ائتي أبا بكر) كأنها أشارت إلى أنه قد يأتيك الموت أو نحوه فمن يكون بعدك؟ ومن آتيه بعدك لقضاء حاجتي؟ فقال: (ائتي أبا بكر) فدلت هذه الإشارة إلى أن أبا بكر هو الذي يقوم بالخلافة بعده كما هو الواقع. كذلك هذا الحديث الذي روته عائشة وهي من أمهات المؤمنين، ولا يمكن أن تكذب في حق أهلها، ولا في حق غيرهم، تذكر أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب كتاباً بالولاية لأبي بكر : (ائتوني بكتاب أكتب فيه عهداً لأبي بكر) ولكن علم بأن الله تعالى يجمع الصحابة على استخلافه وتوليته، فترك الكتابة ثقة بما كانوا عليه من معرفة حقه، وقال: (يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر) يعني: أنهم يعرفون أحقيته وأقدميته، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قدمه في الصلاة لما مرض وثقل وصعب عليه أن يتولى الصلاة بهم، وبقي أياماً -قيل: خمسة أيام، وقيل: سبعة، وقيل: أكثر أو أقل- وفي تلك الأيام كان الذي يصلي بالمسلمين هو أبو بكر ، وذلك بأمر النبي لما قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة : إن أبا بكر رجل رقيق لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر ، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت له مثل ذلك، فكرر ذلك ثم قال: إنكن صواحب يوسف) فأكد أن أبا بكر هو الذي يصلح أن يكون إماماً، وقد تولى هذه الإمامة التي هي الصلاة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أن توفي صلى الله عليه وسلم نظر الصحابة في أمر خلافته فقالوا: رضينا لدنيانا من رضيه نبينا لديننا. بمعنى أن: نبينا صلى الله عليه وسلم رضيه إماماً لنا في ديننا، حيث كان(4/3)
يصلي بنا، فذلك دليل على أفضليته؛ لأجل ذلك نرضاه أن يكون إماماً لنا عاماً في هذه الولاية التي فيها إصلاح دنيانا وضبط أحوالنا، وهكذا اتفقوا على توليته الخلافة. ثبت أنه صلى الله عليه وسلم خطب في آخر حياته قبل مرضه بزمن قليل فقال: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: نفديك بأنفسنا وأهلنا، فعجب الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن هذا العبد الذي خيره الله وأن أبا بكر يبكي ويقول هذه المقالة، فلما قال ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من أمن الناس علي في نفسه وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ثم قال: (لا يبقين خوخة في المسجد إلا سدت إلا خوخة أبي بكر) وهنا دليل على أنه مقدم في هذا الأمر، فالخلة هي: المحبة، فيقول: إنه أحق الناس في أن يكون لي خليلاً، وأن تكون له الخلة، فلو كنت متخذاً خليلاً لكان هو أحق بأن أتخذه، ثم أمر أن تسد النوافذ التي تطل على المسجد إلا نافذة أبي بكر ، لأن الصحابة كانوا قد بنوا بيوتهم إلى جانب المسجد، وفتحوا عليه أبواباً، فهذا الباب يدخل منه فلان من بيته إلى المسجد، وذلك الباب لفلان، فأمر بأن تسد تلك الأبواب التي تسمى خوخات، وتبقى خوخة أبي بكر، لماذا؟ إشارة إلى أنه سيتولى الخلافة، وسيحتاج إلى أن يدخل المسجد ويخرج ويتكرر دخوله، وذلك دليل على أنه سيتولى، والنبي عليه الصلاة والسلام علم بأنه سيكون والي المسلمين بعده، فأمر بإبقاء خوخته حتى لا تتغير. هذه الأدلة فيها إشارات، ولكن مجموعها يكون صريحاً، أما الإشارة الأولى فهي قصة القليب، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (رأيتني على قليب -القليب هو: البئر التي فيها ماء- أنزع منها -يعني: أجتذب الماء بدلوي- فنزعت منها ما شاء الله أن أنزع، ثم أخذها أبو بكر -جعل أبا بكر هو الذي أخذها بعده- فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين(4/4)
وفي نزعه ضعف والله يغفر له -أي: وذلك لقصر مدته- ثم أخذها ابن الخطاب -يعني: عمر-فاستحالت غرباً -والغرب هو: الدلو الكبير الذي يستقى به من الآبار، والذي تجتذبه السواني أو النواضح قديماً- فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن) وذلك لأن مدته طالت حتى بلغت عشر سنين، وفي مدته اتسعت رقعة الإسلام، وفتحت الأموال على بيت المال، وكثرت جبايتها، أوليس في هذا إشارة إلى أن الذي يأخذ الخلافة بعد النبي أبو بكر ، ثم لا تطول مدته، ويأخذها بعده عمر فتطول مدته؟ الإشارة الثانية: قصة ذلك الدلو الذي تدلى من السماء في رؤيا الرجل، حيث يقول: رأيت أن دلواً تدلى من السماء فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخذه أبو بكر فشرب منه، ثم أخذه عمر فشرب منه حتى تضلع، ثم عثمان ، ثم علي، إلا أنه انتزع منه فأصابه منه نضح، أليس في هذا دليل على ترتيبهم في هذه الخلافة، وأن الذي شرب بعد النبي صلى الله عليه وسلم يكون خليفة بعده، وهو أبو بكر ، ثم بعد أبي بكر عمر ، ثم عثمان ثم علي؟ فهذه إشارة إلى خلافتهم. كذلك أيضاً: بعض الإشارات التي تكون إما في صورة رؤيا أو قصص واقعية لا شك أن فيها إشارة واضحة إلى أن هؤلاء يكونون خلفاء بعده صلى الله عليه وسلم. وبكل حال نقول: إن هذه الإشارات من مجموعها يجزم بأنها نص صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر وجعله خليفة بعده، وسيأتي ذكر قصة بيعته وكيف اجتمع الصحابة على بيعته وفضلوه، ومعروف أنهم لم يختاروه إلا لميزة تميز بها.
إسلام أبي بكر ومرافقته للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة
…(4/5)
أبو بكر الصديق هو أول من أسلم من الرجال؟ كما يقول الكلوذاني في عقيدته: قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد يا له من مسعد فالجمهور على أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه، إذ كان رجلاً عاقلاً عارفاً موثوقاً، كامل العقل، ولما عرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام لم يتوقف ولم يتردد، بل بادر وقبل الدعوة ودخل في الإسلام، ولما دخل في الإسلام صار أيضاً داعية لأكثر الصحابة الذين أسلموا بمكة، فبإسلامه أسلم عثمان ، وأسلم طلحة وأسلم الزبير وأسلم عبد الرحمن بن عوف وأسلم سعد بن أبي وقاص، فكلهم أسلموا بدعوة أبي بكر. إذاً: فهو الذي دعا إلى الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أليس من فضائله أنه رفيق النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الهجرة؟ هاجر معه من مكة إلى المدينة، واختار النبي صلى الله عليه وسلم صحبته، وقد كان أبو بكر قد عزم على أن يهاجر وحده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انتظر لعل الله يأذن لي) فلما أذن له قال: (إن الله أذن لي في الهجرة، فقال: الصحبة يا رسول الله؟! قال: الصحبة) أي: سوف تصحبني. ومعروف أيضاً أنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الغار الذي قال الله فيه: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَن [التوبة:40] ولا شك أن هذه الصحبة لم ينلها غيره، فهو رضي الله عنه جمع نفسه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض نفسه للقتل، أما المهاجرون غيره فقد هاجروا خفية أو بعلن ولم يتعرض لهم المشركون، أما أبو بكر والنبي صلى الله عليه وسلم فإن المشركين قد عزموا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان الله ليسلطهم عليه، فلما اجتمع معه أبو بكر عزموا على أن يقتلوا أبا بكر معه، وجعلوا لمن أتاهم بكل منهما(4/6)
مائة من الإبل، فعند ذلك أمرهما الله بأن يخرجا بخفية، فخرجا ليلاً ودخلا في ذلك الغار المعروف بغار ثور، واختفيا فيه ثلاثة أيام، يأتيهما عامر بن فهيرة بغنم لأبي بكر فيحلب لهما منها ويسقيهما، وكذلك يأتيهما عبد الرحمن بن أبي بكر بالأخبار في الليل ثم يرجع، أوليس مبيت أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم من التعرض للأذى؟ أليس ذلك من فدائه بنفسه؟ لا شك أن هذه ميزة لا يلحقه فيها غيره، كذلك أيضاً صحبته له من مكة إلى المدينة وليس معهما إلا رجل مشرك يدلهما على الطريق، كذلك أيضاً خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، ولما كان في الليلة التي وقعت الوقعة في صبيحتها بات النبي صلى الله عليه وسلم طوال الليل يصلي ويتهجد، وبات أبو بكر معه يحميه ويحفظه، وكلما سقط رداؤه عنه رده عليه أبو بكر ، وكان مما قال له: (كفاك مناشدتك لربك، سوف يوفي لك ربك ما وعدك)، ولا شك أن هذه ميزة ميزه الله تعالى بها، فكان بذلك أهلاً أن يقلد هذه الخلافة التي هي الولاية.
قوة أبي بكر وحزمه في تعامله مع المرتدين
…(4/7)
الصحابة الذين بايعوا أبا بكر واجتمعوا على بيعته علموا أهليته وكفاءته، ومن نظر في سيرته رضي الله عنه ويرى كيف ضبط الأمور، وكيف أنفذ الجيوش، وكيف أرسل الرسل للدعوة، وكذلك ما وقع في السنة الأولى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من ارتداد العرب عن الإسلام، حتى لم يبق على الإسلام إلا أهل مكة وأهل المدينة وأهل الطائف، أما الأعراب حولهم فكلهم قد ارتدوا إلا من شاء الله، وكيف قوي أبو بكر على ضبط الناس كلهم، وقد رموا الإسلام عن قوس العداوة، ولكن حزمه رضي الله عنه وفطنته وسياسته وسيرته، وهذا يدل على أنه ذكي عارف، فصل في الأمور، وتعامل مع الأمر بحزم إلى أن رجع الناس في أقل من نصف سنة، واجتمع العرب كلهم على الرجوع إلى الإسلام، ودانوا بالإسلام بعدما كانوا تركوه، ولا شك أن في هذا فراسة قوية تدل على خبرته وحنكته وأهليته، وأن الله تعالى ما اختاره في هذه الحالة الحرجة إلا لأهليته، ولأجل ذلك يقول بعض العلماء: إن الله تعالى حفظ الإسلام برجلين: أبي بكر يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة، ولأجل ذلك سمي بالصديق ، أخذاً من قول الله تعالى في سورة الزمر: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر:33] الذي جاء بالصدق هو النبي صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هو أبو بكر ، فهذه بلا شك أنها تدل على أهليته، وقد أجمع الصحابة على تسميته بالصديق مبالغة في الصدق، ولا شك أن الصديقية هي أعظم المراتب بعد النبوة، قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ [النساء:69] فبدأ بالصديقين بعد النبيين، والصديقون هم: المبالغون في التصديق، وأبو بكر رضي الله عنه على رأسهم. فهذه الفضائل والميزات هي التي صار بها أهلاً أن يتولى أمر المسلمين، ولكن طمس الله على قلوب الرافضة وأعمى بصائرهم وحال بينهم وبين مائدة الحق،(4/8)
فولدوا أكاذيب بأنه مغتصب، وأن الصحابة كلهم خونة، وأن علياً مظلوم، حتى جعلوا علياً أيضاً من الظالمين؛ لأنه أقر بخلافة أبي بكر وبايعه وصبر على بيعته في زمانه، ولم يطالب بشيء من الخلافة، بل علي رضي الله عنه كان يصلي خلف أبي بكر مدة خلافته، إذلم يقل أحد من أهل السنة إن علياً كان يصلي وحده، أو كان له محراب يصلي فيه وحده، ولا قال أحد: إنه ترك الصلاة مع الجماعة وحاشاه. إذاً: فقد كان يصلي خلف أبي بكر ، أوليس ذلك دليل على أنه أقر بخلافته، وأنه رضي به والياً كما رضي به بقية المسلمين؟
شرح العقيدة الطحاوية [84]
طعن الرافضة في خلافة أبي بكر الصديق، ويعتقدون أنه اغتصب الخلافة من علي رضي الله عنه، ويوردون بعض الشبه لترويج مذهبهم، وقد كشف أهل العلم شبهاتهم، وزيفوا دعاواهم.
معتقد متأخري الرافضة في الصحابة كمعتقد متقدميهم
…(4/9)
نحمد الله أن جعلنا مسلمين، ونحمد الله أن جعلنا سنيين، ونحمد الله أن جعلنا متمسكين بالهدي النبوي، متمسكين بسنة خير المرسلين، متبعين للصحابة أجمعين، مترضين عنهم وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، مترضين عن أئمة المسلمين، عارفين لحقهم وعارفين لقدرهم، مخالفين لأهل البدع والمحدثات، وهذه بلا شك نعمة عظيمة ومنة جسيمة حيث أنقذنا الله من تلك البدع، وأنقذنا من تلك الخرافات، وأنقذنا من أولئك المبتدعة الذين رأوا الحق فتركوه، وزين لهم الباطل فاتبعوه، وقامت عليهم حجة الله، ولكنهم أصروا وعاندوا على المخالفة. في القرون السابقة قد يكون الشيعة والرافضة معذورين؛ حيث إنهم لم يطلعوا على سير الصحابة، ولم تنتشر كتب السلف، ولم تشتهر الأحاديث التي فيها؛ وذلك لكونها مخطوطة في المكتبات الكبيرة ولا يمكن انتشارها، وهم لا يألفونها، ولا يقصدون تلك المكتبات، ولا ينتقون تلك الكتب وإنما ينتقون ما يناسبهم من مؤلفات مشايخهم، ولكن في هذه الأزمنة بلا شك أنها قد قامت عليهم الحجة، وظهر الحق واستبان، ولكنهم عاندوا وأصروا واستكبروا عن الحق، فلا عذر لهم، فقد انتشرت كتب السلف وكتب السنة وكتب السيرة بعدما كان لا يوجد منها إلا كتاب أو كتابان أو نسخة أو نسختان، صار يوجد منها الآن مئات وألوف وعشرات الألوف، وفي إمكانهم أن يقرءوها، بل وقرءوها، ولكنهم أصروا واستكبروا. كذلك في هذه الأزمنة أيضاً وجدت الأشرطة التي فيها سيرة السلف وهم يسمعونها ويقتنونها، ولكنهم أصروا واستكبروا على العناد وعلى البدعة الشنيعة. كذلك أيضاً تنشر سير السلف وسير الصحابة ومآثرهم وفضائلهم في الكتب، وتنشر في الصحف اليومية، وتنشر في المجلات الأسبوعية أو المجلات الشهرية التي هي دائماً منتشرة تذاع علناً، ولا شك أن أولئك الشيعة يتمكنون من قراءتها والاطلاع عليها ولابد، ولكنهم مع ذلك كله بعد قيام الحجة عليهم أصروا واستكبروا استكباراً.(4/10)
وكذلك أيضاً بلا شك أنهم يسمعون إذاعات أهل السنة في كل مكان وفي كل جهة، الذين يترضون عن الصحابة وينشرون سيرهم، وينشرون أخبارهم وجهدهم وجهادهم، فلا شك أنهم قد سمعوا ذلك ويسمعونه، ولكنهم مع ذلك أصروا واستكبروا استكباراً. كذلك أيضاً مع وجود المناهج الدراسية التي تدرس فيها سير الصحابة وسير السلف وأحوالهم، وكتب الأدب، وكتب التاريخ في المعاهد العلمية، وفي المدارس المتوسطة والثانوية، وفي الجامعات الإسلامية، لا شك أنها تدرس وأن الشيعة يدرسونها, ويقرءونها، وقد عرفوا صحة ما فيها وثبوته؛ حيث إنه يعتمد على الدليل وعلى النقل الصحيح، ولكنهم مع ذلك كله أصروا واستكبروا استكباراً. إذاً: فقد قامت عليهم الحجة، فليسوا كعلمائهم الأولين الذين لم يتمكنوا مما تمكن منه هؤلاء، هذا بالنسبة للرافضة. أما بالنسبة لأهل السنة فإنهم كانوا قديماً لا يتمكنون من قراءة كتبهم، ولا يطلعون عليها، بل الرافضة بأنفسهم يخفون كتبهم وعقائدهم ويسرونها، ولا يمكنون أحداً من قراءتها؛ وذلك لما فيها من الفضائح، ولما فيها من الأخطاء الفاحشة، ولما فيها من الحمل على الصحابة، ومن التأويلات البعيدة، ولكن في هذه الأزمنة لم يقدروا على إخفائها، بل طبعت تفاسيرهم، وطبعت كتبهم، واطلع عليها أهل السنة، فرأوا فيها الفضائح، ونقلوا ما نقلوا منها، وجعلوه حجة عليهم، وردوا عليهم الردود الواضحة من كتبهم أنفسهم، وقالوا: قلتم في كتابكم الفلاني في صفحة كذا من جزء كذا، وقلتم في كتابكم كذا وكذا، وكلها أشياء واقعية، لكنها تأويلات بعيدة، وتحريفات للكلم عن مواضعه، وأكاذيب وترهات يقولونها بغير حق، ويجعلونها شبه أدلة وهي في الحقيقة خرافات لا أصل لها، وقد اتضح كذبها، واتضح بعدها، واتضح لكل عاقل أنها بعيدة عن الصواب، فبان بذلك كذبهم، وبان بذلك فشلهم، واطلع العلماء على أسرارهم، وردوا عليهم من مؤلفاتهم، ولكنهم مع ذلك كله أصروا واستكبروا. ......(4/11)
جهود الرافضة في إفساد عقائد المسلمين
…
في هذه البلاد -المملكة- معلوم أن المناهج الدراسية موحدة بالنسبة إلى طلاب السنة والشيعة ، ولكن علماؤهم الذين يخفون أنفسهم -وربما أظهروا أنفسهم في هذه الأزمنة- يحرصون على ألا يقع في أيدي أبنائهم وأولادهم شيء من التعاليم التي يتلقونها من المدرسين السنيين، فإذا درس الطلاب الشيعيون في هذه المدارس أشياء تتعلق بالعقيدة وتتعلق بسير الصحابة، وخرجوا وقد عرفوا ذلك وقرءوه، وأخذوه من تلك المناهج والكتب الدراسية؛ عرضوه على شيخ لهم أو على كبير لهم، فأخذ ينتقد هذه، ويصوب هذه، ويخطئ هذه، ويقول لهم: هذا لا تعتقدوه، وهذا لا تقولوا به، وهذا ليس بصحيح، وهذا يخالف معتقدكم، وهذا يخالف سيرتكم، ولا يزال بأولئك الطلاب حتى لا يبقي أثراً في قلوبهم مما تلقوه من علمائهم السنيين؛ حتى يبقوا على معتقد آبائهم وأجدادهم وأسلافهم الباطل السيئ. وقد ذكر لنا بعض الإخوان أنه كان هناك مدرس من أهل السنة في إحدى البلاد التي يغلب على أهلها التشيع، فلما عقل أولئك الطلاب وتفتحوا، ورأى أن فيهم ذكاء وإقبالاً رأى أن يناقشهم بالدليل، ويناقشهم بالقرآن، ويناقشهم بالسنة الصحيحة، وأخذ يجعل لهم مجالس أسبوعية يقرر لهم الحق ويقول لهم: نحن مع الحق أينما كان، إن كان معكم فائتونا به، وإن كان معنا أتينا به، ونحن نتبعه أينما كان، ولكن بعدما استمر شهراً أو شهرين، ورأى آباءهم أنهم قد اقتنعوا بعض الاقتناع بكلام هذا الشيخ، وأنه غير شيئاً من معتقدهم؛ عمد الآباء إليه فطردوه وأبعدوه من بلادهم، وقالوا: إنك أوشكت أن تغير معتقد أبنائنا، رغم أنهم كلما أخذوا منه توجيهات عرضوها على آبائهم ومشايخهم، فلما رأوا أنها حجج قوية تكاد أن تغلبهم قالوا: هذا سوف يفسد أخلاقهم ومعتقدهم، وليس لنا حيلة إلا أن نبعده ونطرده. وكذلك هم يحاولون اضطهاد أهل الخير، ويحاولون ألا يكون لأهل السنة قوة ولا نفوذ ولا تسلط ولا قدرة على(4/12)
شيء، وقد ذكر لنا بعض الإخوان أنه في مدرسة من المدارس قرب المدينة النبوية اتفق المدير والمدرسون -وكلهم شيعة- على ألا يدرس الأولاد في المرحلة الابتدائية إلا دروساً قليلة، فلا يعلمونهم هجاءً، ولا يعلمونهم كتابة، ولا إملاءً، ولا تجويداً، ولا قرآناً، ولا حساباً، ولا غير ذلك، وأن ينجحوهم في آخر السنة وإن كانوا لا يعرفون شيئاً، ويأتي المدرس ويقف أمام الطلاب ويبقى يتكلم معهم كلاماً عادياً، ولا يفتح عليهم بكلمة حتى تنتهي السنة الدراسية، فإذا انتهت نجحوهم كلهم، وهم لا يعرفون شيئاً، ولما انتهوا من المرحلة الابتدائية وواحدهم لا يحسن أن يكتب اسمه، ولا يعرف حساباً، ولا غير ذلك، والتحق بالمتوسطة؛ إذا هو لا يحسن شيئاً، ولا يعرف شيئاً، فيقول: ماذا أفعل وزملائي قد تفوقوا علي، فهم يعرفون وأنا لا أعرف، عند ذلك يتعقد ويترك الدراسة؛ لأنه لا يستطيع أن يعود للدراسة في السنة الأولى وعمره قد جاوز الثانية عشرة أو نحوها، عند ذلك يتركون الدراسة ويتعقد أحدهم، فهذه حيلة من حيل أولئك، لما تولوا هذا العمل وهو التدريس. فهم في الحقيقة أعداء للسنة، وأعداء لأهلها، يحاولون أن يفرضوا أنفسهم، ويحاولون أن يظهر لهم النفوذ والقوة، ولكن كما قال الله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
فضل أبي بكر الصديق والرد على الطاعنين فيه
…(4/13)
من معتقد أهل السنة الاعتراف بخلافة الخلفاء الراشدين، وأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، فأول الخلفاء هو أبو بكر رضي الله عنه، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ؛ هؤلاء هم الخلفاء الراشدون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعهم، وسماهم الخلفاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) شهادة نبوية لهؤلاء أنهم خلفاء، وأنهم راشدون، وأنهم مهديون، أي: على الهدى المستقيم، وعلى الصراط المستقيم الذي سألوا الله أن يهديهم إياه، ونحن نسأله أيضاً، ولا شك أن هذه الشهادة النبوية تثبت أن الذين تولوا بعده هم خلفاء، ولا شك أن أولهم أبو بكر رضي الله عنه. وسيرة أبي بكر رضي الله عنه هي أحسن السير؛ حيث إنه اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يفعل، فأنفذ جيش أسامة أول ما تولى، وبعث الجيوش لقتال المرتدين، فانتصر الإسلام بعدما كان العرب قد رموا أهل المدينة عن قوس العداوة خلال ما يقرب من ثلاثة أشهر، فأرسل جيشاً لقتال بعض المرتدين، فهدى الله طيئاً ومن معهم، فلما رأت منهم قبائل العرب الذين حولهم ذلك انضموا إليهم، ولم يمض إلا شهران أو ثلاثة أشهر حتى بعث أبو بكر ستة عشر أميراً أو سبعة عشر لقتال المرتدين البعيدين، فتراجعوا كلهم وانضموا إلى الإسلام أوليس ذلك دليلاً على حنكته وفراسته وقوته في القيام بأمر الله تعالى؟ أوليس دليلاً على أن الله تعالى وفقه وسدد به وهدى به ونصر به الإسلام؟ ......
استشهاد الرافضة بحديث الغدير للطعن في خلافة أبي بكر والرد عليهم
…(4/14)
الرافضة يطعنون في أبي بكر، ويدعون أن علياً هو الإمام، ويستشهدون على ذلك بأحاديث ضعيفة أو موضوعة يسمونه حديث الغدير مع أن أكثره كذب، ويقولون فيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاده) ونقول: هذا صحيح، ونحن نقول: إن منزلة علي من النبي صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى، وأنه مولى المسلمين، وكذلك نقول: إن أبا بكر وسائر الخلفاء، وسائر الصحابة هم موالي المسلمين، وليست الولاية إلا ما تقتضي المحبة، فإذا كان علي ولياً للمؤمنين وولياً للنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عيله وسلم مولى للمؤمنين أيضاً، فكذلك بقية الصحابة، فليس هناك دليل على أن علياً اختص بالولاية دون غيره، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) دعاء صحيح إذا ثبت، ونحن نواليه ونحبه، ولكن لا نفرط في حبه، ولا نجعله أحق بالولاية وبالخلافة من أبي بكر وغيره من الصحابة، بل نجعلهم كلهم أهل ولاية وأهل محبة وأهل ترضٍ، فنترضى عنهم جميعاً، ونجعل لهم حقاً علينا بأن نحبهم ونواليهم.
استشهاد الرافضة بما حصل بين فاطمة وأبي بكر للطعن في خلافته والرد عليهم
…(4/15)
وطعن الرافضة في أبي بكر بأنه لم يعط فاطمة حقها من ميراث أبيها، الله أكبر! هذا هو الذي طعنوا عليه فيه، وتحاملوا عليه تحاملاً شديداً، وأنكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نورث، ما تركنا صدقة) أنكروا ذلك كله مع ثبوته بطرق كثيرة، وزعموا أن أبا بكر قد كذب في ذلك مع أنه لم ينفرد به، وجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مهتماً لأمر الدنيا، وكأن الدنيا أكبر همه مع أنه يقول: (ما لي وللدنيا! إنما أنا كراكب قال في ظل دوحة)، ومع ما ثبت عن الحارث بن أبي ضرار وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خلف ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا سلاحه وعتاده وأرضاً جعلها صدقة. إذاً: بأي شيء ينتقدون أبا بكر ويقولون: إنه منع فاطمة حقها من ميراث أبيها؟ ويجاب عليهم من عدة وجوه: أولاً: الرسل لا يورثون. ثانياً: ليست الدنيا ذات أهمية عندهم حتى يخلفوها لأولادهم، ويقولون: لهم أن يرثوا، ولهم أن يأخذوا. ثالثاً: أن الأرض التي جعلها صدقة قد صار علي رضي الله عنه هو المتولي عليها بعد موت فاطمة. وبكل حال فهذا أكبر ما طعنوا فيه، ولما طعنوا فيه بأنه حرم فاطمة من ميراثها، أخذوا يجمعون عليه الأكاذيب ويلفقون عليه، ويعيبونه بكل عيب، فيقولون: إنه قاتل المسلمين، وكذبوا! فهو ما قاتل إلا من ارتد، فبالرغم من أنهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، إلا أنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة؛ لذلك فلم يكونوا مقرين بالشهادة حق الإقرار، فلأجل ذلك رأى قتالهم وسماهم مرتدين. ويقولون: إنه أقر خالد بن الوليد على القتال، ويكفرون خالداً بذلك، فنقول: إن أبا بكر ما أقره إلا وقد رآه أهلاً للقتال، لأن خالداً لم يكن قريباً له ولا صهراً له، بل هو سيف الله كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا نقموا عليه حتى يسبوه ويلعنوه ويشتموه؟! قاتلهم الله.
بعض أقوال النبي وأفعاله الدالة على أحقية أبي بكر بالخلافة
…(4/16)
النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل أبا بكر رضي الله عنه خليفته في الصلاة حين قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) أوليس تقديمه في الصلاة دليلاً على أفضليته؟ وأهليته للإمامة وللصلاة؟ كذلك أيضاً هو دليل على ميزته وعلى كفاءته, وفيه إشارة إلى أنه سيخلفه ويقوم مقامه. والنبي عليه الصلاة والسلام أمر أن تسد النوافذ التي فتحت على المسجد إلا باب أبي بكر فلا يسد، وذلك إشارة إلى أنه سيتولى الأمر، وسيكثر دخوله وخروجه إلى المسجد؛ وذلك إشارة إلى أن له أحقية في المسجد وفي الولاية. وقال عليه الصلاة والسلام: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) فبدأ بأبي بكر مما يدل على أنه الذي يتولى بعده، وهذا ما وقع، ثم تولى بعده عمر . إذاً: فهذه إشارات واضحة إلى أن أبا بكر رضي الله عنه هو الخليفة بعده. كذلك أيضاً من الإشارات ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت أني على قليب فنزعت منها ما شاء الله أن أنزع، فأخذها أبو بكر فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، فاستحالت غرباً فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن) وفيه إشارة إلى قصر فترة أبي بكر حيث قال: (ذنوباً أو ذنوبين)، أما خلافة عمر فقد امتدت طويلاً، وفي عصره فتحت بلاد كثيرة، وذلك بلا شك دليل على أنهما خليفتان بعده. وهكذا الرؤيا التي رآها بعض الصحابة في الدلو الذي تدلى من السماء فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم انتضح منه على علي، وهو إشارة إلى أنهم الذين يتولون بعده. ومن أصرح الإشارات قوله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر). فأبو بكر رضي الله عنه هو الخليفة الراشد، وهو الذي تولى أمور المسلمين، وهو الذي سار بهم سيرة حسنة، ولم يول الخلافة لأولاده ولا لأقاربه، ولم يحاب فيها، وكذلك أيضاً في حالة ولايته لم يول الأمير الفلاني أو العلاني، ولم(4/17)
يولهم لأجل قرابتهم له، ولا لأجل محاباة، وإنما اختار الولاة والقادة الذين فيهم الأهلية وفيهم الكفاءة، حتى ولو لم يكونوا من قريش، فكانت توليته لخالد بن الوليد ولغيره من الأمراء لما فيهم من الأهلية. فنشهد بأن أبا بكر أهل للخلافة، وأن الله تعالى عندما اختاره ولياً وخليفة فإن ذلك عين المصلحة، وأنه هو الذي ثبت الله به الإسلام ورد به المسلمين بعد أن كادوا يخرجون من الإسلام، فلأجل ذلك سمي بالصديق الذي هو أول من صدق، والذي فتح الله تعالى به قلوب العباد، ورزقهم الإنابة إليه والثبات على دينه.
استخلاف أبي بكر إن لم يكن نصاً فهو بإشارة واضحة
…(4/18)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [واحتج من قال: لم يستخلف، بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني: أبا بكر - وإلا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم-)، قال عبد الله: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف. وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: (من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟). والظاهر -والله أعلم- أن المراد أنه لم يستخلف بعده بعهد مكتوب، ولو كتب عهداً لكتبه لأبي بكر ، بل قد أراد كتابته ثم تركه، وقال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) فكان هذا أبلغ من مجرد العهد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر ، وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد له، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتابة اكتفاء بذلك، ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس، ثم لما حصل لبعضهم شك: هل ذلك القول من جهة المرض أو هو قول يجب اتباعه؟ ترك الكتابة اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر ، فلو كان التعريض مما يشتبه على الأمة لبينه بياناً قاطعاً للعذر، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر المتعين، وفهموا ذلك حصل المقصود؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: (أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم ينكر ذلك منهم أحد، ولا قال أحد من الصحابة: إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار طمعاً في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بطلانه، ثم الأنصار كلهم بايعوا أبا بكر إلا سعد بن عبادة(4/19)
لكونه هو الذي كان يطلب الولاية، ولم يقل أحد من الصحابة قط: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على غير أبي بكر ، لا علي ولا العباس ولا غيرهما كما قد قال أهل البدع، وروى ابن بطة بإسناده أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير الحنظلي إلى الحسن فقال: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر ؟ فقال: أوفي شك صاحبك؟ نعم والله الذي لا إله إلا هو استخلفه، لهو كان أتقى لله من أن يتوثب عليها]. قد تقدم القول الأول أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه كانت بالنص، وهذا قول ثان أنها بالإشارة، فهما قولان للعلماء: فالذين قالوا: إنها بالنص، استدلوا بقوله: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) فإن هذا نص على أن أبا بكر بعده، واستدلوا أيضاً بقوله للمرأة التي قالت: (أرأيت إن أتيت فلم أجدك؟ فقال: ائتي أبا بكر) فإن هذا نص أنه هو الذي يتولى الولاية بعده، واستدلوا بأنه أمره بأن يؤم الجماعة وأن يصلي بهم، وهذا نص بأنه هو الذي يكون إماماً متبعاً إذا اتبعوه في الصلاة، ولهذا قالوا: رضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا. أي: من قدمه لديننا إماماً، إلى آخر الأدلة التي سبقت. هذا القول الأول. أما القول الثاني: وهو أنه لم يستخلف، وإنما أشار إشارات، فيقولون: إن عمر رضي الله عنه قال: (إن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني) يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فهذا عمر شهد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، فنقول: لم يستخلف بالنص؛ لأنه لم يقل: أيها الناس! بايعوا أبا بكر فهو خليفتي عليكم، لكن قد عزم على أن يكتب له كتاباً وقال لعائشة : (ادعي لي أخاك وأباك أكتب كتاباً حتى لا يختلفوا عليه) ثم إنه ترك الكتاب وقال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر) فلم يقل: خليفتي أبو بكر مقالاً صريحاً، ولم يقل: بايعوه بعدي قولاً صريحاً، إنما هي أقوال عامة فيها نوع من الإشارة، ومجموع تلك الإشارات يصبح(4/20)
دليلاً صريحاً واضحاً لا خلاف فيه. كذلك أيضاً سمعنا كلام الحسن لما قيل له: هل استخلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر؟ فقال: هو أورع من أن يتوثب عليها، يعني: ليس بمحب للولاية ولا راغباً فيها، ولكن لما اجتمعت عليه كلمة المسلمين، ولما جاءت هذه الإشارات من النبي عليه الصلاة والسلام باستخلافه؛ قبلها، وإلا فهو ورع وزاهد وخائف لا يمكن أن يقبلها بدون أن يكون أهلاً لها، وبدون أن يرضاه لها أهل الولاية وأهل الحل والعقد من الصحابة، هذا معنى قوله: يتوثب عليها. فبلا شك أنه صلى الله عليه وسلم أشار هذه الإشارات التي تدل على أن أبا بكر أحق بالخلافة، ثم لما اجتمعت عليه الإشارات وكانت واضحة رأى عمر رضي الله عنه أنه أحق بالخلافة؛ فبايعه وبايعه الصحابة كلهم. وخلاصة ما جرى في أول يوم من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل بيعة أبي بكر: أن الأنصار اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وكادوا أن يبايعوا واحداً منهم وهو سعد بن عبادة، فلما سمع بهم عمر رضي الله عنه وأبو بكر وأبو عبيدة ذهبوا إليهم، ثم خطبهم أبو بكر رضي الله عنه وقال لهم: (الخلافة في قريش) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قالوا: (منا أمير ومنكم أمير) أي: نؤمر أميراً على الأنصار، وأميركم منكم يا معشر المهاجرين! فقال أبو بكر وعمر: (بل الإمارة في قريش) ثم قال أبو بكر: (نحن الأمراء وأنتم الوزراء) فلما أقنعوهم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم وبإشارته تمت البيعة في نفس السقيفة، فبايعوه واجتمعوا عليه، ولم يتخلف منهم أحد، أما سعد بن عبادة رضي الله عنه فإنه لم يبايع في تلك الساعة رجاء أن يكون له حظ من الولاية، ولكنه بايع بعد ذلك بيعة مختار راضٍ، كذلك أيضاً علي رضي الله عنه قيل: إنه تأخر عن البيعة ثم بعد ذلك بايع، والصحيح أنه لم يتأخر، بل بايع باختياره وبطوعه وبما علمه من أهلية أبي بكر وأحقيته بهذه الخلافة. ثم حصل من خلافته رضي الله عنه من الأهلية ومن(4/21)
ضبط الأمور وإحكامها غاية الإحكام، فرأوا أن الله تعالى اختاره للمسلمين في ذلك الوقت الحرج الذي كانوا فيه أشد احتياجاً إلى خليفة قوي يقيم فيهم أمر الله تعالى، ويرتب أمورهم ترتيباً محكماً، فهذا ما يسره الله لهم في ذلك الوقت، وما أنعم به عليهم. إذاً: عرفنا بذلك أن خلافة أبي بكر وإن لم تكن نصاً فإنها بإشارات واضحة مجموعها يصبح نصاً قوياً.
تقديم الصحابة لأبي بكر دليل على أحقيته بالخلافة
…
قال الشارح رحمه الله: [وفي الجملة: فجميع من نقل عنه أنه طلب تولية غير أبي بكر لم يذكر حجة دينية شرعية، ولا ذكر أن غير أبي بكر أفضل منه، أو أحق بها، وإنما نشأ من حب قبيلته وقومه فقط، وهم كانوا يعلمون فضل أبي بكر رضي الله عنه، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ففي الصحيحين عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة ، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر ، وعد رجالاً). وفيهما أيضاً عن أبي الدرداء قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما صاحبكم فقد غامر، فسلم وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي، فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ! ثلاثاً، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم هو؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر : صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ (مرتين)، فما أوذي بعدها) ومعنى غامر: غاضب وخاصم، ويضيق هذا المختصر عن ذكر(4/22)
فضائله. وفي الصحيحين أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح -فذكرت الحديث- إلى أن قالت: واجتمع الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليه أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر ، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيئت في نفسي كلاماً قد أعجبني خشيت ألا يبلغه أبو بكر ، ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس، وقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر : لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر : لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب وأعزهم أحساباً، فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح ، فقال عمر: بل نبايعك، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعداً! فقال عمر: قتله الله! والسنح: العالية، وهي حديقة من حدائق المدينة معروفة بها]. معلوم أن التقديم يدل على الفضل، والاختيار يدل على الأهلية، فهم ما قدموا أبا بكر إلا لفضيلته، ولا اختاروه خليفة إلا لأهليته وكفاءته، وكونه كفئاً لهذه الولاية؛ لذلك أجمعوا عليه، وقد نزه الله الأمة أن تجتمع على ضلالة، وقد ذكر العلماء في كتب الأصول الفقهية أن إجماع الأمة حجة قاطعة، والرافضة يعترفون أن الإجماع حجة، ولكنهم هاهنا خالفوا معتقدهم، فنقول لهم: من الذي خالف في بيعة أبي بكر ؟ سموا لنا شخصاً لم يرض بهذه البيعة فيما بعد؟ علي رضي الله عنه -الذي هو الإمام عندكم- قد بايعه، وجاهد معه، وصار مستشاراً له، وصار قريناً له في كل حاله وتدبيراته، يرجع كل منهما إلى قول الآخر، ولم ينقل عنه أنه سخط بيعته ولا أنكرها، فهو من جملة من بايع، وأما سعد بن عبادة الأنصاري فقد كان تهيأ لأجل أن يكون أميراً على الأنصار، ولكن لما تمت البيعة لأبي بكر(4/23)
رضي الله عنه قام بعد ذلك وبايع، وبقي كسائر المقتدين بأبي بكر ، فبقي كآحاد الرعية. مثل هذه الأحاديث دليل على فضيلة أبي بكر ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويقدمه، فهذا عمرو بن العاص من أكابر قريش وأهل الفضل فيهم لما عينه النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على سرية ذات السلاسل، قبل أن يخرج جاء إليه وقال: أي الناس أحب إليك؟ من الناس كلهم، فأخبره بأنه يحب عائشة ؛ وذلك لفضيلتها ولفضيلة أبيها، فسأله عن أحب الرجال إليه، فقال: (أبوها) وهذا بلا شك دليل على تقديمه في المحبة، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويقدمه فإن ذلك دليل على فضيلته وأهليته، وبعده ذكر عمر وسمى بعده رجالاً، ولا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم ما حصلت إلا لكونه أهلاً لأن يكون محبوباً كما ذكر في الأحاديث الأخرى. وفي الحديث الثاني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ إني قلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بماله ونفسه) هكذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه أول من أسلم من الرجال، هذا هو القول الصحيح. يقول أبو الخطاب في عقيدته المشهورة، وهو عالم من علماء الحنابلة، يقال له: محفوظ بن أحمد الكلوذاني له عقيدة في نظم عقيدة أهل السنة يقول فيها: قالوا فمن بعد النبي خليفة قلت الموحد قبل كل موحد حاميه في يوم العريش ومن له في الغار مسعد يا له من مسعد فشهد بأنه الموحد قبل كل موحد؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما دعاه لم يتلعثم ولم يتوقف، بل بمجرد ما عرض عليه الإسلام بايع ولم ينتظر، ولم يقل: أمهلني، ولا سأنظر في أمري، وكان رجلاً كاملاً من بين الرجال، فلذلك هو أول من أسلم من الرجال، فلما قال الناس: كذبت، قال أبو بكر : صدقت، أنت الصادق؛ فلذلك سمي بالصديق. وفي حديث السقيفة أنه لما سمع باجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة جاء ومعه عمر وأبو عبيدة؛ فخطبهم وقال: (نحن(4/24)
الأمراء وأنتم الوزراء) لما طلبوا أن يكون منهم أمير، فقال: لكم الوزارة ولكم الإشارة، أما الإمارة ففي قريش؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على ذلك بقوله: (إن هذا الأمر في قريش) يعني: الولاية، فرضوا بذلك، ولما قال: بايعوا أبا عبيدة أو عمر ، يقول عمر : إنه لم يقل كلمة تؤلمني إلا هذه الكلمة، ما كنت أحب أن أكون والياً على قوم فيهم أبو بكر ، لما هو فيه من الأهلية، فقد قدموه لصحبته، وقدموه لمحبة النبي صلى الله عليه وسلم له، وقدموه لقربه منه، ولكونه صهره، وقدموه لكونه صاحبه في السفر، وصاحبه في الغار، وغير ذلك من الفضائل، وقدموه أيضاً لفضائله التي نص عليها الله سبحانه في كتابه، كما في قول الله تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وكذلك أنزل فيه قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21]، وغير ذلك من فضائله الكثيرة، ومن أراد أن يتوسع في ذكر فضائله فليرجع إلى ترجمته وإلى ما كتب عنه العلماء، ومن أهمها وأشهرها كتاب (فضائل الصحابة) للإمام أحمد، وقد اشتمل على فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم.
شرح العقيدة الطحاوية [85]
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام وأبي بكر الصديق، وهو ثاني الخلفاء الراشدين، وفضائله كثيرة، ومناقبه عظيمة، وهذه عقيدة أهل السنة فيه، وقد صح عن علي بن أبي طالب ما هو مطابق لها.
اعتراف المسلمين بفضل الصحابة وبخاصة الخلفاء الراشدين
…(4/25)
يعترف المسلمون بفضل صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم حفظوا على الأمة دينها، ولأنهم ورثوا نبي الأمة وبلغوا شريعته ودينه، ودعوا إلى ما دعا إليه، ونشروا الإسلام بعده، وجاهدوا في سبيل الله، وأطاعوا شريعة الله، ونفذوا حدوده، فالنبي بلغهم الرسالة التي أرسل بها، وهم قاموا بتبليغها لمن بعدهم، ودعوا إليها قاصي البلاد ودانيها، فكانوا بذلك ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن ميراثهم هو أشرف ميراث، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) هذا العلم الذي هو ميراث النبي صلى الله عليه وسلم من الذي تحمله عنه؟ أليس هم الصحابة، وبالأخص الخلفاء الراشدون؟ من الذين بلغه بعده؟ إنهم صحابته، إنهم الذين بلغوه وعلموه الأمة، أليسوا هم قادة الأمة وسادتها؟ نعترف لهم بالفضل، ثم نعترف للخلفاء الراشدين بالأقدمية؛ لأنهم أفضل الأمة بعد نبيها، ونعترف لهم بأنهم أهل الولاية والخلافة والإمامة التي قاموا بها أتم قيام، فأجمعوا بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم على تقديم الخليفة الأول الراشد أبي بكر رضي الله عنه، ورأوه أهلاً للخلافة كما رآه نبيهم صلى الله عليه وسلم أهلاً للإمامة، كذلك أيضاً رأوه سباقاً إلى الخير، ورأوه عاملاً بالأعمال الصالحة، ورأوه أهلاً للخلافة لحنكته وحذقه وقوة تفكيره ومعرفته وذكائه وصحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وطول ملازمته، فلم يروا بداً من أن يبايعوه خليفة عليهم وإماماً وقائداً لهم، فكان ذلك عين المصلحة، فثبته الله في وقت اشتدت فيه الغربة، إذ إنه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ارتد العرب عن الإسلام إلا ما شاء الله، وما بقي إلا أهل المدينة ومن حولهم، وهم الأعراب أن يغيروا على المدينة وأن يسلبوهم ما هم فيه، وأن يقتلوهم ويستأصلوهم، ولكن ثبت الله أبا بكر وربط على قلبه؛ فقابل أولئك(4/26)
الأعراب بقوة، وهزمهم شر هزيمة، ثم توالت الانتصارات على أيدي جيوشه الذين دفعهم لقتال المرتدين، فرجع العرب -في ظرف نصف سنة أو عدة أشهر- إلى الإسلام بعدما كانوا خرجوا عنه. حتى قال قائلهم: أتانا رسول الله مذ كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر يعني: ما لنا ولطاعته؟ إنما طاعتنا للرسول حين كان بيننا! ولكن لما استخلفه الله على المسلمين كان ذلك عين المصلحة التي أيد الله بها الإسلام في ذلك الوقت العصيب، والظروف الشديدة، وقد سار فيهم السيرة الحسنة، وخلف النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعله، فلم يترك شيئاً كان يفعله النبي إلا فعله؛ كتوزيعه للأموال وللغنائم، وتقسيمه لخمس الخمس، وإعطائه لمن كان يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم من سهم ذوي القربى، وتوزيعه للصدقات، لم يأل جهداً أن يفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لما لم يعط فاطمة -كما زعموا- ميراثها من أبيها نقمت عليه الروافض، وطعنوا في خلافته، وطعنوا في إمامته، وصاروا يسبونه ويشتمونه زعماً منهم أنه خان الأمانة، وأنه خالف ما جاء من سيرة من قبله، وحاشاه من ذلك! معلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يخلف تركة، فقد ثبت عنه أنه قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) يعني: لم نترك شيئاً إلا أن يكون صدقة، وثبت أيضاً عن الحارث بن أبي ضرار أنه قال: (ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة) فهذه شهادة من هذا الرجل الذي ليس من قريش بل من بني المصطلق، وهو أخو إحدى أمهات المؤمنين، وهي جويرية أم المؤمنين، ومع ذلك أخبر بهذا الخبر فدل على أنه عليه السلام لم يكن وراءه تركة حتى يقول الرافضة: إن أبا بكر لم يعط فاطمة حقها، ما أعظم فريتهم! فهل هذا لشدة محبتهم لفاطمة ؟! فالنبي صلى الله عليه وسلم أشد حباً لفاطمة منهم، فهي بضعة منه، ولو كان يعطيها لأعطاها في حياته لما(4/27)
جاءته تشتكي من العمل، وذكرت أن الرحى أثر في يديها، وتعبت من العمل، فطلبت منه أمة من السبي تخدمها، لكنه لم يعطها شيئاً من ذلك، بل باع ذلك السبي ووزع ثمنه على المستضعفين من أهل الصفة وغيرهم، وأرشدها وأرشد زوجها إلى التسبيح والتكبير والتحميد عند النوم وقال: (هو خير لكما من خادم) فكيف يزعم هؤلاء الرافضة أنهم يغارون لفاطمة والنبي عليه الصلاة والسلام يحرمها ولا يعطيها؟ كذلك أيضاً هو صلى الله عليه وسلم يقول لها: (سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً) ولو كان عنده مال لأخذت منه في حياته، فكيف مع ذلك يقولون: إنه منعها من ميراثها، ومعلوم أيضاً أن الأنبياء لا يورثون، إلا أن الرافضة يتمسكون بآيات فيها شيء من ذكر الميراث، مثل قول الله تعالى في سورة النمل: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد [النمل:16]، ويقولون: هذا دليل على أن الأنبياء يورثون، عجباً لهم! الآية إنما فيها ذكر إرث النبوة، بمعنى أنه ورثه في ملكه، فكان ملكاً بعده، وكان نبياً بعده، ومعلوم أن داود كان له كثير من النساء، وكذلك كان له الكثير من الأولاد، فكيف خص داود سليمان بالإرث؟ فالإرث هنا إنما هو إرث الملك، كذلك يستدلون بقول الله تعالى في سورة مريم في قصة زكريا: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم:5-6]، فيقولون: هذا دليل على أن زكريا طلب ولداً حتى يرثه، الله أكبر! كأن المال أكبر هم الأنبياء، لا والله! إنما أراد يرثني في النبوة والعلم، أي: يرث ما عندي من العلم، ويرث العلم الذي خلفه آل يعقوب ، ويعقوب عليه السلام هو إسرائيل، أما أن يهتم بمن يرث ماله فحاشاه، ليست الدنيا أكبر همه حتى يطلب ولداً لأجل أن يأخذ المال الذي بعده، من الذي أعلمكم أن زكريا كان ذا أموال حتى يطلب ولداً ليأخذها؟ فهكذا ينقبون عن مثل هذه الآيات ليطعنوا في أبي بكر ، ويدعون أنه حرمها من الميراث؛ فلأجل ذلك يكفرونه،(4/28)
ويضللونه، ويزعمون أنه خان الأمانة، وأنه خالف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقم بما قام به، وأنه بخس فاطمة حقها، وبخس علياً حقه، وأن علياً هو الإمام؛ لأنه هو الوصي، وغير ذلك من أكاذيبهم. والصحابة ما اختاروا إلا من هو أفضلهم، ومن هو أهل للولاية، وقد مرت بنا أحاديث تدل على فضله، وأحاديث تدل على أولويته وأحقيته بالولاية وبالخلافة والإمارة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ......
تقديم السلف لعمر على سائر الصحابة بعد أبي بكر
…(4/29)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه). أي: ونثبت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه، وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة من بعده عليه، وفضائله رضي الله عنه أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تنكر، فقد روي عن محمد ابن الحنفية أنه قال: قلت لأبي: (يا أبت! من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني! أو ما تعرف؟! قلت: لا، قال: أبو بكر ، قلت: ثم من؟ قال: عمر ، وخشيت أن يقول: ثم عثمان ، فقلت: ثم أنت، فقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين) وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر )، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت إليه فإذا هو علي، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ وذلك أني كنت أكثر ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر و عمر .. ودخلت أنا وأبو بكر و عمر .. وخرجت أنا وأبو بكر و عمر ، فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما) ، وتقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزعه من القليب، ثم نزع أبو بكر ثم استحالت الدلو غرباً فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر حتى ضرب الناس بعطن، وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: (استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساء من قريش يكلمنه عالية أصواتهن.) الحديث وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إيه يا ابن الخطاب ! والذي نفسي بيده؛ ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) وفي الصحيحين أيضاً عن النبي صلى الله عليه(4/30)
وسلم أنه قال: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم) قال ابن وهب تفسير (محدثون) أي: ملهمون]. ......
استخلاف أبي بكر لعمر دليل على أحقيته بالخلافة
…
اتفق الصحابة رضي الله عنهم على مبايعة عمر ، وهو عمر بن الخطاب بن نفيل العدوي القرشي رضي الله عنه، الخليفة الثاني، فلما أن مرض أبو بكر وأحس بقرب الوفاة دعا عمر وقال: (أنت الخليفة بعدي، أوليك بعدي هذه الولاية) فأرشد الناس إلى مبايعته، وعهد إليه بالخلافة، فلم يختلف عليه اثنان، بل أجمعوا على مبايعته، وأجمعوا على أهليته، ولم يخالف منهم أحد، فتمت له البيعة، وتم أمره. وفي ولايته رضي الله عنه اجتهد في توسعة رقعة الإسلام، حيث أنفذ الجيوش وأرسلهم إلى أطراف البلاد، ففتحت بلاد الشام في عهده، وكذلك بلاد العراق ومصر وأفريقيا وخراسان، واتسعت الفتوحات وكثرت في زمانه، ووقعت في عهده وقائع كثيرة، وفتوحات كثيرة، كوقعة اليرموك، ووقعة القادسية، ووقعة نهاوند وغيرها من الوقائع المشهورة التي أعز الله فيها الإسلام والمسلمين، وانتصر فيها أولياء الله على أعدائه، وكل ذلك بتوفيق من الله تعالى ثم بتحريض من عمر وتوصية منه بولاته، ولم يقف الأمر عند وصيته لهم بل سار بنفسه حتى وقف على كثير من البلاد، ففتح بيت المقدس التي هي (إيلياء) وتسمى بلغتهم (أورشليم)، هذا البلد المعروف الذي هو من أقدس البلاد لم يفتح إلا بعدما غزاه بنفسه، ووقف عليه وحاصره، فعند ذلك فتحوا له الأبواب، ودخل المسجد الأقصى وأسس فيه ما أسس. وبكل حال فهو ثاني الخلفاء الراشدين، وقد وفق الله أبا بكر لتوليته، فكانت توليته عين المصلحة، ووافق على ذلك المسلمون، وترضى عنه أهل السنة، واعترفوا بأفضليته وبقوته وبصرامته وبشهامته وحنكته وسيرته الحسنة التي ضرب بها المثل في عدله وفي تواضعه وفي منهجه وفي سلوكه. لا شك أن هذا من توفيق الله تعالى للأمة، حيث ظهر الإسلام وانتصر(4/31)
وتمكن وفشا في البلاد، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وذل للإسلام أعداؤه من اليهود والنصارى، وأعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ومكن الله للمسلمين في بلادهم، وحقق الله لهم وعده في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55] ، فحقق ذلك كله في عهد الخلفاء رضي الله عنهم، وبالأخص في عهد أبي بكر ثم عمر . ولا شك أن اختيار أبي بكر لعمر له مستند، فهو الذي قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف إشاراته، وعرف محبته له، وسمع منه ما يدل على أفضلية عمر وعلى أهليته، وقد وردت إشارات نبوية إلى خلافتهما، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ولا شك أن عمر منهم، وتقدم قوله: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر ) فسماه مع من قبله باسمه الصريح، وأمر بالاقتداء به؛ وذلك أنه أهل للاقتداء، كما أنه أهل لحمل السنة، فقد حمل من الشريعة ما حمل، وفي عهده رضي الله عنه كثرت المسائل الواقعية فأفتى فيها بما قبله منه أهل السنة؛ ولأجل ذلك يعرف فقهه وفهمه وفتاواه، لكثرة ما نقل وما وقع له. ومن الإشارات التي تدل على أنه الخليفة بعد أبي بكر قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيتني على قليب أنزع منها -يعني بالدلو- ما شاء الله، فأخذها أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غرباً، فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه حتى روي الناس وضربوا بعطن) فأشار إلى خلافة أبي بكر وأنها قليلة، حيث لم ينزع إلا ذنوباً أو ذنوبين، يعني: دلوين، أما عمر فجعل ينزع بهذه الدلو مع كونها استحالت غرباً، والغرب هو الدلو الكبيرة التي ينضح عليها(4/32)
قديماً، ومع ذلك أخذ ينزع حتى روي الناس وضربوا بعطن، إشارة إلى طول خلافته، وإشارة إلى امتداد الخلافة في عهده، وامتداد الإسلام والدولة في عهده، وانتشار الإسلام في زمانه، والانتصارات التي حصلت بواسطة تدبيراته وسيرته.
موقف آل البيت من أبي بكر وعمر ومخالفة الرافضة لهم في ذلك
…
يعترف جميع أهل السنة بأفضلية عمر، ومن أهل السنة علي بن أبي طالب الذي تعظمه الشيعة، وترفع من قدره، وتعلي شأنه، وتغلو فيه الغلو الزائد، ومنهم من يدعوه من دون الله، فيزعمون أنه عدو لهؤلاء الخلفاء، وأنهم أعداء له، وأن من والى علياً فلابد أن يعادي أبا بكر و عمر فإنهما ضدان، ويقولون: لا ولاء إلا ببراء، بمعنى أنك إذا واليت علياً فتبرأ من أبي بكر و عمر ؛ لأنه لا يمكن أن توالي هذا وهذا في آن، فإنهما ضدان مفترقان، فنقول: كذبتم، بل هما صاحبان، بل هما أخوان، أبو بكر و عمر و عثمان و علي وبقية الصحابة كلهم إخوة، و علي واحد منهم، يحبهم ويحبونه، ويصلي خلفهم ويتولى ولايتهم, ويأخذ أعطياتهم، ويجالسهم، ويؤانسهم، ويكلمهم، ويصحبهم، ولم يظهر لهم عداوة، ولم يقاطعهم، ولم يهجرهم، ولكنكم أنتم -أيها الشيعة- نكست فطركم، وتغيرت أفهامكم، ورأيتم الحق باطلاً والباطل حقاً، وصوبتم ما كان خطأً، وزعمتم عداوة بين الصحابة لم تكن، وإنما العداوة والبغضاء منكم، فأنتم أهل الحقد وأهل البغضاء، كيف تجعلون بين الصحابة بغضاء وهي لم تحصل ولم تكن؟ ما هي العلامات التي تدل على أنها حصلت بينهم؟ يذكر العلماء أن الآثار شبه متواترة عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول على المنبر (أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ) فيعترف بذلك ويصرح به على المنبر، سبحان الله! أين صرفت عقول هؤلاء الرافضة من هذا الأثر الذي يعتبر مشهوراً غاية الشهرة؟! ومع ذلك يخالفونه، فيكفرون ويشتمون ويسبون هذين الخليفتين اللذين يعترف إمامهم وقدوتهم -في زعمهم- بفضلهما. وهذا ولده محمد ابن(4/33)
الحنفية وهو أيضاً ممن يغلون فيه؛ لأنه من أولاد علي ، ولكن ليس كغلوهم في الحسن و الحسين ، فيسأل ابن الحنفية أباه ويقول: يا أبت! من أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقول مستغرباً: يا بني! أما تعرف؟! فيقول: لا، فيقول: أبو بكر ، فيعترف علي بأن أفضل الأمة هو أبو بكر ، ولفضله اتخذ والياً وخليفة عليهم، ولفضله سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يسأله: ثم من أفضل بعد أبي بكر ؟ فيقول: عمر ، وعلى هذا فعمر رضي الله عنه هو ثانيه في الخلافة، وهو ثانيه أيضاً في الفضل، يقول محمد بن الحنيفة : قلت: ثم أنت يا أبتي! خشي أن يقول: ثم عثمان ، وأحب أن يكون أبوه له الفضل، ولكن علياً رضي الله عنه تواضع غاية التواضع، وقال: ما أنا إلا واحد من أفراد المسلمين أو كما قال، مع أن له الفضل، وقد اختلف العلماء من أهل السنة في تفضيل عثمان و علي ، والخلاف في ذلك ليس مخرجاً من الملة ولا يضلل به.
الأدلة العقلية والنقلية على أحقية عمر بالخلافة
…(4/34)
فضائل عمر رضي الله عنه أكثر من أن تحصر، وقد أفردت بالتأليف قديماً وحديثاً، فابن كثير رحمه الله صاحب التاريخ ذكر أنه كتب في فضل أبي بكر و عمر كتاباً أتى في ثلاثة مجلدات. وأفرد بعضهم عمر بالتأليف، وأشهر من كتب فيه ابن الجوزي (مناقب عمر ) وهي رسالة مشهورة مبوبة منتشرة، ذكر فيها أبواباً تدل على حنكة عمر وفضله، وذكر فيها فضائله وأحواله، وذكر فيها ما بشره به النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك. وقد تقدم أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه، وفي حديث أبي موسى لما كان بواب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، يقول: فجاء رجل فأراد أن يدخل فقلت: من أنت قال: أبو بكر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه). كذلك أيضاً من فضائله ما جاء في الحديث الذي أشار إليه الشارح رحمه الله، وفيه أن عمر رضي الله عنه طرق باب النبي صلى الله عليه وسلم وعنده نساء قد رفعن أصواتهن، فلما سمعن صوت عمر ابتدرن الحجاب، وألقين الستر بينهن وبينه، ودخل والنبي صلى الله عليه وسلم يضحك، فأخبره بأنهن كن رافعات أصواتهن، فلما دخل عمر احتجبن عنه وتسترن، فقال عمر : أي عدوات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك) والفج هو: الطريق، بمعنى: أن الشيطان إذا لقيه في طريق هرب منه وذهب إلى طريق آخر، وما ذاك إلا لصرامته بحيث إن الشيطان يهرب منه! كذلك شهد النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه من المحدثين، يعني: من الملهمين، يقول: (إنه كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في هذه الأمة فإنه عمر -أو فإن منهم عمر -) ولأجل ذلك يكثر موافقته للسنة وموافقته للقرآن، يقول رضي الله عنه: (وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا(4/35)
رسول الله! لو حجبت نساءك فإنه يدخل عليهن البر والفاجر؟ فأنزل الله قوله تعالى وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب [الأحزاب:53]) بمعنى: أنه أشار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقين محجبات في البيوت، ولا يخرجن إلا لحاجة ضرورية، فنزل القرآن موافقاً له، يقول: والمرة الثانية قلت له: (لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت الآية: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]) والمرة الثالثة يقول: (إنه قال لزوجات النبي صلى عليه وسلم لما اجتمعن في الغيرة عليه: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت الآية موافقة لما قاله). كذلك أيضاً في قصة أسارى بدر لما أشار بقتلهم، والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر اختارا أن يمكنوا من الفدية، فجاء حكم الله موافقاً لقول عمر ، حيث قال تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْض [الأنفال:67] إلى آخر الآيات، فذلك دليل على أنه رضي الله عنه كان من المحدثين الملهمين. ومن أشهر فضائله أنه دفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وذلك دليل على اعتراف الصحابة بفضله، حتى قال بعض العلماء في أبي بكر و عمر : إن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته، فهما قريناه في حياته، وكذلك بعد مماته جعلا معه في طرف الحجرة النبوية، أوليس ذلك دليلاً على أفضليتهما، وأنهما صاحباه وحبيباه والمقربان إليه؟ وقد شهد بذلك علي رضي الله عنه في الحديث الذي سبق حين مات عمر رضي الله عنه، حيث قال: (ما تركت أحداً كنت أتمنى أن ألقى الله بمثل عمله إلا أنت) يقول: إنني لا أغبط أحداً وأرجو أن أكون مثله إلا أنت، أما البقية فأنا أقول: إني خير منهم، يعني: من كان بعد عمر رضي الله عنه، فعلي رضي الله عنه يغبط عمر ، ويقول: لا أحد أغبطه وأتمنى أن ألقى الله بمثل عمله سوى(4/36)
أنت يا عمر ! يقوله بعد موته. ثم يشهد بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبه ويحب أبا بكر، ومن آثار تلك المحبة أن جمعا معه في المكان الذي قبر فيه، يقول: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً يقول: (جئت أنا وأبو بكر و عمر ، ودخلت أنا وأبو بكر و عمر ، وخرجت أنا وأبو بكر و عمر ) يجعل ذلك من المبررات في أن يكون رضي الله عنه أهلاً لأن يجعل إلى جانب أبي بكر ، وإلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما حصل، وعلى ذلك فنعترف بأنه هو الخليفة الراشد الذي امتدت خلافته بعد أبي بكر عشر سنين، وهو الذي ظهر من آثاره ومن فضائله الاقتداء التام بالنبي صلى الله عليه وسلم، وله أوليات كثيرة، فهو الذي أشار بجمع القرآن في عهد أبي بكر حين كثر القتل واستحر في القراء في وقعة اليمامة، حيث قتل فيها خمسمائة من حملة القرآن، فخشي رضي الله عنه أن يذهب شيء من القرآن، فأشار بأن يكتب في صحف، ووافقه أبو بكر على ذلك، فكتب في صحف حتى يحفظ ولا يضيع منه شيء، ووافقهما الصحابة على ذلك, كذلك هو الذي وضع التأريخ، واختار أن يكون تقييد التأريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بعد الهجرة بدأ الإسلام يظهر وينتشر، فجعل التاريخ من أول الهجرة، وأجمعت الأمة بعده إلى يومنا هذا على التأريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك هو الذي سن هذه الأوقاف، وهي الأرض المفتوحة عنوة، إذ إنه لما فتحت أرض مصر وأرض الشام وأرض العراق الزراعية جعلها وقفاً على بيت المال، فكانت تزرع وتعاد إلى بيت المال لتموله عند انقطاع الفتوحات ونحوها، وأقره على ذلك الصحابة ومن بعدهم، فلا شك أن ذلك دليل على معرفته بمهام الأمور ومستقبلها. وقد كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم جريئاً على إنكار ما رآه منكراً، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولكن الرافضة يتتبعون ما يظنون أن فيه شيئاً من العيب والقدح فيه، فيجمعون أكاذيب، ويجمعون وقائع لا مطعن فيها، ويجعلونها(4/37)
طعناً في خلافته، وطعناً في أهليته للخلافة بل في إيمانه، فيجعلونه مرتداً عن الإسلام أو نحو ذلك، وأكبر ما يطعنون به فيه أنه لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ائتوني بأوراق أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) وكان ذلك في يوم الخميس، وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد ثقل، عند ذلك قال عمر : (إنه صلى الله عليه وسلم قد شق عليه فلا تكلفوه، وعندكم كتاب الله) فعند ذلك قام الرافضة يقولون: إن علياً كان هو الخليفة، وإن أبا بكر ليس بخليفة، وإن عمر خاف أن يكتب النبي صلى الله عليه وسلم بالخلافة لعلي فعند ذلك قال: لا تكتبوا، فحرم الكتابة ومنعها وتجرأ بقوله: عندنا كتاب الله، هذا مطعن يطعنون به في عمر رضي الله عنه، مع أنهم غائبون لم يحضروا ذلك الوقت, ولم يعرفوا الإشارات، ولم يعرفوا القرائن، وعمر رضي الله عنه عرف القرائن المختصة به، وكذلك علي رضي الله عنه كان حاضراً ولم يخطر بباله أنه يكتب له بالولاية، ولا أن عمر حرمه من الولاية أو من الخلافة، فأين في هذا إشارة ولو من بعيد إلى أنه حسد علياً فقال: لا تكتبوا، وعندنا كتاب الله؟ والدليل على ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه لما ذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب كتاباً قال: (من أراد أن يقرأ وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قول الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [الأنعام:151] إلى آخر الآيات الثلاث التي في كل واحدة منها ِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151] ، ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأنعام:152] ، ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] . فالصحابة فهموا أن وصية النبي صلى الله عليه وسلم ليست هي وصية بولاية ولا بخلافة، ولكنها وصية بديانة وبأمانة ونحو ذلك، وليس فيها إشارة إلى خلافة(4/38)
علي ولا غير ذلك، بل قد تقدم في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (ادعي أباك وأخاك أكتب لهما كتاباً، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ) فهذا دليل على أنه لو كتب لولى أبا بكر الخلافة، فكيف يزعمون أن عمر هو الذي حال بين علي وبين الخلافة، فيوجهوا الطعن عليه؟ ولهم مطاعن عليه كثيرة لا تحصى، وينشرونها في كتبهم، وكذلك يجعلونها في خطبهم، وفيما يذيعونه فيما بينهم، ويرمونه بالفظائع والعظائم، والله حسبهم، ولكن ذلك لا يضره، بل يكتب أجره عند الله وافياً. فنعتقد أنه رضي الله عنه خليفة الأمة بعد أبي بكر ، وأن له الفضل وله الميزة، فهو أفضل الأمة بعد أبي بكر ، وهو خليفة الأمة بعد أبي بكر ، وهو أحد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم.
شرح العقيدة الطحاوية [86]
عثمان ذو النورين هو ثالث الخلفاء الراشدين، وقد ولي الخلافة بعد عمر رضي الله عنه الذي جعل الأمر من بعده شورى في ستة منهم عثمان، وفضائل عثمان كثيرة، ومناقبه عظيمة.
ترتيب الخلفاء في الفضل كترتيبهم في الخلافة
…(4/39)
للعلماء في الخلفاء الراشدين مسألتان: المسألة الأولى: مسألة ترتيبهم في الخلافة، فإجماع الأمة الإسلامية خلافاً للرافضة على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر ، ثم الخليفة بعد أبي بكر هو عمر ، ثم الخليفة بعد عمر هو عثمان، ثم الخليفة بعد عثمان هو علي، وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون، ومن طعن في خلافة أحد منهم فهو أضل من حمار أهله. اتفق أهل السنة على أنهم الخلفاء على هذا الترتيب، إلا أن الرافضة زعموا أن أبا بكر مغتصب للخلافة وكذلك عمر و عثمان ، وأنهم ليسوا خلفاء، ولا يستحقون الولاية ولا الخلافة، بل زادوا أن كفروهم وشتموهم، وأخرجوهم من الإسلام، وجعلوهم منافقين، وطبقوا عليهم الآيات التي في المنافقين، ولكن أهل السنة -والحمد لله- على عقيدة موحدة في الاعتراف بخلافة الخلفاء الراشدين. المسألة الثانية: مسألة ترتيبهم في الفضل، وقد تواتر عن علي رضي الله عنه -الذي تغلو فيه الرافضة- أنه قال: أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ، ثم بعد أبي بكر عمر ولم يختلف الصحابة في تفضيل أبي بكر ثم عمر، ولم يختلف أهل السنة في ذلك، فيقولون: أفضل الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ، ويروون ذلك مسنداً، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، أي: يعترف بهذا الترتيب، وقد رجح أكثر أهل السنة أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ولكن وقع خلاف في الترجيح بين علي وعثمان ، فقوم قدموا عثمان ، وهو القول الصحيح، وقوم قدموا علياً ، وهذه المسألة وهي: هل يقدم علي على عثمان أو يقدم علي على عثمان -يعني: في الفضل- مسألة اجتهادية، لا يضلل من قدم علياً ، ولا يضلل من قدم عثمان ، وأما تقديم الشيخين فلا خلاف في تقديمهما، ويضلل من قدم عليهما أحداً من الصحابة أو من غير الصحابة. وقد عرفنا خلافة أبي بكر وخلافة(4/40)
عمر ، وأنها منصوصة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) ، وهذه إشارة واضحة إلى أنهما اللذان يليان الخلافة بعده، والواقع وقع كذلك، ولعل عهد أبي بكر إلى عمر كان اعتماداً على هذا الحديث، أو اعتماداً على الأهلية والكفاءة، وقد وافقه الصحابة على هذا التقديم؛ وذلك لأهلية عمر، ولكفاءته، ولما رأوا فيه من زهد في الدنيا، وتقشف، وعبادة لله تعالى واجتهاد، ولما رأوا فيه من حنكة وحذق، ومن حزم وقوة، ومن عقل ومتانة وإدراك وفهم قوي، فكان أهلاً لهذه الخلافة، وقد ظهر أثر هذه الصفات بعد أن تولى الخلافة التي امتدت عشر سنين، وكلها كانت جهاداً، يجاهد بنفسه، فقد خرج إلى الشام مرتين، ويجاهد بآرائه ونظره، ويجهز جيوشه، ويرسل إليهم التعليمات فيعملون بها، ويحثهم على الصبر فيصبروا، ويوجههم توجيهات سديدة، وكان من آثارها أن انتشر الإسلام، وانتصر المسلمون انتصاراً عديم النظير، ومكّن الله للمسلمين، ونصرهم وأيدهم وقواهم، وظهر أمر الله، ولو كره الكافرون. وكان من آثارها أن انتشر العلم؛ وذلك لأنه رضي الله عنه كان من أوعية العلم وحملته، وأرسل الدعاة إلى البلاد التي أسست في زمانه، والتي فتحت، وأرسل المعلمين، وأخذ يراسلهم ويكاتبهم، وعين القضاة والمرشدين؛ وكل ذلك لأجل أن يظهر دين الله، وأن ينتصر المسلمون على أعدائهم، وصدق الله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]. ......
عثمان رضي الله عنه
…(4/41)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ثم لعثمان رضي الله عنه: أي: ولنثبت الخلافة بعد عمر لعثمان رضي الله عنهما، وقد ساق البخاري رحمه الله قصة قتل عمر رضي الله عنه، وأمر الشورى والمبايعة لعثمان في صحيحه، فأحببت أن أسردها كما رواها بسنده: عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة، ووقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف فقال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: لا، فقال عمر : لئن سلمني الله لأدعن أرامل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً، قال : فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهم خللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يميناً وشمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأما ما يلي عمر ، فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر ، وهم يقولون: سبحان الله! فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة ، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال : قاتله الله! لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثرا العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، قال: إن شئت فعلت؟ -أي: إن شئت قتلنا؟- قال(4/42)
: كذبت بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم؟ فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس عليه، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جرحه، ثم أتى بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه، وجاء رجل شاب فقال: أبشر -يا أمير المؤمنين- ببشرى الله لك بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، فقال: وددت أن ذلك كفافاً لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا عليّ الغلام، قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك. يا عبد الله بن عمر انظر ما عليّ من الدين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً أو نحوه، قال: إن وفَّى له مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدِّ عني هذا المال، وانطلق إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين؛ فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال : ارفعوني، فأسنده رجل إليه، قال: ما لديك؟ قال: الذي تحب -يا أمير المؤمنين- أذنت، قال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب. فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلاً، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص(4/43)
يا أمير المؤمنين! استخلف قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن ، قال: يشهدكم عبد الله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء -كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمارة سعداً فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم من أمِّر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفي عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيراًً، فإنهم ردء للإسلام، وجباة الأموال، وغيظ العدو، وألا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم ويرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل مِن ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم. فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، قال الزبير : قد جعلت أمري إلى علي ، فقال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان ، وقال سعد : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف ، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم إلى نفسه؟ فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن : أفتجعلونه إليّ، والله علي ألا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن، ثم خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق، قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه، فبايع له علي ، وولج(4/44)
أهل الدار فبايعوه. وعن حميد بن عبد الرحمن أن المسور بن مخرمة أخبره أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا، قال لهم عبد الرحمن : لست بالذي أنافسكم عن هذه الإمرة، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم؟ فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن ، فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم، مال الناس على عبد الرحمن ، حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط، ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت تلك الليلة التي أصبحنا فيها فبايعنا عثمان ، قال المسور بن مخرمة : طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً؟ فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكبير نوم، انطلق فادع لي الزبير وسعداً ، فدعوتهما له فشاورهما، ثم دعاني فقال: ادع لي علياً ، فدعوته فناجاه حتى أبهار الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان ، فدعوته، فناجاه حتى فرّق بينهما المؤذن بالصبح، فلما صلى الناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ، ثم قال: أما بعد: يا علي ! إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، فقال لعثمان : أبايعك على سنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن ، وبايعه الناس، والمهاجرون، والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون. ومن فضائل عثمان رضي الله عنه الخاصة: كونه ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر ، فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله(4/45)
صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة : دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟ فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) . وفي الصحيحين: (لما كان يوم بيعة الرضوان، وأن عثمان رضي الله عنه كان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان ، فضرب بها على يده، فقال: هذه......
عدل عمر رضي الله عنه وحرصه على ما ينفع المسلمين
…(4/46)
في آخر حياة عمر رضي الله عنه كان يتفقد أحوال أهل البلاد التي أسست في زمانه في العراق وفي الشام وفي غيرها، ولما فتحت تلك البلاد، وكان فيها أرض زراعية؛ رأى من المصلحة أن الأرض الزراعية تبقى موقوفة ولا تقسم بين المقاتلين، ولو كانوا هم الذين غنموها، بل تبقى وقفاً مورداً لبيت المال؛ وذلك لأنه استشعر أن المد سيتوقف، فإن مد بيت المال كان من خمس الغنائم ومن الفيء، ولكن قد يتوقف هذا الفيء وهذه الغنائم في وقت من الأوقات، فقد يتوقف الجهاد فيبقى بيت المال ليس له ما يمد به، فرأى أن تلك الأرض التي فتحت عنوة تكون وقفاً، فجعل الأراضي الزراعية التي في العراق مع كثرتها، والتي في الشام، والتي في مصر؛ كلها وقفاً، ليس لها مالك معين، ثم أمر بأن تؤجر على من يزرعها، ويؤدي أجرتها إلى بيت المال، فأجروها بقدر ما تطيقه، وسأل عن هذا بعض أمرائه كحذيفة رضي الله عنه -وكان هو ممن قدم من تلك البلاد- فقال: (لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق؟) أي: أجرتماها بأجرة زائدة عن قدر المستطاع، وعما تطيقه، فذكرا أنهما حملاها أمراً هي له مطيقة، يعني: أنهما أجراها بأجرة مناسبة ليس فيها جور، وكان رضي الله عنه يحب ألا يكون في مملكته ولا في الأمة الإسلامية من يناله ظلم أو ضيم، حتى ولو كان من الكفار؛ لأن أغلب الذين استأجروا تلك الأراضي للزراعة والحراثة غير مسلمين، ولكنهم عمال عارفون باستغلالها، فخشي أنهم ظلموا وحملوا ما لا يطيقون، ثم التزم بأنه إذا مد الله في حياته أن يفرق مالاً على المسلمين والمستضعفين في أقطار الأرض، وألا يترك أحداً ولو أرملة أو فقيراً يحتاج إلى أحد بعده، أي: يجعل لهم مدداً ويجعل لهم مالاً، وقد كان قد جعل رزقاً للصحابة لما فتحت عليه البلاد، وكثر وارد المال، فدون ديواناً، وجعل فيه إعاشة سنويةً لكل المسلمين من المهاجرين والأنصار ونحوهم من أهل المدينة والمجاهدين الأولين، فأحب أيضاً أن يصل ذلك إلى أهل البلاد(4/47)
الإسلامية: في الشام، ومصر، والعراق، واليمن، وخراسان، وما أشبه ذلك، ولكن اخترمته المنية قبل ذلك، فبعد أن قال هذه الكلمة التي التزم فيها، ما أتى عليه إلا أربع ليالٍ حتى قتل. ......
قصة مقتل عمر رضي الله عنه
…
الذي قتل عمر معروف مشهور، وهو غلام المغيرة ، ويقال له: أبو لؤلؤة ، وهو مجوسي غير مسلم، وكان صانعاً، يعني: كان له صناعة، يعمل الأرحاء، ويأخذ عليها أجراً معلوماً، وقد اتفق مع المغيرة على أن يؤدي إلى المغيرة كل يوم دراهم معدودة عن عمله، حيث قال له المغيرة : اعمل للناس بالأجرة، وأعطني كل يومٍ كذا وكذا درهماً، فكأنه تثاقل تلك الضريبة التي جعلها عليه المغيرة، فجاء إلى عمر ، وقال له: أريد أن تشفع لي عند المغيرة حتى يخفف عني، ولكنه قال: أنت رجل صنّاع، وبيدك صنعة تعمل فيها، وهذه الأجرة التي ضربت عليك خفيفة، وليست ثقيلة، فغضب على عمر وقال: وسع عدله الأرض كلها إلا أنا، وفي بعض الروايات أنه قال له: أريد أن تصنع لنا رحى، فقال: لأصنعن لك رحىً يتحدث بها أهل المشرق والمغرب، ففطن عمر أنه أراد أن يقتله، ولكنه لم يأخذ حذره، وفي بعض الروايات أنه قال: يتوعدني العلج، أو يريد قتلي، فلما عزم على قتله صنع سكيناً ذات رأسين محددين، وسقاها سماً، ثم لما قام عمر رضي الله عنه لصلاة الصبح، وكان يسوّي الصفوف قبل أن يكبر، وكان إذا كبر أطال القراءة في الركعة الأولى، بحيث إنه تارة يقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف أو سورة النحل، وهي أكثر من نصف الجزء، وقصده بذلك أن يجتمع الناس، وأن يدركوا الركعة الأولى، ولكنه ساعة ما كبر، ولم يبتدئ بعد بالقراءة، إذا هو يلتفت إلى من يليه ويقول: أكلني الكلب أو قتلني الكلب، ويعني بذلك هذا العلج الذي قتله، وقد طعنه ثلاثة طعنات في بطنه قطع بها أمعاءه، وبعد ذلك قام العلج في الناس يطعن فيهم، فطعن ثلاثة عشر من المصلين، مات منهم سبعة، ورآه بعض المصلين وهو يجول فيهم، فألقى عليه(4/48)
برنساً وضمه به، ووضعه على الأرض، ووطئ على ذلك البرنس، فعلم العجل أنه مقتول فقتل نفسه، ولما طعن عمر رضي الله عنه اجتذب عبد الرحمن فصلى بهم صلاة خفيفة، وكان الناس الذين حوله قد فطنوا أنه طعن لما سمعوا قوله: قتلني أو أكلني الكلب، وأما أهل الصفوف البعيدة وأطراف الصفوف فإنهم لم يشعروا بما حصل، لكنهم لما فقدوا صوت عمر ، وسمعوا صوت عبد الرحمن ، أخذوا يسبحون استنكاراً لما حصل، وبعدما صلوا صلاة خفيفة، سأل عمر رضي الله عنه ابن عباس : انظر من الذي قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء وقال: غلام المغيرة ، فقال: الصنع؟ -أي: الذي بيده صنعة-، قال: نعم. يعني: أنه مشهور بهذه الصنعة، ثم قال يخاطب ابن عباس : قد كنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج. والعلوج هم النصارى والمجوس، يعني: الكفرة الذين هم مماليك، وكان العباس له مماليك كثيرون، وغالبهم ليسوا بمسلمين، ولكنهم أسلموا بعدما ملكوا، ولكن ابن عباس يقول: إن شئت فعلنا؟ -يعني: قتلناهم- ولكن عمر يقول: بعدما دخلوا بلادكم، وتكلموا بكلامكم، وصلوا إلى قبلتكم، وحجوا بيتكم. يعني: قد فعلوا كما تفعلون، وكان يكره أن يأتي هؤلاء المماليك إلى هذه البلاد وهم على عاداتهم السيئة. ......
جعل عمر الأمر شورى من بعده
…(4/49)
بعد أن انتهوا من الصلاة حمل عمر رضي الله عنه وجرحه يسيل، وكأن الناس لم يصابوا بمصيبة قبل هذه المصيبة؛ وذلك لأنها مصيبة عظيمة، وفاجعة كبيرة، قتل أمير المؤمنين الذي هو المثل الأعلى في العدل ، فلما حملوه قال بعضهم: إنه لا بأس عليه، وإنه سوف يعيش، وآخرون يقولون: نخاف عليه من هذه الطعنات المسمومة، فلما سقوه نبيذاً -والنبيذ هو عصير التمر- خرج من الجرح، ولكنهم لم يتفطنوا له واعتقدوه دماً، فلما سقوه لبناً خرج اللبن من الجرح أبيض، فعلموا حينئذٍ أنه ميت، فقالوا له: استخلف، أي: اختر من يكون بعدك خليفة، فقد نزل بك أمر الله، وعرفوا بأنه ميت، فأشاروا عليه أن يختار للمسلمين خليفة بعده، ولكنه رضي الله عنه قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، يعني: أبا بكر ، وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يعين خليفة بعينه، ولكنه جعل الأمر شورى في ستة من الصحابة، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد لعشرة من الصحابة بالجنة، ومنهم أبو عبيدة ، ولكنه مات في خلافة عمر ، ومنهم سعيد بن زيد ، ولكنه قريب لعمر ، فهو ابن ابن عمه، فلم يجعله من أهل الشورى لقرابته؛ مخافة المحاباة، وبقي ستة، وهم عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة وسعد ، فهؤلاء هم الستة الذين جعلهم مستشارين، وجعل الخلافة شورى فيهم، وهم الذين يسمون أهل الشورى في ذلك الوقت. ولما عرف عمر رضي الله عنه أنه ميت أخذ يوصي الخليفة من بعده بهذه الوصايا: يوصيه بالمهاجرين، ويوصيه بالأنصار، ويوصيه بأهل القرى والمدن، ويوصيه بالأعراب، ويذكر ما لكلٍ منهم من المآثر، وما لكل منهم من الجهاد، ويوصيه بالسير الحسن، وعادة الناصحين المخلصين الوصية لمن بعدهم بالخير، وصية دينية، يقصد منها السير على نهج قويم، حتى تأمن البلاد في عهده، وحتى لا يخاف من جوره، وحتى لا يكون(4/50)
عليه اختلاف ولا خروج، ولا من ينكر عليه، وقد عمل الخليفة بعده بهذه الوصايا. وسمعنا: أنه جاءه ذلك الغلام الذي كان مسبلاً إزاره فشهد له بالخير، ولكن عمر لما رأى إزاره يصل إلى الأرض نصحه، ولو كان في تلك الحال، ولو كان في مرض الموت، فنصحه بأن يرفع إزاره، وقال له: إنه أتقى للرب، وأنقى للثوب، فهكذا كانت عادته رضي الله عنه يحب للمسلمين الخير، ولا يدخر عنهم وسعاً. وسمعنا كذلك قصة استئذانه أن يدفن مع صاحبيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، فاستأذن من أمنا عائشة ؛ لأن البيت مسكنها، وقد كانت تحب أن تكون في ذلك المكان مع زوجها وأبيها، ولكنها آثرت عمر رضي الله عنه لما جاءها الخبر بأنه قد طعن، فبقيت تبكي في بيتها، ولما دخلوا عليها وهي باكية، وذكروا لها ذلك لبت طلبه، ووافقت على ذلك، فدفن رضي الله عنه مع صاحبيه. وقد مر بنا قول علي رضي الله عنه لما دفن عمر مع أبي بكر: كنت كثيراً ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جئت أنا وأبو بكر وعمر ، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر) يعني: أنه كان يقرن بينهما دائماً، فكان ذلك دليلاً على أنهما سيقبران معه، وكذلك في حديث أبي موسى المشهور الذي فيه أنه قال: لأكونن بوّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم. لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في بستان، فجاء أبو بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قد جلس على قُفّ البئر، وكشف عن ساقيه، ودلى قدميه على شفير البئر، فدخل أبو بكر وهو كذلك، ثم جلس عن يمينه في ذلك الجانب، ثم جاء عمر رضي الله عنه، فجلس عن يساره، وامتلأ طرف البئر، ثم لما جاء عثمان وجدهم الثلاثة قد صفوا في أحد جوانب البئر، فقابلهم في جانب آخر، ودلى قدميه مثلهم مقابلاً لهم، يقول الراوي : فأولت ذلك قبورهم، النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر جعلت قبورهم متجاورة، وعثمان جعل قبره وحده، وقد حقق الله تعالى لعمر رضي الله عنه ما تمناه؛ ولأجل(4/51)
ذلك يقول بعض العلماء في أبي بكر وعمر : منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة كمنزلتهما منه بعد الممات، فإنهما كانا قرينيه وصاحبيه في حياته، لا يسافر إلا وهما وزيراه دائماً كانا معه، فقرنهما الله به بعد موتهما، فأصبحا قرينين له في حياته وبعد مماته. وسمعنا أن هؤلاء الستة الذين اختارهم عمر رضي الله عنه، وجعل الأمر فيهم، اجتمعوا وجعل كل منهم أمره إلى واحد، فجعل الزبير أمره إلى علي ، وجعل سعد أمره إلى عبد الرحمن ، وجعل طلحة أمره إلى عثمان ، فأصبح الأمر إلى ثلاثة: عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ، وكأن عبد الرحمن هو الذي اهتم بهذا الأمر، واشتد عليه أن يمضي وقت ولم يتم للمسلمين اختيار خليفة لهم يقوم بأمرهم، فبقي ثلاث ليالٍ لا يهنأ بالنوم، لا ينام إلا قليلاً؛ من شدة اهتمامه بأمر المسلمين، وكلما جاء أو جلس مع واحد منهم أخذ يناجيه، ويتكلم معه، ويأخذ عليه العهد والميثاق إذا تم له الأمر أن يسير سيرة حسنة، وأن يتبع سيرة الخليفتين قبله، حتى توثق منهما بذلك، فرأى أن الناس يميلون إلى عثمان ، وأن عثمان له تجربة، وله مكانة، وله أهلية، فأمره أن يبسط يده للمبايعة، فبايعه عبد الرحمن وبايعه علي ، وتمت البيعة، ولم ينقل أن علياً توقف، ولا قال: أنا أحق بها منه، أو أنا ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك، بل وافق على ذلك بما أُخذ عليه من العهد، ولا شك أن ذلك دليل على أنه رضي الله عنه لم يكن مخالفاً لما حصل، بل موافقاً له.
فضائل عثمان رضي الله عنه
…(4/52)
تمت الخلافة لعثمان رضي الله عنه، وسار في الناس سيرة حسنة، وبقي خليفة اثنتي عشرة سنة إلى أن قتل سنة خمس وثلاثين رضي الله عنه. وله فضائل كثيرة، ولو لم يكن من فضائله إلا أنه هاجر الهجرتين: هاجر أولاً إلى الحبشة، ثم هاجر بعد ذلك إلى المدينة. ومن فضائله أنه يقال له: ذو النورين؛ لأنه تزوج أولاً رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ماتت سنة اثنتين من الهجرة زمن وقعة بدر، ثم زوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته الثانية أم كلثوم ، ولكنها أيضاً ماتت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (لو كان لنا بنت ثالثة لزوجناها عثمان)؛ ولذلك قيل له: ذو النورين ، ويقال: لا أحد تزوج بنتي نبي إلا عثمان ؛ ولذلك يقول فيه الكلوذاني : قالوا فثالثهم فقلت مجاوباً من بايع المختار عنه باليد صهر النبي على ابنتيه ومن حوى فضلين فضل تلاوة وتهجد أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي في الناس ذو النورين صهر محمد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل في الحديبية، وصده المشركون عن دخول الحرم، وعن إكمال عمرته؛ أراد أن يبعث عمر إلى قريش، ولكن عمر خاف منهم؛ لكرامته وقوته، فأشار إليه أن يبعث عثمان ؛ لكونه ذا قرابة منهم، فأبو سفيان قريبه، وهو سيد فيهم، فوقع الاختيار عليه، فبعثه، ولما بعثه قالوا له أهل مكة: نمكنك أن تطوف بالبيت، فقال: لا أطوف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يطف، ثم جاء خبر كاذب بأن عثمان قتل، فعند ذلك فزع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (بايعوني) ، فبايعه الصحابة البيعة التي تسمى بيعة الرضوان، ولما تمت وجاء الخبر بأن عثمان حي، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى على يده اليسرى، وقال: (هذه لعثمان) أي: هذه بيعة عثمان ، فكأنه بايع عن عثمان بنفسه؛ فلذلك يقال: إنه من أهل البيعة وإن لم يكن حضرها، بل البيعة ما حصلت إلا بسببه. ولا شك أن تزوجه ببنتي النبي صلى الله عليه وسلم مزية وأي مزية، وفضيلة كبيرة. وعثمان(4/53)
رضي الله عنه كان من أوائل الذين أسلموا؛ وذلك لأنه تزوج رقية قبل نزول الوحي بمدة، وكانت رقية قد خطبها أحد أبناء أعمامها أبي لهب ، ولكن كرهته وكرهه النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي، ثم خطبها عثمان وتزوج بها؛ لما رؤي منه من الأهلية، ورزق منها أولاداً، وهاجر بها، ولما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم كان عثمان صهراً للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان قد عرف صدقه، وعرف أهليته، فلم يتوقف أن أسلم، فهو من أوائل من أسلم، ولم يسلم لكونه صهراً للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن أبا العاص بن الربيع زوج زينب صهر للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يسلم إلا في سنة ثمان، بل تمسك بدينه، مع أن زوجته -وهي بنت النبي صلى الله عليه وسلم- أسلمت، لكن عثمان أسلم؛ لكونه اقتنع بصحة النبوة، ولأهلية النبي صلى الله عليه وسلم للنبوة، فأسلم وهاجر الهجرتين كما عرفنا، وله فضائل كثيرة رضي الله عنه، استحق بها أن يكون خليفة على المسلمين. ......
…
شرح العقيدة الطحاوية [87]
علي رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين، وهو من أكثر الصحابة فضائل ومناقب، ولذلك كان حبه من الإيمان، وبغضه من النفاق كما صحت بذلك الأحاديث، ودعوى الرافضة في علي خرافة كدعوى النصارى في عيسى.
عقيدة أهل السنة في الصحابة
…(4/54)
نحمد الله أن جعلنا من أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون ما جاء عن الله، ويتقبلون ما جاء في كتاب الله، الذين هداهم الله وسددهم وأرشدهم، والذين يتمسكون بالنصوص وبالأدلة، ويعملون بالكتاب والسنة، ويكون مرجعهم إلى الأدلة القوية، الذين نزهوا معتقدهم عن البدع والمحدثات. ولا شك أن من أشد البدع الطعن في نقلة السنة وحملتها من الصحابة؛ وذلك لأنهم الواسطة بين الأمة وبين نبيها، وهم الذين تحملوا السنة والشريعة الإسلامية، وبلغوها لمن بعدهم، ولم يكتموا منها شيئاً، ولم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يزيدوا ولم ينقصوا؛ فلهذا ففضلهم على الأمة كبير، وإحسانهم إليها عظيم، ولأجل ذلك اتفقت الأمة من أهل السنة على تزكيتهم وتعديلهم، وعلى إنكار قول من طعن أو بدّع أو شنّع فيهم، واتفق أهل السنة على أن الصحابة كلهم عدول، ويكفي في تعديل الراوي أن يكون من الصحابة، فإذا روي حديث وثبت أن راويه صحابي ولو كان مجهولاً قبلت روايته، وذلك دليل على أنهم عرفوا مكانة الصحابة وعدالتهم. والصحابة يتفاوتون في الفضل، وقد ذكر الله تعالى شيئاً من تفاوتهم بقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، فأخبر أن المتقدمين منهم الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح أفضل من الذين لم يسلموا ولم ينفقوا ولم يقاتلوا إلا بعد الفتح، ولكن وعدهم جميعاً بالحسنى: (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) أي: الثواب الحسن والجنة، والجزاء الأوفى عند الله، وهذا ثناء كبير (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)، ومن يدرك هذه الفضيلة؟ ومع كل هذا الثناء عليهم تسلط عليهم الأعداء من الرافضة، وسددوا سهام الطعن نحوهم، بل سلطوها على خيارهم وأفاضلهم وأشرفهم، وهم الخلفاء الراشدون، وقد تقدم شيء من سيرة أبي بكر و عمر(4/55)
و عثمان رضي الله عنهم، ولا شك أنهم هم الخلفاء الراشدون الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، فإن أول من يدخل فيه خلفاؤه الذين تولوا الأمر من بعده، فأول من تولى بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون الذين أوصى النبي عليه الصلاة والسلام باتباعهم، والسير على منهاجهم، وهم ممن شهد لهم بالجنة شهادة عظيمة فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة بن عبيد الله في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وأبو عبيدة عامر بن الجراح في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة) ، فهؤلاء هم العشرة المشهود لهم بالجنة. وفي حديث أبي موسى لما كان بوّاب النبي صلى الله عليه وسلم في القصة التي مرت بنا يقول: فاستأذن أبو بكر ، فقلت: على رسلك! فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا أبو بكر يستأذن، فقال: (ائذن له وبشره بالجنة، فجاء وجلس إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء عمر فقال: ائذن له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان ، فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه) فبشره بالجنة، ولكن أخبره ببلوى، وهذه البلوى هي ما حصل عليه من الثوار الذين ثاروا عليه، وحاولوا خلعه، إلى أن انتهى الأمر بقتله رضي الله عنه. ......
مناقب عثمان رضي الله عنه
…(4/56)
عثمان أحد الخلفاء الراشدين، وقد امتدت خلافته اثني عشر سنة، واتفق على خلافته الصحابة، ولم يشذ منهم أحد، فصار هو ثالث الخلفاء الراشدين، وله فضائل ومزايا رضي الله عنه، ولو لم يكن منها إلا أنه صهر النبي صلى الله عليه وسلم، زوجه ابنته الأولى رقية وماتت سنة اثنتين، ثم زوجه ابنته الثانية أم كلثوم وماتت أيضاً في سنة ثمان أو نحوها، وقال: (لو كان لنا ابنة ثالثة لزوجناها عثمان) ؛ ومن ثمّ عرف بذي النورين، أي: ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم، ولأجل ذلك مدحه الكلوذاني في عقيدته بقوله: قالوا فثالثهم فقلت مجاوباً من بايع المختار عنه باليد صهر النبي على ابنتيه ومن حوى فضلين فضل تلاوة وتهجد أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي في الناس ذو النورين صهر محمد ومن فضائله: أنه الذي جمع القرآن بعدما افترق الناس فيه، وكادوا يقتتلون، فكتب القرآن ونسخه في المصاحف، وأرسلها إلى الناس حتى يقتصروا عليها، فاتفقت الأمة على الاقتصار على هذا المصحف، ويسمى المصحف العثماني، أو الرسم العثماني. ومن فضائله رضي الله عنه: أنه كان طوال ليله يتهجد ويصلي، حتى ذكروا أنه كان يختم القرآن في كل ليلة في تهجده، وذلك دليل على اهتمامه بالعبادة، يقول بعض الذين مدحوه: ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطِّع الليل تسبيحاً وقرآناً يقطِّع الليل يعني: يَقْطع الليل كله في التسبيح وفي القراءة، وعبّر بالتسبيح عن الصلاة. وكان رضي الله عنه تستحي منه الملائكة كما في الحديث الذي مر بنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مرة جالساً في حجرته، وقد أبدى ركبتيه وساقيه، فدخل أبو بكر وهو على تلك الحال، ثم دخل عمر وهو على تلك الحال، فلما دخل عثمان استوى جالساً، وستر ركبتيه وساقيه، فقيل له: لماذا جلست بعدما كنت على تلك الهيئة؟ فقال: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟)، قيل: إنه كان حيياً، ولو رأى النبي صلى الله عليه وسلم على تلك الحال لرجع ولم يجلس معه على تلك(4/57)
الهيئة؛ فلأجل ذلك استوى النبي عليه الصلاة والسلام جالساً، ولا شك أنه رضي الله عنه كان من أجلاء الصحابة وسابقيهم، وفي الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مرة على جبل أحد، فاهتز الجبل فقال: (اسكن أحد، فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد)، وكان معه أبو بكر و عمر و عثمان ، فجعل أبا بكر صديقاً، و عمر و عثمان شهيدين، وتحقق ذلك، فإن كلاً منهما قتل شهيداً، وهذه شهادة منه صلى الله عليه وسلم لعثمان بأنه من الشهداء، ولما قتل مظلوماً قيّض الله له من ينصره، وقد استنبط ابن عباس من قول الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33] فقال: إن عثمان قتل مظلوماً، وإن أولياءه الذين يطالبون بدمه - وهم معاوية ومن معه- منصورون. وبكل حال فلا مجال للطعن فيه، ومن طعن في خلافته أو في عدالته فقد طعن في الإسلام، وفي حملة الإسلام. ......
علي بن أبي طالب رضي الله عنه
…(4/58)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. أي: ونثبت الخلافة بعد عثمان لعلي رضي الله عنهما، لما قتل عثمان وبايع الناس علياً ؛ صار إماماً حقاً واجب الطاعة، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة، كما دل عليه حديث سفينة المتقدم ذكره أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء) ، وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ستة أشهر. وأول ملوك المسلمين معاوية ، وهو خير ملوك المسلمين، لكنه إنما صار إماماً حقاً لما فوّض إليه الحسن بن علي رضي الله عنهما الخلافة، فإن الحسن رضي الله عنه بايعه أهل العراق بعد موت أبيه، ثم بعد ستة أشهر فوّض الأمر إلى معاوية ؛ فظهر صدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) ، والقصة معروفة في موضعها. فالخلافة ثبتت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه بمبايعة الصحابة سوى معاوية مع أهل الشام، والحق مع علي رضي الله عنه، فإن عثمان رضي الله عنه لما قتل كثر الكذب والافتراء على عثمان ، وعلى من كان بالمدينة من أكابر الصحابة كعلي و طلحة و الزبير ، وعظمت الشبهة عند من لم يعرف الحال، وقويت الشهوة في نفوس ذوي الأهواء والأغراض ممن بعدت داره من أهل الشام، ويحمي الله عثمان أن يظن به الأكابر ظنون سوء، ويبلغه عنهم أخبار منها ما هو كذب، ومنها ما هو محرف، ومنها ما لم يعرف وجهه، وانضم إلى ذلك أهواء أقوام يحبون العلو في الأرض، وكان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن(4/59)
من إظهاره كله، ورأى طلحة و الزبير أنه إن لم ينتصر للشهيد المظلوم، ويقمع أهل الفساد والعدوان، وإلا استوجبوا غضب الله وعقابه، فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ولا من طلحة و الزبير ، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين. ثم جرت فتنة صفين لرأي، وهو أن أهل الشام لم يعدل عليهم، أو لا يتمكن من العدل عليهم، وهم كافون حتى يجتمع أمر الأمة، وأنهم يخافون طغيان من في العسكر كما طغوا على الشهيد المظلوم، وعلي رضي الله عنه هو الخليفة الراشد المهدي الذي تجب طاعته، ويجب أن يكون الناس مجتمعين عليه، فاعتقد أن الطاعة والجماعة الواجبتين عليهم تحصل بقتالهم بطلب الواجب عليهم بما اعتقد أنه يحصل به أداء الواجب، ولم يعتقد أن التأليف لهم كتأليف المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده مما يسوغ، فحمله ما رآه من أن الدين إقامة الحد عليهم، ومنعهم من الإثارة دون تأليفهم على القتال، وقعد عن القتال أكثر الأكابر؛ لما سمعوه من النصوص في الأمر بالقعود في الفتنة، ولما رأوه من الفتنة التي تربو مفسدتها على مصلحتها، ونقول في الجميع بالحسنى : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] ، والفتن التي كانت في أيامه قد صان الله عنها أيدينا، فنسأل الله أن يصون عنها ألسنتنا بمنه وكرمه. ومن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ما في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي). وقال صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال : فتطاولنا لها، فقال : ادعوا لي علياً ، فأتي به أرمد، فبصق في عينيه، ودفع(4/60)
الراية إليه) ، ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ [آل عمران:61] دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً و فاطمة و حسناً و حسيناً فقال: (اللهم هؤلاء أهلي)]. ......
فضائل علي رضي الله عنه
…
الخليفة الرابع هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الذي تتولاه الرافضة، وتدعي أنه الخليفة الأول، وأن الخلفاء قبله مغتصبون، أما أهل السنة فيقولون: إنه آلت إليه الخلافة بعد قتل عثمان ، فإن عثمان رضي الله عنه اتهم في آخر خلافته باتهامات لا أساس لها، وكان من نهايتها أن ثار عليه ثوّار كثير من العراق ومن مصر، واجتمعوا، وحاصروه إلى أن آل الأمر بقتله رضي الله عنه مظلوماً، ولما قتل لم يكن هناك أولى بالخلافة من علي ، فهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قريبه، وهو صهره زوج ابنته، وهو أبو الحسنين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله فضائل كثيرة، حتى كان لا ينافس. وذكروا من فضائله أنه لما خالفه معاوية ولم يبايعه، واستقر معاوية في الشام، وعلي في العراق، كتب إليه معاوية كتاباً يذكر فيه فضائله، أنه كاتب الوحي، وأنه خال المؤمنين، أي: أخو أم المؤمنين التي هي أم حبيبة ، وأنه الذي جاهد وفتح الفتوح، ونحو ذلك من فضائله، فذكر ابن كثير في تاريخه أن علياً رضي الله عنه قال: يفخر علي ابن فلانة، ثم أمر أن تكتب أبيات يذكر فيها فضائله يقول فيها: محمد النبي أخي وصهري وحمزة سيد الشهداء عمي وجعفر الذي يمسي ويضحي يطير مع الملائكة ابن أمي وبنت محمد زوجي وعرسي مسوق لحمها بدمي ولحمي وسبطا أحمد ولداي منها فأيكم له سهم كسهمي سبقتكم إلى الإسلام طراً صغيراً ما بلغت أوان حلمي ولا شك أن له فضائل صحيحة، ولكن الرافضة زادت، وجعلت له فضائل أكثر من هذا، حتى رفعوه عن طوره، وأعطوه ما لا يستحقه، ووصفوه بصفات أكبر من صفة(4/61)
النبوة، وجعلوا له مكانة تفضله على مكانة الخلفاء قبله، بل ورفعوه إلى مكانة النبوة! وأما أهل السنة فاعتدلوا فلم يصفوه إلا بالصفات التي وردت له، وبالفضائل الثابتة الصحيحة التي تميّز بها.
خلافة علي رضي الله عنه
…
رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن علياً أولى بالخلافة بعد مقتل عثمان ، فتمت له البيعة، وكان ذلك في وقت الحج في سنة خمس وثلاثين من الهجرة، وكان الحجاج الذين بمكة قد غابوا عن فتنة قتل عثمان ، ولما انتهوا من الحج، وأرادوا أن يقبلوا إلى المدينة، جاءهم الخبر أن الثوّار قد قتلوا عثمان ، وكانوا يعرفون أفراداً من أولئك الثوّار من أهل العراق، فعزموا على أن يقاتلوهم، وقالوا: لا يقر لنا قرار حتى نقاتل قتلة المظلوم عثمان ، وكان من أولئك الحجاج: طلحة بن عبيد الله و الزبير بن العوام و عائشة رضي الله عنهم، فتوجهوا من مكة إلى العراق، ولم يأتوا إلى المدينة، ولم يبايعوا علياً فيمن بايعه، وهذا معناه أنهم قد شقوا العصا، وأنهم قد جعلوا في المسلمين خللاً، وكان يحب أن يأتوا إليه، ويبايعوه كما بايعه غيرهم، ثم بعد ذلك يسير معهم في قتال أولئك الثوّار، ولكن قضي الأمر، وتوجهوا من مكة إلى العراق، فلما سمع بأنهم توجهوا إلى العراق ساءه ذلك، وسار بمن معه في أثرهم ليردهم إلى الطاعة، وشق عليه أن يخالفوه، وأن يقع اختلاف في الأمة، وأحب أن تجتمع الأمة على إمام واحد، حتى يكونوا يداً واحدة على الثوّار، هكذا رأى رضي الله عنه، فتوجه إلى العراق ومعه جموع كثيرة من أهل المدينة الذين طاوعوه والذين بايعوه، فوصلوا إلى الكوفة، وتقابلوا هم وأهل الحج الذين جاءوا من مكة ومعهم عائشة ، وكانت على جمل لها مشهور، فتقابلوا وكادوا أن يصطلحوا على أنهم في الصباح يمسكون بقواد القتلة ويقتلوهم، ولما باتوا على ذلك، ولم يبق إلا فعل ما قرروا في الصباح، كان قتلة عثمان أشرافاً وأكابر وسادة، ولهم شرف في قومهم، فقالوا: لا(4/62)
يمكن أن يقتل فلان ويقتل فلان ويقتل فلان، فكان من حيلتهم أن قالوا: إذا كان آخر الليل فقوموا وقاتلوا، فابدءوا بالقتال حتى تنشب الحرب، وحتى يختلف هؤلاء وهؤلاء، ففعلوا ذلك في آخر الليل، ولم يدروا من أثار الحرب، والذين أثاروها هم قتلة عثمان ، فوقعت الواقعة، وجرت وقعة شنيعة كبيرة، قتل فيها عدة ألوف من المسلمين، منهم طلحة و الزبير رضي الله عنهم، وأكثرهم أو كلهم إلا نادراً ليسوا من الصحابة، وما زالوا يقاتلون النهار كله، والسيف يعمل فيهم، وعائشة رضي الله عنها على جملها في وسطهم، وكان يأتي أصحابها الذين جاءوا معها ويمسكون الجمل بخطامه، وكل ما أمسكه أحد قطعت يده، ثم يجيء آخر فتقطع يده، حتى قطعت أكثر من عشرين يداً كانت تمسك بذلك الخطام، فرأى علي أن يعقر الجمل، فقال: اعقروا الجمل فإنهم يدورون حوله، فلما عقروا الجمل سقط الجمل وسقطت عائشة بهودجها، فعند ذلك أمر علي أن تحاز إلى رحل المسلمين، وبذلك انهزموا وانتهت الحرب وتوقفت بعد معركة شديدة، وسببها قتلة عثمان ، وتمت البيعة منهم لعلي ، ولم يبق خلاف.
خروج أهل الشام على علي مطالبين بدم عثمان
…(4/63)
بعد وقعة الجمل بقي أهل الشام بقيادة معاوية ؛ وذلك لأن معاوية هو ابن عم عثمان ، وقد أسف لقتله، وأسف أهل الشام، وصاروا يبكون بكاءً شديداً على ما سمعوا، وعلى ما نقل إليهم من الشناعة والبشاعة، وصاروا يجتمعون في المساجد، ويقسمون أن يأخذوا بثأر عثمان مهما حصل الأمر، فعند ذلك جمعوا جموعاً أكثر من مائة ألف، وتوجهوا قاصدين العراق؛ لأجل مقاتلة أولئك الثوّار، واجتمعوا في موضع يقال له: صفين، وجاء علي وأهل العراق في أكثر من مائة ألف، وجاء هؤلاء كذلك وتقابلوا، وأرادوا أن يصطلحوا فيما بينهم، ولكن لم يحصل الاتفاق، وقد اختاروا حكمين، واختلف الحكمان، ونشبت الحرب بينهم واستمرت أياماً، منها ليلة شديدة القتال تسمى ليلة الهرير، وبعدما كاد أهل العراق أن ينتصروا رفع أهل الشام المصاحف وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله، فعند ذلك تركوا القتال، بعدما قتل عشرات الألوف من هؤلاء ومن هؤلاء، فرجع أهل الشام إلى الشام وهو متقوون، ورجع أهل العراق إلى العراق وفيهم شيء من الاختلاف والفشل، وانفصلت منهم طائفة سموا بالخوارج، وقالوا لعلي : أنت حكمت الرجال يعني: لما اختار حكماً من الرجال، وثاروا عليه، وهم الخوارج الذين قاتلهم علي في النهروان وقتلهم. والحاصل: أن علياً رضي الله عنه تمت بيعته، وكانت خلافته في العراق وفي الحجاز وفي خراسان وفي اليمن، وفي أكثر البلاد، ما عدا الشام ومصر والمغرب، فهذه كانت تحت ولاية معاوية ؛ وذلك لأنه تمكّن من هذه البلاد، وكانوا يحبونه؛ لكونه ذا سيرة حسنة وجهاد، فبقي متمكساً بهذا الأمر، ولم يزل أمر كل منهم على هذه الحال إلى أن قتل علي رضي الله عنه سنة أربعين، قتله الخارجي المشهور المسمى بعبد الرحمن بن ملجم .
خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما بعد استشهاد أبيه
…(4/64)
لما قتل علي بايع أهل العراق ابنه الحسن ، تمت له البيعة، وبايعوه بقوة، وكان أهل العراق يحبون علياً محبة شديدة، وبقوا ملتزمين بطاعته، وكانوا يحبون ذريته، فالتزموا أن ينصروا الحسن ، وأن يبذلوا في نصرته ما يمكنهم، ولما تمت له البيعة، وبقي نصف سنة، أراد معاوية أن يغزوا أهل العراق، فجاء بجنود هائلة، واجتمع أيضاً مع الحسن جنود هائلة عظيمة، ولما أرادوا أن يتقاتلوا فكر الحسن رضي الله عنه وقال: علام نقتل هؤلاء المسلمين؟ يقتل عشرات ألوف أو مئات ألوف لأجل الخلافة ولأجل الولاية، لا بورك فيها ولا خير فيها، لماذا لا أتنازل وأحقن دماء المسلمين؟ وعند ذلك أرسل إلى معاوية : إنني سآتي إليك، فجاء إليه، وقال: سأبايعك وأتنازل لك عن هذه الخلافة، واشترط عليه شروطاً: ألا يقتل أحداً، لا من قتلة عثمان ولا من غيرهم، يكفي ما قد حصل من الفتن ومن القتال، وألا تسبّوا أحداً منا ولا نسب أحداً منكم، لا نسب عثمان ولا تسبوا علياً ، وأن نكف عن هذه الفتن، فقبل تلك الشروط، وتمت البيعة سنة إحدى وأربعين لمعاوية ، وسمي ذلك العام: عام الجماعة، واجتمعت فيه الأمة على إمام واحد وهو معاوية ؛ ولذلك يقولون: الخلافة ما قبل الحسن ، والملك ما بعده، وفي حديث سفينة يقول صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً) وفسره سفينة فقال: احسب سنتين وأربعة أشهر خلافة أبي بكر ، وعشر سنين ونصفاً خلافة عمر ، وثنتا عشرة خلافة عثمان ، وأربع سنين ونصف خلافة علي ، ونصف سنة خلافة الحسن ، فمجموعها ثلاثون، أو تنقص أو تزيد قليلاً، وما بعده فهو ملك، وأول ملوك الإسلام معاوية ، وهو أفضل وخير ملوكهم؛ وذلك لأنه صحابي وابن صحابي، ولأن سيرته سيرة حسنة، إلا أنه أخطأ حيث أمر أو أقر من يسب علياً ، وحصل بسب علي في خلافته سواء في العراق أو في الشام حدوث هذه الطائفة التي تعصبت لعلي ، واخترعت أكاذيب في سب الصحابة وفي الغلو في علي ؛ ولأجل ذلك(4/65)
صارت الرافضة تحمل عليه، وتحمل على جميع بني أمية وتضللهم، ما عدا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه؛ وذلك لأن سب علي استمر في العراق، وإن لم يكن في كل الأماكن، بل في بعض المساجد، وكذلك في الشام مدة خلافة بني مروان، إلى أن تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز ، فعند ذلك أبطل سبه، وهو الذي مدحه بعض أهل البيت على هذا الفعل، فنسب إلى المرتضى وهو من أهل البيت أنه قال: يا ابن عبد العزيز لو بكت الـ عين فتىً من أمية لبكيتك أنت أنقذتنا من السب والشتم فلو أمكن الجزاء جزيتك غير أني أقول لقد طبت وإن لم يطب ولم يزك بيتك دير شمعان لا عدتك العوادي خير ميت من آل مروان ميتك وكان قد دفن رضي الله عنه في دير شمعان. وبعده انقطع السب، ولكن حدثت هذه الطائفة التي هي الرافضة، وكان سبب سبهم لعلي رضي الله عنه تسويل الشيطان لهم بأنه من جملة الذي داهنوا في قتل عثمان ، أو شاركوا فيه، فصاروا يسبونه ويشتمونه على المنابر، وصار أولياؤه وشيعته يتحرقون عندما يسمعون كلامهم، ويجمعون أكاذيب في سب بني معاوية، وفي سب بني مروان، بل وفي سب الخلفاء الراشدين، وفي الغلو في علي رضي الله عنه، ولا حاجة لعلي في أكاذيبهم؛ فله فضائل كثيرة، وله مناقب شهيرة، هو غني بها عما لفقوه وزادوا عليه، حتى جعلوا له ما لا يستحقه.
علي رضي الله عنه أول من أسلم من الصبيان
…
علي رضي الله عنه من السابقين، أسلم وهو صغير، وكان سبب إسلامه أن أبا طالب كثر عياله، وكان قليل ذات يد، فقال حمزة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: هلم فلنخفف عن أبي طالب، فنأخذ منه بعض أولاده نَعولُهم، فأخذ حمزة جعفراً مع عياله، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم علياً مع عياله، وكان ينفق عليه، ولما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بادر وأسلم، وهو أول من أسلم من الصبيان، قيل: إنه أسلم وعمره عشر سنين، فلذلك قالوا: إنه أسلم قبل أن يبلغ.
حديث: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى)
…(4/66)
من فضائله: قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).، ومعلوم أن هارون أخو موسى؛ ولكن هارون نبي أوحي إليه كما أوحي إلى موسى، قال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً [مريم:53]، وحُسب هارون من الأنبياء الذين أوحي إليهم، أما علي فإنما له قرابة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك القرابة لم تصل إلى حد النبوة، إنما له قرابة وله محبة وله صلة وله مصاهرة، حيث تزوج بنت النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح له هذه المكانة.
حديث: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله...)
…(4/67)
من فضائله: قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه، يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يُعطاها، فلما أصبحوا غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأُتي به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، وقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). اشتمل هذا الحديث على ثلاث فضائل: الأولى: أنه يحب اللهَ ورسولَه. الثانية: أن الله يحبه ورسوله. الثالثة: أن الله يفتح على يديه. ولأجل ذلك تطاول إليها كثير من الصحابة حتى قال عمر رضي الله عنه: ما تمنيت الولاية إلا يومئذ، وقد أرسله النبي عليه الصلاة والسلام لما يلي: أولاً: لقرابته منه. ثانياً: لِما عُرف عنه من الشجاعة والقوة والإقدام. ثالثاً: ليظهر آثار ذلك بالفتح على يديه. فله هذه الفضائل، مع أنها حاصلة لغيره أيضاً، فإن الصحابة رضي الله عنهم بل وجميع المؤمنين بل ونحن إن شاء الله جميعاً نحب الله ورسوله، ونرجو أن نلقى ثواب هذه المحبة، ونحب أولياء الله ومنهم الصحابة رضي الله عنهم، وهذه فضائل لـ علي ، ولغيره من الصحابة.
الفتنة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما
…(4/68)
الفتن التي حصلت بين علي رضي الله عنه وبين أهل الشام وقعت باجتهاد، فأهلُ الشام معذورون حيث إنهم يطالبون بدم عثمان ، وأهل العراق معذورون حيث إن علياً رضي الله عنه يطالب بجمع الكلمة، ويقول: بايعوني واجتمعوا معي، ونحن بعد ذلك إذا اجتمعنا ولم نختلف تمكنا من أخذ أولئك القتلة واحداً واحداً، وهي فكرة جيدة؛ ولكن قدر الله ما حصل، وحصل هذا الأمر الذي وقعت بسببه هذه الفتن، فنحن نقول: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134]، ونقول كما قال الشارح: تلك فتنة صان الله عنها أيدينا، فنصون عنها ألسنتنا، فلا نقول: هذا هو المصيب، ولا هذا هو المخطئ، بل نَكِل أمرهم إلى الله تعالى، والله يحكم بينهم، ونعذرهم، ولا نُلحِق بأحد منهم لوماً ما داموا مجتهدين، ونعرف للجميع سبقهم، ونعرف لهم فضلهم وفضائلهم، ونشهد لهم بالخير، ولا نتبرأ من أحد من الصحابة لا من علي ولا من معاوية ؛ ولأجل ذلك يقول الكلوذاني في معاوية : ولابن هند في الفؤاد محبة ومودة هل يُرْغَمَنَّ المعتدي ذاك الأمين المجتبى لكتابة الـ ـوحي المُنَزَّل بالتقى والسؤدد فهو من الخلفاء؛ ولكن ليس هو من الخلفاء الراشدين، ولكنه ملك من الملوك، سار سيرة الملوك، ولكنه أحسنهم، أما علي رضي الله عنه فلا شك أنه في زمانه خليفة ذلك الزمان، ولا شك أن فضائله تدل على أقدميته على معاوية وعلى ميزته؛ لأنه من السابقين الأولين، وأما معاوية فهو من مسلمة الفتح، وهو داخل في قوله تعالى: أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10] أي: من بعد الفتح وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10].
شرح العقيدة الطحاوية [88](4/69)
بشر النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من الصحابة بالجنة في حديث واحد، وهم الخلفاء الأربعة وابن عوف والزبير وطلحة وأبي عبيدة وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص، وقد ضل الرافضة في بغضهم لأكثر هؤلاء العشرة، وسلكوا مسلك اليهود في الجفاء والنصارى في الغلو.
حب أهل السنة للصحابة ومعرفتهم لفضلهم
…
نحمد الله أن جعلنا مسلمين، وجعلنا متحابين في ذات الله، نحب أهل الخير متقدِّمهم ومتأخرهم، ونعترف لهم بالفضل، ونعترف لهم بالسبق إلى الخير، ونمتثل قول الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّاً [الحشر:10] أي: حقداً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]. ولا شك أن هذا وصف المؤمنين في كل زمان، فهم يعترفون لمن سبقهم من أهل الإيمان بالفضل والخير، ولا شك أن أفضل مَن سبق وأول مَن سبق هم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، فنحبهم من كل قلوبنا، وهذا وصف أهل السنة، يقول شيخ الإسلام في عقيدته: حب الصحابة كلهم لي مذهب ومودة القربى بها أتوسلُ ولكلهم فضل وقدر ساطع لكنَّما الصديق منهم أفضلُ نحبهم لأنهم السابقون إلى الخيرات، ونحبهم لأنهم حفظوا على الأمة دينها وشريعتها، ونحبهم لفضلهم وشرفهم، ونحبهم لقرابة أكثرهم -سيما الخلفاء الراشدون- من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث أن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي)، فجعل المحبة لله مقدمةً ثم المحبة لقرابته أي: قربهم منه كعمه وبني عمه ونحوهم. ومعلوم أننا ما أحببناهم لمجرد القرابة، فقد كان هناك من هو أقرب منهم كـ أبي لهب و أبي طالب وغيرهما ممن ماتوا على الكفر، ومع ذلك نمقتهم ونبرأ من أعمالهم، هذه هي(4/70)
عقيدتنا، أما من آمن به ولو كان بعيداً من نسبه، وصدَّقه واتبعه؛ فإنه محبوب إلى كل مسلم تقي من أهل السنة والجماعة. ومحبتنا للصحابة لا تصل إلى الغلو كعادة الذين يغلون في بعض الصالحين، فالرافضة أوصلهم الحب لآل البيت إلى الغلو بحيث اعتقدوا في أئمتهم الاثني عشر نوعاً من الألوهية، وأعطوهم شيئاً من التصرف في الكون، وصاروا يطلبون منهم ما لا يقدر عليه إلَّا الله، ويصفونهم بأوصاف لا يستحقها إلَّا الله. أما أهل السنة فأحبوا الصحابة، وأحبوا قبلهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يغلوا في أحد منهم، ولم يعطوه شيئاً من حق الله، بل اعتقدوا أنهم بشر، وأنهم مخلوقون، وأن فضلهم إنما هو بالأعمال الصالحة، وأن محبتهم إنما تحمل على اتباعهم، وعلى العمل بمثل أعمالهم، وهكذا محبة كل مؤمن، فإذا أحببنا الأئمة ودعاة الخير ومشايخنا وعلماء الأمة فهذه المحبة تحمل المحب على أن يقتدي بالمحبوب، وعلى أن يحرص على أن يفعل كأفعاله، وبذلك يكون صادق المحبة، فأما أن تحمله محبته على أن يعطيه شيئاً من حق الله، فإن هذا غلو وإطراء داخل في فعل النصارى، وهو منهي عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) وصفة العبودية للنبي صلى الله عليه وسلم صفة شرف، وكذلك صفة العبودية للصحابة صفة فضل وشرف، وكذا صفة العبودية لنا صفة شرف، فأنت تفرح إذا نُسِبت إلى أنك عبدٌ لله، وكذا أنبياء الله، قال تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172] لا يستنكفون أي: لا يأنفون ولا يتكبرون عن العبودية، فكذا الصحابة لا يتكبرون عن العبودية، وكذا أقارب النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكبرون عن العبودية، بل يفتخرون بها، وهذا هو الواجب في اعتقادنا نحوهم. وقد مر بنا في هذه العقيدة قول أهل السنة في الصحابة وفي الخلفاء، وأن أفضلهم:(4/71)
الخلفاء الأربعة، وأفضل الصحابة: أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، وأنهم هم الخلفاء الراشدون، وتكلم العلماء في خلافتهم فقالوا: إن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، ثم بعده عمر ، ثم عثمان ، ثم علي، ومن طعن في خلافة واحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله كما قال ذلك شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية. وكذلك تكلموا في فضلهم، فاتفقوا على فضل الشيخين أبي بكر و عمر ، واختلفوا في عثمان و علي أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان وربعوا بـ علي ، أي: جعلوه هو الرابع في الفضل، وقدم قوم علياً ، وقوم توقفوا، هكذا ذكر شيخ الإسلام في الواسطية، وذكر أن مسألة التقديم بين عثمان و علي ليست من المسائل التي يُضَلَّل مَن خالف فيها، وإنما التي يُضَلَِّل فيها مسألة الخلافة، فهناك فرق بين مسألة الخلافة ومسألة الفضل، فقد اتفق أهل السنة على أنهم مرتبون في الخلافة، واتفقوا على أن ترتيبهم في الفضل أن يقدم أبو بكر ثم عمر ، واختلفوا هل علي يلي عمر في الفضل ثم عثمان بعده أو بالعكس؟ وأكثر العلماء على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وهذا هو الذي نعتقده؛ وذلك لأنهم لا يتفقون على خطأ، وقد اتفقوا على تقديم عثمان في الخلافة، فدل ذلك على أهليته وأفضليته. ......
اتباع الخلفاء الراشدين
…(4/72)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [(وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون) تقدم الحديث الثابت في السنن وصححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: (أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) وترتيب الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في الفضل كترتيبهم في الخلافة، و لـ أبي بكر و عمر رضي الله عنهما من المزية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، ولم يأمرنا بالاقتداء في الأفعال إلا بـ أبي بكر و عمر رضي الله عنهما فقال: (اقتدوا باللذَين من بعدي: أبي بكر و عمر )، وفرق بين اتباع سنتهم والاقتداء بهم، فحال أبي بكر و عمر فوق حال عثمان و علي رضي الله عنهم أجمعين، وقد روي عن أبي حنيفة تقديم علي على عثمان ، ولكن ظاهر مذهبه تقديم عثمان على علي ، وعلى هذا عامة أهل السنة، وتقدم قول عبد الرحمن بن عوف لـ علي رضي الله عنهما: إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بـ عثمان . وقال أيوب السختياني : من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان]. قد ذكرنا أن هؤلاء هم الخلفاء الراشدون، سماهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم خَلَفوه، وواحدهم خليفة، والخليفة هو الذي يخلف مَن بعده بخير، وقد سمى الله آدم خليفة بقوله: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]؛ لأنه -كما قيل- خلفٌ عمن قبله، فكل من تولى(4/73)
أمراً هاماً وناب عمن قبله فهو خلف عنه، فـ أبو بكر اتفقوا على تسميته خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا ينادونه بذلك، ولما تولى عمر دعوه بقولهم: يا خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أن هذا شيء يطول فقال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فاتفقوا على تسميته أمير المؤمنين ؛ ولكنه في الحقيقة خليفة ، فهو أول من سمي بأمير المؤمنين . هؤلاء الأربعة سماهم النبي صلى الله عليه وسلم بالراشدين، وهذا دليل على أنهم على رُشْد، والرُّشْد ضد الغَي قال تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] والرشد هو الصلاح والخير، والغي هو الغواية والضلال، فهم راشدون على رشد، نشهد لهم بذلك كما شهد لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم. ومن فضلهم أنه أمر باتباعهم في قوله: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين) أي: اتبعوها، إذا قيل: عليكم بكذا فالمعنى: خذوه، وسنتهم يعني: أعمالهم وطريقتهم التي ساروا عليها، هذه هي سنتهم، ونحن نعرف أنهم لم يبتدعوا سنة من قبل أنفسهم، بل يحرصون كل الحرص على أن يسيروا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن نسبت إليهم لأنهم أظهروها، فقيل: هذا سنة أبي بكر ، يعني: الذي رواه وأظهره، ولو لم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم لطول صحبتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم قد حفظوا منه ما لم يحفظ غيرهم، وقد عرفوا من شريعته ما لم يعرف غيرهم، فلا جرم كانت سنتهم هي سنته صلى الله عليه وسلم. وسمعنا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء بـ أبي بكر و عمر فقال: (اقتدوا باللذَين مِن بعدي: أبي بكر و عمر ) ويؤخذ من هذا صحة خلافتهما، وأنهما اللذان بعده، وقدم أبا بكر في الذكر، فدل على أنه الذي يليه، والاقتداء هو التقيد بقوله وبفعله، (اقتدوا بهما) يعني: تقبلوا ما جاءا به، وتقبلوا أعمالهما وأقوالهما وطبقوها واعتبروها من الشريعة، وهذا يُرَد به على مَن رد أقوال الصحابة سيما(4/74)
الخلفاء الراشدين، وقد كان كثير من الأئمة كالإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقدم قول الصحابة على اجتهاد مَن بعدهم، وكذلك إذا وقع بينهم اختلاف قدم قول الخلفاء الراشدين، وإذا وقع خلاف بين الخلفاء الراشدين قدم قول أبي بكر و عمر ، ولا شك أن هذا دليل على معرفته بأنهم أهل للاتباع والاقتداء. ونأخذ من هذا أنه صلى الله عليه وسلم نص على خلافة هؤلاء وأنهم هم الخلفاء الراشدون، أما ترتيبهم في الخلافة فالخليفة الأول هو: أبو بكر يقول الكلوذاني: قالوا فمَن بعدَ النبي خليفةً قلت الموحد قبل كل موحد قالوا فمَن ثاني أبي بكر رضاً قلت الخلافة في الإمام الزاهد قالوا فثالثهم فقلت مجاوباً: مَن بايع المختارُ عنه باليد قالوا فرابعهم فقلت مجاوباً: مَن حاز دونهمُ أخوة أحمد فهؤلاء هم الخلفاء، وهكذا ترتيبهم.
ترتيب الصحابة في الفضل
…(4/75)
قال ابن عمر : كانوا يقولون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ، فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره)، وفي بعض الروايات: (كنا نقول والنبي صلى الله عليه وسلم حي: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ) يعني: أفضلهم وأقدمهم وأشرفهم وأولاهم هؤلاء، هذا هو القول الصحيح؛ أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ورُوي عن أبي حنيفة أنه كان يقدم علياً على عثمان ؛ ولكن الصحيح عند أصحابه أنه يقدم -مثل جمهور الأمة- عثمان ، وسمعنا الأثر الذي يقول: (من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ) يعني: تنقَّصهم وعابهم وثلبهم، وحطَّ من شأنهم، حيث إنهم اجتمعوا على تقديم عثمان خليفةً. وسمعنا أيضاً أن عبد الرحمن بن عوف لما أخذ البيعة لـ عثمان قال لـ علي : إني نظرتُ في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بـ عثمان أحداً. وهذا يدل على أن الصحابة في ذلك الوقت يعرفون قدر عثمان ويفضلونه. وقد ذكرنا فيما سبق متى حدث التشيُّع، وأنه أكثر ما حدث في العراق، ولا شك أن أكثر من يذكر فضائل علي أهل العراق، ولكثرة ما يروى عنه من أحاديث وآثار في العراق فمَن يسمعها يعتقد فضله على عثمان ، فلعل أبا حنيفة بسبب كثرة سماعه من يطري علياً ، ويزيد من قدره، ويصفه بما ليس فيه، قال: إنه أفضل من عثمان ، وإن كان القول الصحيح عن أبي حنيفة أنه يفضل عثمان كسائر أئمة السنة. وقد ذكر ابن كثير في التاريخ في ترجمة سفيان الثوري -وهو من أهل العراق- أنه كان يميل إلى تفضيل علي على عثمان ، ولعل ذلك لم يثبت عنه، وإذا رُوِي عنه شيء من ذلك فلعله كان يكثر من ذكر فضائل علي -لكونها منتشرة- في العراق، وكان أهل العراق في زمن الثوري قد ظهر فيهم شيء من الغلو ومحبة علي ، وصاروا يبالغون في ذكر ما ينقلون عنه، ويتناقلون أحاديث قد يكون بعضها مكذوباً، ويكثرون في مجالسهم من ذكرها، فلعلها التي أثرت في أبي حنيفة و(4/76)
سفيان الثوري ، وإلَّا فهما إمامان من أئمة أهل السنة.
العشرة المبشرون بالجنة
…
قال الشارح رحمه الله: [(وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة نشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق وهم: أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين). تقدم ذكر بعض فضائل الخلفاء الأربعة، ومن فضائل الستة الباقين من العشرة رضي الله عنهم أجمعين: ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أَرِق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة. قالت: وسمعنا صوت السلاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال سعد بن أبي وقاص : يا رسول الله! جئت أحرسك. وفي لفظ آخر: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام). وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع لـ سعد بن أبي وقاص أبويه يوم أحد فقال: (ارمِ فداك أبي وأمي). وفي صحيح مسلم عن قيس بن أبي حازم قال: (رأيت يد طلحة التي وَقَى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قد شلت)! وفيه أيضاً عن أبي عثمان النهدي قال: (لم يبقَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم غير طلحة و سعد ). وفي الصحيحين واللفظ لـ مسلم عن جابر بن عبد الله قال: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي حواري، وحواريي الزبير ). وفيهما أيضاً عن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: فداك(4/77)
أبي وأمي). وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة أميناً وإن أميننا -أيتها الأمة-: أبو عبيدة بن الجراح). وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال: جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ابعث إلينا رجلاً أميناً. فقال: (لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين. قال: فاستشرف لها الناس. قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح ). وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني سمعته يقول: (عشرة في الجنة: النبي في الجنة، و أبو بكر في الجنة، و طلحة في الجنة، و عمر في الجنة، و عثمان في الجنة، و سعد بن مالك في الجنة، و عبد الرحمن بن عوف في الجنة، ولو شئتُ لسميت العاشر. قال: فقالوا: مَن هو؟ قال: سعيد بن زيد . وقال لَمَشْهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر منه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عُمِّر عمر نوح) رواه أبو داوُد و ابن ماجة و الترمذي وصححه، ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف . وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبو بكر في الجنة، و عمر في الجنة، و علي في الجنة، و عثمان في الجنة، و طلحة في الجنة، و الزبير بن العوام في الجنة، و عبد الرحمن بن عوف في الجنة، و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، و أبو عبيدة بن الجراح في الجنة) رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه أبو بكر بن أبي خيثمة وقدم فيه عثمان على علي رضي الله عنهما. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء هو و أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير ، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اهدأ! فما عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد) رواه مسلم و الترمذي وغيرهما، ورُوِي من طرق ..] هؤلاء الستة الباقون من العشرة، وأفضل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة هم الستة الباقون من(4/78)
العشرة، وقد جمعهم ابن أبي داوُد في عقيدته في بيت واحد فقال: سعيد وسعد وابن عوف وطلحة وعامر فهر والزبير المُمَدَّح
فضل سعيد بن زيد
…
العشرة المبشرون بالجنة كلهم من قريش، فـ سعيد بن زيد هو ابن عمرو بن نفيل ، وأبوه زيد كان ممن وحد الله تعالى في الجاهلية، وترك عبادة الأصنام، وترك الأكل مما أُهلَّ به لغير الله، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يُبعث يوم القيامة أمةً وحده، وهو ابن عم عمر بن الخطاب بن نفيل، وقد شهد النبي عليه الصلاة والسلام لـ سعيد بأنه من أهل الجنة، فهو من هؤلاء العشرة.
فضل عبد الرحمن بن عوف
…(4/79)
عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، وهم أخوال النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أمه صلى الله عليه وسلم من بني زهرة، وعبد الرحمن أسلم قديماً بدعوة أبي بكر ، فإن أبا بكر كان على صلة بكثير ممن أسلم، فكلمهم وبين لهم الآيات والمعجزات التي أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم، فبادروا إلى الإسلام، وكان اسمه عبد عمرو ثم لما أسلم سمى نفسه: عبد الرحمن ، فكان بعض قريش يدعونه: يا عبد عمرو فلا يجيبهم، فإذا دُعي بـ عبد الرحمن أجاب مَن دعاه. وقد تقدم أنه من الذين جعلهم عمر من أهل الشورى، وأخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو عنهم راضٍ، وهم عثمان و علي و طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن ، فهؤلاء الستة جعل عمر الأمرَ شورى فيهم، وهو من الذين بشرهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة في هذه الأحاديث التي عدَّ فيها عشرة بأنهم من أهل الجنة. ومن فضله: أنه من ضمن الذين كانوا على جبل أحد لما ارتجف وتحرك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسكن! فما عليك إلا نبي أو صدِّيق أو شهيد) فهو من الشهداء، والشهيد ليس خاصاً بمن قتل في سبيل الله، فقد قال الله تعالى: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69]، وقد قيل: إن المراد شهداء هذه الأمة، وقد ذكر الله أن كل من آمن بالله ورسوله فإنه من الشهداء في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ [الحديد:19]. ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال سعد : هلمَّ أقاسمك مالي، وأنزل لك عن إحدى زوجتَيَّ، فقال: بارك الله لك في مالك وفي زوجتك. ثم قال: دلوني على السوق، فدُلَّ على السوق، فصار يتجر، حتى صار ذا مال، وكان من أثرياء الصحابة وأغنيائهم، قدمت(4/80)
عيرٌ له إلى المدينة، والناس في حاجة، فجاء إليه التجار فرغَّبوه بأن يبيعهم، وأعطوه فائدة في المائة -مثلاً- خمسةً أو ستةً؛ ولكن قال: قد أعطيت فيها في المائة ألفاً! فتصدَّق بها وقال: إن الله قد أخبر بأنه يضاعفها أضعافاً كثيرة في قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11] فتصدق بها كلها، وكان رضي الله عنه إذا أتي بالطعام الشهي بكى حتى يتركه؛ إذا تذكر حالة الصحابة الذين كانوا في جهد جهيد. وبكل حال فهو من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم، مات سنة اثنين وثلاثين، في السنة التي مات فيها العباس رضي الله عنه.
فضل طلحة بن عبيد الله
…
طلحة بن عبيد الله من العشرة، ومن المهاجرين، وهو من قريش، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مُرَّة، فهو من بني تيم بن مرة الذين منهم أبو بكر ، وكان من الذين جاهدوا في الله حق جهاده، ففي غزوة أحد كان ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصيب في رميه، فكان إذا جاء أحد من المسلمين ومعه سهام قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألقِها وانثرها لـ طلحة) فيأخذها طلحة فيرمي بها المشركين، وكان ملازماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد النبي عليه السلام أن ينظر إليهم ويرفع قال له: لا ترفع رأسك فيصبك شيء، نحري دون نحرك وكان يقيه بيده السهام التي يُرمَى بها النبي صلى الله عليه وسلم حتى شُلَّت يده، أصابتها سهام فصار فيها عيب، وذلك بلا شك من حبه للنبي صلى الله عليه وسلم.
فضل الزبير بن العوام
…(4/81)
الزبير بن العوام قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي حواري، وحواريي الزبير)، ولما ندب أصحابه في ليلة من ليالي الخندق فقال: من يذهب فينظر إلى المشركين ما فعلوا، فلم ينتدب إلا الزبير فبعثه وفدَّاه بقوله: فداك أبي وأمي. والزبير من بني أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، وهو ابن عم خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهو أيضاً من المهاجرين الأولين، وله قرابة أخرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو ابن عمته صفية بنت عبد المطلب ، وقد كان من المجاهدين الذين بذلوا أنفسهم في الجهاد في سبيل الله، وكان من الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، حتى فدَّاه بقوله: (ارمِ فداك أبي وأمي). قتل هو و طلحة في سنة ست وثلاثين في وقعة الجمل، لما خرجوا مع أهل الجمل وحصلت الوقعة التي حصلت بينهم وبين علي، فتبرأ علي ممن قتلهما. وبكل حال فهم مجتهدون وإن حصل منهم هذا الاختلاف؛ لأنهم أرادوا بخروجهم تتبع قتلة عثمان -كما تقدم-، ولا شك أن هؤلاء الستة من أجلاء الصحابة رضي الله عنهم، وممن شهد لهم صلى الله عليه وسلم بالفضل وبالجنة.
فضل أبي عبيدة بن الجراح
…(4/82)
أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح من المهاجرين، وقد أسلم قديماً وهاجر، خرج أبوه مع المشركين في بدر، ولما رآه أبوه مع المسلمين حاول أن يقتل ابنه؛ لأنه مسلم، ولما لم يجد بُداً قتل أباه؛ لكونه مع المشركين، ولكون أبيه يريد قتله، ونزل فيه قول الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ .. [المجادلة:22] إلى آخرها، فهو من الذين لم يوادوا المشركين ولو كانوا آباءً أو أبناءً أو إخوةً، وهو من الذين كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ [المجادلة:22]. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمين فقال: (لكل أمة أمين، و أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح). مات رضي الله عنه سنة ثماني عشرة في خلافة عمر ، بطاعون عمواس، وقد كان عمر أمَّره على الغزاة بعد موت أبي بكر ، عزل خالداً وجعل أبا عبيدة هو القائد؛ لأن أبا عبيدة هو أسبق من خالد بن الوليد ، وهو أفضل منه، فقدَّمه وجعله هو الأمير القائد لتلك الجيوش، وحصلت فتوحات عظيمة بقيادة أبي عبيدة . فهؤلاء هم الخلفاء، وكذلك أتباعهم وأعوانهم الذين ساعدوهم، والذين كانوا معهم، فنشهد للجميع بأنهم من أهل الخير، وبأنهم من أهل الجنة كما شهد لهم بذلك نبيهم صلى الله عليه وسلم.
الشهادة بالجنة لكل من شهد له النبي عليه الصلاة والسلام بذلك
…(4/83)
هناك جماعة آخرون من الصحابة شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونحن نشهد لمن شهد لهم بذلك، ونترضى عن الجميع كما رضي الله عنهم في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، فالله تعالى أخبرنا أنهم أهل لرضوانه، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم) فهذا دليل على أنه غفر لهم ولو عملوا ما عملوا، وإذا صدر منهم ذنب على تقدير أنه ذنب فإنه مغفور لهم بهذا الوعد الكريم من الله تعالى، فكيف -مع ذلك- تتصدى لهم الرافضة وتسبهم وتضللهم أو تزعم أن فضائلهم التي فضلوا بها كانت قبل ردتهم؟ فالرافضة يدَّعون أنهم ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حيث منعوا علياً حقه من الولاية، فلما منعوه أصبحوا بذلك مرتدين، هكذا تدعي الرافضة! ومتى منعوه حقه من الولاية، والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ولم يأمر علياً ، وأقر أبا بكر بأن يصلي بالناس، و أبو بكر هو صاحبه في كل الحالات والأوقات؟! فكيف اتفق الصحابة -كما تزعم الرافضة- على أن حرموا علياً من الولاية فأصبحوا بذلك مرتدين؟! كيف يرتدون وقد زكاهم الله بقوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، وسماهم السابقين الأولين، وسماهم أهل البيعة: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح:10]؟! وهكذا غيرهم من بقية الصحابة الذين لهم سابقة وفضل، نعترف بفضلهم، ونؤمن بسابقتهم، وننزلهم منزلتهم، ونعرف لكل منهم حقه وسبقه، ونتبرأ ممن ثلبهم وعابهم وقدح في دينهم وعبادتهم وتسلط عليهم؛ كما تفعله الرافضة الذين نصبوا عداوتهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، والله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ(4/84)
[البقرة:113] وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].
ضلال الرافضة في بغضهم لأكثر العشرة المبشرين بالجنة
…
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقد اتفق أهل السنة على تعظيم هؤلاء العشرة وتقديمهم لما اشتُهر من فضائلهم ومناقبهم، ومَن أجهلُ ممن يكره التكلم بلفظ العشرة أو فعل شيء يكون عشرة؛ لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وهم يستثنون منهم علياً رضي الله عنه، فمن العجب: أنهم يوالون لفظ التسعة، وهم يبغضون التسعة من العشرة! ويبغضون سائر المهاجرين والأنصار من السابقين الأولين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وكانوا ألفاً وأربعمائة، وقد رضي الله عنهم كما قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال: يا رسول الله! ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كذبت! لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية)، والرافضة يتبرءون من جمهور هؤلاء، بل يتبرءون من سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من نفر قليل نحو بضعة عشر نفراً! ومعلوم أنه لو فرض في العالم عشرة من أكفر الناس لم يُهْجر هذا الاسم لذلك، كما أنه سبحانه لما قال: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [النمل:48] لم يجب هجر اسم التسعة مطلقاً، بل اسم العشرة قد مدح الله مسماه في مواضع من القرآن: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:196]، وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف:142]، وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1-2]، وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر(4/85)
الأواخر من رمضان، وقال في ليلة القدر: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان)، وقال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من أيام العشر) يعني: عشر ذي الحجة، والرافضة توالي بدل العشرة المبشرين بالجنة اثني عشر إماماً: أولهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويدعون أنه وصي النبي صلى الله عليه وسلم دعوى مجردة عن الدليل، ثم الحسن رضي الله عنه، ثم الحسين رضي الله عنه، ثم علي بن الحسين زين العابدين ، ثم محمد بن علي الباقر ، ثم جعفر بن محمد الصادق ، ثم موسى بن جعفر الكاظم ، ثم علي بن موسى الرضا ، ثم محمد بن علي الجواد ، ثم علي بن محمد الهادي ، ثم الحسن بن علي العسكري ، ثم محمد بن الحسن ، ويغالون في محبتهم ويتجاوزون الحد! ولم يأت ذكر الأئمة الاثني عشر إلا على صفة ترد قولهم وتُبْطله وهو ما خرَّجاه في الصحيحين عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً. ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عليَّ فسألت أبي: ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلهم من قريش. وفي لفظ: لا يزال الإسلام عزيزاً باثني عشر خليفة. وفي لفظ: لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة)، وكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والاثنا عشر: الخلفاء الراشدون الأربعة، و معاوية ، وابنه يزيد ، و عبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز ، ثم أخذ الأمر في الانحلال. وعند الرافضة أن أمر الأمة لم يزل في أيام هؤلاء فاسداً منغَّصاً، يتولى عليهم الظالمون المعتدون، بل المنافقون الكافرون، وأهل الحق أذل من اليهود! وقولهم ظاهر البطلان، بل لم يزل الإسلام عزيزاً في ازدياد في أيام هؤلاء الاثني عشر]. قد ذكرنا من فضائل الصحابة سيما العشرة أنهم اجتمعت فيهم الثلاث البشائر: البشارة الأولى: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة(4/86)
في الجنة)، وذَكَرَهم كما تقدم. البشارة الثانية: أنهم من أهل بدر، وقد قال الله تعالى لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم). البشارة الثالثة: أنهم من أهل البيعة، قال الله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة). فهذه البشارات الثلاث كلها داخل فيها هؤلاء العشرة، بل هم أولى بها وأقدم، وغيرهم من الصحابة الذين حضروها لهم فضل ولهم سابقة، فأهل بدر الذين شهدوا وقعة بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، هؤلاء قد قال الله لهم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم) والرافضة تدعي أنهم ارتدوا وكفروا إلا علي ونفر قليل، والذين بايعوا تحت الشجرة هم ألف وأربعمائة وزيادة، بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، وأخبر الله بأنهم بايعوا ربهم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، وفي هذا شرف لهم وشرف للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال بعض المتأخرين في مدحهم ومدح النبي صلى الله عليه وسلم: كيف السبيل إلى تقضي مدح مَن قال الإله له حسبك جاها إن الذين يبايعونك إنما حقاً يقال يبايعون الله فأي مدح أشرف من هذا المدح؟!
شرح العقيدة الطحاوية [89]
عبد الله بن سبأ اليهودي هو أصل الرافضة والباطنية، وهو أول من أظهر التشيع لعلي رضي الله عنه، ثم فشا الغلو في آل البيت من قبل الرافضة، وقد رد عليهم أهل السنة، وبينوا أن الغلو فيهم لا يرضاه أهل البيت أنفسهم.
نعمة اتباع السنة ومحبة الصحابة
…(4/87)
نحمد الله أن جعلنا مسلمين، نحمد الله أن جعلنا سنيين، نحمد الله أن جعلنا من أهل الحق، علينا أن نحمد الله لِمَا نرى من كثرة المنحرفين، ولِمَا نرى من كثرة المعرضين الذين سول لهم الشيطان وأملى لهم، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر:8]، فنحمد الله الذي لم يجعلنا من المعتزلة، ولم يجعلنا من المنكرين للقدر، ولم يجعلنا من المجبرة، ولم يجعلنا من الرافضة، ولم يجعلنا مبتدعة، بل جعلنا من المتمسكين بالكتاب والسنة، بكتاب الله الذي جعله الله هدىً لمن سار عليه، ونوراً يُهتدى به، ويُحتذى حذوه، وكذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي سبيل النجاة، وهي سفينة النجاة، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وما أكثر الغرقى في هذه الأزمنة! ما أكثر الغارقين! تراهم يقولون: نحن أهل نجاة وهم شيعة ورافضة!! أو يقولون: نحن أهل النجاة وهم خوراج وإباضية!! أو يقولون: نحن أهل النجاة وهم مبتدعة بغاة!! أو يقولون: نحن أهل النجاة ويسمون أنفسهم حداثيين أو علمانيين أو ما أشبه ذلك! ومع ذلك يدعون أنهم على الحق والصواب، وما أبعدهم عن الصواب! يرون الحق أبلج، يرون النور المستقيم، والهدى القويم، وهم عنه معرضون! وأكبر مثال: طعن الرافضة في الصحابة رضي الله عنهم، ما ذنب الصحابة حتى تقدح فيهم الرافضة؟! أيُقدح فيهم لأنهم حفظوا السنة؟! أيُقدح فيهم لأنهم بلَّغوها؟! أيُقدح فيهم لأنهم سبقوا إلى الإسلام؟! أيُقدح فيهم ويُعابون ويكفَّرون لأنهم حفظوا على الأمة دينها؟! أيُقدح فيهم ويُعابون ويكفَّرون لأنهم الذين فتحوا البلاد، ونصروا الله ونصروا رسوله؟! هذه مآثرهم، متى كان للرافضة مثل هذه المآثر حتى يلعنوهم ويسبوهم ويُكفروهم ويتهموهم بأنهم منافقون وبأنهم ضالون وبأنهم مبتدعون وبأنهم حَسَدة خائنون؟! هذه الأوصاف تنطبق على الرافضة أتم الانطباق، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برآء، نشهد بذلك وندين به. ومَرَّ(4/88)
بنا أن الرافضة يكرهون كلمة (عشرة)؛ لأنه ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة)، فهؤلاء العشرة لما كانوا يكفِّرونهم صار لفظ (العشرة) عندهم ممقوتاً مكروهاً لا يقبلونه ولا يتقبلونه، مع أنهم يستثنون منهم واحداً فقط وهو علي ، وأما بقيتهم فإنهم يلعنونهم ويشتمونهم، فيكفرون تسعة من هؤلاء العشرة، والعاشر يوالونه ويتولونه، لماذا كرهتم لفظ العشرة ولم تكرهوا لفظ التسعة؟! أليس ذلك من الخطأ؟! ما ذنب لفظ كلمة (عشرة)؟! ما ذنبها؟! مع أنها وردت في كلام الله تعالى، وفي كلام الرسول، وفي كلام أهل العلم؟ فقد ورد ذكرها وتكرر، ولم يرد ما يفيد ذمها؛ ولكن في قلوبهم حقد على هؤلاء العشرة ما عدا علياً ، وحقد أيضاً على جميع الصحابة إلَّا أفراداً منهم قلة قليلة. ......
الكلام على حديث: (لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً)
…(4/89)
في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال هذا الأمر ظاهراً حتى يليه اثنا عشر. ثم قال: كلهم من قريش) هذا الحديث يقول الرافضة: هو حجة لنا على أئمتنا الاثني عشر، وهذا الحديث في كتبكم، رواه مسلم في صحيحه، إذاً: أنتم تروون الأحاديث التي تؤيد مذهبنا، هكذا يقولون! فنقول: هذا الحديث صحيح رواه مسلم وغير مسلم في كتبهم الصحيحة بأسانيد صحيحة؛ ولكن لا ينطبق على أئمتكم الذين تدعون، فهو ينطبق على أئمة لهم ولاية، أئمة لهم إمارة، أئمة وخلفاء لهم أمر ونفوذ وسلطة وأتباع وولاية تامة، يكون من آثارهم الإصلاح العام، ومن آثارهم الاقتداء بهم، ومن آثارهم نفوذ الأوامر، ومن آثارهم تجهيز الجيوش، وغزو البلاد وفتحها، وجمع الأموال لبيت المال، وتصريفها في وجوهها، هل كان أحد أئمتكم هكذا ما عدا علياً وما عدا الحسن ستة أشهر؟! لا، إنما كانت هذه الولاية لأئمة وولاة كلهم من قريش، وقد عد الشارح هؤلاء الأئمة الاثني عشر، فعدَّ الخلفاء الأربعة؛ وذلك لأنهم تمت لهم الولاية، وعدَّ معاوية وابنه؛ لأن معاوية تولى عشرين عاماً، وابنه تولى أربع سنين، وكان لهما ولاية، وكان الغزو في زمانهما مستمراً، وعد عبد الملك بن مروان وأولاده الخلفاء الذين هم أربعة، وبينهم عمر بن عبد العزيز، قبله ولدان لـ عبد الملك ، وبعده ولدان، فهؤلاء اثنا عشر، وقد كان لغيرهم ولاية ولكنها ناقصة، كـ ابن الزبير وكذلك مروان، فولايتها ناقصة، وكذلك مروان بن محمد الأخير كانت ولايته ناقصة أيضاً؛ لأنها سلبت منه. إذاً: فما بقي إلا هؤلاء، أما بعدهم في خلافة بني العباس فقد خرجت الفتن، وكثرت البدع، وانتشر الضلال، وقرَّبوا اليونان، وقرَّبوا الترك، ومكَّنوهم من الولاية، وظهر القول بخلق القرآن، والقول بإنكار الصفات، والقول بالقدر، والقول بالإرجاء، وتمكن الرفض في تلك الأيام أي: في خلافة بني العباس. إذاً: الأئمة الاثنا عشر هم: أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ،(4/90)
ثم علي ، ثم معاوية ، ثم يزيد بن معاوية ، ثم عبد الملك بن مروان ، ثم الوليد بن عبد الملك ، ثم سليمان بن عبد الملك ، ثم عمر بن عبد العزيز ، ثم يزيد بن عبد الملك ، ثم هشام بن عبد الملك ، هؤلاء اثنا عشر خليفة. ونقول: لا شك أن الرافضة يدعون الأئمة الاثنا عشر أئمتهم فنقول: صحيح أن علياً كانت له خلافة، وهو من الخلفاء الراشدين، وأما الحسن فليس له خلافة، وإنما استولى ستة أشهر ثم تنازل لـ معاوية ، أما الحسين فلم يتم له ولاية، وإنما وعده أهل العراق بأن يبايعوه ثم لما جاءهم قُتِل، أما ولده الذي هو علي بن الحسين زين العابدين فهو علم من العلماء ولم يكن له ولاية، وهكذا أولاده الذين تسلسلوا منه إلى أن كان آخرهم الحسن بن علي العسكري ، وهو آخر السلسلة من ذرية زين العابدين ، والحسن العسكري ليس له ولد، لم يخلِّف، ولما كان إماماً عند الرافضة رأوا أنه لا بد أن يكون له ولد، فجعلوا له ولداً؛ ولكن جعلوه مختفياً، فادعوا أن له ولداً اسمه محمد بن الحسن ، وأنه مختفٍ، وأنه سيخرج، وادعوا أنه دخل سرداب سامراء، وأنه سوف يخرج، وقد ذكرنا شيئاً من الكلام عن هذا المنتظر عندهم، وعرفنا أن هؤلاء الأئمة الذين تدعي الرافضة ليس لهم ولاية ولا نفوذ ولا سلطة، ما عدا علياً و الحسن بضعة أشهر، ومن بعدهم بقوا كأفراد قريش، وكسائر العلماء الذين لهم علم، ومعهم من العلم ما يعملون به أو يدعون إليه، وليسوا وحدهم، بل في زمانهم علماء من قريش ومن غير قريش، وقبلهم وبعدهم، وكانوا يماثلونهم أو يفوقون كثيراً منهم، فما الذي خصص هؤلاء حتى تجعلوهم -أيها الشيعة- أئمتكم دون غيرهم، مع أنه لا مميز لهم ولا شيء يخصصهم؟ فالحاصل أن استدلالهم بهذا الحديث: (لا يزال هذا الأمر ظاهراً حتى يليه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) ليس فيه حجة لهم، بل هو حجة عليهم، فليُنتبه لذلك. ......
محبة الصحابة وأهل البيت براءة من النفاق
…(4/91)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق ..). تقدم بعض ما ورد في الكتاب والسنة من فضائل الصحابة رضي الله عنهم، وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بماء يُدعى: (خماً) بين مكة والمدينة فقال: (أما بعد: ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي. ثلاثاً)، وخرج البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: ارقبوا محمداً في أهل بيته. وإنما قال الشيخ رحمه الله: (فقد برئ من النفاق) لأن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق قصْدُه إبطال دين الإسلام والقدح في الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك العلماء، فإن عبد الله بن سبأ لما أظهر الإسلامَ أراد أن يفسد دين الإسلام بمكره وخبثه، كما فعل بولِس بدين النصرانية، فأظهر التنسُّك، ثم أظهر الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى سعى في فتنة عثمان وقتلِه رضي الله عنه، ثم لما قدم علي الكوفة أظهر الغلو في علي والنصر له؛ ليتمكن بذلك من أغراضه، وبلغ ذلك علياً فطلب قتله، فهرب منه إلى قرقيس، وخبره معروف في التاريخ، وتقدم أن من فضَّله على أبي بكر و عمر جلده جلد المفتري، وبقيت في نفوس المبطلين خمائر بدعة الخوارج من الحرورية والشيعة. ولهذا كان الرفض باب الزندقة، كما حكاه القاضي أبو بكر بن الطيب عن الباطنية، وكيفية إفسادهم لدين الإسلام قال: فقالوا للداعي: يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلماً أن تجعل التشيُّع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل من جهة ظلم السلف لـ علي وقتلهم الحسين ، والتبري من تيم وعدي وبني أمية وبني(4/92)
العباس، وأن علياً يعلم الغيب، يفوَّض إليه خلق العالم! وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم! فإذا أنِسْت من بعض الشيعة عند الدعوة إجابةً ورشداً أوقفتَه على مثالب علي وولده رضي الله عنهم. انتهى. ولا شك أنه يتطرق مَن سب الصحابة إلى سب أهل البيت، ثم إلى سب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ أهل بيته وأصحابه مثل هؤلاء الفاعلين الضالين]. بعد أن ذكر المصنف الخلفاء العشرة ذكر بقية الصحابة وذكر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم شيء من فضائل الصحابة جميعاً أو بعضهم كقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح:18] وكانوا ألفاً وأربعمائة وزيادة رضي الله عنهم. وكذلك أيضاً قد أخبر تعالى بأنه رضي عنهم في آية أخرى كقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100] والآيات كثيرة كما تقدم، ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه) هذا في الصحابة رضي الله عنهم، وما ذاك إلا لأنهم فاقوا غيرهم بالصحبة، متى يدركهم غيرهم؟! متى يصل إلى ما وصلوا إليه؟! لقد سبقونا وسبقوا مَن قبلنا بصحبتهم لنبينا صلى الله عليه وسلم، وبقتالهم معه وجهادهم، وبإيثارهم له، وبإنفاقهم أموالهم في سبيل نصرته، وبالأخذ عنه والتعلُّم منه، وبالقيام بعده بالسنة وتبليغها، وبالجهاد في سبيل الله معه وبعده، متى يدركهم غيرهم رضي الله عنهم؟!
الكلام على حديث غدير خم
…(4/93)
حديث غدير خُم الصحيح منه ما رواه مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه: (لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من مكة بعد حجة الوداع وأقبل على المدينة نزلوا في أثناء الطريق في موضع يقال له: خُم، وكان هناك غدير فأقاموا عليه يوماً أو بعض يوم، فخطب خطبة وأوصاهم في هذه الخطبة، وذكر لهم قرب أجله، وكأن الله تعالى قد أطلعه على قرب وفاته، فقال: إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي -أي: الملَك الذي يقبض روحي- فأجيب) وذكر أنه تاركٌ فينا ثقلين ، وفي رواية صحيحة أنه قال: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وسنتي)، وهما المرجع الذي يُرجع إليه عند التنازع كما قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59] أي: إلى الكتاب والسنة، هكذا قال: (إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي)، وفي هذا الحديث قال: (إني تاركٌ فيكم الثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي .. أذكركم الله في أهل بيتي) يقول الرواي: فقلنا لزيد : ومَن أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: نساؤه من أهل بيته؛ ولكن أهل بيته هم الذين حُرِموا الزكاة بعده -يعني: بني هاشم الذين لم تحل لهم الزكاة-، فعدَّ منهم آل علي وآل العباس وآل جعفر وآل أبي طالب وآل عقيل، يعني: بني هاشم، فكأن زيداً يقصد بذلك أن أقاربه يستوصى بهم خيراً، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس : (والذي نفسي بيده لا يؤمنوا حتى يحبوكم لله ولقرابتي)؛ لما ذكر له العباس أن بعض قريش يجفوا بني هاشم، فدل على أن لأقاربه -الذين هم بنو هاشم- ميزة وفضيلة؛ وذلك لشرف القرب من النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنهم صفوة صفوة في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى من العرب كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من(4/94)
قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) فهو صلى الله عليه وسلم خيار من خيار. ......
أهل البيت هم بنو هاشم ويدخل فيهم أمهات المؤمنين
…
هذا الحديث فيه أن أهل البيت هم بنو هاشم، وفيه شهادة زيد بن أرقم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، وتسمعون الرافضة دائماً يقولون: نحن نوالي أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، أتعيبوننا لأننا نحب أهل بيته؟ إنما ذنبنا عندكم أننا أحببنا أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذنب من أحب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟! ويدندنون دائماً بأنهم يحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: كذبوا، أهل بيته صلى الله عليه وسلم يدخل فيهم نساؤه، وهم يعادون أغلب نسائه أشد العداوة، وأهل بيته يدخل فيهم عمه وبنو عمه آل العباس، وهم يعادون العباسيين وذريتهم، وأهل بيته يدخل فيهم كل أقاربه من بني هاشم حتى ذرية أبي لهب، وإن كان أبو لهب و أبو طالب ماتا كافرين، لكن ذريتهما من بني هاشم من أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الرافضة تتبرأ منهم، ولا تخص إلا علياً وبعض ذريته، بعضهم وليس كلهم، فمثلاً: ابن الحنفية لا يجعلون له ولاية، وإن كان من ذرية علي، فعندهم أن أهل بيته هم علي وولداه وذريتهما فقط، أين نساؤه؟! ألسن هن في بيوته صلى الله عليه وسلم؟! يقول الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، فهذه البيوت هي بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أنزلهن فيها، والله تعالى يقول: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب:53] فهل كان له بيوت خاصة ليس فيها أزواجه؟! لم يكن له إلا بيوت أزواجه، إذاً: فبيت النبي صلى الله عليه وسلم وبيوته هي التي أنزل فيها نساءه، فنساؤه من أهل بيته، ولا ننكر أن فاطمة من أهل بيته، ولا ننكر أن ابنته زينب امرأة أبي العاص من أهل بيته، فهي ابنته ولها ذرية، ولا ننكر أن رقية و أم كلثوم اللتين تزوجهما(4/95)
عثمان من أهل بيته، فهما بنتاه، ولكن لا تعترف الرافضة إلا بفاطمة فقط وأولادها، أليس هذا هو الغلط؟! أليس هذا هو الخطأ؟! نقول بعد ذلك: حق الصحابة وأمهات المؤمنين على جميع المؤمنين الترضي عنهم، ومحبتهم، والاعتراف بحقهم، والاعتراف بفضلهم، ونقول: إن من أحب الصحابة ومن أحب أمهات المؤمنين فهو -كما يقول الشارح:- بريء من النفاق، ومن أبغضهم ففي قلبه نفاق.
قصة عبد الله بن سبأ اليهودي
…
ساق الشارح رحمه الله قصة ابن السوداء الذي هو عبد الله بن سبأ، فذكر أنه أظهر محبة علي في أول الأمر، وأظهر نصرته، وهو منافق، دخل في الإسلام متستراً لأجل أن يفسد على المسلمين دينهم، بل وليفسد على المسلمين عقولهم، وكان يهودياً، ولما رأى الإسلام انتشر وتمكن غاظه ذلك أشد الغيظ، فعند ذلك فكر في حيلة يفسد بها على المسلمين عبادتهم وديانتهم، فأظهر التنسك، وأظهر التعبد، وأظهر التدين، وأظهر الصلاح، ثم أظهر محبة علي أول الأمر، وأظهر الثأر له، وسعى في الفتنة التي حصل بسببها قتل عثمان رضي الله عنه، فهو الذي أثار أولئك الثوار أو كثيراً منهم، وهو الذي نشر مساوئ لعثمان وأنه فعل وفعل، فجمع جموعاً من العراق وغيره، وسار مع الذين ساروا إلى أن حاصروا عثمان، وكانت النهاية أن قتل، ولما بويع علي رضي الله عنه أظهر أولاً موالاته، ثم بعد ذلك فكر في أن يفسد على أوليائه دينهم، فقال: إن علياً هو ربكم، إن علياً هو الله، فلماذا لا تعبدونه؟ اعبدوه كما تعبدون الله، وما قصده بذلك إلا أن يفسد عليهم دينهم، فصدقه خلق كثير من السبئية، ولما خرج علي مرةً سجدوا له، وقالوا: أنت إلهنا، أنت ربنا. تعالى الله! فأنكر عليهم علي وقال: توبوا، أنا ابن امرأة تأكل القديد، أنا مولود وسوف أموت، كيف تجعلوني رباً؟! فقالوا: أنت إلهنا، فماذا فعل بهم؟ أحرقهم، خد لهم أخاديد، وجعل يستتيبهم فلا يقبلون ولا يتوبون، بل تمسكوا بمقالتهم، وقالوا: الآن عرفنا أنك الرب؛ لأنك(4/96)
تعذب بالنار، ولا يعذب بالنار إلا رب النار، فالآن عرفنا أنك إله، فصبروا على أن يحرقهم، وهو حرق مستمر إن شاء الله من نار الدنيا إلى نار الآخرة، وكان يحرقهم ويقول: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً و قنبر هو غلام له، فصاروا يدعونه وهو يحرقهم ويقذفهم في النار واحداً واحداً، فهؤلاء أول الغلاة، ولا يزال لهم ورثة يدعون أن علياً هو الله، حتى يقول قائلهم: أشهد أن لا إله إلا حيدرة الأنزع البطين حيدرة أي: علي، فيعني: لا إله إلا علي، تعالى الله! فمن إله الناس قبل علي ؟! من إله الناس بعد علي ؟! ولكنهم لا يعقلون. ......
الباطنية هم ورثة ابن سبأ
…(4/97)
توجد فرقة يقال لهم: الباطنية، ويسمون أيضاً: القرامطة، ولهم ثمانية أسماء مذكورة في بعض الكتب، وقد تكلم عليها ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس وغيره، وأشهرها الباطنية؛ لأنهم يبطنون خلاف ما يظهرون، يقول العلماء في وصفهم: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض، والحقيقة أنهم لا دين لهم، دخلوا في الإسلام تستراً، وحيلتهم أن يفسدوا عقائد الناس، وقد ذكر الشارح مبدأهم، وأنهم قاموا على هذه العقيدة الفاسدة، وعقيدتهم لا نتطرق لها، فهي طويلة يكثر الكلام فيها، وقد ذكر الشارح فعلهم الذي يقتنصون به الناس، ويصطادون به الجهلة، وقد ظهروا في آخر القرن الثالث، ولما تمكنوا رأوا أن أهل العراق وأهل خراسان -إيران وما اتصل بها- قد تمكن فيهم حب أهل البيت، فقالوا: نقتنصهم بهذه الحيلة، فندعوهم إلى حب أهل البيت، وكان ذلك بعد موت الحسن العسكري الذي هو آخر أئمتهم الأحياء، وهو الذي يدعون أن ولده محمد بن الحسن دخل السرداب، فصاروا يقولون: نحن نذر بين يدي المهدي، و المهدي سيخرج قريباً، فبايعونا على ما نحن عليه، وكان من أشهر رؤسائهم وقادتهم رجل يقال له: ابن بيطان وكان من دعاتهم، وكان منزله في المنطقة الشرقية في القطيف، فالقطيف معدن كفر منذ القدم، فاجتمع عليه خلق كثير، وذكروا أنه خرج مرة من العراق متوجهاً إلى القطيف، وفي أثناء الطريق رأى رجلاً يسوق له حمراً، فقال له: إنني أدعو إلى نصرة المهدي، وأدعو إلى أمر، يكون فيه النصر، وكان ذلك الرجل جاهلاً وهو حمدان قرمط ، فانخدع بابن بيطان ، وقال: أنا أتقبل منك، وأنا الذي أنصرك، وأنا الذي أواليك، فأفش إلي كل ما تريد، فصار حمدان هذا من أنصاره، وكثر أتباعه، وصارت النسبة إليه أكثر، حتى سموا قرامطة نسبة إلى حمدان هذا، فكثروا وتمكنوا، واستولوا على هذه المنطقة الشرقية، حتى أن الخليفة العباسي أرسل إلى أميرهم يخوفه ويقول له: لا تخرج عن الطاعة، فقال: إن عندي أكثر من مائة ألف يفدوني(4/98)
بأنفسهم، لو أمرت أحدهم بقتل نفسه لم يعصني، ثم قال لأحدهم: قم فألق نفسك من هذا الجدار الرفيع، فقام ذلك المسكين وألقى نفسه على أم رأسه، فسقط على البلاط فمات، فقال: عندي مائة ألف كلهم يفدوني كما فداني هذا، وكلهم في طاعتي، أتظن أني أخافك يا خليفة العباسيين؟! وقويت شوكته، وعظم أمره. ومن أخبار هؤلاء القرامطة الباطنية حادثتهم الشنيعة، التي هي أشنع الأمور، وهي قتلهم الحجاج في الحرم المكي سنة ثلاثمائة وسبعة عشر، كان الحجاج محرمين في يوم التروية يطوفون فلم يشعروا إلا وقد سلّ ذلك القرمطي وأصحابه سيوفهم عليهم، وأخذوا يقتلون الحجاج قتلاً ذريعاً، فجعل الحجاج يلوذون بالكعبة، ويتعلقون بأستارها، وجعل يقتلهم، ولا يبالي بهم، حتى قتل من شاء منهم، وقذفهم في بئر زمزم حتى امتلأت من القتلى، وامتلأت الساحة من القتلى، وكان من أمره أن خلع كسوة البيت، وفرقها بين أصحابه، وأصعد رجلاً ليقلع ميزاب الكعبة، ولكن ذلك الرجل الذي صعد ليقلعها سقط على أم رأسه فمات إلى النار، فخاف الملعون أن تكون هناك عقوبة، ولكنه قلع الحجر الأسود، وخرج هارباً بمن معه ومعه الحجر الأسود، بعد أن فشا القتل في الحجاج، وبقي الحجر عندهم اثنين وعشرين سنة، إلى أن رد في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة بعد أن ضعفت شوكتهم وهددوا.
تأثر الرافضة بابن سبأ اليهودي
…(4/99)
ورث الرافضة القرامطة الباطنية، الذين ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض، فكيف يوثق بمثل هؤلاء، ويدعى أنهم إخوان لنا، وأنهم من أهل الإسلام، ومن أهل الولاية، وهذه سوابقهم وهذه أحوالهم؟!! وتعرفون أن من مبادئهم التقية، وهي أنهم يلعنون الرافضة ويلعنون الشيعة أمام أهل السنة، ويترضون عن الصحابة في ظاهر أمرهم، ولكنهم كالذين قال الله فيهم: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] تعالى الله عن قولهم، كأنهم يستهزئون بالله ويستهزئون بالمسلمين، فهذه مقالة هؤلاء، فكيف يوثق بهم؟! وقد عرفنا أن من أحب الصحابة رضي الله عنهم وأحب أمهات المؤمنين ووالاهم وسار على نهجهم فهو إن شاء الله بريء من النفاق؛ وذلك لأن محبتهم تحمل على اتباعهم، وتحمل على العمل بسنتهم وبنقلهم وبما جاء عنهم، أما بغضهم، أو بغض أحد منهم، أو تهمتهم بأنهم خانوا، أو أنهم كذبوا؛ فهذا سوء ظن بالله، وادعاء أنه ما حفظ كتابه، وما حفظ دينه، وتكذيب لقول الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فلينتبه لمثل هذا، وليعلم أن محبة الصحابة رضي الله عنهم براءة من النفاق، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق الأنصار: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق)، وإذا كان هذا في حق الأنصار، فالمهاجرون بطريق الأولى، لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق. ونحن نحب أهل البيت، ونحب علياً رضي الله عنه وزوجته وأولاده، ونبرأ إلى الله ممن كفرهم أو ضللهم، نحبهم ونشهد الله على محبتهم، فبماذا تطعنون علينا يا معشر الرافضة؟! نحن نحبهم أشد من محبتكم لهم، فلو قلتم: إن من أحب علياً لزمه أن يبغض أبا بكر، قلنا: كذبتم، أبو بكر هو صديق علي وحبيبه، وقد سمعنا ما نقل الشارح رحمه الله أن علياً رضي الله عنه(4/100)
كان يؤدب من فضله على أبي بكر وعمر، ووالله! لو خرج علي لأدب هؤلاء الرافضة الذين يشتمون أبا بكر وعمر ، ويشتمون أجلاء الصحابة، ولنكل بهم، ولكنهم قوم لا يعقلون.
شرح العقيدة الطحاوية [90]
من عقائد أهل السنة سلامة صدورهم للصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمة، ويعذرون من أخطأ في المسائل الاجتهادية ويعتقدون أن له أجراً على اجتهاده، بخلاف الرافضة المخالفين للعقل والنقل في كل مسالكهم.
لا يبغض الصحابة إلا منافق
…
نسأل الله أن يرزقنا تحقيق الإيمان به، والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء عنه، ونعوذ بالله من الشقاق، ونعوذ بالله من النفاق، ونعوذ بالله من سيئ الأخلاق، ورد عن بعض السلف أنه قال في النفاق: ما أمنه إلا منافق، وما خافه إلا مؤمن. من علامات الإيمان محبة الصحابة، ومن علامات النفاق بغض الصحابة، ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنصار: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق)، وورد أن علياً رضي الله عنه قال: (عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق)، ويقال كذلك في بقية الصحابة جميعاً، فحبهم إيمان، وبغضهم نفاق، كما ذكر ذلك الطحاوي رحمه الله. ذكر الشارح أن أول من دعا إلى مذهب الرافضة رجل من المنافقين يقال له ابن السوداء عبد الله بن سبأ ، وهو يهودي دخل في الإسلام متستراً، وأراد أن يفسد على المسلمين عقيدتهم ودينهم، وقلده -مع الأسف- هؤلاء الرافضة، الذين سموا أنفسهم شيعة، فهم أتباع ذلك المنافق، وسيرته مشهورة، وقد ذكر بعضها الشارح رحمه الله، وتوسع المؤرخون في ذكر نفاقه وما دعا إليه. ......
نفاق الباطنية الذين يظهرون الرفض ويبطنون الكفر
…(4/101)
ورث الرافضة والسبئية من هم أشد كفراً ونفاقاً، وهم الباطنية أو القرامطة، فرقة ظهرت في آخر القرن الثالث، وتمكنت في أول القرن الرابع، وظهر لهم فساد كبير، ومقالات شنيعة، يقول فيهم بعض السلف: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض. ويذكرون أن الذي حملهم على الدخول في الإسلام إخراج الأمة من عقيدتها وإفساد عقيدتها من الإيمان بالله والإيمان بالبعث وما أشبه ذلك، وعقائدهم كفرية، وقد تمكنوا مع الأسف في آخر القرن الثالث، في حدود سنة مائتين وسبعين إلى حدود سنة ثلاثمائة وثلاثين، فتمكنوا من البحرين والأحساء والقطيف والخليج كله، ووصلوا إلى حدود العراق، وأغاروا على العراق مراراً، وقتلوا وسبوا، وفي سنة ثلاثمائة وسبعة عشر قتلوا الحجاج، وقلعوا الحجر الأسود، وبقي عندهم إلى أن ضعف أمرهم في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ولا شك أنهم كفرة فجرة، فكيف تمكنوا؟ رأوا أن أهل العراق وأهل إيران وأهل تلك البلاد قد تمكن من قلوبهم حب علي وأهل بيته، فقد كانوا على مذهب الرافضة، فدخلوا عليهم من هذا الجانب، وبدءوا بادعاء أنهم رسل للمهدي المنتظر، الذي هو عند الرافضة محمد بن الحسن العسكري ، الذي دخل سرداب سامراء، ولا يزالون ينتظرونه، فهؤلاء القرامطة ادعوا أنهم رسله، وأنهم كمقدمة بين يديه، وأنه سيخرج قريباً، فقالوا: نحن نؤلف من يكون عوناً له، حتى إذا خرج يكون له أعواناً، حتى يقضي على الدولة العباسية، وعلى دولة كذا وكذا، حتى لا يبقى أحد ضده، هذا تفكيرهم، فانخدع بهم خلق كثير، وفعلوا الأفاعيل، وظهر للناس فسقهم وكفرهم، فذكر المؤرخون أنهم حجوا مرة، ولما كانوا في أثناء الطريق على حدود الضريبة التي هي محرم ميقات أهل العراق أو قبل ذلك بقليل؛ اتفقوا بحجاج العراق، فقتلوا الحجاج، وكان أميرهم من بني العباس، ولم يبقوا منهم إلا من شذ، قتلوهم وأخذوا ما معهم من النساء والرواحل، وهرب من سلم منهم، والذين هربوا راجلين مات أغلبهم ظمأً وجهداً،(4/102)
فهذه من أفعال هؤلاء المنافقين الباطنية الذين ورثتهم في القطيف وما حوله، وقد سماهم أهل السنة بالباطنية؛ لأنهم يبطنون الكفر، ويظهرون أنهم يحبون أهل البيت، وأنهم يوالونهم، وأنهم أتباع علي ، يقولون لدعاتهم: ادعوا الناس إلى محبة الآل، ادعوهم إلى محبة أهل البيت، ادعوهم إلى محبة آل المصطفى، فإذا أجابوكم فقولوا لهم: لا نقبل منكم حتى تتبرءوا من بني العباس، وحتى تتبرءوا من الخلفاء، وحتى تتبرءوا من الصحابة، وحتى تتبرءوا من بني أمية، ومن كذا ومن كذا، فإذا تبرءوا منهم، واعتقدوا كفرهم وخروجهم من الملة، عند ذلك يقدحون أيضاً في إمامهم الذي يتبعونه وهو علي ، ويذكرون لهم عيوبه ومثالبه، وما نقم عليه، فعند ذلك يبقون مذبذبين، لا إلى المؤمنين ولا إلى الشيعة، لا سنيين ولا شيعة، فيكونون منهم، يبطنون ما يبطنون، فغروا الخلق الكثير بهذه الحيلة.
من مبادئ الرافضة النفاق ويسمونه: التقية
…(4/103)
نحلة الشيعة مبناها على النفاق، وقد اشتهر أن الرافضة من مبادئهم النفاق الذي يسمونه التقية، ويقولون: من لا تقية له لا دين له، فتجدهم يتبرءون من الرفض، ويشتمون الرافضة إذا كانوا مع أهل السنة، فيقولون: كيف تزعمون أننا نبغض الصحابة؟! بل نحن نحبهم، نحب أبا بكر ، ونحب عمر ، والرسول تزوج بنت أبي بكر ، وتزوج بنت عمر ، ولكن يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]، أليس هذا هو النفاق؟! وقد اشتهر هذا عنهم. كلمتُ أنا كثيراً من شيعة البحرين فقلت لهم: إنكم تسبون الصحابة، ولكن تبرءوا، وقالوا: لا نقول بذلك، وأخذوا يترضون عن الشيخين، ويقولون: أليس كذا وكذا؟ ولكن عندما جاءهم بعض من أخفى نفسه، وشتم في ظاهر الأمر الشيخين، وافقوه على ذلك، وأخذوا يذكرون مثالب وعيوب الصحابة رضي الله عنهم، إذاً: هذا هو النفاق، فالذين يحبون الصحابة من قلوبهم بريئون من النفاق، والذين يبغضونهم أو يبغضون أحداً منهم لم يسلموا من النفاق.
محبة أهل السنة لعلماء السلف
…(4/104)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصاً الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقاً يقيناً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له في تركه من عذر، وجماع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول. والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ. فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق، وتبليغ ما أرسل به الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا، فرضي الله عنهم وأرضاهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]]. هذا الكلام يتعلق بأئمة المسلمين، وعلماء الدين، وعباد الأمة، وهداتها، الذين هداهم الله، وسددهم، وأرشدهم، وبصرهم بالحق، الذين ورثوا النبوة، وحملوا العلم، ونقلوه عمن قبلهم، ولقنوه(4/105)
وعلموه لمن بعدهم، قولاً وعملاً. ......
فضل أهل القرون الأولى
…
قد شهد النبي صلى الله عليه وسلم لسلف الأمة بالخير وبالفضل فقال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وروي عنه أنه قال لأصحابه: (أنتم خير من أبنائكم، وأبناؤكم خير من أبنائهم)، فهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم لصدر هذه الأمة بالخير، ولا شك أنهم يتفاوتون؛ وذلك لأن فيهم العلماء، وفيهم العباد، ولا شك أن العلماء أفضل من العباد، ففي حديث أبي الدرداء المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، ويقول بعضهم: لعالم أشد على الشيطان من ألف عابد، فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وعلماء هذه الأمة الذين تحملوا العلم، نشهد أنهم لم يكتموه، وأنهم عملوا به، وأنهم طبقوه، فمن الصحابة علماء أجلاء، عاملون بما قالوا، ومن تلامذتهم علماء مشهود لهم بالخير كالفقهاء السبعة الذين نظمهم بعض العلماء بقوله: إذا قيل من في الدين سبعة أبحر رواياتهم ليست عن العلم خارجة فقل: هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة الأول : عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ابن أخي عبد الله بن مسعود الصحابي. الثاني: عروة بن الزبير بن العوام خالته عائشة رضي الله عنها. الثالث: القاسم بن محمد بن أبي بكر عمته عائشة رضي الله عنها. الرابع: سعيد بن المسيب بن حزن العالم المشهور التابعي العابد، وهو من أفاضل قريش. الخامس: أبو بكر بن الحارث بن هشام من بني مخزوم من قريش. السادس: سليمان بن يسار مولى مملوك، ولكن منّ الله عليه بالعلم. السابع: خارجة بن زيد بن ثابت . هؤلاء من أجلاء علماء التابعين، ولهم من يروي عنهم، اشتهروا بالعلم، ثم اشتهر بعدهم من صغار التابعين من لهم مكانة في العلم ومكانة في الدين، فمن علماء المدينة: محمد بن مسلم الزهري المعروف بابن شهاب . وربيعة بن عبد الرحمن ويعرف بربيعة(4/106)
الرأي . ومن علماء مكة: عطاء بن أبي رباح مولى عتيق، ولكن منّ الله تعالى عليه بالعلم. وكذلك أيضاً في سائر البلاد، ورثهم أيضاً تلامذتهم، مثل: عبد الملك بن جريج و شعبة بن الحجاج و سفيان الثوري والأئمة الأربعة المشهورون، المشهود لهم بالإمامة: في العراق أبو حنيفة ، وفي المدينة مالك ، وفي بغداد الإمام أحمد ، وفي مكة ثم في مصر الإمام الشافعي ، وفي مصر أيضاً الإمام الليث بن سعد ، وفي الشام الإمام الأوزاعي، وأتباعهم وأشباههم. فنقول: إن هؤلاء الأئمة في الدين، لا يقدح فيهم إلا من هو ضال مضل، وقد شهد لهم أتباعهم، وكذلك شهدت لهم الأمة، بأنهم علماء هذه الأمة، حملهم الله العلم، ولما تحملوه لم يبدلوا ولم يبتدعوا ولم يغيروا، بل كانوا على السنة، محاربين للبدعة، كلما ظهرت بدعة أنكروها، وأنكروا على أهلها، وشنعوا بهم وحاربوهم وطردوهم، والبدعة في زمانهم مندحرة.
مذهب السلف في العقيدة واحد
…(4/107)
ابن المبارك عالم من علماء خراسان، وكان في الري المعروف الآن في إيران، قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ فقال: بأنه على عرشه، فوق سماواته، بائن من خلقه. ولا شك أن هذا تصريح بعقيدة أهل السنة في زمانه، ورداً على المبتدعة، لأنه ظهر في زمانه كثير من المبتدعين، مثل: بشر بن غياث المريسي و محمد بن شجاع الثلجي و أحمد بن أبي دؤاد المبتدع المشهور، وأشباههم، فخافوا على الأمة أن يقلدوهم، أو يكونوا مثلهم في الضلال؛ فأظهروا السنة، وأظهروا الأحاديث، وأظهروا الاستدلال بها، وبينوا المعتقد السليم الصحيح، حتى لا يبقى لمسلم شبهة يتبع بها هؤلاء المبتدعة، وأكثروا من الرواية للأحاديث التي تتعلق بالعقيدة السلفية السليمة الصحيحة؛ لئلا ينخدع بعض من يموّه له أولئك المبتدعة بأنهم على حق وعلى صواب، فهدى الله بهم من أراد هدايته، وسلمت عقيدتهم وعقيدة أتباعهم، فأقوالهم في العقائد واحدة، فهم متفقون في العقيدة، لم يتنوع مذهبهم فيها، لا يقال: مذهب أحمد في العقيدة كذا، ومذهب أبي حنيفة كذا، ولما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية عقيدته الواسطية، وحصل جدال فيها مع أهل زمانه، وكان السلطان حاضراً المناظرة بينهم، فأراد أن يفصل بينهم فقال: إنه على مذهب أحمد، ومذهب أحمد معتبر ومعترف به، فاتركوه على مذهبه، وأنتم على مذهب أئمتكم شافعية أو حنفية أو نحو ذلك، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: معاذ الله أن يكون للإمام أحمد مذهب خاص في باب العقيدة، بل هذه العقيدة مذهب الأئمة كلهم، ثم صنف رسالة أخرى تسمى الفتوى الحموية، وتوسع فيها، وذكر أنها قول الأئمة كلهم، فنقل عن أبي حنيفة من كتابه (الفقه الأكبر) الموجود الآن، ونقل عن الشافعي ، ونقل عن مالك ، ونقل عن الليث ، ونقل عن الثوري ، ونقل عن ابن عيينة ، ونقل عن ابن أبي ذئب ، ونقل عن الأوزاعي ، ونقل عن فلان وفلان من أئمة السلف، ثم نقل عن أتباعهم؛ فبين أنهم متفقون في باب العقيدة، لا يوجد بينهم أي اختلاف،(4/108)
أما المذاهب التي تفاوتت، فإنما هي في الفروع الاجتهادية، الفروع التي هي الأعمال.
ذم التعصب للأئمة في المسائل الاجتهادية
…
هناك أتباع للأئمة في الفروع اجتهدوا كما اجتهد الشافعي واتبعوه، وهناك أتباع لأبي حنيفة اتبعوه، وأتباع لمالك اتبعوه، وأتباع للأوزاعي ، وأتباع للثوري ، وأتباع لليث ، وأشباههم، ولكن هذا فيما يتعلق بالفروع التي طريقها الاجتهاد، وإذا قلت: لماذا حصل التفاوت؟ ولماذا حصل التمذهب، حتى أدى ذلك إلى التعصب، فنحن نرى أن الحنفية يتعصبون لمذهبهم، وأن الشافعية كذلك، وكذا الحنابلة والمالكية ونحوهم؟ فلماذا هذا التعصب وهذا التمذهب؟ أليس الدليل واحداً؟ أليس القصد والهدف واحداً؟ نقول: نعم، الهدف واحد، ولكن هذه الأشياء حدثت بسبب الاجتهاد، فهؤلاء اختاروا قولاً، وصار لهم مشايخ، ولهم كتب يرجعون إليها، فصار بعضهم يتمحل في رد الأدلة التي يستدل بها خصومهم، ويتعصب لمذهبه ومذهب إمامه، ونحن ننكر عليهم هذا التعصب، ورد الأحاديث التي هي صريحة في مخالفة مذهبهم، وهذا التعصب حدث للمتأخرين، ولعل بعضكم قرأ في كتاب البيهقي السنن الكبرى التي طبع في ذيلها رد عليها اسمه: الجوهر النقي في الرد على البيهقي ، فالبيهقي رحمه الله عالم جليل محدث حافظ، ولكنه شافعي المذهب، فإذا جاء إلى المسألة التي فيها المذهب الشافعي استوفى الأحاديث التي فيها، ولا يزيد على الاستيفاء، وإذا خالفه مذهب أبي حنيفة ، فإن صاحب الجوهر النقي يتعصب تعصباً شديداً، ويرد تلك الأحاديث، ونحن نعذر الإمام أبا حنيفة في مخالفته لتلك الأحاديث أو تلك الأدلة، ونقول: إما أنها لم تبلغه، وإما أنها لم تثبت عنده لما بلغته، ولم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، وإما أنها بلغته ولكن ثبت عنده ما ينسخها أو ما يخالفها، وإن لم يثبت ذلك عند غيره، فهو معذور، ولكن لا يعذر أتباعه الذين تعصبوا له، وتشددوا في نصرة مذهبه، بل ردوا الأحاديث كما فعله صاحب(4/109)
الجوهر النقي هذا، وهو: ابن التركماني ، وهو متأخر في حدود القرن الثامن. أما المقتصدون منهم فإنهم لا يتعصبون، فمثلاً صاحب نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية حنفي يقال له: الزيلعي ، وهو عالم بالحديث منصف، يذكر أحاديثهم التي تدل على مذهب الحنفية، ثم يذكر أحاديث من خالفهم، ولا يتشدد في ردها ولا في تعقبها، وهذا بلا شك من الإنصاف. وبكل حال نقول: إن الأئمة والعلماء من هذه الأمة هم خير هذه الأمة، وفضلهم ظاهر؛ وذلك لأنهم حفظوا على الأمة دينها، ومن نصحهم للأمة أنهم دونوا ما حفظوه وكتبوه، فكتبوا فقههم وأحكامهم، وكتبوا الأحاديث التي بلغتهم، وبينوا وجهتهم واجتهاداتهم، وذلك كله نصح وشفقة للأمة، فرضي الله عنهم وجزاهم عن هذه الأمة خيراً، فهم أفضل هذه الأمة، فأفضل هذه الأمة علماؤها، وقد ذكر الله عن الأمم السابقة أن علماءهم فيهم المخالفة الشديدة، فقال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] الرهبان: هم العباد، والأحبار: هم العلماء، ويقول الله تعالى في أهل الكتاب: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78] فذمهم بأنهم يكذبون ويتقولون، وذمهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، وأنهم كتموا ما أنزل الله، وذمهم بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187]، أما هذه الأمة فإن علماءها نصحوا لأتباعهم، ونصحوا للأمة، وبينوا لهم طرق الصواب، فجزاهم الله عن الأمة خيراً،(4/110)
ونحن نقول كما أمرنا الله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].
الرد على من فضل الأولياء على الأنبياء
…
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء). يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة، وإلا فأهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع، فقد أوجب الله على الخلق كلهم متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ.. [النساء:64] إلى أن قال: (..وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]. قال أبو عثمان النيسابوري : من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة. وقال بعضهم: ما ترك بعضهم شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه، والأمر كما قال؛ فإنه إذا لم يكن متبعاً للأمر الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعمل بإرادة نفسه فيكون متبعاً لهواه بغير هدى من الله، وهذا غش النفس، وهو من الكبر، فإنه شبيه بقول الذين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم، ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء، ومنهم من يقول: إن(4/111)
الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء، ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون: وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له، لكن هذا يقول: هو الله، وفرعون أظهر الإنكار بالكلية، لكن كان فرعون في الباطن أعرف بالله منهم، فإنه كان مثبتاً للصانع، وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كابن عربي وأمثاله، وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره قال: النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم! وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة، وما يكون للأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء مستفيدون منها، كما قال: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي وهذا قلب للشريعة، فإن الولاية ثابتة للمؤمنين المتقين، كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، والنبوة أخص من الولاية، والرسالة أخص من النبوة، كما تقدم التنبيه على ذلك]. ......
ضلال الصوفية
…(4/112)
هذا الكلام في الرد على غلاة الصوفية من الحلولية والاتحادية، وهم مبتدعة نشأ أولهم في آخر القرون المفضلة، ثم توسعوا وانتشروا وكثروا في أواسط القرون، وصار لهم مذاهب ونحل، ولا يزال لهم أتباع يدعون إلى طرقهم مع الأسف، ويدعون إلى مذاهبهم، فمن مذاهبهم طريقة النقشبندية، وطريقة الشاذلية، وهي طرق مشتهرة، لها دعاة يدعون إليها، وهناك طرق أخرى لها أتباع، وأشهرها طريقة التيجانية، فهؤلاء ماذا نسميهم؟ هم يسمون أنفسهم صوفية، ولهم أتباع، فالذين رئيسهم النقشبندي ينتسبون إليه، وهكذا أتباع الشاذلي ، وأتباع عبد القادر الجيلاني ، وأتباع الاتحادي ابن عربي ، وأشباههم، والكلام عليهم قد استوفاه الأئمة المتقدمون والمتأخرون، ومن أوسع من رأيته تكلم على طريقة الصوفية من المتقدمين ابن الجوزي في كتابه الذي سماه: تلبيس إبليس، فإنه لما تكلم على الصوفية جعل فيهم نحو نصف الكتاب أو قريباً منه، مع أن الكتاب في ذم كل من عنده بدعة أو نحلة في زمانه، ولكن حمل على الصوفية؛ ولعله حمل عليهم لكثرتهم في زمانه، وذكر أشياء كثيرة منتقدة من طرقهم، وفي زماننا كتب فيهم عالم مصري يقال له: عبد الرحمن الوكيل كتابين: الكتاب الأول بعنوان: صوفيات، والكتاب الثاني بعنوان: هذه هي الصوفية، وقد فضح مناهجهم وطرقهم، ولعله شاهد عبادتهم في بلاده، فإنهم منتشرون في مصر والسودان، وفي أكثر البلاد الإفريقية متمكنة طرقهم، ولهم مبادئ، ويمدحون أنفسهم، ويمدحون طريقتهم، ويدعون أنهم الذين حفظوا الإسلام، والذين كافحوا ونافحوا عنه، ويدعون أنهم الذين قاموا به أتم قيام، ودعوا إليه وبلغوه، وأنه هدى الله بهم من أراد هدايته، وأنقذ بهم من أراد به خيراً، هكذا يعبرون، ومع الأسف قد انتشروا في هذه البلاد، فيوجدون بكثرة في الحجاز، ويوجدون في الشرقية، أما في وسط نجد فإنهم قلة والحمد لله، لكن لأولئك من يؤيدهم ويتبعهم وإن لم يكن على نحلتهم. حدثت الصوفية في أول الأمر(4/113)
في نصف القرن الثاني، وكثروا في القرن الثالث، ولكن الصوفية الذين في القرن الثاني والثالث لم يكن عندهم بدع، وسماهم السلف رحمهم الله صوفية؛ لأنهم رضوا بالتخشن وبالتقشف وبالزهد، وصاروا يرتدون لباس الصوف الخشنة، أي: اللباس الذي ينتج من صوف الضأن، فكانوا يلبسونه مع خشونته، كل ذلك من باب التقشف والزهد، واشتهر منهم علماء وعبّاد في صدر هذه الأمة، فمنهم: إبراهيم الخواص وهو عابد مشهور متمسك، وإبراهيم بن أدهم ، الذي له حكايات وله وقائع مشهورة، والجنيد بن محمد و بشر الحافي و معروف الكرخي وأشباههم، فهؤلاء كانوا يسمون صوفية في زمانهم، ولكن ليسوا على معتقد الصوفية المتأخرين، بل هم زهاد، واسمهم في الأصل زهاد وعباد، وهم مبتعدون عن شهوات الدنيا وزينتها، مقبلون على العبادة، لا يريدون الدنيا، يقنعون منها باليسير، ذكروا أن بعضهم سمي إبراهيم الخواص ؛ لأنه كان يأكل من كسب يده، يتتبع ما يلقيه الناس من الخوص، ثم ينسجه ويبيع منه بقدر ما يقتاته، وبقية وقته للعبادة، فجلّ أوقاتهم عبادة، فهؤلاء ليسوا مذمومين، خلافاً لبعض المتأخرين الذين أدخلوا كل من أطلق عليه صوفي في الذم، منهم علماء معتبرون دخل عليهم شيء من البدع المتأخرة، ولعلكم قرأتم للحارث المحاسبي شيئاً من رسائله التي تتعلق بالتصوف ومحاسبة النفس وما أشبهها، و الحارث هذا معه علم ومعه زهد، ولكن دخل عليه بسبب قلة علمه شيء من بدع المتصوفة ونحوهم، فصار معه بدع، ولكن لم تصل بدعته إلى بدعة المتصوفة المتأخرين، فلأجل ذلك أُنكر عليه بعض الأشياء، ولكنها قليلة، وهو على طريقة الصوفية المتقدمين الذين هم أهل الزهد وأهل التقلل. وفي آخر أو في وسط القرن الثالث ظهر منهم بعض المشتهرين بالعبادة مثل الشبلي وهو عابد من العباد، وله أشعار منقولة في الزهديات، ولكن حفظ عليه بعض الأشياء انتقدت عليه، ومنهم أبو يزيد البسطامي وقد نقل عنه بعض الأشياء التي فيها شيء مما يفهم منه(4/114)
أنه على طريقة أهل الاتحاد، فقد نقل عنه ابن الجوزي في تلبيس إبليس أشياء مستنكرة، منها أنه سُمع يقول: سبحاني سبحاني ما أعظم شاني ومنها أنه كان مرة يمشي، فالتفت إلى أناس وراءه فقال لهم: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون! ومقالات نحو هذه، وبعضهم حملها على أنه زاد به الوجدان فصار إلى هذه الحال، وتأولها بعضهم بأنه يحكي عن الله، أو ما أشبه ذلك، ولكن أكثر من أنكر عليه رجل في آخر القرن الثالث يسمى الحسين الحلاج فيحكون عنه عجائب، ويحكون عنه وقائع عظيمة بشعة شنيعة وقد قتل في سنة ثلاثمائة وتسعة، ومن قرأ ترجمته في تاريخ ابن كثير يرى عجائب مما نقل عنه، حيل كان يحتال بها ويوهم الناس أنه ولي، وأنه.. وأنه..، وأجمع أهل زمانه على أنه محكوم بكفره، فقتل لذلك، ولو أنكر قتله من أنكره. فهذا أساس مبدأ الصوفية.
شرح العقيدة الطحاوية [91]
أولياء الله هم كل مؤمن تقي، وقد تغير هذا المفهوم عند كثير من الناس، فجلعوا أولياء الله أناساً مخصوصين، وبنوا على قبورهم القباب، وغلوا فيهم، ومنهم من كان صالحاً، ومنهم من كان على غير سواء السبيل، كابن عربي الصوفي الحلولي الذي كفره كثير من العلماء.
منزلة أولياء الله
…(4/115)
ذهب بعض المبتدعة إلى أن الأولياء أفضل من الأنبياء، سبحانك هذا بهتان عظيم، فالأولياء بم صاروا أولياء؟ ومتى نزل عليهم الوحي؟ الأولياء تولاهم الله وصاروا أولياءه عندما اتبعوا رسله، وأطاعوهم واتبعوا شريعته؛ فبذلك أصبحوا من أوليائه، فتولاهم الله، وتولى توفيقهم وحفظهم، قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] وليهم أي: حافظهم، وهو الرقيب عليهم، وهو الموفق لهم، وقال تعالى: أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22] حزب الله هم جنده، وهم عباده الصالحون، وهم الذين يحبهم ويحبونه، الذين شهد لهم بولايته، واتباعهم لأمره، وتقبل شرعه، وعلى هذا فالناس قسمان: ولي لله، وعدو لله، لا يخرج الإنسان من هذين القسمين، ومن تولاه الله حفظه، ومن عادى ربه خلى بينه وبين أعدائه، فصار ولياً للشياطين تستهويه وتستحوذ عليه، وتغريه وتؤزه إلى الشر أزاً أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم:83] فمن لم يكن ولياً لله فهو ولي للشيطان، وعلى هذا المنوال وضع شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه المشهور الذي طبع عدة مرار واسمه: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجعل هذا الكتاب في بيان أولياء الله وعلامتهم، وأولياء الشيطان وعلامتهم، وبيّن أن كل من آمن بالله واتقاه حق تقواه، وحقق الإيمان به، فهو ولي لله تعالى وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:56]، والله تعالى ذكر أن أولياءه هم المؤمنون المتقون، وذكر ثوابهم. فقال الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، لا تفسر ولاية الله إلا بما فسرها به الله(4/116)
سبحانه، فأولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، فكل من حقق الإيمان بالغيب من الإيمان بالله والإيمان بالبعث والإيمان بالحساب والجزاء والإيمان بالقدر خيره وشره والإيمان بالملائكة والكتب والرسل، والإيمان بكل ما أخبر الله تعالى به، وكذلك ظهرت عليه آثار هذا الإيمان من العمل والاستعداد، وكذلك حقق تقوى الله ومخافته ورجاءه، وعمل بطاعته؛ فإنه من أولياء الله، وأما من خالف ذلك ولم يطع أمر الله بل خالفه، وعاند وعصى، وطغى وبغى؛ فإنه من أولياء الشيطان. إذاً: أولياء الله هم كل المؤمنين، وكل المتقين، فكلهم أولياء لله، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي ولاية الله: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فجعل ولي الله تعالى هو الذي يواليه ويتولاه، ومن عاداه فإنه حرب لله، وأي شخص يقوى على محاربة الله؟! وصريح الحديث: أن أولياء الله يتولاهم ربهم وينصرهم ويعزهم ويحميهم على من خالفهم، وعلى من خرج عليهم، وكذلك في القرآن: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55]، وإذا كان الله ولينا فإننا أولياء الله، وإذا كان الرسول ولينا فنحن نتولاه، وإذا كان المؤمنون أولياء بعضهم من بعض فإنهم أولياء الله، وقد ذكر الله تعالى ولاية المؤمنين بعضهم لبعض فقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض [التوبة:71] يعني: ينصر بعضهم بعضاً، ويؤيد بعضهم بعضاً، ويحمي بعضهم بعضاً، ويتناصرون فيما بينهم؛ وذلك لأنهم جميعاً أولياء الله، فكل منهم يتولى الآخر وينصره، ويحرصون على اكتساب ولاية الله بهذه الأمور التي هي ولاية من تولاه الله، ومحبته ونصرته، والقرب منه، يقول ابن عباس رضي الله عنهما في الأثر المشهور: من أحب في الله، وأبغض في(4/117)
الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك. من أراد أن ينال ولاية الله وأن يكون من أولياء الله؛ فليحب أولياء الله وليوالهم وليقرب منهم، وليعاد أعداء الله وليقاطعهم وليبتعد عنهم، وبذلك ينال العبد ولاية الله له، ويكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ......
المؤمنون بعضهم أولياء بعض
…
المؤمنون بعضهم يتولى بعضاً، يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72]، هكذا أخبر (بعضهم أولياء بعض) كما أن الكفار يتولى بعضهم بعضاً، كما أخبر الله في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73] يعني: لا تتولوا أعداء الله، بل يكفيكم أن تكونوا جميعاً أولياء لله وأولياء لبعضكم، يكفيكم أن يتولاكم الله وأن تكونوا من أولياء الله. هذه عقيدتنا، ونرجو إن شاء الله أن نتوفى على هذه العقيدة، وهي أن المسلمين والمؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأن من تولى الله فإنه من أوليائنا، وأن جميع من آمن واتقى فهو من أولياء الله. وقد ذهبت الصوفية إلى أن هناك أولياء خصيصون، فهم يسمون الأولياء، وأما بقية المؤمنين فلا يصلون إلى درجة الولاية، وجعلوا الذي سموه ولياً أرفع رتبة من النبي، وجعلوا النبي أرفع رتبةً من الرسول، وهذا مخالفة لشرع الله، ومر بنا في الشرح البيت الذي يستشهدون به، وهو قولهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي فجعلوا النبوة منزلة وسطى، وجعلوا الرسول المنزلة الدنيا، والولي المنزلة الرفيعة، فقالوا: إن الولي هو الأعلى، ويليه النبي، وأنزل منه الرسول، فمقام النبوة جعلوه في الوسط: .. فويق الرسول ودون الولي هكذا مثلوا، وفضلوا كثيراً(4/118)
ممن سموهم أولياء على جميع الرسل، وفضلوهم على الأنبياء، وقالوا: إن الولي غني عن الشرع، وغني عن القرآن، وغني عن هذا الدين، لماذا؟ لأن له ولاية رقته إلى رتبة عالية، فأصبح يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي ينزل على الأنبياء والرسل، وروح هذا الولي عندهم تتصل بالملأ الأعلى، وتطلع على اللوح المحفوظ، وتأخذ منه المعلومات، وتنال منه مرادها، ويستغني الولي عن هذا الشرع، وعن هذا القرآن، وعن هذه العبادات كلها؛ ولأجل ذلك جعلوه في رتبة عالية، وقالوا: إنه يأخذ بسره أو بسريرته، وأنه يحدثه قلبه عن ربه، يقول بعض الأولياء: حدثني قلبي عن ربي، ويسمون ذلك مكاشفة أو باطناً من البواطن التي لا يطلعون عليها غيرهم. قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي أو قلت قد قال الصحابة والأولى تبعوهم في القول والأفعال أو قلت قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والإمام العالي أو قلت قال صحابهم من بعدهم فالكل عندهم كشبه خيال لا يعتبرون بذلك كله، ويقول: قلبي قال لي عن سره عن سر سري عن صفا أحوالي عن حضرتي عن فطرتي عن خلوتي عن شاهدي عن وافدي عن حالي عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فعالي دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقاب زور لفقت بمحال نبذوا كتاب الله خلف ظهورهم نبذ المسافر فضلة الآكال هذه الاصطلاحات التي اتفقوا عليها يدعون أنهم تفوقوا بها على المسلمين وعلى الإسلام وعلى أولياء الله المؤمنين من الصحابة والتابعين ونحوهم، ويستغنون بها في زعمهم عن الشرع الشريف وعن أهله، وقد حدث من آثار ذلك أنهم عظموا هؤلاء الذين ادعوا أنهم أولياء أو ادعوا لهم الولاية، وعبدوهم من دون الله، فما عبدت القبور إلا بالغلو في الصالحين، فإن الشيطان صار يزين لهم أن هذا ولي، وقد سقطت عنه التكاليف، وأنه لا حرج عليه فيما يفعل، وأنه قد ارتقى قلبه إلى ربه، وأنه مستغنٍ عن الشرع وعن أهل الشرع، فالسيد(4/119)
البدوي المشهور بطنطا في مصر إلى الآن يعتقدون أنه لا يدخل مصر أحد إلا من بعد أن يأذن له السيد البدوي ، فهو الذي يتصرف في الكون كله، وعندهم أنه مالك الملك، تعالى الله عن قولهم، فلأجل ذلك لا ينكرون عليه ترك العبادة، سمعت من بعض المشايخ يقول: إنه عرف أنه دخل مرة المسجد، والناس في الصلاة، فبال في المسجد وخرج ولم يصل، فسمعوه وقالوا: مجذوب مجذوب، قلبه عند ربه، وجعلوا يتمسحون به! وأمثاله كثير، ولا يكون عليهم أي حرج، ويسمونهم الأولياء، وأنهم لا حرج عليهم في أي شيء، كما قال الصنعاني رحمه الله: كقوم عراة في ذرى مصر ما ترى على عورة منهم هناك ثياب يعدونهم في مصرهم من خيارهم دعاؤهم فيما يرون مجاب يمشون عراة، ويقولون: لا حرج عليهم، قلوبهم في الملأ الأعلى، يشتغلون عن الشرع! هكذا وصلت الحال بهم إلى أن أسقطوا عنهم -بزعمهم- التكاليف، وإذا رأوا مجنوناً من هؤلاء المجانين الذين رفع القلم عنهم لفقد عقله، أخذوا يتمسحون به، وقالوا: هذا ولي من أولياء الله، وإذا مات أحدهم فشيّع، يزعمون أن الملائكة تحمله، وإذا جعلوه فوق السرير على النعش، يخيل إليهم أنه قد ارتفع عن المناكب، وأنه يطير في الهواء على نعشه، وكل هذا تخييل من الشيطان، وهكذا كل الذين عبدوا من دون الله، فإنهم ما عبدوا إلا بسبب أن الجهلة غلوا فيهم، واعتقدوا فيهم أنهم أولياء لله من دون الناس.
انتشار قبور الأولياء قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
…(4/120)
في هذه الجزيرة قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان هناك قبور يدّعون أنها قبور أولياء من أولياء الله، وقد ذكر منها الشيخ محمد في رسالته كشف الشبهات قبر رجل اسمه شمسان ، ولم يذكر تفصيلاً عن حالته، وقبر آخر يسمى يوسف ، وآخر يسمى تاجاً ، ذكر هؤلاء الثلاثة في كشف الشبهات، وكذلك ذكرهم مولى علي بن مولى عمران في قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها: جاءت قصيدتهم تروح وتغتدي في سب دين الهاشمي محمد إلى أن قال: الشيخ جاهد بعض أهل جهالة يدعون أصحاب القبور الهمد تاجاً وشمساناً وما ضاهاهما من قبة أو تربة أو مشهد جاءهم الشيطان وقال: هذا ولي من أولياء الله، فتبركوا به ما دام حياً، وإذا مات فاعبدوه، فعبدوه من دون الله، وكثرت في ذلك المعبودات من دون الله، وانتشرت في كثير من البلاد، ففي العراق يدعون ولاية عبد القادر الجيلاني ، وهو عبد صالح وعالم من العلماء، إلا أنه لم يكن له صنعة في علم الشريعة وفي علم الحديث، ولأجل ذلك لا يميز بين صحيح الحديث وسقيمه، ولعلكم قرأتم شيئاً من كتابه الذي يسمى: (الغنية) ففيه ما يدل على أنه لم يكن متضلعاً من علم السنة، ولكن كان من أهل السلوك، وكان من أهل التصوف، ومن أهل العبادة، فلأجل ذلك غلوا فيه، وادعوا أنه ولي، وصاروا ينقلون عنه أشياء من خوارق العادات ليست صحيحة، بل هي مكذوبة مختلقة لا أصل لها من الصحة، فمن ذلك: ذكروا أن امرأة جاءت إليه وقالت: إن ابني مات وإنه وحيدي، وليس لي ابن غيره، فسلْ الله أن يحييه، فقال: سأفعل، ثم إنه طار في الهواء، حتى أدرك ملك الموت وهو في السماء، وقد قبض أرواحاً وجعلهم في زنبيل، فقال: رد روح هذا الميت، فلما لم يفعل أخذ الزنبيل، وأسقط ما فيه من الأرواح، فحيي كل من قبض في ذلك اليوم من تلك الأرواح التي قبضها ملك الموت! وهذه خرافة من خرافاتهم. ومن ذلك: ذكروا أنه أتي بكبش مشوي أو مطبوخ، فقال: كلوا ما عليه من اللحم، ولا تأخذوا(4/121)
عظامه، ولا تزيلوها، فلما أكلوا اللحم كله، قال: قم يا كبش بإذن الله، فقام الكبش ينفض شعره وجلده كأنه لم يمت! وهذه أيضاً خرافة لا أصل لها. وكثر الكذب عليه من مثل هذه الأكاذيب، فادعوا أنه ولي من أولياء الله، وأنه أفضل من الأنبياء، وأن له العصمة، وأنه مستغن عن الشرع، وأنه.. وأنه.. . والذين ترجموا له من أولئك المخرفين جعلوه من غلاة الاتحادية، أو من أهل وحدة الوجود، ولا شك أنه -إن شاء الله- بريء من هذا كله، بل هو عابد من العباد، ولكن لما ظهر على يديه شيء من الكرمات، ادعوا أنه وصل إلى هذه الدرجات، وولدوا عليه هذه الأكاذيب، وكان من نتيجتها أنه صار معظماً يعبد مع الله، يعبد في أفريقيا، ويعبد في بلاد الهند والسند والعراق والشام، وغالباً يذكر عبد القادر على الألسن كثيراً، حتى سمعت رجلاً في يوم عرفة في حجة من الحجات يهتف: يا عبد القادر يا عبد القادر ، خذ بيدي، أنجني، اغفر لي، خذ بيدي من الهلاك، فنصحته وقلت: ومن هو عبد القادر ؟ فقال: السيد عبد القادر الجيلاني ، هذا ولي الله، هذا الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ويملك أزمة الأمور، ويغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويخفض ويرفع، يمجده هذه التمجيدات! فقلت له: ومن رب الناس قبل عبد القادر ؟ ولماذا عبد القادر لم يرد عن نفسه الموت؟ وأين الآن عبد القادر حتى نعرف حالته؟ هو مخلوق خلق من ماء مهين، ثم تمتع وعاش في الدنيا كما تمتع غيره، ولكن ذلك الشخص أخذ يوبخني ويقول: أنت تسقط قدر أولياء الله، أنت لا تحب أولياء الله حقاً، أولياء الله فيهم.. وفيهم.. ، وهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأشباه ذلك، وعرفت أنه لا حيلة فيه، فأخذت أقول له: أنا كفرت بعبد القادر ، كفرت بك يا عبد القادر ، فابعث لي ما تشاء، فقبض على رأسه واعتقد أني سأموت في لحظتي! هكذا زين لهم الشيطان، ولا شك أن الجهل هو الذي أردى بهم إلى أن اعتقدوا هذا في هذه المعبودات في(4/122)
نظرهم. وفي اليمن ولي يقال له ابن علون ، وهو مشهور أيضاً، وله قصص، وكان من العلماء، لكن بعد موته جاء الشيطان وقال: هذا قبر ابن علون ، وهو ولي الله، فالآن يدعى في كل الأماكن، وإن كان في الزمن الأخير بعدما تفقهوا، وجاءتهم كتب أئمة الدعوة، تنبهوا وتركوا ذلك. وبكل حال فهذه الولاية التي أوقعها الشيطان في قلوب هؤلاء، زين لهم أنها مرتبة راقية رفيعة، انخدع بها هؤلاء حتى عبدوا المخلوقين من دون الله. ويذكر لنا كثير من الإخوان أنه هناك قبور: في باكستان، وفي أفغانستان، وفي الهند والسند، بل وفي البلاد العربية: كمصر، والعراق، وسوريا، ولبنان، والسودان، واليمن في جنوبه وشماله، ولا حقيقة لتلك الأمور، حتى ذكروا أن بعضهم مات له حمار، فدفنه، ثم جاء إلى أهل البلد وقال: هذا قبر ولي من أولياء الله، فقالوا: من هو؟ فسمى لهم اسماً مستعاراً، فعبد ذلك الحمار، وبني عليه، وجعلوا يأتون إليه، ويتبركون بتربته ويدعونه! ولا شك أن هذا من وسوسة الشيطان حتى أوصلهم إلى هذه الحال، ومع ذلك فإن هناك أشخاصاً ادعيت فيهم الولاية، وأنهم أولياء لله، وهم ليسوا أولياء لله، بل أعداء الله، ومنهم ملاحدة من أهل وحدة الوجود، وكم يذكر في تراجمهم من المبالغة والمديح العظيم والثناء عليهم، كابن عربي الاتحادي الذي هو من أهل الوحدة، وهو على طريقة الحلاج وغيره ممن يقولون: إن وجود الخالق هو وجود المخلوق، وعين الخالق هو عين المخلوق! تعالى الله عن قولهم، ومع ذلك يذكرون في ترجمته الثناء عليه، والمديح له، والمبالغة في أمره وإطرائه، حتى من بعض أهل السنة الحنابلة، مثل ابن العماد الحنبلي صاحب شذرات الذهب، كان في القرن الحادي عشر، لما ذكر ترجمة ابن عربي ، أخذ يحكي له من الحكايات التي تدل على أنه مستجاب الدعوة، وأنه مقرب عند الله، وأنه.. وأنه.. ، ويورد له ذكريات، ويورد له أقاويل وحكم، بينما الذين ترجموه من أهل المعرفة كابن كثير رحمه الله في(4/123)
البداية والنهاية بينوا حقيقته، وذكروا أنه اتحادي ملحد، يقول بوحدة الوجود، فلا يغتر بمن مدحه أو أثنى عليه، وهكذا أمثاله كثيرون، فعلى هذا نحذر من هؤلاء الذين يفضلون أولياء الله -كما يقولون- على أنبياء الله، بل نعرف أن نبياً واحد أفضل من جميع من يسمونهم أولياء.
حقيقة ابن عربي الصوفي
…
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقال ابن عربي أيضاً في فصوصه: (ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة، فكان هو صلى الله عليه وسلم موضع اللبنة، وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية، فيرى ما مثله النبي صلى الله عليه وسلم، ويرى نفسه في الحائط في موضع لبنتين، ويرى نفسه تنطبع في موضع كلتا اللبنتين فيكمل الحائط؛ والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين: أن الحائط لبنة من فضة ولبنة من ذهب، واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في الشرع ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه؛ فلا بد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى إليه إلى الرسول. قال: فإن فهمت ما أشرنا إليه فقد حصل لك العلم النافع) فمن أكفر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب، وللرسول المثل بلبنة فضة، فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسول؟! تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111]، إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56]، وكيف يخفى كفر من هذا كلامه؟! وله من الكلام أمثال هذا، وفيه ما يخفى من الكفر، ومنه ما يظهر، فلهذا يحتاج إلى ناقد جيد ليظهر زيفه، فإن من الزغل ما يظهر لكل ناقد، ومنه ما لا يظهر إلا للناقد الحاذق البصير. وكفر ابن عربي وأمثاله فوق كفر القائلين: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام:124]، ولكن ابن عربي وأمثاله منافقون زنادقة،(4/124)
اتحادية في الدرك الأسفل من النار، والمنافقون يعاملون معاملة المسلمين؛ لإظهارهم الإسلام كما كان يظهره المنافقون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويبطنون الكفر، وهو يعاملهم معاملة المسلمين؛ لما يظهر منهم، فلو أنه ظهر من أحد منهم ما يبطنه من الكفر لأجرى عليه حكم المرتد، ولكن في قبول توبته خلاف، والصحيح عدم قبولها، وهي رواية معلى عن أبي حنيفة رضي الله عنه، والله المستعان]. ابن عربي هذا اتحادي، وقد نقل عن الاتحاديين أقوال بشعة، وأشهرهم ومن أوائلهم: الحسين الحلاج ، وقد أشرنا فيما سبق إلى شيء من الكلام حوله، وهو الذي أفتى أهل زمانه بقتله، فقتل بإجماع علماء زمانه من أهل السنة، حيث نقل عنه أقوال تدل على كفره، ثم ورثه أو قال بمقالته ابن عربي ، ولكن ابن عربي كان يتستر في نفسه مخافة أن يقتل كما قتل الحلاج ، فهو يظهر أنه من أهل السنة، ولكن عندما يتأمل كلامه يتضح أنه من أهل الاتحاد، فلذلك يعامل معاملة المنافقين، وله كتاب مطبوع اسمه: فصوص الحكم، ظاهره أنه حكم وكلام جيد، ولكن عندما يتأملها ذو العقل وذو الفكر يعرف في أثناء كلامه ميله إلى الاتحاد، وإلى القول بوحدة الوجود، وإن لم يكن كلاماً صريحاً، وله قصيدة تائية مشهورة، يظهر منها القول بالوحدة، فمن ذلك قوله فيها يخاطب محبوبته: له صلواتي بالمقام أقيمها وأشهد عنها أنها هي صلتِ وهذه عقيدة أهل الوحدة، يقولون: إن كل شخص هو عابد ومعبود، يقول: فأنا أصلي لها وهي تصلي لي، وذلك أن في نظره أن الخالق متحد بالمخلوق، تعالى الله عن قولهم! وإذا كان هذا من المنافقين فإن أقوالهم أقوال باطلة، انظروا إلى مقالته التي يقول فيها: إن النبي صلى الله عليه وسلم مثّل الأنبياء بالبيت الذي أحكم بناؤه إلا موضع لبنة، يقول عليه السلام: (فكان الناس يدخلون ويقولون: ما أحسنه، لولا موضع هذه اللبنة، يقول: فأنا تلك اللبنة) يعني: أنه خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وابن(4/125)
العربي يقول: إن هذا البيت بقي فيه موضع لبنتين: لبنة من فضة وهي ظاهر الشرع، ويراد بها محمد، ولبنة من ذهب وهي باطن الأمر وهي خاتم الأولياء، ويرى نفسه أنه هو اللبنة من الذهب، فجعل نفسه لبنة ذهب، وجعل الرسول لبنة فضة، هذا معتقده، ويقول: إن الولاية لها خاتم كما أن النبوة لها خاتم. فكأنه يقول بلسان الحال أو المقال: أنا خاتم الأولياء ومحمد خاتم الأنبياء، ويجعل نفسه أفضل؛ لأنه يجعل نفسه باطن الأمر وسرّه، والرسول ظاهره وعلنه، هذا هو معتقدهم، وعلى هذا ماذا نقول في ابن عربي وأمثاله كابن سبعين و ابن الفارض و الحلاج الاتحاديين وأشباههم؟ نقول فيهم: إنهم يتسترون بأنهم مسلمون، ويقولون كلمات فيها شيء من الحِكم، وفيها شيء من العلم المحكم، ويعجب الناس من كلماتهم، وتعجبهم صياغتها، ويعتقدون أنهم أولياء لله، ويعتقدون علمهم وفضلهم وأقدميتهم؛ فلأجل ذلك يصبحون مقدسين محبوبين عند العامة والخاصة، ولم يتفطنوا بأسرارهم، ولم ينظروا في دواخل أمرهم، ولم يتأملوا فيما يستنبط من كلامهم السيئ، ولو تأملوه وتعقلوه لعرفوا أنهم منافقون، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، وهذا هو شأن المنافقين، فإن المنافقين يظهرون أنهم مسلمون كما قال الله: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14]، وهؤلاء إذا خلا بعضهم إلى بعض فإنهم يبدون لأوليائهم ما كان لديهم من العلوم، ولكن إذا لقوا عامة الناس أخذوا يمدحون الإسلام، وأخذوا يمدحون أنفسهم بالاتباع ونحو ذلك، إذاً: فهم منافقون. المنافقون في العهد النبوي لما أظهروا الإسلام وأخفوا الكفر، ولم يطلع الرسول ولم يطلع المسلمون على شيء من أسرارهم، عاملوهم معاملة المسلمين، فكانوا يأخذون منهم الصدقات والزكوات ونحوها مع أنهم كفار، وكانوا يصلون على من(4/126)
مات منهم إذا لم يظهر لهم نفاقه، ولم يقاتلوهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخشى أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه!)، وكانوا أيضاً يغزون مع المسلمين، وإن لم يكونوا يريدون بذلك الأجر، بل كما أخبر الله عنهم في قوله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة:47]، وفي قوله: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:61]، وسماهم الله المرجفين فقال: وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ [الأحزاب:60]، ومع هذه كله لم يقتلهم، بل أجرى أمرهم على الظاهر، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، وقبل كلامهم لما حلفوا، وأخبر الله أن حلفهم كذب في قوله: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة:96] .. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التوبة:62] .. سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ [التوبة:95]، ومع ذلك لم يقاتلوهم بناءً على ما ظهر، فهكذا يقال في هؤلاء المنافقين من أهل الاتحاد، الذين يدعون أن الخالق عين المخلوق، تعالى الله عن قولهم. لا شك أن لهم أقوالاً بشعة، لا يجرؤ أحدنا أن يحكي أقوالهم، يقول بعض العلماء: إنا لنستطيع أن نحكي أقوال اليهود والنصارى ولا نتجرأ أن نحكي أقوال هؤلاء؛ لبشاعتها، وقد رد عليهم العلماء. ......
ظهور مذهب أهل وحدة الوجود
…(4/127)
أهل وحدة الوجود في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية تمكنوا وظهروا وكثروا، وكثر أتباعهم وأعوانهم، فلا جرم رد عليهم بعدد من رسائله، فكتب رسائل في الرد على أهل وحدة الوجود، لما سئل عن أحوالهم، ولما رفع إليه كثير من أشعارهم في ذكر مقالاتهم التي تبين ما هم عليه من العقائد: سواء كان نظماً صريحاً، أو نظماً خفياً، وكان من آثار رده عليهم أن حذر الناس منهم، ووقعت بينه وبينهم مناظرات في ملطة، وفي دمشق، وظهر عليهم وغلبهم، حتى أنهم مرةً جاءوا ليناظروه، وقالوا: نحن أولياء الله، ومن علامة ولايتنا: أننا لو دخلنا في هذه النار التي تشتعل لم تحرقنا، فجاء إليهم شيخ الإسلام وأخذ يناظرهم، ويحتج عليهم بالأدلة، ويقول: أنا أدخل وإياكم في هذه النار، وننظر أينا يحترق، ولكن اغسلوا جلودكم بالصابون وبالسدر وبالمزيل الذي يزيل ما فيها، وكان قد عرف أنهم يطلون جلودهم بأنواع من أدهان بعض الدواب التي لا تحرقها النار، فإذا دخلوا في النار لم تحترق أجسادهم لذلك الدهن الذي عليها، فلما قال لهم ذلك امتنعوا، وظهر بذلك دجلهم وكذبهم. وعلى كل حال كتب فيهم عدة رسائل، وحذر منهم العلماء بعده وقبله، وبهذا يعرف أن هذا المذهب هو كرب الأولياء، وأن قول الاتحاديين: الأولياء أفضل من الأنبياء قول باطل. هناك من أولياء الله من خصهم الله تعالى بأنواع من الكرامات، ولا ننكر أن من خيار عباد الله، ومن الأتقياء الأنقياء من أجرى الله على أيديهم كرامات وخوارق عادات، تدل على قربهم وعلى أفضليتهم، وعلى أنهم مستجابة دعوتهم، وقد ألفت كتب في كرامات الأولياء، سواء في تراجم بعضهم أو في نفس الوقائع التي تقع، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جانباً كبيراً منها في كتابه الذي ذكرنا: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فذكر كرامات كثيرة لبعض الصالحين، من أراد معرفتها قرأها، وسيجد فيها أن الله تعالى تفضل عليهم واستجاب دعوتهم، وأعطاهم طلبتهم، والشيخ(4/128)
ابن رجب رحمه الله له كتب كثيرة تتعلق بالرقائق وبالرغائب، مثل: استنشاق نسيم الأنس، وكلامه على الشهادة في شرح العروة الوثقى، وكذلك كتابه الكبير الذي هو جامع العلوم والحكم، وقد تعرض لذكر الأولياء والصالحين، وذكر أشياء من كرامتهم التي تجري على أيديهم، والتي تدل على أنهم من المتقبلين، ولما تكلم على حديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) إلى قوله: (وما ترددت عن شيء ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن) ذكر وقائع تدل على أن بعض أولياء الله وبعض عباد الله الصالحين يكون موتهم بسهولة، بحيث لا يشعرون أو لا يحسون بالموت؛ وذلك تسهيلاً عليهم، وأشباه ذلك. وكذلك أيضاً أبو نعيم ألف كتابه: حلية الأولياء، وهو مطبوع في أربعة مجلدات كبيرة، وهو ثمانية أجزاء، ذكر فيه الأولياء، ولكنه توسع في تراجم العلماء ونحوهم، ويذكر بسنده بعض الوقائع وإن كانت ضعيفة لم تثبت، وبهذا ونحوه يعرف أن أولياء الله تعالى هم الصالحون من عباده، كما أن أولياء الشيطان هم الأشقياء الذين خرجوا عن طاعة الله، وابتلوا بطاعة الشيطان.
شرح العقيدة الطحاوية [92]
كرامات الأولياء حق، وهي من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن يجب التفريق بين الكرامات والحيل الشيطانية التي يقوم بها بعض المشعوذين.
التصديق بكرامات أولياء الرحمن
…(4/129)
من عقيدة أهل السنة: التفاضل الذي ذكره الله تعالى بين العباد، فأفضل الخلق هم رسل الله، وكذا ملائكته المقربون، وكذا عباده الصالحون. ومن عقيدة أهل السنة: أنه لا يكون أحد أفضل من الرسل والملائكة من بقية البشر، وخالفت في ذلك الصوفية، فقدموا الأولياء على الأنبياء، ففضلوا الولي على النبي، ومعلوم أن الولي بشر من جنس بني آدم، وأنه لم يخرج عن البشرية، ولم يخرج عن كونه آدمياً، وكذلك أيضاً لم يصل إلى رتبة الأنبياء، فلم ينزل عليه الوحي، لا وحي إلهام، ولا وحي بواسطة ملك، وإن كان قد يجري الله على يديه شيئاً من الكرامات: إما لفضله، وإما لحاجته، وإما لإقناع خصم.. أو نحو ذلك. وأولياء الله تعالى هم عباده الصالحون المؤمنون المتقون، فهؤلاء كلهم أولياء الله؛ لقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، فكل المؤمنين المتقين أولياء لله، ولكنهم يتفاوتون في الإيمان، ويتفاوتون في التقوى، وبعضهم أقوى إيماناً من بعض، وأقوى تقى من بعض، فيكون له ميزة وفضيلة على غيره، فيحصل على الرفعة والقرب، وتحصل له أيضاً كرامات يجريها الله على يديه. شيخ الإسلام ابن تيمية ألف كتابه المشهور: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ وذلك لأنه كثر في زمانه الذين يفضلون الأولياء، ويجعلون لهم صفات يتحلون بها، وكل من جرت على يديه كرامة اعتقدوه ولياً، وقد ذكر رحمه الله في هذا الكتاب أنواعاً من الكرامات التي جرت على أيدي بعض الصالحين، ومن تلك الكرامات وخوارق العادات: أن فلاناً -وسماه- كان قد أصيب بالفالج، الذي هو موت وعيب أحد جانبيه، سأل ربه أن يطلق أعضاءه وقت الطهارة والصلاة فاستجاب الله دعاءه، فكان كلما دخل وقت الصلاة قام كأنه أنشط الناس، وتوضأ وصلى، فإذا انتهى من الصلاة رجعت أعضاؤه إلى خدرها وإلى موتها بحيث لا تتحرك! وهكذا قصة(4/130)
الذي كان غازياً، وكان راكباً على حمار، فمات حماره، فسأل ربه أن يحييه له حتى لا يقبل منة أحد، فأحياه الله له، فركبه وحمل عليه متاعه، ولما وصل إلى أهله وأنزل متاعه عنه، قال: يا بني! خذ ما على الحمار فإنه عارية، فبمجرد ما أخذ ما عليه مات الحمار! وكان إحياؤه له كرامة له. وأما الذين استجيبت أدعيتهم، فأكثر وأكثر: منها: أن سعيد بن جبير كان عنده ديك يوقظه للصلاة، فذات ليلة ما صاح الديك، فلما أصبح دعا عليه وقال: ما له قطع الله صوته، فلم يصح الديك بعدها بقية حياته، فقالت أمه: يا بني! لا تدع على أحد فتصيبه دعوتك! فهذه دعوة رجل صالح. ووقعت قصص كثيرة من بعدهم، ومن قرأ الكتب التي كتبت في تراجم عباد الله الصالحين وقصصهم يجد منها عجائب، مثل كتب ابن رجب رحمه الله، كشرح الأربعين الذي يسمى: جامع العلوم والحكم، فإنه يذكر فيه عجائب من جنس هذا، منها قصة ذلك الرجل الذي ذهب ليشتري لأهله من بلاد بعيدة قمحاً، فلما لم يكن عنده ثمن، ولم يجد من يقرضه، ولا من يبيعه بدين رجع وليس معه شيء، فلما أقبل على أهله، مر بكثيب رمل، فقال: لماذا لا آخذ من هذا الرمل في أكياسي حتى لا يقال: رجع خائباً، فلما أنزل تلك الأكياس التي فيها ذلك الرمل، جاءت امرأته وفتحت أحدها، ووجدته قمحاً طيباً أحسن ما يكون، فطحنت منه وخبزت، فسألها: ما هذا الخبز الذي أجد رائحته؟ فقالت: من البر الذي أتيت به، فحمد ربه أنه لم يخيب سعيه، وكان ذلك البر غاية في الجودة، بحيث إنهم إذا بذروا منه تخرج الزرعة من أصلها إلى فرعها كلها سنابل من أحسن ما يكون، استجابة لدعوة ذلك الرجل الصالح! وذكر لنا بعض الإخوان: أن بلاداً فيها بعض الرافضة وبعض السنة، فكان الرافضة إذا جاع الطفل يقولون له: ادع علياً حتى يعطيك طعاماً، فإذا دعا علياً قربوا له تمراً وخبزاً، وقالوا: هذا جاءك به علي ، فأهل السنة قالوا: نعود أبناءنا على أن يدعو ربهم، فإذا جاع الصبي قالوا: ادع ربك(4/131)
يا ولدي حتى يعطيك طعاماً، فإذا دعا ربه، قالوا له: ائت ذلك المكان أو خذ الطعام من تحت ذلك الطبق تجد فيه طعاماً من ربك، فيذهب إليه ويجده، فذات يوم غفلوا عنه، فجاء الطفل ولم يعدوا له طعاماً، وكان قد اعتاد الدعاء، فاستقبل القبلة وقال: يا رب! هيئ لي طعاماً آكله في هذا الوقت، فذهب فكشف الطبق وإذا فيه خبز من أحسن الخبز، فأكله حتى شبع، فجاء أهله وقد أسفوا على أنهم لم يجعلوا له طعاماً، فقالوا: من أتاك بالطعام؟! قال: دعوت ربي فجاءني بطعام كما كنت أدعوه، فهذه كرامة وآية من آيات الله. ولا شك أن أمثال ذلك كثير، يجريه الله تعالى على أيدي الصالحين من عباده. ......
الفرق بين الكرامات والحيل الشيطانية
…(4/132)
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب: أن أولياء الشيطان يجري الشيطان على أيديهم مخارق يموهون بها على الناس، ويوهمونهم أنها كرامة، وهي حيل شيطانية، وسماها رحمه الله بالأحوال الشيطانية، وذكر أمثلة من ذلك، وربما تحفظون من قصص السحرة وأولياء الشيطان الشيء الكثير، فبعضهم تحمله الشياطين وتقطع به مسافات طويلة، ومنها أن الشياطين أو مردة الجن يتمثلون لأوليائهم بصور وبأشكال مختلفة، وأنهم قد يقربون لهم الأشياء البعيدة، ولا شك أن تلك الأحوال الشيطانية إنما هي من وحي الشيطان. ومن ذلك الأعمال التي تسمعونها عن السحرة، وأنهم يفرقون بين المجتمعين، ويجمعون بين المتعاديين، وأنهم يوقعون الوحشة والبغضاء، وأنهم ربما قلبوا هذا حيواناً، وهذا إنساناً، وما أشبه ذلك؛ فهذه أحوال شيطانية، ولا نقول: إنها كرامات، ولا أنها خوارق عادات، ولكنها من وحي الشيطان أو من عمله، فإن الشيطان يتلبس بتلك الأرواح، فيقلب الروح ويغيّر هيئتها إلى حيوان أو إلى جماد، أو إلى ما أشبه ذلك، فتكون هذه المخارق تجري على أيدي أعداء الله الذين هم عبدة الشياطين. إذاً: فرق بين الأحوال الشيطانية التي تجري على أيدي أولياء الشيطان، وبين الكرامات وخوارق العادات التي تجري على أيدي أولياء الرحمن، والفرق بينهما: أن هذه خوارق وكرامات يجريها الله على يدي هذا العبد الذي هو من عباد الله الصالحين، والذي ظاهره من أحسن الظواهر: عمله عمل حسن، ودعاؤه مستجاب، وأكله حلال طيب، ورزقه وكسبه من أحسن الكسب وأبعده عن الخبيث، مقيم لعباداته، محافظ على صلواته وزكواته، مبتعد عن المشتبهات وعن المحرمات، متمسك بالشريعة، مؤمن بالله إيماناً قوياً ظاهراً وباطناً، مطبق لشريعة الله، تالٍ لكتابه، متبع للسنة، بخلاف أولياء الشيطان، فإنهم وإن تظاهر بعضهم بالإيمان والإسلام، ولكن باطنهم يعرفه المتبصرون: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]، فالمتبصر(4/133)
يعلم خبث طواياهم، ويعلم خبث أفعالهم. وإلى الآن نجد في هذه البلاد كثرة السحرة الذين يعملون هذه الشعوذة وهذا السحر، بحيث إنهم يزوِّرون، ويقلبون أمام الأعين الحقائق حتى يخيل إلى من ينظر إليهم أن هذا شيء وهو ليس بشيء، أو ما أشبه ذلك، وهذا فعلهم قديماً، ولكنهم كثروا في هذه البلاد في هذه الأزمنة بسبب توافد الأعداء الكفرة أو نحوهم، فشاع هذا السحر وكثر، وهو في الحقيقة عمل شيطاني، ويشتكي الكثير من الناس مما يجدون في صدورهم من الوحشة من أنفسهم وأهليهم، وكذلك يشتكون من تسلط الجن عليهم، فيضربون الأبواب عليهم، ويحرقون شيئاً من الأمتعة وهم لا يرون من يحرقها، ورفع الأصوات، وضرب الأبواب والنوافذ ونحوها، ولا يدرون من يفعل ذلك، وما هو إلا الجن أو الشياطين الذين سلطهم أولئك السحرة عليهم، وكذلك تلبس الجن بأناس من الصالحين بواسطة ذلك الكاهن أو ذلك الساحر الذي سخر بسطوته عدداً من الجن، بحيث إنه ينفذ هذا لفلان وهذا لفلان، فهؤلاء أولياء الشيطان، وتشاهدون أو تسمعون أن هناك عباداً لله صالحون مصلحون، نياتهم حسنة، وأعمالهم صالحة، حفظة لكتاب الله، عاملون بشريعة الله، رزقهم الله قوة الإيمان وصفاء القلوب، وكان من عملهم أن كشف الله لهم عن هؤلاء السحرة وأعمالهم، فصاروا يعرفون أن هذا الشخص ساحر، وهذا كاهن، وهذا قد عمل كذا وكذا، ويعالجون المسحورين والمصابين بهذه الأمراض الشيطانية ونحوها بالقراءة وما أشبهها. ذكر شيخ توفي قريباً رحمه الله أن أخاً له أو عماً له كان من حفظة القرآن، ومن العاملين به، ومن المطبقين للشريعة، ومن الذين نبت لحمهم على طعام طيب، ولم يتعاطوا شيئاً من المشتبهات؛ كان إذا قرأ على المريض مرة أو مرتين شفي بإذن الله، وكان إذا أتي بكأس ليقرأ فيه نفث فيه نفثتين أو ثلاث نفثات؛ امتلأ ذلك الكأس ولو لم يكن فيه إلا قليل من الماء! ثم إذا شربه ذلك المريض شفي بإذن الله، وهذا من آثار الإخلاص وقوة(4/134)
الإيمان، وذُكر لنا أمثال هذا كثيرون، وهؤلاء نقول: إنهم من أولياء الله الصالحين، الذين نحسبهم -والله حسيبهم- عملوا بالشريعة، فأجرى الله على أيديهم هذا الشفاء، وهذا الأثر الطيب، وبضدهم الكهنة والسحرة الذين تجري على أيديهم تلك الشعوذة وتلك الأحوال الشيطانية، فهولاء أولياء الشيطان، وأولئك أولياء الرحمن.
الفرق بين الكرامة والمعجزة
…
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم. فالمعجزة في اللغة: تعم كل خارق للعادة، وكذلك الكرامة في عرف أئمة أهل العلم المتقنين، ولكن كثيراً من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما، فيجعلون المعجزة للنبي، والكرامة للولي، وجماعها: الأمر الخارق للعادة. فصفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وهذه الثلاثة لا تصلح على الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50]، وكذلك قال نوح عليه الصلاة والسلام، فهذا أول أولي العزم، وأول رسول بعثه الله إلى الأرض، وهذا خاتم الرسل وخاتم أولي العزم، وكلاهما تبرءا من ذلك؛ وهذا لأنهم يطالبونهم تارة بعلم الغيب كقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [الأعراف:188]، وتارة بالتأثير كقوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90] ، وتارة يعيبون عليهم الحاجة البشرية كقوله تعالى: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7]، فأمر الرسول أن يخبرهم بأنه لا يملك ذلك، وإنما ينال من تلك(4/135)
الثلاثة بقدر ما يعطيه الله، فيعلم ما علمه الله إياه، ويستغني عما أغناه عنه، ويقدر على ما أقدره عليه من الأمور المخالفة للعادة المطردة أو لعادة أغلب الناس، فجميع المعجزات والكرامات ما تخرج عن هذه الأنواع. ثم الخارق إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين كان من الأعمال الصالحة المأمور بها ديناً وشرعاً، إما واجب أو مستحب، وإن حصل به أمر مباح كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكراً، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه كان سبباً للعذاب أو البغض، كالذي أوتي الآيات فانسلخ منها بلعام بن باعورا لاجتهاد أو تقليد، أو نقص عقل أو علم، أو غلبة حال، أو عجز أو ضرورة، فالخارق ثلاثة أنواع: محمود في الدين، ومذموم، ومباح؛ فإن كان المباح الذي فيه منفعة كان نعمة، وإلا فهو كسائر المباحات التي لا منفعة فيها. قال أبو علي الجوزجاني : كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة. قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا أصل كبير في الباب، فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا بالسلف الصالحين المتقدمين، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات، فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهماً لنفسه في صحة عمله، حيث لم يحصل له خارق، ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة يقيناً؛ فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج عن دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة، ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحاً، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسداً، فالأحوال يكون تأثيرها محبوباً لله تعالى تارة، ومكروهاً لله أخرى، وقد(4/136)
تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن، وهؤلاء يشهدون بواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم أنه كرامة من الله له، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إنما الكرامة لزوم الاستقامة، وأن الله تعالى لم يكرم عبداً بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وأما ما يبتلي الله به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء، فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه، بل قد سعد بها قوم إذا أطاعوه، وشقي بها قوم إذا عصوه، كما قال تعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر:15-17]]. سمعنا أن الكرامة هي أمر خارق للعادة، مستغرب عجيب صدوره، وأنه إذا جرى على أيدي الأنبياء سمي معجزة، وقد ذكر العلماء معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم: منها: أن الجذع حنّ له لما ترك الخطبة عليه، وهو جماد. ومنها: أنه الحصيات سبحن بيده وهن جماد. ومنها: أن حجراً كان يسلم عليه إذا مر به، وهو حجر يعرفه. ومنها: أن الماء القليل يزيد إذا غمس فيه يده حتى يشرب منه الخلق الكثير، ويملئوا منه قربهم، ويتوضئوا منه. ومنها: تكثير الطعام خبزاً أو لحماً، كما ورد ذلك في أدلة كثيرة. فهذه معجزات، لا يقدر البشر على مثلها، ويعلمون أن الله أجراها على يديه، ليعلم أنه رسول من الله صادق.
من كرامات الصحابة
…(4/137)
الكرامات التي تجري على أيدي الصالحين من عباده وقع كثير منها لبعض الصحابة، كالنصر والتأييد لهم في الوقائع التي يقلّ فيها عددهم، ويكثر عدد عدوهم، فإذا دعوا ربهم وسألوه استجاب لهم، ونصرهم وخذل عدوهم، وقد ذكروا من ذلك وقائع: منها: أن عمر كان يخطب، فبينما هو يخطب جرى على لسانه: يا سارية الجبل! يا سارية الجبل! وكان سارية أميراً لجيش يقاتل في بلاد الشام، وكان في ذلك الوقت قد حمي القتال، وسمع الصوت من بعيد ولا يدري أحد ما مصدره، فقال لأصحابه: لوذوا بالجبل، واجعلوه خلف ظهوركم حتى تغلبوا عدوكم، فانتصروا بإذن الله. وذكروا: أن رجلاً جاء إليه، فقال: ما اسمك؟ قال: جمرة ، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب ، فقال: من أي قبيلة؟ فقال: من بني ضرام من الحرقة، فقال: ما أظن أهلك إلا قد احترقوا، فوجد الأمر كذلك، فهو سمع أن اسمه يدور حول هذه الأمور: حرارة وشهب وجمر.. ونحو ذلك. ولما قتل عثمان رضي الله عنه كان أول قطرة منها وقعت على المصحف على قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة:137]، فقال الصحابة: لا بد أن ينتقم الله من هؤلاء، وأن ينتصر الذين يحمون له، واستنبط ابن عباس من قوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33] أن معاوية ومن معه سينتصرون؛ لأنهم يقاتلون لأجل قتل مظلوم وهو عثمان ، فصار ذلك سبباً لانتصارهم، وأمروا ألا يسرفوا في القتل. ومن الكرامات ما جرى على يدي بعض الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأسيد بن حضير وعباد بن بشر صحابيان من الأنصار، خرجا مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة شديدة الظلمة، فأضاء لهما طرف سوط أحدهما نوراً يشع أمامهما في ذلك الظلام وفي تلك الطرق الضيقة، حتى إذا افترقا وذهب كل منهما إلى داره، افترق النور بينهما مع هذا شعبة، ومع هذا شعبة، إلى أن دخل كل(4/138)
منهما على أهل بيته، وذلك كرامة لهما. وكان أسيد بن حضير مرة يقرأ في سورة الكهف، فلم يشعر إلا وسرج أمثال المصابيح قد نزلت عليه، وكان فرسه مربوطاً، فلما أحس بتلك الأنوار التي نزلت من السماء حاس الفرس وتحرك، فأسرع بالصلاة، وكان ابنه قريباً من الفرس فخشي عليه، فلما انصرف من الصلاة ورفع رأسه وإذا تلك المصابيح قد ارتفعت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ يا ابن حضير فتلك الملائكة نزلت لقراءتك) .
الكرامات لا تدل على الأفضلية
…(4/139)
ذكر العلماء أن الكرامات للتابعين أكثر منها في الصحابة، وذكروا أمثلة كثيرة وجدت في عهد كثير من التابعين ومن بعدهم، ولا شك أنها دالة على صلاحهم أو حاجتهم، ومع ذلك فالكرامة لا تدل على أفضيلة ذلك الشخص الذي جرت على يديه، فإذا قلنا -مثلاً- : لماذا لم تجر على يدي أبي بكر مثل ما جرى على يد عمر وعثمان وعلي ونحوهم؟ نقول: ليست الكرامات دليلاً على الأفضلية، وإنما هي إما لحاجة الذي جرت على يديه، وإما لمناسبة، وإما لقطع حجة خصم أو نحو ذلك؛ ولأجل ذلك لا نقول: إن الصحابة مفضولون حيث إن الكرامات فيهم قليلة، وهي في التابعين كثيرة. وعلى كل حال فالكرامات هي: الأمور التي تجري على أيدي بعض الأولياء من عباد الله الصالحين المؤمنين خارقة للعادة كالأمثلة التي ذكرنا قبل قليل، وهذه الكرامات لا شك أنها دليل على صلاحهم وحسن استقامتهم وديانتهم، ومع ذلك يستدل بها كثير من العلماء -كابن كثير رحمه الله في التاريخ- على أنها معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن هؤلاء ما حصلت لهم هذه الكرامات إلا باتباعهم لهذا النبي الكريم، فلما كانوا متبعين له سائرين على نهجه وطريقته حصلت لهم هذه الكرامات. ذكروا عن أبي مسلم الخولاني أنه غضب عليه الأسود العنسي ، فأوقدوا له ناراً وألقوه فيها، وصارت عليه برداً وسلاماً، وخرج ولم يحترق، فلما وفد إلى عمر رضي الله عنه قال: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله، وأمر الصحابة أن يسلموا عليه كلهم، وأن يهنئوه. يعني: الصحابة الذين كانوا عند عمر . وكان العلاء بن الحضرمي قائداً لجيش في ساحل هذا الخليج الفارسي أو العربي، فحال بينهم وبين عدوهم البحر، فأرادوا أن يتبعوهم فلم يجدوا بُدَّاً من أن يخوضوا بخيولهم، فنزلوا في البحر وهم على خيولهم، ولم يفقدوا متاعاً أبداً، ولم يفقدوا شيئاً، وجعلت الخيل تسبح على البحر كما تسبح السفن، فلما رآهم الفرس قالوا: ما(4/140)
هؤلاء إلى شياطين! فهربوا، وأتى المسلمون إلى مكان العدو وانتصروا عليهم، ولم يفقد أحد منهم شيئاً من متاعه، وعدوا ذلك من كرامات ابن الحضرمي رحمه الله ورضي عنه. وهذه الكرامات من الله تعالى، وهو الموصوف بالعلم، يعلم حال عبده هذا، ويعلم حاجته، ويعلم إيمانه وطمأنينة قلبه، وهي من قدرة الله، فالله تعالى على كل شيء قدير، فهو الذي قدر هذا الأمر لهذا العبد، وأقدره على ذلك، وأجرى على يديه هذه الكرامة، وكذلك الله تعالى موصوف بالغنى، فهو الغني عما سواه، وهذه الكرامات دليل على أن الرب سبحانه هو الغني المغني الذي يعطي من يشاء ما يشاء بدون حاجة إلى أحد، فهذه الصفات التي هي العلم، والقدرة، والغنى، المتصف بها هو الله وحده، والكرامات لا تحصل إلا من الله الذي هو عليم بهذا العبد، وقادر على أن يعطيه، وغني لا تنقص خزائنه، ولا تحصل لأي بشر كما سمعنا في الآية التي استشهد بها الشارح، وهي قول الله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ [الأنعام:50] يعني: الخزائن عند الله تعالى وهو الغني المغني، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50] علم الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50] يعني: لا أقول لكم إني من الملائكة، بل إنما أنا بشر ضعيف لا قدرة لي إلا على ما أقدرني الله تعالى عليه. وهذه الأمور حكاها الله تعالى عن نوح، وأمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم. فكلما كان العبد أتقى لله كلما كان أقوم سبيلاً وأعرف بالله سبحانه، فإن ربه تعالى يجري على يديه عند حاجته ما يكون مقوياً لإيمانه. وعرفنا أنه ليس كل من جرت على يديه هذه الخوارق أو هذه الكرامات يتفوق على من لم تجر عليه، فلا نقول مثلاً: إن ذلك العابد الذي يقال له: سحنون ، ويحكون عنه كرامات، أشرف من الإمام الشافعي الذي لم تجر على يديه هذه الكرامات ولا بعضها، وكذلك بهلول و رابعة العدوية ، فيحكون في تراجمهم أشياء(4/141)
كثيرة من الكرامات ونحوها، ولا توجد تلك الكرامات في تراجم الأئمة: مالك و أبي حنيفة و محمد بن الحسن و شعبة بن الحجاج و الليث بن سعد والإمام أحمد والإمام الشافعي و إسحاق بن راهوية و يحيى بن معين و علي بن المديني و يحيى بن سعيد القطان وأشباههم من العلماء، لماذا لم تجر على أيديهم هذه الكرامات وقد جرت على أيدي أولئك العباد؟ نقول: لأن هؤلاء اكتفوا بما فتح الله عليهم من العلوم التي فيها العلم بالله وبشرع الله وبأحكامه وبأمره وبنهيه، فكانت مقوية لإيمانهم، فلا يحتاجون إلى أن يجري على يديهم كرامة، بخلاف سحنون وبهلول ورابعة وبشر بن الحارث والجنيد ومعروف وأشباههم فإن هؤلاء قد يكون في إيمانهم شيء من الرقة والضعف، فيجري الله على أيديهم أشياء من الكرامات؛ حتى يقوى إيمانهم، وحتى يثبتوا ويرسخوا، هكذا قال بعض العلماء، وإلا فلا مساواة بين العلماء الذين لهم مكانتهم في العلم ونحوه وبين العباد.
طلب الكرامات
…(4/142)
سمعنا ما حكاه الشارح أن بعضاً من الزهاد أو العباد إذا تنسك وتعبد فإنه يطلب من ربه أن يجري على يديه كرامة، ويحزنه إذا رأى فلاناً وفلاناً وسمع فلاناً وفلاناً جرت على أيديهم كرامات وخوارق عادات، فيبقى منكسراً، ويكثر من فعل الأسباب أو السؤال عن الأسباب التي تحصل له مثل هذه الكرامة، ويبقى حسيراً إلى أن يحصل على يديه شيء مما حصل على أيدي أمثاله. فنقول: إن الأولياء والصالحين من عباد الله وعلماء الشريعة وعلماء الأئمة لم يكونوا يهتمون بأمور الكرامات، بل قد تجري على أيديهم بدون أن يطلبوها، وهم لا يطلبونها، ولا يحزنون لعدمها، فلا يحزن لعدم جريان كرامة على يديه إلا ضعفاء الإيمان ونحوهم. وأما استجابة الدعاء فلا شك أن المسلم إذا دعا الله تعالى وأخلص في دعائه، ثم لم ير لدعائه أثراً فإنه يحزنه، ومع ذلك نقول له: لا تنقطع عن الدعاء، بل أكثر من دعاء الله تعالى، فإن دعوتك ولو لم تجب، ولو لم تر أثرها، فهذا لا يدل على أنك مردود، ولا تدل على أنك لست من أولياء الله، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم إذا دعا الله تعالى فإن ربه يعطيه بدعوته أحد ثلاثة أشياء: إما أن يعجل له دعوته وما طلب، وإما أن يدفع عنه من الشر مثلها، وإما أن يدخرها له في الآخرة، فلا يخيب أحد إذا دعا الله تعالى، فليس شرطاً أن تجاب دعوتك كلما دعوت الله سبحانه وتعالى، وليس كل من أجيبت دعوته يحكم عليه بأنه مستجاب الدعوة أو بأنه ولي من أولياء الله. وعلى كل حال نقول: إن هذه الكرامات وخوارق العادات التي يجريها الله تعالى على أيدي بعض عباده هي إما ابتلاء وامتحان، وإما لحاجة ألمت بهم، وإما لفضيلة وميزة حصلوا عليها، ولا تكون دائماً، بل قد يحتاج أحدهم إلى كرامة أو إلى إجابة دعوة فلا تحصل له؛ لبعض الموانع ولبعض الأسباب كغيرهم من بني الإنسان.
أقسام الكرامات
…(4/143)
قال الشارح رحمه الله: [ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام: قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة، وقسم يتعرضون بها لعذاب الله، وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات، كما تقدم. وتنوع الكشف والتأثير باعتبار تنوع كلمات الله. وكلمات الله نوعان: كونية ودينية: فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر)، وقال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وقال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام:115]، والكون كله داخل تحت هذه الكلمات، وسائر الخوارق. والنوع الثاني: الكلمات الدينية، وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي أمره ونهيه وخبره, وحظ العبد منها العلم بها والعمل، والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العباد عموماً وخصوصاً العلم بالكونيات والتأثر فيها، أي بموجبها. فالأولى تدبيرية كونية، والثانية شرعية دينية، فكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية. وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، إما في نفسه كمشيه على الماء، وطيرانه في الهواء، وجلوسه في النار، وإما في غيره، بإصحاح وإهلاك، وإغناء وإفقار. وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، إما في نفسه بطاعة الله ورسوله والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطناً وظاهراً، وإما في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله فيطاع في ذلك طاعة شرعية. فإذا تقرر ذلك، فاعلم أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيئاً من الكونيات: لا ينقص ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له، فإنه إن اقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، فإن الخارق قد يكون مع الدين، وقد يكون مع عدمه، أو فساده، أو نقصه.(4/144)
فالخوارق النافعة تابعة للدين، خادمة له، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال النافع بيد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فمن جعلها هي المقصودة، وجعل الدين تابعاً لها ووسيلة إليها، لا لأجل الدين في الأصل: فهو شبيه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب، أو رجاء الجنة، فإن ذلك مأمور به، وهو على سبيل نجاة، وشريعة صحيحة. والعجب أن كثيراً ممن يزعم أن همه قد ارتفع عن أن يكون خوفاً من النار أو طلباً للجنة يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا!! ثم إن الدين إذا صح علماً وعملاً فلابد أن يوجب خرق العادة، إذا احتاج إلى ذلك صاحبه. قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. وقال تعالى: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]. وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68]. وقال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:62-64]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75]) رواه الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقال تعالى فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:(4/145)
(من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه). فظهر أن الاستقامة حظ الرب، وطلب الكرامة حظ النفس، وبالله التوفيق. وقول المعتزلة في إنكار الكرامة: ظاهر البطلان، فإنه بمنزلة إنكار المحسوسات. وقولهم: لو صحت لاشتبهت بالمعجزة، فيؤدي إلى التباس النبي بالولي، وذلك لا يجوز، وهذه الدعوى إنما تصح إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدعي النبوة، وهذا لا يقع، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً، بل كان متنبئاً كاذباً، وقد تقدم الكلام في الفرق بين النبي والمتنبئ، وعند قول الشيخ: وأن محمداً عبده المجتبى ونبيه المصطفى. ومما ينبغي التنبيه عليه ههنا: أن الفراسة ثلاثة أنواع: إيمانية: وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده، وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب، يثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة، ومنها اشتقاقها، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحد فراسة. قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب، وهي من مقامات الإيمان. انتهى. وفراسة رياضية، وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان، ولا على ولاية، ولا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء، ونحوهم. وفراسة خَلقية، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم، واستدلوا بالخَلق على الخُلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله، كالاستدلال(4/146)
بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل، وبكبره على كبره، وسعة الصدر على سعة الخلق، وبضيقه على ضيقه، وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما وضعف حرارة قلبه ونحو ذلك]. وأهل السنة والجماعة يصدقون بكرامات الأولياء، وهي تعتبر كرامة لمن جرت على يديه، ولا تعتبر نقصاً فيمن لم تحصل له تلك الكرامة، وهناك من أنكر تلك الكرامات كالمعتزلة، فادعوا أنها لو حصلت لحصل الاشتباه بينها وبين معجزات الأنبياء، وبين العلماء أن الخوارق تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: معجزات، وهي تختص بالأنبياء، وليس في قدرة البشر أن يأتوا بمثلها، كمعجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، ومعجزات موسى وعيسى وغيرهم، وهي التي ذكرت في السنة، وحكيت عن الأنبياء في القرآن. القسم الثاني: كرامات أكرم الله بها بعض أوليائه الصالحين، ويعتبرها العلماء دالة على صدق نبوة الأنبياء؛ وذلك لأنها ما حصلت لهم إلا باتباعهم لأنبيائهم، فأتباع نبينا صلى الله عليه وسلم حصلت لهم كرامات؛ بسبب إيمانهم وتصديقهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وتمسكهم بشريعته، فكانت تلك الكرامات منة من الله عليهم، وتقوية لإيمان بعضهم، وقطعاً لحجة من خالفهم أو طعن في معتقدهم، وكذلك أجراها الله على أيديهم لإظهار الحق الذي هم عليه، وبيان صحة ما يدعون إليه، وكذلك أجراها الله للدلالة على أنهم على دين صحيح، وأن نبوته صلى الله عليه وسلم نبوة حق ليس فيها فرية ولا توقف، وقد ذكر العلماء جملة كثيرة من تلك الكرامات، وأفردت بالتآليف، وذكروا أن الله تعالى أجراها على أيديهم كما أجرى المعجزات على أيدي الأنبياء؛ للدلالة على أن كل النبوات من عند الله تعالى، فكما أن الله جعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً فكذلك من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلم عالم هو أبو إدريس الخولاني ألقي في النار ولم تضره، بل كانت عليه برداً وسلاماً، فكان في هذه الأمة من جرى له مثل ما جرى للخليل عليه(4/147)
السلام. وكذلك جعل الله البحر لموسى طريقاً يبساً -كما أخبر بذلك- فسلكه هو وقومه ولم تبتل ثيابهم ولا أقدامهم، وجرى مثل ذلك للعلاء بن الحضرمي ، حيث خاض البحر هو وجنده المقاتلون، ولم يفقدوا من متاعهم شيئاً، وكأن البحر يبس، فكانوا يسبحون فوقه دون أن يغرقوا فيه مع عمقه، وهذه كرامة للعلاء رحمه الله، وأمثال ذلك كثير. القسم الثالث: الأحوال الشيطانية التي تجري على أيدي السحرة والمشعوذين، وهذه الأحوال الشيطانية هي ما يتمكن منه السحرة من الصرف والعطف وتغيير الحقائق وقلب الأشياء، وكذلك ما يفعلونه من قطع المسافات، ومن حمل الأثقال، والطيران في الهواء، ونحو ذلك في زمن قصير، وهذه الأحوال تسمى أحوالاً شيطانية، وهي تجري بسبب خدمتهم للشياطين، فهم يتقربون إلى الشياطين وإلى مردة الجن بما يحبون، فتجري على أيديهم المخارق، والشعوذة، والتغيرات النفسية، ولكنها تبطل بإذن الله إذا عولجت بالآيات القرآنية والأدعية النبوية. فما يحصل من أعمال السحرة والمشعوذين ونحوهم، من صرف وعطف، وإلقاء بغضاء بين متحابين، وإلقاء تقابل قوي بين المتباغضين، وكذلك من تغيير لمزاج بعض الناس إذا عملوا له سحراً شيطانياً ونحو ذلك؛ فهذا لا يسمى كرامة ولا فضل فيه، بل هو من عمل الشياطين؛ وذلك لأن هؤلاء السحرة والكهنة ونحوهم يتقربون إلى الشيطان، ويذبحون له، ويطيعونه حتى يخدمهم ويطيعهم فيما يشيرون إليه، فتصير الشياطين والجن خدماً لهذا الكاهن الذي عبدهم وذبح لهم، وركع للشياطين وسجد، وأشرك بالله، فصار من خدمهم، فأصبح بذلك من أعوانهم، فهم يتلبسون به، وينطقون على لسانه، ويخبرون بالأشياء الغيبية والبعيدة ونحوها، وكذلك يخبرون بالغائب والمسروق وما أشبه
شرح العقيدة الطحاوية [93]
للساعة أشراط كبرى وصغرى، ومن أعظم علامات الساعة الكبرى نزول عيسى عليه السلام، وخروج الدجال، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج يأجوج ومأجوج.
الإيمان بأشراط الساعة
…(4/148)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها). عن عوف بن مالك الأشجعي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم فقال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر؛ فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) وروي: (رايغ) بالراء والغين، وهما بمعنى. رواه البخاري، وأبو داود، وابن ماجة، والطبراني. وعن حذيفة بن أسيد قال: (اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، فقال: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) رواه مسلم . وفي الصحيحين -واللفظ للبخاري - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينه، وإن المسيح الدجال أعور عينه اليمنى، كأن عينة عنبة طافية). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وأنذر قومه الأعور الدجال، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ومكتوب بين عينيه: ك ف ر) فسره في رواية : (أي: كافر). وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً(4/149)
عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيراً من الدنيا وما فيها)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159]، وأحاديث الدجال وعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ينزل من السماء ويقتله، ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه بعد قتله الدجال، فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة؛ ببركة دعائه عليهم، ويضيق هذا المختصر عن بسطها]. ......
نزول عيسى عليه الصلاة والسلام
…(4/150)
ابتدأ الطحاوي رحمه الله وكذا الشارح في ذكر أشراط الساعة، وأن أهل السنة والجماعة يصدقون بما ذكر منها في القرآن، وما ذكر منها في السنة في الأحاديث الصحيحة الثابتة التي لا تردد فيها، فأما ذكر المسيح ابن مريم وأنه يخرج في هذه الأمة، فورد في تفسير قول الله تعالى في سورة النساء: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159] أن معنى هذه الآية: أن من أهل الكتاب من يدركونه فيؤمنون به قبل موته، أي: إن منهم إلا سوف يؤمنون به، ومتى يؤمنون به؟ إذا خرج في آخر الدنيا؛ وذلك أنه ورد في الحديث خروجه فقال صلى الله عليه وسلم: (ليوشكن أن يخرج فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) فذكر له هذه الصفات: أنه يقتل الخنزير؛ وذلك لأن لحمه حرام، والنصارى يبالغون في أكله. ويكسر الصليب؛ لأن النصارى يعبدونه، ويدعون أن عيسى قتل وصلب عليه، فيعظمونه لأنه صلب عليه ربهم أو ابن ربهم! تعالى الله عن قولهم. وأنه يضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام أو السيف، وفي هذه الشريعة معلوم أن الكتابيين تقبل منهم الجزية ويبقون على دينهم، لكن عيسى في آخر الزمان لا يقبل الجزية، بل يقاتلهم إلى أن يسلموا أو يقتلوا، وينصره الله ويظهره، ويفيض المال في زمانه حتى لا يقبله أحد، أي: يكثر المال بأيدي الناس، وذلك ببركة ينزلها الله تعالى، ففي بعض الأحاديث: (أن الله تعالى يبارك في الرسل -يعني: في اللبن- حتى تكفي اللقحة الفئام من الناس، ويبارك في الثمار، حتى يأكل الجماعة من الرمانة ويستظلون بقحفها) يجعلون قحفها -يعني: غلافها- كخيمة يستظلون به، وذلك من آثار البركة.
خروج الدجال
…(4/151)
خروج الدجال من الأمور الغيبية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ووردت الإشارة إليه في القرآن؛ فكان من الإيمان بالغيب التصديق بخروجه؛ لأن الله مدح الذين يؤمنون بالغيب، أي: بما أخبروا به ولم يشاهدوه. ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات -وذكر منها- خروج الدجال) وهو الأعور الكذاب الذي يخرج في آخر الزمان، ويدعي أنه الرب، ويفتن به خلق، فيأتي إلى القرية فإذا عصته أصبحوا ممحلين، وإذا أطاعته أصبحوا منعمين، عقوبة وفتنة، ويدعو القرية الخربة فيتبعه ذهبها كيعاسيب النحل، واليعسوب هو: ذكر النحل الذي يتبعه بقية النحل. وأخبر عليه الصلاة والسلام أن هذا الدجال يبقى أربعين يوماً، ولكنها مختلفة، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وباقي الأيام كأيامكم، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك اليوم الطويل هل يكفيهم فيه خمس صلوات، فقال: (لا، اقدروا له) أي: اقدروا لكل صلاة ما بينها وبين الأخرى ثم صلوا. وكذلك أخبر أن الدجال يقتله المسيح ابن مريم بباب لد، وهو موضع في الشام، فإذا رأى المسيحُ ابن مريم الدجالَ ذاب كما يذوب الملح في الماء، فيقتله ويزول بذلك أثره، بعدما يفسد في الأرض. وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستعاذة من الشيطان، ويكثر أن يستعيد من أعوان الشياطين ومنهم هذا الدجال الذي هو المسيح الدجال المنتظر، فيقول: (إذا تشهد أحدكم فليعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال) أي: تقول: أعوذ بالله، أو: اللهم إني أعوذ بك وتذكر هذه الأربع في آخر التشهد، ومن جملتها المسيح الدجال، من شر فتنته ومن شر أذاه. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم ذكر له علامة، وهي: أنه أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، ومعروف أن العنبة إذا أخذ ماؤها بقيت ملتصقة قشرتها بعضها ببعض، فعينه حدقتها منطفئة، فهي ملتصق جلدها بعضه ببعض،(4/152)
مثل العنبة إذا أخذ ماؤها. وكذلك أخبر أنه مكتوب بين عينه: كافر، حروف مقطعة منفصلة: (ك) و (ف) و(ر)، يقرأها كل من نظر إليه من أهل الإيمان، وإن لم يكن قارئاً؛ حتى لا ينخدع به. ولكثرة الأحاديث التي وردت في الاستعاذة منه، وفي بيان شره؛ جعله العلماء من أشراط الساعة، وصاروا يحذرون من شره، ولكن مع الأسف أن بعض المعاصرين أنكروه لما رأوا أن الواقع لا يساعد عليه، فصاروا يتأولون الأحاديث التي وردت فيه، ويصرفونها عن ظاهرها، حتى قال بعضهم: إن المراد بالدجال الشرور التي تحصل في آخر الزمان، والمنكرات، وغفلوا عن قوله عليه السلام: (إنه أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية)، وغفلوا عن أنه يدعو الناس ويفتنهم، وأنه يسلط على البلاد كلها، ما عدا مكة والمدينة، فإن الله يجعل عليهما ملائكة يحمونهما منه، ولكن المدينة ترجف ثلاث رجفات، فيخرج إليه من كان منافقاً، وغفلوا أيضاً عن أوصافه التي وصف بها، من أن بين عينيه كافر، ومن أنه إنسان يجول ويتقلب في البلاد، وأنه يسير بسرعة السحاب، فيقطع الأرض بسرعة. هذا وكثير مما يكون معه من الخوارق هي من الأحوال الشيطانية، فإن هذه التي تجري على يديه أحوال شيطانية، حتى إنه يقطع الرجل قطعتين ثم يقول له: قم، فيقوم، وأنه إذا عصته أهل قرية أصبحوا ممحلين، قد جفت بلادهم، وإذا أطاعته بلدة أصبحوا في رفاهية ونعمة، وذلك دليل على أنه فتنة يخرجها الله للناس حتى يفتن بها العباد، فمن ثبته الله ورزقه علماً وبصيرة لم يزدد بأمره إلا بصيرة، ومن أراد الله فتنته فإنه ينخدع به. وقد أكثر العلماء من الكلام عن المسيح الدجال، وعن المسيح ابن مريم، وذكروا عليهما أدلة كثيرة، وقد تكلم ابن كثير رحمه الله عن ذلك في آخر تفسير سورة النساء عند قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، فأطال الكلام في ذكر المسيح ابن مريم ونزوله، والآيات التي تدل(4/153)
على خروجه، وذكر الأحاديث، واستقصى غالباً ما ورد في ذلك. وأما ذكر المسيح الدجال فذكره رحمه الله في النهاية التي في آخر تاريخه، أي: في ذكر أشراط الساعة، وأطال في ذلك، وكذلك ألفت كتب في ذلك كثيرة من العلماء المتقدمين والمتأخرين، ومن أوفى من كتب في ذلك الشيخ حمود التويجري في كتابه المشهور الذي يسمى: إتحاف الجماعة في أشراط الساعة، فإن الجزء الثاني كله يتعلق بالأشراط المذكورة في هذه الكلمات، وقد توسع فيها، وأورد كل ما وقف عليه أو يصله من إيراد، وهكذا غيره، فنؤمن بهذه الأشياء وإن لم نرها.
خروج دابة الأرض
…
دابة الأرض ذكرت في قول الله تعالى في سورة النمل: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]، وقد تكلم ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية عليها، وذكر الأدلة التي يمكن الاستدلال بها، والأحاديث التي وردت فيها، ولكن معلوم أن أكثر ما ذكر فيها لم يصح، مثل أنها دابة عظيمة، وأن طولها كذا وكذا، وأن معها عصا موسى، وأن معها خاتم سليمان، وأنها تجعل على المؤمن علامة الإيمان، وعلى الكافر علامة الكفر، حتى أن الناس يتبايعون بعد ذلك، فيقول هذا: يا مؤمن، وهذا: يا كافر، وما أشبه ذلك؛ فأكثر تلك الأحاديث لم تثبت، ولكن فيها أحاديث ثابتة، وفيها النص القرآني في هذه الآية: (( دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ )).
طلوع الشمس من مغربها
…(4/154)
طلوع الشمس من مغربها استدل عليه بقول الله تعالى في آخر سورة الأنعام: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158] قيل: إن هذه الآية التي إذا أتت لم ينفع أحداً إيمانه إذا لم يكن مؤمناً: طلوع الشمس من المغرب، وإذا طلعت يقول الناس: آمنا، فلا ينفعهم حينئذٍ إيمانهم، وفي ذلك الوقت يقرب انتهاء الحياة الدنيا، وتقرب قيام الساعة، وهذه علامة من العلامات، وقد استوفى أدلتها ابن كثير في آخر تاريخه في النهاية، وكذلك غيره ممن كتبوا في أشراط الساعة، وأنكرها في هذه الأزمنة من أنكر كثيراً من الغيبيات، وادعوا أنه لا يمكن أن تطلع الشمس من المغرب، فإن العادة جارية بأن الشمس تطلع من جهة مشرقها، ولا يتغير هذا الكون إلا تغيراً كلياً، وهذا على قول من يقول: إن الشمس ثابتة وإن الأرض هي المتحركة، ولكن هذا أيضاً يرد عليهم، والدليل الواضح يدل على أن الشمس تطلع من مغربها، وأن الناس إذا رأوا ذلك آمنوا، وحينئذ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
الدخان
…(4/155)
الدخان المذكور في هذا الحديث قيل: إنه المذكور في سورة الدخان في قول الله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11]، وقد ذهب بعض الصحابة: إلى أنه شيء قد مضى، ومنهم ابن مسعود ، قال: إن الدخان قد مضى، وأن المراد به الجوع الذي حصل لقريش لما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع سنين تصيبهم كسبع يوسف لما لم يطيعوه، فأصابتهم سنة، يعني: قحط، فتأخر عليهم المطر، حتى أكلوا الجلود، وصار أحدهم من شدة الجوع ينظر إلى ما بينه وبين السماء فينظر كهيئة الدخان من الغشاوة التي على أبصارهم، فكان ذلك هو الدخان الذي ذكر في هذه الآية: (( يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ))، وهذا تفسير ابن مسعود ، والجمهور: على أنه لم يأت، وأنه شيء يكون بين يدي الساعة، وأنه دخان حقيقي يغشى الكثير من الناس كما تغشاهم الرياح، وكما يغشاهم الغبار، بحيث يحول بينهم وبين نظرهم إلى السماء أو نحو ذلك، وأنه يعم البلاد، وهذا هو الذي ورد في بعض الأحاديث، وهو من جملة أشراط الساعة. وبكل حال يحتمل أنه الذي ذكره ابن مسعود ، وأنه ما حصل لقريش من الجهد حتى رءوا بينهم وبين السماء مثل الدخان، أو أنه شيء منتظر، والآية محتملة لذلك. كذلك أيضاً من أشراط الساعة ما ذكر في بعض الأحاديث من البطشة، ولكن قيل: إنها مضت، وقوله تعالى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى [الدخان:16] الصحيح أنها قد وقعت، وأنها غزوة بدر. وقيل: إن من أشراط الساعة اللزام المذكور في آخر سورة الفرقان: (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان:77]، وقيل: إن هذا اللزام هو القحط والعذاب الذي وقع بقريش لما لم يطيعوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه عذاب مستمر مستقبل، وسوف يحصل، ولعل الأقرب ما ذكر أنه ما نزل بهم من القحط الذي نزل بهم مدة طويلة، حتى هرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم،(4/156)
وطلبوا منه أن يدعو لهم، فدعا لهم، فرحمهم الله، وأزال عنهم القحط الذي نزل بهم.
بعثة النبي عليه الصلاة والسلام وموته
…
من أشراط الساعة التي ذكرت في الأحاديث: موت النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن بعثته تعتبر من أشراط الساعة، يقول الله تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1] أي: قرب، ويقول تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، ويقول: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1] أي: قرب وقت الحساب، وكل هذا دليل على قرب الساعة، وقال تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، ويقولون: إن من أكبر أشراطها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فموته بعد بعثته شرط من أشراط الساعة. أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث عن أشياء قد حصلت أو سوف تحصل ولا بد، فإخباره بالفتنة والهرج والخلاف الذي حصل بين المسلمين أمر قد وقع، وكذلك إخباره بالموتان قد حصل، وهو ما حصل في صدر الإسلام من الموت الذريع إما بسبب الفتن وإما بسبب الأمراض التي حصلت، فمات فيها خلق كثير، وهذا معنى قوله: (موتان)، يعني: موت ذريع كبير كثير.
فتح بيت المقدس
…
من أشراط الساعة فتح بيت المقدس، وقد فتحت في خلافة عمر رضي الله عنه، وقد غزا بنفسه إلى أن وقف عليها ففتحت بيت المقدس، ثم تغلب عليها بعد ذلك الإفرنج أثناء الحروب الصليبية، وبقي بأيديهم نحو مائة وثمانين سنة، ثم استعادها المسلمون وفتحت فتحاً مبيناً، واستولى عليها المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي، ثم في هذه الأزمنة استولوا عليها مرة ثانية، ولعل الله أن يعيد للمسلمين الكرة حتى يفتحوها ويعيدوها بلدة إسلامية كما أخبر بهذا الحديث في قوله: (فتح بيت المقدس).
الخسوفات الكبيرة
…(4/157)
الخسوف كثيرة، ولعل التي تكون من أشراط الساعة هي الخسوف الكبيرة، خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وقد يكون منها أيضاً الزلال التي تحصل في كثير من البلاد، وقد تكون من العقوبات التي يعاقب الله بها بعض عباده في بعض الأزمنة إذا حصل منهم ذنوب أو تهاون بحقوق الله تعالى وبحدوده.
نار تخرج من المدينة
…
أخبر صلى الله عليه وسلم: (أنه يخرج من المدينة نار شديدة الضوء، تضيء لها أعناق الإبل ببصرى) وهي من قرى الشام، وقد حصلت هذه النار في القرن السابع، فخرجت في الحرة التي في شرق المدينة نار شديدة الضوء ترتفع أكثر من عشرين متراً، لها لهب ولكنها لا تحرق السعف، وإنما تحرق الحجارة، تشتعل النار بالحجارة وتتقد بها، ويلقى فيها السعف والخوص فلا يشتعل، واستمرت أكثر من شهر في شرق المدينة، وانزعج الناس منها، وعرفوا أنها ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الأحاديث، وذكر أن أهل بصرى رأوا ضوءها، وأنهم رأوا أعناق الإبل في ظلمة الليل بواسطة ضوئها، فوصل ضوءها إلى تلك الأماكن البعيدة.
نار تخرج من قعر عدن
…
من أشراط الساعة نار تخرج من قعر عدن، أي: أنها تخرج من أقصى اليمن، فتحشر الناس وتسوقهم إلى محشرهم، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وهذه من آخر أشراط الساعة. وبكل حال فإن المسلم يصدق بما ورد في هذه الأحاديث من أشراط الساعة ويؤمن بها، وإن أنكرها بعض من استبعد وقوع ذلك، وادعى أن هذه أمثلة ضربت للتقريب أو تأولها بتأويلات بعيدة، فلا عبرة بقول المتأولين.
أول الآيات خروجاً
…(4/158)
قال رحمه الله تعالى: [وأما خروج الدابة وطلوع الشمس من المغرب، فقال تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]، وقال تعالى : هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام:158]. وروى البخاري عند تفسير الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل). وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريباً) أي: أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال، ونزول عيسى عليه الصلاة السلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بشر مشاهدة مثلهم مألوفة، وأما خروج الدابة بشكل غريب غير مألوف، ثم مخاطبتها الناس، ووسمها إياهم بالإيمان أو الكفر؛ فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية، وقد أفرد الناس في أحاديث أشراط الساعة مصنفات مشهورة، يضيق على بسطها هذا المختصر]. الدابة من الآيات التي ذكرت في الأحاديث التي مرت، وورد ذكرها في القرآن في هذه الآية في آخر سورة النمل: وَإِذَا(4/159)
وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ [النمل:82]، ووصف الدابة، وطولها، وما معها وارد في أحاديث. وأما طلوع الشمس من مغربها فذكر في الآية التي في آخر سورة الأنعام وهي قوله تعالى : هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، فذكرت أن هذه الآية إذا خرجت وحصلت لم ينفع أحداً إيمانه، وفي الحديث أن هاتين الآيتين: الدابة وطلوع الشمس متقاربتان، إذا حصلت إحداهما تبعتها الأخرى.
خروج يأجوج ومأجوج
…(4/160)
ذكر الشارح أن خروج عيسى ابن مريم، وكذلك الدجال قبل طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة، ومعلوم أنهم من جنس البشر، فلا يستنكر خروجهم، وإنما أخبر بخروجهم كأمر غيبي، ولكن ليعلم أنهم ولو كانوا من البشر لكن لهم شأن، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، وقد ورد ذكرهم في القرآن، قال تعالى في آخر سورة الأنبياء: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]، وقد أخبر الله تعالى أن ذا القرنين بنى دونهم حاجزاً منيعاً، وسداً شديداً، وهو المذكور في آخر سورة الكهف في قوله: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94] يعني: بناءً منيعاً يسد ما بيننا وبينهم حتى لا يتسلقوه ولا يصلوا إلينا، فعمل ذلك ذو القرنين وأمرهم أن يأتوه بزبر الحديد، أي: أكوام الحديد، ثم أوقد عليه، وقال: انفخوا، فلما أوقد عليها وذاب الحديد، جعله بين جبلين، فأصبح سداً منيعاً، وهو المذكور في قوله: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا [الكهف:96] إلى آخر الآيات، ثم قال: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [الكهف:98]. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سوف يحفرون هذا السد ويخرجون، وفي بعض الأحاديث عن زينب رضي الله عنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً فقال: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بين أصبعيه السبابة والإبهام، قالت زينب : يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) وأخبر أنهم إذا خرجوا يعيثون في الأرض فساداً؛ وذلك لأنهم خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله، فإذا خرجوا امتصوا ما على الأرض من البحيرات(4/161)
والأنهار، حتى يمروا على بحر طبرية، فيشربون ما فيه، ويقول آخرهم: لقد كان في هذا المكان مرة ماءٌ، ويكون ذلك في زمن عيسى، فيدعو عيسى الله تعالى عليهم، فيسلط الله عليهم عقاباً وهو دود يخرج في رقابهم، فيصبحون موتى كموت رجل واحد، فعند ذلك تنتن الأرض من زهمهم، فيرسل الله طيراً تحملهم وتلقيهم في البحار، وينزل مطراً، وتصبح الأرض كالصدفة قد طهرت، ثم ينبت الله النبات بعد ذلك المطر وينزل البركة.. إلى آخر ما ذكر في الحديث الذي في صحيح مسلم وغيره. هذه الأحاديث ثابتة في الصحاح، ورواها الأئمة بأسانيد ثابتة؛ ولذا اعتقد أهل السنة صحتها، وآمنوا بها، وإن قصرت العقول عن إدراك معانيها، فيفوضون كيفياتها كما يفوضون كيفيات الإيمان بجميع المغيبات.
شرح العقيدة الطحاوية [94]
إتيان السحرة من كبائر الذنوب، والسحرة كفرة، وقد حذر العلماء منهم، وبينوا حقيقتهم وما يجب على الولاة من منع شرهم، وكف الرعاع عن التردد إليهم.
بيان حقيقة الكهنة والتحذير من سؤالهم وتصديقهم
…(4/162)
قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً، ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة). روى مسلم والإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد). والمنجم يدخل في اسم العراف عند بعض العلماء، وعند بعضهم هو في معناه. فإذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسئول؟ وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن عائشة قالت: (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس عن الكهان؟ فقال: ليسوا بشيء فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة). وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث). وحلوانه: الذي تسميه العامة حلاوته. ويدخل في هذا المعنى ما يعاطاه المنجم وصاحب الأزلام التي يستقسم بها، مثل الخشبة المكتوب عليها (أ ب ج د) والضارب بالحصى، والذي يخط في الرمل، وما يعاطاه هؤلاء حرام. وقد حكى الإجماع على تحريمه غير واحد من العلماء، كالبغوي و القاضي عياض وغيرهما. وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، على إثر سماء كانت من الليل، فقال: أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب). وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى(4/163)
الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة). والنصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر الأئمة، بالنهي عن ذلك أكثر من أن يتسع هذا الموضع لذكرها]. قال الله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:221-223]، وفي الحديث: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: (ليسوا بشيء) يعني: كذبة، ليسوا على يقين، ولا على دين، فقال الناس: إنهم يحدثوننا بالأمر فيكون حقاً، فيقولون: في اليوم الفلاني يحصل مطر، أو رعد، أو صواعق، أو ريح، مع أنه قد يحصل في اليوم الفلاني أن يمرض فلان، أو يموت فلان، أو ما أشبه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك الكذبة تخطفها الشياطين فتلقيها على ألسنة الكهنة، فيزيدون فيها أكثر من مائة كذبة). وفي حديث أبي هريرة المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا سمع ذلك أهل السماء صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما يشاء، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر على سماءٍ سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقول الناس: أليس قد قال لنا: يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكذبة التي سمعت من السماء) يعني: أن الناس لا يعتبرون بمائة(4/164)
كذبة، ولكن يصدقون الكذب الكثير لتلك الكلمة التي اختطفها الجني من السماء، فيصدقونه بما يخبرهم به مما تلقيه عليه شياطين الجن. وهؤلاء الكهنة الذين هذا حالهم ما حكمهم؟ في صحيح مسلم عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، وذكر العلماء أنه إذا تاب وندم فإنها تجزيه ولا يعيدها، ولكن عقوبته على فعله أنها لا تقبل منه، سيما إذا أتاه وهو يقدسه، ويرفع مكانته، ويعترف بميزته أو بفضله، أو نحو ذلك. وعن عمران بن حصين وعن غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) وهذا أشد من الحديث الذي قبله، ولعل السبب أن هذا صدقه بكل ما يقول، صدقه في هذه المسألة وغيرها، واعتقد أنه صادق، وأن له ميزة وخصوصية، أو اعتقد أنه ملهم، أو اعتقد أنه ينزل عليه وحي، أو اعتقد أنه يعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فعقوبة هذا الذي صدقه في كل ما يقول أنه يحكم بكفره، فيحكم بكفر السائل للكاهن المصدق بكل ما قال. يقول الشارح رحمه الله: إذا كانت هذه حالة السائل، فكيف بحالة المسئول؟! الذي هو الكاهن، فإن كفره أشد، وخروجه من الإسلام أبعد وأبعد، فالسائل المصدق بما يقول حكم بكفره، قيل: معناه أنه كفر بما أنزل في أمور الغيب، وأن الغيب لا يعلمه إلا الله، فالأمور المغيبة علمها عند الله، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) يعني: لا أعلم المغيبات، وقال في آية أخرى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188]، وقال تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل:65]، فإذا كان(4/165)
حال نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) أي: لا أعلم ما في القلوب، ولا أعلم الأمور المغيبة، إنما الذي يعلمها الله وحده (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)؛ فكيف بحال غيره من هؤلاء المتكهنة ونحوهم؟! فهذا حكم السائل، وهذا حكم المسئول. ......
كسب الكاهن والمنجم والساحر خبيث
…
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخبث كسب الكهنة في قوله: (مهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث، وحلوان الكاهن خبيث) وحلوان الكاهن هو: ما يبذل له إذا أخبر، فإذا جاءه إنسان وقال: أخبرني بمكان دابتي التي فقدت، أخبرني بمكان مالي الذي سرق أو نحو ذلك، فيستوحي من شيطانه ويقول: دابتك في الشعب الفلاني، وعلامتها أن فيها كذا وكذا ونحو ذلك، فيعطى مالاً على إخباره، فهذا المال الذي أعطيه يعتبر خبيثاً، ونسميه سحتاً وأي سحت. وذلك لأنه أخذه على شيء محرم، وهو ادعاء علم الغيب. ويدخل في ذلك من يسمى بالمنجم، ومن يسمى بالعراف، وكذلك الساحر، فهؤلاء: الكاهن، والساحر، والعراف، والمنجم، والرمال، والضراب، ونحوهم؛ كلهم يتدخلون فيما لا يعنيهم، فأما الكاهن فهو الذي يدعي معرفة المغيبات، ويخبر عما في الضمير، يقول: هذا يحدث نفسه بكذا، أو يخبر بمكان مسروق، يقول: مالك المسروق في المكان الفلاني، في البيت الفلاني، فتخبره شياطينه. أما المنجم، فهو الذي يدعي علم الغيب بسير النجوم، يقول: علامة المطر أن يكون هذا النجم في المكان الفلاني في الليلة الفلانية فينزل مطر، أو ينزل برق، أو ما أشبه ذلك، وهذا بلا شك تدخل في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وكذلك ادعاء أن هذه النجوم هي التي تنزل المطر. وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه مرة في الحديبية، فلما انصرف من الصلاة -وكان قد أصابهم مطر في تلك الليلة- قال: (أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من(4/166)
عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا -النوء: النجم الذي ينوء أي: يطلع- فذلك كافر بي، مؤمن بالكوكب) أي: جعل الكوكب هو الذي يؤثر في الكون، وهو الذي يثير السحب، وهو الذي ينزل المطر، وذلك كله حق الله تعالى، فهو الذي ينفرد بذلك، يقول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف:57]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [الروم:46] يعني: تبشر بالرحمة وبالمطر، فيرسل الله الرياح فتثير السحاب، ويحمل الله السحاب ماء فيصرفه الله تعالى حيث يشاء، وينزله حيث يشاء: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا [الفرقان:50] صرفناه يعني: جعلنا المطر على هذه الأرض أكثر، وعلى هذه أقل، كيف يشاء الله تعالى. إذاً: فليس للكواكب تأثير، فمن ادعى أن النجوم لها تأثير فإنه ممن يتدخل فيما لا يعنيه، ويقول على الله تعالى بغير علم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) فالفخر بالأحساب: كون الإنسان يفتخر بآبائه وبأجداده الذين ماتوا، وقد ورد في الحديث: (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا أو ليكونن أهون على الله من الجعل)، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى). والطعن في الأنساب: هو العيب فيه، بأن يقول هذا ليس ابناً لفلان، أو ليس من آل فلان، أو نحو ذلك. والاستسقاء بالنجوم: هو أن يقال: مطرنا بنوء كذا وكذا، هذا النجم فيه كذا، وكان الجاهلية يقولون: هذا نوء كذا وكذا، والنوء: هو النجم الذي ينوء يعني: يطلع، فكذبهم الله فقال تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة:82] أي: الرزق الذي(4/167)
ينزله الله تعالى على عباده تجعلونه من غير الله، تجعلون رزقكم الذي سخره الله لكم ورزقكم إياه، تجعلونه منسوباً لغيره، فتنسبونه إلى النوء، وإلى النجوم، ولا شك أن النجوم مذللة ومسخرة.
من الكهانة الخط في الرمل وضرب الحصى والاستقسام بالأنواء
…
الرمّال هو الذي يخط في الرمل، ويدعي معرفة الغيب به، فإذا جاءه إنسان ليستشيره، وقال: هل أفعل هذا أم لا أفعل؟ هل أسافر في هذا اليوم أم لا؟ هل أتزوج هذه المرأة أم لا؟ هل أبيع هذه السلعة بهذا الثمن أم لا؟ يقول: دعني أخط لك، فيأتي بعصا، ويخط خطوطاً كثيرة في الرمل بسرعة حتى لا يعرف حسابها، ثم يرجع فيمحو اثنين اثنين اثنين اثنين حتى ينظر الباقي، فإن بقي خط قال: افعل، وإن بقي اثنان قال: لا تفعل، وهذا بلا شك تدخل في علم الغيب، ما هذه الخطوط؟ وما فائدتها؟ هي لا تدل على صواب، ولا على خطأ، وليست علامة على معرفة الأمور المستقبلة، ولا على صدق هذا، ولا على كذبه. ومثله أيضاً الضرّاب بالحصى، يجمع عنده حصىً كثيرة، فإذا جاءه إنسان يستشيره، يأخذ منها ويرمي ويرمي إلى أن يجعل حصىً كثيراً متراكماً، ثم يأخذ منه حجرين حجرين حتى ينظر هل يبقى واحد أم يبقى اثنان، فإن بقي واحد تفاءل، وإن بقي اثنان تشاءم، وهو قريب من فعل الرمّال الذي يخط في الرمل، وهؤلاء كلهم من الذين يتدخلون في الأمور الغيبية، ولا شك أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، وأنهم يدعون معرفة الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله. وكذلك المستقسم بالأزلام، وهي عبارة عن حجارة كان أهل الجاهلية يستقسمون بها، فأبطلها الإسلام، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، فجعلها رجساً، والرجس: هو النجس، وقال تعالى لما ذكر المحرمات: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3] إلى قوله: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا(4/168)
بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ [المائدة:3]، كان أهل الجاهلية يجعلون هذه الأزلام في كيس، فإذا أرادوا أمراً من الأمور استقسموا، فجاءوا إلى ذلك الكيس فنقضوه، ثم أخرجوا منه واحداً، فإن خرج الذي يقول له: افعل؛ فعلوا، وإن خرج الذي يقول: لا تفعل؛ تركوا، وإن خرج المهمل الذي ليس فيه شيء؛ أعادوا تقليبها مرة ثانيةً، وهكذا؛ فأبطل الله تعالى ذلك، وفي الحديث: (أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة، ورأى المشركين قد صوروا صورة إبراهيم وإسماعيل وهما يستقسمان بالأزلام، فدعا بماء فمحا الصورة، وقال: قاتل الله المشركين. والله ما استقسما بها قط) يعني: أن الله نزه إبراهيم وإسماعيل عن أن يعملا هذه الفعلة الجاهلية، فكل هذه من الأمور التي كان يفعلها المشركون، حتى الجهلة في هذه الأزمنة؛ ليتوصلوا بها إلى العلوم المستقبلة.
حكم الكهنة
…(4/169)
بعد أن عرفنا حال هؤلاء فنقول: على المسلم أن يعرف حكمهم، فهم كفرة فجرة ضلال، وقد حكم الشرع بكفرهم، فثبت في الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له) ومعنى (ليس منا): يعني ليس من المسلمين، (من تكهن) يعني: تعاطى الكهانة أو (تكهن له): يعني: ذهب إلى الكهان يطلب منهم الإخبار بأمر من الأمور. وفي هذه الأزمنة كثر هؤلاء في هذه البلاد، وقد كانوا قلة وأذلاء، والآن انتشروا، وانتشر السحر، وانتشر الكهان، وكثر شرهم، وكثر ضررهم، وإذا قيل: ما سبب فشوهم وكثرتهم وانتشارهم؟ فنقول: السبب -والله أعلم- قلة العلم الصحيح، وقلة الإيمان، وقلة الأعمال الصحيحة التي يبطل بها كيدهم، ويبطل بها عملهم؛ وذلك لأن الكهنة والسحرة والمشعوذين ونحوهم عملهم يتوقف على الشياطين، فالشياطين هي التي تمدهم، وهي التي تخبرهم، وهي التي تعمل لهم، وهي التي تحركهم، وترفع وتخفض فيهم، وتتكلم على ألسنتهم، وتلابسهم، وتخدمهم بما يريدون، ومتى تكثر الشياطين؟ إذا كثر الخبث، إذا كثرت المعاصي، إذا ضعف الإيمان، إذا كثر الزنا، وكثر الربا، وكثر الخنا، وكثر الغناء، وكثر الفساد، وكثر اللهو والباطل، وانشغل الناس بالشهوات، وقل الإيمان وضعف أهله، وضعف المتمسكون عن أن يقاموا هذه الأشياء؛ عند ذلك تستولي الشياطين وتستحوذ على أولئك، ويقل نزول الملائكة الذين يسددون المؤمنين، والذين يوفقونهم، والذين تنفر منهم الشياطين، فإن الملائكة كلما عمرت مكاناً هربت منه الشياطين، فإذا كثرت الشياطين لم يكن هناك ملائكة. إذاً: فشوا هؤلاء بسبب كثرة المعاصي التي تمكنت في كثير من البلاد، فكان من نتيجتها أن استحوذ الشياطين وأولياء الشياطين من هؤلاء السحرة والكهنة على هذه البلاد. ومعروف أن السحرة والكهنة يعبدون الشياطين، وقد حكم العلماء بكفرهم وبردتهم وبشركهم، وبينوا أنهم لا تقبل منهم التوبة، بل يبادر بأحدهم(4/170)
فيقتل، ولا يبقى لحظة واحدة، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (حد الساحر ضربه بالسيف)، وثبت أن عمر رضي الله عنه كتب إلى بجالة بن عبدة أن يقتلوا كل ساحر وساحرة، قال بجالة : فقتلنا ثلاث سواحر، وقد ثبت أيضاً أن حفصة بنت عمر رضي الله عنها -وهي إحدى أمهات المؤمنين- أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت؛ وذلك لأنها كانت دبرتها، يعني: علقت عتقها بموتها، فحرصت تلك الجارية على أن تموت سيدتها حتى تعتق، فعملت لها سحراً واعترفت، فأمرت بها فقتلت. وكذلك ثبت عن جندب الخير رضي الله عنه أنه دخل على أحد خلفاء بني أمية، وكان عنده كاهن أو ساحر، وكان ذلك الساحر يقطع رأس الإنسان ثم يرده والناس ينظرون؛ وذلك لأنه يشعوذ ويزور على أعين الحاضرين، فيوهمهم أنه قطع الرأس، ولم يبق إلا الحنجرة، ثم بعد ذلك يرده فيقوم سوياً. فيعجب الناس ويضحكون، فجاء جندب رضي الله عنه ومعه سيف أخفاه، واستعاذ بالله، وقرأ آية الكرسي، فلما حاذى الساحر ضربه بالسيف حتى قطع رأسه، وقال: فليحي نفسه إن كان صادقاً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حد الساحر ضربه بالسيف) أو قال هو: حد الساحر ضربه بالسيف، فهذا حده؛ لأنه تعاطى الكفر.
كفر السحرة وعبادتهم للشياطين
…(4/171)
الساحر قد تعاطى الكفر، وقد سمعتم أعمال الكهنة والسحرة، وهي تدل على أنهم مشركون كفرة، فهم يتقربون إلى الشياطين بما تحب حتى تبطل عملها؛ فلأجل ذلك تخدمهم هذه الشياطين، فمنهم من لا تخدمه الشياطين حتى يترك الصلاة مدة؛ لأنه إذا تركها أصبح كافراً، فعند ذلك تحبه الشياطين، وتقترب منه، وتتولاه وتخدمه وتفعل له ما يريده، وتتكلم على لسانه، وتسترسل له حيث ما استرسل، ويستخدم منها ما يريد، فيستخدم منها مائة أو ألفاً أو نحو ذلك، ويكونون تحت طوع إشارته بسبب كونه تسلط عليهم بهذه الأمور التي استولى بها عليهم، وما فعل ذلك إلا بعدما كفر بالله، وآخرون من الكهنة أو السحرة لا تخدمهم الشياطين حتى يذبحوا لها قرابين، والشيطان يقنع ولو باليسير، ولو يذبحون له ذباباً تعظيماً له، أو عصفوراً، أو ديكاً، أو كبشاً، أو تيساً، أو نحو ذلك، فكل ذلك يقنع به الشيطان، ويكون ذلك سبباً لأن يخدمه؛ وذلك لأنه عرف أن هذا الساحر أو الكاهن أصبح مشركاً؛ لأنه أشرك بالله، فلما أشرك بالله خدمه الشيطان. وكثير من السحرة والكهنة يستدعون الشياطين، ويسألونهم عن أسمائهم، فيحفظ أسماءهم، فلان الجان، وفلان الشيطان، وبعد ذلك يهتف بأسمائهم، ويناديهم في أوقات فراغه، حتى إذا ألفوه، وعرفوا أنهم من أوليائه؛ صاروا طوع إشارته، فيخبرونه بما يريد، ويسترقون له السمع، وينزلون عليه، ويلابسونه، ويتكلمون على لسانه، ويخبرونه بالأمور الغيبية التي لا يعرفها الناس، وما أشبه ذلك. وآخرون من الكهنة أو السحرة لا تخدمهم الشياطين حتى يلابسوا النجاسات؛ وذلك لأن الشياطين تألف الأقذار، وتألف النجاسات، وتألف المستقذرات ونحوها؛ فلأجل ذلك أمرنا إذا دخلنا بيوت الخلاء أن نتعوذ بالله من شر الخبث والخبائث أي: ذكران الشياطين وإناثهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استتروا من البول فإن الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم) فالأماكن التي لا يذكر فيها الله مثل بيوت الخلاء تألفها(4/172)
الشياطين، فأولئك السحرة قد يلطخون أجسامهم وثيابهم بالنجاسات، وبالقاذورات، وبالعذرة، حتى تأتيهم الشياطين التي تحب هذه النجاسات، وتكون في خدمتهم، ثم توحي إليهم بأن يفعلوا كذا، ويفعلوا كذا، فمتى فعلوا هذه الأشياء أطاعتهم وخدمتهم وصارت في ولايتهم. فمثل هؤلاء لا شك أنهم كفار؛ لأنهم عبدوا غير الله تعالى، وقد أخبر الله بكفرهم في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]، فجعل تعليم السحر كفراً، وجعله من عمل الشياطين، وأخبر عن الذين يعلمونه كهاروت وماروت وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102]، فأفاد أن كل من تعلم السحر فإنه يحكم بكفره؛ ولأجل ذلك يقول العلماء: إذا عثر على ساحر، فإن الصحيح أنه يقتل ولا يستتاب؛ وذلك لأنا لا نعلم حقيقة توبته، فقد يقول الساحر والكاهن: إني تبت، ولكن قلبه مضمر على ما هو عليه من العمل، وشياطينه الذين يخدمونه ملازمين له، لا ينفكون عنه، فإذن هو في الحقيقة كافر. ومن بعض أفعال هؤلاء الكهنة وخدمة الشياطين أنهم يحملون الإنسان من مكان بعيد، ويقطعون به المسافات الطويلة، أو يأتونه مثلاً بعسيب نخل فيقولون له: اركب على هذا العسيب، والعسيب لا يحمل شيئاً، فيطيرون به على العسيب إلى أن يبلغ المكان الذي يريد، وقد يكون مسيرة شهر أو أشهر! هل معقول أن الإنسان يركب العسيب وأن الكاهن يركبه؟ لا شك أن الذي يفعل ذلك هم الشياطين التي أجسامها أو أرواحها خفيفة، فتحمل هذا بسرعة، وتقطع به هذه المسافات، وهي لا تفعل ذلك إلا لأوليائها الذين صاروا من خدمها، فهؤلاء بلا شك خدم للشياطين، فعلينا أن نعرفهم ونبتعد عنهم، وأن نعرف أن كل من قرب منهم فإنه يعطى حكمهم.
شرح العقيدة الطحاوية [95](4/173)
اختلف الناس في حقيقة السحر، كما اختلفوا في حد الساحر، وقد نوقشت الأدلة في ذلك وهي على كل حال دالة على خبث السحرة وانسلاخهم عن ركب المتقين.
براءة أهل السنة من السحرة والكهنة
…
أهل السنة بريئون من السحرة والكهنة والمنجمين، وبريئون من أفعالهم؛ وذلك لأنهم يحكمون عليهم بالحكم الشرعي، وهو: الشرك والكفر، وقد كفرهم الله تعالى بقوله تعالى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]، وبقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102]، (من اشتراه) يعني: من تعلم السحر، وبذل فيه دينه أو بذل فيه عقيدته، فليس له عند الله من خلاق أي: من حظ ولا نصيب. ولأجل ذلك وردت السنة بقتل السحرة والكهنة ونحوهم، ورد في الأثر: (حد الساحر ضربه بالسيف)، ومجموعة من الصحابة قتلوا الساحر، فعمر كتب إلى بجالة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، وجندب الخير قتل الساحر، و حفصة بنت عمر أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقُتلت؛ وذلك لأن هؤلاء اعتبروا السحر كفراً، واعتبروه ردةً، واعتبروه شركاً. وقد استدل بهذا على أن عمل السحر كفر وردة، وأنه يقتل ولا تقبل له توبة في الدنيا، بمعنى أنه يحكم بقتله ولو قال: إني تبت، وإني ندمت، وإني سأترك العمل؛ لأن ذلك ليس بيقين حتى يصدق في قوله، فيقتل حداً؛ لعموم الأثر: (حد الساحر ضربه بالسيف)، والحد هو العقوبة الشرعية التي لا تغير ولا تسقط بالتوبة، فإن الزاني لا تسقط عنه عقوبة الرجم أو الجلد ولو قال: إني تبت، وكذلك السارق تقطع يده ولو قال: إني تبت الآن، وكذلك بقية الحدود، وهكذا حد الساحر، وكذلك الكاهن الذي يخبر بالمغيبات، أو يخبر بما في الضمير، أو يدعي معرفة العلوم المغيبة بمقدمات يستدل بها على مكان الضالة وعلى المسروق، فيأتيه من فقد ضالة له فيقول: تجده في الشعب الفلاني، في المكان الفلاني، فيخبره شيطانه، وكذلك يأتيه من(4/174)
سرق منه مال، فيصف له السارق، ويقول: مالك في المكان الفلاني، وقد سرقه شخص صفته كذا وكذا، تخبره شياطينه بذلك. فهؤلاء كفرة، وقد كفر النبي صلى الله عليه وسلم من يصدقهم، فهم أولى بالتكفير، قال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، وقد عرفنا أن هؤلاء كفرة؛ وذلك لأنهم مشركون؛ لأنا نعرف أنهم بشر مثلنا، ولا يمكن أن يعلموا الغيب، ولا يمكن أن يطلعوا على الأسرار كما لا نعرفها نحن، فلا بد أنهم يستخدمون الشياطين حتى تخبرهم بما غاب عنهم، فالشياطين تطلع على ما لا يطلع عليه الإنسان، وكذلك مردة الجن يطلعون لخفة أجسامهم على أشياء لا يعرفها الإنسان، فيقطعون المسافات الطويلة في زمن قصير لخفة أجسادهم، وكذلك يرون أشياء لا نراها، ونحن لا نراهم وهم يروننا، قال تعالى في الشيطان وجنده: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، وهم لخفتهم يجري أحدهم في بدن الإنسان، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) أي: يجري في جسده، ويجري خلال لحمه ودمه، يجري مع عروقه، ويمشي في عروقه، ويسير فيه، وهذا هو سبب أنه يوسوس في صدور الناس، ويلقي في القلوب الوساوس للإنسان فيقول له: اذكر كذا، ويشككه في أمور الغيب، وفي أمور الساعة، وما أشبه ذلك. فهؤلاء لما أطاعوا الشياطين وخدموها وعبدوها خدمتهم، فمن خدمها خدمته، ومعلوم أن الشياطين تحرص على إضلال الإنسان، وتحرص على أن توقعه في الكفر؛ لأن الشيطان عدو للإنسان، وقد أخبر الله عن إبليس أنه التزم أن يضل الناس، وأن يصدهم عن الهدى، قال الله تعالى عن إبليس: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:62]، ويقول: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ(4/175)
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:17]. فهذا التزام عدو الله، فأخبر الله عنه بأنه التزم وتهدد بأن يضل جنس الإنسان، حتى لا يبقى أكثرهم شاكراً بل كافراً، وهؤلاء الكهنة والسحرة ونحوهم لما عبدوا هذا الشيطان، وتقربوا إليه، وذبحوا له، ودعوه مع الله أو من دون الله، عند ذلك أطاعهم عدو الله، وأظهر لهم ما لم يظهره لغيرهم، فانخدع الجهلة بهم، واعتقدوا أنهم مكرمون، واعتقدوا أنهم على صواب، وأن هذه ميزة لهم، وخارق عادة، وأنهم أفضل من غيرهم، حيث يخبرون بأمور لم تحصل فتقع، ويخبرون عن أشياء بعيدة فتعرف حالتها وأين هي، وأشباه ذلك، وما علموا أن هذا من الشياطين، وأن الشياطين لا تطيعهم إلا إذا صرفوا لها حق الله تعالى، ومن صرف لها شيئاً من حق الله فقد عبدها مع الله تعالى. ......
حكم التنجيم وتعلمه
…(4/176)
قال المصنف رحمنا الله وإياه: [وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير -وهو: الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية أو التمزيج بين القوى الفلكية الأرضية- صناعة محرمة بالكتاب والسنة، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين قال تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوت [النساء:51]. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره: الجبت السحر. وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لأبي بكر غلام يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام: تدري مم هذا؟ قال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه). والواجب على ولي الأمر وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين، وأصحاب الضرب بالرمل والحصى، والقرع والفالات، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت والطرقات، أو يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك، ويكفي من يعلم تحريم ذلك ولا يسعى في إزالته -مع قدرته على ذلك- قوله تعالى: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79]، وهؤلاء الملاعين يقولون الإثم، ويأكلون السحت بإجماع المسلمين. وثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق رضي الله عنه أنه قال: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)]. التنجيم من الأعمال الشيطانية، وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، بمعنى أنه يقول: طلوع النجم الفلاني سبب لحدوث رياح، وسبب لحدوث غرق، أو لجدب أو لخصب، أو لوباء أو مرض، أو إذا غاب النجم الفلاني حدث في البلدة الفلانية فيضان أو غرق أو زلزال(4/177)
أو ما أشبه ذلك، وهذا فعل كثير من المنجمين، ويغلب عليهم أنهم شبه السحرة؛ وذلك لأن النجوم مسخرة مسيرة بأمر الله، ليست دليلاً على شيء مما يقولون، روى البخاري رحمه الله عن قتادة قال: (خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن ادعى فيها غير ذلك فقد أخطأ، وأضاع نصيبه من الدنيا، وتكلف ما لا علم له به)، يرد قتادة على المنجمين الذين يستدلون بطلوع النجوم على الحوادث التي تحدث في الأرض من العاهات والمصائب، ومن الأمطار والخيرات، ومن العقوبات ونحوها، وما ذاك ألا أن النجوم لا تحدث شيئاً بنفسها، بل الله تعالى جعلها مسخرة كما قال الله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ [النحل:12]، وقال تعالى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16] أي: يقتدون في طرقهم، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:97] (لتهتدوا) يعني: أنكم تستدلون بها على الجهة التي تريدونها، وتعرفون أي جهة تقصدونها، فجعلها الله علامات ليهتدى بها، كما جعلها زينة في قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك:5] أي: بهذه النجوم، وقال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ [الصافات:6] والكواكب التي في هذه السماء هي زينة لها، فإذا كنت في ليلة مظلمة ونظرت إلى السماء ترى نجومها تزهر في كل جانب، كالسرج تضيء، فهي زينة للسماء. كذلك أيضاً أخبر الله تعالى بأنها رجوم ترجم بها الشياطين عن استراق السمع، كما قال تعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [الحجر:18] والشهاب: هو هذا الذي يرمى به في الليلة الظلماء، فإذا أبصرته منقضاً فقد رمي به شيطان أو مسترق للسمع، وقال تعالى عن(4/178)
الجن: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9]، وقال تعالى: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5] أي: يرجمون بها، فهذه هي الحكمة في وجود هذه النجوم، فأما الذين يدعون فيها أنها تدل على وجود خير أو زواله، أو تدل على حدث أو أمر مستقبل.. أو نحو ذلك، فإن هذا من التكلف. والنجوم يعرف بها مواقيت الشتاء والصيف، والغراس والزروع.. ونحو ذلك؛ وذلك لأن الله تعالى قدر لها مواقيت، فهناك نجوم تطلع في الشتاء، فإذا رآها الناس عرفوا أن هذا وقت زراعة البر ونحوه، ونجوم تطلع في الصيف، فإذا رأوها عرفوا أن هذا وقت يبذر فيه كذا وكذا، ويغرس فيه كذا وكذا، أو يعرفون بها دخول الشتاء أو انسلاخه، أو دخول البرد وإقباله أو انتهاءه، أو دخول الحر أو إقباله.. أو نحو ذلك، فتعلم هذا لا بأس به؛ لأنها مواقيت، كما أن الليل والنهار مواقيت، وكما أن الأشهر والأهلة مواقيت، فكذلك طلوع النجوم والبروج التي جعلها الله في السماء، قال تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1]، وقال: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الحجر:16]، وقال: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [الفرقان:61]، فهذه البروج التي هي منازل الشمس، وهذه الأنواء أو النجوم التي هي منازل القمر كما في قول الله تعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ [يس:39] أي: ينزل في كل ليلة منزلة؛ لا شك أنها خلق الله تعالى، فتعلم منازل القمر وتعلم منازل الشمس ومعرفة أحوال كل منهما لا يدخل في التنجيم المحرم، إنما التنجيم المحرم هو أن يستدل بطلوع النجم الفلاني على أنه سوف يحدث كذا وكذا من الآفات، أو ما أشبه ذلك، فهذا من التدخل في علم الغيب، والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27] فلا يدخل في ذلك الكهنة ونحوهم.(4/179)
وجود السحرة والكهنة منذ عهد الصحابة
…
السحرة والكهنة منتشرون ومتمكنون منذ زمن قديم؛ فالشارح رحمه الله في القرن الثامن يشتكي من كثرتهم، وأنهم قد أضروا بالناس بأعمالهم الشيطانية، ويحرض من يعرف إنساناً يتعاطى السحر أو يتعاطى الكهانة أن يدل عليه، وأن يخبر به، وأن ينكر فعله، أو ينبه من ينكر فعله؛ فإن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل ومن تغيير المنكر الواجب تغييره على كل من علمه، ويستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت ولم تغير ضرت العامة)، ويذكر أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينكرون على الكهنة ويستبشعون صناعتهم، ويستشنعون أفعالهم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه كان له غلام مملوك لم يكن بحاجة إلى خدمته، فجعله يشتغل، فكان يقول له: اذهب واحترف واجمع لنا مالاً وخراجاً، فكان يأكل من خراجه، يعني: من كسبه وكد يمينه، فجاء ذلك الغلام مرة بمال أخذه من تكهن، وأخبره بأنه خدع إنساناً بالكهانة في الجاهلية وقال: إني أعلم كذا، وإنك مصاب بكذا وكذا، فلقيه ذلك الرجل فأعطاه حلواناً، يعني: مالاً عن كهانته، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد عرف تحريم الكهانة، وعرف أن حلوان الكاهن خبيث، فلما سمع من غلامه هذه القصة، وأن هذا المال الذي أكل منه سحت وحرام، وأنه حلوان كاهن وهو خبيث، لم يقر قراره وذلك الطعام في بطنه، بل أدخل إصبعه في حلقه فاستخرج كل ما أكله ذلك اليوم، حتى لا يكون في غذائه ولو لقمة من حرام، أو من مشتبه، ولو كان معذوراً؛ لأنه قد يقول: إثمه على من كسبه، وهو معذور لأنه قد يقول: ما شعرت حين أكلته ولا علمت أنه محرم؛ أو معذور لأنه قد يقول: إنه دفعه عن طيب نفس، ولكن لم تقبل نفسه مثل هذه التأويلات حتى استخرج ذلك الطعام، بل أخرج كل ما أكله ذلك اليوم، وهذا دليل على بعد الصحابة رضي الله عنهم عن المشتبهات وعن المحرمات، ودليل على أنهم يعرفون أن الكهنة كاذبون،(4/180)
وأن كسبهم حرام، وأن إقرارهم حرام؛ وذلك لأن الله تعالى كذبهم، وأخبر بأنهم يأخذون من الشياطين، فقال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:221-223] أي: يتلقون السمع من الشياطين التي تُلقي عليهم، وأكثر الشياطين تكذب عليهم، وهم يكذبون على الناس. فإذاً: الكهنة عبدة للشياطين، وإذا كانوا يعبدون الشياطين فلا يجوز أن نقرهم؛ لأن إقرارهم تمكين لهم من عبادة غير الله، وكذلك إقرار لهم على الشرك وعلى المنكر، فمتى قدرنا فإننا نحاربهم، ونحرص على أن نقضي على قوتهم، وعلى معنوياتهم. وإذا كانوا كثيراً في زمن المؤلف ابن أبي العز رحمه الله، فكيف بزماننا الذي هو القرن الخامس عشر، والذي استحكمت فيه غربة الإسلام إلا ما شاء الله، والذي كثرت فيه الكهنة والسحرة والشعوذة، وتمكن فيه الأشرار، وصاروا قادة وسادة يفعلون بالأبرياء ما يريدونه؟!
الواجب تجاه السحرة والكهنة
…(4/181)
واجبنا تجاه السحرة والكهنة أن نحاربهم بقدر ما نستطيع، وكثيراً ما يشتكي لنا بعض الإخوان بأنهم أصيب منهم شخص بسحر، أو أصيب بعمل شيطاني، أو تسلط عليه جني، وأخبر بأن الذي سخره ساحر متشيطن متسلط، وأشباه ذلك. ويذكرون أن الساحر متى تمكن من السحر فإنه يسخِّر له جنوداً من الشياطين ومن الجن، فالشياطين يدلونه ويخبرون بالأمور الغائبة ونحوها، والجن يتصرف فيهم، فيسلطهم على من يريد، فيقول: -أنت يا هذا- اذهب إلى فلان فلابسه، أو إلى فلانة فتلبس بها، ولا تخرج منها أبداً، وحاول أنك لا تخرج إلا بعد موت هذا الإنسان، فإذا نطق ذلك الجني الذي تلبس بذلك الإنسان، ذكر أنه لا يستطيع أن يخرج ولو قرأ عليه القارئ، ولو عالجه، ولو نفث عليه، ولو تضرر من القراءة؛ لأنه مسخر، من الذي سخرك؟ ومن الذي سلطك؟ فيدل عليه، ويقول: سلطني الساحر الفلاني الذي تحت سيطرته ألف جني أو خمسة آلاف أو خمسمائة من الجن، وهؤلاء كلهم تحت تسخيره، وتحت سلطته، فكيف تمكن منهم؟! وكيف استعبدهم؟! تقربوا إليه وتقرب إليهم، حتى أخذ بطاعتهم، وتعهدوا أنهم لا يخرجون عن طواعيته، ولا يستطيع أحدهم أن يعصيه، فمتى أشار إليه أن تسلط على فلان أو فلانة لم يستطع التأخر. ومتى يبرأ هذا الذي أصيب بهذا المس؟ ومتى يبرأ هذا الذي أصيب بهذا الجنون؟ الغالب أنهم لا يبرءون حتى يموت ذلك الجني الذي لابسه، وكثير من القراء الذين يقرءون على أولئك المصابين يقرءون بشدة، وينفثون بشدة، ويستعملون أدعية وآيات من القرآن فيها شيء من القوة، فذلك الجني الذي لابس ذلك الإنسي يكاد أن يحترق ولا يستطيع الخروج، فأحياناً يموت وهو ملابس لذلك الإنسي، وبعد موته يفيق الإنسي بإذن الله سليماً، ويقول: أين أنا؟! لأنه لا يدري أين هو قبل ذلك، وإذا قيل لذلك الجني: لماذا لا تخرج؟ يتعذر ويقول: إني لا أستطيع حتى تقتلوا ذلك الساحر الذي سلطني عليه، ولو متُ ولو خرجت فإنه سيسلط عليه مثلي آخر وآخر؛ لأن(4/182)
تحت طواعيته هذا العدد الكثير، فاذهبوا فاقتلوا ذلك الساحر، حتى تريحوا أنفسكم، وحتى أخرج أنا براحة بدون أن تكرهوني، وأتخلص منكم وتتخلصون مني، هكذا يتكلم كثير من الجن على ألسنة من لابسوه. ونقول: لا شك أن هذا الساحر الخبيث الذي سخر هؤلاء الجن ما سخرهم إلا بعد ما استعبدهم، وبعد ما تقرب إليهم، وبعد ما أخذ عليهم العهد، وبعد ما عبدهم مع الله، أو عبد الشياطين حتى ذللتهم لطواعيته. إذاً: ما واجبنا نحو هؤلاء السحرة الذين يعيثون في الأرض فساداً، والذين يسلطون الجن على الأبرياء من الرجال والنساء؟ وقد يتظاهرون بأنهم لا يعملون ذلك، وربما يأتي أحد ضعفاء الإيمان إلى الساحر فيقول: أريد أن تسلط على فلان أو فلانة كذا وكذا! لا شك أن مثل هؤلاء يجب أن يحاربوا؛ حتى يخف شرهم، وحتى يُقطع دابرهم، وأما إذا بقوا فإنهم يزيدون ويزيد شرهم ويتمكنون، ويصعب بعد ذلك التخلص من شرهم. ونحن نعرف أن هناك من وفقهم الله تعالى من أهل الخير ومن أهل الدين وأهل المعرفة يعالجون مثل هذه الإصابة الشيطانية، فيعالجون من إصابة المس، ويعالجون من إصابة السحر والصرف والعطف ونحو ذلك، ويشفي الله على أيديهم خلقاً كثيراً، ولكن هناك أحوال شيطانية تستعصي، ويصعب تخليصها إلا بقتل الجان، أو بقتل الساحر، فلو تعاون الأهالي على كل من عرفوا أنه ساحر، أو أن أنها ساحرة، وقضوا عليهم وقتلوهم؛ لاستراح منهم العباد والبلاد.
أنواع السحرة
…(4/183)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسنة أنواع: نوع منهم: أهل تلبيس وكذب وخداع، الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له، أو يدعي الحال من أهل المحال، من المشايخ النصابين، والفقراء الكاذبين، والطرقية المكارين، فهؤلاء يستحقون العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس، وقد يكون في هؤلاء من يستحق القتل، كمن يدعي النبوة بمثل هذه الخزعبلات، أو يطلب تغيير شيء من الشريعة، ونحو ذلك. ونوع: يتكلم في هذه الأمور على سبيل الجد والحقيقة بأنواع السحر. وجمهور العلماء يوجبون قتل الساحر، كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في المنصوص عنه، وهذا هو المأثور عن الصحابة كعمر وابنه وعثمان وغيرهم. ثم اختلف هؤلاء: هل يستتاب أم لا؟ وهل يكفر بالسحر أو يقتل لسعيه في الأرض بالفساد؟ وقال طائفة: إن قتل بالسحر يُقتل، وإلا عُوقب بدون القتل إذا لم يكن في قوله وعمله كفر، وهذا هو المنقول عن الشافعي ، وهو قول في مذهب أحمد . وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه: والأكثرون يقولون: إنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيء ظاهر إليه. وزعم بعضهم أنه مجرد تخييل. واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس دعوة الكواكب السبعة، أو غيرها، أو خطابها، أو السجود لها، والتقرب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتم والبخور ونحو ذلك فإنه كفر، وهو من أعظم أبواب الشرك؛ فيجب غلقه، بل سده، وهو من جنس فعل قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ ولهذا قال ما حكى الله عنه بقوله: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:88-89]، وقال تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا.. [الأنعام:76] الآيات إلى قوله تعالى: ..الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]. واتفقوا كلهم أيضاً على أن(4/184)
كل رقية وتعزيم أو قسم فيه شرك بالله فإنه لا يجوز التكلم به، وإن أطاعته به الجن أو غيرهم، وكذلك كل كلام فيه كفر لا يجوز التكلم به، وكذلك الكلام الذي لا يعرف معناه لا يتكلم به؛ لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً). ولا يجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك فقال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] قالوا: كان الإنسي إذا نزل بالوادي يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح: (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) يعني: الإنس للجن باستعاذتهم بهم، (رهقاً) أي: إثماً وطغياناً وجراءة وشراً؛ وذلك أنهم قالوا: قد سدنا الجن والإنس! فالجن تعاظم في أنفسها وتزداد كفراً إذا عاملتها الإنس بهذه المعاملة، وقد قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41]، فهؤلاء الذين يزعمون أنهم يدعون الملائكة ويخاطبونهم بهذه العزائم وأنها تنزل عليهم ضالون، وإنما تنزّل عليهم الشياطين، وقد قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128]، فاستمتاع الإنسي بالجني: في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات ونحو ذلك، واستمتاع الجن بالإنس: تعظيمه إياه، واستعانته به،(4/185)
واستغاثته، وخضوعه له. ونوع منهم: يتكلم بالأحوال الشيطانية والكشوف، ومخاطبة رجال الغيب، وأن لهم خوارق تقتضي أنهم أولياء الله، وكان من هؤلاء من يعين المشركين على المسلمين! ويقول: إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين؛ لكون المسلمين قد عصوا!! وهؤلاء في الحقيقة إخوان المشركين].
قتل الساحر
…
ذكر المؤلف الخلاف في عدة مسائل منها: هل يقتل الساحر مطلقاً أو لا يقتل إلا بعد أن يستتاب؟ الأكثرون على أنه يقتل ولا يستتاب، وهذا هو قول الجمهور. والشافعية رحمهم الله رأوا أنه يستفصل عن سحره ويستتاب، أو أنه لا يقتل إلا إذا قتل بسحره، لكنه لما ثبت عن الصحابة أنهم قتلوا الساحر ولم يستتيبوه دل ذلك على أن هذا هو حكمه، وأنه لا تقبل توبته، وأن توبته إنما تكون بينه وبين ربه.
الخلاف في حقيقة السحر
…(4/186)
هل للسحر حقيقة أم أنه خيالات؟ أنكرت المعتزلة أن يكون للسحر حقيقة، وأنكر ذلك أيضاً كثير من المتأخرين الذين ينكرون من العلوم غير ما تصل إليه إحساساتهم. والصحيح أن له حقيقة؛ ولولا ذلك لم يحتج إلى الاستعاذة من السحرة، قال الله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:1-4] النفاثات: السواحر، وورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك)، ويذكر العلماء أن الساحر أو الساحرة إذا أراد أحدهما عمل سحر فإنه يأخذ خيطاً أو حبلاً، ثم يعقد فيه عقدة، ثم تكون نفسه قد امتزجت بها الصفات الشريرة، وتلبست بها الشياطين، وأصبحت ذات شر وذات أذى، فإذا تمثلت فيها تلك الصفة نفثت نفثاً من ذلك الريق المسموم، فأوقعتها في ذلك الحبل أو الخيط، وعقدت عليها، وتكلمت بكلام سيئ، بأن تقول: يُعقد فلان، أو يُضر فلان.. أو نحو ذلك، فهذا من عمل السحرة؛ فمن عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ولو كان السحر ليس له حقيقة لما استعيذ من شره؛ لأنه لا يضر، وكذلك قد أخبر الله تعالى بشيء من ضررهم فقال تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]، فهم يفرقون بين المرء وزوجه، وهذا يُسمى بالصرف، وهناك أيضاً ما يُسمى بالعطف، فالسحرة من أعمالهم الصرف وهو: وقوع البغضاء بين المتحابين، والعطف وهو: جلب المودة بين المتقاطعين والمتباغضين، وهذا الذي يُسمى الصرف أو العطف كله عمل شيطاني، وتوصلهم إلى ذلك بأدوية أو بعلاجات لا شك أنها من وحي الشياطين، فهي التي تدلهم على أن النفث في الدواء الفلاني يسبب فرقة، ويسبب بغضاء بين فلان وفلانة، فإذا رأى زوجين بينهما عشرة طيبة حاول أن يفرق بينهما، فعمل ذلك السحر الذي يوقع عداوة من كل منهما للآخر، وهذا مشاهد(4/187)
كثيراً، وقد اشتكى إلينا كثير من الرجال بأنه إذا دخل بيته أو رأى امرأته وجد نفرة، ووجد ضيقاً، ووجد حشرجة، ووجد تكتماً؛ بحيث يكون في غم، وفي ضيق، وكأنه في سجن أشد ما يكون، ولا تستريح نفسه حتى يفارق بيته، أو يصد عن امرأته. وكذلك أيضاً يقع كثيراً حبس الرجل عن امرأته؛ بحيث إنه لا يستطيع إتيانها، ويفعل ذلك أيضاً السحرة، فيكون الرجل على هيئته وقوته، فإذا قرب من امرأته لوطئها بردت همته، وهو على خلاف ذلك، ولا يدري ما السبب، إلا أنه من عمل هؤلاء السحرة! إذاً: فهذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يؤثر ويضر، وأما ما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنه قالت: (سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، ثم إنه سأل ربه وسأله، فقال: يا عائشة ! أشعرت أن الله شفاني؟ إني قد أتاني ملكان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال: ما بالرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم ، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر في بئر ذروان، فذهب إلى تلك البئر فاستخرج السحر منها، وإذا ماؤها مثل نقاعة الحناء، وإذا نخلها كرءوس الشياطين) فشفاه الله تعالى. يقول العلماء: هذا العمل الذي عمله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر عمل خفي فيما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين امرأته، بمعنى: أنه حبس عنها، ولأجل ذلك في بعض الروايات تقول: (حتى أنه يخيل إليه أنه يأتي النساء وما يأتيهن)، وأما في مجال الرسالة وفي مجال تبليغ الرسالة فلم يتغير شيء من عقله؛ وذلك لأن الله تعالى حفظه عن أن يناله السحرة بشيء يضر فيما يتعلق برسالته، فهذا أيضاً دليل على أن السحرة قد يؤثرون في بعض الأمور، فأثر هذا الساحر، ولكن أبطل الله كيده، كما أن اليهود أرادوا أن يقتلوه بسم جعلوه في شاة لهم، ولكن الله حماه عن أن يضره ذلك السم. وبكل حال فهذه أدلة على أن للسحر حقيقة، وأنه يضر، وأن الساحر قد(4/188)
يتمكن من سحره، ويقلب الإنسان حيواناً، أو الحيوان إنساناً، ولكن كيف يقلب الإنسان دابة، أو وحشاً، أو وعلاً، أو سبعاً.. أو نحو ذلك؟ نقول: يسلط عليه جنياً، ومعلوم أن الجني يتشكل بأشكال، فتارة يظهر بصورة سبع، وتارة يظهر بصورة إنسان، وتارة يظهر بصورة كلب، وتارة يظهر بصورة هامة، وتارة يظهر بصورة بقرة؛ لأن الله أعطاه من القدرة على التشكل في هذه الأجسام ما أعطاه، فإذا سلط الساحر شيطاناً على ذلك الإنسان، وقال له: اخرج بصورة حمار، أو بصورة كلب، أو بصورة كذا، لابسه ذلك الشيطان، وانقلبت هيئته إلى ما يريده ذلك الساحر، ولا يبطل عمله إلا بعدما يشفى -بإذن الله- بالقراءات والتعوذات التي تبطل عمل السحرة. وبعد ذلك نقول: هذا يبطل قول من قال: إن السحر شعوذة، كالمعتزلة الذين يقولون: إن السحر ليس له حقيقة، وإنما هو تخيلات، ويستدلون بما حكى الله عن السحرة الذين جادلوا موسى، قال الله تعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66] فقوله: (يخيل إليه) أي: أنهم جاءوا بعصي فألقوها فإذا هي تتحرك كأنها حيات، وكذلك ألقوا حبالاً فإذا هي تتحرك، ولما أن ألقى موسى عصاه فانقلبت حية قالوا: نحن نلقي عصينا وتنقلب حيات، ونلقي حبالنا وتنقلب حيات، فيقولون: ذلك خيال، ولكن قد يتمكنون من أن يسخروا بعض الشياطين التي تتحرك أمام الناظرين، ولكن بطل كيدهم لما جاء الحق، قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ [الأعراف:117-119] أي: أن موسى ألقى عصاه فالتقمت عصيهم وحبالهم كلها، وعادت عصاً كما كانت، فعرف السحرة أن هذا ليس عملاً شيطانياً، وأنه أمر رحماني، فعند ذلك أُلقي السحرة ساجدين، فبطل سحرهم، وعرفوا أحقية ما جاء به(4/189)
موسى.
شرح العقيدة الطحاوية [96]
يشرع للمسلم أن يتحصن من السحرة والشياطين بالأذكار والأوراد الشرعية، وقد بين العلماء علاج السحر والمس بالطرق الشرعية.
سبب انتشار السحرة والكهان والمشعوذين
…
إن السحرة والكهنة والمشعوذين والمنجمين والعرافين هم خدمة الشياطين، أو هم رسل الشياطين، أو هم من شياطين الإنس الذين يخدمون شياطين الجن، وهؤلاء -مع الأسف- قد كثروا وتمكنوا، وبالأخص في الأزمنة المتأخرة؛ وكثرتهم سببها: ضعف الدين في القلوب، وضعف الإسلام والعاملين به في المجتمعات؛ وذلك أنهم كلما قوي المسلمون وكلما قويت العقيدة ضعفوا وضعف وجودهم، أو انقطعوا، أو كادوا أن ينقطعوا. ولقد كانوا قبل الإسلام موجودين بكثرة، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حُرست السماء، وحيل بين الشياطين وبين الاستراق؛ حتى ينقطع وحي الشياطين، وحتى ينقطع ما تسمعه الكهنة من أوليائها، وحتى لا يلتبس الحق بالباطل، ويلتبس وحي الرحمن بوحي الشيطان، وفي بعض الأحاديث: أن بعض الصحابة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فرمي بكوكب -وهو الشهاب الذي يُرمى به- فسألهم صلى الله عليه وسلم: (ما تقولون في هذا النجم الذي رمي به؟)، فلم يقولوا شيئاً، فأخبرهم: بأن الشياطين كانت تسترق السمع، وتنزل إلى الكهنة بما تأخذه من الملائكة، فتخبرهم بأن الملائكة تحدثت بكذا، وأنه سيحدث كذا وكذا، ولما أنزل الله وحيه على النبي صلى الله عليه وسلم كثرت حراسة السماء، ورجمت الشياطين، واشتكوا إلى رئيسهم الذي هو إبليس، وقالوا: منعنا من السماء، ومنعنا من استراق السمع، فأرسل من يسأل ويستفصل: ما السبب؟ إذ لابد أن يكون هناك سبب، ثم إنهم وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فاستمعوا إليه، ورجعوا إلى قومهم، وقالوا: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ(4/190)
لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:8-10]، ورجع الذين استمعوا القرآن إلى أوليائهم وقالوا: عرفنا السبب الذي لأجله حرست منا السماء، وهو بعث هذا النبي، فآمنوا به كما حكى الله عنهم قولهم: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ [الجن:13]. وبكل حال في ذلك الوقت حرست السماء حراسة شديدة؛ لقوة الإسلام، ولحماية الوحي من السماء، ولما ضعف العمل بالشريعة، وضعف التمسك بها؛ قوي وجود الكهنة، وقوي استراق الشياطين والجن للسمع، ونزولهم إلى أوليائهم من الكهنة والسحرة، فكثروا حينئذٍ، وصار الناس يشجعونهم، حيث يأتون إليهم، ويقولون: أخبرنا بكذا وكذا، فإذا أخبرهم بما توحيه إليه الشياطين قدسوه وعظموه، وقالوا: هذا هو الذي يعرف، وهذا هو العارف، وهذا هو العرّاف، ولا يزال الناس يترددون إليه، وما ذاك إلا لضعف الإسلام، وقد مر بنا الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، ولو كان ذلك الكاهن يخبر بأشياء مثل أن يخبر بمكان الضالة، ويخبر بمكان المسروق، أو بعين السارق، أو ما أشبه ذلك، فنقول: هذا مما يستوحيه من شياطينه، والواجب على الإنسان أن يلجأ إلى الله، وألا يصدق هؤلاء الكهنة. والسحرة أيضاً قد تمكنوا، وقد كثروا مع الأسف، وأضروا بكثير من الناس، وكثر الذين يشتكون، وكثر الذين يقول أحدهم: إنه أصيب بكذا، أو أصيبت ابنته بكذا، بصرف أو بعطف، أو ببغض لبيتها أو ببغض لزوجها أو لأهلها، أو أصيب الرجل بضيق كلما دخل إلى بيته؛ بحيث إنه يصير محشرجاً، ويصير كأنه في سجن حتى يفارق بيته، أو حيل بينه وبين امرأته؛ بحيث إنه لا يقدر على إتيانها أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي يكثر الشكاة لها، ما أكثر الذين يشتكون أنه أصيب(4/191)
أحدهم بكذا وكذا، وأنه أصيب بهذا الصرف، وأصيب بهذه المصائب التي لا شك أنها من عمل الشياطين، ونقول: ما السبب في كثرة هذه المصائب؟ وما السبب في إصابة هؤلاء بهذه الأمور؟ لا شك أن السبب هو: ضعف الإيمان، فمتى كنت مؤمناً، ومتى كنت مسلماً متمسكاً بإسلامك فثق بأن الله يحرسك، وأنه يحميك من كيد هؤلاء السحرة ومن ضربهم. وما يصاب غالباً بهذه الأمور الشيطانية إلا ضعاف الإيمان، نشاهد أن أكثر الذين يشتكون إما من جن أصابه أو أصاب ابنته، وإما من صرف، وإما من سحر أو نحو ذلك هم من العصاة والفسقة، وإما من الجهلة، وإما من العامة الذين لا يتحصنون، أما أهل التحصن فإن الله يحميهم بما يتحصنون به.......
كيفية التحصن من كيد السحرة والشياطين
…
إذا أردت أن تكون في حصن حصين من عمل وكيد الشياطين وعمل السحرة فعليك أن تتحصن بالأشياء التي تحفظك: أولها: تحقيق العقيدة السليمة، وهي: كونك تصدق بأن الله هو النافع الضار، وتصدق بأنه هو الذي يحمي العباد إذا تحصنوا به. ثانيها: كثرة ذكر الله في كل الأحوال؛ فلا تغفل عن ذكر الله فإنه يطرد الشياطين. ثالثها: الدعاء، فعليك أن تدعو بما يحضرك من الأدعية النافعة التي يكون فيها حفظ لك وحفظ لأهلك وحفظ لبيتك.. ونحو ذلك. رابعها: قراءة كتاب الله وكثرة تدبره وتكراره، فإنه حصن لمن قرأه وتحصن به. خامسها: حماية منزلك من آلات اللهو والملاهي كلها، وعن المعاصي ونحوها؛ فإن الشياطين تألف تلك الأماكن وتلك البيوت الممتلئة بالملاهي، والممتلئة بآلات الفساد ونحوها، فإذا كان المنزل خالياً من هذه الأشياء فإن الملائكة هي التي تعمره، ولا تجتمع الملائكة والشياطين.
الطرق الجائزة في علاج السحر
…(4/192)
شياطين الجن والسحرة ونحوهم قد يسلطون أولياءهم على بعض المتعففين أو على بعض المتمسكين، يريدون بذلك إضراره ورده عما هو عليه، فالحيلة في إبطال هذا الكيد علاجه، ولا شك أنه لا علاج له إلا العلاج الرحماني وهو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز علاجه بإتيان السحرة، ولا بطلبهم أن يفكوا عنه، ولا العلاج بمثله من السحر، وإذا عرف الساحر فإنه يقام عليه الحد: (حد الساحر ضربه بالسيف)، فلا يجوز إقراره، فكيف يُؤتى إليه ويقال: فلان مصاب فعليك أن تعالجه! فلا يجوز ذلك، إنما نعالجه بكلام الله وبكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالأدعية النافعة، وبالأدوية المباحة. ولقد تكلم العلماء على بعض العلاجات النافعة، فتكلم على ذلك ابن القيم رحمه الله عندما فسر سورتي المعوذتين في كتابه (بدائع الفوائد)، فإنه فسر سورتي المعوذتين، وأتى على قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، وأطال الكلام على السحر، وعلى ذكر حقيقته، وعلى ما قيل فيه، ثم تكلم عن فك السحر وحلّه عن المسحور وهو المسمى بالنشرة، وذكر الآثار في ذلك، فذكر الحديث الذي روي بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال: هي من عمل الشيطان)، وقال: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهو قسمان: حلّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل كلام الحسن البصري أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر، وصفته: أن الساحر والمسحور كل منهما يتقرب إلى الشيطان بما يحب، فأما أن يدعو الشيطان، وإما أن يطيع الشيطان، حتى يبطل عمله عن المسحور، فهذا حرام، وهذه هي النشرة المحرمة؛ لأن الناشر والمنتشر يتقربان إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. الثاني: العلاج بالقراءة وبالأدعية وبالأوراد وبالآيات.. ونحوها؛ فهذا لا بأس به، وهو داخل في كون القرآن شفاءً كما وصفه الله؛ فإن الله تعالى وصف القرآن بأنه شفاء في قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ(4/193)
مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]، ولهذا إذا قرئ على المصاب بجن أو بسحر، وكان ذلك المصاب عاصياً أو فاسقاً أو متصفاً بخروج عن الطاعة لم تؤثر فيه القراءة حتى يقلع عن معصيته، أو حتى يعلن التوبة وعدم الرجوع، فهنالك يشفى بإذن الله تعالى عملاً بهذه الآية: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44]، وقوله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82] فهذا هو العلاج. وقد ذكر ابن القيم وابن كثير أنواعاً من العلاجات، وابن كثير تكلم على السحر وأطال عليه في تفسير قول الله تعالى في سورة البقرة: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ.. [البقرة:102] إلى آخر الآية، وتكلم على قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102] يعني: أن من السحر ما يسبب البغضاء بين الزوجين، والزوجان -غالباً- يكونان متآلفين، فالساحر يقدر بعمله الشيطاني على أن يوقع بينهما الوحشة، وأن يسبب الفرقة بينهما، أو يعمل عملاً يحجز به الزوج عن امرأته ويحبسها فلا يقدر على جماعها، فذكروا علاجاً وصفه ابن كثير ونقله عمن نقله من السلف، وهذا بلا شك من الأشياء المجربة، ذكر أنه يؤخذ سبع ورقات من السدر الأخضر، فتضرب بين حجرين، ثم يصب عليها ماء، ويقرأ فيها سورتي الكافرون والإخلاص: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، والمعوذتين، وآية الكرسي، وآيات(4/194)
السحر الثلاث: في سورة الأعراف قوله تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ.. [الأعراف:118-119]، وقوله تعالى في سورة يونس: قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [يونس:80-81]، وقوله تعالى في سورة طه: قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:68-69]، فيكرر المصاب أو المحبوس عن امرأته قراءتها، وسيفك ذلك عنه بإذن الله إذا توافرت الشروط. وهناك آيات أخرى غير هذه، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سبعاً وثلاثين آية في القرآن فيها قول: لا إله إلا الله، من قرأها فإنه يُحمى من كيد الشياطين ونحوه، وأنه لا يضره سحر في ذلك اليوم إذا قرأها كورد في الصباح أو في المساء، يعني الآيات التي فيها التهليلات، وتسمى: تهليلات القرآن. وعلى كل حال فالقرآن كله شفاء كما وصفه الله تعالى، وإن كان فيه آيات تخص قراءتها، وتكون حرزاً للمؤمنين ودعاءً، وكذلك أيضاً الأحاديث النبوية، وقد جمع العلماء متقدميهم ومتأخريهم أدعية من الكتاب والسنة، وجعلوها كأوراد، وقراءتها قبل المرض تكون حفظاً بإذن الله، وبعد المرض تكون علاجاً. وقد أصيب بعض الإخوان واشتكى أنه تصيبه حشرجة وضيق في صدره؛ بحيث إنه لا يستقر ولا ينشرح باله إذا دخل منزله، فعمد إلى الورد المطبوع المشتهر الذي اسمه: (الورد المصفى المختار) الذي جمعه الملك عبد العزيز رحمه الله، يقول: أخذت هذا الورد، وجعلت أقرأه قبل أن أنام، إذا جلست على فراشي قرأته من أوله إلى آخره، وإذا أصبحت قرأته من أوله إلى آخره في المصلى، وأنا رافع يدي(4/195)
ومخبت قلبي، قال: فما لبثت إلا شهراً أو أقل من شهر حتى زالت عني تلك الوحشة، واتسع قلبي، وزال عني ما أجد من ذلك الضيق! وهذا دليل على أن كتاب الله وسنة نبيه والأدعية والأوراد سبب في الشفاء إذا وقع المرض، وسبب في الحمية والعصمة والحماية منه قبل وقوعه.
الكرامات والخوارق الشيطانية
…
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [والناس من أهل العلم فيهم على ثلاثة أحزاب: حزب يكذبون بوجود رجال الغيب، ولكن قد عاينهم الناس، وثبت عمن عاينهم أو حدثه الثقات بما رأوه، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم. وحزب عرفوهم، ورجعوا إلى القدر، واعتقدوا أن ثَّم في الباطن طريقاً إلى الله غير طريقة الأنبياء! وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول، فقالوا: يكون الرسول هو ممداً للطائفتين. فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه. والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين، وأن رجال الغيب هم الجن، ويسمون رجالاً، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، وإلا فالإنس يؤنسون، أي: يشهدون ويرون، وإنما يحتجب الإنسي أحياناً، لا يكون دائماً محتجباً عن أبصار الإنس، ومن ظنهم أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله. وسبب الضلال فيهم، وافتراق هذه الأحزاب الثلاثة: عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، ويقول بعض الناس: الفقراء يُسلّم إليهم حالهم! وهذا كلام باطل، بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قُبِل، وما خالفها رُد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، فلا طريقة إلا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته(4/196)
إلا بمتابعته باطناً وظاهراً، ومن لم يكن له مصدقاً فيما أخبر ملتزماً لطاعته فيما أمر في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمناً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله تعالى، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الخشب، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وعزل المحظور إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقربة إلى سخطه وعذابه، لكن من ليس يكلف من الأطفال والمجانين قد رفع عنهم القلم، فلا يعاقبون، وليس لهم من الإيمان بالله والإقرار باطناً وظاهراً ما يكونون به من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعاً لآبائهم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21]، فمن اعتقد في بعض البله أو المولعين -مع تركه لمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله- أنه من أولياء الله، ويفضله على متبعي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضال مبتدع، مخطئ في اعتقاده، فإن ذاك الأبله إما أن يكون شيطاناً زنديقاً، أو زوكارياً متحيلاً، أو مجنوناً معذوراً، فكيف يفضل على من هو من أولياء الله المتبعين لرسوله أو يساوى به؟! ولا يقال: يمكن أن يكون هذا متبعاً في الباطن، وإن كان تاركاً للاتباع في الظاهر، فإن هذا خطأ أيضاً، بل الواجب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً. قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي : قلت للشافعي : (إن صاحبنا الليث كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي رحمه الله: قصّر الليث رحمه الله، بل إذا(4/197)
رأيتم الرجل يمشي على الماء، ويطير في الهواء، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب. وأما ما يقوله بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اطلعت على أهل الجنة فرأيت أكثر أهلها البله) فهذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي نسبته إليه؛ فإن الجنة إنما خلقت لأولي الألباب الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وقد ذكر الله أهل الجنة بأوصافهم في كتابه، فلم يذكر في أوصافهم البَلَه الذي هو ضعف العقل، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء)، ولم يقل: البله]. هذا الكلام حول هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أهل الغوث، وهم ممن ينصبون أنفسهم لهذا الأمر، ولا شك أن الغوث إنما هو من الله تعالى، فمعلوم أن الغوث الذي هو إزالة الشدة وتفريج الكربات من الله، وأما الإنسان فلا يقدر أن يزيل شدة، ولا أن يفرج كرباً، ولا أن يسد حاجة إنسان بدون أمر وإعانة من الله تعالى، فذكر أن هناك من يقول: إن هؤلاء الذين وصلوا إلى هذه الحالة تفوقوا على الأنبياء، وأن الله يمدهم بعطاء من عنده، ويفتح عليهم، وينزل عليهم ملائكته أو ينزل عليهم وحيه بواسطة أو بغير واسطة، وأنهم قد استغنوا عن الوحي وعن شرائع الأنبياء، وهذه مقالة بعض العوام أو من يقلدهم. والجواب عليها: أن هذا كفر، ولا يجوز لأحد أن يستغني عن الشريعة الإسلامية مهما كانت حالته، بل الشريعة المحمدية هي خاتمة الشرائع، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، ولا يسع أحد الخروج عن شريعته، ومن نواقض الإسلام أن يعتقد أحد أن إنساناً يسعه الخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى! ثم هناك طائفة اعتقدت أن هؤلاء الذين يسمون أهل الغوث أو نحوهم كذبة، وأنه ليس هناك ما يسمى بغوث أو ما يسمى بفتح أو إلهام أو نحو ذلك، وقد تقدم في كرامات(4/198)
الأولياء: أن الله قد يفتح على بعض أوليائه وينطقهم بكلمات هي حكمة، أو يكون فيها شيء مما يسمى بخرق العادة، ويكون ذلك كرامة لهم، فلا يجوز إنكار ذلك. ......
أنواع الخوارق
…
خوارق العادة ثلاثة أنواع: النوع الأول: هو الذي يجري على أيدي الرسل والأنبياء، وهذه تسمى معجزات، ولا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثل معجزات الأنبياء. النوع الثاني: يجري على أيدي الصالحين من عباد الله، وهذه تسمى كرامات، بأن يفتح الله عليهم ويلهمهم، أو يعطيهم كرامات ظاهرها أنها تعجز البشر، ولكنها فتح من الله ومنّة منه؛ لتقوية الإيمان، أو لإمدادهم، أو لغير ذلك. النوع الثالث: ما يجري على أيدي السحرة والمشعوذين والكهنة ونحوهم، وقد ذكرنا أن هذا يسمى بالأحوال الشيطانية، وأن الشيطان قد يلابس بعض الناس، ويظهر منه أفعال قد يتعجب منها، كما يحدث أناس بأفعالهم وبعجائب أمورهم، حتى ذُكر أن أحدهم لما لابسه شيطانه أتى إلى نار موقدة وفيها جمر أمثال الحجارة، وجعل يأخذ الجمر بيده ويأكلها، ويُسمع لها حس إذا دخلت في ريقه وانطفأت به، ثم يبتلعها، حتى ابتلع الجمر كله، ويقولون: كانت النار تتقّد لكثرة جمرها، فانطفأت من كثرة ما أكل، ولا شك أن هذا من الشيطان الذي لابسه، والشيطان مخلوق من النار، ولا يتأثر بالنار، قال تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27]، فلا ينكر أن تجري مثل هذه الأشياء على أيدي هؤلاء المشعوذين ومن أشبههم. كذلك أيضاً لا شك أن هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أو يسميهم بعض الناس أهل الغوث، ليس لهم طريق يسلكونه إلا سلوك الطريق النبوية، وليس لأحد أن يخالف الشريعة، بل الأمة مكلفة باتباع هذه الشريعة مهما كانت، ولو خالفت الأهواء، ولو صعبت في بعض الأحوال؛ إذ لا يجوز لأحد الخروج عن العقيدة قيد أنملة، بل يتقيد بها، والله تعالى سدّ الطرق إلا طريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكلف الأمة باتباعه(4/199)
وبتقليده مهما كانت الأحوال، وجعل طاعته سبباً للسعادة، ومعصيته سبباً للشقاوة؛ قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71]، وقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:14].
لا يُصدق أصحاب خوارق العادات حتى يُعرضوا على الكتاب والسنة
…
ذكر العلماء رحمهم الله أن ما يقوله هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أهل الغوث من تسويل الشيطان غالباً، وأنه يلابسهم حتى ينخدع بهم من ينخدع، فلا بد أن نعرض أمرهم على الكتاب والسنة. وذكر المؤلف كلام الليث بن سعد، وهو عالم مصر رحمه الله، فنقل إلى الشافعي أنه يقول: إذا رأيت صاحب هوى يمشي على الماء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة، والشافعي رحمه الله يقول: قصر الليث ، بل إذا رأيته يطير في الهواء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة؛ وذلك لأنه يُشاهد. ونقل أيضاً متقدمون ومتأخرون أن السحرة ونحوهم قد يرفعون بعض الناس حتى يخيل للناس أنه بين السماء والأرض، فيتحرك ويضطرب ويتكلم، فيقولون: سبحان الله! يطير في الهواء بدون أن يمسكه شيء، وليس هناك شيء يرفعه، ولا يدرون أن الشياطين هي التي حملته!! وذكر شيخ الإسلام في كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) أن الشياطين أو الجن تحمل بعض أوليائها من مكان بعيد مسيرة شهر أو أشهر على الرواحل، وأنه يصل إلى الناس في عرفة، ويقف معهم، ويجلس معهم ساعة أو ساعات، ثم يردونه إلى مكانه في يومه أو في ليلته، وأنه يحدث الناس، ويقول: رأيت فلاناً وفلاناً، وسلمت على فلان، وقابلت فلاناً وهو راكب في كذا وكذا، وحدث كذا وكذا، إذا قدم الحجاج سألوهم، فقالوا: صحيح، هذا شيء وقع، وقد رأينا فلان حج معنا في عرفة، ولكن ما رأيناه في غير عرفة، ويتكلمون بما يطابق ما قال، فكيف حصل هذا؟! يقول: إن الجن حملته،(4/200)
والشياطين لها قدرة على الطيران لخفتها، فإذا كانت تصل إلى السماء كما قال الله عنهم: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ) فكيف لا تحمل هذا الشيء الثقيل وتوصله إلى مكان تقدر عليه إلى حيث تشاء ثم ترده؟!! ولكن لا تخدمه إلا إذا كان من أوليائها الموالين لها، والمتقربين إليها. فكيف نقول في هؤلاء؟ نعرض أمرهم كما قال الشافعي والليث على الكتاب والسنة.
حقيقة من يُسمون بالبله
…
اشتهر أناس في الزمان الأول كانوا يسمون بالبله، وقد يسمون بالمجانين، وكان يقال لأحدهم: المجنون فلان، والمجنون فلان، ثم ينقلون عنهم أفعالاً ويقولون: إنهم ممن رفع عنهم القلم، وسقطت عنهم التكاليف.. وأشباه ذلك. فنقول: ليس الأمر كذلك، والحديث الذي يتناقلونه وفيه: (أن أكثر أهل الجنة البله) لا يصح، بل الله تعالى ذكر أن أكثر أهل الجنة على لسان نبيه هم العاملون، وهم أولو الألباب، والله تعالى يذكر دائماً أولي الألباب -يعني: أهل العقول- ولا يذكر البله، ولا ناقصي العقول ولا المجانين ونحوهم؛ بل هؤلاء أقل أحوالهم أن تسقط عنهم التكاليف، ولا يكلف أحدهم إذا فقد العقل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- المجنون حتى يفيق)، فالأبله ضعيف العقل، قريب من المجنون، فكيف يكونون أكثر أهل الجنة؟! بل هم إذا دخلوا الجنة فإنهم يعاملون على أنهم ممن أثيبوا لأجل أنهم لم يستطيعوا أن يعملوا لقلة فهمهم وعقلهم. وبكل حال فهؤلاء الذين يسمون بالبله، قد انخدع بهم خلق كثير من المتقدمين والمتأخرين؛ بل وإلى زماننا، كما ذكر لنا أن هناك من المتأخرين في مصر وفي سوريا وفي كثير من البلاد الإفريقية من يعظمون هؤلاء الضعفاء، ويدعون أنهم أولياء، وأنهم ممن سقطت عنهم التكاليف، وأنهم ممن يأخذون الوحي بدون واسطة الأنبياء .. وأنهم .. وأنهم! ويقولون: إن من كراماتهم أن أحدهم إذا مات فإن الملائكة تحمله على النعش، والذين يحملونه فوق متونهم لا يحسون(4/201)
بثقله، فيخيل إليهم هذا، حتى قيل: إنه لما مات واحد من أولئك المجانين أراد أولياؤه أن يوهموا العامة أن هذا ممن حملته الملائكة، فصاروا يسرعون به سرعة زائدة، مع أنهم يحسون بثقله، ولكن كأنهم يقولون: انظروا -أيها العامة- أننا نحمله، وكأننا لا نحمل شيئاً؛ فالملائكة تحمله فوقنا، ونحن لا نحس به، فنحن الآن نسعى سعياً شديداً حتى كأننا لم نحمل شيئاً! وكل هذا لأجل إيهام هؤلاء العامة أنه من الأولياء، حتى يغلوا فيه، مع أنه مجنون لم يُعرف إلا بكلام ساقط. والمتقدمون ترجموا لهؤلاء فيقولون: قال المجنون سحنون، قال المجنون بهلول! وهذه أسماء موجودة في كتب التراجم التي تتكلم عن كرامات الأولياء ونحوهم، ومع ذلك يعتدون بكلامه وهم يسمونه مجنوناً! وكذلك أيضاً يذكرون أنهم في بعض البلاد من جهلهم أو بلههم أن أحدهم يمشي عرياناً، فيقولون: هذا ممن سقط عنه التكليف! وهذا كان حتى في الزمن المتوسط في عهد الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب (سبل السلام)، ففي قصيدته البائية يقول فيها: كقوم عراة في ذرى مصر ما على عورة منهم هناك ثياب يعدونهم في مصرهم من خيارهم دعاؤهم فيما يرون مجاب مع أنهم يمشون عراة ليس على عوراتهم ثياب، ومع ذلك يقولون: هؤلاء هم المجانين الذين سقطت عنهم التكاليف، وهؤلاء هم البله الذين لا حرج عليهم، ونقول: لا شك أن هذا من تلاعب الشيطان بهم. فعلى كل حال: لا يُغتر بمثل هؤلاء؛ بل يُرد أمر الجميع إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما وافق ذلك فهو الصواب. ......
شرح العقيدة الطحاوية [97]
من ضلال بعض الصوفية تفضيلهم وتعظيمهم للمجانين على العقلاء الصالحين، وقد رد عليهم أهل العلم هذا الاعتقاد الفاسد الخاطئ.
مجمل الكلام في تعظيم الصوفية لمن يسمونهم البله
…(4/202)
نحمد الله أن جعلنا مسلمين، نحمد الله على النعمة بهذا الدين، نحمد الله أن جعلنا من أتباع خير المرسلين، لا شك -أيها الإخوة- أنها منة كبيرة ونعمة عظيمة، أن هداكم الله، وأقبل بقلوبكم، ومنّ عليكم بمعرفته، وبمعرفة دينه، وبمعرفة نبيه، ووفقكم للقبول وللاتباع، فقد رأيتم وقد سمعتم الفئام والأعداد الكبيرة الكثيرة الذين أُتوا علوماً، ولم يُؤتوا فهوماً، أوتوا أذهاناً وقلوباً ولم يؤتوا زكاءً؛ أذكياء ولكنهم ليسوا أزكياء، منّ الله عليهم بالسمع والبصر والفؤاد، ولكن لم تغن عنهم أسماعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء. وما أكثر المنحرفين الذين رأوا الحق فحادوا عنه إما عن عمد وإما عن خطأ، وما أكثر الضالين المنكرين وهم يعلمون! فإذا وفق الله العبد ومنّ عليه وأقبل بقلبه فتلك نعمة عظيمة عليه أن يعرف قدرها، وعليه أن يشكر ربه عليها، ونحن إذا قرأنا وسمعنا ما يمر علينا في هذه الكتب وفي هذه الأخبار نرى العجب العجاب! هؤلاء من أهل العقول، ومن أهل الأفهام، ومن أهل الذكاء ومع ذلك يتركون الحق جانباً! ويتركون الحق وهم يرونه، ويرتكبون سبل الضلال! ونحن نسمع وتسمعون أخباراً في القريب والبعيد عن فئام من الناس قد كان آباؤهم على جهل؛ ولكن هم قد زال عنهم الجهل، كان آباؤهم على ضلال، ولكن هم أبصروا الهدى وعرفوه، ومع ذلك تشبثوا بسنن الآباء والأجداد وبعاداتهم! وصدق الله القائل: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70]. مر بنا في الدرس الماضي أن في الزمان القديم بل وفي هذه الأزمنة من يعظمون البله، ورووا فيهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها البله!)، وهذا الحديث لم يثبت؛ فهو حديث ضعيف، ولو نشروه، ولو اشتهر في مؤلفاتهم، فإنه لا حقيقة له، والأبله هو: ضعيف العقل، وأقل أحواله أن يكون مجنوناً ساقطة عنه التكاليف، فأما كونهم يُرفعون(4/203)
فوق الأبرار وفوق المقربين ويكونون أكثر أهل الجنة فإن هذا من الكذب. ونحن نعرف أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أكثر من يدخل الجنة هم الضعفاء والفقراء والمساكين الذين ليس لهم أموال تشغلهم، ولا تجارات يحاسبون عليها فيتأخرون، ولكن أهل الأموال يتأخرون في الحساب؛ ولذلك جاء في الحديث: (وأهل الجد محبوسون) يعني: أهل الحقوق محبوسون- يعني: للحساب- فأما أن يكون البله الذين هم ضعفاء العقول أكثر أهل الجنة فليس بصحيح، ثم لما فشا هذا الأمر عند كثير من الجهلة تشبثوا وتعلقوا بهؤلاء ضعفاء العقول، وصاروا يرفعون من شأنهم، ويعتقدون أن قولهم تنزيل من الله، وأن أفعالهم وحي من السماء، وأنهم معصومون، وأن أقوالهم متبعة، وأنهم صفوة الله من خلقه، فصاروا يتبعونهم، ويطيعون إشاراتهم وحكاياتهم، ولو كانت مخالفة للشرع، ولو كانت مخالفة للعقول السليمة! وهذا بلا شك من الانحراف العقدي، ومن المخالفة للكتاب وللسنة؛ وذلك لأن الله تعالى أمرنا بأن نتبع النبي صلى الله عليه وسلم، ونقتدي بسنته وسيرته، ونقتفي كتاب ربنا وسيرة نبينا، ونتمسك بذلك، ونلقي ما عدا ذلك خلف الظهور مهما كان القائل، ومهما كان المخالف، فكل ما خالف شرع الله تعالى فلا يلتفت إليه، وقد مر بنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). فطرق المتصوفة، وكذلك الملاحدة، والاتحاديون، وكذلك الطرقية ونحوهم من الصوفية الذين من جملة بدعهم تصفيقهم ورقصهم ونشيدهم ولهوهم ولعبهم وغير ذلك من البدع التي اتخذوها ديناً وما أنزل الله بها من سلطان. كذلك أيضاً من المعلوم أنهم قد يلابسهم الشيطان، وقد يجري على أيديهم شعوذةً وأشياء تكون غريبة يموهون بها على العوام، ويوهمون من رآهم بأنهم على حق، وأنهم يستطيعون أن يفعلوا أشياء تخالف عادات الناس، فلا جرم أنه لا يجوز أن يغتر بهم، وقد مر بنا(4/204)
الأثر المنقول عن الليث رحمه الله أنه كان يقول: لو رأيت صاحب هوىً يمشي على الماء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة. فالشافعي رحمه الله يقول: قصر الليث ! بل لو رأيت صاحب هوىً يطير في الهواء فلا تغتر به حتى تعرض أمره على الكتاب والسنة. فهؤلاء المشعوذون ونحوهم لو طاروا في الهواء، ولو مشوا على الماء، ولو أخرجوا الذهب من الخشب، ولو قلبوا الحجر ذهباً فنقول: لا نغتر بهم -بل نعتقد أن ذلك شعوذة وعمل شيطاني- حتى نعرض أمرهم على كتاب ربنا وسنة نبينا، فهما الميزان الذي يرجع إليه، كما قال تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، فالرد إلى الله: الرد إلى كتابه، وإلى الرسول: إلى سنته بعد موته، فما وافقهما فهو الصواب، وإلا فهو مردود على من جاء به، وأما هؤلاء الذين يسير خلفهم هؤلاء الضعفاء، ويعتقدون أنهم قد ارتقت قلوبهم، وقد تقربت إلى ربها، وقد سقطت عنهم التكاليف، وقد وصلوا إلى حظيرة القرب، وقد أطلعهم الله على اللوح المحفوظ، وقد صار لهم تمكن كما يزعمون أن يأخذوا من المعدن الذي تأخذ منه الملائكة ما توحيه إلى الرسل ونحو ذلك من الخرافات، فمثل هذه لا يلتفت إليها؛ بل مرجعنا هو شرع الله ودينه، وقد ذكرنا أن هذه الأمور فاشية منذُ أزمنة، وأن لهم حكايات ينقلونها، ومع ذلك يستشهدون بها. ولا شك أن هناك من يسمون بالمجانين وليسوا مجانين، ولكن لما رآهم عوام الناس قد زهدوا في الدنيا واشتغلوا بالأعمال الصالحة سموهم مجانين! ولكنهم في الحقيقة حكماء، وأما بعض المتأخرين الذين نقلت عنهم أقوال شنيعة فإنهم ولو كانوا عقلاء فهم أقل حالة من المجانين، وهم من البله والسفهاء وضعفاء العقول، فالمرجع في ذلك إلى ما يقوله علماء الشريعة، وعلماء الملة الذين هم أعرف بالله وبما جاء عن الله تعالى. ......
أحوال الطائفة الملامية والرد عليهم
…(4/205)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [والطائفة الملامية، وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون: نحن متبعون في الباطن، ويقصدون إخفاء المرائين! ردوا باطلهم بباطل آخر! والصراط المستقيم بين ذلك. وكذلك الذين يصعقون عند سماع الأنغام الحسنة، مبتدعون ضالون! وليس للإنسان أن يستدعي ما يكون سبب زوال عقله! ولم يكن في الصحابة والتابعين من يفعل ذلك، ولو عند سماع القرآن، بل كانوا كما وصفهم الله تعالى: إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وكما قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]، وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين فأولئك كان فيهم خير، ثم زالت عقولهم. ومن علامة هؤلاء: أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصحو تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم، بخلاف غيرهم ممن تكلم إذا حصل لهم نوع إفاقة بالكفر والشرك، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم، ومن كان قبل جنونه كافراً أو فاسقاً لم يكن حدوث جنونه مزيلاً لما ثبت من كفره أو فسقه، وكذلك من جن من المؤمنين المتقين، يكون محشوراً مع المؤمنين المتقين. وزوال العقل بجنون أو غيره، سواء سمي صاحبه مولهاً أو متولهاً، لا يوجب مزيد حال، بل حال صاحبه من الإيمان والتقوى يبقى على ما كان عليه من خير وشر، لا أنه يزيده أو ينقصه، ولكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير، كما أنه يمنع عقوبته على الشر، ولا يمحو عنه ما كان عليه قبله. وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة من(4/206)
الهذيان والتكلم ببعض اللغات المخالفة للسان المعروف منه فذلك شيطان يتكلم على لسانه، كما يتكلم على لسان المصروع، وذلك كله من الأحوال الشيطانية! وكيف يكون زوال العقل سبباً أو شرطاً أو تقرباً إلى ولاية الله -كما يظنه كثير من أهل الضلال-؟! حتى قال قائلهم: هم معشر حلوا النظام وخرقوا الـ سياج فلا فرض لديهم ولا نفل مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل وهذا كلام ضال، بل كافر، يظن أن للجنون سراً يسجد العقل على بابه؛ لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة، أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين، كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشفه أو خرق عادة كان ولياً لله!! ومن اعتقد هذا فهو كافر، فقد قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222]، فكل من تنزل عليه الشياطين لا بد أن يكون عنده كذب وفجور]. ......
نعمة العقل
…(4/207)
لا شك أن العقول نعمة من الله على الإنسان، وأنه سبحانه منّ على هذا النوع الإنساني بأن ميزه بهذا الفهم، وهذا الإدراك، وهذا العقل الذي كلّفه لأجله، فالله تعالى ما كلف البهائم والدواب والوحوش والحشرات وبهيمة الأنعام؛ لأنها ليس لها عقول. فالنوع الإنساني ميزه الله بهذا العقل؛ بحيث إنه يفهم الخطاب ويرد الجواب، ويعرف ما يقال له، ويتفكر فيمن خلقه، وفيما بين يديه وما خلفه، وجعل الله هذا العقل ينمو شيئاً فشيئاً، وجعله أكبر مِنّة، وجعل الذين يتفكرون ويتدبرون هم أهل العقول، وكثيراً ما يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد:4] يعني: لا ينتفع بها إلا العقلاء، ويقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد:3] أي: يتفكرون بعقولهم، وكثيراً ما يأمر الله بالتفكر في المخلوقات كقوله: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [يوسف:109]، وقوله: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون:68]، وقوله: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ [ق:6] يعني: نظر عبرة، وقوله: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]، والتفكر لا يكون إلا بالعقول، فإذا عرف ذلك فإن العقل هو ميزة الإنسان، وإذا فقد العقل فقد خصيصته، وفقد ميزته وفضيلته، والتحق بالبهائم؛ بل قد يكون أشر حالة من البهائم؛ فإن البهائم معها عقول معيشية، بمعنى: أنها تتبع مصالحها، وتطلب أسباب نجاتها، وتعرف ما يلائمها وما يناسبها من المآكل ومن المشارب ونحوها. وأما من سلب عقله، فإنه لا يميز بين التمر والجمر، ولا يميز بين التراب والماء، ولا يميز بين الطعام الذي فيه سم والذي فيه دسم! وذلك لأنه فقد ميزته التي تميز بها، فأصبح بذلك أقل حالة من البهائم، وإذا كان كذلك فإنا نقول: إن الذين فقدوا عقولهم في الدنيا يعني: عاقبهم الله بأن أذهب(4/208)
عقولهم، أو ولدوا وهم مجانين، أو حصل لهم مرض ذهبت فيه عقولهم، ما هي حالتهم؟ هل يكونون أفضل من العقلاء عند الله؟ الجواب: ليسوا أفضل، وإنما أقل حالاتهم: أنهم معذورون يرفع عنهم التكليف، فلا يعاقبون، ولا يُقتل أحدهم إذا قتل؛ لأنه لا عمد له؛ وكذلك لا يُجلد لو زنى، ولا يُقطع لو سرق؛ وذلك لفقد العقل؛ لأن العقل يعقل صاحبه، يعني: يقيده عن أن يتقدم إلى ما فيه مضرة، وهؤلاء ليس عندهم ما يعقلهم ولا ما يقيدهم.
كتابة الحسنات للمجانين
…(4/209)
هل تكتب للمجانين حسنات؟ الجواب: لا تكتب لهم حسنات، ولا تكتب عليهم سيئات، ولكن تسقط عنهم التكاليف، وثوابهم في الآخرة على ما يشاء ربنا، فيمكن أن يلحقوا بأهل الفترات الذين لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، أو الذين لم يدركوا رسلاً قبلهم، ولم يأتهم رسل في زمان الفترة، فإنهم يقولون: يا رب! ما جاءنا بشير ولا نذير، وما بلغتنا دعوة الرسل، فكيف تعذبنا؟! فيقول الله تعالى: أرأيتم إذا أمرتكم أتطيعوني؟ فيقولون: وما لنا لا نطيعك؟ فتمثل لهم نار تشتعل، فيقول: ادخلوا هذه النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، وصار من أهل الجنة، ومن امتنع أن يدخلها قال الله له: هذا وأنا الذي أمرتك، فعصيت أمري، فكيف لو جاءتك رسلي؟! فعلم الله في هؤلاء أنهم ممن حقت عليهم كلمة العذاب، فالمجانين الذين ولدوا مجانين، أو أصابهم الجنون بعد الولادة وقبل التكليف، وبقوا على ذلك، فهؤلاء يلحقون بأهل الفترات، ويمتحنون في الآخرة. أما أن يقال: إنهم مقربون، أو إن لهم مكانة عند الله، أو إنهم من أهل الزلفى، أو إنهم ممن وصلوا إلى حظيرة القدس! فإن هذا كذب؛ بل هم أقل حالة بكثير من العقلاء، ولا شك أنهم عادةً إذا أصاب أحدهم الجنون في أثناء حياته، فإن كان قبل إصابة الجنون من أهل الفسوق، ومن أهل المعاصي، ومن أهل الذنوب، ومن أهل الجرائم الذين يسكرون، ويقتلون، ويسرقون، ويهجرون، فإنه إذا جُنّ يصير هذيانه فيما كان يفعله من قبل، فتراه يتكلم بأفعاله الشنيعة من فعل الفواحش والمنكرات ونحوها، وإذا ارتاح في وقت من الأوقات ورجع إليه عقله في حين من الأحيان فإنه يعود إلى غيه، كما قال الشاعر: والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه إذا ارعوى عاد إلى قوله كدبٍّ عاد إلى نكسه أما إذا كان قبل الجنون من أهل الإيمان والأعمال الصالحة، وأهل التقوى؛ فإنه -والحال هذه- إذا أصيب بالجنون ثم بقي على جنونه أصبح معذوراً، ولا تزيد حسناته في حالة جنونه؛ بل(4/210)
يرفع عنه التكليف، وعادة أنه يهذو بما كان يعمله، فيتكلم في الحسنات، ويتكلم في القربات، وما أشبه ذلك، وهذا في المجنون الذي فقد العقل فقداً كلياً، وإذا عرفنا أن هذا الجنون نقص حقيقيٌّ فإننا نقول: لا يجوز للإنسان أن يتعاطى الأسباب التي تذهب عقله، فنقول: لماذا حُرم شرب المسكرات؟ الجواب: لأن المسكر يزيل هذا العقل، ولو إزالة مؤقتة. فالشيء الذي يزيل عقل الإنسان ويلحقه بالبهائم ينبغي مباعدته ومحاربته، فهؤلاء الذين يتعاطون أشياء تزيل عقولهم عمداً سواءً كان ذلك الشيء من المحرمات كالإسكار وما أشبهه، أو من غيرها نقول: إنهم هم السفهاء، ولا يرضى عاقل فعل السفهاء، ولا يرضى أن يتعاطى شيئاً يذهب عليه عقله.
الرد على أصحاب الفناء
…(4/211)
بعض المتصوفة كانوا يجتمعون في أماكنهم ثم يغلب عليهم شيء يسمونه الفناء؛ وذلك إما بسماع يسمعونه من وعاظهم ونحوه، وإما برقص يرقصونه إلى أن يصلوا إلى الفناء، وإما بتفكير يفكرونه في أشياء إلى أن يغلب عليهم هذا الوصف الذي يسمونه الفناء؛ بحيث لا يشعرون بمن حولهم!! فهذا الفناء هل حصل للصحابة؟! الجواب: لم يحصل، ولم يحصل للتابعين لهم بإحسان، ولم يحصل لأئمة الدين، وإنما وجد في هؤلاء المتصوفة الغلاة الذين يزعمون أن سببه هو هذا التواجد، ويقولون: إن أحدهم يتصل قلبه بربه، وأنه يفنى عن نفسه، ولا يشعر بحالته، ويقولون: يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، يفنى بموجوده عن وجوده، موجوده يعني: نفسه، أي: أنه يفنى بنفسه في ربه، ويفنى من لم يكن هو الإنسان، ويبقى من لم يزل، ويتصل روحه بالملأ الأعلى، هذا معنى الفناء، وهو بدعة من بدع المتصوفة، ومع ذلك فإنهم يعدونه رقياً، ويتمدحون به، ويزعمون أنه درجة رفيعة، وأنه درجة متمكنة لا يصل إليها إلا الخواص! كذلك أيضاً من أحوال المتصوفة، أن أحدهم إذا تليت عليه آيات أو مواعظ أو كلمات أو نحوها يصعق، ويزعم أن ذلك مما لا يطيق الصبر عليه، وهذا الصعق لم يُؤثر عن الصحابة، ولا عن أئمة الدين، بل كانوا كما ذكر الله تعالى عنهم أنهم يزيدهم القرآن خشوعاً، ويخضعون له ويسجدون، قال عز وجل: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، وقال: إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا [الإسراء:107]، وقال: تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] أي: تخشع قلوبهم، وتزيدهم الآيات إيماناً، هذه هي أوصاف أولياء الله، وهذا هو النص الحقيقي للمؤمنين، فأما أن يصل إلى أنه يصعق أحدهم أو يغمى عليه، فهذا أقل أحواله أن يكون معذوراً، وأن يكون الذي غلبه هو شدة الخوف، أو على ما يقول الصوفية: شدة التواجد، فلا شك أن هذا ليس(4/212)
أشرف حالاً من حال الصحابة والأئمة المهتدى والمقتدى بهم. وأما ما ذكر عن أحوال هؤلاء الذين ذكرهم هذا الشاعر، وأن العقول تسجد على أبوابهم .. إلى آخره، فإن ذلك بلا شك كفرٌ وضلال، فنقول: لا تسجدوا إلا لله، وهذا التواجد الذي يحصل لهم كله خطأ لا أصل له. فالمسلم يتقيد بأوامر الشرع، ويبتعد عن الأشياء التي لا أصل لها، وأما من يسمون بالملامية الذين ذكرهم، وأنهم الذين يفعلون الأشياء التي يلامون عليها، ويتعمدون ذلك؛ فهؤلاء من المنحرفين؛ واللوم في الأصل هو: أن يفعل الإنسان شيئاً لا يحسن بحيث يلام عليه، وقد ذم الله تعالى ذلك، ففي قوله تعالى في قصة فرعون: وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ [الذاريات:38-40] أي: آثم بما يلام عليه، يعني: مستحق للوم الذي سبب أنه عذب به. ثم هؤلاء يقولون: إنهم يفعلون هذه الأشياء، حتى إنهم يتعمدون أن يلاموا عليها، وليس في ذلك أصل من دين الله، فلا يغتر بمثل هذه الطرق التي لا أصل لها في شريعة الله.
كل تعبد خالف الشرع مردود على صاحبه
…(4/213)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأما الذين يتعبدون بالرياضات والخلوات، ويتركون الجمع والجماعات، فهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، قد طبع الله على قلوبهم، كما قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً من غير عذر طبع الله على قلبه). وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول، إن كان عالماً بها فهو مغضوب عليه، وإلا فهو ضال؛ ولهذا شرع الله لنا أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني، الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق: فهو ملحد زنديق، فإن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر ، ولم يكن الخضر مأموراً بمتابعته؛ ولهذا قال له: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه، وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض إنما يحكم بشريعة محمد، فمن ادعى أنه مع محمد صلى الله عليه وسلم كالخضر مع موسى، أو جوّز ذلك لأحد من الأمة فليجدد إسلامه، وليشهد شهادة الحق؛ فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله، وإنما هو من أولياء الشيطان، وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم وأهل الاستقامة، فحرك ترَ، وكذا من يقول بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا!! فهلا خرجت الكعبة إلى الحديبية فطافت برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر عنها، وهو يود منها نظرة؟! وهؤلاء لهم شبه بالذين وصفهم الله تعالى حيث يقول: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52] إلى آخر السورة]. هذه صفة لا شك أنها بشعة وشنيعة، وهؤلاء هم من المتصوفة، وكان(4/214)
مجموعة منهم يعتزلون إما في زاوية، وإما في مكان نازح، ثم يعكف في نظره بقلبه على ربه، ويجمع جمعيته، ويجيل فكره في الملأ الأعلى في نظره، ويبقى لا يخرج إلى المساجد، ولا يصلي جمعة ولا جماعة، ويزعم أنه إذا خرج تفرق عليه قلبه! ورأى ما يشتت عليه فكره! وأنه إذا بقي اجتمع عليه ذكره، وأعمل هذا العقل إلى أن يتجاوز السبع الطباق! إلى أن ينظر في الملأ الأعلى، وفي ملكوت السماوات والأرض، كما يقول! حتى يحصل له ما يُعبر عنه بالتواجد، ويحصل ما يحصل عليه مما يسمى بالاستلامات والحركات التي تخالف الحركات الطبيعية، وهؤلاء فرق كثيرة قديمة الوجود، وموجودة الآن في البلاد التي يكثر فيها التصوف. ولا شك أنهم إذا تركوا الجمع والجماعات أنهم تركوا الشريعة والسنة المحمدية، وأنهم ابتدعوا ديناً من عند أنفسهم فضّلوه على شرع الله، وعلى دين الله، وليس لهم سنة وطريقة يستدلون بها، ولا دليل يحذون حذوه إلا مجرد التجربة في زعمهم أن هذا جُرب، وأنه لما جمع جمعيته رأى ما لم يره غيره. فالحاصل: أنه تارة يكون الواحد منهم منفرداً في زاوية في بيته أو في صومعة أو في مكان خاص، وقد يخرج خارج البلد ثم يجيع ويظمئ نفسه ويتعبها، ويعمل فكره، ويبقى مفكراً يومه وليلته ويومه الثاني وليلته الثانية إلى أن يحصل له مطلبه، وهو الفناء الذي يعبر عنه بالتواجد .. وما أشبه ذلك. ثم إنه يفضل نفسه على رسل الله؛ إذ لم يكن الرسل وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم يفعلون هذه الأشياء، فعرف بذلك ضلال هؤلاء، وبطلان طريقتهم، وأنهم لا يمكن أن يصلوا إلى ما وصل إليه رسل الله الذين فضلهم، والذين ميزهم بما ميزهم به من العلم، وهكذا ما شرعه في شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم التي هي خاتمة الشرائع. فهذه من البدع المنكرة عليهم، وبلا شك أن البدع لا تتمكن إلا إذا رأى أهلها فيها شيئاً يجتذبون به الناس، وقد انخدع بهم خلق كثير عندما رأوا أنهم يحصل منهم هذه الكلمات،(4/215)
وهذه التوهمات، وهذه الأمور التي قد يظنون أن فيها شيئاً من الأمور الغيبية، وأنهم يطلعون على أمور سماوية، وأنهم .. وأنهم، فرآهم جمهرة وجمع كثير من الناس فتزينوا بزيهم، وساروا على نهجهم -والعياذ بالله- ووقعوا في هذا الأمر الذي هو ترك الشريعة واتباع هذه الطرق المبتدعة، وتعطيل ما هو عبادة سماوية مأمور بها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه) والعياذ بالله! فيجب أن نحذر من كل هذه الطرق وغيرها التي تخالف الشرع، ونتجنب أهلها، ونعرف أنهم يسيرون عليها لأجل أن يضلوا ويضللوا غيرهم، والعياذ بالله!......
الرد على الصوفية المعظمين للمجانين
…(4/216)
تقدم ما ذكره الشارح رحمه الله فيما يتعلق بالذين يعظمون البله والمجاذيب والمجانين ونحوهم، ويعتقدون أنهم من المقربين، ويعتقدون أنهم يصلون إلى الله تعالى من طرق غير طرق الأنبياء والرسل، وأنهم يمكن أن يستغنوا عن الشرائع السماوية، وأنهم لذلك يستحقون أن يُقتدى بهم في أفعالهم، ويُسار على مناهجهم، وهذه الأقوال -وللأسف- انتشرت في المتصوفة، ويكثر تواجدهم في الدول الإفريقية وفي غيرها، ويقول وجودهم إذا قويت العقائد السلفية، وإذا تمكنت معرفة التوحيد عند أهله، ولكن لا يزال الكثير على هذه المناهج الفلسفية والطرق الصوفية، ولا يزالون ينقلون تلك النقول ويموهون على العوام أن هؤلاء ولو كانوا ناقصي العقول فإن قلوبهم عند ربهم، وأنهم سقطت عنهم التكاليف ولو كانوا من البشر، وأن جميع كلامهم حكم وآيات وعبارة! ولكن ذلك كله لا يروج إلا على الجهلة الذين هم أتباع كل ناعق، أما أهل السنة والجماعة وأئمة الدين وفقهاء الإسلام فإنهم يعرفون أن الطرق كلها مسدودة إلا الطريق الشرعية، وهي طريق الرسل الذين أرسلهم الله ليوضحوا للناس الشرائع، وليدلوهم على ما يقربهم إلى ربهم، فمن سلك تلك الطرق التي هي طرق أولئك المشعوذين وأولئك المموهين ونحوهم فإنها تؤدي به إلى الهلاك، ومن سلك الطريق الأقوم الذي هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يؤدي به إلى النجاة والفلاح. ولقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خط خطاً مستقيماً، وخط خطوطاً عن يمينه وعن شماله، وقال للخط المستقيم المستمر: هذا صراط الله، وقال للطرق المنحرفة عن يمينه وشماله: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه)، فمن سار على ذلك الخط المستقيم وصل إلى النجاة، ومن انحرف وأخذ بنيات الطريق ضل وهلك وتردى. وضرب بعضهم لذلك مثلاً بجريد النخل: فإنه يُشاهد أنه يتدلى بعضه حتى تصل أطرافه إلى الأرض، فلو أن حشرة من الحشرات ارتقت على الجريدة وسارت على وسطها ولم تنحرف فإنها تصل(4/217)
إلى أعلى النخلة، وتأكل من ثمرها، أما إذا انحرفت وركبت إحدى الأغصان المتدلية فإنها تسير عليها قليلاً، ثم تسقط بنهايتها، فهكذا من سار على هذا الخط المستقيم أوصله إلى كرامة الله، وأوصله إلى الدرجات، وأوصله إلى النجاة، أما من انحرف وركب هذه الطرق فلا يأمن أن يهلك ويتردى، وقد تمادى هؤلاء في مدح أولئك المجانين والمجاذيب الذين يسمون أحدهم مجذوباً، ويقولون: قلبه عند ربه! وتمادوا في تعظيمهم حتى ادعوا أنهم: إذا ماتوا رفعوا إلى السماء! هكذا يعتقدون فيهم، ويموهون أن هذا الذي هو سقيم العقل عند الناس ما ذُهب بعقله إلا أنه تعلق بربه، وأن ربه قد أسقط عنه التكاليف، وأباح له كل شيء، أباح له أن يفجر! وأن يزني! وأن يقتل! وأن يفعل الجرائم والبشائع دون أن يكون عليه إثم أو يكتب عليه سوء! ونحن نقول: إذا ثبت أنه مجنون بمعنى: أنه مسلوب العقل والفطرة فهذا أقل أحواله ألا تُكتب عليه لا حسنات ولا سيئات، فأما أن يتفوق على أهل الحسنات، وعلى الصالحين من عباد الله فحاشا وكلا، إذ لا يمكن أن يكون المجنون أرقى درجة من العاقل الذي عمَّر وقته بالصلوات، وعمَّر وقته بالعبادات، وأكثر من الحسنات! ثم إن المجنون قد يكون ملحقاً بأهل الفترات الذين لم تأتهم الدعوة، أو في أماكن نازحة لم تبلغهم الرسالة، ولم يسمعوا عن الإسلام، ولا عن دين الإسلام، فهؤلاء لا نحكم بضلالهم ولا بكفرهم، ولا نخلدهم في النار؛ لأنهم قد يعتذرون ويقولون: يا ربنا! بأي شيء نتعبد؟! لو أعطيتنا عقولاً لتعبدنا كما تعبد هؤلاء، أو لو بلغتنا الشرائع لتعبدنا كما تعبد أهلها؛ ولكن الله تعالى يمتحنهم، ففي الحديث أنه يقول لهم: (أرأيتم إذا أمرتكم بأمر أتطيعوني؟ فيقولون: وما لنا لا نطيعك وأنت ربنا؟! فتُمثل لهم نارٌ تشتعل، فيُقال: ادخلوها، فمن علم الله أنه من أهل السعادة والخير دخلها، وكانت عليه برداً وسلاماً، ومن علم الله أنه شقي ليس من أهل الجنة فإنه يتقاعس ولا(4/218)
يدخلها، فيقول الله: قد أمرتك فعصيتني، فكيف لو أمرتك رسلي! أنت من أهل النار) فيتميز بذلك أهل الجنة من أهل النار. فالبُله والمجذوبون والمجانين وناقصو العقول ونحوهم الذين بلغوا واستمروا على ذلك إلى الممات ملحقون بأهل الفترات، وملحقون بأهل الأماكن النائية الذين لم تبلغهم الدعوة، هذه حالتهم. وبذلك يُعرف أن الذين فضلوهم على العقلاء، وفضلوهم على الأنبياء، وجعلوهم مستغنين عن الشرائع؛ قد أتوا قولاً إدَّاً. ......
…
شرح العقيدة الطحاوية [98]
أهل السنة يرون الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة كثيرة جداً.
منهج أهل السنة في لزوم الجماعة وترك الفرقة
…(4/219)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (.. ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفرقة زيغاً وعذاباً ..): قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعَاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]. وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159] وقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119]، فجعل أهل الرحمة مستثنَين من الاختلاف. وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176]. وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابَين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء- كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. وفي رواية: قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)، فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة، وأن الاختلاف واقع لا محالة. وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم، يأخذ الشاة الشاردة القاصية، فإياكم والشعاب! وعليكم بالجماعة، والعامة، والمسجد). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابَاً مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65] قال: (أعوذ بوجهك! أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك! أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعَاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ(4/220)
بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65] قال: هذه أهون)، فدل على أنه لا بد أن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض، مع براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الحال، وهم فيها في جاهلية. ولهذا قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية. وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: (ترك الناس العمل بهذه الآية) يعني: قوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر الله تعالى، فلما لم يُعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية. وهكذا مسائل النزاع التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع -إذا لم ترد إلى الله والرسول- لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضاً، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر و عثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد، فيقر بعضهم بعضاً، ولا يعتدي ولا يُعتدى عليه، وإن لم يُرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله، والذين امتَحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء، ابتدعوا بدعة، وكفَّروا مَن خالفهم فيها، واستحلوا منعَ حقه وعقوبتَه..]. هذا الكلام يتعلق بوقوع الاختلاف في هذه الأمة كما وقع في الأمم السابقة، ويجب على الأمة -أمة الإجابة والدعوة الاجتماع والائتلاف، يقول: إن الواجب على المسلمين جميعاً أن يأتلفوا ولا يختلفوا، وأن يكونوا إخوة كما سماهم الله تعالى. ......
الجماعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين
…(4/221)
كان أهل المدينة قبل الإسلام مختلفين، ويقع بينهم قتال كثير، ويستمر القتال حتى يُقتل فيه أعداد من هؤلاء وهؤلاء. ولما جاء الإسلام زال ذلك الاختلاف، وزالت تلك الفرقة، واجتمعوا على الإسلام، فذكَّرهم الله تعالى بذلك في قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعَاً [آل عمران:103] أي: تمسكوا بحبل الله الذي هو دين الإسلام. وَلا تَفَرَّقُوا أي: لا تكونوا فرقاً وأحزاباً. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانَاً [آل عمران:103]: فجعلهم إخوة وهو حق، فإنهم بعد أن دخلوا في الإسلام أصبحوا مثل الإخوة متحابين، وهكذا أصبحوا يحبون كل مؤمن، لما جاءهم المهاجرون صاروا يحبونهم كما يحبون إخوانهم أولاد آبائهم وأمهاتهم، كما ذكر الله ذلك بقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9] يحبون المهاجرين، بل يقدمون محبتهم على محبة أنفسهم، كما في قوله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]. وما ذاك إلا أنهم عرفوا أن الله يحبهم فأحبوهم، ما دام أن الله يحب المؤمنين فإننا نحبهم، وما دام أنهم يحبون الله، ويحبون رسول الله فإننا نحب من يحب الله، نحب من يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، وإذا ثبتت هذه المحبة فلا بد أن لها آثارها، وهي: الاجتماع، أن نكون مجتمعين غير متفرقين، أهدافنا موحدة .. مقاصدنا محددة .. كل منا على الإسلام .. كل منا يعبد الله ويعرف الله، ويعرف دين الله ويدين به، وكل منا على عقيدة واحدة، وعلى شريعة واحدة وهي: شريعة الإسلام. هكذا كان الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الشريعة، وكذلك في عهد أبي بكر ، وفي عهد عمر ، وفي عهد عثمان ، كانوا على هذه الشريعة، لم يكن بينهم أي اختلاف يسبب التقاطع(4/222)
والتباغض والعداوات.
من مقاصد الشريعة المحبة والاجتماع
…
من تأمل شرائع الأنبياء وشريعتنا خاصة، وجد أن كل المعاملات والأحكام تهدف إلى هدف واحد وهو تحصيل الأخوة بين المسلمين، الذي يكون من آثاره جمع الكلمة، إخوة في ذات الله تعالى، فعلى المسلمين أن يتركوا التقاطع والتباغض جانباً؛ ليكونوا متحابين في ذات الله. ومن تأمل المنهيات التي تتعلق بالمعاملات وجد أن الحكمة من تحريمها ومن النهي عنها أنها تسبب البغضاء، وتوقع العداوة والوحشة بين المسلمين. لأجل ذلك نهى الله عن أشياء تسبب هذا، فمثلاً قال الله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11]، لماذا نُهينا عن السخرية؟ لأنها تسبب الفُرقة. وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرَاً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]. اللمز هو العيب، قال الله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، وقال: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11] وهو الذي يتتبع العثرات، ويلصق بالإنسان ما ليس فيه، لماذا نهينا عن الهمز واللمز والعيب والثلب وتتبع العثرات وإظهار السوءات؟! لأنه يسبب الفُرقة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تَقاطَعوا، ولا تَدابَروا، ولا تَهاجَروا، ولا تَحاسَدوا، ولا تَنافَسوا) لماذا نهانا عن التقاطع والتهاجر؟ لا شك أن هذه الأشياء التي نهانا عنها تسبب الفُرقة، فإذا تركناها أصبحنا مجتمعين، ولا شك أن الإسلام يهدف إلى الاجتماع، ويحث عليه، وينهى عن الاختلاف.
الآيات الدالة على لزوم الجماعة
…(4/223)
الآيات التي أوردها الشارح رحمه الله دالةٌ دلالةً واضحة على النهي عن الفُرقة: قال الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، وقال: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119]. فدل على أن من رحمهم الله فإنهم غير مختلفين، وأن أولئك الذين اختلفوا قد فاتتهم الرحمة، ولا شك أن فوات الرحمة أمر عظيم وكبير، حيث حصل لهؤلاء رحمة، ولهؤلاء ضد الرحمة، أو نُزعت منهم الرحمة. إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً [الأنعام:159] يعني: أحزاباً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ [الأنعام:159]. وقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32]. إلى آخر الآيات التي سمعتم، ولا شك أنها نهي عن التحزبات، ونهي عن الاختلافات. وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]أي: لا تتبعوا السبل المنحرفة فتتفرق بكم عن سبيله، فسبيل الله هو سبيل النجاة. ومعلوم أن هذه الشريعة قد من الله تعالى ببقائها، وحفظها على الأمة، وأن حفظها عليهم نعمة عظيمة وكبيرة، حيث وفقهم لحفظها، ووفقهم لبقائها، وبين لهم تعاليمها، فكل شيء مما يتعلق بهذا محفوظ مبين.
خطر التفرق والتنازع والتحزب
…(4/224)
لا مبرر للاختلاف .. لا موجب للتفرق .. لماذا نتحزب أحزاباً؟! ولماذا نتسمى بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان؟! القصد واحد، والجماعة واحدة، والتفرق -بلا شك- سبيل إلى التحزبات وإلى تفرق الكلمة، ولا شك أن المسلمين كلما تفرقوا وتباعدوا وتناءت كلماتهم ضعفت قوتهم، وإذا ضعفت قوتهم قوي أعداؤهم عليهم، فتسلطوا عليهم. ولو تتبعنا التواريخ والوقائع التي وقعت على الأمم السابقة، بل وعلى هذه الأمة؛ لوجدنا أنهم إنما يسلط عليهم الأعداء عندما تتفرق كلمتهم، أما إذا اجتمعوا فإنهم يصيرون إخوة، وهدفهم واحد، ووجهتهم نحو العدو واحدة، وهكذا. ذكروا في تاريخ آخر القرن الأول، أن المسلمين كانوا يقاتلون في حدود أفغانستان، فتركوا القتال في وقت من الأوقات، فظهرت بينهم أحزاب وخلافات بسبب المفاخرات، هذه القبيلة تفتخر، وهذه القبيلة تذكر نسبها، وهذه تذكر حسبها، فحصل بينهم شقاق وخلافات ومنازعات، مع أن كلهم مسلمون. فتولى عليهم قتيبة بن مسلم الباهلي، وهو أحد القواد المصلحين، فخطبهم وقال: لماذا تتفرقون؟! ولماذا تتحزبون؟! كلكم من آدم! وكلكم مسلمون! وكلكم على شريعة واحدة! تعبدون رباً واحداً، وتدينون ديناً واحداً، فاجتمعوا ووجهوا قوتكم إلى عدوكم، فإن عدوكم بحاجة إلى أن تذلوه، وعدوكم يفرح بهذه التفرقات فيكم. فلما لَمَّهم وجمعهم قويت كلمتهم، فتوجهوا وصاروا يفتحون بلاد أفغانستان، وبلاد السند، وبلاد ما وراء النهر، وفتحوها بلداً بلداً إلى أن وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وحصل هذا بعد أن جمع الله كلمتهم. فعُرف بذلك أن الشياطين وأعوان الشياطين لهم أغراض في تفريق الكلمة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد كان يحث على الجماعة، وقد مثّل صلى الله عليه وسلم المنفردين بالشاة القاصية والبعيدة التي تبتعد وتنعزل عن الغنم، فيأتي الذئب على حين غفلة من الرعاة، فيأخذها ويختطفها، فهكذا الشيطان للإنسان، متى وجد هذا شاذاً في قول، وهذا منفرداً بعقيدة،(4/225)
وهؤلاء الفرقة القليلة على نحلة وعلى مذهب؛ تمكن منهم، وأدخل عليهم البدع، وأدخل عليهم الوساوس، فإذا انتبهوا لأنفسهم، ورجعوا إلى الطريق السوي، وتمسكوا بالصراط المستقيم، واجتمعت كلمتهم مع علمائهم ودعاتهم، ومع سائر إخوانهم؛ فإنهم يكونون يداً واحدةً، ولا يقوى عليهم الشيطان، كلما وسوس إليهم بوسوسة وألقى في قلوبهم أو في قلب أحدهم شكاً أو ريباً أو شبهةً احترقت بنور النبوة، احترقت بأنوار الشريعة، ولم يبق له سلطان: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100].
حديث افتراق الأمة
…(4/226)
حديث افتراق الأمة، فيه أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهو دليل على أن الله تعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على أن الأمة الذين استجابوا لدعوته سوف يقع بينهم شيء من الخلافات، وهذه الخلافات لا بد أن يكون لها آثار، فآثارها وقوع قتال ووقوع تفسيق وتكفير وتضليل فيما بينهم، وقد وقع هذا الاختلاف حتى في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فوقعت الفتنة الأولى التي هي خلاف بين علي ومعه أهل العراق، لما جاء بعض الصحابة يطالبون باستئصال قتلة عثمان ، فوقعت وقعة بشعة تسمى وقعة الجمل، قتل فيها خلق كثير من هؤلاء وهؤلاء، مع أن الجميع مسلمون؛ ولكن تدخل الشيطان فأوقع هذا الاختلاف. وأكثر الصحابة أجلاء لم يدخلوها بل اعتزلوها، وإنما دخلها من لا بد منه كعلي ومن معه و عائشة ومن معها، وقتل فيها من الصحابة الزبير و طلحة ، وقتل فيها من قتل من أتباع هؤلاء وهؤلاء. ثم وقعت فتنة أخرى في صفين بين أهل الشام وأهل العراق، أهل الشام يطالبون بدم عثمان ، ويطلبون باستئصال قتلته، وأما أهل العراق فيطالبون بجمع الكلمة ويقولون: إننا سوف نستأصلهم بعدما تجتمع الكلمة، فوقعت هذه الفتنة التي حصل فيها قتل كثير يقدر بعشرات الألوف من هؤلاء وهؤلاء، وكانت فتنة عظيمة، وممن قتل فيها من الصحابة عمار بن ياسر رضي الله عنه، وأكثر القتلى من غير الصحابة. ثم انعزلت فرقة من أصحاب علي ، وكفروا علياً و معاوية ، وسُموا بالخوارج؛ لأنهم خرجوا عن طاعة أمير المؤمنين، وعن موافقة المسلمين، وليس فيهم أحد من الصحابة، بل كلهم من غير الصحابة، فحصل أن الصحابة غزوهم وقاتلوهم، وحصل منهم ثورات وقتال استمر أكثر من سبعين سنة مع المسلمين، ولا شك أن ذلك من أسباب الفرقة، وأن الشيطان أوقع هذا الخلاف بينهم في هذه العقائد، حتى يضللهم ويوقعهم فيما أوقعهم فيه، مما له فيه هدف وقصد، ثم حدثت بعد ذلك فرق كثيرة، ومنها ما وصلت بدعتهم إلى(4/227)
الكفر، ومنها ما وصلت إلى الابتداع الذي هو دون الكفر.
الحث على التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة
…
أهل السنة يعتقدون أن جميع أهل الأهواء مبتدعون، ويقولون: عليكم جميعاً أن ترجعوا إلى الأصل، فلو رجعتم إلى الأصل والشريعة، وإلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم لوجدتم أنها طريق واحدة بلا تثنية، وذلك مذكور في حديث التفرق، فإنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرقة الناجية: (من هي؟ فقال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). ومعلوم أن سنة الصحابة وطريقتهم مجتمعة، وأنهم -والحمد لله- لم يكن بينهم اختلاف تضاد في الدين، ومعلوم أن ما كانوا عليه محفوظ مدوَّن قد يسر الله من العلماء من نقل عنهم أقوالهم وأفعالهم التي يتعبدون بها ويدينون بها، فعلينا أن نحرص على الاقتداء بسنتهم، وأن نترك كل المحدثات التي جاءت من بعدهم، ونعلم أنها بدع وضلالات. النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على التمسك بسنته، في آخر حياته وعظ الصحابة رضي الله عنهم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقال الصحابة: (كأنها موعظة مودع فأوصنا، فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها، وعَضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة). فأمرهم أن يتمسكوا بالسنة بالأيدي، وكأنها شيء يُمسك بالأيدي، وإذا خافوا أن تتفلت من أيديهم عضوا عليها بالنواجذ التي هي أقصى الأسنان، وهذا أقصى شيء يمكن التمسك به، ألَّا يجد إلَّا أقصى أسنانه يُمسكه ويعض عليه به حتى لا يتفلت منه، وذلك لوجود من يحاول انتزاعه، فإن هذه السنة التي أنت متمسك بها هناك من يحاول أن ينتزعها منك، ويريد أن يبطلها، وذلك بما يلقي في قلبك من الشبهة والتشكيك والتوهمات، حتى يُضعف تمسكك، فإذا كنت متمسكاً تمسكاً قوياً فلن يستطيع أن يتغلب عليك، وأخبر بأن كل محدثة بدعة،(4/228)
وأن السنة طريقة واحدة. وكان مما حُفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكرر قوله: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) هكذا كان يخطب على المنبر على رءوس الأشهاد، يحث على هديه، وعلى التمسك بكتاب ربه، وينهى عن المحدثات في دين الله. وكذلك يخبر بأن دينه لا يجوز تغييره، ولا الزيادة فيه، ولا النقص فيه، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، والكلام في هذه المسألة معروف وطويل.
أنواع الخلاف
…(4/229)
قال الشارح رحمه الله: [فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول: - إما عادلون. - وإما ظالمون. فالعادل فيهم: الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره. والظالم: الذي يعتدي على غيره. وأكثرهم إنما يظلمون مع علمهم بأنهم يظلمون كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، وإلَّا فلو سلكوا ما علموه من العدل أقر بعضهم بعضاً كالمقلدين لأئمة العلم، الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نواباً عن الرسول، وقالوا: هذا غاية ما قدرنا عليه. فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعي أن قول مقلده هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من خالفه مع أنه معذور. ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان: - اختلاف تنوع. - واختلاف تضاد. واختلاف التنوع على وجوه: - منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم حتى زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (كلاكما محسن). ومنه اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، ومحل سجود السهو، والتشهد، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، ونحو ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل. ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك! وهذا عين المحرم، وكذا تجد كثيراً منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع، والإعراض عن الآخر والنهي عنه؛ ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. - ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر؛ لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، ونحو ذلك، ثم(4/230)
الجهل أو الظلم يُحمل على حمد إحدى المقالتين، وذم الأخرى، والاعتداء على قائلها، ونحو ذلك. وأما اختلاف التضاد: فهو القولان المتنافيان إما في الأصول وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون: المصيب واحد، والخطب في هذا أشد؛ لأن القولين يتنافيان؛ لكن نجد كثيراً من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقاً ما، فيرد الحق مع الباطل، حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض، كما كان الأول مبطلاً في الأصل، وهذا يجري كثيراً لأهل السنة]. لا شك أن التفرق والاختلاف من حيث هو فيه ضرر على الأمة، وفيه سبب لتفرقة الكلمة، ومما يسببه أيضاً كثرة المنازعات والمجادلات بين الأمة وبين الأفراد والجماعات ونحو ذلك، ومما يسببه أيضاً كثرة التحزبات والانتصار من هؤلاء لقولهم، ومن هؤلاء لقولهم، ويوقع في التعصب والتشدد، ورد الأقوال المخالفة بنوع من التعسف والتكلف في رد الأدلة وما أشبه ذلك. وهذا بلا شك مذموم، ويعرفه المتخصصون الذين قرءوا في كتب الخلاف، وأما الذين لم يقرءوا فنحن ننصحهم بألَّا يقرءوا في مثل هذه الخلافات التي تحصل بين المختلفين، وفيها كثير من المماحكات والمنازعات والمُجادلات. ......
اختلاف التنوع وكثرته في المسائل الفقهية
…(4/231)
ذكر الشارح أن الاختلاف نوعان: - اختلاف تنوع. - واختلاف تضاد. اختلاف التنوع هو من طبيعة البشر، ومن طبيعة المجتهدين، فلا عجب أن يقع خلاف في المسائل الفرعية بين التلميذ وشيخه، فيكون هذا له رأي وهذا له رأي، هذا يختار قولاً وهذا يختار قولاً؛ ولكن لا يصل إلى التضليل والمقاطعة. فمثلاً نقول: إن الإمام مالك بن أنس رحمه الله، إمام دار الهجرة، تلقى العلم عن أهل المدينة الذين هم أولاد الصحابة، وسمع ما سمعه بالمدينة، وأثبته في مؤلفه الموطأ، وتتلمذ عليه الشافعي فقرأ عليه، وأخذ من علمه، وروى أحاديثه، ومع ذلك خالفه في كثير من الأمور الاجتهادية؛ ولكنه لم يخطئه، بل قال: أنا مجتهد وهو مجتهد، ولكل مجتهد نصيب، فلما قيل له: هل نصلي خلف من يقلد مالكاً ؟ غضب وقال: ألستُ أصلي خلف مالك ؟! أي: مالك شيخي، وأنا أصلي خلفه، ولو خالفته في بعض الأشياء التي هي أمور اجتهادية، مثلاً: كان الإمام مالك لا يجهر بالبسملة لا في الفاتحة ولا في السورة، و الشافعي يجهر بالبسملة في السورة وفي الفاتحة؛ ولكن لا يعيب على من أخفى البسملة، كما لا يعيب مالك و أحمد على من جهر بها وأعلن، فهذا الخلاف لم يؤدِّ إلى تهاجُر ولا تقاطُع. كذلك الإمام الشافعي يرى أنه يتورك في كل تشهد عقبه تسليم، وأحمد لا يتورك إلا في الصلاة التي فيها تشهدان في الأخير منهما، ومع ذلك لم يقع بينهما بسبب هذا الاختلاف تقاطُع. وقد وقع هذا الاختلاف زمن الصحابة، فمرة سمع عمر رضي الله عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان، واستنكر عليه حروفاً وكلمات زادها أو نقصها أو غيَّرها، فعند ذلك رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنه يقرأ على خلاف ما أقرأتني! فأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر على قراءته، و هشاماً على قراءته وقال: لا تختلفوا فإن القرآن أُنزل على سبعة أحرف) فأخبر بأن كلاً منهما مصيب، ونهاهم عن الاختلاف. كذلك أيضاً(4/232)
ورد الاختلاف في الاستفتاحات، فتارةً كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك)، وتارةً يستفتح بقوله: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب... إلخ)، وكان يستفتح تارةً بقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض... إلخ)، وتارةً يستفتح بقوله: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل... إلخ). واختار هذا قوم، واختار هذا قوم، ولم يخطئ أحد الآخر. كذلك أيضاً ورد الاختلاف في الأذان والإقامة، فالأذان بعضهم يجعل التشهدات فيه ثمانية، وبعضهم يجعلها أربعاً، وكلمات الإقامة بعضهم يجعلها سبع عشرة، وبعضهم يجعلها إحدى عشرة، وذلك من باب الاجتهاد أيضاً، وذلك لأن هذا رُوي، وهذا رُوي؛ مما يدل على التوسعة. كذلك مثلاً تكبيرات الجنازة، رُوي أنه كبر أربعاً، وأنه كبر خمساً، وأنه كبر ستاً، ولم يقل أحد: إن من كبر خسماً فقد أخطأ. كذلك أيضاً التسليم في صلاة الجنازة، روي أنه كان يسلم تسليمتين، وتارةً يسلم تسليمة واحدة، ولا يُخطَّأ من فعل هذا، ولا يُخطَّأ من فعل هذا؛ لأن هذا مروي، وهذا مروي أيضاً. كذلك عدد التكبيرات في صلاة العيد، منهم من قال: يكبر في الأولى سبعاً، ومنهم من قال: تسعاً، وليس أحدهما بمخطئ، بل هذا مروي وهذا مروي. وأنواع الاختلافات في مثل هذا يسمى اختلاف تنوع. وقد سئل الإمام أحمد عن صلاة الخوف، وقد رويت بست روايات مختلفة، فقال: من صلاها على صفة ثابتة من الصفات المروية فلا أعيب عليه؛ ولكن أختار رواية سهل بن أبي حثمة، وهي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، وقال: إنها أقرب إلى نص القرآن، أي: الآية التي في سورة النساء، فلم يخطئ غيره؛ وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم صلاها هكذا وهكذا. كذلك صلاة الكسوف رُوي أنه ركع في الركعة ركوعاً واحداً، ورُوي أنه ركع في الركعة ركوعين، ورُوي أنه ركع في الركعة ثلاثة ركوعات، ورُوي أربعة ركوعات، ورُوي خمسة(4/233)
ركوعات، وهو أقصاها، وحملوه على أن ذلك وقع تكراراً؛ تارةً اقتصر على ركعة، وتارةً ركع ركوعين، وتارةً ثلاثة... إلى خمسة، أي: أن ذلك وقع منه متكرراً، وذلك دليل على الجواز، وكأنه لاحظ طول الوقت، كأنه يقول: إذا كان الوقت يحتمل أن يتمادى الكسوف أطال وأكثر الركوعات إلى خمسة ركوعات في كل ركعة، أي: عشرة ركوعات في الركعتين، وإن كان الكسوف سهلاً فإنه يقتصر على ركوع أو ركوعين، وذلك أيضاً من باب الاجتهاد أو من باب التوسعة. وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في أشياء كثيرة؛ ولكن لم يصل بهم هذا الاختلاف إلى أن يضلل بعضُهم بعضاً، بل كل منهم يرى أنه على صواب، وأن صاحبه مجتهد ومعذور، ولم يكن أحد يخطِّئ صاحبه.
اختلاف التضاد
…(4/234)
تفرق أهل الخير بقوتهم وبسيطرتهم من مفاسد التحزب، الواجب عليهم كلهم أن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله، هذا هو الحكم فليس لنا إلا مرجع واحد، ونحن أمة واحدة كما أمرنا الله: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92] فإذا كانت الأمة واحدة فليكن منهجها واحداً، وليتركوا هذه التحزبات والاختلافات، قد حصل هذا التفرق الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكن لنعرف ما هو الحق وما هو الصواب من تلك الفرق، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن (هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلَّا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وأخبر بأن الذين تمسكوا بسنته وبما كان عليه أصحابه هم أهل النجاة، وما سواهم فإنهم أهل الهلاك، ولقد وقع هذا التفرق في الأمة فتفرقت وصاروا أحزاباً وشيعاً، وسُموا بأسماء مبتدَعة ما أنزل الله بها من سلطان، فهناك فرقة الرافضة، وهناك فرقة الجهمية، وهناك فرقة الجبرية، وفرقة المرجئة، وفرقة كذا ..وفرقة كذا.. من الفرق القديمة. وهكذا أيضاً الفرق الجديدة: فرقة الشيعة، وفرقة الإباضية مثلاً، وفرقة البعثية، وفرقة الحداثية، وفرقة العلمانية، وأشباهها. هؤلاء كلهم أو جلهم يقولون: نحن أهل الحق والصواب في جانبنا، ونحن على حق، وأنتم الذين خالفتمونا ضالون مضلون، وأشباه ذلك. ولا شك أن هذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: المرجع كتاب الله، هذا كتاب الله ينطق بيننا بالحق، فنجعله حكماً ونترك ما سواه، ولا نتعصب لأقوالنا، فنرد ما خالف قولنا بأنواع من التكلفات كما تفعله الجهمية والجبرية ونحوهم. ذلك لأن هؤلاء الذين خالفوا الحق قد أخبر الله تعالى بأنهم زائغون، يقول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا(4/235)
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] فهؤلاء يتمسكون بظواهر لا دلالة فيها، ويتتبعون آيات ويقولون: إنها في جانبنا، وهي عليهم لو تأملوا؛ ولكنهم يأخذون منها جانباً ويتركون البقية، ويتركون الآيات الصريحة الواضحة الدلالة، التي تخالف منهجهم ومعتقدهم، ويسلطون عليها التأويلات، وكذلك يتركون صريح السنة وصحيحها، ويردونها بأنها لا تفيد إلَّا الظن، وبأنها آحاد، وبأنها ..وبأنها.. فيقعون في رد السنة، وفي رد الدليل الواضح من حيث لا يشعرون. نقول: لا شك أن هذا الفعل فعل شنيع مستبشع، وهو أخذهم ببعض من الآيات وترك بعض الآيات، فهذا هو الذي سلكه أهل الزيغ الذين يتتبعون المتشابه منه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم) يعني: فأولئك هم الزائغون، لا شك أن زيغ القلوب من أشد الأمراض، يقول الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، والزيغ: هو الميل والانحراف يعني: أن في قلوبهم مرض، وفيها انحراف عن الحق وعن قبوله، فدل على أن مثل هؤلاء زائغون. فمثلاً الرافضة اليوم يقولون: نحن على الحق، ويتمسكون مثلاً بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليردن علي أقوام، فإذا عرفتهم حيل بيني وبينهم، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! إنهم لم يزالوا مرتدين منذ فارقتَهم) يستدلون بهذا الحديث على أن الصحابة كلهم ارتدوا، وأنهم لم يبق منهم أحد على الحق إلا علي وذريته، ويستدلون على فضيلته وأفضليته بحديث: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنه لا نبي بعدي)، وبحديث: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه) ويتركون الأحاديث الصريحة الصحيحة التي وردت في فضل الصحابة وفي فضائلهم وهي مشهورة، ويتركون أيضاً الآيات الواضحة التي تنص على فضائلهم، وعلى مدائحهم، فيتركون الصحيح الواضح ويتمسكون بأشياء لا دلالة فيها.(4/236)
ونقول لهم: هذا الحديث يختص بأهل الردة الذين ارتدوا وماتوا وهم مرتدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقاتلهم أبو بكر ، وقاتلهم علي ، وقاتلهم الخلفاء، أما هؤلاء الخلفاء فلم يغيروا بعد موته، بل تمسكوا بسنته غاية التمسك. وأما قوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) فالمراد القرابة والأخوة، لا أنه يُفضل بهذا على غيره. ومثلاً الخوارج الذين يكفِّرون بالذنوب وبالسيئات، ويُخرجون العاصي أو المذنب من الإسلام ويُدخلونه في الكفر، ويستحلون دمه، ويخلدونه في النار إذا مات على ذلك، قد يتشبثون ببعض الأدلة وببعض الآيات في تخليد العصاة في النار كقوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [المائدة:37]، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [السجدة:20]، وينكرون الشفاعة، وينكرون خروج العصاة من النار. ويغفلون عن الآيات التي فيها مغفرة الله، وسعة رحمته وفضله، ويتركون الآيات الصريحة مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، ومثل قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف:156]، ومثل قوله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، ومثل أحاديث الشفاعة التي تعم كل من قال: لا إله إلَّا الله خالصاً من قلبه، وأشباه ذلك. ونقول لهم: الآيات التي ذكرتم خاصة بالكفار الذين كُتب عليهم الخلود؛ وذلك لأن في أولها ذكر الكفر، وذكر الشرك، فهؤلاء هم الذين لا يخرجون من النار، وإذا أرادوا الخروج منها أعيدوا فيها، وأما الذين من أهل التوحيد ودخلوها عقوبة(4/237)
على ذنوب مؤقتة فإنهم يخرجون منها، إذاً: فلا دلالة لكم فيما تمسكتم به من العمومات، بل الأدلة واضحة في أنكم خاطئون ومائلون وزائغون عن الحق والصواب. كذلك مثلاً المرجئة الذين يعتقدون أن المعاصي لا تضر، ويستدلون بآيات الوعد، ويتركون آيات الوعيد، فيستدلون بقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرَاً عَظِيمَاً [النساء:40] ويقولون: إن الشرك يحبط الأعمال، فإذا كان الشرك يحبط الأعمال، فكذلك الإيمان يمحو السيئات، فلا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل. ونقول لهم: هذا قياس فاسد، وذلك لأن الله توعد العصاة بأنواع من الوعيد، وجعل هذا الوعيد خاصاً بأنهم يعذبون في النار على قدر ذنوبهم، فنحمل على ذلك الآيات التي تمسك بها الوعيدية. وعلى كل حال: فإذا أردنا أن نجمع هؤلاء الخوارج وهؤلاء المرجئة والمعتزلة والأشعرية والكَرَّامية والكُلَّابية والخَطَّابية وأشباههم من المبتدعة، وكذا الرافضة والزيدية والإمامية والشيعة وما أشبه ذلك، لا بد أنهم إذا تليت عليهم الأدلة الواضحة لم يستطيعوا أن ينفصلوا عنها. وكذلك نقول للمخالفين في هذا العصر وفي هذه الأيام؛ الذين تمذهبوا وتحزبوا نقول: لا شك أن خلافاتكم هذه صريحة في مخالفة الحق والصواب، إذا رجعتم إلى كتاب الله وسنة رسوله وجدتم أنها تقدح في معتقدكم، وأن الأدلة ترد أقوالكم، وتنص على خلاف ما تقولونه، وأنكم متى فضلتم رأياً أو نظراً أو ميلاً فقد أبطلتم الأدلة، وعدلتم عن السنة، وفضلتم اتباع الأهواء والشهوات، وملتم إلى ما تمليه عليكم نفوسكم، فأصبحتم بذلك مخالفين لدينكم الذي تنتمون إليه، وهو دين الإسلام، وأصبحتم بذلك خارقين لإجماع الأمة في أن المرجع إلى كتاب الله. ولكن هؤلاء الذين خالفوا في هذه الأزمنة، وهؤلاء الذين تمذهبوا بهذه المذاهب الجديدة، في الغالب أن انتماءهم إلى الإسلام مجرد انتماء لا حقيقة له، وإلا فلو نظرنا في مناهجهم(4/238)
التي يسلكونها لوجدناها تخالف الإسلام، تخالفه مخالفة كلية. فهذا ما يتعلق بأحد النوعين من الاختلاف، وهو اختلاف التضاد الذي كل واحد من الصنفين يضلل الآخر ويُبَدِّعه، وهو مثل الاختلاف الذي وقع بين اليهود والنصارى، حتى اختلفوا اختلاف تضاد، حكى الله عنهم هذا الاختلاف بقوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [البقرة:113]. فكذلك هؤلاء المختلفون فإن اختلافهم أيضاً اختلاف تضاد، كل منهم يدعي الحق في جانبه. فالخوارج يقولون مثلاً: ليست الجبرية على شيء، وكذا يقول المجبرة. والأشاعرة يقولون: ليست المعتزلة على شيء، وكذا تقول المعتزلة. وأهل السنة يقولون في الجميع: لستم على شيء، وكذلك أهل السنة مع الرافضة، كل منهم يقول: إنكم لستم على شيء، هؤلاء يقولون: الحق معنا وأنتم ضالون خاطئون، وهؤلاء يقولون كذلك أيضاً. وكذلك الفرق التي حدثت في هذه الأزمان، وتسمت بأسماء جديدة، كل فرقة تجعل الحق في جانبها، وتفضل نفسها على الأخرى، وتقدح فيما يتمسك به الآخرون. ولكن المرجع واحد، فإذا رجعنا إلى الأصل الذي هو الشريعة الإسلامية، وتركنا ما سواهما، عرفنا أن الحق واحد لا يتعدد، وحينئذ نقول: ليس لمن خالفه عذر، بل هو ملوم، وليس بمصيب، خلافاً للمعتزلة الذين جعلوا الاجتهاد يتعدد، والحق في جانب كل من المجتهدين وقالوا: إن كل مجتهد مصيب، ونحن نقول: الاجتهاد له حدود، ثم أيضاً النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المجتهد واحد، والمصيب واحد، والمجتهد المخطئ معذور إذا أخطأ، وله أجر على اجتهاده، وخطؤه معفوٌّ عنه. وهذا إذا كان الاجتهاد له مجال، وأما الذين قامت عليهم الحجة
حقيقة الاختلافات الواقعة في صدر الإسلام
…(4/239)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وأما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر، ومن جعل الله له هدايةً ونوراً رأى من هذا ما تبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا؛ لكن نور على نور. والاختلاف الأول الذي هو اختلاف التنوع: الذم فيه واقعٌ على مَن بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك، إذا لم يحصل بغي، كما في قوله تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5]، وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار، فقطع قوم، وترك آخرون. وكما في قوله تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلَّاً آتَيْنَا حُكْمَاً وَعِلْمَاً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:78-79] فخص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم. وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة. وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). والاختلاف الثاني هو: ما حُمد فيه إحدى الطائفتين، وذُمت الأخرى، كما في قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]. وقوله تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ... [الحج:19](4/240)
الآيات. وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول، وكذلك إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق، ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك، ولذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ [البقرة:213]؛ لأن البغي مجاوزة الحد، وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرةً لهذه الأمة، وقريبٌ من هذا الباب ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به، معللاً بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية. ثم الاختلاف في الكتاب من الذين يقرون به على نوعين: أحدهما: اختلاف في تنزيله. والثاني: اختلاف في تأويله. وكلاهما فيه إيمانٌ ببعض دون بعض. فالأول: كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله، فطائفة قالت: هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته، لكنه مخلوق في غيره لم يقم به، وطائفة قالت: بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق؛ لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل، فآمنت ببعض الحق، وكذبت بما تقوله الأخرى من الحق، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. وأما الاختلاف في تأويله الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض فكثير، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر، هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال:(4/241)
(أبهذا أمرتم؟! أم بهذا وكلتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟! انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا) وفي رواية: (يا قوم! بهذا ضلت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض؛ ولكن نزل القرآن يصدِّق بعضُه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به)، وفي رواية: (فإن الأمم قبلكم لم يُلعنوا حتى اختلفوا، وإن المراء في القرآن كفر) وهو حديث مشهور مخرج في المسانيد والسنن، وقد روى أصل الحديث مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: هجَّرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرف في وجهه الغضب فقال: (إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب). وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله، مؤمنون ببعضه دون بعض، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات؛ وما يخالفه إما أن يتأولوه تأويلاً يحرفون فيه الكلم عن مواضعه، وإما أن يقولوا: هذا متشابه لا يعلم أحد معناه، فيجحدون ما أنزله الله من معانيه! وهو في معنى الكفر بذلك؛ لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب، كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَاً [الجمعة:5]، وقال تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78] أي: إلا تلاوةً من غير فهم معناه، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به، واشتبه عليه بعضه، فوكَل علمه إلى الله، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالِمه) فامتثل ما أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم]. في هذا الكلام يبين الشارح أن الاختلاف جنسه مذموم، وما ذاك إلا لأنه يسبب الوحشة(4/242)
والعداوة والبغضاء بين المسلمين، ويفرق الكلمة، ويوقع الفرقة المعنوية، بحيث تكون كل فرقة وكل حزب ينتصر لمحنته ولمعتقده ولمذهبه، ويضلل الآخر، فلا يكون المسلمون جميعاً مجتمعين، بل فرقاً وأحزاباً. وأما الاختلاف الذي هو واقعي ولا يصل إلى حد الذم ولا التضليل فهذا اختلاف في فروع، أو يسمى اختلاف تنوُّع، ليس اختلاف تضاد، وذلك لأنه من طبيعة المجتهدين أن اجتهادهم يصيب تارةً ويخطئ تارة، وأن الذي يخطئ قد يخيل إليه أن الصواب معه، وأن الخطأ مع الآخر، فيستمر على خطئه الذي يظنه صواباً وهو معذور والحال هذه. ......
الاختلاف الواقع بين الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
…(4/243)
سمعنا ما نقله الشارح من الاختلاف الذي وقع بين الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرهم الله تعالى، وأقرهم رسوله عليه الصلاة والسلام. ففي غزوة بني النضير -وهم يهود بجوار المدينة- حاصرهم الصحابة، وكانت نخيلهم محيطة بهم، فجعل بعض الصحابة يقطع من النخل ليكون غيظاً للكفار، وبعضهم يقول: لا تقطعوها فإنها في مآلها سترجع غنيمة للمسلمين، وكل منهم مجتهد، فأقر الله هؤلاء وهؤلاء فقال: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5]. وكذلك الاختلاف الذي حصل في غزوة بني قريظة، وهم أيضاً طائفة من اليهود، لما نقضوا العهد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اخرجوا إليهم، لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة)، وهم بمكان بعيد، لا يمكن أن يصلوه في الوقت القريب، فبعض الصحابة صلوا في الطريق، وبعضهم أخروا الصلاة حتى وصلوا بني قريظة بعد غروب الشمس، فأقرَّ هؤلاء وهؤلاء، الأولون قالوا: إنما أراد منا الإسراع، والآخرون قالوا: نمتثل أمره ولو فات وقت الصلاة، فكلهم مجتهد، ويسمى هذا اختلاف تنوع، ولم يُخَطَّأ أحد منهم لاجتهادهم. وهذا مثل الاختلاف الذي وقع بين الصحابة لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فبعضهم أنكر موته وقالوا: إنما هو إغماء، وبعضهم قال: إنه قد مات، فاختلفوا، ثم بعد ذلك اجتمعوا لما سمعوا أبا بكر يتلو قوله تعالى: أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144]. وكذلك لما ارتد المرتدون من الأعراب قال بعضهم: نقاتلهم، وقال بعضهم: إنهم يقرون بالشهادة، وإنما منعوا الزكاة فاختلفوا، ثم اجتمعوا بعد ذلك على قتالهم، قال عمر : (ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق). فهذا يبين أنهم متى علموا أن الحق مع أحدهم رجعوا إليه، ولم يتعصب أحد منهم لرأيه ولا لمذهبه، ولا شك أن هذا هو الصواب والفعل(4/244)
الصحيح، كون الإنسان يرجع إلى الحق متى عرفه، فإن الحق قديم كما قاله عمر رضي الله عنه، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. ومن هذا أيضاً الاختلاف الذي وقع بين الأئمة، وقع بين الصحابة خلاف في بعض الفروع، فخالف ابن عباس في أشياء ولكن لم يضلله غيره، فرُوي عنه أنه خالف حتى في مسائل فرضية، خالف في حجب الأم بأخوين، ورأى أنها لا تُحجب إلا بثلاثة أي: تحجب من الثلث إلى السدس، وقال: إن الأخوين ليسا بإخوة، والله يقول: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11]. وخالف في العول وقال: إن الفرائض ليس فيها عول، يعني: زيادة في السهام، ونقص في الأنصباء، فقال: إن الذي علم عدد رمل عالج لم يجعل في المال نصفاً ونصفاً وثلثاً. والصحابة الذين عملوا بالعول اتفقوا على العمل به؛ ولكن لم يضللوه، وقالوا: هذا اجتهاده، ولبقية الصحابة اجتهادهم. وخالف في تحريم الحمر الأهلية، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما نهى عنها إلا أنها حمولة الناس، فرد عليه الصحابة الذين قالوا: إنه نهى عن الحمر وقال: (إنها رجس أو ركس) أو نحو ذلك، ولكن مع ذلك لم يعادوه، ولم يقاطعوه، ولم يكن بينهم وبينه عداوة وقالوا: هذا اجتهاده وللآخرين اجتهادهم.
الاختلاف الواقع بين الأئمة الأربعة
…(4/245)
الأئمة الأربعة الذين هم أبو حنيفة و مالك و الشافعي و أحمد اختلفوا اختلافاً كثيراً، وتعرفون الكتب المؤلفة بحيث إن هناك أربعة أقوال في المسألة الواحدة؛ ولكن بعضهم يصلي وراء بعض، ولم يضلل بعضُهم بعضاً. فمثلاً الإمام مالك يقول: لا تُقرأ البسملة في الصلاة لا سراً ولا جهراً. والإمام الشافعي يقول: يُجهر بها، ومع ذلك هو يروي عن مالك ويقول: هو شيخي أروي عنه، ولو كنت قد خالفته في هذا. والإمام أحمد يقول: تقرأ سراً ولا يُجهر بها، والبسملة في الفاتحة وفي السورة. وهذا الاختلاف لم يسبب تقاطعاً بينهم، بل كل منهم يروي عن الآخر، فالإمام أحمد يروي عن الشافعي ، فيأخذ من آرائه ومن اجتهاداته، و الشافعي يروي عن مالك ، فيعترف به ويروي عنه في مسنده، وكذلك بقية العلماء. وهكذا الخلاف الذي وقع بين أبي حنيفة و مالك ، فمثلاً اختلفوا في تقدير الصاع، فقال أبو حنيفة : الصاع ثمانية أرطال، وقال مالك : الصاع خمسة أرطال وثلث، ومع ذلك كل منهما يرى أن له اجتهاده. واختلافهم في الزكاة، واختلافهم في مسائل كثيرة من الحج، واختلافهم في علة الربا وما أشبه ذلك. ولا نضللهم في هذه الاختلافات، بل نقول: إن هذا مما أدى إليه اجتهادهم، وهم في ذلك كله بذلوا وسعهم فيدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر). الذي أصاب لا شك أنه بذل جهداً وتوسع في البحث والتنقيب، أو كان أمكن وأقوى وأفهم وأقدر؛ فوفقه الله فأصاب الحق، فله أجران: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة. أما الذي أخطأ وقد بذل وسعه في البحث فله أجر الاجتهاد، يفوته أجر الإصابة، ويُعذر إذا أخطأ؛ ولكن ليس كل أحد يكون أهلاً للاجتهاد، بل إنما يجتهد في المسائل ويبحث فيها من يكون عنده القدرة والاستطاعة على البحث، وعلى الوصول إلى الصواب، وعلى عين المسألة المطلوبة، فأما إذا كان قاصراً في مثل هذه الأشياء فلا يليق أن يُمكن من الاجتهاد،(4/246)
ولا يقال: إنه من أهل الاجتهاد وإنه أصاب. وبكل حال: الخلاف في فروع المسائل مشهور ومدون -والحمد لله- في الكتب الفقهية، وكل يأخذ مما تيسر منه، فإن وجدت المسألة فيها خلاف بين الشافعي و أحمد مثلاً أو بين مالك و أبي حنيفة فإنك تنظر أيها أقرب إلى الصواب، وأيها أمكن في نفسك، وأقرب إلى الإصابة والدليل، فتأخذ بها، ولا تأخذ بمجرد الميل، ولا بما تهواه النفس، بل ترجع إلى ما هو الأولى والصواب، وبذلك تكون موفقاً إن شاء الله.
شرح العقيدة الطحاوية [99]
للإسلام مميزات وفضائل كثيرة، وهو دعوة جميع الأنبياء مع اختلاف شرائعهم، وهو الذي أمر الله الناس باتباعه، ولكن أكثر الناس أعرضوا عنه اتباعاً للهوى أو تقليداً للآباء أو جهلاً بحقيقته.
أسباب اختلاف التضاد في الأمة
…(4/247)
تطرق الطحاوي رحمه الله إلى أن دين الإسلام جاء بالاجتماع، وحث على لزوم جماعة المسلمين، ونهى عن التفرق والاختلاف. وتوسع الشارح رحمه الله في بيان أسباب الاختلاف، وبين أنواعه، وذكر أن الاختلاف: - اختلاف تنوع. - واختلاف تضاد. وأن اختلاف التنوع لا يُضلل به؛ وذلك لأنه يثبت عن اجتهاد، كاختلاف الصحابة في تفسير بعض الآيات، وكذا المفسرون بعدهم اختلفوا في بعض معاني الآيات، وإن كان المعنى واحداً. ففسروا مثلاً (الصراط المستقيم) أنه الإسلام، وفسره بعضهم بأنه الرسول، ولا فرق فالمعنى واحد. وكذلك اختلافهم في معاني كثير من الأحاديث التي يدخل فيها الاجتهاد. أما اختلاف التضاد فلا شك أنه يُضلل به، وهو الذي يحدث عن هوى، ويكون سبب الاختلاف اتباع الأهواء، وذلك لأن المبتدع متى هوي نحلة ومال إليها فإنه يصر على تلك النحلة ويخالف الأدلة. وهذا ما يسببه اتباع الهوى، وقد ورد في الأثر: (أن الهوى يُعمي ويُصم). كذلك أيضاً من أسباب اختلاف التضاد: تقليد الآباء، وذلك لأن كثيراً من الناس قد يتضح له الحق، ويعرف القول الصحيح، ثم يخالفه، لماذا؟ لأن آباءه وأسلافه ليسوا على هذا المسلك، وإذا خالفه أحد منهم هجروه وقالوا: تترك معتقد آبائك وأسلافك؟! وهذه سنة المشركين، ذكر الله أنهم يعرفون الحق ثم يخالفونه، ويعرفون أن الباطل باطل ويرتكبونه، لماذا؟ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات:69-70]. يقولون: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]. وكذلك بقية المبتدعة: يتمسكون بمذاهب آبائهم وأسلافهم ولو تبين لهم الحق. فمثلاً: الرافضة كانوا قديماً لا يقرءون كتب السنة، وذلك لأنها لم تنتشر ولم تشتهر، وإنما يقرءون الكتب التي يكتبها أئمتهم، فكثير من عوامهم ممن يريد الحق لم يعرفه، ولم يصل إليه ما يبين الطريق الحق، فبقوا على ضلالهم؛(4/248)
ولكن في هذه الأزمنة طُبعت الكتب، وانتشرت كتب الصحيح، وكتب السنن، وكتب المسانيد، وكتب السنة، ومن أرادها من الشيعة أو غيرهم قدر عليها، وتحصل عليها وعرف الحق. فبعض الشباب من الرافضة تبين لهم طريق الحق فاهتدى منهم أفراد؛ ولكن لما اهتدوا وخالفوا طرق الرافضة ماذا فعل أهلوهم؟ هجروهم وقالوا: أتتركون سنة آبائكم؟! أتتركون عقيدة أسلافكم؟! فضايقوهم وأضروهم، أحدهم يحكي لنا أنه لما اهتدى تمسكت زوجته بمذهبها وقالت: لا يمكن أن تكون أهدى من أبي ومن أبيك ومن أسلافنا! وبقيت على طريقة آبائها، هو قرأ وعرف فسلك طريق الحق، وأما زوجته وأهله فإنهم مقتوه وطردوه. وهكذا شابة أيضاً في الدمام أو في القطيف لما درست وسمعت الأخبار، وقرأت الكتب والنشرات، وأصغت إلى الإذاعة وما يُنشر فيها، واقتنت شيئاً من الكتب، واحتكت بأهل السنة؛ عرفت أن طريقة الشيعة باطلة وبعيدة من الصواب، فتلقت الحق واهتدت وتمسكت به، فماذا لقيت من الأذى؟! وماذا لقيت من الضرر؟! حبس وضرب! وطرد وإبعاد! ولكنها صبرت على ذلك كله. نقول: لا شك أن الذين يقلدون الآباء والأجداد وهم على ضلال ضالون، والعاقل يختار الحق، يختار الصواب، ولو خالفه من خالفه، وذلك لأنه لا يهمه إلا نفسه، في الدار الآخرة يتبرأ منه أهله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس:34-35] يفرون منه، ولا يتقبلون منه ولا يقبل منهم، ولا ينفع بعضهم بعضاً. فإذاً: كيف يقدم أحدهم الباطل تقليداً للآباء والأجداد؟! والحاصل: أن من أسباب هذا الاختلاف: اتباع الهوى، ومن أسبابه: تقليد الآباء والأجداد والأسلاف، وهذا يؤدي إلى أنه قد يعرف الإنسان الحق ويتمسك بالباطل، الله تعالى يقول: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]، فإذا كان الحق واضحاً فالحق أحق أن يُتبع. ......
مفاسد اختلاف التضاد
…(4/249)
اختلاف التضاد سبب التفرق بين المسلمين، وسبب ضياع الحقوق، وسبب التعصب، فكل طائفة تعرف الحق ولكنها تتعصب للباطل. فلو قرأنا مثلاً كتب المعتزلة، لوجدنا فيها من التعصب والتشدد والتكلف في صرف الأدلة الشيء العجاب! ولو قرأنا كتب الخوارج أو الإباضية الموجودين في عمان؛ لعرفنا أنهم يعرفون الحق ثم ينكرونه، وكذلك إذا قرأنا الكتابات التي يكتبها هؤلاء المخالفون. فالفرق الذين تفرقوا في هذه الأزمنة -وما أكثرهم!- كطائفة البعث، وطائفة العلمانيين ونحوهم، لا شك أنهم قد اتضح لهم الحق، وعرفوا الأدلة؛ ولكن لما لم تكن أهواؤهم منقادة نحو تلك الأدلة، ونحو العمل بها، تمسكوا بالباطل وتشبثوا به، وقدموا الباطل على الحق، فكان هذا هو السبب في كثرة الفرق، وتفرقت فرق الأمة، وصار بعضهم يضلل بعضاً، ويخالف بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض. فمن الفرق ما يصل إلى حد الكفر، كفرقة غلاة الجهمية فقد أخرجهم كثير من الأمة ومن العلماء من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: ليسوا من فرق الأمة، وكفرقة الفلاسفة والباطنية. وفي هذه الأزمنة فرقة الدروز، وهم موجودون في سورية ولبنان، ذكر لنا بعض المشايخ أنهم عثروا على واحد منهم في الرياض وهو سكران، فجاءوا به ليعاقبوه؛ ولكن شهد عليه أناس أنه لا يصلي، فسألوه فقال: أنا لا أصلي. قالوا: مكتوب في جوازك وفي إقامتك أنك مسلم، لماذا لا تصلي؟! فقال: ليس في ديننا صلاة، فبحثوا عنه فإذا هو درزي. الدروز يكتبون في هوياتهم أنهم مسلمون! أين الإسلام؟! إسلام بلا صلاة؟! وكثير من الذين اهتدوا منهم قاطعوهم، قاطعوا أولادهم الذين اهتدوا أو بناتهم وتبرءوا منهم، بل لو وجدوهم لقتلوهم، من اهتدى منهم ورجع إلى الإسلام اغتالوه وقتلوه، وكانوا يخفون كتبهم التي فيها معتقداتهم؛ ولكن تسربت في هذه الأزمنة ولم يستطيعوا أن يخفوها، لوجود المطابع وآلات التصوير، ولوجود الناسوخ ونحوه، والذي يصور من بعيد، فافتضحوا وظهرت بذلك(4/250)
عقائدهم المشينة، فاتضح أنهم ليسوا من فرق الأمة. وكذلك فرقة النصيرية موجودة في سورية وفي غيرها، وقديماً قد كتب عنهم العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية له رسالة فيهم مطبوعة مفردة، ومطبوعة مع المجموع، بين فيها فضائحهم وعقائدهم السيئة، إذا نظرنا في عقيدتهم قلنا: هؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، وذلك لبعدهم عن الإسلام، ومع الأسف أنه يُكتب في بطائق هوياتهم: مسلم، وليس معهم إلَّا مجرد الاسم. وهكذا غلاة الرافضة الذين يكفرون أجلاء الصحابة، ويطعنون في القرآن، لا شك أنهم يصلون إلى مرتبة الكفر، وذلك لأنهم إذا كانوا لا يؤمنون بالكتاب والسنة فماذا بقي عندهم؟! وبكل حال: فهذه فرق خرجت من ملة الإسلام، أما بقية الفرق فيمكن أن تكون من المسلمين، ويعمهم اسم المسلمين؛ لأنهم يصلون ويدينون بالإسلام، ولكن بدعتهم مضللة لا توصلهم إلى حد الكفر، كبدعة الإباضية الموجودين في عمان، وكذلك كثير من المبتدعة. ......
حكم الأحزاب والفرق الموجودة في عصرنا
…(4/251)
ما حكم الأحزاب والفرق الموجودة الآن في كثير من الدول الإسلامية، وقد تصل الأحزاب إلى عشرين أو إلى خمسين حزباً، وكل حزب يسجل أعداداً هائلة، ويحب أن يكون أكثر من الآخر؟! إذا نظرنا في تلك الأحزاب نجد كل حزب يتسمى باسم، ولا شك أنها لم ينزل الله بها سلطاناً، فهي فرق ضالة، يُنظر في معتقداتهم وما يميلون إليه. فمنهم من يكون كافراً بحتاً كالشيوعيين، وفي بعض البلاد يكون لهم أحزاب إما واحد وإما عدد. ومنهم من يكون معه شيء من الإسلام؛ ولكن ليسوا متمسكين به. ومنهم من هم مسلمون؛ ولكن معهم شيء من المخالفة. والجميع يعمهم أنهم أحزاب ومختلفون. وهناك أحزاب في البلاد الإسلامية يتسمون بأسماء ظاهرها حسن، وأعمالهم فيها ما هو خطأ وفيها ما هو صواب، فمثلاً: جماعة التبليغ، هؤلاء فرقة نشئوا في الهند وفي الباكستان، وكان هدفهم أن يبلغوا الشرع، كما سموا بذلك أنفسهم، ولهم طريقة في الدعوة بمعنى: أنهم يقتصرون على بيان الفعل دون أن يوضحوا أو يدعوا بالقول غالباً، ويدعون الأفراد ولا يتكلمون في المجتمعات، لا في الخطب، ولا في المساجد العامة، ولا في محاضرات ولا غير ذلك، ورأوا أن هذه دعوة ناجحة. أما طريقتهم في الدعوة فنقول: هكذا ظهر لهم، ولا نعيبهم في ذلك؛ لكن دخلت معهم فرق ضالة من الصوفية والقبوريين فأفسدوا عليهم دعوتهم، فالذين يتمسكون بالسنة ويعملون بها لا نعيبهم، والذين يصلون إلى بغض التوحيد بحيث لا يقرءون في كتب العقيدة ولا يقرون من يقرأ فيها، ولا يقرءون في كتب التوحيد، وبحيث أنهم يبايعون بعض رؤسائهم على الطاعة، وإن كان في خلاف الحق، وأنهم إذا كانوا في غير بلاد التوحيد يزورون المشاهد، ويعكفون عند القبور، ويتمسحون بها، ويقرونها، فمثل هذا لا يقره الإسلام. وأما إذا لم يدخل معهم شيء من هؤلاء فلا بأس بهم. وكذلك هناك طوائف في كثير من الدول الإسلامية، كسورية ومصر والسودان، ولهم أيضاً فروع في المملكة، ويتسمون بأسماء(4/252)
حسنة، ويهدفون إلى هدف واحد، ويدعون إلى دعوة واحدة، فمنهم من يسمون بالسلفيين، ومنهم من يسمون بجماعة أنصار السنة، ومنهم من يسمون أنفسهم بأهل التوحيد، والأسماء حسنة، والمقاصد متقاربة، والطرق تختلف، ولا يضر هذا الاختلاف، يعني: كون هؤلاء يفضلون طريقة، وهؤلاء يفضلون طريقة، هؤلاء مثلاً يفضلون الاقتصار على التأليف والنشر، وهؤلاء يفضلون الرحلات ودعوة الناس، وهؤلاء يفضلون الدعوة عن طريق المنابر والمساجد والحلقات والندوات والمحاضرات ونحوها، وهؤلاء.. وهؤلاء.. نقول: كل ذلك يصب في الدعوة ما دام أن المنهج سليم، ومناهجهم كما أخبرنا كثير منهم يدعون إلى العقيدة سواءً دعوا أفراداً أو أشتاتاً، يدعون إلى تحقيق التوحيد، ويحاربون البدع والشرك، فكلهم إن شاء الله على الخير، ولهم نشاط في كثير من البلاد الإسلامية، يوجدون حتى في غير البلاد العربية كالباكستان وغيرها، وفي البلاد البعيدة يُضطهدون ويُذلون، وذلك لأنهم يُتهمون في الهند والباكستان وغيرها، بل وفي بعض البلاد العربية؛ بكونهم وهابيين، وأنهم كفار وضُلَّال وما أشبه ذلك. وعلى كل حال الإسلام أرشد أن يجتمع المسلمون، وأن يصيروا يداً واحدة، وألَّا يتفرقوا؛ لأنهم متى اجتمعوا واجتمعت كلمتهم فإنهم يقوون على مقاومة أعدائهم، ويصير لهم مكانة معنوية قوية، ويهابهم الأعداء والأضداد، ومتى تفرقوا ذلوا وهانوا، وهذا ما يريده العدو. فنتواصى جميعاً بأن تجتمع كلمتنا متى رأينا من يخالف في منهج أو مسلك، ونحرص على أن نجمع بين المتخالفين، نقرب هذا ونقرب هذا، إلى أن يتآلفا ويصيرا يداً واحدة. وهكذا أيضاً إذا رأينا من يعيب على بعض الطرق قلنا له: رويدك! ماذا تعيب عليهم؟ فإذا وجدنا أن ذلك العيب الذي يعيبه لا يبلغ أن يُهجروا لأجله، قلنا له: لا ينبغي لك أن تهجر إخوتك المسلمين أو مشايخك وعلماءك، ولا أن تسيء الظن بهم بمجرد هذا الفعل الذي لا يبلغ أن يكون ذنباً، بل هو إما اجتهاد،(4/253)
وإما قول مسلوك قد قاله من العلماء المتقدمين من قاله، فكيف تضلل بقولٍ هو محل اجتهاد. وما يقع بين المسلمين في هذه البلاد وغيرها من هذا الاختلاف الذي سببه سوء الظن بكثير من المشايخ، حتى اتُّهموا بأنهم يحاولون الخروج، وبأنهم ضُلال، وبأنهم شر على الأمة من كذا وكذا.. لا شك أن هذا من وساوس الشيطان، وكيد الأعداء الذين يريدون أن يفرقوا بين المسلمين. والواجب على شباب المسلمين وشباب الصحوة الذين انتبهوا وأقبلوا على ربهم أن يجتمعوا، وألَّا يخطئ بعضهم بعضاً إلا في الشيء الذي يكون خطؤه واضحاً، وأن يعذروا من رأوا منه شيئاً من النقص أو التقصير، ولا يشددوا ولا يتهموا إخوتهم أو علماءهم بمداهنة أو بنقص أو بتعمد خطأٍ أو نحو ذلك، بل يعذروهم ويقبلوا منهم عذرهم، وبذلك تجتمع كلمة المسلمين إن شاء الله. ......
مميزات دين الإسلام
…(4/254)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام، قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]. وقال تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينَاً [المائدة:3]، وهو بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس ..). ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد)، وقوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينَاً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85] عامٌّ في كل زمان؛ لكن الشرائع تتنوع كما قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً [المائدة:48]. فدين الإسلام هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة رسله، وأصول هذا الدين وفروعه موروثة عن الرسل، وهو ظاهر غاية الظهور، يمكن كل مميز من صغير وكبير، وفصيح وأعجم، وذكي وبليد، أن يدخل فيه بأقصر زمان، وإنه يقع الخروج منه بأسرع من ذلك، من إنكار كلمة، أو تكذيب، أو معارضة، أو كذب على الله، أو ارتياب في قول الله تعالى، أو رد لما أنزل، أو شك فيما نفى الله عنه الشك أو غير ذلك مما في معناه. فقد دل الكتاب والسنة على ظهور دين الإسلام، وسهولة تعلمه، وأنه يتعلمه الوافد، ثم يولي في وقته، واختلاف تعليم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الألفاظ بحسب من يتعلم، فإن كان بعيد الوطن كضمام بن ثعلبة والنجدي ووفد عبد القيس، علمهم ما لم يسعهم جهله، مع علمه أن دينه سيُنشر في الآفاق، ويرسل إليهم من يفقههم في سائر ما يحتاجون إليه، ومن كان قريب الوطن يمكنه الإتيان كل وقت بحيث يتعلم على التدريج، أو كان قد علم فيه أنه قد عرف ما لا بد منه، أجابه بحسب حاله وحاجته، على ما تدل قرينة حال السائل كقوله: (قل: آمنت بالله، ثم استقم). وأما من شرع ديناً لم يأذن به الله فمعلوم أن أصوله(4/255)
المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره من المسلمين؛ إذ هو باطل، وملزوم الباطل باطل، كما أن لازم الحق حق].......
الإسلام هو دين جميع الأنبياء مع اختلاف الشرائع
…
سمعنا أن الماتن والشارح رحمهما الله تطرقا إلى وحدة الإسلام، الذي هو دين الله الذي رضيه لنفسه، فقال تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينَاً [المائدة:3]، ورد ما سواه من الأديان فقال: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينَاً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، وأن أصل هذا الدين واحد عليه جميع الأنبياء، الوحدة والوحدانية اتفق عليها رسل الله، اتفقوا كلهم على الدعوة إلى التوحيد، فكل منهم يبدأ دعوته فيقول: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]. فالتوحيد هو دين جميع الرسل، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] أي: كل الرسل أوحيت إليهم هذه الكلمة، وأمروا بها، وبلَّغوها إلى قومهم، وإن كانت الشرائع متنوعة، كما حكى الله عن عيسى أنه قال: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] فأحل لهم أشياء كانت محرمة عليهم في شريعة الأنبياء قبله، وكذلك حكى الله عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه يحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، أي: أنه قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كان عليهم آصار يعني: أثقال من التكاليف، وأغلال من الأوامر والنواهي، وتشديدات، وأن تلك الآصار والأغلال وضعت وخُفف عنهم في هذه الشريعة التي هي خاتمة الشرائع.
يسر الإسلام وسهولة تعلمه
…(4/256)
دين الإسلام دين يسير سهل، تعاليمه يسيرة قريبة التناول، كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أصحابه في لحظات وفي أوقات يسيرة، فيتعلمونه، فيخرج أحدهم معلماً ومبلغاً. وفد عبد القيس علمهم أركان الإسلام، وعلمهم بعض المحرمات؛ ولكنهم فهموا بلغتهم وبسليقتهم وفطرتهم بقية الشريعة، فعلمهم الشهادتين، وعرفوا معناها وما تستدعيه كل واحدة منهما، بمجرد ما قالوا: لا إله إلَّا الله، محمد رسول الله؛ عرفوا معنى (لا إله إلَّا الله) فلم يعبدوا غيره، وعرفوا معنى (محمد رسول الله) فأطاعوه ولم يعصوه. وأما الصلاة فإنهم صلوا معه يوماً أو يومين أو أياماً قليلة، وعرفوها. وكذلك الزكاة بعث إليهم من يعلمهم في بلادهم، ومن يأخذ منهم الزكاة المفروضة. وكذلك الصوم، والحج بمجرد ما أخبرهم. وكذلك المحرمات، مجرد ما يقول: حرم عليكم كذا وكذا.. يعرفون، فالجلسة والجلستان في تلك الحلقات العلمية يصبح بها أحدهم عالماً، بينما أحدنا في هذه الأزمنة يبقى عشرين سنة ومع ذلك لا يأتي على جميع العلوم لقصر الأفهام، ولتغير الألسن والاستعمالات، وتغير اللغات واللهجات المحدثة البعيدة عن الأصل، فصار الواحد لا بد أن يبذل وقتاً في تعلم الكلمات، ثم يتعلم معانيها بعد حفظ الكلمات، ثم بعد ذلك يتعلم مدلولات واصطلاحات العلوم الشرعية. ذكر الشارح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم كلاً بما هو أهم شيء عنده، ولأجل هذا اختلفت أجوبته، يُسأل سؤالاً واحداً ويجيب بعدة أجوبة، فإذا قيل له: ما أفضل الأعمال؟ فتارة يقول: (قل: آمنت بالله ثم استقم)، وتارةً يقول: (من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وتارةً يفسره بأنه: (أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)، وتارةً.. وتارةً.. وذلك لأنه يخاطب كلاً بما يرى أنه مناسب له، وأنه أهم له وأولى بأن يهتم به ويتأثر به أفضل من غيره. فالجميع واحد، والمؤدَّى واحد، وذلك لأنها تعتبر من خصال الإسلام والإيمان، وهي(4/257)
العقائد والعبادات ونحوها. وعلى كل حال: فالمسلمون يدينون بهذا الدين، ويعتقدون هذه الشريعة، ويتبعونها، ويعرفون أنه ليس فيها تعقيد، ولا صعوبات، لا في علومها ولا في أعمالها. فالعلوم: سهلة ويسيرة؛ ولكنها تحتاج إلى تعقُّل، قد يقول القائل: إنني بذلت وتعلمت ولم أصِر عالماً! نقول: لأنك أولاً: لم تقبل على العلم بكليتك؛ بخلاف الصحابة، فإن أحدهم كان يقبل على العلوم بكليته وبقلبه وقالبه، فيتعلمها في يوم أو في أيام أو في عشرين يوماً كما في حديث مالك بن الحويرث . ولأنك ثانياً: لم تطبق ولم تعمل مباشرة، وذلك لأن الإنسان الذي يسمع الكلمات ويعرفها؛ ولكنه لا يطبقها في حينه، تذهب من ذاكرته، ينساها بعد مضي سنة أو شهر أو نحو ذلك؛ بخلاف من إذا أراد التعلم، وتفرَّغَ له وأقبل بقلبه، ثم كلما تعلم شيئاً كرره وعمل به، فإنه يمكن أن ينال العلم ويكون عالماً في وقت قصير. ومعلوم أيضاً أن العلوم كثيرة؛ ولكن يُبدأ منها بما هو الأهم، فالإسلام يعم الأعمال التي فعلها من الدين، والأعمال التي تركها من الدين، والمباحات ونحوها، وهذه كلها داخلة في مسمى الإسلام، ومعرفتها يسيرة، والحمد لله أن المسلمين الذين خرجوا من بين أهلينا من بنين وآباء وعلماء ومشايخ كلهم يدينون بالإسلام وبالعقيدة السلفية، ولا يخفى عليهم شيء من تعاليم هذا الدين.
دين الإسلام وسط بين الغلو والتقصير
…(4/258)
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (بين الغلو والتقصير): قال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171] ، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ [المائدة:77]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالَاً طَيِّبَاً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة:87-88]. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن: (ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟! لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). وفي غير الصحيحين: (سألوا عن عبادته في السر، فكأنهم تقالوها). وذُكر في سبب نزول الآية الكريمة عن ابن جريج عن عكرمة أن: (عثمان بن مظعون و علي بن أبي طالب و ابن مسعود و المقداد بن الأسود و سالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل، وصيام النهار، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87] يقول: لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام(4/259)
النهار، وما هموا به من الاختصاء، فلما نزلت فيهم بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: إن لأنفسكم عليكم حقاً، وإن لأعينكم حقاً، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا، فقالوا: اللهم سلَّمنا واتبعنا ما أنزلت). وقوله: (.. وبين التشبيه والتعطيل ..): تقدم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه، فلا يقال: سمع كسمعنا، ولا بصر كبصرنا ونحوه، ومن غير تعطيل، فلا يُنفى عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به أعرف الناس به: رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك تعطيل، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى، ونظير هذا القول قوله فيما تقدم: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زَلَّ ولم يصب التنزيه). وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. فقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]: ردٌّ على المشبهة. وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]: ردٌّ على المعطلة]. في هذا بيان أن الحق وسط بين الطرفين، وأن أهل السنة وسط بين فرق الأمة، وأن الأمة وسط بين الأمم، والكلام على وسطية أهل السنة ووسطية الأمة طويل ومعروف، ومما ذكر الشارح أنهم لا يغلون ولا يقصرون، بل هم وسط بين ذلك. فالغلو هو التشديد على النفس، كما حصل من هؤلاء الذين هموا أن يختصوا وحرموا الطيبات، وشددوا على أنفسهم، ولزموا البيوت، واقتصروا على العلقة من الطعام، وعزموا على أن يقوموا جميع الليل، ويصوموا جميع النهار، ويعتزلوا الملذات والشهوات، ويتشبهوا بالرهبانية، فهؤلاء غلوا. والذين يقصرون هم الذين لا يأتون من الأعمال إلا بعض العمل، فلا يصلون إلا الفريضة مثلاً، وإذا صلوها صلوها خفيفة، ولا يصومون إلا الفرض، وربما يقصرون في الصيام، أو يأتون بما يفطِّر أو يفسد صيامهم، وكذلك في الطهارة يخففونها. الأولون: يتشددون ويتقعرون في(4/260)
العبادة، والآخرون يخففون الطهارة وربما لم يبالغوا في غسل الأعضاء ولم يسبغوا. فهؤلاء في طرف وهؤلاء في طرف، والوسط هو الخير بين الغلو والتقصير. فالغلو مذموم لهذه الآية: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [المائدة:77]. والتقصير أيضاً مذموم؛ لأن فيه نقصاً في العمل، ونقصاً في لزوم ما أمر الله به. كذلك أيضاً الغلو والتقصير يعم جميع الأحوال والعبادات ونحوها. فجميع العبادات يمكن أن يُتصور فيها غلو وتقصير، فالمعاملات مثلاً فيها غلو وتقصير، فالذي يحرم البيوع أو يحرم أكثر الأطعمة ولا يتعامل إلا مع فلان وفلان، أو لا يتعاطى، أو لا يمتلك من الأموال إلا شيئاً دون شيء، يقال: هذا غالٍ قد حرم الطيبات، وكذلك لو حرم الصناعات الجديدة، إذا حرم مثلاً الركوب في السيارات، أو في الطائرات، أو حرم الانتفاع بالأجهزة الحديثة كمكبر الصوت والاستنارة بالكهرباء، والانتفاع بالكهرباء في مكيفات، أو في أنوار كهربائية أو نحو ذلك، نقول: هذا قد غلا. والذي يتوسع في مثل هذه الأشياء يجره إلى الحرام، فيستعمل مثلاً السماع للموسيقى والأجهزة المفسدة كأجهزة الغناء، وأجهزة التصاوير والتمثيلات الخليعة، والصور والأفلام الماجنة ونحوها، ويتوسع في ذلك، نقول: هذا قصر. فالأول قد غلا وتشدد، والثاني قد توسع وأتى بما يفسد دينه أو يقلل عليه ديانته، وما بينهما وسط لا تشديد وغلو، ولا تقصير وإخلال بالواجبات ونحوها.
دين الإسلام وسط بين التشبيه والتعطيل
…(4/261)
ذكر الشارح أن أهل السنة متوسطون بين المشبهة وبين المعطلة، وهذا بحث قد تقدم مراراً، فالمشبهة هم الذين غلوا في إثبات صفات الله، وقالوا: إنها كصفاتنا، يد كيد المخلوق، ووجه كوجه المخلوق، وهكذا. والمعطلة هم الذين نفوا صفات الله وتأولوها، وتشددوا في صرفها عن ظاهرها، وعطلوا الله تعالى عن صفات الكمال. وقد تقدم أن هؤلاء مقصرون وغالون، والحق بينهما وسط، وهو أنَّا لا نصل إلى درجة هؤلاء المعطلة ولا نسلك طريقة هؤلاء الذين هم ممثِّلة، بل نثبت الصفات كما أثبتها الله تعالى لنفسه، ونصفه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، دون تشبيه أو تمثيل.
دين الإسلام وسط بين الجبر والقدر وبين الأمن واليأس
…(4/262)
قال الشارح رحمه الله: [.. وقوله: (وبين الجبر والقدر): تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأن العبد غير مجبور على أفعاله وأقواله، وأنها ليست بمنزلة حركات المرتعش وحركات الأشجار بالرياح وغيرها، وليست مخلوقة للعبد، بل هي فعل العبد وكسبه وخلق الله تعالى. وقوله: (وبين الأمن والإياس): تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأنه يجب أن يكون العبد خائفاً من عذاب ربه، راجياً رحمته، وأن الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للعبد في سيره إلى الله تعالى والدار الآخرة]. لابد أن نعلم أن أهل السنة وسط في هذه الأمور، وذلك لأن القدرية الذين نفوا قدرة الله قالوا: إن الله لا يقدر على كل شيء، بل العبد يعصي قهراً على الله، والله لا يقدر أن يرد هذا العاصي، ولا يقدر أن يهدي من يشاء، ولا يضل من يشاء، بل العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وهؤلاء غلوا في نفي قدرة الرب، وجعلوا القدرة للعبد. وأما الجبرية فضدهم، حيث نفوا قدرة العبد أصلاً، وجعلوا العبد مجبوراً ليس له أية قدرة، ولا أية مشيئة، ولا أية عمل، بل حركته كحركة أغصان الشجرة التي تحركها الريح، فلم يجعلوا له اختياراً. فلا هؤلاء ولا هؤلاء، بل الحق وسط بينهما وهو أن نقول: إن للعبد قدرة، ولكنها تحت قدرة الله خاضعة لمشيئته وقدرته. كذلك أيضاً أهل السنة وسط بين الأمن واليأس، الأمن: هو عدم الخوف من الله، كون الإنسان يقدم على المعاصي، ويتجرأ عليها، ويتجرثم في الذنوب، وكأنه عنده صك أمان من الله أنه في الجنة، فتراه يُقدم على الذنوب، ويكثر من السيئات، ولا يخاف من الله، هذا هو الآمن، قال الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]. وأما اليأس: فهو القنوط الذي هو قطع الرجاء، قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، وهو الذي يقطع رجاءه من الرحمة، وكأنه يجزم(4/263)
بأنه في النار ويقول: لا قدرة لي على التوبة، أنا قد عملت عملاً لا تنالني فيه الرحمة، ثم إذا نصحتَه يقول: عملي وذنوبي كثيرة، وأنا لا أستطيع أن أمحوها، وقد تكاثرت علي، فالآن أنا مقدم أو جازم على أني من أهل النار، ولو عملت ما عملتُ، ذنوبي لا تمحوها التوبة، ولا تصل إليها الرحمة، فيقطع رجاءه من رحمة الله. نقول: هذا قنوط قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] بل الوسط هو الخيار، وهو أن تكون خائفاً راجياً، فيكون الخوف والرجاء للإنسان بمنزلة الجناحين للطائر مستويان، لا يكون في أحدهما زيادة على الآخر، إذا كان في أحدهما زيادة اختل طيران الطائر، وإذا تساويا استوى طيرانه، الخوف يحملك على أن تكثر من الأعمال، والرجاء يبرِّد قلبك على ألَّا تيئس من رَوح الله.
شرح العقيدة الطحاوية [100]
لقد خرج عن منهج الله الصحيح طوائف من المسلمين، واتبعوا أهواءهم، فخالفوا منهج السلف، وجانبوا الصواب، وعلى رأس هؤلاء عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء مؤسسا فرقة المعتزلة، والجهم بن صفوان والجعد بن درهم مؤسسا فرقة الجهمية، وكل يزعم أنه على الصواب والجادة، وهم أبعد عن الحق مما بين الشرق والغرب.
قبض العلم بموت العلماء
…(4/264)
نحمد الله على ما قضى وقدَّر، وعلى ما دبَّر ويسَّر، فهو أهل الحمد والثناء، يستحق الحمد على السراء والضراء، إذا ابتلى بالخير فهو أعلم بذلك وبمن يصلح له، وإذا ابتلى بالشر فهو أعلم بمن يبتليه، وبالأسباب التي يبتلي بها ولأجلها. إذا مس بالخيرات عم سرورها وإذا مس بالضراء يعقبه الأجر في هذا المسجد قبل ثلاثة أيام شهدنا حشداً عظيماً، وجمعاً كبيراً، يجهِّزون ويودعون عالماً من علماء المسلمين، يحضرون من كل فج، ومن كل جهة؛ لأجل أن يشيعوه، وأن يحضروا الصلاة عليه، ألا وهو شيخنا الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله، الذي وافاه أجله قبل ثلاثة أيام، والذي فقد المسلمون به عالماً جليلاً، وشيخاً كبيراً، بذل جهده، وأفرغ وسعه، وقام لله تعالى بما يستطيع، وجاهد في الله حق جهاده، جاهد بقلمه، وجاهد بلسانه، ورد على أعداء الله الذين يحاولون النيل من كتاب الله، أو من سنة رسوله، أو من دينه، فأبطل كيدهم، ورد أباطيلهم، وبين الحق أوضح بيان، قد أعطاه الله ووهبه علماً وحفظاً وفهماً، وذاكرةً قويةً، ومعرفةً بالأدلة وبمواضعها، ومعرفةً بسبك الكلمات وبرصفها، وبكيفية جمعها، حتى تكون كافية ومقنعة. لا شك أن فقد العلماء مصيبة عظمى، مصيبة كبيرة؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال؛ ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) نخشى أن يقبض العلم من بيننا، ولا يبقى فينا من يكون أهلاً لتحمل العلم؛ لأجل ذلك يجب أن نبذل جهداً ووسعاً في أن نتحمل من العلم ما نكون أهلاً به أن نذبَّ عن دين الله، وأن نجاهد في سبيله، وأن نبلغ شريعته، وأن نقوم لله مثنى وفرادى كما يقوم العلماء المجاهدون العارفون بالله أمثال هذا الشيخ رحمه الله؛ مخافة أن يطغى الجهل على العلم، ويطغى الشرك على الإيمان، وتعظم المصيبة في هذا(4/265)
الدين، وتعظم البلوى بأعداء الدين. وقد كان العلماء رحمهم الله دائماً يبكون على علمائهم إذا فقدوهم، ويخشون أن يكون هذا سبباً لنقص العلم ولتلاشيه، يقول ابن مشرف رحمه الله في نظمه لرثاء العلم: على العلم نبكي إذ قد اندرس العلم ولم يبق فينا منه روح ولا جسم ولكن بقي رسم من العلم داثر وعما قليل سوف ينطمس الرسم وليس يفيد العلم كثرة كتبه فماذا تفيد الكتب إن فقد الفهم وعار على المرء الذي تم عقله وقد أُملت فيه المروءة والحزم إذا قيل ماذا أوجب الله يا فتى أجاب بـ(لا أدري) وأنى لي العلم وأقبح من ذا لو أجاب سؤالَه بجهل فإن الجهل مورده وخم نقول: إننا في زمان ينقص فيه العلم، والمراد: العلم الشرعي، العلم الحقيقي الذي هو العلم بالله وبآيات الله، والعلم بشريعته، والعلم بكتابه وبسنة نبيه، والعلم بتوحيده وبحقوقه، ولو كثر العلم الآلي الذي كثر ادعاؤه، وكثر تعلُّمه، العلوم الآلية، وعلوم الحرف، وعلوم الصناعات، والعلوم الدنيوية، لقد كثر الذين ينتحلونها ويتعلمونها واحداً بعد واحد، لا شك أن هذا من الإعراض عن العلم الأصلي.......
معنى الإسلام ووسطيته
…
قد قرأنا ما ذكره الطحاوي رحمه الله من أن ديننا دين الإسلام، الذي لا يقبل الله من أحد ديناً غيره، هو أن يُسْلِم العبد قلبه وقالبه لربه، وأن يذعن له وينقاد، ويخضع له ويتواضع، وأن يعرفه بأسمائه وبصفاته، ويعرفه بما يجب أن يُعرف به، وأن يعبده حق عبادته، ويجاهد فيه حق جهاده. ......
وسطية الإسلام بين دين اليهود ودين النصارى
…(4/266)
دين الإسلام وسط بين الأديان كلها، فهو الوسط بين دين اليهود ودين النصارى، فدين اليهود فيه تشدد، ودين النصارى فيه توسع وتفريط، والإسلام جاء بالتوسط بينهما، اليهود يشددون في بعض الأشياء، والنصارى يتساهلون في كثير منها، والأمثلة على ذلك واضحة. كذلك أيضاً الدين الإسلامي وسط بين الغلو والتقصير، فليس فيه غلو بحيث يكلف أهله ويشق عليهم، وليس فيه تقصير بحيث يكون فيه نقص أو خلل في أية عبادة. فالطهارة التي هي من العبادات لا يجب فيها التشدد والدلك الشديد، وتكرار الغسل، وتكرار صب الماء، فهذا غلو، ولا يجزئ فيها مسح الأعضاء مسحاً، أو غسلها غسلاً خفيفاً لا يبلغ أن تبتل البشرة، فهذا تقصير، بل الوسط بين ذلك.
وسطية الإسلام بين المشبهة والمعطلة في صفات الله
…
دين الإسلام وسط في باب صفات الله تعالى بين المشبهة الممثلة الذين شبهوا صفات الله تعالى بصفات خلقه، وبين المعطلة الذين نفوا صفات الله، وعطلوه من صفات الكمال. فأهل السنة توسطوا، وهم الذين أثبتوا لله تعالى صفات الكمال، ونفوا عنه التشبيه والتمثيل بالمخلوقات، فهم وسط بين هؤلاء وهؤلاء. وهم كذلك وسط في باب الوعد والوعيد بين الوعيدية والمرجئة. فهناك الوعيدية الذين شددوا وحكموا بأن من عصى أدنى معصية فقد كفر، وحل ماله ودمه. وآخرون قالوا: المعاصي لا تؤثر ولا تضر. هؤلاء غلوا وهؤلاء نقصوا، والإسلام وسط جاء يحذر من الإصرار على المعاصي وكبائر الذنوب، والاستمرار على صغائرها، وجاء يأمر بترك التكفير والخروج على أئمة المسلمين، والخروج على عامتهم، بل جعلهم وسطاً أي: صار أهل السنة وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء.
وسطية الإسلام في الأمن والقنوط
…(4/267)
الإسلام وسط بين الأمن والقنوط، فهناك طائفة يكثرون من المعاصي والكفريات والبدع وهم آمنون، ويصدق عليهم قول الله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]. وآخرون غلب عليهم اليأس والقنوط، ووقعوا في معاصٍ وكبائر؛ ولكنهم قطعوا الرجاء، وانقطعوا انقطاعاً كلياً عن التوبة، وأيسوا من قبولها، واعتقدوا أنهم لا تنفعهم التوبة ولا تُقبل منهم، واعتقدوا أنهم لا ينفعهم أي عمل عملوه، فهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]. كذلك وسط في أفعال العباد بين القدرية وبين المجبرة، فالمجبرة هم الذين يقولون: ليس للعبد اختيار، بل هو مجبور على أفعاله، ليس له أية حركة، بل حركاته كحركات الأشجار التي تحركها الرياح، فلا طاعة تنسب إليه، ولا معصية تنسب إليه. وطائفة أخرى عزلوا الرب تعالى عن الأفعال التي تتعلق بالعباد، فنفوا عنه القدرة التامة، ونفوا أنه يهدي ويضل؛ نفوا أنه يهدي هذا ويضل هذا، أو يعين هذا ويخذل هذا، وجعلوا العبد هو الذي يهدي نفسه، أو يضل نفسه أو يفعل باختياره بدون أن يكون لله قدرة عليه، فهؤلاء في طرف، وهؤلاء في طرف، وتوسط أهل السنة بينهم وجعلوا للعبد قدرة، وله إرادة واختيار، وجعلوا تلك القدرة خاضعةً لقدرة الله، مغلوبة بقدرته. فهذا معنى كون الدين الإسلامي بين الغالي والجافي، وبين القدري والجبري، وبين المشبِّه والمعطِّل، ونحو ذلك، أي وسط بين الطرفين.
بيان معتقد المعتزلة
…(4/268)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [.. (.. فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً، ونحن بُرَآءُ إلى الله تعالى من كل مَن خالف الذي ذكرناه و بيناه، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الرديئة مثل: المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية، وغيرهم من الذين خالفوا الجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم بُرَآء، وهم عندنا ضُلَّال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق). الإشارة بقوله: (فهذا): إلى كل ما تقدم من أول الكتاب إلى هنا. والمشبهة: هم الذين شبهوا الله سبحانه وتعالى بالخلق في صفاته، وقولهم عكس قول النصارى، فإن النصارى شبهوا المخلوق -وهو عيسى عليه السلام- بالخالق تعالى، وجعلوه إلهاً، وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق، كداوُد الجواربي وأشباهه. والمعتزلة: هم عمرو بن عبيد و واصل بن عطاء الغزال وأصحابهما، سُمُّوا بذلك لما اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله تعالى في أوائل المائة الثانية، وكانوا يجلسون معتزلين، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، وقيل: إن واصل بن عطاء هو الذي وضع أصول مذهب المعتزلة، وتابعه عمرو بن عبيد تلميذ الحسن البصري ، فلما كان زمن هارون الرشيد صنف لهم أبو الهذيل كتابين، وبيَّن مذهبهم، وبنى مذهبهم على الأصول الخمسة التي سَمَّوها: العدل. والتوحيد. وإنفاذ الوعيد. والمنزلة بين المنزلتين. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولبَّسوا فيها الحق بالباطل؛ إذ شأن البدع هذا، اشتمالها على حق وباطل، وهم مشبِّهة الأفعال؛ لأنهم قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال عباده، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه، وما يقبح من العباد يقبح منه! قالوا: يجب عليه أن يفعل كذا، ولا يجوز له أن يفعل كذا، بمقتضى ذلك القياس الفاسد! فإن السيد من بني آدم لو رأى عبيده يزنون بإمائه ولا يمنعهم من ذلك، لعُدَّ إما مستحسناً للقبيح(4/269)
وإما عاجزاً، فكيف يصح قياس أفعاله سبحانه وتعالى على أفعال عباده؟! والكلام على هذا المعنى مبسوط في موضعه. فأما العدل: فسَتَرُوا تحته نفي القدر، وقالوا: إن الله لا يخلق الشر، ولا يقضي به؛ إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جوراً! والله تعالى عادل لا يجور، ويلزمهم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده، فيريد الشيء ولا يكون، ولازمه وصفه بالعجز! تعالى الله عن ذلك. وأما التوحيد: فسَتَرُوا تحته القول بخلق القرآن؛ إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء! ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة أو التناقض! وأما الوعيد: فقالوا: إذا أوعد بعض عبيده وعيداً فلا يجوز ألَّا يعذبهم ويُخلف وعيده؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فلا يعفو عمن يشاء، ولا يغفر لمن يريد عندهم! وأما المنزلة بين المنزلتين: فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر! وأما الأمر بالمعروف، وهو أنهم قالوا: علينا أن نأمر غيرنا بما أُمِرنا به، وأن نلزمه بما يَلْزَمنا، وذلك هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وضمَّنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا! وقد تقدم جواب هذه الشُّبَه الخمس في مواضعها. وعندهم أن التوحيد والعدل من الأصول العقلية التي لا يُعلم صحة السمع إلا بعدها، وإذا استدلوا على ذلك بأدلة سمعية إنما يذكرونها للاعتضاد بها، لا للاعتماد عليها، فهم يقولون: لا تثبت هذه بالسمع، بل العلم بها متقدم على العلم بصحة النقل! فمنهم من لا يذكرها في الأصول؛ إذ لا فائدة فيها عندهم، ومنهم من يذكرها ليبيِّن موافقة السمع للعقل، ولإيناس الناس بها، لا للاعتماد عليها. والقرآن والحديث فيه عندهم بمنزلة الشهود الزائدَين على النصاب، والمدد اللاحق بعسكر مستغنٍ عنهم، وبمنزلة من يتبع هواه، واتفق أن الشرع ما يهواه! كما قال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: لا تكن ممن يتبع الحق إذا(4/270)
وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذاً أنت لا تُثاب على ما وافقتَه من الحق، وتعاقَب على ما تركتَه منه؛ لأنك إنما اتبعتَ هواك في الموضعين، وكما أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والعمل يتبع قصد صاحبه وإرادته، فالاعتقاد القوي يتبع أيضاً علم ذلك وتصديقه، فإن كان تابعاً للإيمان كان من الإيمان، كما أن العمل الصالح إذا كان عن نية صالحة كان صالحاً، وإلَّا فلا، فقول أهل الإيمان التابع لغير الإيمان كعمل أهل الصلاح التابع لغير قصد أهل الصلاح، وفي المعتزلة زنادقة كثيرة، وفيهم من: ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعَاً [الكهف:104] ..]. في هذه الخاتمة تكلم الماتن والشارح على هذه الفرق التي خالفت أهل السنة في الاعتقاد، ولا شك أن مخالفتهم عن عناد، وذلك لأنهم حكَّموا العقول في الشرع، ونظروا فيما يهوَونه، وفيما تميل إليه أهواؤهم، فاتبعوه، فصدق عليهم أنهم ممن اتبع هواه، أو ممن اتخذ إلهه هواه، ولا شك أن الهوى يُعمي ويُصم، وأنه ما تحت أديم السماء إله يُعبد أو يطاع من هوىً يُتبع، وهؤلاء ذكر لنا منهم طائفتين: الطائفة الأولى: المشبهة. الطائفة الثانية: المعتزلة. وهما في طرفي نقيض. فالمعتزلة نسميهم: معطِّلة. والمشبهة نسميهم: ممثِّلة. وقد قال بعض السلف: (الممثل يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدماً). ويقول ابن القيم رحمه الله: لسنا نشبِّه ربنا بصفاتنا إن المشبِّه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافه إن المعطل عابد البهتان ويقول بعضهم: من شبَّه الله تعالى بخلقه فقد كفر، ومن نفى وأبطل ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما أثبته الله لنفسه تشبيه. وهم يقولون: إثبات هذه الصفات التي وردت في الكتاب والسنة تشبيه، وذلك لأنها صفات موجودة في المخلوق، وإذا كانت موجودة في المخلوق وأثبتت للخالق فقد حصل التشبيه، ويعتمدون على مثل قوله تعالى: لَيْسَ(4/271)
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] فهم دائماً يعتمدونها، وهذا دليلهم السمعي، وأما دليلهم العقلي فهو المحكم عندهم دائماً، يجعلون عقولهم حاكمة على الكتاب والسنة، ولا يعترفون من الوحيين إلا بما يوافق أهواءهم، بل العمدة عندهم هو العقل. والمشبهة هم الذين غلوا في الإثبات، فجعلوا صفات الخالق كصفات المخلوق، فيقول أحدهم: لله أيدٍ كأيدينا، وله أعين وأرجل كصفاتنا، وله كذا وكذا، ويقولون: هذا ما يوجد وعندنا ما نشاهده، وإذا أخبرنا الله بشيء غائب وسماه قسناه على ما نعرفه ونشاهده. ويقال لهم: كل شيء له صفات تناسب ذاته، فكما أن لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات فله صفات لا تشبه الصفات، فكما أن ذات الله تعالى لا تشبه ذواتنا فكذا نقول في سائر صفاته. أما المعتزلة الذين هم المعطلة النفاة فإنهم نفوا صفات الله التي هي صفات كمال، وجعلوها مجازاً، ولم يثبتوا لله لا صفات فعل ولا صفات ذات، فهؤلاء غلوا في النفي. ......
أول من أسس مذهب المعتزلة وسبب تسميتهم
…(4/272)
المعتزلة كما ذكر الشارح أنهم حدثوا قديماً في أول القرن الثاني، أو في أول المائة الثانية، أو في آخر حياة الحسن البصري ، خرج من حلقته رجل يقال له: واصل بن عطاء ، هذا الرجل كان فصيحاً جريئاً في الكلام، ذكياً قوي العبارة؛ ولكن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً [فاطر:8]. أول ما ظهر مذهب المعتزلة أنه جاء رجل يسأل الحسن البصري عن مسألة الكفر والإيمان والفرق بينهما، فتكلم واصل وقال: أنا لا أقول: إن العاصي مؤمن، ولا أقول: إنه كافر، بل هو في منزلة بينهما، فلا أحكم بأنه مؤمن فأعامله معاملة أهل الإيمان، ولا أحكم بأنه كافر فأقاتله كمقاتلتي للكفار، بل أجعله في منزلة بينهما. فعند ذلك أراد أن يقنعه الحسن فامتنع من الاقتناع، ثم اعتزل في ناحية من المجلس، فمجلس الحسن كان في جهة وهو في جهة، وجعل يقرر منهجه لِمَا أُعْطِيَه من بلاغة وقوة، وجعل الذين أعجبوا به يجلسون في حلقته، واعتزلوا حلقة الحسن البصري رحمه الله، فكلما جاء رجل من المبتدعة، وسأل عن مسألة وظهر أن في مسألته شيء من التعنُّت وشيء من الشدة قال له الحسن : اذهب إلى أولئك المعتزلة، أو يقول في جوابه له: عند أولئك المعتزلة، يعني: الذين اعتزلوا مجلس الحسن ، فلُقبوا بالمعتزلة، واعترفوا بهذا الاسم. الآن يوجد منهم بقايا على مذهبهم كله، أو على بعض مذهبهم، وكثير ممن يُسمَّون أشعرية مذهبهم قريب في باب الصفات من مذهب المعتزلة؛ لأن الفرق يسير، كذلك الشيعة والرافضة، فعلماء الرافضة قديماً وحديثاً على مذهب المعتزلة، يوجد على مذهبهم طوائف كثيرة في كثير من البلاد، في الشام، وفي مصر، وفي العراق، وفي اليمن، وفي أفريقيا، وفي الباكستان، وفي كثير من البلاد العربية وغير العربية، يعني: لا نقول: إنهم انقطعوا؛ بل هم موجودون، وقد طبعت قريباً كتبٌ لواحد من أكابرهم، وهو القاضي عبد الجبار، وهو من أكابر المعتزلة، فله كتاب كبير اسمه: المغني، طُبع في نحو(4/273)
أربعة عشر مجلداً، ضمَّنه عقليات مذهبهم، والذين طبعوه أُعجبوا بأسلوبه، وبقوة تعبيره، وسبكه للكلام، وحققوه ونشروه، وطُبع له كتاب آخر اسمه: الأصول الخمسة، وهي التي ذكرها الشارح كما سمعنا، وهي أصولهم التي بنوا عليها مذهبهم، وقد ضمَّنها في ذلك الكتاب.
أصول المعتزلة الخمسة
…
أصول المعتزلة خمسة وهي: الأصل الأول: التوحيد: ويريدون به نفي الصفات، يقولون: إن الله إذا أثبتنا له سمعاً وبصراً وعلماً وحياةً وقدرةً، فما أثبتنا واحداً بل أثبتنا عدداً، فلا نثبت إلَّا واحداً، حتى نكون بذلك موحِّدين. يرد عليهم بأن يقال: إن الصفات من جملة الذات، فلا يكون هناك تعدد. فالحاصل أن أصلهم الأول: التوحيد الذي ضمَّنوه نفي الصفات. الأصل الثاني: العدل: وهو الأصل في هذا الكتاب الذي صنفه القاضي عبد الجبار منهم. والعدل عندهم معناه: نفي قدرة الله على أفعال العباد، يقولون: إن الله لا يخلق الذنب ثم يعاقب عليه، بل العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، فنفوا أن الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء. الأصل الثالث: المنزلة بين المنزلتين: وهو أن أهل الكبائر ليسوا بمسلمين ولا بكفار، بل في منزلة بينهما، ولا أدري من أين جاءوا بهذه المنزلة، وأهل السنة يقولون: إنهم مؤمنون ناقص إيمانهم، أو فسقة، أو مؤمنون بأصل الإيمان الذي في قلوبهم، وأما معاصيهم فسموا بها فسقة. الأصل الرابع: إنفاذ الوعيد: يقولون: الآيات التي فيها وعيد على ذنب لا بد من إنفاذه حتى لا يخلف الله وعده، فإذا وعد أهل الكبائر بأنهم في النار فلا بد أن يدخلوها، ولا يخرجون منها أبداً، فكل ذنب مات صاحبه مصراً عليه فإنه يعتبر كافراً، ويعتبر مخلداً في النار، هذا حكمه في الآخرة، ولذلك ينكرون شفاعة الشافعين ويقولون: ليس هناك شفاعة، من دخل النار من أهل الكبائر لا يخرج منها أبداً، بل هو مخلد فيها. الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويضمِّنون ذلك أن كل منكر رأوه فإنهم(4/274)
يقاتلون عليه، حتى ولو كان الذي أظهر المنكر وعمل به خليفةً أو إماماً عاماً أو ملكاً من الملوك، فهم يخرجون عليه، وأخذوه من معتقد الخوراج، فهم يستبيحون الخروج على الأئمة بمجرد الذنوب، وقد خالفهم أهل السنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأمراء العصاة ونحوهم: (اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك)، ويقول في الولاة ونحوهم: (عليكم بالسمع والطاعة -أي: لولاة الأمور مهما كانت حالتهم- في المنشط والمكره، والعسر واليسر، والأثرة -أي: إذا استأثر عليكم بشيء فاسمعوا وأطيعوا- ما لم تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان). فهذه الأصول الخمسة هي التي بنوا عليها مذهبهم: 1- التوحيد. 2- العدل. 3- المنزلة بين المنزلتين. 4- إنفاذ الوعيد. 5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هكذا جعلوها معتقدهم، ودليلهم في ذلك هو العقل، ولا يعترفون بالسمع، والأدلة السمعية إذا جاءت موافقةً لمعتقدهم جعلوها زائدة على قدر الحاجة، كما ذكر الشارح أنهم يمثلونها بالمدد الذي جاء إلى الجيش بعد الاستغناء عنه، لو كان هناك جيشان متقاتلان ومتكافئان، هذا يكافئ هذا، وجاء لهذا الجيش مدد يقويه، فهذا الجيش الذي يقاتل يقول: لا حاجة لنا في هذا المدد، نحن نقدر أن نقاوم عدونا، وأن ننتصر عليه. فيقول: إن هذه الأدلة التي اعتمدوها هي أدلة عقلية، وجاءت الأدلة السمعية التي هي الآيات والأحاديث فلم يأبهوا بها، ويقولون: نحن في غنىً عنها، أدلتنا العقلية كافية ومقنعة، حيث إنا رجعنا إليها واقتنعنا بها، وجعلناها هي الأصل الأصيل، والأساس لمعتقدنا، ولا شك أن عقائدهم التي بُنيت على هذا العقل متهافتة؛ ولذا كثُر في باب العقائد اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله تعالى حجابهم، وكثر تناقضهم، ورجوع أكابرهم عما كانوا عليه. تأتي المسألة ويختلفون فيها، هذا يقول: العقل أقرها، وهذا يقول: العقل نفاها، كيف تكون مسألة واحدة ينفيها هذا بالعقل ويثبتها هذا بالعقل؟! فهذا(4/275)
دليلٌ على أن العقول ليست معتمَدة، بل العمدة على السمع، العمدة على الأدلة النقلية التي هي مسموعة مثبتة، جاءت من قبل الله العزيز الحكيم، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، فهذا هو المعتمَد الصحيح.
بيان مذهب الجهمية
…
قال الشارح رحمه الله: [.. والجهمية: هم المنتسبون إلى جهم بن صفوان الترمذي ، وهو الذي أظهر نفي الصفات والتعطيل، وهو أخذ ذلك عن الجعد بن درهم الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط، فإنه خطب الناس في يوم عيد الأضحى وقال: أيها الناس! ضحوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مُضحٍّ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً! ثم نزل فذبحه، وكان ذلك بعد استفتاء علماء زمانه وهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى. وكان جهم بعده بخراسان، فأظهر مقالته هناك، وتبعه عليها ناس بعد أن ترك الصلاة أربعين يوماً شكاً في ربه! وكان ذلك لمناظرته قوماً من المشركين يقال لهم السُّمَنية من فلاسفة الهند، الذين ينكرون من العلم ما سوى الحسيات قالوا له: هذا ربك الذي تعبده هل يُرَى أو يُشَم أو يُذاق أو يُلْمَس؟ فقال: لا. فقالوا: هو معدوم! فبقي أربعين يوماً لا يعبد شيئاً، ثم لما خلا قلبه من معبود يألهه نقش الشيطان اعتقاداً نَحَته فكرُه فقال: إنه الوجود المطلق! ونفى جميع الصفات، واتصل بالجعد . وقد قيل: إن الجعد كان قد اتصل بالصابئة الفلاسفة من أهل حران، وأنه أيضاً أخذ شيئاً عن بعض اليهود المحرفين لدينهم المتصلين بلبيد بن الأعصم الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فقُتل جهم بخراسان،قتله سلم بن أحوز ؛ ولكن كانت قد فشت مقالته في الناس، وتقلدها بعده المعتزلة؛ ولكن كان الجهم أدخل في التعطيل منهم؛ لأنه ينكر الأسماء حقيقة، وهم لا ينكرون الأسماء بل الصفات. وقد تنازع(4/276)
العلماء في الجهمية هل هم من الثنتين وسبعين فرقةً أم لا؟ ولهم في ذلك قولان، وممن قال: إنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقةً: عبد الله بن المبارك و يوسف بن أسباط . وإنما اشتهرت مقالة الجهمية من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فإنه من إمارة المأمون قووا وكثروا، فإنه كان قد أقام بخراسان مدة، واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمان عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا الإمام أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين، وفيها كانت محنته مع المعتصم ، ومناظرته لهم بالكلام، فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه، وبيَّن أنه لا حجة لهم في شيء من ذلك، وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم، وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه، أشار عليه مَن أشار بأن المصلحة ضربُه؛ لئلا تنكسر حرمة الخلافة مرةً من بعد مرة! فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة، وخافوا فأطلقوه، وقصته مذكوره في كتب التاريخ. ومما انفرد به جهم : أن الجنة والنار تفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة فقط، والكفر هو الجهل فقط، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس، ولقد أحسن القائل: عجبت لشيطان دعا الناس جهرةً إلى النار واشتُق اسمه من جهنم وقد نقل أن أبا حنيفة رحمه الله سئل عن الكلام في الأعراض والأجسام فقال: لعن الله عمرو بن عبيد هو فتح على الناس الكلام في هذا!]. الجهمية طائفة من المبتدعة، ومن أقدمهم وأعرقهم في البدعة، وهم أتباع هذا الشيطان الذي وصفه هذا الشاعر بقوله: عجبت لشيطان دعا الناس جهرةً إلى النار واشتُق اسمه من جهنم فسماه: شيطاناً، وجعل اسمه مشتقاً من جهنم، وليس بين اسمه وبين اسم جهنم إلَّا زيادة النون، هذا الرجل ذكر أنه كان بخراسان التي تعرف الآن بإيران، ومن أين أخذ هذه المقالة؟ أخذها من شيخ قبله يقال له: الجعد بن درهم ،(4/277)
و الجعد أخذها من يهودي يقال له: طالوت و طالوت أخذها من خاله اليهودي الذي يقال له: لبيد بن الأعصم ، وهو الذي عمل السحر للنبي صلى الله عليه وسلم، فكفاه الله شره وأبطل كيده، فرجع إسناد الجهم إلى اليهود أو إلى سحرة اليهود. وله إسنادٌ ثانٍ ذكره الشارح وهو أنه اتفق مرةً بفرقة يقال لهم: السُّمَنِية، وكانوا ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات، لا يقرون إلَّا بشيء رأوه بأعينهم، أو سمعوه بآذانهم، أو لمسوه بأيديهم، أو شموه بأنوفهم، أو ذاقوه بألسنتهم، أما الذي يُخبَرون عنه وهم لَم يروه فإنَّهم لا يقبلونه، هؤلاء ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات. لما لقوا هذا الرجل الذي هو الجهم شككوه في ربه فقالوا له: ربك الذي أنت تعبد، هل رأيته؟ قال: لا. هل سمعت كلامه إليك؟ قال: لا. هل لمسته؟ هل شممته؟ قال: لا قالوا: إذاً: ليس لك رب، إذاً: هو معدوم. فعند ذلك بقي متحيراً أربعين يوماً لا يصلي؛ شاكاً في وجود ربه؛ ولكنه بعد ذلك تذكر فقال لكبير أولئك السُّمَنِية: أليس لك روح؟ فقال: نعم. قال: روحك هذه التي تدخل في جسدك ثم تخرج منه وتدخل في الجسد وهكذا ثم تخرج منه، هل رأيتها بعينك؟ قال: لا. هل شممتها؟ .. هل لمستها؟ .. هل سمعتها؟ قال: لا. قال: فإذاً: هي موجودة وجوداً مطلقاً، فكذلك وجود الله وجود مطلق. فاعتقد الجهم أن وجود الخالق مجرد وجود دون أن تكون له ذات، بل الوجود المطلق بشرط الإطلاق. فبقي على هذه العقيدة وهي نفي الأسماء والصفات، فلا يثبت لله أسماءً إلَّا على الطريق المجاز، ولا يثبت لله صفاتٍ أبداً، بل كل صفاته ينكرها، حتى ولو كانت في كتاب الله تعالى، أو في الصحيحين، هذه عقيدته في باب الصفات. ......
عقيدة الجهم في الإيمان والأفعال
…(4/278)
عقيدة الجهم في باب الإرجاء أنه يقول: لا يضر مع الإيمان ذنب، ويبيح للعاصي أن يكثر من كبائر الذنوب، فلا يضره لو سرق، ولو زنى، ولو قتل، ولو نهب، ولو سكر، ولو أكل مال يتيم، ولو فعل ما فعل، ما تضر الذنوب عنده. وعنده أن الإيمان هو مجرد المعرفة، يقول: إذا كنت عارفاً بالله فأنت مؤمن كامل الإيمان، والكفر عنده هو الجهل فقط، من كان جاهلاً بالله فإنه يعتبر عنده كافراً، وأما إذا كان يعرف الله معرفة الوجود المطلق، فإنه يسمى مؤمناً كامل الإيمان. ومن عقيدته أنه يقول بالجبر، فلا يثبت لله تعالى أفعالاً، وورثه الجبرية في ذلك، حيث ادعى أن العبد مجبور على أفعاله، ليس له أي اختيار، بل هو مجبور عليها ومقهور، ليس له اختيار أصلاً، هذه عقيدته! انفرد بثلاثة أشياء: بالتعطيل. وبالجبر. وبالإرجاء. وزعم أن الإيمان مجرد إثبات المعرفة فقط. وشيخه الذي أخذ العلم عنه وهو الجعد من عقيدته أنه ينكر الصفات، فمن جملة ما ينكره: صفة الخلة التي هي المحبة: فيقول: إن الله ما اتخذ إبراهيم خليلاً. وصفة الكلام: فيقول: إن الله تعالى ما كلم موسى تكليماً. فلأجل الكلمتين هاتين -إنكار الكلام وإنكار المحبة- قتله السلف، وأفتى العلماء بحل قتله، فقتله أمير في العراق يقال له: خالد بن عبد الله القسري وجعله كأضحية، ضحى به في يوم عيد وقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مُضَحٍّ بالجعد بن درهم . شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
بشر المريسي ونشره لمذهب الجهمية
…(4/279)
الجعد قتله خالد القسري ، و الجهم قتله سلم بن أحوز، فكل منهما قُتل، فدل على عظم ذنب كل منهما؛ ولكن مع الأسف بقيت عقيدتهما بعدهما، ما قتل الجهم إلَّا بعد أن أضل خلقاً كثيراً، وبعد أن تبعه أقوام وأفواج، وتمكنت عقيدته في إيران وفي تلك البلاد، ثم وصلت إلى العراق، فكان في العراق جهمي يقال له: بشر المريسي تقلد هذه العقيدة وكتب فيها كتباً، وقد رد عليه العلماء، ومن جملة من رد عليه: الإمام الدارمي في الرد المطبوع المسمى: رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد، وبيَّن في رده مذهب أهل السنة، وأبطل مذهبه الذي بناه على العقليات. وفي زمن المريسي لم يكن له قوة وصولة؛ ولكن بعد موت الرشيد وموت ابنه الأمين بن الرشيد تولى الخلافة المأمون ، ولما تولاها استولى عليه هؤلاء الجهمية وقربوا منه، وزيَّنوا له هذا المذهب الباطل، فانتحله واعتقده، فعند ذلك دعا الناس إلى اعتناقه، وفتن الناس، وحصل أذىً كثيراً، حتى فُتن الأئمة وأُدخل السجون كثيرٌ منهم، وأُكرهوا على أن يعتنقوا هذا القول، فادعى كثير منهم ذلك من باب التخلص لا أنه من باب عقيدة، كيحيى بن معين وغيره، وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنه أصر على عقيدته، وطلب منهم دليلاً يؤيدون به حجتهم، فلم يأتوه بدليل مقنع، فأصر على أن القرآن كلام الله، وأنه ليس بمخلوق، وعذبوه أشد العذاب؛ ولكن لم يزدد إلا تصلباً وتشدداً، فقال له بعضهم: لو قلت: إن القرآن مخلوق لخلصناك من هذا العذاب، فقال: لو قلتم: إن القرآن كلام الله لخلصتم من عذاب النار. والحاصل: أنه أصر على ذلك إلى أن جعل الله له فرجاً ومخرجاً، فتوفي المأمون قبل أن يصل إليه الإمام أحمد ؛ ولكن تولى تعذيبه أخوه الذي استولى بعده، وهو المعتصم ، إلى أن مات المعتصم والإمام أحمد لا يزال يُعذَّب أو لا يزال يُهان، وتولى بعده الواثق بن المعتصم ولكنه خفف المحنة، ولما مات الواثق تولى بعده ابنه المتوكل فنصر السنة(4/280)
وقرَّبها، وكبت أهل البدعة، وزالت دولتهم، ولا يزال لله تعالى قائم بالحق في كل زمان يجاهد في الله ويناضل.
الأسئلة
…
......
شرح معنى قوله: (وأما التوحيد فستروا تحته القول بخلق القرآن ...)
…
السؤال: نرجو من فضيلتكم توضيح معنى قول الشارح: [وأما التوحيد فسَتَرُوا تحته القول بخلق القرآن، إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء، ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة أو التناقض]؟ الجواب: يتكلم الشارح عما يعتقده المعتزلة، وذكرنا أن أول أصولهم: التوحيد، فيقولون: نحن نقول بالتوحيد، وهو أنه ليس لله إلَّا ذات، فلا نقول: إن الله متكلم، ولا نقول: إن القرآن كلام الله، بل القرآن مخلوق، كما أن الإنسان مخلوق، والسماء مخلوقة، والأرض مخلوقة، والجبل مخلوق، فالقرآن مخلوق! لماذا تقولون: إن القرآن مخلوق؟! يقولون: لئلا يلزم تعدد القدماء، إذا قلنا: كلام الله قديم، وذات الله قديمة، صار عندنا قديمان، فنقول: ذات الله قديمة فقط، والقرآن حادث ومخلوق. هكذا قالوا! فالتوحيد عندهم: إنكار كلام الله، وإنكار صفات الله. أما الرد عليهم فسمعنا كلام الشارح حيث يقول: يلزمكم أن تقولوا: إن الله مخلوق، وحياته مخلوقة، وسمعه وبصره مخلوقان، فتجعلون لله تعالى في ذاته ما هو مخلوق، وهذا لازم لهم لا محيد لهم عنه.
الفرق بين المعتزلة والجهمية
…
السؤال: هل ينكر المعتزلة جميع الصفات؟ وما الفرق بين المعتزلة والجهمية؟ الجواب: المعتزلة ينكرون جميع الصفات؛ ولكنهم يقرون بالأسماء، أما الجهمية فينكرون الأسماء أيضاً، ولا يعترفون لله تعالى بالأسماء، حتى كلمة (شيء) لا يقولون: إن الله شيء، إنما يعترفون بكلمة (موجود)، أو يثبتون الوجود، هذا الفرق بينهما.
الأشاعرة وما يثبتونه من الصفات
…(4/281)
السؤال: ما هو مذهب الأشاعرة؟ وماذا يثبتون من الصفات؟ وما حجتهم؟ الجواب: الأشاعرة حدثوا في آخر القرن الثالث، وانتسبوا إلى أبي الحسن الأشعري، وهو من ذرية أبي موسى ، ويثبتون سبع صفات، وينكرون بقيتها، فيثبتون العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والحياة، يثبتونها حقيقةً، ويجعلون الباقي مجازاً، هذا مذهبهم.
المقصود بقول أهل السنة: إن الله خالق أفعال العباد
…
السؤال: من مذهب أهل السنة والجماعة أن الله خالق أفعال العباد، فما المقصود بذلك؟ وهل الخلق هنا هو المشيئة؟ الجواب: من مذهب أهل السنة أن الله خلق أفعال العباد بمعنى: أنه هو الذي خلقهم وخلق أفعالهم؛ ولكن معلوم أن الله هو الذي هداهم، وهو الذي أقدرهم، وهو الذي قواهم، ولو شاء لما اهتدوا لفعل أفعالهم. وهو الذي يهدي هؤلاء بفضله، ويضل هؤلاء بعدله.
جمع الجهم بين الإرجاء والتعطيل والجبر
…
السؤال: قلتَ: إن الجهم يرى الإرجاء، وأنه يقول: لا يضر مع الإيمان معصية، ولا مع الكفر طاعة، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا نعلم شخصاً بعينه قال بمقالة الإرجاء نصاً، فما رأيكم جزاكم الله خيراً؟ الجواب: شيخ الإسلام هو الذي ذكر عن الجهم أنه يقول بالإرجاء، يعني: كونه لا يضر مع الإيمان ذنب، وذكر أن الجهم أيضاً هو الذي يقول بالجبر، أي: أن العبد مجبور على أعماله وسيئاته. فكونه يقول هذه المقالة فلعله يريد بذلك مَن بعدَه، يعني: قد يقال: لا نعلم أحداً اجتمعت فيه هذه الثلاث: التعطيل والإرجاء والجبر إلا الجهم.(4/282)