الصحابة رضي الله عنهم كانوا على العقيدة السلفية، لم يرتد منهم أحد وينكر شيئاً منها، وحاشاهم من ذلك، ولكن حدث في آخر عهدهم بدع، وبعضها أهون من بعض، أهونها البدعة الأولى التي هي بدعة الخوارج، ثم تليها بدعة القدرية، وقد يكون لهم فيها عذر، وكل هذه حدثت في آخر القرن الأول، ولكن أشنعها وأبشعها هي البدعة التي حدثت في أوائل القرن الثاني: بدعة الجهمية. نشأت في خراسان ببلاد إيران، أول ما وجدت هذه البدعة في تلك الأماكن، فانتشرت انتشاراً خفياً، وفي آخر القرن الثاني تمكنت من بعض النفوس، وتمكنت جداً في أول القرن الثالث، وحصل ما حصل. وقد تكرر معنا أن من دعاتها، الجعد بن درهم الذي ضحى به خالد القسري يوم العيد ، ومن دعاتها أيضاً الجهم بن صفوان ، وهو الذي ينتسب إليه هذا المذهب، وقد قتله سلم بن أحوز رحمه الله لبدعته، وورثه بشر بن غياث المريسي، وهو مبتدع على طريقة الجهم ، وتمكن من بعض الولاة فقربه، وقبل مقالته كثير من المخدوعين الذين رأوا زخرف قوله فصدقوه، حتى أهلكه الله. وقد ذكروا أنه لما دفن في مقبرة من مقابر العراق رئي بعض الأموات في المنام وعلى وجهه سفعة من النار أو لفحة منها، فقيل: ما هذا؟ فقال: دفن عندنا بشر المريسي ، فنفحت جهنم أو التهبت على ذلك المكان، فنال: منها هذا اللهب.. والعياذ بالله! ثم ظهر في أواخر القرن الثاني وأول الثالث أحمد بن أبي دؤاد ، وهو الذي زين للمأمون الفتنة والدعاء إلى القول بخلق القرآن، ونصر الله الحق وظهر، وخذل الله هذا العدو، بحيث إنه عوقب بإصابته بمرض الفالج في آخر عمره، وبقي ذليلاً مهيناً مهجوراً، لا يحترمه ولا يعظمه أحد، ولما مات لم يوجد من يحمله إلا ثلاثة رجال والرابع امرأة، وكل ذلك تحقير من الله تعالى لأهل الشر ولأهل الأهواء والبدع. أما أهل السنة فإنهم أعزاء، ولهم النصرة والتمكين، لكن مع الأسف بعد انقراض القرون الثلاثة المفضلة تمكن هذا المذهب، وصار أهل القرن(2/223)
الرابع لا يعرفون غيره إلا ما شاء الله، وبقي أهل السنة مستخفين في القرن الرابع وما بعده، إلى أن أظهر الله الحق على يدي شيخ الإسلام ابن تيمية ومن على طريقته، ولا يزال لله تعالى بقايا من أهل العلم ومن أهل الدين في كل زمان ينافحون ويكافحون عن الدين الحق، ويردون البدع، ويردون على أهلها، وبهم تقوم حجة الله على عباده.
ما يترتب على اعتقاد العلو لله سبحانه وتعالى
…
من جملة ما مر بنا في هذه العقيدة الكلام على صفة العلو والفوقية، وقد ذكر الشارح رحمه الله الأدلة على العلو، وأورد أنواعاً كثيرة من الأدلة العقلية ومن الأدلة النقلية الشرعية من الآيات والأحاديث، وهو لم يستوفِ الأدلة، ومن الكتب التي استوفت كتاب: العلو للعلي الغفار للإمام الذهبي ، وكتب كثيرة استوفت هذه المقالة التي هي صفة العلو بأدلتها. والمسلم إذا اعتقد هذه الصفة، ودان لله تعالى بأنه هو العلي الأعلى، فإن الله تعالى سيتقبل عبادته، ويضاعف أجره، ومن نتيجة هذه العقيدة، أنه يحصل للذين يعتقدونها مخافة ربهم من فوقهم كما أخبر عن الملائكة بقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] ، فإن المؤمن إذا استشعر أن ربه من فوقه، وأنه مطلع عليه؛ فإنه يشعر من نفسه بالذل، ولربه بالعز والجلال، فيعظمه ويراقبه ويخافه، ويعبده حق عبادته، وهذا نتيجة اعتقاد هذه العقيدة.
شرح العقيدة الطحاوية [35]
أنكر الجهمية أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وأنه كلم موسى تكليماً، وقد رد عليهم أهل العلم، وبينوا حقيقة الخلة، وأنها أرفع درجة من المحبة.
حقيقة الخلة والمحبة والفرق بينهما
…(2/224)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً). قال الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125] ، وقال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]. الخلة: كمال المحبة، وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين؛ زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة! وكذلك أنكروا حقيقة التكليم كما تقدم، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط، خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً. ثم نزل فذبحه. وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم، فجزاه الله عن الدين وأهله خيراً. وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان ، فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول (الجهمية)، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد ، وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون ، حتى امتحن أئمة الإسلام، ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك. وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً وموسى كليماً؛ لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب، كما قيل: قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً ولكن محبته وخلته كما يليق به تعالى كسائر صفاته، ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله) ، يعني: نفسه. وفي رواية: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو(2/225)
كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ، وفي رواية: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلاً، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق ، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً، كقوله لمعاذ : (والله إني لأحبك) ، وكذلك قوله للأنصار، وكان زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة حبه، وأمثال ذلك. وقال له عمرو بن العاص : (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة ، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها) ، فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة، والمحبوب بها لكمالها يكون محبوباً لذاته، لا لشيء آخر، إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ومن كمالها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة؛ لتخللها المحب، ففيها كمال التوحيد، وكمال الحب، ولذلك لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكان إبراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره، فامتحنه بذبحه، ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده، فلما استسلم لأمر ربه، وعزم على فعله، فظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثاراً لمحبة خليله على محبته، نسخ الله ذلك عنه، وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم، وتوطين النفس على أعلى ما أُمر، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح نفسه مفسدة، فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في أتباعه إلى يوم القيامة]. ......
معنى الخلة والخليل
…(2/226)
تكلم الشارح رحمه الله -كما سمعنا- على مسألة الخلة التي قال الله فيها: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125] ، وذكر أن الخلة أعلى أنواع المحبة، وأن الخليل في الأصل: هو المحبوب الذي تخللت محبته شغاف القلب، فالخليل: هو المحبوب الذي بلغت محبته النهاية، والأخلاء: هم الأحباب، قال تعالى: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] يعني: الذين كانوا متحابين محبة شديدة في الدنيا، إذا لم تكن تلك المحبة على التقوى صار بعضهم في الآخرة لبعض عدواً، ولو كانت تلك المحبة والخلة وثيقة وقوية. فالخلة تخلل المحبة شغاف القلب، قال الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً قوله: (مسلك الروح) يعني: دخلت فيما يدخل فيه الروح، الروح يسري في الجسد وفي العروق وفي الدماء وفي العظم وفي البشر وفي كل شيء ما عدا الشعر، فالروح يسري في كل الإنسان، يقول: إني أخاطب محبوبة كأنها تخللت ما تخلله الروح حتى وصلت إلى شغاف القلب، وبذا سمي الخليل خليلاً. ويقول الشاعر أيضاً: لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الممات قليل فالخليل: هو المحبوب. وقال الله تعالى حكاية عن بعض الكفار في النار: يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا [الفرقان:28] يعني: محبوباً. الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، يعني: محبوباً، والنبي صلى الله عليه وسلم له أخلاء محبوبون، ولكن المحبة القوية الخالصة كانت بينه وبين ربه، فربه تعالى قد اتخذه خليلاً، وهو قد أحب ربه تلك المحبة التي هذه نهايتها، وهذه غايتها، فبقي قلبه ممتلئاً بتلك المحبة التي هي الخلة، ليس فيه موضع لغيره، وهكذا يجب على كل مؤمن أن يكون قلبه ممتلئاً بمحبة ربه، المحبة التي لا ينازعها غير محبة المحبوب. الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، وأحبه هذا النوع من المحبة، وإبراهيم كذلك أحب ربه المحبة التامة التي هي(2/227)
أعلى أنواع المحبة، ولما وهبه الله ولده إسماعيل أحبه كما هو معلوم أن الولد محبوب في النفس، وأن النفس تميل إليه وتحبه محبة طبعية، محبة شفقة وحنان، فلما تعلق قلب إبراهيم بولده وأحبه غار الرب تعالى على خليله أن يكون في قلبه موضع لغير ربه، وأن يكون قلبه منشغلاً بربه، فهو يريد ألا يكون فيه أية محبة صادقة لغير الله تعالى، فعند ذلك امتحنه بذبح ولده، فلما استسلم لذلك، والتزم بأن يطيع ربه في هذه المحنة، وأن يذبح ولده؛ خرج ذلك الجزء الذي في قلب إبراهيم من المحبة لولده، وذلك الاشتراك الذي كان فيه من محبة الولد، وصفا قلب إبراهيم لربه، وعرف ربه من قلبه أنه ممتلئ بمحبة ربه، وأنه لا يقدم على محبته محبة مال ولا ولد ولا أخ ولا خليل ولا غير ذلك، فعند ذلك نسخ الله هذا الأمر كما سمعنا،وفداه الله بذبح عظيم.
شبهة إنكار المحبة بين العبد وربه والرد عليها
…(2/228)
المحبة من أعلى صفات الله الفعلية، الله تعالى يحب عباده، ويتخذ من يشاء منهم خليلاً، فإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم هما الخليلان اللذان اتخذهما الله لهذه الخلة التي هي من خصائصهما، وأما بقية الخلق فإنهم يحبون الله تعالى والله تعالى يحب المؤمنين ويحب المتقين ويحب التوابين ويحب المتطهرين كما أخبر بذلك. فالمحبة عامة للمؤمنين، والخلة خاصة بالخليلين، وهي من الله تعالى. صفة الخلة وصفة المحبة عموماً، أنكرتها الجهمية من الجانبين، فقالوا: الله لا يُحِب ولا يُحَب، أنكروا أن المؤمنين يحبون ربهم، وأنكروا أن الله يحبهم، لماذا؟ يقولون: إن المحبة لا تكون إلا بين اثنين بينهما تجانس، فالإنسان يحب إنساناً لأنه إنسان؛ ولأن بينهما تجانساً، وليس بين الرب وبين الخلق تجانس، يقولون: الرب قديم، والإنسان حادث، فما دام أن بينهما هذا التفاوت فلا يمكن أن يكون بينهما هذه المحبة التي هي خاصة بالمتجانسين. هذه شبهة، ولا شك أنها شبهة باطلة، فالمؤمنون يجدون في قلوبهم المحبة، ويجدون من ربهم آثار هذه المحبة، فالله تعالى يحب عباده، ومن آثار هذه المحبة: أنه ينصرهم، ويكرمهم، ويؤيدهم، ويقويهم، ويعلي شأنهم، ويعلي كلمتهم، ويوفقهم، ويسدد خطاهم، أليس ذلك دليل من آثار المحبة؟ إذا رأيت إنساناً يكرم رجلاً، ويقدسه، ويقدمه، ويدخله بيته دائماً، ويزوره، ويستزيره، ويهدي له، ويقبل هديته، ويمدحه في المجالس، ألست تستدل على أنه يحبه؟ نعم، وتقول: هذا يحب فلاناً، وبينهما محبة. نحن نشهد آثار رحمة الله تعالى، نشهد أنه يوفق بعض عباده، وأنه ينصرهم ويؤيدهم، ويقويهم ويقوي عزائمهم، ويقوي قلوبهم، أليس ذلك من آثار المحبة؟ بلى؛ هذا دليل على أنه أحبهم حيث أظهرهم وقواهم ونصرهم وأيدهم، كما حصل لأولياء الله تعالى في كل مكان وزمان. إذاً: نستدل بآثار المحبة على وجودها، هذا لو لم ترد في الأدلة، فكيف والأدلة الشرعية كثيرة كقول الله تعالى: فَسَوْفَ(2/229)
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] ، اجتمعت المحبتان: ((يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ))، وهذا رد على المعتزلة في الجهتين، هم يقولون: لا يحُب ولا يحِب، والآية أثبتت أنه يحبهم وأنهم يحبونه، ومن آثار محبته لهم: أنه ينصرهم ويؤيدهم ويقوي كلمتهم، وآثار محبتهم لربهم: أنهم يعبدونه، ويخلصون العبادة له، ويوحدونه ويطيعونه، ويطيعون أمره، ويعظمون شرعه، ويستعدون للقائه، ويعملون بشرائعه كلها، ويحذرون من أسباب غضبه، ويفعلون أسباب ثوابه، وهذا دليل على أنهم يحبونه. كذلك أيضاً محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم واجبة عليهم، وهي تابعة لمحبة الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) . نحن نحب هذا النبي صلى الله عليه وسلم، والكثير يقولون: نحن نحبه، ونشهد أنه رسول الله، لكن لهذه المحبة علامات، فلابد أن تظهر في الذي يحبه علامات المحبة، ومن أبرزها طاعته واتباعه، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
تكليم الله لموسى وغيره
…(2/230)
ذكر الشارح أن الله تعالى كلم موسى تكليماً، وقد تقدم الكلام على القرآن، وأنه كلام الله، وأن الله تعالى متكلم، يتكلم إذا شاء، ومن كلامه القرآن، وكلامه لا يفنى، ولو كتب بكل أقلام الدنيا وكانت البحار مداداً لها؛ لفنيت الأقلام وتكسرت، ولفنيت مياه البحار قبل أن يفنى كلام الله. والله تعالى خص من عباده من كلمهم، ومنهم: موسى، قال الله تعالى يخاطب موسى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] (اصطفيتك) يعني: اخترتك وفضلتك وميزتك بهذه الأشياء التي منها: أن الله كلمه، ومنها: أنه أرسله وجعله من المرسلين، وغير ذلك مما ميزه الله به. هذه الآية لا يستطيع المعتزلة أن يؤولوها: (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي). أما الآية التي استشهد بها الشارح، وهي قوله الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] ، ومثلها قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، فهذا صريح أيضاً في أن الله كلم موسى، ومعروف أن الكلام هو المسموع؛ لقوله تعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] فهو كلام سمعه، ولكن المعتزلة لما أنكروا هذه الصفة تأولوها تأويلاً بعيداً، فيقولون: إن التكليم هنا: التجريح، (كلمه) أي: جرحه بأظافير الحكمة. وما أبعد هذا التأويل!! ونسوا أن الله تعالى أخبر بأنه اصطفاه بكلامه، وتكرر الآيات يمنع من صرفها إلى هذا التأويل البعيد، ونسوا أن التأويل لا يمكن إلا ببينة وبقرينة ترجح ما تأولوه، وحيث إنه ليس هناك قرينة فلا نقبل منهم هذا التأويل البعيد، وهذا تحريف. وقد ذكر أن رجلاً جاء إلى أبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة من قراء البصرة، وقال: أريد أن تقرأ هذه الآية هكذا: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا) يعني: أن موسى هو الذي كلم الله، وأن الله لم يكلم موسى، فجعل(2/231)
اسم (الله) مفعول به منصوب على أنه هو المكلم. ماذا قال أبو عمرو رحمه الله؟ قال: هب أني أو غيري قرأها هكذا، فكيف تفعل بقول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]؟! فبهت ذلك المعتزلي، حيث إن تلك الآية لا تستطيع المعتزلة تأويلها ولا تحريفها، ويسمى هذا: تحريفاً لفظياً. والحاصل أن المعتزلة أنكروا هاتين الصفتين: صفة الخلة التي هي أعلى أنواع المحبة، وصفة الكلام من الله تعالى الذي هو صفة كمال، أنكروا هاتين الصفتين. وهذه المقالة -التي هي إنكار هذه الصفات- اشتهرت عن الجعد بن درهم كما ذكر الشارح، وهو الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط -قرية من قرى العراق- فقتله في يوم العيد وجعله أضحيته يوم العيد، بعد أن أفتى علماء زمانه بكفره، وأنه أصر على قوله وعناده ولم يرجع، ولم يقبل، فبعدما خطب رحمه الله نزل وذبحه. يقول ابن القيم رحمه الله في النونية: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان ما هي مقالته؟ إذ قال إبراهيمُ ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الدان المقالة التي أنكروها عليه أنه أنكر أن الله كلم موسى تكليماً، وأنكر اتخاذ الله إبراهيم خليلاً. هذه المقالة حفظت عن الجعد ، وذكر ابن تيمية رحمه الله أن الجعد أخذها عن طالوت ، وطالوت أخذها عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر المشهور، فصارت مأخوذة عن سحرة اليهود. والجهم أخذها عن الجعد ونشرها فنسبت إليه، أصبح يقال: جهمية. الجهم كلمة مستبشعة، قالوا: إنها مشتقة من جهنم، مما يدل على أن اسمه قريب من هذه الكلمة. وذكر الإمام أحمد رحمه الله أنه أخذ مقالته عن طائفة يقال لهم: السمنية. وعلى كل حال فأسانيد الجهمية تعود إلى السمنية وإلى سحرة اليهود وإلى أشبهاهم، فكيف يترك لها كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعقائد سلف المسلمين؟! ......(2/232)
نبينا محمد عليه الصلاة والسلام شارك إبراهيم وموسى في منزلة الخلة والتكليم
…
قال الشارح رحمه الله: [وكما أن منزلة الخلة الثابتة لإبراهيم صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم، كذلك منزلة التكليم الثابتة لموسى صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا صلى الله عليه وسلم، كما ثبت ذلك في حديث الإسراء. وهنا سؤال مشهور؛ وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ وكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟ وقد أجاب عنه العلماء بأجوبة عديدة، يضيق هذا المكان عن بسطها. وأحسنها: أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء، حصل لآل محمد ما يليق بهم؛ لأنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء، وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليهما وسلم، فيحصل له من المزية ما لم يحصل لغيره. وأحسن من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم. متناولاً للصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، بل هو متناول لإبراهيم أيضاً، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33] ، فإبراهيم وعمران دخلا في آل إبراهيم وآل عمران، وكما في قوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [القمر:34] فإن لوطاً داخل في آل لوط، وكما في قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة:49] ، وقوله: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] فإن فرعون داخل في آل فرعون، ولهذا -والله أعلم- أكثر روايات حديث الصلاة على النبي(2/233)
صلى الله عليه وسلم إنما فيها: (كما صليت على آل إبراهيم). وفي كثير منها: (كما صليت على إبراهيم)، ولم يرد: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) إلا في قليل من الروايات، وما ذلك إلا لأن في قوله: (كما صليت على إبراهيم) يدخل آله تبعاً. وفي قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) هو داخل في آل إبراهيم]. سمعنا أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أعطي مثل ما أعطي الأنبياء قبله، فلما اتخذ الله إبراهيم خليلاً اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً كما تقدم في قوله: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ من أمته خليلاً، مع أنه قد أحب كثيراً منهم، كقوله لمعاذ : (إني أحبك) ، وكتسمية زيد : حب النبي صلى الله عليه وسلم، وأسامة حب النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه، ولكن لم يقل: إن هذا خليلي، بل قال: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر ، ولكن صاحبكم خليل الله) . وقد كلم الله موسى تكليماً، وحصل ذلك -أيضاً- لنبينا صلى الله عليه وسلم، كلمه الله لما أسري به، وأسمعه كلامه لما أمره بخمسين صلاة فرجع وقال: (يا رب! خفف عن أمتي. فقال: خففت عنك عشراً، وهكذا تردد إليه حتى صارت خمس صلوات، فقال الله: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي). ففي هذا أنه كلمه تكليماً، فعلى هذا يكون قد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم الخلة التي لإبراهيم، وحصل له الكلام الذي لموسى، وكذلك بقية الفضائل التي لبقية الأنبياء.
معنى قول: (كما صليت على آل إبراهيم)
…(2/234)
سمعنا الإشكال الذي يورده بعض العلماء لقوله في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على آل إبراهيم، أو كما صليت على إبراهيم، أو كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم) فيقولون: كيف يسأل للنبي عليه الصلاة والسلام مثلما حصل لإبراهيم، يعني: شبيهاً به، والمشبه دون المشبه به، فعلى هذا يكون الذي يحصل لمحمد من الصلاة أقل من الذي يحصل لإبراهيم؛ لأن المشبه دون المشبه به؟ هذا إشكال، كيف ذلك ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضل؟ الجواب الصحيح أن يقال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، ولأجل ذلك يذكره الله بقوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ [الحج:78] ، ولما كان في الإسراء ولقيه في السماء السابعة قال: (مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح) لأنه من ذريته، فهو من آل إبراهيم، فإذا قلنا: (كما صليت على آل إبراهيم). دخل في ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وطلبنا لآل محمد كما حصل لآل إبراهيم، فلا يحصل هناك إشكال إن شاء الله. ......
منبع العقيدة الإيمان بالغيب
…(2/235)
منبع العقيدة وأصلها هو الإيمان بالغيب، وأن ذلك ينحصر في الأركان الستة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الإيمان حيث قال: (الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، وذكرنا أن أصل ذلك كله هو الإيمان بالله، وأن من آمن بالله سبحانه إلهاً ورباً وخالقاً ومعبوداً التزم الإيمان بسائر كتبه، والتزم الإيمان بالعذاب والنعيم الذي وعد به، والتزم الإيمان بالأمر والنهي الذي شرعه، والتزم الإيمان بالقضاء والقدر الذي قدره وقضاه، والتزم الإيمان بالبعث والنشور الذي أخبر به، وآمن بالرسل، وآمن بالكتب، وآمن بالملائكة، وآمن بالغيب كله، آمن بما أخبر الله به، ونتج عن الإيمان بذلك العمل، أي: صدق بذلك تصديقاً جازماً، وعمل بما صدق به وبما هو قادم عليه. ويتوقف الإيمان بالله تعالى على معرفة الأدلة، قال في الأصول الثلاثة التي كان الأولون يقرئونها أبناءهم: إذا قيل لك: من ربك؟ فقل: ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته، وإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل: عرفته بآياته ومخلوقاته. هذه أكبر العلامات وأكبر الأدلة: الآيات والمخلوقات، فمن عرف الله تعالى بآياته وعرفه بمخلوقاته آمن به، ومن آمن به آمن بخبره، وآمن بأمره ونهيه، وآمن بوعده ووعيده، وآمن بشرعه وبحكمه، وآمن بقضائه وبقدره، وآمن بكل ما أخبر به، ومتى آمن بذلك وصدق به تصديقاً جازماً ظهرت آثار ذلك على أعماله، فرأيته مسارعاً للأعمال، ورأيته مستكثراً من الصالحات، ورأيته مستعداً للقاء الله، ورأيته عاملاً بما أمر الله، ورأيته مبتعداً عما حرم الله، وإذا رأيته ليس كذلك فاعلم أن تصديقه ضعيف، واعلم أن إيمانه ضعيف، من رأيته يتجشم الكبائر، من رأيته يتساهل بالصغائر ويصر عليها، من رأيته يترك الأوامر ويتساهل بفعل الشرائع، فاعلم أن تصديقه ضعيف، واعلم أن إيمانه مشكوك فيه، فإن الإيمان الضعيف يظهر أثره بقلة الأعمال(2/236)
الصالحة، وباقتراف السيئات وترك المأمورات، والإيمان القوي يظهر أثره على الأعمال، فتجد المؤمن القوي مسارعاً إلى الخيرات مستكثراً منها، يعلم آثارها، ويعلم صلاحها، ويعلم النتيجة التي يجنيها من ورائها، ويعلم أن ثوابها عظيم، وأن أجرها لا يضيع عند الله، ويعلم أن في تركها الحسرة والندامة. فهذه العلامات التي تعرف بها المصدق من المكذب، تعرف بها الصادق من الكاذب، تعرف بها الإيمان من النفاق. ومر بنا أن من أركان الإيمان الإيمان بالملائكة، ويدخل في ذلك ما أخبر الله تعالى عنهم، مع أنا لم نرهم، ولكن نؤمن بهم كما أخبر الله، وذلك من الإيمان بالغيب.
خصائص آل إبراهيم عليه السلام
…(2/237)
قال الشارح رحمه الله: [وكذلك لما جاء أبو أوفى رضي الله عنه بصدقته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم صل على آل أبي أوفى). فعلى رواية من روى: (كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) لا يدخل فيهم لإفراده بالذكر، ولما كان بيت إبراهيم عليه السلام أشرف بيوت العالم على الإطلاق، خصهم الله بخصائص: منها: أنه جعل فيه النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من أهل بيته. ومنها: أنه سبحانه جعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة، فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم. ومنها: أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين، كما تقدم ذكره. ومنها: أنه جعل صاحب هذا البيت إماماً للناس، قال تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] . ومنها: أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياماً للناس ومثابة للناس وأمناً، وجعله قبلة لهم وحجاً، فكان ظهور هذا البيت من أهل هذا البيت الأكرمين. ومنها: أنه أمر عباده أن يصلوا على أهل البيت، إلى غير ذلك من الخصائص]. قد ذكرنا أن من أركان الإيمان: الإيمان بالأنبياء والرسل، وأن الأنبياء هم الذين أوحى الله إليهم، وأنزل عليهم شيئاً من شرعه، وأن منهم من كلفه الله بالتبليغ، وأمره بالدعوة، وجعل رسالته مؤكدة في أن يدعو إليها ويبلغها، وحذر من أرسل إليهم إذا لم يصدقوه أن يعذبهم، وأنزل عليه شريعة مستقلة، فهؤلاء هم رسل الله، نؤمن بهم، ومنهم أنبياء يوحي الله إليهم، ولكن لم يفردهم بشرائع خاصة، بل يحكمون بشرائع من قبلهم، ولكن ينزل عليهم الوحي، ويأمرهم الله فيه بأوامر تكون موافقة للأوامر التي أوحى بها إلى الأنبياء قبلهم، فهؤلاء أنبياء، وليسوا مكلفين بالدعوة العامة، ولم يعذب من كذبهم تعذيباً عاماً كالذين كذبوا المرسلين. ورد في الحديث: (أن الأنبياء(2/238)
مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وأن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر)، الله تعالى ذكر في القرآن نحو خمسة وعشرين نبياً أو رسولاً، والبقية لم يقصصهم علينا، قال تعالى: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]، أفضل هؤلاء الأنبياء المرسلون منهم، وأفضل المرسلين خمسة وهم أولو العزم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم، وأفضل هؤلاء الخمسة الخليلان: إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما، وأفضلهما محمد، وهو خاتم الرسل، وأفضل الأنبياء، وسيد ولد آدم. ......
فضائل إبراهيم عليه السلام
…(2/239)
استشكل بعض الناس أننا أمرنا بأن نصلي على محمد كما نصلي على إبراهيم، أو نطلب من الله صلاته على محمد كما صلى على آل إبراهيم، وكيف دعي له بمثل صلاته على إبراهيم، يقول العلماء: إن المشبَه دون المشبه به، فيكون إبراهيم على هذا أفضل من محمد والأمر بالعكس، وأجاب العلماء بأن محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، فهو واحد منهم، ولا شك أيضاً أن إبراهيم عليه السلام له ميزة وله فضائل أثنى الله عليه بها، ومدحه بها، فذكر أنه دعا الناس وهو صغير، وبكتهم ووبخهم وهو لا يزال في الفتوة، كما حكى الله عنهم: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60] وذلك عندما كسر أصنامهم وهو لم يزل فتى شاباً، وذلك دليل على أنه قام بالدعوة وهو شاب. وكذلك أيضاً وقعت له المعجزة الكبيرة، وهو أن الله تعالى جعل النار عليه برداً وسلاماً. كذلك وهب الله له على الكبر إسماعيل وإسحاق، ولما دعا بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ [الصافات:100] أجاب الله تعالى دعوته ووهب له الصالحين. كذلك أيضاً جعل الأنبياء بعده كلهم من ذريته، فأولاده أنبياء إسماعيل وإسحاق، وكذلك ابن ابنه يعقوب، وكذلك يوسف بن يعقوب، وهكذا ذرية يعقوب الذي هو إسرائيل عليه السلام، وكذا أيضاً من كان بعدهم من ذريتهم إلى أن كان نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو من ذرية إسماعيل بن إبراهيم، فالكل من ذرية إبراهيم، فهم من آل إبراهيم. ومن فضائله: أن الله تعالى جعل على يديه بناء البيت، أمره الله تعالى أن يبنيه بعدما اندرس واندثر، قال الله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج:26] مكانه يعني: موضعه، وقال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة:127]فجعله الله تعالى على يديه، وأمره بأن يطهره بقوله: وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ [الحج:26].. أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي(2/240)
لِلطَّائِفِينَ [البقرة:125]فهذه كلها من الخصائص والميزات، ولما كان بهذا الشرف لم يكن هناك استنكار في أن يصلى على محمد كما صلي على آل إبراهيم.
شرح العقيدة الطحاوية [36]
للفلاسفة والمعتزلة والرافضة أصول في العقائد يعتمدون عليها، ويعتقدون صحتها، وهي مخالفة للكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة.
حقيقة إيمان الفلاسفة بأركان الإيمان
…
قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين). هذه الأمور من أركان الإيمان. قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] الآيات. وقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَة وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177] الآية. فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة، بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136]، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته حديث جبريل وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل. وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة وأهل البدع، فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها، وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة المسمون عند من يعظمهم بالحكماء، فإن من علم حقيقة قولهم علم أنهم لم(2/241)
يؤمنوا بالله ولا رسله ولا كتبه ولا ملائكته ولا باليوم الآخر، فإن مذهبهم أن الله سبحانه موجود لا ماهية له ولا حقيقة، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها، وكل موجود في الخارج فهو جزئي، ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته، وإنما العالم عندهم لازم له أزلاً وأبداً، وإن سموه مفعولاً له، فمصانعة ومصالحة للمسلمين في اللفظ، وليس عندهم بمفعول ولا مخلوق ولا مقدور عليه، وينفون عنه سمعه وبصره وسائر صفاته! فهذا إيمانهم بالله. وأما كتبه عندهم، فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا يكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته، لينال من العلم أعظم ما يناله غيره، وقوة النفس، ليؤثر بها في هيولى العالم يقلب صورة إلى صورة، وقوة التخييل، ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة، وهي الملائكة عندهم، وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل وتذهب وتجيء وترى وتخاطب الرسول، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان. وأما اليوم الآخر، فهم أشد الناس تكذيباً وإنكاراً له في الأعيان، وعندهم أن هذا العالم لا يخرب، ولا تنشق السماوات ولا تنفطر، ولا تنكدر النجوم، ولا تكور الشمس والقمر، ولا يقوم الناس من قبورهم ويبعثون إلى جنة ونار، كل هذا عندهم أمثال مضروبة لتفهيم العوام، لا حقيقة لها في الخارج كما يفهم منها أتباع الرسل، فهذا إيمان هذه الطائفة - الذليلة الحقيرة - بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وهذه هي أصول الدين الخمسة]. قد ذكرنا أن الإيمان له أركان ستة، وأنها ذكرت في القرآن، قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177] هذه بعض أركان الإيمان، وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ(2/242)
كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] وهذه أيضاً من أركان الإيمان، ولقد مدح الله المؤمنين بها، وقال تعالى في ذم الذين يكذبون بها في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [النساء:137]والمراد بإيمانهم هو تصديقهم بشيء ثم تكذيبهم به، وإيمانهم بشيء آخر أو نحو ذلك، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:136]أمرنا أن نؤمن بالله، وأن نؤمن برسله، ونؤمن بالكتب المنزلة على الأنبياء قبلنا، وبالكتاب المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام، وأخبر بسوء وعاقبة من كذب بهذه الأركان الخمسة. ولا شك أن الإيمان بها يستلزم اعتقادها واعتقاد صحتها، وإذا كنا نؤمن بالله تعالى، فمن أي شيء نأخذ صفات ربنا؟ نأخذها من كلامه ومن كلام رسوله، فنؤمن بما جاء في صفاته سبحانه من صفات الكمال، وننزهه عما نزه نفسه عنه من صفات النقص، هذا كمال الإيمان بالله تعالى. ......
الإيمان بالله عند الفلاسفة
…(2/243)
الفلاسفة ونحوهم لم يؤمنوا بالله حقيقة، إنما يؤمنون بوجود مجرد ليس له وجود في الخارج، وإنما هو وجود في الذهن يرجع في الحقيقة إلى العدم، حيث وصفوه بصفات العدم، مما يجل عن أن يوصف به، هذا إيمانهم بالله وهم مع ذلك يسمون بالحكماء وبالعلماء، والفلسفة عندهم هي نوع من الحكمة، هي علم المعتقد الذي يدور على الأدلة، فهو عندهم علم له أهميته، هذا إيمانهم بالله تعالى، ويوجد هذا التفسير في مؤلفات أكابرهم كمؤلفات عالمهم الكبير المشهور بابن سيناء ، وعالم آخر يقال له: الفارابي ، وعالم آخر منهم يقال له: الطوسي ، وأشباههم، وهؤلاء علماء إسلاميون كما يقال لهم، وهم معظمون عند الكثير في هذه الأزمنة ومقدسون، وكتبهم لها ثمن رفيع، ولها منزلة عالية عند الكثير في هذه الأزمنة؛ وذلك لما فيها بزعمهم من الأفكار، ولما فيها من الابتكارات والاختراعات والعلوم العقلية كما يسمونها، فلذلك صارت محل تقدير عندهم، وكتب ابن سيناء تتعلق بالطب أو تتعلق بالكلام أو تتعلق بالعلوم التي يسمونها علوماً، أو تتعلق بالأحكام وغير ذلك، وكذلك كتب الفارابي . ولا شك أن هؤلاء وإن سموا فلاسفة إسلاميين فإنهم أبعد عن الصواب، وبالأخص في الإيمان بالغيب، فهم أبعد الناس عنه، فلا يغتر بمن يمدحهم ومن يثني عليهم ومن يزعم أنهم علماء إسلاميون أجلاء، وأن لهم منزلة رفيعة، ولهم مكانة عند المسلمين، لا يغتر أحد بذلك.
الإيمان بالرسل عند الفلاسفة
…
الرسل عند الفلاسفة لم ينزل عليهم الوحي، ولكن الرسل عندهم أناس أذكياء لهم فطنة استطاعوا بفطنتهم وبذكائهم أن يلبسوا على الناس وأن يقولوا: إنما أنزل علينا، وإننا مشرعون، وجاءنا الشرع، وإننا رسل من الله، ولم يكن هناك رسالة، ولم يكن هناك شرع، وإنما أرادوا أن يكون لهم أتباع، فصار لهم أتباع بهذه الفكرة، هذه عقيدتهم في الرسل، ويسمون ذلك: تخييلاً، ولا شك أنهم ما آمنوا بالرسل حقيقة الإيمان.
الإيمان بالكتب عند الفلاسفة(2/244)
…
الفلاسفة لا يعتقدون أن لله تعالى كلاماً، ولا أن الله تعالى يتكلم، ولا أن له صفات حقيقة ما دام أنهم يجعلون وجوده وجود في الأذهان لا في الأعيان؛ فإذاً ليس لله كلام عندهم، وهذا القرآن ليس هو كلامه، وإنما هو إما من نظم البشر وإما من تركيب الملك أو نحو ذلك، فليس لله عندهم كتب منزلة متضمنة لشرع الله.
الإيمان بالملائكة عند الفلاسفة
…
الفلاسفة يؤمنون بأن هناك ملائكة ذات أرواح يصعدون وينزلون ويسمعون ويتكلمون ويحملون الوحي، لا يؤمنون بذلك. وعندهم أن الروح التي في الإنسان عبارة عن حياة عامة في هذا الكون، إذا اتصلت بالمخلوق حس بالحياة، وإذا انفصلت عنه انتقل إلى الوفاة، هذه حقيقة الروح عندهم. وعندهم أن الملائكة ليس لهم حقيقة وجود، وليس لهم أجنحة يصعدون بها وينزلون، فإذاً ليس للملائكة عندهم وجود.
الإيمان باليوم الآخر عند الفلاسفة
…
الفلاسفة لا يؤمنون باليوم الآخر، وعندهم أنه لا حقيقة للبعث، ولا حقيقة لانقضاء الدنيا، بل من معتقدهم أنه ليس هناك بعث ولا نشور، ولا حياة للأجساد، ولا جمع لها بعد أن تتفتت، ولا إعادة للأرواح إليها، وليس هناك جنة ولا نار يثاب بهذه ويعاقب بهذه، بل ليس عندهم مبدأ، والعالم هذا لم يزل موجوداً منذ القدم، ولم يسبق بعدم، ويكذبون بخلق آدم، ويقولون: ليس هناك شخص اسمه آدم خلق من تراب، بل هذا الخلق وهذا الوجود وهذه الأرض قديمة ما سبقت بعدم، هذه عقائد الفلاسفة، فهم كذبوا خبر الله تعالى، وكذبوا أخبار الرسل وكذبوا ما جاءت به، فخالفهم بذلك أهل السنة وأقروا بها على ما جاءت به، وأخذوا تفاصيلها عن الرسل الذين جاءوا بهذه الشرائع وقبلوها كما جاءت، وصاروا بذلك أحق باتباع الرسل.
أصول الدين وأركانه عند المعتزلة
…(2/245)
قال الشارح رحمه الله: [وقد أبدلتها المعتزلة بأصولهم الخمسة التي هدموا بها كثيراً من الدين، فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض، الذي هو الموصوف والصفة عندهم، واحتجوا بالصفات -التي هي الأعراض- على حدوث الموصوف الذي هو الجسم، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل، فنفوا عن الله كل صفة، تشبيهاً بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام، ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر، وسموا ذلك: العدل. ثم تكلموا في النبوة والشرائع، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، وهي مسائل الأسماء والأحكام، التي هي المنزلة بين المنزلتين، ومسألة إنفاذ الوعيد. ثم تكلموا في إلزام الغير بذلك، الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمنوه جواز الخروج على الأئمة بالقتال. فهذه أصولهم الخمسة، التي وضعوها بإزاء أصول الدين الخمسة التي بعث بها الرسول. والرافضة المتأخرون، جعلوا الأصول أربعة: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة. وأصول أهل السنة تابعة لما جاء به الرسول. وأصل الدين: الإيمان بما جاء به الرسول، كما تقدم بيان ذلك، ولهذا كانت الآيتان من آخر سورة البقرة - لما تضمنتا هذا الأصل - لهما شأن عظيم ليس لغيرهما، ففي الصحيحين عن أبي مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (بينا جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته) ، وقال أبو طالب المكي : أركان الإيمان سبعة، يعني هذه الخمسة، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار. وهذا حق، والأدلة(2/246)
عليه ثابتة محكمة قطعية. وقد تقدمت الإشارة إلى دليل التوحيد والرسالة]. لما ذكر الشارح تأويلات الفلاسفة لأركان الإيمان الستة، ذكر بعد ذلك أركان الدين عند المعتزلة. المعتزلة يتسمون بأنهم مسلمون، ويدعون أن الحق بجانبهم، ولهم مؤلفات ولهم كتب على مذهبهم ومعتقدهم، وجدوا وكثروا في القرن الثالث،ولكن تمكنوا بقوة وسيطروا على أكثر الأمة في القرن الرابع وما بعده، وأصبح وجود أهل السنة قليلاً في تلك القرون. أركان الدين عندهم خمسة: يسمونها بأسماء حسنة: التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، وإنفاذ الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما أحسنها من أسماء! ولكن محتوياتها وما تتضمنه وما تفسر به فيها الشر، فما المراد بهذه الأصول عندهم؟ ......
التوحيد عند المعتزلة
…
التوحيد عند المعتزلة هو نفي الصفات، يقولون: إذا أثبتنا سمعاً وبصراً وقدرة وعلماً ورحمة ومحبة ويداً ووجهاً وعلواً ونزولاً، وما أشبه ذلك؛ لم نثبت واحداً بل أثبتنا عدداً فلا نكون موحدين، الموحد هو الذي يثبت واحداً، وهو الله، ولا يجعل له صفات، فإن الصفات تكون زائدة عن الذات عندهم. ويقولون: إن القدم لله وحده، ولو كانت الصفات قديمة لكان القدماء عدداً، وهذا من شبههم. والجواب: أن الصفة من الموصوف، ولا يلزم من إثباتها تعدد، فأنت تقول: جاءني رجل، وهو واحد، ولا تعدد فيه. ولا تقول: جاءني زيد ورجله ويده ورأسه وبطنه وظهره وروحه، ونفسه، ما تقول ذلك، هو رجل واحد، فما دام أن الصفة تابعة للموصوف، فلا يلزم من إثبات الصفات إثبات العدد، فبطلت بذلك شبهتهم في إنكارهم للصفات، وزعمهم أن إنكارها هو التوحيد.
العدل عند المعتزلة
…(2/247)
العدل عند المعتزلة هو إنكار القدرة العامة، يقولون: إن الله لا يقدر على خلق أفعال العباد، كيف يخلقها ثم يعذب العصاة، ويثيب المطيعين، وهو الذي خلق حركات هؤلاء وحركات هؤلاء. وقد تقدم الكلام على القدر وذكرنا أن الله هو الذي خلق أفعال العباد، ولكنه سبحانه مع خلقه للعبد وعمله قد أعطى العباد قدرة خاصة، يتمكنون بها من مزاولة أعمالهم، وبها تنسب إليهم، فيقال: هذا هو المؤمن، وهذا هو الكافر، وهذا هو البر، وهذا هو الفاجر، وهذا هو المصلي، وهذا هو التارك للصلاة، وهذا هو المزكي، وهذا هو البخيل، تنسب لهم أعمالهم، ويثابون على حسنها، ويعاقبون على سيئها، وإن كانت مخلوقةً لله تعالى. أما المعتزلة فيقولون: إذا أثبتنا أن الله هو الذي خلقها فكيف يعذب عليها؟! بل ننفي خلقها ونقول: لم يخلقها الله، ولا يقدر الله على ذلك، وليس لله قدرة على أفعال العباد، وليس الله عندهم على كل شيء قدير، وقدرة العبد عندهم تغلب قدرة الله، تعالى الله عن قولهم، وعندهم أنه لا يقدر أن يهدي من يشاء، ولا يضل من يشاء، ولا يعطي من يشاء، ولا يمنع من يشاء، كل هذا عندهم يسمونه عدلاً، هذا معتقد باطل.
المنزلة بين المنزلتين عند المعتزلة
…(2/248)
الأصل الثالث عند المعتزلة هو: المنزلة بين المنزلتين، وماذا يريدون بذلك؟ يتعلق هذا بأسماء الأحكام والدين، عند أهل السنة أن المؤمن لا يخرج من الإيمان بالذنوب، ولا يدخل في الكفر، بل يقال للمذنب: مؤمن عاصٍ، ويقال له: فاسق، ويقال له: مؤمن بإيمانه، وفاسق بكبيرته، ولا نخرجه من الإيمان كلياً، ولا ندخله في الكفر، ولا نحكم عليه بالنار، ولا نستحل قتله ولا قتاله، ولا أخذ ماله، ولا سفك دمه؛ لأن معه الأصل الأصيل الذي هو الإيمان بالله وحده، ولو صدر منه ما صدر. أما المعتزلة فإنهم يخرجونه من الإيمان ولا يدخلونه في الكفر، يجعلونه في منزلة بينهما، فيقولون: ليس بمؤمن وليس بكافر، (ليس بمؤمن) بمعنى: أننا لا نعامله معاملة المؤمن حتى ولو كان يصلي ويزكي، ما دام أنه مثلاً يأكل الربا أو يزني أو يشرب الخمر أو يكذب وما أشبه ذلك، يخرجونه من الإيمان ولا يدخلونه في الكفر، يجعلونه في منزلة بينهما، لو أدخلوه في الكفر لاستحلوا سفك دمه، ولاستحلوا أخذ ماله، ولاستحلوا سبي نسائه، لكنهم لا يفعلون ذلك بل يجعلونه في منزلة بينهما، وهذه المنزلة مبتدعة، أهل السنة يقولون: إنه لا يخرج بذلك من الإيمان والله سبحانه وتعالى إذا شاء عفا عنه، وإذا شاء عذبه.
إنفاذ الوعيد عند المعتزلة
…(2/249)
الأصل الرابع عند المعتزلة هو: إنفاذ الوعيد، وما أدراك ما إنفاذ الوعيد؟ الوعيد عندهم هو ما توعد الله به على الكبائر، يقولون: الله لا يخلف وعيده، ولابد أن تقع تلك العقوبات التي رتبت على تلك الذنوب والكبائر، فيخلدون أصحاب الكبائر في النار، ويكذبون بقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]ويقولون: صاحب الكبيرة مخلد في النار، وهذه الطريقة أخذوها من الخوارج، الخوارج امتازوا بأنهم يخرجونه من الإيمان وأنهم يستحلون دمه وماله وسبيه، وأما المعتزلة فإنهم يخرجونه من الإيمان ولا يدخلونه في الكفر، ولا يعاملونه في الدنيا معاملة الكفار، ولكن في الآخرة الخوارج والمعتزلة متفقون على أنه مخلد في النار لا يخرج منها. وعقيدة أهل السنة أنهم يجعلون أصحاب الكبائر تحت مشيئة الله، إذا شاء الله غفر لهم وأدخلهم الجنة، وإذا شاء أدخلهم النار بقدر سيئاتهم، ثم أخرجوا من النار بإيمانهم وبعقيدتهم وبتوحيدهم، يخرجون منها بعدما امتحشوا صاروا فحماً أو حمماً، ويلقون في نهر الحياة، وينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، وكل ذلك مذكور في الأحاديث النبوية الصحيحة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المعتزلة
…
من أصول المعتزلة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويضمنون ذلك الخروج على الأئمة، فيقولون: إذا عصى إمام المسلمين العام وأصر على معصية حتى ولو كانت صغيرة لم نقره، بل نخرج عليه ونقاتله، ويسمون ذلك: أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. وأهل السنة يقولون: لا نكفر الأئمة بذنب، ولا نخرج عن طاعتهم ما لم نر كفراً بواحاً، كما أمرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، هذه أصول الإسلام وأركان الدين عند المعتزلة.
أصول الدين وأركانه عند الرافضة
…(2/250)
الرافضة أصولهم أربعة: التوحيد والعدل -وهما كما تقدم عند المعتزلة- والإمامة -وهي أصل من أصولهم- والرسالة. أما الإمامة فهي عندهم من أقوى أركان دينهم، والذي لا يؤمن بالإمامة لأهل البيت لا يكون مؤمناً ولا مسلماً، ولا يقبل منه إسلام ولا دين ولا أعمال صالحة. ويجعلون الأئمة اثني عشر، وليس لهم أئمة إلى هذا اليوم؛ لأن الإمامة عندهم قد انقطعت منذ سنة مائتين وخمسين للهجرة، ليس لهم إمام، إمامهم الثاني عشر ينتظرونه إلى اليوم، ويسمونه: المهدي المنتظر الذي دخل سرداب سامراء، وفي كل ليلة يوقفون فرساً عند طرف ذلك السرداب في ذلك النهر، ويصيحون طوال ليلهم: اخرج يامولانا، اخرج يامولانا، ولا يجيبهم أحد طوال هذه القرون، هذا معتقدهم. الإمامة عندهم محصورة في الأئمة الاثني عشر من أهل البيت، يؤمنون بأنهم هم الأئمة، وأنه ليس للناس إمام، وأنه لا تصح الصلاة إلا خلف إمام معصوم، وأن صلاتهم خلفنا لا تقبل أبداً، وكذلك صلاتهم خلف غير المعصوم. وعلى كل حال فهي عقائد باطلة يعرف بطلانها بمجرد سماعها. أما أهل السنة فإنهم يؤمنون بأن واجب المسلمين طاعة ولاة أمورهم، والسمع لهم والطاعة، والصبر على ما يرى منهم من المخالفات أو من المعاصي، ما لم يروا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله تعالى برهان، وعند ذلك يخرجون عن طواعيتهم ولا يدخلون في الديانة لهم. ......
فضل الآيتين من آخر سورة البقرة
…(2/251)
الإيمان بالملائكة والرسل ونحو ذلك مذكور في أواخر سورة البقرة: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285] هذه أربعة من أركان الإيمان ذكرها الله تعالى في هذه الآية. وهذه الآية في آخر سورة البقرة ورد فيها فضل، مع الآية التي بعدها، وفي الحديث (من قرأهما في ليلة كفتاه)، يعني: أصبحت كافية له عن الأوراد، ومن سأل الله تعالى بها أعطاه؛ وذلك لأن الله تعالى أجاب الدعاء الذي ذكر فيها، إذا قال العبد: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله: قد فعلت، وإذا قال: رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] قال الله: قد فعلت، وإذا قال: رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286] قال الله: قد فعلت، إذا كمل الآية إلى قوله: فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] قال الله: قد فعلت، فيعتبر قراءة هاتين الآيتين تجديداً للإيمان، وختمت سورة البقرة بهذا الدعاء الذي ترجى إجابته إن شاء الله. ......
…
شرح العقيدة الطحاوية [37]
من المسائل التي تكلم عليها العلماء: مسألة التفضيل بين الملائكة والبشر، والمراد بالبشر الأنبياء وغيرهم من المؤمنين، وقد وردت أدلة كثيرة في هذه المسألة تدل على هذا وعلى هذا، وجمع بعض العلماء بأن الملائكة أفضل من البشر ابتداءً، وأن البشر أفضل منهم انتهاءً حينما يدخلون الجنة.
الإيمان بالملائكة وما يتضمنه
…(2/252)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً [النازعات:5].. فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً [الذاريات:4] وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون: هي النجوم. وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها. ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته. ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل آلاتها ملائكة. فالملائكة أعظم جنود الله، ومنهم: المرسلات عرفاً، والناشرات نشراً، والفارقات فرقاً، والملقيات ذكراً. ومنهم: النازعات غرقاً، والناشطات نشطاً، والسابحات سبحاً، والسابقات سبقاً. ومنهم: الصافات صفاً، والزاجرات زجراً، والتاليات ذكراً. ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات، التي مفردها: (فرقة) و(طائفة) و(جماعة). ومنهم: ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله تعالى. ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:27-28]، يَخَافُونَ(2/253)
رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50] فهم عباد مكرمون، منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم، لا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به، لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19-20]]. ......
حقيقة خلق الملائكة وذكر أسماء بعضهم في القرآن والسنة
…(2/254)
ذكرنا أن من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، الملائكة واحدهم ملَك، بفتح اللام، هذا النوع خلق من خلق الله، وهم أرواح لا نراهم، لا نشك بأنهم يتجسدون وأنهم يصعدون وينزلون، وأنهم يتصلون بالإنسان ويتكلمون، وأن الملك يتمثل إنساناً ويكلم النبي، وينزل عليه بالوحي. وقد سمى الله تعالى منهم في القرآن اثنين كما في قوله تعالى: مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] سمى الله جبريل وميكال، وجِبريل قرئ جبرائيل وجبريل وجَبريل، يعني: بعدة قراءات، وهو مسمى واحد، وذكر الله ملك الموت في قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة:11] وسمي في بعض الروايات بعزرائيل، وسمي في الحديث أيضاً ملك رابع وهو: إسرافيل، وسمي ملك خامس وهو: مالك، كما في قوله تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] ، وذكر الله في القرآن خزنة النار وخزنة الجنة كما في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الزمر:71] ، وفي الجنة: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر:73] ، وفي قوله تعالى: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا [الملك:8] الخزنة: هم الموكلون بها، فالملائكة خلق من خلق الله تعالى، لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، لما نزل قول الله تعالى في النار: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:30] قال المشركون: ما داموا تسعة عشر فنحن أكثر منهم؛ سنغلبهم، فأنزل الله قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً [المدثر:31] إلى قوله: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31] أي: جنوده الذين هم الملائكة لا يعلم عددهم إلا هو،(2/255)
وورد في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم أو ملك راكع أو ساجد).
الأعمال التي أوكلت إلى الملائكة من قبل الله
…
الملائكة خلق الله تعالى، وقد سمعنا في كلام الشارح بعضاً من صفاتهم وما وكلوا به، الموكلون بالقطر يعني: بالمطر وتصريفه والسحب وتصريفها، وكذلك الموكلون بحفظ بني آدم كما في قول الله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] وكذلك الموكلون بحفظ الأعمال كما في قوله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وفي قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11] وكذلك الذين ينزلون بالوحي ذكروا في قوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:15-16] وصفهم بأنهم سفرة يعني: بأنهم وسطاء بين الله وبين رسله، وأنهم كرام، وأنهم بررة، وكذلك أقسم الله بهم في قوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفّاً [الصافات:1] يعني: الملائكة الذين يصفون صفوفاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً [الصافات:2] الذين يزجرون السحب ونحوها، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً [الصافات:3] الذين يتلون كلام الله ويذكرون الله تعالى به. وقوله: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات:1]، هم الذين يرسلهم الله تعالى ليعرفوا عباده، والآيات التي بعدها، وقوله: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً [النازعات:1]، النازعات: هي التي تنزع أرواح الكفار نزعاً شديداً يعني: عند الموت، وهم ملائكة العذاب، والناشطات: هي التي تنشط أرواح المؤمنين عند الموت نشطاً، وهكذا في الآيات التي بعدها، لا شك أن هذه ألقاب تبين أنواعاً من الملائكة هذه أعمالهم، فنصدق بهم وإن لم نر الملائكة، ولكن نصدق أنهم خلق الله تعالى، كما أننا نصدق بالجن وبأنهم يدخلون في الإنس ويداخلونهم، وأنهم أرواح مستغنية عن أجساد تقوم بها، وإن(2/256)
لم نر الجن، وإن كذب بهم من كذب وقال: الجن لو كانوا موجودين لرأيناهم بالمجهر، نقول: إنهم لا يرون، فإنهم بمنزلة شعاع النور الذي يشع من هذه الأنوار ونحوها وليس لهم جرم، ولكن يخرقهم البصر، فليس لهم جسد حقيقي حتى ينعكس وحتى يكبره المكبر وحتى يراه البصر، فالملائكة والجن والشياطين أرواح ليس لهم أجساد تقوم بها، الإنسان مركب من روح وجسد، فإذا خرجت الروح بالموت فإننا لا نرى الروح تخرج وتفارق جسدها، بل يبقى الجسد ليس فيه هذه الروح التي تحركه، فإذا أراد الله تعالى إحياءه جمع الجسد مرة ثانية وأعاد إليه الروح فعاش وحيي، فنقول: إن الروح التي يحيا بها الجسد لا يعلم كيفيتها، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85] فالأرواح التي ليست لها أجساد تعيش وتتقلب وتذهب وتجيء وهي خفيفة الحركة كالملائكة وكالجن الذين ذكر الله تعالى أنهم يصلون إلى السماء كما في قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ [الجن:8] فلا يستغرب أن تكون الملائكة يصعدون إلى السماء في طرفة عين، ويقطعون المسافات الطويلة في لحظة؛ وذلك لخفة أجسادهم؛ ولأن الله تعالى أعطاهم من القدرة على الصعود وعلى قطع المسافات ما لم يعطه الإنسان في أية حال، فعلى المسلم أن يصدق بمثل هذه الأمور وإن كان لم يدركها ببصره؛ وذلك لإخبار الله عنها وهو الصادق المصدوق: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122].
صفات الملائكة في القرآن
…(2/257)
مر بنا أن من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة، والإيمان بما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه حيث وصفهم بقوله: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:26-27]، وبقوله: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19-20]، وبقوله: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206]، ونحو ذلك من الآيات التي مدحهم بها، وكذلك الإيمان بمن سمي منهم، والإيمان بأعمالهم التي أسندت إليهم، والإيمان بما نقل من أوصافهم وأخبارهم، وهذا يدخل في الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يعم كل شيء غائب عنا، أخبرنا الله به خبراً يقينياً يلزمنا أن نصدق به كما وصف لنا، وليس لنا أن نتكلف أكثر من ذلك. معلوم أن الملائكة لا يمكننا رؤيتهم فهم أرواح مستغنية عن أجساد تقوم بها، والذي خلق الأجساد خلق الأرواح، ومعلوم أن لهم أجساماً خفيفة علوية نورانية حية متحركة تسمع وتعقل، وتمتثل، وتركع، وتسجد، وتأتمر بأمر الله، وتقطع المسافات الطويلة الشاسعة في زمن قصير، وكل ذلك بقدرة الله الذي أقدرهم على ذلك كله.
المفاضلة بين البشر والملائكة
…(2/258)
قال المصنف رحمه الله: [ومنه: قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]. قال الآخرون: هذا دليل الفضل لا الأفضلية، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن قلتم: هو من ذريته؟ فمن ذريته البر والفاجر، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم: (ابعث من ذريتك بعثاً إلى النار)، (يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحداً إلى الجنة). فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط؟! ومنه: قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: (ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم). الحديث، فالشأن في ثبوته وإن صح عنه، فالشأن في ثبوته في نفسه، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات. ومنه: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة قالت: يا ربنا، أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة؟ قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان) أخرجه الطبراني، وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم أنه قال: أخبرني الأنصاري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الملائكة قالوا...)، الحديث، وفيه: (وينامون ويستريحون، فقال الله تعالى: لا، فأعادوا القول ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا). والشأن في ثبوتهما، فإن في سندهما مقالاً، وفي متنهما شيئاً، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله مرات عديدة؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27] وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم، متشوفون إلى ما سواها من شهوات بني آدم؟ والنوم أخو الموت، فكيف يغبطونهم به؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو، وهو من الباطل؟ قالوا: بل الأمر بالعكس، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور،(2/259)
إذ أطمعه في أن يكون ملكاً بقوله: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20]، فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة، يشهد لذلك قوله تعالى حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف: وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31]،وقال تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]. قال الأولون: إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفس: أن الملائكة خلق جميل عظيم، مقتدر على الأفعال الهائلة، خصوصاً العرب، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا: إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. ومنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]. قال الآخرون: قد يذكر العالمون، ولا يقصد به العموم المطلق، بل في كل مكان بحسبه، كما في قوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1]، قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ [الحجر:70]، أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165]. وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32]]. هذه بعض الأدلة التي يفاضلون بها بين الملائكة وبين صالحي البشر، فإن الآية وهي قوله في سورة (ص) مخاطباً لإبليس: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] فيها تفضيل آدم، وقد تقدم في أول الكلام أنهم فضلوا آدم حيث إنه سجد له الملائكة، قالوا: والمسجود له أفضل من الساجد، وأجيب بأن السجود امتثال لأمر الله تعالى لا أنه لسجودهم لآدم، وإنما هو تعظيم لله وطواعية له، فإبليس لما امتنع من(2/260)
السجود له اعتبر عاصياً لله ولم يعتبر عاصياً لآدم، ولكنه تكبر حيث قال: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً [الإسراء:61] أو قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] فالله تعالى قال له: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75] أي: لآدم الذي خلقت بيدي، وهذا تفضيل لآدم، ولكن ما يلزم أن يكون أفضل من الملائكة، ولو لزم لكان أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، مع الإجماع أن محمداً أفضل البشر وهو خير البرية، وإذا قالوا: إن محمداً من ذرية آدم وإنما شرف بشرف أبيه، فالجواب: أنه قد أخبر أن من ذريته الصالح وغير الصالح، وإذا كان ذلك فلا يلزم في الآية تفضيل. وقوله تعالى للملائكة في الحديث: (لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت: له كن فكان) فهذا الحديث فيه ضعف، وفيه اعتراض الملائكة على الله تعالى وتمنيهم أن تكون لهم الآخرة ولبني آدم الدنيا، يأكلون فيها ويتمتعون وينامون وينكحون ويتصرفون، فهم يقولون: ما دام أنك جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، فلا يظن بالملائكة أنهم يتمنون أعمال الدنيا، ولا يظن بهم أنهم يعترضون على الله مع طواعيتهم له، وامتثالهم لأمره، ومع أن الله وصفهم بأنهم لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، وبذلك يعلم بأن هذا لا يليق بمقام الملائكة. وأما ما استدل به من فضل الملائكة من قصة يوسف في قول النسوة: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31] فإنه يفهم منه أن الملك أفضل من البشر، ولكن لا يلزم ذلك، حيث إنه لما رأينه في تلك الحال وهو في غاية الجمال، كان مغروساً في فطرهم أن الملك له هيئة ليست كهيئة البشر. وكذلك ما حكى الله عن نوح أنه قال: وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ(2/261)
يُؤْتِيَهُمْ اللَّهُ خَيْراً [هود:31] وما أشبه ذلك لا يدل أيضاً على أن الملك أفضل؛ وذلك لأن العرب كانوا يعتقدون أن للملائكة منزلة أرفع من منزلتهم؛ فلذلك كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله،يعني: من قربهم منه، ولذلك أنكر الله تعالى عليهم بقوله: أصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ [الصافات:153]، وبقوله: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ [الطور:39] وما أشبه ذلك. وعلى كل حال: هذه الأدلة ونحوها ليست دليلاً واضحاً في تفضيل الملك ولا في تفضيل البشر، والصحيح أن التفاضل بينهم كالتفاضل بين البشر إنما هو بالأعمال والقربات. ......
من أدلة التفضيل بين البشر وبين الملائكة
…(2/262)
قال الشارح رحمه الله: [ومنه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7]، والبرية: مشتقة من البرء، بمعنى: الخلق، فثبت أن صالحي البشر خير الخلق. وقال الآخرون: إنما صاروا خير البرية؛ لكونهم آمنوا وعملوا الصالحات، والملائكة في هذا الوصف أكمل، فإنهم لا يسأمون ولا يفترون، فلا يلزم أن يكونوا خيراً من الملائكة، هذا على قراءة من قرأ (البريئة)، بالهمز، وعلى قراءة من قرأ بالياء، إن قلنا: إنها مخففة من الهمزة، وإن قلنا: إنها نسبة إلى البري وهو التراب، كما قاله الفراء فيما نقله عنه الجوهري في الصحاح؛ يكون المعنى: أنهم خير من خلق من التراب، فلا عموم فيها -إذاً- لغير من خلق من التراب. قال الأولون: إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا، ووصلوا إلى غايتهم، وأقصى نهايتهم، وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة، ونالوا الزلفى، وسكنوا الدرجات العلى، وحباهم الرحمن بمزيد قربه، وتجلى لهم ليستمتعوا بالنظر إلى وجهه الكريم. قال الآخرون: الشأن في أنهم هل صاروا إلى حالة يفوقون فيها الملائكة أو يساوونهم فيها؟ فإن كان قد ثبت أنهم يصيرون إلى حال يفوقون فيها الملائكة، سلم المدعى، وإلا فلا. ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر: قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172] وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه، لأنه لا يجوز أن يقال: لن يستنكف الوزير أن يكون خادماً للملك، ولا الشرطي أو الحارس! وإنما يقال: لن يستنكف الشرطي أن يكون خادماً للملك ولا الوزير، ففي مثل هذا التركيب يترقى من الأدنى إلى الأعلى، فإذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليه السلام ثبت في حق غيره، إذ لم يقل أحد إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض. أجاب الآخرون بأجوبة أحسنها(2/263)
أو من أحسنها: أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد، وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقاً، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه. ومنه قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ [الأنعام:50]، ومثل هذا يقال بمعنى: إني لو قلت ذلك، لادعيت فوق منزلتي، ولست ممن يدعي ذلك. أجاب الآخرون: إن الكفار كانوا قد قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7]. فأمر أن يقول لهم: إني بشر مثلكم أحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة]. هذه الأدلة ساقها الشارح للاستدال في مسألة التفضيل بين البشر والملك، فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7] هل المراد الإنس الذين هم البشر خير البرية أو الخلق المؤمنون من الملائكة ومن الإنس ومن الجن خير البرية؟ الصحيح أن الآية على عمومها، يدخل فيها الملائكة ويدخل فيها الجن المؤمنون، ويدخل فيها الإنس المؤمنون، فكل من آمن وعمل صالحاً من الإنس والجن والملائكة فهو من خير البرية أي: خير الخليقة، ويدخل في الخليقة جميع المخلوقات، يدخل فيها حتى الشياطين، ويدخل فيها الجماد، ويدخل فيها الحيوان، ويدخل فيها الأفلاك السائرة والأفلاك الثابتة ونحوها، كلها من البرية، البرء: الخلق، وعلى هذا الآية عامة في كل مؤمن عامل للصالحات من الملائكة والبشر فهو من خير البرية. روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا خير البرية! فقال النبي صلى الله عليه وسلم تواضعاً: ذاك إبراهيم) يعني:(2/264)
الخليل عليه السلام، قاله من باب التواضع لله تعالى وإلا فهو خير البرية، وكأنه لا يحب أن يكون هناك مفاضلة بين الأنبياء؛ حتى لا يكون في ذلك شيء من التنقص لبعض الأنبياء أو الازدراء والاحتقار لهم، أو تعصب أتباعهم أو نحو ذلك. وأما الآية الثانية التي استدل بها من فضل الملائكة وهي قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء:172] فالاستدلال بها حيث وصف الملائكة بالقرب، والملائكة كلهم مقربون؛ لأنهم عند الله كما أخبر بذلك في قوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206] فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38] وعلى كل حال فالله وصف الملائكة بأنهم عنده، فالتقريب في حقهم تقريب ذاتي، هم مقربون إلى الله حساً ومقربون عند الله معنى، ولكن الصحيح أن كل من اتقى الله وآمن به فإنه من المقربين.
شرح العقيدة الطحاوية [38]
تكفير المعين من أخطر المسائل التي يجب التورع فيها، وقد زل فيها الخوارج قديماً وحديثاً، ومن عقيدة أهل السنة عدم التكفير بالذنب، ولا الحكم على المعين بنار ولا جنة.
التكفير بالذنب
…(2/265)
قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله). أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين) يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب. واعلم رحمك الله وإيانا أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية. فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين. وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل كافراً مرتداً. والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: (إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء)، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68]. ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين(2/266)
يكفرون بكل ذنب. ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله). وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب، الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال، فإن الشارع لم يكتفِ من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع، إلا أن يُضمّن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده أو نحو ذلك]. من عقيدة أهل السنة أنهم لا يكفرون مرتكب الكبيرة بالذنب، ولا يصل عندهم إلى حد الكفر، ولكن هناك بدع توصل إلى حد الكفر، بدع محدثات في الدين وكبيرات وعظائم من عظائم المحدثات توصل إلى الكفر، وأما مطلق الذنوب ولو كانت كبائر، ولو كان مصراً عليها، فإنه لا يكفر بها، فلا يكفر ما دام أنه يعترف أنها ذنوب وأنها محرمة، إذا أكل الربا وهو يعتقد أنه محرم، أو فعل الزنا وهو يعترف أنه ذنب وحرام، أو شرب الخمر مع اعترافه بتحريمها، وكذلك غيرها من الذنوب لا يصل إلى حد الكفر، إلا إذا اعتقد حلها فإنه يكفر بذلك، فإنه يكفر مستحل الذنب المحرم ولو لم يفعله. المخالف في هذا هم الخوارج الذين يجعلون الذنب كفراً، والعفو ذنباً، والمعتزلة الذين يجعلون أصحاب الكبائر غير مسلمين ولا مؤمنين ولا كافرين، يجعلونهم بمنزلة بين الكفر والإيمان، وهم أصحاب المنزلة بين المنزلتين، أما أهل السنة فإنهم لا يكفرون بالذنوب. ......
الآثار الدالة على خطورة التكفير
…(2/267)
وردت أدلة في خطر التكفير منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر أو قال: عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه) يعني: رجع عليه التكفير، وهذا وعيد شديد. وكذلك: (ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل مر على صاحب له يعمل ذنباً فقال: والله لا يغفر الله لك، فقال الله تعالى: من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك)، يقول الراوي: (قال كلمة أحبطت دنياه وآخرته). هذه تدل الآثار على خطر التكفير.
إطلاق الكفر على ذنوب لا تخرج من الملة
…
هناك ذنوب أطلق عليها كفر، ولكن يقول العلماء: إنه كفر دون كفر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) فإن الكفر هنا هو كفر أصغر لا يصل إلى الإخراج من الملة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) المراد هنا: كفران النعمة أو كفر دون كفر، وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة) يقولون: إنه كفر للنعمة لا أنه الكفر المبيح للدم والمال؛ لأن الطعن في النسب إنما هو عيب الإنسان والطعن في نسبه بأنه ليس ابن فلان أو ليس من آل فلان، وهو ذنب لا يصل إلى الكفر الذي يخرج من الملة، وكذلك النياحة على الميت لا توصل صاحبها إلى أن يخرج من الملة ويستباح دمه وماله. فعرف بذلك أنه كفر دون كفر، هذا محمل هذه الأحاديث.
كفر تارك الصلاة
…(2/268)
ما حكم تارك الصلاة؟ بعض العلماء يحمل الأحاديث التي فيه على أنه كفر النعمة، ويوجد فيه حديثان: حديث عن جابر : (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وحديث بريدة : (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) فهذا فيه إطلاق الكفر على تارك الصلاة. بعض العلماء يقول: إنه الكفر الأصغر، أي: كفر النعمة مثل الأحاديث الأخرى، والقول الثاني: أنه كفر يخرج من الملة، ودليله: قول عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة)، فنقل عن الصحابة أنهم يرون أن ترك الصلاة كفر، ولا يرون ذلك في بقية الشرائع. والصحيح أنه إذا تركها تهاوناً بها، وتمادى على هذا الترك واستمر عليه؛ فإنه يعتبر كفراً؛ وذلك لأنه وردت أحاديث تدل على ذلك منها حديث في البخاري : (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، وأحاديث كثيرة تدل على أن من ترك الصلاة فقد برئت منه الذمة، ومعنى ذلك: أنه لا يكون مسلماً. وفيه أحاديث كثيرة مذكورة في الكتب المطولة، وهو يدل على خطر ترك الصلاة، وأنه حتى ولو كان الأعمال الأخرى لا توصل صاحبها إلى الكفر إلا إذا استحلها، لكن ترك الصلاة له أهميته وله منزلته، حيث ذهب الجماهير إلى أنه يكفر، وتوسع ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة في كتابه الذي اسمه: كتاب الصلاة، فتكلم على أن تارك الصلاة يقتل، ثم تكلم على الخلاف: هل يقتل حداً أم يقتل كفراً؟ وذكر حجج الفريقين، حجج من يقول هذا وحجج من يقول هذا،ورجح أنه إذا أصر وعاند وتمادى وامتنع أنه يصير جاحداً فيحكم بكفره وردته. هذا نوع من التكفير.
البدع المكفرة وغير المكفرة
…(2/269)
أكثر البدع لا يكفر بها كبدعة المرجئة وبدعة الخوارج وبدعة الجبرية والقدرية والأشعرية ونحوهم، فهذه البدع لا توصل إلى الكفر والبراءة من أصحابها، والأحاديث التي وردت في الخوارج: (أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) أحاديث وعيد، فقد تنطبق على بعضهم وقد لا تنطبق، والدليل على عدم التكفير: أن علياً رضي الله عنه سئل عنهم لما قاتلهم، فقالوا: أكفار هم؟فقال: من الكفر فروا،قالوا: أمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون الله كثيراً؛ فدل على أنه لم يكفرهم مع أنه قاتلهم؛ وذلك لأنهم يكفرون بالكبائر، فإذا كفرناهم صرنا مثلهم. هناك بدعتان مكفرتان: بدعة غلاة الجهمية، وبدعة غلاة الروافض. غلاة الجهمية: هم الذين غلوا في إنكار الصفات حتى صار حقيقة قولهم التعطيل. وأما غلاة الرافضة: فهم الذين طعنوا في القرآن وطعنوا في السنة، وطعنوا في حملة الشريعة -وهم الصحابة -وكفروهم، فهؤلاء لم يكن عندهم دين يعتقدونه، فأصبحوا بذلك قد أبطلوا الشريعة وكفروا أهلها؛ فيكونون هم أولى بالكفر، مادام أنهم طعنوا في القرآن وادعوا أنه محرف قد زيد فيه ونقص منه النقص الكثير، وكذلك لم يقبلوا السنة ولو ثبتت، ولو رواها الخلفاء الثلاثة وغيرهم لا يقبلونها، ويرمون الخلفاء بأنهم كفرة وخونة ونحو ذلك،فهؤلاء ليس عندهم شرع يتمسكون به، فيكونون بذلك على غير شريعة، هذا يقال في غلاتهم الذين وصلوا إلى هذا الحد، أما الذين لم يكفروا الصحابة ولم يكفروا الخلفاء فلا يوصل في حقهم إلى التكفير.
عقيدة المرجئة في مرتكب الذنوب
…(2/270)
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ...) إلى آخر كلامه، رد على المرجئة، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. فهؤلاء في طرف، والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان. لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر، وهذه المنزلة بين المنزلتين، وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار! وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال، لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً، فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطىء وغيره، أو يقولون: يكفر كل مبتدع! وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة، فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك]. ذكر الشارح أن هناك طائفتين متقابلتين: المرجئة، والوعيدية، فالمرجئة يبيحون إكثار الإنسان من الذنوب، ويقولون: إن الذنوب لا تضر ولو أكثر صاحبها، ويتعلقون بنصوص الوعد التي فيها أن أهل التوحيد ناجون، وأنهم من أهل الجنة، وأنهم يخرجون من النار، وأنهم يشفع فيهم ولو لم يفعلوا خيراً ونحو ذلك، هؤلاء هم المرجئة، يقولون: لا تضر الذنوب، حتى قال قائلهم: فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم يقولون: نتعلق بكرمه، وقد روي عن بعض الزهاد أنه قرأ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] فقال: إذا قال لي ربي: ما غرك بربك الكريم؟ أقول: غرني كرمك! وهذا خطأ، والصواب أن يقال: إن الكريم لا ينبغي أن يقابل بالمعصية، إذا(2/271)
كان ربنا كريماً لا يجوز لنا أن نتجرأ على معصيته، ولا أن نتهاون بحقه، بل علينا أن نطيعه ونحذر من أسباب سخطه. فعلى كل حال المرجئة هم الذين يقولون: لا تضر الذنوب وأصحابها يدخلون الجنة ولا يعذب أحد من أهل الذنوب ولو كانت كبيرة. معلوم أنه قد وردت أحاديث فيها أنهم يعذبون وأنهم يحترقون، وأنهم يشفع فيهم، وأن الشافعين يعرفونهم بآثار السجود، وهذا دليل على أنهم يصلون ومع ذلك دخلوا النار، إلا أن النار لم تأكل آثار السجود، يعني: أعضاء السجود لا تأكلها النار، أما بقيتها فإنهم يحترقون كما ورد. فدخلوا النار وهم مسلمون؛ بسبب ذنوب اقترفوها. من عقيدة أهل السنة أن المعاصي التي دون الشرك قد يغفرها الله، وقد يعاقب عليها، وأما الشرك فإنه لابد أن يعاقب عليه، من عمل ما دون الشرك فقد يعفى عنه، ويغفر له ذنبه مهما كبر بمشيئة الله، وقد يدخله الله النار بسبب ما اقترفه من السيئات، ويكون ذلك تمحيصاً له من تلك السيئات، ودخوله في النار لأجل تمحيصه وإزالة ما فيه من الدرن، كالحديد الذي يدخل النار حتى يُصفى، حتى لا يبقى عليه شيء من الخبث، فهكذا هؤلاء الذين يدخلون النار من أهل الكبائر. هذه عقيدة المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل. وقياسهم ليس بصحيح، نحن نوافقهم على أن الشرك يحبط الأعمال، فالمشرك لو عمل أي عمل فأعماله حابطة؛ لقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] ، وقال تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] ونحو ذلك من الآيات. فقولهم: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، قياس خاطئ، نحن نقول: صحيح أنه لا تنفع الأعمال والحسنات مع الشرك؛ لقوله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] لأن(2/272)
الشرك أحبطها، وقد قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18] ، وفي آية أخرى: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39] ، وفي آية أخرى: كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ [البقرة:264] صفاة صلبة عليها تراب وجاءها مطر شديد، لا يبقى على الصفاة شيء من التراب فهكذا أعمالهم ونفقاتهم لا تبقى، حيث إنه لا أساس لها ولا أصل.
عقيدة الخوارج والمعتزلة في مرتكب الذنوب
…
الطرف الثاني المقابل للمرجئة: الوعيدية، الوعيدية من المعتزلة ومن الخوارج، كلهم يقولون: إن من دخل النار فهو مخلد فيها، وإن أصحاب الكبائر يدخلونها ولا يخرجون منها، ويستدلون ببعض الآيات التي فيها عدم الخروج، مثل قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [المائدة:37] نقول: الآية في الذين يدخلونها من الكفار الذين حكم عليهم بالخلود، وكذلك قوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167] إنما هي في الكفار، أما المؤمنون الذين معهم أصل الإيمان وأصل التوحيد فقد دلت الأدلة على أنهم يخرجون بشفاعة الشافعين أو برحمة الله تعالى.
عقيدة أهل السنة في مرتكب الذنوب
…(2/273)
قول أهل السنة وسط بين طرفين: طرف شددوا، وهم الخوارج والمعتزلة، وجعلوا المذنبين كفاراً ومخلدين في النار، سواء كفروه في الدنيا أو أخرجوه من الإيمان ولم يكفروه. وطرف غلا في فعل الذنوب، فأباح للمسلم أن يفعل الذنوب، وأن يفعل الفواحش، وقال: إنها لا تضر. وتوسط أهل السنة، وقالوا: لا نوصل العاصي إلى الكفر، ولا نخلده في النار، ولكن نخشى عليه من العذاب، ومن يطيق العذاب ولو ساعة! ومن يطيق دخول النار ولو قليلاً. وإذا كنا نخاف عليه أن يدخل النار حتى ولو ساعة، فعليه أن يهرب من هذا السجن ومن هذا العذاب، فإن ذلك يوجب عليه أن يخشى من أسباب دخول النار ويحذرها.
حكم من قال بأن القرآن مخلوق
…(2/274)
قال الشارح رحمه الله: [والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون. والمقصود هنا: أن البدع هي من هذا الجنس، فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً، وإما مفرطاً مذنباً، فلا يقال: إن إيمانه حبط لمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة. ولا نقول: لا يكفر، بل العدل هو الوسط، وهو: أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة، المتضمنة نفي ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه، أو النهي عما أمر به، يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر، ونحو ذلك، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة، ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة، حتى اتفق رأيي ورأيه: أن من قال بخلق القرآن فهو كافر]. هذه تعتبر أمثلة من البدع، يعني: أن هناك بدعاً توصل إلى الكفر، وقد ذكرنا أن أهل السنة يكفرون غلاة الجهمية؛ وذلك لأن من قول الجهمية القول بأن القرآن مخلوق، والذي حملهم على هذا اعتقادهم أن الله تعالى لا يتكلم، فنفوا صفة الكلام عن الله، ومعلوم أن هذه الصفة صفة كمال، ونفيها يستلزم ضدها وهو النقص. ولا شك أن من نفى هذه الصفة فقد تنقص الخالق، وكذلك قد أبطل الشرائع، فلا جرم أن أهل السنة قالوا: إن من قال بخلق القرآن فإنه كافر. وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه أنه لما كان يناظر على القرآن ويقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، فقالوا له: القرآن من جملة الموجودات. فقال: القرآن من علم الله، وعلم الله صفة من صفاته. فقال له بعض أولئك(2/275)
الجدليين: أنا أقول: إن علم الله مخلوق. -تعالى الله عن ذلك!- فقال: قد كفرت بهذه الكلمة. الله تعالى هو الخالق، وصفاته من ذاته، وكلامه من صفاته، وعلمه من صفاته، وكلامه من علمه، ومن ادعى أن صفة من صفاته مخلوقة فقد جعل الرب تعالى محلاً للحوادث، فيكون بذلك متنقصاً لله تعالى أكبر التنقص، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ......
الحامل للمبتدعة على القول بخلق القرآن
…
الذي حمل الجهمية على القول بخلق القرآن هو إنكارهم للصفات، ولما أنكروا الصفات أصبحوا معطلة، ولما عطلوا الله عن هذه الصفات وصفهم السلف بالكفر، وقد ذكرنا أن ابن القيم رحمه الله صرح بتكفيرهم عن جماهير العلماء، يقول في نونيته: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان واللالكائي الإمام حكاه عنـ هم بل حكاه قبله الطبراني خمسون في عشر، خمسون من العلماء، تضرب في عشرة فيكون خمسمائة عالم، وذكرنا أن اللالكائي نقل ذلك عن جمع كبير من العلماء أنهم كفروا من قال بخلق القرآن، ومن غلا في نفي الصفات، وكتابه مطبوع متداول -ويسمى (شرح أصول السنة)- في عدة مجلدات. اللالكائي إمام من أئمة أهل السنة، نقل بأسانيده هذه الأقوال عن سلف الأمة: أنهم كفروا من قال بخلق القرآن. وقد اشتهر أن أول من أظهر ذلك هو الجعد بن درهم ، ولما نفى أن يكون الله تعالى متكلماً، وأن يكون القرآن كلامه، صرح بأن الله لم يكلم موسى تكليماً؛ فقتله أمير العراق في وقته خالد بن عبد الله القسري ؛ لأنه خرج في العراق وأضل خلقاً كثيراً، فاشتكى علماء أهل السنة إلى الأمير القسري فقتله بعد صلاة عيد النحر، ومشهور أنه قال: (ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزل فذبحه). يقول ابن القيم في نونيته: ولأجل ذا ضحى بجعد خالد القسري يوم ذبائح القربان إذ قال(2/276)
إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الدان شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان القربان: هي الأضاحي، فجعله أضحية تقرب بذبحه إلى الله، فأقروه أهل السنة في زمانه، وهذا دليل على أن هذه المقالة كفرية؛ لأن مستلزماتها كثيرة.
ما يلزم من نفي الكلام عن الله سبحانه
…
الذين قالوا: إن الله غير متكلم، وكلامه مخلوق كسائر المخلوقات. نقول لهم: من أين عرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا كلام الله؟ ومن أين يعرفون أن الله أمر بهذا أو نهى عن هذا؟ ومن أين يعرف أن هذا شرعه وأن هذا أمره؟ إذا كان لا يتكلم فكيف يعرف ذلك؟! وكيف يكون الخلق إلا بالأمر؟! ما يكون هناك خلق إلا بأمر، الله تعالى ذكر أن المخلوقات تكون بأمره: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ، فالخلق لابد أن يكون بالأمر، والأمر لابد أن يكون بالكلام، فمن عطل الكلام فقد عطل الخلق، وقد عطل الشرع، وقد افترى على الله، فمعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ شيئاً ما أنزل إليه، أو ما تحقق أنه شرع الله؛ لأنه إذا كان لا يتكلم فمن أين عرفوا أن هذا كلامه، أو أن هذا شرعه، أو أن هذا دينه؟! يستلزم قولهم بشاعة شنيعة، فلا جرم أن أهل السنة حكموا بأنهم كفار إذا صرحوا بذلك وعاندوا عليه، هذا مثال من قال بأن علم الله أو أن كلام الله مخلوق، وعاند على ذلك، وقامت عليه الحجة، فإنه يكفر. وإطلاق هذه الكلمة، وتكرارها من هؤلاء الأئمة يقتضي أنهم يجعلونه كفراً مخرجاً من الملة، كفراً ناقلاً عن الإسلام مبيحاً للدم والمال، وهذا هو القول الصحيح في هذه المسألة. أما البدع الأخرى التي تقدمت فقد لا توصل إلى الكفر، وإن كانت مفسقة.
حكم تكفير المعين
…(2/277)
قال الشارح رحمه الله: [وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت. ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: باب النهي عن البغي، وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيباً؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة. فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار، قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده! لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)، وهو حديث حسن. ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، أويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله، كما غُفر للذي قال: (إذا مت فاسحقوني ثم ذروني، ثم غفر الله له لخشيته)، وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته، أو شك في ذلك. لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن نعاقبه في الدنيا؛ لمنع بدعته، وأن نستتيبه، فإن تاب وإلا قتلناه. ثم إذا كان القول في نفسه كفراً قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً، فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً، وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف: صنف: كفار من المشركين(2/278)
ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين. وصنف: المؤمنون باطناً وظاهراً. وصنف: أقروا به ظاهراً لا باطناً. وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة. وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر، وكان مقراً بالشهادتين، فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق. وهنا يظهر غلط الطرفين، فإنه من كفر كل من قال القول المبتدع في الباطن، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه عن عمر : (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه: عبد الله، وكان يلقب: حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتى به يوماً، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله) وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية، أو المرجئة، أو القدرية، أو الشيعة، أو الخوارج، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة، بل بفرع منها؛ ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير، فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخطِّئون ولا يكفرون]. هذا يتعلق بتكفير المعين، وهو غير التكفير العام؛ وذلك لأن هناك فرقاً بين أن يقال: فلان كافر. وبين أن يقال: فلان يعمل عمل الكفار، أو يقال: هذا العمل كفر.......
موانع تكفير المعين
…(2/279)
الشهادة على معين بأنه كافر لا تجوز إذا كان من أهل القبلة ومن أهل الإسلام، من دخل في الإسلام وأعلن الدخول فيه ظاهراً لا يجوز أن يحكم عليه بعينه أنه كافر. مثلاً: لو عمل إنسان عمل أهل الكفر، أو عمل معاص قد أطلق عليها أنها كفر، لا نكفره ما دام أنه من أهل القبلة، حتى ولو قال بمثل تلك الأقوال التي ذكرنا أن السلف كفروا بها، لكنهم لا يكفرون المعين لأسباب منها: أنه قد يكون مقلداً، وإثمه على من قلده وأحسن الظن به، يحسن الظن ببعض المشاهير، فيظن أنه على صواب فيتبعه، فنحن لا نحكم بكفره ما دام أنه لم يكن عنده الدليل الذي قام عليه، وإذا لم نكفره فلا نقاتله حتى نقيم عليه الحجة ويصر على كفره. في عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في القرن الثاني عشر خرج على أناس قد فشا فيهم الشرك، كتعظيم القبور، والذبح عندها، والتمسح بها، والتبرك بتربتها، ودعاء الأموات، ونحوه مما هو شرك، بل هو شرك الأولين، ولما دعا إلى ذلك لم يكفر إلا من عاند، فالجهلة وعوام الناس لم يكفرهم، وإنما يخطئهم، فإذا قامت الحجة عليهم وأصروا وعاندوا وتمادوا، وردوا الحق مع وضوحه، فهنالك يقاتلهم، ويكفر من قتل منهم، ويستبيح أموالهم ودماءهم؛ لأنهم أصبحوا كالمشركين الأولين الذين عبدوا غير الله، وأما قبل ذلك فلا يحكم بكفرهم. وهذا مخالف لما ينقله عنه أعداؤه، فأعداؤه قد كذبوا عليه رحمه الله، وقالوا عنه شناعات، وقد رُد عليهم بكتب مثل: الأسنة الحداد في الرد على شبهات علوي الحداد، وهو حضرمي غال في الكذب عليه، ادعى أنه إذا جاءه إنسان ليدخل في دينه يقول له: لا أقبل منك حتى تقر أنك كنت كافراً، وتشهد على أبويك اللذين ماتا أنهما ماتا كافرين، وتشهد على أن الناس كفار منذ ستمائة سنة، ومثل هذه الأكاذيب التي ذكرها علوي الحداد في كتاب له في الرد على محمد بن عبد الوهاب. وكذلك يوجد كتاب في الرد على آخر يقال له: بابصيل، وهو حضرمي أيضاً، جمع ترهات(2/280)
وأكاذيب مثل هذه الأشياء. فالحاصل أنه رحمه الله ما كان يكفر إلا من قامت عليه الحجة، ولا يقاتل إلا بعدما يبين لمن قاتلهم أن هذا شرك، فإذا بينه وأوضحه فعند ذلك ينذرهم ويقول: إن تبتم وإلا قاتلناكم؛ لأنكم أصبحتم من المشركين الذين يعملون عمل المشركين. فهذا دليل على أن أهل السنة لا يكفرون المعين حتى ولو كان عمله كفراً، إلا بعدما تقوم عليه الحجة. إذاً من الشبهات: التقليد وإحسان الظن بالعلماء الذين بين ظهراني أولئك الناس المقلدين لهم، بحيث لا يحكم بتكفيرهم حتى تقام عليهم الحجة ويصروا على الكفر. كذلك من الشبهات أيضاً: أنهم قد يجدون بعض الكتب المؤلفة فيما هم عليه، فلأجل ذلك يسيرون عليها، ويعتقدون أن ما فيها هو الصواب، ولا يقفون على ردودها، ولا يقفون على أدلة غيرها؛ فيسيرون عليها، فنعذرهم في ذلك حتى نبين لهم الخطأ الذي فيها، فإذا بينا لهم فأصروا، وكانت تلك الأعمال من الكفر، حينئذ كفرناهم وقاتلناهم، وإلا فلا. وهناك أعمال دون الكفر، وهي التي تعرض لها الشارح رحمه الله، وذكر أنها من جملة البدع التي لا توصل إلى الكفر، وإنما هي أمور اجتهادية، ولكنها خاطئة. فالأشاعرة عندهم بدع، وهي: إنكار بعض الصفات، والقول بأن كلام الله كلام نفسي، وأن هذا الموجود إنما هو المعنى لا الحروف، ونحو ذلك من بدعهم، ولكن لا نوصل ذلك إلى الكفر. كذلك المرجئة الذين غلبوا جانب الرجاء لا نقول: إنهم وصلوا إلى الكفر، ولكن نقول: إنهم وقعوا في بدعة مفسقة لا مكفرة. وعلى كل حال: فالتكفير خطره كبير، قد سمعنا هذه القصة التي أوردها الشارح رحمه الله، وهي قصة ذلك الشخص العابد الذي قال لصاحبه: والله لا يغفر الله لك. قال الله لذلك المذنب: ادخل الجنة برحمتي، وعذب ذلك الذي تألى عليه، يقول أبو هريرة: (قال كلمة أوبقت دنياه وآخرته)، وهذا يدل على أن التكفير ذنبه كبير وخطؤه عظيم؛ فلأجل ذلك على الإنسان أن يحفظ لسانه فلا يكفر المعين.(2/281)
حكم إطلاق الكفر على العمل
…
تقدم تكفير المعين، أما العمل فيقال: هذا العمل كفر. فيقال مثلاً: القول بخلق القرآن كفر. ولا نقول مثلاً: فلان كافر؛ لأنه يقول بكذا؛ لأنا لا نعلم ما الخاتمة، يمكن أن يكون قد رجع عن قوله وقد تاب، أو كان متأولاً، أو ختم له بخاتمة حسنة، أو محيت عنه سيئاته؛ أو ما أشبه ذلك، ففرق بين أن يقال: هذا العمل كفر، أو هذا الشخص كافر؛ لأنه يعمل هذا العمل. الأعمال قد يطلق عليها الكفر، فيقال مثلاً: ترك الصلاة كفر ولكن ما نحكم على الإنسان أنه كافر بمجرد عمله، إلا إذا أصر على ذلك وعاند وقتل عليه، فإذا عاند وأصر وامتنع من أداء الصلاة حتى قتل، فعند ذلك يقول العلماء: إنه يعامل معاملة الكافر الخارج من الملة، بحيث لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين. وعلى كل حال: فالناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام مذكورة في أول سورة البقرة، فالخمس الآيات الأولى من سور البقرة في المؤمنين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3] إلى آخر الآية الخامسة والآيتان بعدها في الكافرين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ [البقرة:6] إلى قوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7]. وثلاثة عشر آية بعدها في المنافقين، من قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ.. [البقرة:8-9] إلى قوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ.. [البقرة:20] إلى آخر الآية، فهذه الآيات في المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، والعلماء يسمونهم زنادقة، فأمرهم خفي؛ لأننا لا نطلع على ما في قلوبهم؛ ولأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاملهم معاملة المسلمين؛ لأنهم يظهرون الإسلام ، ولأنهم يظهرون محبة المسلمين. وعلى كل حال فتكفير المعين شيء، والحكم على العمل بأنه(2/282)
كفر شيء آخر، فرق بين هذا وهذا. هذه مسائل في التكفير، والإنسان عليه أن يتثبت في الحكم على المعين بالكفر، ولابد أن يعرف الدليل على أن العمل من أعمال الكفار.
المسميات الشرعية في الدين وتعلقها بالعقيدة
…
مما يتعلق بالعقيدة مسألة أحكام الإسلام والدين، أو مسألة أسماء الإيمان والأسماء الشرعية، فالشرع نقل بعض المسميات من مسمياتها اللغوية إلى مسميات شرعية، فبدل ما كان الإيمان مجرد التصديق في اللغة، أصبح الإيمان يدخل فيه أعمال الجوارح وأعمال القلوب، ولا يكون مؤمناً إلا من ظهرت آثار الإيمان على جوارحه، هذا قول أهل السنة. كذلك بدل ما كان الإسلام في اللغة هو الإذعان والانقياد، أصبح الإسلام يصدق على من أقام الشرائع والأركان الظاهرة ودان بها، هذا هو المسلم. وكذلك مسمى الإحسان، الأصل فيه: أنه إحسان العمل أياً كان ولو عملاً دنيوياً، فنقله الشارع إلى الإحسان في الأعمال الصالحة، الذي هو إتقانها بأن يستحضر حالة أدائها مَن يؤديها له. وكذلك يقال في مسمى التوحيد في اللغة: هو مشتق من الواحد، الذي هو العدد الفرد، فنقله الشارع إلى إفراد الله بالعبادة، أي: اعتقاد أن العبادة لله وحده، وأن الله وحده هو المتصف بصفات الكمال لا يشاركه فيها غيره، وأنه المتفرد بالملك والتصرف، هذا حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل. وهكذا يقال في التقوى، لها مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، فالتقوى في اللغة: هي اتقاء الشرور والأضرار، وأما في الشرع: فهي اتقاء عذاب الله وغضبه بفعل الأوامر وترك النواهي. وكذلك مسمى البر الذي حث الله عليه، بدل ما كان بالإحسان إلى الإنسان، أصبح هو إحسان العمل كله، وتدخل فيه جميع الأعمال التي تدل على بر صاحبها وتصديقه. ويقال كذلك في المسائل التي هي ضدها، فمثلاً: الشرك، كانوا يطلقونه على اشتراك اثنين في عمل، أو اشتراك اثنين في مال، هذا هو الشرك قبل الإسلام، أما الشرع فجعله اسماً لإشراك العبد مع الله(2/283)
غيره، أن يجعل العبادة مشتركة بين الله وبين غيره، فيدعوه ويدعو غيره، ويعبده ويعبد غيره، ويتقيه ويتقي غيره، ويخافه ويخاف غيره، ويرجوه ويرجو غيره على حد سواء، يسمى هذا: شركاً؛ لأنه تشريك في العبادة بين الخالق والمخلوق، وهو الذي ورد فيه الوعيد. كذلك الكفر: العرب تعرف الكفر بأنه الستر، ستر الشيء، ولكن جاء الشرع وأطلقه على جحد الربوبية، أو جحد الإسلام، أو جحد الشريعة وإنكارها وسترها وتغطيتها تغطية معنوية، هذا مسمى الكفر.
مذهب أهل السنة في مسألة التكفير والتفسيق والتبديع
…
مسألة التكفير والتفسيق والتبديع قد تكلم فيها العلماء وأطالوا، وقرأنا بعضاً مما يتعلق بها. مذهب أهل السنة فيها كما سمعنا: أنا لا نكفر أهل القبلة بالذنوب ولو كانت كبائر؛ إلا إذا استحل الذنب فإنه يكفر، فإذا استحله كفر ولو لم يفعله، من قال: إن الخمر حلال. ولو لم يشربها؛ كفر؛ لأنه خالف نصاً، ومن قال: إن الربا حلال. كفر وإن لم يرابي؛ لأنه يخالف النصوص، ومن قال: الصلاة ليست فريضة. كفر، ولو لم يترك الصلاة، ومن قال: لم يوجب الله الحج، أو لا يجب الصوم، وأنكر ذلك، أو أنكر شرعية الجهاد، وقال: الجهاد تعرض للقتل، لا يمكن أن يشرعه الله، هذا ظلم، أو قتل للنفوس وإراقة لها، إذا أنكر ذلك ولو كان يجاهد نقول: إن هذا قد كفر بهذا الإنكار. أما إذا فعل ذنباً ولكنه لم يستحله فإنه لا يكفر، كما لو فعل الزنا وهو يعتقد أنه حرام، أو شرب الخمر، أو قتل نفساً وهو يعتقد أنه مذنب ومخطئ، فنقول: هذا مذنب، وهذا فعل كبيرة من الكبائر، ولكن لا تصل إلى حد الكفر الذي يبيح الدم والمال، بل لا يزال موصوفاً بأنه مذنب، وأنه قد وقع في ذنب، وإن كان ذلك الذنب يحتمل أن يعاقب عليه، ويحتمل أن يغفر.
حكم المصر على الذنب
…(2/284)
ماذا نسمي المذنب المصر على الذنب؟ لا نسميه كافراً ولا نسميه مؤمناً كامل الإيمان، بل نسميه ناقص الإيمان، أو يطلق عليه اسم فاسق أو عاص، هذه عقيدة أهل السنة: أنه لا يصل إلى الكفر؛ لأن ذنبه دون الكفر، ولا يوصف بكمال الإيمان؛ لأنه قد نقص إيمانه بهذا الذنب. والذين كفروه انقسموا إلى طائفتين: طائفة أخرجته من الإسلام ولم تدخله في الكفر، وهم المعتزلة الذين قالوا بالمنزلة بين المنزلتين. وطائفة أخرجته من الإسلام وأدخلته في الكفر، واستحلت دمه وماله، وهم الخوارج. واتفق الفريقان على أنه مخلد في النار. وأهل السنة لا يخرجونه من الملة، ولكن يقولون: هو معرض للوعيد، وهو تحت مشيئة الله ما دام أن ذنبه دون الكفر ودون الشرك، ففي الآخرة هو تحت مشيئة الله: إن شاء غفر له وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه، هذه هي عقيدة أهل السنة.
وجه تسمية الشارع لبعض الذنوب كفراً
…(2/285)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه الله، وهو: أن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفراً، قال الله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] . وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) . متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) . و (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما) متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) . وقال صلى الله عليه وسلم: (بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه. وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد) وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر) رواه الحاكم بهذا اللفظ. وقال صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت) . ونظائر ذلك كثيرة. والجواب: أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل(2/286)
في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين، كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضاً، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178] إلى أن قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178]، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد: أخوة الدين؛ بلا ريب. وقال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، إلى أن قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] ، ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار) أخرجاه في الصحيحين. فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه. وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من ليس له درهم ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم . وقد قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ، فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته، وهذا مبسوط موضعه]. الأحاديث التي تقدمت هي التي استدل(2/287)
بها الخوارج على مسألة التكفير بالذنوب، أخذوا بظاهرها، وأهل السنة قد أوردوها وأوردوا ما يبينها. فمثلاً: الإمام مسلم صاحب الصحيح في أول كتابه كتاب الإيمان سرد أحاديث كثيرة فيها التكفير بالذنوب، ثم سرد أحاديث بعدها فيها الرجاء، وفيها نفع الشفاعة لأهل التوحيد، وأن أهل التوحيد يخرجون من النار ولو عملوا ذنوباً، وأن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم تنال من لا يشرك بالله شيئاً، وأنهم ولو دخلوا النار بذنوب أذنبوها فإنهم لا يخلدون فيها، فهذا دليل على أن أحاديث الوعيد ليست دالة على الإخراج من الملة. ثم إن كثيراً من العلماء قالوا في أحاديث الوعيد: إنها تجرى على ظاهرها؛ ليكون ذلك أبلغ في الزجر، مع اعتقادنا أن أهل التوحيد الذين لم يشوبوه بشرك، ولم يبتدعوا بدعاً مكفرة؛ لا يخلدون في النار ولو دخلوها، وعلى هذا فنسكت عن تأويل هذه الأحاديث، أو نحملها على محامل كما ذكر الشارح، ونحرص على الجمع بينها. ......
أمثلة لبعض الأدلة التي حملها العلماء على محامل غير الكفر
…(2/288)
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، هل كل من تقاتلوا لفتنة أو لخلافات سياسية يصيرون كفاراً؟ لا يكونون كذلك، فقد تقاتل الصحابة في عهد علي ومعاوية ، ولم نحكم بكفر هؤلاء ولا هؤلاء، بل نقول: تلك فتن قدرها الله تعالى، وكل منهم له مقصد وله تأويل، ولم يكونوا كفاراً، وكل من قتل في هذه الفتنة تحت مشيئة الله. كذلك الذين تقاتلوا في وقعة الجمل لم يقل أحد بأنهم كفار، ما عدا المعتزلة ونحوهم، بل قتل فيها من الصحابة من قتل كالزبير وطلحة وغيرهما، ولا شك أنها فتن، ولا نقول: إنهم وصلوا إلى مرتبة الكفر -والعياذ بالله- بل ننزههم عن ذلك. إذاً: قوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) نجريه على ظاهره، ونعتقد أن القتال بنوع من التأويل لا يصل إلى الكفر، ونقول: لعله قصد الزجر والتحذير من قتال المسلمين بعضهم لبعض. وكذلك قوله: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) نقول: هذا من أحاديث الوعيد، أطلق عليه كفراً وإن لم يكن مخرجاً من الملة من باب الزجر، ومن باب التحذير عن قتل المسلم والاستهانة به. ومثل ذلك الآيات التي فيها وعيد شديد على بعض الذنوب، مثلاً: توعد الله على أكل الربا بقوله تعالى: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ [البقرة:275] معلوم أنهم وإن دخلوها بذنوبهم فإنهم تحت مشيئة الله، وكذلك قال في القتل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء:93] عقيدة أهل السنة: أنه مسلم لا يخرج من الملة، لكن هذا من باب الوعيد، وكثير منهم يقولون: ذلك جزاؤه إن جازاه. وكذلك قوله تعالى في الفرار من الزحف: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ(2/289)
جَهَنَّمُ [الأنفال:16] ، فهذا أيضاً نص فيه وعيد، فأهل السنة يقولون: هو وإن دخلها لا يخلد فيها أو قد يعفو الله عنه فلا يدخلها. وكذلك القذف، يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [النور:23-25] هذه الآيات من نصوص الوعيد أيضاً، مع أنها كلمة قد يكون فيها خطر وقد لا يكون، ومع ذلك توعد الله عليها بهذا الوعيد. وهكذا الوعيد في الأحاديث التي سمعنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) لا شك أن هذا أيضاً فيه تهديد وتخويف شديد على هذه الأعمال التي هي من كبائر الذنوب. وقوله: (وهو مؤمن) أي: ليس يفعلها وهو كامل الإيمان؛ فإن إيمانه يزجره عنها، ويحذره عن اقترافها، لكن هو ناقص الإيمان، وقال بعضهم: ينزع منه الإيمان، ويكون عليه كالظلة، ثم إذا انتهى رجع إليه، ولكن لا يرجع كاملاً. وهكذا حديث النفاق في قوله: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً : .. إذا حدث كذب) إلى آخره، لا نقول: إنها تخرج من الملة لمجرد كذبة أو خيانة، ولكنها من نصوص الوعيد. وقد أثبت الله عز وجل الإيمان بين المتقاتلين الذين يتقاتلون لضغائن وعداوات في الآيات التي سمعنا، يقول الله في القاتل: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178] سماه: أخاً مع كونه قاتلاً، وكذلك في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] سماهم: إخوة مع كونهم يتقاتلون،(2/290)
ولكنه قتال بغي، فالمخطئون منهم بغاة. ومعلوم أنهم لو كانوا كفاراً لحبطت أعمالهم، ولم يبق لهم حسنات، فإن الكفر يحبط الأعمال، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] إذا حبط عملك فلا تكتب لك حسنة، الكفار ما تكتب لهم حسنات، ولا يثبت لهم شيء من الأعمال الصالحة، بل أعمالهم تبطل، يقول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] فلو كانوا كفاراً ما كان لهم حسنات، بل إما أن يجازوا بها في الدنيا كما في قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا [الأحقاف:20] ، وإما أن يبطلها كفرهم وشركهم، يقول تعالى: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88] ، ويقول تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217] حبطت أي: بطلت، ومثل الله تعالى أعمالهم بأنها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، لا يبقى منها شيء، فلو كانوا كفاراً ما بقي لهم أعمال صالحة، ولا حسنات يؤخذ منها للمظلومين. وقد سمعنا أنه يكون لهم حسنات في هذه الأحاديث، هذا الذي يأتي وقد قتل هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، وظلم هذا، وشتم هذا، فمع ذلك يؤخذ من حسناته، أليس ذلك دليل على أنها باقية؟ إذاً: فهو لم يصل إلى درجة الكفر. فهذا دليل على أن أعمالهم لا توصلهم إلى الإخراج من الملة، وعلى هذا ماذا نسميهم؟ نسميهم: عصاة، ونسميهم: فسقة، ونسميهم: أهل كبائر، ونسميهم: ناقصي الإيمان غير كاملي الإيمان، هكذا نسميهم. هذا قولنا في أهل المعاصي، أما الشرك والكفر فمعلوم أنه يصير كفراً مخرجاً من الملة، وأن الشرك لا يغفر حتى ولو كان صغيراً، ومن الشرك الأصغر: الحلف بغير الله،(2/291)
فقوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) المراد به: الشرك الأصغر؛ وذلك لأن الحلف بغير الله فيه إشراك بنوع تعظيم لذلك المخلوق، وتخصيصه بالحلف به حتى يكون شريكاً لله، والتعظيم حق الله، فالحالف قد عظم الذي حلف به، فمن حلف بالله فقد عظم الله، ومن حلف بالمخلوق فقد عظم المخلوق، فيكون تعظيمه شركاً، ولكنه من الأصغر، ولا يصل إلى الشرك الأكبر.
شرح العقيدة الطحاوية [39]
الحكم بغير ما أنزل الله أقسام ينبغي معرفتها، فقد ضل كثير من الناس بسبب عدم معرفة أقسام ذلك، وقد بين العلماء تلك الأقسام، وحذروا الناس من التسرع في الأحكام.
البدع المكفرة
…(2/292)
البدع منها ما هو مكفر، ومنها ما لا يصل إلى حد الكفر. تواتر عن السلف رحمهم الله أنهم كفروا من قال بخلق القرآن، كفروهم من حيث العموم لا من حيث الأفراد، فهم ما يقولون: إن فلان بن فلان كافر؛ لأنه قال بخلق القرآن؛ فإن من أشهرهم خليفة من بني العباس المأمون ، وهو أول من فتن الناس ودعاهم إلى القول بخلق القرآن، وفتن العلماء، ومع ذلك لم يكفره الإمام أحمد ، بل كان يعذره بأنه متأول، وبأنه لبس عليه أولئك المبتدعة لما قربهم وأدناهم، فدخلت أفكارهم في قلبه، فشبه عليه. لكن المبتدعة الذين تمكنت هذه البدعة منهم لا نعذرهم، ولكن لا نحكم على فلان بأنه كافر لهذه البدعة، لكن من حيث العموم نقول: القول بخلق القرآن كفر. كذلك بدعة إنكار الصفات والغلو في إنكارها، وهي طريقة المعتزلة، هذه لا شك أنها كفر؛ وذلك لما فيها من التعطيل، حتى إن بعض العلماء جعلها أكبر من قول المشركين الذين يجعلون العبادة مشتركة بين الخالق والمخلوق، ولكن ما دام أنهم يتسمون بالإسلام فلا نطلق على أعيانهم بالكفر، كأن نقول مثلاً: أبو الهذيل العلاف كافر، أو أبو علي الجبائي كافر، لا، وإن كانا من غلاة المعتزلة، واشتهرا باعتناق هذا المذهب، وكتبا فيه، وأضلا خلقاً كثيراً، لكن نقول: أمرهما إلى الله، ولكن مقالتهما مقالة كفرية؛ لما فيها من مضادة للحق. كذلك نقول في المذاهب المعاصرة الجديدة: هذه لا شك أنها كفر، يعني من حيث معتقداتهم، فمثلاً: الدروز ليسوا بمسلمين حقاً، ولو ادعوا أنهم يدينون بالشهادتين ظاهراً أو نحو ذلك، لكن في الباطن ليسوا بمسلمين، مع وجودهم وكثرتهم في بعض البلاد؛ ولكن لا نقاتلهم، ولا نكفر أعيانهم حتى نقيم عليهم الحجج، نواجههم مواجهة شخصية، ونبين لهم، لكنهم في الحقيقة يخفون عقائدهم ويخفون مؤلفاتهم التي يعتنقونها. ويقال كذلك في الطائفة الجديدة الذين يسمون: بعثيين: لا شك أنا إذا بحثنا عن معتقداتهم ومبادئهم نجد أنها مبادئ كفر،(2/293)
وأنهم كافرون، وأن معتقدي هذه العقيدة ليسوا حقيقة بمسلمين؛ لأنهم علمانيون أو اشتراكيون أو ماركسيون أو دنيويون لا همة لهم بالآخرة ولا بمصالح الدين، ولا بالإقبال عليها، ولا بنصر الإسلام ولا غيره، كما يعرف ذلك من مؤلفاتهم، فمذهبهم مذهب كفر. كذلك يقال أيضاً في مذهب النصيريين والإسماعيليين وغلاة الشيعة الرافضة وأشباههم، من الذين يدعون أنهم من جملة المسلمين، ولكن لهم عقائد ودسائس خفية، لا شك أنها تخالف الإسلام وتخالف عقائد الإسلام، فيقاتلون إذا أقيمت عليهم الحجة، وحصلت معهم مواقف يتبين فيها أنهم عارفون بالحق ومعاندون ومخالفون له، وأبطلت شبهاتهم التي يتمسكون بها، فهذا ونحوه دليل على أنه يوجد هناك مكفرات، ولكن الحكم إنما هو للفعل لا للفاعل. ولأجل ذلك فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عندما خرج على أهل هذه البلاد، وجد أهلها يشركون بالغلو في الصالحين، ومع ذلك لم يكفرهم مبدئياً، ولكن بين أن فعلهم كفر، ولم يقاتلهم مبدئياً بل شرع في بيان أعمالهم وفي بيان كفرهم، ولما أصروا وعاندوا وجابهوا، وكتبوا رسائل في الرد عليه، وشبهوا على الناس مع اتضاح الحق كالشمس؛ أفتى عند ذلك بجواز قتالهم، وبأنهم -والحال هذه- كفار، حيث إنهم أباحوا عبادة غير الله، وشابهوا المشركين الأولين أو زادوا عليهم، كما بين ذلك في مؤلفاته رحمه الله، فما شرع في القتال إلا بعدما كتب الرسائل والكتب، وأرسلها إلى الطوائف الأخرى يبين لهم ويدعوهم، ويذكر لهم ما يدعوهم إليه، فهدى الله من هدى بواسطته، وأصر بعضهم على عناده، وشرع يلبس على الناس، فلما قامت عليهم الحجة عند ذلك أمر بالقتال. ولا شك أنهم كانوا يدعون أنهم مسلمون، ويقرءون القرآن، ويأتون بالشهادتين، ويصلون ويزكون ويصومون ويحجون؛ ولكن يشركون، وذلك بعمارة المشاهد، التي هي القبور، وتسمى الآن في العراق مشاهد، والواحد منهم مشهدي؛ وهم يحجون إلى تلك القبور، وعندهم معابد أعظم من(2/294)
الحرمين كالنجف وكربلاء، فهم يأتون إليها بخشوع وبإقبال ونحو ذلك. وهنا في نجد كان يوجد قبور كانت منصوبة ومرفوعة ويذبح عندها ويجلس عندها ويتحرى الصلاة عندها، ويطوفون بها، ويدعون أصحابها، ويهتفون بأسمائهم: يا زيد، يا يوسف، يا شمسان، يا فلان! فقال لهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب : أليس هذا هو الدعاء لغير الله؟ أليس الله يقول: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18] ؟ فلم يجدوا بداً من أن يقتنعوا بكلامه، ولكن بعضهم فتنوا وزاغوا، وأصروا على شركهم، فحكم بكفرهم بعدما قامت عليهم الحجة، بل الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما قاتل قوماً إلا بعد أن دعاهم، ولما أرسل علياً رضي الله عنه لدعوة اليهود، وهم يهود، ومعلوم عنادهم، قال له: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) فالرسول عليه الصلاة والسلام قصده أن يدخل الناس في الإسلام، ليس قصده أن يقاتل، وليس قصده أن تكون له سيادة ومنصب وملك وسعة تصرف، أو أموال يقتنيها، ما كان هذا قصده، إنما قصده هداية الناس، وإقبالهم على الدين ودخولهم فيه. وهذا هو الذي يجب علينا بالنسبة إلى كل المبتدعة في زماننا، أن نحرص على دعوتهم، وبيان الحق لهم، وإظهار الأحكام الشرعية، وبيان مطابقتها للحقيقة، فإذا أصروا بعد ذلك وعاندوا فهنالك يقاتلون، إلا إذا كانوا معاهدين أو لهم ذمة، الذميون والمعاهدون والمستأمنون هؤلاء يؤمنون بقدر مدتهم؛ لقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [التوبة:4]. وعلى كل حال هذه مسألة ذات أهمية، وهي: مسألة التكفير والتفسيق ونحوها، وعلينا أن نعرف الفرق بين أن نقول: هذا العمل كفر،(2/295)
وهذا الشخص كافر. ......
من يحكم بكفره ودخوله النار
…
متى نحكم على الإنسان بأنه كافر، وبأنه في النار؟ إذا عرفنا أنه مات على الكفر، وهو ممن قامت عليه الحجة، كالذين قتلوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم كفار، أو جاءت الأدلة بأنهم من الكفار، وهكذا من بعدهم، إذا عرفنا أن شخصاً ممن عاند الحق، وقاتل ضده، وعرفه المعرفة التامة، ورده الرد الشنيع، وضلل أهله، وعاند في قبوله، واستمر على ذلك، ومات ولم يتب ولم يرجع عن بدعته المكفرة أو عن كفره، فحينئذ ندعو عليه، ونستحل لعنه وشتمه، ونقول: إنه في النار. إذا تمت هذه الشروط. فأما من لم يتم ذلك فيه فنكل أمره إلى الله. مثال ذلك: أن أبا لهب توعده الله بقوله: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3] ، وكذلك أبو جهل مات على الكفر وقتل عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه فرعون هذه الأمة) ، فمثل هؤلاء نتحقق أنهم في النار، ونحكم عليهم بذلك، وأشباههم ممن تحقق أنه مات على الكفر، وكذلك مسألة الإيمان كما سيتطرق إليها الشارح إن شاء الله. ......
الأقوال المختلفة في أصحاب المعاصي
…(2/296)
قال الشارح رحمه الله: [والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لكن قالت الخوارج: نسميه كافراً. وقالت المعتزلة: نسميه فاسقاً. فالخلاف بينهم لفظي فقط. وأهل السنة أيضاً متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب، كما وردت به النصوص، لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب، ولا ينفع مع الكفر طاعة! وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة تبين لك فساد القولين، ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى. ثم بعد هذا الاتفاق بين أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً، لا يترتب عليه فساد، وهو أنه هل يكون الكفر على مراتب، كفراً دون كفر؟ كما اختلفوا هل يكون الإيمان على مراتب، إيماناً دون إيمان؟ وهذا الاختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى الإيمان: هل هو قول وعمل يزيد وينقص أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافراً، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافراً، ولا نطلق عليهما اسم الكفر. ولكن من قال: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، قال: هو كفر عملي لا اعتقادي، والكفر عنده على مراتب، كفر دون كفر، كالإيمان عنده. ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان، قال: هو كفر مجازي غير حقيقي، إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة. وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان، كقوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس، إنها سميت إيماناً مجازاً؛ لتوقف صحتها على الإيمان؛ أو لدلالتها على الإيمان، إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمناً؛ ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا(2/297)
صلى كصلاتنا، فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب، إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول، وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد. ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج والمعتزلة، ولكن أردأ ما في ذلك التعصب على من يضادهم، وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه، والتشنيع عليه! وإذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن، فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف؟! قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]]. ......
عقيدة أهل البدع في أصحاب المعاصي
…
ذكرنا أن هناك طوائف في هذا الباب انحرفوا، فطائفة المعتزلة يقولون: إن أصحاب المعاصي خارجون من الإسلام، ولم يدخلوا في الكفر بحيث لا تستباح دماؤهم ولا قتالهم، ولكنهم يخلدون في النار. وطائفة الخوارج يقولون: أصحاب الكبائر كفار، يقاتلون، وتحل دماؤهم وأموالهم، وإذا ماتوا ماتوا كفاراً، يعاملون معاملة الكفار، لا يغسلون ولا يصلى عليهم، وهم في الآخرة يحكمون عليهم بالخلود في النار، هذا قول الخوارج، ويستدلون بالأحاديث التي تقدمت في الكفر كقوله: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية) ، أو: (اثنتان في الناس هما بهم كفر) وما أشبه ذلك. وطائفة المرجئة يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، وهذه طائفة تبيح للإنسان أن يكثر من المعاصي، وأنها لا تضره، ولو زنى، ولو سرق، ولو قتل، ولو شرب الخمر، ولو كذا وكذا، وذلك كله لا ينقص إيمانه، فإيمانه كامل، وحسناته كاملة، وهو من أهل الجنة، ولا تضره هذه الكبائر ولا هذه السيئات، فيبطلون الأحاديث التي فيها الوعيد، ونحو ذلك، وهؤلاء أيضاً مخطئون.
عقيدة أهل السنة في أصحاب المعاصي
…(2/298)
القول الوسط هو قول أهل السنة حيث قالوا: إن أهل المعاصي يخاف عليهم الوعيد، يخاف عليهم النار ما دام أنهم قد سموا في بعض الأحاديث كفاراً، وسموا في أحاديث أخرى فساقاً، فلابد أن هذه المعاصي تضرهم، فإما أن تؤخرهم عن دخول الجنة، ولا شك أن ذلك ضرر، وإما أن يدخلوا بها النار، ولا شك أن ذلك ضرر أعظم؛ لأنهم قد يدخلون النار ويطول مكثهم فيها، وقد يدخلون النار ولا يطول مكثهم، وذلك على قدر أعمالهم، وأشباه ذلك، وهذا دليل على أن المعاصي لها تأثير على العاصي، فلأجل ذلك يخاف عليه إذا أصر عليها. ومعروف أن الشرع ما حذر من المعاصي وأكثر الذم لها إلا ولها تأثير في الإيمان، فعلى الإنسان أن يرجع إلى الأحاديث التي وردت في الحث على كثرة الطاعات، والتحذير من المعاصي، حتى ولو كانت صغيرة، ويحذر من الإصرار عليها، ويتذكر آثارها ومضارها، فسيكون ذلك زاجراً للمسلم عن أن يصر على كبيرة، أو عن أن يأتي ذنباً ولو مرة واحدة؛ مخافة أن يسبب له عذاباً عاجلاً أو آجلاً.
سبب الخلاف في حكم أهل المعاصي
…(2/299)
ذكر الشارح أن هذه المسألة مبنية على قول من يقول: إن الإيمان يتفاوت، وإن هناك إيماناً كاملاً، وهناك إيماناً ناقصاً، وإن هناك كفراً دون كفر ونحو ذلك. وهذه الآيات التي في سورة المائدة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] بعض السلف أطلق عليهم هذا الكفر والفسق والظلم؛ وذلك لأنهم عاندوا، وعرفوا أنه حكم مغاير لحكم الله، وشرعوا مع الله، وجعلوا شرعهم أحسن من شرع الله، وتنقصوا حكم الله، وادعوا أنه ليس بمناسب وليس بصالح، فلأجل ذلك حكم عليهم بالكفر والظلم والفسق. وآخرون قالوا: إذا فعل ذلك لهوى، ورأى أن الحكم الشرعي لا يناسب في بعض الأحيان، وأن الحكم بغيره قد يكون أنسب، فحكم بذلك متأولاً، فإنا لا نخرجه من الإسلام، بل نجعله دون هذا، فقالوا: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا على طريقة من يجعل الكفر يتفاوت، ويجعله كفراً أكبر، وكفراً أصغر، وكفراً أوسط، وكذلك يجعلون الإيمان إيماناً كاملاً، وإيماناً متوسطاً، وإيماناً ناقصاً. ونحن نقول: نعم؛ الإيمان يتفاوت؛ ولأجل ذلك تنقصه المعاصي، وتزيده الطاعات. وأما الكفر فنقول: إن الكفر يبطل الأعمال كما ذكرنا أدلته، فلأجل ذلك الكافر ولو أدى أعمالاً في حياته لا تنفعه، إلا أننا إذا رأيناه يعمل الأعمال التي تختص بالإسلام عاملناه معاملة المسلم، فمن رأيناه مثلاً: يصلي، ويحافظ على الصلاة مع الجماعة؛ حكمنا بأنه مسلم؛ لأننا نحكم بالظاهر، ونكل أمر السرائر إلى الله تعالى، ولو كان في الباطن كافر فباطنه أمره إلى الله. لكن إذا رأيناه مع الصلاة يعبد غير الله مثلاً أو يشرك، أو يحكم بغير الشرع، ويفضل حكم غير الشرع على حكم(2/300)
الشرع عاملناه بما يستحقه. وبذلك يعرف أن باب تفاوت المؤمنين، وتفاوت الكفار يكون بحسب ما في القلوب من الإيمان أو من ضد الإيمان، وهذه مسألة لها أهميتها، يعرف الإنسان أن أهل الإيمان يتفاوتون، فإيمان قوي يحمل على كثرة الطاعات والعبادات، وإيمان ضعيف لا يزجر عن المحرمات ولا عن الآثام.
واجب المسلم تجاه مسائل العقيدة
…
ينبغي للمسلم أن يهتم بأمر دينه؛ حتى يسلك طريق النجاة، ولا شك أن مبنى دينه على أمور العقيدة، التي إذا ثبتت ورسخت انبنت عليها صحة الأعمال، وأثيب عليها، وإذا فسدت العقيدة انبنى عليها وترتب عليها فساد الفروع والأعمال. ولا شك أن من جملة العقيدة أسماء الإيمان والدين، وقد عرفنا جانباً كبيراً منها فيما يتعلق بالتكفير والتفسيق، وطريقة أهل السنة في ذلك، ومن خالفهم. وسبب الخلاف في ذلك: أنه جاءت أحاديث كثيرة فيها الحكم بالكفر على بعض الأعمال التي هي من المعاصي، وتسمى تلك النصوص نصوص الوعيد، أو أحاديث الوعيد، وطريقة أهل السنة فيها أنهم يجرونها على ظاهرها؛ ليكون أبلغ في الزجر، مع اعتقادهم أنها لا تخرج من الملة، وأن مرتكب الكبيرة ولو كان متوعداً بالكفر أو نحو ذلك، فإنه لا يصل إلى أن يستباح دمه وماله، وأن يحكم عليه بالخلود في النار، بل يقال: هذا من الذنوب التي جاء فيها هذا الوعيد، وأمرها إلى الله تعالى، وكل المعاصي التي دون الشرك فإنها تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لصاحبها، وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه. هذه طريقة أهل السنة. وقد مر بنا بعض أحاديث الوعيد التي فيها شيء من الغلظة والشدة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) فإن هذا فيه نفي الإيمان، فنحن لا نقول: إنه خرج من الإيمان كلياً، ولا أنه دخل في الكفر. المعتزلة(2/301)
يقولون: يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر. والخوارج يقولون: يخرج من الإيمان، ويدخل في الكفر. ونحن نقول: إنه لا يخرج من الإيمان، ولكنه تحت مشيئة الله، ونقول: إنه فاسق بهذا الذنب، ولا يصل إلى أن يستباح دمه وماله وعرضه، ولكن ذنبه غليظ. ومثله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) ومعلوم أن هاتين المعصيتين لا يكفر بهما. ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، ومعلوم أن قتاله لا يصل إلى حد أنه يخرج من الملة. ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ، والأحاديث الكثيرة التي فيها: (ليس منا) كقوله: (من غشنا فليس منا) . وأحاديث البراءة كقوله: (من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة فإن محمداً بريء منه) وما أشبه ذلك مما فيه البراءة من هذا الفعل أو الفاعل. نقول: إن هذه جاءت للزجر عن هذه المعاصي، ومعلوم أنه جاءت أحاديث تدل على إخراج المسلمين الذين هم من أهل التوحيد من النار، إما بشفاعة الشافعين، وإما برحمة الله تعالى، فتلك الأحاديث تدل دلالة واضحة على أنه وإن عمل الكبائر ونحوها لا يصل إلى حد الكفر. وفي حديث أبي ذر لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه ذرة من إيمان -يعني: أن عنده أصل الإيمان- فقال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق) فيدل على أنه لا يصل إلى حد الكفر بمثل هذه الذنوب. ومع ذلك فإنه لا يجوز التساهل بهذه الذنوب؛ وذلك لأن التساهل بها والإدمان عليها يقسي القلب، ويصد عن الطاعة وفعل الحسنات، ويجرئ على كثرة السيئات، ويضعف الخوف من الله في القلب، وقد يسبب هذا الضعف ترك الواجبات، وارتكاب المحرمات، مما قد يكون سبباً في الطعن بالشريعة والعيب لها، والاعتراض على الله تعالى في تحريم هذا(2/302)
الشيء، أو إيجاب هذا الشيء، وذلك كفر؛ لأنه من الاعتراض على الله تعالى، ورد لأحكامه، والطعن في شيء من الشريعة بأنه غير مناسب، أو أنه جور أو نحو ذلك؛ تقوّل على الله، واعتراض عليه؛ فلأجل ذلك ينهى عن الإصرار على الذنوب حتى ولو كانت صغائر. ويكثر في الأحاديث الزجر عن صغائر الذنوب وعن كبائرها، وتكثر الأدلة على الوعيد الشديد على بعض الذنوب، ويستشهد العلماء بأدلة فيها الهلاك والردى والعذاب لمن فعل هذه الذنوب، ولمن أصر عليها، وإذا عرف المسلم ذلك لم يتهاون بها ولو كانت لا تصل إلى الكفر؛ مخافة أنها مع التساهل ومع الاستمرار عليها تقسي قلبه، وتصده عن ذكر الله وعن معرفة الله. والمسلم إذا تخلى عن السيئة حتى ولو صغيرة، وكرهها بقلبه، فبلا شك أنه سوف يحب الطاعات ويألفها، وتسهل عليه، ويحب الاستكثار منها، ولا شك أن الإقلاع عن السيئة والبعد عنها، وكثرة الحسنات، وكثرة الأعمال الصالحة مما يرفع الله تعالى به العبد درجات، ومما يقبل منه عبادته، ولا شك أن سبب ذلك معرفة عظم ثواب الله تعالى وأجره، حتى يكون بذلك مثابراً مكباً على الإكثار من الحسنات، وحتى يعرف عقاب الله وأليم عذابه على إصراره على الكبائر، ولو عذاب يوم أو عذاب ساعة أو نحو ذلك، فكيف بعذاب دهور متطاولة؟! كل ذلك مما يبعد الإنسان عن المعاصي، أي: معرفته بجزيل الثواب، ومعرفته بأليم العقاب. ......
الحكم بغير ما أنزل الله، وأقسام أهله
…(2/303)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية: كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً: إما مجازياً، وإما كفراً أصغر، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله؛ فهذا كفر أكبر. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة؛ فهذا عاص، ويسمى كافراً كفراً مجازياً، أو كفراً أصغر. وإن جهل حكم الله فيها، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأ، فهذا مخطىء، له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور. وأراد الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) مخالفة المرجئة، وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [المائدة:93] الآية، فلما ذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا. وقال عمر لقدامة : (أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر). وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر، وكان تحريمها بعد وقعة أحد، قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فأنزل الله هذه الآية، وبين فيها أن من طعم الشيء الحرام في الحال التي لم يحرم فيها، فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس. ثم إن أولئك الذين فعلوا(2/304)
ذلك ندموا وعلموا أنهم أخطئوا وأيسوا من التوبة، فكتب عمر إلى قدامة يقول له: حم* تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:1-3] ما أدري أي ذنبيك أعظم؟ استحلالك المحرم أولاً أم يأسك من رحمة الله ثانياً؟ وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام]. سمعنا أولاً تفصيل القول في الحكم بغير ما أنزل الله، وأنه ينقسم أهله إلى ثلاثة أقسام: ......
الحاكمون بغير ما أنزل الله مع اعتقادهم أنه أحسن من حكم الله
…(2/305)
القسم الأول: أنهم كفار، وهم الذين يعرفون حكم الله وينتقدونه، ويقولون: إن الحكم الشرعي لا يناسبنا، أو إن الحكم الشرعي الذي في القرآن والسنة قديم، ولا يناسب هذا الزمان، فنحن نبتكر ونبتدع حكماً يناسب هذا الزمان؛ حتى يوافق الحال. فهؤلاء الذين يحكم أكثرهم بالقوانين الوضعية في هذا الزمان هم كفار والعياذ بالله، وذلك أنهم يعرفون الأحكام الشرعية المأخوذة من الوحيين، ولكن زهدوا فيها، ورموها خلف ظهورهم. من أين أخذوا قوانينهم التي يحكمون بها؟ أخذوها من الغربيين، أخذوها من محاكاة الأفكار الغربية، ومن زبالة الأذهان الغربية، ومما تلقوه عن الغربيين وعن اليونان وعن الكفرة والملاحدة، فهم قد جمعوا لهم هذه القوانين ووضعوها، وجعلوا التحاكم إليها. وكان من نتيجتها تعطيل الكثير من الحدود، وتغيير الكثير من الأحكام، فمنهم الذين لا يجعلون المال خاصاً، وهم الذين يسمون بالاشتراكيين ونحوهم، فهؤلاء طوائف كثيرة يتسمون بأنهم مسلمون، وينزعون الملكيات من أهلها، ويستبدون بها، ويتصرفون فيها، ويزعمون أن هذه اشتراكية، وكذبوا وإنما هي استبدادية، فهذا من جملة أحكامهم الجائرة. كذلك من نتيجة أحكامهم تغيير كثير من الفرائض والمواريث التي فرضها الله، فهم غيروا فيها وحرموا كثيراً، وأعطوا من لا ميراث لهم، ونحو ذلك، ويطول بنا التفصيل لو ذكرنا ذلك. كذلك من نتيجة أقوالهم تعطيل كثير من الحدود، فالقصاص عندهم لا يجوز، مع أن الله تعالى يقول: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] سواء في الطرف أو في النفس، يستبدلون بدله أخذ المال من القاتل، أو نحو ذلك حتى يترك، أو يستبدلون بدله السجن المؤبد، أو نحو ذلك. وكذلك تعطيل حد الزنا، حيث أباحوا الزنا إذا كان الزانيان متراضيين؛ لأن هذا شيء يملكانه، وقد بذلاه باختيارهما. وكذلك تعطيل حد الخمر، حيث إن الخمر عندهم أمر مباح ليس فيه أي بأس، وأنها جائزة، وأن الحكم بتحريمها حكم ظلم وجور،(2/306)
وانتقدوا الشرع في تحريمها، إلى غير ذلك من تفاصيل هذه الأحكام الوضعية. نقول: لا شك أن هذا كفر، حيث اعترضوا على الشرع وخطئوه، وادعوا أنه قد تغير، وأنه لا يناسب التطور -كما يقولون- فجعلوا حكمهم أحسن من حكم الله، والله يقول: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]. هذه مقالة هؤلاء الذين يجعلون الحكم بغير ما أنزل الله على حسب أهوائهم، فيحكمون بما يلائمهم ويتركون حكم الله وهم يعرفونه، ويطعنون في حكم الشرع، لا شك أن هؤلاء كفار: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] .
الحاكمون بغير ما أنزل الله لهوى في نفوسهم
…
القسم الثاني: الذين يحكمون به وهم يعرفون أنه حرام، ولكن يقولون: لعذر، أو لضرورة، أو نحو ذلك، فهؤلاء عصاة، إلا إذا كانوا مضطرين. كثير من المسلمين من الإخوان الصالحين يضطرون إلى السفر إلى بلاد تحكم بحكم الطاغوت الذي هو القوانين الوضعية، مع أن الذين يحكمون بها إما مسلمون وإما غير مسلمين، ويكون لأحدهم حق، وإذا كان له حق فماذا يفعل؟ يقول: هل أترك حقي يضيع أو أتحاكم إلى محاكمهم هذه التي هي قانونية، وأنا أعرف أني صاحب حق، وأنا أعرف أنهم يحكمون بحكم الطاغوت، ولكني مضطر إلى التحاكم إليهم؛ لعدم وجود حاكم شرعي، ولو تركت حقي لذهب علي، وهو قد لا يتساهل به؟ ففي هذه الحال هو معذور؛ حتى لا يضيع حقه، هو معذور إذا ترافع مع خصمه إلى أولئك الذين يحكمون بالقوانين، ومتى حكموا له أخذ حكمهم، وألزموه ضرورة؛ لأنه في بلادهم. والحاصل أن الذي يحكم بها وهو يعلم أنها محرمة، ولكن يدعي أنه مضطر إليه أو أنها ذنب، وأنه لا يناسب في هذا الوقت، أو لا يخلص له حقه في هذا المجال إلا بهذا، فهو معذور، ولكن هو مذنب، حيث إنه تعاطى الشيء الذي اضطره إلى ذلك، وأما إذا كانت ضرورة فلعله معذور.
المجتهد المخطئ في الحكم
…(2/307)
القسم الثالث: الذي اجتهد في طلب إصابة الحق ولكنه لم يصبه، فحكم باجتهاده، فهذا معذور، وهو الذي له أجر على اجتهاده، ويغفر خطؤه. هذه أقسام من يحكم بغير ما أنزل الله. عرفنا أن منها ما هو معصية، ومنها ما هو كفر، ومنها ما هو عذر. سمعنا قصة قدامة بن مظعون في عهد عمر رضي الله عنه، كان قدامة وبعض المسلمين في الشام، والشام يكثر فيها صناعة الخمر، وكانوا في الشام وفي مصر يجلسون فيها يدعون إلى الله، ويعلمون من دخل في الإسلام، وكانوا يجالسون أولئك، فعند ذلك يرونهم يشربون الخمر، فقدامة واثنان معه شربوها، وتأولوا هذه الآية التي في سورة المائدة، لما ذكر الله تحريم الخمر: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91] ، ثم قال بعد ذلك: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93] فظنوا أن هذه باق حكمها فقالوا: نشربها ونتقي ونؤمن ونحسن ويغفر لنا، ولا يكون علينا حرج، فهذا تأويل منهم، فهم ظنوا أن شربها لا ينافي الإيمان فشربوها. ولما وصل الخبر إلى عمر -وكان رجلاً غيوراً- أمر أن يجلدوا حتى ولو كانوا من مشاهير المسلمين، فجلدوا حد الخمر، ولكن سأل الأمير هناك وهو أبو عبيدة فقال: إن وقعوا فيها عن معصية فعليهم الجلد، وإن أصروا واعتقدوا أنها حلال مباحة فعليهم القتل؛ وذلك لأنهم أباحوا ما حرم الله، مع التصريح بتحريمها في الآية، فمن(2/308)
أباح شيئاً حرمه الله حتى ولو لم يتناوله فقد خالف النصوص، فيحكم بردته، ولكنهم تعللوا بأنهم شبه عليهم، وظنوا أن في هذه الآية دليلاً. وقال عمر رضي الله عنه لقدامة : (أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات وأحسنت ما شربتها)، فالإيمان والعمل الصالح والتقوى والإحسان زواجر تزجر عن هذه المنكرات، ثم بين لهم أن هذه الآية نزلت في الذين ماتوا وهم يشربونها قبل التحريم، الذين قتلوا في غزوة أحد أو بدر أو غيرها قبل أن تحرم الخمر نزل فيهم لما قال المسلمون: كيف بفلان مات وهي في بطنه؟ قتل شهيداً وهو يشربها، كيف حالتهم؟ فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [المائدة:93] يعني: فيما قد طعموا، لم يقل: فيما سوف يطعمون، أو فيما يأكلون أو يشربون، بل قال: (( فيما طعموا )) فدل على أن المراد: في الشيء الذي قد طعموه قبل التحريم. وحتى أنتم الذين نزل تحريمها وأنتم أحياء وكنتم تشربونها، ما قد طعمتموه قبل التحريم قد عفي عنه، فاستقبلوا وقتاً جديداً، وتوبوا إلى الله وأقلعوا عنها. فالحاصل أن عمر رضي الله عنه بين أنهم إن اعتقدوا أنها حلال فقد خالفوا النصوص، فهذا يعتبر ردة، وإن قالوا: بل هي حرام، ولكنا شربناها بتأويل، فهذه معصية لا تخرج من الملة، ولكن فيها حد الخمر الذي شرعه الله. وبهذا يعرف أن من استحل الحرام المعروف من الدين بالضرورة فإنه يكفر، حتى ولو لم يفعله، فمن قال: الزنا حلال إذا كان الزانيان متراضيين، ولا حرج فيه؛ لأنه شيء من الإنسان، وقد بذلت المرأة نفسها، وقد بذل الرجل نفسه، فلا حرج عليهما فيما فعلا ولا إثم! نقول: هذا قد كفر، ولو لم يزنِ هو؛ وذلك لأنه أحل حراماً. ومن قال مثلاً: الربا الذي ذكره الله في القرن مباح، ولا إثم فيه، كما حكى الله عن المشركين قولهم: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] نقول: يكفر ولولم يأكل(2/309)
الربا، ولو لم يتعامل به، إذا أباحه واستحله، وجعله مثل البيع، وجعله يجوز بالتراضي، ما دام أن المتعاقدين متراضيان؛ ويعتبر بذلك مرتداً، ففرق بين من فعل المعصية وهو يعرف أنها معصية، ولم يستحلها، وبين من فعلها وهو مستحل لها، أو استحلها ولو لم يفعلها؛ فإنه يكفر.
شرح العقيدة الطحاوية [40]
الخوف والرجاء عبادتان قلبيتان عظيمتان، وقد ضل فيهما الخوارج والمعتزلة من جانب، والمرجئة من جانب آخر، وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.
العقائد المختلفة في الخوف والرجاء
…(2/310)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم، ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم). وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله في حق نفسه وفي حق غيره، قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:57]، وقال تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، وقال تعالى: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41]، وقال تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، وقال تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة:150] ومدح أهل الخوف فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَة رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61]. وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت (قلت: يا رسول الله! (( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ))[المؤمنون:60] أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: لا يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه) ، قال الحسن رضي الله عنه: عملوا -والله- بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً. انتهى. وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(2/311)
[البقرة:218] فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إتيانهم بهذه الطاعات! فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى]. ......
عقيدة أهل البدع في الخوف والرجاء
…
الرجاء: هو تعلق القلب برحمة الله. والخوف: وجل القلب من عذاب الله. وهنا طائفتان منحرفتان: طائفة المرجئة غلبوا جانب الرجاء، وقالوا: لا تضر الذنوب، ومهما كثرت المعاصي فإنها لا تضر، ما دام أن الإنسان مؤمن، لا يضر عندهم ذنب. والطائفة الثانية غلبوا جانب الخوف، ويسمون: الوعيدية: وهم الخورج والمعتزلة الذين يخلدون أصحاب الكبائر في النار، ولا يجعلون لهم توبة، ويقولون: إنهم قد لا يوفقون للتوبة، وأنهم لا يخرجون من النار، فهؤلاء غلبوا جانب الخوف.
عقيدة أهل السنة في الخوف والرجاء
…(2/312)
أهل السنة يأمرون بالجمع بين الخوف والرجاء، أي: أن على الإنسان أن يكون جامعاً بين الخوف والرجاء، فمن العلماء من يقول: عليك أن تسوي بينهما، وقرأت لبعضهم، أنه مثل المحبة والخوف والرجاء بطائرٍ، فقال: المحبة رأس الطائر، والخوف والرجاء جناحاه، فإذا قطع رأسه مات، وإذا قطع أحد جناحيه تحسر، وإذا كمل الجناحان والرأس تم الطيران، فهكذا تكون المحبة حاملة للإنسان على العبادات، الجناح الأول الذي هو الرجاء يحمله على البعد عن اليأس وعن القنوط، ويعلق قلبه برحمة ربه. والجناح الثاني الذي هو الخوف يحمله على البعد عن الآثام، مبعداً له عن المعاصي وعن الذنوب وعن الإصرار عليها. فإذا تذكر سعة رحمة الله ومغفرته وفضله وجوده وإحسانه، ومحبته للتائبين من عباده، ومغفرته للذنوب جميعاً برد قلبه، ورجا رحمة ربه. وإذا قرأ الآيات التي فيها الخوف والعقاب والألم والغضب والنار وشديد البطش ونحو ذلك فزع من المعاصي وابتعد عنها، وتاب وأقلع، وحذر من عقوبتها، فهو دائماً يقرأ هذه وهذه، ولعل هذا هو السبب في أن الله يقرن بين الخوف والرجاء في كثير من الآيات، مثل قول الله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50] فالآية الأولى فيها الرحمة، حتى لا يغلب على العاصي اليأس، والآية الثانية فيها الخوف؛ حتى لا يغلب على قاسي القلب ونحوه التساهل بالمعاصي ونحوها، فخوفه يحمله على البعد عن السيئات، ورجاؤه يحمله على الإكثار من التوبة رجاء أن تقبل حسناته وأن تغفر سيئاته. ومثله: قول الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد:6] قوله: ((لذو مغفرة للناس على ظلمهم)) هذه في الرحمة، فلا تيئس من الرحمة ولا تقنط منها، وقوله: ((لشديد العقاب)) في عدم التساهل بالمعصية؛ فإن الله شديد العقاب. ومثلها:(2/313)
الآية التي استشهد بها عمر رضي الله عنه لما بلغه أن قدامة بن مظعون قد يئس، وانقطع رجاؤه، وظن أنه ليس له توبة، فكتب إليه الآية التي في أول سورة غافر: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3] جمع الله بين الأمرين: المغفرة، والعقاب. فقال له عمر : (لا أدري أي ذنبيك أعظم: شربك للخمر أولاً، أو يأسك من روح الله) الله تعالى يقول: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] فأنت إذا يئست فقد بلغت هذه الرتبة، فالإنسان بين هاتين المرتبتين: بين اليأس، وبين الأمن، فلا يكون آيساً ولا يكون آمناً، الآمن: هو أن يكثر من الذنوب وكأنه آمن، والله تعالى يقول: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]. إذاً: المسلم يكون جامعاً بين الأمرين: بين الخوف، بحيث لا يعصي، وبين الأمن بحيث لا ييئس، الأمن الذي لا يوصله إلى التهاون بالمعاصي، يكون آمناً، ولكن ليس أمناً من مكر الله، ولكن آمنا بفضل الله، ويكون راجياً لرحمة الله. الذين يقعون في كبائر ومعاص من زنا ومن سرقة ومن قتل ومن فواحش، كثير منهم إذا نصحته يقول: أنا قد عملت كذا وكذا، وقد شربت الخمور، وقد تركت الصلوات مدة طويلة، وقد قسا قلبي، وقد فعلت وفعلت... أنا لا تقبل توبتي، ولا تعمني الرحمة، أنا مقدم على العذاب، أنا من أهل النار كائن ما كان. فهذا من الذين قال الله فيهم: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] هذا هو القنوط، وهو قطع الرجاء، كأنه يقول: ما دمت فعلت الذنوب والكبائر فلا تعمني الرحمة، ولا يصلني العفو، ولا تبلغني رحمة الله، أنا مقدم على النار، أنا آيس من الرحمة ونحو ذلك، يقوله بلسانه والله أعلم بما في قلبه، ولعل السبب: أنه ألف المعاصي، وشب ونشأ عليها، وصعب عليه تركها، فلأجل ذلك اعتذر بهذا العذر(2/314)
الذي هو أفسد من الفعل. فهؤلاء لا شك أنهم قد وصلوا إلى هذه الرتبة الخطرة، وهي اليأس والقنوط، أو التساهل بالمعاصي، حتى اعتقدوا أنهم مقدمون على النار، جازمون بأنهم من أهل النار. وهناك طائفة أخرى تجدهم يكثرون من المعاصي، ويكبون عليها، وإذا نصحتهم تعلقوا بالرحمة، وقالوا: رحمة الله واسعة، الله يغفر الذنوب جميعاً، الله وسعت رحمته كل شيء، الله غفور رحيم، ويتعلقون بالرحمة، فهؤلاء آمنون، دخلوا في قول الله: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] فتجد أحدهم يترك العبادات، ويقترف المحرمات، ويكثر من السيئات، ولا يهاب الإقدام عليها، ويتعلق بالرحمة، فمثل هذا على طريقة المرجئة، الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، ويقول أحدهم: فكثر ما استطعت من الخطايا إذا كان القدوم على كريم لا شك أن مثل هذا قد أمن مكر الله، وتهاون بعقوبة الله، ونقول له: لا تأمن أن يأتيك الأجل وأنت على هذا التفريط، وأنت متساهل بحدود الله وبحقوقه، لا تأمن أن هذه المعاصي تطمس قلبك وتقسيه وتحول بينه وبين المعرفة، وتحول بينه وبين التلذذ بالطاعة؛ فتبقى طريداً شريداً والعياذ بالله! إذا أتاك الأجل وأنت على هذه الذنوب مصر عليها فماذا تكون حيلتك؟ هل لك استطاعة في الصبر على النار؟ هل تصبر على عذاب الله ولو لحظة؟ حتى نار الدنيا لو عذبت بها ماذا يكون صبرك في نار الدنيا؟ فكيف بنار الآخرة؟! تذكر أنه قد يعذبك حيث استهنت بحقوقه وبحدوده، وأقدمت على هذه المعاصي، وتهاونت بنظر الله عز وجل، وتهاونت بعقابه، فلا تأمن أن يعاقبك على هذا، ولو كنت موحداً ولو كنت مؤمناً ونحو ذلك، لا تتهاون بحدود الله ولا بعقابه. وعلى كل حال: فقد ظهر لنا ذم هاتين الطريقتين:- طريقة المرجئة: الذين يبيحون المعاصي ويكثرون منها ويحلونها، ويغلبون جانب الرجاء. وطريقة الخوارج والمعتزلة: الذين يكفرون بالذنوب،(2/315)
ويحرمون العاصي من المغفرة في الآخرة، ونحو ذلك. الطريقة الوسط بينهما: هي أن يكون المسلم خائفاً راجياً، كما جمع الله بينهما في هذه الآية التي في سورة الإسراء، وهي قوله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] (يرجون) (يخافون) فجمعوا بين رجاء الرحمة حتى تبرد قلوبهم عن اليأس، وخوف العذاب حتى لا يأمنوا من مكر الله، حتى يحملهم الرجاء على إحسان الظن بالله، ويحملهم الخوف على الحذر من سخط الله، وعن البعد عن معاصيه من صغائر وكبائر، ويحملهم على الأعمال الصالحة التي تقربهم إلى الله، هذا وجه الجمع بين الخوف والرجاء.
عقيدة المسلم في الخوف والرجاء في حق نفسه وغيره
…(2/316)
من عقيدة المسلمين الخوف والرجاء؛ الخوف من عذاب الله، والرجاء برحمة الله، ونتيجة هذا أن الإنسان لا يأمن من عذاب الله ومن مكره، ولا ييئس من روح الله ولا يقنط من رحمته، بل يجمع بينهما، ويكون ذلك في نفسه وكذلك في غيره، ففي نفسه يخاف، يقول: إنني مذنب، وإنني مقصر، وأخاف على نفسي من عذاب الله، وأخاف من مقته، ولكن لا يحمله هذا الخوف على القنوط، بل يضيف إلى الخوف الرجاء. وقد ذكر العلماء أنه في حالة الصحة يغلب جانب الخوف؛ حتى يدفعه إلى استقلال أعماله فيستكثر ويتوب، وأما عند الاحتضار وفي حالة المرض فالأولى أن يغلب جانب الرجاء، ورد في حديث: (لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) رجاء أنه إذا مات وهو على تلك الحال أن يتغشاه الله برحمته، ويصدق عليه الحديث: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) ، فإذا مات وهو على ذلك رجي له أن يعمه الله تعالى برحمته. هذا بالنسبة إلى الإنسان في نفسه، يكون خائفاً راجياً، يحمله الخوف على أن يحتقر أعماله، ويحمله الرجاء على أن يعلق قلبه بربه، وعلى ألا ينقطع رجاؤه، ولا يقنط من رحمته. كذلك في حق غيره، تخاف عليه وترجو له، فتقول: فلان توفي وهو على الإسلام، نخاف عليه من العذاب، ونرجو له الثواب، أو نرجو للمحسنين، ونخاف على المسيئين. فالمحسنون الذين يظهر من أعمالهم الصالحة أنهم من أهل الخير، ترجو لهم الثواب، وترجو لهم الجنة، وترجو لهم المغفرة، وتأمل أن يكونوا من أهل الخير، وأن يكونوا من أهل الطواعية، وأن يحظوا بالثواب. والمسيئون الذين ماتوا وهم على إساءة، أو باقون وهم على إساءتهم وعلى سيئاتهم، تقول: نخشى عليهم أن يقعوا في العذاب، أو أن يدركهم عذاب الله ونقمته. ذكر ذلك العلماء حتى في كتب الأحكام، في آخر الجنائز من كتب الفقهاء يقولون: نرجو للمحسنين الذين ماتوا وهم من أهل الإيمان والإحسان، نرجو لهم الخير، ولكن لا نجزم بأنهم من أهل الجنة، ولكن نرجو ونغلب جانب الرجاء،(2/317)
ونخاف على المسيئين الذين ماتوا وهو مصرون على بعض السيئات، أو من أهل الإساءة ومن أهل التقصير في الأعمال نخاف عليهم، ولكن لا نجزم لهم بالنار، ولا نجزم لهم بدخول العذاب، وإنما نخشى عليهم. وأما الذين قد ستروا أنفسهم، ولم يظهر لنا منهم هذا وهذا، ولكنهم في الظاهر مسلمون، ومن أهل السنة ومن أهل الخير، فهؤلاء لا يجوز أن نظن بهم ظناً سيئاً، بل يستحب أن يظن بهم الظن الحسن، يستحب أن يحسن الظن بالمسلم الذي ظاهره الإسلام، ولم يبدُ لنا منه ما يوجب سوء الظن، فنقول: نحسن الظن به، ونرجو له الخير في حياته وبعد مماته.
الجمع بين الخوف والرجاء
…
المسلم يجمع بين الخوف والرجاء، والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها الأدلة التي فيها أن الإنسان دائماً يكون خائفاً راجياً، منها: أن الله كلما ذكر الجنة ذكر النار، كلما ذكر عذابه ذكر ثوابه، مثل قوله: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14] آيتان متتابعتان، ذكر النعيم حتى يرجو المسلم، ويدفعه الرجاء على الطلب، ثم ذكر بعده الجحيم حتى يخشى وحتى يخاف، ويدفعه الخوف على الابتعاد عن أسباب دخول الجحيم، وهكذا في الكثير من السور، كلما ذكر الله أهل الجنة ذكر أهل النار، أو بالعكس، مثل قوله: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا [النبأ:21] ، قال بعد ذلك: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا [النبأ:31] ، ومثل قوله: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النازعات:37-38] قال بعد ذلك: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40] كثيراً ما يذكر الله تعالى ثواب هؤلاء، وعقاب هؤلاء؛ ليكون المؤمن خائفاً راجياً، سواء في نفسه، أو في بني جنسه.
متعلقات الخوف
…(2/318)
الخوف يتعلق بالخوف من بطش الله وعذابه، إذا قيل: خفِ الله، ألا تخاف الله؟ قد تقول: كيف أخافه؟ فيقال: تخاف من أن يغضب، تخاف من أن يعاقب، تخاف من أن يبطش بك، فإنه شديد العقاب لمن عصاه، ولمن خرج عن طاعته. قد يتعلق الخوف بالعذاب، فيقال: أما تخاف العذاب؟ أما تخاف النار؟ أما تخاف عقاب الله؟ قد يتعلق الخوف بالأهوال، فيقال مثلاً: أما تخاف أهوال القيامة؟ أما تخاف هول المطلع؟ الكل بمعنى واحد، إذا قيل: خف الله، وخف النار، وخف هول المطلع، النتيجة واحدة، وهي: أن من خاف فإنه يهتم لما خاف منه، ويبتعد عنه. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للخوف بالخوف الحسي في الدنيا، في حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) وهذا قلنا: إنه مثل حسي، يعني: أن الخوف في الدنيا قد يكون خوفاً حسياً، مثلاً: إنسان سافر وحده على قدميه، وضرب طريقاً بعيداً، وهذا الطريق فيه مخاوف، فيه قطاع طريق، وفيه سباع، وفيه هوام، وهو وحده، وليس معه أسلحة يدفع بها هؤلاء القطاع، فماذا يفعل؟ لا شك أنه في حالة سيره يكون حذراً غاية الحذر، ولا شك أنه يسير في الوقت الذي يهدأ الناس فيه، ويغفلون فيه، يتحين الوقت الذي يكون قطاع الطريق فيه غافلين أو نائمين أو مشتغلين بحاجتهم، أو نحو ذلك، فلذلك قال: (من خاف أدلج -الدلجة: هي السير بالليل- ومن أدلج بلغ المنزل). في القديم كان الإنسان يقطع المسافات الطويلة على الأرجل وعلى الرواحل في أيام، لكن مع وجود الخوف في الطريق فإنه يسير في الليل خمس ساعات أو عشر ساعات في غفلة الناس، وإذا جاء النهار كمن واختفى حتى يظلم الليل عليه، حتى لا يتعرض له أحد، يمضي عليه يومان أو ثلاثة أيام وإذا هو قد قطع هذه المسافة حتى يبلغ منزله الذي قصده (ومن أدلج بلغ المنزل). كذلك أيضاً: من خاف من الله تعالى فإنه يهرب من أسباب عذابه، من خاف من(2/319)
النار هرب منها، من خاف من عذاب الله هرب من أسبابه، كما أن من رجا شيئاً طلبه.
علامة الخوف والرجاء
…
الرجاء الصادق له علامة، وهي: صدق الطلب وصدق المواصلة، فإذا قلت لإنسان: أما ترجو ربك؟ فيقول: أنا أرجوه، ألا ترجو رحمة الله؟ ألا ترجو ثوابه وجنته؟ فيقول: بلى، أنا راجٍ له. لابد أن تقول له: أين علامة الرجاء؟ علامة صدق الرجاء: هو الطلب، من رجا شيئاً طلبه، إذا كنت ترجو الجنة فلابد أن تبذل لها ثمناً، وثمنها هو الحسنات والأعمال الصالحة، فأما من يقول: أنا أرجو ثواب الله وأرجو رحمته وأرجو جنته، ولكنه لا يقدم لها ثمناً، فإنه لا تحصل له هذه الجنة، فهي غالية، ليست رخيصة، ولابد لها من ثمن. يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان كذلك نقول لمن يقول: إني أخاف النار، نقول له: أما تخاف النار؟ فإن قال: بلى؛ أخاف النار، نقول له: أين علامة الخوف؟ لابد للخوف من علامة، فعلامة ذلك: أن تهرب من أسباب دخولها، وهي السيئات، وتبتعد عنها، فإذا ابتعدت عن السيئات، وتركت المخالفات، ولازمت الطاعات حق الملازمة، يصدق عليك أنك من الخائفين حقاً، فإذا قلت: أنا خائف من العذاب، وأنت مع ذلك تكثر من الذنوب، وتكثر من السيئات، ولا تخاف من عاقبتها، فلست بصادق حينئذٍ. تذكر -عبد الله!- أن الجنة قد أخرج منها أبونا آدم بذنب واحد، قال بعض السلف: (آدم أخرج من الجنة بذنب واحد، وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها، وترجون بها دخول الجنة!). وقال في ذلك بعضهم: يا ناظراً يرنو بعيني راقد ومشاهد للأمر غير مشاهد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدم منها إلى الدنيا بذنب واحد لا شك أن الخوف قليل في قلوبنا، وكذلك الرجاء غير محقق في صدورنا، والله المستعان!
حقيقة الرجاء ومتعلقاته
…(2/320)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218]. فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إيمانهم بهذه الطاعات، فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى، وشرعه وقدرته وثوابه وكرامته. ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه، فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها، ورجا أنه يأتي من مغلها مثل ما يأتي من حرث وزرع وتعاهد الأرض؛ لعده الناس من أسفه السفهاء، وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام وأمثال ذلك. فكذلك من حسن ظنه، وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى، والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه. ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئاً، استلزم رجاؤه أموراً: أحدها: محبة ما يرجوه. الثاني: خوفه من فواته. الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان. وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك، فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر. فكل راج خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات. وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فالمشرك لا ترجى له المغفرة؛ لأن الله نفى عنه المغفرة، وما سواه من الذنوب في مشيئة الله، إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه. وفي معجم الطبراني: (الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك بالله، ثم قرأ: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ))، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو: مظالم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به، وهو: ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه). وقد اختلفت(2/321)
عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يخلدون), ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له، وهو: أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره]. سمعنا أن الرجاء هو محبة الشيء وطلبه، وترك أضداده، أو ترك ما يعوق عنه. أما متعلق الرجاء، فإنه قد يتعلق بالله تعالى، وقد يتعلق بثوابه، وقد يتعلق ببعض خلقه، فيقال مثلاً: أنت ترجو ربك. ويقال: هذا يرجو رحمة الله. ويقال: هذا يرجو الجنة، رجاء الشيء محبته والأمل في أن يحصل له. سمعنا أنه لابد لمن رجا أن يعمل، وضرب الشارح لذلك أمثلة، قال: لو كان إنسان له أرض وأهملها، وقال: أنا أرجو أن يكون لها ثمرة، وأن يكون لها بذرة، مثل الذي حرث أرضه أو غرسها أو بنى فيها. فهل يكون هذا محقاً؟ يقول الشارح: لعده الناس سفيهاً، كيف ترجو ثمرتها وقد أهملتها؟! إذا كنت ترجو منها ثمراً، إذا كنت ترجو منها غلة فلابد أن تفعل السبب الذي تحصل منه الغلة، وهو الحرث والسقي والغرس والإصلاح أو البناء والحفر وما أشبه ذلك. والأمثلة الأخرى أيضاً واضحة، يقول: كيف يرجو الإنسان الولد وهو لم يتزوج؟! أو نقول في الأشياء المحسوسة: كيف يرجو الشبع وهو لم يتناول طعاماً، أو الري وهو لم يشرب شراباً يدفع به الظمأ، أو الرزق وهو لم يطلبه ويفعل أسبابه؟! فهكذا الذي يرجو السعادة لابد أن يفعل أسبابها، والذي يرجو الجنة يبذل ثمنها، والذي يرجو رحمة الله تعالى ويرجو ثوابه يعمل سبباً يحصل به على ما رجاه، هذا ما يتعلق بالرجاء.
أسباب الخوف
…(2/322)
مؤلف المتن ذكر الخوف والرجاء، وأن الخوف على من فعل كبيرة، فنخاف على أهل الكبائر، نخاف عليهم إذا ماتوا وهم على كبائرهم، وكذلك يخاف الإنسان من عقاب الله، إذا كان قد فعل ذنباً، وهذا الخوف يحمله على ترك ذلك الذنب، سواء كان كبيراً أو صغيراً، ومعلوم أن الخوف هو الوجل والفزع الذي يحمله على أن يترك هذا الذنب ويتوب منه ويقلع عنه، ولا يعود إليه، فإذا كان كذلك فهو خوف صادق. والذنوب التي تسبب العذاب وتوجبه كالشرك، أو تسببه ولا توجبه وهي ما دون الشرك، والذي دون الشرك من الذنوب هي إما صغائر وإما كبائر، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة؛ وذلك لأن من تهاون بذنب ولو كان صغيراً وأصر واستمر عليه، دل إصراره وتهاونه به على احتقاره للذنوب، ومن احتقر الذنوب أصبحت في نفسه عظيمة، وكونها تصبح عظيمة لا يبقى لها في قلبه قدر، فيتهاون بالذنوب، ويكثر من فعلها، وتتراكم عليه وتهلكه، كما ورد ذلك في الأحاديث. وأكبر الذنوب وأكبر الكبائر هو الشرك، وهو يوجب دخول النار؛ لأن الله ذكر أنه لا يغفره: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، وفي الحديث أن الشرك لا يغفر، فجعل الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر وهو الشرك، صاحبه لابد أن يدخل النار بقدر شركه إن كان أصغر، أو يخلد فيها إن كان أكبر، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه، تقصيره في حقوق نفسه، هذا يغفره الله ولا يحاسب العبد عليه، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو مظالم العباد فيما بينهم، فالقصاص فيها لا محالة، إذا كان الإنسان عنده مظالم للخلق فلابد أن تستوفى هذه المظالم في الدار الآخرة. والشاهد منه ذكره أكبر الظلم وهو الكفر والشرك، فإن الله سمى الشرك ظلماً حيث قال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، وسمى الكفر ظلماً في قوله: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]؛ وذلك لأن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فالكافر وضع(2/323)
الإيمان في غير موضعه، والمشرك وضع العبادة في غير موضعها، فأصبح بذلك ظالماً، بل هو أعلى أنواع الظلم. نحن نخاف على المذنبين، ونرجو للمحسنين، ونخاف من عذاب الله، ونرجو ثوابه، فالمسلم يجمع بين الخوف والرجاء، فمن أسباب الخوف تذكر عظمة الله عز وجل وهيبته وكبريائه، وهو أهل أن يخاف حق الخوف، ومن أسباب الخوف: تذكر العذاب الدنيوي، وما أحل الله بالعصاة، وما وقع بهم من المثلات، وذلك يسبب أن يخاف العباد من عذاب الله العاجل، الذي أنزله بمن كفر به وعصاه وبغى وتكبر. ومن الأسباب الدافعة له أو الداعية إليه: تذكر عذاب الآخرة، وأن عذاب النار شديد، وأن هول المطلع شديد، وأن عذاب الله في الآخرة أشد وأبقى، وذلك يدفع الإنسان إلى أن يخاف أشد الخوف. وقد مدح الله الذين يخافونه ويخشونه فقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] يعني: الذين يخشونه حق خشيته هم العارفون به، العالمون بأمره ونهيه، والعالمون بعقوبته وشدة بطشه، وقد أمر الله بأن نخشاه دون غيره في قوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [المائدة:44] والخشية: شدة الخوف. وكذلك أمرنا أن نخافه وألا نخاف غيره، وأخبرنا بأن الشيطان يخوفنا بأعدائنا، يقول الله تعالى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران:175] الشيطان يخوف بأوليائه، يعني: يعظم أولياءه في نفوس المؤمنين، ويوقع في نفوسهم أن الكفار أهل قوة وأهل نجدة وأهل عدد وأهل معرفة وأهل خبرة، وعندهم.. وعندهم... فاخشوهم وخافوهم، فعند ذلك يضعف خوف الله في قلب العبد، ويعظم خوفه من الإنسان، ولا شك أن هذا هو أعلى مقصد للشيطان؛ فلذلك قال: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) أي: يخوفكم أولياءه، (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ). والأسباب التي تدفع إلى الخوف كثيرة، نكتفي منها بهذه.
أسباب الرجاء
…(2/324)
الأسباب التي تدفع إلى الرجاء: كون الإنسان يرجو رحمة الله، ويعلق قلبه بربه، ويثق بأنه سيعينه وينصره، وأنه سينجيه من كيد عدوه، ويثق بأنه سبحانه أهل أن يرحم عبده، وأن يتجاوز عن سيئاته. والأسباب في ذلك كثيرة، فمنها: تذكر واسع الرحمة؛ لأن من أسماء الله تعالى: الرحمن، الرحيم، وقد وصف نفسه بأنه أرحم الرحمين، ومقتضى هذه الرحمة أن يرحمهم وأن يعلق آمالهم برحمته، ولا ييئسوا من فضله ومن عطائه. ومن الأسباب التي تدفع العبد إلى أن يرجوه وحده: تذكر أنه سبحانه قد غفر للعباد المذنبين، وكفر عنهم السيئات، ومحا عنهم الزلات، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وهو واسع الفضل وواسع الرحمة، وقد خلق الرحمة مائة جزء، أنزل منها جزءاً يتراحم بها الخلق فيما بينهم، ويوم القيامة يكمل المائة فيرحم بها عباده، كل جزء منها طباق ما بين السماء والأرض. كذلك من الأسباب الدافعة للرجاء: أن يتذكر أن الله تعالى يغفر الذنوب لمن استغفره، ويفرح بتوبة التائب، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويقبل على عباده إذا أقبلوا إليه، وفي الحديث القدسي: (ومن تقرب إلى شبراً تقربت منه ذراعاً) وذلك كله دليل على أنه واسع الرحمة فيرجوه العباد. ومن الأسباب التي تدفع العبد إلى الرجاء: تذكره مضاعفة الله للحسنات، فإنه يضاعفها بأضعاف كثيرة، فالحسنة بعشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بمثلها، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن الله كتب على نفسه الرحمة، وأنه كتب كتاباً عنده على العرش: (إن رحمتي تغلب غضبي) . فهذه بعض الأسباب التي لأجلها يجمع العبد بين الخوف والرجاء، فرجاؤه يكون حاملاً له على تعلق قلبه بربه، وفعل الطاعات التي يستأهل بها لأن ينال واسع الرحمة والثواب، وخوفه يدفعه إلى الهرب عن المحرمات وعن المعاصي؛ حتى ينجو من أسباب العذاب، فإذا جمع بين الخوف والرجاء اعتدل أمره، وأصبح بذلك من المؤمنين، فلا أمن ولا يأس، الأمن: هو(2/325)
فعل المذنبين الذين يصرون على الذنوب ويأمنون، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، واليأس: هو قطع الرجاء، يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] ، بل الأمر بينهما. قد ذكرنا أنه يستحب في حال الصحة تغليب الخوف؛ حتى يحتقر أعماله فيكثر من الحسنات، وفي حالة المرض يغلب جانب الرجاء؛ حتى يفد ويقدم على ربه وهو يحسن الظن به، وبذلك يعمل الحسنات ويهرب من السيئات).
شرح العقيدة الطحاوية [41]
للذنوب مكفرات كثيرة في الدنيا والبرزخ والآخرة، وقد ذكرها أهل العلم بأدلتها من الكتاب والسنة.
مكفرات الذنوب
…(2/326)
قال الشارح رحمه الله: [وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة: السبب الأول: التوبة، قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ [مريم:60] ، وقال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [البقرة:160] وغيرها، والتوبة النصوح، وهي: الخالصة، لا يختص بها ذنب دون ذنب، ولكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة، حتى لو تاب من ذنب، وأصر على آخر لا تقبل؟ والصحيح أنها تقبل. وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها أم لابد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك، حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر مثلاً هل لا يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر أم لابد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه، أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ وهذا هو الأصح: أنه لابد من التوبة مع الإسلام، وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَة اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وهذا لمن تاب، ولهذا قال: (( لا تقنطوا ))، وقال بعدها: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:54] الآية. السبب الثاني: الاستغفار، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، ولكن الاستغفار تارة يذكر وحده، وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذُكر وحده دخلت معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمن الاستغفار، والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة:(2/327)
الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله. ونظير هذا: الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معاً، كان لكل منهما معنى، قال تعالى: فإِطْعَامُ عَشَرَة مَسَاكِينَ [المائدة:89]، فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4] ، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271] لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] كان المراد بأحدهما المقل، والآخر المعدم، على خلاف فيه. وكذلك: الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان، ويقرب من هذا المعنى: الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معاً، كان لكل منهما معنى. وكذلك الإيمان والإسلام، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى]. ......
السبب الأول مما يمحو السيئات: التوبة
…(2/328)
لما ذكر الشارح أن الكفر والشرك أعظم الذنوب، وأنه لا يغفر، وذكر أيضاً الذنوب التي دونه، ذكر أن ذلك يغفر بأسباب، وهذه الأسباب أوصلها شيخ الإسلام إلى عشرة أسباب، وأغلبها خاصة بالمسلم، أما المشرك والكافر فلا يغفر له ولا ينفعه إلا السبب الأول وهو التوبة، فمن تاب من الكفر محي عنه الكفر، وإذا تاب من الشرك محي عنه ذنب الشرك، فالتوبة تجب ما قبلها، (والتائب من الذنب كمن لا ذنب له)، وهذا السبب يعم جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، الكفر وما دون الكفر. إذا وفق الله العبد للتوبة وتاب فإسلامه يعتبر توبة، وندمه على كفره وعلى سيئاته يعتبر توبة، وعزمه وتصميمه على أنه لا يرجع إلى شيء من ذلك هو من شروط التوبة، وتركه للأعمال التي تاب منها يعتبر أيضاً من التوبة، وقد أطال العلماء الكلام على التوبة كما تكلم على ذلك ابن القيم رحمه الله في أول كتابه: المدارج، فإنه جعله الباب الثاني، وأطال فيها إطالة تستدعيها هذه التوبة. وهل يشترط لمن تاب أن يتوب من الذنوب كلها أو يصح أن يتوب من ذنب وهو يعمل ذنباً؟ مثلاً: إذا أسلم الكافر، ودخل في الإسلام، ونطق بالشهادتين، وأتى بالأركان الخمسة، ولكن قال: أنا لا أصبر عن الخمر، أو لا أصبر على الزنا، واستمر على هذا الذنب، فهل يقبل منه إسلامه أم لا يقبل؟ الصحيح: أنه يقبل منه، ويكون كسائر المذنبين، ما دام أنه يوجد في المسلمين ومن يزني، ولا يخرجه ذلك عن كونه مسلماً، وإن كان ينقص إسلامه أو ينقص إيمانه. كذلك لو أن إنساناً تاب من الزنا ولم يتب من السرقة، قبلت توبته من هذه وعوقب على هذه، وهكذا بقية الذنوب، يصح أن يتوب من ذنب وإن كان معه ذنب آخر، فيقبل عمله في هذا، ويعاقب على الذنب الثاني. أما أدلة التوبة والترغيب فيها فهي كثيرة في القرآن، وقد ورد الأمر بها، وورد الترغيب فيها، وورد الحث عليها، وورد قبولها، وأن الله يفرح بها، وما أشبه ذلك.
السبب الثاني مما يمحو السيئات: الاستغفار
…(2/329)
الاستغفار مشتق من الغفر الذي هو الستر، غفر الشيء يعني: ستره، ومنه سمي المغفر الذي يلبسه المجاهد على رأسه يقيه من السلاح؛ لأنه يستر الرأس، فإذا قال العبد: أستغفر الله. معناه: أطلبه أن يستر ذنوبي ويمحو عني أثرها، إذا قال: اللهم اغفر لي. أي: امح عني السيئات، وكفرها عني، وأزل عني ما تلوثت به منها، هذا معنى: أستغفر الله، أي: أطلب المغفرة أو أطلب محو الذنب؛ وذلك أن الذنب يسبب للإنسان شيئاً من الأثر السيئ، كأنه يؤثر عليه أثراً معنوياً، ليس أثراً حسياً، فهو تلويث ووسخ وقذر وأذى، وإن كان نظيف الجسد ونظيف البدن ونظيف الثياب، لكنه قد تلبس بهذه الذنوب فأكسبته شيئاً من هذا الأذى، ومن هذا الوسخ والقذر، فهذا الاستغفار يمحوها، ويزيل أثر السيئات، فإذا قال: اغفر لي. أي: امح عني، واسترني من آثار هذه السيئات. ذكر الشارح أن الاستغفار مقارن للتوبة، لا يمكنه أن يكون تائباً إلا إذا كان مستغفراً، إذا قال: أستغفر الله. فمعناه: أطلبه أن يمحو عني ذنوبي، وإذا قال: رب! تب علي. فمعناه: اقبل مني توبتي. وكأن السائل راجع إلى الله بعد أن كان معرضاً، والمستغفر كأنه طالب من الله أن يزيل عنه أثر السيئات، فيكونان متلازمين، لا تكون توبة إلا ومعها استغفار، وذكر الشارح أنهما متقاربان، كل منهما يدخل في معنى الآخر، لو اشتغل إنسان بقوله: إني تائب إلى الله، رب تب علي، أنا تائب إليك، أتوب إلى الله، تبت إليك وأنا من المؤمنين، كفاه عن طلب الاستغفار، ولو قال إنسان مثلاً: رب اغفر لي، أسألك مغفرتك، أستغفر الله، غفرانك ربنا، وأكثر من طلب المغفرة، كفاه عن أن يقول: إني تائب. فالتوبة تقوم مقام الاستغفار، والاستغفار يقوم مقام التوبة، والجمع بينهما من باب التأكيد والتقوية؛ ولأجل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يجمع بينهما، ثبت عن ابن عمر قال: (كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: رب! اغفر لي وتب علي؛ إنك(2/330)
أنت التواب الرحيم) قوله: (رب اغفر لي) هذا استغفار، وقوله: (وتب علي) هذا توبة، أتى بهما معاً، مع أن أحدهما بمعنى الآخر؛ ولكن من باب التقوية ومن باب المعاهدة. وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من الاستغفار، مع أن الله قد غفر له وقال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2] وكان يعد الغفلة ذنباً فيتوب ويبادر، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليغان على قلبي -يعني: يغفل قلبي عن الذكر أحياناً- فأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) هذه توبة واستغفار من ترك الذكر، أو من الغفلة أحياناً، كيف بنا ونحن دائماً إلا ما شاء الله في غفلة، وفي سهو، وفي حديث نفس؟! أليس علينا أن نكثر من التوبة، وأن نكثر من الاستغفار؟ هذا هو الواجب. فهذان سببان عظيمان في حصول محو السيئات، وإزالة أثرها سواء كانت كبيرة أو صغيرة.
السبب الثالث مما يمحو السيئات: الحسنات
…(2/331)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [السبب الثالث: الحسنات؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته، وقال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وقال صلى الله عليه وسلم. (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) . السبب الرابع: المصائب الدنيوية، قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه) ، وفي المسند: (أنه لما نزل قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] قال أبو بكر : يا رسول الله، نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر ! ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به) . فالمصائب نفسها مكفرة، وبالصبر عليها يثاب العبد، وبالسخط يأثم، والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويكفر ذنبه بها، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الثواب والأجر قد يحصل بغير عمل من العبد، بل هدية من الغير، أو فضل من الله من غير سبب، قال تعالى: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40]، فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم. وكثيراً ما يفهم من الأجر غفران الذنوب، وليس ذلك مدلوله، وإنما يكون من لازمه. السبب الخامس: عذاب القبر. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. السبب السادس: دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات. السبب السابع: ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقة أو قراءة أو حج، ونحو ذلك، ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. السبب الثامن: أهوال يوم القيامة وشدائده. السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة). السبب(2/332)
العاشر: شفاعة الشافعين، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها. السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه، فلابد من دخوله إلى الكير، ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا الله، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه. وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من الأمة، غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولكن نرجو للمحسنين، ونخاف عليهم]. هذه هي أسباب رحمة الله ومغفرته، ومحوه للسيئات، وإزالته لأثرها، تقدم السبب الأول وهو: التوبة النصوح، وأن التوبة تمحو الذنوب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وتقدم السبب الثاني وهو: الاستغفار، الذي هو طلب محو الذنوب وإزالة أثرها، وورد الأمر به في القرآن وفي الأحاديث. وابتدأ بالسبب الثالث هنا، وهو: الحسنات والأعمال الصالحة التي تمحو السيئات، يقول الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ، وسمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ، فالحسنات لا شك أنها تزيل أثر السيئات، ولو كثرت السيئات؛ وذلك لأن الحسنات يضاعفها الله أضعافاً كثيرة، وأما السيئات فلا تضاعف، وإن كانت قد تعظم بسبب من الأسباب. ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الحسنة تضاعف إلى عشر حسنات، يقول في الحديث: (إذا هم الإنسان بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، وإذا هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإذا هم بها وعملها كتبت سيئة واحدة -زاد في رواية:- أو محاها، ولا يهلك على الله إلا هالك) . أخبر بأنه إذا هم بحسنة ولكن عاقه عائق فلم يعملها أثابه الله بنيته،(2/333)
وكتب همه حسنة، وإذا هم بسيئة فلم يعملها، بل تركها خوفاً من الله كتبها الله حسنة كاملة، وإذا عمل الحسنة فله عشر حسنات، وإذا عمل السيئة فله سيئة واحدة، فويل لمن غلبت آحاده عشراته، الذي تكثر سيئاته وهي واحدة واحدة، ثم تغلب حسناته التي هي عشرات، هذا هالك، ولا يهلك على الله إلا هالك. فإذا كان الإنسان قد وقع في ذنوب، فإنه يؤمر بأن يكثر من الحسنات حتى تمحو أثر تلك السيئات، هذا سبب من أسباب تكفير السيئات.
السبب الرابع مما يمحو السيئات: المصائب الواقعة للإنسان
…(2/334)
السبب الرابع: المصائب التي تصيب الإنسان في هذه الحياة، والأدلة على ذلك كثيرة، الله تعالى يسلط المصائب على الناس ليختبرهم، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] يعني: نبتليكم بالمصائب حتى نطهركم، وحتى نختبر من يصبر ومن يجزع. وردت أدلة كثيرة تدل على أن الحسنات تزداد بالمصائب، والسيئات تمحى بالمصائب، فإذا صبر العبد على المصيبة كتب له بها حسنات، ومحي عنه بها سيئات، المصائب تعم المصائب في النفس وفي المال وفي الأولاد وفي الأقارب ونحو ذلك، فإذا أصاب الإنسان خوف أو مرض أو جوع أو فقد مال أو فقد ولد أو موت قريب، وحزن على ذلك، وأصابته هذه المصيبة، ولكنه علم أنها من الله؛ أثابه الله. قال علقمة في قول الله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] : (هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) قوله: (عظم الجزاء) يعني: كثرة الجزاء، وقوله: (مع عظم البلاء) يعني: مع كثرة الابتلاء، ثم قال: (وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) ، وفي الحديث: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة) . وسمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب العبد من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه) وهذا بشرط أن يعلم أنها من الله ويصبر. أما المصائب التي تصيب بعض الناس فيشتكي إلى الناس ويجزع ويصيح وينوح، فإن هذا يبطل أجره، ولهذا وردت الأدلة الكثيرة في بيان وجوب الصبر، والنهي عن الجزع.
السبب الخامس مما يمحو السيئات: ما يهدى للميت بعد موته
…(2/335)
السبب الخامس: ما يهدى إلى الميت بعد موته، بعد موته يهدي إليه المسلمون يدعون له، يتصدق عنه أقاربه أو أحبابه وأصحابه، فيصل إليه ثواب ذلك، فإنهم أولاً يصلون عليه، ويدعون له، ويترحمون عليه، ويهدي له أهله حسنات، ويستغفرون له، ويتصدقون عنه، ويوقفون له أعمالاً جارية، وما أشبه ذلك، فتكون أسباباً في مغفرة الذنب.
السبب السادس مما يمحو السيئات: عذاب القبر
…
السبب السادس: عذاب القبر، قد يسلط الله عليه العذاب إذا كان عنده بقية ذنوب، فيكون ذلك سبباً في محوها، فتنة القبر، وعذاب القبر، وما فيه من الأهوال.
السبب السابع مما يمحو السيئات: أهوال يوم القيامة
…
السبب السابع: أهوال يوم القيامة، ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والشدائد والفزع الأكبر، وذلك أيضاً مما يكفر الله به الخطايا، ويمحو به الذنوب ونحوها.
السبب الثامن مما يمحو السيئات: المقاصصة
…
السبب الثامن: ورد في الحديث: (أن الناس إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص من بعضهم لبعض مظالم كانت بينهم)، فهذا أيضاً مما تكفر به السيئات عن العبد ويزال عنه أثرها.
السبب التاسع مما يمحو السيئات: شفاعة الشافعين
…
السبب التاسع: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يشفع عباده الصالحين وأنبياءه في أهل السيئات، فيشفعون لهم، ويخرج الله من النار بشفاعتهم من قدر الله أنه تزيل عنه هذه الشفاعة أثر السيئات.
السبب العاشر مما يمحو السيئات: رحمة الله وعفوه بعباده
…
السبب العاشر: رحمة الله عز وجل، وعفوه عن عبده، فإنه ورد في الحديث أن الله يقول: (شفعت الأنبياء، وشفعت الملائكة، وشفع الصالحون، ولم يبق إلا رب العالمين، فيخرج الله قبضة من النار لم يعملوا خيراً قط -يعني: من أهل التوحيد- فيدخلهم الجنة) . وعلى كل حال هذه الأسباب وغيرها يغلب العبد فيها جانب الرجاء، بحيث يعلم أن هذه من الأسباب التي يدفع الله بها العذاب، ويكفر بها السيئات.(2/336)
السبب الحادي عشر مما يمحو السيئات: دخول النار بقدر الذنوب
…
إذا لم تنفع هذه الأسباب، وبقي على العبد سيئات لم تكفر بهذه المكفرات كلها، فحينئذٍ لابد أن يدخل الكير حتى ينقى، فإن النار بمنزلة كير الحداد، الحداد إذا كان عنده حديدة فيها صدى، أو فيها مزيج تراب ونحوه ماذا يفعل بها؟ يدخلها النار حتى تذوب، فإذا ذابت تلك الحديدة طفا منها الحديد الخالص، أما التراب والصدى والخبث فإنه يرسب، ويتبين ما هو صالح وما ليس بصالح، قال الله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ [الرعد:17] يوقدون النار على الذهب حتى يذوب، ويخلص ما هو ذهب وما هو نحاس، يتميز هذا من هذا في كير الحداد، ويوقد على هذا الحديد حتى يتميز ما هو حديد خالص وما ليس بخالص من التراب ونحوه، فكذلك النار التي أعدها الله للعذاب، يدخلها هذا الذي بقيت عليه سيئات وبقيت عليه ذنوب لم تكفرها هذه المكفرات، فإذا هذب ونقي، ولم يبق فيه إلا ما هو خالص، عند ذلك أذن الله بإخراجه، بعدما يمحص؛ لأن دار النعيم وهي الجنة دار طيبة، لا يدخلها إلا الطيب، لا يجاور الله فيها إلا من هو طيب، فالذي عنده شيء من الخبث لابد أن ينقى. وعلى كل حال فعقيدة أهل السنة أنه لا يخلد في النار أحد من أهل التوحيد وأهل الإيمان، وأما من ليسوا بمؤمنين فإنهم يلحقون بالكفار، ومعلوم أن الإيمان هو تحقيق الإيمان بالأركان الستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. الإيمان بهذه الأركان الستة هو الذي يحمل على الأعمال الصالحة، ولكن هذا الإيمان قد يكون ضعيفاً فيقع معه شيء من المعاصي والمخالفات، ويقع صاحبه في شيء من التقصير وترك بعض الطاعات، فتتراكم عليه الذنوب، فيحتاج إلى ما يمحوها وما يكفرها، وقد يكون ضعفه كثيراً فيكثر تناوله للسيئات، وقد يكون ضعف الإيمان قليلاً فلا تكثر منه السيئات،(2/337)
فيمحوها ربه بالمكفرات، وقد يكون الإيمان قوياً راسخاً أرسخ من الجبال، فلا يقدم العبد على شيء من السيئات ولا من المخالفات، ولا يترك شيئاً من الواجبات، فهذا هو السبب. أما من فقد الإيمان بهذه الأمور، وضعف إيمانه بالله، أو لم يؤمن بالله إلهاً ورباً، وإنما أنكر أن يكون الله إلهه وربه، أو عبد إلهاً غيره أو نحو ذلك، أو لم يؤمن باليوم الآخر، ولم يصدق بالبعث، بل أنكر الدار الآخرة، وأنكر الجزاء والجنة والنار، وجعل الدنيا هي الدار التي ليس بعدها دار، وما أشبه ذلك، وكذلك إذا أنكر الشرع الشريف، وأنكر كتاب الله أو كتبه المنزلة، أو أنكر رسالة الرسل وما جاءوا به، أو لم يؤمن برسالتهم وبما جاءوا به، أو رد شيئاً من شرعهم ولم يقبله؛ فمثل هذا لا يكون مؤمناً؛ وذلك لأنه لم يثبت الإيمان في قلبه، فلا تنفع طاعات فعلها، ولا قربات تقرب بها، حيث إنها لم تكن على أصل، ولم تكن على أساس. إذاً: فهذه المكفرات التي هي أحد عشر أو اثنا عشر في حق أهل الإيمان وأهل العقيدة وأهل التوحيد، الذين قد يضعف توحيدهم بسبب من الأسباب، فأما من ليسوا من أهل العقيدة ولا من أهل الإيمان، بل من أهل الكفر والنفاق والشرك والمخالفات والإنكار للدار الآخرة، أو الإنكار للجزاء والحساب، أو الإنكار للشرائع أو ما أشبه ذلك، فهؤلاء كفار لا تنفعهم أعمالهم، بل أعمالهم يحبطها الله كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] ، ولو أكثروا من الصدقات، ولو أكثروا من الحسنات وما أشبه ذلك، ما دام أنها ليست على أساس وأصل أصيل، وهو العقيدة الراسخة التي هي أركان الإيمان كما ذكرنا.
شرح العقيدة الطحاوية [42](2/338)
من عقائد أهل السنة أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وقد خالف أهل السنة في هذا كثير من المبتدعة، وأيضاً خالفهم في هذا مرجئة الفقهاء، وقد رد أهل العلم عليهم بنصوص الكتاب والسنة، وبالنقول عن علماء سلف الأمة.
خطر الأمن من عذاب الله واليأس من رحمته
…
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الاسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة). يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً، فإن الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط. والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله، فهو راج لمغفرته، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:218] . أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب. قال: أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا، صار الطائر في حد الموت. وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ [الزمر:9]، وقال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله تعالى، فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه. وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله: الرجاء أضعف منازل المريد. وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه(2/339)
المذكور من أشرف منازل المريد. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء). وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) ، ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، بخلاف زمن الصحة، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه. وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد. ولقد أحسن محمود الوراق في قوله: لو قد رأيت الصغير مَنْ عمل الخي ـر ثواباً عجبت من كبره أو قد رأيت الحقير من عمل الش ـر جزاءً أشفقت من حذره]. في هذا الكلام أن المسلم يجمع بين الخوف والرجاء، وأن هذه النصوص تدل على ذلك، فإن قوله تعالى: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57] جمع الله فيها بين الخوف والرجاء: يرجون، ويخافون. وكذلك قوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16] جمع الله فيها بين الخوف والطمع، والطمع هنا هو الرجاء. ويظهر ذلك في قوله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] والحذر: هو الخوف، يعني يخاف عذاب الآخرة، ويرجو رحمة ربه.. ونحو ذلك من الأدلة التي تدل على أن المسلم يجمع بين الخوف والرجاء. وقد ذكرنا بعض الأسباب التي لأجلها يخاف المسلم، وبعض الأسباب التي لأجلها يرجو. وقد ذكر الله عز وجل عن عباده هذه الصفات ليرغب فيها، وكثيراً ما يأمر الله عباده بالخوف منه، كقوله تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:51] (فارهبون) يعني: خافوا عذابي. وتارة يعلق الخوف ببعض مخلوقاته، كقوله تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ(2/340)
[البقرة:24] يعني: خافوا من النار وابتعدوا منها، والنار من الأسباب التي تحمل العبد على الخوف إذا تذكرها. ......
الجمع بين الخوف والرجاء
…
يجب على الإنسان أن يجمع بين الخوف والرجاء، فيجعل المحبة كرأس الطائر، والخوف والرجاء مثل الجناحين، فإذا كان الطائر قد استوى جناحاه، ورأسه موجود، ففيه حياة مستقرة، وطيرانه معتدل، وإذا قطع أحد جناحيه تعثر، وإذا قطع جناحاه فهو أقرب إلى الموت، وإذا قطع رأسه مات، فلابد أن هذه الخصال تجتمع في العبد وتستوي: المحبة، والخوف، والرجاء. المحبة: هي محبة الله لإنعامه على عبده، والخوف: خوفه من عذابه، والرجاء: تعلق قلبه بثوابه. فإذا عبد الله بالمحبة فقط دون أن يخافه فقد أخطأ كما يذكر ذلك عن بعض المتصوفة، وعن بعض غلاة الزهاد ونحوهم، أنهم يقولون: ما نعبد الله خوفاً من ناره، ولا رجاءً لجنته، ولكن نعبده محبة له، ويغالون في باب المحبة، وكأنهم أمنوا من العذاب، وكأنهم لم يكن لهم رغبة في الثواب، فهذه حال الصوفية، والحقيقة أن من يعبد الله بهذا فهو زنديق. من غلب جانب الخوف فإنه قد وقع في عقيدة الوعيدية الذين يغلبون جانب الوعيد، ومن هؤلاء الوعيدية الحرورية والمعتزلة، وسموا بذلك لأنهم يتمسكون بالأدلة التي فيها الوعيد فيحققونها؛ ولهذا يخلدون أصحاب الكبائر في النار كما تقدم مراراً. وأما من عبد الله مغلباً جانب الرجاء، فهذا يسمى مرجئاً، والمرجئة: هم الذين يتعلقون بالرحمة ولا يذكرون العذاب، فيرجون ولا يخافون عقابه، وهم على خطر.
الرد على من غلب جانب الرجاء
…(2/341)
لابد من الجمع بين الخوف والرجاء؛ لأجل ألا يكون هناك خوف شديد فيئول إلى القنوط، ولا رجاء منفرد فيئول إلى الأمن؛ لأن الله ذم الأمن في قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] إذا رأيت -مثلاً- الذي يتمادى في العصيان، ويترك الطاعات، ويكثر من الذنوب، وقلت له: ألا تخاف الله؟! ألا تتقيه؟! ألا تخشاه؟! أين الخشية وأين الخوف وأين الرهبة من عذاب الله؟! فيتعلق بالرحمة ويقول: رحمة الله واسعة، الله أرحم الراحمين. ثم يتمادى في المعصية، تخوفه من عذاب الدنيا فيأمن، تخوفه من عذاب الآخرة فلا يخاف، فمن هذه حاله يُخاف عليه أن يكون من الذين أمنوا مكر الله.. أمنوا انتقامه.. أمنوا عذابه.. أمنوا بطشه الشديد.. أمنوا من أخذه لهم على غرة وغفلة، فيخاف عليهم أن يأتيهم أمر الله وهم على غرتهم وغفلتهم وسلوتهم؛ لأن سنة الله أنه ما أخذ قوماً إلا عند غرتهم، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأن هذا إمهال وليس إهمالاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد وهو مقيم على معاصيه فاعلم أنه استدراج) وهذا مذكور في قوله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:182] فهم يغترون بإمهال الله، ويغترون بنعمه، ويغترون بعطائه لهم، فيأتيهم أمر الله وهم غافلون، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]) ، وهذا الإمهال والتأخير ليس هو لأجل أنهم ليسوا بمذنبين، ولكن الله يؤخرهم إلى أجل، يقول بعضهم: أيحسب الظالم في ظلمه أهمله القادر أم أمهله فهم ما أهملوا، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً، لهم موعد لابد أن يأتي، وهذا في حق الذين يأمنون مكر الله، فيعملون السيئات(2/342)
ويكثرون منها، وهم آمنون مطمئنون، وكأنهم لم يعملوا سيئة.
الرد على من غلب جانب الخوف
…
هناك قسم آخر قد قطعوا رجاءهم، وقطعوا طمعهم في الرحمة، واستسلموا للعذاب في نظرهم، ولا ندري هل هم صادقون أم هم مستهزئون؟ فإنك إذا جئت إلى بعض من عاش على السيئات والكفريات وترك القربات، ونصحته قائلاً: تب إلى الله، وأقبل عليه، واترك ما أنت عليه من التمادي في الغفلة، واترك الذنوب، وأكثر من الحسنات. فإنه يمتنع ويقول: أنا قد أذنبت، وقد كفرت، وقد أسأت، وقد ارتكبت من الخطايا كذا وكذا.. شربت الخمور.. زنيت.. قتلت.. أكلت الحرام.. فعلت وفعلت، فلا تنالني الرحمة، ولا حيلة لي فيها، ولست من أهلها، بل أنا من أهل النار. هكذا ينقل عن بعضهم. ولعل هؤلاء من الذين يستهترون بمن ينصحهم، ويتهاونون بنظر الله عز وجل، أو ينكرون أن يكون هناك عذاب دنيوي وعذاب أخروي، فيقولون هذه المقالة لرد ذلك الذي ينصحهم، ولعدم قناعتهم بما يقوله. فنقول: لا شك أن هذا كفر أو يئول إلى الكفر، وذلك هو اليأس، قال تعالى: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] ، هؤلاء قد يئسوا من الرحمة، وقطعوا رجاءهم، ووقعوا في القنوط، وقد قال تعالى: قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56] والقنوط هو: قطع الرجاء، فهم قد قطعوا رجاءهم كلياً من الرحمة، وكأنهم يقولون: لا تنالنا الرحمة، ولو كانت رحمة الله واسعة فذنوبنا أكبر من أن تنالها، وذنوبنا أكبر من أن تغفرها، قد كفرنا، وقد أسأنا، وقد أذنبنا، وقد ارتكبنا، وقد فعلنا وفعلنا، فذنوبنا كبيرة لا تصل إليها رحمة الله!! فيبقون على ما هم عليه من الكفر والضلال والفسوق والمعاصي، ويتمادون فيها، ويموتون وهم مصرون على ذلك، وكأنهم ممن يئسوا من الخير وقطعوا رجاءهم، فهؤلاء وقعوا في هذه المرتبة القبيحة التي هي اليأس من(2/343)
روح الله، والقنوط من رحمة الله. وبكل حال: فإن المسلم ولو وقع فيما وقع فيه من المعاصي فإن الله تعالى يكفر عنه السيئات بالأسباب التي ذكرناها آنفاً، وإذا حقق العقيدة والتوحيد قبل الله عز وجل منه، وتاب عليه، ورحمه وهو أرحم الراحمين، أما إذا تمادى في عصيانه فقد أقدم على العذاب والعياذ بالله.
من عقيدة أهل السنة الحكم على الإنسان بحسب ظاهره
…
من عقيدة المسلمين أنهم يصفون إلإنسان بما يظهر منه، فإذا أظهر خيراً أحبوه، وإذا أظهر سوءاً أبغضوه، ومع ذلك فإنهم إنما يحكمون بالظاهر، وقد جاء عن عمر أنه قال: إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم بالظاهر، فمن أظهر لنا خيراً أحببناه وقربناه، ومن أظهر لنا سوءاً أبعدناه وأبغضناه، وليس لنا من أمره -أي: من باطن أمره- شيء، والله تعالى هو الذي يتولى السرائر. وبناءً على هذه القاعدة فإننا نحب المؤمنين الذين أظهروا لنا الخير ودانوا به، وأظهروا العمل الصالح وأظهروا السنة، وظهر لنا منهم أنهم من أهل الدين ومن أهل الصلاح، وعملوا لله بما يحبه الله وبما فرضه عليهم، فنحبهم، ونشهد لهم بالخير، سواء كانوا ممن أدركنا أو ممن سبقنا، فندعو لهم بالمغفرة والرحمة، كما وصف الله المؤمنين بقوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] ، فوصفهم الله بأنهم يحبون من هاجر إليهم، ويحبون من سبقهم من المؤمنين، ويدعون لهم بالمغفرة والرحمة، ويدعون الله بأن ينزع من قلوبهم الغل والحقد والحسد والبغضاء والشنآن لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، فهذه صفة المؤمنين. وإذا كان كذلك فإنهم بضد ذلك في حق الفسقة والمشركين والمنافقين والمعاندين، فإذا رأوا أهل(2/344)
الفساد وأهل السوء وأهل المنكر أبغضوهم ومقتوهم، وعاملوهم بما يظهر منهم من السوء والفحش والكلام القبيح، وحذروا من فعلهم، ومقتوهم على هذا، ولو كانت قلوبهم نقية؛ فليس إليهم معرفة ما في القلوب. فأهل الفساد وأهل الشرور وأهل البدع إذا أظهروا بدعهم وأظهروا معاصيهم وأعلنوها؛ فإننا نبغضهم، ونمقتهم، ونحذرهم، ونحذر منهم، ويكون بغضنا لهم بغضاً في ذات الله، ولا نبغضهم لأجل أهوائنا، ولا لأجل مصالحنا، ولا لأجل أنهم تنقصونا أو عابونا أو ما أشبه ذلك، بل يكون الحامل لنا على بغضهم الغيرة لله، والغيرة على شريعته ودينه، والحماية لتعاليمه، ويكون من أثر هذا البغض وهذا المقت البعد عنهم، والحذر من شرهم ومن سوئهم، والتحذير من أن ينخدع أحد بدعاياتهم وبتضليلاتهم، وبمعاصيهم وفسوقهم الذي يدعون إليه والذي ينشرونه، والذي يظهرونه، ثم يزعمون أنهم على حق، وأن الصواب في جانبهم. وتقدم لنا أن من عقيدة أهل السنة أنهم يرجون النجاة لأهل الخير، ولا يجزمون لهم بالجنة، ويخافون على أهل الشر من العذاب، وإن لم يجزموا لهم بالنار، ولكن يكون من آثار معرفتهم أن هؤلاء من الصالحين، سواء أدركوهم أو سبقوهم، أنهم يحبونهم، ويحثون على مثل أعمالهم، وإن لم يشهدوا لهم بأنهم من أهل الجنة؛ لأنهم لا يعلمون ما في القلوب. كذلك من آثار معرفتهم لأهل المعاصي أنهم يحذرونهم ويحذرون منهم، وإن لم يشهدوا لهم بالنار، كما أنهم يخافون عليهم من عذاب الله، وإن لم يجزموا لهم بالعذاب، فهم إذا أنكروا عليهم ومقتوهم حذروا من شرهم، وحذروا من أفعالهم، وبينوا أخطاءهم، وقالوا: إنهم قد وقعوا في هذا الخطأ، فإياكم أن تساعدوهم على خطئهم، أو توافقوهم، أو تفعلوا كفعلهم؛ فينسب إليكم من الخطأ ما نسب إليهم أو ما وقعوا فيه. وهكذا طريقة أهل الخير: أنهم يحذرون من الشر ويحذِّرون منه. ......
الحكم على أهل العصيان يتفاوت بتفاوت معاصيهم
…(2/345)
الشرور والمعاصي والفتن تتفاوت، فمنها ما قد يوصل إلى الكفر والردة والخروج من الإسلام، كالاستهزاء بشعائر الله، والاستهزاء بأوامره، والسخرية من أهل الدين والتنقص لهم، فإذا ظهر هذا من أناس فإننا نبرأ منهم، بل ونضللهم، ونخشى أن يكونوا قد وقعوا فيما يخرج من الملة؛ وذلك لأن الله قد ذكر السخرية من أعمال الكفار، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] أي: ضحك استهزاء، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:30]. ويقول الله تعالى عنهم: إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا [المؤمنون:109-110] أي: تستهزئون بهم وتتنقصونهم، فجعل من أسباب عذابهم سخريتهم بأهل الدين. ومثل ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة:79] ، يستهزئون بهم ويتنقصونهم لضعف حالهم، فهذا دليل على أن الاستهزاء بالدين وبحملته يعتبر من دلائل الكفر. كذلك قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:211-212] أي: يستهزئون بالمؤمنين، (يسخرون منهم) أي: من أعمالهم ومن ديانتهم ومن عباداتهم أو ما أشبه ذلك، فتكون هذه السخرية من أسباب ردتهم وكفرهم. وقد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض المنافقين استهزئوا ببعض المؤمنين من أجلاء الصحابة، أولئك المنافقون الذين قالوا: ما رأينا مثل(2/346)
قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنةً، ولا أجبن عند اللقاء! وهم يعنون بذلك الصحابة، حيث وصفوهم بأنهم شديدو الرغبة في الأكل فقط، ولكنهم عند القتال جبناء أذلاء، وأنهم لا يقولون إلا كذباً. وكذب من قال عليهم بهذا القول، بل هو المتصف بذلك، ولما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك وبخهم على ذلك، فجاءوا يعتذرون ويقولون: يا رسول الله! إنما كنا نتحدث حديث الركب لنقطع به الطريق، وهذا معنى قولهم: إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] فجعل فعلهم هذا كفراً، حيث إنهم استهزئوا بالله وبآياته وبرسوله وبأصحاب رسوله، فكان ذلك ردة منهم، فإذا وصلت الحال بالمرء إلى هذا القدر فإنه يحكم بكفره والعياذ بالله.
أهل السنة يرجون للمحسنين ويخافون على المذنبين
…(2/347)
نحن نرجو للمحسنين، ونخاف على المذنبين، وإذا وصلت الحال إلى أن ذلك الذنب وصل إلى درجة الكفر، فإننا نحكم بكفره صاحبه وردته، وأما إذا كان الذنب مما يحتمل أن يغفر، ويدخل تحت مشيئة الله فإن ذلك مما لا يكفر به صاحبه. والذنوب التي دون الشرك معرضة للأسباب التي تكون مكفرة لها، ومن هذه الأسباب: التوبة، والاستغفار، ودعاء المؤمنين له بالمغفرة، والمصائب الدنيوية، وشدة النزع عند الموت وما يصيبه جراء ذلك، وعذاب القبر، وشدة الفزع في الآخرة، والحزن الذي يناله في الموقف وشدة الألم، ومنها: تكفير الله عز وجل له بما يحصل له من المصائب، ومنها: شفاعة الشافعين، ومنها: ما يحصل من القصاص بين العباد على القنطرة، ومنها: أنه يدخل النار ويكفر عنه بقدر ما عمل، ثم بعد ذلك يخرج إذا كان من أهل التوحيد ومن أهل الصلاح. وقد سبق أن ذكرنا أن على المرء أن يجمع بين الخوف والرجاء، فيكون خائفاً راجياً، ولكن لا يبلغ به الرجاء إلى الأمن، بحيث يأمن مكر الله، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، ولا يبلغ به خوفه إلى اليأس إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] بل يكون بينهما، وذكرنا أن العلماء يقولون: يفضل في حالة الصحة الخوف حتى يستقل أعماله، ويستكثر من الحسنات. وفي حالة الاحتضار يفضل الرجاء -أي: يغلب الرجاء- ليقدم على ربه وهو يحسن الظن به، وقد مر بنا في الحديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) فيكون ذلك إن شاء الله من أسباب رحمة الله لعبده. فيتعين على الإنسان في نفسه أن يجمع بين الخوف والرجاء، ويتعين عليه مع غيره أن يخاف على المذنب، ويرجو للمحسن، فيجمع في ذلك بين الخوف والرجاء، من غير أن يصل به إلى الجزم واليقين.
خروج العبد من الإيمان إذا جحد شيئاً من أركان الإيمان
…(2/348)
قال الشارح الإمام ابن أبي العز رحمنا الله تعالى وإياه: [قوله: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه) يشير الشيخ إلى الرد على الخوارج والمعتزلة في قولهم بخروجه من الإيمان بارتكاب الكبيرة. وفيه تقرير لما قال أولاً: لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله. وتقدم الكلام على هذا المعنى]. قد تقدم أن الخوارج يكفرون بالذنب، ويقولون: إذا عمل الإنسان ذنباً وأصر عليه صار داخلاً في الكفر خارجاً من الإيمان، وأما المعتزلة فإنهم يخرجونه بالذنب من الإيمان، ولكن لا يدخلونه في الكفر، بل يجعلونه في منزلة بين الكفر والإيمان، والكل على خطأ، والصواب ما قاله الطحاوي من أنه لا يخرجه من الإيمان إلا الجحد بما أدخله فيه، فالذي أدخله في الإيمان هو الإيمان بالله، والإيمان بالبعث، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالرسل والكتب، فإذا جحد مثل هذه الأشياء خرج من الإيمان، وأما ما دام أنه يؤمن بالله، ويعمل بطاعته، ويؤمن بالرسل، ويدين باتباعهم، ويؤمن بالكتب ويعمل بها، ويؤمن باليوم الآخر ويستعد له، فإنه لم يخرج من الإيمان، ولو قصر في بعض الأوامر، ولو ارتكب بعض النواهي، ولو أذنب بعض الذنوب، فذلك لا يوصله إلى الكفر. ......
تعريف الإيمان عند أهل القبلة
…(2/349)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق. والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى). اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً: فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه. وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد. وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي -أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان: هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102]، وقال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُفْسِدِينَ [النمل:14]، وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو(2/350)
حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36] ، قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39] ، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه! فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر بتفاصيل وقيود، أعرضت عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره]. من هنا ابتدأ المصنف في الكلام على الإيمان، ويعرف هذا الفصل بأسماء الإيمان والدين، ومعلوم أن الشرع الشريف جاء إلى هذه الأمة وهم على جهل، ولكنهم يتكلمون بلغة فصحى عربية، فخاطبهم بلغتهم، وجاءهم بهذه الشريعة وشرع لها أسماء وعرفها، وأصبحت معروفة بأسمائها الشرعية، ولو كان لها أسماء لغوية، فعرفت هذه بأسماء الإيمان والدين، فيقال: تعريف الصلاة في اللغة: الدعاء، وتعريفها في الشرع: العبادة المشتملة على القيام والقعود والركوع والسجود، وتعريف الزكاة في اللغة: النماء أو الطهارة، وتعريفها في الشرع: القدر المخرج من المال الذي ينفق في وجوهه، وتعريف الصيام في اللغة: مجرد الإمساك، وفي الشرع: الإمساك بالنية عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وتعريف الحج في اللغة: القصد إلى شيء معين، وفي الشرع: زيارة البيت الحرام في وقت مخصوص من إنسان مخصوص، وتعريف الجهاد في اللغة: بذل الجهد والوسع في الشيء الذي يكون فيه مشقة، وتعريفه في الشرع: قتال الكفار لأجل كفرهم، وكذلك يقال في تعريف المعروف، وفي تعريف المنكر، وفي تعريف الإسلام والإيمان والكفر والشرك والنفاق والفسوق وما أشبهها، فهذه كلها لها مسميات في اللغة ومسميات في الشرع معروفة، حيث نقل(2/351)
الشارع شيئاً من مسمياتها اللغوية فسمى بها هذه المسميات الشرعية، فأصبحت إذا أطلقت في الشرع لا تنصرف إلى المعنى اللغوي الذي نقلت إليه، فالكلام هنا على الإيمان، والإيمان له معنى واسم في اللغة، وله معنى واسم في الشرع، نقله الشرع إليه وأصبح إذا أطلق على أهله، قصد به المؤمنون الشرعيون، لا المؤمنون اللغويون. ......
تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً
…
الإيمان في اللغة: هو التصديق، ومن ذلك قول الله تعالى حكاية عن إخوة يوسف لما أخبروا أباهم بأن الذئب أكل أخاهم، فقالوا بعد ذلك: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17] أي: بمصدق لنا، فالإيمان في اللغة: التصديق. لكن الشرع الشريف جعله أعم من التصديق، فأدخل فيه العقيدة، وأدخل فيه الأقوال، وأدخل فيه الأعمال، وعلى ذلك بنى الأئمة رحمهم الله هذه الأصول، فنجد أن المؤلفين من العلماء عملوا على ذلك، فالإمام البخاري في صحيحه جعل كتاب الإيمان في المقدمة بعد بدء الوحي، وأورد فيه الأدلة، فقال: باب: الصلاة من الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان.. وهكذا عدد الأعمال الصالحة، وجعلها من الإيمان كأركان الدين كلها. وتجدون مسلماً رحمه الله بدأ كتابه بعد المقدمة بكتاب الإيمان، وأورد فيه الأحاديث الكثيرة التي تبين الإيمان، وتبين ما يدخل فيه. فالإيمان إذا أطلق فإنه هو المسمى الشرعي، فمن لم يكن على هذا فلا يقال له: مؤمن، ولا يثاب ثواب المؤمنين.
الأحكام المترتبة على تحقق اسم الإيمان
…(2/352)
يترتب على التسمية بالمؤمن أحكام، منها: أن من آمن عصم نفسه من القتل، وأن من آمن أحرز الثواب واستحقه، وأن من آمن اعتقدناه من إخواننا من المؤمنين وعاملناه على أساس ذلك. ولابد من أجل تحقق هذه الأحكام أن يؤمن المرء الإيمان الشرعي، ليس الإيمان اللغوي؛ لأن الإيمان اللغوي خفي، وهو شيء في القلب، ونحن لا نشق عن القلوب، وإنما نعمل بما يظهر لنا، فإذا رأينا الإنسان يصلي ويصوم معنا، ويجاهد، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويترك المحرمات والمشتبهات، ويستكثر من الأعمال الصالحات؛ قلنا: هذا من أهل الإيمان.. وهكذا.
تعريف جمهور أهل السنة للإيمان وما ينبني عليه
…(2/353)
الأقوال التي ذكرها الشارح في تعريف الإيمان منها ما هو صواب ومنها ما هو خطأ، فالصواب: هو القول الأول، الذي هو قول أهل الحديث، وقول أكثر الأئمة، فقد ذهب إليه الإمام مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري والأوزاعي وأئمة الحديث كالبخاري ومسلم ، وأهل السنن، وسائر المحدثين، وأكثر المتكلمين، وسلف الأمة، وهذا القول الصحيح هو: أن الإيمان يدخل فيه قول اللسان، وعقيدة الجنان، وعمل الأركان. فيقولون: هو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان. والأركان هي: الجوارح، فالعينان لهما عمل، والأذنان لهما عمل، واليدان والرجلان والبطن والفرج كلها لها عمل، هذه هي عقيدة أهل السنة. ومن اعتقادهم -أيضاً- أنه يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، ويستدلون على ذلك بأدلة كثيرة سيأتينا بعضها، وأوضح هذه الأدلة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون -أو بضع وستون- شعبة، أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، فقوله: (بضع وستون أو بضع وسبعون) يعم خصال الخير كلها، فيقال: الصلاة من الإيمان، والصوم من الإيمان، والصدقة من الإيمان.. وفيما يتعلق بالكلام يقال: الذكر من الإيمان، والتسبيح من الإيمان، والقراءة من الإيمان، والجهاد من الإيمان، والأمر بالخير والدعوة إلى الله -وما أشبه ذلك- من الإيمان، ويقال في أعمال القلوب: الزهد في الدنيا خوفاً من المشتبهات من الإيمان، والرغبة في الآخرة من الإيمان، والحب في الله والبغض في الله من خصال الإيمان.. وما أشبهها. جاء في الحديث: (أعلاها: قول: لا إله إلا الله) فجعل هذه الكلمة من العقيدة، وهي كلمة التوحيد، وقال: (وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)، وهذا عمل بالأركان، كون الإنسان يميط الأذى عن الطريق ويوسع للمسلمين هذا من عمل البدن، وقال: (والحياء شعبة من الإيمان) والحياء عمل قلبي، فذكر القول: لا إله إلا الله، وذكر(2/354)
العمل: إماطة الأذى، وذكر الحياء الذي هو خلق قلبي، يحمل على ما يجمل ويزين، وينهى عن كل ما يدنس ويشين. إذاً: تدخل الأعمال كلها في مسمى الإيمان؛ ولأجل ذلك اهتم العلماء بشعب الإيمان، فصنف الإمام البيهقي كتاباً كبيراً سماه: شعب الإيمان -يعني: خصال الإيمان- وطوله، وأورد فيه الأحاديث الكثيرة بأسانيدها، واختصره بعض المؤلفين في مختصر مطبوع اسمه مختصر شعب الإيمان، وأوصله إلى تسع وسبعين أو ثمان وسبعين خصلة، وجعل منها الأعمال اليدوية والبدنية ونحوها، ومنها: إماطة الأذى عن الطريق وما أشبهها. فعرفنا بذلك أن هذا القول هو الأقوى، وعليه الأدلة.
تعريف الحنفية للإيمان
…
القول الذي ذكره الشارح عن أصحابه رحمهم الله هو الذي اشتهر عن الحنفية، وأبو حنيفة رحمه الله كان من المتقدمين، وكأنه لم يتوسع في الأدلة؛ ولأجل ذلك أخذ الإيمان على أنها كلمة لغوية، فجعل الإيمان هو التصديق بالقلب، وجعل القول علامة عليه، أو جعل القول منه، فالإيمان عند أبي حنيفة له ركنان: القول، والاعتقاد، ولم تكن الأعمال عنده من الإيمان، ولا شك أن هذا قول خاطئ، وفيه نقص كما سيأتي.
تعريف الكرامية للإيمان
…(2/355)
هناك أقوال أخرى في الإيمان مرت الإشارة إليها، ولكنها أقوال باطلة، ومن هذه الأقوال: قول الماتريدية بأن الإيمان إنما هو العقيدة، وأن القول إنما هو من آثاره. وأما الكرامية فالإيمان عندهم هو القول. والكرامية هم أتباع محمد بن كرام ، وكانوا في باب الإيمان بالصفات أقرب إلى أهل السنة، ولكن لهم قول في الإيمان غريب! وهو أن الإيمان هو القول، أي: هو الكلمة والتلفظ، ولازمه أن المنافقين عندهم مؤمنون؛ لأنهم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، ومعنى هذا أنهم مؤمنون، حتى ولو كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم! والله تعالى قد أثبت أن المنافقين كافرون في قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون:3] ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء:137] هؤلاء هم المنافقون، فالمنافقون الذين يقولون بألسنتهم: آمنا؛ مؤمنون عند الكرامية! ولكن الكرامية يقولون: إنهم مع ذلك في النار؛ لأن الله توعدهم في قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، وبالآيات التي فيها الوعيد الشديد لهم، فهم يقولون: إنهم في النار، وقولهم: آمنا غير عاصم لهم عن العذاب، وبكل حال فقد جعلوهم مؤمنين، وهذا قول خاطئ.
تعريف الجهمية للإيمان وما ينبني عليه
…(2/356)
قول الجهمية في الإيمان هو أبعد الأقوال، فهم يقولون: إن الإيمان هو المعرفة فقط، فمن عرف فهو مؤمن، وهذا القول يلزم منه أن كل من عرف ولو لم يتبع المعرفة بإيمان يصير مؤمناً كامل الإيمان عندهم، والله تعالى قد ذكر أن إبليس -وهو أكفر الكافرين- يعرف أن الله ربه، ويعرف أن هناك بعثاً، وأن هناك جزاءً، وأن هناك جنة وناراً، وقد خاطبه الله بقوله: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف:18] ، فهو عارف، إذاً: فهو عند الجهمية مؤمن يستحق الوعد الذي وعد الله به المؤمنين! وكذلك فرعون قد أخبر الله أنه عارف، قال الله تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا [النمل:14] يعني: آيات موسى، وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14] ففرعون وقومه كانوا مستيقنين بها، وكذلك قول موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الإسراء:102] (علمت) أي: يا فرعون! ففرعون عندهم مؤمن كامل الإيمان، يستحق ما يستحقه أهل الإيمان الكامل. أيضاً: كثير من الكفار -على قولهم- كانوا مؤمنين، قال الله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26] ، قيل: إنها نزلت في أبي طالب ، فقد كان يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، وكان ينهى عن أذاه، لكن كان ينأى عن اتباعه، وقيل: نزلت في الكفار كلهم؛ لأنهم يعرفون صدقه، وكانوا يسمونه بالصادق الأمين، وبكل حال فإن أبا طالب -كما سمعنا- مصدق بأن محمداً رسول، وبأنه صادق، وقد ظهر تصديقه في هذه الأبيات: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً يقول: لولا أن يلومني زملائي وأصدقائي، ويقولون: إنك تركت دين آبائك، وجلبت على أبيك عبد المطلب وآبائك وأسلافك المسبة، لولا ذلك لسمحت به ولاتبعته، فهذا ونحوه دليل على أنه كان عارفاً، وهل نفعته هذه المعرفة؟ ما نفعته. إذاً: الإيمان على(2/357)
قولهم يعم هؤلاء، فهم مؤمنون عند الجهمية! فما هو الكفر عند الجهمية؟ يقولون: الكفر هو الجهل بالله. فيقال لهم: أنتم أجهل الناس بالله، حيث جعلتموه الوجود المحض، دون أن تجعلوا لله صفات أو تجعلوا له أسماء، فهم جحدوا أسماء الله وجحدوا صفاته، ولم يصفوه إلا بأنه موجود، قيل لهم: موجود قديم أو موجود كذا؟ فيقولون: موجود فقط، فلا شك أن هذا هو غاية الجهل، فقد شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرون حيث جعلوا الكفر هو الجهل، وأي جهل أكبر من جهل هؤلاء الجهمية؟!
ترجيح الشارح أن الخلاف بين أهل السنة وأبي حنيفة في تعريف الإيمان خلاف لفظي
…(2/358)
قال الشارح رحمه الله: [وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله كما تقدم، أو بالقلب واللسان دون الجوارح، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، أو باللسان وحده، كما تقدم ذكره عن الكرامية. أو بالقلب وحده، وهو إما المعرفة كما قاله الجهم أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله. وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر. والخلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه؛ نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد. والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً. والاختلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بـ(القول): التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل. لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع]. الشارح رحمه الله حنفي المذهب، ومعلوم أنه أراد بتأليف هذا الكتاب تقريب الحنفية إلى مذهب أهل السنة، وذلك لأنه ولو كان حنفياً في الفروع فإنه سلفي في العقيدة، وقد تأثر بشيخه ابن كثير رحمه الله، ابن كثير كان شافعي المذهب، وقد تأثر ابن كثير بابن تيمية وهو حنبلي في باب العقيدة، فكان شافعياً في الفروع، ولكنه في العقيدة على مذهب أهل السنة الذي(2/359)
تلقاه عن شيخه أبي العباس ابن تيمية رحمه الله. فأراد هذا الشارح رحمه الله بشرحه أن يقرب الحنفية إلى مذهب أهل السنة، وشرح هذه العقيدة على مذهب أهل السنة، وبين أن الطحاوي أراد بها قول أهل السنة، وأراد بها ما عليه سلف الأمة، حتى يرد على الذين تمذهبوا بمذاهب باطلة بعد السلف، فأنكروا الصفات، وأنكروا العلو، وأنكروا الرؤية لله حقيقة، وأنكروا الكلام لله حقيقة، وما أشبه ذلك، فتقدم أنه شرح هذه الأشياء وبين أن القرآن حروفاً ومعاني كلام الله، رداً على الأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله هو المعنى دون اللفظ، وكذلك في مسألة الرؤية: أن الرؤية تكون حقيقة بالبصر، وأنها ليست كما يقول الأشاعرة: مكاشفات ورؤية قلبية، وكذلك بقية المسائل، وكثير من الحنفية يقولون بأقوال الأشاعرة. وبقيت هذه المسألة، وهي: مسألة الإيمان، فقد عجز عن الجمع بين مذهب أهل السنة ومذهب الحنفية في باب الإيمان؛ وذلك لصراحة كلام الطحاوي في أن الأعمال ليست من الإيمان، حيث إن الطحاوي جعل الإيمان فقط هو التصديق والقول، وذلك صريح لا يحتمل أن يؤول، فلم يجد الشارح بداً من أن يجمع بينهما بأن الخلاف لفظي، حيث يقول: إذا كنا متفقين على أن من عمل السيئات لا يخرج من الإيمان، فإنا لا نجعل فعلها مدخلاً في الإيمان أو زيادة في الإيمان، ولا نجعل تركها مخرجاً من الإيمان، ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد) . ومذهب أهل السنة في هذا الحديث أن نقول: ليس هو مؤمن كامل الإيمان، بل هو ناقص الإيمان، ونقول: هو عاص معه أصل الإيمان، ومعه بعض الأعمال المنافية له، فنسميه فاسقاً، ونسميه مؤمناً ناقص الإيمان، ولا نسميه كامل الإيمان، والحديث جاء على هذا، فما دام أننا(2/360)
اتفقنا على أن الأعمال من الإيمان فلماذا نجعل تركها نقصاً في الإيمان لا مخرجاً من الإيمان بالكلية؟ إذاً: لا دلالة في هذا الحديث على أن الأعمال ليست من الإيمان، بل الأعمال من الإيمان، والخلاف ليس لفظياً كما يقوله الشارح، بل الخلاف معنوي، لا شك أنه يترتب عليه معان كثيرة، يترتب عليه أن الفاسق ولو عمل ما عمل يسمى مؤمناً كامل الإيمان؛ وذلك لقول الطحاوي عفا الله عنه: إن أهله في أصله سواء. يعني: التفاوت بينهم إنما هو بالخشية والتقاة، وأما أصل الإيمان فإنهم يتساوون فيه، وعندهم أن إيمان جبرائيل وإسرافيل والملائكة مثل إيمان آحاد الناس، فالناس كلهم على حد سواء في الإيمان، لا تفاوت بينهم، وهذا خطأ، بل الناس متفاوتون في الإيمان. والإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، والصحيح: أن الإيمان يزيد وينقص، وتأتينا أدلة واضحة في أن الإيمان يزيد وينقص. وبكل حال: فالأصل أن الإيمان الذي ذكرنا تدخل فيه الأعمال، فهي من الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم جعلها شعباً، فالشعب: هي القطع التي يتكون منها الشيء، فقوله: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) أي: أن الإيمان يتكون من هذه الشعب، فيقال: الصلاة شعبة من الإيمان، والزكاة والصدقات شعبة من الإيمان، والأذكار شعبة من الإيمان، وحسن الجوار شعبة من الإيمان، والصدق شعبة من الإيمان، وأشباه ذلك، ويقال -أيضاً-: إن للكفر شعباً كما أن للإيمان شعباً، والإيمان يتفاوت، وأهله متفاوتون، فالصحابة إيمانهم الذي في قلوبهم، وكذلك نتيجته التي هي أعمالهم التي عملوها؛ لا شك أنها أقوى وأكبر من إيمان من بعدهم، ومن إيمان الآخرين، فالله تعالى قد أخبر بأن هناك من يشمله اسم المؤمن ولو كان معه نقص، وذلك في قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] يصدق عليه أنه يحرر رقبة من أهل الإيمان ولو كان عاصياً، ولو كان مذنباً، ولكن الإيمان الذي مدح الله أهله ووصفهم بالنجاة في قوله: قَدْ أَفْلَحَ(2/361)
الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] من هم؟ لابد أن يكون لهم صفات معينة، فلو قال: (قد أفلح المؤمنون) واقتصر على هذه الآية لكان المؤمنون هم المصدقون، ولكن الله بين صفاتهم، فقال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:2-3] إذاً هذا من الإيمان، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:4-5] إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:8-9] هذه كلها من الإيمان، وجعلها الله تعالى فروعاً، فإذا كانت هذه صفات المؤمنين فإذاً هذه من الإيمان. وكذلك -أيضاً- يقول الله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58] فالإيمان الذي يكون معه أن أهله يسجدون ويسبحون، وتتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويدعون ربهم خوفاً وطمعاً؛ هو الإيمان الصادق، وهذه كلها صفات المؤمن، فلا يكون المؤمن صادقاً إلا إذا اجتمعت فيه هذه الخصال ونحوها، فعرفنا بذلك أن الإيمان لابد فيه من هذه الأصول، لابد فيه من الأصل الصحيح الصادق الذي هو العمل، والدافع إلى العمل الذي هو التصديق القوي الذي يظهر بالعمل، ويظهر بالكلام، فإذا اجتمع العمل بالأركان والنطق والعقيدة الصادقة كمل الإيمان، وإلا فالإيمان ناقص.
شرح العقيدة الطحاوية [43]
من عقيدة أهل السنة أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وزعم مرجئة الفقهاء وبعض المبتدعة أنه لا يزيد ولا ينقص، وقد رد عليهم العلماء وبينوا فساد قولهم.
مجمل عقيدة أهل السنة في أسماء الإيمان والدين والأقوال المخالفة لهم
…(2/362)
مما تكلم به العلماء في العقيدة: أسماء الإيمان والدين، فعند أهل السنة والأئمة وجماهير السلف أن الإيمان والدين هو قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وأن الأعمال من مسمى الإيمان، هذه عقيدة أهل السنة. وعند أكثر الحنفية: أنه الاعتقاد بالجنان، والإقرار باللسان، ولم يجعلوا الأعمال من مسمى الإيمان، وهذا هو الذي ذكره الطحاوي بناءً على أنه معتقد الحنفية. وذهبت الماتريدية إلى أنه الاعتقاد بالجنان فقط، ولا تدخل فيه الأعمال ولا الأقوال. وذهبت الكرامية إلى أنه مجرد الإقرار باللسان فقط، وإن لم يكن هناك اعتقاد بالجنان، فعلى قولهم فإن المنافقين مؤمنون؛ لأنهم يقرون باللسان، وهم يقولون: المنافقون مؤمنون، ولكنهم مستحقون للوعيد الذي توعدهم الله به ولو كانوا مؤمنين. وذهب الجهم بن صفوان وأتباعه إلى أن الإيمان هو مجرد المعرفة، فعندهم - على هذا الاصطلاح- أن إبليس من المؤمنين، وأن فرعون من المؤمنين، وكذلك الكفار الذين عرفوا صدق النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، كما حكى الله عنهم بقوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام:26] ، وكما سمعنا في نظم أبي طالب أنه كان يعرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يتبعه، فعندهم يكون مؤمناً، وكذلك اليهود يكونون عندهم مؤمنين لقوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] . هذه ملخص الأقوال في مسمى الإيمان، والأصل هو قول أهل السنة، وهو أنه يجمع بين الثلاثة: القلب، واللسان، والأركان. وهو الذي ذكره البخاري في أول كتاب الإيمان من صحيحه، يقول: وهو قول وفعل، وهو إنما نص على القول والفعل، وعلى الزيادة والنقصان، ولم يذكر الاعتقاد؛ لأن الاعتقاد لا خلاف فيه، فلأجل ذلك خصص ووضح أن القول والفعل من الإيمان، ثم أخذ يذكر الأبواب في ذلك، ويقول: باب: الصلاة من الإيمان. باب: رد السلام من(2/363)
الإيمان. باب: أداء الخمس من الإيمان. باب: الصدقة من الإيمان.. وهكذا. وقد أقره على ذلك الذين شرحوا صحيحه من أهل السنة، مثل: ابن كثير الذي شرح أول صحيح البخاري وأقره، وكذلك ابن رجب شرح أول صحيح البخاري وأقره، وأتى عليه بالأدلة، وهكذا الذين شرحوه من أهل السنة، أما الذين شرحوه من غيرهم فإنهم قد وقعوا في بعض التأويلات، مثل: صاحب عمدة القاري، وهو العيني، فإنه حنفي؛ لأجل ذلك أخذ يتأول هذه الأبواب، ويحاول أن تكون على مذهب الحنفية، وشارح الطحاوية الذي نقرأ له حنفي -أيضاً-، وهو علي بن أبي العز ، ولكنه تتلمذ على ابن كثير ، فتأثر به في باب العقيدة، فلأجل ذلك فإنه في باب الأسماء والصفات التزم بمذهب أهل السنة، ولما أتى على هذا الموضع -وكان كلام الطحاوي فيه مخالفاً لمذهب أهل السنة بناء على مذهب الحنفية- لم يستطع أن يجمع بينه وبين قول أهل السنة جمعاً ظاهراً، فحاول أن يجعل الخلاف لفظياً، يعني: أننا إذا جعلنا الإيمان -أصلاً- هو الاعتقاد الجازم، كانت الأعمال من ثمرات هذا الاعتقاد؛ لأن الذي يعمل إنما يحمله على العمل الاعتقاد الجازم، وهذا صحيح؛ إذ إن الإنسان إذا رسخت العقيدة في قلبه انبعثت جوارحه بالأعمال، وأكثر من الصالحات والحسنات والقربات، وإذا ضعفت العقيدة التي في قلبه ضعفت الأعمال عنده، والدوافع التي تدفعه إلى الأعمال الخيرية. ولكن لابد أن نقول: إن هذه الأعمال التي يعملها تسمى إيماناً، وأن الإيمان يزيد ويقوى، وأن كل واحد من هذه الأعمال يوصف بأنه إيمان، فتوصف الصلاة بأنها إيمان، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] نزلت هذه الآية لما صرفت القبلة إلى الكعبة، فقال بعض الصحابة: فما بال صلاتنا إلى بيت المقدس قبل أن تصرف؟ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] يعني: صلاتكم الأولى قبل التعديل لن تضيع، فسمى الصلاة إيماناً. وقد ذكرنا أن(2/364)
النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأعمال كلها من الإيمان في قوله: (الإيمان بضع وستون -أو بضع وسبعون- شعبة؛ أعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، والشعب: هي القطع من الشيء التي إذا تفرقت ضعف، وإذا اجتمعت كمل واستقام، فمعناه: أن هذه الشعب متى اجتمعت في قلب المؤمن وفي عمله أصبح مؤمناً كامل الإيمان، وإذا نقص واحدة نقص إيمانه، وهكذا فإذا ذهبت كلها ذهب الإيمان كله من قلبه. وفي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم كلمة التوحيد من الإيمان، وهي نطق باللسان، وجعل إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، وهي عمل بالأركان، وجعل الحياء من الإيمان، وهو اعتقاد بالجنان، فدخل بذلك كل ما يشبه هذه الأشياء، هذا معتقد أهل السنة. أما معتقد الحنفية فالإيمان عندهم: هو الاعتقاد والقول، وبعضهم جعل الخلاف بينهم وبين أهل السنة لفظياً، والصحيح أنه معنوي؛ وذلك لأن الإنسان إذا لم يعتقد أن الأعمال من مسمى الإيمان ضعف حرصه على الأعمال، ولم يبالِ بالسيئات؛ لاعتقاده أنها لا تنقص الإيمان، وأن الحسنات لا تجلب الإيمان، وأنها ليست من الإيمان؛ فيضعف بذلك حرصه واجتهاده، فلأجل ذلك اهتم أهل السنة بمن يعتقد هذا الاعتقاد، وقربوهم، وقد ذكر عن البخاري أنه قال: رويت في هذا الكتاب عن مائتين وسبعين عالماً، كلهم يقول: الأعمال من مسمى الإيمان. يعني: أنه اختار مشايخه الذين روى عنهم في الصحيح -لا في خارج الصحيح- والذين بلغ عددهم إلى مائتين وسبعين أو نحو ذلك، وكانوا كلهم على هذه العقيدة، يعني: لم يروِ في صحيحه عن الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان، مع كثرتهم في زمانه، وهذا دليل على اهتمام السلف بعقيدتهم، وتحريهم في أخذها، ومعرفتهم بمن هو أهل لأن يروى عنه ومن ليس أهلاً لذلك. ......
عدم تحقق الإيمان بالقول بدون العمل
…(2/365)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق و عمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام!! وهذا غلو منه؛ فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده. ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء. يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى، فمن الناس من نور لا إله إلا الله في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، وآخر كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف. ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذه حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد حرس بالرجوم من كل سارق. ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله) ، وقوله: (لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله) ، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول(2/366)
بالخلود، ونحو ذلك]. القول بأن الأعمال ليست من الإيمان يحتج أهله بأنهم إذا حققوا الاعتقاد نتجت عنه الأعمال وأثمرت، وقد يستدلون بعطف الأعمال على الإيمان في مثل قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227] . والجواب: أن المراد بالإيمان هنا: أصله، والمراد بالأعمال: نتيجته وثمرته، أو المراد أكثروا من الأعمال الصالحة، وبكل حال فالأعمال لابد أنها داخلة في الإيمان؛ وذلك لأن الإيمان -الذي هو قوة اليقين وقوة التصديق- له علامات وله آثار وله ثمار، ومن أرفعها وأعلاها: ظهورها على بدن صاحبها. فنقول على هذا: كلها إيمان، فإذا رأيناه يغض بصره عن الإثم وعن العورات، قلنا: هذا هو الإيمان، وإذا رأيناه يصون سمعه عما لا يحل؛ قلنا: هذا هو الإيمان، وإذا رأيناه يحفظ لسانه عن الكلام القبيح والسيئ، أو سمعناه يتلفظ بالذكر وبالدعاء وبالنصح وبالتعليم؛ قلنا: هذا هو الإيمان، يعني: ظهر الإيمان عليه، وإذا رأينا زهده وورعه، وتقلله من المشتبهات، وبعده عن الآثام، قلنا: هذا هو الإيمان، أو هذا هو المؤمن، وأشباه ذلك. وأما الأدلة التي وردت في نجاة أهل التوحيد -أهل كلمة الإخلاص- كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) ، وقوله: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) وأخبر عن شفاعته في يوم القيامة أنها تنال من قال: (لا إله إلا الله) خالصاً من قلبه، وأشباه ذلك، هذه الأحاديث تمسك بها أهل الإرجاء -الذين غلبوا جانب الرجاء- فقالوا: إنه يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، ويكفي أن ينوي الإخلاص، ولا يشترط أن يعمل، ولا يشترط أن يكف عن السيئات، حيث لم يشترط ذلك في هذه الأحاديث. ولكن هذا القول خاطئ، والصواب: أن من قالها فإنه لابد أن يعمل بموجبها؛ فإن لا إله إلا الله قد قيدت بالقيود الثقال، ولها شروط سبعة(2/367)
ذكرت في قول الشاعر: علم يقين وإخلاص وصدقك مع محبة وانقياد والقبول لها وبعضهم زاد شرطاً ثامناً، ونظمه بقوله: وزيد ثامنها الكفران منك بما سوى الإله من الأنداد قد ألِهَ فما دام أن هذه الشهادة قد قيدت بهذه القيود فلابد أن يتبعها العمل، وإلا فلا يكون القول صادقاً، وعرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بنجاة أهل هذه الكلمة، فإنما أراد أهلها الذين تقع في قلوبهم موقعاً ينتج عنه أثر ونتيجة، وهذا الأثر هو العمل، فإذا قالوا: لا إله إلا الله، أي: لا معبود إلا الله؛ عبدوه بكل أنواع العبادة، فذلك هو التأله، وتركوا معصيته، وذلك -أيضاً- من التأله، وأعرضوا عما سواه، وذلك -أيضاً- من التأله له وترك التأله لغيره، فأما إذا لم يعبدوه فلا يصدق عليهم أنهم اتخذوه إلهاً، وكذلك إذا لم يؤدوا حقوق عبادته كلها لم يصدق عليهم أنهم اتخذوه إلهاً. وأما الذين قالوا: إن هذه الأحاديث في كلمة (لا إله إلا الله) محمولة على أول الأمر، فيقول بعض العلماء: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) -ونحو ذلك- محمول على من دخل في الإسلام لأول مرة، فإنه يكف عنه، ولكن بعد ذلك ينظر في حاله: فإن استمر في العمل بمعنى لا إله إلا الله يكف عنه كفاً تاماً، وإن لم يستمر في العمل بها، ولم يؤدِ حقوقها؛ فحينئذ يعود إلى ما كان عليه، فيقاتل عليها؛ لأنه قالها ولم يعمل بها. وهناك من حمل قوله: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه) ، أو (حرم الله على النار من قال: لا إله إلا الله) على أن المراد نار الكفار، يعني: التي يخلدون فيها. يعني: أنه وإن دخل النار فإنه لا يخلد فيها، أو لا يدخل نار الكفار، وهذا خلاف ما في الأحاديث المطلقة. فإذاً: نحمل أحاديث الرجاء -التي فيها النجاة لأهل لا إله إلا الله- على أن المراد: من قالها صادقاً من قلبه، وانطلقت جوارحه بالعمل بمقتضاها،(2/368)
فأنت إذا دعوت إنساناً إلى لا إله إلا الله، فنطق بها، وقال: أقول: لا إله إلا الله، وأقول: إن محمداً رسول الله. فطالبه بعد ذلك بمعناها، قائلاً له: ما معنى الإله؟ أليس الإله هو المألوه أو المعبود؟ نطالبك بأن تعبده، وأنت أقررت بأنه المستحق للعبادة، فأين العبادة؟ من العبادة أركان الإسلام.. من العبادة واجبات الإسلام.. من العبادة مكملات الإسلام.. من العبادة ترك المحرمات في الإسلام، طالبه بمعنى ذلك، وقل: هذا هو التأله، إن أتيت بذلك فأنت صادق، وإلا فأنت منافق؛ لأن الذي يقولها ثم لا يعمل بها شبيه بالمنافقين؛ فإن المنافقين يقولونها ليحموا بذلك أموالهم وأبدانهم، أما المؤمنون فإنهم يقولونها ويطبقونها.
تفاوت قوة الإيمان بتفاوت قوة الاعتقاد وكثرة الأعمال
…(2/369)
قال الشارح رحمه الله: [والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب. وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار. وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان، التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته -وهو في تلك الحال- أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت! وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية؛ فغفر لها. وهكذا العقل أيضاً، فإنه يقبل التفاضل، وأهله في أصله سواء، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض. وكذلك الإيجاب والتحريم، فيكون إيجاب دون إيجاب، وتحريم دون تحريم، هذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب]. عرفنا أن كلمة (لا إله إلا الله) لابد أن يعمل بها، وأن الذين يقولونها ولا يعملون بها هم المنافقون، وهم في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار؛ وذلك لأنهم أخلوا بشرطها؛ وهو: العمل والتطبيق، أو أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فلم تنفعهم هذه الكلمة إلا نفعاً دنيوياً، وذلك بأن حقنوا بها دماءهم، وأحرزوا بها أموالهم، فلما أظهروا أمام الناس أنهم مؤمنون -والله مطلع على ما في قلوبهم- لم تنفعهم هذه الكلمة التي ما صدرت عن اعتقاد، ولم يعملوا بها حق العمل. إذاً: أهل الإيمان حقاً هم الذين يقولونها ويعملون بمقتضاها، وتصدر عن قلوبهم، وتطمئن قلوبهم بمدلولها، ويعرفون معناها. وهم -بلا شك- متفاوتون في هذه القوة، وذلك بحسب كثرة الأدلة، وبحسب كثرة(2/370)
الأعمال، فكلما كثرت الأعمال الصالحة قوي الإيمان في القلب؛ ولأجل هذا نقول: إن الأعمال من مسمى الإيمان، وإنها تزيد الإيمان، وإن السيئات تنقص الإيمان، وكذلك ترك الصالحات ينقص الإيمان. وإذا كان الإيمان يتفاوت، فإن قدره في القلب يتفاوت، والإيمان الذي على الأبدان يتفاوت، وقد مثل الشارح الإيمان الذي في القلب بالبصر الذي في العين، وقال: الناس يتفاوتون في الإبصار، فبالرغم من أنهم كلهم مبصرون؛ إلا أن بعضهم أقوى بصراً من بعض، فبعضهم يرى الشخص من بعيد -من مسيرة ثلاثة أو أربعه أميال- فيعرف شخصه، وبعضهم لا يعرفه ولو كان بينه وبينه خمسة أمتار أو نحوها، وبعضهم يقرأ الخط الدقيق بدون نظارة ونحوها، وبعضهم لا يقرؤه إلا إذا كان كبيراً، كما هو مشاهد. واختلاف الناس في البصر يماثله اختلافهم في العقل، إذ يتفاوت الناس فيه، فمنهم من يكون فطناً ذكياً، ومنهم من يكون في غاية البلادة والغباوة، ومنهم من يكون بين ذلك. وإذا كان التفاوت حاصلاً في هذين الأمرين، وهما من خلق الله تعالى وتدبيره، فنقول: كذلك الإيمان الذي في القلب يقوى في حق أهل الإيمان القوي الذين تكاثرت الأدلة عليهم فرسخ بها الإيمان في قلوبهم، وآخرون ضعف الإيمان في قلوبهم بقلة الأدلة أو بعدم تأملها، لأجل ذلك فإن البعض من أهل الإيمان إذا جاءته شبهة أو دعاه داع إلى الضلال أو إلى الردة ترك الإسلام، وترك الصلوات، وترك الأعمال، وما ذاك إلا لضعف الإيمان الذي في قلبه؛ وضعف الأدلة التي بنى عليها هذا الإيمان، وبعضهم يكون الإيمان في قلبه أرسى من الجبال، لا تزعزعه الشبهات ولا التشكيكات، ولا الإيرادات التي يوردها عليه دعاة الضلال، فلو أتوه بكل دليل عندهم، ولو ألقوا عليه كل شبهة؛ فإن إيمان قلبه يحرق تلك الشبهات ويزيلها؛ وذلك لأن قلبه مستنير، وقد مثل الشارح الإيمان بالنور، فإن القلب إذا كان فيه إيمان فإن فيه نوراً، وأنتم تعرفون تفاوت الأنوار، فمنهم من يكون(2/371)
النور الذي في قلبه كنور الشمس الذي يضيء على الدنيا، ومنهم من يكون كنور القمر، ومنهم من يكون كالسرج القوية، ومنهم من يكون كالشمعة الضعيفة أو ما أشبهها، وقوة النور تتوقف على المواد التي تمد ذلك النور، فكذلك النور في القلب ما الذي يمده؟ لا شك أن الذي يمده الأدلة من آيات الله تعالى، ومن مخلوقاته، ومن أحكامه وشرائعه، ومن المعجزات التي جرت على أيدي رسله وعلى أيدي أوليائه، تواردت على ذلك القلب، فتمكنت ورسخت فيه، فصار لا حيلة لأحد في تضعيفها ولا إزالتها. فإذا رأيت إنساناً إيمانه ضعيف فإنك تجده قليل الأعمال، كثيراً ما يترك الصلوات أو يتكاسل عنها، ويرتكب بعض المنهيات ونحو ذلك، كيف السبيل إلى إنقاذه؟ السبيل إلى ذلك أن تحثه على ما يقوي إيمانه، بأن تكرر عليه الأدلة والآيات والبراهين التي تصل إلى قلبه، وتكرر عليه ما يبطل الشبهات التي امتلأ بها قلبه، فإن لم تقدر على ذلك فأرشده إلى ما يقرؤه أو ما يسمعه من النشرات، أو من الكتب والمؤلفات التي تحتوي على براهين وآيات ودلالات واضحات، وبذلك يقوى الإيمان في قلبه، وتزول تلك الأسباب التي تضعفه، فعند ذلك ينبعث بدنه وأعضاؤه وجوارحه بالأعمال الصالحات، فلا ينظر إلا نظر إيمان، ولا يسمع إلا سماع إيمان، ولا يتكلم إلا كلام إيمان، ولا يهم بقلبه إلا بما هو إيمان، ولا يمشي إلا إلى إيمان، ولا يعمل بيديه إلا ما هو إيمان، ولا ينفق ماله إلا فيما هو إيمان.. وهكذا. فهذا ونحوه من ثمرات الإيمان الذي هو أصل في القلب، ثم بعد ذلك ينبعث على الجوارح.
الأدلة العقلية والنقلية على زيادة الإيمان
…(2/372)
قال الشارح رحمه الله: [وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل: فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله. وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح: فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المخبر كالمعاين) ، وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبَر -وإن جزم بصدق المخبِر- قد لا يتصور المخبَر به نفسه كما يتصوره إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل -صلوات الله على نبينا محمد وعليه-: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]. وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة -مثلاً- يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل. وكذلك الرجل أول ما يسلم، إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان]. من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان -الذي في القلب، والذي في اللسان، وعلى الجوارح- يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة، قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] ، كيف زادهم إيماناً؟ أي: تصديقاً بخبر(2/373)
الله، وعملاً بآثار ذلك التصديق، فالله أخبرهم بأنه ينصرهم، وبأنه لا يخذلهم، فلما جاءهم هذا الخبر ما زادهم إلا تصديقاً بالله تعالى وبخبر الله، فدل ذلك على أن الإيمان يزيد، وكل ما هو قابل للزيادة فهو قابل للنقص. وقال تعالى في سورة الأنفال: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] فسمعاها أو قراءتها تزيدهم إيماناً يعني: أنهم يعملون بها، ويصدقون بها، ويعرفون مدلولها، فيكون ذلك زيادة في أعمالهم. وقال تعالى في سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] ، السكينة التي أنزلها في قلوبهم: الطمأنينة إلى خبر الله وخبر رسوله، والثقة بأنه ينصر من نصره، كما في الآيات الأخرى، فهذه الثقة زادتهم إيماناً؛ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فدل على أنهم كانوا مؤمنين، وأن هذه السكينة زادتهم إيماناً إلى إيمانهم، ولا شك أنها زيادة محسوسة بحيث زادت أعمالهم، وكثرت حسناتهم، وقلت سيئاتهم، فيكون ذلك من أسباب زيادة الحق والإيمان. هذه بعض الأدلة على زيادة الإيمان، والشارح يقول: إن الزيادة هي زيادة الأعمال، يعني: أن الذي عمل بالشريعة أول ما نزلت عمل بأعمال قليلة، ولما زادت الشرائع زادت أعماله، ومعلوم أن الذين أسلموا بمكة في أول الإسلام ما فرضت عليهم الطهارة ولا الصلاة ولا الصوم ولا الصدقة ولا الجهاد، وما فرض عليهم من أركان الإسلام إلا الشهادتان، حيث بقوا عشر سنين قبل أن تفرض عليهم الصلاة، أما الذين أسلموا في سنة ثمان من الهجرة فقد أسلموا بعد أن تمت شرائع الإسلام، فصاروا يصلون ويزكون ويصومون ويجاهدون ويحجون ويعلمون ويعملون ويتعلمون القرآن ويقرءونه، فأعمالهم أكثر من أعمال الأولين الذين اقتصروا على التوحيد وعلى الإخلاص، فهذا دليل على تفاوت الإيمان بكثرة الأعمال، وهذه وجهة لبعض العلماء في زيادة الإيمان:(2/374)
أن المراد بها: زيادة الأعمال وكثرتها. ومثل الشارح بمن بلغته الشريعة فآمن بها، ولم تبلغه تفاصيلها كالنجاشي ملك الحبشة، فإنه لما أسلم لم تبلغه تفاصيل الشريعة من أركان الإسلام والمحرمات في الدين، وكذلك ما سمع من القرآن إلا بعضه، ولم يعمل به كله، فإيمانه بحسب ما وصل إليه من الأركان ومن الأحكام، فهو أقل نسبياً من الذين حضروا التنزيل فآمنوا به مفصلاً، وعملوا به عملاً كاملاً، فهؤلاء أكثر عملاً، فهم أقوى إيماناً وأزيد، هكذا فسر بعض العلماء الزيادة بكثرة الأعمال.
التصديق الذي في القلب يتفاوت
…(2/375)
التصديق الذي في القلب يتفاوت، فقد عرفنا خبر صاحب البطاقة الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يدعى وله تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، مكتوب فيها سيئاته، لا يدرك أعلاه البصر؛ فيعترف بذلك كله، ثم يخرج له بطاقة صغيرة مكتوب فيها الشهادتان، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة؛ لماذا؟ لأن هذه الشهادة صدرت من صميم قلبه، صدرت وهو موقن بها يقيناً صادقاً وإيماناً قوياً، فلما قالها بهذه النية وبهذه العقيدة محت جميع ما سبقها، وكفرت السيئات كلها، وأحرقتها إحراقاً مزيلاً لأثرها، فلم يبق لها جرم تزن به، فكانت هذه الشهادة هي التي ثقلت بتلك الأعمال. واستدل الشارح بقصة الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً، ثم سأل: هل له من توبة؟ فأفتاه عابد بأنه لا توبة له، فقتله وتمم به المائة، ثم سأل بعد ذلك فدله العالم على قرية بها أناس صالحون، فجاء إليها مهاجراً فاراً بدينه، فأدركه الموت وهو في الطريق، فلما أدركه الموت كان من محبته لتلك القرية أن أخذ ينأى بصدره ويقرب إليها، فكان فعله هذا دليلاً على قوة إيمانه وقوة تصديقه؛ مما جعله يلحق بأهل تلك القرية وتقبل توبته، فهذا دليل على أن الإيمان إذا كان قوياً في القلب ظهرت آثاره وظهرت علاماته. واستدل -أيضاً- بقصة امرأة بغي -يعني: زانية- كانت تكثر من الزنا، ثم إنها تابت، ولما رأت كلباً يلهث على ركية يكاد يموت عطشاً، نزعت موقها -يعن: خفها- وملأته ماءً وسقت ذلك الكلب، فشكر الله لها فغفر لها، وذلك دليل على أن رحمتها بهذه البهيمة ورجاءها من الله المغفرة هو الذي حملها على ذلك، فتعلق قلبها بربها أنه الذي يثيبها على هذا العمل، فكان هذا العمل الصادق الخالص نابعاً من إيمان قوي وتصديق ثابت، فأصبح مكفراً لهذه السيئات التي سبقت. وبكل حال: فالأعمال التي تكون على البدن، إذا كان البدن عاملاً بها زاد الإيمان الذي في القلب،(2/376)
وزاد الإيمان الذي هو من مسمى الإيمان، فإن تكلم بكلمة من الخير زاد إيمانه، وإن تكلم بكلمة شر أو سوء نقص إيمانه، وإذا أنفق لله تعالى درهماً أو ديناراً أو شيئاً يبتغي به وجه الله زاد إيمانه، وإن أنفقه فيما يسخط الله من لهو وباطل وكفر وضلال نقص إيمانه، وإن مشى خطوات إلى ذكر وإلى مسجد وإلى علم وإلى عبادة من العبادات زاد إيمانه، وإن مشى خطوة أو خطوات إلى لهو وباطل ولعب ومعصية من المعاصي وما أشبهها فمشيه هذا ينقص إيمانه. ومعلوم أن الصلوات تزيد الإيمان، وأن أكل الحرام ينقص الإيمان، وأن النكاح الحلال بالنية يزيد الإيمان، والنكاح الحرام ينقص الإيمان، وكذلك الكسب الحلال والنفقة منه يزيد الإيمان، والكسب الحرام والنفقة منه ينقص الإيمان، ويقال كذلك في الكلام السيئ والكلام الحسن: فالذكر بأنواعه والدعاء والأمر بالخير وتعلم العلم وتعليمه يزيد به الإيمان، وتعلم الباطل والسوء والكلام السيئ والسباب والشتائم ونحوها ينقص الإيمان.. وهكذا. فعلى المسلم أن يتفقد نفسه ويتفقد أعماله، ويحرص على أن يكون في زيادة لا في نقصان.
الفرق بين لفظ (التصديق) و(الإيمان) فيما يتعلق بخبر الغيب والشهادة
…(2/377)
لا يستعمل بدل كلمة الإيمان التصديق، والدليل عليه قوله تعالى في سورة العنكبوت: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] ، مع أن التصديق يتعدى بـ(الباء)، فيقال: صدقت به، ولا يقال: صدقت له. وأنت حين تتكلم عن شخص تقول: صدقت فلاناً، وصدقت بخبره، ولا تقول: صدقت له، فكذلك قوله: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ [يونس:83] (آمن لموسى) ولم يقل: فما آمن به؛ لأن المراد: اتبعوه وعملوا بما جاء به، فهذا دليل على أن الإيمان أصبح مغايراً للتصديق، وليس مرادفاً له، فعرف بذلك أن الاستدلال بأن الإيمان في اللغة: هو التصديق، لا يصلح دليلاً على أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان. قال الشارح رحمه الله: [فالحاصل أنه لا يقال: قد آمنته، ولا صدقت له. إنما يقال: آمنت له، كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بـ(أقررت)، أقرب من تفسيره بـ(صدقت)، مع الفرق بينهما؛ لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب، يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال له: كذبت. فمن قال: السماء فوقنا. قيل له: صدقت. وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب، فيقال لمن قال: طلعت الشمس: صدقناه، ولا يقال: آمنا له، فإن فيه أصل معنى الأمن والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبِر، ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ (آمن له) إلا في هذا النوع. ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق، وإنما يقابل بالكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك؛ لكان كفراً أعظم، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط، ولا الكفر هو التكذيب فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فكذلك الإيمان، يكون تصديقاً وموافقة وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان. ولو سلم الترادف فالتصديق يكون(2/378)
بالأفعال أيضاً، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العينان تزنيان، وزناهما النظر، والأذن تزني، وزناها السمع -إلى أن قال:- والفرج يصدق ذلك ويكذبه) . وقال الحسن البصري رحمه الله: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال). ولو كان تصديقاً فهو تصديق مخصوص كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص، وصفه وبينه. فالتصديق -الذي هو الإيمان- أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص، من غير تغير اللسان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق. ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه من لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم. ونقول: إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة، وتخرج عنه أخرى، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة، لكن الشارع زاد فيه أحكاماً، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي، فهو حقيقة شرعية، مجاز لغوي، أو أن يكون قد نقله الشارع، وهذه أقوال لمن سلك هذا الطريق]. كل هذا من البيان والإيضاح للفرق بين التصديق والإيمان، وأنهما ليسا مترادفين من كل جهة، ولو كانا مترادفين في اللغة فإنهما غير مترادفين في الشرع، فمعلوم أن التصديق ضده التكذيب، يقال: صادق أو كاذب، ويقال: صدقته أو كذبته، فالتصديق ضده التكذيب. أما الإيمان فليس ضده التكذيب، بل ضده الكفر، فيقال: آمن أو كفر، مؤمن وكافر، فأصبح له ضد غير التصديق، فدل على أنه ليس هو التصديق من كل جهة، والذين قالوا: الإيمان والتصديق معناهما واحد، يقال لهم: قد دلت اللغة على التفريق بينهما كما في الأمثلة التي ذكرها الشارح، فإذا قال: طلعت الشمس. قيل: صدقت، أو(2/379)
كذبت. ولا يقال: آمنت به، ولا آمنا بخبره، بل يقال: صدقناه، وأصبح الإيمان اسماً للإيمان بالشيء الغائب؛ لأن الله أخبر بذلك في قوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] أي: يجزمون به ويعتقدونه وإن كان غائباً لم يروه... إلى آخر ما ذكره الشارح. وبكل حال: فالإيمان في الأصل وفي اللغة: هو التصديق، ولكن نقله الشارع من اللغة، وجعله مسمى شرعياً، فأصبحت الأعمال من مسمى الإيمان، فمن آمن باللسان، وصرح بسب الدين، وبسب الله، وبسب الرسل، وبكلمات الكفر -ونحو ذلك- وهو مع ذلك يدعي أو يزعم أنه من أهل الإيمان، وأن قلبه مؤمن؛ لم نصدقه في ذلك، بل عاملناه بما يقول؛ وذلك لأنا نعمل بالظاهر، كما روي (أنه صلى الله عليه وسلم استأذنه رجل في قتل بعض المنافقين، فقال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: يشهد، ولا شهادة له. قال: أليس يشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: يشهد، ولا شهادة له. قال: أليس يصلي؟ قال: يصلي، ولا صلاة له. قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم) يعني: أنه أمر بأن يعمل بالظاهر. ولما استأذنه خالد بن الوليد أن يقتل ذا الخويصرة الذي قال: (اعدل يا محمد! فقال: ألا نقتله؟ قال: لعله يصلي. فقال: وكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) يعني: أننا إنما نعامله بما يظهر منه، فلأجل ذلك إذا قال بعضهم: إن قلبي ممتلئ إيماناً، إن قلبي مؤمن. قلنا له: صدق هذا الإيمان بعلامة عليه وهو العمل، فإنه من مكملاته، فإذا لم تعمل، بل خالفت ما تقوله بما تعمله كذبناك، ولم نقبل قولك، فلو كنت صادقاً لعملت، كيف تزعم أنك تحب الله وتحب الرسول وتحب الشريعة والإسلام، ومع ذلك لا تأتي بعلامة على هذه المحبة؟! تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا عجيب في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع والأثر الذي روي عن الحسن مشهور، وهو أنه قال: (ليس الإيمان(2/380)
بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال)، فنفى أن يكون بالتحلي، يعني: الحلة الظاهرة كاللباس أو الهيئة أو الشعور أو المظهر أو المقال أو السكنى فيما بين المسلمين أو نحو ذلك، وكذلك التمني، يعني: الألفاظ، يقول: أنا مؤمن، أنا من أهل الإيمان، ويمدح بذلك نفسه، ليس ذلك هو حقيقة الإيمان، الإيمان في الحقيقة هو ما امتلأ به القلب، ثم ظهرت آثاره على الأعمال، أي: صدقته الجوارح بأعمالها.
من استكمل خصال الإيمان استكمل إيمانه
…(2/381)
الإيمان الذي يكون في القلب، ويكون في البدن، هما ملازمان، وكذلك الذي يكون باللسان، والذي يكون بالأركان هما متلازمان، وكلاهما من خصال الإيمان، فمن استكملها استكمل الإيمان، كما ذكر ذلك البخاري عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: (إن للإيمان شروطاً وخصالاً وخصائص، من استكملها استكمل الإيمان، ومن أخل بها نقص منه الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص)، هذا كلام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ولا شك أنه أخذ ذلك عن الصحابة، فهو عرف أن الإيمان لا يكفي فيه الانتماء والتسمي، فله شروط، وله مكملات، وله آثار، وله أعمال، فلابد أن المؤمن يأتي بها ويستكملها؛ حتى يكتب بذلك مؤمناً حقاً. فهكذا يكون المؤمنون الذين لا يفرقون بين الله ورسله، ولا يردون شيئاً من شريعته، هؤلاء هم المؤمنون حقاً. وقد عرفنا أن عقيدة أهل السنة أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأنه لا يكون مؤمناً إذا لم يعمل؛ وذلك لأن الإيمان الذي في القلب تظهر آثاره على الأعمال، فالأعمال إيمان كما أن الاعتقاد إيمان، وكما أن الأذكار اللسانية إيمان، وكما أن النفقات في وجوه الخير إيمان، وكما أن الأعمال الخيرية كلها وخصال الخير وخصال الدين كلها من الإيمان، فالكفر له شعب، والإيمان له شعب، فيقال: إن السباب والشتم واللعن من خصال الكفر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، فجعل الأعمال المحرمة كفر، وقال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة)، فجعلها كفراً، أي: من خصال الكفر، فخصال الكفر تسمى كفراً، وخصال الإيمان تسمى إيماناً. والعبد يحرص على أن يجمع خصال الخير كلها حتى يكون مؤمناً حقاً: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:4] ، من الذين يزهد في هذا الثواب كله؟! فالمؤمن يحرص على أن يكون مؤمناً حقاً(2/382)
حتى يحصل له هذا الثواب. كذلك الذين زعموا أن الأعمال ليست من الإيمان، وجعلوا الإيمان مقتصراً على العقيدة وعلى الكلام -كما هو مذهب الأحناف- لا شك أن قولهم فيه خلل، وقد ذكرنا فيما سبق أنهم لما اعتقدوا هذه العقيدة ضعف قدر الإيمان الذي في قلوبهم، فصاروا يكتفون بما في القلب وبما في اللسان، ولا يعدون الأعمال من مسمى الإيمان، فيضعف تنافسهم في الخيرات، ولا يبالي أحدهم بما ارتكب من السيئات والخطيئات، فيقعون في الذنوب ولا يشعرون، أو يظنون أنها لا تنافي إيمانهم، أو أنها لا تنقص ثوابهم، وكذلك يزهدون في الأعمال الخيرية من الحسنات والقربات وسائر الطاعات، ويظنون أنها لا يكون لها تأثير في إيمانهم ولا في قرباتهم ولا في أعمالهم، فكان ذلك سبباً في نقص تنافسهم في الخيرات. أما أهل السنة فإنهم لما عرفوا أن الأعمال من الإيمان صاروا يتنافسون في كثرة الخصال الخيرية، وصاروا يعملون الأعمال الدينية، وصاروا يكثرون من الحسنات، ويتقون السيئات والمخالفات، فصاروا بذلك في أعلى المراتب، وقد مر بنا كثير من أقوالهم التي يتعللون بها، ولكنها لا تصلح مستنداً.
شرح العقيدة الطحاوية [44]
الأدلة على زيادة الإيمان أكثر من أن تحصى من القرآن والسنة، وقد استدل المخالفون لهذه العقيدة بأدلة متشابهة، وقد بين العلماء فساد استدلالهم بها.
خلاف أهل السنة والحنفية في زيادة الإيمان ونقصانه
…(2/383)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً؛ منها: قوله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] ، وقال تعالى: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76] ، وقال تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31] ، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] ، وقال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] . وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها: إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟ فهل في قول الناس: (قد جمعوا لكم فاخشوهم) زيادة مشروع؟! وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟! وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ [آل عمران:167] . وقال تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125]]. الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وهذه الجملة (يزيد وينقص) محل خلاف بين أهل السنة وبين الحنفية وكذلك غيرهم من المبتدعة، فإنهم كالمرجئة والجهمية لا يرون الأعمال من مسمى الإيمان، ولا يرون زيادة الإيمان ولا نقصه، ويعتقدون أن أهله في أصله(2/384)
سواء، وأن تفاضلهم إنما هو بالدرجات في الآخرة، أو بالأعمال، وإلا فالأعمال عندهم زائدة عن الإيمان، ويرون أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، هكذا قالوا. وأهل السنة يرون أن الإيمان يزيد وينقص، وقد ذكرنا فيما سبق أن على الإنسان أن يحرص على زيادة إيمانه، وأن الكلمة الطيبة تزيد إيمانه، والكلمة الخبيثة تنقص إيمانه، والدرهم الذي ينفقه في سبيل الله وفي وجوه الخير يزيد به إيمانه، وإذا أنفقه في المعاصي نقص إيمانه، والخطوات التي يسيرها إلى الخير وإلى أماكن الخير كالمساجد ونحوها تزيد إيمانه، وإذا خطا إلى اللهو وإلى اللعب وإلى الباطل نقص بذلك إيمانه.. وهكذا بقية الأعمال. ......
توضيح أدلة زيادة الإيمان ونقصه
…(2/385)
الآيات التي ذكر المؤلف فيها دلالة واضحة على أن الإيمان يزيد وينقص، حيث أثبت الله فيها الزيادة، وكل شيء يقبل الزيادة فهو يقبل النقصان، ففي سورة آل عمران قال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:173] ، لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أصحابه بعد وقعة أحد يريد اللحاق بالمشركين، جاءهم نعيم بن مسعود أو رجل من خزاعة وقال: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. يعني: أن المشركين قد جمعوا لكم، ويريدون أن يرجعوا إليكم ويقتلوا من بقي منكم، فاخشوهم، وهذه المقالة ليس فيها زيادة أعمال، ولا فيها زيادة تشريع، ولا فيها زيادة حكم، فكيف زادتهم إيماناً؟ قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] وقوي إيمانهم بها، وكثر عملهم، وصمدوا فيما جاءوا له، وتوجهوا في طلب المشركين، جادين في اللحاق بهم، مع ما أصابهم من القرح كما قال الله تعالى بعد أن ذكر الشهداء: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ* الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:171-172] أي: المصيبة التي نزلت بهم وأصيبوا بها في أحد لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:172-173]. كذلك الآيات التي في آخر سورة التوبة: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:124-125]، كيف زادتهم إيماناً؟(2/386)
عملوا بما فيها، هذه السورة أو هذه الآيات طبقوها وعملوا بما فيها، وكذلك اعتقدوا مدلولها؛ فزاد إيمانهم، فهذا دليل واضح على أن الإيمان يزيد وينقص. كذلك قوله تعالى في سورة محمد: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17] ، والهدى لا شك أنه زيادة إيمان وطمأنينة. كذلك قوله تعالى في سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا [الفتح:4]، لما رجعوا من غزوة الحديبية أنزل الله عليهم الطمأنينة، وأنزل في قلوبهم السكينة، فزاد إيمانهم، وكثرت أعمالهم، فهذه أدلة واضحة على أن الإيمان يزيد، ولا شك أنه إذا كان يقبل الزيادة فإنه يقبل النقصان؛ فلذلك قال أهل السنة: إنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وإذا عرف المسلم ذلك حرص على ما يزيد إيمانه ويقويه ويثبته ويرسخه، وهو إيمانه بما أخبر الله به، وكذلك تتبعه لآيات الله، ونظره في مخلوقاته، مما يرسخ الإيمان في قلبه ويقويه، كذلك يكثر عمله وتطبيقه لما جاءه في هذه الشريعة، وذلك كله مما يزيد به إيمانه. وإذا عرفت ما يزيد فإن ضد ذلك ما ينقص، فاعرف الأشياء التي يزيد بها إيمانك فاعمل بها، واعرف ضدها من المعاصي التي تنقص إيمانك، فابتعد عنها.
ضعف الأحاديث التي تدل على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص
…(2/387)
قال الشارح رحمه الله: [وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية فقال: حدثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم الساباذي قالا: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضل بن العابد قال: حدثنا يحيى بن عيسى قال: حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال: (جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا؛ الإيمان مكمل في القلب، زيادته كفر، ونقصانه شرك)؛ فقد سئل شيخنا عماد الدين ابن كثير رحمه الله عن هذا الحديث فأجاب: بأن الإسناد من أبي ليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة. وأما أبو مطيع فهو: الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ، ضعفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعمرو بن علي الفلاس والبخاري وأبو داود والنسائي وأبو حاتم الرازي وأبو حاتم محمد بن حبان البستي والعقيلي وابن عدي والدار قطني وغيرهم. وأما أبو المهزم -الراوي عن أبي هريرة - فقد تصحف على الكتاب، واسمه: يزيد بن سفيان ، فقد ضعفه أيضاً غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع، حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً!]. هذا الحديث باطل، وضعه بعض الوضاعين، ورجال إسناده كلهم إما مجهول، وإما كذاب، وإما ضعيف، فلا يلتفت إليه، وليس بدليل. ثم هو مصادم للنصوص، فإذا كان الآيات تدل على الزيادة فكيف يأتي الحديث بأنه لا زيادة؟! إذا كان الله يقول: فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124] ، لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا [الفتح:4] ، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76] ، فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران:173] ، كيف مع ذلك يأتي هذا الحديث ويكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم؟! الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالف كتاب ربه، ولا يأتي إلا بما أوحي إليه، وقد(2/388)
أوحي إليه أن الشريعة فيها أعمال، وأن أعمالها إذا عمل بها العباد زاد بذلك إيمانهم، فلا يقول قائل: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، معتمداً على هذا الحديث الضعيف أو المكذوب.
أدلة أخرى من الحديث وكلام الصحابة تدل على نقص الإيمان
…
قال الشارح رحمه الله: [وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) . والمراد: نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السماوات والأرض سواء، وإنما التفاضل بينهم بمعان أخر غير الإيمان؟! وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً: منه قول أبي الدرداء رضي الله عنه: (من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص). وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: (هلموا نزدد إيماناً، فيذكرون الله تعالى عز وجل). وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: (اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً). وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: (اجلس بنا نؤمن ساعة). ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه. وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: (ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم)، ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه. وفي هذا المقدار كفاية، وبالله التوفيق]. هذه أدلة واضحة تدل على تفاوت أهل الإيمان في إيمانهم، لا كما يقول المبتدعة: إن الناس سواء في الإيمان، وإنهم لا يتفاوتون إلا بمعان أخرى. والنبي صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان عمن فعل بعض المعاصي، ويفسره العلماء بأن المراد: نفي كماله، إذا قال مثلاً: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) هل يقال: إن من لم يأمن جاره بوائقه(2/389)
كَفَر؟ لا؛ بل نقول: إيمانه ناقص. إذا قال مثلاً: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) هل نقول: إذا لم يحب لأخيه ما يحبه لنفسه فهو كافر؟ لا؛ ولكن نقول: إنه لم يؤمن الإيمان الكامل؛ وذلك لأن الإيمان يتفاوت أهله فيه، فيكون منهم من هو كامل الإيمان، ومنهم من هو ناقص الإيمان، فهذا كمال، وهو استيفاء هذه الخصال ونحوها. وكذلك الأحاديث التي فيها حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يفعل خصالاً، كقوله: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، المعنى: أن هذه من خصال المؤمن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، فيدل على أن من لم يفعلها فإنه ناقص إيمانه بالله وباليوم الآخر. وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم) معلوم أنها تؤمن، ولكن سفرها يكون نقصاً في إيمانها، لا أنه نفي للإيمان كله. وقوله: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج) ، معلوم أنه لا يخاطب إلا من هي مؤمنة، ولكن إذا أحدت على أبيها -مثلاً- أكثر من ثلاث، لم تخرج بذلك عن الإيمان بالله واليوم الآخر، ولكن يكون هذا نقصاً في الإيمان. ويقال كذلك في الخصال التي ذكر فيها الإيمان. ولا شك أن هذا دليل على أنه أهله يتفاوتون، فمن استكمل هذه الخصال وابتعد عن الآثام فهو كامل الإيمان، وإلا فهو ناقص بحسب الأعمال التي أخل بها، أو المعاصي التي ارتكبها.
تفاوت الإيمان في القلب
…(2/390)
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان الذي في القلب يتفاوت في حق من يدخل النار في قوله: (إن الله يقول لملائكته ولرسله: أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، ومن كان في قلبه مثقال دينار من الإيمان، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال درهم، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال برة، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ثم يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال أدنى أدنى ذرة من إيمان). وأخبر في حديث آخر أن الإيمان في قلوب أصحابه أثقل من الجبال يعني: أرسى من الجبال. أليس كل هذا يدل على أن الإيمان الذي في القلب يتفاوت؟! لا شك أنه كلما كان الإيمان أقوى كانت آثاره أكبر، وكانت الأعمال التي تنتج منه أكثر نتيجة وأكثر عملاً، فإن الإيمان إذا كان مثل الجبل كثرت الأعمال، ودفع البدن إلى الأعمال، وإذا كان ضعيفاً قلت الأعمال الخيرية، وتكثر السيئات أو تقل بحسب قوة الإيمان الذي في القلب، وبحسب ضعفه، وتكون هذه الأعمال علامة على ما في القلب، فتكون إيماناً. كذلك -أيضاً- ثبت أن السلف رحمهم الله كانوا يسمون الأعمال إيماناً، كما في هذه الآثار عن بعض الصحابة، ومنها: أن عمر ومعاذاً وابن رواحة كانوا يقولون: اجلس بنا نؤمن ساعة أو يقولون: نزدد إيماناً أو: هلم فلنزد إيماننا أو: هلم فلنعمل أعمالاً يقوى بها إيماننا ويزيد إيماننا، كيف يزيد؟ يقولون مثلاً: إذا ذكرنا الله، وحمدناه وشكرناه، وأطعناه وعبدناه، زاد بذلك إيماننا، كلما عملنا عمل بر وعملاً صالحاً زاد بذلك نصيبنا من الإيمان، وكثر الإيمان الذي عملناه، فكثرته يحصل بها ثقل الموازين، ويحصل بها خفة الحساب في الآخرة، ويحصل بها السعادة، ويحصل بها إعطاء الكتاب باليمين، ويحصل بها -أيضاً- التمكين من الورود على الحوض، وسرعة المسير على الصراط عندما ينصب، ثم دخول الجنة بسلام كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام. وذكر البخاري عن عمر بن عبد العزيز(2/391)
رضي الله عنه: أنه كتب إلى بعض عماله: (أن للإيمان شرائط ومكملات وأموراً من فعلها فقد استكمل الإيمان، ومن تركها فقد أخل أو نقص إيمانه، يقول عمر بن عبد العزيز : فإن أعش فسأبينها لكم، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص)، ولا شك أنه لا يخبر بأن للإيمان مكملات، وله شرائط، وله نتائج، وله ثمرات؛ إلا وقد أخذ ذلك عن الصحابة، فإنه تلميذ الصحابة، والصحابة أخذوا ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وعن كتاب ربهم، فعرفنا بذلك أن الإيمان لابد أن يستكمل حتى يزيد في أصحابه، وحتى تكون نتيجته السعادة الأبدية.
وجه اقتران الإيمان بالعمل الصالح
…(2/392)
قال الشارح رحمه الله: [وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة، فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فالمطلق مستلزم للأعمال، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2] ، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، وقال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:81]. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث، (لا تؤمنوا حتى تحابوا) ، (من غشنا فليس منا) ، (من حمل علينا السلاح فليس منا) ، وما أبعد قول من قال: إن معنى قوله: (فليس منا) أي: فليس مثلنا! فليت شعري فمن لم يغش يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه!. أما إذا عطف عليه العمل الصالح، فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب: أعلاها: أن يكونا متباينين، ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزءاً منه، ولا بينهما تلازم، كقوله تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] ، وقوله تعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ [آل عمران:3] ، وهذا هو الغالب. ويليه: أن يكون بينهما تلازم، كقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42] ، وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92]. الثالث: عطف بعض الشيء عليه، كقوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] ، وكقوله تعالى:(2/393)
مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98] ، وكقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ [الأحزاب:7]. وفي مثل هذا وجهان: أحدهما: أن يكون داخلاً في الأول، فيكون مذكوراً مرتين. والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلاً فيه هنا، وإن كان داخلاً فيه منفرداً، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوهما، تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران. الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين، كقوله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ [غافر:3] وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط، كقوله: فألفى قولها كذباً وميناً. ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، والكلام على ذلك معروف في موضعه].
الجواب عن استدلال الحنفية بعطف العمل على الإيمان في قولهم بأن العمل ليس من الإيمان
…(2/394)
هذا جواب عما استدل به الحنفية من عطف العمل على الإيمان، فيقولون في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227]: لو كانت الأعمال من الإيمان ما عطفت عليه، فعطفها عليه يقتضي أنها ليست من الإيمان، بل هي غيره، فالإيمان عندهم هو ما في القلب، والأعمال شيء زائد على الإيمان. هكذا قرروا هذا الدليل. ومر بنا جواب الشارح، وكذلك أجاب غيره، حيث ذكر أن الإيمان تارة يكون مستقلاً، يعني غير معطوف عليه بشيء، وتارة يعطف عليه، فمثلاً قوله تعالى في سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، هذا تفسير للمؤمنين بأنهم أهل هذه الخصال، ومثله قوله تعالى في سورة السجدة: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [السجدة:15]، فهذا دليل على أن هؤلاء هم المؤمنون، ويكون من إيمانهم هذا السجود والتسبيح ونحوه. وكذلك قال في سورة الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، فهذا تفسير الإيمان، وأشباه ذلك كثير، يذكر الله فيها الإيمان، ويذكر أن الأعمال داخلة فيه، فمثل هذا يبين الإيمان الحقيقي، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) .. إلخ، أي: هؤلاء هم المؤمنون، ويقول بعدها: أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:4]. إذاً: هذا معنى من المعاني يكون فيه الإيمان مستقلاً غير معطوف على شيء. أما إذا عطفت عليه بعض الأعمال فذكر الشارح أن العطف له عدة حالات، فتارة يقتضي العطف التغاير، أي: أن الثاني غير الأول، وهذا هو الكثير فيما إذا عطف بعضها على بعض، مثل قوله: وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ [البقرة:277]، فإن الزكاة غير الصلاة، فهي عطفت عليها(2/395)
للمغايرة. كذلك من أنواع العطف: العطف لأجل التنويع، مثل قوله: الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1]، هل هناك فرق بين الخلق والجعل في هذه الآية؟ لا، فالعطف هنا للتنويع لا للتغاير. كذلك من أنواع العطف: أن الشيء قد يعطف على بعضه، فيذكر مجملاً، ثم يذكر بعض التفصيل فيه، ومن الآيات التي في هذا -وهي كثيرة- قوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98] فـ(جبريل وميكال) داخلان في الملائكة، فلماذا عطفا؟ للتنويع، أو لبيان السبب. ومثله قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ [الأحزاب:7] من النبيين كلهم، وَمِنْكَ [الأحزاب:7] أليس محمد صلى الله عليه وسلم (من النبيين؟!) وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7] لم خص هؤلاء؟ هذا عطف بيان، وليس عطف تنويع. ومن العطف -أيضاً-: الآية التي ذكرت في سورة المائدة، وهي قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] الشرعة والمنهاج واحد، فالعطف هنا للترادف، وذكر -أيضاً- قول الشاعر: فألفى قولها كذباً وميناً. الكذب والمين واحد، فالعطف هنا عطف بيان أو عطف إيضاح. إذاً: فقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227] العطف هنا عطف بيان، لا أنه عطف مغايرة، فبذلك يعرف أنه ليس في هذه الآيات ما يدل على أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان.
شرح العقيدة الطحاوية [45]
العمل يدخل في مسمى الإيمان، فهو شطر منه، وقد اختلف الناس في مسمى الإيمان، وفي التفريق بينه وبين الإسلام، وقد بين أهل السنة الحق في ذلك كله معتمدين على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة.
بيان أن الأعمال من الإيمان وأنه يزيد وينقص
…(2/396)
مر بنا في العقيدة زيادة الإيمان ونقصانه، ودليل ذلك من الكتاب والسنة، وأنه قول أهل السنة والجماعة، والأدلة على ذلك، وفائدة الإيمان بزيادة الإيمان ونقصانه، وفائدة اعتقاد ذلك، والنقص والخلل الحاصل في إيمان من أنكر ذلك. من اعتقد أن الأعمال من مسمى الإيمان فإنه يحرص على استكثار الأعمال الصالحة، ومن اعتقد أن الإيمان يزيد بالطاعة حرص على الاستكثار من أنواع الطاعات، ومن عرف أن إيمانه ينقص بالمعاصي ابتعد عن كل المعاصي حتى لا ينقص بها إيمانه؛ وذلك لأنه يحس أو يستحضر أنه كلما نقص إيمانه بسبب معصية ضعف يقينه، ونقص حظه من الآخرة ومن الأجر، فهو يبتعد عن هذه الآثام التي تكون سبباً في نقص الإيمان. لا شك أن الإيمان إذا كان يقبل الزيادة فإنه يقبل النقصان، وقد ذكرنا بعض الأدلة التي تدل على زيادة الإيمان، والأمثلة التي تكون سبباً في زيادة الإيمان وفي نقصه، وأن الإنسان إذا استحضر أنه بالكلمة الطيبة يزيد إيمانه، وبالكلمة الخبيثة ينقص إيمانه، وبالنفقة في وجوه الخير يزيد إيمانه، وبالنفقة لغير الله ينقص إيمانه، وبسماع كلام الله وبسماع الخير ونحوه يزيد إيمانه، وبسماع اللغو واللهو والإثم ونحو ذلك ينقص إيمانه، وبالخطوات التي يخطوها إلى عبادة أو إلى مكان عبادة يزداد إيمانه، وبالخطوات التي يخطوها إلى إثم أو محرم ينقص إيمانه؛ من استحضر مثل هذا في جميع أعماله فإنه ولابد سيكون منتبهاً في كل لحظة، وفي كل عمل، إذا أراد أن يتكلم لم يقدم على الكلام إلا بعد أن يتحقق أنه خير، وأنه زيادة في إيمانه، وأنه يكتب له به حسنات، فيقدم عليه، وإذا أراد أن يتوجه إلى طريق وإلى مسير تفكَّر: هل له فيه خير؟ وهل هو إيمان أو كفر؟ وهل هو من شعب الإيمان أو من شعب الكفر؟ فلا يقدم إلا بعدما يتحقق أنه عمل بر وخير.. وهكذا في بقية الأحوال. ......
الرد على شبهة القائلين بأن العمل ليس من الإيمان
…(2/397)
قد يقول قائل: كيف تكون الأعمال من الإيمان وهي تعطف عليه كما في قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الشعراء:227] فإنه يفهم منه: أن الأعمال زائدة على الإيمان؟ الجواب: أن هذا العطف من عطف البيان، وعطف البيان مشهور عند العرب، فيعطف على أنه بيان لما قبله وإيضاح له وتقوية له، كأنه يؤكد أنهم متى آمنوا فإنه يزيد إيمانهم بهذه الأعمال الصالحة فيكثِّرونها، والله تعالى كثيراً ما يذكر الأعمال الصالحة ويفصل فيها، فمثلاً سورة (قد أفلح المؤمنون) ذكر الله فيها عشر صفات، أولها: الخشوع في الصلاة، وآخرها: المحافظة على الصلاة، وإذا تأملنا هذه الصفات التي أولها الإيمان وجدناها كلها متفرعة من الإيمان، وصفهم بأنهم مؤمنون، وكأنه قيل: وما هي أعمالهم؟ فقال: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:2] إلى آخرها، فهذا بيان بأنهم مؤمنون حقاً، وأنهم يدفعهم إيمانهم إلى فعل هذه الأشياء، فمن استكملها فهو منهم، ومن أخل بشيء منها فقد أخل بالإيمان أو قد نقص إيمانه. وبهذا يعرف أن الإيمان يتفاوت أهله فيه، فيزيد بعضهم على بعض، فالذين يصلون ولكنهم لا يخشعون في صلاتهم أنقص إيماناً من الخاشعين في صلاتهم، والذين يصلون ولكن لا يحافظون على الصلاة جماعة، بل يتكاسلون عن الجماعة أحياناً أنقص من الذين يحافظون عليها، وكذلك الذين يعرضون عن اللغو كلياً وعن مجالس اللغو، كما قال الله: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3] أي: مبتعدون؛ أكمل من الذين لا يعرضون عنه، بل يجلسون مع أهله أو يسمعون لغوهم أو نحو ذلك، فدل على أن أهل الإيمان يتفاوتون وإن كانوا كلهم مؤمنين، ولكن من استكمل هذه الصفات فقد استكمل الإيمان، ومن أخل بشيء منها فقد نقص إيمانه، والنقص قد يأتي على الآخر، وقد يبقى معه بعض الشيء.
اعتقاد ازدياد الإيمان ونقصه سبب للاستكثار من الطاعات
…(2/398)
اعتقاد الإنسان زيادة إيمانه بالطاعات سبب لاستكثاره من الطاعات، واعتقاده نقص إيمانه بالمعاصي سبب لاجتنابه المعاصي، فلك أن تذكر العاصي وتقول له: يا أخي! بصفتك مؤمناً تذكر أن أعمالك هذه تنقص إيمانك! أعمالك هذه التي أنت تستمر فيها حتى ولو كانت من صغائر الذنوب. إذا كنت في كل يوم -مثلاً- تجدد حلق لحيتك، أو تطيل ثيابك تكبراً وإعجاباً بنفسك، أو تتعاطى هذا الدخان وتشمه دائماً وتشربه، وتتهاون به، أو تسمع غناء وتزعم أنك ترفه عن نفسك وتتسلى، وأنت مصر على ذلك، ففي كل يوم ينقص جزء من إيمانك، وفي كل يوم تقدح في إيمانك وتقطع منه قطعة، وتجمع شعباً من شعب الكفر، ويزيد حظك من المعاصي وحظك من الكفر، أفلا تكون منتبهاً خائفاً أن هذا النقص وتواليه يضعف إيمانك، حتى لا يبقى منه إلا القليل، فما دمت في زمن الإمهال، فإن عليك أن تحرص كل الحرص على الأعمال التي يقوى بها إيمانك، ويضعف بها حظك من الكفر ومن المعاصي! وكذلك -أيضاً- تشجع أهل الطاعة، وتحثهم على الاستكثار منها، وتبشرهم بأنهم بكل خطوة يخطونها إلى المسجد يزيد إيمانهم، وبكل ركعة يركعونها من النوافل يزيد إيمانهم، وبكل آية يقرءونها يزيد إيمانهم، وبكل تهليلة وتكبيرة وتسبيحة، وبكل استغفار وبكل دعوة يدعون بها يزيد حظهم من الإيمان، ويقوى في قلوبهم، وكذلك تقوى أبدانهم بالإيمان، ويكثر نصيبهم من الأجر الذي رتب على الإيمان. إذاً: اعتقادنا أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فيه هذه الفوائد، والذين جعلوا الإيمان شيئاً واحداً، وأن الناس في أصله سواء، فاتتهم هذه الفوائد، فصاروا يعتمدون على أن إيمانهم كامل لا يتزعزع ولا يتغير ولا ينقص، فلا يبالون بالنقص من الحسنات، ولا يبالون بالاقتراف للسيئات، فيقعون في المعاصي، ويتهاونون بها، ويدعون أنها لا تضر، ولا تنقص إيمانهم؛ لأنها ليست من الأعمال، والإيمان إنما هو عمل القلب، وهذه إنما هي أعمال اللسان أو أعمال البدن.(2/399)
ويسبب هذا الاعتقاد السيء تهوينهم على أنفسهم أمر الذنوب، وتهوينهم على غيرهم الوقوع في المعاصي، فيقعون فيما حذر الله تعالى منه وهم لا يشعرون.
أدلة دخول العمل في مسمى الإيمان
…
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48] والكلام على ذلك معروف في موضعه. فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه، نظرنا في كلام الشارع: كيف ورد فيه الإيمان فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر، والتقوى، والدين، ودين الإسلام. ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان؟ فأنزل الله هذه الآية: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [البقرة:177] قال محمد بن نصر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ والملائي قالا: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله عنه فسأله عن الإيمان؟ فقرأ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة:177] إلى آخر الآية، فقال الرجل: ليس عن هذا سألتك، فقال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى، قال: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنه سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها) وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب. وفي الصحيح قوله لوفد عبد القيس : (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)، ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في مواضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان]. قد ذكرنا أن هذا الموضوع يسمى (أسماء الإيمان والدين)(2/400)
أو (أسماء الأحكام)، وعرفنا أن هذه المسميات كانت مستعملة في اللغة، ولكن لها معان معروفة عندهم؛ لكن ليست هي المعاني الشرعية، فلأجل ذلك نقلها الشرع إلى هذه المسميات الخاصة. وقد ذكرنا أنهم يقولون مثلاً: الإيمان في اللغة كذا، وفي الشرع كذا، الإسلام لغة كذا وكذا، وفي الشرع كذا وكذا، التوحيد في اللغة كذا، والتوحيد في الشرع كذا، البر في اللغة كذا وكذا، والبر في لغة الشارع وفي لسان الشارع يراد به كذا وكذا، مثلاً: التقوى في اللغة مشتقة من التوقي، وهو الحذر من المخوف، وأما في لسان الشرع فهي توقي عذاب الله، وأن يجعل بينه وبين سخط الله وقاية وحاجزاً منيعاً، وذلك يكون بامتثال كل ما أمر، وتجنب كل ما نهى وزجر. وهكذا بقية التعاريف. أيضاً نقل أضدادها إلى مسميات شرعية، فالشرك له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والفسوق له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والذنوب لها مسمى في اللغة ومسمى في الشرع، والكفر له مسمى في اللغة ومسمى في الشرع.. وما أشبه ذلك. وهكذا -أيضاً- أسماء الأحكام: فالصلاة لغة كذا، وشرعاً كذا، والطهارة لغة كذا وكذا، وشرعاً كذا وكذا، والصوم والحج والجهاد والعمرة والزكاة وما أشبهها لها مسميات. فنقول: إن الإيمان أصله في اللغة التصديق، وشرعاً: التصديق الجازم بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، مع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأداء الخمس من الغنيمة، كما في الحديث، هذه أقوال وأعمال، أقوال لسانية وأعمال بدنية أو مالية، وكلها جعلها من الإيمان؛ ولكن لابد معها من الإيمان الذي هو العقيدة، لابد أن يكون القلب قد عقد عليها، وإلا فلا تنفع، فإن الأعمال بدون إيمان القلب لا تفيد، فبذلك يعرف أن الشرع أضاف إليها إضافات أصبحت من مسمياتها، حيث فسر الإيمان بهذه الأعمال. وقد ثبت في الصحيح أنه فسر بها الإسلام، فإنه لما سئل عن الإسلام فسره بالأعمال الظاهرة، وهي أركانه الخمسة، وفسر الإيمان بأعمال القلب،(2/401)
وهو الإيمان بالغيبيات وأركانه الستة، ومراده: أن هذا أصله التصديق بالأمور الغيبية وهي هذه الأركان، ومع ذلك لابد أن يكون له مكملات ومتممات، وهي بقية الأعمال البدنية. فيقال: البر في اللغة: الصدق، والبار: الصادق، وقد قالوا: البر هو طاعة الوالد، كما يقال: أوصيك ببر الوالدين يعني: طاعتهما، فالبر لغة: طاعة الأبوين، أو الصدق في الحديث، ولكن الشرع جعله اسماً لكل الأعمال الخيرية، حتى أعمال القلب، فأدخل فيه أركان الإيمان، في قوله: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]، فهذه خمسة من أركان الإيمان، وذكر السادس وهو القدر في موضع آخر، وجعلها أساساً للبر، ثم ذكر أعمالاً مالية، وجعلها داخلة في البر في قوله تعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177] يعني: هذا عمل مالي، وهو: إعطاء المال لهؤلاء، فجعله من البر. ثم قال: وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة:177] ، فهذه أربعة من الأعمال البدنية. ثم قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177] فأخبر بأنهم الذين صدقوا؛ لما قالوا: آمنا، فظهر إيمانهم على أبدانهم وعلى أموالهم، فهم قد صدقوا، وهم -أيضاً- أهل التقوى الذين توقوا أسباب الهلاك، وجعلوا بينهم وبين النار وقاية وحاجزاً منيعاً، فأصبحوا بذلك مستحقين لاسم التقوى. وهكذا يقال في سائر المسميات الشرعية، وهو: أن الله تعالى شرع لعباده هذه الأشياء، وسميت بهذه المسميات، وأريد بها هذه المعاني التي تدخل فيها، ورتب عليها الأجر والثواب، فرتب الله على البر الثواب: إِنَّ(2/402)
الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13]، ورتب على التقوى الجنة في قوله: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] أي: هيئت للمتقين، كما رتب ذلك على الإيمان في قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق:25]، أجر غير ممنون على إيمانهم وعملهم الصالح، فمن صدق بذلك كله وعمله فهو المصدق، وهو المتبع لهذه الشريعة، ومن نقص حظه من ذلك نقص حظه من الأجر.
الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان
…(2/403)
قال الشارح رحمه الله: [وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق؛ للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود. وفي المسند عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب) ، وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان، ويؤيده قوله في حديث سؤالات جبريل في معنى الإسلام والإيمان، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم دينكم) ، فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة؛ لكن هو درجات ثلاث: فمسلم، ثم مؤمن، ثم محسن. والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعاً، كما أنه أريد بالإحسان ما ذكر مع الإيمان والإسلام، لا أن الإحسان يكون مجرداً عن الإيمان، هذا محال، وهذا كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه فإنه معرض للوعيد، وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن، فإنه معرض للوعيد. وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله، والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أهله من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين، وهذا كالرسالة والنبوة، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها، فكل رسول نبي، ولا ينعكس]. هذا كلام يتعلق بالإسلام والإيمان والإحسان، فإنه صلى الله عليه وسلم لما سئل في حديث وفد عبد القيس فسر الإيمان بالأعمال والأقوال؛ لأنه ما أمرهم إلا بالإيمان، ولكن في(2/404)
حديث جبريل المشهور سئل عن الإسلام والإيمان والإحسان، ففسر كل واحد بتفسير، ولكن الثاني لابد أنه داخل في الأول، والثالث لابد أنه مستلزم للأولين قبله، ففسر الإيمان بالأعمال الباطنة، والإسلام فسره بالأركان الخمسة: بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج؛ لأن هذه يظهر من صاحبها إذعان. وأصل الإسلام: هو الإذعان والانقياد، ومنه قوله تعالى: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا [آل عمران:83] يعني: أذعنوا وانقادوا واستسلموا، غير مستعصين ولا متشردين، قويهم وضعيفهم، حيوانهم وإنسانهم، مؤمنهم وكافرهم.. كلهم أذعنوا، فالإسلام في الأصل: هو الإذعان، والأركان الخمسة دليل واضح على أنهم قد أعلنوا دخولهم في الإسلام، فمن رأيناه يتلفظ بالشهادتين ويحافظ على الصلوات، ويخرج زكاة ماله، ويصوم معنا، ويحج معنا؛ حكمنا بأنه مسلم، ويدخل مع المسلمين، ويدين لله تعالى ظاهراً، وإن لم نفتش ما في قلبه، فنعامله معاملة المسلمين، ولا نتكلف البحث عن باطنه ما دام أنه يفعل هذه الأعمال الظاهرة. هذه تسمى المرتبة الأولى، وهي المرتبة الواسعة. المرتبة الثانية: الإيمان، وفسره هاهنا بالعقيدة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر، الإيمان بهذه الستة يعني: الاعتقاد بصحتها، والاعتقاد بأحقيتها. الإيمان بأن الله هو رب الأرباب وإله العالمين، والمعبود وحده المستحق لذلك دون ما سواه. والإيمان بالملائكة لأنهم رسل من خلق الله مسخرون لعبادته. والإيمان بالكتب بأنها كلام الله وفيها شرعه. والإيمان بالرسل بأنهم رسل ووسائط بين الله وبين عباده. والإيمان باليوم الآخر بالتصديق بالبعث بعد الموت وبالجزاء الذي فيه. والإيمان بقدرة الله وبما قدره وقضاه على عباده. هذه أمور عقدية، ومعلوم أنها إذا صحت ورسخت في القلب فلابد أن تظهر آثارها على البدن، فلابد أن ينطق بما يعتقد، ولابد أن يفعل ما يقول،(2/405)
ولابد أن يظهر عليه الفعل والترك الذي هو من آثار هذه العقيدة، فلأجل ذلك يقولون: لابد مع الستة من الخمسة، أي: أن الستة التي هي العقيدة وهي أركان الإيمان، لا تنفع إلا إذا كانت معها الخمسة، فمن قال: أنا آمنت بالله، وآمنت بكتبه، وبرسله، وبملائكته، وبالبعث بعد الموت، وبالقدر، ثم رأيناه لا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يعبد الله وحده، بل يجعل معه آلهة أخرى؛ قلنا: كذبت، لو كنت صادقاً في إيمانك ويقينك لما خالفت ذلك بأعمالك، فالأعمال التي نراها ظاهرة هي في الحقيقة ترجمة لما تقوله ولما تعتقده. فإذاً: لابد مع أركان الإيمان من أركان الإسلام؛ حتى يكون الإيمان صحيحاً. كذلك يقال في الإحسان، فسره بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). قسم العلماء هذا التفسير إلى قسمين؛ الأول: عين المشاهدة، والثاني: عين المراقبة. عين المشاهدة: أن تعبد الله كأنك تراه أي: تشاهده. وعين المراقبة: أن تستحضر أنه يراك، أي: يراقبك. فمن استحضر أنه يرى ربه اجتهد في الدعاء، واجتهد في العبادة وحسنها وكملها، ومن لم يصل يقينه وقلبه إلى هذا الاستحضار، فإنه يستحضر أن ربه مطلع عليه يعلم نبرات لسانه وفلتاته، ويعلم حديث قلبه وما توسوس به نفسه؛ فيكون من آثار هذا الإيمان أن يحسن العمل إذا استحضر أنه بمرأى وبمسمع من ربه، وأنه لا تخفى عليه منه خافية، وأن الله مطلع عليه، ويكون ذلك حاملاً له على إتقان العمل وإحسانه، فإنه -ولله المثل الأعلى- لو كان إنسان موظفاً تحت إدارة قوية المراقبة، تجعل هناك من يراقب هؤلاء الموظفين دائماً، ويشددون عليهم في الحضور وفي العمل، وقد يراقبونهم وهم لا يشعرون، ولا يبصرونهم، فلا شك أن الموظفين يجدون في العمل ويجتهدون فيه؛ مخافة أن يبعدوا منه، أو يحرموا من استحقاقهم. أما إذا كانوا مهملين، لا ينظر إليهم رئيسهم، ولا يفتش عليهم، ولا يراقبهم، وليس هناك في قلوبهم دوافع الإيمان، ولا مخافة من(2/406)
الله، ولا أمانة؛ فإنهم يهملون الأعمال، ويقطعون وقتهم في اللهو واللعب، وفي القيل والقال، ولا يخلصون في العمل، ولا يجدون فيه. فهذا مثل محسوس يشاهد عياناً، فنقول: كذلك الإنسان إذا كان يعمل وهو يستحضر أن الله يراه حرص على إتقان العمل، وإذا غاب عنه هذا الاستحضار فإنه يتساهل تساهلاً كثيراً في عمله. ......
وجه العموم والخصوص بين الإسلام والإيمان والإحسان
…
مراتب الدين ثلاث؛ المرتبة العليا: هي الإحسان، والمرتبة الوسطى: هي الإيمان، والمرتبة الدنيا: هي الإسلام، فأهل الإسلام أكثر من أهل الإيمان؛ لأنهم يوجد فيهم من هو مسلم ظاهراً وليس بمسلم باطناً، يصلون وقلوبهم لم تطمئن بالإيمان. وأهل الإيمان أقل من أهل الإسلام؛ لأنهم خلاصتهم وصفوتهم. وأهل الإحسان هم خلاصة الخلاصة، وصفوة الصفوة، بمعنى: أنهم أهل الإيمان القوي الذين بلغت بهم القوة إلى أنهم يتقنون كل عمل، فإذا صلوا أتقنوا الصلاة ولم يغفلوا فيها ولم يحدثوا أنفسهم، وإذا دخل وقت نافلة لم يضيعوها إلا بعمل ما يحبون وما يريدون، وهكذا بقية أعمالهم، وكذلك يحملهم استحضارهم لربهم على ألا يعصوه طرفة عين، فيكون ذلك كله سبباً لإتقانهم العمل. فلذلك يقال: إن الإسلام أعم من جهة أهله -أي أن أهله أكثر من أهل الإيمان- وأخص من جهة وصفه، حيث إنه إنما يدخل فيه أهل الأعمال الظاهرة، فالمسلمون أعمالهم أقل من أعمال المؤمنين، ولكنهم أكثر عدداً، فيدخل فيهم المؤمنون ويدخل فيهم المسلمون الذين ليسوا بمؤمنين، هذا معنى كونه أعم من جهة أهله، وأخص من جهة وصفه، يعني: أعمال المسلمين أقل من أعمال أهل الإيمان. كذلك يقال: أهل الإيمان أكثر أعمالاً؛ لأنهم آمنوا بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والقدر، وصلوا وصاموا، وحجوا واجتهدوا، وتشهدوا وذكروا الله، وأما أهل الإسلام فهم أقل أعمالاً، وصفهم إنما هو: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، يعني: الأعمال الظاهرة، فهم(2/407)
أقل أعمالاً، هذا معنى كونه أقل من جهة وصفه، وأكثر من جهة أهله. كذلك نقول: أهل الإحسان أقل من أهل الإيمان، فأهل الإيمان أكثر من أهل الإحسان، يعني: أكثر من جهة أهله، وأقل من جهة وصفه -من الإحسان-؛ وذلك لأن أهل الإحسان جمعوا الخصال الثلاث فأصبحوا مؤمنين مسلمين محسنين، فهم جمعوا بين الإتقان للعمل، وبين العبادة لله كأنهم يرونه، وبين مراقبته، وبين الإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر، والصلاة، والصوم، والحج، جمعوا الأعمال كلها، وتركوا السيئات وابتعدوا عن الآثام، فهم أكثر من جهة الوصف، ولكنهم أقل من أهل الإيمان. فأهل الإحسان أقل من أهل الإيمان، وأهل الإيمان أقل من أهل الإسلام، ولكن أهل الإسلام أقل أعمالاً من أهل الإيمان، وأهل الإيمان أقل أعمالاً من أهل الإحسان، هذا معنى كونهم أقل من كذا وأكثر من كذا. ومثل الشارح ذلك بالنبوة والرسالة، بمعنى أن الأنبياء أكثر من الرسل، ولكن هم أقل مسئولية، وأقل عملاً من الرسل، فإن الرسل عليهم أعمال ليست على الأنبياء، ولكن الرسل أقل عدداً، فليس كل نبي رسولاً، فالرسالة أقل من جهة أهلها، وأكثر من جهة وصفها، فإن النبي هو الذي أوحي إليه، وهو الذي أمر بالتبليغ، وهو الذي دعا، وهو الذي كُذِّب، وهو الذي عودي وأوذي، فهو أكثر عملاً، والرسل أقل عدداً من الأنبياء، فالأنبياء أكثر من جهة الأهل، وأقل من جهة الوصف، يعني من جهة الأعمال، فهذا تمثيل بالنبوة وبالرسالة، وكذلك أهل الإيمان وأهل الإحسان وأهل الإسلام. فإذا عرفنا أن هذه كلها من الأعمال الشرعية فالإنسان يحرص على أن يجمع بينها كلها، فيحرص على أن يأتي بالأعمال الظاهرة -وهي أركان الإسلام-، ويحقق الأعمال الباطنة -وهي أركان الإيمان-، ويحرص -أيضاً- على الأعمال الغيبية حتى يكون من أهل مرتبة الإحسان، فيجمع بين المراتب كلها. ومعلوم -أيضاً- أن المسلم إذا تسمى بأنه مسلم، ودخل(2/408)
في الإسلام؛ أصبح ملزماً بأمور يعتقدها، تسمى عقائد، وأصبح ملزماً بأعمال يعملها، وبأقوال يقولها، وكلها داخلة في الدين، ولأجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء كلها من الدين في قوله: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) ، فجعل الإسلام والإيمان والإحسان كله من الدين الذي بعث الله به هذا، وسماه دين الإسلام في قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] .
اختلاف الناس في مسمى الإسلام
…(2/409)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [فمن حقق هذا كله فقد حقق الدين الذي جاءت به الرسل، ومن نقص شيئاً نقص بحسبه. وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال: فطائفة جعلت الإسلام هو الكلمة. وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان، حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة. وطائفة جعلوا الإسلام مرادفاً للإيمان، وجعلوا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة..) -الحديث- شعائر الإسلام. والأصل عدم التقدير، مع أنهم قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب. ثم قالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد، فيكون الإسلام هو التصديق! وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة، وإنما هو الانقياد والطاعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت) ، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بينهما أن نجيب بغير ما أجاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له: مؤمن؟ تقدم الكلام عليه]. كلمة (الإسلام) كلمة شرعية، ولها معنى في اللغة، ومعنى الإسلام في الشرع قريب من معناه في اللغة، وعرفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بداية الأصول بقوله: الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فهذا تفسير للإسلام بما يقرب من معناه اللغوي الذي هو: الإذعان والانقياد. وأما تفسيره في الشرع فلا أوضح من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له بالأركان الخمسة؛ وذلك لأنها أدل دليل على إذعانه وانقياده والتزامه، فإن من التزم هذه الأركان انقاد لربه ولم يستعصِ، وفعلها منقاداً ظاهراً كأنه يقاد من زمام إلى هذه الأعمال كما(2/410)
يقاد البعير المذلل، فلا يستعصي ولا ينفر، فإن البعير إذا كان ذلولاً -يعني: قد ذلل وقد عسف وقد انقاد- فإنه يأتي صاحبه بأدنى إشارة، فينساق إذا ساقه، وينقاد إذا قاده. فهذا مثال للمسلم، ينقاد إلى أمر الله، ويذعن لأمره، ويتذلل له، بخلاف الكافر الذي إذا أمره الله استعصى، وأظهر الشقاق، وعاند، وامتنع، وشدد في الامتناع، فهو مثل الجمل الشرود الذي كلما قرب منه صاحبه نفر منه وابتعد، ولا يستطيع أن يأتيه إلا بقوة، وقد يتمانع على صاحبه ولا يمكنه من ركوبه، ولا من قيادته، ولا من غير ذلك، فهذا سبب تسمية من دخل في هذا الدين مسلماً، يعني: مستسلماً في الظاهر. من الناس من يقول: إن الإسلام هو مجرد الكلمة، أي: (أسلمنا) يعني: انقدنا ظاهراً، ولأجل ذلك أنكر الله على من ادعى الإيمان وهو ليس بمؤمن، قال تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] ، وعلى هذا فيفسر الإيمان بالكلمة التي هي قوله: (أسلمنا)، ولكن التفسير الواضح هو أن يفسر بمن التزم بالأركان الخمسة، فيقال: هذا مسلم أي: ملتزم، والله أعلم بحقيقة باطنه. أما إذا ذكر الإسلام والإيمان معاً فإن الإسلام يفسر بالأركان الخمسة لأنها ظاهرة، والإيمان يفسر بأعمال القلب. لكن إذا اقتصر على الإيمان، فقيل: هذا مؤمن، أو: هؤلاء أهل الأيمان؛ فلابد أن يكونوا مسلمين، ولابد أن يكونوا قائمين بالأركان الخمسة، وأن يكونوا قائمين ومعتقدين للأركان الستة التي هي العقيدة، فعلى هذا: من كان مؤمناً فهو مسلم. أما إذا اقتصر على الإسلام فهل يدخل فيه الإيمان أم لا يدخل؟ من العلماء من يقول: إن اسم (المسلم) عند الإطلاق يعم المؤمن، والملتزم لابد أن يكون ملتزماً بالرسالة وبكل ما جاء فيها، دليله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله(2/411)
ودمه) ، فاشترط الكفر بما يعبد من دون الله. وثبت -أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم في وصف الكفار: (أنهم لا ينجون حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به) ، فجعل ذلك -أيضاً- شرطاً لعصمتهم ولقبولهم، وبذلك يعرف أنهما متلازمان، كل مسلم يلزم أن يكون مؤمناً، وكل مؤمن يستلزم الإسلام.
إطلاق الإسلام على ما يشمل الإيمان
…
مسألة مسمى الإيمان والإسلام، وما يتفرع عن هذه الأسماء، بحث العلماء وأفاضوا في هذا البحث، ومن خلال بحثهم يتبين حثهم على أن يكون المسلم المؤمن عاملاً بمقتضى هذا الاسم، فإنه إذا تسمى بأنه مسلم لم يكفِ مجرد التسمي حتى يظهر عليه أثر هذا الاسم، فلم يكتف بمجرد الانتساب حتى يظهر عليه أثر هذا الاسم، فلأجل ذلك جعلوا الاسم يشمل ما في القلب، ويشمل ما على اللسان، ويشمل ما على الأركان؛ ليصدق بذلك مسمى الإيمان؛ وذلك لأنه لو كان الإيمان هو مجرد ما يكون في القلب لما كان هناك فرق بين الناس، بل كل يقول: أنا مؤمن، ثم بعد ذلك يعمل ما يشاء! فإذا عرفنا أن الإيمان له آثار، وله مكملات؛ عرفنا بذلك من هو صادق ومن هو كاذب، فحقائق الأشياء تظهر بعلامات، فحقيقة الإيمان علامته العمل، كما أن حقيقة الإسلام علامته العمل، فمن ادعى أنه مؤمن فلابد أن يعمل، فإن العمل من تمام الإيمان، كما أن من ادعى أنه يحب الله فلابد أن يطيعه، لابد أن تظهر عليه آثار هذه المحبة، أما أنه يحب الله ولكنه لا يطيعه؛ بل يعصيه، فليس بصادق، كما روي عن بعض السلف أنه قال: من ادعى محبة الله ولم يوافقه فدعواه باطلة. والموافقة: هي الطاعة، أي: تمام الطواعية بالأعمال الصالحة، هذه هي حقيقة الموافقة، أي: موافقة ما أمر الله، وذلك لأن المحب لابد أن يتأثر بمحبوبه، ولابد أن يظهر عليه آثار هذا الحب. ولأجل ذلك ورد في الأحاديث الحث على محبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان أثرهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث(2/412)
من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، وهذه الثلاث كلها متلازمة، وكلها من آثار محبة الله، فإن من أحب الله وأحب رسوله، وقدم محبتهما على غيرهما؛ أطاع الله ورسوله. كذلك من آثار محبة الله ومحبة رسوله: أن يحب أولياء الله، من كانوا وأينما كانوا، ولو كانوا أباعد أجانب. كذلك من آثار محبة الله: أن يبغض معاصي الله، وأن يبغض العصاة الذين يبغضهم الله. كذلك من آثار محبة الله: أن يكره الكفر الذي يبعده عن ربه، وأن يؤثر الإيمان والطاعة التي تقربه إلى ربه. فهذا مثال في أن العمل تابع للإيمان، وأثر من آثاره، ولازم من لوازمه، وكذلك لازم من لوازم الإسلام، ولأجل ذلك روي عن الحسن رحمه الله أنه قال: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكنه ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال)، فجعل الأعمال أثراً من آثار الإيمان الذي يكون في القلب. وبكل حال: من ظهرت عليه الأعمال الصالحة فهو المؤمن، ومن ادعى أنه مؤمن ولم تظهر عليه آثار الأعمال الصالحة فليس بمؤمن، ولو كان باطنه حسناً، فإننا لا نعمل إلا بالظاهر، أما الذي في الباطن والذي في القلب فلا يحاسب عليه إلا الرب، أما نحن فلنا أن نعتبر الإنسان بما يظهر لنا، فمن أظهر لنا خيراً وعمل بر شهدنا له بالإيمان، وشهدنا له بالصلاح. ومن أظهر لنا فسوقاً وعصياناً ومخالفات وسيئات أبغضناه، وشهدنا له بالفسوق وبالمعصية، ومقتناه ولو كان باطنه حسناً؛ لأن الله تعالى هو الذي يحاسب على ما في القلب، فهو علام الغيوب، هكذا يجب علينا. وبكل حال: قد عرفنا أن الأعمال من مسمى الإيمان، وأنه لا يتم الإيمان إلا بالأعمال، وأن الإنسان عليه أن يحقق إيمانه بأعماله التي يعملها، سواء كانت أقوالاً يتلفظ بها كالأذكار والأدعية والتلاوة ونحوها، أو أعمالاً يعملها بيديه(2/413)
أياً كانت؛ كجهاد في سبيل الله، ونفقة في وجوه الخير وما أشبه ذلك، أو أعمالاً قلبية، كحب من يحبه الله، وبغض أعداء الله وما أشبه ذلك، أو بجميع جوارحه، فإذا كان كذلك سمينا هذه الأعمال كلها من الإيمان، وسمينا أصحابها مؤمنين، سواء كانوا مؤمنين كاملي الإيمان أو لا، وبذلك يعرف أن الإيمان يتفاوت أهله فيه بحسب الأعمال.
التلازم بين الإسلام والإيمان
…
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وكذلك هل يستلزم الإسلام الإيمان؟ فيه النزاع المذكور، وإنما وعد الله بالجنة في القرآن وبالنجاة من النار باسم الإيمان، كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، وقال تعالى: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّة عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد:21]. وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه، وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه، وبه بعث النبيين، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]. فالحاصل: أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد. كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به صح إسلامه، ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله وفي كلام الناس كثيرة -أعني في الإفراد والاقتران- منها: لفظ الكفر والنفاق، فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون، كقوله تعالى: وَمَنْ(2/414)
يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5]، ونظائره كثيرة. وإذا قرن بينهما كان الكافر من أظهر كفره، والمنافق من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه. وكذلك لفظ البر والتقوى، ولفظ الإثم والعدوان، ولفظ التوبة والاستغفار، ولفظ الفقير والمسكين.. وأمثال ذلك].
استلزام الإسلام للإيمان والعكس
…
هذا الكلام في الفرق بين الإسلام والإيمان، ولا شك أنهما مسميان شرعيان، وقد ذكرنا أن لهما مسمى في اللغة؛ وأن الإسلام في اللغة: الإذعان والاستسلام، والإسلام في الشرع: هو هذا الدين الذي هو الشرائع؛ قبولها والعمل بها، وأركانه خمسة كما هو معروف. والإيمان في اللغة: مجرد التصديق، والإيمان في الشرع تدخل فيه الأعمال. والكفر في اللغة: هو الستر والجحد والإنكار، والكفر في استعمال الشرع: هو الكفر بالله، يعني جحد دين الله وإنكاره. والنفاق في اللغة: مشتق من الإخفاء؛ لأنه شيء خفي، والنفاق في الاصطلاح الشرعي: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر.. وهكذا بقية المسميات. فعلى هذا نقول: إن الإسلام والإيمان كلاهما مسميان شرعيان، وكلاهما مطلوبان ومفروضان على العباد، ولابد على العبد أن يعرف مسماهما، وأن يدين لله تعالى بهما، فيدين لله بأنه هو الإله الحق، وأنه هو الذي فرض عبادته على الخلق، ويدين للرسول عليه الصلاة والسلام بأنه مرسل من ربه، وأنه يحمل هذه الرسالة التي هي الشريعة، ويدين لله بالعبادات، ومن جملتها بقية أركان الإسلام، فيؤدي الصلوات، ويخرج الزكاة، ويصوم، ويحج، ويجاهد، ويعمل بالأعمال الشرعية التي أوجبها الله، فبذلك يكون مسلماً ظاهراً، وكذلك يصحح عقيدته، فيعتقد ويجزم بأن الله تعالى موصوف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقص، وبأنه لا تصلح الإلهية إلا له وحده، وبأنه خالق الكون ومدبر الأمور، وكذلك يؤمن بأمور الغيب التي تقدم تفصيلها، وإن لم يرها، فبذلك يصير جامعاً بين الإسلام(2/415)
والإيمان. هذا مجمل القول في الإسلام والإيمان.
اجتماع الإسلام والإيمان وافتراقهما
…
يقول العلماء: إذا جمع بين الإسلام والإيمان، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بأعمال القلب، ولا شك أنهما متلازمان، وكل من اتصف بواحد منهما دون الآخر لم يكفِ، فالذي يقول: أنا مؤمن إيماناً خفياً لا يكفيه، إلا أن يأتي بالأعمال الظاهرة التي هي أركان الإسلام، والذي يأتي بالأركان الظاهرة علانية، ولكن قلبه فاسد، لا تنفعه هذه الأركان ولو صلى ولو صام وحج وزكى؛ ما دام أنه من غير عقيدة، ولأجل ذلك كثيراً ما يجمع الله بينهما، مما يدل على أن الوصف لابد أن يأتي عليهما، قال الله تعالى في سورة الذاريات: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] ، فوصفهم بأنهم من المؤمنين، ثم وصفهم بأنهم من المسلمين، فدل على أنهم جمعوا بين الأمرين: بين الإسلام والإيمان، ولكن لا يكفي الإيمان عن الإسلام، ولا يكفي الإسلام عن الإيمان، وإن كان أحدهما إذا أفرد دخل فيه الآخر. وقد كذب الله الأعراب الذين قالوا: آمنا، وهم ليسوا بمؤمنين حقيقة في قوله تعالى في سورة الحجرات: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، فأخبر بأنهم قالوا: آمنا، وهم ليسوا بمؤمنين حقيقة، حيث إن قلوبهم لا يزال فيها ريب وشك، ولا يزال عندهم توقف وتردد في صحة ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي تصديقه بالأمور الغيبية؛ فلأجل ذلك قال: (( وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ )) أي: لم يصل إلى قلوبكم، فأنتم أسلمتم ظاهراً، والإيمان الذي منبعه القلب لم يصل إلى قلوبكم حقيقة. وثبت في الصحيح (أن سعد بن أبي وقاص كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقسم قسماً وترك واحداً من أهل(2/416)
المجلس، فقال: ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً) يعني: الأولى أن تقول: مسلم، ولا تحكم له بالإيمان، فإن الإيمان يجمع بين الباطن والظاهر، وأنت لا تعرف منه إلا الظاهر. هكذا يفسر الإسلام والإيمان إذا اجتمعا، فيفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، ويفسر الإيمان بأعمال القلب. وضرب له الشارح أمثلة فقال: الإسلام والإيمان متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر، مثل الشهادتين، فالشهادتان متلازمتان من شهد بإحداهما لزمته الأخرى، بل هي مكملة لها؛ لأنا نقول: من أين عرفت أنه لا إله إلا الله، وعرفت بأن الله هو الإله الحق، وأنه لا تصلح الألوهية إلا له؟! أليس ذلك بواسطة الرسالة؟! إذاً: فيلزمك تصديق الرسول، والشهادة له بأنه مرسل من ربه. وإذا صدقت الرسول عليه السلام في أنه رسول، وأنه مبعوث من ربه، فما هي الرسالة التي بلغها؟ أليس أول شيء بدأ به هو التوحيد بأن يقال: لا إله إلا الله؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام بدأ يدعو الناس إلى عبادة الله وترك عبادة ما سواه، وهذا هو أعظم الرسالة التي بلغها، فالشهادتان متلازمتان، فمن شهد أن لا إله إلا الله ألزم بأن يأتي بالشهادة الثانية وهي الشهادة بالرسالة، ومن شهد أن محمداً رسول الله لزمه قبول رسالته التي أهمها قول لا إله إلا الله، فعرفنا بذلك أنهما متلازمتان. فكذلك الإسلام والإيمان متلازمان، فمن أسلم في الظاهر قلنا له: لابد أن يكون إسلامك نابعاً عن قلب، ومن آمن في الباطن، وحقق الإيمان الذي في قلبه، قلنا: لابد أن يكون الذي في قلبك له أثر وله علامات، تظهر على سمعك وعلى بصرك، وعلى يديك وعلى لسانك وعلى رجليك، وعلى مالك وعلى حالك، فإذا أظهرت ذلك فأنت مؤمن، وإذا لم تظهره فلست بمؤمن.
اجتماع الكفر والشرك والنفاق والعصيان وافتراقهما
…(2/417)
ذكر الشارح أن كثيراً من الأمور تقترن، ويفسر أحدهما بكذا والآخر بكذا، مثل: الكفر والنفاق. والكفر من الأمور الشرعية التي بينها الشرع واستعملها، والنفاق من الأمور الشرعية التي بينها الشرع، وإن كان له مسمى في اللغة. كذلك -أيضاً- الكفر والشرك متلازمان، فإن كل من كفر وصف بأنه مشرك، وكل من أشرك وصف بأنه كافر؛ لأن الشرك مشتق من الشركة -أي: الاشتراك- كأنه جعل عبادته مشتركة بين الخالق والمخلوق، ولا شك أن هذا يعم كل من حكم بكفره؛ وذلك لأنه أطاع غير الله، ولو لم يطع إلا الشيطان الذي نهاه عن عبادة الله، أو أمره بأن يعبد المخلوق، أو أمره بأن يجحد الرسالة أو نحو ذلك، فيكون قد عبد الشيطان، ولأجل ذلك يقول العلماء: إن كل من عبد غير الله فعبادته منصبة على الشياطين. ولذلك لما نزل قول الله تعالى في آخر سورة الأنبياء: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98] قال المشركون: كيف تزعم أن ما نعبده حصب لجهنم، ونحن نعبد الملائكة، فهل الملائكة حصب لجهنم؟! والنصارى يعبدون المسيح، فهل المسيح حصب لجهنم؟! واليهود يعبدون عزيراً، فهل عزير -وهو عبد صالح- من حصب جهنم؟! لكن لم يعبدوها حقيقة، وإنما عبادتهم تنصب على الشياطين)، فالشياطين هي التي دعتهم إلى عبادتها فأطاعوها، فأصبحوا عابدين للشياطين، وإلا فالملائكة بريئة منهم كما حكى الله عنهم في قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:40-41] يعني: جن الشياطين. فالحاصل: أن الشرك والكفر متلازمان، فكل من أشرك قيل: هذا كافر مشرك، وكل من كفر بالله أو بنعمة الله قيل: هذا مشرك كافر، يعني يصدق عليه الوصفان ويتلازمان. وكذلك -أيضاً- المنافق(2/418)
موصوف بأنه منافق، وبأنه كافر، ودليل ذلك قول الله تعالى في سورة المنافقون: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المنافقون:3] فسماهم المنافقين في قوله: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ [المنافقون:1] ، وفي الآية بعدها وصفهم بأنهم قد آمنوا ثم كفروا، فدل على أن كل من نافق فهو كافر، ولو كان يظهر للناس أنه معهم؛ لأنه كما وصف الله المنافقين بقوله: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14] أي: رؤساؤهم الذين يدعونهم إلى النفاق، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] فهذا دليل على أنهم في الباطن مع الكفار. فهذا دليل على أن هذه الأعمال متلازمة، لا يتم الإيمان إلا بها، الإسلام والإيمان والتوحيد واليقين، ورد في بعض الأحاديث: (الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله) ، وغيرها من المسميات الشرعية، وكذلك أسماء الكفر متلازمة، مثل الفسوق والعصيان والشرك والكفر والنفاق.. وما أشبهها، إذا وصف واحد بوصف منها انطبقت عليه الأوصاف، فيقال: هذا فاسق وكافر وضال وعاص ومشرك ومنافق.. ونحو ذلك، تنطبق عليه، وإن كان النفاق يختص بمن أخفى كفره، ولا يعم من أظهر كفره، لكنه في الحقيقة كثيراً ما ينطبق عليه أنه منافق ولو كان مظهراً لكفره غالباً.
الكلام على آية الحجرات في الفرق بين الإسلام والإيمان
…(2/419)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] إلى آخر السورة، وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا): انقدنا بظواهرنا، فهم منافقون في الحقيقة، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة. وأجيب بالقول الآخر، ورجح، وهو: أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان، لا أنهم منافقون، كما نفى الإيمان عن القاتل والزاني والسارق ومن لا أمانة له، ويؤيد هذا سياق الآية، فإن السورة من أولها إلى هنا في النهي عن المعاصي، وأحكام بعض العصاة، ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين. ثم قال بعد ذلك: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14] ، ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة. ثم قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15] يعني -والله أعلم- أن المؤمنين الكاملي الإيمان هم هؤلاء، لا أنتم، بل أنتم منتف عنكم الإيمان الكامل. يؤيد هذا: أنه أمرهم -أو أذن لهم- أن يقولوا: أسلمنا، والمنافق لا يقال له ذلك، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى عنهم الإيمان، ونهاهم أن يمنوا بإسلامهم، فأثبت لهم إسلاماً، ونهاهم أن يمنوا به على رسوله، ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال: لم تسلموا، بل أنتم كاذبون كما كذبهم في قولهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1]. والله أعلم بالصواب]. هذه الآية في سورة الحجرات قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14] إلى قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ(2/420)
وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15] يعني: أن المؤمنين حقاً هم الذين اتصفوا بهذه الصفات: أولاً: التصديق الجازم بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عنه على مراده. ثانياً: نفي الريب، والبعد عن الريب الذي هو الشك: (ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) أي: لم يداخل قلوبهم شك ولا توقف، بل هم على يقين جازم بما هم عليه، دون أن يشكوا في شيء من أمر البعث أو الحشر أو الجزاء أو نحو ذلك. ثالثاً: العمل، وهو قوله: (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فهذا من أمثلة العمل، يعني: أنهم جمعوا بين الإيمان الذي هو العقيدة وعدم الريب والعمل، فيكون ذلك هو حقيقة الإيمان، هؤلاء هم المؤمنون حقاً، إنما المؤمنون من كان على هذا الوصف. والحاصل: أن الله نفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام بقوله: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)، وأخبر بأن الإيمان لم يصل إلى قلوبهم، ولكن آمنوا إيماناً ظاهراً، ولا شك أن هؤلاء الأعراب من بوادي المسلمين، دخلوا في الإسلام، ولم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولأجل ذلك ارتد الكثير منهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم لم يتمكنوا ولم يتوغلوا في الإسلام، فهؤلاء مسلمون، ولكن لم يكونوا على يقين، ولم تصل إليهم الأدلة اليقينة. هناك من يقول: إنهم منافقون. والصواب: أنهم ليسوا من المنافقين الذين وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141] ، ووصفهم بقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143] ، بل هؤلاء أسلموا ظاهراً وانقادوا؛ ولكن لم تطمئن قلوبهم، ولعل(2/421)
إسلامهم كان بالغلبة لما أنهم غلبوا، أو لعل إسلامهم كان بالظهور، لما رأوا الإسلام يعلو ويظهر آمنوا كتجربة وكنظر، يقولون: ندخل في هذا الإسلام، ثم بعد ذلك نختبره وننظر، فإن كان له الرفعة والمنعة والنصرة والقوة والتمكين اطمأننا فيه، وكذلك إن وجدنا منه سعة ووجدنا منه ثروة وغنى وراحة ومحبة لمطلب أو توسعة علينا، قبلناه وتأثرنا به، وإن وجدنا غير ذلك رددناه ورجعنا على ما كنا عليه. فدخلوا عن تجربة لا عن يقين، فليسوا مثل الصحابة الذين دخلوا عن يقين. وما أكثر الذين هذه حالتهم! ولكن إذا منَّ الله على العبد فدخل الإسلام، ثم بعد ذلك يسر له من يشرح له تعاليم الإسلام والإيمان، ويبين له الأدلة اليقينية؛ فإنه عند ذلك يقتنع، وينشرح بذلك صدره، ويعرف ويستيقن بأن الإسلام هو الدين الحق، وأنه هو الدين الصواب، فعند ذلك تظهر عليه آثار الإسلام، وهي الأعمال الصالحة.
انتفاء دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان
…(2/422)
قال الشارح رحمه الله: [وينتفي بعد هذا التقدير والتفصيل دعوى الترادف، وتشنيع من ألزم بأن الإسلام لو كان هو الأمور الظاهرة لكان ينبغي ألا يقابل بذلك، ولا يقبل إيمان المخلص وهذا ظاهر الفساد، فإنه قد تقدم تنظير الإيمان والإسلام بالشهادتين وغيرهما، وأن حالة الاقتران غير حالة الانفراد. فانظر إلى كلمة الشهادة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله ..) الحديث، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة؛ ما كانوا يستحقون العصمة، بل لابد أن يقولوا: لا إله إلا الله. قائمين بحقها، ولا يكون قائماً بلا إله إلا الله حق القيام إلا من صدق بالرسالة، وكذا من شهد أن محمداً رسول الله، لا يكون قائماً بهذه الشهادة حق القيام إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به. فتضمنت التوحيد. وإذا ضممت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة أن محمداً رسول الله كان المراد من شهادة (أن لا إله إلا الله) إثبات التوحيد، ومن شهادة (أن محمداً رسول الله) إثبات الرسالة. كذلك الإسلام والإيمان: إذا قرن أحدهما بالآخر، كما في قول الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت)؛ كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب) ، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه، وكما في الفقير والمسكين ونظائره، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فهل يقال في قوله تعالى: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [المائدة:89] أنه يعطى المقل دون المعدم أو بالعكس؟ وكذا في قوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]. ويندفع أيضاً تشنيع من قال: ما حكم من آمن ولم يسلم أو أسلم ولم(2/423)
يؤمن في الدنيا والآخرة؟ فمن يثبت لأحدهما حكماً ليس بثابت للآخر ظهر بطلان قوله! ويقال له في مقابلة تشنيعه: أنت تقول: المسلم هو المؤمن، والله تعالى يقول: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فجعلهما غيرين، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لك عن فلان! والله إني لأراه مؤمناً؟ قال: أو مسلماً، قالها ثلاثاً) ، فأثبت له الإسلام وتوقف في اسم الإيمان، فمن قال: هما سواء. كان مخالفاً، والواجب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله. وقد يتراءى في بعض النصوص معارضة، ولا معارضة بحمد الله تعالى، ولكن الشأن في التوفيق، وبالله التوفيق]. هذا الكلام يتعلق بالجمع بين الإسلام والإيمان في بعض المواضع، كالآيات التي سمعنا، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]؛ هل هذه الصفات يكتفى بواحدة منها؟ لا يكتفى، بل هي متلازمة، فإن من أسلم لزمه الإيمان، ومن آمن لزمه القنوت، ومن قنت لزمه الصبر، ومن صبر لزمه الصيام.. إلى آخرها، فهي صفات مترابطة، وكلها من صفات أهل الإيمان، ولكن عطف بعضها على بعض من باب كثرة الأعمال، يعني أنهم متصفون بها كلها، وأنها كلها أعمال صالحة، فكل منها له معنى، وله تفسير. فالقنوت يفسر بأنه: دوام الطاعة. وهذا من لوازم الإسلام والإيمان، والصدق يفسر بأنه مطابقة القول للعمل، أو مطابقة العمل للقول. يعني: أن يصدق قوله عمله، وهذا من لوازم الإسلام والإيمان، فالذي يسلم ويؤمن ولكنه لا يصدق لا يقبل منه، ولأجل(2/424)
ذلك جعل الصدق من شروط (لا إله إلا الله) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله. صادقاً من قلبه دخل الجنة) ، فلابد من الصدق، فلذلك وصفهم الله بقوله: (( والصادقين والصادقات )) ، ولابد من الصبر؛ فإن الذي يسلم ويؤمن يؤمر بالأعمال، فإذا أمر بالأعمال فلابد أن يصبر على الطاعات ولو كان فيها مشقة، ويصبر عن المحرمات ولو نازعته نفسه إليها، فإذا لم يصبر انثلم إيمانه، وانخرمت أوصافه الدينية، فلابد أن يكون متصفاً بهذه الأعمال كلها. فالحاصل: أن العطف في هذه الآية لمجرد كثرة الصفات، لا للتغاير، وإلا فواحدة منها تستلزم البواقي، فالإسلام الحقيقي يستلزم الإيمان والقنوت والصدق والصبر والصيام... إلى آخرها، فتكون كلها من تمامه. وكذلك بقية الآيات التي سمعنا، فإن قول الله تعالى في وصف المؤمنين: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] دليل على أنهم جمعوا بين الوصفين. فنقول: لا شك أن الشهادتين كل منهما مستلزمة للأخرى، شهادة أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله، أول ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله. يقول في الأحاديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، وأكثر الأحاديث لم يذكر فيها الشهادة الثانية، ولكنها مستلزمة لها، وفي بعض الروايات: (ويؤمنوا بي وبما جئت به) ، وهذا هو التصديق بالرسالة، فمن قال: لا إله إلا الله. ولكنه لم يأتِ بالشهادة الثانية لم تنفعه، فهما متلازمتان، وكذلك من قال: أنا مسلم. ولم يأتِ بصفة الإيمان؛ لم ينفعه، فلابد أن يأتي بصفة الإيمان حقاً حتى يصدق عليه أنه جمع بين الوصفين -الإسلام والإيمان- الحقيقيين. وكذلك بقية الأدلة تدل على أنه لابد لكل من أتى بصفة أن يأتي ببقية الصفات، وإلا فليس بصادق. فهذه الأوصاف التي وصف الله بها(2/425)
عباده لا شك أن كلها أسماء لمسمى واحد، وهو حقيقة هذا الدين الذي يدينون به، فإن الله سماه دين الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] ، والدين هو ما يدان به، يعني: ما يدين به العبد ويتقرب به، فمن أسمائه أنه دين، ولكن من فروعه هذه العبادات التي تسمى فروعاً، وتسمى شعباً للإيمان، وتسمى أركاناً للإيمان، وأركاناً للإسلام، وتسمى مراتب للدين، رتبة الإسلام ثم رتبة الإيمان ثم رتبة الإحسان، وتسمى أركاناً ودعائم يتكون منها ويتقوم منها. والمسلم عليه أن يأتي بهذه الأركان كلها، ومبدؤها -كما هو معروف- الإتيان بالشهادتين، ويتفرع عن الشهادتين قبول الرسالة، فإن من أتى بـ(لا إله إلا الله) لزمته جميع أنواع العبودية، لأنك إذا قلت: لا إله إلا الله. قلنا: الله هو الإله، فهو المعبود، وهو المحمود، وهو المدعو، وهو الذي يشكر، وهو الذي يذكر، وهو الذي يتقرب إليه، وهو الذي يطاع، وهو الذي يوحد. وإذا قلت: إن محمداً رسول الله، أو: عبد الله ورسوله. قلنا: إذا قلت ذلك فيلزمك أن تؤمن به، وأن تصدقه، وأن تتبعه، وأن تحبه، وأن تتأسى به وتقتدي به، وأن تقدم سنته على غيرها، ونحو ذلك، ويلزمك أن تعتقد صحة رسالته، وأن تقبل كل ما بلغه، فكل ذلك من تمام قولك: إنه رسول الله. فإن وظيفة الرسول أنه يطيعه المرسل إليهم. هذا معنى تلازم الشهادتين، وتلازم وصف الإيمان والإسلام.
نفي الاحتجاج بآية الذاريات على ترادف الإيمان والإسلام
…(2/426)
قال الشارح رحمه الله: [وأما الاحتجاج بقوله تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36] على ترادف الإسلام والإيمان، فلا حجة فيه؛ لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما. والظاهر: أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة ! وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد ، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث: (أي الإسلام أفضل؟) إلى آخره، قال له: ألا تراه يقول: (أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان) ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبو حنيفة ، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة ؟ قال: بم أجيبه، وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!]. قد سبق كلام طويل يتعلق بالإيمان والإسلام، وما يدخل في الإسلام، وما يدخل في الإيمان، والمسألة قديمة، حدث فيها خلاف بين المرجئة وبين أهل السنة، فذهب المرجئة إلى أن الإيمان هو تصديق القلب، وجعلوا الأعمال ليست من مسمى الإيمان، وذهب أهل السنة إلى أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن الإيمان له شعب وله فروع، كلها تسمى إيماناً، فتسمى الصلاة إيماناً أو شعبة من الإيمان، والشهادتان إيمان أو بعض من أصل الإيمان، والزكاة من الإيمان، والصدقة من الإيمان، والأذكار والأدعية إيمان.. وهكذا. وسبق -أيضاً- الخلاف: هل الإسلام غير الإيمان؟ وهل هما متغايران أم مترادفان؟ فذهب بعضهم إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد. والمحققون على أن الإسلام أوسع من الإيمان، وأن الإنسان قد يصير مسلماً ولا يصل إلى درجة الإيمان، فعلى هذا يكون الإيمان أخص من الإسلام. والذين سووا بينهما احتجوا على أن الإسلام والإيمان شيء واحد بهذه الآيات التي في سورة الذاريات، وهي قوله تعالى في قصة قوم(2/427)
لوط: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، والكلام من الملائكة الذين يخاطبون إبراهيم عليه السلام بأنهم سوف يخرجون أهل الإيمان، فوصفوا أهل ذلك البيت -وهم لوط وأهل بيته- بأنهم مسلمون وبأنهم مؤمنون؛ فقيل: لأن الإيمان والإسلام مترادفان. والصحيح أن الآية لا تدل على أن الإسلام هو الإيمان، وذلك لأن أهل بيت لوط كانوا متصفين بالإسلام وبالإيمان، فالإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو العقيدة الراسخة، كما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام في حديث جبريل بأركانه الخمسة، وفسر الإيمان بأركانه الستة، فجعل الإسلام أعمالاً: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم. وجعل الإيمان عقيدة، وهو: التصديق بالله، وبالملائكة، وبالرسل، وبالكتب، وبالبعث بعد الموت، وبالقضاء والقدر، جعل هذا هو الإيمان، فأفاد أن الإيمان أصلاً هو ما يقوم بالقلب من هذا التصديق، ولكن لا شك أن التصديق إذا كان راسخاً في العقل متمكناً في القلب نتجت عنه الأعمال، فأصبحت الأعمال هي الدلالة على أن هناك تصديقاً صادقاً، فلذلك دخلت العبادات في اسم الإيمان، فهذا أوضح الأدلة في أن الإسلام أوسع من الإيمان. قد ذكرنا أن من العلماء من جعل الإسلام والإيمان والإحسان درجات، فمثلاً: درجة الأرضية الواسعة هي الإسلام، والدرجة الثانية: هي الإيمان، كأن المؤمنين خلاصة من المسلمين، انتقوا وخلصوا حتى صعدوا إلى الدرجة الثانية أو المرتبة الثانية، ثم خلصت من المؤمنين خلاصة الخلاصة وصفوة الصفوة، وجعلوا في المرتبة الثالثة، وسموا بالمحسنين أو بأهل الإحسان، كما في حديث جبريل أنه قسم المراتب ثلاثاً: الإسلام، والإيمان والإحسان، فأوسعهم أهل الإسلام، ثم بعد ذلك خلاصتهم أهل الإيمان، ثم بعده خلاصة الخلاصة أهل الإحسان، وهم أقل. فيقال في أولئك الخلاصة: أنتم مسلمون(2/428)
ومؤمنون ومحسنون، أسلمتم أولاً، ثم آمنتم بعد ذلك، ثم أحسنتم ووصلتم إلى الرتبة العالية. ويقال لأهل الإيمان: آمنتم بعدما أسلمتم. ويقال لأهل الإسلام: أسلمتم فقط، لم تصلوا إلى الإيمان. فعلى هذا فالإنسان الكامل هو الذي وصل إلى مرتبة الإحسان، أسلم ثم آمن ثم أحسن، وقد تقدم تفسير الإحسان بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، فكذلك يقال: الإيمان الحقيقي هو الذي تنتج عنه الأعمال، أما تصديق لا تنتج عنه أعمال فليس بإيمان.
الشبه الواردة عن الحنفية لإخراج الأعمال عن الإيمان ليست منقولة عن الإمام أبي حنيفة
…(2/429)
هذه الحجج التي أوردها الشارح على أنها أدلة للحنفية في التفريق بين الإسلام والإيمان، ويجعلون الإيمان مجرد التصديق، ويجعلون أعمال الإسلام ليست داخلة في الإيمان؛ يقول الشارح: إن هذه الأدلة ضعيفة، وإنها لا يمكن أن تصدر من أبي حنيفة مع جلالته ومع معرفته ومع قوة فهمه، لكونها منهارة ضعيفة. واستدل على أن أبا حنيفة متى احتج عليه بالحديث توقف عن رده، كما احتج عليه حماد بن زيد -وهو من علماء الحديث- في التفرقة بين المسلمين والتفاوت بينهم، بقوله صلى الله عليه وسلم لما قيل له: (ما أفضل الإسلام؟ فقال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله)، فجعل الإيمان زائداً عن مسمى الإسلام، فدل على أن المسلمين يتفاوتون، فإذا كان المسلم ممن تمكن الإسلام في قلبه وصل إلى مرتبة الإيمان، وهي: قوة العقيدة مع الانبعاث على العمل، فأبو حنيفة لما احتج عليه بهذا الحديث الذي فيه تفاضل أهل الإسلام، وأنه صلى الله عليه وسلم جعلهم متفاضلين، وجعل أفضل أعمال الإسلام هو الإيمان؛ أقر ذلك أبو حنيفة ولم يرد الحديث، مع أن أصحابه يتشوفون إلى رد ذلك الدليل، ولكنه سلم له، فيستدل على أن هذه الاحتجاجات الضعيفة ليست من أبي حنيفة ، وإنما هي من أصحابه الذين يتعصبون لمذهبه. وهذه الآية يحتجون بها على تغاير الإسلام والإيمان، قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35-36]، كأنه أخبر بأنه أخرج من كان فيها من المؤمنين، فلم يجد فيها إلا بيتاً واحداً من المسلمين، وهم لوط وأهل بيته، فلوط عليه السلام وأهل بيته لا شك أنهم جمعوا بين الوصفين: بين الإيمان والإسلام، ولهذا استثنى الله امرأته وقال: إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [الأعراف:83] ، إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ [الشعراء:171]. إذاً: لا منافاة بين هذا الدليل وتلك الأدلة، بل هو دليل(2/430)
واضح على أن الإسلام يستلزم الإيمان، فلا يتم الإيمان إلا بأركان الإسلام، ولا يتم الإسلام إلا بأركان الإيمان، ومن أتى بواحد منهما دون الآخر لم يقبل منه، فمن أتى بالأعمال الظاهرة، ولم تكن عن يقين وعن عقيدة وعن تصديق بقلبه لم يكن مؤمناً، ولم ينفعه الإسلام، ومن اعتقد اعتقاداً جازماً، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وصدق بخبر الله، وصدق بالبعث بعد الموت، ثم لم يعمل ولم يصلِ ولم يصم ولم يحج، ولم يؤد زكاة ماله، ولم يأت بواجباته، ولم يحرم الحرام ولم يحل الحلال؛ فليس بمؤمن، ولو ادعى أنه مطمئن قلبه بالإيمان، هذا مقتضى هذه الآيات. هذه هي الشبه التي يدلي بها الحنفية، ويدعون أنهم ينصرون بذلك مذهب أبي حنيفة في أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان، وأن الإسلام مغاير للإيمان، حيث يذهبون إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، ويخرجون الأعمال من مسمى الإيمان. والصحيح مذهب الجمهور: أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن هذه الشبهات التي يستدلون بها، ويدعون أنها أدلة لأبي حنيفة لم تكن منقولة عن أبي حنيفة نفسه، فهو رحمه الله من أجلاء السلف ومن أجلاء التابعين، ولم يكن ليدلي بهذه الشبهات، ولا يشكك بها في هذه العقيدة، فإن عقيدته سليمة صحيحة، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن لما اشتهر عن الحنفية أنهم يخرجون الأعمال من مسمى الإيمان أخذوا يجمعون ما يستطيعونه من الشبهات وما يسمونه بالأدلة، فأوردوها كنصرة لمذهبهم، والصحيح: أنه لا دلالة فيها كما ذكرنا، بل الأدلة واضحة في أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وثمرة من ثمراته.
شرح العقيدة الطحاوية [46]
الاستثناء في الإيمان بقول: أنا مؤمن إن شاء الله، من المسائل التي كثر فيها الخلاف، والراجح فيها هو التفصيل، فيجوز باعتبار ولا يجوز باعتبار، كما بين ذلك أهل السنة.
أهمية دراسة العقيدة
…(2/431)
اجتمعنا في هذا المسجد المبارك لنستمع ونقرأ ما يتعلق بأصل ديننا، الأصل الأصيل الذي هو المعتقد، وما يتفرع عن ذلك المعتقد؛ وذلك أنه متى تأسست الأصول انبنت عليها الفروع، وإذا خربت الأصول سقطت الفروع، فالأصل لهذا الدين هو العقيدة، والفروع هي العبادات، فإذا كانت العقيدة راسخة في القلب نبعت عنها الأعمال، فأنتجت أعمالاً صالحة، وحصل من آثار تلك العقيدة الراسخة امتثال الأوامر، وترك الزواجر، والتصديق بالأخبار، والعمل الصالح، والعلم النافع، وكل ذلك من نتائج هذا الأصل الأصيل، ومن فروع هذه العقيدة. وبنظرنا في سير سلفنا الصالح نرى أنه لما كانت العقيدة متمكنة في قلوبهم أكثروا من الأعمال الصالحة، وصدقوا بما أخبر الله، واندفعوا في تحقيق تلك الأوامر، وأفنوا في ذلك أموالهم وأنفسهم وبلادهم، وهانت عليهم كلها في سبيل تحقيق عقيدتهم، وترك ما كان عليه آباؤهم وأسلافهم. لما عرفوا صحة الرسالة، وعرفوا صحة التوحيد، وعرفوا حقيقة الإيمان بالبعث، وعرفوا ثواب الله تعالى في الآخرة، وعرفوا صدق ما وعد الله تعالى به لهم؛ هانت عليهم بلادهم فتركوها، وهانت عليهم أموالهم، وسهلت عليهم عشائرهم وأزواجهم وأقاربهم، كل ذلك أصبح هيناً عليهم في سبيل تمكنهم من علمهم، وتمكنهم من العمل الذي أمروا به. كذلك لما رسخت العقيدة في قلوبهم صدقوا بوعد الله الذي وعدهم أن ينصرهم، وأن يقويهم، وأن يمكن لهم في الأرض، وأن يستخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم، وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمناً، فلما صدقوا هذا ورسخ وتمكن في قلوبهم، عند ذلك قاتلوا في سبيل الله وقتلوا، وكذلك هاجروا وهجروا كل قريب وبعيد، كل ذلك لأجل تصديقهم بخبر ربهم، وتصديقهم بوعده ووعيده، وطلبهم ما وعد الله لهم من الثواب الجزيل في الآخرة. والذي حملهم على أن يقاتلوا الأعداء مع كثرتهم، ويصبروا حتى نصرهم الله، تصديقهم بوعد الله، حيث تمكن ذلك من قلوبهم، فقابلوا أعداد الكفار وعددهم،(2/432)
وقابلوا جيوشهم الهائلة المتراكمة، واثقين بأن الله لا يخلف وعده. لا شك أن ذلك لأجل تمكن العقيدة في قلوبهم، وهكذا أتباعهم من بعدهم، فمن تأمل سيرة العلماء الذين بلغتهم السنة الصحيحة فتقبلوها، وجاءتهم الشريعة فصدقوها، وعلموا صحة ما جاء في هذه الرسالة، فآمنوا به إيماناً صحيحاً، لا يعتريه شك ولا ريب، فلما خالفهم من خالفهم، ولما أنكر عليهم بعض المبتدعة الذين زاغوا وضلوا، وحاولوا أن يردوهم عما هم عليه من المعتقد؛ امتنعوا أشد الامتناع، وأصروا على ما هم عليه، وأبوا إلا أن يدينوا بما يعرفونه وبما يعتقدونه، ولو خالفتهم فئام الناس، ولو هددوهم؛ كما حصل للأئمة. ما الذي حملهم على الصبر على السجون؟ ما الذي حملهم أن يصبروا على الأذى؟ ما الذي حملهم أن يصبروا على الضرب وعلى الجلد كما حصل للإمام أحمد وابن تيمية وغيرهما؟ لا شك أنه ما رسخ في قلوبهم من تلك العقيدة التي نالوها من هذه الشريعة، فوثقوا بخبر الله سبحانه وتعالى، وصدقوا ما جاء عنه، وعلموا أن النصر لهم، وأن العاقبة الحميدة لهم، وأن مآل الانتصار والظهور لمن كان على الحق، ولو ناوأهم من ناوأهم، وخالفهم من خالفهم. لا شك أن هذا كله من آثار صدق تلك العقيدة، ومن آثار قوة إيمانهم وتصديقهم. نقول: إن الواجب علينا أن نكون مثلهم، نحن تلقينا العقيدة مثلما تلقوها، هم تلقوها عن مشايخهم، وهكذا عن آبائهم وأسلافهم، ولما تلقوها عرفوا أنها صحيحة ثابتة، فتركزت تلك العقيدة على الإيمان بالله، والإيمان بخبر الله، والإيمان بوعده ووعيده، والإيمان بكتبه ورسله، والإيمان بأمره ونهيه، والإيمان بقدره وشرعه، آمنوا بذلك، يعني: صدقوا به غاية التصديق، وقوي في أنفسهم، وقامت عليه الدلالات والبراهين، ولم يخطر ببالهم شك ولا ريب ولا توقف ولا شبهة تعتريهم، بل متى ألقيت عليهم شبهة أو شك في البعث، أو في النشور، أو في الجزاء، أو في الحساب، أو في الأمر والنهي؛ احترقت تلك الشبهة قبل(2/433)
أن تتمكن في قلوبهم؛ وذلك لقوة البراهين التي تضعف عندها تلك الشبه. فنحن بحاجة إلى أن نعرف تلك البراهين والأدلة التي قامت عليها هذه العقيدة، بحاجة إلى أن ندرسها، ونعرف كيفية دلالتها، ودلالتها وإن كانت واضحة، ولكن تحتاج إلى قلوب فارغة من أضدادها. إذاً: نحن بحاجة إلى أن نفرغ قلوبنا لها، تأتي إلينا وقلوبنا فارغة من الشبهات، فارغة من الشواغل، فارغة من الأضداد، فارغة من الضلالات والبدع، فإذا كان كذلك فإن العقيدة الراسية ترسخ فيها، ولا تتزعزع مهما اعتراها. أما إذا تلقت تلك القلوب الفارغة بدعاً وضلالات وشركيات وخرافات في حالة فراغها، ولم تصغ إلا لها، ثم عرضت عليها بعد ذلك الأدلة الصحيحة، أو البراهين الساطعة، فإن تلك القلوب لا تجد لها مكاناً، فتبقى تلك القلوب مقفلة لا يدخلها الحق؛ لأنها امتلأت بالضلال فلم يجد الحق إليها سبيلاً، امتلأت القلوب الفاسدة بالبدع، فلم تجد السنة فيها مكاناً، امتلأت بالخرافات، وامتلأت بالمحدثات، وامتلأت بالشبهات، فلم يجد الدليل إليها وصولاً، فلا حيلة فيها إلا أن يشاء الله. نحن نعجب من أهل البدع، وتمكن البدع في نفوسهم، وتمسكهم بها مع أنها تمجها النفوس، تمجها العقول، تنكرها الطباع والفطر، ومع ذلك يتمسكون بها غاية التمسك، ويعضون عليها بالنواجذ، ولو أتيتهم بكل آية ما أقلعوا عنها إلا أن يشاء الله، تأملوا -مثلاً- في الشيعة والرافضة الذين نشئوا على عقيدة زائغة، تأملوا كيف أنهم يبقون على هذه العقيدة، ويلقنون عليها أولادهم منذ الطفولة، ثم يحاول المحاولون في أن يقلعوا عنها، ويبينوا لهم السنة، ويبينوا لهم الدليل، ولكن يدخل الكلام من أذن ويخرج من الأخرى دون أن يصل إلى القلوب، بل قلوبهم ليس فيها مكان للتقبل. كذلك الكثير من المبتدعة من أشعرية، من معتزلة، من جبرية، من مكارمة.. وغيرهم، لما امتلأت قلوبهم في الطفولة وفي الصغر بهذه الشبهات لم يجد الحق إليها سبيلاً. ونحث المسلم(2/434)
أن يلقن أولاده في طفولتهم معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة الحساب والجزاء، ومعرفة الأسماء والصفات، ومعرفة ما أمر به، وما نهي عنه؛ حتى يرسخ ذلك في قلبه ويحبه ويألفه، فإذا لقن غيره من الخرافات ودعي إليها لم يتقبل ذلك، بل نفر منها غاية النفرة، بخلاف ما إذا بقي جاهلاً لا يعرف شيئاً، أو لقن في صغره عقيدة زائغة، فإنه لا يقبل العقيدة الصحيحة، فهكذا فلنكن، وهكذا فلنتمكن من عقيدتنا، وهكذا فلتظهر آثارها. ......
الاستثناء في الإيمان
…(2/435)
قال المصنف رحمه الله: [ومن ثمرات هذا الاختلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول -أي: الرجل-: أنا مؤمن إن شاء الله. والناس فيه على ثلاثة أقوال؛ طرفان ووسط: منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا أصح الأقوال. أما من يوجبه فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة، وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به. قالوا: والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم. وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً، فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد، وليس هذا قول السلف، ولا كان يقول بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد، فإن الله تعالى قال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] ، فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة. ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه، حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، يقول: صليت إن شاء الله! ونحو ذلك، يعني: القبول. ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه؟ يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره!! المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن -بهذا الاعتبار- فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين، القائمين بجميع ما أمروا به، وترك كل ما نهوا عنه،(2/436)
فيكون من أولياء الله المقربين، وهذا من تزكية الإنسان لنفسه، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال، وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون، وإن جوزوا ترك الاستثناء بمعنى آخره كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ويحتجون بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه بقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]. وقال صلى الله عليه وسلم حين وقف على المقابر: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) وقال أيضاً: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله) .. ونظائر هذا]. ......
القول بوجوب الاستثناء في الإيمان
…(2/437)
هذه مسألة يتكلمون عليها في هذا الموضع، وهي مسألة الاستثناء في الإيمان، بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله، أنا مسلم إن شاء الله، فمن العلماء من يوجبه، ومنهم من يحرم الاستثناء، ومنهم من يجوزه ولا يوجبه، أو يوجبه في حال دون حال. سمعنا أن أتباع ابن كرام ومن يقرب من الأشاعرة يوجبون الاستثناء، فيوجبون أن يقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله. ثم تجاوزوا ذلك فصاروا يستثنون في الأشياء الظاهرة، فإذا صلى أحدهم قال: صليت إن شاء الله. وإذا دخل أو خرج قال: دخلت أو خرجت إن شاء الله. حتى يقول: هذا ثوب إن شاء الله، هذا قلم أو كتاب إن شاء الله؛ مع أنه لا يشك فيه! هؤلاء لهم مأخذ، يقولون: السبب أنا لا ندري ما الخاتمة وما هي العاقبة، فإن الإنسان إنما يكون مؤمناً إذا مات على الإيمان، ونحن لا ندري، ربما يحصل من أحدنا غير ما كان عليه، فلذلك يستثنون. يقولون: لأن الله أعلم بالخواتيم، وهو أعلم بما نحن نموت عليه. صحيح أن الله تعالى أعلم بالخاتمة، وأعلم بالعاقبة، وأعلم بما يموت عليه الإنسان، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن الإنسان يكون مكتوباً عند الله من أهل النار، وهو أكثر وقته يعمل بعمل أهل الجنة، في قوله: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، ويعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، فهو طوال حياته يعمل بأعمال أهل الجنة، ومع أهل الجنة، ثم يرتد في آخر حياته، ويختم له بعمل أهل النار، فيدخل النار. ومن الحكايات المشهورة التي ذكرها كثير من المؤرخين: أن رجلاً كان مؤذناً من صالحي عباد الله، محافظاً على الصلاة، ومحافظاً على الأذان، ومحافظاً على الأعمال الصالحة، فصعد مرة إلى المئذنة ليؤذن، فلفت نظره ابنة أحد جيران المسجد، وقد أسفرت، فتعلق قلبه بها، فترك الأذان ونزل وطرق باب أهلها وقال: أريدك. فقالت: لماذا؟ فقال: أتزوجك. قالت: أنا نصرانية، وأنت مسلم! فعند ذلك قال: سوف أترك ديني(2/438)
وأدخل في دينك، وأتنصر. فتنصر، ولما تنصر وعقد له عليها مات قبل أن يدخل بها، فختم له بعمل أهل النار!! هذا مثال، والأمثلة كثيرة. فيقولون: إن العاقبة خفية علينا، فالاستثناء إنما هو بالنظر إلى العاقبة. والجواب: أننا نقول لكم: لا نسألكم عن العاقبة، إنما نسألكم عن الحال الذي أنتم فيه، وما قام الآن بقلوبكم، أما العواقب فأمرها إلى الله تعالى. فعلى هذا إذا سألك إنسان: ما دينك؟ فلا تقل: ديني الإسلام إن شاء الله؛ إلا على وجه التبرك، بل تجزم وتقول: نعم، أنا مسلم من أهل الإسلام، وفي بلاد الإسلام، وديني الإسلام، وأعتقد ما يعتقده المسلمون، دون أن أستثني ودون أن أتردد ودون أن أتوقف، والعاقبة للمتقين، وأمر الخاتمة إلى الله تعالى. وصحيح -أيضاً- أن الإنسان إنما يجازى بما مات عليه، فإن كانت حياته حياة كفر، ثم ختم له بالإسلام والإيمان فهو محبوب عند الله، وإن كانت حياته حياة إيمان، ولكن ختم له بكفر، فهو مبغوض عند الله طوال حياته، فإذا علم الله أن هذا الإنسان يموت كافراً فإن الله يبغضه حتى ولو كان يجاهد، ولو كان يصلي، ولو كان يتهجد، ولو كان يقرأ طوال حياته، ولو كانت يتدبر آيات الله، ولو كان يعظ وينصح، فهو مبغوض ممقوت عند الله منذ خلق، وإذا علم الله أن إنساناً يموت على الخير، ويموت على الدين، ويموت على الإسلام، ولكن أكثر حياته يشرك بالله ويكفر به، ويعصي، ويزني، ويرابي، ويقتل المسلمين ويقاتلهم، ويشن عليهم الغارات، ويشجع من يقاتلهم، ويحث على رد الإسلام والرد عليه، ومع ذلك يؤمل أنه يهتدي، والله يعلم أنه يختم له بخاتمة حسنة، يقولون: هو ما زال محبوباً عند الله، وإن كانت أعماله كفرية أو بدعية أو نحو ذلك. وبكل حال: هذا قول الذين يوجبون الاستثناء.
القول بجواز الاستثناء في الإيمان وعدم وجوبه
…(2/439)
الذين يجوزون الاستثناء ولا يوجبونه، أو يجوزونه في بعض الحالات، يعرفون بأنهم الذين يستثنون من غير شك ومن غير توقف، هؤلاء يقولون: إن الله تعالى قد ذكر الاستثناء للتبرك، وذكر الاستثناء في الأمور التي لا يشك فيها، فروى صلى الله عليه وسلم عن سليمان نبي الله أنه لم يستثنِ، فحرم ما طلبه أو ما أمله، وذلك لما قال: (لأطوفن الليلة على مائة امرأة، كل امرأة تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله. فقيل له: قل: إن شاء الله. فلم يقل. فقال صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعون)، وما ولدت منهن إلا واحدة نصف إنسان؛ لأنه لم يقل: إن شاء الله. وكذلك ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم جاءته قريش وقالوا له: أخبرنا عن أمور نسألك عنها: أخبرنا عن فتية في سالف الزمان، وكان لهم حديث عجيب -يعنون أصحاب الكهف- وأخبرنا عن رجل طواف، طاف مشارق الأرض ومغاربها -يعنون ذا القرنين- وأخبرنا عن الروح. فقال: سأخبركم عنها غداً. ولم يقل: إن شاء الله. فعاتبه الله، وقال له: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24] فتأخر عنه الوحي خمسة عشر يوماً لأنه لم يقل: إن شاء الله، فدل على أن الاستثناء يحصل به تحقيق المطلب. وكذلك عاتب الله أصحاب الجنة الذين ذكروا في سورة القلم، فقال تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ* وَلا يَسْتَثْنُونَ [القلم:17-18] جزموا بقولهم: والله! لنصرمنها في الصباح، ولم يقولوا: إن شاء الله، لم يستثنوا؛ فكانت العاقبة أن حرموا منها: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ [القلم:19] حريق أو رياح، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:20] جزاء لهم لأنهم لم يقولوا: إن شاء الله، وجزاء لهم لما توعدوا ألا يدخلها عليهم مسكين. وبكل حال: فالاستثناء جائز(2/440)
إذا لم يكن عن شك، يقول إنسان: أنا مؤمن إن شاء الله. ولا يقصد بذلك الشك والتوقف، ويقول: أنا سوف أصلي إن شاء الله -ولو كان جازماً- وسوف أصوم إن شاء الله -ولو كان جازماً- ولو لم يكن بذلك متردداً، ولا شاكاً فيما هو جازم عليه.
القول بتحريم الاستثناء في الإيمان
…
قال المصنف رحمه الله: [وأما من يحرمه: فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً، فيقول: أنا أعلم أني مؤمن، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن، كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه. وسموا الذين يستثنون في إيمانهم: الشكاكة. وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27] بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أن بعضهم يموت. وفي كلا الجوابين نظر: فإنهم وقعوا فيما فروا منه، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين، مع علمه بذلك، فلا شك في الدخول ولا في الأمن، ولا في دخول الجميع أو البعض، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً، فكان قول: إن شاء الله. هنا تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على شيء أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله. لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين؛ لأنه لا يجزم بحصول مراده. وأجيب بجواب آخر لا بأس به، وهو: أنه قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل. وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر، فإنه ما سيق الكلام له، إلا أن يكون مراداً من إشارة النص. وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين، وهما: أن يكون الملك قد قاله فأثبت قرآناً أو أن الرسول قاله! فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله! فيدخل في وعيد من قال: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] نسأل الله العافية!]. هؤلاء هم الذين(2/441)
يمنعون الاستثناء أصلاً، ويسمون من يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. شاكاً، ويسمون المستثنين شكاكاً، يقولون: أنت تشك في نفسك، وتشك في إيمانك، كيف تشك وأنت جازم بأنك من أهل الإسلام، وبأنك من أهل الإيمان؟! أنت تعرف أنك تتشهد الشهادتين، قد نطقت بالشهادتين، ومعلوم أن من نطق بالشهادتين دخل في الإسلام، فإذا دخل في الإسلام فليس شاكاً فيه. فكذلك -أيضاً- إذا دخل في الإيمان لم يكن شاكاً فيه، فيمنعون الاستثناء، ويحرمون أن يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله. بل يقول أحدهم: أنا مؤمن حقاً. كما يقول: أنا مسلم حقاً. لا شك أن الاستثناء في الإيمان يرجع إلى الخاتمة كما تقدم، ويرجع إلى الكمال، والقول الوسط هو المختار: وهو أن الإنسان إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله. كان قصده بذلك العاقبة، وكان قصده الكمال، يعني: أن الله يوفقني لأن أكمل أعمال الإيمان، وآتي بكل ما أمرت به، وبكل ما هو من الإيمان، وهذا علمه عند الله، فإذا شاء الله وفقني لذلك، هذا هو القول الوسط. أما الذين حرموا الاستثناء فإنهم يجزمون أو يقولون: إن الإنسان قد آمن يقيناً، فلم يكن في شك ولم يكن عنده تردد، هؤلاء يدعون أن الإيمان هو الكلمة، ويقولون: إن من قال: آمنت بالله. فقد كمل إيمانه، فلا حاجة إلى أن يستثني. وسمعنا جوابهم عن الآية، وهي قوله تعالى في سورة الفتح: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27] ، فيقولون: الاستثناء إنما هو للأمن. يعني: أن الدخول محقق، ولكن الأمن فيه تردد. وهذا خطأ؛ لأن الله تعالى أخبر بالأمن كما أخبر بالدخول، وخبر الله محقق، فليس فيه تردد! إذاً: وقعوا فيما فروا فيه، فأجاب بعضهم بأن قوله: (( إن شاء الله )) راجع إلى دخولهم كلهم، حيث علم الله أن بعضهم يموت قبل الدخول. والجواب أيضاً: أن المراد أن الله تعالى أخبر بالدخول، وليس المراد دخول الذين خوطبوا بهذه الآية كلهم، بل المراد جنس(2/442)
الدخول، فإنه قد انضم إليهم غيرهم، وإن كان قد مات بعضهم. وأما جواب الزمخشري أن كلمة (إن شاء الله) ليست من كلام الله، وإنما هي من كلام جبريل أو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا قول بعيد، يلزم منه أن في القرآن ما ليس من كلام الله تعالى، والزمخشري ولو كان لغوياً لكنه معتزلي، دخل في الاعتزال وتمكن منه، فبنى ذلك على مذهبه الباطل.
شرح العقيدة الطحاوية [47]
الإيمان يشتمل على أفعال وتروك، وهو بضع وسبعون شعبة، ومن الإيمان تقديم قول رسول الله عليه الصلاة والسلام على قول كل أحد كائناً من كان، وعدم التحايل في رد السنة بدعوى مخالفة العقل، أو بدعوى أن الحديث آحاد، أو غير ذلك من طرق المبتدعة.
اشتمال الإيمان على الأفعال والتروك
…(2/443)
مما يتعلق بالأمور الاعتقادية مسألة الإيمان بالله تعالى وما يلحق به، ولا شك أن الإيمان هو السمة والصفة التي تميز بها أتباع الرسل، ولأجل ذلك يدعو الله تعالى من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه بهذا الاسم، فيناديهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:104] ، ولم يرد: يا أيها الذين أسلموا، ولا: يا أيها الذين صدقوا، ولا: يا أيها الذين اتبعوا. بل تتابعت الآيات التي فيها الأوامر بهذا السياق (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). ولاشك أن هذا الوصف ميزة لمن اتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل بسنته، وصدقه حق تصديقه، ووطن نفسه على العمل بما جاء به. ولأجل ذلك يوجه الله الأوامر لهؤلاء تارة بالأعمال وتارة بالاعتقادات، فمن الأعمال قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208] .. وما أشبه ذلك. ومن العقائد قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، فهذا أمر بالاعتقاد، والمعنى: صدقوا بذلك كله، ومعلوم أن من صدق بالكتب المنزلة وبالكتاب الذي بين أيدينا؛ ظهرت عليه آثار هذا التصديق بالاتباع والعمل، وأما من لم يتبعه ولم يعمل به؛ فإنه لا يصدق عليه أنه مؤمن، فلابد أن يكون للإيمان آثار وعلامات على من ادعى تصديقه. وقد تكلم العلماء على هذا المسمى، وجعلوا هذا النوع تحت عنوان (أسماء الإيمان والدين)، وجعلوا هذه المسميات لها حقائق، واعتقدوها مسميات شرعية، نقلها الشرع من المسميات اللغوية إلى مسميات شرعية، فيقال -مثلاً-: الإيمان في اللغة التصديق، والإيمان في الشرع قول وعمل واعتقاد، كما(2/444)
يقال: الإسلام في اللغة الإذعان، والإسلام في الشرع الاتباع والعمل. فالشرع نقل هذه المسميات إلى مسميات شرعية، فأصبحت بذلك ذات معانٍ مقصودة للشارع؛ ولأجل ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عاماً للأعمال، وعاماً للاعتقادات، وعاماً للأقوال. وفي الحديث أن شعب الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، ذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث شعب في نفس الحديث: شعبة قولية، وشعبة اعتقادية، وشعبة عملية. فالشعبة القولية أن: تقول: لا إله إلا الله. والشعبة الاعتقادية: الحياء من الإيمان. والشعبة العملية: إماطة الأذى عن الطريق. ومعنى ذلك: أن الإيمان يستوعب الأعمال كلها، ويستوعب الأقوال كلها، ويستوعب الاعتقادات كلها، فكلها داخلة في اسم الإيمان. ولأجل ذلك يتفاوت الناس في الإيمان، فيكون هذا ناقص الإيمان، وهذا متوسط الإيمان، وهذا كامل الإيمان، وهذا قدحت السيئات في إيمانه، وهذا قد استوفى خصال الإيمان وما أشبه ذلك، ونتج من ذلك أن الأعمال الصالحة من مسمى الإيمان، فيقال: الصلاة من الإيمان، والصدقة من الإيمان، والصوم من الإيمان، يعني: أنها أبعاض وأجزاء من هذا الإيمان الذين سمى الله به عباده. فلا يكون الإنسان كامل الإيمان إلا إذا كمل هذه الشعب، وأتى بها كما ينبغي، سواء كانت أفعالاً أو تروكاً، يعني: أن الأعمال من الإيمان، والتروك من الإيمان، وكيف تكون التروك من الإيمان؟ نقول: لا شك أنها إذا تركت خوفاً من الله تعالى كان الدافع على تركها هو قوة اليقين، ولأجل ذلك يعد تركها من الخصال العظيمة، وفي الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وعد منهم رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله)؛ فما هو العمل الذي عمله حتى استحق أن يكون من أهل الظلال؟ هو أنه ترك الشهوة الجنسية التي في النفس منها دوافع، ومع ذلك لا يخاف محذوراً، فتركه هذا من أعظم(2/445)
الأفعال، يعني: أن هذا الترك مع قوة الدافع أعظم من كثير من الأعمال. وللعلماء خلاف: أيهما أفضل: ترك المحرمات أو فعل الطاعات؟ فمثلاً: إذا كان هناك إنسان له شهوة قوية تدفعه إلى فعل فاحشة الزنا ونحوه، ولكنه أمسك نفسه، وعصمها، وحفظها، وقادها بزمامها إلى الطاعات، وترك هذا الحرام مع قوة الدوافع إليه، أليس هذا قد جاهد نفسه؟ لا شك أن نفسه تدفعه دفعاً قوياً، ولكنه يقوى على قمعها، ويقوى على ردها، فهو دائماً في جهاد مع نفسه، فهذا يعتبر من أفضل القربات. كذلك إنسان أمامه المشروبات المحرمة كالخمور والمسكرات وما أشبهها، وهو يعرف أنها لذيذة الطعم، وأن النفس تشتهيها، ولكن عرف أنها محرمة، وأن فيها عقوبة؛ فرد نفسه، واجتهد في قمعها، وأمسك بزمامها، وحمى نفسه عن هذه المحرمات؛ فهو في نفسه مجاهد، مجتهد في قمع هذه الشهوة، تدفعه نفسه ولكنه يردها، ماذا تكون حالته؟ لا شك أنه في جهاد، قد يكون جهاد نفسه وقمعها مساوياً لجهاد الكفار، الذي هو بذل المال وبذل النفس في قتال أعداء الله تعالى. عندنا فعل يكون عبادة: كقتال الكفار، وكالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالصلاة والصدقة والصوم والحج والعمرة.. وما أشبه ذلك. وعندنا ترك يكون عبادة: كترك الشهوات مع الدوافع إليها، فيثاب على ترك الزنا مع وجود الدوافع، وعلى ترك الخمور مع وجود الشهوات، وعلى ترك الأكل الحرام مع تيسره وسهولة تناوله، وعلى ترك المعاملات الربوية، وعلى ترك الغش مع وجود الدوافع له، وعلى ترك الجدال بغير حق، وعلى ترك السباب مع وجود من يسبه، وما أشبه ذلك. فيثاب الإنسان على التروك كما يثاب على الطاعات والقربات، والكل داخل في مسمى الإيمان. وبهذا نعرف أن الإيمان يستوعب خصال الطاعة، والخصال الخيرية كلها، ويستوعب ترك المحرمات، وكل ذلك داخل في مسمى الإيمان، فمن استكمله استكمل الإيمان، ومن نقص منه شيئاً نقص حظه من الإيمان. ......(2/446)
جواز الاستثناء في الإيمان إذا لم يكن للشك
…
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما من يجوز الاستثناء وتركه فهو أسعد بالدليل من الفريقين، وخير الأمور أوسطها، فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء، وهذا مما لا خلاف فيه. وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:2-4] ، وفي قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]؛ فالاستثناء حينئذ جائز، وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله، لا شكاً في إيمانه، وهذا القول في القوة كما ترى]. من مسائل الإيمان: مسألة الاستثناء، أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ هل يجوز أو لا يجوز؟ فمنعه قوم، وقالوا: لا يجوز أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأن في ذلك توقفاً. وسموا من يستثني شاكاً، يقولون: أتشك في أنك مصدق؟! أتشك في أنك من أهل الدين؟! أتشك في أنك من أهل هذا الإسلام؟! هؤلاء منعوا الاستثناء. وأوجبه آخرون وقالوا: لا يجوز الجزم، فلا يجوز لأحد أن يقول: أنا مؤمن، أو أنا مؤمن حقاً؛ وذلك لأنه ربما ينقصه شيء من الإيمان، وربما يكون من غير أهل الإيمان في العاقبة، فأوجبوا الاستثناء، فصاروا يقولون: أنا مؤمن إن شاء الله. وتقدم أن منهم من يستثني حتى في الأشياء الحقيقية، فيقول بعضهم: هذا رجل إن شاء(2/447)
الله، أو: هذا بيت إن شاء الله، أو: هذا مالي إن شاء الله. وهؤلاء فيهم تشدد. والصحيح القول الوسط: أنه يجوز الاستثناء ويجوز تركه، فإن كان الذي يستثني شاكاً ومتردداً فلا يجوز الاستثناء على وجه الشك ولا على وجه التردد، وإن كان الذي يستثني إنما يستثني لأنه لم يصل إلى درجة الكمال جاز الاستثناء، ومعلوم أننا لم نصل إلى درجة كمال الإيمان، كمال الإيمان استيفاء بضع وسبعين شعبة، من الذي يستكملها على التمام؟! إذاً: فلنا أن نستثني؛ لعدم وثوقنا باستيفاء هذه الشعب كلها، لأنه لابد أن يكون عندي خلل، وعندي نقص في خصلة من الخصال، إما لم أكملها، وإما لم أعملها، وإما لم آت بها على الكمال.. أو ما أشبه ذلك، فإذاً: أنا أستثني حيث إن إيماني لم يصل إلى درجة الكمال، فأقول: أنا مؤمن إذا شاء الله، أو: إلا ما شاء الله، أو: إن شاء الله. كذلك معلوم أن من خصال المؤمنين ما يكون جامعاً لأفضل الخصال، والإنسان لا يثق بأنه وصل إلى ذلك، قال الله تعالى في سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]؛ قليل منا من يوجل قلبه عند ذكر الله إلا ما شاء الله، إ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] يعني: يزدادوا أعمالاً، ونحن كل يوم نسمع آيات الله، ومع ذلك قليل منا من يزداد عملاً، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2] قليل من يكون متوكلاً على الله حق التوكل، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:3] يعني: يتمونها تماماً كاملاً، فمثل هؤلاء قليل وجودهم، فلأجل ذلك إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله. يعني: أرجو أن أكون من أهل هذه الصفات؛ فلا بأس. وكذلك الآيات التي سمعنا في سورة الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ(2/448)
وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، هذه -أيضاً- خصال قد يتعذر في الكثير استيفاؤها، وبذلك نعرف أن الاستثناء يعود إلى الكمال، يعني: أنا مؤمن ولكن لا أجزم بكمال إيماني، بل أرجو أن أكون من أهل هذه الخصال، ولكني لم أتحقق وصولي إليها، فيكون الاستثناء نظراً إلى الكمال، أو يكون الاستثناء نظراً إلى عاقبة الإنسان التي يموت عليها، فالله أعلم بها، فهو يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. أي: أرجو أن أكون مؤمناً وأن أستمر على هذا الإيمان حتى يأتيني أجلي، فإذا استثنى بهذا الاعتبار جاز الاستثناء. هذا هو القول الوسط، لا أنه شك وتردد في تصديقه، ولا أنه جزم ببلوغه الرتبة العالية، وخير الأمور أوسطها. ......
قبول ما صح عن الرسول من الشرع والبيان
…(2/449)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق). يشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة، القائلين بأن الأخبار قسمان: متواتر، وآحاد، والمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات. قالوا: والآحاد لا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طريقها، ولا من جهة متنها. فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية وبراهين يقينية، وهي في التحقيق كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:39-40]. ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي، وعزلوا لأجلها النصوص؛ فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بقضايا العقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية، ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح، الموافق للفطرة السليمة. بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته، وما ظنه معقولاً، فما وافقه قال: إنه محكم، وقبله واحتج به! وما خالفه قال: إنه متشابه، ثم رده، وسمى رده تفويضاً أو حرفه، وسمى تحريفه تأويلاً! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم]. ......
موقف المؤمن من الأدلة السمعية
…(2/450)
أكمل الشارح الكلام على أسماء الإيمان والدين، وابتدأ المتن في إجمال قول أهل السنة في الأدلة، معلوم أن الأدلة عقلية ونقلية، الأدلة العقلية: هي ما دلت عليه الفطرة، وما تشهد بسلامته وملاءمته العقول المستقيمة والفطر السليمة، ولا شك أن الإسلام هو دين الفطرة، يقول الله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] ، ولا شك أن دين الإسلام موافق لما دلت عليه العقول السليمة، وغير مخالف لها. أما النوع الثاني: فهو الأدلة السمعية النقلية، ويراد بها: الكتاب والسنة، فإنهما نقول منقولة نقلها كابر عن كابر، وهي أدلة سمعية، سمعها هذا عن شيخه، والشيخ عن شيخه.. إلى أن اتصلت بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتناقلوها، فأنت -مثلاً- علمك أستاذك القرآن والسنة، وشيخك علمه شيخه، وهكذا شيخ شيخك تعلم من شيخه، إلى أن اتصلت السلسلة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء إليه الوحي من الله تعالى، ولا شك أن وحي الله إلى أنبيائه لا يتطرق إليه شك، ولا يكون فيه توقف في صحته؛ فإذاً: هي أدلة سمعية يقينية متلقاة عن الشرع الشريف. فماذا يجب علينا نحوها؟ يجب علينا أن نؤمن بها، وأن نعمل بها، وأن نتقبلها، ولا نتوقف في قبول شيء منها، فنعمل بها في العقائد كما نعمل بها في الأحكام، ونعتبر بها، ونمتثل ما فيها، وإذا سمعنا آيات الوعيد خفنا، وإذا سمعنا آيات الوعد رجونا، وإذا سمعنا القصص تفكرنا، وإذا رأينا الأمثال اعتبرنا، وإذا جاءتنا الأحكام عملنا، وإذا جاءتنا الأخبار صدقنا، هذه وظيفة المسلم، وهذا عمله، عمل المؤمن أنه يتقبلها؛ لماذا؟ لأنه جاءك الوحي من الله بواسطة الرسول، وعقولنا قاصرة لا تصل إلى معرفة ما يحبه الله وما يكرهه، ولا تحيط بما في الملأ الأعلى، ولا بما في الدار الآخرة، وكل ذلك يتوقف على النقل، ويتوقف على السمع الذي طريقه الاتباع. فنقول: إن من واجب المسلمين أن يقدموا قول الله(2/451)
وقول رسوله على قول كل أحد، وأن يعملوا بهذه الأدلة وبهذه النصوص، ويقدموها على العقول، وعلى أقوال المشايخ، وعلى أقوال فلان وفلان؛ حتى يكونوا بذلك متبعين حق الاتباع. قد أمر الله تعالى المؤمنين بالاتباع في قوله: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وفي قوله: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، متى يكون الإنسان متبعاً للرسول عليه الصلاة والسلام؟ إذا عمل بما جاء به، وهل العمل بما جاء به يختص بالأفعال أو يعم العقائد؟ لا شك أنه يعم العقائد، فيجب على المسلم أن يتلقى العقيدة من كتاب الله، فترسخ في قلبه، وإذا رسخت وتمكنت في قلبه كان من آثارها أن تنبعث جوارحه لتعمل، وإلا فليس بمصدق، وليس بمتبع، وليس بمؤمن حقاً.
موقف المبتدعة من الأدلة السمعية
…(2/452)
ذكر الشارح رحمه الله أن المخالفين سدوا على أنفسهم باب السمع، فالأدلة من القرآن والأدلة من السنة لما كانت مخالفة لعقولهم لم يقبلوها، الأدلة من القرآن قطعية الدلالة قطعية الثبوت، فلا يترددون في أن هذا القرآن هو كلام الله المنزل، ولا يترددون في أنه نقل نقلاً متواتراً، نقلته الأمة في شرق الأرض وفي غربها، يقرؤه هؤلاء لهؤلاء، لا يترددون في صحته ولا في ثبوته. ولكن فيه نصوص تخالف معتقداتهم، وفيه أدلة قطعية الثبوت تخالف ما ذهبوا إليه؛ فالمعتزلة والأشعرية والجهمية والجبرية والشيعة.. وما أشبههم؛ لهم عقائد منحرفة، من أين أخذوا عقائدهم؟ من عقولهم، فحكموا عقولهم وجعلوها هي المرجع! قرأت لبعضهم يقول: ما علمنا صدق الرسل إلا بعقولنا، فإذا جاء عن الرسل شيء يخالف ما في عقولنا رددناه. نقول: عجباً لكم! ما دامت قد أيقنت عقولكم بصدقهم، فما عليكم إلا أن تتقبلوا كل ما جاء عنهم، فأما أن تشهد عقولكم بصدقهم، ثم تقولون: نأخذ من أقوالهم ما يوافق عقولنا، ونرد ما يخالف عقولنا، فما كنتم بمصدقين ولا بصادقين في الاتباع. كذلك هم يقولون: الآيات القرآنية ثابتة يقينية قطعية الثبوت؛ ولكن ليست بقطعية الدلالة، فدلالتها غير واضحة. فأخذوا يسلطون عليها التحريف، وسموا هذا التحريف تأويلاً، وبالأخص فيما يتعلق بالصفات وبالأسماء، سلطوا عليها التأويل، وهو في الحقيقة تحريف. مثلاً: الأشعرية أولوا كثيراً من آيات الصفات: كآيات المحبة، وآيات الرحمة، وآيات الغضب والرضا. وكذلك الصفات الذاتية: أولوا صفة الوجه، وصفة اليدين. وأولوا الصفات الفعلية: كصفة العلو، وصفة الاستواء. ما كذبوها لكن أولوا أدلتها، ثم أثبتوا بعض الصفات: كصفة الكلام، مع أن قولهم في الكلام غير واضح كما تقدم، وأثبتوا الرؤية في الآخرة ولكن لم يثبتوها كما ينبغي، وأثبتوا صفة الإرادة وصفة السمع والبصر... إلى آخرها. فجاءت الجهمية والمعتزلة وقالوا: نحن نفعل كما فعلتم، أنتم(2/453)
أولتم آيات المحبة والرحمة والغضب والرضا، لماذا خصصتم هذه بالتأويل؟! نحن كذلك نتأول آيات القدرة، وآيات العلم، وآيات السمع والبصر، وآيات الكلام، وآيات الحياة.. وما أشبهها، فقدرتكم على التأويل ليست أقل من قدرتنا ولا نحن أضعف منكم، فدخلوا من باب التأويل، فسدوا على أنفسهم أخذ الأدلة من القرآن. قالوا: إن الآيات قطعية الثبوت، ولكنها ليست قطعية الدلالة، بل هي محتملة للتأويل، فأولوها وحرفوها، فصاروا لا يستدلون بآيات القرآن على هذا النوع. جاءتهم السنة، والأحاديث النبوية المنقولة بالأسانيد الصحيحة، فقالوا: نقسمها قسمين: متواتر، وآحاد. فأما المتواتر: فنجعله كالقرآن قطعي الثبوت، ولكنه ظني الدلالة، فدلالته ضعيفة وغير واضحة، فنسلط عليه التأويلات التي سلطناها على الآيات فنستريح منه. أما القسم الثاني: الذي هو الأحاديث الآحادية، ويسمونها أخبار الآحاد، فهذه يردونها كلها، ولا يقبلونها في العقائد، ويقولون: إنها ظنية الثبوت، مع كونها ظنية الدلالة، وإذا كانت قطعية الدلالة فإنها ظنية الثبوت، فلا تفيد إلا الظن، والظن أكذب الحديث، فلا نقبلها، لأن الله قد نهانا عن الظن في قوله: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] ، وفي قوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ [النجم:23] ، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم:28] فالأحاديث ولو كانت في البخاري وفي مسلم ، وفي السنن، وفي المسانيد، ولو رواها من رواها؛ فهي ظنية، لا تفيد إلا الظن؛ فسدوا على أنفسهم هذا الباب. ناقشهم العلماء كابن القيم رحمه الله، وبين أن قولهم هذا خطأ، وأن الواجب قبولها، وأنها قطعية الثبوت، ولو كانت آحاداً، فهي تفيد اليقين، والناس يضطرون إلى العمل بها، فكما يعملون بها في الفروع فكذلك يعتقدونها في الأصول، وكما يعملون بها في الواقع فكذلك يصدقونها في الواقع،(2/454)
والكلام عليها طويل. قد ناقش أدلتهم العلماء، وأول من أثار الكلام فيها الإمام الشافعي في رسالته التي تعرف بـ(الرسالة في أصول الفقه)، وكذلك الإمام البخاري في آخر صحيحه قال: كتاب أخبار الآحاد. وبين أدلتها والعمل بها في الفروع وفي الأصول. وتكلم عليها ابن القيم في كتابه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة)، وكسر ما يتعلق به الجهمية من رد هذه الأخبار، وبين أنها تفيد العلم القطعي، وأنها ليست ظنية الثبوت كما يقولون، وعلى هذا تصير دلالتها واضحة، ولو ردها من ردها منهم. فمثلاً: أحاديث الشفاعة متكاثرة متواترة، وإن كانت أفرادها آحاداً، ولكن مجيئها من طرق وعن عدد من الصحابة يثبتها ويوضحها، ولم تقبل ذلك المعتزلة الذين ينكرون شفاعة الشافعين، وكذلك الخوارج الذين ينكرون شفاعة الشافعين وإخراج العصاة من النار، فيقال لهم: أحاديث الشفاعة قطعية؛ لكثرتها، ولكنهم يردونها. مثلاً: أحاديث رؤية المؤمنين لربهم في الجنة، مروية عن عدد كبير من الصحابة بروايات قوية ثابتة، ليس فيها توقف، وليس فيها تردد، فهي متواترة في المعنى، وإن لم تكن متواترة في اللفظ، ومع ذلك يردونها، ويقولون: إنها لا تزال آحاداً ولم تخرج عن خبر الواحد. والحاصل: أن عقيدة أهل السنة أن الدلالة السمعية هي الأصل وهي المرجع، فكما أننا صدقنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فلا نكون متبعين له حق الاتباع إلا إذا تقبلنا كل ما بلّغه من الشريعة، فهو الذي بلغ القرآن فنعمل به في الأصول والفروع، وهو الذي علمنا، وبين لنا القرآن بفعله وبقوله، فلابد أن نعتقد ذلك، وهو الذي أخبرنا عن الأولين، وهو الذي أخبرنا عن الآخرين، وهو الذي أخبرنا عن الدنيا، وهو الذي أخبرنا عما يكون في الآخرة، وكل ذلك من شريعته وسنته، ولا نكون مصدقين له إلا إذا صدقناه بكل دقيق وجليل.
طريقة أهل السنة في التعامل مع النص
…(2/455)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وطريق أهل السنة: ألا يعدلوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوا بمعقول ولا قول فلان، كما أشار إليه الشيخ رحمه الله، وكما قال البخاري رحمه الله: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي رحمه الله، فأتاه رجل فسأله عن مسألة، فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال رجل للشافعي : ما تقول أنت؟! فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! ترى على وسطي زناراً؟! أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟! ونظائر ذلك في كلام السلف كثير، وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَة مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]. وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً له، يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد قسمي المتواتر، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع، كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات) ، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى عن بيع الولاء وهبته) ، وخبر أبي هريرة : (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) ، وكقوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .. وأمثال ذلك، وهو نظير خبر الذي أتى مسجد قباء، وأخبر أن القبلة تحولت إلى الكعبة، فاستداروا إليها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحاداً، ويرسل كتبه مع الآحاد، ولم يكن المرسل إليهم يقولون: لا نقبله؛ لأنه خبر واحد! وقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33]، فلابد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه؛ لئلا تبطل حججه وبيناته]. هذا بيان أدلة حجية أخبار الآحاد، يقول: إن الله تعالى فرض على الأمة قبول ما بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبول الشريعة التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم، ووصف(2/456)
المؤمنين بأنهم يقدمون ذلك على قول كل أحد في مثل هذه الآيات، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] يعني: إذا جاءنا قضاء الله وقضاء رسوله فلا نقدم عليه أهواءنا، ولا نجعله محل تردد، ولا نقول: نعرضه على عقولنا، ولا نقول: نختار عليه قول مشايخنا فلان أو فلان، بل نجعله هو الأصل، وهو المقدم على قول كل أحد صغيراً كان أو كبيراً، وذلك هو وصف كل مؤمن، وهكذا -أيضاً- عمل أئمة الإسلام؛ كانوا يقدمون قول النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهاداتهم وعلى آرائهم، فهذا أبو حنيفة يقول: إذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي الحائط، وإذا جاء عن الصحابة فاضربوا بقولي الحائط، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال؛ وذلك لأنه من علماء التابعين. وهذا الإمام مالك رحمه الله يقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر. يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإمام مالك جعل على نفسه أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرد منه شيء، أما قول غيره فإنه محل للقبول وللرد؛ وذلك لأنه محل اجتهاد، وأما قول الرجال فإنها تدور على قدر الأدلة في النقد. والثابت عن الإمام الشافعي في ذلك أكثر وأكثر كما في هذه القصة، جاء رجال إلى الإمام الشافعي ، وسأله عن مسألة، والإمام الشافعي يحفظ فيها حديثاً ثابتاً، فيقول: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، وذلك السائل كأنه ما قنع، فقال: ما تقول أنت يا شافعي ؟ فغضب الإمام الشافعي أشد الغضب ، وقال له هذه المقالة: سبحان الله! أتراني في بيعة! أتراني في كنيسة! أترى على وسطي زناراً؟! أقول: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، وتقول: ماذا تقول أنت؟! يعني: أنني إذا عرفت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يكون لي اختيار؟! هل يكون(2/457)
لي رأي مع رأي الرسول عليه الصلاة والسلام؟! حاشا الشافعي وحاشا غيره من الأئمة أن يكون لهم أي اختيار. كذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ثبت عنه أنه قال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان الثوري - والله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63] ، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. سفيان بن سعيد الثوري إمام من الأئمة وعالم من علماء العراق، مشهور بالعلم، ومع ذلك له آراء قد تكون مخالفة للدليل، فيقول: إن هؤلاء الذين يأخذون رأي سفيان ، ويتركون الأحاديث مع معرفتهم بصحتها، حري أن تنطبق عليهم هذه الآية، وهي قوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
من الأدلة الدالة على قبول خبر الآحاد
…(2/458)
أخبار الآحاد لا شك أنها متى ثبتت فإنها تفيد اليقين، وتفيد العلم، وضرب الشارح لذلك أمثلة، وذكر على ذلك أدلة، منها: أن أهل قباء كانوا يصلون إلى القبلة التي كانوا عليها، إلى جهة بيت المقدس، فجاءهم رجل واحد وهم في نفس الصلاة، وقال لهم: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها)، فصدقوه وهو واحد، وهم على قبلة متحققين لها، فاستداروا من الشمال إلى الجنوب نحو الكعبة، وعملوا بقوله وهو واحد، فلا شك أن هذا دليل على أن خبر الواحد الصادق المتثبت يعمل به ويقدم ويصدق. رسول الله صلى الله عليه وسلم واحد، ومع ذلك صدقوه وقبلوا ما جاء به، والرسل الذين يرسلهم الله تعالى غالباً أنهم أفراد، أرسل الله نوحاً وحده، وأرسل هوداً وأرسل صالحاً وأرسل شعيباً وأرسل لوطاً وأرسل موسى وهارون، ولا شك أن هذا دليل على أن خبر الواحد يقبل ويفيد العلم. كذلك نبينا صلى الله عليه وسلم كان يرسل الدعاة أفراداً، فأرسل معاذاً -مثلاً- إلى اليمن داعية إلى الله، وكذلك أرسل أبا موسى ، وأرسل علياً ، وأرسل عماراً ، وأرسل سلمان ، كل منهم إلى جهة، أرسلهم للدعوة. كذلك -أيضاً- كان يرسل جباة الزكاة أفراداً، يأتي الفرد الواحد إلى أهل الإبل أو الغنم، ويقول: أعطوني زكاتكم، أنا مرسل من النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يقولون له: أنت واحد. بل يقولون: خذ زكاة أموالنا. فيقبلون خبره. الحاصل: أن الأدلة متنوعة، وإنما هذه نماذج مما ذكر منها. وبذلك يعرف أن الحق قبول خبر الواحد إذا كان ثابتاً ويقيناً، وأن الناس يعملون بذلك، فما دام كذلك فلا مجال لرد ثلث السنة أو ثلثيها بهذه الشبهة، ومع ذلك فالذين ردوها ما ردوا إلا قسماً خاصاً وهو ما يتعلق بالعقائد، وأما ما يتعلق بالأعمال فإنهم رأوا الناس يعملون به، وقالوا: إن الناس يعملون بخبر الآحاد فهو يفيد العمل ولا يفيد العلم. وهذا في الحقيقة تناقض، ومعلوم(2/459)
أن كتب السنة قد تلقتها الأمة بالقبول وعملوا بها، فصحيح البخاري تلقته الأمة بالقبول، واعتقدوا ما فيه، وصاروا يعملون به ويطبقونه، ولم يقولوا: إنه أخبار آحاد. وكذلك صحيح مسلم، وكذلك الكتب التي تعتمد الصحة تلقتها الأمة بالقبول بدون توقف، فكانوا يعملون بما فيها؛ لأنها ثابتة، وأسانيدها قوية، ليس فيها كذاب، وليس فيها من يشك في صدقه، وبذلك يعرف أن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم محل القبول، لا يجوز ردها، حتى ولو خالفت ما في العقول، حتى ولو خالفت ما في فطر الناس أو في أفكارهم، تقدم على قول كل قائل، وعلى عقل كل عاقل، سيما وعقول أولئك الذين ردوا السنة أو ردوا الآيات عقول مضطربة، عقول مختلفة، وشبهاتهم التي يشبهون بها لا شك أنها مضطربة أيما اضطراب، ويحصل فيها التناقض. فيشاهد أن الواحد منهم يبقى -مثلاً- ثلاثين سنة وهو يقول: إن هذه الصفة ينكرها العقل، ثم بعد ثلاثين سنة، وبعدما يكون نضج عقله، يرجع ويقرها! سبحان الله! ثلاثين سنة من زمانك ومن عمرك وأنت تنكرها، ثم بعد ذلك أقررت بها، هل تغير عقلك؟! هل تبدل عقلك؟! فهذا دليل على أن عقولهم ليست ميزاناً. وكذلك نجد مجموعة -مائة أو ألفاً- من العلماء في هذا البلد ينكرون هذه الصفة، ويقولون: العقل ينكرها، ونجد في البلد الثاني ألفاً أو ألوفاً يقرون بها، ويقولون: العقول تثبتها، فإذاً: كيف تكون هذه العقول مختلفة؟ هؤلاء يقولون: نثبت، وهؤلاء يقولون: ننفي، هؤلاء يقولون: لا يقر بها العقل، وهؤلاء يقولون: بل يثبتها ويوجبها..! إذاً: فهذه العقول تضطرب؛ فهي عقول غير متزنة. فأدلتهم وشبهاتهم هذه لا عبرة بها، وقد شبهها بعض العلماء بالزجاج الذي يضرب بعضه بعضاً فيتكسر، إذا ضربت الزجاجتين إحداهما بالأخرى بقوة هل يبقى منهما شيء؟ كلاهما تتكسر، فهكذا أدلة هؤلاء مع هؤلاء تضرب هذا بهذا فيتكسر الدليلان، أما أدلة أهل السنة من الكتاب والسنة فإنها ثابتة، لا يعتريها(2/460)
شيء من التغير.
شرح العقيدة الطحاوية [49]
الولاية مرتبة إيمانية عظيمة، فمن كان ولياً لله انتصر الله له، وهي درجات، فأكمل الناس ولاية أكملهم إيماناً وتقوى، وقد انحرف في الولاية بعض الصوفية، فجعلوا الولي خيراً من الرسول، بل زعموا الولاية لغير الأتقياء.
المؤمنون كلهم أولياء الرحمن
…
قال المؤلف: [قوله: (والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن). قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]. الولي: من الولاية بفتح الواو، التي هي ضد العداوة. وقد قرأ حمزة : (ما لكم من ولايتهم من شيء) بكسر الواو، والباقون بفتحها. فقيل: هما لغتان. وقيل: بالفتح النصرة، وبالكسر: الإمارة. قال الزجاج : وجاز الكسر؛ لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكل ما كان كذلك مكسور، مثل: الخياطة ونحوها. فالمؤمنون أولياء الله، والله تعالى وليهم، قال الله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال:72] إلى آخر السورة. وقال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ(2/461)
وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56] فهذه النصوص كلها ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأنهم أولياء الله، وأن الله وليهم ومولاهم. فالله يتولى عباده المؤمنين، فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن عادى له ولياً فقد بارزه بالمحاربة. وهذه الولاية من رحمته وإحسانه، ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجة إليه، قال الله تعالى: وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111]، فالله تعالى ليس له ولي من الذل، بل لله العزة جميعاً، خلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه لذله وحاجته إلى ولي ينصره]. ......
أولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون
…(2/462)
يتلكم هنا على الولي الذي يكثر ذكره في اصطلاحات الصوفية ونحوهم، وفي اصطلاحات القبوريين الذين يغلون في بعض الأشخاص ويسمونهم أولياء، ويدعون أن محبتهم تستدعي تعظيمهم بما يصل إلى إعطائهم شيئاً من حق الله تعالى، فلأجل ذلك تكلم هنا على الولي وعلى الولاية. فأولاً: كلمة الولي مشتقة من الولاية التي هي النصرة، فقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] يعني: بعضهم أنصار بعض؛ أي: بعضهم ينصر بعضاً، وبعضهم يؤيد ويقوي بعضاً، فكل منهم ولي للآخر، فالولي معناه: الناصر الذي ينصره ويتولاه ويؤيده ويقويه، هذا معنى كون المؤمنين بعضهم أولياء بعض، فإذا قيل: المؤمنون أولياء الله، فالمعنى أن الله تعالى يؤيدهم وينصرهم ويقويهم، وهم أيضاً ينصرون دين الله ويجاهدون في سبيله، ويبلغون شريعته، ويذبون عن الشريعة وعن الإسلام، يذبون عنها اعتداء المعتدين وشبهات المشبهين فكانوا بذلك أولياء لله تعالى، والله تعالى وليهم. فإذاً: ولي الله هو كل تقي مؤمن، قال الله تعال: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، فهذا وصف أولياء الله، فكل مؤمن تقي فهو من أولياء الله، فما بين الإنسان وبين أن يكون ولياً إلا أن يحقق الإيمان ويحقق التقوى، فيصبح من أولياء الله.
غلو الصوفية في الأولياء
…(2/463)
أما الصوفية ونحوهم فادعوا أن هناك أولياء، وأن أولئك الأولياء قد ارتقوا رتبة ارتفعوا بها عن رتبة الأنبياء ورتبة الرسل، وأصبحوا مقربين عند الله، وأصبحوا يأخذون من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي ينزل على الأنبياء، ويقول قائلهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي فجعلوا الولي هو الأعلى، وجعلوا دونه النبي، وجعلوا الرسول أنزل الرتب، فهذا غلو منهم، حيث جعلوا الولي أرفع من النبي وأرفع من الرسول، ولا شك أن الولي هو الذي يتولى الله تعالى، يقول تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:56]، فمن كان الله تعالى وليه، ومن تولى الله تعالى ونصر دين الله فهو من حزب الله وهو من الغالبين، ومن كان مؤمناً فهو من أولياء الله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ [البقرة:257]. وقد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسالة مطبوعة منتشرة اسمها: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فرق فيها بين من يدعي الولاية وليس من أهلها، وبين من يكون من أولياء الشيطان ويدعي أنه من أولياء الرحمن؛ وذلك لأن كثيراً من أولئك الذين يزعم الصوفية أنهم أولياء، هم في الحقيقة شياطين، أو أولياء للشياطين؛ وذلك لأنهم يتظاهرون للعوام بأمور الله بريء منها، فيفعلون المنكرات، ويفعلون الفواحش ويأكلون الحرام، ويدعون أنهم قد أبيح لهم ذلك، ويدعون أنهم قد سقطت عنهم التكاليف، وقد رفعت عنهم الأوامر والنواهي، وقد أبيح لهم أن يفعلوا ما يشاءون، فلا ينكر عليهم في زعم الذين يقدسونهم ويعظمونهم!
انحراف بعض الصوفية باستحلال الحرام
…(2/464)
يحكي لنا بعض الإخوان عن الموجودين في بعض البلاد العربية أنهم يأتيهم الإنسان الذي أصيبت امرأته مثلاً بخبال أو بجنون أو نحو ذلك، فيتركها تبيت عند هذا الولي، ويقول: إنه ولي ليس بمخوف عليها منه، ولكن ينقلون عن كثير من النساء أن هذا الولي يخلو بها وأنه يفعل معها الفاحشة الكبرى، وهو مع ذلك ولي كما يقولون، فلماذا؟ لأنهم في نظر العوام قد رفعت عنهم التكاليف، وقد أبيح لهم أن يفعلوا ما يريدون، فلا ينكر عليهم إذا زنى أحدهم، أو أخذ المال بغير حقه، أو انتهب أو قتل أو ترك الصلاة، أو فعل الفواحش والمنكرات، أو ما أشبه ذلك. ويدعون أنهم قد وصلوا إلى حضرة القدس، وأنهم قد بلغوا الرتبة العالية، وقد سقطت عنهم التكاليف والأوامر؛ هذه صفات الولي عندهم. ذكر لي بعض المشايخ أن هذا السيد البدوي الذي يعبد ويعظم في مصر وقبره من أشهر القبور، عرف عنه أنه دخل المسجد مرة والناس في صلاة الجمعة، فبال فيه قائماً والناس ينظرون، وخرج ولم يصل، فتبعوه وقالوا: هذا مجذوب، هذا قلبه عند ربه، وبعد ذلك صار يظهر لهم مثل هذه الأمور، وصار يعظم عندهم إلى أن مات فغلوا فيه، واعتقدوا فيه الشيء العظيم الذي لو قرأ أحدنا سيرته التي كتبت عنه، لرأى فضائح وفجائع تحزن كل ذي قلب سليم، وكم وكم من أمثال هؤلاء الذين إذا وصل أحدهم إلى تلك الرتبة، زعموا أنه مباح له أن يفعل ما يشاء حتى ولو مشى عرياناً، ولو سلب، ولو قتل.. ونحو ذلك.
تلاعب الشيطان بالصوفية وانحلالهم من التكاليف
…(2/465)
في القصيدة البائية للأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني التي يقول فيها: كقوم عراة في ذرى مصر ما ترى على عورة منهم هناك ثياب يعدونهم في مصرهم من خيارهم دعاؤهم فيما يرون مجاب يذكر أن في زمنه قوماً في مصر يمشون عراة ويمشون بدون ثياب، وأهل ذلك الزمان يقدسونهم ويتمسحون بهم، ويتبركون بهم، ويدعون أن دعوتهم مجابة؛ لأنهم قد وصلوا إلى الله، فهم في زعمهم يأخذون من اللوح المحفوظ، وليسوا بحاجة إلى أن يرجعوا إلى القرآن ولا إلى السنة. عجباً لهؤلاء كيف اعتقدوا هذه العقيدة! هل هناك رتبة أفضل من رتبة الرسل؟ رسل الله وأنبياؤه الذين بلغوا شرائعه، والذين نزل عليهم الوحي هم صفوة الله تعالى من خلقه، فهل سقطت عنهم التكاليف؟ نبينا صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الرسل وأفضلهم، كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، فلماذا لم تسقط عنه التكاليف التي سقطت عن هؤلاء الأولياء؟ ألم يتورع عن أكل تمرة وجدها في الطريق مخافة أن تكون من الصدقة، لماذا هؤلاء يأكلون أموال الناس؟ بل يستحلون دماءهم، ويزعمون أنهم قد رفع عنهم الحرج وأبيح لهم ما لم يبح لغيرهم؟ لا شك أن هذا من تلاعب الشيطان بهم، ثم بأتباعهم. وبكل حال نقول: إن الولاية التي يلهج بها هؤلاء ليست خاصة بهذا دون هذا، بل كل أحد يستطيع أن يكون من أولياء الله إذا حقق الإيمان وحقق التقوى.
ولاية الله تنال بالإيمان والتقوى
…(2/466)
يقول بعض الإخوان: إنكم معشر الوهابيين لا تقيمون للأولياء وزناً، الأولياء عندكم لا تقدسونهم ولا تعرفون قدرهم. قال له ذلك الأخ: ومن هم الأولياء؟. قال: الله يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. فقال: اقرأ ما بعدها؛ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] ألا تكون منهم؟ ألا تحقق الإيمان وتحقق التقوى ثم تكون ولياً، ما بينك وبين أن تكون ولياً إلا أن تؤمن الإيمان الصحيح وتتقي الله تعالى، وبذلك تكون منهم، فلماذا تحرم نفسك وتتعلق بهم وتقدسهم وتعظمهم، وتعتقد فيهم، وتغلو في قبورهم وتفعل فيها ما لا يفعل إلا في بيوت الله تعالى وما لا يصلح إلا لله سبحانه وتعالى؟ ولماذا تعتقد فيهم أنهم يعلمون الغيب، وأنهم يطلعون على الكون، وأنهم يبلغون الأمور، وأنهم يديرون الأفلاك وأنهم أقطاب الأرض، وأنهم عمدها وأسسها، وأن الأرض ثبتت بثباتهم، وأنه لولا هؤلاء الأولياء لماجت الأرض واضطربت وخسفت بنا؟ فنقول: لا شك أن هذا من تلاعب الشيطان بهم، وإلا فولاية الله عز وجل تصلح لكل مؤمن: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257]، فعلى المؤمن أن يحرص على تحقيق الإيمان وتحقيق التقوى ليكون من أولياء الله تعالى، وعليه أيضاً أن يتولى الله ويتولى رسوله، ويتولى إخوته المؤمنين، بمعنى أن يحبهم وينصرهم، ولذلك ذكر الله تعالى أن المؤمنين يتولى بعضهم بعضاً: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]. عقد الله الولاية بين المؤمنين كما عقد بين المهاجرين والأنصار في الآية التي سمعنا؛ وهي قوله تعالى في آخر سورة الأنفال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي(2/467)
سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا [الأنفال:72]. (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا) هؤلاء المهاجرون، (وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا) هؤلاء هم الأنصار. ثم قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]، فالكفار بعضهم يتولى بعضاً، بمعنى: ينصر بعضهم بعضاً ويؤيده(والمؤمنون بعضهم أولياء بعض) يعني: أنهم يتناصرون فيما بينهم، وكذلك هم جميعاً أولياء الله، فكل من كان مؤمناً فهو من أولياء الله تعالى.
اعتقاد الصوفية حاجة الله إلى الولي
…
ثم قد يفهم من إطلاقات الصوفية ونحوهم أن الولي ولي الله، وأن الله تعالى بحاجة إلى هؤلاء الأولياء، وهذا اعتقاد خاطئ، فالله تعالى غني عن الأولياء جميعاً، وغني عن الخلق كلهم، وليس بحاجة إلى عبادتهم، ولا إلى ولايتهم، وإنما كان المؤمنون أولياء الله بمعنى أنهم لما أحبوا الله، ولما أطاعوه وعبدوه؛ تولاهم الله، بمعنى: نصرهم وأيدهم وقواهم، فأصبحوا هم أولياء الله، ووصف الله نفسه بأنه وليهم، فهكذا يكون المؤمن ولياً من أولياء الله، والله تعالى ولي الذين آمنوا.
تفاوت المؤمنين في الولاية
…(2/468)
قال المؤلف: [والولاية أيضاً نظير الإيمان، فيكون مراد الشيخ أن أهلها في أصلها سواء، وتكون كاملة وناقصة؛ فالكاملة تكون للمؤمنين المتقين، كما قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة [يونس:62-64]. فـ (الذين آمنوا وكانوا يتقون) منصوب على أنه صفة أولياء الله، أو بدل منه، أو بإضمار: أمدح، أو مرفوع بإضمار (هم)، أو خبر ثان لـ (إن)، وأجيز فيه الجر بدلاً من ضمير (عليهم). وعلى هذه الوجوه كلها فالولاية لمن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهم أهل الوعد المذكور في الآيات الثلاث، وهي عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه، ليست بكثرة صوم ولا صلاة، ولا تملق ولا رياضة. وقيل: الذين آمنوا: مبتدأ، والخبر: لهم البشرى، وهو بعيد؛ لقطع الجملة عما قبلها، وانتثار نظم الآية. ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه، وعداوة من وجه، كما قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع، كما تقدم في الإيمان. ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى أولى من موافقته في المعنى وحده، قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] وقال تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] الآية، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين. وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر) وفي رواية (وإذا اؤتمن خان) بدل: (وإذا وعد أخلف) أخرجاه في الصحيحين، وحديث: شعب الإيمان تقدم.(2/469)
وقوله: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وإن كان معه كثير من النفاق، فهو يعذب في النار على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار. فالطاعات من شعب الإيمان، والمعاصي من شعب الكفر، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود، ورأس شعب الإيمان التصديق. وأما ما يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله، لا هم يدرون به، ولا هو يدري بنفسه)، فلا أصل له، وهو كلام باطل، فإن الجماعة قد يكونون كفاراً، وقد يكونون فساقاً يموتون على الفسق]. ......
أكمل الناس ولاية أكملهم إيماناً
…(2/470)
يتكلم هنا على الولاية وأنها الإيمان، وقد تقدم أن أهل الإيمان يتفاوتون في إيمانهم، وأيضاً يتفاوتون في صفة الولاية، فأولياء الله تعالى يتفاوتون في هذه الأوصاف، كما أن المؤمنين من عباد الله يتفاوتون في آثار الإيمان. إذا عرفنا أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن الحسنات والطاعات من شعب الإيمان، والمعاصي والمخالفات من شعب الكفر؛ أي: أن للإيمان شعباً وللكفر شعباً، وأن الإنسان قد يجتمع فيه خصال كثيرة من خصال الإيمان ويفقد بعضها فيكون مؤمناً ناقص الإيمان، وقد يكون فيه خصلة من خصال الكفر ولا يحكم بكفره؛ فيكون بذلك جامعاً بين كونه ولياً لله من جهة، وعدواً له من جهة، يحبه الله تعالى على ما فيه من الإيمان ومن الأعمال الصالحة، ويبغضه على ما فيه من المعاصي ونحوها، والحكم للصفة التي تغلب، ويكون أيضاً مثاباً ومعاقباً، ولأجل ذلك فإن الله تعالى يدخل كثيراً من العصاة النار ثم يخرجهم من النار بعد أن يمحصوا ويزال عنهم آثار تلك المعاصي، فأولئك محبوبون من جهة؛ وهي كونهم من المصدقين الذين أتوا بالشهادتين، ومبغضون من جهة؛ وهي كونهم قد أصروا على كثير من المعاصي واقترفوا كثيراً من الذنوب، وعملوا أنواعاً من السيئات، فأصبحوا بذلك قد جمعوا بين الأمرين؛ بين اقتراف السيئات وبين عمل الحسنات. لكن الحكم لما هو الأصل، فيقال: إذا كان الأصل أنه ممن شهد الشهادتين وآمن بالله عز وجل، وآمن برسله، ولكن كان إيمانه الذي في قلبه ضعيفاً لم يحمله على كل العبادات والإتيان بها، ولم يزجره عن كل المعاصي والمخالفات، فإنه يقال: هو مؤمن، ولكن يعاقبه الله بهذه المعاصي التي اقترفها، أو يعفو الله عنه. كذلك الكافر، قد يعمل حسنات، وقد يفعل قربات، ولكن العبرة بما عليه قلبه، فإذا كان كافراً يعتقد أن لله شركاء في العبادة، ويجعل أنواعاً من العبادات لغير الله، ولكنه مع ذلك قد يصلي، وقد يتصدق، ويقرأ، وقد يحب الخير، وقد(2/471)
يجاهد المشركين، ولكنه مع ذلك يدعو غير الله، فنقول: هذا مشرك، ولا ينفعه عمله هذا الذي عمله؛ لأنه حبطت أعماله وقرباته وحسناته وبطل أجرها وثوابها، فلا يستحق عليها شيئاً. وبكل حال نقول: إن على المؤمن أن يحرص على تكميل إيمانه حتى يكون من أولياء الله عز وجل الذين آمنوا وكانوا يتقون، كما جمع الله تعالى في وصفهم بين هذين: (الذين آمنوا وكانوا يتقون)، فآمنوا إيماناً تظهر عليهم آثاره وهي الصالحات، وتصديقاً قوياً وتقوى يتركون بها الآثام والجرائم وأنواع المحرمات، وكبائر الإثم وصغائره. فإذا كمل الإيمان ولو حصل معه شيء من السيئات ونحوها، واتقى الله عز وجل، أصبح من أولياء الله، وثوابه الذي يحصل له ثواب عاجل وثواب آجل، فالثواب الذي في الدنيا هو أن الله تعالى يحب أولياءه ويتولاهم: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257]، وإذا أحبهم الله وفقهم للطاعات وحماهم عن المعاصي والآثام. أما الثواب في الآخرة فهو الثواب الأعظم، وقد ذكر الله بعض الثواب أو نوعاً منه بقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] فجعلهم من أهل الأمن، والأمن هو أن يكونوا آمنين في الآخرة، لا يخافون ولا يحزنون، ولذلك قال في هذه الآية: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] أي: هم آمنون، (وهم مهتدون) أي: على طريق سوي، فنعتقد بذلك أن لله أولياء، وأنهم ليسوا -كما يزعم المتصوفة والغلاة ونحوهم- خواص من الناس قد قطعوا المسافات، وأنهم سقطت عنهم التكاليف، وأنهم وأنهم...، بل كل من آمن إيماناً صحيحاً واتقى الله تعالى حصل على ولاية الله، وأما من قصر في ذلك فإن معه نوعاً من الولاية ولكنها ولاية ناقصة.
الولاية التامة والولاية الناقصة
…(2/472)
الولاية قسمان: ولاية تامة، وولاية ناقصة. فالمسلم يحرص على أن يكون من أولياء الله، ولا يقول: أولياء الله هم أهل الدرجات الرفيعة وأهل المنازل العالية، والذين عرفوا الله المعرفة التامة ونحو ذلك، وكذلك الذين يسمونهم أقطاباً وأوتاداً، وعاملين أو واصلين أو نحو ذلك، بل كل من آمن إيماناً صحيحاً واتقى الله فهو من أولياء الله، وما عليك إلا أن تحقق هذه الآية لتصبح من أولياء الله. ولا شك أن الأسباب التي تقوى بها هذه الأصول موجودة بحمد الله، فالإيمان بالله هو أصل وأساس هذه الأصول وهذه الأركان، وهو مبني على السماع، وهو ما بلغته الرسل، فإذا سمع العقل تلك الأدلة ورأى دلالتها، أيقن بأنها حق وأنها دالة على قدرة قادر، وكذلك إذا فكر فيما ترمي إليه، فإن تلك الأدلة فيها الالتفات أو الاستدلال بالآثار، وبالآيات، وبالبراهين، ولأجل ذلك يقيم الله الحجة بهذه الأدلة على المشركين والجاهلين ونحوهم، فيذكر لهم الآيات الكونية، ويتلو عليهم الآيات القرآنية، وكلها بلا شك تكون سبباً لترسيخ تلك العقيدة التي هي الإيمان بالله. فإن العاقل إذا نظر فيما بين يديه من الأفلاك، وهذه المخلوقات العلوية والسفلية، علم أنها لم تخلق عبثاً، وأن الذي خلقها لا يتركها هملاً، وكذلك إذا نظر في نفسه، ونظر في مبدئه ومنتهاه، علم أيضاً أنه لم يخلق عبثاً، وأنه لابد أن يؤمر وينهى، ولابد أن يكون له رب مالك متصرف، وأن الذي خلقه استعبده؛ وفرض عليه أن يعبده، وأن يحمده، وأن يذكره وأن يشكره، وأنه لابد وأن يثيبه على العبادة أو يعاقبه على المعصية، هكذا تدل المؤمن العاقل فطرته على هذه الأمور، فكيف وقد أرشدته الأدلة، وقامت عليه البراهين، وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب تبين للناس هذه الأشياء التي هي أساس العقيدة، فلأجل ذلك لما آمن بذلك من آمن، وعرفوا الله حق المعرفة، وثبت الإيمان في أفئدتهم، وأشربته قلوبهم، ونبتت عليه لحومهم، صار مندمجاً في دمهم(2/473)
ولحمهم. أما الظالمون لأنفسهم، فهم الذين يفعلون المكروهات ويتركون المستحبات ويفعلون المباحات، وقد يتركون بعض الواجبات وقد يفعلون بعض المحرمات، فلأجل ذلك وصفوا بالظلم. والكل منهم تحت مشيئة الله، إلا أن الله تعالى وعدهم بالجنة، وأخبر بدعائهم بقوله عنهم: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34] الحزن: يعني: الخوف، وذلك هو المذكور في هذه الآية، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. فعلى كل حال: صفات أهل الإيمان موجودة في مثل هذه الآيات، والذي يحب أن يكون منهم عليه أن يطبقها ويعمل بها ليُحشَر معهم.
الغني الشاكر والفقير الصابر وأيهما أفضل؟
…(2/474)
قال الشارح رحمه الله تعالى [قوله: (وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن) أراد: أكرم المؤمنين هو الأطوع لله والأتبع للقرآن، وهو الأتقى، والأتقى هو الأكرم، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب). وبهذا الدليل يظهر ضعف تنازعهم في مسألة: الفقير الصابر والغني الشاكر، وترجيح أحدهما على الآخر، وأن التحقيق أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق، فالمسألة فاسدة في نفسها، فإن التفضل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان، لا بفقر ولا غنى، ولهذا -والله أعلم- قال عمر رضي الله عنه: الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيهما ركبت. والفقر والغنى ابتلاء من الله تعالى لعبده كما قال تعالى: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر:15]، فإن استوى الفقير الصابر والغني الشاكر في التقوى استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما فيها فهو الأفضل عند الله، فإن الفقر والغنى لا يوزنان، وإنما يوزن الصبر والشكر. ومنهم من أحال المسألة من وجه آخر: وهو أن الإيمان نصف صبر ونصف شكر، فكل منهما لا بد له من صبر وشكر، وإنما أخذ الناس فرعاً من الصبر وفرعاً من الشكر، وأخذوا في الترجيح فجردوا غنياً منفقاً متصدقاً باذلاً ماله في وجوه القرب، شاكراً لله عليه، وفقيراً متفرغاً لطاعة الله ولأداء العبادات صابراً على فقره، وحينئذ يقال: إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما، فإن تساويا تساوت درجتهما، والله أعلم. ولو صح التجريد لصح أن يقال: أيما أفضل معافىً شاكر، أو مريض صابر، أو مطاع شاكر أو مهان صابر، أو آمن شاكر أو خائف صابر؟ ونحو ذلك]. ......(2/475)
تفاضل الناس عند الله إنما هو بالتقوى
…
عرفنا أن تفاضل الناس بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، لا بالحسب ولا بالنسب ولا بأصل الآباء والأجداد، ولا بالرتب ولا بالأموال ولا بالمناصب، إنما تفاضلهم عند الله تعالى بالأعمال الصالحة، فالله تعالى يقول في هذه الآية: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] بعدما ذكر القبائل والشعوب في قوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ [الحجرات:13]، يعني: كل بني آدم تفرعوا من ذكر وأنثى؛ لكن جعلهم الله شعوباً وقبائل لمصلحة وهي: لا لتفاخروا، بل ليُعرَف أن هذا فلان من القبيلة الفلانية، وبعدما ذكر أن الحكمة في ذلك هي التعارف، ذكر أن هذا الفخر لا يجوز، وإنما الفخر بالتقوى فقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. وقد وردت أدلة في النهي عن الافتخار بالأسلاف، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لينتهينَّ أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب). وفي حديث آخر: (إن الله أذهب عنكم عُبَّية الجاهلية وفخرها بالآباء)، فجعل الفخر بالتقوى، وجعل الإنسان إنما يكرم وإنما يرتفع منصبه ومنزلته عند الله تعالى إذا حقق التقوى، ولذلك يقول بعضهم: ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم فإذاً: الفخر إنما هو بطاعة الله وبالتقرب إليه، وتمايُز الناس وتفاوتهم إنما يكون بحسب الإيمان، وبحسب آثار الإيمان، فأفضلهم أكملهم إيماناً وأكملهم أعمالاً وأكملهم وأحسنهم أقوالاً وأحوالاً، وأبعدهم عن الآثام، وأبعدهم عن أنواع الإجرام، هذا هو أكملهم عند الله(2/476)
وأكرمهم، وأرقاهم منزلة، فأما منصب وجاه ومال وحسب ونسب ومسكن وولد؛ فكل ذلك لا يُغني عن صاحبه، كما ذكر الله عن الكافر في قوله: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:28-29]، أي: هلكت عني سلاطيني وحسبي ونسبي وقبيلتي وأسرتي وأنصاري وأعواني، وتخلوا عني. فإذاً: ما على الإنسان إلا أن يحقق الإيمان ويحقق التقوى؛ ليصبح بذلك أفخر الناس وأشرفهم، والفخر والشرف إنما يكون بما عند الله، ولا يضره لو كان ضعيفاً مهيناً لا يُؤبَه له، ولا يُنظَر إليه، ويُدفَع عن الأبواب، ولا يُقدَّم في المجالس، ولا يُحترَم ولا يُكرَم؛ فإنه إذا كان عند الله عزيزاً، كريماً، شريفاً، فلا يضره كونه عند الناس وضيعاً. تكلم الشارح كما تقدم على ما اشتهر في كتب الأدب، وهي مسألة التفضيل بين الصابر والشاكر، حين يكون الصبر مع الفقر، والشكر مع الغنى، وقد تكلم فيهما العلماء، فتكلم فيهما ابن القيم رحمه الله وأطال في ذلك في كتابه (هبة الصابرين وذخيرة الشاكرين)، وهو كتاب عظيم ومفيد نوصي باقتنائه وبقراءته، تكلم فيه على الصبر، وعلى أنواع الصبر، وعلى الشكر، وعلى فوائده، وأطال في ذلك، وأطال أيضاً على هذه المسألة، وهي: مسألة التفاضل بين الغني الشاكر والفقير الصابر. الفقير هو: الذي زُوِيَت عنه الدنيا، ولا يؤتى منها إلا قدر ما يسد رمقه، وأما الغني: فهو الذي فُتحت عليه الدنيا، وأوتي من أنواع زهرتها. فالفقير صبر واحتسب وزهد وقنع بما آتاه ربه. والغني شكر، فأعطى حقوق هذا المال وصرفه في وجوه البر، وأنفقه في الخيرات وفي المسرات، وأعطى المستضعفين، وصرفه في الجهاد في سبيل الله، ونفع به المحتاجين ونحوهم. فأيهما أفضل: ذلك الفقير الذي اقتصر على نفسه وصبر واحتسب، أو هذا الغني الذي أنفق في وجوه الخير؟ اختلف العلماء في ذلك.
التفضيل لا يعود إلى ذات الغنى والفقر وإنما إلى ما خصهما من تقوى
…(2/477)
فإذا نظرنا في الأدلة التي يُستدل بها من حيث النقل: الآيات والأحاديث، وجدناها كلها تفضل الفقير، وتحث على التقلل من طلب الدنيا، وتحث على الزهد فيها، وتضرب لها الأمثال، وقد أورد ابن القيم جملة كثيرة من ذلك، مع أنه ذكر أنه اقتصر على البعض ولم يستوفها، ولو استوفاها لزادت على ما ذكره أضعافاً كثيرة. وأما الأدلة العقلية فإنها تفضل الشاكر الذي رزقه الله مالاً. ومعلومٌ أن المال لا يحصل إلا بتسبُّب وبتعب وبكدح وبكد وبطلب، وأن هذا الطلب يحتاج إلى وقت وزمان، فلأجل ذلك كان الفقير متفرغاً للعبادة منقطعاً لها، وأما الغني فلا بد أن تكون له أوقات يقضيها في طلب المال، ويقضيها في تنميته، وفي تصريفه، وفي حساباته ونحو ذلك، فيكون جل وقته أو أكثره فيما يتعلق بأمور حياته الدنيا، ويكون وقته الذي يقضيه للعبادة أقل بأضعاف من الوقت الذي يقضيه الفقراء في العبادات ونحوها، فلأجل ذلك مال بعضهم إلى تفضيل الفقير. وسمعنا هذا القول الذي اختاره الشارح، وهو أن أكثرهما تقوىً .. أكثرهما عبادة .. أكثرهما أعمالاً صالحةً، فإذا وفق الله الغني وأكثر من الصالحات وصار لا تلهيه أمواله ولا أولاده عن ذكر الله، فإنه يفضل غيره، كما وصف الله الأغنياء بقوله: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]. فإذاً: لا بد أن تكون لهم تجارة ولهم بيع ولهم تنمية أموال؛ ولكن إذا جاء وقت العبادة تخلوا عن الدنيا وعن متاعها كله، وأقبلوا على العبادة، وإذا جاءت أوقات المنافسات والخيرات سارعوا إليها. فإذاً: هؤلاء قد جمعوا بين الأمرين: جمعوا بين أنهم كانوا أهل تقوى وأهل إيمان وأهل أعمال صالحة وحسنات وخيرات كثيرة، وبين أن لهم أعمالاً متعدية بحيث إنهم وصلوا الأرحام، وأنفقوا في سبيل الله، وجهَّزوا الغزاة مثلاً،(2/478)
وأقاموا المشروعات الخيرية، ونشروا العلم، وبنوا بيوت الله، وأقاموا فيها الأماكن التي يُتَعَلَّم فيها ويُقْرأ، فكانوا بذلك نافعين لأنفسهم ونافعين لغيرهم، فكانوا بذلك أفضل. ومما يدل على ذلك ما ورد في الصحيح أن فقراء المهاجرين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور -أهل الدثور يعني: أهل الأموال- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق فقال: ألا أدلكم على عمل إذا فعلتموه سبقتم من قبلكم ولم يدرككم من بعدكم إلا من عمل مثلكم؟ قولوا: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، بعد كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، فذهبوا وقالوها، ثم إن الأغنياء نُقِل إليهم ذلك ففعلوا، فقال الفقراء: يا رسول الله! سمع إخواننا أهل الأموال بما قلنا فقالوا مثلنا، فقال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء). فغبط الأغنياء الذين ما شغلهم مالهم عن عبادتهم ولا عن أذكارهم ولا عن أعمالهم. وبكل حال فالشكر والصبر كلاهما من الأعمال القلبية، ويُرى آثارها على الأعمال البدنية، وأما الأعمال الصالحة فإنها زيادة على ذلك، أعني أن التقوى والإيمان والصلاح وكثرة الخيرات وكثرة الحسنات ناتجة مما في القلب، وأما الشكر والصبر فهما من الصفات الظاهرة حتى يمكن أن يُحكم بتساويهما. ويمكن أن يقال: ما قيل في الشاكر والصابر يقال في أمثالهما، فيقال مثلاً: المبتلى والمعافى كذلك، إنسان ابتُلي ولكنه احتسب، وآخر عوفي ولكنه شكر، فهما سواء، وكذلك مثلاً: إنسان أُعطي فشكر ربه، وآخر مُنع فحمد ربه. وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خُيِّر بين أن تكون له جبال مكة ذهباً وبين أن يجوع يوماً ويشبع يوماً، فاختار أن يجوع يوماً ويشبع يوماً، وقال: إذا جُعتُ تضرعتُ إليك وذكرتك، وإذا شبعتُ حمدتُك وشكرتك)، فجعل الله ذلك مرتبة أفضل من أن تكون له الدنيا. وقد ذكر الله تعالى أنه أعطى من قبله من الأنبياء من الدنيا(2/479)
ومع ذلك لم ينقصهم من مرتبتهم عنده، كما أعطى سليمان، قال تعالى: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [ص:36] إلى قوله: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص:39]؛ لكن رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم وصبره على ما أوتي وتقلله ودعاؤه بقوله: (اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً)، أفضل من رتبة سليمان، مع أن سليمان شاكر لربه كما حكى الله عنه أنه قال لما أتي بعرش بلقيس: قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].
شرح العقيدة الطحاوية [50]
للإيمان ثمار عظيمة، من أعظمها أنه يدعو إلى العمل الصالح، والتقوى، ويعصم صاحبه من الفتن، ويؤهله لاستحقاق رحمة الله.
أركان الإيمان
…(2/480)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والإيمان هو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى). تقدم أن هذه الخصال هي أصول الدين، وبها أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور المتفق على صحته حين (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة رجل أعرابي، وسأله عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. وسأله عن الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. وسأله عن الإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه (كان يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وتارة بآيتي الإيمان والإسلام: التي في سورة البقرة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا .. [البقرة:136] الآية، والتي في آل عمران: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ .. [آل عمران:64] الآية. وفسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس المتفق على صحته حيث قال لهم: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في غير موضع أنه لا بد من إيمان القلب، فعُلِم أن هذه مع إيمان القلب: هو الإيمان، وقد تقدم الكلام على هذا .] ذكر الطحاوي خصال الإيمان أو أركان الإيمان، وقد تقدم بعضها. وقد تقدم أيضاً اختياره أن الأعمال ليست من مسمى الإيمان، وأن الإيمان(2/481)
هو: القول باللسان والاعتقاد بالجنان، أو هو: التصديق الجازم دون تردد. وتقدم أن القول الصحيح: كون الأعمال من مسمى الإيمان، فإن الصلاة من الإيمان، والصدقات من الإيمان، والصوم والحج والجهاد ونحوها من الإيمان، وكذلك البر والصلة والصدق والوفاء والأمانة ونحوها من خصال الإيمان، وكذلك ترك المحرمات خوفاً من الله تعالى من الإيمان أو من آثار الإيمان. أركان الإيمان الستة تعتبر هي العقيدة، وتعتبر هي الأسس والأصول، فإذا ثبتت ورسخت في القلب فإن ثمرتها الأعمال الصالحة. ......
ثمرة الإيمان
…(2/482)
ثمرة الإيمان بالله سبحانه وتعالى: أن يعبده المؤمن، وأن يخافه ويرجوه، وأن يعتمد عليه، ويقبل إليه بقلبه وقالبه ويتوب إليه، وأن يصدق بخبره، وأن يستعد للقائه. ولا شك أن الأدلة التي قامت على الإيمان بالله تعالى سمعية وعقلية، ولا شك أيضاً أن من حقق الإيمان بالله تعالى، وصدق بأنه هو الإله الحق، وهو الرب، فإنه يصدق بوجوب عبادته، ويصدق بالإيمان بما أخبر به، ويصدق بالبعث بعد الموت، وبالجزاء في الآخرة، ويصدق بالرسل الذين بلغوا رسالات ربهم، ويصدق بالكتب التي أنزلها وضمَّنها شرائعه، ويصدق بالقضاء والقدر، وأنه من تمام قدرة الله على العباد وعلى كل شيء، ويصدق بالأمور الغيبية التي أخبر الله تعالى بها، ولو لم يرها؛ لأنه أخبر بها الصادق المصدوق، أخبر بها الله أو أخبرت بها رسله، فيصدق بذلك، ولا شك أن من صدق تصديقاً جازماً فإنه ولا بد سيعمل وسيظهر أثر هذا التصديق على جوارحه، وعلى لسانه، وعلى سمعه، وعلى بصره، وعلى يديه، وعلى رجليه، وعلى حاله وماله، وعلى مآله وعلى بدنه، يظهر أثر ذلك جلياً لا خفاء فيه. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل بالأعمال الباطنة، والإسلام بالأعمال الظاهرة، وقد تقدم الكلام على الإسلام والإيمان والإحسان، وتبين لنا أنها مراتب، وأن أعلاها مرتبة الإحسان، ثم بعدها مرتبة الإيمان، وأوسعها مرتبة الإسلام، وتقدم أمثلة لذلك. وكل من دخل في الإسلام وعمل بالأعمال الظاهرة، عومل بمعاملة المسلمين، ولكن قد يكون إيمانه ضعيفاً لا يرتقي به إلى المرتبة الثانية، وكل من وصل إلى الإيمان وآمن بالأمور الغيبية وعمل بموجبها، فقد يكون تصديقه متوسطاً لا يصل به إلى المرتبة الثالثة التي هي الإحسان. وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام بالأعمال الظاهرة في حديث جبريل، وجعل الأعمال الظاهرة أيضاً هي الإيمان في حديث وفد عبد القيس فقال لهم: (أتدرون ما الإيمان بالله؟! شهادة أن لا إله إلا(2/483)
الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) فجعل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والشهادتين من الإيمان، وكذلك أداء الخُمُس ألحقه بالزكاة، فجعل ذلك من الإيمان. وبوَّب البخاري رحمه الله على هذه الخَمْس بأنها من الإيمان، حيث يقول: أداء الزكاة من الإيمان، بابٌ: أداء الخمس من الإيمان، يعني: من الأعمال التي فعلها يكون متمماً للإيمان. وقد ذكر الشارح فيما سبق حديث شعب الإيمان، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) فجعل هذه البضع والستين كلها من خصال الإيمان، أي: من أجزائه، أو من ثمراته، ولا شك أن المؤمنين يتفاوتون، وفي بعض الأحاديث: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) فجعل حسن الخلق -مع أنه جبلة وطبيعة؛ ولكن يثاب العبد عليه- سبباً لكمال الإيمان، وقوته، وتمكُّنه. وبكل حال فما على المسلم إلا أن يحرص على تحقيق الإسلام والإيمان والعمل به، ثم بعد ذلك يتفقد أعماله هل عمل بالأعمال التي يتصف بها المسلمون المؤمنون؟ فإذا وجد في نفسه نقصاً، حرص على تكميل ذلك النقص؛ ليحوز الرتبة العالية.
سر قراءة سورتي الإخلاص وآيتي الإسلام والإيمان في سنة الفجر
…(2/484)
كان النبي صلى الله عليه وسلم في سنة الفجر يقرأ سورتي الإخلاص؛ وذلك لأن سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فيها توحيد الذات والصفات، وأما سورة الكافرون ففيها توحيد العبادة، فتوحيد الله تعالى بأفعاله تضمنته سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وتوحيد الله تعالى بأفعالنا تضمنته سورة الكافرون أي: أن تكون أفعالنا لله وحده، طاعتنا ودعاؤنا وتوكلنا وخوفنا ورجاؤنا. إذاً: فكونه يقرأ هاتين السورتين في سنة الفجر التي يستقبل بها النهار، كأنه يعاهد ربه أنني في أول هذا النهار أعبدك يا رب وأخصك بالعبادة، وأعتقد وحدانيتك وأنزهك عن صفات النقص. وأما قراءته للآيتين من سورتي البقرة وآل عمران فتلك الآيتان يشتملان على خصال الإيمان وخصال الإسلام. فالإيمان ذُكر في آية البقرة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:136] فجمعت الآية خصال الإيمان، يعني: آمنا بالرسل وآمنا بما أنزل إليهم؛ ولكن الإيمان يتبعه العمل، ولذلك ختمها بقوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). وآما آية آل عمران ففيها التوحيد، يخاطب الله بها أهل الكتاب في قوله: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] وهي كلمة التوحيد أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] فختمها بالإسلام وأكد فيها التوحيد. فكأن الإنسان إذا قرأهما في أول النهار يعاهد ربه على أنه مؤمن وأنه موحد. ولقد تكرر معنا أن(2/485)
عقيدة المسلمين تنبني على أصول الإيمان التي بيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور لما سئل عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره).
ثمرة الإيمان بالرسل واليوم الآخر
…
ما يتفرع عن أركان الإيمان الستة من الإيمان بأمور الغيب ونحو ذلك هو معتقد المسلمين، ولا شك أن دليلهم فيها هو الرسالات التي بلَّغتها إليهم رسل الله، فلما عرفوا الرسل، وعرفوا ما جاءوا به وصحته، وعرفوا أدلة رسالاتهم والمعجزات التي أيدهم الله بها؛ آمنوا برسل الله، ولما آمنوا برسل الله أولِهم وآخرِهم آمنوا برسالاتهم التي يحملونها، والتي بلَّغوها إلى أممهم، وكان من جملة تلك الرسالات: الإيمان بالغيب؛ حيث إن الرسل صادقون، ويلزم تصديقهم فيما بلَّغوه، وكان من جملة ما بلَّغوه أن أخبروا الناس بأنهم عبيد لله وأن الله هو ربهم، وأخبروا الناس بأنهم متعبَّدون، يعني: مأمورون ومنهيون، وأخبروا بأن الخلق مثابون أو معاقبون، وأن هناك داراً أخرى غير هذه الدار، يلاقون فيها جزاء أعمالهم، يلاقون فيها الثواب أو العقاب، على ما عملوه وما قدموه في هذه الحياة الدنيا. فصدق المؤمنون بذلك كله، ولما صدقوا به ظهرت عليهم آثاره، فعند ذلك استعدوا لذلك اليوم، واستعدوا للقاء الله عزَّ وجلَّ بالأعمال الصالحة التي يعرفون أنها سبيل النجاة، وأنها زادهم في الآخرة، وحَذِروا من الأعمال التي توبقهم والتي تكون سبباً للعذاب. فهؤلاء المؤمنون هم أهل العقول .. هم أهل الذكاء .. هم أهل الفطنة .. هم الذين لم تقصُر أنظارهم عند الحياة الدنيا، ولا عند شهواتها وملذاتها، ولم يقصُروا أفكارهم على شهوات البطون أو الفروج، ولا على ما تميل إليه النفوس، بل سمت هممهم، وعلت عزائمهم، وتنافسوا في الأعمال الخيرية، واستعدوا للدار الآخرة، وجعلوا دار الدنيا دار ممر وليست بدار مقر، وعبروها ولم يعمروها، وجعلوا عمارتهم(2/486)
ومنافساتهم للآخرة التي هي دار البقاء، وهذا من ثمرة إيمانهم باليوم الآخر.
ثمرة الإيمان بالقدر وما يترتب عليه
…
من جملة ما أخبرت به الرسل: الإيمان بقضاء الله وقدره خيره وشره، وحلوه ومره، كله من الله. والإيمان بالقدر يدخل فيه الإيمان بعلم الله، بحيث يعتقد المسلم أن الله تعالى عالم بالأشياء قبل أن تقع، عالم بما يكون في الوجود، وما كان، وما لم يكن لو كان كيف يكون. ودليل هذا الإيمان أن الرب سبحانه وتعالى هو الذي يُحْدِث ما يَحْدُث في هذا الكون، فلا يُحْدِثه إلا وقد علمه، وعلم وقته وزمانه الذي يحصل فيه، وقد علم كيفية حصوله، فعلم عدد الخلق والتراب، وأبصر فلم يستر بصره حجاب، وسمع جهر القول وخفي الخطاب، وعلم ما سوف يحدث .. علم أعمال الخلق، وعلم عددهم، وعلم من يولد ومن لا يولد له، وعلم عمل كل مولود وما يُختم له قبل أن يوجد، كل ذلك يعلمه الله سبحانه وتعالى. فالله بكل شيء عليم، يعلم السر والنجوى، ويعلم ما يدور في الصدور عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119]، ويعلم ما تكنُّه الأنفس وما توسوس به الصدور، فإذا علم المسلم بذلك فإنه يحاسب عليه إذا شاء، يقول الله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، وهو يحمل الإنسان على ألَّا يحدث نفسه إلَّا بالخير، وألَّا يهم إلَّا بالطاعة، وألَّا يتكلم إلَّا بما فيه مصلحة، وأن يبتعد عن العقائد السيئة، وعن الوساوس والأوهام والتوهُّمات، وكذلك عن الهمم السيئة، وبذلك يكون مؤمناً بالله تعالى. كذلك يدخل في الإيمان بالقدر: قدرة الله، فإن الرب سبحانه قادر لا يعجزه شيء، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولا يخرج مخلوق عن قدرته، ولا يعجزه أي مخلوق، فهو يعامل من يشاء بدون أن يرده أحد، وينتقم ممن يشاء بدون أن يحتجب عنه محتجب، وينتصر ممن عصاه، وينتقم منه وهو عزيز ذو انتقام، ويُحِل بمن يشاء المثلات، ويُنْزِل(2/487)
بهم العقوبات، ويرسل عليهم النكبات إذا شاء، ويوسع على من يشاء، ويضيق على من يشاء. فإذا اعتقد المسلم ذلك اعتقد أن التصرف في الكون له وحده. كذلك أيضاً يؤمن بما أصابه وما وقع له، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، إذا أصابك شيء فاعلم أنه ليس منه مفر ولا محيد، فلا تقل: يا ليتني تقدمت أو تأخرت حتى أسلم من هذه المصيبة، بل تعلم أنها مكتوبة عليك لا مفر منها، وإن كان الرب سبحانه قد أمرك بأخذ الحذر. فإذا علمت أن هذه قدرة الله، فعليك أيضاً أن تعلم بأن قدرة الله التي لا يخرج عنها شيء تدخل فيها الطاعات والمعاصي، فهو الذي قدَّر الطاعات وهو الذي قدَّر المعاصي كما يشاء، فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]؛ ولكنه سبحانه أمر ونهى. فالذين علم الله فيهم الخير امتثلوا ما أمرهم الله به، والذين علم فيهم السوء تركوا ما أُمروا به، فهؤلاء العاصون لهم العقاب، وإن كان الله هو الذي خذلهم بحكمته وعدله، وهؤلاء الذين أطاعوا لهم الثواب، وإن كان هو الذي وفقهم برحمته وفضله. كذلك أيضاً ينبغي أن نعرف أن الخير كله من الله، وأنه لا يُنسب إليه الشر بوجه من الوجوه، ومذكورٌ في تلبية الحاج أنه يقول: لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، نحن عبادك الوافدون إليك، الراغبون فيما لديك. فيقولون: الشر ليس إليك. ومعلوم أن الله تعالى هو الذي قدر الخير والشر؛ ولكن صدوره من الله تعالى ليس شراً، بل هو خير لهم، وإنما يكون شراً بنسبته إلى العبد، فإذا قدر الله على هذا الكفر، وعلى هذا القتل، وعلى هذا الزنا، وعلى هذا الإسكار، وعلى هذا السرقة، ونحو ذلك؛ فهي شر بالنسبة إلى العبد، وخير بالنسبة إلى تقدير الله تعالى، فإنه هو الذي قدرها، وقدرها حتى يُعلم أنه على كل شيء قدير، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
شرح العقيدة الطحاوية [51](2/488)
في اللغة أسماء خصصها الشرع وجعل لها مدلولات اصطلاحية قد تختلف باختلاف موردها، ومن ذلك مسميات الإيمان والإسلام والكفر والفسوق والعصيان والنفاق، وغيرها.
تفسير الإسلام والإيمان
…
قال الشارح رحمه الله تعالى: [والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق، وهذا أكثر من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.. [الأنفال:2] الآية، وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا.. [الحجرات:15] الآية، وقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] فنفي الإيمان حتى توجد هذه الغاية، دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد، ولم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب. ولا يقال: إن بين تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل، وتفسيره إياه في حديث وفد عبد القيس معارضة؛ لأنه فسر الإيمان في حديث جبريل بعد تفسير الإسلام، فكان المعنى أنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مع الأعمال التي ذكرها في تفسير الإسلام، كما أن الإحسان متضمن للإيمان الذي قدم تفسيره قبل ذكره، بخلاف حديث وفد عبد القيس؛ لأنه فسره ابتداءً، لم يتقدم قبله تفسير الإسلام، ولكن هذا الجواب لا يتأتى على ما ذكره الشيخ رحمه الله من تفسير الإيمان، فحديث وفد عبد القيس مشكل عليه. ومما يسأل عنه: أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من الخصال الخمس التي أجاب بها النبي صلى الله عليه(2/489)
وسلم في حديث جبريل المذكور، فلم قال: إن الإسلام هذه الخصال الخمس؟ وقد أجاب بعض الناس: بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده]. الإسلام فسر بالأعمال الظاهرة التي هي الأركان الخمسة، والإيمان فسر بالأركان الستة التي هي العقائد، وعلى هذا فإذا اجتمع الإسلام والإيمان فسر الإيمان بالأعمال العقدية الغيبية، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة. وسبب التسمية: أن الإسلام يستدعي الاستسلام الذي هو الإذعان، فالذي يقيم الصلاة مذعن ظاهراً، والذي يؤدي الحج مذعن ظاهراً، وكذا الذي يصوم ويزكي ويتشهد مذعن وخاضع ومتواضع. وأما الأمور العقدية القلبية فهذه خفية، تستدعي أدلة قوية، ثم بعد ذلك ترتكز في النفس، وتكون آثارها الأعمال الصالحة، وقد مر بنا أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه وفد عبد القيس قال لهم: (آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتؤدوا من الغنيمة الخمس )، فأمرهم بأركان الإسلام وفسر بها الإيمان؛ وذلك لأنه لم يفسر لهم الإسلام، فجعل الإيمان هو الأعمال الظاهرة، فإذا اقتصر على الإيمان دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اقتصر على الإسلام دخلت فيه الأعمال الظاهرة والباطنة، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالظاهرة والإيمان بالباطنة. الله تعالى ذكر الإيمان وأدخل فيه الأعمال الظاهرة، فجعل الجهاد -وهو من الأعمال الظاهرة- من خصال الإيمان. كذلك قال في آية سورة النساء: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65] فجعل تحكيم الشريعة وتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم العلامة الواضحة للإيمان، فمن لم يجعل الرسول هو الحكم فليس بمؤمن، فهذا دليل على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وإذا اقتصر على الإيمان دخلت فيه الأعمال الظاهرة(2/490)
والباطنة؛ وذلك لأنها نتيجته وثمرته. أما الإسلام فيفسر بالإعمال الظاهرة؛ لأنها علاماته، ومعلوم أن الأعمال الظاهرة ليست هي الخمس فقط، ولكن هذه الخمس هي دعائمها وأسسها وأصولها، وإذا حافظ عليها المسلم حافظ على غيرها، فالأركان الخمسة الظاهرة: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، هذه أسس الإسلام وعموده ودعائمه وأركانه التي يتكون منها، والتي يقوم عليها، ولكن هناك خصال أخرى تعتبر مكملات، فلأجل ذلك إذا أتى بهذه الأركان احتاج إلى مكملات. وقد ذكرنا أنهم ضربوا مثلاً للإسلام بالبناء، قال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس)، فمثله بالبناء، وأنتم تعرفون أن البناء لابد أن يكون له زوايا، فجعل الأركان هذه هي الزوايا التي يتكون منها، وهي الحيطان الأربعة المتقابلة، وهذه تعتبر أركانه لا يتم إلا بها، فهذا المكان لا يتم إلا إذا تكاملت زواياه المتقابلة، ولكن دون ذلك يحتاج إلى تكملة بقية الخصال التي هي إما أفعال وإما أقوال وهي بمنزلة المكملات. فلو بنيت حيطان المسجد فقط دون إتمام بقية المسجد لقلنا: إنه يحتاج إلى تكملة: يحتاج إلى أبواب، ويحتاج إلى نوافذ، ويحتاج إلى إنارة، ويحتاج إلى تهوية، ويحتاج إلى فرش، ويحتاج إلى سرج، ويحتاج إلى مرافق ومتكئات وما أشبه ذلك، فكذلك الإسلام بحاجة إلى الجهاد، وبحاجة إلى الأعمال الصالحة، وبحاجة إلى ترك المنكرات كلها: ترك القتل، وترك الزنا، وترك الشرك، وترك السرقة، وترك الفساد بأنواعه وما أشبه ذلك، وكذلك يحتاج إلى بر الوالدين، وإحسان الجوار، وصلة الأرحام، وبذل السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، واتباع الجنائز وما أشبه ذلك، ولا شك أن هذه من خصال الإيمان. فالذي يأتي بالأركان الخمسة، يطلب منه تكميل ذلك بأن تستدعي الخمسة غيرها، فيقال له: ائت بالبقية حتى تكون بذلك قد كملت الإسلام. ......
الإسلام ليس منحصراً في الأركان الخمسة وإنما هي دعائمه
…(2/491)
قال الشارح رحمه الله: [والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، ويجب على كل من كان قادراً عليه ليعبد الله مخلصاً له الدين، وهذه هي الخمس، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب مصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن يكون فرضاً على الكفاية كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك: من إمارة وحكم وفتيا وإقراء وتحديث وغير ذلك، وإما أن يجب بسبب حق الآدمي، فيختص به من وجب له وعليه، وقد يسقط بإسقاطه من قضاء الديون ورد الأمانات والغصوب، والإنصاف من المظالم: من الدماء والأموال والأعراض، وحقوق الزوجة والأولاد وصلة الأرحام، ونحو ذلك، فإن الواجب من ذلك على زيد غير الواجب على عمرو، بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة، فإن الزكاة وإن كانت حقاً مالياً فإنها واجبة لله، والأصناف الثمانية مصارفها، ولهذا وجبت فيها النية، ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه، ولم تطلب من الكفار، وحقوق العباد لا يشترط لها النية، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته، ويطالب بها الكفار. وما يجب حقاً لله تعالى كالكفارات هو بسبب من العبد، وفيها معنى العقوبة، ولهذا كان التكليف شرطاً في الزكاة، فلا تجب على الصغير والمجنون عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى، على ما عرف في موضعه]. يجيب الشارح هنا عن سؤال مقدر تقديره: لماذا اقتصر في الإسلام على الأركان الخمسة ولم يذكر بقية الخصال؟ أي أنه لم يقل: الإسلام أن تجاهد في سبيل الله، وأن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، وأن تصل رحمك، وأن تبر والديك، وأن تحسن إلى جيرانك، وأن تحب المسلمين، وأن تسلم على من سلم عليك، وأن تعود المرضى، وأن تتبع جنائز الموتى ونحو ذلك، لماذا لم يذكر هذه الخصال في الإسلام؟ ولماذا لم يذكر المتروكات؟ لماذا لم يقل: إن من الإسلام أن تترك الزنا، وأن(2/492)
تترك القتل، وأن تترك الشرك، وأن تترك السرقة، وأن تترك الغيبة والنميمة، وأن تترك الخيانة والإثم، وأن تترك السباب والفحشاء وما أشبه ذلك؟ فلماذا لم يذكر هذه الأشياء في الإسلام؟! نقول: لا شك أن هذه من خصال الإسلام سواء كانت أفعالاً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحب في الله والبغض في الله، والولاء له والبراء له، وما أشبه ذلك أو كانت من التروك، كترك المنكرات والمعاصي ونحوها، لا شك أنها من خصال الإسلام، ولكن يجاب عنها بما أجاب به الشارح، فالأركان الخمسة تستدعي غيرها، ولا شك أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإذا حافظ العبد عليها فإنها تحبب إليه الأعمال الخيرية، فتراه يحب النفقة في سبيل الله، وتراه يحب الخير، ويحب أهل الخير، وتراه يتعلم العلم ويعلمه، وتراه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبر والديه، ويبذل السلام للعالم، ويأمر بما يصلح المسلمين، ويفشيه فيما بينهم، وتراه يصل الرحم ويحسن الجوار، ويحسن إلى المماليك وما أشبه ذلك، وتراه يبتعد عن المنكرات؛ لأن صلاته تنهاه، فتراه يحفظ لسانه، ويحفظ عينيه عن النظر للحرام، ويحفظ أذنيه عن سماع الملاهي وما أشبه ذلك، ويحفظ يديه عن البطش بالآثام ونحو ذلك، ويحفظ قدميه عن المشي بهما إلى ما حرم الله، لماذا؟ لأن صلاته أمرته بالخير ونهته عن الشر، فالصلاة سبب من الأسباب جعلته يحب الخير ويكثر منه. وهناك أيضاً جواب ثاني وهو: أن هذه الخصال قد لا تجب على كل فرد، بخلاف الصلاة فإنها واجبة على كل فرد، والزكاة على كل فرد توافرت فيه شروطها، والصوم على كل فرد، والحج على كل فرد مستطيع، أما الجهاد فإنه على القادر، وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وكذلك الأمور التي تتعلق بالغير، فمثلاً بذل السلام فرض كفاية، فلو سلم واحد من عشرة كفى، وإذا رد واحد من العشرة كفى، وكذلك(2/493)
الخصال الخيرية لا تجب على كل أحد، فقد لا يجب على كل أحد أن يبر أو يصل، أو ما أشبه ذلك، فوجوبها إنما هو على الشخص الذي اتصف بتلك الصفات، فهذا جواب. ومن الأجوبة أيضاً: أن هناك أعمالاً لا تجب على الإنسان بإيجاب الشرع، وإنما تجب عليه بإيجاب نفسه، كالكفارات والنذور التي أوجبها على نفسه، مثلاً: إذا أوجب على نفسه أضحية، أو أوجب على نفسه صدقة، اعتبر هذا مما أوجبه على نفسه ولم يوجبه عليه الشرع، إنما الشرع سن له الصدقة، وسن له الأضحية، وسن له أنواع البر المتعدية، أما كفارات النذور، وكفارات الأيمان وما أشبهها، فهذه لا تجب على كل فرد، إنما تجب على من أوجبها على نفسه، أو أتى بالسبب الذي أوجبه على نفسه. إذاً: الناذر هو الذي أوجب على نفسه كفارة يمين إذا لم يفِ بنذره، والحالف هو الذي أوجب على نفسه كفارة إن حنث، والمظاهر هو الذي أوجب الكفارة على نفسه، وهكذا كفارة القتل، وهكذا كفارة الوطء في نهار رمضان وما أشبه ذلك، لا شك أن هذه إنما أوجبها الإنسان على نفسه. وبكل حال فإن الأشياء التي يكلف بها الإنسان إما أن تكون من الخصال الخيرية التي ليست واجبة ولكنها مشروعة وفيها أجر كالأذكار، والأدعية، وقراءة القرآن، والاعتكاف في المساجد، والإتيان بالنوافل قبل الصلوات وبعدها، وأنواع التطوعات، وكذلك أنواع الصدقات البعيدة عن الواجب الذي هو الزكاة، وما أشبه ذلك؛ فهذه خصال خيرية يحبها الشرع، وحبه لها يظهر أنها طاعة، فإذا علم أنها طاعة وأن الله يحبها أكثر منها. وأما التروك والمحرمات فإن الذي يتركها هو الذي يعرف عاقبتها، ويعرف الآثام التي تترتب عليها، فإذا علم العبد أن الله تعالى يعاقبه على الشرك ويعاقبه على القتل وعلى الزنا وعلى المسكرات والمخدرات ونحوها، ويعاقبه على القذف وعلى السباب والشتم واللعن والغيبة والنميمة ونحو ذلك، ويعاقبه على أكل الحرام كأكل الربا وأخذ الرشا والمعاملات المحرمة وما أشبه ذلك، ويعاقبه(2/494)
على سماع الغناء واللهو وما أشبه ذلك؛ تركها، وهذه أيضاً ليست من الضروريات، فليس كل أحد يتعامل بالمعاملات المحرمة، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يغتاب وأن ينم ويسب ويكذب، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يرى الصور والملاهي، وينظر إلى العورات وما أشبه ذلك، وليس كل واحد مضطراً إلى أن يسمع الغناء واللهو والباطل والكلام السيئ وما أشبه ذلك، فليست من الضروريات. فإذاً: لما كان فيها مفاسد، وليس فيها مصالح، والإسلام مشتمل على النهي عنها، وعلى الزجر والعقوبة عليها؛ وجب على المسلم أن يتركها، فإذا أسلم العبد وعرف أن هذه الخصال التي هي أركان الإسلام هي السبب في أنه مسلم، عرف أن الإسلام لا يجتمع هو وضده، وأن الإسلام ينهى عن الآثام؛ فاجتنب الآثام كلياً، واستكثر من الطاعات كلياً، وبذلك يتم إسلامه وإيمانه.
الإيمان بالقدر خيره وشره
…(2/495)
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى). تقدم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام (وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وقال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وقال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [النساء:78]، وقوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.. [النساء:79] الآية. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] وبين قوله: فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]؟ قيل: قوله: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78]: الخصب والجدب والنصر والهزيمة كلها من عند الله، وقوله: فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك، كما قال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30] يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك) والمراد بالحسنة هنا النعمة، وبالسيئة البلية، في أصح الأقوال، وقد قيل: الحسنة الطاعة، والسيئة المعصية، وقيل: الحسنة ما أصابه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد، والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث، والمعنى الثاني ليس مراداً دون الأول قطعاً، ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسك، مع أن الجميع مقدر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، كما دل على ذلك الكتاب والسنة]. ......
الحسنة والسيئة من الله
…(2/496)
المصائب والحسنات والسيئات كلها مقدرة من الله، فالله تعالى يقول: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء:78] الحسنة والسيئة كلها مكتوبة ومقدرة من الله، لو شاء الله ما حصلت هذه العقوبات ونحوها، ولا حصلت هذه الآفات وما أشبهها، فهي من الله خلقاً وتكويناً وقضاءً وقدراً. الحسنة هنا تدخل فيها الأعمال الصالحة، فما عملت من أعمال صالحة فالله هو الذي أقدرك عليها، وتدخل فيها الخيرات الحسية، فما أصابك من نعمة، وما أصابك من صحة ومن ثروة ومن خصب ومن أمن ورخاء، وما أصابك من نعمة مال أو ولد أو فرح أو بشر وسرور، ما أصابك من هذا كله فهو من الله، وقد جعل الله تعالى ذلك ثواباً على الأعمال والحسنات التي يعملها العبد، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [النحل:41] أي: لنعطينهم في الدنيا حسنة؛ وذلك لأنهم أتوا بالأسباب التي هي الإيمان والأعمال الصالحة، إما الحسنة التي هي خيرات أخروية أو خيرات دنيوية فهي من الله، وهي أيضاً جزاء له على عمله، فأنت أيها المؤمن التقي والعبد الصالح إذا أصلحت عملك جازاك الله تعالى بحسنات في الدنيا، وبحسنة في الآخرة، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة)، فالحسنة في الدنيا: الصحة والنعمة والرفاهية والنصر والتمكين والخيرات المحبوبة في النفوس، والحسنة في الآخرة هي الجنة. فما أصابك من حسنة فمن الله، هو الذي أنعم بها عليك، وهو الذي تفضل بها عليك، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، ما أصابك من هم أو من غم، ما أصابك من جوع أو من عري، ما أصابك من مرض أو من حزن، ما أصابك من خوف أو قلق واضطراب وفقر وفاقة، أو من مرض وموت وفراق حبيب وما أشبه ذلك، فاعلم أنه عقوبة على سيئة اقترفتها، أو أنه محنة لك واختبار، فإذا كان عندك شيء من النقص أو من الضعف في إيمانك فسبب هذه(2/497)
السيئة التي أصبت بها صادر عن نفسك، ولهذا قال الله تعالى للصحابة في غزوة أحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] من عند أنفسكم أي: بسبب فعلكم سلط عليكم هذا العدو، فهو من عند أنفسكم، أي: عملتم عملاً حصل به هذا التسليط.
الواجب على المسلم إذا أصابته حسنة أو سيئة
…
لا شك أن الإنسان إذا ابتلي بالحسنة فعليه أن يشكر، وإذا ابتلي بالسيئة فعليه أن يصبر، فإذا أصابته النعمة والرخاء والثروة والغناء وكثرة المال والولد والصحة والرفاهية والخيرات التي تسره وتجلب له الحياة السعيدة فلا يعتقد أن هذا لكرامته، بل يعتقد أنه ابتلاء من الله له، إما أنه جزاء على أعمال عملها، وثواب لحسنات عملها، فيكون قد عجلت له حسناته، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخافون إذا وسعت عليهم الدنيا ويقولون: نخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا. والخيرات والرفاهية التي فيها الناس الآن قد تكون حسناتهم وأعمالهم الصالحة عجلت لهم، ولا يبقى لهم في الآخرة ثواب، ويمكن أن تكون هذه الحسنات والنعم والرخاء التي أعطيها الناس في هذه الأزمنة جزاء على أعمالهم الصالحة، مع ادخار الأجر لهم، فالله تعالى يثيب الصالحين والمؤمنين بثواب في الدنيا، ولا ينقص ثوابهم في الآخرة، فيجمع لهم بين الحسنتين: حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، ويمكن أن تكون هذه الخيرات، وهذه النعم التي أصابها الناس في هذه الأزمنة، وهذه التوسعة والرفاهية والنعم ابتلاء، فإن الله تعالى يبتلي بالخير كما يبتلي بالشر، فيبتلي بالحسنات ويبتلي بالسيئات، فالابتلاء بالحسنات لأجل أن يظهر من العبد هل يشكر أم يكفر، كما حكى الله تعالى عن سليمان أنه قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]. فهذه النعم التي فتحت علينا من فضل الله علينا ليبتلينا هل نشكر أم نكفر، فإذا(2/498)
عرفنا أنها من الله شكرنا، وإذا عرفنا أنها بحاجة إلى شكر استعملناها فيما يحبه الله تعالى، وبذلك تثبت، وبذلك نكون من الشاكرين لها، فهذا هو الابتلاء بالخيرات. أما الذين انخدعوا بها، واعتقدوا أن ذلك دليل على كرامتهم، فإنهم هم المحرومون، هم الذين تعجلوا ثواب أعمالهم في الدنيا، واعتقدوا أن ما فتح عليهم وما أمدهم الله به دليل على كرامتهم، وعلى فضلهم، وعلى شرفهم، وعلى رفعة منزلتهم ونحو ذلك، وقد وقع هذا للأولين، فحكى الله عن قارون أنه قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] أي: أوتيته على شرف، أوتيته على منزلة رفيعة، أو أوتيته لأني محبوب ومحظوظ عند الله، ولهذا قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] هؤلاء هم الذين نظرتهم دنيوية، ولم يعلموا أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة إلا من يحب. فإذا عرف العبد أن الابتلاء بالخيرات ليس دليلاً على الكرامة، بل إما أنه لحسنات عملها فيثاب عليها في الدنيا ولا يبقى له في الآخرة شيء، وإما أنه لأجل أن يختبر هل يشكر أم يكفر، وإما أنه تعجيل أو توسعة عليه في الدنيا، ولا ينقص أجره في الآخرة، فإذا شكر الله تعالى علم كيف يقابل الحسنات الدنيوية.
أسباب المصائب والابتلاءات
…(2/499)
إذا أصاب الإنسان سيئة دنيوية، مصيبة أو بلاء أو مرض أو فقر أو فاقة أو موت قريب، أو حزن أو خوف، أو تشريد وتفريق، أونهب وسلب، أو تسليط أعداء، أو ما أشبه ذلك، فما سبب ذلك؟ لا شك أنه يدخل في هذه الأمور: إما أن يكون ذلك تكفيراً للسيئات، فالمؤمن يبتلى، فإذا كانت عنده سيئات سلط الله عليه المرض، وسلط الله عليه الخوف ونحو ذلك، كما في الحديث: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء)، وفي الحديث أيضاً: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)، هذا سبب. السبب الثاني: أن هذه المصائب والآفات التي تصيب الإنسان قد تكون تمحيصاً وتكفيراً للسيئات التي اقترفها، وذلك لأنه قد لا يأتي بحسنات تمحوها، فيسلط الله عليه الأمراض. السبب الثالث: أنه ابتلاء وامتحان ليظهر من يصبر وممن يجزع، قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [آل عمران:186]. إذاً: هذه المصائب هي بسبب الناس، سيئات اقترفوها، أو أعمال قصروا فيها، أو نحو ذلك، فالسبب منهم، والله تعالى قد يبتليهم بهذه الأشياء حتى يختبر قوة إيمانهم وصبرهم، وحتى يرفع درجات الصابرين، وحتى يكفر عنهم بعض سيئاتهم، أو يكون هذا الابتلاء اختباراً ليظهر من يشكر ممن يجزع. فهذا ما ورد في معنى قوله: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79].
شرح العقيدة الطحاوية [52]
تنقسم الذنوب إلى كبائر وصغائر، وقد بين العلماء ضابط الكبيرة، والفرق بينهما وبين الصغائر، وحذروا من التهاون بالصغائر، وبين أحكامها وما يترتب عليها.(2/500)
الموحدون لا يخلدون في النار وإن دخلوها
…
من عقيدة أهل السنة: أنهم لا يخلدون العصاة في النار، وإن دخلوها فإنهم يخرجون منهم، والمراد الذين ماتوا وهم مصرون على بعض الذنوب الكبيرة التي ورد فيها وعيد، وأما الخوارج فتمسكوا بأحاديث وبنصوص فيها وعيد شديد لمن عمل ذنباً أو كبيرة، فأخرجوهم من دائرة الإسلام وأدخلوهم في الكفر، واستحلوا دماءهم وأموالهم بمجرد ارتكاب الذنب. أما المعتزلة فأخرجوهم من الإسلام ولم يدخلوهم في الكفر، وجعلوهم في منزلة بين الكفر والإيمان، وحكموا بخلودهم في النار بموجب النصوص التي فيها وعيد. وأهل السنة قالوا: إنهم تحت مشيئة الله إن شاء غفر لهم ذنوبهم وأدخلهم الجنة من أول وهلة، وإن شاء أدخلهم النار تطهيراً لهم لما اقترفوه من الذنوب، ما يمحصون ويهذبون وينقون يخرجون من النار ويدخلون الجنة، فمنهم من يكون بقاؤه في النار ألوفاً من السنين، ومنهم من لا يبقى فيها إلا قليلاً، على قدر ذنوبهم أو بدعهم، ومآلهم إلى الجنة، ولو بعد مدة؛ وذلك لأنهم من أهل الإيمان، ومن أهل التوحيد، ومن أهل التصديق، وإن كان معهم شيء من الذنوب التي اقترفوها. فكيف نحمل النصوص التي فيها الوعيد بعدم دخول الجنة لبعض العصاة؟ وردت أحاديث كثيرة وآيات ظاهرة الدلالة في أن العصاة في النار، سواء يخلدون فيها أو يدخلونها، أو يحرمون الجنة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام)، ومثل قوله: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، ومثل قوله: (إن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه)، ومثل الآيات قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، وكقوله: وَمَنْ(3/1)
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16]، ومثل قوله في آكل الربا: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275] يعني: من عاد إلى التعامل بالربا، فتوعدهم بأنهم من أصحاب النار بمجرد أكلهم الربا، والربا إنما هو من الكبائر لا من الكفر والشرك، وكذلك الوعيد في قتل النفس، قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا [النساء:93]. تمسك بهذه النصوص الوعيدية من القدرية والخوارج، وجعلوها نصاً في أن العاصي المصر على المعصية لا يخرج من النار، بل يدخل فيها ويخلد، وتمسكوا بالآيات التي فيها عدم الخروج من النار كقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [المائدة:37]، وكقوله: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:22]، وكقوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ [البقرة:167] هذا ما تمسك به الوعيدية. وأهل السنة يقولون: هذه النصوص فيها وعيد شديد، فنجريها على ظاهرها ليكون أبلغ في الزجر، لتكون زاجرة عن المعاصي، وذلك لأن التهاون بالمعاصي يعتبر ذنباً أكبر من فعلها، فلأجل ذلك لا نتأولها حتى تكون زاجرة، بل نؤيدها ونؤكدها ونستدل بالأخبار الأخرى، وبالأحاديث الكثيرة التي فيها الوعيد الشديد على الذنوب، والتي فيها إهلاك الله تعالى لمن أذنب أي ذنب، أو لمن ارتكب أي منكر، ولو تتبعنا ذلك لوجدنا فيه أحاديث كثيرة تدل عليه، ومن أراد أن يتوسع فيها فليقرأ الأحاديث التي ذكرها ابن القيم في كتابه الذي سماه: الجواب الكافي لمن سأل(3/2)
عن الدواء الشافي، حيث أورد في أوله أحاديث كثيرة وأدلة كثيرة تدل على أن الله تعالى يعاقب على الذنوب، ولو لم تصل إلى الكفر، وأنه بسبب الذنوب أهلك أقواماً. فاستدل مثلاً بما روي في بعض الآثار: أن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: (أني مهلك من قومك ستين ألفاً من شرارهم وأربعين ألفاً من خيارهم، قال: يا رب! هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يجالسوهم ويؤانسوهم)، فعاقب الأخيار في الدنيا بالهلاك، ولم يكن لهم ذنب إلا مجالسة الأشرار ومؤاكلتهم، ولم يذكر ذنب الأشرار هل وصل إلى الكفر أو أنه من المعاصي، وإذا كان من المعاصي فهو دليل واضح على أن العصاة متوعدون بالهلاك في الدنيا، وبالعذاب أو الوعيد في الآخرة. وروي أن ربنا سبحانه أمر جبريل أن يخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب! فيهم عبدك فلان، لم يعصك طرفة عين، فقال: به فابدأ وأسمعني صوته، فإنه لم يتمعر وجهه فيَّ قط، فأمر بإهلاكه، مع أنه لم يذكر له ذنباً إلا أنه لا يغار لله، ولا يتمعر وجهه في ذات الله، وذلك دليل على أن هذا ذنب. فإقرار العصاة، وعدم الغضب لذات الله، ذنب، ولو لم يعمل الذنب، ولكنه لما لم يغضب لغضب الله استحق أن ينزل عليه من الوعيد والعذاب ما نزل على المعذبين، وهذا يدل على أن أهل المعاصي على خطر في الدنيا وعلى خطر في الآخرة. ولو لم يكن إلا أثر ذلك الغضب عليهم في الآخرة، لو لم يكن للعصاة عقوبة إلا أنهم إذا غضب الله عليهم انتقم منهم في الدنيا بأي انتقام، ولو لم يصل ذنبهم إلى الكفر؛ فحري بهم أن يتوبوا. وكذلك من آثار غضب الرب عليهم أن يدخلهم دار العذاب، وهي النار، ولو لم يدخلوها إلا ساعة لاحترقوا، فكيف بما روي أنهم يمكثون فيها عشرات السنين وربما مئات السنين أو ألوف السنين وهم يعذبون فيها، على قدر ذنوبهم كباراً وصغاراً، ولا شك أن هذا عذاب شديد لو اقتصر على عذابهم ساعة لكان أولى بهم ألا يقترفوا ذنباً،(3/3)
وألا يصروا على معصية أياً كانت تلك المعصية. ولما جاءت هذه الأحاديث وهذه الآثار في وعيدهم كان من عقيدة أهل السنة: أنا نخاف على العصاة، فنقول للعصاة: إنا نخاف عليكم، لا نأمن عليك أيها العاصي نقمة الله، لا نأمن عليك عذابه، لا تأمن أيها العاصي أن يأخذك الله على غرة وغفلة، لا تأمن أن يعذبك أي عذاب، حتى ولو كان عذاباً تظنه هيناً، روي عن بعض السلف أنه قال: (لو توعدني الله إذا عصيته أن يحبسني في الحمام لكان ذلك وعيداً شديداً) أي: يستحق أن أهرب من المعصية حتى لا أحبس في الحمام، فكيف بالحبس في النار التي تلتهب وتشتد على أهلها، إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان:12-14]، كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] فإذا كان هذا وعيد بهذا العذاب الذي هو عذاب النار؛ فلا شك أنه يحمل المؤمن المصدق على الهرب من أسباب العذاب، حتى ولو كان يرجو في النهاية أن يخرج من النار وأن يدخل الجنة. ......
مآل أهل التوحيد إلى الجنة لا يعني الأمن وعدم الخوف
…(3/4)
من عقيدة أهل السنة أن كل من كان من أهل التوحيد ومن أهل الإيمان فإن مآله إلى دخول الجنة ولو عذب في النار ما عذب، ولكن نخاف عليه ونحوفه، فقد وردت الأدلة الكثيرة في نجاة أهل التوحيد، فآمن أهل السنة بذلك، وصدقوا بأحاديث الشفاعة، والتي منها قوله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي لأمتي شفاعة يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئاً)، وقال في حديث عتبان : (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)، وأشباه ذلك من الأحاديث، وكذلك أحاديث الإخراج من النار، وفيها أن الله يقول للشافعين وللملائكة: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه أدنى أدنى حبة خردل من إيمان، ثم يقول الله تعالى: لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله). فيخرج من النار أهل لا إله إلا الله؛ وذلك لأنهم كانوا موحدين لم يشركوا بالله لا في الاعتقاد ولا في الأعمال، وكانوا ممن قال: لا إله إلا الله مخلصين من قلوبهم، وكانوا على إيمان راسخ في قلوبهم، ولكن لضعف ذلك الدافع نزعتهم النفس إلى فعل شيء من الذنوب، فأصروا ولم يستغفروا حتى أتتهم آجالهم، وهم مؤمنون مصدقون، ولكن قد يدخلون النار بسبب ما اقترفوه من الذنوب، ثم بعد ذلك يخرجهم الله إذا شاء بفضله ورحمته. إذاً: نحن نخاف على العصاة، ولا نأمن عليهم، نقول للعاصي: إنك على خطر، إذا رأيت العاصي المصر على المعصية المتمادي في معصيته فعليك أن تحذره، وتقول: إنك على خطرين: خطر عقوبة في الدنيا بأن يعاجلك الله وينتقم منك، وخطر عقوبة في الآخرة بأن يدخلك في النار وهي دار عذابه، ولو كان مآلك ونهايتك بتوحيدك واعتقادك أن تخرج منها، ولكن لا تأمن العذاب، ولا تستطيع أن تصبر عليه، فالنار التي توعد الله بها شديدة الوقود والالتهاب، وحرها شديد،(3/5)
وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم، وشراب أهلها المهل والصديد، ولباسهم القطران والحديد، وعذابهم أبداً في مزيد، فكيف تصبر عليها؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يا رسول الله! إن كانت لكافية، فقال: فضلت عليها نار جهنم بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها)، إذا كانت النار تضاعف سبعين ضعفاً فمن يطيق الصبر عليها؟! الله تعالى قد ذكر أنواع العذاب فيها حتى ذكر الحميم، وذكر الزقوم، وذكر المهل والصديد الذي هو شرابهم، وقال: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97]، وقال: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا [النساء:56]، وقال في شرابهم: يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29]، وقال أيضاً: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15]، فهذا يحصل لكل من دخل النار، ولا شك أنه يخيف المؤمن، فالمؤمن المصدق يخاف أن يدخل في هذا العذاب ولو وقتاً يسيراً. إذاً: نحن نخاف على العصاة، ولا نأمن عليهم عقاب الله، ونقول لهم: لا تأمنوا مكر الله أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]^، ولو تعلقتم وتشبثتم بالأدلة التي فيها الوعد، والتي فيها إخراج العصاة من النار، والتي فيها تحريم أهل التوحيد على النار، لكن لا تأمنوا من النار ولو وقتاً يسيراً، فتوبوا إلى ربكم وأصلحوا أعمالكم، فهذا هو الجمع بين هذه الأحاديث. أهل السنة تمسكوا بأحاديث الشفاعة التي فيها إخراج أهل التوحيد من النار، وقالوا: ربما يمكثون فيها عشرات السنين أو مئاتها أو ألوفها، وأهل الوعيد تمسكوا بالأدلة التي فيها دخول النار والوعيد بالنار على بعض المعاصي، والجمع بينهما(3/6)
أنه لا مانع من أن يدخلوا النار، ثم بعد ذلك يخرجون منها برحمة أرحم الراحمين، وبشفاعة الشافعين، ولا مانع أن يطلق الخلود على الدوام الطويل، أو على المكث الطويل، ولا مانع أن يطلق حرمان الجنة، أو حرمان دخولها على حرمان الدخول لأول مرة أو نحو ذلك، والله هو الحكيم في أمره، وكلام الله وكلام رسوله لا يمكن أن ينقض بعضه بعضاً، بل كله حق، فمتى أمكن الجمع قلنا به واعتقدنا صحته، وإذا لم يمكن وكلنا أمره إلى الله.
الكبائر والصغائر
…(3/7)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [ قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه : وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء [النساء:48] وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به). فقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) رد لقول الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار، لكن الخوارج تقول بتكفيرهم والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان لا بدخولهم في الكفر بل لهم منزلة بين منزلتين كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله). وقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) تخصيصه أمة محمد يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد وفي ذلك نظر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ولم يخص أمته بذلك بل ذكر الإيمان مطلقاً، فتأمله وليس في بعض النسخ ذكر الأمة]. وقوله: (في النار) معمول لقوله: (لا يخلدون)، وإنما قدمه لأجل السجعة، لا أن يكون (في النار) خبر لقوله: (وأهل الكبائر) كما ظنه بعض الشارحين. واختلف العلماء في الكبائر على أقوال: فقيل: سبعة، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ما اتفقت الشرائع على تحريمه، وقيل: ما يسد باب المعرفة(3/8)
بالله، وقيل: ذهاب الأموال والأبدان، وقيل: سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها، وقيل: لا تعلم أصلاً أو أنها أخفيت كليلة القدر، وقيل: إنها إلى السبعين أقرب، وقيل: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وقيل: إنها ما يترتب عليه حد، أو توعد عليها بالنار، أو اللعنة أو الغضب، وهذا أمثل الأقوال. واختلفت عبارات السلف في تعريف الصغائر، فمنهم من قال: الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة، ومنهم من قال: كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار، ومنهم من قال: الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا، ولا وعيد في الآخرة، والمراد بالوعيد: الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا، أعني: المقدرة، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة أو الغضب. وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة كالشرك والقتل والزنا والسحر وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك كالفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا، وعقوق الوالدين واليمين الغموس، وشهادة الزور وأمثال ذلك. وترجيح هذا القول من وجوه: أحدها: أنه هو المأثور عن السلف كابن عباس وابن عيينة وابن حنبل وغيرهم. الثاني: أن الله تعالى قال: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً [النساء:31]، فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أُوعد بغضب الله ولعنته وناره، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر. الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب، فهو حد متلقى من خطاب الشارع. الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، بخلاف تلك الأقوال، فإن من قال: سبعة، أو سبعة عشر، أو إلى السبعين أقرب، مجرد دعوى، ومن قال: ما اتفقت الشرائع على(3/9)
تحريمه دون ما اختلفت فيه، يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف، والتزوج ببعض المحارم، والمحرم بالرضاعة والصهرية ونحو ذلك ليس من الكبائر! وأن الحبة من مال اليتيم، والسرقة لها، والكذبة الواحدة الخفيفة ونحو ذلك من الكبائر، وهذا فاسد. ومن قال: ما سد باب المعرفة بالله، أو ذهاب الأموال والأبدان، يقتضي أن شرب الخمر، وأكل الخنزير، والميتة، والدم، وقذف المحصنات، ليس من الكبائر! وهذا فاسد. ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر، وهذا فاسد؛ لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر. ومن قال: إنها لا تعلم أصلاً، أو إنها مبهمة، فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره، والله أعلم]. ......
انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر
…(3/10)
هذا الكلام يتعلق بالكبائر؛ لأن الكلام حولها في قول صاحب المتن: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون)، يعني: ونعتقد أن أهل الكبائر إذا دخلوا النار فإنهم لا يخلدون، بل يمكثون فيها بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون، ولما ذكر أن هذا قولنا في أهل الكبائر، احتيج إلى معرفة الكبيرة ما هي؛ وذلك لأن الله تعالى قسم الذنوب إلى قسمين: كبائر وسيئات، فقال تعالى في سورة النساء: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31] فجعل هناك كبائر وهناك سيئات، ولا شك أن الكبائر سيئات ولكنها كبيرة، والسيئات التي دونها تسمى صغائر، وقال تعالى في سورة النجم: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ [النجم:32] فقسمها إلى كبائر وإلى لمم، واللمم هو مقدمات الذنوب، وقد ثبت عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واللسان يزني وزناه النطق، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فجعل التصديق أو التكذيب بالفعل الذي هو الزنا بالفرج، وجعل هذه مقدمات، وهي اللمم؛ وذلك لأن تحريمها من باب سد الذرائع، لأنها من باب الوسائل، فالأصل هو الزنا الذي حرمت هذه الأشياء لأجله. ولاشك أن الزنا من الكبائر فقد توعد الله عليه بقوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، وقرنه بالشرك والقتل فقال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً(3/11)
[الفرقان:68] فجعل هذه الأشياء مما يتوعد عليه بالآثام وبالعذاب. وبذلك نعرف أن الذنوب قسمان: كبائر وصغائر، فإذا قلت: ما حد الكبيرة، حتى نتجنبها؛ فتغفر لنا الصغيرة؟ نقول: إن الكبائر هي الذنوب الفاحشة التي سميت فاحشة، والتي توعد عليها، إما بحد في الدنيا، وإما بعذاب في الآخرة، فمثلاً: الشرك والقتل والزنا والربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات؛ هذه قد توعد عليها بعذاب في الآخرة. ومثلاً: السرقة والقذف والسكر، هذه قد جعل فيها حد في الدنيا، وهو الجلد، أو نحو ذلك، فإذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب)، وقوله: (النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)، نعد النياحة من الكبائر، وكذلك إذا أطلق على الذنب أنه كفر كقوله: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية)، أو (اثنتان في الناس هما بهم كفر)، أو: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وأشباه ذلك، فهذه كلها من الكبائر.
خلاف العلماء في تعيين الكبائر وتعدادها
…(3/12)
ثبتت بعض الأحاديث التي فيها عد الكبائر كقوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور، وشهادة الزور)، وهذه جعلها من أكبر الكبائر، وسميت اليمين الغموس بهذا لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، فاليمين الكاذبة ورد فيها وعيد شديد. ولعلكم قد قرأتم الكتب التي ألفت في ذلك، فقد ألف فيها الإمام الذهبي كتابه المشهور: كتاب الكبائر، وأوصلها إلى سبعين كبيرة، جمع فيها ما وقف عليه، وإن كان قد أدخل بعضها في بعض، وجاء بعده ابن حجر الهيتمي وألف كتاباً كبيراً سماه: الزواجر عن اقتراف الكبائر، وأوصلها إلى أربعمائة، بتفصيل في بعضها، وهذا دليل على أنهما كثيرة، ويمكن أن توجد في هذه الأزمنة ذنوب لم تكن مشهورة من قبل، فتضاف إلى هذا العدد، وبذلك يعرف أن الكبائر كثيرة، وأنها لا تحصر في سبع ولا في سبعين، كما روي عن ابن عباس أنه قال: هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع، وفي رواية: إلى السبعمائة، أي: أنها قد تصل إلى سبعمائة. وقد يقال أيضاً: ضابط الكبيرة أنها ما أصر صاحبه على الذنب، ولو كان ذنباً صغيراً، ولذلك قالوا: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. ولعل ذلك تفسير لما ورد في قصة الرجل الذي كلما أذنب ذنباً تاب إلى الله، واعترف به، وطلب من ربه أن يغفره، فغفره الله له وقال: (علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي)، فجعل الاستغفار بعدها سبباً لمحو الذنب، فنقول: إن الإصرار على الذنب ولو كان صغيراً يصيره كبيراً؛ وذلك لأنه يدل على التهاون بذلك الذنب، وبما ورد فيه من الوعيد، وتهاون بنظر الله إليه، وتهاون بما جاء في تحريمه، فأصر عليه واستمر عليه، فإذا أصر على شيء يسير ولو كان -مثلاً- أكلاً يسيراً من الحرام، ولكنه استمر عليه فإنه يصبح كبيراً، وإذا أصر على كذب ولو يسيراً، كل يوم أو كل(3/13)
أسبوع يكذب كذبة أو كذبتين اعتبر هذا ذنباً كبيراً، وإذا أصر على النظر إلى النساء المتبرجات، واستمر على ذلك اعتبر استمراره كبيرة من الكبائر، وإذا أصر على السباب والشتم واللعن، أو أصر على سماع المحرم من الغناء ونحوه، أو أصر على النظر في الصور الفاتنة، واستمر على ذلك؛ اعتبر هذا الإصرار ذنباً يضاف إلى ما ورد فيه من الوعيد، واعتبر كبيرة من الكبائر. وأما التعريفات التي تقدمت فكلها تقريبية، فكل يعرف الكبيرة بما يظهر له، ولا شك أن الذنوب تسد باب المعرفة، كما تقدم في بعض التعاريف، وإن كان هذا التعريف ليس بواضح، وكذلك التعريفات الأخر، التي فيها: أن الكبائر: ما توعد عليه بوعيد أو بعذاب أو بنفي إيمان، أو ما فيه حد في الدنيا أو عقوبة في الآخرة، والذين قالوا: إن الكبائر لا تعلم ولا يعرفون معناها، وأنها قد أخفيت كما أخفيت ليلة القدر في ليالي رمضان ونحو ذلك، نقول: لا شك أن الله ما أمر باجتنابها إلا وهي معروفة، ولا شك أنه ورد في بعض الذنوب ما يعين أنها من الكبائر، كما ذكرنا في السبع الموبقات وفي أكبر الكبائر التي في حديث أبي بكرة ، وفي غير ذلك. وإذا عرف العبد أن هذه من الكبائر، وأن الإصرار عليها سبب للوعيد الذي رتب عليها، فإنه يجتنبها حتى يسلم له دينه، وحتى يستحق الوعد من الله تعالى بتطهير الخطايا؛ وذلك أن اجتناب الكبائر سبب لمحو الصغائر.
إياكم ومحقرات الذنوب
…(3/14)
الصغائر قد تكثر على الإنسان، فإن كان مصراً عليها، ومكثرا ًمنها، لم يأمن أن تهلكه، تجتمع عليه من كل جهة فتهلكه، وإن كانت متفرقة ويسيرة من غير إصرار فإن الله تعالى يغفرها بالأعمال الصالحة، والحديث الذي ورد في التحذير من الكبائر يفهم منه أنه في المصر عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)، ثم ضرب لها مثلاً بقوم نزلوا في فلاة، فحضر جميع القوم، فجعل هذا يأتي بعود، وهذا يأتي بعود حتى جمعوا حطباً كثيراً، فأوقدوا فيه ناراً، فأنضجوا خبزتهم، يعني: أن الذنوب الصغيرة: كلمة، ونظرة، وسمعة، وبطشة، وأكلة، ونحو ذلك، فإذا كانت كثيرة اجتمعت على الإنسان وأحدقت به وأهلكته، كما أن القوم إذا اجتمعوا وهم كثير وجاء هذا بعود وهذا بعرق مع أن الأرض صحراء ليس فيها حطب، فلكثرتهم يجمعون ما يوقدون به حتى ينضجوا طعامهم، فهذا يبين أن الإنسان لا يأمن من الإصرار على الذنوب الصغيرة حتى لا تهلكه وتوقعه في العذاب، أو تؤهله بأن يكون من أهل الوعيد، ومن أهل العذاب الشديد والعياذ بالله. وبلا شك فإن التهاون بها والإكثار منها يدل على عدم الاهتمام بتحريم الله وبنهيه، أما الذي يحذرها ويتركها خوفاً من الله؛ لأن الله نهى عنها وحرمها، فهو الذي يستحضر عظمة الله، ونهيه وتحذيره.
فضل التوبة وشروطها
…(3/15)
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (وإن لم يكونوا تائبين)؛ لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب، وإنما الخلاف في غير التائب، وقوله: (بعد أن لقوا الله تعالى عارفين)، لو قال: (مؤمنين) بدل قوله: (عارفين) كان أولى؛ لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم ، وقوله مردود باطل كما تقدم، فإن إبليس عارف بربه قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36] قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وكذلك فرعون وأكثر الكافرين قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:84-85]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، وكأن الشيخ رحمه الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للاهتداء التي يشير إليها أهل الطريقة، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر، بل هم سادة الناس وخاصتهم] لا خلاف أن التوبة تمحو الذنب ولو كان من الكبائر، ولو كان من الشرك، فالكلام ليس في التائب، أما أهل التوبة فلا وعيد عليهم، بل الله تعالى يقبل توبتهم، ويغفر ذنوبهم، ويدخلهم دار كرامته، ويكفر عنهم بسبب توبتهم ما وقعوا فيه من كفر ومن كبائر ومن صغائر ومن ترك أوامر، يمحو ذلك كله بسبب التوبة، وهذه التوبة لابد أن تكون نصوحاً، وهي التي أمر الله بها، تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم:8]؛ وذلك لأن هناك من يتوب توبة لا تزجره عن المعاصي، وتسمى توبة الكاذبين، فلا تكون مفيدة له، ولا ماحية لما وقع منه، ولا لما فعله من الخطايا، ولا لما تركه من الطاعات، فلابد أن تكون التوبة نصوحاً. وتعرفون أن للتوبة شروطاً لابد منها، وذكر العلماء منها ثلاثة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما(3/16)
مضى، والعزم على ألا يعود إلى الذنب. أما الذي يتوب بلسانه ويقول: أنا تائب، أو تبت إلى الله، ومع ذلك هو مصر على الذنب، حتى ولو كان صغيراً، ومتهاوناً به، فهذا لا توبة له؛ لأنه يتوب بلسانه، ويعمل الذنب بلسانه أيضاً، يقول بلسانه: تبت إلى الله، ثم يستعمل لسانه في الشتم أو في اللعن أو في القذف، أو نحو ذلك، أو يستعمل بصره في المحرم، بأن ينظر إلى الحرام، أو يقول بلسانه ويأكل الحرام، وهو مستمر على ذلك، فلا توبة له، وكذلك الذي يتمدح بمعاصيه، مع أنه قد تركها، فيتمدح بأنه قد زنى بكذا وكذا، ويتمدح بأنه قد قتل فلاناً وفلاناً، ويرى ذلك منحة، ويتمدح بأنه قد خدع فلاناً، وأخذ ماله، أو سرق كذا وكذا، ويتمدح بأنه قد شرب كذا وكذا خمراً وما أشبه ذلك، فكل ذلك لا تقبل معه التوبة. وهكذا الذي يتوب توبة مؤقتة! بأن يعزم على أنه بعد حين سيعاود الذنب إذا قدر عليه، ومن أمثال هؤلاء: الذين يسافرون لأجل الزنا إلى كثير من البلاد الإباحية، فإذا جاءوا قالوا: تبنا، ولكنهم عازمون على أن يرجعوا إلى تلك البلاد مرة أخرى؛ ليعودوا إلى ما فعلوه. وهكذا من ترك الذنب في وقت من الأوقات، كالذين يتركون الخمر في رمضان أو الدخان أو نحو ذلك، ثم يعزمون على العودة إليه بعد إفطارهم، لا شك أن هؤلاء لا تقبل توبتهم. والحاصل أن التوبة النصوح تمحو السيئات وتمحو الكبائر، وتمحو الشرك، وأكبر الشرك التثليث الذي ذكره الله عن النصارى، قال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:73-74]، فدعاهم إلى التوبة مع كونهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة. وكذلك دعا الذين يشركون في قوله تعالى: وَالَّذِينَ(3/17)
لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ [الفرقان:68-70] فاستثنى من هؤلاء التائب فإنه تقبل توبته، وقد ذكر الله أنه يبدل سيئاته حسنات. والمراد أن التوبة الصادقة تكون سبباً لمحو الذنوب كلها كبائرها وصغائرها، أما ما يتعلق بأهل الكبائر الذين لم يتوبوا، فقد عرفنا أنهم تحت مشيئة الله، إذا شاء الله عاقبهم وعذبهم بقدر ذنوبهم، وإذا شاء غفر لهم ومحا عنهم ما وقعوا فيه من السيئات، ومعلوم أنا لا نأمن أن ينتقم الله منهم في الدنيا، وأن يغضب عليهم في الآخرة، فيعذبهم على هذه الذنوب التي اقترفوها، ومعلوم أيضاً أن عذاب الله شديد، وأن العذاب في النار لا يقدر عليه أحد، قال الله في عذاب النار: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16] ومن يطيق الصبر على ذلك العذاب الشديد؟! فإذا عرف المؤمن أنه باقتراف هذه السيئات متوعد بهذا الوعيد الشديد؛ زجره ذلك وحمله على أن يتوب إلى الله تعالى، ويقلع عن السيئات.......
…
شرح العقيدة الطحاوية [53]
من عقيدة أهل السنة الصلاة خلف كل بر وفاجر، وللصلاة خلف المبتدع أحكام بين أهل العلم رحمهم الله اختلافها باختلاف البدعة والمبتدع، كما تدل على ذلك النصوص الشرعية.
مجمل اعتقاد أهل السنة في مسألة التكفير
…(3/18)
عقيدة أهل السنة والجماعة تخالف عقائد المبتدعة، ومبنى هذه العقيدة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الجماعة التي هي اجتماع كلمتهم على الحق، واجتماعهم على إمامهم، وعلى متبوعهم، وبذلك سموا أهل السنة، وسموا أهل الجماعة، فالجماعة في الأصل هم: الذين كانوا مجتمعين على الحق في الزمن الماضي، ويراد بهم السلف الصالح، ولا شك أنهم كانوا مجتمعين، وغيرهم كانوا متفرقين، ولأجل ذلك فسرت الآية التي في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] بأنه تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف، فدل على أن أهل السنة مجتمعون ومتآلفون، وأن أهل البدع مفترقون ومتخالفون، ومخالفون للحق وللصواب. ومن عقيدة أهل السنة أنهم لا يكفرون بالذنوب، ولا يخرجون المذنب من الإسلام، وخالفهم في ذلك كثير من المبتدعة، فكفروا بمجرد اقتراف الذنوب، وأخرجوا أهل الكبائر من الإسلام، ولا شك أن ذلك فيه اعتداء على حرمات المسلمين، بحيث إنهم كفروا المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم، والمراد بالذنوب هنا: الذنوب التي دون الكفر، وتسمى كبائر الذنوب، فإنها لا يبلغ أصحابها أن يحكم بكفرهم، فلا نكفر من قاتل المسلمين إذا كان متأولاً، ولا نكفر البغاة الذين يثورون على الأئمة، ولا نكفر قطاع الطريق، ولا نكفر من فعل جريمة الزنا أو جريمة السرقة أو القذف أو شرب الخمر أو شرب الدخان أو ما أشبه ذلك، لا نكفر هؤلاء، وكذلك من ارتكب بقية المحرمات. ولكن الذي يكفر هو الذي يستحل الحرام، ويرد النصوص الصريحة، ويعتمد على هواه، فمثل هذا -ولو لم يفعلها- يعتبر كافراً؛ لأن من استحل الحرام الصريح الذي دليله كالشمس يعتبر قد رد على الله تعالى شريعته، ورد على الرسول صلى الله عليه وسلم سنته. وهناك ذنوب يوجد خلاف في التكفير بها، مثل ترك الصلاة والإصرار على تركها، والتهاون بها؛ وذلك لورود الأدلة(3/19)
التي تنص على كفر من ترك الصلاة، ولا شك أن الكفر الذي ورد فيمن ترك الصلاة من الكفر الذي سمي به الكفار، وإن كان بعضهم قد تأول ذلك، وبكل حال فهذه طريقة أهل السنة والجماعة. كذلك أيضاً من طريقتهم أنه إذا مات أحد العصاة ونحوهم لا يتركون الصلاة عليه، وقد تترك الصلاة على بعضهم للزجر، يتركها الإمام ونحوه، كمن قتل نفسه فلا يصلي عليه الإمام، وكذلك من غل لا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه بقية الجماعة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على المرأة التي رجمت بعد أن اعترفت بالزنا، وأخبر بأن اعترافها يعتبر توبة. وأباح الصلاة على العصاة، وقال: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال: لا إله إلا الله)، فهذه طريقة أهل السنة في عدم التكفير. وأما المعتزلة فإنهم يكفرون بمثل هذه الذنوب، ويخرجون المسلم بها من الإسلام، وإن لم يدخلوه في الكفر، بل يجعلوه بين الإسلام والكفر، وطريقة الخوارج: أنهم يخرجونه من الإسلام ويدخلونه في الكفر، والفرق بينهما أن الخوارج يستحلون دمه، ويسبون امرأته وابنته، ويستحلون ماله، ويستحلون قتله. أما أهل السنة فإنهم يقولون: إن المؤمنين من هذه الأمة لا يخلدون في النار، وإن دخلوها، فإنهم بعدما تكفر عنهم سيئاتهم يخرجون منها، هذه عقيدة أهل السنة، وإن خالفهم في ذلك من خالفهم فلا عبرة بمخالفتهم.......
الحق يعرف بدليله لا بقائله
…(3/20)
أهل السنة هم المتمسكون بكتاب الله تعالى وبأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنهم الأئمة الأربعة، ومنهم الهداة الذين هدى الله تعالى بهم خلقاً كثيراً في صدر هذا الإسلام، وإن كانوا يقلون في بعض الأزمنة، ويكثر المبتدعة، ففي زماننا قد يكون المتمسكون بالسنة حقاً قلة في البلاد، ويصدق على هذا الزمان أنه زمان الغربة، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس)، وفي رواية: (الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي)، وفي بعض الروايات: (الذين يفرون بدينهم من الفتن)، فإذا وقعت الفتن والاختلافات والبدع في بلاد هربوا ونجوا بدينهم، وفي رواية: (النزاع من القبائل)، يكون من الأسرة واحد أو اثنان، من القبيلة عشرة أو خمسة، من البلدة عشرة أو عشرون، والبقية مخالفون لهم، أو ينتقدونهم، فهؤلاء هم الغرباء، فطوبى للغرباء. ولكن لا يضر الحق قلة أهله، فالعبرة بالمتمسكين بالحق، والعبرة بالأدلة، وليس العبرة بكثرة الهالكين، وذلك لكثرة الأسباب التي تحرف الناس وتصرفهم عن الحق؛ لكثرة الفتن، ولكثرة المغريات، ولكثرة الدعايات المضللة. إذاً: لا عجب -مع كثرة هذه المغريات- من كثرة الهالكين، كما قال بعض السلف: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا! يعني: مع كثرة الفتن، ومع كثرة الدعايات والمضللات يستغرب أن هذا الإنسان يمن الله عليه بالهداية، ويوفقه للتمسك بالشريعة، ويعض عليها بالنواجذ، مع كثرة من يخذله ويؤنبه ويوبخه ويرميه بالرجعية، ويرميه بالتقهقر والتأخر، ويرميه بالتزمت والتشدد والغلو، وما أشبه ذلك، ولكن إذا رزقه الله إخلاصاً، وتمسك بالحق، وصمد عليه؛ فلا يضره ذلك، وسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً. أهل السنة في كل زمان يرميهم أهل البدع بالشذوذ، ويرمونهم بالتغفيل، ويرمونهم بالأسماء التي ينكرون بها، فيقولون(3/21)
لهم: مشبهة، ومجسمة، وحشوية، ونوابت، وغثاء، وغُثُر، ونحو ذلك من الأسماء التي ابتدعوها وما أنزل الله بها من سلطان، ولا تنطبق عليهم، وإنما تنطبق على أعدائهم، فلا تضرهم هذه الألقاب. إذاً: لا عبرة بمن خالفهم، إنما العبرة بمن وافق الحق وتمسك به، فالحق حق ولو قل المتمسكون به، والباطل باطل ولو كثر المعتنقون له، إنما العبرة بالدليل، ولا شك أن حجة الله تعالى قوية، وأن من احتج بالدليل الواضح فإنه غالب ولو صمد أمامه الناس، وقد مضت لنا أدلة عقلية وأدلة نقلية تبين صحة ما عليه أهل الحق. ......
حكم الصلاة خلف المبتدع والفاسق
…(3/22)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم). قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا خلف كل بر وفاجر) رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني قال : مكحول لم يلق أبا هريرة ، وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرج له الدارقطني أيضاً وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم بر وفاجر، وإن عمل بالكبائر، والجهاد واجب عليكم مع كل أمير بر وفاجر، وإن عمل الكبائر) وفي صحيح البخاري : أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي وكذا أنس بن مالك وكان الحجاج فاسقاً ظالماً، وفي صحيحه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يصلون لكم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم وأن أخطأوا فلكم وعليهم، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (صلوا خلف من قال لا إله إلا الله، وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله) أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها. اعلم رحمك الله وإيانا: أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا باتفاق الأئمة وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول : ماذا تعتقد ؟! بل يصلي خلف المستور الحال. ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه، كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة، ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف(3/23)
الحجاج بن يوسف ، وكذلك أنس رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان يشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً، ثم قال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة. وفي الصحيح أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان : إنك إمام عامة، وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة؟ فقال: يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم. والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب. ومن ذلك: أن من أظهر بدعة وفجوراً لا يرتب إماماً للمسلمين، فإنه يستحق التعزيز حتى يتوب، فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثَّر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل، أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه، فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة، وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة، فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم. وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاةُ الأمور، ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، فهنا لا يترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلفه أفضل، فإذا أمكن الإنسان ألا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك، لكن إذا ولاه غيره، ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهر من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، فتفويت الجمع والجماعات أعظم فساداً من(3/24)
الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة. وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر، فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر، فهو موضع اجتهاد العلماء: منهم من قال: يعيد، ومنهم من قال: لا يعيد، وموضع بسط ذلك في كتب الفروع. وأما الإمام إذا نسي أو أخطأ، ولم يعلم المأموم بحاله فلا إعادة على المأموم، للحديث المتقدم، وقد صلى عمر رضي الله عنه وغيره وهو جنب ناسياً للجنابة، فأعاد الصلاة ولم يأمر المأمومين بالإعادة. ولو علم أن إمامه بعد فراغه كان على غير طهارة أعاد عند أبي حنيفة ، خلافاً لمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، وكذلك لو فعل الإمام ما لا يسوغ عند المأموم، وفيه تفاصيل موضعها كتب الفروع. ولو علم أن إمامه يصلي على غير وضوء فليس له أن يصلي خلفه؛ لأنه لاعب وليس بمصل]. ......
الأولوية في الإمامة تكون للأقرأ
…
هذا الكلام يتعلق بالصلاة خلف الولاة وخلف الأئمة، وبلا شك أن إمام المسلمين الذي يصلي بهم، والذي يؤمهم في الصلوات الجامعة، كالجماعة والأعياد ونحوها، يجب أن يكون أهلاً، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة)، وفي رواية: (فأكبرهم سناً)، وقد جعل العلماء ترتيب الأئمة على هذا الحديث، وذكروا أن الأقرأ إذا كان عالماً بفقه الصلاة فإنه يقدم على غيره، بشرط معرفته بأحكام الصلاة، ثم بعده إذا استوى اثنان أو أكثر في العلم والفقه قدم من هو أوسع علماً بالسنة، يعني: بالأحاديث النبوية، وصحيحها وما يتصل بها، ثم إذا استووا في ذلك مع غيرهم قدم من هو أقدم علماً وأقدم هجرة، ثم بعد ذلك يقدم أكبرهم سناً، ثم بعد ذلك يقدم أتقاهم وأخشاهم لله سبحانه وتعالى وأورعهم.(3/25)
وجوب الصلاة خلف الولاة وإن كانوا فساقاً
…
معلوم أن ولاة الأمور سابقاً كانوا هم الذين يخطبون بالناس، وكانوا هم الذين يصلون بهم الجمع والأعياد، فكان الخليفة أو أمير البلاد هو الذي يتولى الإمامة، وقد يكون فيه بعض من النقص، وبعض من الخلل، ولكنهم لما تولوا بالقوة، ولما كانت لهم سيطرة وسلطة وولاية؛ كانت طاعتهم واجبة؛ لما في مخالفهم ومعصيتهم من المفاسد الكثيرة، فإن معصية ولاة الأمور، ومخالفتهم، وترك الصلاة خلفهم، وتضليلهم، وترك طاعتهم؛ يسبب الشقاق، ويسبب الفتن، ويسبب الظلم والحبس والضرب والقتل، وتفريق الكلمة، وإساءة الظن، وما أشبه ذلك، فجاءت الشريعة بالسمع والطاعة لولاة الأمور، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم وغيره: (اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)، وما ذاك إلا لأن في الطواعية وفي الانقياد لهم جمعاً لكلمة المسلمين، وعدم تفريق لهم. فإذا كان الوالي هو الذي يتولى الإمامة، ويتولى الخطبة، ويتولى الصلاة، ويتولى قيادة الجهاد، ويتولى إمامة الحجاج في عرفة وفي غيرها من المواقف، فإنهم يصلون خلفه، ولا يتركون الصلاة خلفه، وهذا فيما فإذا لم يوجد غيره، إذا كان المسلمون لا يصلون إلا في مسجد واحد، وإمام هذا المسجد هو هذا الأمير، وكان فيه شيء من النقص أو الخلل في دينه، من ارتكاب ذنب، أو إصرار على معصية، أو ترك لشيء من الطاعات أو نحو ذلك، فالصلاة خلفه أفضل من أن تصلي وحدك أو تترك الجمعة أو تترك الجماعة أو تترك العيد أو ما أشبه ذلك، هذا هو الواجب على المسلم.
صلاة الصحابة خلف الولاة والظلمة والفسقة
…(3/26)
الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون خلف الولاة الظلمة: كالحجاج، فقد كان ابن عمر وأنس وغيرهما يصلون خلفه، وهو مشهور بإراقة الدماء، ولم يشتهر عنه إلا أن في سيفه رهقاً، فكان كثير القتل في المسلمين، بمجرد التهمة وبمجرد الظن، ولذلك اعتبروه فاسقاً، وإن لم يكن فاسقاً في الاعتقاد، وإن لم يكن مخلاً بالعبادات، ولم يذكر عنه شيء من اقتراف المحرمات، بل كان شديداً على العصاة، فكان يقيم الحدود، ويجلد الزاني وشارب الخمر، وينهى عن سماع الغناء وما أشبه ذلك، وما نقم عنه إلا أن في سيفه رهقاً، فقد قتل عدداً كثيراً من المسلمين، وإن كان قتلهم متأولاً، وبكل حال فقد جعلوه من العصاة، وحكموا عليه بأنه عاص، ومع ذلك كان يؤم الناس في عرفة، ويصلي خلفه بعض الصحابة كعبد الله بن عمر بن الخطاب ، ويصلي بالناس بالكوفة في العراق، ويصلي خلفه أنس بن مالك . وكذلك في عهد عبد الله بن مسعود كان الوالي على الكوفة من قبل عثمان الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان متهاوناً بشيء من المحرمات، ومن ذلك أنه كان يشرب الخمر، فصلى بهم مرة وهو سكران، حتى صلى بهم الصبح أربعاً، والتفت إليهم وقال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة، ومع ذلك ما تركوا الصلاة خلفهم؛ لأنهم إذا تركوها صلوا فرادى، ولا شك أن هذا من ترك السنة، ومن ترك الجماعة، فالصلاة مع الجماعة خير ولو كان ذلك الإمام الذي فرض نفسه فيه شيء من الخلل والنقص. ولا ينقص ذلك صلاة المصلي. وكما تقدم أن الصلاة من أحسن أعمالهم، فإذا صلوا وأحسنوا فصلاتهم صحيحة، إذا أقاموا ركوعها وسجودها وخشوعها وقراءتها، وجميع ما يشترط فيها، فهي عمل صالح مبرور، فليس لنا أن نترك الصلاة لأجل فسقهم، ما دام أنهم يقيمون الصلاة كما ينبغي، وبإظهارهم للصلاة يحكم بأنهم مسلمون، فإن من صلى حكم بأنه مسلم، وعومل معاملة المسلمين، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الولاة وبعض الأمراء(3/27)
يستحلون الدماء، ويفعلون ويفعلون، قيل: (يا رسول الله! أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا، أو ما أقاموا فيكم الصلاة) أي: ما داموا يصلون، ويقيمون الصلاة، فالصلاة من أحسن الأعمال، فلا تخرجوا عليهم، ولا تقاتلوهم ولا تقتلوهم.
الصلاة خلف المبتدع وتفاصيلها
…
إذا لم يكن هناك ولاة يصلون بالناس كما في هذه الأزمنة، فإنه يختار للإمامة الأكفأ والأورع، ويعزل عنها المبتدع والعاصي المتظاهر بمعصية، فإذا عرف بأن هذا الشخص يتظاهر بمعصية، أو يفعل ذنباً من الذنوب، فلا يجوز أن يعين إماماً راتباً، بل إذا علم الناس منه هذا الذنب فإن عليهم أن يؤخروه، ويسعوا في خلعه وإبعاده. أما لو لم يقدروا فالصلاة خلفه صحيحة إذا أتمها، ولكن إذا وجد من هو أحسن منه فليصلى خلف الحسن، فإذا رأيت أن إمام ذلك المسجد يستحل سماع الغناء، أو يحلق لحيته، أو يسكر، أو يدخن، أو يسبل ثوبه، يصلي مسبلاً، أو يؤوي بعض الفسقة والأشرار، ويستضيفهم ويؤيدهم، أو يتأخر عن بعض الصلوات، أو يتركها تركاً، أو ما أشبه ذلك، وتعلم ذلك منه، وتجد إماماً في مسجد آخر -ولو بعيداً- تقياً ورعاً، محافظاً على العبادة، متنزهاً عن الآثام، فلا شك أن الصلاة خلف ذلك التقي، وذلك الورع، أولى من صلاتك خلف هذا العاصي. أما لو كان ترك الصلاة خلف ذلك الإمام يسبب ارتداعه فإن ذلك يلزم. فلو أن الإمام شيعي، أو قبوري، أو عاصٍ مظهر للمعصية، أو معتزلي مخالف للعقيدة، أو يعتقد مذهب المتصوفة، أو ما أشبه ذلك، ومع ذلك دعوناه وبينا له، فأصر على معتقده، وصار إماماً يصلي في هذا المسجد، فكوننا نصلي خلفه فيه إقرار لهذه البدعة أو تقوية لها، ولكن علينا أن نسعى في إزالته، ونسعى في إبعاده وفصله، وإن لم نقدر، وكان في ترك الصلاة خلفه تنفير للناس منه؛ تركنا الصلاة خلفه، وذهبنا إلى المساجد الأخرى، سيما إذا ترك الصلاة خلفه الذين لهم كلمة مسموعة، فهذا يسبب ارتداعه، ويسبب توبته، ورجوعه عما يعتقده،(3/28)
فيقول: قد ترك هؤلاء الصلاة خلفي، ولا شك أنهم عرفوا أن ما أفعله خطأ، فيرجع إلى نفسه ويتوب، سواء كان الذنب الذي فيه بدعة أو معصية، فيرجع عن بدعته التي هي -مثلاً- تعظيم القبور، أو سب الصحابة كما يفعله الرافضة، أو اعتقاد تفضيل بعض الصحابة على الخلفاء، أو ما أشبه ذلك، أو كان على مذهب المتصوفة الذين يدعون أن الولي أفضل من الأنبياء، أو أن أولياءهم يستطيعون أن يأخذوا من الملأ الأعلى، أو ما أشبه ذلك من عقائد الصوفية الباطلة، أو كان عاصياً معصية ظاهرة: يحلق لحيته، أو يشرب الدخان، فإذا ترك الناس الصلاة خلفه ارتدع وفكر، وعلم أنه مخطئ، وأنهم ما تركوا الصلاة خلفه إلا وقد أنكروه، وأن الصواب معهم، وأنهم مجموعة كبيرة، ولا يمكن أن يكون هو المصيب وهم المخطئون مع كثرتهم، ففي ذلك فائدة، فنقول: تترك الصلاة خلفه، هذا إذا وجد غيره، فأما إذا لم يوجد إلا هو فإن الصلاة خلفه مجزئة، وهي أفضل من الصلاة على الانفراد كما ذكرنا. وبكل حال فالصلاة خلف الولاة إذا لم يوجد غيرهم لازمة، ولا يجوز الانفراد عنهم، والصلاة خلف العصاة كذلك، إذا لم يوجد غيرهم.
الإمامة العارضة يتسامح فيها ما لا يتسامح مع الإمامة الراتبة
…(3/29)
قد تدخل بعض المساجد وتجد الصلاة الأولى قد صليت، وتجد جماعة أخرى قد قدموا واحداً أنت تعرف أنه يدخن، أو تراه مسبلاً، أو تراه حليقاً، وتعرف منه مالا يعرف هؤلاء الذين يصلون خلفه، فماذا تفعل؟ نقول: صل خلفه ولا تصل وحدك؛ وذلك لأنه في هذه الحال صلاته عارضة، وليست مستمرة، وإنما إمامته إمامة عارضة، بخلاف ما إذا كان راتباً، أما إذا رتب في مسجد من عرف بالفسق وبالفجور، وبسماع الأغاني، وبالنظر إلى الصور، وبمغازلة النساء، وبالتساهل مع نسائه بإباحة السفور لهن أو نحو ذلك، فإذا عرف منه ذلك فلا يجوز إقراره في إمامة المسلمين؛ لأن في ذلك إظهاراً لمنكره، وتمكيناً له، فإن كونه يتولى الإمامة فيه شيء من تشجيعه وتقديمه ورفع معنويته، ورفع مستواه، وفي ذلك رفع للباطل على الحق، فعلى جماعة المسجد أن يسعوا جميعاً في عزلة عن الإمامة وعن الخطابة، ويسعوا في تولية من هو أهل، وعلى المسئولين بعد أن يتأكدوا من صحة ما رمي به وما وصف به، أن لا يقروه على هذه الإمامة، فإقراره فيه تقوية للمنكر، وإظهار لأهل المنكر، وعزله فيه إذلال وإهانة للعصاة، ودفع لهم عن التظاهر بالمعاصي. وبكل حال معلوم أن صلاة الجماعة من واجبات الإسلام، وأن المسلمين مأمورون بأن يجتمعوا في مساجدهم، ويقدموا واحدا ًمنهم، ويصلوا خلفه، يركعوا بركوعه، ويتبعوه في السجود، وفي الرفع، وفي الخفض، وفي الحركات كما هو معلوم في كتب الفروع، ولكن لابد أن يكون الإمام قدوة حسنة؛ وذلك لأنه سمي إماماً، والإمام هو القدوة الذي يؤتم به، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، حتى من جهة ترك المعاصي، ومن جهة صحة العقائد.
حكم الصلاة وراء الإمام المحدث
…(3/30)
أشار الشارح إلى مسائل فروعية، وذكر أن الكلام عليها واسع، ومحله في كتب الفروع، وهو صحيح، فمثلاً: من صلى بالناس محدثاً -حدثاً أكبر أو أصغر-، وصلى الناس خلفه وهم لا يعرفون حدثه، فما الحكم؟ هذه مسألة فروعية، ففرقوا بين ما إذا كان علم بالحدث وهو في نفس الصلاة فاستمر فيها، فإنهم يعيدون، وما إذا لم يتذكر إلا بعد ما انصرف فإنهم لا يعيدون، واستدل بقصة عمر، فإنه صلى مرة الصبح بالجماعة، ثم رأى على ثوبه أثر احتلام، فاغتسل وأعاد الصلاة، ولم يأمرهم بالإعادة، هذا هو القول المشهور. وقد روي عن علي أنه أمرهم بالإعادة، فإنه مرة صلى بالجماعة محدثاً في الكوفة، ولما كان بعد ثلاثة أيام تذكر أنه صلى بهم ذلك الوقت وهو محدث، فأمر منادياً ينادي في الأسواق: من صلى مع أمير المؤمنين في اليوم الفلاني الصلاة الفلانية فليعد تلك الصلاة، ولعل ذلك من باب الاجتهاد من علي رضي الله عنه، وهذه مسألة فروعية.
إذا ترك الإمام بعض واجبات الصلاة اجتهاداً
…(3/31)
من المسائل الفروعية التي ذكرها الشارح: إذا ترك الإمام شيئاً يعتقد المأموم أنه واجب، والإمام يعتقد أنه ليس بواجب، ففي هذه الحال الصلاة صحيحة، صلاة الإمام صحيحة، وصلاة المأموم صحيحة أيضاً. وقد كان هناك اختلاف بين الشافعي ومالك ، فالشافعي رضي الله عنه يرى الجهر بالبسملة، بل يراها واجبة، ومالك لا يرى البسملة من الفاتحة، فقيل للشافعي : هل نصلي خلف من يتبع الإمام مالك ؟ فقال: ألست أصلي خلف مالك ؟ مالك هو شيخه، ومع ذلك كان يصلي خلفه، وهو لا يقرأ البسملة، والشافعي يرى وجوب الجهر بالبسملة. وكذلك رفع اليدين عند الركوع، وعند الرفع من الركوع لا يراه الحنفية، والشافعية ونحوهم يرونه من السنن المؤكدة، فإذا تركه الإمام الحنفي، وصلى خلفه شافعي أو حنبلي فصلاته صحيحة، ولا خلاف في ذلك؛ لأنه صلى خلف إمام مجتهد، رأى أن ذلك من جملة صلاته. وهكذا التأمين في الصلاة، بعض الأئمة يرونه بدعة كالحنفية، حتى إنهم يبطلون الصلاة خلفه، وإذا صلى حنفي خلف شافعي وأمَّن في الصلاة لم تبطل صلاته؛ لأنه مجتهد، ولكل مجتهد نصيب، وهذه المسائل تفريعها والخلاف فيها مذكور في كتب الأحكام.
المطاعون في مواضع الاجتهاد
…(3/32)
قال الشارح رحمه الله: [وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية، ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض، والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض. يروى عن أبي يوسف أنه لما حج مع هارون الرشيد فاحتجم الخليفة وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لأبي يوسف : أصليت خلفه؟ قال: سبحان الله! أمير المؤمنين، يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع. وحديث أبي هريرة الذي رواه البخاري أن رسول الله قال: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)، نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه لا على المأموم، والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجباً، أو فعل محظور اعتقد أنه ليس محظوراً، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه، وهو حجة على من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح اقتداؤه به، فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي إلى الفساد]. قد وردت أدلة في طاعة ولاة الأمور مذكورة في كتب العقائد وكتب الأحكام، وكل يطاع حسب ولايته، وكل له ولاية تخصه، فهناك الخليفة الذي تحت ولايته جميع المسلمين، في شرق الأرض وغربها، كما كان الخلفاء الراشدون، وكذلك خلفاء بني أمية وبني عباس كانت خلافتهم عامة لجميع البلاد الإسلامية، فطاعتهم فيما أمروا به إذا لم يكن معصية تعتبر من طاعة الله، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد(3/33)
أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)، فهذه ولاية عامة. وهناك ولاية أخص منها، مثل: ولاية أمير الحجاج، وولاية أمير المجاهدين، فإنهم مأمورون بأن يؤمروا عليهم أحدهم، بل كل من سافر سفراً ولو قصيراً وكانوا جماعة، عليهم أن يؤمروا، كما في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لثلاثة يسافرون إلا أمروا واحدا ًمنهم)، أو كما ورد في الأحاديث، فهذا الأمير الذي يؤمرونه عليهم أن يطيعوه ما لم يأمر بمعصية، أما إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، وقد اشتهر حديث عبد الله بن حذافة لما أمره صلى الله عليه وسلم على سرية، وأمر الصحابة الذين معه أن يطيعوه، فسار بهم أياماً، ولما كانوا مرة في مكان نازلين، كأنه غضب على بعضهم، فأمرهم أن يوقدوا ناراً، وقال لهم: ادخلوها، أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني، فهم بعضهم أن يدخلها! ثم قالوا: ما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خوفاً من النار، فما زالوا يتحاججون حتى طفئت النار وسكن غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف)، فأمرهم بطاعته، ولكن بين في هذا الحديث أن الطاعة إنما تكون فيما كان معروفاً، فأما مثل هذا فلا طاعة. وثبت أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فإذا أمر الوالي بمعصية فلا سمع ولا طاعة، أما إذا أمر بطاعة أو أمر بما فيه مصلحة، أو أمر بما هو اجتهاد فإن أتباعه والذين تحته يطيعونه ولا يخرجون عن طاعته، هذه هي وظيفة أتباعه، وسواء كانت إمارة في بلد، أو على جيش، أو سرية، أو على غزو، أو على حجاج، أو عامل زكاة يذهب لجمع الزكاة ونحوها، كل هؤلاء لهم ولاية بحسبهم. وكذلك من جعل رئيساً أو مديراً لمؤسسة من المؤسسات، أو دائرة من الدوائر الحكومية أو نحو ذلك، وجعل تحته من يخدمه أو من يعمل، وكانوا تحت ولايته، فإن عليهم أن يقدروا ما يأمرهم به، بشرط ألا يأمرهم(3/34)
بمعصية تخالف نصاً صريحاً، فهذه وظيفة هؤلاء أنهم ينفذون، ولكن بكل حال طاعتهم تكون بقدر المصلحة التي يؤمرون بها، ومعلوم أن ولايتهم إنما هي خاصة في محيطهم، وأما إذا كان الإنسان خارجاً عن ولايتهم، كما إذا انتهى من شغله معهم، أو كان في بيته أو في سوقه فليس لهم ولاية عليه. ومعلوم أن أمير الجيش أو أمير البلد أو أمير الدائرة ونحوها بشر، وليس بمعصوم، وليست أقواله كلها صريحة في أنها واقعية، بل كثيراً ما يفعل الشيء ويكون عن اجتهاد، فعلى أتباعه ووزرائه وزملائه أن يشيروا عليه بما يرون فيه المصلحة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه، ويقبل إشاراتهم ويقبل اقتراحاتهم، ولذلك أمثلة: لما غزا غزوة بدر ونزل منزلاً قرب بدر، قال له بعض أصحابة: هذا المنزل يا رسول الله أنزلك الله إياه أم هو الرأي والمكيدة؟ قال: (بل هو الرأي والمكيدة، فقال: إن هذا غير مناسب، وإن المناسب أن ننزل في المكان الفلاني، فنكون قد حلنا فيه بين القوم وبين المياه، فقبل رأيه). وهذا دليل على أنه إذا أشار عليه بعض أبتاعه برأي أو بنظر فعليه قبول ذلك إذا كانت فيه مصلحة. وكذلك لما جاء الأحزاب وأحدقوا بالمدينة، وكانوا من قريش وغطفان، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان بثلث الثمار، فاستشار أهل المدينة، فقالوا: إن كان هذا وحياً من الله فسمعاً وطاعة، وإن كان باجتهاد فلا نعطيهم إلا حد السيف، فقبل إشارتهم وقبل رأيهم، وهذا دليل على أن أتباع الوالي قد يشيرون عليه وينظرون له نظرة مناسبة. فعلى كل حال نقول: لا شك أن الولاة ليسوا بمعصومين، وأن أتباعهم مأمورون بأن يرشدوهم ويدلوهم على المصالح، وعلى ما فيه الخير لهم، وللمجتمع، ولكن إذا اختير للإدارة أو للولاية المتأهل والفاضل الذي تجتمع فيه الصفات التي تؤهله لهذا المنصب فليس لأحد الاعتراض عليه، إلا على وجه النظر، أو على وجه الإشارة.......
…
شرح العقيدة الطحاوية [54](3/35)
تجب طاعة ولاة الأمر بالمعروف، وتجب مناصحتهم، ولا يجوز تكفيرهم إلا أن نرى كفراً بواحاً، والحكم على الناس إنما يكون بالظاهر.
وجوب طاعة الله ورسوله
…
مبنى عقيدة الإسلام على كتاب الله وسنة نبيه، وعلى طاعة الله وطاعة رسوله، وقد وردت الأدلة في تأكيد الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية في آيات كثيرة، مثل قول الله تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [النساء:13] إلى قوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا [النساء:14]، ومثل قوله: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة:92]، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32]، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1] في عدة آيات. وأخبر تعالى بأن طاعة الرسول طاعة لله، قال تعالى: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن طاعة الله تعالى سبب لدخول الجنة، وكذلك معصيته سبب لدخول النار، وأن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام تعتبر العلامة لطاعة الرب تعالى، قال عليه الصلاة السلام: (كل الناس يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). ......
طاعة ولاة الأمر بالمعروف من طاعة الله ورسوله
…(3/36)
من طاعة الله تعالى وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام: طاعة أولي الأمر، الذين ذكرهم الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني)، وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بطاعة ولاة الأمر، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي، يقودكم بكتاب الله)، وفي حديث أبي ذر : (اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك). وقد ذكر العلماء أن من عقيدة أهل السنة والجماعة: طاعة ولاة الأمور، الذين لهم الولاية والسيطرة على البلاد والعباد، وطاعتهم تعتبر جمعاً لكلمة المسلمين، وتعتبر قمعاً للمفسدين، ودفعاً للظالمين؛ لأن بولايتهم يثبت الحق ويظهر، وإذا لم يكن هناك ولاة صار الضعيف نهباً للقوي، ولم تثبت الكلمة، ولم يثبت الأمن، وحصلت الزعازع والفتن، وحصلت المخاوف، وحصل القتال وكثرت الفوضى، فلأجل ذلك شرعت طاعة ولاة الأمور. ويشترط في طاعتهم: ألا تكون في معصية الله، ولا تخالف شيئاً من شرع الله، فلذلك ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقال: (إنما الطاعة في المعروف)، وإذا كان اجتماع المسلمين على أميرهم أو على واليهم فيه مصلحة فإن من تمام مصلحتهم، ومن تمام طمأنينتهم وحياتهم وسعادتهم ألا ينزعوا يداً من طاعة، وألا يفارقوا جماعة المسلمين، وألا ينبذوا إليهم أمرهم، وألا ينقضوا بيعتهم؛ فبذلك تثبت البلاد وتطمئن، ويأمن العباد على أنفسهم وعلى أموالهم، وبذلك يؤخذ الحق للمظلوم من الظالم، ويؤخذ على يد الظالم، ويُقهر على الحق، ويقصر عليه، ويضرب على يد الظالم بيد من حديد؛ فتأمن البلاد كلها، ويذهب عنها الخوف والفتن والزعازع، هذا هو السبب(3/37)
الذي لأجله أمرنا بطاعة ولاة أمورنا.
وجوب مناصحة ولاة الأمر
…
يجب علينا جميعاً أن نناصح من ولاه الله أمرنا، فإن هذا من تمام العقيدة، كان النبي صلى الله عليه وسلم من جملة ما يأخذه على أصحابه في البيعة قوله: (وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)، وهذه المناصحة تتمثل في أن نكون ناصحين لهم. والناصح هو الخالص، والنصح مشتق من قولهم: نصح العسل، إذا خلصه وصفاه، والمعنى: ألا يكون في قلبه غل ولا حقد على مسلم، وأن يبدي لكل مسلم كبير أو صغير النصيحة، ويدله على الخير الذي يحبه لنفسه، وبالأخص ولاة الأمور، فينصح لهم، وليست النصيحة مقتصرة على أن تحبهم وأن تخلص لهم المودة، وأن تصفي لهم قلبك، بحيث لا يكون في قلبك حقد ولا غل، بل إن النصيحة تتمثل أيضاً بالتحذير من الشرور، والدلالة على الخيرات، والإرشاد عند الهفوات، والتحذير من الزلات ونحوها. ولا شك أن ولاة الأمور ومن دونهم ممن لهم ولاية بشر، والبشر عرضة للخطأ، وإذا كانوا عرضة للخطأ، والإنسان ليس بمعصوم، وإذا أخطأ ينتظر من إخوته، وممن تحته وممن فوقه وممن هو أكبر منه وأصغر؛ أن يرشدوه وأن يدلوه ويهدوه إلى الحق، فإذا اجتمعوا عليه وبينوا له، وقالوا له: إن الصواب كذا وكذا؛ رجع إليه، وفرح بأن يكون من رعيته، وممن تحت يده من يدله ومن يعينه، ويكون ذلك رداً له إلى الحق، وخيراً للأمة وللولاة. أما إذا ترك الولاة وما هم عليه من الخطأ، حتى ظنوا أن ما هم فيه هو الصواب، ولم يرشدهم من حولهم من وزير أو أمير أو أخ أو صديق أو عالم أو جاهل؛ ولم يبينوا لهم ما يعلمونه من حق، فإنها تعظم بذلك المصيبة. ولا شك أن كل عاقل من ولاة الأمور، وكل ناصح وكل محب تقي مؤمن يفرح ويسر إذا أبديت له النصيحة، وإذا أظهرت له الزلة التي زل فيها، والكلمة التي أخطأ فيها؛ فيرجع إلى الصواب، ويعود إلى طلب الحق، وهذه هي السمة والصفة التي يجب أن يكون عليها كل أحد من صغير أو كبير من مأمور أو أمير، فإذا(3/38)
كانت الأمة كذلك، يحبون لولاتهم ما يحبون لأنفسهم، وينصحون لهم، ويطيعونهم، ويرشدونهم، ويهدونهم إلى الصواب، وينبهونهم على الأخطاء، فعند ذلك تجتمع كلمة الأمة، وعند ذلك يظهر الحق ويقوى أهله، هذا هو الواجب في حق ولاة الأمور: السمع والطاعة ممن تحت أيديهم. أما عامة الأمة فواجب علينا أيضاً أن ننصح لهم، وذلك لأنهم من جملة إخواننا، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم النصيحة لهم بعد النصيحة للولاة في قوله: (ولأئمة المسلمين وعامتهم)، فأمر بأن ننصح للعامة، والنصيحة للعامة تتمثل في إرشادهم إلى الخير، وتحذيرهم من الشر، ودلالتهم عليه، وتعليم جاهلهم، وإرشاد ضالهم، وتنبيه غافلهم، وأمرهم بالخير، وحثهم عليه، ونهيهم عن الشر، وتحذيرهم منه، وما أشبه ذلك. ولا شك أنهم إذا كانوا عقلاء، وإذا كانوا أتقياء: فرحوا بهذه النصيحة وقبلوها، وسروا بمن نصحهم، وشجعوه، والتزموا بأن يؤدوا هذه النصيحة إلى أبنائهم، وإلى إخوانهم، وإلى أحفادهم، فعند ذلك تنتشر الشريعة والعمل بها، وتظهر كلمة الله التي وعد بإظهارها، ويظهر دين الله على الدين كله. وقد مر بنا أن من عقيدة المسلمين: أنهم يدينون بالطاعة لولاة أمورهم، وأنهم يصلون على أهل التوحيد الذين يقولون: لا إله إلا الله، وأنهم لا ينزعون يداً من طاعة، فإذا اتصفوا بذلك كله سكنت أمورهم، واطمأنوا في حياتهم، وعملوا بشريعتهم، وإذا عرفوا ذلك عرفوا أن عقيدة الإسلام جاءت بكل ما فيه الخير، وبما فيه الأمن والاستقرار. ......
الصلاة على من مات من المسلمين براً أو فاجراً
…(3/39)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (والصلاة على من مات منهم) أي: ونرى الصلاة على من مات من الأبرار والفجار، وإن كان يستثنى من هذا العموم البغاة وقطاع الطريق، وكذا قاتل نفسه خلافاً لأبي يوسف ، لا الشهيد خلافاً لمالك والشافعي رحمهما الله على ما عرف في موضعه، لكن الشيخ إنما ساق هذا؛ لبيان أنا لا نترك الصلاة على من مات من أهل البدع والفجور لا للعموم الكلي، ولكن المظهرون للإسلام قسمان: إما مؤمن وإما منافق، فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والاستغفار له، ومن لم يعلم ذلك منه صلي عليه، فإذا علم شخص نفاق شخص لم يصل هو عليه، وصلى عليه من لم يعلم نفاقه، وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة ؛ لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين، وقد نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين، وأخبر أنه لا يغفر لهم باستغفاره، وعلل ذلك بكفرهم بالله ورسوله، فمن كان مؤمناً بالله ورسوله لم ينه عن الصلاة عليه، ولو كان له من الذنوب الاعتقادية البدعية أو العملية الفجورية ما له، بل قد أمره الله تعالى بالاستغفار للمؤمنين فقال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19] فأمره سبحانه بالتوحيد والاستغفار لنفسه، وللمؤمنين والمؤمنات، فالتوحيد أصل الدين، والاستغفار له وللمؤمنين كماله، فالدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وسائر الخيرات، إما واجب وإما مستحب. وهو على نوعين: عام وخاص، أما العام فظاهر كما في هذه الآية، وأما الدعاء الخاص فالصلاة على الميت، فما من مؤمن يموت إلا وقد أمر المؤمنون أن يصلوا عليه صلاة الجنازة، وهم مأمورون في صلاتهم عليه أن يدعوا له، كما روى أبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)]. يقول: إننا مأمورون بأن نحسن(3/40)
الظن بالمسلمين، ولا نحكم على مسلم يتظاهر بالإسلام أنه مرتد وكافر، إذا كان ظاهره أنه من أهل الإسلام، ولو كان باطنه خفياً، فنصلي عليه بعد موته، وهذا معنى الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله)، فإن المراد على أهل لا إله إلا الله، ولا شك أن أهل لا إله إلا الله هم أهل التوحيد، وهم أهل الإسلام، وهم أهل العلم وأهل العمل، وهم الذين يعملون بلا إله إلا الله، فيفعلون ما توجبه لا إله إلا الله، ويتركون ما تحرمه هذه الكلمة من المحرمات، فإذا كانوا متمسكين بذلك في الظاهر فإننا لا نكفرهم، ونصلي عليهم، ولو وقعت منهم هفوات، ولو صدرت منهم زلات، ولو كان مذنبين، ولو رأينا منهم بعض الذنوب الظاهرة لم نحكم بكفرهم ولم نحكم بخروجهم من الإسلام؛ لأن من عقيدة أهل السنة -كما تقدم مراراً- أنهم لا يكفرون بالذنوب، ولو كانت ما كانت، ما لم تصل إلى الشرك، إلا ما ورد التكفير به كترك الصلاة يعني: الاستمرار على تركها، فقد ورد أنه كفر. وأما بقية الأعمال فإذا أطلق على بعضها لفظ الكفر فإنه يراد به الكفر العملي، كقوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة)، فالطعن في النسب: كون الإنسان يعير نسبك ويقدح فيه، أو يقول: لست من قبيلة فلان، ولست ابن فلان، ونحو ذلك، هذا أطلق عليه أنه كفر، ولكنه عملي. والنياحة: هي الصياح على الميت، أطلق عليه أنه كفر، ولكنه يراد به الكفر العملي، وكذلك قتال المسلمين أطلق عليه أنه كفر، وهو كفر عملي، وكل هذه لا توجب أن نتبرأ من هذا الإنسان، ولا أن نترك الصلاة عليه، بل هو أولى أن يصلى عليه. فالمذنب الذي وقعت منه ذنوب وارتكب بعض السيئات يصلى عليه، ولا تترك الصلاة عليه، ولو كان قد زنى، ولو سرق، ولو أكل الربا أو أكل مال اليتيم، أو تولى عن الزحف، أو ما أشبه ذلك، ما عدا الذنوب التي توقعه في الكفر، وهي المكفرات المشهورة، التي إذا(3/41)
فعلها حكم بردته، كمسبة الله، فالذي يسب الله أو يسب الرسول عليه الصلاة والسلام أو ينتقص دين الإسلام أو نحو ذلك، فإن هذا يعتبر ردة وخروجاً من الإسلام. وبكل حال فالمعاصي التي دون الشرك ودون الكفر يصلى على أهلها. ......
من علم نفاقه لا يصلى عليه
…
المنافقون الذين يضمرون الكفر ويظهرون للناس أنهم مؤمنون، لا ندري ما في بواطنهم، فنصلي عليهم عملاً بالظاهر، فهم يصلون معنا، ويجاهدون معنا، ويصومون ويفطرون مع المسلمين، فإذا كانوا يضمرون الكفر في نفس الأمر فأمرهم بينهم وبين الله. لكن إن اطلع على نفاق حقيقي بأن نجم النفاق من هذا الإنسان وظهر منه ما يدل على نفاقه وإضماره الكفر، وأنه ما أسلم ولا عمل هذه الأعمال إلا تستراً؛ فإنه والحال هذه يحكم بكفره، ولا يصلى عليه، قال الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] نهاه الله أن يصلي على المنافقين الذين يعلم نفاقهم، والذين أطلعه الله عليهم؛ لأنه قد أطلعه على بعضهم، وبعضهم لم يعلمهم كما قال تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة:101] فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم أعيانهم، وإنما الله تعالى هو الذي يعلم أعيانهم فأطلعه على بعضهم، فالذين أطلعه على بعضهم نهاه أن يصلي عليهم، وأطلع عليه الصلاة والسلامحذيفة بن اليمان على بعض المنافقين الذين هموا بما لم ينالوا، فسماهم وأسرهم إلى حذيفة ، فكان حذيفة يسمى صاحب السر، وكان إذا قدمت جنازة مشكوك فيها لم يصل عليها عمر حتى يرى حذيفة يصلي عليها، فيعلم أنه ليس من المنافقين. فإذا عرف أن هذا منافق، يؤذي الله ورسوله، ويؤذي المؤمنين، ويسب الإسلام -وإن كان يتظاهر أنه مع المسلمين- فلا يصلى عليه والحال هذه، بل إذا اطلع على حاله وزندقته فإنه يقتل؛(3/42)
لأن ذلك ردة منه وتبديل للدين، فإنه (من بدل دينه فاقتلوه). وكذلك أيضاً لا يصلى على أهل البدع الذين يظهرون بدعهم، مثل الرافضة الذين يظهرون للناس أنهم يحبون الإسلام، وأنهم يحبون القرآن وما أشبه ذلك، ولكنهم في الحقيقة يضمرون بغض الله وبغض رسوله، أو يضمرون بغض الصحابة الذين حملوا كتاب الله، ويعتقدون أنهم حرفوا كتاب الله وكذبوا على رسوله، ويبغضون أهل السنة، فمثل هؤلاء أعداء لله، ويعتبرون منافقين؛ لأنهم في الحقيقة يضمرون الكفر أو يضمرون البغض، ويعملون بما يسمونه التقية التي هي نوع من النفاق، وأشباههم من الملاحدة الذين يشك في عقيدتهم، فتترك الصلاة عليهم زجراً عن أفعالهم وعن معتقداتهم. ......
ترك الصلاة على بعض المسلمين من بعض الأعيان لبعض الأسباب
…(3/43)
بعض الأشخاص تترك الصلاة عليهم لبعض الأسباب، فمثلاً: من قتل نفسه لا يصلي عليه الإمام الكبير أو العالم الكبير زجراً عن هذا الفعل، ولا يمنع ذلك أن يصلي عليه عامة الناس. وكذلك تترك الصلاة على الشهداء؛ وذلك لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، فلم يصل النبي صلى الله عليه وسلم على شهداء المعركة، إما لعدم حاجتهم إلى ذلك، وإما لأنهم والحال هذه يعتبرون من الأتقياء، ويعتبرون من أهل الخير، وإما تخفيفاً لكثرتهم؛ لأنهم قد يكونون عدداً كبيراً. وبكل حال فالأصل أننا نصلي على أهل لا إله إلا الله، وأن الصلاة عليهم تنفعهم؛ وذلك لأن الميت قد انقطع عمله، فهو في حاجة إلى أن يدعو له إخوته المسلمون؛ ولهذا يدعون له بالمغفرة وبالرحمة ونحو ذلك. في حديث عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة، يقول عوف : فحفظت من دعائه قوله: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله من الذنوب بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيرا ًمن داره، وأهلاً خيراً من أهله)، يقول عوف : حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لمكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له. ولعل هذا الدعاء لأجل أن يتم لأمته هذه الأدعية ويعلمهم، ولم يخصص للصحابة دعاء، بل أمرهم بأن يدعو بما تيسر؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) أي: ادعوا له بما تحفظون وبما تيسر من هذا ومن غيره، ادعوا له بخير الدنيا وخير الآخرة، وأقصد بخير الدنيا: نعيم البرزخ ونعيم القبر، وخير الآخرة، يعني: ما بعد الموت، من الجنة وما قبلها، ادعوا له بذلك، وادعوا له بالمغفرة. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار للمؤمنين في قوله: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وحكى الله تعالى عن بعض أنبيائه هذا الاستغفار، فحكى عن(3/44)
إبراهيم أنه قال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:40-41] فلم يقتصر على والديه وعلى ذريته، بل دعا للمؤمنين يوم يقوم الحساب، وحكى عن نوح عليه السلام أنه قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28] فدعا للمؤمنين والمؤمنات عموماً فيدخل في ذلك الأولون والآخرون. إذاً: نحن مأمورون بأن ندعو للمؤمنين، والصلاة عليهم تنفعهم، والصلاة عليهم بعد موتهم فيها دعاء لهم، واستغفار لهم، وزيادة في أعمالهم، فيحرص المسلم على أن يصلى على الميت، وينبغي الحرص على كثرة عدد المصلين؛ لأنه ربما يكون فيهم مجاب الدعوة، وربما يكون في الكثير من هو أتقى وأنقى، وأفضل معتقداً، فيجيب الله تعالى دعوته، ومع كثرتهم أيضاً يقبل الله دعوتهم، فقد ورد في الحديث: (ما من مسلم يقوم عليه مائة رجل، لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعوا فيه)، أو كما قال في الحديث، فهذا حث على أن يصلى على المسلم، حتى ولو لم يصدر منه شيء من الذنوب، ويستغفر له، ويطلب له من الله المغفرة والزلفى. ......
مسألة الشهادة بالجنة والنار للمعين
…(3/45)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً). يريد: أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، كالعشرة رضي الله عنهم، وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من يشاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، ولكنا نقف في الشخص المعين، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم؛ لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيئ. وللسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال: أحدها: ألا يشهد لأحد إلا للأنبياء، وهذا ينقل عن محمد ابن الحنفية والأوزاعي. الثاني: أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث. الثالث: أنه يشهد بالجنة لهؤلاء، ولمن شهد له المؤمنون كما في الصحيحين: (أنه مر بجنازة فأثنوا عليها بخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ومر بأخرى فأثني عليها بشر، فقال: وجبت -وفي رواية كرر: (وجبت) ثلاث مرات- فقال عمر: يا رسول الله! ما وجبت؟ فقال رسول الله: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض)، وقال صلى الله عليه وسلم: (توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن، والثناء السيئ)، فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار]. أول الكلام يتعلق بمن يشهد له بالجنة ومن يشهد له بالنار، وهل يجوز ذلك أم لا؟ نقول: قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم شهد لبعض أصحابه بالجنة كالعشرة، في قوله صلى الله عليه وسلم: (النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة ..)، إلى آخر العشرة، فالعشرة مشهود لهم بالجنة، وهم الخلفاء الأربعة، والستة الباقون من العشرة هم الذين جمعهم الناظم بقوله: سعيد وسعد وابن عوف وطلحة(3/46)
وعامر فهر والزبير الممدح هؤلاء شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وختم لهم بأعمال صالحة، ولم ينقل عنهم ما يكون سبباً لمخالفة ما شهد به النبي صلى الله عليه وسلم. وممن شهد لهم بالجنة ثابت بن قيس بن شماس، لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخبره أنه من أهل الجنة)، يقول الراوي: فكان يمشي بيننا وهو من أهل الجنة. وكذلك بلال : فقد قال له: (إني أسمع دف نعليك في الجنة)، وغيره من الذين شهد لهم بذلك. وقد ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأرجو ألا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وفي هذا شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل أحد منهم النار، كما أنهم من أهل الجنة؛ لأن من لم يدخل النار دخل الجنة ولابد. وكذلك أهل بدر الذين عددهم ثلاثمائة وبضعة عشر، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فمثل هؤلاء إذا كان الله قد غفر لهم فإن ذلك دليل على أنهم من أهل الجنة. وبقية الصحابة رضي الله عنهم يرجى لهم الخير، ولسبقهم ولأعمالهم الصالحة قد أنزل الله فيهم آيات تدل على سبقهم وعلى فضلهم، قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ [التوبة:100] هؤلاء المهاجرون الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، والأنصار الذين أسلموا بالمدينة وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100] يعني: الذين أسلموا متأخرين من الصحابة، يقول تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [التوبة:100] فهذه تزكية من الله تعالى لهم، وشهادة لهم بأنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، فهذا أيضاً دليل على أن المهاجرين والأنصار والذين أسلموا بعدهم ونصروهم يرجى لهم الخير. ......(3/47)
تحقيق التوحيد يحرم دخول النار
…
وردت أحاديث في تغليب الرجاء، وأن أهل التوحيد لا يدخلون النار، مثل حديث عتبان بن مالك (أنه صلى الله عليه وسلم ذكر عنده رجل يقال له: مالك بن الدخشم، فقال بعض الحاضرين: ذاك منافق، فقال: وما يدرك أنه منافق؟ أليس قد قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله؟! فقالوا: إنا نرى وده وميله إلى المنافقين، فقال: إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)، وكذلك من حقق التوحيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). فهذه تزكية من الله، وهذه شهادة من الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن من أتى بهذه الشهادة حقيقة، وشهد بالجنة والنار، وشهد بالبعث بعد الموت، وشهد بما أخبر الله تعالى به، وكان بتلك الشهادة عن يقين وعن عقيدة راسخة صادقة؛ أثمرت تلك الشهادة العمل، وأثمرت شهادة أن لا إله إلا الله طاعة الله وعبادته، وأثمرت شهادة أن محمداً رسول الله اتباعه وتعظيم سنته، والسير على نهجه، وأثمرت شهادة أن الجنة حق: طلبها، والعمل لها، وكذلك أثمرت شهادة أن النار حق: الهرب منها، والبعد عن الأسباب التي توقع فيها. وبلا شك فإن العمل الصالح يسبب لصاحبه دخول الجنة، والأحاديث كثيرة معروفة في أن الأعمال الصالحة قد رتب عليها دخول الجنة. وهناك أحاديث كثيرة بينت أن هناك أعمالاً رتب على بعضها دخول النار، ولكن يظهر أن ذلك الدخول لأجل ذلك الذنب، ثم بعد التمحيص من ذلك الذنب الذي لم يصل بصاحبه إلى الشرك، وإلى الحكم بخلوده في النار، فإنه يعذب بقدر ذنبه، ثم يخرج من النار، وعليه تحمل أحاديث الشفاعة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنه يشفع في أهل لا إله إلا الله، وأنه سوف يخرج من النار أهل الإيمان(3/48)
بالله، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود، وحبسه القرآن، وهم الكفرة والملاحدة والمشركون ونحوهم.
الحكم العام فيمن يستحق الجنة ومن يستحق النار
…
نحن نحكم حكماً عاماً ونقول: أهل التوحيد، وأهل الإسلام، وأهل الإخلاص، وأهل العمل، هؤلاء نرجو لهم الجنة، والله تعالى لا يخيب رجاء المؤمنين؛ وأهل الكفر، وأهل الشرك، وأهل الزندقة والنفاق، هؤلاء نعلم أن الله توعدهم بالنار، أما أهل الكبائر فنخاف عليهم من عذاب الله، وكذلك نرجو لهم رحمة الله، نرجو أن الله تعالى يرحمهم، فهو واسع الرحمة، ولكن نخاف أن يعذبهم، وعذاب الله شديد؛ لأنه سبحانه قد توعد بالعذاب على دون ذلك، ووعد بالثواب على أعمال قليلة. إذاً: نرجو لهؤلاء دون أن نجزم بأنهم من أهل الجنة، وإذا كانت عندهم كبائر فنخاف عليهم دون أن نجزم لهم بالنار، فلا نجزم لهؤلاء بجنة ولا نار، ولكن نخاف على المذنب، ونرجو للمحسن، هذه من عقائد أهل السنة.
الحكم على الناس إنما يكون بالظاهر لا بالظن
…(3/49)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى). لأنا قد أمرنا بالحكم بالظاهر، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات:11]^، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]^، وقال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]^]. وهذا يقتضي أننا لا نتخبط بجهل، ونقول في المسلم بغير يقين؛ وذلك لأن المسلمين لهم ظواهر وبواطن، والحكم للمسلم على الظاهر، والمعاملة له على الظاهر، فمن أظهر لنا خيراً فإننا نحسن الظن به، ومن أظهر شراً فإننا نسيء الظن به. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أيها الناس! إن أناس كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم بالظاهر، فمن أظهر لنا خيراً أحببناه وقربناه، وإن أضمر لنا سوءاً! ومن أظهر لنا شراً أبغضناه وعاديناه ولو كان قلبه سليماً! أو كما قال رضي الله عنه، فجعل الحكم على مجرد ما يظهره الإنسان. ومما يدل على ذلك أيضاً حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار أن أنصارياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فساره يستأذنه أن يقتل رجلاً من المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟ فقال الأنصاري: يشهد ولا شهادة له، فقال: أليس يشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: يشهد ولا شهادة له، فقال: أليس يصلي؟ قال: يصلي ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم)، يعني: أنه أمر بمعاملتهم بالظاهر، ما دام يعلن الشهادة، وما دام يقيم(3/50)
الصلاة إقامة ظاهرة، فليس لنا أن ننقب عن قلبه، لماذا؟ لأنا لا ندري ما يكنه. وفي قصة ذي الخويصرة الذي أنكر على النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأمر، ثم ولى فقال خالد بن الوليد : (ألا أقتله يا رسول الله؟ فقال: لا، لعله يصلي، فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم)، يعني: إنما نأخذهم بما يظهر لنا، أما ما في قلوبهم فهذا أمره إلى الله عز وجل. ولما قتل أسامة بن زيد رضي الله عنه رجلاً من المشركين بعد ما قال: لا إله إلا الله؛ أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟! فقال: يا رسول الله! إنما قالها خوف السلاح، إنما قالها مستعيذاً من القتل -يعني: أنه ما قالها إلا لما رأى السلاح قد وصله، ولم يكن ذلك عن يقين منه- فقال عليه الصلاة والسلام: فهلا شققت عن بطنه حتى تعلم هل قالها أم لا) يعني: أنك لا تدري ما في قلبه، فخذه بما ظهر لك، ففي هذه الأدلة ونحوها أن المعاملة تكون بالظاهر، سواء كان الظاهر خيراً أو شراً. فالذين نراهم يظهرون الأعمال الخيرية نحبهم ونكل أمرهم إلى الله تعالى، والذين يظهرون الأعمال السيئة نبغضهم ونكل أمر قلوبهم إلى الله تعالى. وكثيراً ما تنكر على بعض الذين يظهرون المعصية: الذي تراه يحلق لحيته، أو تراه يشرب الدخان، أو تراه يسبل ثوبه، أو تراه يتكاسل عن الصلوات ونحوها، أو تسمعه يقذف ويسب، أو نحو ذلك، فتنكر عليه، فيعتذر ويقول: العمل على ما في القلوب، قلبي طاهر، وإذا كان قلبي نقياً فلا عبرة بما أفعله، ولا عبرة بهذه المظاهر، هكذا يعتذر، هل هذا صحيح؟ ليس بصحيح، وكما أن العبرة بالباطن فإن الحكم للظاهر، ونقول: نحن لا ندري ما في باطنك، فباطنك خفي، إنما نعاملك بظاهرك، فهذا الذي أظهرته لنا -وهو عملك بهذه المعاصي وإعلانها- دليل على التهاون بأمر الله، ودليل على(3/51)
تهاونك بعقوبة الله، وتهاونك بنظر الله، ودليل على أن في قلبك محبة لهذه المعاصي، وأما كون قلبك نقياً، وكونك مؤمناً ونحو ذلك، فهذا ليس إلينا، بل إلى الله عز وجل. وأما إذا أظهر لنا الإنسان التقى والورع، ورأيناه يحافظ على العبادات، ولم نسمع منه شيئا ًمن الكلام الذي يقدح بعبادته أو ديانته فإننا نحبه، وليس لنا أن نتتبع أسراره، ولا أن نبحث عن خفاياه، ولا أن نظن به الظنون السيئة التي حذرنا الله منها، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12]^ أي: لا تجسسوا على إخوانكم، لا تقولوا: فلان يمكن أنه منافق، لا ندري ما إيمانه، إذاً: نتجسس عليه ونتحسس، ونستمع إلى كلامه بخفيه وسريه! فليس لنا ذلك، فما دام أنا لم نره أظهر سوءاً، فإنا نعامله بما أظهر، ولا نقول: إن باطنه خبيث، وإنه يسر كذا وكذا، ليس لنا ذلك، وكذلك لا نتكلم فيه قدحاً بغير علم، فندخل في مخالفة الآية التي في سورة الإسراء، وهي قول الله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]^ يعني: لا تتبع ما ليس لك به علم فتتكلم بسوء، أو تستمع إلى شيء، أو تنظر إلى عورة ليس لك النظر إليها، أو تظن ظناً سيئاً إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36]^ أي: كنت مسئولاً عن هذه الأشياء، فلا تسمع إلى حديث قوم وهم لا يحبون أن تسمع له، وتقول: لعلي أسمع منهم ما يدل على بغضهم وعلى حقدهم على الإسلام! نقول: ليس لك ذلك، أما إذا أظهروا ذلك علناً، فإن لك أن تشهد به، وهذا هو منهج الصحابة رضي الله عنهم، فإن الذين عرف نفاقهم ما عرف إلا لما أعلنوه، كما في حديث عوف بن مالك أنه سمع بعض المنافقين يقول: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء: أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فعند ذلك قال له: كذبت ولكنك(3/52)
منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه، وأن الله تعالى أطلع نبيه على هذه المقالة، فإذا ظهر من الإنسان كلام يدل على سخرية، ويدل على بغض وحقد على المسلمين، ويدل على سوء طوية، وعلى تهمته ببغض الإسلام وببغض المسلمين؛ فحينئذٍ لا يترك على هذا، بل يقام عليه الحد، ويؤخذ حق الله تعالى منه، أما إذا كان أمره خفياً فليس لنا ذلك، وقد يقال: إن هذا قد يكون سبباً في كثرة المنكرات، نقول: ما دامت المنكرات خفية فلسنا مسئولين عنها، لكن إذا رأينا علامات ظاهرة، كأن يعرف أن هناك بيوت دعارة يتوافد إليها أناس مشكوك فيهم فإن لنا أن نتحفظ. ......
…
شرح العقيدة الطحاوية [55]
يجب الاجتماع على الحق، وتحرم الفرقة، والمسائل الاجتهادية لا يضلل فيها المخالف، ولا يعقد الولاء والبراء عليها، ما دام لها في النصوص محمل سائغ.
وجوب الاجتماع على الحق وحرمة التفرق
…(3/53)
قال المصنف رحمه الله: [قوله: (ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة). السنة: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة: جماعة المسلمين وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين فاتباعهم هدى وخلافهم ضلال، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31] وقال: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، وقال تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، وقال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]. وثبت في السنن الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه(3/54)
من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)]. يحث دين الإسلام على التمسك بالسنة، ويحث على الاجتماع على العقيدة السلفية، وينهى عن التفرق والتعادي والتقاطع ، ويأمر بالتمسك بالصراط المستقيم، والأدلة على ذلك واضحة ظاهرة، ومنها قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] فأمر بالاتباع، وأمر بالتمسك بالصراط المستقيم، وهو الذي أمرنا الله تعالى بأن ندعو به في صلاتنا بقولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهو الطريق الذي سارت عليه الأمة الإسلامية، ونهجه أهل السنة، يأمر الله تعالى بالسير عليه، وبالتمسك به غاية التمسك، ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك به أشد ما يكون، وبالعض عليه بالنواجذ، التي هي أقاصي الأسنان، ولا شك أن ذلك كله دليل على أهمية السير على هذا الصراط السوي. وينهى الإسلام عن التفرق والاختلاف؛ وذلك لأن في الاختلاف عداوة، فمتى اختلفت وجهة المسلمين فكانت طائفة تذهب إلى هذا، وطائفة تذهب إلى ذاك، وهذه تضلل الأخرى، وهذه تبدع هذه، ولم يكونوا مجتمعين على الحق، ولم يحصل بينهم التعاون على البر والتقوى؛ خيف عليهم أن يتسلط عليهم عدوهم، ويتغلب عليهم، فلا يقاومونه لاختلاف وجهاتهم، ولاختلاف أنظارهم. والله تعالى قد نهى عن التفرق في مواضع كثيرة من كتابه، يقول الله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، ويقول الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وينهى أيضاً عن الاختلاف كما في قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا [آل عمران:105]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا(3/55)
دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159]، (شيعاً) يعني: أحزاباً، الشيع هو أن كلاً يذهب إلى رأي يتشيع له، يعني: يتعصب له. وبكل حال فإذا عرفنا أن الإسلام يأمر بالاجتماع، فهذا الاجتماع لابد أن يكون على السنة، وأن يكون على الصراط السوي وعلى الطريق المستقيم، أما إذا كان المجتمعون قد اجتمعوا على ضلالة، اجتمعوا على بدعة، فإن اجتماعهم لا قيمة له؛ وذلك لأنهم تركوا الحق جانباً، وأعرضوا عن صراط الله الذي أمر بالتمسك به وبسؤاله، وهو الذي سارت عليه الأمة الإسلامية، وهو صراط المنعم عليهم الذين قال الله فيهم: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69]. وكثيراً ما تأتي الأدلة في الحث على الجماعة، وكثيراً ما نسمع الخطباء يحثون على الجماعة، ويقولون: عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، أو فإن يد الله على الجماعة، والمراد بالجماعة هنا: جماعة الإسلام، الذين يجتمعون على قول صحيح سليم، ليس فيه خطأ ولا خلل، هؤلاء هم الجماعة، وجاءت الأحاديث تقول: (عليكم بالجماعة، (إياكم والفرقة)، (اجتمعوا على الحق ولا تفرقوا)، (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) ففيها حث المسلمين على أن يسيروا جميعاً، وأن الذي يشذ منهم فإنه إلى الهلاك، وتخطفه الشياطين، فيصير من نصيبها، كما أن الغنم إذا كانت مجتمعة فإن الراعي يراقبها ويرعاها، فإذا انفردت واحدة منها، وكانت بعيدة، وغفل عنها، جاء السبع فأكلها، فكذلك جماعة المسلمين. ......
الحق يستمد قوته من دليله ولا تضره كثرة مخالفيه
…(3/56)
أهل البدع جماعات كثيرة، وقد تكون لهم قوة وكثرة واجتماعات، وقد يتفوقون في بعض الأحيان على أهل السنة، وقد يزيدون عليهم عدداً أو عدة أو قوة، ولكن هل يقال: إنهم على الجماعة؟ هل يقال: إنهم أهل الجماعة؟ هل يقال: إنهم أهل السنة؟! ليس كذلك، بل هم أهل فرقة، وهم أهل بدعة، وهم أهل ضلالة، ولو كثر عددهم، ولو كثرت جماعاتهم، ولو حصلت لهم قوة معنوية، أو قوة حسية، فإنهم ليسوا من أهل الجماعة، وليسوا من أهل السنة، فأهل السنة والجماعة هم من كان على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويقلون ويكثرون، وأحياناً يمكن الله لهم، فيرجع ضالهم، ويرشد غاويهم، فيكثرون على الحق، ويتمسكون به، ويسيرون عليه، وأحياناً يكثر أعداؤهم فيضلون الخلق، ويشتتون الجماعات، ويقل المتمسكون بالسنة، ويصيرون أفراداً، فلا يعرفون، وربما يستخفون بمذهبهم، ويكنونه ولا يجهرون به، ومن جهر به أوذي وطرد واضطهد وسجن وشرد وهرب، وهو مع ذلك على السنة، وعلى العقيدة وعلى التوحيد، وعلى الدين الإسلامي، وعلى الصراط المستقيم، ولكن إذا قويت البدع وقويت المنكرات في بعض البلاد تسلط أهلها على أهل الحق واستضعفوهم، وساموهم سوء العذاب، ولكن النصر والتمكين لهم، والعاقبة للتقوى، إذا صبروا واحتسبوا، وما أصابهم في ذات الله وفي دينه كان رفعاً لدرجاتهم، وإعظاماً لأجرهم. يحصل في هذه الأزمنة اضطهاد كثير لأهل الحق، وإذلال لهم، واتهام لهم بالثورات وبالانقلابات على الدولة، وأنهم يريدون السلطة، وكذلك مطاردتهم في الأسواق وغيرها، وكل من رؤي متمسكاً بالسنة وعاملاً بها اتهم بالاتهامات البعيدة، وأدخل السجون وضرب، وفرضت عليه الضرائب التي تثقل كاهله وما أشبه ذلك، كما هو موجود في كثير من الدول التي تنتمي إلى الإسلام، وهذا لا يدل على أن هؤلاء ليسوا على الحق، بل هم على حق، وإذا صبروا كان ذلك أعظم أجراً، ولا يدل على أن تلك الأمم والشعوب والدول التي أظهرت خلاف(3/57)
الحق، وانتهجت الباطل؛ على حق وصواب، فالعبرة لسيت بالكثرة، إنما العبرة بالإصابة، العبرة في الحق لمن كان مصيباً للحق ومتمسكاً به، هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
أهل الحق هم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
…
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة)، وفي رواية: (قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)، فبين صلى الله عليه وسلم أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا أهل السنة والجماعة. وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.) وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى، عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً).]. هذه أدلة على أن أهل الحق هم المتمسكون بالسنة النبوية، وهم من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والصحابة رضي الله عنهم ما خاضوا في علم الكلام الذي خاض فيه المتكلفون المتكلمون، وكذلك كانوا يكرهون الاختلاف حتى في الفروع، بل إذا اختلفت عليهم الأدلة قالوا: آمنا بها وفوضنا ما لم نعلم، وعملنا بما كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم وكان في عهده. وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن الاختلاف، خرج عليهم مرة وقد اختلفوا في القدر، فكأنه فقئ في وجهه حب الرمان،(3/58)
يعني: احمر وجهه من الغضب، فقال: (يا عباد الله! أبهذا أمرتم أم بهذا كلفتم؟ أتضربون كتاب الله بعضه ببعض؟! ما عرفتم منه فاعملوا به، وما لم تعرفوا فكلوا أمره إلى عالمه.). هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا اختلفت علينا الأدلة أن نأخذ بما هو الأنسب والأظهر، وندع الاختلاف. وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بوقوع الاختلاف في هذه الأمة، ففي هذا الحديث الذي تقدم أخبر بأن أمته ستتفرق بهم الأهواء إلى ثنتين وسبعين فرقة، وكل طائفة تزعم أن الحق في جانبها، وكل طائفة تضلل غيرها وتبرر موقفها. وهذه الاختلافات اختلافات اعتقادية، يضلل من خالف فيها، وليست اختلافات في الفروع وفي المسائل الاجتهادية التي طريقها الاجتهاد، فإن هذه لا يضلل فيها، ولهذا خالف بعض الأئمة مشايخهم دون أن يضللوهم، فالإمام مالك رحمه الله كان إماماً متبعاً، وقد خالف أبا حنيفة في أشياء، والإمام الشافعي قرأ على مالك وأخذ عنه علمه، وقد خالفه في أشياء من الفروع، وكذلك أحمد خالف الأئمة الذين قبله في أشياء، ولكن ليس هذا ضلالاً، وليست هذه المذاهب من الفرق الضالة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنها في النار إلا واحدة، إنما تلك هي البدع المضلة التي تتعلق بالعقيدة، ولا شك أن أمور العقيدة أدلتها يقينية، أدلتها قطعية، ولا يستدل عليها بالأدلة الظنية التي يتطرق إليها احتمال الثبوت أو عدمه، وإنما يستدل عليها بأمور قطعية الدلالة لا لبس فيها ولا خفاء، ولكن عميت الأعين وصمت الآذان، فإن أولئك المبتدعة يرون الحق أبلجاً، ويرون الصراط مستقيماً، فتأتيهم بالأدلة، وتوضحها لهم، ولكن هم صم ولو سمعوا، بكم ولو نطقوا، عمي ولو نظروا، بهت بما شهدوا، عموا عن الحق، وعن سماعه صموا، وعن قوله خرسوا، وهذا حرمان من الله، وإلا فالطريق واضح؛ ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأهواء الثنتين والسبعين، وأمر بالتمسك بالجماعة، وقال: (كلها في النار إلا واحدة،(3/59)
وهي الجماعة)، وفي رواية: (هم ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
عمق علم الصحابة وعدم تكلفهم يوجب الاهتداء بهديهم
…
الصحابة رضي الله عنهم لم يتكلموا في الجوهر والعرض، ولم يتكلموا في الأعراض والأبعاض والأعضاء وما أشبه ذلك مما ابتلي به المتكلمون، ولم يتكلموا في المحدثات التي امتلأت بها كتب هؤلاء المتكلمين، وإنما تقبلوا ما جاءتهم به السنة، وما ثبت في الأحاديث، وما نص عليه القرآن، وتقبلوا ذلك كله، واستسلموا له، كما شهد لهم ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الأثر: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات)، ابن مسعود من الصدر الأول، مات سنة اثنين وثلاثين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنحو إحدى وعشرين سنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مات سنة إحدى عشرة، وابن مسعود مات سنة ثنتين وثلاثين، ومع ذلك يحث على طريقة الصحابة، ويريد بالصحابة: السابقين الأولين، كالخلفاء أبي بكر و عمر و عثمان لأنهم في زمانه، وكذلك من مات من السابقين ممن مات قبله، كعبد الرحمن بن عوف و أبي ذر ، والعباس بن عبد المطلب ، ونحوهم، ولا شك أن هؤلاء هم الصحابة الذين قصدهم في قوله هذا: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) ومن كان عالماً لا يؤمن عليه أن يضل، ولا يؤمن عليه أن يفتتن بالدنيا، أو يفتتن بالشبهات وبالدعايات المضللة، يقول: (أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً) ما أبلغه من وصف! البر: هو الصدق والإخلاص، يعني: أن قلوبهم خالصة مخلصة، وعلمهم عميق؛ لأنه علم نبوي، ولم يكونوا يتكلفون. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لما جاءه رجل وقال: إن فلاناً يزعم أنه يكون قبل القيامة دخان يأخذ بمشام الناس، فعجب لذلك! حيث استدل بقوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ [الدخان:10] فقال: إن الله تعالى قال لنبيكم: وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ(3/60)
[ص:86]، وإن هذا من التكلف؛ لأن هذا فسر الآية بما يراه أو بما يظنه من أن الدخان المذكور فيها يكون قرب الساعة، وبكل حال فهو ينكر على من يتكلف في تفسير الآيات بمثل هذه الاحتمالات. فإذا نظرنا فيما روي عن الصحابة رضي الله عنهم، لم نجد في علمهم شيئاً من التكلف، بل وجدناهم يأخذون الأدلة على ظاهرها، ويفوضونها أو يعتقدون ما دلت عليه. وقد حدث الضلال في آخر عهدهم من بعض المنكرين لبعض الأمور الغيبية، كما روي أن رجلاً انتفض عند ابن عباس لما قرأ آية في الصفات استنكاراً لها، فقال ابن عباس: ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه! أما الأثر المروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله!)، فإنه دليل على أنه قد وجد في عهده من يتحدث بأشياء قد تستغرب، وقد يستنكرها بعض الجهلة، فلأجل ذلك نهى أن يحدثوا بالأشياء التي فيها شيء من الغرابة، وأمرهم أن يتحدثوا بالأشياء المعلومة كالأحكام، أي: اشغلوا أوقاتكم بالأحكام، وبأمور الطاعة، وبنوافل العبادات، وإياكم أن تشتغلوا بالأشياء التي فيها غرابة، ويستنكرها العامة وينكرونها، وإذا أنكروها وهي قطعية هلكوا، حيث إنهم كذّبوا الله ورسوله، فهذه طريقة وسيرة السلف الذين هم الصحابة ومن سار على نهجهم.
أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله
…(3/61)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة). وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية، فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، فغير الله يحب في الله لا مع الله، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضائه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق لمحبوبه في كل حال، والله تعالى يحب المحسنين، ويحب المتقين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ونحن نحب من أحبه الله، والله لا يحب الخائنين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المستكبرين، ونحن لا نحبهم أيضاً، ونبغضهم موافقه له سبحانه وتعالى. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا الله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار). فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه، وولايته وعداوته، ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة، فلابد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]. والحب والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر، فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة، والحب والبغض، فيكون محبوباً من وجه ومبغوضاً من وجه، والحكم للغالب، وكذلك حكم العبد عند الله، فإن الله قد يحب الشيء من وجه ويكرهه من وجه آخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره(3/62)
مساءته، ولا بد له منه)، فبين أنه يتردد؛ لا أن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه وتعالى يحب ما يحب عبده المؤمن، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال: (وأنا أكره مساءته)، وهو سبحانه قضى بالموت، فهو يريد كونه، فسمى ذلك تردداً، ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك، إذ هو يفضي إلى ما هو أحب منه].......
وجوب حب الله وحب ما يحبه الله
…
واجب على المسلم أن يحب الله تعالى، وأن يحب ما يحبه الله، وأن يحب من يحبه الله، فيحب الله تعالى من كل قلبه؛ لأنه ربه، والمنعم عليه، ويحب ما يحبه الله من الأعمال التي تكون سبباً لرضاه، ويحب الذين يحبهم الله من أوليائه وأصفيائه وعباده الصالحين، وإذا كان كذلك فإنه يحضى بمحبة الله تعالى له، أما كونه يحب الله ورسوله فإن لذلك أسباباً، كيف لا يحب ربه الذي هو خالقه ومالكه؟! كيف لا يحب ربه الذي أنعم عليه وتفضل عليه؟! كيف لا يحب ربه الذي رزقه وخوله وأعطاه ما يتمناه؟! كيف لا يحب ربه الذي يتصرف فيه كما يشاء؟! كيف لا يحبه وقد هداه للإسلام ونور بصيرته؟!
وجوب حب النبي صلى الله عليه وسلم
…(3/63)
يجب على المسلم أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن الله تعالى أنقذه على يديه، أنقذ جميع الخلق، وأنقذ هذه الأمة على يدي هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فلأجل ذلك يجب أن يحبوه، وأن يقدموا محبته على كل شيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وقال له عمر : (والله إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر ، حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: والله إنك لأحب إلي من نفسي، فقال: الآن يا عمر) ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام أهل لأن يحبه المؤمنون الذين أنقذهم الله بواسطة دعوته، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وأنقذهم به من الغواية، وبصرهم بواسطته إلى طريقة الهداية والحق، فلذلك يقدمون محبته على كل شيء. وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، أخبر بهذا؛ لأن هذه الثلاث لابد منها حتى يجد بها المسلم حلاوة الإيمان، بدأها: بأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، يعني: من النفس ومن المال ومن الأهل والوالد، ومن القريب والبعيد، ومن كل شيء حتى من نفسه، ومعلوم أنه إذا حصلت له هذه المحبة تبعها غيرها، فإذا أحب الله تعالى، وأحب رسوله صلى الله عليه وسلم تبعتها الخصلتان الباقيتان، تبعها محبة ما يحبه الله، وتبعها كراهة ما يكرهه الله، فالثلاث متلازمة مترابطة. والخصلة الثانية: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، معلوم أن من أحب الله أحب ما يحبه الله، بل العادة أن إنساناً إذا أحبك أحب كل من تحبه، فأنت مثلاً إذا أحببت زيداً، أحببت من يحبه زيداً؛ وذلك لأنك وثقت به، وصار له قدر في قلبك، وصارت له منزلة، فصرت توقره وتحبه، فإذا رأيته يؤثر عملاً آثرت ذلك العمل(3/64)
معه، وإذا رأيته يجتنب شيئاً اجتنبته؛ لأنك تثق به وتعرف أنه لا يفعل إلا ما هو خير، ولا يتجنب إلا ما فيه ضرر، فكيف بما يكرهه الله تعالى؟! لا شك أنك تكرهه، كيف بما يُحرّمه ويبغضه؟! لا شك أنك تبغضه، كيف بمن يحبهم الله تعالى من الأشخاص؟! لا شك أنك تحبهم. وقد تقول: لكن الله تعالى قد ذكر أن المؤمنين يحبون المنافقين ظاهراً، في قوله تعالى في سورة آل عمران: هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119] فهؤلاء الصحابة الذين يحبون الله ويحبون الرسول، ويؤثرونه على أنفسهم، ويفدونه بأرواحهم، كيف يحبون المنافقين؟! الجواب: لأنهم يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، ويخفون عقيدتهم، فيبطنون ما هم عليه من الضلال والبغضاء، الذي هو بغض الله، وبغض رسوله، وبغض الصحابة، وبغض المؤمنين، ولا يبدون ذلك، إنما يظهرون أنهم من أولياء الله، وأنهم من أحبابه، فلأجل ذلك وثق بهم المؤمنون فصاروا يحبونهم، يعني: تحبونهم؛ لأنهم يحبون الله ظاهراً، تحبونهم؛ لأنه يظهرون لكم محبة الرسول، وأنتم تحبون الرسول، ومحب المحبوب محبوب، ولكن هم لا يحبونكم؛ لأنكم تحبون الرسول، وهم يبغضونه، ومحب المبغوض مبغوض، فلما صرتم على يقين وعلى عقيدة من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم على الضد من ذلك يبغضونه، وأبغضوكم؛ لأنكم تحبون مبغوضهم. إذاً: عليك أن تحب من يحبه الله، وتبغض من يبغضه الله، وتظهر عليك آثار هذه المحبة، ولا شك أن لها آثاراً، ومن آثارها: الولاء والبراء .. العطاء والمنع .. التقريب والإبعاد، فمن أحببته أعطيته، ومن أبغضته حرمته، ومن أحببته قربته، ومن أبغضته أبعدته، وابتعدت عنه، ومن أحببته واليته، ومن أبغضته عاديته.
لا يجوز موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب
…(3/65)
الذين يحبهم الله يجب أن تحبهم بقلبك، وتواليهم، وتعطيهم، وتقربهم، وتمدحهم، وتقتدي بهم، وتثني عليهم؛ لأن الله تعالى يحبهم، والذين يبغضهم الله تبغضهم، وتعاديهم، وتقاطعهم، وتبتعد عنهم، وتحذر منهم، وتذمهم، وتحذر من سيرتهم، وسنتهم، وعادتهم التي أصبحوا بها مبغضين لله، مبغوضين عند الله، ولو كانوا ما كانوا. من الخصال التي ذكرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مما يجب للمسلم على المسلم، في قوله: إنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم هذه الثلاث المسائل: وذكر الثالثة منها: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب، واستدل بالآية التي في آخر المجادلة: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] لا تجد المؤمنين حقاً يوادون المحادين لله ورسوله أبداً، لا تجدهم يوادونهم، بل لابد أن يعادوهم ويقاطعوهم وينبذوا لهم قوس العداوة، ولو كانوا أقرب قريب، ولهذا قال: وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22] يعني: أقاربهم الخاصين بهم، وما ذلك إلا أنهم لما أحبوا الله أبغضوا من يبغضه الله، فالذين عادوا الله، ولو كانوا أقارب عاداهم أولياء الله، ومقتوهم، وابتعدوا عنهم، وقطعوا الاتصال بهم. أما أولياء الله فإنهم يحبونهم، ولو كانوا بعيدين في النسب، فصار بعضهم يؤثر أخاه المسلم على نفسه، ولو كان من فارس أو من الروم أو من البربر أو من الحبش أو نحو ذلك، فمثلاً: من الصحابة: بلال حبشي من الحبشة، وصهيب رومي من الروم، وسلمان فارسي من فارس، ولكن جمعت بينهم أخوة الإسلام ومحبة الله، فصاروا أخوة في ذات الله تعالى، يحب بعضهم بعضاً، ويؤثر بعضهم بعضاً، فهكذا تكون آثار هذه المحبة. فلما أحب الله الصالحين، وأنت تحب الله أحببتهم، ولما أبغض الكافرين، وأنت تبغض ما(3/66)
يبغضه الله أبغضتهم، وكذلك الأعمال، فإن الله تعالى يبغض كثيرا ًمن الأعمال، يقول الله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]، وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32]، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23]، إذا كان الله لا يحب هؤلاء فلا تحبهم، بل أبغضهم، انظر من يحبه الله؟ الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، ويحب أهل هذه الخصال، ويحب الأعمال الصالحة، ويحب من عباده أن يأتوها، فالذي يدعي المحبة لابد أن تظهر عليه آثارها وعلاماتها الواضحة.
العلامة الدالة على صدق محبة الله
…(3/67)
ذكروا أن اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه -وكذبوا فليسوا أحباءه- أنزل الله آية تسمى آية الامتحان أو آية المحنة في سورة آل عمران: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] فامتحنهم الله بهذه الآية، فإذا كنتم صادقين في أنكم تحبون الله فلابد من علامة، والعلامة الواضحة هي أنكم تتبعون هذا الرسول الكريم، فإن هذه علامة صدق من يدعي محبة الله. روي عن بعض السلف رحمه الله أنه قال: من ادعى محبة الله ولم يوافقه فدعواه كاذبة؛ لأن الذي يحب الله يوافقه في أوامره ونواهيه، ويفعل ما يحبه الله من الطاعات، ويكره ما يكرهه الله من المحرمات والمعاصي، وكذلك أيضاً يحب أولياء الله ويبغض أعداء الله، وبذلك يكون صادقاً في هذه المحبة، وإذا لم يكن كذلك فليس بصادق، والذي يتظاهر بالمعصية ومع ذلك يدعي أنه يحب الله ليس بصادق، يقول بعض الشعراء: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا عجيب في الفعال بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع فعلامة المحبة طاعة المحبوب. محبة الله تعالى واجبة، وعلاماتها ظاهرة، وهي: طاعته، وحب العبادات التي يحبها، وحب العباد الذين يحبهم،وكذلك موافقته، وكذلك بغض المعاصي التي حرمها ومقتها وأبغضها، ومعاداة العصاة والكفرة الذين أبغضهم وكرههم ومقتهم، فمن كان كذلك فإنه من أحباب الله الذين وعدهم الله تعالى بالثواب العظيم، جاء في الحديث القدسي يقول الرب تعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)، هكذا ورد في هذا الحديث، ومعنى كون الله تعالى إذا أحبه يقول: (كنت سمعه... إلخ) أي: أنه لا(3/68)
يسمع إلا ما يحبه الله، ولا يبصر إلا ما يحبه الله، ولا يمد يده ويبطش إلا في طاعة الله، ولا يحرك قدمه ماشياً إلا فيما أمر الله به وأحبه.
شرح العقيدة الطحاوية [56]
ذكر أهل العلم مسألة المسح على الخفين في كتب العقائد لأن إنكارها صار شعاراً لبعض أهل البدع، كما ذكروا فيها وجوب غسل القدمين في الوضوء لكون الرافضة لا يغسلون أقدامهم عند الوضوء.
وجوب تحقيق الأخوة والاجتماع بين المسلمين
…
تقدم لدينا ما يتعلق بحث الإسلام وتحريضه على الاجتماع ونهيه عن الافتراق، وحثه على الائتلاف وتحذيره من الاختلاف، وذلك أن المسلمين كلما كانوا مجتمعين، وكلما كانت كلمتهم واحدة؛ كان نفوذ كلمتهم أقوى من غيرهم ممن خالفهم، وكلما تفرقت كلمتهم وتشتت أهواؤهم، واختلفت آراؤهم، ضعفت معنويتهم، وقوي عليهم أعداؤهم، فلأجل ذلك جاء الإسلام يحث على الاجتماع، قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] فأمر بالاجتماع، ونهى عن التفرق، والتفرق يعم تفرق الأبدان وتفرق الأهواء والآراء والمذاهب والشيع والفرق والأحزاب، يعم ذلك كله، ويقول تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105] (تَفَرَّقُوا) أي: تفرقت كلمتهم، (وَاخْتَلَفُوا) أي: اختلفت آراؤهم، واختلفت أهواؤهم، وقد امتن الله تعالى على المؤمنين بأن جمعهم على كلمة التوحيد، وألف بين قلوبهم، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:62-63] أي: جمع بينهم، ورزقهم المحبة والألفة، بحيث إن بعضهم يؤثر أخاه المسلم على نفسه، وعلى ولده، وعلى أحبابه وأحفاده وأنسابه وأقربائه، وذلك لما في قلبه من الود(3/69)
والرحمة للمسلمين عموماً. ولا شك أن هذه الأوصاف كلما تأكدت وقويت وثبتت كان المسلم مؤثراً لإخوته، ومقدماً لهم، ومحباً لهم غاية الحب، ومقدماً لمصالحهم، وإذا كانوا مجتمعةً كلمتُهم، ومتآلفين على كلمة التقوى؛ نتج من ذلك تعاونهم على البر والتقوى، وتعاونهم على تنفيذ كلمة الله، وعلى إظهار شعائر دينه، وكلما كانوا كذلك ضعف أعداؤهم وتخاذلوا وتفرقوا، وحصل النصر والتمكين للمؤمنين، والتفرق والانهيار للكافرين، وهذه سنة الله.......
خطورة الاختلاف والتفرق
…(3/70)
اختلاف الكلمات واختلاف الآراء والأهواء سبب للتعصب، فيتعصب كل لرأيه، ولمذهبه، ولهواه، وهذا يحدث في أهل البدع، فإن هذه الطائفة إذا كانت تنتحل بدعة وتهواها وتفضلها فإنها لا تقبل ممن خالفها، بل ترى أن من خالفها على باطل وعلى ضلال، ونشاهد -مثلاً- الذين يسمون أنفسهم شيعة وهم الروافض، نشاهدهم يتآلفون فيما بينهم، ويحب بعضهم بعضاً، ويقدم بعضهم بعضاً ربما على نفسه، كما حكى لي أحد أهل السنة في هذا المسجد أنهم جماعة من أهل السنة نحو المائة أو المائتين، وحولهم من الرافضة أكثر من عشرين ألفاً، فهؤلاء الرافضة تأتيهم الإمدادات ويأتيهم العون من الشيعة في العراق وإيران والمملكة، ويشجعونهم. والواجب أن أهل السنة يشجعون أهل السينة ويثبتونهم ويواسونهم، ويعطونهم ويمكنونهم؛ لأنه تجمع بينهم الأخوة الدينية التي هي أخوة الإسلام، فإذا كان أهل الباطل يجتمعون ويتناصرون على مذهبهم، الذي هو في الحقيقة باطل، ولكنه عمي عليهم، وزين لهم أنه حق، فما بال الذين هم على الحق وعلى الصراط؟! قرأت في بعض الكتب أن المسلمين في أول القرن الثاني، لما كانوا في خراسان مجتمعين من جهات متعددة، فإذا لم يغزو ولم يذهبوا إلى قتال أعدائهم وقع الاختلاف بينهم، وأخذوا يتفاخرون، وكل يتعصب لقبيلته، وكل يتعصب لمذهبه، وكل يتعصب لأميره ولشيخه، ويحصل بينهم تشتت واختلاف أهواء، وربما حصل بينهم تقاتل أو تناوش أو ما أشبه ذلك، فجاءهم أمير ناصح مخلص، وجمع كلمتهم، ووحد وجهتهم إلى قتال أعدائهم، وتوجهوا كلهم نحو الأعداء؛ عند ذلك زالت العداوة والبغضاء التي كانت بينهم، وصاروا إخوة متآخين متوجهين إلى العدو الذي هو أكبر الأعداء، العدو في الدين، فكانت هذه الفعلة التي يفعلها أولئك القادة -من جمعهم على التوحيد- أعظم نصيحة حتى يقاتلوا أعداءهم. فنحن نحث المسلمين أن تجتمع قوتهم وتتوجه نحو أعدائهم، سواء الأعداء الكفار أو الأعداء المبتدعون، أو نحوهم. وننهاهم(3/71)
عن التمادي في اختلاف الآراء والأهواء، وقد مر بنا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مرة على أصحابه وهم يتنازعون في القدر وقد اختلفوا، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، يعني: من شدة الغضب، فقال: (لا تختلفوا فتختلف قلوبكم، أبهذا أمرتم؟! أم بهذا كلفتم؟! ما عرفتم فقولوا به، وما لم تعرفوا فكلوا أمره إلى عالمه)، فنهى عن اختلاف الكلمة في مسألة القدر.
مقومات الوحدة والتآلف بين المسلمين
…
الإسلام جاء بجمع الكلمة والحث على الجماعة، فحثهم على الألفة فيما بينهم، والأسباب التي بها يتآلفون، ويتعارفون، ويتآخون كثيرة منها: أولاً: يتعارفون لأنهم مسلمون، ويتحابون لأجل الإسلام. ثانياً: يتعارفون ويتآلفون؛ لأن قصدهم وهدفهم واحد، وهو أن كلاً منهم يطلب الأجر الأخروي، ويطلب النصر من الله تعالى على الأعداء. ثالثاً: أن كلاً منهم يدين بدين واحد فيجمعهم هذا الدين، فإذا دانوا بدين واحد فإن عليهم أن يتحابوا في ذات الله تعالى، ويزيلوا الأسباب التي توقع بينهم العداوة والبغضاء، وبذلك يتآلفون ويتحابون فيما بينهم. وكما أنهم مأمورون على اختلاف طبقاتهم وجنسياتهم أن يتحابوا وأن يجتمعوا ولو تفرقت بلادهم، ولو تناءت أماكنهم، فإنهم أيضاً مأمورون بمقاطعة أعدائهم، وبمباينتهم، وبغضهم، والابتعاد عنهم، وإذلالهم، سواء كانوا مبتدعة أو كفرة أو مشركين، فإنهم إذا رأوا منهم الغلظة والشدة والبغضاء والكراهية ذلوا وهانوا، وهانت عليهم أنفسهم، وعرفوا عزة الإسلام ورفعته وتمكنه وعزة أهله؛ فأذعنوا له وانقادوا إما طوعاً وإما كرهاً، وهذه الأمور مجربة في الأزمنة المتقدمة والقرون الماضية، فإن المسلمين كلما اجتمعوا وأظهروا لأعدائهم المقت والاحتقار ذل الأعداء وقوي الأولياء، وارتفعت كلمة الله، وانخفضت كلمة المشركين.
خطورة القول على الله بغير علم
…(3/72)
قال الشارح رحمنا الله وإياه: [قوله: (ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه.) تقدم في كلام الشيخ رحمه الله تعالى أنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد ما اشتبه عليه إلى عالمه، ومن تكلم بغير علم فإنما يتبع هواه، وقد قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ [القصص:50]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:3-4]، وقال تعالى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]. وقد أمر الله نبيه أن يرد علم ما لم يعلم إليه، فقال تعالى: قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:26]، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ [الكهف:22]، وقد قال صلى عليه وسلم لما سئل عن أطفال المشركين: (الله أعلم بما كانوا عاملين). وقال عمر رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، فلو رأيتني يوم أبي جندل ، فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله برأيي، فأجتهد ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل والكتاب يُكتب، وقال اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قال: اكتب: باسمك اللهم، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب وأبيت، فقال: (يا عمر ! تراني قد رضيت(3/73)
وتأبى؟!) وقال أيضاً رضي الله عنه: (السنة ما سنه الله ورسوله، ولا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة). وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إن قلت في آية من كتاب الله برأيي، أو بما لا أعلم). وذكر الحسن بن علي الحلواني حدثنا عارم حدثنا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر ، ولم يكن بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر رضي الله عنه، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً، ولا في السنة أثراً، فاجتهد برأيه، ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني وأستغفر الله]. هذه مسألة جديدة، وهي: مسألة الفتيا بغير علم، والجرأة على الفتيا، والقول في الشرع بغير علم ذنب كبير، وقد روي عن بعض السلف، وروي مرفوعاً: (أجرأكم على الفتيا أجرأكم على النار) يعني: الفتيا بغير علم؛ وذلك لأن الذي يتكلم ويقول في الشرع وفي الدين برأيه وبهواه وبما يستحسنه، ينصب نفسه مشرعاً، وكأنه نائب عن الله، ومزاحم للرب تعالى في شرعه، يقول: أحل الله كذا، وحرم كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وليس عنده مستند، وإنما يعتمد على ما يستحسنه، وما يراه في هواه ملائماً لواقعه، أو نحو ذلك، فلا جرم أن كان هذا ذنباً كبيراً، حتى قال بعضهم: القول على الله بلا علم أكبر من الشرك، واستدلوا بهذه الآية التي في سورة الأعراف، والتي حرم الله فيها خمسة أشياء، فبدأ بالأسهل ثم الذي فوقه إلى أن أتى إلى أعلاها وأشدها تحريماً، فقال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ َ [الأعراف:33] فهذا التحريم الأول، ثم جاء بعده ما هو أشد منه: وَالإِثْمَ [الأعراف:33] فالإثم أشد من الفواحش، ثم جاء بعد الإثم ما هو أشد منه تحريماً فقال: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:33] والبغي: الاستطالة على الناس بغير حق، فهو(3/74)
أكبر من الإثم، ثم جاء بعد البغي أكبر منه: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً [الأعراف:33]، ثم جاء بعد الشرك أكبر منه: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فجعل القول على الله أكبر الخمسة التي حرمت في هذه الآية؛ وذلك لأن الذي يقول على الله كأنه رفع نفسه فوق الأنبياء، ورفع نفسه فوق العلماء، وجعل نفسه مشرعاً يحلل ويحرم ويقول على الله ما ليس له به علم. ......
منهج السلف في الإفتاء
…(3/75)
كان العلماء الجهابذة الذين بلغوا الذروة في المعرفة، وكانوا على جانب من الورع، يسأل كثير منهم فيتوقفون في المسألة إذا لم يكن فيها دليل صريح واضح، يردها هذا إلى هذا إلى أن يتولى الفتيا والقول فيها أحدهم، فيكتفي به عن نفسه. وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يتلو الآية التي في سورة النحل وهي قول الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [النحل:116] الذين يقولون: هذا حلال بأهوائهم، وهذا حرام بأهوائهم، بدون دليل، يقول: إن هذا من الافتراء والكذب على الله تعالى، والقول عليه بغير علم، والآيات التي تقدمت كلها تدل على النهي عن أن يقول الإنسان على الله بغير علم. ذكروا أن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة الذي كانت تضرب إليه آباط الإبل، وكان هو المرجع في زمانه، سأله مرة قوم عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع مسائل، وتوقف عن ست وثلاثين مسألة! فقالوا له: أتتوقف وتقول: لا أدري وأنت مالك بن أنس؟! فقال: نعم، لا أدري، لا أدري، قولوا: مالك بن أنس لا يدري، قولوا: مالك يقول: لا أدري. وكان كثير من العلماء يحثون على التوقف عن المسائل، فيقولون: من أخطأ (لا أدري) أصيبت مقاتله، أي: أنه إذا صار يفتي ولا يتوقف، ويستحيي أن يقول: لا أدري، فإنه قد تصاب مقاتله، بأن يزل مرة هنا، ومرة في هذه المسألة، ويحاسبه الله تعالى على أقواله بغير علم، فيقع في الهلاك والعياذ بالله، فالذي عنده علم بالمسألة، وعنده يقين بحكمها، ودليل عليها، وسئل عنها، لا يجوز له السكوت، ولا يجوز له التوقف، بل يقول بموجب علمه بالدليل، ولا يكتم العلم لقوله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من النار)، أما إذا سئل وهو لا يعلم، وليس عنده خبرة بهذه(3/76)
المسألة، فلا يجوز له الإقدام عليها، بل يحيله إلى من هو أعلم منه، وإلى من عنده علم بتفصيل هذه المسائل ونحوها. ولقد اعتنى علماء الإسلام بهذه المسائل التي يمكن أن تقع، اعتنوا بها غاية الاعتناء، واجتهدوا في بيانها، وفي إيضاحها أتم الاجتهاد، والحقوا كل مسألة بنظيرها، فلم يبق لأحد قول، فأنت إذا سئلت عن مسألة فارجع إليها في كتب أهل العلم، وقل: هذه المسألة أفتى فيها العالم الفلاني بكذا، والشيخ الفلاني بكذا، ويوجد بيانها في الكتاب الفلاني، وتورع أنت أن تستحسن فيها أو تقول فيها، يقول بعضهم: وقل إذا أعياك ذاك الأمر ما لي بما تسأل عنه خبر فذاك شطر العلم فاعلمنه واحذر هديت أن تزيغ عنه يقولون: إن كلمة (الله أعلم) شطر العلم، كأن الذي تعلم مسائل كثيرة، وقرأ العلوم المتنوعة، قرأ في التفاسير، وقرأ في كتب الحديث، وقرأ في كتب الآداب والأحكام، وقرأ في كتب العقائد، وحصّل منها معلومات، يقال له: أنت لم تحصل إلا على علم قليل يسير، ولذلك يقول بعضهم: وليس كل العلم قد حويته أجل ولا العشر ولو أحصيته ولو أحصيته ما حصلت إلا على العشر أو أقل من عشر العلوم، فالعلوم واسعة، وما ظفرت منها إلا بنزر يسير، فعليك أن تقتصر على ما تعلمه وتتحققه وتتيقنه.
إذا اجتهد العالم فأخطأ فله أجر
…(3/77)
هناك مسائل فيها مجال للاجتهاد، ولأجل ذلك اختلفت فيها آراء العلماء، واختلفت فيها المذاهب، فذهب فيها الصحابي الفلاني إلى كذا، والصحابي الآخر إلى كذا، وذهب فيها الإمام أبو حنيفة إلى كذا، والإمام مالك إلى كذا، والشافعي إلى كذا، هذه المسائل فيها مجال للاجتهاد والاختلاف، وقد حصلت بسبب اختلاف الأفهام، واختلاف الآراء، وسعة المعلومات أو قلتها، فهذا هو السبب، ونحن نعذر الذين خالفوا الدليل، وأفتوا بخلافه، نعذرهم ونقول: هذا ما وصل إليه اجتهادهم، فهم قالوا عن اجتهاد، وقد اضطروا إلى القول فيها، وإلى الحكم بما يلزم السائل، وكانت واقعة لابد من الفتيا فيها، فاجتهدوا، ولو خالفوا الدليل فهم معذورون بهذا الاجتهاد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد عذر المجتهد في قوله: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد) يعني: على اجتهاده يعني: أنه معذور ومغفور له ذلك الخطأ، ومع ذلك يحصل له هذا الأجر. ولكن ليس ذلك لكل أحد، فالذي لم يتأهل للاجتهاد، ولم يصل إلى رتبة المعرفة، ولم يكن من أهل الإتقان، ولم يعرف مراجع المسائل، ولا تفاصيل الأدلة، ولا وجوه الاستدلال، ولا ثبوت الأدلة أو عدم ثبوتها، ولا يعرف الجمع بين مختلفها، ولا يعرف متقدمها ومتأخرها، ولا يفرق بين خاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها.. وما أشبه ذلك؛ فهذا لا يفتي إلا بالشيء الذي قد اتضح عنده حكمه كالشمس، أما الباقي فعليه أن يتوقف حتى لا تنطبق عليه هذه الآيات التي استدل بها الشارح رحمه الله، وكذلك الآيات التي أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم برد العلم إلى الله، مثل قوله: قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26]، فنحن نقول: الله أعلم، ونقول كما قالت الملائكة: لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32]. والله تعالى يذم الذين يجادلون في آيات الله بغير علم، فدل على أنهم إذا كان عندهم علم وجادلوا فإنهم يجادلون مجادلة(3/78)
حسنة، وأما الذين يجادلون بغير علم فإنهم مذمومون: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج:3-4] يعني: أنه في هذه المجادلة قد اتبع الشيطان. وبكل حال فالعلوم والحمد لله مدونة وموجودة وميسرة، والعلماء هم الذين يعرفون مراجعها، ويعرفون الراجح منها والمرجوح، ومن كان معه أهلية، وأخذ العلم من مظانه؛ فله أن يقول به، ولا يتبع غيره ممن لم يتمكن؛ ومن لم يكن عنده أهلية رجع إلى أهل العلم، وقال بما قالوا به، أو بما وصلت إليه أفهامهم واجتهاداتهم.
مسألة المسح على الخفين
…
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر، كما جاء في الأثر). تواترت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين، وبغسل الرجلين، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة، فيقال لهم: الذين نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء قولاً وفعلاً، والذين تعلموا الوضوء منه وتوضئوا على عهده وهو يراهم ويقرهم، ونقلوه إلى من بعدهم، أكثر عدداً من الذين نقلوا لفظ هذه الآية، فإن جميع المسلمين كانوا يتوضئون على عهده، ولم يتعلموا الوضوء إلا منه، فإن هذا العمل لم يكن معهوداً عندهم في الجاهلية، وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى، ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين فيما شاء الله من الحديث، حتى نقلوا عنه من غير وجه في كتب الصحيح وغيرها أنه قال: (ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار)، مع أن الفرض إذا كان مسح ظاهر القدم، كان غسل الجميع كلفة لا تدعو إليها الطباع، كما تدعو الطباع إلى طلب الرياسة والمال، فلو جاز الطعن في تواتر صفة الوضوء، لكان في نقل لفظ آية الوضوء أقرب إلى الجواز].......
سبب ذكر مسألة المسح على الخفين في كتب العقائد
…(3/79)
هذه مسألة فروعية، ومع ذلك ذكرت في العقائد، وهي مسألة المسح على الخفين، يذكرها الفقهاء في أبواب الطهارة، يقولون: باب المسح على الخفين، ويذكرون أحكام ذلك، والناس يسمعون ذلك ويفهمونه ويعرفونه، فهي من المسائل الفروعية، مثل: باب التيمم، ومثل باب الغسل من الجنابة وموجباته، ومثل: إزالة النجاسة وخصال الفطرة، وما أشبه ذلك. فلماذا ذكرت في كتب العقائد كهذا الكتاب وهي مسألة فرعية تتعلق بالطهارة؟ الجواب: لأن الخلاف فيها مع المخالفين في العقيدة، فالذين خالفوا فيها خالفوا في أكثر العقائد، وردوا السنة الصحيحة الصريحة في كثير من الأحكام الثابتة، وطعنوا في الذين يفعلونها، وخالفوا الأدلة. الذين خالفوا في هذه السنة هم الرافضة الذين يسمون أنفسهم شيعة، يقولون: إنهم شيعة علي ، يعني: أعوان علياً، مع أن علي رضي الله عنه بريء منهم ومن مشايعتهم، وهم في الحقيقة ما شايعوه ولا نصروه، بل خذلوه وخذلوا أولاده، ولم يكن منهم نصر له ولا معاونة له ولا لأهله في زمن من الأزمان، ولكن زين لهم الشيطان أعمالهم فسموا أنفسهم شيعة علي ، وأهل السنة يسمونهم رافضة؛ وذلك لأنهم رفضوا الحق، يعني: تركوا السنة وهم يعرفونها، سواء أوائلهم وأواخرهم، ولكنهم عاندوا في تركه ورفضه، فصدق عليهم اسم الرفض. وقولهم في هذه المسألة قول باطل؛ وذلك لأنهم خالفوا المسلمين في أمرين: في غسل الرجلين، وفي المسح على الخفين، فهم لا يرون غسل الرجلين، فإذا كانت الرجل بارزة لا يرون غسلها، بل يمسحون الرجل كما يمسحون الرأس، هذا مذهبهم، فإنهم قد خالفوا السنة الصريحة في غسل القدمين إذا كانتا مكشوفتين، وخالفوا السنة الصريحة في مسح الخفين إذا كانا على القدمين، فخالفوا مرتين؛ فلأجل ذلك أنكر عليهم السلف، وأساءوا بهم الظن، وحذروهم وحذروا منهم، روي عن ابن المبارك رحمه الله أنه كان يقول: إذا رأيت الرجل يسأل عن حكم المسح على الخفين أسأت به الظن، يعني: اتهمته في(3/80)
معتقده، خوفاً أن يكون من هؤلاء الشيعة؛ وذلك لأنه لم يكن أحد من أهل السنة المتمسكين بها يشك في حكم المسح على الخفين وفي جوازه؛ لأنه متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نقله عنه جمع عن جمع، وأعداد عن أعداد، وتلقاه المسلمون وتقبلوه، فروي في المسح أكثر من أربعين حديثاً.
تواتر أحاديث المسح على الخفين
…
يقول الإمام أحمد رحمه الله: ليس في نفسي من المسح على الخفين شيء، فيه أربعون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي من الأحاديث الصحيحة التي لا توقف فيها ولا ارتياب. وهناك أحاديث كثيرة قد يكون فيها مقال، ولكن يستدل بها أيضاً، وقد أوصلها بعضهم إلى ستة وخمسين حديثاً كما في نصب الراية، قال الحسن البصري رحمه الله -وهو أحد كبار التابعين-: حدثني سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين وأمر به، فما دام أنها سنة ثابتة متواترة مشهورة ليس فيها اختلاف، وليس في ثبوتها تردد، فكيف -مع ذلك- ينكرها هؤلاء الرافضة؟! لا شك أن سبب إنكارهم هو أن الذين قالوا بها من أهل السنة، وهم يردون على أهل السنة، ولا يقبلون شيئاً مما جاء به السنيون، وهذا موجود إلى الآن، حدثني أحد المدرسين في الأحساء، في مدرسة متوسطة فيها من أولاد الشيعة وأولاد أهل السنة، يقول: ألقيت عليهم اختباراً شهرياً، وهو ما يسمى: بأعمال السنة، ولما ألقيته اخترت مسائل في المسح على الخفين، فكانت أجوبتهم على ما في الكتب، ولكن في النهاية قال له أحدهم: اعلم أيها المدرس أني أجبتك على ما في الكتاب، وإلا فأنا لا أقول بهذا، ولا أعتقده، ولا أصدقه، ولو قلتم ما قلتم يا أهل السنة، فلن نذهب إلى مذهبكم ولا نقبل منكم! مع أنه طالب لا يزال في المتوسطة! ويتلقى العلوم عن مدرسين من أهل السنة! ولكن لما كان الذين يلقنونهم عقيدتهم على تلك العقيدة، لم يتقبلوا حتى هذه المسألة الفرعية، التي هي من فروع المسائل؛ وذلك لأن الذين نقلوها من الصحابة(3/81)
الذين يطعن فيهم الرافضة، فالرافضة لا يقبلون كلام أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا طلحة والزبير ، ولا عبد الرحمن بن عوف ، ولا أبي عبيدة ، ولا غيرهم من أكابر الصحابة، ولا رواية أبي هريرة ولا عائشة ولا حفصة ، لا يقبلون رواية أولئك؛ لأنهم يعتقدون أنهم كفار! فردوا هذا كلياً، ولم يقبلوا أحاديث المسح على الخفين أصلاً. هذا قولهم في المسح على الخفين، أما أهل السنة فيقولون: هذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي علمنا الشريعة، وتلقينا عنه علومها، تلقينا عنه الصلاة وكيفيتها وعددها، ولم يكن ذلك مبيناً في القرآن، من الذي أخبرنا أن صلاة الظهر أربعاً إلا الرسول صلى الله عليه وسلم؟ من الذي أخبرنا أن صلاة الفجر ركعتان، وصلاة المغرب ثلاث ركعات؟ من الذي أخبرنا أن في كل ركعة سجدتان، وأن في كل سجدة دعاء كذا وكذا؟ لا شك أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي علمنا صفة الصلاة، وعلمنا الطهارة وكيفيتها، وكيفية الغسل وموجباته وما أشبه ذلك. وما دام أنه الذي علمنا ذلك فهو الذي علمنا سنة المسح على الخفين، ونقلها عنه صحابته الذين نثق بهم، والذين نعرف أنهم صحبوه مدة طويلة، وأنهم أخذوا عنه العلوم الشرعية، فنقلوا عنه العلوم الشرعية الفرعية والأصولية نقلاً تاماً، وتثبتوا في نقلها، فلا يتهمون بكذب، ولا يتهمون بنقص ولا زيادة ولا خيانة، فما داموا كذلك فكيف تتوجه إليهم التهم؟ فنحن نقبل هذه السنة كما قبلنا بقية السنن، فما الفرق؟! إذا كنا قبلنا ما نقلوه في العقيدة فكذلك نقبل ما نقلوه في الأحكام، وما نقلوه في الفروع، فهي سنة ثابتة متواترة لا شك فيها عند أهل السنة.
مسألة غسل القدمين في الوضوء
…(3/82)
الرافضة لا يغسلون القدمين في الوضوء ولو كانتا مكشوفتين، بل يكتفون بمسحهما، ويستدلون بقراءة الجر: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم) وأهل السنة يحملون الجر على أنه للمجاورة، ويستدلون بقراءة النصب وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة:6] يعني: واغسلوا أرجلكم. أهل السنة يرون غسل القدمين، وأنها تغسل كما تغسل اليدين إلى المرفقين، ويستدلون بالسنة؛ وذلك لأنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ غسل قدميه، ولم ينقل عنه أنه مسحهما وهما ظاهرتان، ولم ينقل عنه المسح إلا على الخفين، أما إذا لم تكن في الخفين فإنه يغسلهما، هذا هو الذي تواتر عنه، وقد رواه عنه الأعداد الكثيرة من الصحابة، ورواه عن الصحابة التابعون، وتلقته الأمة بالقبول قولاً وعملاً، واشتهر ذلك وانتشر فيما بين المسلمين، وجاءت الرافضة فأنكروا ذلك، وقالوا: نقتصر على المسح! وسبب ذلك أنهم لا يقبلون -كما قلنا- أحاديث الصحابة؛ لأنهم في زعمهم كفار ارتدوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم! هذه عقيدهم قاتلهم الله، فهم يكفرون الصحابة! إذاً: أهل السنة عملوا بالسنة المتواترة في المسح على الخفين، وفي غسل القدمين إذا لم يكن عليهما خفان، وخالفهم الرافضة في ذلك. وبكل حال هذه مسألة فرعية ليست من المسائل الاعتقادية؛ وذلك لأن العقائد إنما تكون في الأمور التي هي من الأمور الغيبية وما أشبه ذلك، كأمور الآخرة ونحوها، وأما مسائل الفروع كالصلاة والطهارة وما أشبهها فإنها تسمى فروعاً، ومع ذلك قد تدخل في الأصول، إذا كانت أدلتها قطعية يقينية، مثل أدلة المسح على الخفين فإنها قطعية، فقد ثبت فيها أربعون حديثاً، ووصلت إلى ستة وخمسين بما فيها من الروايات المنقطعة التي وصلت من طرق أخرى، والضعيفة التي جبرت بالتواتر، أو نحو ذلك، فأصبح الدليل يقينياً وليس ظنياً، ثم إن الذين عملوا به واتبعوه من الصحابة هم الذين نقلوا لنا كتاب الله، ونقلوا لنا سنة(3/83)
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ......
الأدلة على وجوب غسل القدمين
…
قال الشارح رحمه الله تعالى: [واذا قالوا: لفظ الآية ثبت بالتواتر الذي لا يمكن فيه الكذب ولا الخطأ، فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه أولى وأكمل، ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنة، فإن المسح كما يطلق ويراد به الإصابة، كذلك يطلق ويراد به الإسالة، كما تقول العرب: تمسحت للصلاة، وفي الآية ما يدل على أنه لم يرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل، بل المسح الذي الغسل قسم منه، فإنه قال: إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]ولم يقل: إلى الكعاب، كما قال: إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6] فدل على أنه ليس في كل رجل كعب واحد، كما في كل يد مرفق واحد، بل في كل رجل كعبان، فيكون تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين، وهذا هو الغسل، فإن من يمسح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين، وجعل الكعبين في الآية غاية يرد قولهم، فدعواهم أن الفرض مسح الرجلين إلى الكعبين اللذين هما مجتمع الساق والقدم عند معقد الشراك؛ مردود بالكتاب والسنة، وفي الآية قراءتان مشهورتان: النصب والخفض، وتوجيه إعرابهما مبسوط في موضعه، وقراءة النصب نص في وجوب الغسل؛ لأن العطف على المحل إنما يكون إذا كان المعنى واحداً، كقوله: فلسنا بالجبال ولا الحديد. وليس معنى: مسحت برأسي ورجلي هو معنى مسحت رأسي ورجلي، بل ذكر الباء يفيد معنى زائداً على مجرد المسح، وهو إلصاق شيء من الماء بالرأس، فتعين العطف على قوله: (وأيديكم) فالسنة المتواترة تقضي على ما يفهمه بعض الناس من ظاهر القرآن، فإن الرسول بين للناس لفظ القرآن ومعناه، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما: أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي وصلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا معناها. وفي ذكر المسح في الرجلين تنبيه على قلة الصب في الرجلين، فإن(3/84)
السرف يعتاد فيهما كثيراً، والمسألة معروفة، والكلام عليها في كتب الفروع]. هذا يتعلق بغسل القدمين، والإنكار على من يمسح القدمين كالرافضة، فهم يستدلون بقراءة الخفض: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ [المائدة:6]. والجواب: أننا أيضاً نستدل بقراءة النصب: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فالقراءتان تفسر إحداهما الأخرى، هذا من جهة. ومن جهة ثانية: أن المسح يطلق على الغسل، فيسمى الغسل مسحاً، تقول العرب: تمسحت للصلاة، يعني: غسلت أعضائي غسلاً خفيفاً، فالأمر بقوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) أي: اغسلوها غسلاً خفيفاً، قيل: إن سبب ذلك: أن القدمين مظنة الإسراف؛ لأنهما قد يحتاجان إلى كثرة صب الماء فيهما، فلأجل ذلك نهي عن الإسراف في صب الماء، فأمر بالغسل الخفيف الذي هو شبيه المسح. ودليل ثالث: وهو أن الله حدد موضع الغسل ونهايته في اليدين وفي الرجلين، ففي اليد قال: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، ومعلوم أن التحديد يدل على أنه مغسول، فتغسل اليد إلى المرفق، ثم قال: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] فدل على أنها تغسل إلى الكعبين، حيث ذكر النهاية، ولم يذكر ذلك في الرأس، بل قال: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) ولم يقل: إلى القفا، ولا إلى العنق، ولا إلى الأذن، بل أطلق بقوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ)، فالمسح لم يذكر له تحديداً، والغسل ذكر له تحديداً بقوله: (إلى الكعبين)، والكعبان: هما العظمان الناتئان في ظاهر القدم، وفي كل رجل كعبان، والرافضة يقولون: إن الكعب هو العظم الذي في المفصل، وهو كعب واحد، يعني: يقولون: إن في كل رجل كعب واحد وهو العظم الذي في المفصل، الذي بين القدم وبين الساق، ولو كان كذلك لقال: إلى الكعاب، كما قال: إلى المرافق، وبكل حال فتفصيل هذه المسألة -كما ذكر الشارح- في كتب الفروع، فلا نطيل فيها، والمسألة ظاهرة جلية والحمد(3/85)
لله.
شرح العقيدة الطحاوية [57]
من الفرق التي تخالف أهل السنة فرقة الرافضة، فهم ينكرون السنة ويطعنون في نقلتها، حتى ردوا ما هو متواتر كمسح الخفين، وخالفوا في الإمامة فاشترطوا عصمة الإمام وحصروا الإمامة في اثني عشر رجلاً من آل البيت، لم يتولوا على المسلمين ولا حصل بهم الاستصلاح المزعوم.
مجمل القول في مسألة الولاء والبراء وآثارها
…
كان من جملة ما مر بنا من أمور العقيدة: مسألة المحبة والبغض، والولاء والبراء، وهو أن أهل السنة يحبون أهل الإيمان وأهل التقوى، ويبغضون أهل الكفر والعناد، يحبون أهل الطاعات، ويبغضون أهل المعاصي، وينتج من آثار هذا: الولاء لمن يحبونه، والبغضاء والمعاداة لمن يبغضونه، ويكون الولاء والبراء هو آثار الطاعات وآثار المعاصي. ولا شك أن هذه سمة وصفة مدح الله بها أولياءه، ومدح بها صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم لما ألف الله بينهم، وجمعهم على الإيمان وعلى تقوى الله تعالى؛ تآلفوا فيما بينهم، وصار بعضهم يحب بعضاً ويألف بعضهم بعضاً، ويوالي بعضهم بعضاً، ويقرب بعضهم بعضاً، بل وصفهم الله تعالى بقوله: يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، وهل هناك وصف أكبر من هذا الوصف؟! (يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) يقدمون إخوتهم في ذات الله تعالى على مصالحهم الدنيوية، ويقدمونهم على شهواتهم الدنيوية، فيؤثر أحدهم أخاه بالطعام ويبيت جائعاً! ويؤثره بالشراب ويبيت ضمآن، ويؤثره بالكسوة الجميلة، ويؤثره بالمكان المريح، ويؤثره بالمركب اللين، وذلك من باب المحبة التي رسخت في قلوبهم، فهم لما أحبوا الله تعالى أحبوا أولياءه، وأحبوا من يحبه، ومحب المحبوب محبوب، هكذا وصفهم الله تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63] مع تباعدهم في الأرحام، وتباعدهم في(3/86)
الأنساب، وتباعدهم في البلاد، ولكن جمعهم وصف الإيمان، فتآلفت قلوبهم، ولو كانوا قبل ذلك متعادين ومتقاتلين ومتناحرين، فقبل الإسلام كان بعضهم ينهب بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، ويقتل بعضهم بعضاً، وذلك لأنه لم يوجد إيمان يؤلف بينهم، ولم يوجد إيمان يجمع بينهم. فلما مَنَّ الله عليهم بهذا الإيمان تآلفوا وتقاربوا، وتآخوا، وهذا من الله تعالى لا من خلقه، ولهذا امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعهم عليه فقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:62-63]، فتأليف القلوب هو اجتماعها وتحابها وتوادها، ولو كانوا متباينة أنسابهم، فبعضهم من الحبشة كبلال ، وبعضهم من الروم كصهيب ، وبعضهم من الفرس كسلمان ، وبعضهم من العرب، وبعضهم من العجم، ولكن جمعهم الوصف الوحيد الذي هو الإيمان بالله تعالى، فلنا بهم قدوة، فعلى كل المسلمين في كل زمان وفي كل مكان أن يتآلفوا فيما بينهم، ويتوادوا ويتحابوا. ومن آثار التواد لأجل الإيمان: البغض لأجل الكفر والنفاق، وذلك لأن الكفر والإيمان ضدان لا يجتمعان، فلا يجتمع أن تحب الله وتحب أعداءه، فإذا أحببت الله أحببت أولياءه أهل طاعته، وإذا أحببت أولياءه فلابد أن تبغض أعداءه، ولابد أن تبغض من يبغضهم الله، وتقاطعهم وتعاديهم، وتبتعد عنهم كل الابتعاد، وذلك لأن ربك الذي أنعم عليك يبغضهم، وأنت تبغضهم لأجل ذلك، ومبغض المبغوض عند المحبوب مبغوض، الذين يبغضهم محبوبك لابد وأن تبغضهم. وهذا ما جرى للصحابة ومن بعدهم، فإن الله تعالى مدحهم فقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] لا تجدهم يوادون أهل المحادة، لا تجدهم إلا(3/87)
يباعدونهم ويبغضونهم، وتجدهم قد مقتوهم وحقروا شأنهم، وكرهوا مجالستهم، وقطعوا الصلة بهم، ونفروا ونفَّروا منهم، وأذلوهم وحرصوا على إهانتهم بكل ما يستطيعون، وإذا استطاعوا أن يقاتلوهم قاتلوهم ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم أو عشيرتهم، ضرب الله مثلاً بهؤلاء الذين هم أقرب الأقارب، فإذا كان الله تعالى يبغضهم لأجل كفرهم، ولأجل معصيتهم، ولأجل خروجهم عن الاستقامة، فإن المؤمن يبغضهم، ولو كانوا أقارب، لأجل الخروج عن طاعة الله. ......
مجمل القول في مسألتي المسح على الخفين وغسل القدمين
…(3/88)
وكذلك مرت بنا مسألة فرعية، وذكرنا أنها أدخلت في الأصول لأجل أن الخلاف فيها مع المخالفين في الأصول، وهي مسألة المسح على الخفين، وذلك لأن الرافضة أنكروا المسح على الخفين، وصاروا يمسحون على القدمين مكشوفتين، فتركوا سنة وارتكبوا بدعة. ولما كانوا مخالفين في العقيدة، مخالفين في محبة الصحابة رضي الله عنهم بل يبغضونهم! وبينما يغلون في بعض الصحابة ويعبدونهم، فقد ترتب على ذلك المخالفة في المسح على الخفين، فذكرت في العقائد. والرافضة كانوا مخالفين لنا في هذه السنة التي هي جواز المسح على الخفين، فكانوا لا يرون ذلك ولا يعتقدونه، وأضافوا إلى ذلك بدعة، وهي أنهم يمسحون على القدمين المكشوفتين! فهم لا يقبلون السنة، ولا يعملون بالأحاديث الصحيحة التي في البخاري ومسلم ، بل لا يعترفون بالبخاري ومسلم، ولا بأكثر الأسانيد التي ذكرت في هذه الكتب. فلما كان الأمر كذلك لم يقبلوا هذه السنة، مع أنها سنة مأثورة متواترة راوها عن النبي صلى الله عليه وسلم جمع غفير، ورواها عن الصحابة أكثر وأكثر، واشتهرت في عهد التابعين وأتباع التابعين، وعمل بها أهل السنة في كل الأمصار وفي كل البلاد، وعلى اختلاف الطبقات، وانفردت الرافضة بأن أنكرت هذه السنة رغم شهرتها، فلأجل ذلك صار الذين ينكرونها محل سوء ظن، وكما أن ابن المبارك يقول: إن الرجل ليسألني عن حكم المسح على الخفين فأسيء به الظن، يعني: أتهمه بأنه على مذهب الرافضة، وهذا هو المعمول به: أنه لاينكرها إلا هؤلاء الرافضة، فلا التفات إليهم. أما أحكام المسح على الخفين فمذكورة في كتب الأحكام.......
الجهاد والحج ماضيان وإن جار الأئمة
…
......
الرد على الرافضة في خرافة الإمام المنتظر
…(3/89)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين، برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما). يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الرافضة، حيث قالوا: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضى من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وينادي مناد من السماء: اتبعوه! وبطلان هذا القول أظهر من أن يستدل عليه بدليل، وهم شرطوا في الإمام أن يكون معصوماً، اشتراطاً بغير دليل، بل في صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلت: يا رسول الله! أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعته)، وقد تقدم بعض نظائر هذا الحديث في الإمامة، ولم يقل: إن الإمام يجب أن يكون معصوماً. والرافضة أخسر الناس صفقة في هذه المسألة؛ لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم! الذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا! فإنهم يدعون أنه الإمام المنتظر، محمد بن الحسن العسكري الذي دخل السرداب في زعمهم سنة ستين ومائتين أو قريباً من ذلك بسامراء، وقد يقيمون هناك دابة، إما بغلة وإما فرساً ليركبها إذا خرج! ويقيمون هناك في أوقات عينوها لمن ينادي عليه بالخروج: يا مولانا اخرج! يا مولانا اخرج! ويشهرون السلاح ولا أحد هناك يقاتلهم! إلى غير ذلك من الأمور التي يضحك عليهم فيها العقلاء! وقوله: (مع أولي الأمر برهم وفاجرهم)؛ لأن الحج والجهاد فرضان يتعلقان بالسفر، فلابد من سائس يسوس الناس فيهما، ويقاوم العدو، وهذا المعنى كما يحصل بالإمام البر يحصل بالإمام الفاجر].
وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر ما أقاموا الصلاة
…(3/90)
هذا يتعلق بالإمامة، وهي الولاية العامة، وذلك لأن أهل السنة يرون السمع والطاعة للأئمة، وقد تقدم الاستدلال على ذلك في مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : (اسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك)، وقوله: (عليكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، يقودكم بكتاب الله). وفي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم)، يعني: تدعون لهم ويدعون لكم، عبر بالصلاة عن الدعاء (وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم)، يعني: تدعون عليهم (ويلعنونكم، قال: قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم؟) يعني: نخالفهم وننبذ إليهم الطاعة، (قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، أي: ما داموا يقيمون فيكم الصلاة، ويبنون المساجد، ويعينون الأئمة والمؤذنين، ويرفع صوت الأذان في كل وقت، ويجتمع المصلون ويؤدون الصلاة جماعة؛ وذلك لأن الصلاة هي شعار الإسلام، وشعار المؤمنين. فهذه الأدلة ونحوها تدل على وجوب السمع والطاعة للأئمة، ولو كان فيهم شيء من النقص، أو حصل فيهم شيء من الخلل والمعصية؛ وذلك لأن الاجتماع على الأئمة فيه مصلحة للأمة؛ لأن ترك الاجتماع والتفرق والفوضى والاختلاف سبب للنهب والسلب، والضرب والقتل، فيكون الضعيف نهبة للقوي، وليس هناك من يأخذ له حقه، ولا تكون هناك إقامة حدود، ولا انتصار لمظلوم إلا بهذه الولاية. فهذا هو السبب في أنه أمر بالسمع والطاعة لولاة الأمور، بل حرص على أن يكون في كل طائفة أمير يرجعون إليه، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج ثلاثة في سفر أو برية فليؤمِّروا أحدهم)، أو كما قال، وذلك حتى يرجعوا إليه ويستشيروه، كل ذلك حث للأمة على أن يسمعوا ويطيعوا لولاة أمورهم.
الإمارة في الحج(3/91)
…
وقد تقدم شرح حقوق الأئمة وما يجب لهم، ولكن ذكر هنا أن الجهاد والحج ماضيان مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً، كما وردت بذلك السنة، وكما عمل بذلك السلف الصالح، فكانوا يحجون ويكون أمير الحج أحد الولاة، وقد يكون سفيهاً، وقد يكون معه شيء من النقص والتقصير، وقد يؤخر الصلاة عن وقتها، وقد يستمع شيئاً من اللهو وغناء القينات ونحو ذلك، وقد يتعاطى شيئاً من الأشربة المكروهة كالنبيذ ونحوه، ولكن مصحلة جمعه لهؤلاء الحجاج وحمايته لهم عن قطاع الطريق مصلحة كبيرة لا يستهان بها. كانوا في الأزمنة المتقدمة من عهد الخلفاء إلى عهد قريب، أعني: قبل خمسين أو ستين سنة لابد أن يكون للحج أمير، فكل أهل جهة يحج بهم أمير يتأمر عليهم، وإذا وصلوا إلى مكة تأمر على الجميع واحد يرجعون إليه، فأهل العراق يحجون مع أمير خاص بهم، يحميهم عن قطاع الطريق إلى أن يصلوا إلى مكة، وكذلك أهل الشام وأهل مصر وأهل اليمن وأهل خراسان وأهل البحرين، وأهل عمان وأهل المناطق النائية، فكان يجتمع أهل كل جهة مئات وألوف ويسيرون جميعاً، ولا يتفرقون مخافة قطاع الطريق، فإذا وصل هؤلاء وهؤلاء إلى مكة كان الأمير واحداً، هو الذي يؤذن فيهم بوقت الوقوف في عرفة، ويؤذن فيهم بوقت الانصراف من عرفة، ويؤذن فيهم بوقت رمي الجمار، وكذلك بوقت الخروج من مزدلفة، وهكذا، ويسيرون إذا سار، وينزلون إذا نزل، ويقتدون به، ويقيم لهم الأحكام ويعلمهم المناسك. وفي حديث عن ابن عمر أنه سئل: متى نرمي الجمار؟ فقال: إذا رمى إمامك، يعني: انتظر حتى يرمي ذلك الإمام، فإذا رمى فإن ذلك وقت الرمي، فدل على أنهم لا يبدءون برمي الجمار إلا إذا رمى أئمتهم، هكذا كانوا. وفي هذه الأزمنة لما أمنت البلاد، وتقاربت الطرق وسفلتت، وقطع دابر قطاع الطريق ونكبوا، ولم يبق هناك من يعترضهم، إلا من لا يؤبه لهم، وصارت الطرق آمنة، أصبح الناس يحجون أفراداً، وجاءت هذه الناقلات الجديدة: الحافلات والسيارات(3/92)
والطائرت والبواخر ونحوها، فسهلت للناس الطرق، فأصبح لا حاجة إلى استصحاب الأمير، ولا أن يجتمعوا كلهم، فهذا هو السبب في التساهل في أمر الولاية، حتى في المناسك أصحبوا يعرفون المناسك، ويعرفون أماكنها، وقد حددت وحدد أوقاتها، وما أشبه ذلك، فلم يكن هناك ضرورة إلى إقامة أمير في الحج.
ضرورة الإمارة في الجهاد وضرورة طاعة الأمير وإن كان مقصراً
…
أما بالنسبة للجهاد فمعلوم أنه يستدعي أميراً ذا حنكة ومعرفة بطرق السير، وكذلك بأوقات القتال وبمناسباته، فلأجل ذلك ما كانوا يغزون إلا ومعهم أمير قد جَرب وقد جُرب، وقد عرف الطرق وعرف القتال، وقد صارت له فطنة وتجربة قوية، فكانت كل سرية وكل جيش يخرج للغزو -السرية: ما دون الثلاثمائة، والجيش ما فوق ذلك- فلا يخرج إلا ومعه أمير، فيرفق بضعيفهم، ويزجر متخلفهم، وينتظر منقطعهم، هذا لما كان السير في ذلك الوقت على الرواحل التي كان سيرها بطيئاً، وكانوا يحتاجون إلى أن يتأنوا في سيرهم، فكانوا لابد يؤمروا واحداً عليهم، ثم هو الذي يحدد لهم وقت القتال، وكذلك يعين لهم الأماكن التي يقيمون فيها، ويقسمهم أقساماً، ويجعل ميمنة وميسرة، وقلباً، ويؤجج فيهم بالحملة على القتال عندما يأذن لهم، وينصب لهم الرايات والأعلام. لم يكن بد من أن يكون ذلك الأمير ذا تجربة، وقد يكون عند الأمير شيء من الخلل، أو معه نقص أو عيب، أو يقترف شيئاً من المعاصي، أو يترك شيئاً من الطاعات، ولكن لا يكون ذلك العمل الذي يعمله كفراً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم فيه من الله برهان)، يعني: فلا تسمعوا ولا تطيعوا ولا تقاتلوا معهم والحال هذه، فأمر بأن يقاتل مع هؤلاء ولو كانوا ذوي معصية أو خلل أو نقص، وبكل حال فقد أمرنا بأن نجاهد معهم، ونصبر عليهم. وفي هذه الأزمنة قد يقال: إنها تغيرت الأحوال، ولكن مع ذلك لابد لكل غزو أو لكل مرابطين من رئيس يرأسهم، يمتثلون إرشاداته وأوامره،(3/93)
ويقفون إذا أوقفهم ويرابطون، ولا ينصرف أحد منهم إلا بعدما يأذن له، فهذه الأمور لابد من اعتبارها. في هذه الأزمنة قد يقال: خفت تلك الأمور التي كانت قديماً؛ وذلك لأن الأسلحة تغيرت عما كانت عليه، فقد كان القتال قديماً مواجهة بالسيف وبالرمح، وبالنبال والسهام وما أشبهها، وأما الآن فالأسلحة قد يكتفى بإرسالها من بعيد، كالصواريخ والقنابل وما أشبهها، ولكن بكل حال لا نزال بحاجة إلى أمير يطاع في مثل هذه الأمور، هذا هو السر في الأمر بطاعة الولاة، وفي الأمر بالحج معهم والغزو معهم، ولو كان معهم شيء من الخلل، أو شيء من النقص.
حصر الرافضة للإمامة في اثني عشر إماماً
…
يقول الشارح: إن المؤلف أتى بهذا الكلام رداً على الرافضة، وذكر أن الرافضة يعتقدون أنه لا يجاهد أحد إلا مع إمام معصوم، ولا يحج إلا مع إمام معصوم، وهم لا يزالون على هذه العقيدة إلى يومنا هذا، لدرجة أنهم لا يصلون خلفنا؛ لأنهم يرون أن الصلاة لا تصح إلا خلف معصوم، أو خلف من يتمسك بعقيدة ذلك المعصوم! معلوم أن الرافضة اعتمدوا أن أئمتهم الذين يرجعون إليهم من أهل البيت، وهم اثنا عشر، وقد انقطعوا، وأولهم الإمام علي ، وفي نظرهم أنه هو الإمام الذي له الإمامة، وأن خلافة أبي بكر باطلة! لأنه مغتصب للخلافة! وكذلك خلافة عمر وعثمان ، ويدعون أنهم أخذوا ما لا يستحقونه، ويسبونهم ويدعون أنهم ظلمة! وكذلك يخونون الصحابة الذين بايعوهم وأقروهم هذه المدة، مع أن من بينهم علياً وأبناء علي رضي الله عنه، فهذا معتقدهم. ثم يجعلون بعد علي الحسن ، ثم بعد الحسن الحسين، ثم علي بن الحسين وهو زين العابدين، ثم محمد الباقر ، ثم جعفر الصادق ، ثم علي الرضا إلى آخرهم وهو محمد بن الحسن العسكري.
السرداب ومهدي الرافضة
…(3/94)
لما أن الحسن العسكري لم يكن له أولاد وكان عندهم أن الإمامة في ذرية علي، كل واحد منهم يخلفه ولده، فلم يكن للحسن العسكري ولد، فلما توفي ولم يكن له ولد أوحى إليهم الشيطان وقال: لا يمكن أن ينقطع الأمر، وأن لا يكون لهم أولاد يخلفونهم، فإذاً: الثاني عشر من أئمتهم هو محمد بن الحسن العسكري ، أين هو؟! دخل سرداب سامراء ولابد أن يخرج! يدعون أنه دخل وهو طفل عندما ولد، أو بعد ما ترعرع، وأنه لا يزال في ذلك السرداب، وأنهم ينتظرونه من سنة مائتين وستين أو نحوها، وهم ليس لهم إمام، مع أنهم يقولون: لا تصلح الدنيا إلا بإمام، ولابد أن يكون ذلك الإمام معصوماً، وأن الإمامة لا تخرج عن ذرية علي ، ثم ذرية الحسين ، ثم ذرية زين العابدين، ثم ذرية الصادق والباقر والرضا ونحوهم إلى الحسن ، فلابد أن يكون للحسن ولد يخلفه. وأهل العلم والمؤرخون يقولون: إن الحسن العسكري لم يخلِّف وإنه مات وليس له ولد، لكن هؤلاء لما كانت العقيدة راسخة عندهم وأن نسله لا ينقطع جاءهم الشيطان وقال: إن له ولداً، ولكنه دخل هذا السرداب، ثم لابد أن يخرج فانتظروه، فصاروا ينتظرونه. والآن له نحو ألف ومائة وخمسين سنة، وهم لا يزالون ينتظرونه! وكانوا في تلك المدة القديم يُجلسون واحداً ينتظره، ويصيح: اخرج يا مولانا! اخرج يا مولانا! وليس عنده أحد، وقد جعلوا عند طرف السرداب فرساً، وجعلوا عليها سرجاً، وجعلوا مع الحراس الذين يحرسونها سيوفاً حتى يحمونه إذا خرج! ويدعون أنه سوف يخرج ويركب الفرس، ويذهب إلى مكانهم، ويقتل أعداءهم كما يزعمون، وينتصر لهم ممن خالفهم، ولا يزالون منذ ألف ومائة وخمسين سنة وهم على هذه الطريقة إلى اليوم! قبل خمسة أشهر أو نحوها جاءنا بعض الإخوان ومعه أوراق أخذها من الشيعة الذين أسروا في حرب الخليج، وأودعوا في السجون، فوجدوا معهم أوراقاً كلها غلو ومبالغة في التشيع، وإذا بواحدة من الأوراق فيها ذكر الأئمة الاثني عشر: الإمام علي ،(3/95)
والإمام الحسن ، والإمام الحسين ، إلى أن قال: والإمام محمد بن الحسن العسكري عجل الله بخروجه، فلا يزالون يُؤمِّلون أنه سوف يخرج، ولا يزالون ينتظرونه! وفي وقت الشارح -في القرن الثامن- يذكر أنهم يجعلون عند السرداب فرساً، والآن لا أدري هل استبدلوا بالفرس سيارة أو لا يزالون ينتظرونه كما كانوا! الله أعلم. ولا شك أن هذا غاية الحمق وغاية الضلال، ولما ذكر ابن القيم رحمه الله في آخر كتاب: المنار المنيف حالتهم، وأن محمد بن الحسن العسكري هو منتظرهم، وأنهم لا يزالون ينتظرونه أنشد قول الشاعر: ما آن للسرداب أن يلد الذي حملتموه بزعمكم ما آنا فعلى عقولكم العفاء فإنكم ثلثتم العنقاء والغيلانا أي: هذا السرداب الذي تحرسونه ما آن له أن يلد ولدكم؟! ما آن أن يخرج هذا الولد الذي جعلتموه حاملاً به؟! ولابد للحامل أن تلد، فمتى يلد هذا السرداب؟! ومتى يخرج هذا الولد الذي جعلتموه حاملاً به؟! ولا شك أن هذا هو غاية السفه، وغاية الضلالة. يشترطون أن يكون للدنيا إمام معصوم، ويزعمون أن الدنيا لا تخلو من إمام معصوم، وأن ذلك الإمام هو الذي يدبر أمور الناس، إمامكم يا معشر الرافضة لم ينفعكم منذ ألف ومائة وخمسين سنة. ولما استولى عليهم -قريباً- الخميني الذي سموه: آية الله الخميني قالوا له: ننتظر أن يخرج المنتظر الذي هو المهدي المنتظر يعني: العسكري ، يقولون: إنه قال: نحن نخلفه حتى يخرج، نحن نعمل وندبر الأمور، فخدعهم بذلك، وادعوا أنه خليفة عن المهدي المنتظر، فصاروا يعظمونه ويطيعونه ويقدسونه تقديساً يخرج عن المعتاد، كما ذكر لنا كثير ممن صحبهم، أنه عندهم كأنه رسول، بل قد يشرع لهم ويأمرهم بأوامر لا يأمر بها إلا الرسل، أو من يتلقى عن الرسل. وبكل حال فقد خالفوا في هذا الأمر، وهو أنهم لا يطيعون للأئمة، ولأجل هذا فإنهم في كل زمان لا يثبتون خلف أئمة الزمان، بل كثيراً ما يخرجون عن الطاعة، وينبذونها ويقاتلون الأئمة والخلفاء،(3/96)
ويفعلون ذلك كثيراً، إلى أن جاء هذا الوقت الذي تفرقت فيه الولايات، واستقلت كل دولة في جانبها وفي جهتها، فصار كل من تولى بلداً سموه رئيساً وسيداً وزعيماً، وصار يتصرف فيمن تولى عليه من رافضة أو من غيرهم.
شرح العقيدة الطحاوية [58]
يجب الإيمان بالملائكة، وللإيمان بهم ثمرات كثيرة، لاسيما الإيمان بالملائكة الحفظة، وذلك أن المرء يراقب الله وينتهي عن الإثم إذا استشعر من معه من ملائكة الله.
الإيمان بالملائكة وما وكلوا به من أعمال
…(3/97)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين). قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، وقال تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17-18]. وقال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، وقال تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80]. وقال تعالى: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، وقال تعالى: إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ [يونس:21]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين كانوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وفارقناهم وهم يصلون)، وفي الحديث الآخر: (إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم)، وجاء في التفسير: اثنان عن اليمين وعن الشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه واحد من ورائه وواحد أمامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلاً حافظان وكاتبان. وقال عكرمة عن ابن عباس : يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه]. ......
الإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب
…(3/98)
نؤمن بالكرام الكاتبين وبالملائكة الحافظين كما أخبرنا الله، وإن كنا لا نراهم، فالإيمان بهم من أمر الغيب؛ وذلك لأن الله تعالى أخبر عن أشياء غيبية فنحن نصدق بها ونقبلها، ويكون لتصديقنا آثار. فالملائكة مخلوقون كما أخبرنا الله، وإن كنا لا نراهم، يجلس أحدهم أو يقوم أحدهم أمامنا أو خلفنا أو عن جانبينا فلا نراه، كما أخبرنا أيضاً بأن الشياطين يكونون معنا ولا نراهم، بل أخبر بأن الشيطان يلابس الإنسان، ويجري منه مجرى الدم، ويوسوس في صدور الناس. فالإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب الذي مدح الله أهله بقوله تعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:2-3]، وذلك لأنه إيمان بشيء خفي، ولكن العمدة فيه خبر الله تعالى، وخبر الله صدق وحق، وكذلك خبر الرسل فنؤمن بما أخبروا به ونتقبله، وإن كان ذلك خلاف ما نألفه ونعرفه، وإن أنكر ذلك من أنكره، فلا نلتفت إلى إنكار من أنكر. فالذين أنكروا وجود الشياطين أو أنكروا وجود الملائكة، أو أنكروا الأرواح، أو أنكروا وجود الجن، أو نحو ذلك؛ هؤلاء بلا شك لم يتسع فهمهم للأمور الغيبية، ولا للأخبار السماوية، ولا للقدرة الإلهية، فلأجل ذلك لم يتجاوزوا ما يدركونه بالحس، فلا يؤمنون إلا بما أدركوه بالإحساس، فهؤلاء إيمانهم ناقص.
وظيفة الملائكة الكرام الكاتبين
…(3/99)
والحاصل أن الكلام على الملائكة الكرام الكاتبين، قال الله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11] حافظين: يحفظونكم، وكاتبين: يكتبون أعمالكم. وكذلك قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18]، الرقيب والعتيد: هما الملكان اللذان يكتبان الحسنات والسيئات، أحدهما عن اليمين يكتب الحسنات، والثاني عن الشمال يكتب السيئات، وذكروا أن الذي على اليمين أمير على الذي على الشمال، فإذا عمل سيئة قال له: لا تكتبها رجاء أن يتوب ويستغفر، فإذا استمر عليها كتبت سيئة، وإذا عمل الحسنة كتبها صاحب اليمين عشر حسنات، كما ورد ذلك في الحديث وفي القرآن. فهؤلاء هم الحفظة للأعمال وللأقوال، يكتبون كل ما يتكلم به، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ [ق:18] فما من لفظة يُتلفظ بها إلا وتكتب في سجل هؤلاء الملائكة كتابة الله أعلم بها، قد تكون بالأحرف، وقد تكون بغيرها، فلهم قدرة على الكتابة ولو كانت ما كانت. وكذلك يكتبون كل الأعمال، ولذلك وصفهم بقوله تعالى: يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:12]، أي: كل ما تفعلونه وكل ما يخطر ببال أحدكم، أو يدور في خياله فإنه مكتوب. وكيف يكتبون أعمال القلب؟ يطلعهم الله على أعمال القلوب، فالأعمال التي تكنها القلوب يثاب عليها العبد أو يعاقب، فيثاب مثلاً على النصيحة، ويعاقب على الحسد والغل والغش، وهو من الأعمال القلبية، ويثاب على الإيمان الذي هو التصديق الجازم، ويعاقب على النفاق الذي هو الشك والريب، وهي من أعمال القلوب، فلابد أن الملائكة تكتبها لقوله: يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:12]، فهؤلاء هم الكتبة، ويسمون أيضاً: الحفظة للأعمال.
وظيفة الملائكة الحافظين
…(3/100)
وهناك ملائكة يحفظون العبد عن الأخطار والأضرار التي يتعرض لها، حتى يأتي الأمر الذي قدره الله فيخلون بينه وبينه، وهم المذكورون في سورة الرعد في قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] أي: يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء الأمر الذي قدره الله فإنهم يخلون بينه وبينه، أما الأمور التي لم يقدرها الله عليه فإنهم يدفعون عنه الشرور، ويدفعون عنه الأضرار، ويدفعون عنه الاعتداءات التي ما كتبها الله تعالى، فهم أربعة: ملكان عن اليمين وعن الشمال يحفظون أعماله، وملكان أمامه وخلفه يحفظون جسده مما لم يكتب عليه، فيبيت بين أربعة، ويظل بين أربعة، فيوكل بكل إنسان ثمانية: أربعة بالليل وأربعة بالنهار، وهؤلاء هم الذين يتعاقبون. وفي الحديث الذي تقدم: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)، فهذا من حفظ الله تعالى لأعمال عباده، فالله تعالى قادر على أن يحفظ كل أعمال العباد بدون وكيل وبدون كتابة، ولكنه أراد بذلك قيام الحجة على العبد حتى لا يقول: إني ظلمت، أو إني ما عملت كذا وكذا، بل يجد ما عمله كله مدوناً، فينشر له سجل بأعماله: حسناته وسيئاته، ويقال له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14].
كل إنسان وكل به قرين من الجن وقرين من الملائكة
…(3/101)
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [وروى مسلم والإمام أحمد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)، الرواية بفتح الميم من (فأسلمَ)، ومن رواه (فأسلمُ) برفع الميم فقد حرف لفظه، ومعنى فأسلم أي: فاستسلم وانقاد لي في أصح القولين؛ ولهذا قال: (فلا يأمرني إلا بخير)، ومن قال: إن الشيطان صار مؤمناً فقد حرف معناه فإن الشيطان لا يكون مؤمناً. ومعنى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] قيل: حفظهم لهم من أمر الله، أي: الله أمرهم بذلك، يشهد لهذا قراءة من قرأ: (يحفظونه بأمر الله). وقد ثبت بالنصوص المذكورة أن الملائكة تكتب القول والفعل، وكذلك النية؛ لأنها فعل القلب، فدخلت في عموم يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:12]، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة، وإذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشراً)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قالت الملائكة: ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، قال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي)، خرجاهما في الصحيحين واللفظ لمسلم]. الحديث الذي بدأ به الشارح فيه بيان أن الإنسان موكل به ملائكة يأمرونه بالخير، وهناك شياطين يأمرون الناس بالشر، يسمى هذا قرين وهذا قرين، الجني الذي هو الشيطان قرين سوء، والملك قرين خير، ورد في بعض الأحاديث: (إن للشيطان بقلب الإنسان لمة، وللملك لمة، فلمة الشيطان إيعاد بالشر، ولمة الملك إيعاد بالخير)، أو كما في الحديث. إبليس من أهل النار، ومن المعذبين بالنار، وهو مخلوق من النار، والشياطين خلقوا من(3/102)
النار، فأقدم على العذاب، وأقدم على اللعنة، وأقسم أن يغوي جنس الإنسان، وأن يحرص على أن يخرجهم من الإيمان، أقسم بذلك وقال: لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً * وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً [النساء:119-120]. فهذا الشيطان عدو للإنسان، ليس من جنس بني آدم أحد إلا وقد وكل به أو سلط عليه شيطان، ووكل به ملك، فالملك يأمره بالخير، والشيطان يأمره بالشر. الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنت يا رسول الله مثلنا يعني: هل وكل بك ملك وشيطان؟ قال: نعم، ولكن الشيطان الذي وكل بالنبي صلى الله عليه وسلم أعانه عليه، فقال: (أعانني الله عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)، وليس معناه: أنه أصبح مسلماً، بل المراد أنه أذعن واستسلم، ولم يعد يأمر إلا بالخير؛ وذلك لأن الله تعالى عصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يتسلط عليه الشيطان، فأعانه عليه، كما أن الله تعالى سخر الشياطين لسليمان أحد أنبياء الله تعالى، وذللهم له، فصاروا يعملون عنده، يقول تعالى: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ [ص:37-38] سخرهم الله لسليمان، وأما نبينا عليه الصلاة والسلام فذلل الله له ذلك الشيطان فلم يعد يأمره إلا بخير، أما جنس بني آدم فكل إنسان لابد أن يتسلط عليه هذا الشيطان ويوسوس له، فإذا رزقه الله الإيمان، ورزقه قوة اليقين، فإن تلك الوساوس التي يوسوس بها لا تبقى في قلبه، ولا يصدق بها، بل ينكرها ويدفعها، وهذا حقيقة المؤمن الصحيح الإيمان، ثم يعوضه الله أن الملك الذي هو قرينه يثبته، ويذكره،(3/103)
وينشطه، ويدفعه ويدعوه إلى الخير، ويحثه عليه، فيقوى الجانب الإيماني، وإذا قوي الجانب الإيماني عزم على الأعمال الصالحة، وترك الأعمال السيئة، فهذا هو المؤمن القوي، أما الذي إيمانه ضعيف فإن الشيطان يتقوى عليه، وتتمكن وسوسته من قلبه، وتصده عن الهدى، وتوقعه في الردى، ولا يطيع نصح الناصحين، ولا ينيب إلى لمة الملك، ولا يلتفت إليها، فيبقى بعيداً عن الخير، مقبلاً على الشر، فهكذا كل إنسان إما أن يكون إيمانه ضعيفاً فيقوى عليه قرين السوء وهو الشيطان، وإما أن يكون إيمانه قوياً فيقوى عليه قرين الخير وهو الملك. والقوة والضعف ليست بالقوة البدنية، ولكنها القوة الإيمانية، القوة قوة الإيمان، كون الإيمان راسخاً في القلب، إذا جاءته وساوس الشيطان اضمحلت، وإذا جاءته تثبيتات الملك تمكنت وقويت، فهذا هو السبب في انقسام الناس إلى من يكون عدواً لله ومن يكون ولياً لله، من يكون ولياً للشيطان ومن يكون ولياً للرحمن، فأولياء الرحمن هم الذين أطاعوا الله تعالى، وأطاعوا رسله، وصارت الملائكة الذين معهم يرشدونهم إلى الخير، فيتبعونهم، وأولياء الشياطين هم الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله.
الإيمان بالملائكة الحفظة
…(3/104)
الإنسان معه ملك، ومعه شيطان، والمراد بالملك: جنس الملائكة، فيكون الإنسان معه ملائكة يدعونه إلى الخير ويحثونه عليه، وملائكة يحفظونه، وملائكة يكتبون أعماله. الملائكة الذين يحفظونه هم الذين يقول الله فيهم: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] وفسرها بعض المفسرين بقوله: يحفظونه بأمر الله، أي: يحفظونه بأمر الله امتثالاً لأمر الله تعالى، فإذا جاء القدر الذي قدر الله عليه خلوا بينه وبينه. ثم هؤلاء الملائكة الذين هم الحفظة يكتبون السيئات والحسنات، وسمعنا الحديث المشهور في الصحيح، الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن من كرم الله وفضله الواسع على عباده، أن الذي يهم بحسنة ولا يعملها يكتبها الله حسنة، والذي يهم بها ويعملها يكتبها عشراً، والذي يهم بسيئة ولا يعملها يكتبها الله حسنة، وإذا هم بالسيئة وعملها كتبها الله سيئة واحدة بدون مضاعفة، وإذا رزقه الله توبة منها محيت عنه لتوبته، وإذا أصر عليها وعمل سيئة إلى جانب سيئة وإلى جانب سيئات أخرى تكاثرت عليه، وتراكمت عليه، وأصبح مثقلاً بالسيئات، ولكن قد أخبر الله تعالى بأنه يمحوها بالتوبة ويمحوها بالحسنات، فقال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها) يعني: متى وقعت في سيئة فأتبعها بحسنة، إما حسنة التوبة وإما حسنة العمل الصالح وإما غير ذلك. وقد تكلم العلماء على هذا الحديث، وبينوا المراد منه، وأطالوا الكلام في ذلك، وملخص ما ذكروا أن الذي يهم بحسنة ثم يتركها عجزاً أو تعباً أو نحو ذلك يكتبها الله له حسنة وإن لم يعملها، هم مثلاً بأن يتصدق على مسكين، ولكن لم يجد في ذلك الوقت شيئاً، وفاتت حاجته، يكتب الله له كأنه تصدق، يكتبها له حسنة، هم مثلاً أن يقوم في آخر الليل للصلاة، ولكن غلبه النوم، أو الكسل، أو(3/105)
التعب، ولم يتيسر له القيام، يكتب الله له كأنه قام، ويكتب له بذلك حسنة، فإذا يسر الله له فتصدق أو صلى أو صام، أو جاهد، أو ذكر الله، أو قرأ فإن الحسنة بعشر أمثالها، فضلاً منه سبحانه، فيكتب الدرهم بعشرة دارهم، وتكتب الركعة بعشر ركعات، والمراد بهذا في الأوقات العادية، وقد تضاعف أضعافاً أخرى في أوقات أخرى، هذا بالنسبة للحسنات، أما بالنسبة للسيئات فإذا هم بالسيئة ولكن تذكر أنها سيئة، وتذكر عقوبتها، وتذكر الإثم، وتذكر آثارها على قلبه، وآثارها على سيرته، وآثارها في دنياه وآخرته، فعند ذلك تركها من جراء الله، يقول في الحديث: (إنما تركها من جرائي)، فهذا يكتب له حسنة، ما عمل سيئة، ولا عمل حسنة، ولكنه هم بسيئة ثم تذكر فخاف الله تعالى فتركها، يكتب له بهذا الترك حسنة، يقول الله: (إنما تركها من جرائي). أما إذا غلبته نفسه وعمل تلك السيئة كتبها الله بمثلها، والسيئات تتراكم، سيئات النظر، وسيئات السمع، وسيئات الكلام، وسيئات الأكل والشرب، وسيئات المكاسب، لا شك أنها تتراكم، وبكل حال فإذا عملها كتبها الله بمثلها حتى يتوب منها. أما إذا تركها عجزاً، فبلا شك أنه يأثم على نيته، فلو مثلاً هم بزنا، وبذل الأسباب، وجاء إلى المكان الذي هو معد للزنا أو نحو ذلك، وحاول فتح الأبواب، وحاول الصعود مع السلالم أو مع الحيطان، ولكنه لم يجد منفذاً، أو عثر عليه الحرس، وقبضوا عليه وطردوه؛ فمثل هذا يجازى على فعله؛ وذلك لأنه ما تركها خوفاً من الله، وإنما تركها عجزاً، وكذلك لو هم بسرقة ولكنه ما قدر، حاول أن يكسر الأبواب، حاول أن يفتح الأقفال ولكنه ما قدر على ذلك، فهذا تكتب عليه سيئة، وكذلك لو هم بحسنة ولكن دعته نفسه إلى تركها تهاوناً ليس عجزاً، فمثل هذا أيضاً قد لا يثاب على تركه للحسنة، ولا يكتب له حسنة، وفي بعض الروايات: (لم يكتب عليه شيء). إذاً: الحديث هذا مخصوص بما إذا ترك السيئة خوفاً من الله، وترك الحسنة عجزاً عنها(3/106)
أو لعدم توافر أسبابها، وإلا فقد يجازى بما نوى. وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً -يعني: علماً دينياً- فهو يعمل في ماله بعلمه)، يصل الرحم، ويتصدق على ابن السبيل، وينفق في الجهاد، وينفق في وجوه الخير، ويبني المساجد والمدارس، وينشر العلم، قال: (يعمل بعلمه في ماله، فهذا بأفضل المنازل) يعني: بأرقاها، نفعه علمه في تصريف ماله. قال: (ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمله)، أعطاه الله العلم فيتمنى أن يكون له مال حتى يصل الأرحام، وحتى يعطي الأقارب، وحتى يتصدق على الفقراء والمساكين، وحتى يعطي أبناء السبيل، وحتى يجهز الغزاة، وحتى ينفق في وجوه البر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فهو بنيته وقصده، وهما في الأجر سواء). قال: (ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً)، حرمه الله من العلم، ورزقه الله أموالاً، فهو ينفقها في المعاصي، ينفقها في كل معصية، ينفقها في قطيعة الرحم، وينفقها في القتل، وينفقها في الملاهي، وينفقها في المعاصي بأنواعها: في الزنا وفي الغناء وفي كذا وكذا، ينفقها فيما يبعده من الله؛ لأنه ما عنده علم، ولا عنده معرفة بمآل هذا المال، ولا بما يكسب فيه الأجر، فهذا بأخبث المنازل. قال: (رجل لم يؤته الله مالاً، ولم يؤته علماً)، ولكن يتمنى أن يكون له مال مثل ذلك الجاحد، (يقول: لو كان لي مثل مال فلان لعملت فيه مثل عمله)، يعني: لقطعت الطريق، ولسافرت إلى المعاصي، ولصرفته في الأغاني وفي آلات اللهو، ولفعلت وفعلت، يتمنى؛ لأنه ما عنده علم، وما عنده مال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فهما في الوزر سواء)، فأخذنا من هذا أن من نوى الشر وإن لم يعمله وحرص عليه فإنه يجازى على نيته، فليس كل من نوى الشر وتركه يثاب، إنما يثاب إذا تركه لله وخوفاً من الله.
شرح العقيدة الطحاوية [59](3/107)
يجب الإيمان بملك الموت الموكل بقبض الأرواح، والأرواح من مخلوقات الله، ولا يعلم حقيقتها إلا الله، وقد تكلم العلماء على كثير من المسائل المتعلقة بالروح مستضيئين بالأدلة من الكتاب والسنة.
الإيمان بملك الموت
…
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين). قال تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]، ولا تعارض هذه الآية قوله: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]، وقوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]؛ لأن ملك الموت يتولى قبضها واستخراجها، ثم يأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، يتولونها بعده، كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره وحكمه، فصحت إضافة التوفي إلى كل بحسبه]. هذا أيضاً من عقيدة أهل السنة، وهو داخل في الإيمان بالملائكة، الإيمان بملك الموت الذي وكله الله تعالى بقبض الأرواح، وقد ذكره الله تعالى في هذه الآية في سورة السجدة: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة:11]، وقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الذي يقبض الأرواح ملك واحد، وقد تقول: كيف يقبض أرواح العالم في شرق الأرض وفي غربها وهو واحد؟ نقول: لا ينافي ذلك قدرة الله تعالى التي أقدره عليها، ويمكن أن ملك الموت معه أعوان يقبضون تلك الأرواح. ونقول: لا شك أن الإنسان مركب من جسد وروح، جسد وهو هذا اللحم والعظم ونحوه، وروح وهي التي تسري في هذا الجسد حتى يعيش وحتى يتحرك، فما دامت هذه الروح في هذا الجسد فإنه قابل للحركة، وإذا خرجت هذه الروح من هذا الجسد بقي ميتاً جثة لا حركة به،(3/108)
فهذه الروح هي التي بها الحياة،وهي التي تقبض عند الموت، وفي حديث البراء في قبض الأرواح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا نزلت عليه ملائكة بيض الوجوه، فيجلسون منه مد البصر، ومعهم أكفان من الجنة، وحنوط من الجنة، ويأتيه ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، فتسل روحه من جسده كما تسل الشعرة من العجين)، فأخبر بأن الروح هي التي تخرج، وأنه يخاطبها، وأنها تنزع من جسده أو تنشط منه، وفسر بذلك قول الله تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً [النازعات:1-2] فقالوا: النازعات الملائكة التي تنزع أرواح الكفار نزعاً شديداً، والناشطات الملائكة التي تأخذ أرواح المؤمنين برفق؛ ولذلك سماه نشطاً، يعني: أنها تنشطه نشطاً ولا يحس بألم، وبكل حال الملائكة يقبضون الأرواح ويصعدون بها إلى الله تعالى إن كانت أرواح المؤمنين، أما أرواح الكفار فلا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة، بل تذهب أرواحهم إلى حيث شاء الله. وقد تكلم العلماء على حقيقة الروح وأطالوا فيه، وقد يأتي بعض الكلام على حقيقة الروح، والحاصل أننا نؤمن بقوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61] فأثبت أن هناك رسلاً عدداً يتوفونه،وأخبر في آية أخرى أن ملك الموت واحد: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة:11]، وإذا قيل: إنه ملك واحد فيمكن أن يكون اسم الموت الذي هو خروج الروح من الجسد هو الذي ورد في الأحاديث أنه يذبح يوم القيامة، يقول في الحديث: (يجاء بالموت في صورة كبش، فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح(3/109)
بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت)، فالذي يفنى أو يذبح هو حقيقة الموت، ليس هو الملك، إنما هو الموت الذي هو خروج الروح من الجسد. نحن نشاهد الأموات عندما تخرج أرواحهم، ولكن لا نشاهد الملائكة الذين يقبضونها، ولكن نؤمن بذلك، نؤمن بأن الملائكة يحضرون وإن كنا لا نراهم؛ ولذلك قال الله تعالى: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ [الواقعة:81-83] يعني: خرجت الروح إلى الحلقوم الذي هو أسفل الحلق، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:84-85] يعني: الملائكة أقرب إليه منكم، ولكنكم لا تبصرونهم فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:86-87] يعني: إذا كنتم تقولون: إنكم غير مبعوثين فردوا هذه الروح إلى هذا الجسد، فردوا روح هذا الذي مات وخرجت روحه، استردوها وردوها في جسده إن كنتم صادقين. وأخبر الله تعالى أيضاً أن الملائكة يحضرون عند الميت في قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93] يخاطبون أرواح الكفار عند إخراجها بهذا. إذاً: من عقيدة أهل السنة أنهم يؤمنون بملك الموت وبأعوان ملك الموت الذين يقبضون الأرواح، وبأن الروح التي تخرج هي التي يقبضها الملك أو الملائكة، وهي التي تبقى بعد الموت، وأما الجسد فإنه يفنى، والروح التي تخرج هي التي تعذب في البرزخ أو تنعم، فإذا آمن الإنسان بذلك لم يستغرب ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن في القبر عذاباً ونعيماً، مع أننا نشاهد أن(3/110)
الأموات يفنون، وتأكلهم الأرض، ولكن مع ذلك أرواحهم باقية، أرواحهم هي التي تتألم أو تتعذب كما أن أرواحهم هي التي تقبض، وهي التي ورد في الحديث أنها تجعل في أكفان من الجنة، أو تجعل في أكفان من النار على حسب ما ورد في السنة. فبهذا يؤمن كل مسلم اعتماداً على النصوص، ولا منافاة بين الآية: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة:11] أنه واحد وقوله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [الأنعام:61]، وقول الملائكة: أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ [الأنعام:93]، فالمعنى: أن الملك واحد ومعه أعوان، فهو يقبض وهم يقبضون، وهم يجعلون الأرواح في تلك الأكفان،ويصعدون بها إلى آخر ما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في الأحاديث. ......
حقيقة الروح
…(3/111)
قال الشارح رحمه الله: [وقد اختلف في حقيقة النفس ما هي؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم ساكن له مودع فيه، أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة أم هي ثلاثة أنفس؟ وهل تموت الروح أو الموت للبدن وحده؟ وهذه المسائل تحتمل مجلداً، ولكن أشير إلى الكلام عليها مختصراً إن شاء الله تعالى. فقيل: الروح قديمة، وقد أجمعت الرسل على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، وهذا معلوم بالضرورة من دينهم أن العالم محدث، ومضى على هذا الصحابة والتابعون، حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة، فزعم أنها قديمة، واحتج بأنها من أمر الله، وأمره غير مخلوق، وبأن الله أضافها إليه بقوله: قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، وبقوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29] كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده، وتوقف آخرون، واتفق أهل السنة والجماعة أنها مخلوقة، وممن نقل الإجماع على ذلك محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهما، ومن الأدلة على أن الروح مخلوقة قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما، ولا يدخل في ذلك صفات الله تعالى فإنها داخلة في مسمى اسمه، فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال، فعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وجميع صفاته داخل في مسمى اسمه، فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق وما سواه مخلوق، ومعلوم قطعاً أن الروح ليست هي الله ولا صفة من صفاته، وإنما هي من مصنوعاته، ومنها قوله تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1]، وقوله تعالى لزكريا: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9]، والإنسان اسم لروحه وجسده، والخطاب لزكريا لروحه وبدنه. والروح توصف بالوفاة والقبض، والإمساك والإرسال، وهذا شأن المخلوق المحدث.(3/112)
وأما احتجاجهم بقوله: (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فليس المراد هنا بالأمر الطلب، بل المراد به المأمور، والمصدر يذكر ويراد به اسم المفعول، وهذا معلوم مشهور]. كلمتا الروح والنفس الصحيح أنهما مترادفتان، الروح هي النفس، وقد اختلف في حقيقة الروح ما هي، إذا مات الميت وخرجت روحه لا نبصرها، مع أننا متيقنون أنها خرجت، وكذلك الملائكة أرواح ينزلون ويقبضونها ونحن لا نراهم؛ لأنهم أرواح، كذلك الشياطين أرواح شريرة، يقول تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] نحن لا نرى الشياطين، مع أن الشيطان يدخل في الإنسان ويجري منه مجرى الدم، ويوسوس في صدره ولا نراه، لكنه ينخنس إذا ذكر الله، ولهذا سماه الله: الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ [الناس:4]. وأقرب مثال الجن، فهم أرواح، وإذا سلط الله الجني على الإنسي فإنه يلابسه حتى يغلب على جسده، ويصير كأنه هو روحه، فهل نحن نرى هذا الجني إذا أتى أو إذا خرج؟ لا نراه، نسمعه إذا تكلم وهو ملابس لذلك الإنسي، ينطق ويتكلم، ويخرج عندما يعذب مثلاً، ولا نراه إذا جاء ليدخل، ولا نراه إذا خرج. إذاً: هو روح بلا جسد، ولعله يأتينا كلام في حقيقة الروح وماهيتها. هل الروح مخلوقة أو غير مخلوقة؟ بعض الفلاسفة يقول: إنها غير مخلوقة وإنها قديمة، والفلاسفة هم الذين يقولون: إن هذا الإنسان ليس له مبدأ، ينكرون أن الله خلق آدم من تراب، ويقولون: إن هذا الإنسان قديم، وإن الأرض قديمة ولم يسبقها عدم، وينكرون أيضاً الحشر والمعاد، فيقولون: ليس هناك حشر، وليس هناك نشر، وليس هناك قيامة، ولا جنة ولا نار، إنما جنس البشر يتوالد ويبقى على الأرض دائماً وأبداً، كما أنه عليها منذ القدم، فكذلك يبقى عليها أبداً، هؤلاء الفلاسفة ينكرون خلق الروح، ويقولون: إن الروح غير مخلوقة وليست محدثة، بل هي باقية وقديمة وليس لها مبدأ، ويستدلون بهذه الآية في سورة الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ(3/113)
الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] والسؤال إنما هو عن الماهية، ما هي الروح؟ ولما كانت حقيقتها لا ترى ولا توصف أجابهم الله بأنها من أمره، وأنكم لا تعلمونها ولا يمكن أن تتصوروها؛ ولذلك قال: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، فليس المراد أنها صفة من صفاته، بل المراد أنها من أمره، أي: مخلوقة بأمره،وكذلك إضافتها إلى الله في قوله تعالى: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر:29] ليس المراد أن الروح صفة من صفات الله، أو أنها من ذات الله، بل المراد من الأرواح التي خلقتها، وكذلك وصف الله عيسى بقوله: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171] أي: روح من الأرواح التي خلقها، وليس المراد أنه من ذات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. فبكل حال نعرف أن هذه الروح التي بين جنبي الإنسان مخلوقة كسائر المخلوقات، ولكن لا تدرك كيفيتها ولا ماهيتها. ......
قوله تعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)
…(3/114)
قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85] قيل: إن هذه الآية نزلت لما أرسلت قريش إلى يهود المدينة من يسألهم عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء أولئك الرسل إلى اليهود، فقال اليهود: سلوه عن ثلاثة أشياء، سلوه عن فتية خرجوا من بلادهم فإن لهم أمراً عجيباً، يعنون أصحاب الكهف، وسلوه عن رجل طوّاف طاف بالمشرق والمغرب، يعنون ذا القرنين، وسلوه عن الروح، فأنزل الله هذه الآية جواباً لسؤالهم. وقيل: إن اليهود الذين بالمدينة مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوكأ على عسيب، ومعه ابن مسعود ، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقالوا: ما هي الروح يا محمد؟! فوقف قليلاً، يقول ابن مسعود : فاتكأ على عسيبه وعلمت أنه يوحى إليه، فقال بعد قليل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85])، فأجابهم الله تعالى بأن الروح غير معلومة لكم، ولا يمكنكم إدراكها ولا معرفة ماهيتها، وذلك دليل على عظمة الله وعجيب قدرته، حيث نوع المخلوقات، فجعل منها ما يرى، ومنها ما لا يرى، وجعل منها أجراماً، وجعل منها أرواحاً، وجعل منها جماداً، وجعل منها متحركاً حياً متقلباً، فهذا بلا شك دليل على كمال قدرة الله عز وجل، وأنه على كل شيء قدير، ودليل على قصر علم الإنسان، فقد قصر باعه في العلوم، فلا يطلع على المغيبات، ولا يصل بفكره ولا بأمره ولا ببحثه إلى الأمور التي أخفاها الله عليه، وعلى هذا ليس له أن يتدخل في أمور الغيب، وليس له أن يتخرص فيها.
الجهل بكيفية الروح المخلوقة دليل على الجهل بكيفية صفات الخالق سبحانه
…(3/115)
استدل العلماء بأمر الروح على أن الإنسان لا يستطيع أن يتدخل في أمر صفات الرب سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن الذين تدخلوا في صفات الله، وقالوا: كيف يتصف بأنه ينزل ويصعد؟ وكيف يتصف بأنه يجيء ويحكم وينزل لفصل القضاء؟ وكيف يتصف بأنه استوى على العرش واستقر عليه؟ وكيف يتصف بأنه حي وبأنه سميع بصير متكلم بكلام مسموع ونحو ذلك؟ كيف يتصف بذلك؟ هذا مما يخالف الخيال! هذا مما يخالف الفكر، هذا مما يخالف العقول، وأخذوا يخوضون في مثل هذا خوضاً زائداً، فيقول لهم شيخ الإسلام وغيره: أنتم قد عجزتم عن إدراك الروح التي بين جنوبكم، كل منكم مكون من جسد وروح، هذه الروح التي تدخل وتخرج، هذه الروح التي يحيا بها البدن ويموت بخروجها، هل أدركتم ماهيتها؟ هل قدرتم على معرفتها؟ هل علمتم من أي شيء هي؟ هل هي جسم أم هي عرض، أم هي جوهر، أم هي صافية، أم هي كدرة؟ ما هي ما هيتها؟ ومن أي شيء هي؟ وإذا خرجت أين تذهب؟ وأين تكون؟ كذلك أيضاً الأرواح الأخرى التي تتحققونها وتوقنون بها كيف لا ترونها؟ إذا عجزتم عن إدراك ماهيتها فأنتم عن إدراك كنه صفات الرب بطريق الأولى تعجزوا. أنتم تتحققون أن هناك نوعاً من المكلفين وهم الجن الذي خلقهم الله من نار السموم كما أخبر الله، نتحقق أنهم موجودون معنا، وأنهم ينطقون ويتكلمون، وأنهم يقدرون على أن يتشكلوا بأشكال متعددة، يتشكلون بأشكال الحيوانات، وبأشكال الجمادات، ويتصورون بصورة إنسان، وبصورة سبع، وبصورة كلب، وبصورة حشرة، وبصورة هامة ونحو ذلك، كما هو مشاهد، وكذلك أيضاً يلابسون الإنس، يدخلون في جسد الإنسي، ويلابسونه، ولا يشعر أحد بهم، ولا يراهم ولا نراهم، من أي شيء مادتهم؟ من أي شيء أجسامهم؟ لا ندري. إذاً: نقول: قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، فنحن حجبنا وعجزنا عن إدراك ماهية هذه الأرواح التي هي أقرب شيء إلينا، والتي نشاهد أن الميت(3/116)
تخرج روحه ومع ذلك لا نراها، كما قال الله تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا [الواقعة:83-87] هل تستطيعون أن ترجعوها إذا خرجت؟ فإذا عجز الإنسان عن إدراك هذه الروح التي هي أقرب شيء إليه فكيف يخوض في خالقه؟ وكيف يخوض في صفات الباري عز وجل؟ الأولى له أن يسلم بذلك، وأن يرد علمها إلى عالمها. كذلك أيضاً: لا يخوض في أمر المخلوقات التي لم يرها، لا يقول مثلاً: ما هي كيفية خلق الملائكة؟ ومن أي شيء أجسامهم؟ وكيف تركيب أعضائهم؟ وكيف يسجدون وعلى أي أعضاء؟ وهل لهم يدان ورجلان كما لنا لأن الله قد ذكر أن لهم أجنحة؟ وهل لهم وجوه كوجوهنا؟ وكيف ينطقون ويتكلمون؟ الله أعلم، لا علم لنا إلا أنهم مخلوقون، وأنهم أرواح تستغني عن أجساد ظاهرة، بحيث ينزلون ولا نراهم كما أخبر الله بأنهم ينزلون في الأرض في ليلة القدر كما في قوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [القدر:4] إذا تنزلوا نحن لا نراهم، وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعهم في صلاة العصر وصلاة الفجر بقوله: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر)، هل نحن نراهم؟ لا نراهم، هم عالم ونحن عالم، حتى الشياطين الذين سلطهم الله على نوع الإنسان، وقد أخبر الله أن الشيطان يصل من الإنسان إلى قلبه، يقول الله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس:5] وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، يعني: ينفذ فيه ويسري في عروقه كما تسري روحه، يصل إلى جميع جسده ولا يرده شيء، إلا إذا استعاذ العبد بالله، ولجأ إليه؛ فإن الشيطان ينخنس، ولذلك سمي (بالوسواس الخناس). ونحن مع ذلك لا نراهم، إذاً: هم عالم ونحن(3/117)
عالم، فليس لنا أن ننكرهم، ولا أن نجحدهم؛ لأن الله قد أخبر بهم، وخبر الله حق، وأخبر بأنهم يروننا في قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] يعني: إن الشياطين يرونكم هم وقبيلهم، يعني: وأمثالهم كالجن ونحوهم، يرونكم دون أن ترونهم، فما دام أننا متحققون بوجود أرواح لا نراها، وبأن هناك أرواحاً مخلوقة كالجن والشياطين والملائكة؛ فنعرف بذلك قصر علمنا عن إدراك كنهها، وعن معرفة تركيبها.
اختلاف العلماء في تعريف الروح
…(3/118)
سمعنا في كلام شارح الطحاوية أن العلماء تكلموا في الروح، وأطالوا القول فيها، وعرفوها بتعريفات مضطربة مختلفة، وكان من جملة من عرفها تعريفاً مناسباً ابن القيم رحمه الله في كتابه الذي سماه: كتاب الروح، وهو كتاب مطبوع مشهور تكلم فيه على الأرواح، وعذاب القبر ونعيمه، وتكلم فيه على حقيقة الروح، وما ورد من صفاتها، وبين الرد على الذين أنكروها ووصفوها بصفات غريبة، وعرفها بأنها جسم خفيف شفاف علوي نوراني حي متحرك، يسري في جسد الإنسان كما يسري الدهن في الورد، وكما تسري النار في الفحم، فما دام هذا الجسد قابلاً لتلك الإفاضات منه فإنه يبقى فيها، وإذا تغيرت ماهية هذا الجسم وبقي لا يصلح لفيضاناتها عليه؛ أذن الله بفراق الروح لهذا الجسم، فبقي جسم الإنسان جماداً لا حركة فيه، وذلك هو الموت، فإذا خرجت الروح بقي الجسد جثة هامدة. ولا حاجة إلى كثرة الخوض وإطالة الكلام فيها، مع أن الله تعالى قد حجب أنظار العباد عنها، وفوض أمرها إلى الله. كتاب الجلالين مؤلفه رجلان أحدهما جلال الدين المحلي ، وهو الذي ألف آخره، من سورة الكهف إلى آخره، وجلال الدين السيوطي وهو الذي ألف أوله، من البقرة إلى سورة الإسراء، فالمحلي لما أتى على قوله تعالى في سورة ص: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص:72] عرف الروح بأنها جسم حي متحرك، وبأن لها حياة وتقلباً، ولكن السيوطي لما أتى على قوله في سورة الحجر: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:28-29] لم يذكر هذه الجملة التي هي تفسير الروح؛ لأنه أتى على هذه الآية وهي قوله تعالى: قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85] فتوقف عن تفسيرها. فالأولى التوقف، والذين خاضوا فيها من العلماء وأطالوا القول فيها(3/119)
عذرهم أنهم يريدون بذلك إقناع أولئك الكافرين أو الكاذبين الذين صاروا يعرفونها بتعريفات بعيدة عن الواقع، فما حمل ابن القيم رحمه الله على الإطالة في تعريفاتها وفي صفاتها إلا أنه يناقش أقواماً ينكرون وجودها، أو ينكرون انفصالها، أو ينكرون تميزها، لهم أقوال عجيبة كما حكاها عنهم في ذلك الكتاب كالفلاسفة ونحوهم الذين يسمونها مثلاً: النفس الناطقة مثلاً، أو يزعمون أنها هذا الكون كله، أو هذا الهواء، أو النَفَس، أو ما أشبه ذلك مما لا أصل له، والأولى أننا نكل علمها وعلم الغيب كله إلى الله تعالى.
الفرق بين النفس والروح
…(3/120)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وأما اختلاف الناس في مسمى النفس والروح هل هما متغايران أو مسماهما واحد، فالتحقيق أن النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة ويختلف تارة، فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالب ما تسمى نفساً إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها، وتطلق على الدم ففي الحديث: (ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه)، والنفس العين يقال: أصابت فلاناً نفس أي: عين، والنفس الذات كقوله تعالى: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61]، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] ونحو ذلك. وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بانفراده، ولا مع النفس، وتطلق الروح على القرآن وعلى جبرائيل، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، وقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193]، وتطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان أيضاً. وأما ما يؤيد الله به أولياءه فهي روح أخرى، كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22]، وكذلك القوى التي في البدن فإنها تسمى أرواحاً، فيقال: الروح الباصرة، والروح السامعة، والروح الشامة، ويطلق الروح على أخص من هذا كله وهو قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذا الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فللعلم روح، وللإحسان روح، وللمحبة روح، وللتوكل روح، وللصدق روح. والناس متفاوتون في هذه الأرواح، فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضياً بهيمياً، فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس: مطمئنة ولوامة وأمارة، قالوا: وإن منهم من تغلب عليه هذه، ومنهم من تغلب عليه هذه كما قال تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ(3/121)
الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر:27]، وكقوله تعالى: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2]، وكقوله تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53]]. تكلم الشارح على تعريف النفس والروح بهذا الكلام الذي سمعنا؛ وذلك لأن هناك خلافاً هل الروح النفس أو الروح غير النفس؟ وذلك لأن كلمة النفس قد تطلق على بعض الأشياء، كما في هذه التعريفات التي سمعنا، فتطلق على الدم، فالدم يسمى نفساً كما في الحديث: (ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه) يعني: كالذباب والبعوض والجراد والفراش، فكل ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء فإنه لا ينجسه؛ لأنه ليس له نفس، يعني: ليس له دم إذا ذبح. كذلك تطلق النفس على ذات الإنسان كما في قوله تعالى: فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61] يعني: على ذواتكم، وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] يعني: لا تقتلوا ذواتكم، فذات الإنسان هي نفسه، وقد يكثر استعمال النفس في مثل هذه المعاني وغيرها. إذاً: النفس في الأصل هي ماهية الشيء وذاته، وأما الإنسان الذي كلفه الله تعالى فقد ناداه بنداء الإنسان: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] والإنسان هو هذا الجنس من بني آدم، ومعلوم أنه مركب من جسد وروح، وهذا النَفَس الذي يدخل ويخرج، ويجتذب هذا الهواء يسمى نفساً، وهو ملازم للإنسان، ونفسه يعني: ذاته توصف بصفات كما سمعنا، توصف بأنها نفس لوامة، وأنها نفس أمارة بالسوء، وأنها نفس مطمئنة، ومن العلماء من يقول: إن للإنسان ثلاثة أنفس: نفس لوامة، ونفس أمارة، ونفس مطمئنة، والصحيح أنها نفس واحدة، تارة يغلب عليها الاطمئنان فتوصف بأنها نفس مطمئنة، فيقال: إن هذا الإنسان نفسه مطمئنة، وتارة يغلب عليها وصف اللوم، يفعل الشيء ويلوم نفسه عليه، فيقال: هذا الإنسان نفسه لوامة، وتارة يغلب عليه السوء والأمر بالسوء، ولهذا(3/122)
قال تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف:53] فهي نفس واحدة تتصف بهذه الصفة تارة، وبهذه تارة، وهذه تارة، ولا تكون ثلاثة أنفس، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء. فما دامت الروح في الجسد فإنها تسمى نفساً وتسمى روحاً، فإذا خرجت الروح من الجسد فإنها لا تسمى نفساً غالباً، وإن كانت قد تسمى بذلك في مثل قول الله تعالى في سورة الأنعام: وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ [الأنعام:93]، يعني: أخرجوا أرواحكم، فإذا خرجت فإنها تقبضها الملائكة وتكفنها، وكذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42] فسماها هاهنا نفساً، فما دامت في الجسد فإنها تسمى نفساً، الله يتوفاها يعني: يقبضها، وبعد قبضها يغلب عليها اسم الروح، وكذلك في النوم نفس النائم تخرج، ولكنها لا تخرج خروجاً كلياً، بل يبقى أثرها على البدن؛ ولهذا ذكروا أنه إذا نام الإنسان فإن روحه تخرج، وتصعد إلى السماء، وترى كذا وكذا من الرؤى ونحو ذلك، وفي حديث الدعاء عند النوم، قال صلى الله عليه وسلم: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، فأفاد بأن النفس قد تمسك، يعني: إذا قبضت في النوم فقد لا ترجع إلى صاحبها إذا أراد الله، وقد ترجع، فهو يقول: إن أمسكت نفسي ولم تردها علي فارحمها، وإن أرسلتها ورددتها علي فاحفظها، يعني: تطبيقاً للآية اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر:42]، يمسكها ولا يردها، ويمسك الأخرى التي لم يقض عليها الموت إلى أجل مسمى، إلى الأجل الذي حدد الله خروج هذه الروح من هذه الجسد. أما كلمة الروح فسمعنا أنها في الأصل مادة الحياة، كل شيء تحصل به الحياة فإنه يسمى روحاً، فالله(3/123)
تعالى سمى القرآن روحاً وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، لماذا سمي القرآن روحاً؟ لأن به الحياة المعنوية، حياة القلوب، الحياة المعنوية هي حياة صحيحة والناس لا يشعرون بها، أو لا يهتمون بها؛ وذلك لأن القرآن إذا تأثرت به القلوب فإنه روح لها وحياة لها أعظم حياة، وأعظم منفعة لها؛ فلذلك سماه الله روحاً، فكما أن الأبدان تحيا بالأرواح فكذلك القلوب تحتاج إلى أرواح معنوية، وهو هذا القرآن وما فسر به وما يتبعه من السنة، وكذلك سمى الله جبريل عليه السلام روحاً في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ [الشعراء:193-194] الروح الأمين هو جبريل عليه السلام، وهو الذي نزل به؛ وذلك لأن الملائكة كلهم أرواح، فجبريل من جملتهم، ولا ينافي ذلك أنهم يصعدون وينزلون، وأن لهم أجنحة وأن لهم أجساداً معنوية لا نراها، فهم أرواح وجبريل من جملتهم، ولكن لجبريل خصوصية بهذه التسمية، حتى قال بعضهم في قول الله تعالى في آخر سورة (عم): يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً [النبأ:38] إن الروح هو جبريل، وقيل: إن المراد بالروح هنا الأرواح، يعني: يوم تقوم الأرواح، سواء كانت أرواح الملائكة أو أرواح بني آدم أو أرواح الجن أو أرواح الشياطين، تقوم الأرواح، وتقوم الملائكة صفوفاً، وبهذا أيضاً فسرت الروح التي في سورة القدر: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر:4] قيل: إن الروح التي تتنزل فيها هي أرواح بني آدم أو أرواح الملائكة تتنزل في تلك الليلة. لكل شيء روح تحيا به تلك الماهية، فالقرآن يسمى روحاً، والإسلام له روح، والإيمان له روح، وكذلك التوكل له روح، والعبادة لها روح، والاستعانة لها روح، وكذلك المحبة والخوف والرجاء وسائر أنواع العبادات لها روح، يعني: لها حقيقة معنوية تتأكد فيها أو تؤكد وتصير بها مؤكدة نافعة، فإذا عرف بأن الروح هو(3/124)
الذي تحصل به الحياة، فكلمة الروح سميت بذلك لأن فيها حياة البدن، ولأنها حية، وقد رجح العلماء المحققون أن الأرواح بعد خروجها من الأجساد باقية كما يقول بعضهم: وأن أرواح الورى لم تعدم مع كونها مخلوقة فاستفهم فهذه حقيقتها، فأرواح بني آدم ما عدمت بعد خروجها من أجسادهم، مع اعتقادنا أنها مخلوقة مكونة بعد أن كانت معدومة، أوجدها الله وكونها، وقد تقدم الخلاف في وقت خلقها، متى خلقت؟ وأن الراجح أنها تخلق مع خلق الإنسان، وتبقى بعد موته. وعلى كل حال فأمر هذه الأرواح وحقائقها يختلف باختلاف الإنسان، وقوة معنويته وضعف معنويته.
هل تموت الروح أم لا؟
…(3/125)
قال الشارح رحمه الله: [والتحقيق أنها نفس واحدة لها صفات، فهي أمارة بالسوء، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها وتلوم بين الفعل والترك، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)، مع قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...) الحديث. واختلف الناس هل تموت الروح أم لا؟ فقالت طائفة: تموت؛ لأنها نفس، وكل نفس ذائقة الموت، وقد قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]، قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى بالموت. وقال آخرون: لا تموت الأرواح فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها. والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد، وأما قول أهل النار رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11]، وقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28] فالمراد أنهم كانوا أمواتاً وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم ثم يحييهم يوم النشور، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات. وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه(3/126)
موتها، فإن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، وليس ذلك بموت، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى، وكذلك صعق موسى عليه السلام لم يكن موتاً، والذي يدل عليه أن نفخة الصعق -والله أعلم- موت كل من لم يذق الموت قبلها من الخلائق، وأما من ذاق الموت أو لم يكتب عليه الموت من الحور والولدان وغيرهم فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية، والله أعلم.] الكلام الأول يتعلق بالأنفس وتعددها، وذكرنا أن الراجح أن النفس واحدة تغلب عليها صفات الإيمان فتسمى نفساً مطمئنة، وتغلب عليها المعاصي فتسمى نفساً لوامة، وتغلب عليها صفة الكفر والبدع فتسمى نفساً أمارة بالسوء، وهي نفس واحدة، هذا هو الصواب. أما الكلام الثاني فيتعلق بموت الأرواح، هل الأرواح تموت؟ قال بعضهم: إنها تموت، وهي إذا خرجت من الأجساد فإنها تحس إذا صعدت إلى السماء، ويخرج منها ريح طيبة أو ريح خبيثة، وتتألم أو تتنعم، فهي لا تزال حية في هذا العالم في البرزخ بعد فراق هذا الجسد، وأما الجسد فإنه يفنى ويصير تراباً، كما قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه:55]. وبعضهم يقول: إن الأرواح بعد خروجها تبقى مدة ثم تموت، فإنه لابد أن يأتي عليها الموت الذي كتبه الله على كل شيء؛ لأنها أنفس، وكل نفس ذائقة الموت، ولابد من فنائها لقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] هذا دليل من قال: إنها تفنى وتموت، وقاسوها على الملائكة، لأن الملائكة لابد أن يموتوا، وكذلك الجن معروف أيضاً أنهم يموتون، مع كونهم أرواحاً، فلابد أن يكون موتهم شيئاً يحسون به، ويحصل بذلك عدم الحياة لهم، فإذا كان الجن يموتون، والملائكة يموتون، فالأرواح التي هي أرواح الإنسان كيف لا تموت؟ هذا قول بعض العلماء. والقول الثاني: أنها بعد خروجها لا تموت، بل تبقى إما منعمة وإما معذبة، وهو ما تدل عليه أحاديث عذاب القبر، وموتها هو مفارقتها(3/127)
لهذا الجسد، فإنها كانت عامرة لهذا الجسد، وكانت منعمة فيه، فنزعت منه، وخرجت منه، كما في أحاديث عذاب القبر أن الملك يجلس عند رأسه فيقول: (اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب -أي: الذي كنت تعمرينه- اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان)، ويقول عند روح الكافر: (اخرجي أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث -أي: الذي كنت تعمرينه- اخرجي إلى غضب من الله وسخط)، فهذا دليل على أن خروجها هو الذي يسمى الموت، خروجها ومفارقتها لهذا الجسد هو موتها حقاً، وهو الموت الذي كتب الله عليها، فإذا خرجت فإنها ماتت، وإن كانت بعد ذلك تبقى حية، وتبقى متحركة ومتنعمة أو متلذذة أو متألمة.
معنى قوله تعالى: (كل من عليها فان)
…(3/128)
قول الله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]، وكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، وكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] المراد بها أنها يأتي عليها الموت الذي هذا صفته، فقد أتى على الروح الموت، وهو مفارقتها للجسد. عند بعض الفلاسفة أن الروح قديمة ليست مخلوقة، وعبر عن ذلك شاعرهم ابن سيناء في قصيدته التي يقول في أولها: هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تقلب وتفجع وصلت على كره فلما وصلت ألفت مرافقة الخراب البلقع وصفها بأنها هبطت من المحل الأرفع من السماء، وشبهها بالورقاء، والورقاء نوع من الطيور تسمى الورق، فذكر أنها وصلت إلى هذا الجسد مكرهة، ولكن بعدما وصلت تمكنت وألفت مرافقته، مع كونه خراباً بدونها، لكن لا يسلم لهم أنها قديمة، بل هي مخلوقة مكونة بعد أن كانت معدومة، فإن الله تعالى هو خالق كل شيء، فأما فناؤها فيحصل بمفارقتها لهذا الجسد، والله تعالى أخبر بأن كل شيء هالك إلا وجهه، فهلاكها معناه خروجها من أجسادها، فهذا موت، وبعضهم يقول: إن قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] المراد كل ما خلق للفناء، وأما ما خلق للبقاء فإنه لا يفنى، ويقول: ما خلق الله الجنة وما فيها من الحور ونحوها إلا للبقاء فلا تفنى، ولا يأتي عليها الموت؛ لأنها خلقت للبقاء، ومنهم من يقول: الحور التي في الجنة تفنى، ثم بعد ذلك تحيا. وأما الصعق الذي ذكره الله في قوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] وكذلك الفزع المذكور في قوله: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل:87] فزع أولاً، ثم صعق ثانياً، فهذا الصعق إن كان على الأحياء فإنه موت، يعني: أن الناس يموتون في ذلك اليوم، إذا نفخ في الصور(3/129)
ماتوا كلهم، وعبر بالصعق عن الموت، والمراد الناس الذين تدركهم الساعة وهم أحياء، ينفخ في الصور فيموتون موتة واحدة، ثم بعد ذلك ينفخ فيه أخرى، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بين النفختين أربعون، قيل: إنه أراد أربعون سنة. وهذا الصعق موت في حق الأحياء، وأما الأرواح فإنه ليس موت في حقها، وإذا صعقت لا يلزم أن تموت، وقيل: إن الأرواح هي من المستثنى في قوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، فالذين يشاء الله عدم صعقهم مثل الأرواح ومثل حور الجنة، وكل ما خلق للبقاء. وبكل حال نؤمن بأن هذا الكون الذي نحن فيه هو الذي يفنى، وأن هناك مخلوقات خلقت للبقاء كالأرواح، فالله هو الذي خلقها وقدر لها مقاديرها، فإذا حصل النفخ في الصور فإنها لا يأتي عليها هذا الفناء والفزع، والصعق يأتي على غيرها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صعق يوم القيامة بعد البعث، وأن الناس يصعقون يوم القيامة، وكأنه صعق لفزع يأتيهم، يقول: (فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟)، صعقة الطور هي المذكورة في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً [الأعراف:143] فدل على أن هناك صعقة يوم القيامة، وهذا الصعق ليس بموت وإنما هو غشية تحصل من هذا الفزع، ثم يحصل بعدها إفاقة، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يفيق، فيجد موسى قد أفاق قبله أو لم يصعق جزاء له على صعقته يوم الطور.
معنى قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين)
…(3/130)
تكلم الشارح على قوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر:11] والصحيح أن هاتين الموتتين والحياتين في الدنيا وفي الآخرة، الموتة الأولى هي الموت في الأرحام وفي الأصلاب، فإنه في حالة كونه في الرحم شبه ميت، ليس به حركة الحي حتى ينفخ فيه الروح بعد الشهر الرابع. الموتة الثانية خروجه من هذه الدنيا، فهاتان موتتان. والحياة الأولى خروجه إلى هذه الدنيا من الرحم فإنها حياة مشاهدة، والحياة الثانية حياته بعد النفخ في الصور يوم القيامة الحياة الباقية. فهاتان الموتتان موتة في الرحم وموتة في الدنيا، والحياتان حياة في الدنيا وحياة في الآخرة، وهي المفصلة في قوله تعالى: وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً [البقرة:28] يعني: في الأرحام، فَأَحْيَاكُمْ [البقرة:28] يعني: في الدنيا، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ [البقرة:28] يعني: في البرزخ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة:28] أي: للآخرة. وقد نصب الله الأدلة على الأمور الغيبية والأمور الأخروية، وأمر العباد بأن يتفكروا وينظروا فيما بين أيديهم وفيما خلفهم، ولا شك أن من نظر في ذلك اعتبر وتذكر واتعظ، إذا نظر -مثلاً- إلى خلق الإنسان، ومبدأ أمره، عرف أن الذي خلقه قادر على أن يعيده، وليس بدأ الخلق أهون من إعادته، نظر إلى الأفلاك العلوية والسفلية فأخذ منها آية دل الله عليها بقوله: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، خلق السماوات مع علوها ومع عظمها وخلق الأرض مع اتساعها أكبر من خلق الناس. والآيات التي أمر الله عباده أن يتعظوا بها وينظروا فيها كثيرة، كقوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الروم:20]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً [الروم:21]، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:22]، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ(3/131)
وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الروم:23]، هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [الرعد:12]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ [الروم:25]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الروم:46] ولا شك أن هذه الآيات عبرة لمن اعتبر، وعظة لمن اتعظ؛ فلأجل ذلك أصبح اليوم الآخر يقيناً عند أهل الإيمان؛ لأنها قامت عليه البراهين بعدما كان المشركون ينكرونه ويقولون: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الصافات:16-17] يستنكرون ذلك، فأقام الله عليهم الحجة، وبين لهم الأدلة. ومعلوم أن الإنسان يتكون من جسد وروح، فبعد الموت تخرج هذه الروح من جسده، ويبقى الجسد ليس به حركة، فيفنى الجسد ويكون تراباً، ولكن قدرة الله أعلى من كل شيء، فهو قادر سبحانه على أن يوصل إليه الألم أو النعيم ولو كان تراباً أو رماداً، الله قادر على كل شيء، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. أما روحه التي كانت تعمر جسده فقد مر بنا أن الروح لا تعدم، وأنها باقية، وأنها في هذا البرزخ بين الدنيا والآخرة إما في نعيم وإما في عذاب، وإن كنا بعقولنا لا ندرك ماهيتها، ولا ندري أين مستقرها، بل نتحقق بأن الروح إذا خرجت من البدن لا تنعدم كما ينعدم البدن، بل تبقى، والدليل على بقائها الأحاديث التي فيها أنها تقبض، وأنه يعرج بها، وأنها ترى من يقبضها، ونحو ذلك، فهي إذاً: باقية في هذه المدة بين الدنيا والآخرة، ويوم القيامة يأمر الله الأرض فتجمع ما فيها من رفات الأموات، وتتجمع عظامهم حتى تتكامل، ويكسوها الله لحماً، ثم بعد أن يعيدها يرسل إليها أرواحها، وقد وقع مثل ذلك في الدنيا، فحكى الله قصة الذي مر على قرية وهي خاوية(3/132)
على عروشها، فاستبعد إعادتها وقال: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259] كأنه استبعد أن تحيا وقد فنيت، فأراه الله الآية في نفسه، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وكان معه حمار، وكان معه سلة طعام وفاكهة، فلما بعثه ونفخ فيه الروح بعد مائة سنة، أراه الله كيف يحيي الموتى، فقيل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوماً أو بعض يوم، فقال الله: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259] أي: لم يتغير، وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ [البقرة:259]، وكان حماره قد فني وأصبح تراباً، وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ [البقرة:259] يقولون: إنه أخذ ينظر إلى عظام الحمار كيف تجتمع ثم يلتئم بعضها ببعض، أولاً التأمت العظام، ثم اكتست لحماً، ثم نبت عليها جلدها، ثم نفخ فيه الروح، فقام الحمار ونهق كما ينهق إذا كان حياً! فأراه الله الآية في نفسه، وفيما كان معه، وذلك بلا شك آية وعبرة تدل أن الله قادر على أن يحيي الموتى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:40]، فإذا أيقن الإنسان بذلك فإن يقينه يحمله على أن يستعد لما بعد الموت.
شرح العقيدة الطحاوية [60]
من عقيدة أهل السنة الإيمان بعذاب القبر، وقد دلت عليه كثير من الأدلة من القرآن والسنة، وقد رد أهل العلم على شبه من ينكره من أهل الأهواء والبدع.
الإيمان بعذاب القبر وفتنته
…(3/133)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، سؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم. والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران). قال تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:45-46]، وقال تعالى: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الطور:45-47]، وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ وهو أظهر؛ لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا، أو المراد أعم من ذلك. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير، ولما يلحد له، فقال: (أعوذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه الملائكة كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. قال: فيصعدون بها فلا يمرون بها -يعني: على ملأ من الملائكة- إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون:(3/134)
فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها الى السماء، فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي؛ فافرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب! أقم الساعة؛ حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ(3/135)
أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً، ثم قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31]. قال: فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فافرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب! لا تقم الساعة) رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وروى النسائي وابن ماجة أوله، ورواه الحاكم وأبو عوانة الإسفرائيني في صحيحيهما وابن حبان ، وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد من الصحيح، فذكر البخاري رحمه الله عن سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقول له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة، فيراهما جميعاً)، قال قتادة : وروي لنا أنه يفسح له في قبره .. وذكر الحديث. وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرىء من البول، وأما الآخر(3/136)
فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا). وفي صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر وللآخر النكير ..)، وذكر الحديث إلخ]. ......
الأدلة على عذاب القبر
…
الإيمان بالبرزخ وما يكون فيه ثبت تفصيلاً بالسنة، وثبتت أدلته من القرآن، وقد روي أن امرأة من اليهود دخلت على عائشة ، فكان من جملة ما قالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فأنكرت عائشة أن يكون في القبر عذاب، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم سألته، فقال: (نعم، إن القبر فيه عذاب وفيه نعيم) أو كما قال. وقد استدل الشارح على عذاب البرزخ بآيات، وابتدأ بقوله تعالى في قصة آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، في بعض الحكايات أن أناساً رأوا في المنام أو في اليقظة أن طيوراً تذهب أول النهار وهي بيض إلى وراء البحر، وترجع في آخر النهار وهي سود، فقيل له: إن هذه أرواح آل فرعون في أول النهار تعرض على النار فتحترق، ثم ترجع فتعود كما كانت، ثم ترجع في آخر النهار فتحترق، يعرضون على النار فيحترقون فتسود ألوانهم، هذا عذاب البرزخ، يعرضون على النار غدواً أول النهار، وعشياً آخر النهار. فإذا كان هذا في حق آل فرعون فكذلك كل كافر، وكل خارج من الإسلام، وكل مبتدع؛ يثبت له هذا العذاب الذي ثبت لآل فرعون. الآية الثانية في آخر سورة الطور، وهي قوله تعالى بعدما ذكر يومهم الذي فيه يصعقون، وهو يوم القيامة، قال: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ [الطور:47] (عذاباً دون ذلك) يعني: قبل ذلك، فسر هذا العذاب بأنه عذاب القبر، وقيل: إنه عذاب في الدنيا، ورجح الشارح أنه عذاب القبر؛ وذلك لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب(3/137)
في الدنيا، فدل على أنه لابد أن يأتيه عذاب قبل عذاب يوم القيامة، ولا يكون إلا عذابه في البرزخ. وقد استدل أيضاً بقوله تعالى في سورة السجدة: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى [السجدة:20-21] ففسر العذاب الأدنى بأنه عذاب البرزخ، فإن عذاب القبر قبل العذاب الأخروي. واستدل أيضاً عليه بقوله تعالى في سورة التوبة لما ذكر المنافقين: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101] المرتان قيل: مرة في الدنيا ومرة في البرزخ، أو مرتين في البرزخ، يعني: عذاب على الأرواح وعذاب على الأبدان، فهذه أدلة تدل على إثبات عذاب القبر من القرآن. وقد تكلم العلماء على القبور وما يكون فيها، فكتب المتقدمون كتباً كثيرة كابن أبي الدنيا له كتاب مطبوع فيمن شوهد يعذب في قبره، وكذلك ابن القيم في كتابه المسمى بكتاب الروح، تكلم فيه على عذاب القبر، وذكر الأدلة عليه، وذكر أنواعه، كذلك تلميذه ابن رجب في كتابه الذي يسمى: (أهوال القبور وأحوال الموتى إلى النشور) تكلم فيه على عذاب القبر وأنواعه، وتوسع في ذلك، وذكروا أمثلة وأدلة على ذلك.
شرح حديث البراء الطويل في عذاب القبر
…(3/138)
وردت أحاديث كثيرة تدل على إثبات عذاب القبر، وذكر الشارح بعضها كما سمعنا، وذكر ابن كثير في التفسير عند قوله تعالى في سورة إبراهيم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] أنها نزلت في عذاب القبر، وقد أورد عندها أحاديث كثيرة طويلة وقصيرة فيها ذكر ما يعرض على الميت في قبره وما يناله من العذاب، ومنها هذا الحديث الطويل الذي سمعناه، فنتأمل في هذا الحديث، ونأخذ منه عبرة. يشترك المؤمن والكافر في أن ملك الموت يجلس عند رأس كل واحد منهما، إلا أنه يقول للمؤمن: اخرجي أيتها الروح الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، ويقول للكافر: اخرجي أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى سخط من الله وغضب. أما روح المؤمن فإنه يسلها كما تسل الشعرة من العجين، أو تسيل روحه كما تسيل القطرة من فم السقاء، وأما روح الكافر فتتفرق في جسده فينتزعها بقوة كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، والسفود هو الذي له أطراف من حديد محددة، إذا أدخل في الصوف المبلول لا يخرج إلا بعد ما يتقطع الصوف، وبعدما يتقطع ما علق به، وأنت إذا أردت أن تخرج شوكة من وسط صوف أو قطن ما تخرج إلا بعد أن يتقطع الذي حولها، فروح الكافر تتفرق في جسده، وينتزعها الملك بقوة فتتقطع العروق، وتتقطع الشرايين، فلا تخرج إلا بقوة، وهذا دليل على أن هذا أول عذاب. وبعدما تخرج الروح تأخذها الملائكة، فملائكة المؤمن كأن وجوههم الشمس، وملائكة الكافر سود الوجوه، ومع ملائكة المؤمن أكفان من الجنة، وحنوط من الجنة، والحنوط هي الأطياب التي يطيب بها الميت، فالميت يطيب بدنه بأنواع من الطيب، وروحه كذلك تطيبها الملائكة بحنوط من الجنة، وياسمين من الجنة، وأكفان من الجنة، وأما الكافر فإن روحه تجعل في(3/139)
تلك المسوح، وهو الخشن من ثياب الصوف الذي في غاية الخشونة، هذا الفرق بينهما. بعدما يُصعد بها يخرج من المؤمن كأطيب ريح مسك وجدت على وجه الأرض، ويخرج من الكافر كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، مع أنها روح، ولكن هذه لها رائحة طيبة، وهذه لها رائحة خبيثة. وكذلك المؤمن يسمونه بأحسن أسمائه في الدنيا، والكافر بأقبح أسمائه في الدنيا، والمؤمن يستفتح له فتفتح له أبواب السماء، ويشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء الثانية، وهكذا حتى تصل روحه إلى السماء السابعة، فعند ذلك يقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتصعد روحه وتصل إلى السماء السابعة، ويكتب كتابه في عليين كما في قوله تعالى: كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18] مشتق من العلو. وأما الكافر فيقول: اكتبوا كتابه في سجين، قال تعالى: كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين:7] سجين قيل: إنه مشتق من السجن، يعني: كأن أرواحهم مسجونة في أسفل الأرض السابعة، فيكون هذا مستقر أرواحهم، ومحل كتابهم، وروح الكافر لا تفتح لها السماء، لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] الجمل هو زوج الناقة، وسم الخياط هو ثقب الإبرة، فالإبرة التي يخاط بها لها ثقب يدخل فيه السلك الذي يخاط به، فكيف يتصور أن الجمل يدخل من ثقب الإبرة التي يخاط بها؟ والمعنى: أنهم لا يدخلون الجنة حتماً؛ لأنه لا يتصور دخول الجمل في سم الخياط. كذلك روح الكافر تطرح من السماء طرحاً إلى الأرض، واستدل عليه بقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] في مكان بعيد، فتطرح روحه طرحاً.(3/140)
وكل منهما تعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان يقال لهما: منكر ونكير كما سمعنا، ويسألانه عن ثلاث مسائل: عن ربه ونبيه ودينه، فيثبت الله المؤمن وينطقه بالصواب، ولو كان أمياً، ولو كان لا يقرأ، ولكن عقيدته التي مات عليها يبقى عليه أثرها، فينطقه الله بأن يقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، أما الكافر فكما سمعنا ولو كان قارئاً، ولو كان عالماً، ولو كان فاهماً، يزيغه الله ويضله، فلا يدري بالجواب، فيقول: هاه هاه! لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، وفي بعض الروايات: (يضرب بمرزبة من حديد)، والمرزبة هي حديدة كبيرة لها رأس كبير، يضرب بها، يقول في بعض الروايات: (لو ضرب بها جبل لكان تراباً)، وماذا يتحمل هذا الإنسان الذي يضرب بهذه المرزبة؟! ولكن لأن الله ما أراد إفناءه لم يفن، فيتألم بذلك وإن كنا لا نشعر بذلك، ولا تدركه أفهامنا. ثم إذا سئل المؤمن وأجاب بالجواب الصحيح يقول الله: صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحانها، وينظر إلى منزله من الجنة، وفي بعض الروايات: (يفتح له بابان: باب إلى النار ويقال: هذا المنزل الذي أعاذك الله منه، وباب إلى الجنة ويقال: هذا منزلك الذي أبدلك الله به -فينظر إليهما ويراهما جميعاً، ويتمنى أن تقوم الساعة- فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، فيفسح له في قبره مد بصره)، ويكون القبر عليه روضة من رياض الجنة، وإن كنا لا ندرك ذلك. وأما الكافر والعياذ بالله فيقول الله: كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، فيكون عليه حفرة من حفر النار، وإن كنا لا ندرك ذلك؛ لأنه في عالم ونحن في عالم.
الرد على من ينكر عذاب القبر
…(3/141)
وردت الأدلة التي تثبت عذاب القبر مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا وضع الرجل في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيجلسانه)، إلى آخر الأحاديث التي سمعنا. فإذا قال قائل: أين العذاب ونحن قد نحفر القبر بعد يومين أو بعد أيام ونجده كما هو لم يتغير؟ ويقول بعضهم: إنا نضع على صدره الزئبق الذي هو خفيف الحركة، ومع ذلك نجده على حاله لم يتغير عن موضعه، فكيف يكون العذاب مع هذا؟ فالجواب: أنكم في عالم وهم في عالم، والعالم الذي هم فيه هو عالم الأرواح، ولا شك أن الروح هي التي يكون عليها الحساب، وعليها العذاب، وهي التي تتألم وتتنعم، ونحن لا نشعر بذلك، ولا تدركه أفهامنا، والذي في الدنيا لا يشعر بما يكون بعد الموت؛ فلأجل ذلك يقول في الحديث: (إنه يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق) لو أسمعنا الله ما يكون من أهل القبور لما استقر الناس في الدنيا، ولما تهنوا بمأكل ولا بمشرب، ولما عمرت هذه الدنيا بأهلها؛ لأنهم إذا كانوا يسمعون عذاب هؤلاء وصياحهم وعويلهم، ويعلمون أنهم سيصيرون إلى مثل ذلك، تنكدت عليهم الحياة، وتكدر عليهم صفوها، وتكدرت عليهم معيشتها؛ فلأجل ذلك لما أراد الله عمارة هذه الدنيا حجب عنهم الأمور الأخروية، التي أولها ما بعد الموت، حجبها عنهم فلا يسمعون شيئا ًمما فيها، ولا يعلمون حقيقته، ولكن قد يطلع الله أفرادا ًعلى شيء من ذلك، ومن أراد أمثلة لذلك فيرجع إلى الكتب التي ذكرنا، مثل كتب ابن أبي الدنيا فله رسائل في ذلك، وكتاب أهوال القبور لابن رجب ، وكتاب الروح، فقد ذكروا عن أناس أنهم أطلعوا على بعض الأمور الأخروية، ومنها ما هو أحلام ومرائي، ومنها ما هو رأي عين، وفي بعض الحكايات أن بعضهم رؤي في المنام وعلى وجهه سفعة من سواد، فقيل له: ما هذا السواد في وجهك؟ فقال: دفن عندنا بشر المريسي فزفرت جهنم زفرة، فنال جميع أهل القبور منها هذه السفعة من السواد!(3/142)
ومعلوم أن المقبورين قد يكون أحدهما سعيداً والآخر شقياً، ويدفنان في قبر واحد، ويكون هذا قبره روضة من رياض الجنة، وهذا حفرة من حفر النار، وهما ملتصقان، ولا يتألم هذا بعذاب هذا، ولا يتنعم هذا بنعيم هذا، والله قادر على كل شيء؛ لأنه يقدر على إيصال كلٍ ما يستحقه، ولا يستبعد في قدرة الله أمثال هذه الأمور. وأما الحكايات الدنيوية فذكروا منها أشياء كثيرة، ذكروا أن فلاناً لما دفنوه، وسووا عليه لبنه، سقطت قلنسوة واحد منهم، فخفض رأسه ليأخذها، فرأى القبر قد مد وقد وسع في نظر عينه، ولم يره غيره! وهذه بشرى. وكذلك يحكى عن كثير من الذين يشهد لهم بالخير أنه يخرج من قبورهم رائحة المسك، وأنه يشم منهم قبل أن يدفنوا روائح طيبة على الأبدان، فكيف بالأرواح؟! ولا شك أن الله سبحانه أخبر على لسان رسله بهذه الأمور، وأظهر منها علامات لتكون شاهداً ودليلاً للأمة على مثل هذه الأمور التي لم يروها.
إطلاع الله نبيه على عذاب بعض أهل القبور
…(3/143)
أطلع الله نبيه على ما لم يطلع عليه غيره، ففي بعض الأحاديث أنه كان صلى الله عليه وسلم راكباً على حمار فأقبل على خمسة قبور، فحادت الأتان التي كان راكبها، فنزل وسأل: (لمن هذه القبور؟) فأخبر بأنهم من المشركين، فأخبر بأن الأتان -التي هي أنثى الحمر- لما سمعت عذابهم أو أحست بما هم فيه من العذاب حادت، فأطلعه الله على ذلك، ولم يطلع عليه غيره، ولا يلزم أن يكون ذلك مطرداً، يعني: ليس كل من ركب حمار ومر على قبر أن ينتبه له ذلك الحمار أو نحوه، والدواب قد يكون لها سماع وانتباه لشيء لا نسمع به، ولكن قد لا يظهر عليها أثر ذلك السماع، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الدواب في صباح كل يوم جمعة تصيخ قرب الصباح إلى طلوع الشمس تخشى أن يكون ذلك هو يوم القيامة، يقول في الحديث في فضل يوم الجمعة: (وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس مخافة أن تقوم الساعة)، ونحن لا نشعر بهذه الإصاخة التي فيها، ولا هذا الوجل، ولا هذا الخوف، وكذلك أيضاً لا نشعر بما يحصل لها من الخوف أو من السماع المفزع أو نحو ذلك، وأما الرسل فالله تعالى يطلعهم على بعض الأمور الغيبية، ومن ذلك أن الله أطلع نبيه على هذين القبرين اللذين يعذبان، وما يعذبان في كبير، وقد مر الحديث، وفيه: (أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة فشقها نصفين، وغرز في كل قبر واحدة وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)، وهذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، فالله تعالى هو الذي يطلعه على ما يشاء، ولا يجوز لغيره أن يغرز جريدة أو عصاً رطبة على أي قبر، ولا يمكن أن يقاس على الجريدة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم غيرها. وقد ذكر عن بعض العلماء أنهم استحبوا أن يغرس على كل قبر جريدة، وكلما يبست نزعوها وغرسوا أخرى، وهذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع كل أحد، ولم يفعله الصحابة، ولا نقل عن الأئمة، فلا(3/144)
يجوز، ولا يكون له وجه من الدلالة، ولكن علينا أن نعمل الأعمال الصالحة التي تنجي من عذاب القبر، وعلينا أن ننصح المسلمين ألا يعملوا عملاً يدخلهم في العذاب، أو يؤهلهم إلى العذاب، ونحثهم على الأعمال الصالحة التي يستحقون بها نعيم البرزخ، وينجيهم الله بها من عذاب النار، وعذاب القبر.
الدعاء للميت بالنجاة من عذاب القبر
…
يستحب في الصلاة على الجنازة أن يدعى للميت بالنجاة من عذاب القبر، يقال في آخر الدعاء له، بعدما يدعى له بالمغفرة، وأن تكفر عنه خطاياه: اللهم افسح له في قبره، ونور له فيه. وهذا مما يرجى إجابته، فيفسح له في قبره، ويقال أيضاً: اللهم أنجه من عذاب القبر وعذاب النار. هكذا يستحب أن يدعى للميت، ويدعى كذلك لكل المسلمين أن ينجيهم الله من عذاب القبر، ومن فتنة القبر، ومن فتنة ما بعد الموت. وإجماع المسلمين على الدعاء بذلك، حتى أوجبه بعضهم في آخر الصلاة، دليل على أنهم يوقنون بذلك، ويدل على وجوده قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)، فجعل من جملتها عذاب القبر، فدل على أنه عقيدة راسخة عند المسلمين، وهي أن القبر فيه عذاب، ولو لم يقبر الميت، قد يقال: إن هناك أمماً لا يدفنون أمواتهم، بل يحرقونهم كما هو معروف، وهناك من يموت في صحراء ولا يدفن، بل تأكله الطيور، وتتقطعه السباع، ولا يبقى له جثة تدفن أبداً! فنقول: يأتيه عذابه أو نعيمه ولو كان رماداً، ولو كان تراباً، فقدرة الله تأتي على كل شيء، يعذب أو ينعم أياً كانت حياته وحالته، لكن الأصل شرعية الدفن للأموات، فالإسلام شرع التدافن، يقول الله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21] أي: فشرع أن يقبر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع) كأنه يقول: إنهم لو سمعوا ما يسمعه من(3/145)
المعذبين في القبر لخشي أنهم لا يتدافنون، فيقولون: لا حاجة إلى الدفن، لا ندفنه إذا كان يعذب في قبره، لكن شرع الله التدافن، وقدر أن يصل العذاب أو النعيم إلى كل أحد سواء دفن أو لم يدفن.
شرح العقيدة الطحاوية [61]
اختلف العلماء في مستقر الأرواح بعد الموت، والراجح أنها تتفاوت في مستقرها بعد الموت تفاوتاً كبيراً بحسب منازلها، وقد دل على هذا نصوص كثيرة من الكتاب والسنة.
الأرواح
…
من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله، وبما أخبرت به رسل الله، فالإيمان بالرسل داخل في الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر داخل في الإيمان بالله؛ لأنه خبر الله، الله هو الذي أرسل الرسل، فمن آمن بالله آمن برسله، والله أخبر باليوم الآخر فمن آمن بالله آمن بخبره، واليوم الآخر يراد به ما بعد الموت، كلما يكون بعد الموت فهو من اليوم الآخر؛ ولذلك يقولون: من مات فقد قامت قيامته، فأول الآخرة وأول مراحلها خروج الروح، وبعدها يبدأ الإنسان في الجزاء، قبل خروج الروح هو في العمل، وبعدها يدخل في الجزاء، ويلقى جزاءه من حين تخرج الروح حيث يلقى مقدمات الجزاء على الأعمال إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وقد عرفنا ما يحصل لروح المؤمن ولروح الكافر عند خروجها، وإن كنا لا نراها، وكذلك ما يحصل من عذاب القبر ونعيمه، ومن سؤال منكر ونكير، فذلك كله داخل في الإيمان باليوم الآخر، وإذا آمن العبد بما بعد الموت فإن من آثار الإيمان الاستعداد، وهو أن يعمل لما بعد الموت كما في الحديث: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت) والكيس: هو الحازم الفطن، الذي دان نفسه يعني: حاسبها وعمل لما بعد الموت، فإن ما قبل الموت قد ضمنه الله لمن عمل عملاً صالحاً، بل لكل الخلق، وإنما الذي لم يضمن هو ما بعد الموت، فليجتهد العبد حتى إذا قامت قيامته وجد جزاءه أحوج ما يكون إليه. ......
مستقر الأرواح بعد الموت
…(3/146)
قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [وقد اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة، فقيل: أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار، وقيل: إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها، وقيل: على أفنية قبورهم، وقال مالك : بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت، وقالت طائفة: بل أرواح المؤمنين عند الله عز وجل، ولم يزيدوا على ذلك، وقيل: إن أرواح المؤمنين بالجابية بدمشق، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت، وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس، وقيل: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكافرين ببئر برهوت، وقيل: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله، وقال ابن حزم وغيره: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها، وقال أبو عمر بن عبد البر : أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم، وعن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة، تأتي ربها كل يوم تسلم عليه، وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض، وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه، وقولهم مخالف للكتاب والسنة. وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح، وهذا قول التناسخية منكري المعاد، وهو قول خارج عن أهل الإسلام كلهم، ويضيق هذا المختصر عن بسط أدلة هذه الأقوال والكلام عليها، ويتلخص من أدلتها أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت، فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم، ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا كلهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن(3/147)
دخول الجنة لدين عليه، كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: (يا رسول الله! ما لي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولى قال: إلا الدين، سارني به جبرائيل آنفاً). ومن الأرواح من يكون محبوساً على باب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة)، ومنهم من يكون محبوساً في قبره، ومنهم من يكون في الأرض، ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة، كل ذلك تشهد له السنة، والله أعلم]. الأرواح باقية بعد الموت، والفناء يكون على الأجساد، فإذا عرفنا أن الأرواح باقية فأين تكون هذه الأرواح؟ سمعنا هذه الأقوال الكثيرة في مستقر الأرواح، وهذه الأقوال الغالب أنها مبنية على الظن، وقد يكون بعضها له دليل، ولكن يظهر أن الأرواح تتفاوت بحسب الأعمال، والله تعالى قد ذكر بعض هذه الأقوال أو أشار إليها، وكذلك الأحاديث، فقد ثبت في الحديث الصحيح: (أرواح الشهداء في جوف طير خضر تعلق من شجر الجنة)، ومعناه: أن أرواحهم تكون في الجنة، وثبت في القرآن أن أرواح آل فرعون تعرض على النار: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً [غافر:46] وعلى هذا فأرواح آل فرعون في النار تعرض عليها غدواً وعشياً. وورد في القرآن قول الله تعالى: كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين:7] وإِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18] وسجين فسر بأنه في الأرض السابعة، وعليون فوق السماء السابعة، ومعنى أن كتابهم في عليين أي: كتاب أعمالهم وقيل: وأرواحهم كذلك، وقد مر بنا في حديث البراء الطويل أن الله يقول: (اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وردوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم)، ويقول في الكافر: (اكتبوا كتاب عبدي في سجين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها(3/148)
أعيدهم)، وذكر فيه أن روح الكافر تطرح طرحاً، وقرأ قول الله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31] فدل على أنه يطرح من السماء، ويتألم بذلك الطرح.
الروح لا تدركها الأبصار في الدنيا
…
الروح بعد خروجها من الجسد ليست مرئية، لا يراها البشر، ولا تدركها الأبصار كما لا يرون الشياطين ولا يرون الجن، فكذلك لا يرون أرواح الموتى عند خروجها، فأما مستقرها فلم يرد نص صريح في أنها تستقر في مكان كذا وكذا، فالذين قالوا: إنها تنعدم العدم المحض فهؤلاء ينكرون عذاب القبر، وينكرون نعيمه، وينكرون تألم الروح، وينكرون إعادتها في الجسد؛ لأنها إذا عدمت كما عدم البدن ما بقي لها حياة، ولا بقي لها تألم ولا عذاب، ولا صار القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار كما تقدم، فهذا قول باطل، وهو قول من يقول: إنها تنعدم. وكذلك القول الذي هو أبشع منه -وهو قول الفلاسفة- أنها تكون في أجساد تلائمها، فروح الكافر إذا مات جعلت في كافر آخر، وروح المؤمن إذا مات جعلت في مؤمن آخر جديد، إذا مات هذا وولد هذا أخذت روح هذا ونفخت في هذا، ويسمى هؤلاء أهل التناسخ أو التناسخيين؛ وذلك لأنهم يقولون: نسخت روح هذا وجعلت في هذا. وينكرون أيضاً بعث الأجساد، وهذه عقيدة الفلاسفة، يقولون: الأجساد لا تعود، وكذلك ينكرون بدء الخلق، ويقولون: الخلق ليس له مبدأ. وينكرون أيضاً فناء الدنيا، ويقولون: هذه الدنيا مستمرة وليس لها نهاية، بل تستمر هكذا إلى غير نهاية، وينكرون الحشر والجزاء في الآخرة ويوم القيامة والنفخ في الصور وما أشبه ذلك، هؤلاء هم التناسخيون والفلاسفة. أما الذين يقولون: هذه في الجنة وهذه في النار، أو يقولون: إن أرواح المؤمنين على أبواب الجنة، وأرواح الكافرين على أبواب النار، أو يقولون مثلاً: إن أرواح المؤمنين على أفنية(3/149)
قبورهم، وكذلك أرواح الكافرين، أو يقولون: إنها في داخل القبور، أو يقولون مثلاً: إن أرواح المؤمنين في بئر زمزم، وإن أرواح الكافرين في بئر برهوت، وهي بئر منتنة كما يذكر بعضهم، وهي في بلاد حضرموت؛ كل هذه أقوال ظنية ليس لها دليل قطعي، ونحن تحققنا أن الأرواح تخرج من الأبدان، وأن أرواح المؤمنين منعمة، وأرواح الكافرين معذبة، وأما مقرها فلا علم لنا به.
كيفية تعارف الأرواح
…
إذا خرجت الأرواح وهي باقية، فكيف مع ذلك تتعارف؟ ورد في الحديث: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، فهي أرواح ومع ذلك يلقى بعضها بعضاً، فكيف يعرف هؤلاء أن هذه روح فلان؟ لابد أنهم يعرفون الروح بميزة تتميز بها، حتى ولو كانت روحاً، والأجساد فيها علامة ظاهرة يتميز بها الناس، في صورته في طوله في قصره في شعره في وجهه في بياضه في سواده، والروح لابد أن لها هناك ميزة يعرفونه بها ويميزونه، فالصحيح أنها باقية، وأنها تتعارف، وتتآلف، وأنهم يلقى بعضهم بعضاً، جاء في بعض الأحاديث: (إذا مات الميت وخرجت روحه تلقاه الأموات الذين سبقوه، وقالوا: ما فعل فلان؟ فإذا قال: إنه قد جاءكم، يعني: قد مات، قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم وبئست المربية)، إذا كان مات ولم يأتهم عرفوا أنه بعد موته شقي، وأنه ذهب به إلى دار غير دارهم، فدل على أن أرواح المؤمنين تجتمع، ويأتي بعضهم بعضاً، ويعرف بعضهم بعضاً، ويتفقد بعضهم بعضاً، ويفرحون بمن مات وجاءهم، وصار معهم في أرواح المؤمنين، ويحزنون إذا مات أحد ولم يأتهم، ويعرفون أنه ذهب به إلى غير موضعهم ومحلهم، وهو الهاوية التي هي دار العذاب، فكل ذلك دليل على أنهم يتلاقون، وأما مقرهم فالله أعلم هل هو في السماء أم في الأرض أم على أفنية القبور أو في الجنة أو في النار أو في بئر برهوت أو في بئر زمزم أو أي مكان؟ كل ذلك ليس عليه دليل يقيني، والذي تحقق بقاؤهم وتلاقيهم.(3/150)
أرواح الشهداء
…
قال الشارح رحمه الله: [وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره في قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، وقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، فهي أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أصيب إخوانكم -يعني: يوم أحد- جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مدللة في ظل العرش)، الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود ، وبمعناه في حديث ابن مسعود رواه مسلم . فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه، أعاضهم منها في البرزخ أبداناً خيراً منها، تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها؛ ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين: ففي الموطأ أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله قال: (إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه)، فقوله: (نسمة المؤمن) تعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال: (هي في جوف طير خضر)، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم، وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة من كثير منهم، فله نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه، والله أعلم. وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء كما روي في السنن، وأما الشهداء فقد شوهد منهم -بعد مدد من دفنه- كما هو لم يتغير،(3/151)
فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة والله أعلم، وكأنه -والله أعلم- كلما كانت الشهادة أكمل، والشهيد أفضل، كان بقاء جسده أطول]. البحث الذي تقدم هو على الأرواح عموماً، وهذا الكلام على أرواح الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، فقد أخبر الله بحياتهم فقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171]، وكونهم أحياء هي حياة برزخية، ومعلوم أنهم أموات، أي: أن أرواحهم قد خرجت من أبدانهم، ومعلوم أن أبدانهم بقيت لا إحساس فيها ولا حياة فيها كحياة أهل الدنيا، ومعلوم أنهم ليسوا كحياتهم قبل أن يموتوا أو يقتلوا، فلا يحتاجون إلى أكل، ولا شرب، ولا تخل، ولا تنقل، فهي حياة برزخية، وقد فارقوا الدنيا، وقسمت أموالهم على الورثة، وحلت نساؤهم لغيرهم. فحياتهم -كما ذكر الله- عند ربهم، فهم أحياء عند ربهم، وهذه العندية تفيد مزية، وتفيد فضيلة، فهم عند ربهم يرزقون، ولو كانوا في الجنة فهم عند ربهم، ولو كانوا في قبورهم فأرواحهم عند ربهم، وأخبر بأنهم يرزقون، والرزق قد يكون حسياً، وقد يكون معنوياً، فإذا كان حسياً فمعناه أنهم يحتاجون إلى ما يحتاج إليه أهل الدنيا من الأكل والشرب، ولكن معلوم أن ذلك ليس للأجساد، وإنما هو للأرواح، ففي هذه الأحاديث أن أرواحهم نقلت إلى أجساد طير خضر تعلق في شجر الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة في الجنة، ومعلوم أن الطير تشاهد بالعين؛ ولهذا وصفها بأنها خضر، فكأن روح الشهيد أدخلت في هذا الطير، فأصبح حياً(3/152)
يطير ويتقلب ويدخل الجنة، ويعلق في شجرها يعني: يأكل، ويأوي إلى قناديل، والقناديل هي السرج التي فيها أنوار معلقة في الجنة، فهذه هي أرواحهم، وذكر الله أنهم يستبشرون بأصحابهم الذين يأتونهم، كلما جاءهم شهيد فرحوا به، يستبشرون بمن جاءهم من الأحياء، ويستبشرون أيضاً بنعمة الله التي أنعم عليهم. لا شك أن الشهداء لهم هذه المزية، وهي أن أرواحهم باقية، وأنها في أجساد، وأنها تتنعم، أما أرواح غيرهم فلم يذكر أنها في أجساد، بل تكون بدون جسد، أرواحهم كأرواح الشياطين وأرواح الجن ليس لها أجساد تقوم بها. كذلك أيضاً معلوم أن أبدانهم تدفن في الأرض، وقد يكون بعضها لا يستطاع دفنه، فإن كثيراً من الوقائع التي وقعت بين المسلمين والمشركين يقتل فيها مثلاً خمسون ألفاً، أو مائة ألف، ويصعب أن يدفنوا، فيبقون على الأرض، إما أن تطول مدتهم وهم باقون على الأرض وإما ألا تطول مدتهم، وبلا شك أنهم يفنون بالعيان، تأكلهم الأرض وتأكلهم الطيور، وما أشبه ذلك، أما الذين يدفنون فقد ورد ما يدل على أنهم يبقون مدة، فذكر جابر رضي الله عنه أن أباه لما قتل في أحد دفن هو ورجل آخر في قبر واحد، يقول: فلم تطب نفسي أن أتركه ومعه غيره، فحفرت قبراً مستقلاً، وذلك بعد ستة أشهر أو نحوها، يقول: فاستخرجته فإذا هو كما هو، لم يتغير بعد ستة أشهر إلا شعرات في قفاه قد أكلتها الأرض، تغير الشعر فقط، أما بدنه فإنه متصلب وباقٍ لم تأكله الأرض، هذا والد جابر بن عبد الله. وذكر لنا قبل سنوات، أن بعض الإخوان ذكروا أنهم حفروا في بعض الأماكن فعثروا على جثة أحد الإخوان الذين قتلوا في سنة سبع وثلاثين في الوقعة التي تسمى تربة وإذا هو لم تأكله الأرض. أي: بعد أكثر من خمسين أو ستين سنة لم تأكله الأرض، ولا يزال بدنه باقياً. وذكر لنا أيضاً عن القتلى الذين قتلوا في أفغانستان أن كثيراً منهم نبشوا بعد أيام، ووجدوا لم تأكلهم الأرض، ويذكرون أنهم يجدون القتلى من(3/153)
الشيوعيين ورائحتهم نتنة، بعد اليوم الثاني لا يستطيع أحد أن يقربهم، والقتلى من المسلمين الشهداء يدفنون بعد خمسة أيام ولا يحس برائحتهم، بل يكون منهم رائحة المسك، فهذا دليل على هذه الحياة، وأن الحياة يصل أثرها إلى البدن: أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]؛ ولأجل ذلك قال الله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة:154]، فحياتهم ولو كانت حياة برزخية، ولو كانت حياة على الأرواح، لكن يصل أثرها إلى الأجساد، ولو أنها فنيت بعد مدة، ولو تمزقت وصارت أشلاء، لكن لابد أن أثر هذه الحياة ونعيمها ينال البدن كما ينال الروح، وهذه من كرامة الله لأوليائه الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله، لما رخصت عندهم هذه الحياة، وآثروا الحياة الآخرة على الحياة الدنيا، وقدموا رضا الله تعالى على شهوات نفوسهم؛ عجل لهم الثواب عاجلاً، فيرى أثره في الدنيا، يراه أهل الدنيا، ولعل في ذلك ما يحمل أهل الدنيا على المنافسة، وعلى بذل المهج في سبيل الله، وعلى بذل كل شيء فيه إعزاز دين الله ونصره، فهذا معنى الحياة التي وصف الله بها الشهداء من عباده، وقد سماهم شهداء في قوله تعالى: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140]، والشهداء هم الذين يقتلون في سبيل الله، سموا بذلك، قيل: لأنهم يشاهدون الآخرة كرأي العين، وقيل: لأنهم شهداء على الأمة كقوله تعالى: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78] هذا بالنسبة لأرواح الشهداء.
أرواح الأنبياء
…(3/154)
الأنبياء أعلى مقاماً من الشهداء؛ وذلك لأن الله ميزهم بميزة، وخصهم بكرامة، وهي اختصاصهم بالنبوة، وبالوحي، وبالرسالة، وبالفضيلة التي فضلهم بها على غيرهم، ومعلوم أنهم يموتون كما قال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وإذا كانوا يموتون ولابد بمعنى أنهم يخرجون من هذه الدنيا إلى الآخرة، فإن لهم حياة أكمل من حياة الشهداء، ولكنها حياة برزخية أكمل من حياة الشهداء، فأجسادهم لا تبلى، بل تبقى في القبور ولا تأكلها الأرض، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا من الصلاة علي فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله! كيف تعرض عليك وقد أرمت -أي: بليت-؟ فقال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، فأجساد الأنبياء لا تأكلها الأرض ولا تبلى، ولو أنهم دفنوا في الأرض، ولو لم تعرف أماكنهم. ومن العلماء من يقول: إنهم يرفعون؛ ولذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السماء، فرأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ورأى يوسف في السماء الثالثة، ورأى إدريس في السماء الرابعة، ورأى هارون في السماء الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، ولكن الصحيح أن الذي رآه أرواحهم، وأنها مثلت في أجساد حتى رأوه وعرفوه وسلموا عليه، وقالوا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، أما أجسادهم فيمكن أنها رفعت، ويمكن أنها دفنت في الأرض، وهو المتبادر. وبكل حال فلا شك أنهم أكمل من الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، وبلا شك أن بعض الشهداء قد يكون عليه شيء من الذنوب التي لا تكفرها الشهادة، كما في الحديث أن رجلاً قال: (يا رسول الله! هل تكفر الشهادة ما علي من الذنوب؟ قال: نعم، ثم قال: إلا الدين، أسره إلي جبريل)، أو قال: (أرأيت إن قتلت في سبيل الله هل يغفر لي؟ قال: نعم، ثم قال: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله(3/155)
أيغفر الله لي؟ فقال: نعم إلا الدين)، فهذا دليل على أن الذي عنده شيء من حقوق الآدميين لا تغفر له، بل لابد فيها من المحاقة والمقاصة في الآخرة، فإذا لم يوف له أولياؤه في الدنيا فإنها تؤخذ من أعماله في الآخرة، وأما خطاياه التي بينه وبين ربه فإن القتل في سبيل الله يمحوها كلها، ولا يبقى عليه ذنب.
شرح العقيدة الطحاوية [62]
حقيقة الخلاف بين أبي حنيفة وأهل السنة في مسمى الإيمان
…
السؤال: نرجو من فضيلتكم زيادة الإيضاح: كيف يكون الخلاف بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة خلافاً معنوياً وليس خلافاً صورياً كما قال الشارح رحمه الله، مع أن الجميع متفقون على أن فاقد الإيمان كافر، وفاقد العمل فاسق؟ الجواب: هذه المسألة سيشرحها ويوضحها الشارح فيما بعد، ويذكر الأدلة التي يستدل بها الحنفية، والراجح أن النزاع معنوي لا لفظي، ويوضح أنه ليس بلفظي أن الذين يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان؛ يتوسعون في فعل الذنوب، ويسهلون المعاصي، ويكثر فيهم اقتراف السيئات، ويقولون: ما دامت ليست من الإيمان، وما دام أن الإيمان كامل بدون هذه الحسنات، وبدون هذه القربات، فما لنا ولها؟ فلا حاجة إلى أن نتنفل، ولا حاجة إلى أن نتصدق، ولا حاجة إلى أن نتوقى المآثم والمحرمات؛ لأنها لا تنقص الإيمان، فيكثر التساهل منهم في مثل هذا، وهذا ناتج عن هذا القول، وهو القول بأن الأعمال ليست من مسمى الإيمان. أما إذا جعلناها من مسمى الإيمان فإننا نقول: إنها كلها يكون لها تأثير في الإيمان، فإذا صلى ركعتين نافلة زاد إيمانه، وإذا تصدق بصدقة ولو قليلة زاد إيمانه وانضم إليه هذا العمل، وإذا تكلم بكلمة خير زاد إيمانه، وإذا أمر بمعروف أو نهى عن منكر زاد إيمانه، وإذا خطا خطوات لله تعالى في عمل صالح زاد بذلك إيمانه، وما أشبه ذلك. كما أنه ينقص إيمانه إذا فعل ضد ذلك، إذا نطق بكلام سيء نقص إيمانه، وإذا مشى إلى ملاهي أو مآثم نقص إيمانه، وإذا أنفق(3/156)
في سبيل الشيطان نفقة سيئة كان ذلك نقصاً في إيمانه، وهكذا. فهذا هو التفاوت بين من يقول: إن الأعمال ليست من الإيمان، ولا حرج عليه إذا عصى وإذا أذنب، وإيمانه كامل، وهذه المعاصي لا يكون لها تأثير في الإيمان، ولا يكون لها تأثير في نقصه، ولا غير ذلك، فالإيمان موجود، والإيمان كامل، والأعمال زائدة عليه، وإن كان الناس يتفاوتون في الثواب والعقاب؛ فيفتح للناس باب التساهل في ترك الطاعات، وفي فعل شيء من المآثم، هذا هو النتيجة، أما إذا قلنا: إن الأعمال من مسمى الإيمان، وإنها داخلة فيه؛ فإن الإنسان يحرص على ما يكمل إيمانه، ويبتعد عما ينقص إيمانه. ......
التعامل مع من يقول: الإيمان في القلب، ويترك العمل
…
السؤال: إنا نرى في زماننا هذا، وبين معارفنا مذهب جهم بن صفوان ، حيث إذا أمرنا أحداً بالمعروف، ونهيناه عن المنكر الذي هو واقع فيه قال لك: إن الإيمان بالقلب، أو قال: المهم أن تكون النية صالحة، فكيف نتعامل مع هؤلاء جزاكم الله خيراً؟ الجواب: عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. فجعل الذي في القلب يظهر على الأعمال، فنحن نقول لهذا: أثبت لنا أنك مؤمن، هل تريد أن نشق عن قلبك حتى نرى أنه أبيض أو أسود؟ نحن إنما نعاملك بالظاهر، فظاهرك أنك فاسق، وظاهرك أنك عاصي، وظاهرك أنك طريد شريد، ونحن نبغضك على ما يظهر منك، ونحن نمقتك وإن كان قلبك ما كان، فنحن ما نعاملك إلا بما يظهر لنا، ولا يصح أن نحسن الظن بكل أحد يقول: أنا مؤمن؛ فإن الناس لا يوثق بأقوالهم. وبكل حال هؤلاء الذين يتمادون في العصيان، ويتركون العبادات والطاعات، ويدعون أن إيمانهم كامل، وأن الإيمان يكفي فيه المعرفة في القلب الذي هو مذهب جهم؛ فسقة سيما إذا تظاهروا بالعصيان، فلا نصدقهم، بل نعاقبهم بالعقوبة التي تردعهم وتردع أمثالهم. ......
متى يغلب الرجاء على الخوف أو العكس؟
…(3/157)
السؤال: هل يكون رجاء الإنسان حال المصائب أغلب من خوفه دائماً أم أن ذلك مخصوص بالمرض الذي يتيقن أنه سيموت بعده؟ الجواب: في حالة المرض يغلب جانب الرجاء سواء رجي زوال ذلك المرض أو لم يرج، يعني: يحسن الظن بربه، ويقبل على ربه وهو واثق بأن الله تعالى واسع الرحمة وكثير العطاء، وأنه عفو يحب العفو، ويحب المغفرة، وأنه أهل التقوى وأهل المغفرة، فكل من أصيب بمصيبة أو مرض أو نحو ذلك؛ عليه أن يحسن الظن بربه، ويرجو رحمة ربه، ومع ذلك يكون خائفاً وجلاً لا يزول الخوف عن قلبه، يكون خائفاً ويكون راجياً، ولكن يغلب الرجاء؛ لأنه في هذه الحال قد لا يحسن بعض الأعمال، ويأتي من الأعمال ما يفسدها، فيلعج بالدعاء، ويكثر من الذكر، وينوي النية الصادقة أنه إذا شفي أكثر من الحسنات والقربات، وما أشبه ذلك، ويثاب على هذه النية. ......
حكم من يستهزئ بمن استقام على الدين
…(3/158)
السؤال: ما حكم من يستهزئ بمن التزم بدين الله، ويصفه بالنفاق؟ وهل يجب مقاطعته وهجره بعد دعوته إلى الدين؟ الجواب: الاستهزاء قد يصل إلى الكفر، فإذا استهزأ بإنسان لأجل دينه فإن هذا الاستهزاء يوقعه -والعياذ بالله- في الخروج من الملة، فيقع في الكفر الصريح، وما ذاك إلا لأنه تنقص الدين، وما تنقص هذا الشخص، وهذا إذا تنقصه لأجل الدين، مثل أن يقول له بعد أن أقام الصلاة: هل نفعتك صلاتك؟ أو إذا أمرته بإعفاء اللحية قال: ماذا أفادتكم هذه اللحى؟ ماذا فعلت لكم؟ أنتم منافقون، ما وفرتم هذه اللحى إلا نفاقاً أو إرهاباً أو لشيء تبطنونه أو ما أشبه ذلك، فلاشك أنه تنقص هذه الشعائر الإسلامية، وهكذا بقية الأعمال، مثلاً استهزأ بالزهاد أو استهزأ بالعباد، أو بالمصلين، أو بالصائمين، أو ما أشبه ذلك؛ لأجل عباداتهم، فلا شك أن هذا ردة؛ لأنه تنقص أهل الشرع لأجل الشرع، فكأنه تنقص الشرع، ومن تنقص الشريعة فقد ارتد عن الدين والعياذ بالله. أما إذا كان تنقصه لذلك الشخص بعينه؛ لأنه يتهمه بشيء، مثلاً يقول: فلان وإن تطوع فإني لا أثق بتطوعه ولا بمظهره، يتهم ذلك، ويظهر منه أو على فلتات لسانه أنه لا يتهم من كان مثل ذلك، ما اتهم المصلين كلهم، ولا استهزأ بأهل اللحى كلهم،ولا بأهل اللباس القصير كلهم، إنما استهزأ بإنسان معين، فهذا قد لا يصل إلى هذا الحد، لكن اتهامه ذنب عليه أن يتوب منه. ......
حكم الصدقة عن الميت
…(3/159)
السؤال: بعض الناس إذا تصدق بصدقة قال: بركة نازلة، وهدية واصلة، من روحي إلى روح النبي محمد، وإلى روح أمواتنا أجمعين، فما الجائز في مثل هذا وفقكم الله؟ الجواب: لا حاجة إلى هذه المقالة، ويكفيه النية، والأولى أنه يجعلها لنفسه أو يتصدق بها عن أمواته، أو عن أموات المسلمين، وأما قوله: إلى روح النبي صلى الله عليه وسلم فلا أرى ذلك؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أعمال أمته، وإن لم يهدوا له مثلها، ولم يكن السلف يهدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال شيئاً؛ لأنه هو الذي أرشد الأمة ودلهم، فله مثل أعمالهم (من دعا إلى هدى كان مثل أجور من اتبعه)، أما المسلمون فلا بأس أن تتصدق عنهم، أو تدعو لهم، سواء كانوا أقارب أو أباعد لا بأس بذلك، أما هذه المقالة فلا، لكن لو قلت مثلاً: اللهم اجعل ثوابها لي ولأمواتي أو للمسلمين فلا بأس بذلك. ......
دعاء: اللهم استرني بسترك الجميل الذي سترت به نفسك
…
السؤال: ورد هذا الدعاء على ألسنة بعض الناس، وهو: اللهم استرني بسترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا عين تراك، هل هذا صحيح يدعى به، أفيدونا أثابكم الله؟ الجواب: ما ورد هذا الدعاء، قوله: الذي سترت به نفسك فلا يراك أحد. هذا خاص بالله، وهو أنه لا يرى في الدنيا، وأنه دون الأنوار كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، فلا ينبغي أن يشرك الرب سبحانه وتعالى في هذا النور أحد أو في هذا الستر، فله أن يدعو أن يستر الله عورته ، وأن يؤمن روعته، كما ورد ذلك في حديث: (اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي)، فأما سترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا يراك أحد. فلم يرد مثل هذا. ......
كثرة عمل السابقين من المؤمنين
…(3/160)
السؤال: ذكرتم أن السابقين من المؤمنين كانت أعمالهم أقل من أعمال الذين أسلموا بعد الهجرة، مع أن الله عز وجل قد مدح السابقين في الإيمان، وقدمهم على من أسلم بعد ذلك، فكيف نوفق بين هذا وبين معتقد أهل السنة أن أكثر المؤمنين عملاً أكملهم وأقواهم إيماناً جزاكم الله خيراً؟ الجواب: الذين أسلموا في أول الأمر هم أكثر أعمالاً، حيث إنهم عملوا مثلاً ثلاثاً وعشرين سنة، يعني: منذ أن أسلموا إلى الوفاة، والذين أسلموا أخيراً ما عملوا قبل الوفاة إلا سنتين، فأيهما أكثر؟ لا شك أن الذين عملوا مدة طويلة أكثر، فهذا وجه من أوجه تفضيل السابقين الأولين. ووجه ثاني: أن الأولين السابقين الذين أسلموا قبل الشرائع أسلموا في حالة قلة وذلة، وتحملوا المشاق والتعب، وهم الذين أوذوا في الله، وضربوا وحبسوا، وألقوا في الشمس، وألقيت عليهم الحجارة، وأوذوا بالجوع وبالجهد، وتحملوا ذلك، وهذا لا شك أنه زيادة في أعمالهم. وهم الذين هاجروا في الله وتركوا أموالهم وأولادهم وبلادهم، وعشائرهم وأقوامهم، وتحملوا مشاق الهجرة، وسافروا مثلاً إلى الحبشة، ولا شك أن ذلك أشق عملاً، وكل ما كان العمل شاقاً كان الأجر أكبر، فهذا وجه تفضيلهم. وأيضاً: هم الذين أسلموا من أول وهلة، أسلموا لأول دعوة، وذلك دليل على قبول قلوبهم، وقبول نفوسهم للإيمان، حيث لم يتلعثموا ولم يترددوا في قبول الإسلام، فدل على صفاء قلوبهم ونقائها مما يكدرها. وبكل حال فلا شك أن السابقين الذين سبقوا بالإيمان أقوى إيماناً، ولكن المتأخرون الذين أسلموا في سنة ثمان لما أسلموا كانت الأعمال قد كملت، فكان الصيام موجوداً، وكان الحج موجوداً قد فرض، وكان الجهاد قد فرض، وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد شرع، وكان القرآن قد نزل كله إلا القليل، فهم كلفوا بأن يعملوا به دفعة واحدة، بخلاف الأولين فإنهم إنما كلفوا بالموجود منه، ما أنزل قبل الهجرة إلا القرآن المكي، وما فرضت الصلاة(3/161)
مثلاً إلا قبل الهجرة، وكذلك التوحيد ونحوه، وما حرمت الخمر في ذلك الوقت ونحو ذلك، فبكل حال هؤلاء عملوا بما أمروا به، فلهم أجر كامل، وهؤلاء عملوا بما أمروا به -أي: بعدما أسلموا في آخر الأمر- فلهم أجرهم. ......
مرتكب الكبيرة فاسق ناقص الإيمان
…
السؤال: هل صاحب الكبيرة ناقص الإيمان؟ الجواب: مذهب أهل السنة أن العاصي الذي يرتكب كبيرة يسمى فاسقاً، ويسمونه مؤمناً بإيمانه وفاسقاً بكبيرته، ويقولون: إن الإيمان في حقه موجود ولكنه شبه مفقود، حيث لا ترى عليه أثره، ويحملون على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) يعني: أنه ناقص الإيمان، أو أن الإيمان ينزع عنه في حالة الزنا مثلاً أو السرقة أو شرب الخمر، ثم لا يعود إليه كاملاً، بل يعود إليه وقد اختل ونقص، وبكل حال فأهل السنة يعتقدون أن معه أصل الإيمان الذي هو يقينه وتصديقه بأنه مسلم وبأنه من أهل الشريعة ومن أهل القبلة، ولكن لضعف إيمانه وقع في هذه المعاصي. ......
شعب الإيمان
…(3/162)
السؤال: هل يستطيع المسلم أن يستكمل الإيمان مطلقاً، حيث وشعبه قد حصرت في قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة ...)، الحديث؟ الجواب: قد اختلف العلماء في تلك الشعب لما عدوها، وكأنهم بسبب هذا الاختلاف لم يتفقوا على تحديد؛ فلأجل ذلك قال بعضهم: إن الحصر في سبعين أو ببضع وستين ليس مقصوداً به العدد، بل المراد به الكثرة، فإنه صلى الله عليه وسلم كثيرا ًما يذكر السبعة والسبعين والسبعمائة للكثرة لا للحصر؛ وذلك لأن كثيراً من العلماء أخذوا يبوبون الأبواب التي تدخل في الإيمان ووجدوها أكثر من السبعين، وقد تصل إلى المائة والمئات، فدل على أن هذه تعتبر أصول، ومن العلماء من قال: إن البضع والسبعين يراد بها الجوامع، فمثلاً: إماطة الأذى عن الطريق شعبة من الإيمان، ولكن ليس خاصاً بإماطة الحجر أو القذاة أو القذر، بل يدخل في ذلك إزالة كل مرض وإيصال كل نفع، وله أمثلة كثيرة، فدل ذلك على أن خصال الخير كثيرة، وأن الإنسان قل أن يحيط بها. وبكل حال يوصف بأنه كامل الإيمان إذا عمل بكل أنواع الشريعة، وعمل بدقيقها وجليلها، ولم يقترف ما ينقصها، ولا ما يخل بها. ......
مذهب الكرامية
…(3/163)
السؤال: هل البخاري يكفر الكرامية والكلابية والأشاعرة؟ الجواب: هذا الخلاف ما حدث إلا بعده، ابن كرام ما حدث إلى بعد البخاري ، وكذلك ابن كلاب والأشاعرة ونحوهم، ففي زمن البخاري لم يكن هناك من يخالف في مثل هذا إلا الجهمية، والجهمية لم يعتبرهم من أهل السنة، إنما عرَّف أهل السنة بأنهم أهل القبلة، وكأنه لم يعتبر الجهمية من المسلمين؛ وذلك لقوة مخالفتهم للأصول، حيث اجتمع فيهم شر الخصال، وأبعدها، وأفضعها، فإنهم أشركوا بجحد الصفات، وغلو بالإرجاء، وغلوا بالجبر، وغلطوا في مسمى الإيمان بزعمهم أنه المعرفة، فاجتمعت فيهم خصال الشر كله، فلم يعتبر خلافهم، وأما من سواهم فلم يوجد إلا بعده. والحنفية في زمانه يعترفون بالإقرار، ويجعلون الإيمان هو الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان، والماتريدية يوافقونهم على الإقرار، وإن كانوا يخرجون القول من الإيمان، والكرامية يجعلونه الإقرار باللسان فقط، ومحمد بن كرام كان في آخر القرن الثالث، وتوفي البخاري في وسط القرن الثالث في سنة ست وخمسين ومائتين، قبل أن يشتهر ابن كرام أو قبل أن يقول بهذا القول. ......
أسباب تقوية الإيمان
…(3/164)
السؤال: إذا كان الإنسان ضعيف الإيمان، فنرجو من فضيلتكم أن ترشدنا إلى بعض الكتب المبسطة التي تقوي الإيمان في القلب؟ الجواب: عليكم بكتاب الله فإن فيه الأدلة الواضحة التي أقام الله بها الحجج والبراهين، وقد كنا نتعرض في الدرس لأمثلة من ذلك، ولا شك أن كتاب الله تعالى أوضح كتاب أقام الأدلة على الإيمان وما يقوي الإيمان، فمثلاً في سورة البقرة أول أمر أمر الله به هو العبادة، وأقام عليه ستة أدلة في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21] هذا دليل، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:21] دليل ثاني الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً [البقرة:22] دليل ثالث، وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22] دليل رابع، وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً [البقرة:22] دليل خامس، فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ [البقرة:22] دليل سادس، ففي هذه الآية ستة أدلة، وتأملوا أيضاً شرحها في تفسير ابن كثير ، فقد ذكر عليها كثيراً من الإيضاحات. وذكرنا في درس مضى أن المشركين لما نزل قوله تعالى في سورة البقرة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] قالوا: ما الدليل؟ فنزلت الآية التي بعدها وفيها بضعة أدلة وهي قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [البقرة:164] ففيها عدة دلالات، وهذه أدلة واضحة. وتجد كثيراً من السور متوالية وفيها عدد من الأدلة، فمثلاً في سورة المرسلات: أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً [المرسلات:25] ... إلخ، وفي التي بعدها: أَلَمْ نَجْعَلْ(3/165)
الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً [النبأ:6-7] ... إلخ، وفي التي بعدها: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [النازعات:27-28] ... إلخ، وفي التي بعدها قوله: فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً [عبس:24-26] ... إلخ، آيات وبراهين واضحة، وهي كثيرة مثل قوله في سورة الروم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ [الروم:23]، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:23]، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ [الروم:23]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ [الروم:46]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ [الروم:25] ... إلخ، فهذه آيات فيها: براهين ودلالات، فتأملوا شرحها فإن فيها ما يقنع كل شاك أو كل متحير. والعلماء بينوا أدلة واضحة على ذلك، وتجد كلاماً جيداً لابن القيم في كتابه: مفتاح دار السعادة، أحيل من في قلبه شيء من الضعف أن يقرأ ما ذكره، حيث توسع رحمه الله في ذكر الأدلة، بقوله في فصول: تأمل كذا، ثم تأمل كذا، فيما يتعلق بخلق الإنسان، وفيما يتعلق بخلق الحيوان، وفيما يتعلق بالأفلاك، وفيما يتعلق بالمخلوقات علويها وسفليها، آيات عجيبة تدل على ما وهبه الله تعالى من الفطنة، وتدل على عجائب خلق الله تعالى. وله أيضاً كلام على خلق الإنسان، الإنسان أقرب شيء إليه هو نفسه، عندما أتى على تفسير قول الله تعالى: وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:20-21] في سورة الذاريات في كتابه الذي سماه: أقسام القرآن، وهو مطبوع مشتهر، فتكلم على الآيات التي في الأرض، وبين عجائب ما فيها، ثم تكلم على الآيات التي في الإنسان، من خلق الإنسان وعجيب تركيبه، ذكر في ذلك نحو ثلث الكتاب، مع أنه تكلم فيه على آيات كثيرة، وذكر فيه(3/166)
تفاصيل الإنسان وكأنه وافق الذين يشرِّحون الآن، وأهل التشريح الآن يتعجبون من تركيب هذا العرق، ومن تركيب هذه العين، وما فيها، وهو ما أدرك ذلك بعينه ولكن رزقه الله فهماً، فتكلم على هذه التفاصيل بكلام عجيب، فهذا مثال. والمتأخرون الآن قد ذكروا أدلة في بعض الكتب التي تؤلف للمناهج في العقائد، فيتكلمون على هذا ليقطعوا بذلك دابر الذين يشكون في التوحيد أو في وجود الخالق أو نحو ذلك، ويقيمون على ذلك أدلة، وهي كتب مناهج طبعت في بعض المدارس، فلو قرءوها لوجدوا فيها أدلة وبراهين، مع أنها تدرس في داخل المملكة وفي خارجها. وكذلك أيضاً كثير من المؤلفين في هذا العهد أطلعهم الله تعالى على ما أطلعهم عليه من الدراسات الفلكية ونحوها، وألفوا في ذلك كتباً وفيها مقنع، أطباء تخصصهم إما في طب الإنسان أو الحيوان، وكذلك الدكاترة الذين تخصصوا في الأفلاك أو نحوها ألفوا كتباً كثيرة، فالمتأخرون والمتقدمون كتبوا في هذا ما فيه مقنع وفيه كفاية. ......
حكم الصلاة خلف الأشعري
…
السؤال: ما حكم الصلاة خلف رجل يقول: أنا أشعري المعتقد، وقد بين له مذهب أهل السنة واعترف بخطأ ما هو عليه، لكنه لم يرجع عن معتقده، مع العلم أنه لا يوجد في البلد من هو أحسن منه؟ الجواب: لا بأس أن يصلى خلفه ولو كان على هذا المعتقد، وقد خف معتقدهم في هذه الأزمنة إلا فيما يتعلق ببعض الصفات، وبكل حال إذا لم يكن في البلد أحسن منه فيصلى خلفه لعموم الأدلة في تقديم من هو أقرأ، ومن هو أفقه، ومعلوم أن المبتدعة الأولين كان فيهم أئمة وخطباء وقضاة، تولوا القضاء وتولوا الإمامة مدة، وصلى خلفهم كثير من العلماء من أهل السنة، مع أنهم ينتحلون مذهب الأشعرية، في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية كان أكثر أهل دمشق أشاعرة، ولا شك أنه كان يصلي خلفهم كثيراً، وكذلك مصر كان أكثرهم أشاعرة، بل جلهم إلا الأفراد، ومع ذلك كان يصلي خلفهم للعذر. ......(3/167)
حكم الصلاة والصوم عن الميت الذي كان متهاوناً بهما
…
السؤال: امرأة توفي لها ابن يبلغ من العمر ثمان وعشرين عاماً، وكان يتهاون في الصلاة والصوم، فهل يصح لي وأنا أمه أن أصوم عنه وأصلي؟ وإن كان لا يصلي ولا يصوم بالكلية فهل أقضي عنه ذلك؟ الجواب: إذا كان يقر بالإسلام، ويفعل شعائر الإسلام الظاهرة، فقد يكون تهاونه من باب التساهل، ومن باب التسويف والتأجيل، يعني: في نظره أنه سوف يتوب فيما بعد، فيجوز عند بعض العلماء الاستغفار له، والحج عنه، والصدقة عنه، والدعاء له وما أشبه ذلك. وذهب بعض العلماء إلى أنه لا ينفعه ذلك، ما دام أنه كان لا يؤدي الصلاة طوال حياته ولا الصيام، ففي هذه الحال لا ينفعه ذلك. ولكن إذا كان كما ذكرت أنه مجرد تهاون لا أنه ترك مستمر دائم فلعله ينفعه أن تدعو له، وأن تتصدق عنه، وأن تحج أو تعتمر عنه، أما الصلاة والصوم فهما عمل بدني، فلا حاجة لأن تصلي عنه وتصوم عنه، بل تكتفي بالدعاء له والاستغفار والترحم عليه، وما أشبه ذلك، والله تعالى يرحم من يشاء. ......
حكم قضاء الصلوات الفائتة قبل التوبة
…(3/168)
السؤال: لقد هداني الله سبحانه وتعالى بعد أن تمت لي ثلاثون عاماً، ولم أكن قبلها أصلي ولا أصوم، فهل يلزمني القضاء؟ الجواب: لا يلزم، ولكن عليك أن تكثر من النوافل في بقية حياتك، فالذي مضى لا يلزم قضاؤه؛ وذلك للمشقة، يشق عليك أن تقضي صلاة خمس عشرة سنة، وكذلك صيامها، ولكن عليك أن تكثر من نوافل العبادة، فتصلي بالليل تهجداً، وتصلي في الضحى ما تيسر، وتحافظ على النوافل والرواتب، وتصلي مثلاً قبل الظهر أربعاً، وبعدها أربعاً، وقبل العصر أربعاً، وقبل المغرب ركعتين، وبعدها ركعتين أو أربع، وقبل العشاء ركعتين أو أربع وبعدها ركعتين أو أربع، وكذلك أيضاً تصلي ذوات الأسباب، وتكثر من نوافل العبادات كالحج والذكر وقراءة القرآن والاستغفار والدعاء والابتهال إلى الله تعالى، وغيرها من الأعمال الصالحة، وتحمي نفسك عن المحرمات والآثام، وبذلك إن شاء الله يمحو الله عنك ما سلف من التفريط والإهمال. ......
الرد على من يطعن في تاريخ المسلمين
…(3/169)
السؤال: هذا سائل إما أن يكون جاهلاً بأحكام الإسلام أو إنسان طمع في الدنيا وزهد في الجنة، وتذرع بالإسلام ظاهراً، ويصدق عليه النفاق، يقول: لو استعرضنا تاريخ المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين نجد أنه يغلب عليه الظلم والفساد والطغيان، بل إن الخلفاء الراشدين ماتوا قتلاً، ومعنى ذلك أن الإسلام لم يصلح التابعين له، وكذلك انتشار الإسلام في العصور الحديثة تجد أن حال المسلمين كحال سابقيهم في العصور السابقة، أسوأ دول العالم، حتى إن عمر بن عبد العزيز الذي غلب عليه العدل في خلافته قتل، ما هو الخلل؟ هل هو في المنهج أم في الإنسان؟ وقال كذلك في سؤال آخر: المتأمل لتاريخ المسلمين يجد أنه عصر فتن وقتل وحروب من بعد الخلفاء الراشدين إلى عصرنا الحاضر، والواقع يشهد بذلك. والسؤال: هل هناك خطأ في منهج الإسلام فيكون الخلل في الفقه الإسلامي أم الخطأ في فهم علماء الشريعة للإسلام! فنرجو من فضيلتكم الرد عليه بارك الله فيكم؟ الجواب: نقول: الخطأ في فهمك أيها السائل، فهمك بعيد عن الواقع؛ وذلك لأنك -والله أعلم- لم تقرأ التاريخ كما هو، ولم تتتبع أحوال الإسلام ولا أحوال المسلمين، ويظهر أنك انخدعت بدعايات المضللين، أوأنك قرأت في كتب أعداء الدين، أو أنك نشأت في بلاد يظهر فيها عداء الإسلام، وإظهار الضغائن أو إضمارها للإسلام والمسلمين، ولو نشأت بين مسلمين وعرفت أخبار المسلمين، وكذلك تتبعت أحكام المسلمين، وعرفت أهدافها، وكذلك قرأت تاريخ السابقين الأولين؛ لما خطر ذلك بقلبك، ولما وجهت بهذا السؤال الذي يدل على حيرة في نفسك، أو يدل على ضغينة وحقد وبغض للإسلام والمسلمين والعياذ بالله. نعود فنقول: كلنا -غالباً- قرأنا أو سمعنا تاريخ الخلفاء الراشدين، وكذلك تاريخ الصحابة وسيرهم وأحوالهم، فهل هذا السائل قرأ سيرهم كما ينبغي؟ أليس فيها الفتوحات؟ متى حصلت هذه الانتشارات للإسلام؟! امتد الإسلام في عهدهم، وحصلت الانتصارات التي(3/170)
ليس لها مثيل في عهد الخلفاء الراشدين، وامتدت الفتوحات والظفر للإسلام والمسلمين، أين هذا السائل عن تتبع تلك الوقائع وتلك الغزوات التي أيد الله بها الإسلام وقوى بها المسلمين؟! هذا لا يظهر أنه قرأه ولا خطر بباله. كذلك أيضاً لا شك أنه لو قرأ سيرة الخلفاء وزهدهم وورعهم وتقشفهم واهتمامهم بالدين، واهتماهم بالعبادة، واهتمامهم بأمر الأمة، وحرصهم على رعايتها، وعلى مصالحها؛ لما خطرت بقلبه هذه الخطرات السيئة، وكذلك لم يقرأ تراجم علماء الأمة من صدر هذه الأمة من التابعين وتابع تابعيهم، الذين فيهم علماء حملوا العلم، وذبوا عنه كل ما هو دخيل عليه، هذا السائل لم يقرأ تراجمهم، ولم يعلم فيهم من النفع، وما لهم من المقامات النافعة، والأماكن التي نصروا فيها الإسلام، ونشروا فيها العلم، ونشروا فيها الدين، وكذلك قيامهم بالعبادات،وزهدهم وورعهم، وتقشفهم مما يدل على رغبتهم في الآخرة، وعدم ميلهم إلى الدنيا، ولا إلى حظوظها؛ كل هذا لم يلتفت إليه السائل. أما كونه ادعى أنههم ماتوا قتلاً فليس في ذلك نقص عليهم، ولا شك أنهم قتلوا وذلك كرامة لهم، أما أبو بكر فمات على فراشه، وقد قيل: إنه سقي سماً، ولا يستنكر أن يكون بعض أهل الحقد وأهل النفاق دس إليه السم، وتلك كرامة له حتى يموت شهيداً، وهكذا عمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي، ثم قتل عثمان، بسبب خلافات بين الأمة، حصل أن بعضاً من الأعراب وجدوا على عثمان بعض الوجد، فثاروا عليه وقتلوه، ثم حصلت الفتنة بين أهل الشام وأهل العراق، تقاتلوا فيها لأجل الانتصار لعثمان أو لأجل تثبيت الملك وتثبيت الولاية، وتلك دماء صان الله عنها أيدينا فنصون عنها ألسنتنا. ثم بعد ذلك استتب الأمن، وانتشر الإسلام، وتمادت الفتوحات في ذلك الزمان، واستمر المسلمون يفتحون البلاد شرقاً وغرباً، فكيف يقال بعد ذلك: إن المتأمل للتاريخ يرى فيه ما ذكره هذا السائل؟! وعلى كل حال: نبرأ إلى الله من هذا الاعتقاد،(3/171)
ونسأله ألا يجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، وأن يغفر لنا خطايانا.......
أسباب الإحسان
…
السؤال: ما هي الأسباب التي تعين على بلوغ درجة الإحسان؟ الجواب: مرتبة الإحسان أعلى المراتب، والأسباب التي تعين عليها هي تقوية الإيمان بالأدلة، وذلك بأن يؤمن بالأدلة التي تقوي إيمانه بالله، وبملائكته، وبالبعث بعد الموت، وبالآخرة وبما فيها، وبالثواب والعقاب، وبعظمة ربه وجلاله وكبريائه، وما أشبه ذلك، فإذا قوي الإيمان بذلك، فإنه والحال هذه يبقى قلبه مستنيراً، فإذا دخل في عبادة فكأنه ينظر إلى ربه، وإذا خلا بنفسه استحضر أن ربه ينظر إليه، فيبقى في كل حالة لا يغفل عن ربه في وقت من الأوقات. ......
معنى: لا إسلام لمن لا إيمان له
…(3/172)
السؤال: إذا كان الإسلام والإيمان كمثل الشهادتين من شهد بإحداهما لزمته الأخرى، ومن أسلم لا يقبل منه إلا إذا أتى بالإيمان، فلا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، ولكن قال تعالى: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] فهنا أثبت الله سبحانه للأعراب الإسلام مع أنه سبحانه نفى عنهم الإيمان، فكيف نقول: إنه لا إسلام لمن لا إيمان له؟ الجواب: صحيح أن الله نفى عنهم الإيمان بقوله: وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، ولكن معلوم أنهم كانوا مبتدئين، ولابد أنهم سوف يتلقون تعاليم الإسلام والإيمان شيئاً فشيئاً، وسوف يسمعون الآيات والأدلة شيئاً فشيئاً إلى أن يقوى الإيمان في قلوبهم، وإلى أن يعرفوا ظواهر الأدلة، فعند ذلك يوصفون بالإيمان كما وصفوا بالإسلام، فهم في مبدأ أمرهم قالوا: آمنا، وهم إنما أسلموا ظاهراً، ولم يقم عندهم من الأدلة ما تقر به قلوبهم وتطمئن به إلى صحة ما جاء به الرسول، ولكن لا يزالون يتلقون الأدلة شيئاً فشيئاً إلى أن يصلوا إلى مرتبة الإيمان. ومعلوم أن هناك من دخل في الإسلام عن اطمئنان، وكانوا مطمئنين به وموقنين به، فهؤلاء من حين دخلوا وهم مصدقون ومسلمون ومؤمنون، وهناك من دخل فيه ظاهراً، ولكنه أراد أن ينظر في عاقبته، فيكون مفكراً وناظراً، فهؤلاء مسلمون، ولعله يقوى الإيمان في قلوبهم، وهناك من دخل في الإسلام ظاهراً ولم يكن في قلوبهم محل للإيمان وهم المنافقون. ......
متى يسمى الشخص مؤمناً؟
…(3/173)
السؤال: هل هناك درجة ومنزلة ممكن أن يعرف بها الشخص نفسه بأنه مؤمن؟ ومتى يتم إطلاق الإيمان على المسلم حتى يميز بينهما؟ الجواب: كان كثير من المرجئة يلزمون من دخل في الإسلام والإيمان أن يجزم بذلك في نفسه، وينكرون على من استثنى في إسلامه بقوله: أنا مؤمن إن شاء الله، ويسمونهم: شُكاكاً، إذا قال أحد: أنا مؤمن إن شاء الله قالوا: أنت شاك، أنت تشك في إيمانك، ولكن للإسلام والإيمان علامات، فأنت مثلاً إذا رأيت قلبك مطمئناً بالإيمان، ورأيته منشرحاً إلى هذه الأكان، وصدقت بما أخبر الله به عن الدار الآخرة، وأيقنت بأنه لابد من بعث وحساب وجزاء على الأعمال، وآمنت بالغيب إيماناً يقينياً، آمنت بالملائكة ولم ترهم، وبالرسل ولم ترهم، وآمنت بأن هذه الكتب المنزلة من السماء هي كلام الله حقيقة، وإن لم يكن لك إسناد متصل إلى الملك الذي نزل بها، وإن لم تر الملك الذي نزل بها، وآمنت مثلاً بأن الله على كل شيء قدير، وأن قدرته تدخل فيها أعمال العباد ونحوه؛ آمنت بهذه الأركان كلها وصدقت بها، فلماذا لا تقول: أنا مؤمن؟ واستثناؤك حينئذٍ لأجل العاقبة؛ لأنك لا تدري هل تبقى على هذا الوصف أم يعتريك ما يعتريك؛ فلذلك تقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتجزم بأنك مؤمن، وتطمئن نفسك بالإيمان، وتبصر نفسك بأنك مستحق لما يستحقه أهل الإيمان الذين وصفوا بتلك الصفات التي ذكروا بها باسم الإيمان، فعند ذلك لا مانع من أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله. ......
متى يعتبر الولاء للكفار مخرجاً عن الملة؟
…(3/174)
السؤال: متى يعتبر الولاء للكفار مخرجاً عن الملة؟ وهل مساعدة الكفار بالأموال إذا كانت هذه الأموال ضد المسلمين مخرجه عن الملة؟ الجواب: لا شك أن موالاة الكفار من دون المؤمنين مخرجة من الملة ملحقة بهم؛ لأنها تدل على محبة الكفار، فمن والى أعداء الله فقد عادى أولياء الله ولابد، ومن أحب الكفار لزم أن يكون مبغضاً لأهل الإيمان، إذا أحببت الكفار فأنت مبغض لأهل الإيمان ولابد، ولا شك أن من أحب الكفار قربهم وأدناهم ورفع مقامهم، ولا شك أيضاً أن من أحبهم أعطاهم وفضلهم على غيرهم، وزاد في عطائهم، وحرم أولياء الله، وحقر وصغر من شأنهم وأبعدهم، مما يدل على أنه يحب أعداء الله ويبغض أولياء الله، فإذا كان كذلك فهذا لا شك أنه كفر. أما إذا كنت مثلاً تعطيه لأجل كف شره، فلا مانع من ذلك، ولا يكون هذا ولاءً؛ لأن الله تعالى قد فرض للمؤلفة قلوبهم حقاً من الزكاة، وقد ذكر العلماء أن من المؤلفة قلوبهم الكفار الذين يخاف من شرهم، فإذا خيف من شر هذا الطاغية المعتدي أن يضر الإسلام جاز أن يعطى من الزكاة تأليفاً، والصحيح أن حق المؤلفة قلوبهم باق كما ذكر الله، لكن إذا قوي الإسلام وقوي أهله ولم يخف من الأعداء، ولا من كيدهم؛ سقط حق المؤلفة قلوبهم. وعلى كل حال نقول: الولاء والبراء واجب على المسلم، وأما تأليف الكفار عند الخوف من شرهم، وعند قوة بطشهم، والخوف أن يفتكوا بالمسلمين، أو ينضموا إلى الأعداء ويصيرون في جانبهم ويقوونهم أو يخاف أن يؤذوا من عندهم من المؤمنين أو ما أشبه ذلك؛ فلا مانع من مداراتهم ومهاداتهم، ولا يكون ذلك دليلاً على محبتهم، إنما يكون ذلك لكف شرهم. ......
حكم الاستثناء في الأعمال
…(3/175)
السؤال: ما هو مذهب أهل السنة والجماعة في الاستثناء بالمشيئة؟ وهل يستثنى بالأعمال مثلاً يقول: سوف أترك الدخان إن شاء الله، أو ما أشبه ذلك؟ الجواب: مذهب أهل السنة أنه يجوز الاستثناء في الأعمال ويكون على وجه التبرك، قد سمعنا أنه صلى الله عليه وسلم استثنى في الأمور المحققة كقوله في زيارة المقابر: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، ومعلوم أن الإنسان لابد لاحق بالموتى، لابد أنه سوف يموت، ومع ذلك استثنى، والموت محقق، ومع ذلك يقول: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون). كذلك أيضاً ورد الاستثناء في الموت على الشهادة، ففي وصية بعض السلف: (إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، عليها أحيا، وعليها أموت، وعليها أبعث إن شاء الله) فالاستثناء هذا قيل: إنه عائد عليها كلها، مع أنها محققة، وأن البعث محقق، وقيل: إنه يعود على البعث عليها. وبكل حال يجوز الاستثناء للتبرك في الأمور التي يعزم الإنسان على فعلها مستقبلاً، فيقول: سوف أصلي إن شاء الله، وسوف أصوم غداً إن شاء الله، ويقول مثلاً: أنا مؤمن إن شاء الله، وأنا مسلم إن شاء الله، ويقصد بذلك التبرك، ولا يقصد بذلك التوقف ولا الشك ولا التردد، هذا في بعض الأعمال. وأما في بعض التروك فإنه يستثني ولو كان عازماً وجازماً؛ لأن هذا غيب وأمره إلى الله، فإذا عزم مثلاً على أن يترك المحرمات فله أن يستثني، إذا كان مبتلئ مثلاً بالدخان يقول: سوف أترك الدخان إن شاء الله، ولو كان جازماً؛ لأن الترك أمره في المستقبل، وكذلك المعاصي التي يفعلها يعزم على أنه سيتركها، فيقول مثلاً: سأعفي لحيتي إن شاء الله، أو سوف أقصر من ثوبي المسبل إن شاء الله، وهو عازم على ذلك، أو مثلاً سوف أتوب من الربا إن شاء الله، أو من الرياء إذا شاء الله، أو إن شاء الله، يقول ذلك على وجه التبرك، وعلى وجه الرجاء أن ربه يعينه إذ وكل الأمر إليه، فهذا لا(3/176)
بأس به، أما إذا كان على وجه الشك أو على وجه التردد فلا يفعله، بل يجزم بترك المحرمات ولا يتردد في تركها. ......
معنى: (كل ميسر لما خلق له)
…
السؤال: نرجو توضيح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له)؟ الجواب: هذا حديث صحيح قاله صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابة: (أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10])، فجعل الله كلاً ميسراً لما خلق له، فإذا خلق الله العبد للسعادة يسره لعمل أهل السعادة حتى يموت على ذلك العمل ويكتب سعيداً، وإذا خلق الله العبد للشقاوة خذله ويسر له أسباب الشقاوة حتى يموت عليها، وذلك عدل من الله، وليس فيه ظلم لأحد، ليس هو ظالم لهذا حيث خذله، وليس هو تارك لشيء من حق الإنسان، بل الله تعالى هو المالك للإنسان، وهو الذي يتصرف في الناس كيف يشاء، فمن شاء هداه ومن شاء أضله، وهدايته لهذا تكون بفضله، وإضلاله لهذا عدل منه. فعلى كل حال (كل ميسر لما خلق له)، يعني: أنه تتيسر له أو تتوافر له الأسباب التي تؤدي به إلى ذلك الشيء، فإن كان من أهل الشقاوة سلط الله عليه -لحكمة- من يضله، ومن يصده عن القرآن، ويصده عن الحق، ومن كان من أهل السعادة ومن أهل الإيمان، وعلم الله أنه من أهل الخير، يسر الله له من يهديه، ومن يدعوه إلى التوبة النصوح. ......
صفات المحسنين
…(3/177)
السؤال: ما هي صفات المحسنين الذين ذكروا في حديث جبريل عليه السلام؟ الجواب: صفاتهم ما جاء في قوله: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فمن أراد التوسع فليقرأ شرح هذا الحديث في كتاب ابن رجب (جامع العلوم والحكم)، وأورد له أمثله، وشرحه حافظ الحكمي في المجلد الثاني من معارج القبول، وأورد له أمثله، ومعلوم أنه في هذا الحديث قسم الناس إلى قسمين: من يعبد الله كأنه ينظر إلى ربه، ومن يعبد الله وهو يستحضر أن ربه يراه، وتسمى الحالة الأولى: عين المشاهدة، وتسمى الحالة الثانية: عين المراقبة، فعين المشاهدة أن يمثل أنه أمام ربه، كأنه ينظر إلى ربه، واقف بين يديه، وفي هذه الحالة إذا كان يصلي أو إذا كان يذكر الله أو إذا كان يدعوه ماذا تكون حالته؟ لا شك أنه يحضر قلبه، ويحضر قالبه، وتسكن أعضاؤه، ويخشع ويخضع وينيب، ويخبت إلى الله تعالى، ويكثر من ذكره، وهكذا عين المراقبة، وهو الذي يستحضر أن ربه يراه، أما حال الكثير من الناس إذا صلى أحدهم غفل في صلاته ولم يدر ما يقول، ولم يستحضر ما هو فيه، فإنه لم تتحقق له عين المشاهدة ولا عين المراقبة. ......
سبب تحريف المبتدعة للآيات والأحاديث
…
السؤال: لماذا تسلط المبتدعة على تحريف آيات وأحاديث الصفات؟ الجواب: المبتدعة مثل المعتزلة تركزت في نفوسهم أو في فطرهم أو في عقولهم عقيدة سيئة، وهي: عدم الإقرار بصفات الله، وادّعوا أنها تنافي العقول، فلما ارتكزت تلك العقيدة في قلوبهم، وجاءتهم الأدلة التي تخالف ما في فطرهم وما في عقولهم الفاسدة؛ لم يجدوا بداً من أن يؤولوها و يحرفوها ويسلطوا عليها أنواع التحريف، والسبب الوحيد في ذلك هو أنها خالفت معتقدهم، ومعتقدهم مبني على شبهات تلقوها من كتب المتكلمين، ومن كتب اليونان والمشركين. ......
معنى الجواهر المفردة
…(3/178)
السؤال: ما معنى الجواهر المفردة؟ وهل يجوز التسمية بمد الله وجار الله، وغرم الله، وأشباهها؟ الجواب: الجواهر المفردة كلمة يستعملها المتكلمون، ونحن لا حاجة بنا إلى هذه الاصطلاحات، لكنهم يقسمون الموجودات إلى قسمين: جواهر وأعراض، فالجوهر ما له جرم يمكن إدراكه، ويمكن رؤيته، ويمكن لمسه، فيسمونه جوهراً، والأعراض ما ليس له جرم، بل هو عرض، فمثلاً: الكلام الذي يتكلم به الإنسان ليس له جرم، ما يمكن أن تقبض على كلام متكلم إذا خرج من فمه، فيسمونه عرضاً، الصلاة إذا صلاها الإنسان صعدت إلى السماء، فالصلاة عرض ليس لها جرم تشاهدونه، فيقولون: هذه أعراض، وهذه جواهر، فكل شيء له جرم حتى مثل حبة الرمل يسمونه جوهراً، ويقولون: إن جميع الموجودات التي لها جرم مركبة من الجواهر المفردة، يمكن أن ترجع إلى جواهر صغيرة لا يدركها البشر، وكل شيء من الموجودات من الحديد والأخشاب والفرش والحيوانات والجبال والصخور ونحوها جواهر مركبة، فتكلموا في هذا وأطالوا الكلام، ولا حاجة بنا إلى أن نناقشهم، وذلك من فضول الكلام. أما الأسماء التي ذكرها فهي أسماء اصطلاحية، فاسم: (جار الله) يستعمل بمعنى المجاور الذي يجاور في مكان مقرب إلى الله، وقد سمي به قديماً الزمخشري صاحب التفسير؛ لأنه جاء إلى مكة، وأطال الإقامة في المسجد الحرام، فكان مجاوراً، فسمي جار الله، ويسمى به في الناس، بمعنى أنه مجاور لله، أي: متعبد له أو نحو ذلك تفاؤلاً، فلا بأس بذلك. أما بقية الأسماء فينظر إلى معانيها، فاسم (غرم الله) يستثقل؛ وذلك لأن فيه أن الله تعالى غرم لهذا الإنسان عن ولد مات له أو نحو ذلك، فالأقرب أنه ينهى عنه؛ لأن الغرم أصله التحمل، مثل تحمل الدين ونحوه؛ ولهذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من المأثم والمغرم، وقال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف)، وبقية الأسماء التي تضاف إلى الله ينظر في معانيها، مثل: وصل الله، أو رجاء الله، أو فرج(3/179)
الله، أو رزق الله، فهذه لا بأس بمعانيها، والأولى التعبيد باسماء الله كعبد الله، وعبد الرحمن، وعبد العزيز وما أشبهها. ......
هل (الشارع) من أسماء الله
…
السؤال: نعلم أنه لا يجوز أن يسمى الله عز وجل إلا بما سمى به نفسه، أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا نسمع كثيراً من الناس يقولون: قال الشارع الحكيم، فهل لفظ الشارع من أسماء الله عز وجل، أم أنها عبارة درجت على أنه هو الذي شرع الأحكام، ومثلها الصانع وغيرها؟ الجواب: هذه كلمة مشتهرة، ولكن لا يقصد بها أنها من الأسماء الحسنى، وإنما يقصدون بها الصفة، يعني: أنه هو الذي شرع الأحكام وبينها، وكذلك كلمة (الصانع) أيضاً مشتهرة في تعبيرات المتكلمين أولاً، مثل قولهم: جحود الصانع، وجود الصانع، وقد استعملها أيضاً بعض الأئمة كابن كثير في تفسير قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22] قال: الاستدلال على وجود الصانع وما أشبه ذلك، وبكل حال فيقصد بها معنى: أنه الذي أوجد الخلق، وقد ذكرها الله تعالى في قوله: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88] يعني: إيجاده واختراعه وإبداعه. ......
سبب رد بعض الأحاديث الصحيحة
…(3/180)
السؤال: فضيلة الشيخ! قلتم: إن النقل الصريح لا يعارض العقل الصريح والسليم من الزيغ والانحراف، لكننا نجد من علماء المسلمين والمثقفين والدعاة من يردون بعض الأحاديث الصحيحة؛ لعدم موافقتها لعقولهم، فكيف نفسر ذلك؟ الجواب: قد ذكرنا أن تلك العقول عقول ناقصة، عقول مضطربة، وأن الواجب على الإنسان أن يتهم عقله، ولا يرد الأحاديث إذا لم توافق مزاجه، بل يتهم فهمه بالخطأ ونحوه، وقد أنكر بعض المتأخرين بعض الأحاديث التي خالفت الواقع في هذه الأزمنة أو قبلها، ولكن لا عبرة بردهم، وكذلك غيرهم من المتقدمين، فردوا مثلاً أحاديث في صحيح البخاري كحديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل أنه يفعل الشيء وما يفعله ...) إلخ، فقالوا: إن هذا يخالف العصمة، وأنه .. وأنه.. وأجاب العلماء عن ذلك وبينوا أنه لم يقع في أمر الشرع. والسحر له حقيقة، وأنكرت المعتزلة ونحوهم حقيقة السحر، وردوا الأحاديث التي في ذلك، مع وجودها وصراحتها، ومع مشاهدة الناس أن الساحر قد يؤثر، وأخبر الله تعالى بذلك. كذلك في هذه الأزمنة أيضاً قرأت لبعضهم إنكاراً لبعض الأحاديث، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لولا بني إسرائيل لم يخنز اللحم) أي: لم ينتن، يعني: أنهم لما أعطاهم الله تعالى السلوى صاروا يدخرون لغد ولبعد غد، فصار اللحم ينتن، نقول: وما المانع من ذلك؟ وإن كانت طبيعة اللحم أنه إذا تأخر يتغير، لكن قد يجعل الله له ما يكافحه وما يزيل عنه ذلك النتن. وكذلك أحاديث عذاب القبر أنكرها بعضهم، وقالوا: إننا نكشف عن الميت بعد مدة فنجده كما وضعناه، ولا نجد أثراً لعذاب القبر ولا لنعيمه ولا لغير ذلك. فيقال لهم: إن عالم الأرواح غير عالم الأجساد، وإن العذاب في القبر على الروح ولا على الجسد، الجسد تأكله الأرض، ويكون تراباً. والحاصل أننا لا نلتفت إلى هؤلاء الذين يطعنون في الأحاديث لمجرد عرضها على العقل. فالأولون من معتزلة ونحوهم ما كانوا يردون(3/181)
إلا الأحاديث التي تتعلق بالصفات، أما أحادث البعث والنشور فإنهم يقرونها، ويوافقون عليها، وأما هؤلاء العصريون فينكرون الأحاديث الحسية كالأحاديث التي تخالف فطرهم مثلاً، أو تخالف ما تجدد لهم من المصنوعات ونحوها، وما علموا أن قدرة الله غالبة على كل شيء. ......
معنى الهرولة والتردد الواردين في حديث: (وما ترددت في شيء مثل ترددي في قبض روح عبدي
…
السؤال: ما معنى الهرولة والتردد الواردان في حديث: (وما ترددت في شيء مثل ترددي في قبض روح عبدي ...)؟ الجواب: الصحيح أن الهرولة هنا بمعنى قرب الرب تعالى إلى عبده بثوابه، فالقرب معنوي، العبد لا يتجاوز مكانه، وإنما تقرباته بالأعمال، فقرب الرب إليه، وهرولته -يعني: إسراعه- إنما هو بالأعمال، بكثرة الثواب، فلا يقال: إن الهرولة صفة من صفات الله في هذا الحديث، إنما ذكرها على وجه المبالغة في كثرة الثواب، قال: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً)، العبد ما يتقرب شبراً، يعني: هو مكانه، ولكن تقرب بالأعمال، (من تقرب إلي ذراعاً)، العبد لا يتزحزح عن مكانه، ولكن تقرب بالأعمال (من أتاني يمشي)، العبد لا يتجاوز مكانه بهذا المشي، المراد بالمشي هنا مواصلة الأعمال الصالحة، يعني: كثرة الأعمال الصالحة، وعبر عن ذلك بالمشي. إذاً: هذا الحديث إنما فيه المماثلة، فقرب العبد بالأعمال، وقرب الرب بالثواب، وكذلك المشي والهرولة. أما التردد فليس معناه التوقف في الشيء، وعدم الجزم به ونحو ذلك، لكن لما كان العبد يكره الموت، فإن الله تعالى يكره ما يسوءه، فالتردد هو الكراهية، يعني: كراهية الله تعالى لما يسوء العبد، وليس هو بمعنى التوقف في الشيء وعدم الجزم بفعله، ولأجل ذلك قال في تمام الحديث: (ولا بد له منه). ......
قول الشاعر: نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
…(3/182)
السؤال: يقول الشاعر في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم أبياتاً منها: نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العطاء وفيه الجود والكرم فما رأي فضيلتكم في هذا البيت جزاكم الله خيراً؟ الجواب: هذا البيت نقل عن أعرابي فيما نقله العتبي ، وذكره ابن كثير عند تفسير الآية التي في سورة النساء، وهي قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء:64] وبالبحث عن هذه الحكاية لم يوجد لها سند صحيح، ولو ذكرها ابن كثير وأقرها، ولو ذكرها غيره، فهي حكاية باطلة لا أصل لها، ولا يجوز اتخاذها حجة في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته، والبيت معناه صحيح، يعني: أنه صلى الله عليه وسلم خير من دفنت بالقاع أعظمه، وأن قبره فيه العفاف وفيه الكرم، فالمعنى صحيح، ولكن القصة التي فيها أنه جاء قاصداً للنبي صلى الله عليه وسلم وقرأ هذه الآية: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء:64] وأنشد الأبيات، وطلب من الرسول المغفرة، وبعد ذلك يقول العتبي : نمت، فرأيت الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أدرك الأعرابي، وأخبره أن الله قد غفر له. فهذه حكاية باطلة، وأما البيت فمعناه صحيح. ......
هل الولاية رتبة فوق الإيمان
…(3/183)
السؤال: هل الولاية رتبة فوق رتبة الإيمان؟ الجواب: الولاية هي من آثار الإيمان، من كان مؤمناً فإنه ولي، والله تعالى هو مولى عباده المؤمنين، اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11] فهو مولى المؤمنين ووليهم إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف:196]، فمن كان مؤمناً فإنه من أولياء الله، فهما متلازمان. ......
حال الوليد بن عقبة
…
السؤال: يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ... [الحجرات:6] هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ، فهل يجوز أن يقال: إنه فاسق مطلقاً أم نقول: إنه فاسق بهذا الفعل أم لا نصفه بهذا الوصف في كلا الموضعين، وذلك لأنه صحابي رضي الله عنه؟ الجواب: لا ينكر هذا حتى ولو كان من الصحابة، وقد جلده علي رضي الله عنه في شرب الخمر بأمر أمير المؤمنين عثمان ، جلده أربعين جلدة، وكذلك أيضاً صلى في ولاية عثمان بالناس وهو سكران، فالحاصل أنه لا يستنكر إذا وصف في هذه الآية بأنه فاسق، ولكن فسقه لا يخرجه من الإيمان، ولا يدخله في الكفر، إنما هو فسق عملي. ......
معنى حديث: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله..)
…(3/184)
السؤال: ما معنى: في ذمة الله في الحديث الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله حتى يمسي)؟ الجواب: الذمة العهد، ذمة الله تعالى بمعنى: عهده، أي: أن الله تعالى يتولاه ويحفظه فلا يجوز لأحد أن يعتدي عليه، ولا أن يمد يده إليه لكونه في ذمة الله، يعني: في جوار الله تعالى وفي حمايته وفي عصمته، وبكل حال نقول: إن مثل هذه الصفات وهذه الأحاديث تؤخذ على ظاهرها، ولكن لا يكون الإنسان متساهلاً في الطاعات ومعتمداً على بعضها، فيقول: ما دام صليت الصبح فأنا في ذمة الله، فسوف أفعل وأفعل من المعاصي ونحوه، لا يعتمد على ذلك، فإن الصلاة ما لم يكن لها تأثير عليه لم تكن صلاة صحيحة مفيدة. ......
معنى قول الشارح: والمراد بالحسنة هنا النعمة... إلى آخر كلامه
…
السؤال: نرجو من فضيلتكم التوضيح لقول الشارح رحمه الله تعالى: (والمراد بالحسنة هنا النعمة، وبالسيئة البلية في أصح الأقوال. إلى أن قال الشارح: ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى)؟ الجواب: قد ذكرنا أن الحسنة هي النعم، والسيئة هي البلايا، وأن الجميع من الله خلقاً وتكويناً، ولكن قد تكون أيضاً ابتلاء وامتحاناً، فتكون النعم ابتلاء، وتكون السيئات ابتلاء، وقد تكون الحسنة بسبب من العبد وهو الأعمال الصالحة، والسيئة بسبب من العبد وهي الأعمال السيئة، وقد تكون الحسنة ثواباً لحسنة قبلها، والسيئة عقوبة لسيئة قبلها، ورد في بعض الآثار أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها. وبكل حال فقد فصلنا في الحسنات والسيئات، وذكرنا أن الله تعالى يبتلي بالخير ويبتلي بالشر، وله الحكمة فيما يبتلي به، وكلام الشارح ظاهر لا خفاء فيه. ......(3/185)
توجيه تمني أسامة للإسلام بعد قتله لمن نطق بالشهادة
…
السؤال: ورد أن أسامة رضي الله عنه لما قتل الذي قال: لا إله إلا الله، وأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ تمنى أن يكون أسلم ذلك اليوم، فما هو توجيه ذلك التمني؟ هل أنه أراد إسلاما ًبلا ذنب أم أن سببه هذا التوبيخ من النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا شك أنه خاف لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟!) وكرر عليه، فخاف أن يكون قد حبط عمله، وقال: لو كنت أسلمت الآن ولم أسلم قبل ذلك لكان ذلك أولى لي، حتى أستقبل عملاً جديداً، فهو يخشى أن يكون قد حبط عمله بقتله الرجل، وتمنى أنه ما أسلم إلا بعده. وعلى كل حال فإنه رضي الله عنه قتله متأولاً؛ وذلك لأنه ظن أنه لم يقلها عن يقين، فلذلك أقدم على قتله، وبين العلماء الحكم فقالوا: الكفار الذين يمتنعون من لا إله إلا الله، إذا قوتلوا فنطق واحد منهم يكف عنه حتى يختبر بعد ذلك هل قالها عن يقين؟ وهل يعمل بها أم لا؟ أما الذين يقولونها ويقاتلون لأجل أمر آخر كالذين يقاتلون لإنكارهم الرسالة، أو لإنكارهم البعث، أو لطعنهم في القرآن مثلاً، أو لإنكارهم العبادات كالصلوات ونحوها؛ فهؤلاء لو قالوها ما ردت عنهم؛ لأنهم يقولونها قبل القتال، إنما قوتلوا لشيء آخر.......
…
شرح العقيدة الطحاوية [63]
إن من حكمة الله وعدله أنه لابد أن يبعث الأجساد بعد موتها، لينتصف للمظلومين، ويجاري المحسنين، وقد اهتم أهل السنة بجمع أدلة البعث من القرآن والسنة وغيرها، وذلك تبعاً لاهتمام الشرع بذلك.
الإيمان بالبعث
…(3/186)
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب والثواب والعقاب، والصراط والميزان) الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليل عليه، ورد على منكريه في غالب سور القرآن. وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالآخرة، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفي؛ بيّن تفصيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء؛ ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري. والقرآن بين معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع، وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقول من يقول منهم: إنه لم يخبر به إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريق التخييل، وهذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام. وقد أخبر الله بها من حين أن أهبط آدم، فقال تعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:24-25]، ولما قال إبليس اللعين: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر:36-38]. وأما نوح عليه السلام فقال: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ(3/187)
يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً [نوح:17-18]. وقال إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] إلى آخر القصة، وقال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41]، وقال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]. وأما موسى عليه السلام فقال الله تعالى لما ناجاه: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:15-16] بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد، وإنما آمن بموسى قال تعالى حكاية عنه: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:32-33] إلى قوله تعالى: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39] إلى قوله: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]. وقال موسى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، وقد أخبر الله في قصة البقرة: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73]]. هذا الكلام وما بعده يتعلق بالبعث بعد الموت، الذي هو بعث الأجساد وحشرها، ونشرها، وإعادة الأرواح إلى الأجساد، وجمع الأجساد بعد أن بليت وبعد أن صارت تراباً، وبعد أن تمزقت وتفرقت، فيبعثها الله، ويعيد إليها الحياة، وتتصل بها أرواحها اتصالاً أبدياً محكماً ليس بعده انفصال، ليس كاتصالها بها في الدنيا الذي يعتريه شيء من الانفصالات، هذا(3/188)
هو البعث بعد الموت، فمتى يكون؟ يكون يوم القيامة عندما ينفخ في الصور، وقيل: إن الصور هو قرن واسع كبير، فيه ثقوب بعدد أرواح بني آدم، ينفخ فيه إسرافيل فتخرج كل روح من ثقب وتصل إلى جسدها، وقبل النفخ في الصور ينزل الله مطراً فتنبت منه أجسادهم، والله قادر على أن ينبتها بدون مطر وغيره، كما في هذه الآية: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ [نوح:17] (أنبتكم) يعني: أخرجكم إلى هذا الوجود. ......
اهتمام القرآن والسنة بالإيمان بالبعث أكثر من غيره
…(3/189)
الإيمان باليوم الآخر والبعث: هو ركن أساسي من أركان الإيمان، وقد يكون هو الركن المؤكد عليه دائماً؛ ولأجل هذا كثيراً ما يقتصر عليه مع الإيمان بالله في كثير من الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره) ، (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث). لم يذكر مع الإيمان بالله إلا الإيمان باليوم الآخر؛ وذلك لأن اليوم الآخر وقع فيه الخلاف بين الرسل وأممهم، وأنكره المشركون وبالغوا في إنكاره، واعتقدوا أن الأجساد بعد موتها تضمحل ولا تعود، وأنه ليس هناك حياة، وأن هذه الدنيا باقية وليس لها فناء؛ ولهذا حكى الله عنهم أنهم يقولون: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ [الجاثية:24] أي: الزمان، ومعنى قولهم: نموت ونحيا أي: يموت قوم ويحيا آخرون، وهو معنى قولهم: أرحام تدفع، وأرض تبلع، هذه عقيدة أولئك المشركين، وهي أيضاً عقيدة الدهريين. فالإيمان بالله واليوم الآخر آكد أركان الإيمان، فهو آكد من الإيمان بالكتب، ومن الإيمان بالرسل، ومن الإيمان بالملائكة.. ونحو ذلك؛ لأن الخلاف في الإيمان بها قليل بخلاف الإيمان باليوم الآخر فإن المنكرين له كثير، ولما كان الأمر كذلك، جاءت الأدلة الكثيرة عليه، فلا تحصى الآيات التي تؤكد البعث بعد الموت، وستأتينا آيات مشروحة موضحة لما حكى الله، ولما رد الله به على المشركين الذين أنكروا البعث بعد الموت، وكيف أنه احتج عليهم بحجج عظيمة، فإذا آمن العباد باليوم الآخر وبما بعده فإنهم يستعدون لذلك اليوم بالأعمال الصالحة التي يكونون بها سعداء، وإذا لم يؤمنوا به فإنهم لا يهتمون إلا بهذه الحياة، حيث إنهم ليس في نظرهم حياة أخرى بعد هذه الحياة. فعرفنا بذلك أن(3/190)
الإيمان باليوم الآخر من آكد أركان الإيمان، وهو يعم -كما تقدم- البرزخ والحشر، ولكن أكثر ما يركز على الحشر الذي هو حياة الأجساد وحشرها وحسابها وجمع الناس في الدار الآخرة.. وما أشبه ذلك وما بعده، وهكذا إلى أن يحصل الجزاء على الأعمال، وإدخال أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. هذا هو الذي اتفقت عليه دعوة الرسل، وهذه الآيات التي سمعنا لا شك أنها تدل على أن الرسل مجمعون على أن اليوم الآخر لابد منه وأنه سيأتي، كما في قول نوح عليه السلام: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً [نوح:17-18]، ينبههم على أنهم سيخرجون منها، مثل قوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]. وكذلك بقية الرسل ذكروا البعث لأتباعهم، وكانوا يحثونهم على الإيمان بالله وعلى الإيمان بالبعث بعد الموت وعلى الاستعداد له، وكذلك غير الأنبياء كما سمعنا من مؤمن آل فرعون الذي قال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:32]، وهو يوم القيامة، وقوله: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40] ، فكل ذلك دليلٌ على أن أتباع الأنبياء أيضاً صرحوا بأنهم يؤمنون باليوم الآخر. من الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر؛ لأنه خبر الله، فالله هو الذي أخبر باليوم الآخر، وبما يكون في اليوم الآخر، فمن آمن بالله آمن بأخبار الله. واليوم الآخر يشمل البعث وما بعده، بل يشمل الموت وما بعده، ولكن أكثر ما يذكرون البعث بعد الموت، وما بعده من الجزاء والحساب والثواب والحوض والميزان وجزاء الأعمال ومحاسبة الله تعالى للعباد، وما يكون في عرصات القيامة من طول الوقوف ومن طلب(3/191)
الشفاعة، ومن الأهوال وطول ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيباً، فيؤمن أهل السنة بذلك على التفصيل الذي ذكره الله تعالى، ومن آثار إيمانهم الاستعداد ليوم المعاد، فإن الذي يؤمن بالشيء ويصدق به تظهر عليه آثاره، فيستعد له، ويتهيأ لذلك اليوم، ويعرف أنه لا نجاة له إلا بالأعمال الصالحة التي كلف بها.
إنكار الفلاسفة للبعث الجسماني
…
ذكر الشارح أن القرآن فيه الأدلة الكثيرة على الإيمان بالبعث، وضرب الأمثلة على ذلك، ولعل السبب في ذلك كثرة المنكرين له من المشركين الذي يستبعدون إعادة الموتى من القبور بعد التفرق وذهاب الأشلاء وصيرورة الأجسام تراباً، ويقولون: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق:3] ، يستبعدون ذلك، ويطلبون شططاً فيقولون: ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجاثية:25]. ولما كان هذا تكذيبهم؛ فإن الله -سبحانه- ضرب لهم الأمثلة، وذكر الأدلة، وبين لهم كمال القدرة؛ ولأجل ذلك يقول العلماء: إنه لم يشتمل كتاب من الكتب السابقة على تقرير البعث وذكر أدلته مثلما اشتمل كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ففيه التصريح به تصريحاً بليغاً لا يحتمل أو يتطرق إليه تأويل أو حمل على محمل بعيد، لكثرة الأدلة وقوتها وصراحتها، وكثرة ضرب الأمثلة عليها. ومع هذا فإن كثيراً من الذين تسموا مسلمين ينكرون هذا البعث -البعث الجثماني أو البعث الجسماني- ويقال لهؤلاء: الفلاسفة الإلهيون، وهم الذين ينكرون أولاً بدأ الخلق، ويقولون: إن هذا الإنسان لم يزل قديماً، وليس له أول، فينكرون أن يكون أبو البشر آدم، وينكرون أن يكون بدء خلقه من طين، وينكرون أن يكون هناك وقت للإنسان لم يكن فيه شيئاً مذكوراً. ثانياً: ينكرون نهاية الدنيا، ويقولون: الدنيا ليس لها آخر، وهذه الحياة تستمر أبداً إلى غير نهاية، ويعبرون عن هذا بقولهم: أرحام تدفع، وأرض تبلع، وينكرون عودة الأجساد وجمعها بعد تفرقها،(3/192)
ويجعلون الجزاء على الأرواح، ويدعون أن هذه الأرواح هي التي أهبطت من السماء واتصلت بالجسد، ثم بعد ذلك خرجت منه إلى حيث كانت، ويقول رئيسهم ابن سينا -وهو من أكابر الفلاسفة- في مطلع قصيدته العينية: هبطت إليك من المحل الأرفعِ ورقاءُ ذات تقلب وتفجع وصلت على كرهٍ فلما واصلت ألفت مرافقة الخراب البلقعِ يصف الروح بأنها هبطت إليك من المكان الأرفع، ثم اتصلت بجسدك، ثم ألفته، إلى أن صارت كجزء منه، ثم بعد ذلك تنفصل وتعود كما كانت، فهؤلاء ما آمنوا بالله حق الإيمان؛ لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بخبره، ومن خبره حشر الأجساد وبعثها وجمعها بعدما تتفرق، وهذا لم يؤمن به هؤلاء.
إيراد الأدلة القرآنية المتنوعة على البعث
…(3/193)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين في آيات من القرآن، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]، وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا، فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة، فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد يذكر فيها الدنيا والآخرة. وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد، فقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ [سبأ:3] ، وقال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53] ، وقال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7]. وأخبر عن اقترابها فقال: اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1] ، وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1] ، سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [المعارج:1-2]، إلى أن قال: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:6-7]. وذم المكذبين بالمعاد فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس:45] ، أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18] ، بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا(3/194)
بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمِونَ [النمل:66] ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً [النحل:38] ، إلى أن قال: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:39] ، وقال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر:59] ، وقال تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً [الإسراء:97-99] ، وقال تعالى: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:49-52]. فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال سؤال على التفصيل، فإنهم قالوا: أولاً: أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء:49]، فيقال لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب، فهلا كنتم خلقاً لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد، وما هو(3/195)
أكبر في صدوركم من ذلك، فإن قلتم: كنا خلقاً على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء، فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم، وبين إعادتكم خلقاً جديداً؟ وللحجة تقدير آخر: وهو لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما فإنه قادر على أن يفنيكم، ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة، فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون سؤالاً بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله: قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:51] ، فلما أخذتهم الحجة، ولزمهم حكمها، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به تعلل المنقطع، وهو قولهم: متى هو؟ فأجيبوا بقوله: عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الإسراء:51]]. قد ذكرنا أن القرآن اشتمل على الأدلة الكثيرة في تقرير البعث والنشور، وفيه ذكر عظم قدرة القادر، وأنه لا يعجزه شيء، وأن الرسل أولهم وآخرهم كلهم بلغوا هذا البيان، الذي هو الخبر عن اليوم الآخر والبعث والجزاء في الدار الآخرة، وذكروا ما يكون بعد الموت، فقد اتفقت دعوة الرسل كلهم على ذلك.
حكمة الله وعدله يقتضيان البعث
…(3/196)
الحكمة تقتضي البعث، فإن هذه دار عمل، والآخرة دار جزاء، فالناس في هذه الدنيا يعملون، وفي الآخرة يلقون جزاء أعمالهم؛ ولأجل ذلك صار اهتمام العقلاء في هذه الدار بعمارة ما بعد الموت، وهو الدار الآخرة التي سيفدون إليها، وقد انتبهوا إلى أنهم مأمورون بالعمارة وبالبناء، ولكن البناء الذي يبقى ليس البناء الذي يفنى، فإن بناء الدنيا يفنى ويفنى ساكنوه، وتفنى الدار ويموت صاحبها، وأما العمارة في الآخرة فإنها هي الباقية، يقول بعضهم: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها النفس ترغب في الدنيا وقد علمت أن السعادة فيها ترك ما فيها فاغرس أصول الهدى ما دمت مجتهداً واعلم بأنك بعد الموت لاقيها فإذا آمن العبد بأنه مأمور بأن يعمل للآخرة أكثر من العمل للدنيا أفلح، والآخرة هي دار الجزاء، والمؤمنون يعملون لآخرتهم، بمعنى أنهم يقدمون ما تعمر به مساكنهم في الجنة، روي في بعض الآثار: (أن الملائكة يبنون قصوراً لبني آدم، فإذا توقف الإنسان عن العمل توقفوا عن البناء وقالوا: نتوقف حتى تأتينا النفقة). معلوم: أن الذي يبني في الدنيا يتوقف العمال عن البناء حتى يعطيهم أجرتهم ونفقتهم، فكذلك في الآخرة لا تبنى المباني الأخروية من الغرف التي فوقها غرف إلا بالأعمال الصالحة.
إقامة الله الحجة على الكفار المنكرين للبعث يوم القيامة
…(3/197)
الرسل كلهم أخبروا باليوم الآخر، واعترفت الأمم التي تدخل النار بأن رسلهم قد بلغوهم، واعترفوا بأنهم لم يصدقوا لنقص في عقولهم، قال الله تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8] يعني: ينذركم بالعذاب وينذركم بالنار، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا [الملك:9] واعترفوا بأن تكذيبهم هو الذي أوقعهم في العذاب حتى قالوا: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10] . وسمعنا الآية التي في سورة الزمر، وهي قوله تعالى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]، وكذلك في سورة الأنعام أن الرسل تقول لهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الأنعام:130]، يقول الله لهم هذه المقالة، فيقولون: بلى، يعترفون بأنهم قد جاءهم الرسل الذين أنذروهم لقاء يومهم هذا، ومع ذلك لم يتقبلوا، بل كذبوا الرسل، واستبعدوا أن يكون هناك بعث بعد الموت، واعتقدوا أن ليس هناك إلا هذه الدنيا، وأنهم إنما خلقوا ليأكلوا ويشربوا ويمتعوا أجسامهم، وبعد أن يخرجوا من الدنيا لا يعودون مرة أخرى، هذه عقيدة أوبقتهم وأهلكتهم وأنستهم ما خلقوا له. ومن الأدلة على البعث أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه على اليوم الآخر في قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53] الضمير (هو) يعود إلى البعث وما بعد الموت من الجزاء على الأعمال، (أحق هو؟) أي: أحق صحيح وثابت ما أخبرتنا به من البعث والجزاء، (قل: إي وربي) أمره أن يحلف بالله(3/198)
ربه الذي هو رب المخلوقات وخالقها ومدبرها. وكذلك قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي [سبأ:3] ، (بلى وربي) هذا حلف أيضاً، (لتأتينكم): أي: لابد أن تأتيكم الساعة. وكذلك قوله: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي [التغابن:7] ، هذا أيضاً قسم ثالث: ( ..بلى وربي لتبعثن) أي: لابد من البعث. وكذلك قوله تعالى: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:23] .. ونحو ذلك من الآيات الكثيرة التي يقسم فيها بأنه لابد أن يبعثوا. أما المشركون: فإنهم ينكرون هذا، بل يحلفون عليه، يقول الله تعالى في سورة النحل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل:38]، والله تعالى يقيم عليهم الحجج بعد جزمهم هذا، فيخبرهم أنه هو الذي بدأ خلقهم فلابد أن يعيده، وهو الذي خلق هذه المخلوقات التي هذه عظمتها، فلابد أن يعيد الإنسان الذي هو أحقر وأصغر وأذل من هذه المخلوقات العظيمة، يقول الله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] ، السماوات والأرض بما فيها الله تعالى هو الذي خلقها، والإنسان بلا شك أنه من أفضل من خلقه الله، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] فالله خلق الإنسان، وأعطاه السمع والبصر والفؤاد، وخصه بالعقل والمعرفة، وعند ذلك كلفه، وأمره بأن يتعبد لربه ويطيع، وأمره بأن يستعد للقاء الله، وأخبره أنه لابد من لقاء ربه، وأن اللقاء حتم لابد منه، فمن حقق ذلك الإيمان وذلك الرجاء استعد له، قال تعالى : فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ(3/199)
عَمَلاً صَالِحاً [الكهف:110] (لقاء ربه) يعني: مقابلة ربه، أي: من كان موقناً بأنه لابد أن يلقى الله تعالى فليستعد بالعمل الصالح الخالي من الشرك.
حقيقة الدنيا الزائلة
…
أخبر الله تعالى بأن هذه الدنيا وما عليها حقيرة هينة، لا تستحق أن يهتم لها الإنسان هذا الاهتمام فقال تعالى : اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ [الحديد:20] ، أي: هذه أكثر ما يشتغل به أهلها، ثم ضرب لها مثلاً في انقضائها، كمثل غيث أعجب الكفار نباته، فالغيث إذا نزل فإن الكافرين بالله هم الذين تعجبهم زهرة الدنيا، وهم الذين تعجبهم زينتها وما عليها؛ لأن رغبتهم في الدنيا، وليس لهم رغبة في الآخرة، ومن العلماء من يقول: الكفار هم الزراع، ولكن الأولى أنهم الكفار بالله، فهم الذين يعجبهم نباته، وبعد مدة ماذا يكون هذا النبات؟ لا شك أنه ييبس ويصير حطاماً وتذروه الرياح، فهكذا هذه الدنيا تثمر لأهلها وتخضر وتقبل عليهم، ثم بعد ذلك تدبر عنهم ولا تقبل، ويذوقون الضر كما ذاقوا الخير، وتنزع عنهم أو ينزعون عنها، ولسان حالها يقول كما أنشد بعضهم: هي الدنيا تقول بملئ فيها حذار حذار من بطشي وفتكي فلا يغرركم طول ابتسامي فقولي مضحك والفعل مبكي فهذه حالة هذه الدنيا، إذا فكر العباد بما عليها علموا أنها متاع فقنعوا منها باليسير، وشمروا للدار الآخرة، ونصبوا الأقدام، وهجروا التواني والتكاسل الذي يعوقهم عن السير في الآخرة، وهجروا الفتور الذي يبطل هممهم، وأنصبوا أبدانهم وأجسامهم في طاعة الله تعالى، وعلموا أن الدنيا فانية وقنعوا منها باليسير، وجعلوا رغبتهم في الآخرة، ووثقوا بقول الله تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:30]، هذه حالة المصدقين. وأما حال المكذبين فقد سمعنا ما ذكر الله تعالى عنهم في(3/200)
الآيات التي في سورة الإسراء، وهي قول الله تعالى: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً [الإسراء:47-48]، ثم يقول تعالى: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:49-51] ، فهذه حجة عليهم: أن الذي يعيدكم هو الذي فطركم أول مرة، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ أي: متى هذا البعث؟ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الإسراء:51] ، يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:52]. إذا دعاهم وأخرجهم تذكروا هيئتهم الأولى، وقالوا: كم لبثتم؟ يظنون أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا أياماً قليلة، يوماً أو بعض يوم، كما في آية أخرى، يقول تعالى عنهم: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً [طه:103] ، وأمثلهم وأعقلهم يقول: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً [طه:104]، يتقالُّون الزمن الذي لبثوه ومكثوه في الدنيا، وما ذاك إلا أنهم لما كانوا في سرور، مضت عليهم الأيام قصيرة، وبلا شك أنهم سيلقون بعد ذلك السرور جزاء ينسيهم ما كانوا فيه من قبل، فإنهم يعذبون في الآخرة أو يثابون في الآخرة، ورد في بعض الأحاديث: (يجاء بأشد الناس عذاباً في الدنيا من أهل الجنة فيغمس في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت سوءاً قط؟ هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا يا رب! ما رأيت سوءاً قط، وما مرت بي شدة قط، ويجاء بأنعم الناس في الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مرت بك نعمة قط؟ فيقول: لا يا رب! ما(3/201)
رأيت خيراً وما مرت بي نعمة)، نسي النعمة التي كانت في الدنيا؛ وذلك لأن لحظة واحدة في النار تنسيه ما كان فيه من النعيم في الدنيا، ويضرب بعضهم مثل هذا فيقول: مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم إنها شبه أنصابِ فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقابِ لو أن إنساناً نُعِّمَ في الدنيا عشرات السنين، في ألذ وأنعم ما يكون من الحياة والبهجة، ثم بعد ذلك ناله عذاب ساعة واحدة؛ نسي ذلك النعيم، ونسي تلك البهجة، ونسي ذلك السرور، فكيف ونعيم الدنيا بأسرها قليل! ونعيمك الذي تناله أنت في عمرك أقل من القليل؟ كيف إذا تعقب هذا النعيم العذاب المستمر الذي لا انقضاء له ولا انقطاع وهو عذاب الآخرة، عذاب النار وبئس القرار، فإنه هو الذي لا انقضاء له أبداً، فهذا يبين لك أن الدنيا قليل متاعها، وأن حظ الإنسان منها أقل من القليل.
قرب قيام الساعة
…(3/202)
وذكر أيضاً الآيات التي فيها ما يدل على قرب قيام الساعة، وقد يقول قائل: قد مضى مئات السنين بعد نزول هذه الآيات، مضى أربعة عشر قرناً وبعض قرن، فكيف يقال: إنها قريب؟ الله تعالى ذكر أنها قريب في قوله تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب:63] ، يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً [الأعراف:187] ، يعني: استعدوا لها فإنها تأتي على حين غفلة وبغتة، فلابد أن تأتي، فلما كنتم مؤمنين بها وأنها تأتي فكونوا على أهبة في كل لحظة، وفي كل وقت، ترقبوا أن تأتي الساعة في ذلك اليوم أو في تلك الليلة. يقول الله: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا [النازعات:42-44]، يعني: علمها، إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات:45-46]، وفي آية أخرى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف:35] ، لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار، فالآيات التي ذكر الله فيها أنها قريبة: اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ [القمر:1] ، اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ [الأنبياء:1] ، أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1] ، تدل على أنها قريبة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها قريبة وأن الناس عليهم أن ينتظروها، بقوله: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) ، (إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة) ، فإذا رأينا أماراتها وأشراطها، فإننا ننتظر أن تأتي الساعة(3/203)
بغتة ليأتي أمر الله. وأولها: أن ينفخ في الصور نفخة الفزع ونفخة الصعق: وهي نفخة واحدة، ثم بعدها تموت الأجساد وتفنى، ثم ينفخ فيه نفخة أخرى هي نفخة البعث والقيام من القبور، فيبعث الناس ويجتمعون في دار الجزاء، وليس دون ذلك إلا أيام قليلة. فالمسلم يكون متأهباً لذلك، حتى إذا جاءه أمر الله يكون على أهبة، وقد أعد للساعة عدتها، وقد عمل عملاً صالحاً يكون سبباً في نجاته، كما كان كثير من السلف -رحمهم الله- يهتمون بالآخرة، حتى لو قيل لأحدهم: إنك تموت هذا اليوم، لم يستطع أن يزيد في عمله، يعني: قد بلغ أقصى ما يمكنه من العمل ومن الاجتهاد في الأعمال الصالحة، بحيث إنه يترقب الموت في كل حالة، ويمتثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) ، وقول ابن عمر رضي الله عنه: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء) يعني: ترقب الموت بينك وبين الصباح أو بينك وبين المساء، مخافة أن يأتيك أمر الله، ومن مات فقد قامت قيامته.
قوله تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم)
…(3/204)
قال رحمه الله: [ومن هذا قوله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] ، إلى آخر السورة، فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها في ألفاظ تشابهه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضع الأدلة وصحة البرهان؛ لما قدر، فإنه -سبحانه- افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد اقتضى جواباً، فكان في قوله: (ونسي خلقه) ما وفّى بالجواب، وأقام الحجة وأزال الشبهة، لوما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها، فقال: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79] ، فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، إذ كل عاقل يعلم -علماً ضرورياً- أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز، ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلقه، أتبع ذلك بقوله: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79] ، فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ومواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر يتضمن جواباً عن سؤال آخر يقول: العظام صارت رميماً، وعادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لابد أن تكون مادتها وحاملها طبيعته حارة رطبة، بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معاً فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:80] ، فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، الذي يخرج الشيء من ضده وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه من إحياء العظام وهي رميم. ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم(3/205)
على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتداراً، فقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس:81] ، فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتها وعظم شأنها وكبر أجسامها، وسعتها وعظيم خلقها أقدر على أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً، فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر:57] ، وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [الأحقاف:33]. ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر: وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لابد معه من آلة ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون: كن؛ فإذا هو كائن، كما شاء وأراده، ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعل وقوله (وإليه ترجعون) ومن هذا قوله سبحانه: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36-40]، فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملاً عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء، كما قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، إلى آخر السورة. فإن من نقله من النطفة إلى(3/206)
العلقة، ثم إلى المضغة، ثم شق سمعه وبصره، وركب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصاب والرباطات التي هي أسره، وأحكمه، وأحكم خلقه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته، فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب من قول وجيز، الذي لا يكون أوجز منه.]. هذه الآيات في آخر سورة يس احتج الله بها على بعض المشركين، روي أن الوليد بن المغيرة أو العاص بن وائل جاء ومعه عظم ميت قد بلي، وجعل يفته، وقال: أتزعم -يا محمد- أن ربك قادر على أن يعيد هذا حياً بعد أن صار فتاتاً وتراباً؟ فقال: (نعم، يميتك الله، ثم يحييك، ثم يحشرك إلى جهنم، ونزل فيه هذه الآيات، وهي قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس:77]) ، فهذه هي الحجة الأولى، يذكره الله بأنه خلق من نطفة، والنطفة: ماء قذر لو ترك لحظة لفسد، فالله هو الذي أوجد الإنسان وخلقه من هذه النطفة، ثم طوره إلى أن أخرجه إنساناً سوياً، وجعله بشراً متكامل الخلق، فإذا هو يخاصم ربه ويجادله. ثم قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] ، وهذا المثل كونه أتى بالعظم يفته، ونسي مبدأ خلقه، نسي أن الله هو الذي أوجده من تلك النطفة إلى أن صار رجلاً، ونسي قول الله تعالى له ولغيره: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المرسلات:20-21]، نسي مبدأ خلقه فقال: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، والآيات التي بعدها في تقرير البعث وفي الرد عليه: الحجة الأولى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79] ، فإن الذي ابتدأ الخلق قادر على أن يعيده، وليس(3/207)
بدأ الخلق أهون من إعادته، هذه حجة قاطعة لكل خصومة؛ وذلك لأن الله هو الذي ابتدأ خلق الإنسان وأحياه في هذه الدنيا، وكذلك سائر المخلوقات، فقدر الله أنها تتوالد، وأنها تنشأ، وأنها توجد على هذه الحياة شيئاً فشيئاً، فالذي أوجده وخلقه وكونه وقدر ما يقدر عليه لا شك أنه قادر على أن يعيده كما كان، فيقول تعالى: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79]. الحجة الثانية: قوله: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79] ، يعني: أنه عالم بكل شيء فلا يخفى عليه شيء، فهو عالم بعدد المخلوقات، وعدد الرمل والتراب، وأبصر كل شيء فلم يحجب بصره حجاب، وسمع جهر القول وخفي الخطاب، لا يخفى عليه شيء من أمور عباده، علم عددهم قبل أن يخلقهم، وعلم آجالهم، وعلم أعمارهم، وعلم أعمالهم، وعلم أوقاتهم التي يولدون فيها، فهو بكل خلق عليم، فإذا كان عليماً فلا يليق به أن يهمل خلقه. الحجة الثالثة: قول الله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً [يس:80] ، يقولون: هناك شجر اسمه المرخ، وشجر اسمه العفار، يعرفه أهل البوادي، إذا أرادوا أن يقدحوا ناراً قطعوا عودين أخضرين، وحزوا في أحدهما حزاً، ثم إنهم يحركونه تحريكاً جيداً فتنقدح منه النار، ثم يجعلون تلك الشررات التي تنقدح منه في خرقة، ثم بعد ذلك ينفخونها، ثم يوقدونها ناراً، وكان يغني عن الكبريت الذي نستعمله وغيره، وهو معروف عند العرب قديماً وعند البوادي إلى حد قريب، يقولون: في كل شجر نار، والله تعالى هو الذي يخرج النار من هذا العود الأخضر، النار طبيعتها حارة، وطبيعة هذا العود أنه رطب، وأنه مائي أخضر، ومع ذلك تنقدح منه هذه النار التي فيها هذه الحرارة، أليس ذلك دليلاً على أن الذي أوجد هذه الحرارة في هذا قادر على أن يعيد إلى الإنسان حياته، ولو كان تراباً؟ يعيده ويجمع أشلاءه ولو كانت متفرقة، ولو كانت رماداً أو تراباً، لا يستعصي عليه أن يعيد(3/208)
إليه حرارته الغريزية وحياته وطبيعته، كما لم يستعصِ عليه أن يخرج النار من ذلك الشجر الأخضر الذي توقدون منه. الحجة الرابعة: قول الله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [يس:81] ؛ وذلك لأن خلق هذه السماوات مع ارتفاعها وما فيها من الأفلاك وما فيها من النجوم السائرة والثابتة، وما فيها من الشمس والقمر وهذه الأجرام العلوية، وكذلك هذه الأرض وما فيها من الشعاب والجبال والمهاد؛ أعظم من خلق الإنسان، فإن المخلوق العظيم يدل على عظمة خالقه. إذاً: القادر على أن يخلق مثل هذه الأشياء قادر على أن يعيد الإنسان -مع صغره ومع حقارته- كما كان. يقول الشارح كما سمعنا: من قدر على أن يحمل قنطاراً، لم يصعب عليه أن يحمل أوقية، القنطار: هو ملء مسك الثور من الذهب أو نحوه -ملء جلد الثور-، والأوقية ملء اليد، فالذي يقدر على أن يخلق هذه المخلوقات العلوية الكبيرة لا يستعص عليه أن يوجد الإنسان. الحجة الخامس: قوله: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] فالله ليس كالذي يحتاج إلى حرفة وإلى صنعة وإلى عمل وإلى مواد يجمعها، الصانع إذا أراد أن يصنع مثل هذه الطاولة، لابد أن يأتي بأعواد ولابد أن يأتي بمنشار، ولابد أن يقيس، ولابد أن يسويها بآلة إلى أن تستوي، وكذلك من يصنع مثل هذا الزجاج لابد أن يأتي بالمواد التي يصنع منها، إلى أن يكون منها ما يصنع، أما الرب تعالى فإنه لا حاجة به إلى م
تفصيل الشريعة لما يكون بعد البعث
…(3/209)
البعث وما بعده من الجزاء والحساب والثواب والعقاب والحوض والميزان والعرض وما أشبه ذلك، كل ذلك داخل في الإيمان باليوم الآخر، والشريعة الإسلامية قد فصلت ذلك، وفي القرآن والسنة من ذلك ما لم يكن مفصلاً في الكتب قبله، والإيمان باليوم الآخر قد توافقت عليه شرائع الأنبياء، وكتبهم المنزلة عليهم متفقة على الإيمان بأن هناك بعثاً بعد الموت وجزاءً على الأعمال خيرها وشرها. وكذلك هناك حساب عسير أو حساب يسير كما أخبر الله. وهناك وقوف في الموقف الذي هو موقف الناس: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6] ، وتضمنت الشريعة إثبات البعث الذي هو بعث الأجساد وإعادتها بعد أن كانت تراباً ورميماً، وذلك يسير على الله تعالى.
الحجج العقلية على البعث
…(3/210)
وردت الأدلة الكثيرة في القرآن في تقرير هذا البعث، ومرت بنا آيات توضح ذلك، وأن الله تعالى يحتج على البعث بحجج عقلية معقولة مشاهدة، وقد احتج على المنكرين بما يلي: 1- بإحياء الأرض بعد موتها، يقول الله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم:19] ، لما ذكر أنه يحيي الأرض بعد موتها أخبر بأنهم كذلك يخرجون من الأرض، ويقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ يعني: أرضاً ميتة كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى [الأعراف:57] يعني: كما تحيا هذه الأرض الهامدة اليابسة التي ليس فيها عود أخضر، وليس فيها ورقة خضراء، ينزل عليها المطر فيغمرها، فتصبح بعد ذلك خضراء تهتز، فيها من أنواع النباتات المختلفة الطعوم والألوان والروائح والطبائع والأضراب، ولا شك أن ذلك آية ومعجزة بينة على إخراج الموتى وإعادتهم بعد أن يكونوا تراباً. 2- ويحتج أيضاً: ببدء الخلق، فيقول تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] ، أي: أنه كما بدأ خلق الإنسان وأحياه بعد أن كان عدماً، فكذلك يعيده بعد أن يكون تراباً، فالذي أخرج الإنسان بعد أن كان ماءً مهيناً، وبعد أن كان نطفة قذرة؛ أخرجه بشراً سوياً حياً متحركاً عاقلاً متكلماً فاهماً، له حركاته وله حواسه؛ لا شك أنه قادر على أن يعيده بعد أن يكون تراباً، ولو تفرقت أشلاؤه، ولو أكلته الدود أو أكله التراب أو رمي في البحر أو صار رماداً؛ لا يعجز الله أن يعيده كما كان، فهذا من حجة الله على خلقه. 3- كذلك يحتج تعالى بمخلوقاته العلوية والسفلية التي هي أعظم من خلقه، فيقول تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ(3/211)
[غافر:57] ، ويقول تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [يس:81] ، ويقول تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [الأحقاف:33] ، ونحو ذلك من الأدلة. 4- ويخبر سبحانه بأنه لا يحتاج في خلقه ولا في تصرفه إلى حركة ولا إلى عمل ولا إلى معين ومساعد، وإنما يأمر أمراً لا يرد: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ، فالذي تذل له المخلوقات وتطيعه كلها ولا تستعصي عليه، وإذا أمرها انقادت لأمره؛ لا يستعصي عليه أن يعيد خلق الإنسان كما كان. فهذه من الأدلة التي سمعنا إيضاحها ودلالتها على إعادة الخلق، ولا شك أن الإنسان العاقل الذي يسمع هذه الأدلة يقنع غاية القناعة، ويصدق بذلك غاية التصديق، ويستسلم لذلك، ولا يبقى في قلبه شك ولا ريب، ولكن لا يكتفي بأن يقول: أنا مؤمن وأنا مصدق وأنا موقن بذلك كله، وأنا لا أشك ولا أتردد، ولكن يطلب منه العمل الذي يلقاه ذلك اليوم، فإن ذلك اليوم لابد أن يكون له عمل، لابد أن يعمل العمل الذي ينجو به في ذلك اليوم، فإذا علم الإنسان أن ذلك اليوم يوم عسير، ويوم طويل كألف سنة مما تعدون، أو كخمسين ألف سنة، وأنه لا يخف إلا على أهل الإيمان، وعلم أن فيه حساباً، وأن الحساب يكون عسيراً إلا على أهل الإيمان وأهل الأعمال الصالحة إذ إن الله يحاسبهم حساباً يسيراً، وعلم أن فيه وزناً للأعمال، وأنها تخف وتثقل، وأن الذي تثقل موازينه هم أهل السعادة وهم أهل الأعمال الصالحة، وأن الله تعالى سريع الحساب، يحاسبهم في طرفة عين، ولا يشغله شأن عن شأن، وعلم أيضاً: أن فيه تتطاير الصحف، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره؛ لا شك أنه يستعد لمثل(3/212)
هذه الأشياء، فيعلم أنها لا تحصل إلا بعمل، فيسأل عن العمل، ويتقرب بذلك العمل.
شرح العقيدة الطحاوية [64]
من اعتقاد أهل السنة والجماعة الإيمان باليوم الآخر، وما ذكر فيه من المواقف كالعرض الأكبر والحشر والميزان والصراط وغير ذلك، ومن أنكر ذلك من الفلاسفة وغيرهم فالأدلة العقلية والنقلية ترد عليهم.
ذكر مواقف القيامة
…
قد عرفنا أن من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر -وهو يوم القيامة-، وسمي باليوم الآخر؛ لأنه ليس بعده يوم، وتلك الدار تسمى الدار الآخرة، فاليوم الأول هو الدنيا، وهي تعتبر كأنها يوم، ثم اليوم الآخر هو ما يكون بعد البعث، فعندنا يومان: الدنيا يوم، والآخرة يوم، والدنيا سميت بذلك لأنها دنية أو دانية، والآخرة سميت بذلك لأنها متأخرة عن هذه الدنيا، أو لأنها آخر ما يمر به الإنسان، وليس بعدها يوم، بل هي مستمرة دائماً وأبداً، وأول ما يكون في اليوم الآخر هو البعث، الذي هو إعادة الناس وإحياؤهم بعد تفرق أشلائهم وأجزائهم، وبعد صيرورتهم تراباً ورفاتاً، هذا أول ما يكون في ذلك اليوم. ......
الحشر
…
بعد العبث يكون الحشر، يعني: سوقهم إلى الموقف، وقد أخبر الله تعالى بأنهم يحشرون على هذه الأرض، والمجرمون يحشرون: زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً [طه:102-103]، يقول بعضهم لبعض: ما لبثتم في الدنيا إلا عشرة أيام، ويقول (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً)، فأول شيء بعد البعث أنهم يحشرون، يعني: يساقون إلى الموقف.
الموقف
…(3/213)
الموقف هو موضع خصصه الله على وجه الأرض، وقد أخبر الله بأن الأرض تبدل، يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ [إبراهيم:48] ، وأخبر بأنها تمد مداً، وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق:3-5]، أي: تمد كما يمد الأديم العكاظي، وكذلك يزال ما عليها من البنيان، وتزال الجبال التي عليها، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5] ، تتفتت أولاً وتصير كالرمل كما في قوله تعالى في قوله: كَثِيباً مَهِيلاً [المزمل:14]، ثم بعد ذلك تكون كالهباء الذي يسير، تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88] أي: كأنها السحاب الذي هو هباء -غيم- وبعد ذلك يزال ما عليها، يقول الله تعالى: لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه:107] أي: مستوية ليس فيها منخفض ولا مرتفع، تزال الأشجار، وتزال الجبال، وتزال الأبنية، وتزال الكثب والمرتفعات.. ونحو ذلك، ويقوم الناس عليها: أولهم وآخرهم، يجمعون كلهم، يقول الله تعالى: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50]، فأخبر أن أولهم وآخرهم كلهم مجموعون مجتمعون في ذلك اليوم الذي هو يوم الجمع ويوم العرض. والعرض يكون على الله تعالى، ولكن بعد أن تطول المدة في ذلك الموقف، وبعدما يلحقهم التعب والعناء، فيستشفعون إلى الله تعالى بالأنبياء، ويشفع محمد صلى الله عليه وسلم لينزل الله تعالى لفصل القضاء، ثم بعد ذلك العرض، وهو عرض الناس، يقول الله تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف:48] أي: صفوفاً: صفاً بعد صف؛ ليحاسبهم، وقد أخبر تعالى أنه يحاسبهم، وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يحاسبهم الله ويناقشهم، ويذكرهم بكذا وكذا، (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان) ، وأخبر الله تعالى أنه سريع(3/214)
الحساب، لا يشغله شأن عن شأن.
أهوال يوم القيامة
…
من الأهوال التي تكون في يوم القيامة: نصب الميزان، وتطاير الصحف، فإن الناس يأتيهم الهول عندما تنصب الموازين، حتى يعلم: هل يخف ميزانه أم يثقل؟! وعندما تتطاير الصحف، حتى يعلم: هل يأخذ كتابه بيمينه، أم يأخذه بشماله؟! فإذا ثقلت موازينه نودي: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإذا أوتي كتابه بيمينه كذلك يفوز فوزاً عظيماً، ويقرأ كتابه ويعرضه على من يعرفه، ويقول: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19] ، وكل ذلك مفصل في القرآن بعبارات واضحة لا يعتريها شيء من الشك والريب، ولكن الفلاسفة الذين ينكرون هذه الأشياء حقيقة يتسلطون على تأويلها وصرفها عن ظاهرها؛ حتى تسلم لهم عقيدتهم، كما تسلط إخوانهم من المعتزلة على نصوص الصفات فتأولوها، ففتحوا للناس باب التأويل. وهذه الأمور التي وردت في القرآن لا يتم إيمان العبد إلا بتحققها، وتيقنها، ومعرفة أنها صحيحة ثابتة، ولا يعلم ذلك إلا بالاستعداد لها والتأهب؛ لأن من آمن باليوم الآخر استعد لذلك اليوم، وتأهب له، وعمل العمل الصالح الذي يكون سبباً في نجاته وسبباً في فوزه، أما من يصدق به بلسانه ولكنه لا يستعد له؛ فإن هذا يقول ما لا يفعل، ولا ينفعه قوله بلسانه مادام أنه لا يطبق ما يقوله، كما يقول بعضهم واصفاً هؤلاء المفرطين: ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف.
أدلة القرآن على اليوم الآخر
…(3/215)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والعرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب). قال الله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:15-18] .. إلى آخر السورة. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً [الانشقاق:6-15]. وقال تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48]، وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] ، وقال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48] .. إلى آخر السورة. وقال تعالى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ [غافر:15] ، إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17] ، وقال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]. وروى(3/216)
البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت : يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى : فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً [الانشقاق:7-8] ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما ذلكِ العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب) ، يعني: أنه لو ناقش في حسابه لعبيده لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولكنه تعالى يعفو ويصفح، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى]. أورد المؤلف هذه الآيات، والقرآن مشتمل -بإيضاح- على ذكر الدار الآخرة، وما يكون فيها.
النفخ في الصور
…(3/217)
أول ما يكون يقوم القيامة النفخ في الصور، وقد ذكر في القرآن في عدة مواضع، فذكر الله نفختين أو ثلاث نفخات، نفخة ذكر بعدها الفزع في سورة النمل: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل:87] ، وسميت في سورة الزمر بنفخة الصعق: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] ، يقول بعض العلماء: إنها نفختان: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، وقال بعضهم: بل نفخة واحدة، يفزعون في أولها ثم يصعقون في آخرها، وقال بعضهم: إن الفزع صعق، أي: موت، أي: أن أوله فزع ثم موت. أما النفخة الثانية فهي نفخة البعث، وهي مذكورة في قوله: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] ، وهي النفخة التي يبعثون بعدها، ورد في الحديث: (ما بين النفختين أربعون) ، وتوقف الراوي لا يدري هل هي أربعون يوماً، أو أربعون شهراً، أو أربعون سنة؟! وجزم بعضهم أنها أربعون سنة، أي: بين نفخ الصعق وبين نفخة القيام لرب العالمين. وبعد النفخة الثانية تسوقهم الملائكة إلى الموقف، وهذا يسمى الحشر كما في قوله تعالى: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:47] ، وبعد ذلك العرض كما في قوله: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً [الكهف:48] أي: صفوفاً، وبعده الوقوف: وهو القيام الطويل. وإذا تأملنا النصوص وجدنا ما يؤيد هذه الأشياء في آيات متتابعة متكررة، فقوله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ [الحاقة:13] ، هي نفخة البعث أو نفخة الصعق، وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة:14] أي: جعلت الأرض والجبال شيئاً واحداً، حتى تكون مستوية صالحة لأن يوقف عليها، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ [الحاقة:15] أي: حصلت الواقعة التي هي يوم(3/218)
القيامة.
أسماء يوم القيامة
…
الله تعالى سمى يوم القيامة بأسماء عدة، كما في قوله: إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ [الواقعة:1]، وفي قوله: الْحَاقَّةُ [الحاقة:1]، وفي قوله: الْقَارِعَةُ [القارعة:1]، وسماه بيوم القيامة لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1]، وسماه بالطامة والصاخة، في قوله تعالى: فَإِذَا جَاءَتْ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى [النازعات:34]، فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ [عبس:33]، وكل اسم له معنى، فمعنى كونها (طامة) أنها تطم ما قبلها، وتنسي ما قبلها، والطم -في الأصل- هو التغطية، ومنه قولهم: طم البئر إذا غطاها، أي: أنها طامة مذهلة، أو عامة لكل الخلق. وأما تسميتها بالصاخة فإنه لأجل ثقلها على الناس، والصخ أصله الضرب بقوة، أو الثقل.. أو نحو ذلك.
الخوف من يوم القيامة والحكمة من تكرار ذكره في القرآن
…(3/219)
هذه الآيات تخوف بما اشتملت عليه، وذلك أن يوم القيامة الذي ذكر في قوله: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281] ، وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة:48] ؛ لا شك أن هذا اليوم هو يوم الجزاء، هو يوم الحساب، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]. والآيات التي ذكرت فيها ووضحت متقاربة المعنى، وإن اختلفت الألفاظ؛ وذلك لأن الله تعالى يذكره في كل موطن بما يناسبه، والقصد من تكرار ذكر يوم القيامة تحققه، حتى لا يقال: إنه خيال، أو إنه تقريبي.. أو ما أشبه ذلك. وحتى لا تتسلط عليه التأويلات التي يسلكها النفاة من الفلاسفة ونحوهم، فإذا جمعت الآيات بصراحتها يعجزون عن أن يصرفوها. فلذلك آمن أهل السنة وآمن المسلمون بالبعث بعد الموت، وقالوا: ليس في العقول ما ينكره، والقدرة الإلهية عامة له ولغيره، والعقل يقتضيه لأجل الجزاء على الأعمال، ولأجل الانتقام من الظالم، وأخذ الحق للمظلوم، ولأجل إثابة المطيع، وعقوبة العاصي، وذلك لأننا نشاهد في الدنيا ظلمة يموتون وهم مصرون على الظلم، منهم من قتل، ومنهم من قطع طرفاً ظلماً، ومنهم من انتهب مالاً: سرقة، أو اختلاساً، أو غصباً.. أو غير ذلك، ومنهم من انتهك عرضاً؛ ومع ذلك يموتون والحق عندهم، ولاشك أن الله تعالى أعدل من أن يذهب صاحب المظلمة دون أن ينتقم منه؛ فلابد أن يكون هناك يوم آخر ينصف الله فيه المظلوم، وينتقم من الظالم، ويجازيه بما يستحقه، فيكون ذلك هو اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة. كذلك أيضاً: نشاهد أن هناك من يجد في العمل، ويجتهد في الأعمال الصالحة، ويتقرب بالحسنات، ولا يأتيه جزاء في الدنيا إلا ما يجده من لذة الطاعة ونحوها؛ فلابد أن الله لا يضيع عمله، كما في قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30] ،(3/220)
فإذاً: لا يضيع أجره ما دام أنه لم يتمتع من أجره بشيءٍ في الدنيا، فأجره يوفى إليه في الدار الآخرة، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. كما أننا نشاهد الكفرة والفجرة الذين تمتعوا في الدنيا بشهوات وملذات، وهم يظهرون الكفر والفسوق والسخرية بالرسل، ويكذبونهم ويسخرون من الحق، ويفعلون المعاصي ويتركون الطاعات، ومع ذلك يموت أحدهم وهو على إصراره، لم تنله عقوبة في الدنيا. إذاً: لابد أن تكون هناك دار أخرى يعاملهم الله فيها بما يستحقونه، أو يعاملهم فيها بعدله إذا لم يعفُ عن المحسن منهم، فهذه الأمور العقلية تضطر المؤمن إلى أن يؤمن بالبعث بعد الموت، وأن يتحقق وقوعه.
حديث: (إن الناس يصعقون يوم القيامة)
…(3/221)
قال المؤلف: [وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور) ، وهذا صعق في موقف القيامة، إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذٍ يصعق الخلائق كلهم. فإن قيل: كيف تصنعون بقوله في الحديث: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش)؟ قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين فجاء هذان الحديثان هكذا: أحدهما: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق..) ، كما تقدم، والثاني: (أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة) ، فدخل على الراوي وهذا الحديث في الآخر، وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزي ، وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم ، وشيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير رحمهم الله تعالى. وكذلك اشتبه على بعض الرواة فقال: (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل)، والمحفوظ الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول، وعليه المعنى الصحيح، فإن الصعق يوم القيامة من تجلي الله لعباده إذا جاء لفصل القضاء، فموسى عليه السلام إن كان لم يصعق معهم فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكاً، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً عن صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله. وروى الإمام أحمد و الترمذي و أبو بكر عن ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فعرضتان: جدال ومعاذير، وعرضة: تطاير الصحف، فمن أعطي كتابه بيمينه، وحوسب حساباً يسيراً دخل الجنة، ومن أوتي كتابه بشماله دخل النار) ، وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك أنه أنشد في ذلك شعراً:(3/222)
وطارت الصحف في الأيدي منشرة فيها السرائر والأخبار تطلع فكيف سهوك والأنباء واقعة عما قليل ولا تدري بما تقع أفي الجنان وفوز لا انقطاع له أم الجحيم فلا تبقي ولا تدعُ تهوي بساكنها طوراً وترفعهم إذا رجوا مخرجاً من غمها قمعوا طال البكاء فلم يرحم تضرعهم فيها ولا رقة تغني ولا جزعُ لينفع العلم قبل الموت عالمه قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا]. تحقيقاً لما ذكرنا من الحشر والبعث بعد الموت أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول من تنشق عنه الأرض، فدل على أنهم يجمع خلقهم ويكمل وهم في جوف الأرض، إما في نفس القبور، وإما بطن الأرض، ثم بعد ذلك تنشق الأرض عنهم فتخرج الأرواح والأجساد على وجه الأرض، فيقومون من قبورهم كما في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51] الأجداث: هي القبور، قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52] ، كأنهم شعروا بأنهم قبل بعثهم كانوا نياماً قد رقدوا فيقال: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52]. والأنبياء لهم مزية، ونبينا صلى الله عليه وسلم أفضلهم، فهو أول من تنشق عنه الأرض، ثم بعد ذلك بقية الأنبياء، وأرواحهم في الملأ الأعلى، وكذا أرواح الشهداء قد رفعت، وأما أجسادهم فإنها في الأرض، بعد ذلك يبعثهم الله؛ لأنه أخبر بأن الأرض هي مرد كل إنسان في قوله تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21]، وفي قوله: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، وهذا يعم الأنبياء وغيرهم، وبعدما يجتمعون في ذلك المجمع، وذلك الموضع الذي يجمع فيه أولهم وآخرهم، ولا يحصي عددهم إلا الله تعالى، ويطول وقوفهم، وقد أخبر في هذا الحديث أنهم يصعقون، وهذه صعقة جديدة، إما أنهم يسمعون صوتاً مزعجاً عندما تتشقق السماء بالغمام لتنزل الملائكة، فيكون من آثار(3/223)
تشققها أصوات مزعجة يصعق الناس فيها -يعني: يغشون- وتطول هذه الغشية، ويكون نبينا صلى الله عليه وسلم أول من يفيق، ولكن يجد موسى قد أفاق قبله، وفي ذلك مزية لموسى عليه السلام، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا أدري هل أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟)، صعقة الطور: هي المذكورة في سورة الأعراف في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، فهذا صعق في الدنيا، يعني: كأنه جوزي بهذا الصعق. وبكل حال فهذا الصعق يكون في الموقف، وفي الموقف أيضاً -بلا شك- أهوال عظيمة منها: العرض على الله تعالى، ومنها نصب الموازين ومنها تطاير الصحف، ومنها نشر كتب الأعمال التي هي دواوين الأعمال، كل ينشر له ديوان فيه أعماله، يقول الله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:13-14] ، ويقرؤه من يقرأ ومن لا يقرأ، كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً [الكهف:49]، فهذه -بلا شك- حقائق يقينية دل عليها القرآن، ودل على أنه يحضر للإنسان كل شيء عمله من الخير والشر، فيسره أن يجد الحسنات مضاعفة موفرة، وأما إذا وجد السيئات فيستاء لذلك ويحزن، يقول الله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداًً [آل عمران:30]، ما عملت من خير تجده محضراً، وما عملت من شر -يعني: من سيئات- تتمنى أنه يبعد عنها، وأنها لم تره؛ وذلك لأن السيئات -بلا شك- تسوء صاحبها، ويخاف من الجزاء(3/224)
عليها. وبكل حال: هذه حقائق يجب الإيمان بها، ويجب أيضاً الاستعداد لها، والتأهب لما بعدها.
الإيمان بالصراط
…
قال رحمه الله: [قوله: (والصراط): أي: ونؤمن بالصراط، وهو جسر على جهنم إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف في الظلمة التي دون الصراط، كما قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: (أين الناس يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر). وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم، وروى البيهقي بسنده عن مسروق عن عبد الله قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة.. إلى أن قال: فيعطون نورهم على قدر أعمالهم قال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ مرة، فإذا أضاء قدم قدمه، وإذا طفئ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحض مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرحل ويرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تجر يد وتعلق يد، وتجر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبهم نار، قال: فيخلصون فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منكِ بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً) الحديث]. هذا من الأهوال التي ذكرت في يوم القيامة، ذكر الله تعالى أن الأرض تبدل، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أين النار يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال: في الظلمة دون الجسر)، وفي حديث ابن عباس : (إنهم على الصراط)، وقد تكاثرت الأدلة في أنهم يعبرون على الصراط، والصراط في الأصل: هو(3/225)
الطريق الذي يسار عليه، قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، وهو صراط معنوي، وفي الآخرة صراط حسي يعبر الناس عليه، ويسيرون عليه، وهذا الصراط منصوب على متن جهنم يمر الناس عليه على قدر أعمالهم. ......
تميز المؤمنين عن المنافقين عند المرور على الصراط
…
قد أخبر الله تعالى أنه يتميز المؤمنون من المنافقين في قول الله تعالى: نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:12-13]، إذا أعطوا نوراً وفرقت عليهم الأنوار انطفأ نور المنافقين، وسار المؤمنون بنورهم، فإذا ساروا تأخر المنافقون في تلك الظلمة، وعند ذلك يمنعون ويحجزون، ويقولون: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ يعني: نأخذ قبساً نستضيء به من نوركم، فيقال: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الحديد:13]، ارجعوا إلى المكان الذي قسمت فيه الأنوار فيرجعون، فإذا رجعوا ضرب بينهم بسور: حاجز منيع له باب لا يدخل إلا من ذلك الباب بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]، فهذا الوقت الذي يتميز فيه المنافقون من المؤمنين. وقد ورد أيضاً: (يقال: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتمثل لكل فئة طاغوتها الذي كانت تعبده، فيمثل للنصارى تمثال على هيئة ما يعبدونه، ويقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، يقال: كذبتم ما اتخذ الله من ولد ولا صاحبة، ما تريدون؟ فيقولون: عطشنا يا رب! فيقال: ألا تردون؟ فيساقون(3/226)
إلى جهنم فيتساقطون فيها، وكذلك يقال لليهود، فيتساقطون فيها، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فإذا بقيت هذه الأمة أتاهم ربهم، فيقول: ماذا تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربنا، فيقول: أنا ربكم، فإذا تجلى لهم سجدوا، فإذا سجدوا تمكن المؤمنون من السجود، ولم يتمكن المنافقون، كلما أراد المنافق أن يسجد خر لقفاه، وذلك قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:42-43]) أي: قد كانوا يدعون في الدنيا إلى الصلاة وهم سالمون فلا يسجدون، فكذلك إذا دعوا إلى السجود يوم القيامة وأرادوا أن يسجدوا لم يحصل لهم ولم يستطيعوا السجود، وهنالك تقسم عليهم الأنوار ويتميز المؤمنون عن المنافقين، وينادون المؤمنين: ألم نكن معكم؟ فيقولون: بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ [الحديد:14]، وهذا واضح في كلام الله. وفي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الجسر الذي ينصب يوم القيامة على متن جهنم ويعبرونه، يقول العلماء: إن هذا هو المرور أو الورود، فالله تعالى أخبر أن كلاً يرد على النار فقال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:71-72]، فمرورهم على هذا الصراط هو ورودهم المذكور: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ، فأما المؤمنون المتقون فإن الله تعالى ينجيهم، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72]، ولا تضرهم، بل كلما مروا على لهب منها طفئ اللهب، ويروى: (أن النار تقول: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ، فإذا عبروا يتساءلون: ألم يعدنا ربنا أننا نرد النار؟ فيقال: إنكم قد وردتموها وهي هامدة خامد)، هذا هو(3/227)
مرورهم على هذا الصراط.
وصف الصراط وصفة المرور عليه
…
ورد في وصف هذا الصراط أنه دحض مزلة تزل عنه الأقدام إلا من ثبته الله، وأنه أدق من الشعرة، وأحد من السيف الأبتر، وأن الناس يمرون عليه على قدر أعمالهم أو على قدر النور الذي أعطاهم الله، فمنهم من يكون نوره الذي أعطيه مثل الجبل، ولكن لا يضيء إلا له، ومنهم من يكون نوره أقل من ذلك، وبعضهم يعطى نوراً على رأس إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ مرة، إذا أضاء قدّم رجله وإذا طفئ وقف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف مرورهم على الصراط: (منهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والركاب، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، وعلى جنبتي الصراط كلاليب مثل شوك السعدان تخطف من أمرت بخطفه، فناج مسلم، ومخدوش، ومكردس في النار)، هذه الكلاليب التي مثل شوك السعدان تخطف العصاة إذا مروا على هذا الصراط من أهل كبائر الذنوب ونحوهم، فإذا اختطفته وسقط وتكردس في النار عذب فيها بقدر عمله، أما الذين يعبرون على هذا الصراط إلى أن يتجاوزوه فأولئك هم الذين يحمدون العاقبة حتى ولو كان أحدهم يزحف زحفاً، ولكن في نهايته يرى أنه سلم، وأنه نجا فيحمد العاقبة، (ويقول إذا التفت إلى النار: الحمد الذي أنجاني منكِ، لقد أعطاني الله ما لم يعطه أحداً من العالمين)، فاغتبط حيث نجا من عذاب النار التي عذابها شديد، وحرها شديد. المؤمن يتذكر مثل هذه الأهوال فيستعد لها، ويذكر بها إخوانه الغافلين ليستعدوا لها، وليعلموا أنها حق ويقين، وأنه ليس بينك وبين هذا إلا خروج هذه الروح من هذا الجسد، ثم بعد ذلك تلاقي أول الحساب.
شرح العقيدة الطحاوية [65]
لاشك أن مما يجب على المؤمن اعتقاده مما يكون يوم القيامة الصراط والميزان، لورود الآيات والأحاديث الدالة على ذلك، وقد ذكر العلماء تفاصيلها وصفاتها، ومتى تكون، كما ورد ذلك في الأحاديث والآيات.(3/228)
وجوب الإيمان بتفاصيل اليوم الآخر ومنها المرور على الصراط
…
من الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بما أخبر الله ورسوله مما يكون يوم القيامة من طول الموقف فنؤمن بذلك اليوم يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، أخبر الله بعرض الناس على ربهم، وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف:48]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم (يحشرون حفاة عراة غرلاً، ودل على ذلك قوله: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94]. وأخبر الله تعالى بالحشر في قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم:85-86]، والحشر: هو الجمع يوم القيامة. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتطاير الصحف، وبأنهم: يأخذون صحفهم وكتبهم بأيمانهم أو بشمائلهم من وراء ظهورهم. وأخبر الله تعالى بالحساب: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء:14]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب). وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالحوض المورود يوم القيامة، ومن يرده، ومن يذاد عنه. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالصراط الذي ينصب على متن جهنم، يجتازه الناس على قدر أعمالهم وعلى قدر إيمانهم، سيراً سريعاً أو سيراً بطيئاً. وأخبر الله تعالى بالميزان فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103]. وأخبر الله تعالى وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه التفاصيل، ومن جملتها: كون الرب سبحانه وتعالى يبرز لعباده ويسجد له المؤمنون، ولا يستطيع المنافقون السجود كما(3/229)
في قوله تعالى: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42]، أخبر الله بأن نور المؤمنين (يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم:8]، وبأن نور المنافقين ينطفئ إذا بدءوا في السير، ويقولون للمؤمنين: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13]، وتفاصيل يوم القيامة كثيرة، وهذه من جملتها. والإيمان باليوم الآخر يلزم منه أن يؤمن بكل هذه التفاصيل، ما سمي منها وما لم يسمَّ، ما فصل منها وما أجمل، ومن آمن بذلك اليوم آمن بكل ما فيه، والنهاية قول الله تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:7]. وأخبر الله وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بالأعمال التي تدخل النار، والتي تدخل الجنة. وأخبر الله وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بمن يخرج من النار بشفاعة الشافعين أو برحمة الله تعالى، ومن لا يخرج منها بل يخلد فيها، فكل هذه من التفاصيل التي وردت عن اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة، فمن آمن باليوم الآخر آمن بكل ذلك. من أركان الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فاليوم الآخر هو: ما بعد الموت وما بعد البعث، وما بعد ذلك إلى ما لا نهاية له، هذا كله اليوم الآخر الذي يؤمن به المؤمنون، ويصدقون بتفاصيله، ولا شك أن من صدق به لا يكون تصديقه مجرد قوله: آمنت بذلك وصدقت به، بل يكون من آثار تصديقه العمل الصالح الذي يستعد به لذلك، فيستعد به حتى يكون نوره كالشمس، يستعد بالعمل الصالح الذي يرجح به ميزانه، يستعد بالعمل الصالح الذي يسير به على الصراط كالبرق، يستعد بالعمل الصالح الذي يؤتى به كتابه بيمنه، ويقول: هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة:19]. وهكذا بقية الأشياء التي تكون في ذلك اليوم، لابد من عمل صالح يسلم به من طريق أهل الجحيم، ويفوز بطريق أهل النعيم. ......
اختلاف العلماء في معنى قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)
…(3/230)
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، ما هو؟ والأظهر والأقوى: أنه المرور على الصراط، قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يلج أحد بايع تحت الشجرة، قالت حفصة فقلت: يا رسول الله! أليس الله يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، فقال: ألم تسمعيه قال: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72])، أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا يستلزم حصوله، بل يستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه؛ يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً [هود:58]، وقال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً [هود:66]، وقال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً [هود:94]، ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك، وكذلك حال الواردين النار يمرون فوقها على الصراط، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور: (أن الورود هو المرور على الصراط)، وروى الحافظ أبو نصر الوائلي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (علم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدثن في دين الله حدثاً برأيك)، أورده القرطبي، وروى أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد عن يعلى بن منية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تقول النار للمؤمن يوم(3/231)
القيامة: جُزْ يا مؤمن! فقد أطفأ نورك لهبي)]. قول الله تعالى -لما ذكر النار في سورة مريم-: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71]، ظاهره أن كل الناس واردو النار، كلهم لابد أن يردوا النار، ما هذا الورود؟ ورد في بعض الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من فعل كذا لم يدخل النار إلا تحلة القسم)، والمراد: الورود المذكور في هذه الآية، وقوله: (تحلة القسم) كأن الله أقسم بأنكم لابد أن تردوها، لابد من الورود لها، والأصل أن الورود: هو الإتيان إلى الشيء، ومنه تسمية الإبل التي تأتي إلى الماء وروداً، يقال: وردت الإبل المياه. يعني: جاءت إليها، وأخبر الله تعالى عن آل فرعون أنهم يردوها في قوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود:98]، فظاهر هذا أنه أدخلهم فيها، فهم وردوا إليها وسقطوا فيها، وفي بعض الأحاديث أنه (في يوم القيامة يقال لليهود: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم لم يتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ماذا تريدون؟ فيقولون: يا رب! عطشنا، فيقال: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار فيتساقطون فيها، وكذلك يقال للنصارى: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار ويتساقطون فيها)، فالورود في هذه الآيات وفي هذه الأحاديث لا شك أنه الوصول إليها. إذاً: كيف يكون ورود الأتقياء وورود الأنبياء وورود الصالحين وورود الصحابة الذين لابد أن يردوها: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]؟ الله يخاطب الصحابة ويخاطب المؤمنين كلهم بأنه لابد أن كلاً منكم واردها، كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً [مريم:71]، حتماً: يعني: أمراً محتوماً لابد منه، مقضياً، ثم قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، فأخبر أنه ينجي أهل التقوى، ويبقى أهلها الظالمون جاثين فيها، والأشهر أن هذا الورود هو المرور على(3/232)
الصراط. وقد تقدم أن الصراط: جسر مزلة، منصوب على متن جهنم، أحد من السيف، وأدق من الشعرة، يمر الناس عليه بأعمالهم، يمرون على هذا الجسر الذي هو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وكيف يمرون عليه؟ يمرون عليه بأعمالهم، هو منصوب على متن جهنم، فإذا مر المؤمن فإنه بنوره وبإيمانه لا يحس بحرارة ولا يحس بلهب، ولذلك تقول له النار: (جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي)، والنار أخبر الله تعالى بأن لها لهباً، سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، فلهيبها ينطفئ من نور المؤمن، إذا مر المؤمن انطفأ، ولا يحس بأن تحته ناراً، ثم يمر على هذا الصراط كالبرق، تشاهدون البرق عندما يخطف في السماء من هنا ومن هنا أسرع من طرفة العين، ويمر بعضهم كالريح، الريح المسرعة التي تسوق السحاب، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، الجواد من الخيل: هو السابق، ومنهم من يمر كأجايود الركاب، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً؛ فسيرهم على قدر أعمالهم. فإذاً: قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71] المراد: أنكم لابد أن تمروا عليها مروراً على الصراط وإن لم يحس بها المؤمنون، وفي بعض الآثار: (أنهم يقولون بعدما يدخلون الجنة: أليس قد أخبر الله أنا نرد النار، أين النار ما شعرنا بها؟ فيقال لهم: مررتم عليها وهي خامدة)، يعني: بمرور المؤمنين تخمد فلا يحسون بلهب، ولا يحسون بحرارة أبداً. وأما المنافقون والعصاة وأهل الكبائر فإنهم يخطفون وهم على الصراط، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن على جنبتي الصراط كلالي)، والكلاليب هي جمع الكلوب، وهو الحديدة المحنية الرأس المحددة، هذه الكلاليب مثل شوك السعدان، يعني: كلاليبها كثيرة، إلا أنه لا يقدر قدرها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، تخطف من أمرت بخطفه، فتخطف الرجل، وتخطف اليد، وتخطف بعد نصف الطريق، وتخطف بعد ثلثه، وتخطف عند آخره، فمن نجا منها نجا، ولو أصابه(3/233)
خدش، ولو أصابه خطف، ولو أصابه حرارة ؛إذا نجا منها وجاز الصراط -ولو بعد مائة سنة أو نحوها- (التفت إلى النار وقال: الحمد لله الذي نجاني منكِ، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من خلقه)؛ وذلك لأنه نجا من عذاب النار التي عذابها شديد ومستمر، فرأى أن ذلك سعادة وأي سعادة! ولو أن غيره قد ظفر بالنجاة قبله! في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمنين يدخلون الجنة ولا تمسهم النار)، فاستشكلت عائشة الآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، وقالت: كيف وقد قال الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ؟ فظاهرها أن الجميع يريدونها ويدخلونها؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين لها أن الورود يكون للجميع، ولكن ينجي الله تعالى المؤمنين المتقين، يقول تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72]، كيف ينجيهم؟ هل يدخلونها ثم يرجعون منها؟ لا يلزم أنهم دخلوها، بل كل من تجاوزها يقال: نجا من النار، كل من مر على الصراط حتى انتهى يقال له: لقد أنجاك الله من النار، يعني: سلمك منها، أنقذك من دخولها، فكل من سلم من شر يقال: هذا قد نجا، ولا يلزم أنه قد دخل فيه ثم أخرج، فإن النجاة تستعمل فيمن سلم من العذاب الذي عذب به غيره، ولا يلزم أن يكون العذاب قد أصابه، فقول الله تعالى عن لوط وأهل بيته: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ [العنكبوت:32] معناه: أنا نخرجه حتى يسلم من العذاب، فلا يدخل العذاب ولا يحس به، وهكذا النجاة من النار. وأنت دائماً تدعو فتقول: اللهم نجنا من النار! رب نجني من عذاب النار! وكذلك حكى الله عن الذين آمنوا بموسى، قولهم: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86]، يعني: سلمنا وأنقذنا، فكل من سلم من العذاب فإنه ناجٍ، فهكذا قوله: ثُمَّ نُنَجِّي(3/234)
الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72] يعني: أنهم يسلمون من العذاب، ويمرون عليها وقد انطفأ لهبها، فلا يحسون بشيء من لهبها.
اختلاف العلماء في معنى قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)
…
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، ما هو؟ والأظهر والأقوى: أنه المرور على الصراط، قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يلج أحد بايع تحت الشجرة، قالت حفصة فقلت: يا رسول الله! أليس الله يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، فقال: ألم تسمعيه قال: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]). أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه؛ يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً [هود:58]، وقال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً [هود:66]، وقال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً [هود:94]، ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك. وكذلك حال الواردين النار يمرون فوقها على الصراط، ثُمَّ ينجي الله الَّذِينَ اتَّقَوْا ويذر الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً، فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور: (أن الورود هو المرور على الصراط. وروى الحافظ أبو نصر الوائلي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (علم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدثن(3/235)
في دين الله حدثاً برأيك)، أورده القرطبي، وروى أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد عن يعلى بن منية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جُزْ يا مؤمن! فقد أطفأ نورك لهبي)]. قول الله تعالى -لما ذكر النار في سورة مريم-: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً [مريم:71]، ظاهره أن كل الناس واردو النار، فما هذا الورود؟ ورد في بعض الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: (من فعل كذا لم يدخل النار إلا تحلة القسم)، والمراد الورود المذكور في هذه الآية، وقوله: (تحلة القسم) كأن الله أقسم بأنكم لابد أن تردوها، لابد من الورود لها. والأصل أن الورود هو الإتيان إلى الشيء، ومنه تسمية إتيان الإبل إلى الماء وروداً، يقال: وردت الإبل المياه. يعني: جاءت إليها، وأخبر الله تعالى عن آل فرعون أنهم يردونها في قوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود:98]، فظاهر هذا أنه أدخلهم فيها، فهم وردوا إليها وسقطوا فيها، وفي بعض الأحاديث أنه (في يوم القيامة يقال لليهود: ما تعبدون؟ فيقولون: نعبد عزيراً ابن الله، فيقال: كذبتم لم يتخذ الله من صاحبة ولا ولد، ماذا تريدون؟ فيقولون: يا رب! عطشنا، فيقال: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار فيتساقطون فيها، وكذلك يقال للنصارى: ألا تردون؟ فيساقون إلى النار ويتساقطون فيها)، فالورود في هذه الآيات وفي هذه الأحاديث لا شك أنه الوصول إليها. إذاً: كيف يكون ورود الأتقياء وورود الأنبياء وورود الصالحين وورود الصحابة الذين لابد أن يردوها: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]؟ الله يخاطب الصحابة ويخاطب المؤمنين كلهم بأنه لابد أن كلاً منكم واردها، كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً [مريم:71]، يعني: أمراً محتوماً لابد منه، ثم قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً(3/236)
[مريم:72]، فأخبر أنه ينجي أهل التقوى، ويبقى أهلها الظالمون جاثين فيها، والأشهر أن هذا الورود هو المرور على الصراط. وقد تقدم أن الصراط: جسر منصوب على متن جهنم، أحد من السيف، وأدق من الشعرة، يمر الناس على هذا الجسر الذي هو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وكيف يمرون عليه؟ يمرون عليه بأعمالهم، فإذا مر المؤمن فإنه بنوره وبإيمانه لا يحس بحرارة ولا يحس بلهب، ولذلك تقول له النار: (جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي)، والنار أخبر الله تعالى بأن لها لهباً، سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3]، فلهيبها ينطفئ من نور المؤمن، ثم يمر على هذا الصراط كالبرق، أي: أسرع من طرفة العين، ويمر بعضهم كالريح المسرعة التي تسوق السحاب، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، الجواد من الخيل: هو السابق، ومنهم من يعدو عدواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً؛ فسيرهم على قدر أعمالهم. فإذاً: قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71] المراد: أنكم لابد أن تمروا عليها مروراً على الصراط وإن لم يحس بها المؤمنون، وفي بعض الآثار: (أنهم يقولون بعدما يدخلون الجنة: أليس قد أخبر الله أنا نرد النار، أين النار؟ فيقال لهم: مررتم عليها وهي خامدة)، يعني: بمرور المؤمنين تخمد فلا يحسون بلهب، ولا يحسون بحرارة أبداً. وأما المنافقون والعصاة وأهل الكبائر فإنهم يخطفون وهم على الصراط، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن على جنبتي الصراط كلاليب)، والكلاليب هي جمع كلوب، وهو الحديدة المحنية الرأس المحددة، هذه الكلاليب مثل شوك السعدان، يعني: كلاليبها كثيرة، إلا أنه لا يقدر قدرها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فتخطف الرجل، وتخطف اليد، وتخطف بعد نصف الطريق، وتخطف بعد ثلثه، وتخطف عند آخره، فمن نجا منها وجاز الصراط ولو بعد مائة سنة أو نحوها التفت إلى النار وقال: الحمد لله الذي نجاني منكِ، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من(3/237)
خلقه؛ وذلك لأنه نجا من عذاب النار التي عذابها شديد ومستمر، فرأى أن ذلك سعادة وأي سعادة! ولو أن غيره قد ظفر بالنجاة قبله! في حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمنين يدخلون الجنة ولا تمسهم النار)، فاستشكلت عائشة الآية: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، وقالت: كيف وقد قال الله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ؟ فظاهرها أن الجميع يردونها ويدخلونها؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم بين لها أن الورود يكون للجميع، ولكن ينجي الله تعالى المؤمنين المتقين، يقول تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72]، كيف ينجيهم؟ هل يدخلونها ثم يرجعون منها؟ لا يلزم أنهم دخلوها، بل كل من تجاوزها يقال: نجا من النار، كل من مر على الصراط حتى انتهى يقال له: لقد أنجاك الله من النار، فكل من سلم من شر يقال: هذا قد نجا، ولا يلزم أنه قد دخل فيه ثم أخرج، فإن النجاة تستعمل فيمن سلم من العذاب الذي عذب به غيره، ولا يلزم أن يكون العذاب قد أصابه، فقول الله تعالى عن لوط وأهل بيته: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ [العنكبوت:32] معناه: أنا نخرجه حتى يسلم من العذاب، فلا يدخل العذاب ولا يحس به، وهكذا النجاة من النار. وأنت دائماً تدعو فتقول: اللهم نجنا من النار! رب نجني من عذاب النار! وكذلك حكى الله عن الذين آمنوا بموسى، قولهم: رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس:85-86]، يعني: سلمنا وأنقذنا، فكل من سلم من العذاب فإنه ناجٍ، فهكذا قوله: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم:72] يعني: أنهم يسلمون من العذاب، ويمرون عليها وقد انطفأ لهبها، فلا يحسون بشيء من لهبها. ......
الإيمان بميزان الأعمال
…(3/238)
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: والميزان: أي: ونؤمن بالميزان، قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وقال تعالى: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103]، قال القرطبي : قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها. قال: وقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ يحتمل أن يكون ثم موازين متعددة توزن فيها الأعمال، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة، والله أعلم. والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان، روى الإمام أحمد من حديث أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب! فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبادر الرجل فيقول: لا يا رب! فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء باسم الله الرحمن الرحيم)، وهكذا رواه الترمذي و ابن(3/239)
ماجة و ابن أبي الدنيا من حديث الليث ، زاد الترمذي : (ولا يثقل مع اسم الله شيء). وفي سياق آخر: (توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة...) الحديث، وفي هذا السياق فائدة جليلة: وهي أن العامل يوزن مع عمله، ويشهد له ما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليؤتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا إن شئتم: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105])، وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود : (أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تدفعه فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ممَ تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله! من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من أحد)] نؤمن بما أخبر الله من الميزان في سورة الأعراف بقوله تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ [الأعراف:8-9]، وكذلك في سورة الأنبياء: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء:47]، وكذلك يقول الله تعالى في سورة المؤمنون: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:102-103]. وفي سورة القارعة: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:6-9]، وغير ذلك من الآيات والأحاديث فيها ذكر الميزان، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن:(3/240)
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وفي صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان) أي: كلمة (الحمد لله) تملأ الميزان، وهذا يدل على أن الكلمات أيضاً توزن، وغير ذلك من الأدلة. ......
إنكار المعتزلة للميزان
…
أنكرت المعتزلة الميزان في الآخرة، وقالوا: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقالون، والله تعالى ليس بحاجة إلى أن يزن وينصب الميزان، وفسروا الميزان في هذه الآيات بأنه العدل، فقوله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ يعني: العدل، ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يعني: نجح عندما يعدل بين الناس. ولا شك أن هذا إنكار لخبر الله ولخبر رسوله، فالله تعالى ينصب الموازين ويظهرها حتى لا يكون هناك ظلم؛ ولأجل ذلك أخبر تعالى أن هذه الموازين يوزن فيها القليل والكثير، ففي هذه الآية في سورة الأنبياء: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا [الأنبياء:47] فأخبر أنهم لا يظلمون بمثقال خردلة، والخردل: شجر حبه أصغر من حب الدخن. كذلك يقول تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8] المثقال: بمعنى: الوزن: أي: أنه سبحانه يحضر الأعمال صغيرها وكبيرها، حسنها وسيئها، وتوزن حتى مثاقيل الذر، فهذه الموازين حقيقة، وقد وردت في هذه الآية بالجمع: ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [الأعراف:8]، ولم يقل: ميزانه، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ [الأنبياء:47]، ولم يقل: الميزان، فدل على أن هناك عدداً، وأنها موازين كثيرة، يوزن لهذا ويوزن لهذا.
اختلاف العلماء في الموزون
…(3/241)
اختلفوا في الموزون ما هو على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن الذي يوزن هي الأعمال، ولو كانت أعراضاً فيقلبها الله تعالى أجساماً ثم توزن؛ لأن الأعراض ليس لها جرم، مثلاً كلمة (الحمد لله) ليس لها جرم حتى توزن؟! فهي عرض، وكذلك الصلاة، فالصلاة قد أخبر النبي صلى الله عليه سلم بأنها تتجسد (إذا صلى الرجل فأحسن صلاته صعدت إلى السماء ولها نور، وتفتح لها أبواب السماء، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا صلى وأساء صلاته صعدت إلى السماء ولها ظلمة، وتغلق دونها أبواب السماء، فتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، وتلف كما يلف الثوب الخَلِق، ويضرب بها وجه صاحبها). هل نحن نبصر الصلاة إذا صعدت؟ لا نبصرها فهي عرض، ولكن الله تعالى يقلب الأعمال أجساماً، فصيامك يكون جسماً وجرماً، وصلواتك وقراءتك وأذكارك وأدعيتك يقلبها الله أجساماً كما أن هذه الخشبة جسم، وهذه السارية جسم لها جرم ولها وزن، ولكن الكلام ليس له جرم، ولكن يقلبه الله فيجعله ذا جرم، فلذلك يقول في الحديث: (الحمد لله تملأ الميزان)، ويقول: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان)، وقوله: (ثقيلتان) يدل على أن كلمة (سبحان الله وبحمده) توزن، يعني: يجعلها الله جرماً، ولا يستعصي ولا يخرج عن قدرة الله شيء، فهو قادر أن يقلب الأعراض أجساماً. القول الثاني: أن الذي يوزن هو الصحف، وتثقل الصحف وتخف بسبب ما كتب فيها، ودل على ذلك الحديث الذي مر بنا، فإن هذا رجل كتبت عليه الملائكة سيئات كثيرة -تسعة وتسعين سجلاً- والسجل: هو الصحيفة التي يكتب فيها كالسجلات التي عند القضاة تملأ بالقضايا، يقال: سجل في كذا.. السجل رقم كذا.. هذه السجلات تطوى طيًّا، ثم إذا نشرت كانت مد البصر، فكان له تسعة وتسعون سجلاً كلها سيئات، فلما وقف على هذه السجلات سأله الله: هل تنكر شيئاً من هذا؟ فلا ينكر، يقول: هل ظلمك الكرام الكاتبون الحفظة، وكتبوا عليك ما لم تقل؟ لا يستطيع أن ينكر، ولا يقول:(3/242)
ظلموني، يقول: هل لك عذر؟ ما له عذر، هل لك حسنة تقابل هذه السجلات وتمحوها، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ؟ فينبهر وينبهت ويقول: لا، ليس لي حسنات. وكأنه أيس من النجاة، وأيقن بالعذاب؛ لكثرة ما كتب عليه، فإنه رأى هذه السيئات التي دونت عليه ولا يستطيع أن ينكرها، كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً [الكهف:49]، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30]، فيقول الله: بلى لك عندنا حسنة واحدة، تخرج له هذه البطاقة - والبطاقة: الورقة الصغيرة مثل الكف أو نحوه- مكتوب فيها: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ولكن قالها عن صدق، قالها عن عقيدة، قالها عن يقين، وختمت بها أيامه، وختمت بها أعماله، وخرج من الدنيا وهو على هذه الحسنة التي أثرت فيه وفي قلبه، فلما رأى هذه البطاقة استصغرها بالنسبة إلى هذه السيئات الكثيرة، فقال: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فالله تعالى يقول: إنك لا تظلم، ونصب الميزان الذي له كفتان، وجعلت البطاقة في كفة، وجعلت تلك السجلات في كفة، فعند ذلك طاشت -يعني: خفت- السجلات وثقلت البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله شيء، فكان ذلك سبباً في سعادته. ومعلوم أن كثيراً من الذين يقولونها قد يعذبون وقد تخف موازينهم؛ وذلك لأنهم لم يقولوها عن يقين، ولم تؤثر في عقائدهم، ولم تصدر عن قلب مصدق بها؛ فلأجل ذلك تخف موازينهم، أما هذا فقد قالها عن علم وعن يقين وعن إخلاص وعن معرفة وعن تقبل؛ فأثرت في قلبه، ووقعت موقعاً فثقلت موازينه فسعد، ويصدق عليه أنه من الذين ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية. القول الثالث: أن العامل نفسه يوزن، فالرجل نفسه يوزن، ويثقل إذا كان(3/243)
قلبه ممتلئاً إيماناً، ويخف إذا كان قليل الإيمان، واستدل على ذلك بهذه الآية الكريمة في آخر سورة الكهف، وهي قول الله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105]، وإن كانت محتملة أن المراد: لا نقيم لهم قدراً، ولكن ظاهرها أنهم يوزنون، ولكن لا يكون لهم وزن ظاهر، ويؤيد هذا الحديث الذي فيه (يجاء بالرجل العظيم السمين -الأكول الشروب- لا يزن عند الله جناح بعوضة) لو وزن كان أخف من جناح البعوضة. وهذا دليل على أن العامل يوزن، وأنه يثقل إذا كان تقياً كما في قصة ابن مسعود رضي الله عنه حين صعد مرة على شجرة الأراك ليقطع منها سواكاً، ولما صعد رآه بعض الصحابة وعجبوا من دقة ساقية، فجعلوا يضحكون من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لهما في الميزان أثقل من جبل أحد)، فدل على أن العامل نفسه يوزن؛ فيثقل إذا كان من أهل السعادة، ويخف إذا كان من أهل الشقاوة. وقد ذكر الشارح أن الوزن بعد الحساب، يبدأ أولاً بالحساب؛ وذلك بأن يقال: حاسب نفسك، هذه صحائفك، هذه حسنة وهذه سيئة قابل بينهما، وبعدما يحاسب ويقر بما له وبما عليه، بعد ذلك توزن هذه الأعمال حتى يعرف مقدارها، وحتى يحقق في أمرها، وإذا وزنت عرف من يستحق أن يكون سعيداً لكون حسناته ثقيلة، ومن يكون بخلاف ذلك؛ لأن الحساب إنما هو لتمييز الحسنات من السيئات، ولكن الميزان يميز الحسنات، فتكون الحسنات كثيرة وخفيفة، وتكون قليلة وثقيلة، كصاحب البطاقة، قد يكون هناك إنسان له أذكار وأوراد وأدعية وقراءات كثيرة، ولكنها خفيفة، وآخر أذكاره قليلة، ولكنها ثقيلة؛ بسبب صدورها عن الإيمان الراسخ المتمكن في القلب.
تجسد الأعمال ووزنها يوم القيامة
…(3/244)
قال رحمه الله: [وقد وردت الأحاديث أيضاً: بوزن الأعمال أنفسها، كما في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان..)، الحديث، وفي الصحيحين -وهو خاتمة البخاري - قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). وروى الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً). فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام، فإن الله يقلب الأعراض أجساماً كما تقدم، وكما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالموت كبشاً أغبر، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، ويقال: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيذبح، ويقال: خلود لا موت)، ورواه البخاري بمعناه. فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزان له كفتان، والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات، فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان، ويا خيبة! من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع لخفاء الحكمة عليه، ويقدح في النصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال، وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً. ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده، فلا أحد أحب إليه العذر من الله؛ من أجل(3/245)
ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه؟ فتأمل قول الملائكة لما قال الله لهم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:30]، وقال تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]. وقد تقدم عند ذكر الحوض كلام القرطبي رحمه الله: أن الحوض قبل الميزان والصراط بعد الميزان، ففي الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة)، وجعل القرطبي في التذكرة هذه القنطرة صراطاً ثانياً للمؤمنين خاصة، وليس يسقط منه أحد في النار، والله تعالى أعلم]. تقدم أن من الأقوال: أن الأعمال تجسد، وأنها توزن ولو كانت أعراضاً، فالله تعالى قادر على أن يقلب الأعراض أجساداً كما يشاء، فيقلب التسبيح والتكبير والقراءة أجساداً وأجراماً يكون لها ثقل ويكون لها وزن، وقد دلت على ذلك السنة، فالأحاديث التي تقدمت دالة على أن الأعمال تجسد، وأنها توزن، وأن الله لا يستعصي عليه أن يقلب هذه الأعراض ويجعل لها جرماً يخف ويثقل. وتقدم أن المعتزلة أنكروا الميزان الذي ينصب يوم القيامة مع وروده في الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة، ومع ذلك يقولون: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال -تعالى الله عن قولهم-، وأنكروا أن يكون الميزان حقيقياً، فلذلك رد عليهم الشارح، وأنكر قولهم وقال: إنهم حريون أن تخف موازينهم، ولا شك أن في جعل هذه الموازين حكماً عظيمة، ولو لم يكن فيها إلا العدل؛ ولذلك وصفها الله تعالى بالقسط: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [الأنبياء:47]، (أي): العدل، يعني: الموازين العادلة إذا نصب الميزان وحضر الموزون، يقال: احضر وزن(3/246)
أعمالك، فإذا رجح ميزانه نادى ذلك الملك: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإذا خف ميزانه نادى ذلك الملك: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً، وإذا تساوت الحسنات والسيئات عومل بعد ذلك بما يستحقه، بأن يعذب بقدر سيئاته، ثم يخرج إذا كان من أهل التوحيد أو نحو ذلك مما يشاؤه الله.
الميزان بعد الحساب
…
سمعنا أن أول شيء الحساب، ثم بعده الميزان، ثم بعده الصراط، ثم بعده القنطرة، ثم دخول الجنة، أما أهل النار من الكفار الذين لا حسنات لهم فلا يحاسبون؛ لأنهم لا حسنات لهم، وإذا كان لهم حسنات فإنهم قد استوفوها في الدنيا. فأول شيء تعرض الأعمال، ويقال: حاسبوا أنفسكم، ثم بعدما يعرفون الحسنات والسيئات تنصب الموازين، فيعرفون خفة الحسنات أو ثقلها، ونحو ذلك، ثم بعد ذلك ينصب الصراط فيسلكونه -هذا إذا كان لهم حسنات وسيئات- فيخدش من يخدش، ويسلم من يسلم. ثم بعدما يسلمون ويعبرون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، وهذه القنطرة يحاسبون فيها عن مظالم كانت بينهم، فإذا كان عندك مظلمة جوزيت بها، فيؤخذ من حسناتك، وإذا كان لك حق أخذته، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة؛ لأنه لا يدخل الجنة أحد وفي قلبه غل: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف:43]، فلا يدخلون الجنة إلا بعد التنقية وبعد التصفية، وبعد أن يكونوا متحابين ليس بينهم إحن ولا بغضاء، ونهايتهم دخول الجنة إلى الأبد.
شرح العقيدة الطحاوية [66]
من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما أبديتان لا تفنيان، وخالف في ذلك المعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة، وقد بين العلماء أدلة أهل السنة وأجابوا عن شبهات المخالفين.
ثمرة الإيمان بالميزان وغيره مما يكون يوم القيامة
…(3/247)
من أركان الإيمان الإيمان باليوم الآخر، وهو البعث بعد الموت، وما يكون في يوم القيامة من الأهوال والحساب والجزاء على الأعمال، والعرض والمناقشة، ونصب الموازين، وتفريق الدواوين، وأخذ الصحف والكتب بالأيمان أو بالشمائل، ونصب الصراط على متن جهنم، والورود على نار جهنم، والوقوف في ذلك اليوم الطويل، والشفاعة التي ثبتت للأنبياء وللرسل ولنبينا صلى الله عليه وسلم، وما بعد ذلك.. إلى أن يستقر أهل الجنة في دار النعيم، وأهل النار في الجحيم، ويبقى في النار من حكم عليه بالخلود، ويدخل الجنة من حكم له بالخلود، وتفاصيل ذلك مذكورة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأهل السنة يؤمنون بذلك على ما جاء في النصوص، ويصدقون بتلك النصوص، ويعتقدون أنها حق وصدق؛ لأنها كلام الله، وكلام أعرف الخلق بالله، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، ويحملون ذلك كله على أنه حقيقة لا لبس فيه ولا تأويل، ولا نفي لشيء مما دلت عليه تلك النصوص، ويردون على من أنكر البعث الجسماني كالفلاسفة، وعلى من أنكر النعيم والعذاب في الآخرة كالباطنية، فهم ينكرون عليهم ويعتقدون أن كفرهم أشد من كفر اليهود والنصارى، ولو تسموا بأنهم من أهل الإسلام. من آمن بتفاصيل يوم القيامة وما يكون في ذلك اليوم؛ فإنه بلا شك يستعد لذلك اللقاء، ويظهر عليه أثره في أعماله، وفي سيرته وفي نهجه، وكلما كان الإنسان أشد يقيناً وأشد إيماناً كان أشد استعداداً وتأهباً، وهكذا كانت حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم، فإيمانهم يحملهم على أن يستعدوا للموت، ويستعدوا للجزاء، ويستعدوا للقاء ربهم، ويعملوا العمل الصالح الذي ينجون به، ويكونون به من أهل السعادة ومن أهل الفلاح، حتى لو قيل لأحدهم: إنك تموت في هذا اليوم، لم يكن هناك عمل يزداد به في ذلك اليوم؛ لأنه لم يضيع لحظة من لحظاته في غير طاعة. علم المؤمن بأن الموت(3/248)
لابد وأن ينزل، وأنه قد يأتي فجأة على غير موعد، وعلم أن بعد الموت حساباً، وعذاباً أو ثواباً، وعلم أن بعد الموت بعثاً ونشوراً وجنة أو ناراً، فصارت كل دقيقة تمر عليه يشغلها في طاعة الله، هكذا كان أولياء الله المتقون. أما المفرطون الذين يقولون: آمنا، ولكن يقولونه باللسان، وقلوبهم كأنها غير مصدقة؛ فإنهم لا يستعدون، فهؤلاء إيمانهم ضعيف، ألسنتهم تصف، وقلوبهم تعرف، وأعمالهم تخالف، ذلك بأن إيمانهم وتصديقهم لم يكن عن يقين أو كان عن تردد، أو كان يقينهم قد أتاه ما يضعفه من الشهوات، وزينة الدنيا، والركون إليها، ومحبة التوسع في الملذات، وعدم استحضار الموت، وعدم استحضار ما بعد الموت، فكان ذلك حاملاً على كثرة الغفلة، والانهماك في لذة الدنيا، وعدم التفكر في عاقبة هذه الملذات والشهوات، وعدم التفريق بين الحلال منها والحرام، فحصل ما حصل منهم من التفريط، فجاءهم أمر الله بغتة وهم لا يشعرون، فندموا حين لا ينفع الندم، ويقول أحدهم: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ [الزمر:56]. فعلينا أن نتفقد أنفسنا ونتفقد إخواننا، فإذا رأينا الذي شغل وقته كله بأعمال الآخرة، قلنا: هذا صادق الإيمان بالآخرة، هذا مؤمن حقاً، هذا ممن استعد للقاء ربه، وإذا رأيناه ضعيف الإيمان، ضعيف الأعمال، قليل الاهتمام، قلنا: هذا قليل الاهتمام، هذا ضعيف الإيمان بالآخرة، ولو كان إيمانه قوياً لما فرط في أيامه، ولما تناسى لقاء ربه، فنثبت الأول ونحثه على الاستعداد والزيادة؛ ونحذر الثاني ونخوفه من أن يفجأه الأجل وهو على هذا التفريط والإهمال، وبذلك نكون جميعاً من المؤمنين بالدار الآخرة. ......
الإيمان بالجنة والنار
…(3/249)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له، والخير والشر مقدران على العباد). أما قوله: (إن الجنة والنار مخلوقتان) اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل على ذلك أهل السنة، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية فأنكرت، وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة، وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا.. ولا ينبغي له أن يفعل كذا، وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، وصاروا مع ذلك معطلة، وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة، فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى، وحرفوا النصوص عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم. فمن نصوص الكتاب قوله تعالى عن الجنة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد:21]، وعن النار قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، وقوله تعالى: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً [النبأ:21-22]، وقال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15]، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، وفي آخره: (ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنادب اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك). وفي الصحيحين من(3/250)
حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)، وتقدم حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وفيه: (ينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها)، وتقدم حديث أنس بمعنى حديث البراء رضي الله عنه]. ......
معنى الجنة
…(3/251)
يصدر الناس بعد الموقف يوم القيامة إلى دار الجزاء، وجزاء المحسنين جنات النعيم، وجزاء الكافرين نار الجحيم، والجنة في الأصل هي: البستان الذي يجمع الخضرة والزهور والأنهار والثمار والظلال والأشجار والنضرة والبهجة والسرور؛ فهذا يسمى في الأصل جنة؛ لأنه يجن من بداخله ويستره، ومنه قول الله تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [القلم:17] يعني: أصحاب البستان، ومنه قوله تعالى: وَجَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف:32] أي: بستانين من أعناب، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا [الكهف:32-33]. فالجنة في الدنيا: هي البساتين التي تبهج وتفرح من دخلها، وسميت دار النعيم بهذا الاسم؛ لأن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فقد ذكر الله ما في الجنان مثل قوله تعالى: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:50] فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50] فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68] وقوله تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [محمد:15]، وكما في قوله تعالى: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة:25]، وكما في قوله تعالى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً [النساء:57]، وقوله: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71]، وكذلك قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]. وغير ذلك من الآيات الدالة دلالة واضحة على أن هذه الجنة مشتملة على ما يجلب(3/252)
السرور والحبور، وأن فيها الجزاء الأوفى، وأن فيها النعيم الذي ما بعده نعيم، وأن أهلها يغتبطون بمقامهم فيها، ويقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]، وكذلك يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74].
أسماء النار وصفتها
…(3/253)
الجحيم هي نار تلظى، نار موقدة، نار حامية، ذكر الله لها عدة أسماء، وذكر أنها لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:44]. وأخذ العلماء لها سبعة أسماء من الآيات: لظى، والحطمة، وجهنم، والجحيم، وسقر، والسعير، والهاوية؛ وكلها موجودة في القرآن، وكلها دالة على شدة الحرارة. وقد أخبر الله تعالى بشدة العذاب فيها، وأنهم كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها، وقال: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً [الإسراء:97]، كلما خبت النار وانطفأت زِيد في حرها، وقال: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24]، وقال: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ [الهمزة:7-8] يعني: مطبقة، وغير ذلك من أنواع العذاب الذي ذكره الله. ولا شك أنه عندما يذكر الله الجنة يشوق إليها، وكأنه يقول: أيها المؤمنون بالجنة المصدقون بها! اطلبوها بالأعمال الصالحة، فهذا نعيمها وهذه صفتها، وأيها المؤمنون بالنار والمصدقون بها! احذروها وابتعدوا عنها، فهذه حرارتها، وهذا عذابها، وأيها المفرطون! وأيها الكافرون! هذا عذابكم أفلا تتبون؟ أفلا تندمون وتبتعدون عن الأعمال السيئة التي تجعلكم من أهل ذلك العذاب؟ وهكذا ذكر الله هذا العذاب وهذا الثواب، وسمى دار الكفار بالنار. والنار في الأصل هي هذه النار التي نوقدها في الدنيا، والتي ننتفع بها، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [الواقعة:71] يعني: تقدحونها حتى تشتعل وتتقد، أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً [الواقعة:72-73] تذكرة بالنار الأخرى، وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:73]، وقد سمى ذلك العذاب ناراً؛ لأن فيه ناراً تشتعل وتتقد، وَقُودُهَا(3/254)
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. ولا شك أن الله ذكر الجنة وذكر النار كثيراً في القرآن؛ لأجل أن يرغب الله في دار الثواب، ويحذر من دار العقاب.
اعتقاد أهل السنة أن الجنة والنار موجودتان الآن
…
من عقيدة أهل السنة أن الجنة والنار موجودتان الآن، وإن كنا لا نعلم جهتها ولا مكانها، فإن علمنا قاصر، ما نحيط إلا بالأرض وبما على الأرض، ولكن الجهات كثيرة لا يعلمها إلا الله، ففي يوم القيامة يجاء بجهنم، قال الله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر:23]، وذكر في الحديث: (تجيء الملائكة بجهنم، ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)، أولئك الملائكة قد يكون أحدهم قادراً على قلع الجبال وجرها بإذن الله، ومع ذلك هذا عددهم، فما مقدارها؟! فإخبار الله تعالى بأنه يجاء بها في يوم القيامة، دليل على أنها موجودة. وكذلك الجنة موجودة أيضاً، وتبرز يوم القيامة، يقول الله تعالى: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:90-91]، فأزلفت؛ معناه: قربت وأظهرت، ولا شك أن هذا دليل على أنها موجودة وأنها تبرز، ويقال: هذه الجنة دار المتقين. وأظهرت النار لأهلها، وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء:91]، ولا شك أن إبرازها دليل على أنها موجودة الآن، وكذلك الآيات التي سمعنا، مثل قول الله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] أي: هيئت فهي معدة لهم، وقال في النار: أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24]، أي: هيئت لهم، وهذا دليل على أنها موجودة، وأنها قد أعدت لأهلها. وكذلك قوله في الجنة في سورة النجم: عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:14-15] دليل على أن الجنة فوق السماء السابعة حيث يشاء الله، فهي موجودة الآن، وذكر الله سعتها في قوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ(3/255)
وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، فهذه صفتها، ومعنى (أعدت) أي: هيئت لهم. وتقدمت الأحاديث التي فيها أن الجنة موجودة، وأنه يقال للعبد في قبره: (افتحوا له باباً إلى الجنة، فيأته من روحها وريحانها؛ فيقول: رب! أقم الساعة، ويقال للكافر: افتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها؛ فيقول: رب! لا تقم الساعة)، وهذا دليل أيضاً على أنها موجودة، وأنه يفتح له باب إليها، ويقال: هذا مقعدك من الجنة، هذا مقعدك من النار، وهذه الأدلة واضحة.
إنكار المعتزلة لوجود الجنة والنار قبل يوم القيامة
…
ذكر المؤلف أن قوماً من المعتزلة أنكروا وجود الجنة والنار الآن، وقالوا: لا حاجة إلى وجودها الآن مادام أنه ليس فيها أحد، فتبقى مغلقة الأبواب، وتحتاج إلى من يسقي شجرها هذه المدة الطويلة قبل أن يأتي إليها أهلها، فجعلوا أفكارهم متحكمة في أمر الله، فقالوا: الجنة والنار غير موجودتين، وزعموا أنها إنما تنشأ يوم القيامة عندما يبعث الله الخلق. ولكن الصحيح الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الجنة موجودة الآن، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك النار موجودة، وقد عرضت عليه الجنة والنار في صلاة الكسوف، فلما عرضت الجنة تقدم، ولما عرضت عليه النار تقهقر وتأخر، وكل ذلك دليل على أنه رآها، وأنها موجودة الآن. ولا يلزم ما يقوله أولئك المعتزلة: من أنها معطلة، وأنه لا حاجة إلى وجودها على أصلهم الفاسد الذي أصلوه: وهو أنهم يتحكمون في أمر الله، ويفرضون على الله ما يريدونه، فيقولون: يجب على الله أن يفعل كذا.. وألا يفعل كذا.. فكأنهم هم الذين يوجبون بعقولهم ما يشاءون. فهذه عقيدة أهل السنة، ولا يضر خلاف من خالفها.
أدلة وجود الجنة والنار
…(3/256)
قال رحمه الله: [وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خسفت الشمس في حياة رسول صلى الله عليه وسلم.. فذكرت الحديث، وفيه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به حتى لقد رأيتني آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني أقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت). وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (انخسفت الشمس على عهد رسول صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه: فقالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئاً في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت، فقال: إني رأيت الجنة فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أرَ منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، فقالوا: بمَ يا رسول؟ قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط). وفي صحيح مسلم من حديث أنس : (وايم الذي نفسي بيده! لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً وبكيتم كثراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار)، وفي الموطأ والسنن من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه: (إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة)، وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة. وفي صحيح مسلم والسنن والمسند -من حديث أبي هريرة رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك! لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها ثم رجع فقال: وعزتك! لقد خشيت ألا يدخلها أحد، قال: ثم أرسله إلى النار،(3/257)
قال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، فإذا هي يركب بعضها بعضاً، ثم رجع فقال: وعزتك! لا يدخلها أحد سمع بها، فأمر بها فحفت بالشهوات، ثم قال: اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إليها، فرجع فقال: وعزتك! لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها)، ونظائر ذلك في السنة كثيرة]. هذه الأحاديث صريحة في وجود الجنة وفي وجود النار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كما في أحاديث كثيرة، ففي صلاة الكسوف ذكر أنه عرضت عليه الجنة، وأنه تناول منها عنقوداً لو أخذه لأكلوا منه ما بقيت الدنيا؛ وذلك لأن نعيم الجنة لا ينفد، وعرضت عليه النار فتكعكع: يعني: تقهقهر وتأخر، وذكر أنه رأى فيها فلاناً وفلاناً، وسمى من رأى فيها، فرأى فيها عمرو بن لحي ، وكان أول من غير دين إبراهيم، ورأى فيها سارق الحاج الذي كان يسرق المتاع بمحجنه، ورأى فيها المرأة التي تعذب بهرة ربطتها حتى ماتت جوعاً. وفي هذا الحديث يقول: (رأيت أكثر أهلها النساء..)؛ بسبب أنهن يكفرن الإحسان، فإذا أحسن الزوج إلى المرأة -غالباً، وليس دائماً- ثم رأت منه شيئاً يخالف ما تشتهيه أنكرت إحسانه، فيكون ذلك سبباً في عذابها. وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة، أي أن الله جعل أرواحهم في أجواف طير خضر تدخل الجنة، وتأكل من شجرها حتى يردها الله إلى أجسادها، وأخبر الله تعالى: أن أرواحاً من الكفار كآل فرعون تعرض على النار، قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً [غافر:46]، فدل على أن النار موجودة، وأنهم يعرضون عليها في الصباح وفي المساء. فكل هذه الأدلة واضحة الدلالة على أن الجنة والنار موجودتان الآن، ولا يلزم ما تقوله المعتزلة من أنها تبقى معطلة سنين طويلة، بل إنها تعتبر تذكرة، وتعتبر ظاهرة لمن أطلعه الله عليها، وقد ذكر ابن عمر : (أنه رأى رؤيا، وهي: أن(3/258)
رجلين أتيا به النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، يقول: فرأيت فيها رجالاً أعرفهم، فقيل: لن تراع..). وكذلك: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة الطويل أنه دخل الجنة في المنام مع رجلين هما ملكان، وأنه رأى فيها كذا.. وكذا..، ولا شك أن هذا كله دليل على أنها موجودة، وأنها مهيأة معدة لأهلها، وأن من مات وصل إليه ألمه إن كان من أهل العذاب، ونعيمه إن كان من أهل الثواب.
الرد على شبهة من ينكر وجود الجنة الآن حتى لا يلزم موت أهلها يوم القيامة
…(3/259)
قال المؤلف رحمه الله: [وأما على قول من قال: إن الجنة الموعود بها هي الجنة التي كان فيها آدم ثم أخرج منها، فالقول بوجودها الآن ظاهر، والخلاف في ذلك معروف. وأما شبهة من قال: إنها لم تخلق بعد: وهي أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة، وأن يهلك كل من فيها ويموت؛ لقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]، وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، وقد روى الترمذي في جامعه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، وقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، قال: هذا حديث حسن غريب. وفيه أيضاً من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) قال: هذا حديث حسن صحيح. قالوا: فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً، ولم يكن لهذا الغراس معنى، قالوا: وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون إنها قالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11] ؟ فالجواب: إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور، وقيام الناس من القبور، فهذا باطل، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئاً بعد شيء، وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أموراً أخر، فهذا حق لا يمكن رده، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر]. هذه الأحاديث وأشباهها دالة على أن الجنة موجودة، ولكن يحدث الله فيها ما يشاء، ويجدد الله فيها ما يشاء، ففي حديث الإسراء أخبر أنه لقي إبراهيم فقال: (أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة(3/260)
طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) يعني: أن الجنة موجودة، ولكن كل أحد يغرس له فيها غراس أعماله التي يعملها في الدنيا، فمما يغرس له في الجنة أنه إذا قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ غرست له شجرة في الجنة، وإذا كررها فكذلك. وهكذا أيضاً: يبنى له غرف بأعماله الصالحة، ورد في بعض الأحاديث (أن الملائكة تبني لابن آدم بيوتاً وغرفاً ما دام يعمل الصالحات، ويذكر الله ويشكره، ويأتي بالحسنات، وإذا توقف عن العمل توقفوا عن البناء، فإذا قيل: لماذا توقفتم؟ قالوا: حتى تأتينا النفقة)، فالباني في الدنيا يحتاج إلى نفقة، والعمال الذين يعملون لك في الدنيا لا يعملون إلا إذا أعطيتهم نفقة، ونفقة الملائكة التي يبنون بها هي ذكر الله، وعبادته، والحسنات، فهم مشتغلون يبنون، والبناء الذي تبنيه في الآخرة هو الذي يبقى؛ ولهذا يقول بعض الشعراء: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها النفس ترغب في الدنيا وقد علمت أن الزهادة فيها ترك ما فيها فاغرس أصول التقى ما دمت مجتهداً واعلم بأنك بعد الموت لاقيها فهكذا تكون أعمال الإنسان في الدنيا بمنزلة الغراس في الجنة، كلما عمل حسنة غرس له أو بني له بها بيوت ومنازل في الجنة؛ وهذا يدلنا على أن الجنة موجودة، وأنها تتكامل يوم القيامة بالأعمال الصالحة، كلما توفي مؤمن كان قد بني له بقدر أعماله، وهكذا إلى أن يأذن الله بقيام الساعة. وفي حديث عبادة الذي في الصحيح: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) فالجنة أعدها الله لأوليائه، والنار هي دار العذاب، أعدها الله لأعدائه، ولمن كفر(3/261)
به. وصفات الجنة والنار تؤخذ من الكتاب والسنة، فقد وصفهما الله تعالى، وذكر ما فيهما من العذاب وما فيهما من الثواب، ولا شك أن من آمن بذلك حقاً فإنه يستعد لذلك؛ ولذلك يقول بعض السلف: عجبت للجنة كيف ينام طالبها؟! وعجبت للنار كيف ينام هاربها؟! يعني: أن من تحقق هذه الجنة وما فيها فإنه يطلبها، ولا يهنأ بالمنام ولا بالمقام، وكذلك من آمن بالنار وعذابها وما فيها من الأنكال والأغلال، فإنه يهرب منها، ولا يهنأ بالمنام ولا بالمقام. الكلام في الجنة والنار يتعلق بالكلام على حقيقتهما، وهذا يؤمن به كل من آمن بالله، ويتعلق بوجودهما الآن، وهذا يؤمن به أهل السنة، ويخالف فيه المبتدعة، ويتعلق ببقائهما واستمرارها، وهذا أيضاً يؤمن به أهل السنة، فيؤمنون بأن الجنة والنار موجودتان الآن مخلوقتان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى الجنة وقد رأى النار رؤيةً حقيقة: إما في المنام، وإما في الإسراء، ويؤمنون بما ذكر الله عنهما، فقد ذكر الله عن الجنة والنار: أن هذه أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] يعني: هيئت وأزلفت لهم، وأن هذه أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:24] فهي معدة مهيأة لهم، وغير ذلك من الأدلة. ويدخل في ذلك الرد على من أنكر ذلك كالمعتزلة الذين أنكروا وجود الجنة والنار الآن، وقالوا: إنما يخلقان غداً يوم القيامة، وهذا منهم مصادمة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم التي فيها الإخبار أن الله هيَّأ الجنة وأعدها لمن آمن به؛ فهي مخلوقة موجودة الآن بما فيها من النعيم، وهيَّأ النار وأعدها؛ فهي موجودة الآن مهيأة بما فيها من العذاب! وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الميت في قبره يفتح له بابان: باب إلى الجنة، وباب إلى النار، فإذا كان مؤمناً يقال: هذا منزلك من الجنة، وهذا منزلك من النار لو كفرت، فيزداد فرحاً حيث يرى العذاب الذي سلم منه، والثواب الذي حظي به، ويفتح للكافر بابان: باب إلى الجنة،(3/262)
ويقال: هذا منزلك لو آمنت بالله، وباب إلى النار ويقال: هذا منزلك ومقيلك، فيزداد حسرة على ما فاته من الثواب، وعلى ما فاته من النعيم، وذلك بلا شك دليل على أنهما موجودتان الآن مهيأتان كما أخبر الله، فيؤمن أهل الإيمان بالله بما أخبر الله، ويؤمنون بهذه الأخبار الواضحة التي تدل على وجود الجنة والنار.
الرد على احتجاج منكري وجود الجنة بآية: (كل شيء هالك إلا وجهه)
…
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما احتجاجكم بقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن نظير احتجاج إخوانكم بها على فنائها وخرابها وموت أهلها، فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية. وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام، فمن كلامهم: أن المراد كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش فإنه سقف الجنة، وقيل المراد: إلا ملكه، وقيل: إلا ما أريد به وجهه، وقيل: إن الله تعالى أنزل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، فقالت الملائكة: هلك أهل الأرض وطمعوا في البقاء، فأخبر تعالى عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون، فقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]؛ لأنه حي لا يموت، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت، وإنما قالوا ذلك توفيقاً بينها وبين النصوص الدالة على بقاء الجنة وعلى بقاء النار أيضاً على ما يذكر عن قريب إن شاء الله تعالى] الذين يحتجون بهذه الآية هم المبتدعة من المعتزلة ونحوهم، يقولون: لو كانت الجنة موجودة لأتى عليها الفناء، ولأتى عليها الهلاك، وكذلك النار لو كانت موجودة لفنيت كما يفنى غيرها؛ لأن الله يقول: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]. والجواب: أن الله أخبر بأن الذي خلق للبقاء فإنه باقٍ، وذلك أن الجنة والنار خلقتا للبقاء؛ لأنهما يثاب بهما ويعاقب بهما في(3/263)
الدار الآخرة -أي: بعد الموت وبعد البعث من الموت- فهما مخلوقتان للبقاء، فلا يأتي عليهما الفناء، فيكون قوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88] أي: كل شيء خلقه الله في الدنيا لابد أن يهلك ويفنى إلا وجه الله، أي: إلا الله وحده، أو: إلا ما أريد به وجهه. كذلك قول الله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]، الضمير في (عليها) يعود إلى الأرض، أي: كل من على الأرض فانٍ ويبقى وجه ربك، ولكن يقال أيضاً: إن المراد كل من على هذه الحياة فان، ولا مانع من أن يموت أهل السماوات وأهل الأرض من الملائكة ومن المخلوقات التي خلقها الله للفناء، ثم بعد ذلك يبعثون ويعودون كما كانوا؛ وذلك لقوله الله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]، ويقول في الحديث: (أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون). فأخبر بأن الحياة لله وحده، وأن ما سواه فإنه يموت، ولا يلزم أن ذلك يعم المخلوقات كلها -كالجمادات ونحوها- قد ذكر الله أن الجبال تكون هباء، وأن الأرض تبدل بغيرها يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ [إبراهيم:48]، وأن السماوات تتفطر، يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:8]، إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1]، وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ [الفرقان:25]، فذكر أن كل هذه الأشياء تتغير في ذلك اليوم الذي هو يوم القيامة، ولكن لا يكون ذلك عاماً في كل الموجودات. وعلى كل حال فلا يلزم من ذلك فناء الجنة، إذ هي مما خلقه الله للبقاء.
أبدية الجنة وعدم فنائها والكلام على الاسثناء في آية هود
…(3/264)
قال المؤلف:[وقوله: (لا تفنيان أبداً ولا تبيدان). هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف، وقال ببقاء الجنة وفناء النار جماعة منهم السلف والخلف، والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرها. وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة، وكفروه به، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله بأصله الفاسد الذي اعتقده: وهو امتناع وجود ما لا ينتهي من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام المذموم، التي استدلوا بها على حدوث الأجسام، وحدوث ما لم يخلُ من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم. فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل، فدوام الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي، و أبو الهذيل العلاف -شيخ المعتزلة- وافقه على هذا الأصل، لكن قال: إن هذا يقتضي فناء الحركات، فقال: بفناء حركات أهل الجنة والنار حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة. وقد تقدم الإشارة إلى اختلاف الناس في تسلسل الحوادث بالماضي والمستقبل، وهي مسألة دوام فاعلية الرب تعالى، وهو لم يزل رباً قادراً فعالاً لما يريد، فإنه لم يزل حياً عليماً قديراً، ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعاً عليه لذاته، ثم ينقلب فيصير ممكناً لذاته من غير تجدد شيء، وليس للأول حد محدود حتى يصير الفعل ممكناً له عند ذلك الحد، ويكون قبله ممتنعاً عليه، فهذا القول تصوره كافٍ في الجزم بفساده. فأما أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به، قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ(3/265)
[هود:108]، أي: غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله (إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ). واختلف السلف في هذا الاستثناء، فقيل: معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها لا لكلهم. وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف. وقيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف. وقيل: هو استثناء استثناه الرب ولا يفعله، كما تقول: والله! لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه بل تجزم بضربه. وقيل: (إلا) بمعنى الواو، وهذا على قول بعض النحاة وهو ضعيف، و سيبويه يجعل (إلا) بمعنى: (لكن) فيكون الاستثناء منقطعاً، ورجحه ابن جرير وقال: إن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: عطاء غير مجذوذ، قالوا: ونظيره أن تقول: أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت، أي: سوى ما شئت، أو لكن ما شئت من الزيادة عليه. وقيل: الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله، لا أنهم يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً [الإسراء:86]، وقوله تعالى: فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24]، وقوله تعالى: قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ [يونس:16]، ونظائره كثيرة يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقيل: إن (ما) بمعنى (مَنْ) أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء. وقيل غير ذلك، وعلى كل تقدير فهذا الاستثناء من المتشابه، وقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108] محكم، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص:54]، وقوله: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [الرعد:35]، وقوله: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48]. وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في(3/266)
عدة مواضع من القرآن وأخبر أنهم لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى [الدخان:56] وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى: إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107]، تبين لك المراد من الآيتين، واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وذاك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها. والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت)، وقوله: (ينادي منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً)، وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار: (ويقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت)]. هذا دليل واضح على أبدية الجنة، ودوامها. أهل السنة يقولون: بأبدية الجنة والنار ودوامهما، وعدم انقطاعهما، وهناك بعض العلماء قالوا: إن عذاب النار ينقطع، وإن نعيم الجنة دائم سرمدي لا ينقطع. وهناك مبتدعة إمامهم الجهم بن صفوان قالوا بأن الجنة والنار تفنيان، وأول من قال هذا القول: الجهم بن صفوان إمام الجهمية، وهو الذي جمع ثلاث بدع أو أكثر من ثلاث: بدعة التعطيل، بدعة الجبر، بدعة الإرجاء. ومن عقيدته: أنه يقول بامتناع حوادث لا نهاية لها ولا بداية لها، وهذا على قاعدة له، ولم يسبق إلى هذا القول، أي: ليس له سلف، فليس هناك أحد قبله قال إن الجنة تنقطع وإنها تفنى وإنها تزول، فهو أول من قال بذلك. وأبو الهذيل العلاف من رءوس المعتزلة، ومن رءوس المتكلمين، وافقه بأن النار تفنى، وكذلك الجنة، ولكن يقول: إن فناءها بمعنى أنها تبقى موجودة، وأهلها كأنهم ليسوا أحياء، أي: تذهب حياتهم وتذهب حركاتهم، ولا شك أن هذا قول بالفناء، يعني: أنهم يموتون ما دام أنه لا حركة(3/267)
فيهم، فلا يبقى أهل الجنة ولا أهل النار. وهناك قول بأن أهل النار يبقون فيها بلا حركة، أو أن طبائعهم تنقلب طبيعة نارية، بمعنى: أنهم يبقون في النار بدون تألم، فلا يحسون بألمها؛ لأنهم يصبحون ناريين كالجن والشياطين الذين لا تحرقهم النار في الدنيا، وكل هذه أقوال لا دليل عليها.
ذكر بعض الآيات المؤكدة على أبدية الجنة
…
ورد التأكيد على أبدية الجنة في القرآن في عدة آيات، ففي سورة النساء قول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً [النساء:57]، فأكد الخلود بالأبدية، وكذلك قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [التوبة:100]، فأكد الخلود بالأبدية، بمعنى: أنهم مخلدون فيها خلوداً دائماً لا يتحول، فالأبدية بمعنى الدوام. وكذلك في عدة مواضع من آخرها قول الله تعالى في سورة البينة: جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8]، أكد الخلود بالأبدية، فلا شك أن هذا دليل على البقاء، وقد ورد أيضاً: التأكيد بثلاثة أشياء في سورة التوبة، قال تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [التوبة:21-22]، (مقيم): يعني: دائم، (خالدين): يعني: دائمين، (أبداً): يعني: مؤبداً، فأكده بقوله: (مقيم) وبقوله: (خالدين) وبقوله: (أبداً)، ولا(3/268)
شك أن ذلك دليل على الأبدية والاستمرار. واستدل الشارح بقول الله تعالى في أهل الجنة في سورة الدخان: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى [الدخان:56] يعني: التي في الدنيا، فمعناه أنهم دائمون لا يموتون، بل مستمر بقاؤهم ولا يتحولون عنها، فلا يذوقون فيها الموت إلا موتتهم التي في الدنيا، فهذا دليل أيضاً على بقائها. واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم في وصف أهل الجنة أنه يقال لهم: (إن لكم فيها أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وأن تقيموا فلا تظعنوا أبداً)، واستدل بالحديث الذي تقدم في ذبح الموت بين الجنة والنار، وأنه يقال لأهل الجنة: (يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت)، فيزداد أهل الجنة فرحاً، ويزداد أهل النار سوءًا وحزناً؛ وذلك لأن أهل النار يتمنون الخلاص، بل يتمنون أن يقضى عليهم يقولون: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، فيتمنون أن يموتوا، فيخبر الله بأن ذلك لا يكون، يقول الله تعالى: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر:36]، ويقول في آية أخرى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:13]، يتمنى الموت فلا يموت، ولا يحيا حياة طيبة يسعد فيها وينعم، هذه حالتهم، ولا شك أن هذا دليل على البقاء، ودليل على دوامهم وعدم انقطاع نعيم هؤلاء وعذاب هؤلاء.
اعتقاد أهل السنة أبدية الجنة
…(3/269)
ثم تكلم المؤلف رحمه الله على ما يتعلق بآية هود، وهي قول الله تعالى في أهل الجنة: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، أكد البقاء بقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أي: ما دامت السماوات والأرض باقية، ومعلوم أن السماوات يعيدها الله كما شاء، وأن الأرض يبدلها كما يقول الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، فتبقى السماوات وتبقى الأرض التي تبدل، وليس لها نهاية لبقائها، فما دامت السماوات والأرض باقية فالجنة والنار باقية. كذلك قوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، أي: غير مقطوع ولا مصروم ولا نهاية له، بل هو باقٍ مستمر متواصل، ليس له ما يكدره ولا ما يقطعه، فهذا من الآيات المحكمة التي فيها الإقامة والخلود والأبدية والدوام وعدم الانقطاع، ولا شك أن أهل الجنة لو قيل لهم: إن نعيمكم سينقطع ولو بعد مائة ألف سنة، ولو بعد ألف ألف سنة؛ لتكدرت حياتهم، ولقالوا: لا هناء لنا ما دام أنه سينقطع، فإنه سيأتي ذلك اليوم، ولو كان بعيداً، هذا معلوم. فمما يكدر نعيم الدنيا على أهلها معرفتهم بأن نعيمها يزول، وأنه يتبدل، فأما نعيم الجنة فإنه لا يزول؛ فلذلك بشرهم ربهم بأنهم باقون فيها وأنهم لا يحولون ولا يزولون. وأما الاستثناء في آية هود في قوله: إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] فقد سمعنا أن العلماء قالوا: هذا الاستثناء من المتشابه، ومنهم من حمله على ما قبل دخولها، يعني: أنه يمر عليهم قبل دخولها زمان وهو وقت حساب، أو وقت الوقوف ليوم القيامة قبل نزول الله لفصل القضاء فيقولون: هذا هو زمان الاستثناء. وقيل: إنه استثناء، ولكن لا يدل على أنه يقطع عليهم نعيمهم، ومثله الشارح كما إذا قلت: سوف أكرمك إلا أن أشاء، وأنت(3/270)
عازم على إكرامه، وقد ورد ذلك أيضاً في القرآن في قول الله تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، ونحو ذلك. وعلى كل حال فهو من المتشابه، والآيات الدالة على بقاء النعيم واستمراره محكمة ليس فيها خفاء، فيؤمن أهل العقيدة السلفية بما تتضمنه تلك الآيات، ويستعدون للقاء، ويطلبون هذا الثواب الذي لا يحول ولا يزول.
اختلاف الناس في أبدية النار ودوامها
…
قال رحمه الله: [وأما أبدية النار ودوامها فللناس في ذلك ثمانية أقوال: أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة. والثاني: أن أهلها يعذبون فيها، ثم تنقلب طبيعتهم، وتبقى طبيعة نارية، يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم، وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي . الثالث: أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون: وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وأكذبهم فيه، وقد أكذبهم الله تعالى، فقال عز من قال: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:80-81]. الرابع: يخرجون منها، وتبقى على حالها ليس فيها أحد. الخامس: أنها تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة، وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه، وهذا قول الجهم وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار كما تقدم. السادس: تفنى حركات أهلها ويصيرون جماداً لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف كما تقدم. السابع: أن الله يخرج منها من يشاء كما ورد في السنة، ثم يبقيها ما يشاء، ثم يفنيها فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه. الثامن: أن الله تعالى(3/271)
يخرج منها من يشاء كما ورد في السنة، ويبقي فيها الكفار بقاء لا انقضاء له، كما قال الشيخ رحمه الله، وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان، وهذان القولان لأهل السنة ينظر في دليلهما]. الآن تكلم على فناء النار ومن يخرج منها، ولا شك أن الأقوال الستة التي سمعنا من أقوال المبتدعة، فمن عقيدة الخوارج والمعتزلة أن من دخل النار لا يخرج منها، وأن العصاة وأصحاب الكبائر لا يخرجون منها، من دخلها فهو فيها مخلد، ويستدلون بمثل قول الله تعالى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ [البقرة:167]، وبقوله تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [السجدة:20]، ونحو ذلك من الآيات، ولكن هذه الآيات محمولة على الكفار، ولا يراد بها أهل الكبائر، ولا يراد بها المؤمنون الذين هم من أهل التوحيد، فإنه ورد الدليل بأنهم يخرجون بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين، يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون، فهذا القول الذي هو قول الخوارج وقول المعتزلة بتخليد أصحاب الكبائر في النار تخليداً مؤبداً؛ قول يخالف الأدلة الصريحة. وأما اليهود فقالوا: إن أهل النار الذين يدخلونها من اليهود، يخرجون منها، ثم تخلفهم فيها هذه الأمة، لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف تدخلون النار؟ فقالوا: ندخلها أربعين يوماً، ثم نخرج منها وتخلفوننا أنتم، فقال: كذبتم)، وكذبهم الله تعالى بقوله: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ [البقرة:80]، ولا شك أن هذا أيضاً قول باطل؛ وذلك لأنه لا يدخلها إلا أهلها. ولا شك أيضاً أن قول أبي الهذيل العلاف : أنه تفنى حركاتهم، وأنهم يبقون فيها بلا حركة؛ قول باطل. وكذلك القول: بأن أهلها يصيرون فيها ناريين، أي: تنقلب طبيعتهم نارية بحيث يتلذذون بها كما يتلذذ أهل الجنة بالجنة، فهذا أيضاً(3/272)
قول لا دليل عليه؛ وذلك لأن الأدلة دلت على أنهم يتألمون وأنهم ينادون ويقولون: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77]، ويقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:107-108]، وأخبر بأن: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:106-107]، ولا شك أن هذا دليل على أنهم يتألمون ولا ينقطع ألمهم. بل أخبر تعالى بتجديد العذاب عليهم بقوله: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا [النساء:56]، فالنار تحرقهم حتى يصيروا فحماً، ثم بعد ذلك يجدد لحمهم، وينبت لحمهم حتى يتألم مرة بعد مرة، وحتى يزداد ألمهم، ولا شك أن هذا دليل على بطلان قول هؤلاء الذين يقولون: إنها تنقلب طبيعتهم فيكونون ناريين. وكذلك قول الذين يقولون: إنها تبطل حركاتهم ويصبحون جماداً لا حركة لهم، وغير ذلك من أقوال المعتزلة ونحوهم. بقي القولان الأخيران: قال بعضهم: إنهم يبقون فيها مدة، ثم بعد ذلك تفنى، وأنهم لو مكثوا فيها ما مكثوا فلابد من نهايتها. والقول الآخر: إنهم يبقون فيها ولا يفنون، وإنها لا تفنى. استدل القائلون بفنائها بقول الله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً [النبأ:23] كأنهم يقولون: الأحقاب معدودة معروفة، فيدل على أن لبثهم فيها محدد، ثم بعد ذلك يفنى ذلك العذاب، وسمعنا الأثر المذكور وهو: أنهم لو لبثوا فيها عدد رمل عالج لكان لهم يوماً يخرجون منها أو يفنون. والصحيح أن هذه الآية ليس فيها تحديد الأحقاب؛ لأن الله ما حددها، وفسر بعضهم الحقب بأنه مائة عام، قال الله تعالى عن موسى: لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً [الكهف:60]، وإذا كان الحقب مائة عام، فالعام اثنا عشر شهراً، والشهر ثلاثون يوماً، واليوم(3/273)
الواحد كألف سنة مما تعدون، ثم لو قال الله مائة حقب أو ألف حقب أو مائة ألف حقب، لكان للكافر رغبة وأمل ورجاء في أن عذابه سيزول، ولكن ما حددها الله؛ ولأجل ذلك يقول بعض العلماء: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً : أي كلما مضى حقب أتى حقب، كلما انقضى حقب ابتدأ حقب إلى غير نهاية، فليس لهذه الأحقاب نهاية، حيث لم تحدد. فلا دلالة في هذه الآية ولا في الآيات التي فيها الاستثناء في قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107]، فإن الاستثناء هنا كالاستثناء في الآية التي في نعيم أهل الجنة، ولا يدل على أن هناك زماناً يخرج هؤلاء من نعيمهم أو هؤلاء من جحيمهم، بل الأصح المعتمد: أن الجنة والنار باقيتان دائمتان، لا تفنيان ولا تبيدان أبد الآبدين، وبذلك يرغب أهل الجنة في الدار التي لا ينقطع نعيمها، ويهربون ويخشون من النار التي لا ينقطع عذابها.
شرح العقيدة الطحاوية [67]
وقع الخلاف في فناء النار وبقائها، وللناس فيها مذاهب متباينة، والحق الذي عليه جمهور أهل السنة بقاؤها، وقد ذكروا أدلة ذلك وردوا على المخالفين.
أدلة من قال بفناء النار
…(3/274)
قال المؤلف: [فمن أدلة القول الأول منهما: قوله تعالى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128]، وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:106-107]، ولم يأتِ بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة، وهو قوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:108]، وقوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً [النبأ:23]. وهذا القول -أعني: القول بفناء النار دون الجنة- منقول عن عمر و ابن مسعود و أبي هريرة و أبي سعيد وغيرهم. وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور بسنده إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه، ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً [النبأ:23]. قالوا: والنار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق: كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي)، وفي رواية: (تغلب غضبي)، رواه البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]. قالوا: والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] ، وأَلِيمٍ [هود:26] ، وعَقِيمٍ [الحج:55] ، ولم يخبر ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم. وقد قال تعالى: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، وقال تعالى حكاية عن الملائكة: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً [غافر:7]، فلابد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته، وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف(3/275)
سنة، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم. وليس في حكم أحكم الحاكمين، ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد، عذاباً سرمداً لا نهاية له، وأما أنه يخلق خلقاً ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيماً سرمداً فمن مقتضى الحكمة، والإحسان مراد لذاته، والانتقام مراد بالعرض. قالوا: وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج وأن عذابها مقيم وأنه غرام، كله حق مسلم لا نزاع فيه، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه. ......
تضعيف القول بفناء النار
…(3/276)
هذا يتعلق بقول من يقول بأن عذاب النار لا يبقى، بل ينقطع، وأن له حداً ونهاية، وهذا قول قاله بعض العلماء عن اجتهاد، وعللوا بهذه التعليلات التي سمعنا، ونحن لا نشك أن الله تعالى رحيم بالعباد، وأن رحمته تغلب غضبه، ولكن نعرف أنه خلق للرحمة أهلاً. وخلق للعذاب أهلاً، ولا نشك أيضاً: بأنه سبحانه جعل هذا العمل اليسير في الدنيا له ثواب عظيم مضاعف مستمر، وكذلك الكفر اليسير له عذاب دائم مستمر كثير؛ وذلك لمقتضى حكمته، فمثلاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) يعني: أن بعض الناس قد يولد كافراً ويحيا كافراً أو مبتدعاً، ويمضي عليه عمره وهو على كفره، وقبل موته بيوم أو بساعة أو سويعات يمن الله عليه فيهتدي ويسلم ويموت على الإسلام؛ فتكون تلك الساعة أو ذلك اليوم مكفراً لما مضى من عمره ماحياً لسيئاته وكفره وشركه وذنبه وجميع ما عمله طوال حياته، وكان رجل من الأنصار يقال له: أصيرم بن عبد الأشهل مشركاً مع قومه لم يسلم، ولما حضرت غزوة أحد وحضر القتال؛ هداه الله وأسلم، ولما أسلم دخل المعركة في تلك الساعة، وقاتل مع المسلمين وقتل شهيداً؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً)، فعمله هذا القليل ثوابه لا ينقطع، ثواب دائم. وبخلاف حاله رجل يقال له: قُزْمَان كان مع المسلمين، وقاتل قتالاً شديداً، ولكن قبل موته أصابته جراحة فقتل نفسه، وقبل أن يموت ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنه من أهل النار)، حبط عمله الصالح بهذه الفعلة، فنقول: العمل اليسير ساعة أو ساعات يثاب عليه العبد أبد الآباد، وكذلك الكفر اليسير الذي يختم لصاحبه به يعذب عليه أبد الآباد. إذاً: لا مانع أن نقول: إن(3/277)
الله تعالى قدر هذا العذاب لمن كفر به وخرج عن طاعته، وجعل ذلك مستمراً لمن يستحقه بلا نهاية، كما خلق النعيم والأجر والثواب المستمر الباقي ولم يجعل له نهاية، وجعل ذلك ثواباً لمن عمل هذا العمل إلى غير نهاية، فهذا كله لا يخرج عن حكمة الله، فيعذب عذاباً مستمراً على العمل الكفري، وينعم نعيماً مستمراً على العمل الصالح. وأما الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً؛ فهؤلاء إما أن يعفو الله عنهم ويمحو عنهم السيئات، وإما أن يعذبهم بقدر سيئاتهم، فيدخلون في النار، ويبقون فيها مدة طويلة أو قصيرة بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون منها بعدما يمكثون فيها المدة التي قدر الله، فقد يمكثون ألف سنة أو ألفين أو ألوفاً، وقد لا يمكثون إلا قليلاً ثم يخرجون. فأما أن النار تخمد وينقطع عذابها فهذا -على القول الصحيح- لا يكون، بل الله تعالى يقول: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً [النساء:56]، وقال الله تعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً [النبأ:23]، يقول العلماء: كلما انقضى حقب ابتدأ حقب، إلى غير نهاية، فالقول الصحيح أنها دائمة ومستمرة.
أدلة القائلين ببقاء النار وعدم فنائها
…(3/278)
قال المؤلف رحمه الله: [ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها قوله: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37]، وقوله تعالى: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:75]، وقوله تعالى: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً [النبأ:30]، وقوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [النساء:57]، وقوله تعالى: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر:48]، وقوله تعالى: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ [البقرة:167]، وقوله تعالى: لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40]، وقوله تعالى: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر:36]، وقوله تعالى: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:65]، أي: مقيماً لازماً. وقد دلت السنة المستفيضة أنه (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله)، وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وهذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ،ولم يختص الخروج بأهل الإيمان، وبقاء الجنة والنار ليس بذاتهما، بل بإبقاء الله لهما. وقوله: (وخلق لههما أهلاً). قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دعي رسول صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار؛ فقلت: يا رسول الله! طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء، ولم يدركه، فقال: أوغير ذلك يا عائشة ؟! إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)، رواه مسلم و أبو داود و النسائي . وقال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان:2-3]، والمراد:(3/279)
الهداية العامة، وأعم منها الهداية المذكورة في قوله تعالى: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]].
ترجيح القول ببقاء النار وعدم فنائها
…
ذكر المؤلف ما يتعلق بأبدية النار، وهذه الآيات صريحة أو ظاهرة الدلالة في أن النار باقية لا فناء لها، فقوله: لَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37] المقيم: هو الذي لا يزول، ولا يتحول، ولا ينقطع، وكذلك التعبير بالخلود والأبدية: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [النساء:57] يدل على أن الخلود مستمر، وكذلك الأبدية. وكذلك قوله: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ [البقرة:167]، يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [المائدة:37]، كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:22] هذه الآيات صريحة بأنه ليس لهم خروج، بل بقاؤهم مستمر، وكذلك لما قالوا: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] تمنوا أن يقضى عليهم فيموتوا، فقال: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ، وكذلك قوله: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر:36]، أي: لا يقضي عليهم فيستريحون من هذا العذاب، ولكنهم دائماً ماكثون فيه. وهذه الأدلة وغيرها واضحة الدلالة في أن الجنة والنار باقيتان دائمتان، وأن نعيم الجنة وعذاب النار مستمر، وهذه عقيدة أهل السنة، ولا شك أن القول بدوامهما هو القول الذي تؤيده الأدلة، وبكل حال هذا من الأمور التي يؤمن بها المسلمون، ويدل إيمانهم بها على أنهم يؤمنون بالغيب وإن لم يروه. أما أن الله تعالى علم أهل الجنة وأهل النار، فلا شك أنه سبحانه قدر من يعمل للجنة، ومن يعمل للنار قبل أن يخلقهم، بل قبل أن يخلق الخلق، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولا شك أن خلقهم ابتدأ منه، وهو بكل شيء عليم، فهو يعلم من(3/280)
هم أهل الجنة ومن هم أهل النار. وهذه الآية صريحة في أنه خلق هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا... [الأعراف:179]، إلى آخرها (ذرأنا): خلقنا لجهنم أهلاً. وكذلك قوله في الحديث: (إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم)، بل وهم في صلب آدم، ففي بعض الأحاديث أنه لما أخذ الله الميثاق من بني آدم من ظهر آدم، وهو الميثاق المذكور في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف:172]، أن الله مسح ظهر آدم فاستخرج ذريته كالذر، فقال: (خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، وخلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون)، فلا يتجاوز أحد ما خلق له، ومع ذلك فإنهم مأمورون ما داموا في هذه الحياة بأن يستعدوا وأن يعملوا. لما قال الصحابة: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (اعلموا فكل ميسر لما خلق له)، الله تعالى أمرنا بالعمل مع أنه علم من يعمل ومن لا يعمل، وكذلك أمرنا بالدعوة إليه، وأمرنا بأن نعلم، وأمرنا بأن نبشر وننذر، بل أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، مع أنه قد علم من يطيع ومن يعصي، وعلم من هم أهل الجنة ومن هم أهل النار، ولكنه جعل لذلك أسباباً، فجعل رسالة الرسل سبباً من أسباب معرفته والدعوة إليه والإيمان به، وكذلك جعل ورثة الرسل الذي يدعون إليه أيضاً من الأسباب في العمل الصالح، حيث يهدي الله على يديهم وبواسطتهم من جعله الله من أهل الجنة.
أنواع الموجودات
…(3/281)
قال المؤلف رحمه الله: [فالموجودات نوعان: أحدهما: مسخر بطبعه. والثاني: متحرك بإرادته، فهدى الأول بما سخره له طبيعة، وهدى الثاني هداية إرادية تابعة لشعوره، وعلمه بما ينفعه ويضره. ثم قسم هذا النوع إلى ثلاثة أنواع: - نوع لا يريد إلا الخير، ولا يتأتى منه إرادة سواه كالملائكة. - ونوع لا يريد إلا الشر، ولا يتأتى منه إرادة سواه كالشياطين. - ونوع يتأتى منه إرادة القسمين كالإنسان. ثم جعله ثلاثة أصناف: - صنف يغلب إيمانه ومعرفته وعقله هواه وشهوته فيلتحق بالملائكة. - وصنف عكسه فيلتحق بالشياطين. - وصنف تغلب شهوته البهيمية عقله فيلتحق بالبهائم. والمقصود: أنه سبحانه أعطى الوجودين العيني والعلمي، فكما أنه لا موجود إلا بإيجاده، فلا هداية إلا بتعليمه، وذلك كله من الأدلة على كمال قدرته وثبوت وحدانيته، وتحقيق ربوبيته سبحانه وتعالى. وقوله: (فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً.. إلخ): مما يجب أن يعلم أن الله تعالى لا يمنع الثواب إلا من منع سببه وهو العمل الصالح، فإنه َومَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه:112]، وكذلك لا يعاقب أحداً إلا بعد حصول سبب العقاب، فإن الله تعالى يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. وهو سبحانه المعطي المانع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، لكن إذا من على الإنسان بالإيمان والعمل الصالح لا يمنعه موجب ذلك أصلاً، بل يعطيه من الثواب والقرب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وحيث منعه ذلك فلانتفاء سببه وهو العمل الصالح. ولا ريب أنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لكن ذلك كله حكمة منه وعدل، فمنعه للأسباب التي هي الأعمال الصالحة من حكمته وعدله، وأما المسببات بعد نزول أسبابها فلا يمنعها بحال، إذا لم تكن أسباباً صالحة، إما لفساد(3/282)
في العمل، وإما لسبب يعارض موجبه ومقتضاه، فيكون ذلك لعدم المقتضى أو لوجود المانع. وإذا كان منعه وعقوبته من عدم الإيمان والعمل الصالح، وهو لم يعط ذلك ابتداءً حكمة منه وعدلاً، فله الحمد في الحالين، وهو المحمود على كل حال، كل عطاء منه فضل، وكل عقوبة منه عدل، فإنه تعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها التي تصلح لها كما قال تعالى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]، وكما قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53].. ونحو ذلك، وسيأتي لهذا زيادة بيان إن شاء الله تعالى]. ......
الملائكة كلهم خير
…(3/283)
الكلام الأول يتعلق بخلق الله تعالى لأهل الجنة وأهل النار وتقسيمهم؛ وذلك لأنه سبحانه خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وكل موفق وميسر لما خلق له، ولا يتجاوزون ما قدر لهم، ولكنه سبحانه جعل بعض الخلق شراً محضاً، وبعضهم خيراً محضاً، وبعضهم فيه مادتان: مادة خير ومادة شر، فالملائكة كما سمعنا كلهم خير، ليس فيهم نفوس شريرة، بل كلهم يعبدون الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد)، وأخبر أن هناك ملائكة سجود منذ خلقهم الله إلى أن تقوم الساعة، ثم يوم القيامة يقولون: (سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، غير أنا لم نشرك بك شيئاً). وقد ذكر من عبادتهم ومن اجتهادهم في الطاعات وأنواع القربات، مع أنهم ليس لهم شهوة تحملهم على المعاصي؛ فلأجل ذلك فكلهم خير، وأخبر الله بأنهم يخدمون أهل الجنة، قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد:23-24]، وقال: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزمر:75].
الشياطين كلهم شر
…
القسم الثاني: الشياطين، لا شك أنهم خلقوا للشر، وأنهم خلقوا للنار، وأنهم مستعدون لدخول النار ومقدمون عليها؛ وذلك لأنهم خلقوا من النار، ولهذا لا يتألمون بالنار في الدنيا. ومنهم شياطين الجن، فإنهم أيضاً خلقوا من النار كما قال تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر:27]، وقال تعالى: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن:15]، ولكن الشياطين الذين هم إبليس وذريته كلهم شر محض، ليس فيهم خير أصلاً، هؤلاء هم أهل النار، وهم الذين لا خير فيهم.
الإنس والجن فيهم خير وشر
…(3/284)
القسم الثالث: الإنسان، وقيل: الثقلان -الجن والإنس- فهؤلاء فيهم خير وفيهم شر، فمنهم من يغلب خيره، أو يكون كله خيراً، وهم الأنبياء وورثة الأنبياء والأتقياء والعباد والزهاد، والمؤمنون صادقو الإيمان؛ فهؤلاء يحميهم الله عن السيئات وعن الكبائر والآثام فلا يقربونها، ويحفظون أوقاتهم كلها بالطاعة، ويتقربون إلى ربهم بأنواع العبادة، فهؤلاء يلحقون بالملائكة. ومنهم من يكون بضد ذلك، فهم أشرار وكفرة وفجرة وفساق خارجون عن الطاعة، لا يألفون العبادة ولا يحبونها، ويألفون الكفر والفسوق والعصيان، ويتلذذون بالمعصية وينفرون عن الطاعة، فهؤلاء لا شك أنهم يلحقون بالشياطين، ويكونون منهم ومن أتباعهم، ويدخلون في قول الله تعالى لإبليس: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:85]، وفي قوله: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [الشعراء:94-95]، فهذا القسم ملحق بالشياطين. وأيضاً: هناك قسم ثالث تغلب عليهم الحياة البهيمية، وهم الذين يجعلون عقولهم تبعاً لما يشتهونه، فيسخرون عقولهم للشهوات البهيمية الدنيئة؛ فهؤلاء ملحقون بالبهائم، ولكنهم أقرب إلى من عبد هواه، والله تعالى قد أخبر بأن هناك من يعبد الهوى: أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، وفي الأثر: (ما تحت أديم السماء إله يعبد شر من هوى متبع)، والذي يعبد هواه هو الذي لا يشتهي شيئاً ولا يهوى شيئاً إلا ركبه. فانظر أي الأقسام أحسن؛ فاختر أن تكون منهم.
نفوس البشر ثلاثة أقسام
…(3/285)
يقول بعض العلماء: إن نفوس البشر ثلاثة أقسام: - نفوس علوية ملكية، وهذه نفوس الأتقياء الأصفياء، عباد الله المخلصين. - ونفوس بهيمية، بمعنى أنها ليس لها همٌّ إلا هواها وشهواتها، وما تميل إليه بطباعها، فهؤلاء ملحقون بالبهائم، وهم أشبه ما يكونون بمن لا عقول لهم، وهم داخلون في قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ [الأعراف:179].. إلخ الآية. - ونفوس سبعية: وهم الذين من طبعهم الاعتداء والظلم والتجبر والتكبر والتسلط على الغير، وحب السلطة والسيطرة والتعدي؛ فهؤلاء أشبه ما يكونون بالسباع الضارية المعتدية. ولا شك أن خير الأقسام الذين نفوسهم ملكية علوية همتهم عالية رفيعة، ليست همتهم دنيئة. وحكمة الله اقتضت تقسيم الخلق إلى هذه الأقسام الثلاثة: الملائكة، والشياطين، وبني آدم، وجعل الله لبني آدم هذه الأقسام الثلاثة، والله تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار.
تقدير الله لأهل الجنة وأهل النار بحكمته وعدله ورحمته
…(3/286)
قدر الله تعالى أهل الجنة وأهل النار، فمعلوم أنه سبحانه حكيم في أمره وفي تدبيره، وأنه لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه؛ لم يكن ظالماً لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، فإنهم ما عملوا ولا آمنوا ولا اتقوا إلا بفضله: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فهو سبحانه خلق الجنة وخلق لها أهلاً وقدر أعمالهم، ويسر لهم السبل والوسائل التي تجعلهم من أهلها، وتلحقهم بالعباد الصالحين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكذلك قدر للنار أهلاً؛ وذلك لأن هاتين الدارين -دار الثواب ودار العقاب- قد وعدهما الله تعالى بأهل؛ فقال تعالى مخاطباً الجنة والنار: (ولكل واحدة منكما علي ملؤها)، فلابد أن يدخلهما الله من يستحقهما، فبفضله ينعم على أهل الجنة، وبعدله يعذب أهل النار، ولا يظلم أحداً: وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29]، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ [غافر:31].
شرح العقيدة الطحاوية [68]
اختلف الناس في الاستطاعة على قدر اختلافهم في القدر، ومهما نظر الإنسان بإنصاف فإنه سيجد الحق الذي يصدقه الدليل مع أهل السنة، وأن الصواب قد جانب من خالفهم.
آثار الإيمان باليوم الآخر
…(3/287)
من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وهذان الركنان يحتاج كل منهما إلى تفاصيل، وقد مر بنا بعض التفاصيل، والمؤمن الذي يؤمن بالله يؤمن بما أخبر من التفاصيل لهذه الأشياء؛ وذلك لأن من تمام الإيمان بالله الإيمان بما أخبر به مما كان أو هو كائن. ومن علامات الإيمان باليوم الآخر الاستعداد له، ولا شك أن يوم القيامة عظيم الهول، عظيم الكرب، سماه الله يوم الفزع الأكبر. وأما تفاصيله فإنها مأخوذة من الأدلة التفصيلية التي اشتملت عليها الآيات والأحاديث، وإذا قرأها أو سمعها المؤمن فبلا شك أنه يظهر عليه أثر تلك الأمور، فيستعد للحساب إذا آمن به، ويستعد لتطاير الصحف إذا آمن بها، ويستعد لورود الحوض إذا آمن به، ويستعد للصراط إذا آمن به، وآخر شيء يؤمن به الجنة أو النار، فيعلم أنهما النهاية، وأن الجنة دار الكرامة لأولياء الله، والنار دار العذاب لأعداء الله، ولكل منهما بنون، ولكل منهما أهل، وقد وعد الله كلاً منهما بملئها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: فيّ ضعفاء الناس وسقطهم، وقالت النار: فيّ الجبارون والمتكبرون، فقال الله للجنة: أنت دار رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: أنت دار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما علي ملؤها)، وإذا كان كذلك فإنه يستعد لما ينجيه من النار، ولما يؤهله للجنة. وأما صفة ما فيهما فقد فصلت في ذلك الأدلة، وألفت فيها المؤلفات، فللإمام ابن القيم رحمه الله كتاب مفيد اسمه ( حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ) جمع فيه صفة الجنة، وما ورد فيها، وذكر فيه درجاتها وآنيتها وقصورها وأنهارها وأشجارها وثمارها وحورها وفرشها وسررها.. وجميع ما أخبر الله عنها، وهكذا لتلميذه ابن رجب رحمه الله كتاب سماه (التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار) تكلم فيه عن النار وعن عذابها وحميمها وزقومها وأغلالها وسعيرها وزمهريرها ودركاتها(3/288)
وحرها وحال أهلها، وما ورد فيهم، فإذا قرأ القارئ هذا الكتاب اشتد خوفه، واشتد فزعه، وإن لم يكن فيه تفصيل للأعمال التي يستحق بها العبد النار، ولكن ذكر فيه صفة عذاب النار، وأما الأعمال فهي مذكورة مبسوطة في الأدلة، تجدون في الآيات والأحاديث التي ذكر فيها أهل النار وأهل الجنة، من فعل كذا دخل الجنة، ومن فعل كذا دخل النار، وهذه مشروحة وموسع الكلام فيها، وإذا عرفها المسلم فإنه بلا شك يهتم بها، فيعرف الأعمال الصالحة التي تصير أهلها من أصحاب الجنة فيعملها، والتي توعد عليها بعذاب النار فيتركها، ويبتعد عنها، وعن أهلها حتى يكون من أهل الوعد، ويسلم من الوعيد. ......
حقيقة الاستطاعة وأقسامها واختلاف الناس فيها
…(3/289)
قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به تكون مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]. الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع، ألفاظ متقاربة، وتقسيم الاستطاعة إلى قسمين -كما ذكره الشيخ رحمه الله- هو قول عامة أهل السنة، وهو الوسط، وقالت القدرية والمعتزلة: لا تكون القدرة إلا قبل الفعل، وقابلهم طائفة من أهل السنة فقالوا: لا تكون إلا مع الفعل، والذي قاله عامة أهل السنة: إن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي، وهذه تكون قبله، ولا يجب أن تكون معه، والقدرة التي يكون بها الفعل لابد أن تكون مع الفعل، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة. وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات، فقد تتقدم الأفعال، وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]، فأوجب الحج على المستطيع، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج، ولم يعاقب أحداً على ترك الحج، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وكذا قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا [التغابن:16]، فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة، فلو كان من لم يتقِ الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ولم يعاقب من لم يتقِ وهذا معلوم الفساد. وكذا قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4]، والمراد منه: استطاعة الأسباب والآلات، وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين: لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ [التوبة:42]، وكذبهم في ذلك القول، ولو كانوا أرادوا الاستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل، ما(3/290)
كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين، وحيث كذبهم فدل أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال على ما بين تعالى بقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى [التوبة:91]، إلى أن قال: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ [التوبة:93]. وكذا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، والمراد: استطاعة الآلات والأسباب، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : (صلِ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، وإنما نفى استطاعة الفعل معها]. هذا الكلام يتعلق بركن من أركان الإيمان وهو القدر -والقدر: كما نقل عن الإمام أحمد - هو قدرة الله، والمعنى: أن الله قادر على كل شيء، وأنه يدخل في قدرته أفعال العباد وحركاتهم، وأنه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء. ومن الإيمان بالقدر: الإيمان بأن للإنسان قدرة على أفعاله وإرادة بها أصبح مكلفاً، وأن من فقد تلك القدرة سقط عنه التكليف؛ وذلك لأن هذا شيء محسوس، ظاهر ليس فيه خفاء، فالإنسان الأعمى لا يكلف أن يقرأ في الكتاب، والإنسان الأعرج لا يكلف أن يسعى السعي الشديد في الطواف أو في السعي لعجزه عن ذلك، وقد أسقط الله الجهاد عن المعذورين في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61]، ونحو ذلك من الآيات. ......
استطاعة بمعنى التوفيق
…(3/291)
ذكر الشارح: أن الاستطاعة تنقسم إلى قسمين: استطاعة بمعنى التوفيق، وهذه لا يملكها إلا الله، واستطاعة بمعنى مزاولة الفعل، وهذه يوصف بها العبد. فأما التوفيق والإلهام والهداية فهي إلى الله لا يستطيعها العباد، بل قد نفاها الله تعالى حتى عن نبيه، فقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، وقال تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:37]، وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد:33]، وقال: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل:37]، أي: من أضله فلا أحد يقدر على هدايته، فهذه الاستطاعة تستدعي توفيق الله وإلهامه وإفهامه، وتستدعي الإقبال بقلبه وقالبه إلى الأعمال. ولكن بلا شك أن الإنسان أيضاً: له قدرة على بعض الأسباب، فيجعلها الله سبباً لهداية بعض الناس؛ ولأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فجعله سبباً للهداية، والله هو الهادي، بمعنى: أنك أنت بينت لذلك الرجل وحذرته وأنذرته وخوفته، ودعوته إلى ما ينفعه، وبينت له النافع، وبينت له الضار، وبينت له عاقبة هذا وعاقبة هذا، فالله قذف في قلبه المعرفة والقبول، وتقبل ما جئت به، فأصبح بذلك قابلاً؛ فمثل هذا بلا شك أنه سبب في الهداية، فأصلها من الله، وأنت منك الأسباب. كذلك يقول في حديث آخر (من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه)، سماه هدى، أي: ضد الضلال، فالداعي -بلا شك- متسبب، والله هو الذي جعل السبب مؤثراً ومفيداً.
استطاعة بمعنى القدرة على الفعل
…(3/292)
القسم الثاني من الاستطاعة: الاستطاعة التي هي مزاولة الفعل والقدرة عليه، وهذه هي التي لا يكلف الله من لم يقدر عليها، فالعاجز -مثلاً- عن الحج بدنياً لا يستطيعه؛ ولذلك قال تعالى: مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]، والفقير الذي لا يجد ما يوصله إلى مكة لا يستطيع، ولو كان يستطيع بدنياً، والذي لا يستطيع بدنياً كالذي لا يثبت على السيارة أو على الطائرة لمرض أو لشلل أو لخوف أو ما أشبه ذلك، يقال عنه أيضاً: لا يستطيع الثبوت على المركوب فهو معذور بذلك، لا يستطيع بماله أو لا يستطيع ببدنه. ومعلوم أن الله تعالى لا يكلف الإنسان مع عجزه، إنما يكلفه إذا كان قادراً، وكذلك إذا كان فاهماً، ولذلك أسقط الله التكاليف عن الأطفال لكونهم غير قادرين ولا فاهمين، وأسقطها عن فاقدي العقول لنقصهم معنوياً، وكذلك أسقطها عن العاجزين في قوله تعالى في الجهاد: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ [التوبة:91]، يعني: ليس عليهم حرج في أن يتخلفوا عن الجهاد، مثل هؤلاء لا يستطيعون أن يخوضوا المعارك، وكذلك المرضى لا يستطيعون، وكذلك الذين لا يجدون ما ينفقون، لا يجدون مركوباً أو لا يجدون عدة، فهؤلاء أسقط الله عنهم الجهاد، كما أسقط عن العاجز مالياً الحج بقوله: مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]، وفسرت (سبيلاً): بالزاد والراحلة في بعض الأحاديث والآثار، فدل على أن الاستطاعة: قدرة العبد من حيث المال ومن حيث البدن، فإذا كان ذلك الفعل يستدعي مالاً كالحج والجهاد سقط عنه إذا فقد المال، وإذا كان لا يستدعي مالاً كالقريب من مكة ولكنه يستدعي قوة البدن، وكان هذا الإنسان مريضاً أو عاجزاً بدنياً سقط عنه، والجهاد كذلك يسقط عنه إذا كان عاجزاً بدنياً، وأما إذا كان عاجزاً مالياً، ولكن هناك من تكفل به وجهزه فإنه لا يسقط عنه. وكذلك العبادات البدنية(3/293)
المحضة إذا كان فيها مشقة فإنها تسقط أو تؤجل، مثل: الصيام في السفر أو في المرض، يقال: لا يستطيع أن يصوم وهو مريض، لا يستطيع أن يصوم وهو مسافر لمشقة السفر، فيؤجل الصيام، وكذلك بقية الأعذار، أما الصلاة فإنها عمل بدني؛ فلأجل ذلك تتوقف أفعالها على القوة والقدرة، فإذا لم يستطع أن يحصل على الماء سقطت عنه الطهارة بالماء، واكتفى بالتيمم، يقال: لا يستطيع الحصول على الماء أو لا يستطيع استعمال الماء لمرض أو حرق أو نحو ذلك، وكذلك فعل الصلاة: إذا لم يستطع أن يصلي وهو قائم صلى وهو جالس، فإن عجز عن الصلاة جالساً صلى على جنب أو مستلقياً كما في بعض الروايات، فمن عجز عن نوع من الاستطاعة البدنية انتقل إلى ما يستطيعه، ويعرف ذلك العرب في كل شيء حتى يقول بعضهم: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ أراد بذلك الأمور العادية، أي: الأفعال المحسوسة، فمثلاً: الحرف تختلف، فالإنسان الذي معه قوة بدنية يستطيع أن يحمل الأثقال، فهذا يحترف هذه الحرفة، وقد تكون أكثر أجرة، وآخر لا يستطيع ذلك، ولكن يستطيع أن يعمل الأعمال التي ليس فيها حمل ولا أثقال، كحراسة أو ما أشبهها، فالناس يتفاوتون في الاستطاعة.
الاستطاعة تكون قبل الفعل ومع الفعل
…
معلوم أن الاستطاعة تكون قبل الفعل ومع الفعل، قبل الفعل: يعني قبل مباشرته، نرى إنساناً قوياً فنقول: أنت مكلف بأن تصلي قائماً، ونرى إنساناً غنياً فنقول: أنت مكلف بالحج؛ لأنك تستطيعه مالياً، وهذه الاستطاعة تستمر إلى أن ينتهي من العمل، فتكون قبل الفعل، وفي أثناء الفعل؛ ولأجل هذا لو صلى ركعتين من الظهر وهو قائم ثم عجز جلس، وأتم بقية صلاته جالساً، وكذلك في الحج، لو أنه عمل بعض أعمال الحج وعجز عن بعضها كالرمي -مثلاً- وكَّل فيه، وسقط عنه لعجزه، ويقال في سائر الأفعال: إن الاستطاعة تكون قبل الفعل، ولا يخاطب بها إلا من كان مستطيعاً قبل مزاولة الفعل، وتكون في أثناء الفعل أيضاً.(3/294)
بطلان القول بأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل
…
قول من قال: الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل: قول باطل؛ وذلك لأنه لو كان كذلك لم يكن الإنسان مكلفاً حتى يفعل، فلا يكون على القادر توبيخ، إذا كان الإنسان قادراً على الحج ولكنه تركه، وقال: أنا غير مكلف حتى أقدر، قلنا له: أنت مكلف من الآن؛ لأنك موصوف بالقدرة بدنياً ومالياً، فيلزمك أن تباشر الفعل، وهكذا الإنسان الصحيح البدن الذي يسمع النداء للصلاة ولا عذر له، ويستطيع أن يأتي إلى المساجد فيؤدي الصلاة فيها، فهل يقال له: أنت لا تستطيع حتى تباشر الفعل؟ أنت غير مكلف إلى أن تبدأ في الفعل؟ لو قيل ذلك لسقطت كثير من العبادات، لو قيل مثلاً: أنت لست بمكلف ما دمت في بيتك حتى تبدأ في مباشرة الفعل؛ لاعتذر الكثير، وقالوا: لا نكون قادرين إلا إذا باشرنا، فهذا قول لا يقوله عاقل. ولو كان كذلك لاعتذر كثير من الناس عن العمل، فلو قيل له في النكاح: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم)، فلا يقول: أنا لا أستطيع، ما معنى الاستطاعة هنا؟ هل يقال: أنت لا تستطيع حتى تدخل بالزوجة؟ إذا رأيناه يملك المال وعنده الأهلية، قلنا: أنت مستطيع أن تتزوج، فلو قال مثلاً: ما دمت لم أتزوج، فأنا لي رخصة في أن أترك الزواج، قلنا: هذا خلاف العقل. وقول الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:25] رخصة في أن يتزوج الأمة المملوكة إذا لم يستطع طول الحرة، فهل هذه الرخصة لا تكون إلا لمن عجز بعد الفعل؟ نقول: ليس كذلك، بل إذا رأيناه ذا مال يقدر على مهر الحرة، منعناه أن يتزوج الأمة، وقلنا: لا تحل لك، قد يقول: ما دمت لم أتزوج فأنا غير مستطيع، نقول: أنت الآن مستطيع، الطول هو المال، والمال موجود عندك،(3/295)
وهكذا يقال في أنواع الاستطاعة.
بطلان مذهب الجهمية في الاستطاعة
…
الجهمية قالوا: إن العبد ليس له حركة، وحركاته ليست اختيارية، بل اضطرارية، ويُسمون المجبرة، فهؤلاء سلبوا العبد قدرته، وسلبوه اختياره، وجعلوا حركات يديه أو ركوعه أو سجوده أو جنايته أو سكره.. أو نحو ذلك اضطراراً إجباراً ليس له أي اختيار، وقالوا: إنما هو بمنزلة أغصان الشجرة التي تحركها الرياح، وبمنزلة حركة المرتعش الذي ترتعش يداه ولا يقدر على إمساكها، هكذا جعلوا حركاته! فجعلوا طاعاته ومعاصيه خارجة عن استطاعته، وليس له أي اختيار، وأبطلوا بذلك الأوامر والنواهي، وأبطلوا بذلك الشريعة كلها، ومع ذلك فإنهم متناقضون، وقد مر بنا كثير من تناقضهم؛ وذلك لأنك لو ضربت أحدهم، واحتججت بالقدر؛ ما عذرك في ضربك، ولا تركك تضربه، فكذلك أيضاً نقول: لا تحتج بالقدر على فعل المعاصي وترك الطاعات، بل عليك أن تزاول الفعل بقدر استطاعتك التي منحك الله، فالله أعطى الإنسان استطاعة بها يزاول الأفعال، ولولا تلك الاستطاعة لما حصل تكليف بهذه العبادات وبهذه الأفعال، ولو نفيت لبطلت الشريعة.
بطلان مذهب المعتزلة في الاستطاعة
…(3/296)
الجهمية يجعلون أفعال العباد الصادرة منهم ليس لهم فيها أي اختيار، بل هم مضطرون إليها، وأما المعتزلة فمذهبهم أن العبد هو الذي يخلق فعله، وليس لله قدرة على أفعال العبد، فجعلوا العبد مستقلاً بفعله، ونفوا قدرة الله عليه، ونفوا الأدلة التي تدل على ذلك، فقالوا: إن الله لا يقدر أن يهدي ولا أن يضل، بل العبد هو الذي يهدي نفسه أو يضل نفسه، وجعلوا للعباد الاختيار لا لله تعالى، وأبطلوا قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، وأبطلوا عموم قول الله تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]، وقالوا: لا يقدر إلا على ما يشاء، لا على كل شيء، وهكذا قالوا في كل ما هذا سبيله. فنقول: لا شك أن هذا قول باطل لا يمكن أن يصدر من عاقل؛ وذلك لأنا نؤمن بقدرة الله، ونؤمن بعمومها، ولا ينافي ذلك أنه أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم أصبحوا بها مكلفين، يثابون على الخير، ويعاقبون على الشر، ولكن تلك القدرة مغلوبة بقدرة الله، فقدرة الله غالبة على قدرتهم، وإرادته غالبة على إرادتهم.
أدلة ثبوت الاستطاعة
…(3/297)
قال رحمه الله: [وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة، فقد ذكروا فيها قوله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود:20] والمراد: نفي حقيقة القدرة لا نفي الأسباب والآلات؛ لأنها كانت ثابتة، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) -إن شاء الله تعالى- وكذا قول صاحب موسى: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:67]، وقوله: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:72]، والمراد منه: حقيقة قدرة الصبر لا أسباب الصبر وآلاته، فإن تلك كانت ثابتة له، ألا ترى أنه عاتبه على ذلك؟ ولا يلام من عدم آلات الفعل وأسبابه على عدم الفعل، وإنما يلام من امتنع منه الفعل لتضييعه قدرة الفعل؛ لاشتغاله بغير ما أمر به، أو شغله إياها بضد ما أمر به، ومن قال: إن القدرة لا تكون إلا حين الفعل يقولون: إن القدرة لا تصلح للضدين، فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل، وهي مستلزمة له لا توجد بدونه]. معلوم أن الإنسان معه قدرة عامة، ولكن قد يغلب تلك القدرة والاستطاعة ما يفوتها عليه، ففي قصة موسى والخضر أن الخضر: قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً [الكهف:67-68]، ولكن موسى: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً [الكهف:69]، ومع ذلك لم يستطع الصبر؛ لأنه رأى ما أنكره، ففي المرة الأولى لما خرق السفينة لم يستطع أن يصبر؛ لأنه رأى شيئاً عجباً فلم يستطع أن يصبر، ثم أخبره الخضر بأنه أراد عيبها حتى لا تؤخذ منهم، ولما رآه قتل غلاماً بغير ذنب لم يصبر أن ينكر عليه، ولكن لم يعلم عاقبة هذا الغلام، وأنه طبع كافراً، فلم يستطع الصبر مع كونه قادراً أن يمسك نفسه، ولما بنى الخضر الجدار في تلك القرية التي لم يضيفهما أهلها استنكر ذلك، كيف أنهم لم يضيفونا! ومع ذلك تقيم(3/298)
جدارهم؟ فلم يستطع أن يصبر، وهو قادر على ذلك. إذاً: قوله: (( لَنْ تَسْتَطِيعَ )) ليس المراد لا تستطيع بدنياً، ولا تستطيع عقلاً، بل هو يقدر، لكنك إذا رأيت شيئاً تستنكره وتستقبحه؛ فالعادة أنك تندفع، ولو كنت لا تدري ما عاقبته، هذا معنى الاستطاعة في هذا الباب، وبلا شك أن هذه الاستطاعة مقدورة، ولو لم تكن مقدروة لما قال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً [الكهف:69]، فأفاد بأنه قادر وأن عنده استطاعة. والاستطاعة تكون مالية، مثل استطاعة الذي يريد الحج ونحوه، أو تجب عليه نفقة أقاربه، وتكون بدنية كاستطاعة صوم الكفارات ونحوها، قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4]، في كفارة الظهار، وفي كفارة القتل، يعني من لم يستطع العتق، وهو استطاعة مالية، والصيام استطاعة بدنية محضة، وقال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4] يعني: من لم يستطع صوم الشهرين الذي هي استطاعة بدنية لعذر من الأعذار. فيقال في القدرة: الله تعالى قدرته عامة، وجعل للعباد قدرة على مزاولة أعمالهم، وأما الآية التي بدأ بها الشارح هنا، وهي قوله: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود:20]، فمعلوم أنهم لهم أسماع ولهم أبصار، ولكن كانوا ينفرون من هذا الشيء فلا يستطيعون أن ينصتوا ويستمعوا له، وكذلك لا يستطيعون مقابلته، وفي إمكانهم أن يجلسوا ويستمعوا، ولكن الدوافع تدفعهم، قد ذكر الله مثل ذلك عن المشركين في قوله تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [فصلت:5]، ومعلوم أن هذا ليس بظاهر، فقلوبهم كقلوب غيرهم، ولكن كأنهم يقولون: كلامك لا يدخل في قلوبنا ولا يدخل في أسماعنا، ولو سمعناه لم نتأمله ولم نتعقله ولا ننظر إليه نظر الاعتبار، فهل(3/299)
يقال: إنهم عاجزون عن الاستماع؟ ليسوا عاجزين، فكذلك قوله: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ)، هم قادرون على السمع، ولكن ينفرون منه، وهذه النفرة من الحق بسبب وسوسة الشيطان. فالآن -مثلاً- كثير من أهل البدع لا يستطيعون أن يستمعوا النصائح التي تخالف بدعهم، إما أنهم لا ينصتون لها، وإما أنهم إذا حضروها أخذوا يتكلمون، كما في قول المشركين: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:26]، وإما أن يهربوا ويخرجوا ويبتعدوا، كما حكى الله عن نوح أنه قال: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً [نوح:7]، كأنهم يقولون: إذا سمعناه نخشى أن يدخل في قلوبنا شيء فيعلق بها، وهكذا يقوله كثير من المبتدعة الآن، كما يحكي لنا بعض الإخوة الذين ذهبوا إلى نجران وألقى محاضرة تتعلق بالسنة وعقيدة أهل السنة، وكان الغالب على أهل المسجد أنهم من المكارمة الذين هم الإسماعيلية، فلما جلسوا يستمعون جاء مشايخهم وأخذوا يقيمونهم واحداً.. واحداً.. واحداً.. مخافة أن يقع في أسماعهم أو يصل إلى قلوبهم شيء يغير معتقداتهم، فهم -ولو كان الكلام حقاً- لا يقبلونه، ليس معهم قدرة ولا استطاعة على أن يقولوا: نستمع وننظر: إن كان حقاً فإنا نقبله، وإلا لم يضرنا سماعه، بل يبتعدون عنه. وهكذا أخبرنا بعض الإخوة الذين جلسوا مدة قصيرة يدرسون في المرحلة المتوسطة في القطيف، أنه اتفق مع طلابه وهم كلهم شيعة على أن يتجادل معهم بالقرآن وبصحيح السنة، ولما عزموا على المجالسة، وهم يعتقدون أنهم سيغلبونه، جلسوا معه مرة أو مرتين، وكأن آباءهم أحسوا بشيء من التغير في معتقدهم، فما كان منهم إلا أن رحلوه، وقالوا: ابتعد عن بلادنا، ولا تعد تدرس في بلادنا ولا تدرس أولادنا! لماذا؟ هل كانوا لا يستطيعون أن(3/300)
يسمعوا منه، مع أنه إنما كان يبين معاني الآيات والأحاديث ونحوها؟ نقول: هم يستطيعون أن يسمعوا، قال الله: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ معلوم أنهم لهم قدرة على ذلك، ولكن هناك ما يدفعهم، ويحول بينهم وبين هذا الاستماع، فالاستطاعة أصلاً موجودة، ولكن هناك ما يدفعها عن أن تكون مؤثرة أو تصل إلى أصلها.
الرد على القدرية
…
قال رحمه الله: [وما قالته القدرية بناء على أصلهم الفاسد، وهو إقدار الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء فلا يقولون: إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان، بل هذا بنفسه رجح الطاعة، وهذا بنفسه رجح المعصية، كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفاً، فهذا جاهد به في سبيل الله، وهذا قطع به الطريق. وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية خصه بها دون الكافر، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر، كما قال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ [الحجرات:7]، فالقدرية يقولون: هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق، وهو بمعنى: البيان وإظهار دلائل الحق، والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمن؛ ولهذا قال: (أولئك هم الراشدون) والكفار ليسوا راشدين، وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125]، وأمثال هذه الآية في القرآن كثير، يبين سبحانه أنه هدى هذا وأضل هذا، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ(3/301)
تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً [الكهف:17]، وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان إن شاء الله تعالى]. رد الشارح على القول الذي حكاه عن المعتزلة؛ لأنه حكى في أول الكلام ثلاثة أقوال: القول الأول: قول الجبرية الذين يقولون إن العبد مجبور، وليس له اختيار، وأنه بمنزلة الشجرة التي تحركها الرياح، فهو مدفوع إلى الزنا، وهو مدفوع إلى الربا، وهو مدفوع إلى السكر، وهو مدفوع إلى الصلاة، وليس له أي اختيار!! والقول الثاني: قول المعتزلة: وهو أن العبد هو الذي يخلق فعله ويزاوله، وليس لله أية قدرة على فعله!! والقول الثالث: قول أهل السنة: وهو أن للعبد قدرة واختياراً، ولكنها مغلوبة بقدرة الله وباختياره، فهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وهدايته للمؤمنين تعتبر فضلاً منه وكرماً، وإضلاله للكافرين يعتبر عدلاً منه بدون ظلم، قال الله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وكذلك امتن على هؤلاء، وعلم أنهم أهل للفضل وأهل للنعمة وأهل للهداية؛ فهداهم وسددهم. أما الجبرية فعندهم أنه ليس له أي اختيار، بل هو بمنزلة المرتعش، والمعتزلة عندهم ليس لله أية قدرة، بل العبد هو الذي يضل نفسه، وهو الذي يهدي نفسه، ونفوا مدلول الآيات: وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:36-37]. وقد عرفنا الرد عليهم بمثل هذه الآيات: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام:125]، هذا أنعم عليه، وهذا خذله، وإنعامه على هذا يعتبر فضلاً، ويعتبر خذلانه لهذا عدلاً: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع
شرح العقيدة الطحاوية [69](3/302)
لا يزال المنحرفون في القدر يجادلون عن انحرافهم، ولو وقفوا مع أنفسهم وأخضعوها لنصوص الكتاب والسنة لعلموا حكمه وسلموا لأمره.
مراتب الإيمان بالقدر
…
الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: القدر قدرة الله، وهذه كلمة لها أهميتها، بمعنى: أن من آمن بقدرة الله، وأن الله على كل شيء قدير، صدق بالقدر خيره وشره. ويدخل في القدر تقدير الأشياء قبل وقوعها، ويدخل فيه كتابتها قبل أن تخلق وتوجد، ويدخل فيه إرادة كل ما يحدث ومشيئته العامة، ويدخل فيه خلقها وإيجادها وتكوينها، وأنها لا تكون إلا بإرادة الله وبخلقه وبتقديره وتكوينه، وهذه تسمى مراتب القدر، وهي أربع: الأولى: العلم. الثانية: الكتابة. الثالثة: الإرادة. الرابعة: الخلق. فيؤمن العباد بهذه المراتب الأربع، ومن كذب بشيء منها نقص إيمانه بالقدر، وقد أنكر العلم الأزلي السابق طوائف من الغلاة، وهم الذين يقول فيهم الإمام الشافعي رحمه الله: ناظروهم بالعلم؛ فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. أي: سلوهم: أتقرون بأن الله تعالى موصوف بالعلم؟ وبأنه بكل شيء علم؟ فإذا اعترفوا بذلك خصموا، ويقال لهم: ما الفرق بين علم الماضي وعلم المستقبل؛ فكله داخل في العلم، وفي أن الله بكل شيء عليم، فإذا علم ما قد مضى فلا يخفى عليه ما هو آتٍ. وأما الخلق والتكوين فإنه يدخل في الإيمان بقدرة الله، فإذا كنا نؤمن بأن الله على كل شيء قدير، فلابد أن يدخل في هذه القدرة كل ما في الكون، لا يخرج عن قدرة الله شيء من الوجود ومن الحركات التي تكون في هذا الكون، بل كلها كائنة بقدرة الله، وبمشيئته وبخلقه وتكوينه، فلا يكون في الوجود ما لا يريد، ونعتقد أن ربنا سبحانه أعطى الإنسان قدرة على مزاولة أعماله، فللعباد قدرة على أفعالهم، ولهم إرادة، وقدرة الله غالبة على قدرتهم، وإرادته غالبة على إرادتهم، فإذا أراد الله شيئاً فلابد أن يكون، وهذا معنى قول شيخ(3/303)
الإسلام في شعر له: فما شئت كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن وهذا أيضاً معنى الحديث الذي فيه: (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن). ......
إثبات قدرة العباد على أفعالهم
…
للعباد قدرة تناسبهم، وبهذه القدرة أصبحوا مكلفين، وبها أصبحوا مأمورين ومنهيين، ولو سلبت عنهم هذه القدرة لسقطت عنهم التكاليف؛ ولهذا تسقط التكاليف عن العاجز، وينفى عنه الحرج، فلا يكلف إلا ما يطيق، فمن فقد العقل لم يكن إلى إفهامه من سبيل، فلا يكلف، ومن فقد البصر لم يكلف بالغزو وبالقتال، وكذا العاجزون ونحوهم. يقول تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ [التوبة:91] يعني: إذا تخلفوا عن الجهاد؛ لأنهم لا يستطيعونه، فدل على أن غيرهم عليهم حرج؛ لأن معهم استطاعة، وإن كانت تلك الاستطاعة مخلوقة لله، وداخلة تحت قدرته. وبكل حال، فالاستطاعة التي منحها الله الإنسان هي التي في إمكانه أن يزاول بها الأعمال، مع أنها داخلة في خلق الله تعالى، والله سبحانه لا يكلفهم إلا ما في قدرتهم واستطاعتهم، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، فلهذا أسقط الحج عن غير المستطيع، بل جعل فرضه على من استطاع إليه سبيلاً، وكذلك أسقط ما يعجز عنه الإنسان أو يشق عليه، فرخص للمسافر في أن يفطر؛ لأن عليه مشقة، وكذلك المريض له أن يفطر ويقضي؛ لما في الصيام عليه من الصعوبة، وهكذا في سائر العبادات التي يعجز عنها العبد، فالقدرة والاستطاعة التي أعطاها الله الإنسان هي ما منحه الله وما أودعه فيه، وما قواه به، وإن كان ذلك كله داخلاً في عموم قدرة الله سبحانه. قد مر بنا أن الاستطاعة التي نفيت هي ما لا يدخل في مقدور الإنسان، كما نفي في قول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، أي: لا يكلفها بغير ما أعطاها، لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ(3/304)
وُسْعَهَا [البقرة:233]. ......
الرد على من نفى القدرة على الفعل أثناء فعله
…
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فقول القائل: يرجح بلا مرجح، إن كان لقوله: يرجح معنى زائد عن الفعل، فذاك هو السبب المرجح، وإن لم يكن له معنى زائد، كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح، وهذا مكابرة للعقل. فلما كان أصل قول القدرية: إن فاعل الطاعات وتاركها كليهما في الإعانة والإقدار سواء، امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه؛ لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك، وإنما تكون للفاعل، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى، وهم لما رءوا أن القدرة لابد أن تكون قبل الفعل، قالوا: لا تكون مع الفعل؛ لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك، وحال وجود الفعل يمتنع الترك؛ فلهذا قالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل. وهذا باطل قطعاً، فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع، بل لابد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجوداً عند الفعل، فنقيض قولهم حق: وهو أن الفعل لابد أن يكون معه قدرة، لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين، حزب قالوا: لا تكون القدرة إلا معه، ظناً منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين، وظناً من بعضهم: أن القدرة عرض فلا تبقى زمانين، فيمتنع وجودها قبل الفعل. والصواب: أن القدرة نوعان كما تقدم: نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، وهذه تحصل للمطيع والعاصي، وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى إلى حين الفعل، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول: إن الأعراض لا تبقى زمانين، وهذه قد تصلح للضدين، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة، فلا يكلف الله من ليس معهم هذه الطاقة، وضد هذه العجز كما تقدم]. الشارح يناقش بعض المبتدعة الذين يقولون: إن القدرة على الفعل تسبق فعله، وتسبق(3/305)
مزاولته، ولا تصحبه حالة وجوده، فيقولون -مثلاً-: إن الإنسان الذي عنده مال، وتمت قوته وقدرته على الإتيان بالحج، إذا تمت أصبح مكلفاً، ولا تكون القدرة حالة مزاولته للعمل، وحالة سفره، وحالة إحرامه وطوافه وسعيه ووقوفه ورميه.. ونحو ذلك، يقولون: لا تشترط القدرة ولا القوة في هذه الحالات، وما ذاك إلا أنها شرطت في أول الأمر، وزالت الحاجة إليها بعد ذلك، فلا حاجة إلى وجودها وبقائها حالة مزاولة الفعل. ويقولون كذلك أيضاً في سائر العبادات كصلاة الجماعة -مثلاً-: إذا أمن على نفسه، وكان معه قدرة وقوة، وكان صحيح البدن ليس فيه مرض، وليس بخائف، وجب عليه أن يصلي مع الجماعة، فإذا ابتدأ في الصلاة -مثلاً- أو دخل المسجد أو أقيمت الصلاة فلو زالت القدرة لم تضر، ولا تشترط القدرة ولا وجودها حالة مزاولة الصلاة، هذا تقرير قولهم. ولا شك أن القدرة والقوة على الفعل لابد من وجودها قبل الفعل وفي حالة وجود الفعل، فإن الإنسان مثلاً مأمور بأن يصلي قائماً، فلو صلى ركعتين من الظهر -مثلاً- قائماً، ثم عجز، رخص له أن يجلس ويتم جالساً، فدل على أن القدرة مشترطة حالة الفعل من أوله إلى آخره، ولو أن إنساناً تجهز للحج، ولما قطع نصف الطريق -مثلاً- عجز وقلت نفقته أو حصل له خوف أو مرض.. أو نحو ذلك؛ لجاز له أن يرجع ويؤجل الحج؛ لأن القدرة لم تبقَ معه، بل حدث ما يضادها، وهكذا بقية الأعمال. لكن قد يستثنى منها بعض الأعمال، فإذا تم الحول على المال ووجبت فيه الزكاة؛ تعلقت بذمة المالك، فلو تلف المال بقيت الزكاة في الذمة؛ وذلك لأنه فرط حيث أخر إخراجها، وهناك من يقول: إنها تسقط عنه، بمعنى أنه لو حصد زرعه وجمعه، وقبل أن يخرج زكاته احترق كله، أو حملته الرياح وفرقته، فالصحيح أنه لا يلزمه زكاة؛ وذلك لأنها وجبت مواساة، ومن أين يواسي ما دام أن المال الذي وجبت فيه قد تلف؟! وهكذا مثلاً: لو تم حول نصاب الماشية السائمة، ولما تم الحول ماتت كلها(3/306)
-مثلاً- أو لم يبقَ منها إلا أقل من النصاب، سقطت الزكاة عنها، لأنه أصبح من غير أهل الزكاة. وكذلك الإنسان إذا صام نصف النهار، حيث أصبح وهو قادر وعنده القوة وعنده الاستطاعة على إتمام صيام ذلك اليوم، ولكن في أثناء النهار أصابه مانع شديد منعه من الإتمام، جاز له أن يفطر، ويقضي ذلك اليوم؛ لأنه أصبح من غير أهل الاستطاعة. فتبين بهذا أن الاستطاعة التي أمرنا الله بها في قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] أن المراد بها الاستطاعة التي قبل الفعل والتي مع الفعل، فقبل الفعل يكون نشيطاً قوياً قادراً على أن يكمل الفعل، ومع الفعل يحصل منه أنه قادر على إتمامه من أوله إلى آخره، فإذا لم يكمله فهو معذور، فهذا توضيح قول أهل السنة، ولا يلتفت إلى قول هؤلاء الذين يقولون: إن القدرة تشترط قبل الفعل ولا حاجة إلى اشتراطها ولا إلى لزومها حالة مزاولة الفعل، وما ذاك إلا أنهم متناقضون.
لا يكلف الله العباد إلا ما في وسعهم
…(3/307)
قال رحمه الله: [وأيضاً: فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها، وإن لم يعجز عنه، فالشارع ييسر على عباده ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة المرض وتأخر برئه، فهذا في الشرع غير مستطيع؛ لأجل حصول الضرر عليه, وإن كان قد يسمى مستطيعاً، فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعل ممكناً مع المفسدة الراجحة، لم تكن هذه استطاعة شرعية، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائماً مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته.. ونحو ذلك، فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة، فكيف يكلف مع العجز؟ ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل، بل لابد من إحداث إعانة أخرى تقارن مثل جعل الفاعل مريداً فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة، والاستطاعة المقارنة يدخل فيها الإرادة الجازمة، بخلاف المشروطة في التكليف، فإنه لا يشترط فيها الإرادة. فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه، وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض، فالإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة، لزم وجود الفعل، وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق، فإن من قال: القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول: كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق. وما لا يطاق يفسر بشيئين: بما لا يطاق للعجز عنه، فهذا لم يكلفه الله أحداً، ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده، وهذا هو الذي وقع فيه التكليف، كما في أمر العباد بعضهم بعضاً، فإنهم يفرقون بين هذا(3/308)
وهذا، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف، ويأمره إذا كان قاعداً أن يقوم، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة]. هذه تعتبر أمثلة لما تقدم من أن الله تعالى لا يكلف العباد إلا ما في وسعهم وما في إرادتهم وما تصل إليه قدرتهم، وما لا مشقة عليهم فيه، وإن كانوا قد يستطيعون فعل بعض الأشياء التي أسقطت عنهم، لكن مع مشقة تلحقهم، فالمشقة تجلب التيسير، وقد نفى الله الحرج في هذه الشريعة، قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ولما ذكر أنه يجوز لهم استعمال التراب عند فقد الماء أو عند الخوف من استعماله لمرض ونحوه، قال تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة:6]، ولما أباح لهم الفطر في رمضان للسفر وللمرض، قال بعد ذلك: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فإن المسافر الذي يشق عليه الصيام، ولكنه يستطيعه، وإذا صام انقطع عن العمل، وانقطع عن خدمة نفسه، واحتاج إلى أن يخدمه رفقته، واحتاج إلى أن يظلل عليه، ويرش بالماء لشدة جهده، فهذا قد يقول: إني أطيق، فنقول: ما فاتك أشد وأعظم، حيث إنك أعوزت غيرك إلى أن يخدموك، وإلى أن يقوموا عليك، وأبطلت مصالح نفسك، واحتجت إلى من يخدمك، ولو كنت تستطيع أن تكمل يومك. وكذلك المريض، لو قال: أنا أستطيع أن أصوم مع المرض، ولكن المرض يزداد مع هذا الصيام ويشتد، وتكلف صاحبه الصيام، نقول: إنه قد كلف نفسه، وله رخصة وإن كان يستطيع الصيام، ولو قال الفقير: أنا أستدين وأحج وأصبر على الديون التي أتحملها في ذمتي، نقول: إنك قد كلفت نفسك ما فيه مشقة؛ لأنك لست على يقين بأنك تقدر على وفاء هذه الديون التي تتحملها، أو أنك -مثلاً- في سفرك قد تضيع أهلك، وقد تعوزهم إلى أن يتكففوا الناس؛ لأنك أنت الذي تتكسب لهم، وتنفق عليهم من كسبك، فإذا سافرت عنهم أدى ذلك إلى أنهم يحتاجون، ويسألون الناس،(3/309)
(كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، فيسقط عنك الحج في هذه الحالة إذا لم تجد ما ينفقه أهلك على أنفسهم حتى ترجع. وهكذا أيضاً: المصلي الذي أبيح له أن يصلي جالساً، لو قال: باستطاعتي أن أصلي قائماً، وكان القيام يزيد في المرض، ويؤخر البرء والشفاء، فنقول: لست بمكلف، وأنت غير مستطيع، والذي يعجزه القيام يجزئه الجلوس، ويكون أجره كأجر القائم سواء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب)، ولو كانت الاستطاعة قد تحصل، ولكن مع نوع من المشقة، وبكل حال فالمشقة التي نفاها الله تعالى هي التي فيها صعوبة على العباد، وهي من جملة ما لم يكلفوا به: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، فإذا كان على العباد شيء من الضيق ومن الحرج ومن الشدة، فإن ذلك يجلب لهم الرخصة في أمورهم عامة، وفي هذا الأمر خاصة.
أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
…(3/310)
قال المؤلف رحمه الله: [قوله: (وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد): اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية: فزعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان الترمذي: أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى، وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز، وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله. وقابلتهم المعتزلة، فقالوا: إن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها لا تعلق لها بخلق الله تعالى، واختلفوا فيما بينهم أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا. وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه. فالجبرية غلوا في إثبات القدر فنفوا صنع العبد أصلاً، كما غلت المشبهة في إثبات الصفات، فشبهوا، والقدرية -نفاة القدر- جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى؛ ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة، بل أردأ من المجوس، من حيث إن المجوس أثبتت خالقَينِ وهم أثبتوا خالقِينَ، وهدى الله المؤمنين أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فكل دليل صحيح يقيمه الجبري فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة، ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش، وهبوب الرياح، وحركات الأشجار. وكل دليل صحيح يقيمه القدري، فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مريد له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى، وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته. فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى؛ فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن، وسائر كتب(3/311)
الله المنزلة من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم، وهذا هو الواقع في نفس الأمر، فإن أدلة الحق لا تتعارض، والحق يصدق بعضه بعضاً ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدلة الفريقين، ولكنها تتكافأ وتتساقط، ويستفاد من دليل كل فريق بطلان قول الآخرين، ولكن أذكر شيئاً مما استدل به كل من الفريقين، ثم أبين أنه لا يدل على ما استدل عليه من الباطل]. تكلم الشارح هنا على أفعال العباد، ذكر الطحاوي أن أفعال العباد خلق الله وكسب العباد، لكن الجبرية لم يثبتوا للعباد فعلاً، وإنما أثبتوا لهم كسباً، يعني: أنهم هم الذين زاولوها، وهم الذين عملوها، وإليهم تنسب، فالعبد يوصف بأنه الذي صلى وأنه الذي صام، ولا يقال: خلق الله فيك الصوم ولا خلق الله فيك الصلاة، ولا خلق الله فيك القتل، أو الشرك أو الزنا أو أكل الحرام، بل يقال: أنت المصلي والصائم وأنت الصادق أو الكاذب، وأنت المؤمن أو الكافر، وأنت البر أو الفاجر، وأنت العامل للصالحات أو العامل للسيئات، أنت المحسن أو أنت المسيء، أنت الذي صبرت أو جزعت، أنت الذي تشجعت أو جبنت، يوصف العبد بهذه الأفعال، ولو كانت خلق الله، فالله تعالى خالق كل شيء، وهو الذي أرادها، وهو الذي أوجدها، ولو شاء لما آمن أحد، ولو شاء لما كفر أحد، ولكنه تعالى أعطى العبد قدرة يزاول بها هذه الأعمال فيصبح من أهل الأعمال وتنسب إليه، هذا هو الذي تكلم عليه الطحاوي ، والأشاعرة لا يثبتون للعبد فعلاً، وقولهم قريب من قول الجبرية إلا أنهم يثبتون للعبد كسباً، ثم يضعفون ذلك الكسب، ولا يجعلون له تأثيراً، فأصبح الكسب الذي أثبتوه ليس له حقيقة، وفي هذا يقول بعضهم: مما يقال ولا حقيقة تحته معلومة تدنو من الأفهام الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام يعني: أن هذه الثلاثة لا حقيقة لها أصلاً، الكسب عند الأشعري لا(3/312)
حقيقة له، وقد يثبت الكسب ومع ذلك ينفي قدرة العبد، والحال عند البهشمي معناه: أنه لا يثبت للحال حقيقة، وطفرة النظام الذي هو أحد المعتزلة، فإنه اعتقدها وذهب إليها ولا حقيقة لها. ......
مذاهب الناس في الأفعال
…
الشارح رحمه الله ذكر أن للناس في الأفعال ثلاثة مذاهب: مذهب باطل وهو مذهب الجبرية، ويقابله مذهب باطل أيضاً، وهو مذهب نفاة قدرة الله. ومذهب حق، وهو إثبات قدرة الله وإثبات قدرة العبد التي تناسبه. فالأول الذي قال أهله إن العبد ليس له قدرة أصلاً، هو قول الجبرية الذين يقولون إن العبد مجبور على أفعاله، وليس له أي اختيار، بل أفعاله وحركاته بمنزلة حركات المرتعش الذي ترتعش يده ولا يقدر على إمساكه، أو بمنزلة العروق النابضة التي تتحرك ولا يقدر على إمساكها، أو حركاته بمنزلة حركات الأشجار التي تحركها الرياح، وهؤلاء الجبرية رئيسهم الجهم بن صفوان ؛ فهو أول من قال إن العباد ليس لهم قدرة، وليس لهم اختيار، بل هم مجبورون على الفعل. وهؤلاء يقولون: إن الله إذا عذب الخلق فإنه ظالم لهم؛ لأنه الذي خلق فيهم المعصية، وقالوا: كيف يخلق فيهم الذنب كالشرك والقتل والزنا والحرام وما أشبه ذلك ثم يعاقبهم على ذلك؟! فيعتبرون هذا ظلماً من الله تعالى، مع أن الله قد نفى الظلم بقوله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]. حتى قال قائلهم -كما ذكره ابن القيم في بعض كتبه-: ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء يقولون: مثل العاصي الذي يجبر على المعصية مثل إنسان ألقي في البحر وقد أوثقت يداه وقيل له: لا يبلك الماء! وهو لا يستطيع الحركة، ومع ذلك ألقي في البحر. ويقولا ابن القيم في ميميته: وعند مراد الله تفنى كميت وعند مراد النفس تسدي وتلحم وعند خلاف الحق تحتج بالقدر ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم يقول: إن هؤلاء متناقضون، فإنه إذا كان المراد للنفس فإن أحدهم يسدي ويلحم ويأتي الأمور من طولها(3/313)
وعرضها، ولا يتوقف جهده على الشيء المراد، بل يبذل كل ما في وسعه، وأما إذا قيل له إن الله أمرك بكذا ونهاك عن كذا، فإنه يتقاعس ويتكاسل، وإذا وقع منه الذنب قال هذا مكتوب عليّ، وهذا ليس لي فيه اختيار، فيحتج بالقدر، ويحتج بالقضاء، ويزعم أنه مجبور على ذلك، وهذا هو فعل الجبرية الذين يزعمون أن العبد مجبور على فعله. وتقدم واحد منهم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو في مجلس وحوله تلامذته، فألقى عليه أبياتاً يقول في أولها: أيا علماء الدين ذمي دينكم تحير دلوه بأوضح حجة ويقول فيها: دعاني وسد الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بينوا لي حجتي يقول: إنما مثلي كمثل إنسان دعاني، ثم سد الباب وأقفله دوني، وضربني وقال: لماذا لا تدخل؟ وكيف أدخل وقد أوصد الباب؟ فرد عليه شيخ الإسلام بأبيات مشهورة مكتوبة مطبوعة، وقد شرحها الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، في أولها قوله: سؤالك يا هذا سؤال معاند مخاصم رب العرش باري البرية وتدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طراً معشر القدرية سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به للشريعة واستمر في ذكر ما يتناقضون فيه وذكر أنهم يتناقضون؛ وذلك أن أحدهم إذا لامه لائم على فعل فإنه يحتج بالقدر، ولكن لا يحتج بالقدر إذا كانت المصلحة له، فهو إذا كانت المصلحة له في طلب معيشة وفي طلب رزق، فإنه يبذل قصارى جهده، فيقال له: لماذا لا تجلس في بيتك وتترك التكسب؟ ولماذا لا تترك الأكل؟ ولماذا لا تقول: إن كان الله أراد لي حياة فإني سأحيا وإن لم آكل؟ ولماذا تلبس الثياب في الصيف لتتقي الحر، وفي الشتاء لتتقي البرد؟ ولماذا تتزوج تطلب الولد؟ ولماذا تطلب الثمر؟ وهكذا، فأنت تفعل هذه الأفعال وطلب المعيشة فكذلك نقول: لماذا لا تعمل أعمالاً صالحة تؤهلك لدخول الجنة؟! ولماذا لا تترك الأعمال التي تؤهل لدخول النار؟ إذاً: فأنت معك قدرة ومعك استطاعة على مزاولة الأعمال. ذكروا أن سارقاً أُتي به إلى عمر(3/314)
رضي الله عنه، فقال: هذا شيء قدره الله، فقال عمر رضي الله عنه: (سرقت بقدر الله، ونقطع يدك بقدر الله). ولما توجه عمر إلى الشام ذكر له أن الشام قد وقع فيها الطاعون، فعزم على أن يرجع بمن معه إلى المدينة، فقال له أبو عبيدة : (أفراراً من قدر الله؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله) أي: الله تعالى قدر لنا أن نرجع، فهو كتب علينا هذا، ولم يكتب علينا أننا نقدم على هذا الوباء. واستدل أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد). وبكل حال هذه أقوال هؤلاء الطائفة، ولهم حجج طويلة اختصرها الشارح. أما الطائفة الثانية الذين هم المعتزلة فبلا شك أن قولهم أشد بطلاناً، ولعله يأتي ما يبينه عندما يتكلم المؤلف على أدلتهم، والله أعلم.
شرح العقيدة الطحاوية [70]
القدر مرجعه إلى الله تعالى، وقد خالف الحق فيه طرفان: طرف عطل الرب عن خلق الأفعال، وطرف جعل العبد مجبراً ليس له قدرة ولا اختيار، وذلك كله لا يصلح للمسلم اعتقاده.
وجوب الإيمان بالقدر
…(3/315)
مذهب أهل السنة هو الإيمان بالقدر، وقد ذكرنا قول الإمام أحمد : ( القدر قدرة الله ) وأراد بذلك الرد على القدرية الذين ينكرون قدرة الله على كل شيء، ويخرجون كل الأفعال عن خلق الله تعالى، وقد أشبهوا بذلك المجوس. فالمجوس يجعلون للكون خالقين، والقدرية يجعلون مع الله من يخلق، وقد تقدم أنهم يقولون: إن القرآن مخلوق، واستدلوا بقول الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] فأدخلوا صفة الله التي هي كلامه في هذه الآية، وتناقضوا فأخرجوا أفعالهم عن عمومها، فجعلوا أفعالهم من خلقهم وليست من خلق الله، فلم يعملوا بعموم الآية: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]. ولا شك أن أفعال العباد أولى ما يدخل في عموم الآية، لأنها من خلق الله تعالى، وأن نسبتها إلى العباد نسبة فعل ومباشرة، ولهذا يقال: إن الله خالق كل شيء بما في ذلك حركات العباد وأفعالهم، ومع ذلك فالله تعالى هو الذي مكنهم، وأعطاهم قوة وقدرة، فهم يزاولون الأعمال بقدرتهم وبقوتهم، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، فقدرة الله غالبة على قدرتهم، وإرادته غالبة على إرادتهم، وبذلك أصبحت أفعالهم من خلق الله تعالى؛ لقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] وأفعالهم هم الذين باشروها، فتنسب إليهم مباشرة، وتنسب إلى الله خلقاً وإيجاداً، وبما أعطاهم الله من القوة والقدرة يثابون ويعاقبون. ولأجل ذلك نقول: إن العباد فاعلون حقيقة، والله خالقهم وخالق أفعالهم، وأن العبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وأن للعباد قدرة على أفعالهم، ولهم إرادة، ولكن هذه القدرة والإرادة مسبوقة بقدرة الخالق تعالى وبإرادته، هذا هو قول أهل السنة. ......
المذاهب المخالفة لعقيدة أهل السنة في باب القدر
…(3/316)
وقد عرفنا القولين الذين هما طرفان في هذه المسألة: الطرف الأول: هو قول المجبرة الذين سلبوا العباد قدرتهم واختيارهم، وجعلوهم مجبورين، ليس لهم أي قدرة أو إرادة، و ليس لهم همة ولا عمل ولا أثر في الأعمال، وجعلوا حركاتهم بمنزلة حركات الأشجار التي تحركها الرياح! وأبطلوا حكمة الله تعالى؛ فإذا سئلوا: لماذا أرسل الله الرسل؟ ولماذا يُعذب الله الكفار؟ ولماذا خص الله المؤمنين بأنهم أهل الثواب؟ لم يكن لهم من جواب إلا أن ذلك محض المشيئة، ومحض الاختيار، ومحض الإرادة، وليس لأحد فيه تصرف، وأكثر ما يرددون قول الله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ويقولون: إنه قدر ذلك عليهم وخلقه فيهم، ويعذبهم على فعله فيهم، ولكن لا يُسئل عن ذلك!! وأما الطرف الثاني: فهم المعتزلة الذين أرادوا تنزيه الرب تعالى عن أن يعذبهم على أمر خلقه فيهم كما يقولون، فجعلوا أنفسهم هي التي تباشر وتخلق الفعل، ولم يجعلوا لله أي قدرة, بل كثير منهم يقولون: إن الله لا يقدر على أن يهدي من يشاء، ولا أن يضل من يشاء، بل العباد يهدون أنفسهم أو يضلونها! فهؤلاء طرف هالك بعيد عن الصواب. وهدى الله تعالى أهل السنة فآمنوا بعموم قدرة الله، وآمنوا بأن له قدرة عامة غالبة على أفعال العباد، وآمنوا بأنه خلق أفعال العباد، وكتبوا في ذلك المؤلفات، كما كتب البخاري في ذلك رسالته المشهورة: (خلق أفعال العباد). وبينوا أن قدرة العبد هي التي تناسبه، والتي بها يثاب ويعاقب، وأنها مع ذلك مغلوبة بقدرة الله تعالى، وبذلك يستحق العبد الثواب أو العقاب على ما يزاوله من الأعمال التي تنسب إليه؛ لأنه هو الذي باشرها. ومع ذلك لا يخرج عن إرادة الله تعالى، والهداية بيد الله؛ فهو الذي هدى هؤلاء وأضل هؤلاء، فأضل هؤلاء حكمة وعدلاً، وهدى هؤلاء رحمة وفضلاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
الرد على المخالفين في باب القدر
…(3/317)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمما استدلت به الجبرية قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] فنفى الله عن نبيه الرمي، وأثبته لنفسه سبحانه، فدل على أنه لا صنع للعبد. قالوا: والجزاء غير مرتب على الأعمال، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) . ومما استدل به القدرية قوله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، قالوا: الجزاء مرتب على الأعمال ترتيب العوض كما قال تعالى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:71-72] ونحو ذلك. فأما ما استدلت به الجبرية من قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] فهو دليل عليهم؛ لأنه تعالى أثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم رمياً، بقوله: (إِذْ رَمَيْتَ)، فعلم أن المثبت غير المنفي، وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء، فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكل منهما يسمى رمياً، فالمعنى حينئذٍ -والله تعالى أعلم-: وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب، وإلا فطرد قولهم:وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى! وما صمت إذ صمت! وما زنيت إذ زنيت! وما سرقت إذ سرقت! وفساد هذا ظاهر. وأما ترتيب الجزاء على الأعمال فقد ضلت فيه الجبرية والقدرية، وهدى الله أهل السنة، وله الحمد والمنة، فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات، فالمنفي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة، كما زعمت المعتزلة أن العامل يستحق دخول الجنة على ربه بعمله، بل ذلك برحمة الله وفضله. والباء التي في قوله تعالى: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:14] ونحوها باء(3/318)
السبب، أي: بسبب عملكم؛ والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته. وأما استدلال المعتزلة بقوله: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] فمعنى الآية: أحسن المصورين المقدرين، و(الخلق) يذكر ويراد به التقدير، وهو المراد هنا؛ بدليل قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] أي: الله خالق كل شيء مخلوق، فدخلت أفعال العباد في عموم (كل). وأما أفسد قولهم في إدخال كلام الله تعالى في عموم (كل) الذي هو صفة من صفاته! يستحيل عليه أن يكون مخلوقاً، وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم (كل)!! وهل يدخل في عموم (كل) إلا ما هو مخلوق؟! فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم، ودخلت سائر المخلوقات في عمومها. وكذا قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] ولا نقول: أن (ما) مصدرية، أي: خلقكم وعملكم، إذ سياق الآية يأباه، لأن إبراهيم عليه السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت، لا النحت، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله تعالى، ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقاً له، بل الخشب أو الحجر لا غير. وذكر أبو الحسين البصري إمام المتأخرين المعتزلة: أن العلم بأن العبد يحدث فعله ضروري. وذكر الرازي : أن افتقار الفعل المحدث الممكن إلى مرجح يجب وجوبه عنده ويمتنع عند عدمه ضروري. وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري، ثم ادعاء كل منهما أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة غير مسلم، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق، فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثاً لفعله وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله، كما قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا(3/319)
وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8] فقوله: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:8] إثبات للقدر بقوله: (فَأَلْهَمَهَا)، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه؛ ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية. وقوله بعد ذلك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10] إثبات أيضاً لفعل العبد، ونظائر ذلك كثيرة]. ......
الرد على الجبرية
…
هذه مناقشة لأدلة الفريقين المتطرفين، وهمنا هنا أن نعرف الجواب. وأما شرح أدلتهم والتوسع فيها، وكيفية استدلالهم، وتوجيهها، فلا حاجة لنا إلى التوسع فيه. وقد عرفنا أن كلا القولين -قول الجبرية وقول المعتزلة- في طرفي نقيض، وكلاهما لا يزال لهما بقية يقولون بمثل هذه الأقوال، ولا تزال أيضاً مؤلفاتهم يعنى بها وتنشر وتحقق، وينفق عليها الأموال، مع أنها سبب في ضلال كثير من الناس. ويدعون أنهم بذلك يقوون حجتهم ومعتقدهم الذي اعتقدوه، ويستدلون بأن الله تعالى يقول: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] وقالوا: هذا دليل على أن الفعل ليس للإنسان، وإنما هو لله؛ لأن الله هو الذي رمى. وقد أجاب الشارح بأن التقدير: وما أصبت الهدف ولكن الله هو الذي وفق لإصابته، فأنت الذي رميت والله هو الذي وفق للإصابة. ونحن نعرف القصة التي حصلت في غزوة بدر، والقصة التي حصلت أيضاً في غزوة حنين؛ وذلك أنه لما تواجه المشركون مع المسلمين أخذ النبي صلى الله عليه وسلم قبضة من حصباء ورمى بها في وجوه القوم، معلوم أن رميته لو كانت بمجرد قوته لم تذهب مثلاً إلا نحو عشرين متراً أو ثلاثين، ولكن هذه الرمية وصلت إلى جميعهم أو أكثرهم؛ بحيث إنها دخلت في أعينهم، ودخلت في أفواههم وأنوفهم، وأعمت عليهم الطرق، مع أنها كانت حصيات قليلة في يده رمى بها وقال: (شاهت الوجوه)، فالله تعالى هو الذي أوصلها، وهو الذي وفق لإصابتها، فمادام أن الله أثبت الرمي بقوله: (إِذْ(3/320)
رَمَيْتَ) أي: حركت يدك بتلك الحجارة وقذفتها، فهذا دليل على أن الفعل أصله من الإنسان، والله تعالى هو الذي يسدده ويوصله، وهو الذي يدفع ويحرك همة العبد إلى أن يفعل ذلك الفعل. وكثيراً ما يكون المسلمون قلة، وإذا وجهوا سهامهم إلى المشركين أصابتهم ولو كانوا بعيدين؛ لأن الله يسدد سهامهم فتصيب العدو، وأما سهام أعدائهم فإنها تخطئهم وتذهب يميناً أو يساراً ولا تصيبهم؛ لأن الله تعالى يصرفها. إذاً: من الغزاة الرمي، ومن الله التسديد والإصابة. وهذا هو معنى قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، وهذه الآية من أدلة الجبرية التي استدلوا بها. ومن أدلتهم في أن العمل ليس سبباً في دخول الجنة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) قالوا: هذا دليل على أن الأعمال ليس لها أثر، وأن الأعمال ليست هي التي تسبب دخول الجنة؛ وعلى هذا فالأعمال ليست من الإنسان، والإنسان ليس له أي عمل، وليس له عندهم حركة، بل هو مدفوع إلى هذه الحركة ومغلوب على أمره، ولا يقدر أن يحرك باختياره أي حركة، فلا يحرك إصبعاً ولا رأساً ولا لساناً ولا يداً ولا قدماً، بل هو متصرَف فيه، وتحركه إرادة الله كما تتحرك الشجرة بدون اختيارها. والجواب: أن هذا الحديث أراد به النبي صلى الله عليه وسلم أن أعمالنا وإن كثرت لا تعادل نعم الله، فنعم الله علينا كثيرة، ولو عملنا ما عملنا فإنها قليلة بالنسبة إلى ما ينعم الله به علينا، فأعمالنا لو كثرت لم تكن سبباً وحيداً في دخول الجنة، كما ورد في الحديث: (أنه يؤتى برجل قد عمل أعمالاً صالحة أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: أدخلوه الجنة برحمتي، فيقول: يا ربي، بل بعملي-أليس هذه الأعمال التي عملتها تحصل لي الجنة والثواب؟- فيقول الله: حاسبوا عبدي على نعمي، يقول الله لنعمة(3/321)
البصر: خذي حقك -يعني: من أعماله- ولنعمة السمع: خذي حقك، ولنعمة النطق، ولنعمة العقل، ولنعمة البطش، ولنعمة القوة، ولنعمة الرزق، ولنعمة العمل، ولنعمة الصحة، وتبقى نعم كثيرة كنعمة الهداية ونعمة التوفيق ونعمة الإعانة- فيقول: أدخلوا عبدي النار، فعند ذلك يقول: بل يا ربي! برحمتك). فعُرف بذلك أن العمل لا يستقل بشأن دخول الجنة إلا إذا رحم الله العباد. وإذا قيل: قد وردت أدلة في ترتب الجزاء على الأعمال وهي التي استدلت بها المعتزلة، وجعلوا عمله سبباً وحيداً في دخول الجنة، واستدلوا بقوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، وقوله: بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24] ونحو ذلك. فنقول: صحيح أن العمل سبب؛ ولكن رحمة الله مع ذلك السبب؛ فيدخل الجنة بسبب عمله، ولكن ذلك برحمة الله تعالى فهو أرحم الراحمين. وكما جاء في الحديث الذي فيه: (إن الله خلق الرحمة مائة جزء، كل جزء طباق ما بين السماء والأرض، أنزل منها جزءاً واحداً في الأرض، وبذلك الجزء تتراحم الخليقة بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة ضمه الله إلى تلك الأجزاء فيرحم بها عباده يوم القيامة)، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن واسع رحمة الله لما رأى امرأة تضم ولدها إلى صدرها وترضعه بعد أن وجدته، فقال: (أترون هذه قاذفة ولدها في النار؟ قالوا: لا، والله! وهي تقدر على تخليصه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) . فإذاً: رحمة الله للعباد أوسع لهم، كما ورد في الحديث: (لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم). فعرفنا بذلك ضعف ما استدل به هؤلاء وهؤلاء.
الرد على المعتزلة
…(3/322)
وأما استدلال المعتزلة بقول الله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، ومثلها قوله تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72] فيقولون: هذا دليل على أن الخالقين كثير، وليس الخالق هو الله وحده، لكن الله أحسنهم! فجعلوا العباد خالقين ورازقين مع الله. والجواب: أن هذا ليس بصحيح، بل الله هو الخالق وحده، كما قال عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، فالخلق خلقه، والأمر أمره، والآية وردت في سياق التكوين، ووردت في سياق الإيجاد، فيقال: إن الإنسان ليس هو الذي يخلق نفسه، وإن كان له سبب في وجود الولد بالنكاح والوطء والمباشرة، فينسب إليه أنه هو الذي تسبب في خلق وتكوين هذا الولد، ولكن الله هو الذي أنشأه، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة:58-59]، فهذا المني الذي ينصب في الرحم ليس الإنسان هو الذي يكونه، بل قدرة الله، فالله هو الذي قدر أنه يكون نطفة ثم يكون علقة ثم مضغة ثم ينشئه الله خلقاً آخر إلى أن يخرج بشراً سوياً. فإذاً: الولد من الإنسان سببه النكاح والوطء ونحوه، ومن الله تعالى الخلق والتكوين والتطوير إلى أن يخرج سوياً، فهذا معنى قوله: أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، وقد يُراد بالخالقين الذين يكونون بعض المخلوقات في الدنيا، أو يبدعون بعض الأشياء وإن كانوا مخطئين في ذلك، كما ورد في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو يخلقوا برة، أو ليخلقوا شعيرة)، بمعنى: أنهم جعلوا أنفسهم خالقين، وهم المصورون الذين يضاهون بخلق الله، فأثبت لهم إرادة في أنهم يضاهون خلق الله، ويخلقون كخلقه، ولكن لا يستطيعون أن يضاهوا وأن يشابهوا خلق الله تعالى، فالخلق الأصل هو من الله، وهو الذي خلق الأرواح، ولا يستطيعون أن يخلقوها، وهو الذي يحيي الأموات، ولا(3/323)
يستطيعون أن يحيوها، وهو الذي ينفخ فيه الروح، ولا يستطيعون ذلك، كما في الحديث: (من صور صورة كُلِّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ). إذاً: عرفنا أن المعتزلة استدلوا بقوله تعالى: أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14] على أن الخالقين كثير. والجواب: أن الخلق هو التكوين من الله تعالى، وأما الإنسان فمنه السبب، أو أنه يراد به المضاهاة. واستدل المعتزلة بترتيب الجزاء على الأعمال، بقوله تعالى: (جزاء بما كنتم تعملون) وبقوله: بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]. والجواب: أن الأعمال سبب، وليست مستقلة، وإنها هي من جملة الأسباب التي يثاب عليها العباد ويعاقبون. واستدلت الجبرية بآيتين: الآية الأولى قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] وقوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] ونحوها، في إثبات أن الإنسان ليست له أية حسبة، وليس له أي عمل، وكذلك استدلوا بقوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]. وقد عرفنا كيف نرد عليهم. واستدلوا بأن الأعمال ليست سبباً في دخول الجنة أو النجاة من النار أو دخول النار بالآية التي ذكرنا، وبالحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، وعرفنا بذلك أن أدلتهم لا تفيدهم شيئاً، وأن ترتيب الجزاء على الأعمال من ترتيب الأسباب على المسببات.
كيف يخلق الله الذنب ويعاقب عليه
…(3/324)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم، بل مزقتهم كل ممزق، وهي أنهم قالوا: كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقاً في العالم على ألسنة الناس، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته، وعنه تفرقت بهم الطرق: فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل، وسدت باب السؤال. وطائفة أثبتت كسباً لا يُعقل! جعلت الثواب والعقاب عليه. وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين، ومفعول بين فاعلين! وطائفة التزمت الجبر، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه! وهذا السؤال هو الذي أوجب هذا التفرق والاختلاف. والجواب الصحيح عنه أنه أن يقال: إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية، وإن كانت خلقاً لله تعالى، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها؛ فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضاًَ. ويبقى أن يقال: فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ يقال: هو عقوبة أيضاً على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه؛ فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة إليه، كما قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]. فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي، فإنه صادف قلباً خالياً قابلاً للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر، كما قال تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] ، وقال إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *(3/325)
إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]، وقال الله عز وجل: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:41-42]. والإخلاص: خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته، فخلص لله؛ فلم يتمكن منه الشيطان. وأما إذا صادفه فارغاً من ذلك تمكن منه بحسب فراغه، فيكون جعله مذنباً مسيئاً في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص، وهي محض العدل]. في هذا السؤال الذي يردده المعتزلة أو يردده الجبرية وهو قولهم: إذا كان الله خلق فينا المعاصي فكيف يعذبنا؟ وإذا كان الله لم يهدنا بل أضلنا فكيف يعذبنا؟ وهذا السؤال قد يكثر الذين يرددونه، وإذا نصحت أحدهم، يقول: الله ما هدانا، وإذا لم يهدنا الله فأنت لا تهدينا! وكثيراً ما يقول: الله هو الذي أضلنا أو كتب علينا ذلك، فإذا عذبنا فقد ظلمنا! أو نحو ذلك من العبارات الشنيعة البشعة. ولا شك أنا لسنا بحاجة إلى مناقشة تلك الأقوال السيئة، قد عرفنا مما ذكر الشارح أن من أقوالهم الباطلة قول من لم يجعل للعبد أي فعل ولا اختيار. وقول من جعل العبد مستقلاً. وقول من أثبت له كسباً، ولكن لا حقيقة لذلك الكسب. وقول من جعل الفعل صادراً عن فاعلين، والقدرة صادرة عن قادرين، يعني: جعلوا الفعل مكوناً من قدرتين. ونحن نقول: لا شك أن الإنسان أعطاه الله هذه القوة، وهذه الهمة، وهذه المباشرة، وهذه القدرة يزاول بها الأعمال، وتنسب إليه، ويثاب بسببها أو يعاقب، مع أنه قادر على أن يضله، وقادر على أن يعجزه، فهو الذي أمده وقواه، فلأجل ذلك تنسب الأفعال إلى الإنسان مباشرة، وتنسب إلى الله تعالى خلقاً وتكويناً وتقديراً، فيقال: هي خلق الله؛ من حيث إنه قدرها، وقوى العباد عليها، وهي أعمال العباد، من حيث إنهم باشروها، وفعلوها بأبدانهم، فنسبت إليهم، ونسبت إلى الله تعالى، ولا منافاة بين النسبتين. ثم ذكر أن الله تعالى يعاقب العباد في(3/326)
الدنيا، ويعاقبهم أيضاً في الآخرة على السيئات، فيقول الشارح: إن هذه العقوبة على الذنوب، وإن الأصل أنه عاقبهم على هذه الذنوب بذنوب أخرى، فلما أذنبوا كان من عقوبتهم بأن أذنبوا ذنباً آخر ثم ذنباً ثالثاً، ثم ذنباً رابعاً وهكذا، واستمرت فيهم السيئات وتمادوا فيها، فيكون بسبب الوقوع في هذا الذنب أن الله خلى بين العبد وبين نفسه، وخلى بينه وبين هواه، وسلط عليه أعداءه من شياطين الإنس والجن، فلما تمكنوا منه صرفوه عن الهدى، وإن كان ذلك بتقدير الله، ولما صرفوه واستحوذت عليه الشياطين كانت أعماله سيئات؛ عقوبة له على سيئة اقترفها سابقاً. وقد نقل الشارح هنا أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فإذا عمل العبد حسنة قالت الحسنة بعدها: اعملني، وإذا أتى سيئة قالت السيئة بعدها: اعملني، فيتتابع المسيئون في السيئات، والمحسنون في الحسنات. وإذا قالوا: إن السيئة الأولى عقوبة، فعلى أي شيء؟ ومادام أنه وقعت منه هذه السيئة فكيف سلطت عليه؟ وكيف خلقت فيه؟ وكيف فعلها ولم يسبقها سيئة؟ أجاب الشارح: بأنها عقوبة على ترك الإخلاص، وعقوبة على ترك الأعمال الصالحة التي أمر، وكلف بها، وما ذاك إلا أننا خلقنا لعبادة الله، فإذا انشغلنا عن هذه العبادة فذلك إما في لهو وبطالة، وإما في غفلة، وإما في إقبال على شهوات تفوت عليك الخير، فهذه الغفلة وهذه الشهوات وهذه الإضاعة للأوقات تعتبر ذنباً، فيستحق من فعله أن يقع منه ذنب آخر، عقوبة على ذلك الذنب الذي هو الترك. فالله تعالى خلق العباد لأجل أن يعبدوه وحده، وأن يشكروه، وأن يعرفوا حقه عليهم، فلما خلقهم للعبادة أمرهم بالإخلاص في قوله: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، فإذا تركوا هذه العبادة في وقت من الأوقات عد ذلك ذنباً وقع منهم، وإن لم يكن سيئة، ولكنه ترك لعمل صالح، فاستحقوا بهذا الترك أن يتسلط(3/327)
عليهم الأهواء والأعداء فيوقعونهم في الذنوب، وتتابع عليهم السيئات، وتتابع منهم. فهذا تعليل علل به العلماء في عقوبة السيئة. يعني قالوا: كيف يعاقب الله على السيئة وهو الذي خلقها؟ فأجاب: بأنه ولو كان هو الذي قدرها لكن لما كان العبد هو الذي باشرها عوقب عليها. والعقاب الذي في الدنيا معروف أنه قد يكون عقاباً حسياً، وقد يكون عقاباً معنوياً. فالعقاب الحسي هو مثل ما ذكره الله بقوله: ما أنزل الله على المعذبين: وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا [العنكبوت:40]. وأما العقوبات المعنوية على الذنوب فهي: تسليط الأعداء عليهم، وكذلك تسليط الأهواء عليهم، وحرمانهم من الطاعة، فإذا رأيت المكب على المعاصي فاعلم أنه معاقب، وأن حرمانه من طاعة الله عقوبة، وإذا رأيت المنهمك في الشهوات الذي فوت الأوقات فاعلم أنها عقوبة له، وإذا قال: أنا ما أذنبت ولا كفرت ولا عصيت! فكيف يعاقبني بأن يوقعني في هذه المصائب وهذه الذنوب؟ فنقول له:أولاً: إنك أذنبت بغفلتك؛ حيث أضعت وقتاً ثميناً في الغفلة. ثانياً: لتركك العمل، وكان الواجب عليك أن تشغل وقتك بأعمال صالحة وبحسنات، فلما لم تفعل كنت مذنباً، وكان عقوبة هذا الذنب أن توالت عليك الذنوب، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذنوب تؤثر في القلوب وتعميها وتصدها عن الهدى، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أذنب العبد ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع صقل قلبه، فإن عاد عادت، حتى يعلوه السواد، وذلك الران: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].) فإذا غلبه هذا السواد الذي هو بسبب المعاصي عند ذلك تثقل عليه الطاعات، وتخف عليه المحرمات. هذا تلخيص ما ذكره الشارح من أن عقوبة السيئة السيئة بعدها، والله أعلم. ......
…
شرح العقيدة الطحاوية [71](3/328)
الله تعالى خالق كل شيء، ومن ذلك خلقه لأفعال العباد خيرها وشرها، ولكن الشر لا ينسب إلى الله تعالى، وقد خالف في ذلك القدرية، ورد عليهم العلماء بما يبطل شبهاتهم.
مجمل ذكر المذاهب الموافقة والمخالفة في باب القدر
…
من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، ويدخل في القدر الإيمان بعموم قدرة الله تعالى، وأنه على كل شيء قدير. ويدخل في قدرة الله تعالى أنه قادر على أن يعذب من يشاء، وقادر على أن يرحم من يشاء، وقادر على أن ينتقم من الظلمة ويهلكهم في أسرع وقت، وقادر على أن يرحم عباده، وأن يبسط لهم الرزق، وقادر على أن يعمم فضله على القاصي والداني، وقادر على أن يحرم هذا ويهلكه، وقادر على أن يغير هذا الكون، وأن يبدل هذه المخلوقات؛ إذ لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن قدرته شيء. كذلك أيضاً لا يكون في الوجود شيء إلا بإرادته وبعد قدرته وبعد أن يشاء ذلك ويقدره، فلا يكون فسوق ولا طاعة ولا معصية ولا هداية ولا ضلال ولا كفر ولا إيمان ولا طاعة ولا عصيان إلا بعد أن يشاء الله ذلك، كما قال عز وجل: لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرعد:31]، وقال: إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ [الشورى:33]، وقال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء:4] ولكن اقتضت حكمته أن يضل أناساً بعدله، فضلوا سواء السبيل، ومنَّ على آخرين بفضله، فاهتدوا إلى سواء الطريق، وأولئك داخلون تحت قدرته، وهؤلاء كذلك؛ لأن الجميع عبيده وتحت تصرفه، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويعطي ويمنع، ويصل ويقطع، ويخفض ويرفع، لا معز لمن أذل، ولا مذل لمن أعز، ولا خافض لمن رفع، ولا رافع لمن خفض، بيده الأمر، وبيده الخير، وهو على كل شيء قدير. ولا شك أيضاً أنه يدخل في ذلك حركات العباد وأفعالهم؛ فهو الذي أعطاهم القوة، وهو الذي بعث هممهم، ولو شاء لما عصوه ولما أطاعوه؛ إذ كل ذلك بمشيئته وقدرته، فإن(3/329)
أطاعوه فبفضله؛ فهو الذي منَّ عليهم حتى أطاعوه، وإن عصوه فبعدله إذ فهو الذي خذلهم حتى عصوه. وذكر المؤلف أن في هذا خلافاً بين ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: هم الجبرية الذين غلوا في نفي قدرة العبد، وجعلوا حركته كحركة الأشجار، ولم يجعلوا له أي اختيار، واستدلوا بقول الله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] وقالوا: العبد ليس له أي فعل. ورد عليهم: بأن الله تعالى أثبت الرمي لنبيه، فدل على أن منه الرمي وعلى الله الإصابة. والطائفة الثانية: هم القدرية الذين أنكروا قدرة الله على أفعال العباد، وجعلوا العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وليس لله قدرة على هداية هذا، ولا إضلال هذا، ولا خذلان هذا، ولا توفيق هذا، فجعلوا العبد أقدر من الله، وجعلوا قدرته تفوق قدرة الخالق! تعالى الله عن قولهم، فجعلوا مع الخالق من يخلق، وهؤلاء يقال لهم: مجوس هذه الأمة. الطائفة الثالثة: أهل السنة الذين توسطوا، فجعلوا للعبد قدرة وإرادة، ولكنها مسبوقة بقدرة الله وإرادته، ومغلوبة بها، فإذا أراد الله هداية عبد وفقه وأطلق جوارحه واختار الفعل الطيب، فأصبح مطيعاً مؤمناً. فتنسب إلى العبد الطاعات والمعاصي؛ لأن له اختياراً؛ ولأن له فعلاً؛ ولأن له قدرة زاول بها الأعمال، وتنسب إلى الله لأنه هو الذي أقدره عليها، وهو الذي رزقه القوة، ورزقه التوفيق، وأقبل بقلبه. وكذلك المعصية تنسب إلى الله؛ لأنه هو الذي قدرها ولو شاء لما حصلت، وتنسب إلى العبد لأنه هو الذي باشرها وفعلها. فجميع الحركات من الله تعالى إيجاداً وتكويناً، ومن العبد فعلاً ومباشرة، فعلى هذا لا يكون هناك من يشترك في خلق الفعل وإيجاده، بل الله هو الذي مكن العبد حتى فعله، وأظهره، والعبد هو الذي باشره، فتنسب إليه المباشرة، فلا يكون هناك اختلاف، ولا يكون هناك إجبار ولا إنكار لقدرة الله تعالى، هذا هو القول الوسط. ......(3/330)
حكم إضافة الشر إلى الله عز وجل، وذكر المخالفين في ذلك
…
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قلت: فذلك العدم من خلقه فيه؟ قيل: هذا سؤال فاسد؛ فإن العدم كاسمه لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به، فإن عدم الفعل ليس أمراً وجودياً حتى يضاف إلى الفاعل، بل هو شر محض، والشر ليس إلى الله سبحانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاستفتاح: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) وكذا في حديث الشفاعة يوم القيامة حين يقول له الله: (يا محمد! فيقول: لبيك وسعديك والخير بيديك والشر ليس إليك) وقد أخبر الله تعالى أن تسليط الشيطان إنما هو: عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100]. فلما تولوه دون الله وأشركوا به معه عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم، وكانت هذه الولاية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص، فإلهام البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته، وإلهام الفجور عقوبة على خلوه من الإخلاص. فإن قلت: إن كان هذا الترك أمراً وجودياً عاد السؤال جذعاً، وإن كان أمراً عدمياً فكيف يعاقب على العدم المحض؟ قيل: ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عمّا تريده وتحبه، فهذا قد يقال: إنه أمر وجودي، وإنما هنا عدم وخلو من أسباب الخير، وهذا العدم هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها، والعقوبة على الأمر العدمي هي بفعل السيئات، لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل، فلله فيه عقوبتان: إحداهما: جعله مذنباً خاطئاً، وهذه عقوبة عدم إخلاصه وإنابته وإقباله على الله، وهذه العقوبة قد لا يحس بألمها ومضرتها؛ لموافقتها شهوته وإرادته، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات. الثانية: العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات، وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] فهذه العقوبة(3/331)
الأولى، ثم قال: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44] فهذه العقوبة الثانية. فإن قيل: فهل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له منيبين إليه محبين له؟ أم ذلك محض جعله في قلوبهم وإلقائه فيها؟ قيل: لا، بل هو محض منته وفضله، وهو من أعظم الخير الذي هو بيده، والخير كله في يده، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه. فإن قيل: فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم عاد السؤال، وكان منعهم منه ظلماً، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]. قيل: لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالماً، وإنما يكون المانع ظالماً إذا منع غيره حقاً لذلك الغير عليه، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه، وأوجب على نفسه خلافه. وأما إذا منع غيره ما ليس بحق له -بل هو محض فضله ومنَّته عليه- لم يكن ظالماً بمنعه، فمنع الحق ظلم، ومنع الفضل والإحسان عدل، وهو سبحانه العدل في منعه، كما هو المحسن المنان بعطاءه. فإن قيل: فإذا كان العطاء والتوفيق إحساناً ورحمة فهلا كان العمل له والغلبة، كما أن رحمته تغلب غضبه؟ قيل: المقصود في هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع، والمنع المستلزم للعقوبة ليس بظلم، بل هو محض العدل]. هذه مناقشات لاعتراض المعتزلة الذين ينكرون قدرة الله على أفعال العباد، ويوردون هذه الشبهات ليلبسوا بها على غيرهم. والشر لا يضاف إلى الله تعالى على أنه شر، بل كل أفعال الله تعالى خير، ولو كان عقوبات، ولو كان إهلاكاً أو انتقاماً؛ فلا يقال: إنه شر، ولا يقال: إنه ضرر، بل هو خير بالنسبة إليه سبحانه وتعالى. وإذا تتبعنا الأدلة وجدنا أن الله تعالى لا(3/332)
يضيف الشر إلى نفسه، ولكنه يذكره على صيغة المبني للمجهول، كما في قول الله تعالى حكاية عن مؤمني الجن أنهم قالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن:10] فالشر قالوا: (( أريد بمن )) ولم يقولوا: أراده الله؛ وذلك لأن الشر المحض لا ينسب إلى الله، وأما الخير فأفصحوا بأنه من الله فقالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن:10]. فدل على أن كل ما يصدر من الله فهو خير، فالصواعق التي تنزل والأمراض التي تحدث بتقدير الله والجدب والقحط الذي يصيب الكثير من البلاد لا يقال إنه شر، بل هو خير بالنسبة إلى الله؛ وذلك لأنه قدره لعاقبة حسنة، قدره لينبه عباده على عزته وقدرته، ولينبههم على خطئهم وذنبهم، وأنه غير ظالم لهم، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لم يكن ظالماً لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته أعظم من طاعاتهم، ومما يستحقونه. إذا:ً كل ما يحدث فهو بتقدير الله، ولكن لا ينسب الشر إلى الله. وكما ذكر في التلبية المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك) فجعل الخير كله من الله وبيده، والشر ليس إلى الله، ولذا قال: (الشر ليس إليك)، أي: لا ينسب إلى الله، ولو كان هو الذي قدره وشاءه ولكن لا نسميه شراً بالنسبة إلى إحداث الله له، بل هو خير؛ حيث إنه سبحانه وتعالى ما أراد إلا الخير، وما أراد بعباده إلا أن ينبههم، فإن كانوا عصاة سلط عليهم قحطاً أو مرضاً فذلك خير؛ لأنه ينبههم حتى ينتبهوا لمعصيتهم، ويعلموا أن ما أصابهم فهو عقوبة لهم؛ فينتبهوا ويتوبوا. وإن كانوا مطيعين علموا أن ذلك ابتلاء وامتحان وتنبيه لهم؛ ليكون ذلك زيادة في حسناتهم، جميع ما يحدث ويقدره الله في الكون فهو خير إذا صدر من الله تعالى. ومعلوم أيضاً أنه سبحانه هو الذي يكون الكائنات ويقدرها، وأنه يعاقب العباد بما يستحقون، وقد يعفو(3/333)
عنهم، وتكون عقوباته على نوعين: عقوبة ظاهرها أنها نعمة، وهي محنة وامتحان واختبار. وعقوبة يظهر فيها أنها عذاب وألم، والكل قد يُسمى عقوبة، ولا يكون ذلك إلا إذا خالفوا ما كلفهم به، فإذا وجه الله إليهم الأوامر وبين لهم، ولكنهم خالفوا وارتكبوا المعاصي عاقبهم بعقوبتين، كما في قول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] هذه نعمة ولكنها محنة؛ والمعنى: أنا فتحنا عليهم الأرزاق ويسرنا لهم الأسباب، وقويناهم، وأعطيناهم الأموال والأولاد، والأمن والرخاء، وكثرة النعم، وكثرة الخيرات، فازدهرت لهم الدنيا، وضحكت لهم حياتهم، وأعجبوا بما أصابوا وانخدعوا واغتروا، وظنوا أن ذلك كرامة، وظنوا أن ذلك منحة، وقالوا: هذا بسبب أعمالنا، وهذا ما نستحقه، وهذا كرامة لنا! فعند ذلك يطغون ويبغون، ويتكبرون ويتجبرون، ويكفرون بنعم الله، ويستعينون بها على ارتكاب المحرمات والمعاصي، وكل ذلك بتقدير من الله تعالى، ولو شاء الله لهداهم، ولكنه خلى بينهم وبين أنفسهم وأهوائهم، فاختاروا الضلال، فحقت عليهم هذه الكلمة، فعند ذلك تنزل عليهم العقوبة الثانية: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44] فأخذهم الله على حين غرة وغفلة. ......
الحكمة في عدم إيمان جميع الخلق
…(3/334)
ولذا أجاب الشارح على الذين قالوا: لماذا خلق الله فيهم عدم الإيمان؟ بأنه ليس العدم شيئاً. وكذلك قولهم: لماذا لم يساو بينهم فيهديهم كلهم، ويعطيهم العقول التي تهديهم إلى الخير؟ فأجاب: بأنه سبحانه له الحكمة؛ حيث إنه خلق دارين: داراً للنعيم، وداراً للجحيم، دار ثواب، ودار عقاب. ولو سوّى بينهم في الاختيار والهداية لتعطلت إحدى الدارين، فمن حكمته أن جعل أهواءهم تختلف، فمنهم من اختار الهدى، ومنهم من اختار الضلالة، فمنهم من حقت عليه كلمة العذاب، ومنهم من اختار أسباب الثواب. ولا يقال إنه ظلم هؤلاء حيث لم يوفقهم، بل يقال: إنه خلى بينهم وبين أنفسهم، وإنه لم ير هؤلاء أهلاً لنعمته، ولا أهلاً لرحمته، ولا أهلاً لحكمته، بل رأى أن فيهم من الطبع ومن الميل إلى الهوى ما لا يكونون معه أهلاً للفضل. وأنت تشاهد -مثلاً- أبناء رجل واحد أو أهل بيت واحد، أي: أن تربيتهم تربية واحدة، ويتعلمون في مدرسة واحدة، ويربيهم أب واحد وأم واحدة، وكذلك يقرءون مناهج واحدة، ومع ذلك إذا كبروا فإنهم يتفاوتون، فمنهم من يميل إلى الخير ويؤثره ويحبه؛ بحيث إنه يعمل الصالحات ويتقبلها، ومنهم من هو ضد ذلك، بحيث يميل إلى الشر، ويميل إلى البطالة وإلى المعصية والضلالة. فتقول: لماذا حصل هذا التفاوت؟ أليست تربيتهم واحدة وتعليمهم وتثقيفهم سواء؟ يقال: بلى، ولكن هؤلاء كتب الله لهم السعادة، وهؤلاء كتب عليهم الشقاوة.. هؤلاء خذلهم، وهؤلاء هداهم ووفقهم، والجميع لم يظلمهم، كما قال تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] فكونه لم يوفق هؤلاء إنما هو بسبب أنه لم يرهم أهلاً لذلك، بل علم أن طبعهم وميلهم وعقولهم منتكسة ليست أهلاً لأن تستحق الهدى، فخلى بينهم وبين أنفسهم، فانخذلوا، وخرجوا عن الطواعية والاستقامة، بخلاف أولئك. مع أننا نؤمن بأن هناك أسباباً جعلها الله مؤثرة في هذه الدنيا، والسبب الوحيد في هداية الإنسان هو توفيق الله له، وإعطاؤه(3/335)
قابلية للحق، وميلاً إليه، وأن يقذف الله في قلبه محبة للدين ولأهله، هذا هو السبب الأصل، ثم هناك أيضاً أسباب أخرى. ولا شك أن تنشئة الوالدين جعلها الله سبباً: إما سبباً للخير أو سبباً للشر، فإذا كان الوالد محباً للخير فربى أولاده على العلم، وعلى الدين، وعلى الصلاة، وعلى التقوى، وعلمهم كل شيء ينفعهم، كان ذلك سبباً في الهداية والاستقامة، وإن كان قد يتخلف في بعضهم. وكذلك إذا أراد الله بعبده الخير ووفقه بجليس صالح، وأصدقاء صالحين يهدونه ويدلونه، ويأخذون بيده إلى سبيل النجاة، ويبينون له الخير، ويحثونه على فعله، كان ذلك أيضاً من الأسباب للهداية والاستقامة. فبكل حال نحن لا ننكر أن يكون هناك أسباب لها تأثير، لكن ذلك كله تقدير العزيز العليم؛ حيث جعل قلب العبد يميل إلى هذا، أو يميل إلى هذا. مع أن تلك الأسباب قد تفعل مع الشخص الآخر، ولكن لا تزيده إلا عتواً ونفوراً، فأنت -مثلاً- قد تدعو إنساناً وتبذل له الأسباب فتعطيه نصائح، وترشده، وتخوفه، وتهدي إليه كتباً ونشرات وأشرطة مفيدة، فيسمعها ويهتدي ويتقبل بعد أن كان جاهلاً، أو بعد أن كان تائهاً ضالاً، أو بعد أن كان عاصياً عاتياً. وتأتي إلى أخيه أو زميله وتعمل معه ذلك العمل فتأتي وتنصحه وتحذره وتخوفه، ولكن لا يتقبل، بل لا يزيده ذلك إلا عتواً ونفوراً ، بل يزيده ذلك احتقاراً لمن يدعوه إلى الخير، وتنقصاً لأهل الخير، وازدراءً وتصغيراً لشأن الدعاة إلى الله، ويرى نفسه أفضل منهم. فأنت أديت ما عليك إلا أن هذا منّ الله عليه وأقبل بقلبه، وهذا خذله وخلى بينه وبين نفسه وسلط عليه أعداءه، فاحتوشوه وتمكنوا من قيادته حيث يشاءون، فلم تنفع فيه الحيل، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعاً. قال المؤلف رحمه الله: [وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحالّ؟ وهلا سوى بين العباد في الفضل؟ وهذا السؤال حاصله: لم َتفضّلَ على هذا ولم يتفضلْ على الآخر؟(3/336)
وقد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]، وقوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:29]. ولما سأله اليهود والنصارى عن تخصيص هذه الأمة بأجرين وإعطائهم هم أجراً أجراً، قال: هل ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء. وليس في الحكمة إطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد حتى أبصر طرفاً يسيراً من حكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه وتخصيصه وحرمانه، وتأمل أحوال محالّ ذلك، استدل بما علمه على ما لم يعلمه. ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص قالوا: أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53] قال تعالى مجيباً لهم: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53]، فتأمل هذا الجواب! ترَ في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة، فتثمر بالشكر، من المحل الذي لا يصلح لغرسها، فلو غرست فيه لم تثمر، فكان غرسها هناك ضائعاً لا يليق بالحكمة، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124]]. فهذا المعنى قد ذكرنا ما يدل عليه، وقد عرفنا أن الرب سبحانه وتعالى هو الحكيم، الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، وأنه من حكمته قسم خلقه إلى سعيد وشقي، وعلم من هو أهل للتقوى فوفقه، ومن هو أهل للشقاء فخذله: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49]. فله الحكمة في أمره ونهيه، وله الحكمة في خلقه وتدبيره، وكذلك له الحكمة في هدايته وإضلاله، وفي توفيقه وخذلانه، يهدي من يشاء فضلاً، ويضل من يشاء عدلاً. وفضله سبحانه على عباده كلهم،(3/337)
ففضله على الناس كلهم حيث خلقهم في أحسن تقويم، وحيث رزقهم وحيث أنعم عليهم، وأعطاهم ما يعيشون به: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] فهذا هو الفضل العام الذي عممه على جميع الخلق.
الفضل الخاص حقيقته ومعناه
…
وأما الفضل الخاص فهو الهداية والتوفيق والمنة على العبد، يختص برحمته من يشاء ولا يعاتب على تخصيصه، فلا يقال: لماذا خصّ هذا بالهداية دون هذا؟ كما لا يقال: لماذا أغنى هؤلاء وأفقر هؤلاء؟ ولا يقال: لماذا أصح هذا وأمرض هذا؟! ولا يجوز الاعتراض على تصرف الله تعالى، فلا يقال: فلان لا يستحق أن يبتلى! ولا يستحق أن يمرض! ولا يستحق أن يستقيم! بل الأمر بيد الخالق سبحانه، فله الحكمة أن هدى هؤلاء وأضل الآخرين، وأنعم على هؤلاء وخذل غيرهم، وأصح هذا وأمرض هذا، وأعطى هذا ومنع هذا. الآيات التي ذكر الشارح ظاهرة الدلالة في أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من خلقه. الفضل: هو العطاء والنعمة، وهو بيد الله سبحانه يؤتيه من يشاء ويمنعه من يشاء. وليس الفضل خاصاً بالمال، ولا بالشهوات، ولا بالنعم، ولا بالخيرات، ولا بالمال والبنين، بل الفضل في الأصل هو الهداية والإلهام والتوفيق للعبادة، وللإيمان الصادق، قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21] فلا يعترض على الله في أن خص بالفضل قوماً دون قوم. ولما قال المكذبون لرسلهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [إبراهيم:10-11] لا شك أن هدايته لهم منة عليهم، والله عزوجل له المن وله الفضل، كما دعا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة: (لا إله إلا(3/338)
الله له النعمة وله الفضل وله المن وله الثناء الحسن). فالفضل يعني: العطاء والهداية والتوفيق، والمن يعني: امتنان الله على خلقه، يمتن عليهم بما يشاء، بمعنى: أن له المنة عليهم بالإعطاء والتفضل. فإذاً الله سبحانه يعطي هؤلاء دون هؤلاء ولا يقال: إنه ظلم هذا دون هذا! فمثلاً: قد يعظم أجر هذا ويضاعف له الحسنات أكثر من غيره، لماذا؟ الله أعلم، لا شك أنه رآه أهلاً. نتذكر قول الله تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [الأحزاب:30-31] فتخصيصهن أن لهن الأجر مرتين زيادة على غيرهن، ذلك فضل الله، لكن بالمقابل إذا أتت إحداهن بذنب فإنها تعاقب ويضاعف عليها العذاب ضعفين؛ وذلك لأنها ذات منزلة وذات فضيلة، فلا يليق بها أن تفعل الذنب الذي تلام عليه. فإذاً تخصيص بعض عباده في مضاعفة الثواب فضل منه ومنة، مع أنا نعرف أن جميع الخلق كلهم سواسية بالنسبة إلى الله سبحانه، ليس بينه وبين خلقه حسب ولا نسب، ولا يعطي هؤلاء لكونهم ذوي شرف وذوي فضيلة، ولا يمنع هؤلاء لكونهم ذوي منزلة ساقطة أو نسب دنيء أو نحو ذلك. فرب شخص يكون من أشراف الناس، ومن مشاهيرهم، ومن أفاضلهم، ومن ذوي النسب الرفيع، ومع ذلك يكون بعيداً عن الخير، بعيداً عن الهداية. وآخر يكون من ذوي النسب الساقط الذي لا يؤبه له، ولكن يكون ذا فضل ومنزلة ورفعة وشرف؛ وذلك بالتقوى، ولذلك يقول بعضهم: ألا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم ويقول آخر أيضاً: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك الشقي أبا لهب فأبو لهب من أشراف قريش وضعه الشرك، وسلمان من(3/339)
فارس ليس من العرب، ومع ذلك رفعه الإسلام. وهذا لا شك أنه محض عطاء من الله وفضل، وقد ذكرنا أن لذلك أسباباً، وأن من أسباب الهداية: كون العبد يرغب إلى ربه، ويسأله، ويرفع إليه أكف الضراعة، ويتملقه، ويدعوه بأوقات الإجابة، يسأله هداية قلبه وهداية روحه وهداية فطرته، يسأله الإقبال بقلبه إلى ربه، فالدعاء من أفضل الأسباب، إذا رأيت في قلبك شيئاً من القسوة، ورأيت في قلبك إعراضاً عن الخير وكراهية، سألت ربك أن يلينه حتى يتقبل الموعظة وأن يقبل على فعل الخير. وإذا رأيت من نفسك تثاقلاً عن الطاعة، سألت ربك ورغبت إليه أن يهديك وأن يعينك على الطاعة، فذلك سبب، والله تعالى جعل لأحكامه وجعل لقضاياه وما قدره أسباباً مشاهدة فهذا منها. ومن الأسباب: كثرة العبادات، وكثرة الطاعات، فالعبد إذا أكثر من الحسنات وأكثر من القربات كانت سبباً في محبته للخيرات، وفي بغضه للسيئات: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] إن الحسنة تجر إلى أختها، والسيئة تجر إلى مثلها، فهذه بلا شك أسباب. كما أن للشقاوة أسباباً وللضلالة أسباباً، بعد خذلان الله وبعد تخليته بينه وبين نفسه، فلا شك أن كثرة المعاصي تقسي القلوب، ولا شك أن الإعراض عن العبادات والإعراض عن الأذكار تقسيها وتصدها عن الخير، وتثقل عليها الطاعات. فلا شك أن للهداية أسباباً وللضلالة أسباباً، والجميع كله داخل تحت إرادة الله تعالى، وتحت مشيئته وتقديره، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
شرح العقيدة الطحاوية [72]
فعل العبد هو خلق الله وكسب العبد، ولكن القدرية غلوا في النفي، والجبرية بالغوا في الإثبات حتى جعلوا فعل العبد من قبيل الإجبار، وكلتا الطائفتين في طرفي نقيض، وقد هدى الله أهل السنة إلى الحق.
مقدمة في فعل العبد وقدرته وأنها من الله سبحانه وتعالى
…(3/340)
نحمد الله على ما أولى من النعم، ودفع من النقم، نحمد الله على أن من علينا بفضله ومنّ علينا بعطائه ومد في آجالنا، وبلغنا آمالنا، ونحمده على أن هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ونحمده سبحانه أن من علينا بالفطرة الحسنة، وبالشريعة الإسلامية، وبالعقيدة السنية، وبالطريقة المحمدية، وبالهداية إلى الصراط المستقيم، الذي من سلكه فاز ونجا، ومن حاد عنه تردى وهلك، نحمد الله أن جعلنا من أهل السنة، وأن حمانا وحفظنا من البدع والمنكرات والمحدثات التي تخالف السنة وتنافي الشريعة الدينية. لا شك أنها نعمة عظيمة، لا شك أنها من أكبر النعم، حيث وفقنا الله تعالى أن كنا من أهل السنة، أن عرفنا طريق النجاة، سبل السلام، الطريق السوي، الصراط المستقيم، وحرم ذلك خلقاً كثيراً، هناك الكثير من الدول ومن القبائل ومن الأمم لا يعرفون الإسلام، ولا يدينون به، بل يرونه عائقاً قاطعاً لهم عن السير في هذه الحياة التي هي غاية مطلبهم، والتي هي نهاية مقصدهم. وهناك فئام من الناس يدينون بعقائد ضالة يدعون أنها أهدى سبيلاً، وأقوم طريقاً، وأنهم على سبيل النجاة، وأنهم تفوقوا على المسلمين، ودانوا بطريقة وبسنة وشريعة أهدى من الشريعة الدينية. وهناك فئام ودول وقبائل وخلق كثير ينتسبون إلى الإسلام، ولكن ما معهم من الإسلام إلا مجرد الاسم؛ لأن عقائدهم تخالف العقيدة الإسلامية، وكذلك أعمالهم تخالف ما يدعو إليه الإسلام، فهم على شفا جرف هار، فهؤلاء حريٌ أن يموتوا وهم على تلك البدع وتلك المعاصي والمنكرات، فيكونون من أهل العذاب والعياذ بالله. وهناك فئام وأمم كثيرة يتسمون بأنهم مسلمون، ولكن معهم محدثات ومنكرات وبدع يصور لهم الشيطان ويملي لهم، ويزين لهم أنهم على الحق والهدى، وأنهم أهدى سبيلاً من أهل السنة والجماعة، ويفتخرون بتلك الأسماء التي ينتحلونها وينتمون إلى قادتهم وأئمتهم، وهم يعتقدون أنهم على حق، ولكنهم على باطل، ولم(3/341)
يقبلوا هدى الله، ولم يقبلوا الدليل، ولم ينيبوا إلى الشريعة، بل زين لهم أن تلك النحل وتلك البدع هي التي من تمسك بها فهو على السنة، فجعل السنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقاً. وهذا بلا شك من انتكاس البصائر، ومن عمى القلوب والعياذ بالله. وهناك الكثير ممن يدينون بالسنة وينتسبون إلى أهل السنة والجماعة، ولكن زين لهم الشيطان بعض الذنوب، فوقعوا في المعاصي، ووقعوا في المخالفات وإن لم تكن مكفرات ولا بدعيات، ولكنها في الحقيقة ذنوب عظيمة، أصروا واستمروا عليها، واستحلوها وأتوا بها جهاراً وإسراراً، فقضوا أعمارهم وهم على تلك المعاصي وعلى ارتكاب تلك الكبائر، ولا شك أنهم إذا لم يتوبوا ولم يتب الله عليهم، استحقوا من العذاب بقدر ذنوبهم وسيئاتهم، وأنهم على خطر عظيم. وهناك أيضاً آخرون لم يخالفونا في المعتقد، ولم يرتكبوا كبائر الذنوب، ولكنهم استمروا على الصغائر، فاحتقروها وتهاونوا بها، واستمروا عليها طوال حياتهم، والاستمرار على الصغيرة والإصرار عليها يصيرها كبيرة. لا شك أن هذه الأقسام كلها موجودة، ولكن أشدها الذين ليسوا على دين ولا شريعة، بل لا يعترفون بالله رباً، ولا بالشريعة الإسلامية أو غيرها ديناً. فإذاً ما دام أن الله قد نجانا من هذه الأخطار كلها، وهدانا إلى الحق، فليكن ذلك حافزاً على أن نتعلم الطريقة السنية، نتعلم السنة النبوية، حتى إذا عرفناها تمسكنا بها حق التمسك، وحتى نرد على كل من يخالفنا سواء كانت المخالفة في الأصول أو الفروع، وهذا هو -والحمد لله- ما نقوم به، وما نتلقاه في الخطب وفي الإذاعات وفي القراءات وفي الحلقات العلمية، وفي المحاضرات وفي الدروس اليومية والأسبوعية، كل ذلك إن شاء الله من الأسباب التي يفتح الله بها على عباده وينجيهم. وكذلك ما يمر علينا في هذا الكتاب الذي نقرؤه على عقيدة أهل السنة الذين ألفوها واجتهدوا في تأليفها، ونصحوا بها الأمة حتى يبينوا لهم ما هم(3/342)
عليه وما يفعلونه وما يحذرونه. وقد وصلنا إلى مباحث القضاء والقدر، ومباحث الأمر والنهي، والتكاليف، وقدرة العباد على أفعالهم، أو ما أشبه ذلك. وهي لا شك من المسائل الصعبة، من المسائل العسيرة التي تحتاج إلى تعقل، والتي خالف فيها الخلق الكثير، والتي ولدوا فيها شبهاً، وولدوا فيها تشكيكات تبرر لهم بزعمهم ما هم عليه من القول بالجبر، أو من القول بإنكار القدرة الإلهية، ولكن قيض الله لهم أهل السنة فبينوا لهم ما هم فيه من الحيرة، وأجابوا عما ولدوه من الشبه، وبينوا الجواب الصحيح لمن انحرف عن السنة والجماعة. وإذا تأمل القارئ هذه الشبهات التي يولدونها، وعرف جوابها الصحيح من أهل السنة قنع بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أمر العباد ونهاهم، وقنع بأنه ما أمرهم إلا وهم قادرون على تنفيذ ما أمر به. وقنع بأنهم لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه، وأنه تعالى أعطاهم ومكنهم وقواهم وجعل لهم استطاعة يزاولون بها الأعمال من طاعات ومعاص، كما يتسببون بها في تحصيل أسباب الرزق، وكل ذلك لا يخرج عن قدرة الخالق. فله القدرة وله الاستطاعة الغالبة لكل قدرة، ولكنه سبحانه لما أعطاهم هذه القدرة نسبت إليهم، وأصبحوا هم المزاولين للأعمال، فهم الذين يصلون ويصومون ويزكون ويتصدقون، وهم الذين يؤمنون ويسلمون ويحسنون ويقبلون ويتعبدون، ويثابون عليها، كما أنهم الذين يسرقون ويزنون ويسكرون ويرابون ويرشون ويعصون ويفعلون المحرمات ويعاقبون عليها. وإن كان الله تعالى هو الذي قدر ذلك كله في هذا الكون، وهو الذي مكن لهؤلاء وأعطاهم هذه القدرة التي زاولوا بها الطاعات، أو زاولوا بها المعاصي: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]. ......
حقيقة فعل العبد لفعله مع كونه مخلوقاً لله سبحانه
…(3/343)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: إذا حكمتم باستحالة الإيجاد من العبد، فإذاً لا فعل للعبد أصلاً، قيل: العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة حقيقة، قال الله تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [البقرة:197] وقال تعالى: فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [هود:36] وأمثال ذلك. وإذا ثبت كون العبد فاعلاً، فأفعاله نوعان: نوع يكون منه من غير اقتران قدرته وإرادته، فيكون صفة له ولا يكون فعلاً، كحركات المرتعش. ونوع يكون منه مقارناً لإيجاد قدرته واختياره، فيوصف بكونه صفة وفعلاً وكسباً للعبد، كالحركات الاختيارية. والله تعالى هو الذي جعل العبد فاعلاً مختاراً، وهو الذي يقدر على ذلك وحده لا شريك له، ولهذا أنكر السلف الجبر، فإن الجبر لا يكون إلا من عاجز، فلا يكون إلا مع الإكراه، يقال: للأب ولاية إجبار البكر الصغيرة على النكاح، وليس له إجبار الثيب البالغ، أي: ليس له أن يزوجها مكرهة. والله تعالى لا يوصف بالإجبار بهذا الاعتبار؛ لأنه سبحانه خالق الإرادة والمراد، قادر أن يجعله مختاراً، بخلاف غيره. ولهذا جاء في ألفاظ الشارع: (الجبل) دون (الجبر) كما قال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس : (إن فيك خلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة. قال: أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما؟ قال: بل خلقين جبلت عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله). والله تعالى إنما يعذب عبده على فعله الاختياري، والفرق بين العقاب على الفعل الاختياري وغير الاختياري مستقر في الفطر والعقول. وإذا قيل: خلق الفعل مع العقوبة عليه ظلم، كان بمنزلة أن يقال: خلق أكل السم، ثم حصول الموت به ظلم، فكما أن هذا سبب للموت، فهذا سبب للعقوبة، ولا ظلم فيهما. فالحاصل أن فعل العبد فعل له حقيقة، ولكنه مخلوق لله تعالى، ومفعول لله تعالى، ليس هو نفس فعل الله، ففرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق. وإلى(3/344)
هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: (وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد)، أثبت للعباد فعلاً وكسباً، وأضاف الخلق إلى الله تعالى، والكسب: هو الفعل الذي يعود على فاعله منه نفع أو ضرر، كما قال تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]]. ......
نسبة الأفعال بأنواعها للعبد وقدرته عليها
…
وهذا الكلام قد تكرر وقد اتضح معناه والحمد لله، وهو معرفة أن الله سبحانه وتعالى أثبت للعباد أفعالاً، قال الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29] وأثبت أيضاً جزاءهم على تلك الأفعال، فيقول مثلاً: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، نسب الفعل إليهم، فهم الذين يفعلون، وهم الذين يعملون، وهم المؤمنون والمسلمون والمحسنون، كما أنهم إذا خالفوا وصفوا بأنهم الفاسقون، والكافرون، والخاسرون، والظالمون، فتنسب المعاصي إليهم، وتنسب الطاعات إليهم، لماذا؟ لأنهم هم الذين زاولوها؛ لأنهم الذين باشروا فعلها ظاهراً. فأنت تشاهد المصلي فتقول: هذا يصلي، هذا يركع ويسجد، ولا تقول: هذا مجبور على الصلاة، ولا تقول: هذا مجبور على النفقة، بل تقول: هذا ينفق أو يتصدق باختياره، فالصدقة منه تنسب إليه ويطيع ويمتثل أمر الله له في الآيات كما في قوله: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7] وفي قوله: أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:254]. كما ينسب إليه فعل العبادات في قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمْ [البقرة:21] أليس ذلك دليلاً على أنهم قادرون؟! أيأمر الله العجزة؟! لا يمكن أن يأمر من لا يقدر؛ فإنه لا يكلف نفساً إلا وسعها. والناس بعقولهم يعرفون الفرق بين العاجز والقادر، فلا يقال مثلاً للمقعد احمل هذا الكيس إلى البيت الفلاني؛ لأنه مقعد لا يستطيع أن يقوم فضلاً عن أن يحمل، ولا يقال مثلاً للأعمى: اكتب هذه الرسالة؛ لأنه معذور لا يستطيع، وليس في إمكانه أن(3/345)
يكتبها كغيره، كما لا يقال مثلاً لكل عاجز: افعل هذا الفعل وهو ليس من أهله. إذاً فالله تعالى عندما قال: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ [التوبة:105] لا شك أنه أمرمهم لكونهم قادرين على أن يعملوا، ولأجل ذلك يثابون على أعمالهم وعلى تنافسهم وعلى مسابقاتهم، وتنسب إليهم خلافاً للمجبرة؛ لأنهم باشروها، ويوصفون بها، الله تعالى يقول مثلاً: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المؤمنون:57]، ويقول مثلاً: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37]. أليس ذلك نسبة للأفعال إليهم؟ هذه صفات أمر الله بها، ومدح أهلها، وجعلها مقدورة للمخاطبين. وعلى هذا فالعباد أعطاهم الله تعالى هذه القوة وهذه القدرة.
دخول قدرة العبد تحت مشيئة الله وقدرته
…
نحن نعتقد أنه لو شاء الله لما فعلوا، لولا مشيئة الله وإعطاؤهم هذه القوة وهذا التمكن لما حصلت منهم هذه القوة، ولذلك يقول الله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ[الرعد:33] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:37]. فأخبر بأنه هو الذي هداهم ووفقهم وأعانهم، وهو الذي أمرهم ونهاهم، وهو الذي خلقهم وقواهم، وهو الذي مكن لهم وأعطاهم، وهو الذي سخر لهم وهداهم، كما أنه الذي يعاقب ويثيب، ويعطي ويمنع، ويهدي ويضل، ولكن لا يأمرهم إلا بما في إمكانهم فعله. ولذلك يقول الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، ويقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] يعني: أنه ما أمرهم إلا بما يستطيعونه وبما يقدرون عليه، ولو كان الأمر كما يقوله المجبرة، لكان أمرهم بما لا يقدرون عليه، وذلك بلا شك من تكليف ما لا يطاق.(3/346)
عقيدة الجبرية في أفعال العبد بأنواعها والرد عليهم
…
فالمجبرة يقولون: العبد مجبور على فعله، ليس له أية فعل، ولا ينسب إليه بل حركته كحركة المرتعش. بعض الناس مثلاً عند الكبر يكون غير قادر على إمساك يده، فترى يده تضطرب وتتحرك بدون اختياره، إلا أن يرفعها ويخفضها، لكن إذا وقف ومدها رأيتها ترتعد، هذا هو الارتعاش. فالمجبرة يزعمون أن العباد كلهم ليس لهم أدنى قدرة ولا أدنى حركة، وإنما حركاتهم وركوعهم وسجودهم وكسبهم وعطاؤهم ومنعهم، وصلاتهم وصومهم، وحجهم وعمرتهم، وطوافهم وسعيهم، وجهادهم ونفقاتهم، كلها ليست اختيارية بل قهرية! وكذلك المعاصي يعتبرونها قهرية، فهم يعذرون من زنى، ومن سرق، ومن قتل، ومن شرب الخمر، ومن نهب، ومن سلب؛ لأنهم في زعمهم ليس لهم فعل، بل هم مجبورون على هذا الفعل! لا شك أن قولهم هذا تبطل به الأحكام، وتعطل الشرائع، ولا حاجة إلى إرسال الرسل، مادام المطيع مجبوراً على الطاعة، والعاصي مجبوراً على المعصية، إذاً فلماذا أمر الله ونهى؟! لا شك أن هذا تجرؤ على الله جل وعلا، ثم هو أيضاً مخالفة للعقول والبداهة، الإنسان بفطرته يعرف أن عنده قدرة على المزاولة، إذا رأيت مثلاً إنساناً نشيطاً، ومع ذلك رأيته جالساً ليس له عمل، وليس له حرفة، مع أنه مفكر وعارف وقادر وقوي البنية وقوي التركيز وقوي الأعضاء ومع ذلك لا يعمل، ألست تلومه على هذه البطالة؟ وتقول له: إن الله يبغض الفارغ البطال، لماذا هذه البطالة؟ لماذا هذا الكسل؟ أتريد أن يأتيك رزقك ويدخل عليك بيتك؟ أتريد أن ينزل عليك الطعام والشراب من السماء؟ فأنت تلومه؛ لأنه مستحق لأن يلام؛ وذلك لأن الله سبحانه كما أمر بالطاعات، أمر بالكسب وأباحه في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15] وفي قوله: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ(3/347)
[الجاثية:13]. فمادام كذلك فإنه سبحانه أمرنا بأن نبتغي الرزق، وأن نتطلبه، وكل عاقل يتطلب ذلك بفطرته، فإذا تمكن وقويت بنيته، وكملت أعضاؤه وكمل نموه، ما بقي عليه إلا أن يتكسب كما يتكسب آباؤه وأعمامه وأجداده، ويطلب ما يطلبون، ويعف نفسه ويغني نفسه. فإذا كان ذلك جبلة وطبيعة، فكذلك في القوة الإيمانية والأوامر الشرعية يقال: إن الله أمرك بأن تطلب النجاة، وأن تعمل الأعمال التي تكون سبباً في سعادتك عاجلاً وآجلاً. نقول بعد ذلك: لا شك أن الإنسان قد جبل على بعض الصفات، ويسمى ذلك جبلة ولا يسمى إجباراً، كما سمعنا من الشارح أنه فرق الجبر والجبل، فقال: لا يقال: هذا مجبور على فعله، بل يقال: مجبول على هذه الأخلاق، الجبلة: هي الطبيعة والخلقة، يقال: طبيعة فلان وجبلته الصدق، طبيعته الحلم، طبيعته اللين، أو طبيعته الكرم، السخاء، الاهتداء، النصيحة، وكذلك يقال: هذا جبل على البخل، وعلى الشح، وجبل على الجبن وعلى الخوف، وجبل على الكذب وعلى الخيانة وعلى الغش، وما أشبهها، يعني: أنها صفات جبلية مغروسة في نفسه، وأن نفسه الشريرة تميل إليها، أو نفسه الخيرة تميل إلى الصفات الخيرية. أما الجبر الذي تقول به الجبرية فإنه الإكراه والإلزام على الفعل بدون اختيار، وبدون قدرة، فيقال مثلاً: الأمير أجبر فلاناً على القتل، أو فلاناً على السكر، يعني: أكرهه وألزمه به، وفلانة أجبرت على الزنا، يعني: أجبرها هذا وفعل بها، وهكذا، ففرق بين هذا وبين هذا. فالصفات الجبلية أخلاق وليس فيها إكراه، بل يفعلها باختياره سواء كانت طاعات أو معاصي، وأما الجبر فالله منزه عن أن يجبر أحداً أو يكره أحداً، بل قال: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] وإنما هي بالاختيارات وبالجبلات وما أشبهها.
التكليف بحسب الطاقة والاستطاعة
…(3/348)
قال المؤلف: [وقوله: (ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم. وهو تفسير: لا حول ولا قوة إلا بالله، نقول: لا حيلة لأحد، ولا تحول لأحد، ولا حركة لأحد عن معصية الله، إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى، وكل شيء يجري بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]). فقوله: (لم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون) قال تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، وقال تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [الأنعام:152]. وعن أبي الحسن الأشعري : أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً، ثم تردد أصحابه أنه: هل ورد به الشرع أم لا؟! واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن، وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، فكان مأموراً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين الضدين وهو محال. والجواب عن هذا بالمنع، ولا نسلم أنه مأمور بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة، فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان، فما كلف إلا ما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة. ولا يلزم قوله تعالى للملائكة: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء [البقرة:31] مع عدم علمه بذلك، ولا للمصورين يوم القيامة: (أحيوا ما خلقتم) وأمثال ذلك؛ لأنه ليس بتكليف طلب فعل يثاب فاعله، ويعاقب تاركه، بل هو خطاب تعجيز، وكذا لا يلزم دعاء المؤمنين في قوله تعالى: رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286]؛ لأن تحميل ما لا يطاق ليس تكليفاً، بل يجوز أن يحمله جبلاً لا يطيقه فيموت، وقال ابن الأنباري أي: لا تحملنا ما يثقل أداؤه، وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه،(3/349)
قال: فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك! وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه، ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب، ولو امتنع يعاقب، كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها]. ......
التكليف والأمر الشرعي عند أهل السنة
…
يدين أهل السنة بأن الله أمر القادرين ولم يأمر العاجزين، أمرهم بما هو في وسعهم ولم يأمرهم بما ليس في وسعهم، وإذا قيل: لماذا سميت العبادات تكاليف؟ نقول: سميت بذلك لكون الذي يفعلها يوصف بأنه مكلف، أي: مأمور ومنهي، ومع ذلك فليس في فعلها كلفة ولا مشقة، صحيح أن الكلفة هي الشيء الثقيل، كما في قول بعضهم: يكلفه القوم ما نابهم وإن كان أصغرهم مولدا يعني: يأمرونه بما يدفع عنهم المصائب فيقوم بذلك ولو كان أصغرهم، فدل على أنه يفعل شيئاً في إمكانه وشيئاً في قدرته، فنحن نعتقد أن الله تعالى ما أمر إلا بما هو في الإمكان، ولم يكلف الإنسان إلا بما يستطيعه، فمثلاً: الصيام قد يقال فيه كلفة، سيما في الأيام الطويلة وشدة الحر، ولكن هو في الإمكان وهو في الاستطاعة، غالباً أنهم يقدرون على الإمساك إلى أن يذهب النهار ويدخل الليل، والقدرة على ذلك معتبرة، فإذا كان هناك مشقة فإنهم يضجرون؛ فلأجل ذلك قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184] يعني: فأفطر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] وإذا قلت: إن هناك بلاداً يطول فيها النهار، بحيث يكون مثلاً ثمانية عشرة ساعة أو عشرين ساعة أو نحوها، فإمساكها فيه كلفة وفيه صعوبة، أجاب العلماء: بأنه يمكنهم إذا عجزوا أن يفطروا ويقضوه من أيام أخر إذا قصر النهار؛ لأنه أحياناً يقصر عندهم النهار حتى يكون أربع ساعات أو ست ساعات أو ثمان ساعات أو عشراً أو نحو ذلك. فإذاً ليس في الأمر مشقة. وإذا قلت مثلاً: إن الوضوء فيه صعوبة، فلماذا كلف به؟ نقول: ليس فيه(3/350)
صعوبة، وإن كان الإنسان قد يجد برودة في الماء مثلاً؛ فلأجل ذلك إذا كان مريضاً لا يستطيع أن يتطهر فإنه يعدل إلى التيمم، وإذا كان مسافراً لا يستطيع حمل الماء معه فإنه يعدل إلى التيمم؛ لرفع الحرج. إذاً فليس في الشريعة شيء من الكلفة الشاقة على العباد، بل المشقة تجلب التيسير، فالله سبحانه ما كلف العباد إلا بما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم به، لا يطيقون الشيء الزائد على ذلك، صحيح أنهم قد يطيقون أكثر، يعني: قد يقول القائلون: الله ما أمر إلا بصوم شهر واحد ونحن نطيق صوم شهرين، أو صوم ستة أشهر، أو نحو ذلك، فالجواب: أن القدرة العامة التي يشترك فيها الناس عموماً: هي صوم هذا الشهر، فأما القدرة الخاصة فالإنسان يفعل الشيء بقدر قدرته، ومعلوم أنه لو فرض شهرين أو ثلاثة أشهر لشق على كثير من الناس، وإن كان آخرون لا يشق عليهم. كذلك مثلاً لو فرض عليهم أن يحملوا الماء في الأسفار الطويلة لشق على كثير، وإن كان آخرون لا يشق عليهم. ويقال هكذا في سائر العبادة، فالعبادة إنما كلف الإنسان منها بما يستطيعه، ولأجل ذلك فالمصلي مأمور بأن يصلي قائماً، ولكن قد يكون مريضاً فيصلي جالساً؛ لأن المشقة تجلب التيسير، وكذلك قد يشق عليه أن يصلي جالساً فينتقل إلى صلاته على جنب، كما ورد ذلك في الأحاديث. فليس في الشريعة كلفة ولا مشقة، بل لم يأمر الله إلا بما هو مقدور للعباد. والأدلة واضحة كما سمعنا فإن قول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:233]، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [الأنعام:152] (وسعها) بمعنى: أنها لا تكلف إلا بقدر طاقتها وقدرتها وتمكنها، فلا تكلف فوق ذلك مما يشق عليها. لو فرض الله على العباد أن يخرجوا زكاة أموالهم النصف في كل عام، لكان في ذلك شيء من الكلفة، قد يقول قائلهم: أنا جهدت في جمع هذا المال وتعبت فيه، وما حصلته(3/351)
إلا بعرق الجبين، فكيف أعطي هذا الذي ما تعب فيه النصف مثلاً أو الثلث؟! لكن لما علم الله أن هناك من الضعفاء والعجزة والفقراء ونحوهم جعل لهم حقاً في أموال الأغنياء، وجعل ذلك الحق يسيراً لا يكلفهم، يعني: ليس فيه كلفة، وهو ربع العشر، هذا دليل على أن الشريعة إنما أمرت بما يستطاع، لم يأت أمر فيه مشقة على النفوس. معلوم أن هناك نفوساً ضعيفة قد تتثاقل عن الأشياء الخفيفة، وقد لا تصبر عن الشهوات المحرمة، وهذه ليست عبرة، فإذا قلت مثلاً: إن هناك أناساً يستثقلون الصلاة، يستثقلون الإمام إذا قرأ عليهم مثلاً في الركعة الواحدة بورقة أو ورقتين فيقولون: قد شق علينا، وكلفنا، وأتعبنا، وكادت أرجلنا أن تتحطم، وكادت ظهورنا أن تنفصل، وما أشبه ذلك! نقول: هؤلاء ليسوا صادقين، لأنا نشاهدهم أقوياء، نشاهدهم أشداء في أبدانهم، نشاهد أحدهم إذا لعب مثلاً في المباريات، أو إذا سار فيها لم يكسل. إذاً فقولهم هذا كلفة! هذا مشقة! هذه إطالة لا تطاق! نقول: ليسوا كذلك أيضاً. كذلك هناك نفوس ضعيفة يقولون: إن منعنا عن شهواتنا تكليف بما لا يطاق! فمثلاً يقولون: نفوسنا لا تصبر عن أن تفعل هذا الفعل، ومثلاً إذا اشتدت في أحدهم الشهوة قال: لا أصبر عن الزنا، وتكليفي بالعفاف تكليف بما لا يطاق، وكذلك تكليفي مثلاً بالصبر عما أشتهيه وتندفع إليه نفسي تكليف بما لا يطاق، وتكليفي بمنعي مثلاً عن الشراب الروحي -كما يعبرون عن الخمور ونحوها- تكليف بما لا تستطيع النفس أن تصبر عنه، بل تندفع إليه اندفاعاً ولا يقدر على كبحها. سبحان الله! هل هذا تكليف بما لا يطاق، إذا منعنا الله تعالى من الزنا، ومنعنا من المسكرات، هل هو تكليف بما لا يطاق؟! الله تعالى ما حرم علينا شيئاً إلا وجعل له بدلاً يقوم مقامه، فأحل لنا النكاح الذي يقوم مقام الزنا، يقول تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3] ويقول: وَلا(3/352)
تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32] فكيف يقول هذا: إن تكليفي بالتعفف وبالامتناع منه من تكليف ما لا يطاق؟! نقول: هذا كذب، بل الإنسان يقدر أن يقنع نفسه ويمنعها عن المحرمات، وليس عليه مشقة. على كل حال نقول: إن هذه قاعدة مطردة: وهي أن التكاليف الشرعية ليس فيها مشقة، سواء كانت أفعالاً أو سلوكاً، فأشق ما فيها الجهاد، الذي فيه تعرض للقتل، ولكن لما علم المؤمنون بعاقبتهم الحميدة من كونهم يناصرون الإسلام وفي سبيل الله هانت عليهم نفوسهم، لما علموا أيضاً بأن الرب سبحانه يمدهم ويقويهم وينزل عليهم الملائكة لتقاتل معهم ويخذل أعداءهم، كان ذلك دافعاً لهم إلى أن يستميتوا، لما علموا بأنهم إذا قتلوا في سبيل الله فهم أحياء عند ربهم يرزقون، كان ذلك أيضاً دافعاً لهم إلى التفاني في سبيل الله، لما علموا أيضاً أن أعداء الله من الكفار يقاتلونهم على كفرهم وتهون عليهم أنفسهم وهم كفار، كانوا أولى منهم بذلك أن يفدوا دينهم الصحيح، إذا كان هؤلاء يفدون دينهم الباطل فنحن نفدي ديننا الصحيح، ولأجل ذلك قال الله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].
شرح العقيدة الطحاوية [73]
القوة والقدرة مستمدة من الله تعالى، وهو خالقها في الإنسان، وقد اختلف الناس في ذلك حتى جعل بعضهم الفعل المتروك غير مقدور عليه، ولكن الأدلة تدل على خلاف قولهم.
القدرة والقوة مستمدة من الله سبحانه
…
أثبت المسلمون عموم قدرة الله تعالى؛ لقوله عز وجل: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120] يدخل في ذلك الموجود والمعدوم، يدخل في ذلك الأعراض والجواهر، الأفعال والحركات، والمخلوقات كلها داخلة في عموم قدرة الله، وأن الله قادر عليها ولا يخرج عن قدرته شيء. ......(3/353)
معنى قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله
…
كذلك مما دل على ذلك الأدعية المأثورة، فمن المأثور قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : (ألا أدلك على كنز من كنوز العرش، أو من كنوز الجنة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله) . تأمل معنى هذه الجملة: (لا حول) أي: لا تحول لأحد من حال إلى حال إلا بالله. (ولا قوة) أي: لا قدرة لأحد إلا بالله، فإن أقدره الله فهو قادر فاعل، وإن منعه وحال بينه وبين الفعل فليس بقادر وليس بفاعل. هذه الكلمة كثيراً ما يتلفظ بها العباد، وهي: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فأهل السنة يدينون بمعناها، ويعتقدون أن الحول أي: التحول والانتقال من الفقر إلى الغنى أو من الضعف إلى القوة أو من القوة إلى الضعف أو كذلك من العطاء إلى المنع، ومن المنع إلى العطاء، ومن الهدى إلى الضلال، أو من الضلال إلى الهدى، الانتقال من حال إلى حال هو بقضاء الله وبقوته وبقدرته. والقوة معناها: الاستطاعة، فالإنسان قوته التي يزاول بها الأعمال هي من الله، إذا شاء سلبك هذه القوة فأصبحت عاجزاً مقعداً، وإذا شاء منحك هذه القوة وزادك قوة إلى قوتك، فهو الذي خلق الإنسان من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة. الإنسان مبدؤه أن الله خلقه ضعيفاً ثم أمده بقوة منه، إذا شاء سلب هذه القوة في أوانها وفي عنفوانها، وإذا شاء زادها ومكنها.
معنى قوله: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن)
…
كذلك أيضاً من الأدعية المأثورة قول النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأذكار: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) ويقول بعضهم: فما شئتَ كان وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن ما شاءه الله لا بد أن يحصل ولو كره العباد كلهم، وما لم يشأه فلا يحصل ولا يحدث ولا يقع ولو شاءوه ولو أرادوه ولو حاولوه، فالحول حوله، والقول قوله، والقوة والقدرة منه سبحانه.
ارتباط وتعلق فعل العبد وتركه بقدرة الله سبحانه
…(3/354)
فالعباد مأمورون، ولكن القوة التي يزاولون بها فعل الأوامر هي من الله، كذلك منهيون والقوة التي يمتنعون بها عن النهي هي أيضاً من الله، هو الذي يمدهم بالقوة التي يمارسون بها الأفعال، ويمدهم بالقوة التي تحميهم من المنهيات، كذلك أيضاً إذا خذل من شاء من عباده، فعل ما فعل من المعاصي والمحرمات، فذلك أيضاً بقضاء الله وبقدره، ولو شاء لمنعهم من ذلك، ولحال بينهم وبينه، ولكن له الحكمة في ذلك، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] له التصرف في العباد، ولا يكون في الكون إلا ما يريد، لو شاء لهدى الناس أجمعين، ولو شاء لأضلهم، فإذا هداهم فبنعمته وفضله، وإذا أضلهم فبحكمته وعدله. لكن إذا هداك الله وألهمك رشدك وسددك، فعليك أن تشكره على هذه الهداية، وأن تستعين بما أعطاك من القوة على الطاعة، وإذا رأيت من أضلهم الله ورأيت ومن حرمهم الخير، فإنك تحمد ربك على أنه لم يجعلك مثلهم، وتقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، فله سبحانه الأمر والنهي وله القدرة التامة، وله التصرف في العباد، هو الذي كلفهم وأمرهم ونهاهم، وهو الذي أعطاهم، ومنع من شاء منهم، وهو الذي يهدي ويضل، ويسعد ويشقي، ويمنع ويعطي، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. وإذا من الله على بعض العباد، فإن ذلك فضل منه، فعليهم أن يشكروه على هذا الفضل، وإذا خذل بعضاً من العباد وخلّى بينهم وبين أهوائهم، وسلط عليهم أعداءهم وساموهم سوء العذاب، فذلك حكمة منه وعدل، فما حصل لهؤلاء محض فضل منه وحكمة، ويجب أن يشكروه عليها، وما حصل لهؤلاء من خذلان فهذا من حكمته سبحانه، ويجب عليهم أن يعرفوا السبب، فالسبب من قبل أنفسهم، كما يقول الله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] ويقول تعالى: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] أي: أنه يستحق ذلك(3/355)
بسبب ما جبل عليه، وبسبب الخلق السيئ الذي علم الله أنه لا يناسبه إلا أن يحرمه من الخير وغيره، ويحول بينه وبين الهداية، فهو الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها.
سهولة ويسر التكاليف الشرعية وسبب استثقالها عند البعض
…
قوله: (إن الله تعالى كلف العباد بما يطيقون، فلا يطيقون إلا ما كلفهم، ولم يكلفهم إلا ما في قدرتهم وفي وسعهم)، فهو سبحانه أمر العباد ولكن لم يأمرهم بما هو مستحيل، ولم يأمرهم بما يعجزون عن تطبيقه ولا عن فعله، لم يأمرهم إلا بالشيء الذي هو في وسعهم وفي قدرتهم وفي طاقتهم، ولا يخرج عن إرادتهم. كذلك أيضاً ما كلفهم إلا بما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم به، فلو كلفهم بما يعجزون عنه لكان لهم حجة أنهم لا يستطيعون ذلك، فعند ذلك يقال: كيف يطيقون الشيء الذي فوق قدرتهم؟! فلذلك قال الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]. فإذا علم العباد بذلك ونظروا إلى التكاليف التي أمروا بها وجودها سهلة ويسيرة ليس فيها مشقة، ولو استثقلتها بعض النفوس، فإن تلك النفوس التي تستثقلها إنما أتيت من ضعف في النفس، لا أن ذلك لعجز في الفعل كما هو مشاهد؛ فلأجل ذلك نجد أن الاثنين متفاوتان في العبادة، أحدهما يفرح بطول الصلاة ويطمئن بذلك ويعجبه، ولو كان بدنه نحيفاً ضعيفاً، وآخر يستثقل الصلاة ولو كانت خفيفة مع كونه بديناً قوياً، فإذاً هذا التفاوت من ضعف النفوس، لا أنه تكليف بما يعجز البشر، فالله ما كلفهم إلا بما فيه قدرتهم واستطاعتهم.
الرد على من يجعل الفعل المتروك غير مقدور عليه
…(3/356)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنهم من يقول: يجوز تكليف الممتنع عادة، دون الممتنع لذاته؛ لأن ذلك لا يتصور وجوده، فلا يعقل الأمر به، بخلاف هذا. ومنهم من يقول: ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه، بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده، فإنه يجوز تكليفه. وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق؛ لكونه تاركاً له مشتغلاً بضده، بدعة في الشرع واللغة، فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه! وهم التزموا هذا، لقولهم: إن الطاقة -التي هي الاستطاعة وهي القدرة- لا تكون إلا مع الفعل، فقالوا: كل من لم يفعل فعلاً فإنه لا يطيقه، وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف، وخلاف ما عليه عامة العقلاء، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة. وأما ما لا يكون إلا مقارناً للفعل، فذلك ليس شرطاً في التكليف، مع أنه في الحقيقة إنما هناك إرادة الفعل. وقد يحتجون بقوله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ [هود:20]، إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:67] وليس في ذلك إرادة ما سموه استطاعة، وهو ما لا يكون إلا مع الفعل، فإن الله ذم هؤلاء على كونهم لا يستطيعون السمع، ولو أراد بذلك المقارن، لكان جميع الخلق لا يستطيعون السمع قبل السمع، فلم يكن لتخصيص هؤلاء بذلك معنى، ولكن هؤلاء؛ لبغضهم الحق وثقله عليهم، إما حسداً لصاحبه، وإما اتباعاً للهوى، لا يستطيعون السمع. وموسى عليه السلام لا يستطيع الصبر، لمخالفة ما يراه لظاهر الشرع، وليس عنده منه علم. وهذه لغة العرب وسائر الأمم، فمن يبغض غيره يقال: إنه لا يستطيع الإحسان إليه، ومن يحبه يقال: إنه لا يستطيع عقوبته؛ لشدة محبته له، لا لعجزه عن عقوبته، فيقال ذلك للمبالغة، كما تقول: لأضربنه حتى يموت، والمراد: الضرب الشديد، وليس هذا عذراً، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه؛ لفسدت السماوات والأرض، قال تعالى: وَلَوْ اتَّبَعَ(3/357)
الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]]. لا شك أن هذا الكلام معاتبة ومجادلة لبعض من خالف الحق في هذه المسألة، وأنه لا فائدة فيه، ولا طائل في مجادلتهم؛ لأنها أقوال تخالف المحسوس، وتخالف المعقول؛ وذلك لأن العبد قد أعطي قوة، ولا شك أن تلك القوة كامنة فيه، وأنه بواسطتها يستطيع أفعالاً وإن لم يفعلها، فهؤلاء المبتدعة من جبرية وقدرية ونحوهم عندهم أن الأفعال التي لم تفعل ولو كانت سهلة توصف بأنها غير مقدورة للعبد، فإذا رأوا إنساناً كافراً قالوا: هذا لا يقدر على أن يؤمن، مع أنه يقدر، وإذا رأوا إنساناً ما صلى قالوا: هذا لا يقدر أن يصلي، فكل شيء لم يفعله الإنسان مع قدرته عليه يقولون: إنه لا يقدر عليه، مع أنه في استطاعته، وهذا يخالف الحس ويخالف الظاهر. فمثلاً: أنت لو رأيت إنساناً قوي البنية وقوي البدن تستطيع أن تقول: هذا يستطيع أن يحمل مثلاً كيساً ولو لم يحمله، ولو لم تره قد حمل هذا الكيس من قبل، ويكون ذلك أيضاً فيما سخر الله من الدواب التي تركب عليها، فيقال: إن هذا الجمل يستطيع أن يحمل مائة صاع ولو أنه ما حمل عليه. فإذاً الاستطاعة والحمل ليسا بمحصلين لما فعل، بل بما توافر فيه واستقر فيه من الوصف، فهو يستطيعه ولو لم يباشره.
نفي القدرة والاستطاعة عن فعل الخير أو ترك الشر عند أهل البدع
…(3/358)
بخلاف هؤلاء المبتدعة فإنهم إذا رأوا إنساناً ما قرأ، قالوا: هذا لا يستطيع أن يقرأ، ليس له أن يقرأ، إذا رأوا إنساناً لم يحترف حرفة كذا وكذا قالوا: هذا لا يستطيع أن يحرث الأرض، ولا أن يغرس الغرس، ولا أن يرعى الإبل أو يحلبها مثلاً، مع أنه يستطيع وبإمكانه فعله، هذا بالنسبة للأفعال المحسوسة. ويقال كذلك أيضاً في التكاليف سواء كانت طاعات أو معاصي، في الطاعات يقولون لمن لم يصم: هذا لا يستطيع الصوم، لو كان يستطيع الصوم لصام، مع أنه قادر وقوي، كذلك يقولون: لا يستطيع أن يطعم الطعام، أو يخرج من الطعام ما يخرج مثله، مع أنه ذو مال وعنده ثروة، لكن لما رأوه لم يخرج قالوا: لو كان يستطيع أن يخرج لأخرج، لو كان يستطيع أن يتصدق لتصدق، كأنهم يقولون: إنه لا يستطيع لكون الله حال بينه وبين الصدقة. الله تعالى أمره بالصدقة الواجبة في الزكاة والكفارة والنفقة على الأهل والولد ونحو ذلك، ومع ذلك بخل بها، فهو قادر، لو لم يكن قادراً لما أمره الله بذلك، ولو لم يكن قادراً على الصوم لما أمره. فالله أمر الناس بالصوم، فمنهم من صام ومنهم من لم يصم، وأمر الناس كلهم بالصلاة، فمنهم من صلى ومنهم من لم يصل، ولا يقال لمن لم يصل: هذا لا يستطيع، نقول: بل هو مستطيع، ولكن حيل بينه وبينها، فهو محروم والعياذ بالله، ويوصف بأنه عاص، ويعاقب على هذا العصيان، كما يعاقب على تلك الأفعال. وفي الأفعال المنهي عنها والمحرمة، يقولون في من زنى مثلاً أو ارتشى أو سكر: لا يستطيع ترك هذا المنكر ولو كان يستطيع تركه لما فعله، نقول: بل يستطيع ولو لم يستطعه لما نهي عنه، فالله تعالى ما نهى إلا من عنده قدرة على الانزجار وعلى ترك الشيء المنهي عنه، فقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] لو كانوا عاجزين عن الترك لما نهاهم، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء:33] لو كانوا عاجزين عن الترك لما نهاهم عنه، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا(3/359)
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31] لو كانوا لا يستطيعون ترك القتل لما نهوا عنه. فكذلك يقال في الطاعات: لو كانوا عاجزين عن الصلاة لما أمروا بها، لو كانوا عاجزين عن الطهارة لما أمروا بها، فإن الله لا يأمر إلا بما هو مقدور، ولا يأمر بالشيء المستحيل أو الثقيل على النفوس الذي يكون فوق طاقتها. وبذلك نعرف أن هذا القول مخالف للعقل، حتى في عرف الناس، فمثلاً: إذا كان لك ولد نشيط قوي، فقلت له: يا ولدي! اذهب فاشترِ لنا طعاماً. فإذا ذهب واشترى فقد أطاع، وإذ لم يذهب فهل يقال: إنه ليس بمستطيع؟! أو يقال: هو عاص لأبيه؟ لا شك أنه يوصف بالعصيان. ولو كان لك ولد مريض -مثلاً- أو مقعد لا يستطيع أن يذهب، فهل تأمره بأن يذهب إلى السوق ليشتري لك حاجة؟ كيف تأمره وهو مريض مقعد لا يستطيع؟! إذاً: فهذا بيان أن الله ما أمر إلا من هو مستطيع، ولأجل ذلك أسقط الحرج عن غير المستطيع، فلما أمر بالجهاد في سبيل الله أسقطه عن أهل الأعذار، فقال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:91] يعني: لا حرج عليهم إذا لم يخرجوا في الجهاد، فدل على أنه ما أمر إلا من هو مستطيع وعنده قدرة، وبذلك نعرف أن التكاليف إنما هي على حسب قدرة العباد، فلم يأمرهم الله إلا بما هو في طاقتهم وفي وسعهم.
الفرق بين الكوني والشرعي من القضاء والإرادة ونحو ذلك
…(3/360)
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم به).. إلى آخر كلامه، أي: ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه، وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق، لا التي من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات. (ولا حول ولا قوة إلا بالله) دليل على إثبات القدر، وقد فسرها الشيخ بعدها، ولكن في كلام الشيخ إشكال، فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار، وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي، وهو قد قال: لا يكلفهم إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم. وظاهره أنه يرجع إلى معنى واحد، ولا يصح ذلك؛ لأنهم يطيقون فوق ما كلفهم به، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف، كما قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28]، وقال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه، ولكنه تفضل علينا ورحمنا، وخفف عنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج. ويجاب عن هذا الإشكال بما تقدم: أن المراد الطاقة التي من نحو التوفيق، لا من جهة التمكن وسلامة الآلات، ففي العبارة قلق، فتأمله. وقوله: (وكل شيء يجري بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره): يريد بقضائه القضاء الكوني لا الشرعي، فإن القضاء يكون كونياً وشرعياً، وكذلك الإرادة والأمر والإذن والكتاب والحكم والتحريم والكلمات، ونحو ذلك. أما القضاء الكوني: ففي قوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12]. والقضاء الديني الشرعي: في قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23]. وأما الإرادة الكونية والدينية: فقد تقدم ذكرها عند قول الشيخ: (ولا يكون إلا ما يريد). وأما الأمر الكوني: ففي قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، وكذا قوله:(3/361)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، في أحد الأقوال، وهو أقواها. والأمر الشرعي: في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]. وأما الإذن الكوني: ففي قوله تعالى: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]. والإذن الشرعي: في قوله تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [الحشر:5]. وأما الكتاب الكوني: ففي قوله تعالى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر:11]، وقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]. والكتاب الشرعي الديني: في قوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، وقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183]. وأما الحكم الكوني: ففي قوله تعالى عن ابن يعقوب عليه السلام: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80]، وقول الله تعالى: قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء:112]. والحكم الشرعي: في قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]،(3/362)
وقال تعالى: ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:10]. وأما التحريم الكوني: ففي قوله تعالى: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26]، وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95]. والتحريم الشرعي: في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:3] ، وقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] الآية. وأما الكلمات الكونية: ففي قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا [الأعراف:137]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) . والكلمات الشرعية الدينية: في قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]].
رحمة الله بالعباد في عدم تكليف ما لا يطاق
…(3/363)
نحن نعرف أن الله تعالى رحيم بعباده، وأنه ما أمرهم إلا بما يطيقونه، ولو أمرهم بزيادة عليه لأطاقوه، ولكنه تعالى رحمهم، فلم يكلفهم ما فيه مشقة وصعوبة عليهم، فلو فرض في السنة صيام شهرين لقدروا على ذلك، ولكن قد يكون فيه مشقة، ولو فرض عليهم في الطهارة الاغتسال بدل الوضوء لقدروا عليه، ولكن فيه مشقة، ولو فرض عليهم كل يوم عشر صلوات لقدروا على ذلك، ولكن مع صعوبة ومشقة، وكذلك لو فرض عليهم الحج مرتين في العمر أو أكثر لاستطاع كثير منهم ذلك، ولكن مع مشقة، ولو فرض عليهم في الزكاة خمس المال أو نصف الخمس بدلاً من ربع العشر لاستطاعوا ذلك، ولكن يكون عليهم شيء من المشقة، فلأجل ذلك خفف الله عنهم. ولما فرض عليهم -أولاً- أن يثبت العشرة للمائة في الجهاد، وأن تثبت المائة للألف، ولا يفرون منهم، علم أن في ذلك شيئاً من المشقة؛ فخفف عنهم إلى أن لا يفر الواحد من الاثنين، فقد أنزل أولاً قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا [الأنفال:65] الواحد يغلب عشرة، ثم بعد ذلك خفف عنهم: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال:66] فالواحد يغلب اثنين بشرط الصبر، (مائة صابرة)، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:66]، فأخبر بأنهم يقدرون، ولكن خفف عنهم، يعني إذا كانوا صابرين محتسبين غلبوهم بإذن الله، وقد وقع هذا، فأهل بدر غلبوا المشركين مع أن المشركين أضعافهم -أي: مثلهم ثلاث مرات- ولكن هزموهم بإذن الله. وكذلك حكى الله عن طالوت ومن معه أنهم قالوا: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249]، فحكى عن الذين يظنون أنهم ملاقو الله قولهم: كَمْ مِنْ فِئَةٍ(3/364)
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249]. والحاصل: أنه سبحانه وتعالى كلف العباد، ولكن كلفهم وهم يقدرون على ما كلفهم به، بل على أكثر منه، وإنما أمرهم بما فيه يسر وسهولة دون حرج ومشقة، ولما أمرهم بالطهارة بالماء علم أن فيهم مرضى لا يستطيعون استعمال الماء، وعلم أن فيهم مسافرين لا يستطيعون حمل الماء في الصحراء، فأباح لهم أن يعدلوا إلى التراب ليتطهروا به، ثم قال بعد ذلك: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6] يعني: أنه لو كلفكم وأحرجكم لأمركم بحمل الماء في الأسفار، ولكن أراد ألا يحرجكم، وكما في قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ولما أمر بالصيام علم أن هناك من يشق عليهم كالمرضى والمسافرين، فأباح لهم الفطر والقضاء، فقال تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، ثم قال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، أي: لا يشق عليكم ولا يأمركم بما فيه كلفة وتعب. فعلم بذلك أن هذه التكاليف التي أمرهم بها هي في وسعهم وفي قدرتهم وطاقتهم.. هذا بالنسبة إلى الأفعال المأمور بها. ويقال كذلك بالنسبة إلى الأفعال المنهي عنها: الذنوب والمعاصي المنهي عنها يقدرون على تركها، ولو قال من قال: إنه لا يستطيع تركها، فإنه غير صادق في ذلك، وقد أشرنا إلى ذلك فيما مضى.
إيمان أهل السنة بما هو قدري وامتثالهم لما هو شرعي
…(3/365)
بعد ذلك تكلم الشارح رحمه الله على القضاء الشرعي والقدري، يعني: أن الله سبحانه له القضاء والقدر، وله الشرع والأمر، فالمراد بالشرعي: الذي يكلف به ويؤمر به، والمراد بالقدري والكوني: الذي كتبه أزلاً، وقضاه وقدره في عالم الغيب، ولم يخير فيه، بل جعله أمراً أزلياً مقدراً مخلوقاً. فعندنا -مثلاً- الإرادة تكون شرعية وقدرية، والأمر يكون شرعياً وقدرياً، والإذن يكون شرعياً وقدرياً، والحكم يكون شرعياً وقدرياً، والكتابة تكون شرعية وقدرية، والكلمات منها شرعية ومنها وقدرية، وأدلتها تقدمت في كلام الشارح رحمه الله. والفرق بينهما: أن الأمر الشرعي كُلِفَ العباد به وبامتثاله، فإذا أمرهم أمراً شرعياً فإنهم يمتثلون ذلك الأمر. وأما الأمر القدري: إذا أخبر بأن هذا مقدر عليهم، وهو أزلي، فإنه لا يُطلب منهم فعله؛ لأنه يخبر بأن هذا هو حكمه وهو قدره. ويقال كذلك في التحريم: فإذا قيل: ما الفرق بين التحريم القدري، والتحريم الشرعي؟ فالجواب: أن التحريم القدري: إخبار بأن هذا الشيء لا يكون، وأن الله كتب تحريمه ومنعه بحيث لا يحصل ولا يتصور وجوده، وأما التحريم الشرعي فهو نهي، يعني: نهى الله العباد عن أن يفعلوا هذه الأشياء، وأخبرهم بأنها محرمة عليهم. والتحريم معناه المنع، أي: منعناكم من هذه الأشياء، كقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:23] إلى آخره، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3] ، فليس هذا مثل قوله: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا [الأنبياء:95]، فإن ذلك معناه أن الله قدر أنها لا تعود، وجعل ذلك ممتنعاً أصلاً. فعرفنا بذلك أن هناك فرقاً ظاهراً بين الأوامر الشرعية والقدرية، وبين الإذن الشرعي والقدري، وبين الإرادة الشرعية والقدرية، والحكم الشرعي والقدري، والكتابة الشرعية والقدرية.. وما أشبه ذلك. فالذي يهمنا أن نؤمن بالقدري، ونعتقد أنه حق وصدق، نقول: هذا قدر الله، وهذه(3/366)
كتابته، وهذا تقديره علينا، لا مفر لنا منه، هذا حكمه الذي حكم به أزلاً على العباد. أما الشرعي فإننا نمتثله ونعمل به، فإن قوله: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:45]، وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ [الأعراف:145] أمر شرعي، معناه: أنه أمر فيها بأوامر شرعية، من ذلك: أن النفس بالنفس... إلخ، بخلاف قوله: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ [الأنبياء:105]، وقوله: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [الأعراف:145] وما أشبه ذلك من الأمور الماضية السابقة. والفرق بينهما: أن الشرعي يدين به العباد ويعملون به، والقدري يؤمنون به ويعتقدونه. ولم يعرف أكثر المبتدعة الفرق بينهما؛ فوقعوا في الخطأ والضلال، فإنهم لما لم يفرقوا بين الإرادة الشرعية والإرادة القدرية؛ جعلوا الجميع مراداً لله، وجعلوا إرادة الله للمعاصي رضاً بفعلها، فقالوا: إن الله لو لم يردها لما حصلت، ولو أراد الطاعات لحصلت. نقول: إن هذه إرادة قدرية، فلا تقيسوها بالإرادة الشرعية. تقدم الفرق بين الإرادتين ودليلهما، فإن دليلة الشرعية: قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء:28] ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء:27] ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، هذه شرعية، بخلاف قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ [المائدة:1]، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253] فإن هذه إرادة قدرية دالة على أن قدرة الله تعالى أزلية قديمة، وأن العبد ليس له مفر مما قدره عليه.
شرح العقيدة الطحاوية [74](3/367)
من رحمة الله بعباده أن يسر لهم سبل النجاة، وجعل أعمالهم سبباً لدخول الجنة والنجاة من النار، ومع هذا فإنه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، وهذه عقيدة أهل السنة، خلافاً للجبرية والقدرية.
رحمة الله وجنته فضل منه سبحانه، وعذابه وناره عدل منه سبحانه
…
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له). لا شك أن الهداية بيد الله تعالى، وكذا الإضلال، فمن هداه الله فذلك نعمة من الله عليه وفضل وكرم، ومن أضله فلم يظلمه، وليس للعبد حجة على الله، بل لله الحجة البالغة، فإذا شاء هدى وإذا شاء أضل، فمن هداه الله فقد أنعم عليه، فهدايته له فضل منه، ومن أضله الله فإنه عدل منه، فإنه تعالى لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وأيضاً هو المنعم المتفضل على خلقه. وقد ورد في بعض الأحاديث: أن الله تعالى لو عذب خلقه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، فلو رحمهم كلهم لكانت رحمته فضلاً منه، فهو سبحانه قد تنزه عن الظلم، فوي الحديث القدسي: (يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) فهو سبحانه لا يظلم وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فإذا أهلك العباد أو سلط بعضهم على بعض، أو سلط عليهم عقوبة سماوية، أو عاقبهم بالعذاب بالنار، لم يكن ذلك ظلماً، بل هم يستحقون ذلك، فإنه لا يمكن أن يهلكهم أو يعذبهم إلا بظلم منهم، يقول الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117] ، فلا يهلكهم ظلماً منه لهم، ولا يهلكهم إلا بعدما يقيم عليهم الحجة. وكذلك إذا أنعم عليهم فإنه هو المتفضل، وفي حديث الأوراد يقول عليه الصلاة والسلام: (لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله المن، وله الثناء الحسن) ،(3/368)
فالنعمة منه وحده، والفضل على الخلق منه وحده، وكذلك الثناء الحسن، فإذا عرفنا أن ربنا سبحانه هو المتفضل على عباده؛ فنعلم أن نعمه لا تنفك عن العباد: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53] ، فما أصابنا من نعمة فهو محض فضل الله، ومحض منه على عباده، وليس بأعمالنا، ولا باكتسابنا، ولا باستحقاقنا، بل أعمالنا تضعف عن أن نستحق هذا الفضل وهذه النعمة؛ ولكن هو الذي يتفضل على هؤلاء بالنعم وبالخيرات، وبالنصر وبالتمكين، وبالعطاء وبالصحة وبالإعزاز، وبغير ذلك من أنواع النعم، أو يسلط على من يشاء ما يشاء من المصائب والعقوبات، وكل ذلك محض عدله. وعلى هذا: فإن المسلم يعتمد على ربه سبحانه وتعالى، ويأتي بالأسباب التي تكون مؤهلة له أن يكون من أهل الفضل.. مؤهلة له أن يستحق لأجلها أن يكون أهلاً للامتنان.. أهلاً للنعمة.. أهلاً للخير، ويبتعد عن النقم والعقوبات التي تكون سبباً للعذاب، والتي يعذب الله بسببها، فإنه سبحانه قد رتب للنعم أسباباً، وهي الأعمال الصالحة، فجعلها سبباً لتفضله، فلنأتِ بالأسباب التي يرحمنا الله بسببها، وجعل للعقوبات أسباباً وهي المعاصي، فلنبتعد عن العقوبات وعن أسباب العقوبات وهي المعاصي؛ حتى نسلم من العقاب، ونحظى بالثواب. ......
تنزيه الله لنفسه عن الظلم
…(3/369)
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (يفعل ما يشاء، وهو غير ظالم أبداً): الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد، يقتضي قولاً وسطاً بين قولي القدرية والجبرية، فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً يكون منه ظلماً وقبيحاً، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم؛ فإن ذلك تمثيل لله بخلقه وقياس له عليهم، وهو الرب الغني القادر، وهم العباد الفقراء المقهورون. وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم، يقولون: إنه يمتنع أن يكون في الممكن المقدور ظلم، بل كل ما كان ممكناً فهو منه لو فعله عدل، إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي، والله ليس كذلك. فإن قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112] ، وقوله تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29]، وقوله تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76] ، وقوله تعالى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وقوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17] يدل على نقيض هذا القول. ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله: (يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) فهذا دل على شيئين: أحدهما: أنه حرم على نفسه الظلم، والممتنع لا يوصف بذلك. الثاني: أنه أخبر أنه حرمه على نفسه، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة. وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي، والله ليس كذلك. فيقال لهم: هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه، لا ما هو ممتنع عليه. وأيضاً: فإن قوله: فَلا(3/370)
يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112] قد فسره السلف بأن الظلم: أن توضع عليه سيئات غيره. والهضم: أن ينقص من حسناته، كما قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]]. ......
ضلال أهل الكلام في طريقة تنزيههم لله عن الظلم
…
هذا توضيح لما حكاه عن المعتزلة الذين يقولون: إن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه هو الشيء الذي لا يمكن ولا يقدر عليه؛ وذلك لأن من معتقد هؤلاء المتكلمين من المعتزلة: أن العبد هو الذي يهدي نفسه، أو يضل نفسه، وأن الله لا يقدر على أن يهدي هذا أو يضل هذا، فيجعلون الله تعالى عاجزاً، وكذلك يوجبون على الله أن يثيبت المطيع، فيجعلونه حقاً عليه، وتعالى الله عن قولهم، فإنه تعالى ليس عليه حق لعباده: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فهم يجوبون على الله أن يثيب هذا، ويحرمون عليه أن يعاقب هذا، ويجعلون هذا مستحقاً بعمله، وهذا مستحقاً بعمله، ولا يجعلون لله تصرفاً، ولا يجعلون له منة، ولا يجعلون له فضلاً على عباده ورحمة. لا شك أن هذا تصرف في أفعال الخالق سبحانه، فلأجل ذلك رد عليهم الشارح، وبين أن الظلم الذي نفاه الله تعالى عن نفسه ليس بممتنع ولا بمستحيل، بل هو مقدور، ولكن الله تعالى لا يفعله؛ لكونه غير مستحسن، بل هو أمر مستهجن ومستقبح، فلأجل ذلك نزه الله نفسه في هذه الآيات، فقال تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، هذا دليل على أنه قادر على أن يظلم، ولكنه منزه عن ذلك، وكذلك قوله: فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112]، (لا يخاف ظلماً) أي: بأن يُحمّل سيئات لم يعملها، (ولا هضماً) أي: نقصاً لحسنات قد عملها، بل الله تعالى حكم عدل، فلا يمكن أن يظلم هذا فينقصه، أو يظلمه فيزيد في سيئاته، بل له الفضل عليه، فيضاعف له الحسنات، ويمحو عنه السيئات، ومن أوبقته سيئاته فهو الموبق، ولا يهلك على الله إلا(3/371)
هالك.
الرد على أهل الكلام في طريقة تنزيه الله عن الظلم
…
قال رحمه الله: [وأيضاً فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة حتى يؤمن من ذلك، وإنما يؤمن مما يمكن، فلما آمنه من الظلم بقوله: (فلا يخاف) علم أنه ممكن مقدور عليه. وكذا قوله: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق:28] إلى قوله: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29]، لم يعنِ بها نفي ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه، وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم. فعلى قول هؤلاء ليس الله منزهاً عن شيء من الأفعال أصلاً، ولا مقدساً عن أن يفعله، بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله، بل فعله حسن، ولا حقيقة للفعل السوء، بل ذلك ممتنع، والممتنع لا حقيقة له! والقرآن يدل على نقيض هذا القول، في مواضع نزَّه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له ولا ينبغي له، فعُلم أنه منزه مقدس عن فعل السوء والفعل المعيب المذموم، كما أنه منزه مقدس عن وصف السوء والوصف المعيب المذموم، وذلك كقوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، فإنه نزه نفسه عن خلق الخلق عبثاً، وأنكر على من حسب ذلك، وهذا فعل، وقوله تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35]، وقوله تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] إنكار منه على من جوز أن يسوي الله بين هذا وهذا. وكذا قوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] إنكار على من حسب أنه يفعل هذا، وإخبار أن هذا حكم سيء قبيح، وهو مما ينزه الرب عنه]. كل هذا رد على كلام هؤلاء المبتدعة، فإن من عقيدتهم(3/372)
أن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه مستحيل، فلا يمكن أن يحصل، وعلى موجب كلامهم يقال: إذاً هم آمنون، لأن المستحيل ممتنع الوقوع، فإذاً لا داعي لأن يؤمنهم من الظلم. ويقال أيضاً: إذا كانوا آمنين من الظلم فكيف يؤمنهم منه بقوله: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:29] ، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر:31]، ويقول: فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طه:112]؟! فهذا يدل على أنه ممكن، ولو كان شيئاً مستحيلاً لما خافوا منه، ولما أمنهم، فدل على أنه ما نزه نفسه إلا عن شيء مقدور له، ولكنه تعالى نزه عنه نفسه؛ لأنه لا يليق؛ ولأنه وصف للظلمة الذين يفعلون ما لا يستحسن، فيقصرون ويقتلون ظلماً، ويحبسون وينتهبون، فيقال: هؤلاء ملوك ظلمة، وهؤلاء أمراء ظلمة؛ لأنهم يبطشون في الناس بغير حق؛ فلذلك نزه الله نفسه عن مثل هذه الأفعال.
انقلاب الموازين عند الجبرية
…(3/373)
أما عقيدة الجبرية: فهم الذين يجعلون لله الفعل لما يريد، فيقولون: يجوز لله أن يهلك المتقين، ويجوز له أن يعذب المؤمنين، ويجوز عندهم أن يثيب الكفار، وأن يرفع درجاتهم، يجعلهم في أعلى عليين وهم كفار فجار خارجون عن الطاعة، ويجوز أن يعذب الأتقياء المؤمنين الذين ما عصوه طرفة عين، وأن يجعلهم في أسفل سافلين! هذا قول المجبرة، ويقولون: إنهم ليس لهم اختيار، وليس لهم أفعال، بل الفعل فعله، والقول قوله، ويستدلون بمثل قوله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وعلى قولهم تكون الخليقة ليس فيها عدل. نقول: إن الله تعالى أعدل من أن يضيع خلقه، ومن الأدلة على نقيض قولهم: أولاً: الأدلة على أنه تعالى ما خلق الخلق عبثاً، كقول تعالى: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] أي: مهملاً لا يؤمر ولا ينهى، وهذا حسبان باطل! وقوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]، أي: قد حسبتم ذلك، ولكنكم أخطأتم في هذا الحسبان، فما كان ربكم ليهملكم ولا ليترككم مهملين عبثاً. وكقوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27] دل على أن من اعتقد أنه خلقهم بغير حكمة، وإنما خلقهم هملاً وسدى، أنه من الكافرين الضالين. ومرت بنا الأدلة التي تنفي التسوية بين أهل الخير وأهل الشر، مثل قوله تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] أي: لا نجعلهم سواء، بل تأبى حكمة الله أن يجعل المتقين كالفجار، وتأبى أن يجعل المؤمنين كالمفسدين في الأرض، بل لابد أن يميز بينهم. وكذلك قوله تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ(3/374)
كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35]؟ لا يجوز، وهذا خلاف حكمة الله، أن يسوي بين المسلم وبين المجرم، فالمسلم له الثواب، والمجرم يستحق العقاب. ومثله قول الله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]، هل حسبوا ذلك؟ فهذا حسبان باطل! كيف يعتقدون ويحسبون أن نجعلهم -وهم قد اجترحوا السيئات- أن نجعلهم مثل أهل الحسنات؟! ومثل أهل الأعمال الصالحة؟! لقد أخطئوا في هذا الحسبان. هذا كله من مقتضى قول الأشاعرة أو المجبرة الذين يجعلون لله التسوية، ويقولون: يجوز أن يسوي بين الفاجر وبين المؤمن، فلذلك رد عليهم بهذه الآيات، وأصرحها آية سورة (ص)، وهو قوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:27-28] أي: لا نجعلهم، بل لابد أن نميز هؤلاء، فالله تعالى خلق هؤلاء وميزهم، وهؤلاء وحكم عليهم بالشقاء.. وهؤلاء يستحقون النصر والتمكين في الدنيا.. وهؤلاء يستحقون الخذلان والعذاب في الدنيا، وفي الآخرة فريق في الجنة وفريق في السعير.
الكلام على حديث: (لو عذب الله أهل سماواته... لعذبهم وهو غير ظالم لهم...)
…(3/375)
قال المؤلف رحمه الله: [وروى أبو داود ، والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس ، وعبادة بن الصامت ، وزيد بن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم) . وهذا الحديث مما يحتج به الجبرية، وأما القدرية فلا يتأتى على أصولهم الفاسدة! ولهذا قابلوه إما بالتكذيب أو بالتأويل! وأسعد الناس به أهل السنة، الذين قابلوه بالتصديق، وعلموا من عظمة الله وجلاله قدْر نعم الله على خلقه، وعدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم، إما عجزاً، وإما جهلاً، وإما تفريطاً وإضاعة، وإما تقصيراً في المقدور من الشكر، ولو من بعض الوجوه، فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وتكون قوة الحب والإنابة، والتوكل والخشية، والمراقبة والخوف والرجاء: جميعها متوجهة إليه ومتعلقة به، بحيث يكون القلب عاكفاً على محبته وتأليهه، بل على إفراده بذلك، واللسان محبوساً على ذكره، والجوارح وقفاً على طاعته. ولا ريب أن هذا مقدور في الجملة، ولكن النفوس تشح به، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى، وأكثر المطيعين تشح به نفسه من وجه، وإن أتى به من وجه آخر. فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه؟! ومن ذا الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له، ولو في وقت من الأوقات؟! فلو وضع الرب سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه لعذبهم بعدله، ولم يكن ظالماً لهم. وغاية ما يقدر توبة العبد من ذلك واعترافه، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه، وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالماً، ولو قدر أنه تاب منها، لكن أوجب على نفسه - بمقتضى فضله ورحمته - أنه لا يعذب من تاب، وكتب على نفسه الرحمة، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار أو يدخل الجنة، كما قال أطوع الناس لربه، وأفضلهم(3/376)
عملاً، وأشدهم تعظيماً لربه وإجلالاً صلى الله عليه وسلم : (لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) ، وسأله الصديق دعاء يدعو به في صلاته، فقال: (قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) ، فإذا كان هذا حال الصديق -الذي هو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين- فما الظن بسواه؟ بل إنما صار صديقاً بتوفيته هذا المقام حقه، الذي يتضمن معرفة ربه وحقه وعظمته، وما ينبغي له، وما يستحقه على عبده، ومعرفة تقصيره. فسحقاً وبعداً لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه، ولا يكون به حاجة إليها! وليس وراء هذا الجهل بالله وحقه غاية! فإن لم يتسع فهمك لهذا؛ فانزل إلى وطأة النِّعم، وما عليها من الحقوق، ووازن بين شكرها وكفرها، فحينئذ تعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم]. هذا الكلام دائر حول هذا الحديث. وهذا الحديث أنكرته المعتزلة، واحتجت به الجبرية، ولكنه حجة لأهل الحق وهم أهل السنة، صحيح أن الله تعالى لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم؛ وذلك لأن ما عملوه من الأعمال فهو بفضله، فهو الذي هداهم، وهو الذي أعطاهم، وهو الذي خولهم، وهو الذي سخر لهم، إذاً: فإذا عذبهم فإنه لابد أن يعذبهم على شيء من التقصير، حتى ولو كانوا مؤمنين ومتقين؛ لأن هذا الإيمان وهذا التقى محض عطاء الله ومحض فضله. ......
لن يدخل أحد الجنة بعمله
…(3/377)
قد ذكرنا أنه ورد في بعض الأحاديث: أنه يجاء برجل قد عمل أعمالاً صالحة أمثال الجبال، فيقول الله: أدخلوه الجنة برحمتي. فيقول: يا رب! بل بعملي، فعند ذلك يقول الله: حاسبوه. فيقول لنعمة البصر: خذي حقك. فلا تكاد أن تترك من حسناته شيئاً، وتبقى نعمة السمع، ونعمة النطق، ونعمة العقل، ونعمة القوة، ونعمة الشهوة، ونعمة الهداية، ونعمة الإلهام، ونعمة الرزق وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34] فعند ذلك يقول: أدخلوه العذاب، فيقول: بل -يا رب!- برحمتك. فلذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) ، أعمالنا لا تدخلنا الجنة حتى يرحمنا الله معها، فيدخل الجنة برحمته من يشاء، يقول الله تعالى: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان:31]. وإذا كان العباد مهما عملوا فإنهم بحاجة إلى رحمة الله؛ عُلم أنهم دائماً يسألون ربهم أن يعمهم بواسع رحمته، وهو سبحانه أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم.
كتب الله على نفسه الرحمة
…(3/378)
قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن رحمة الله تعالى واسعة، يرحم بها عباده فقال صلى الله عليه وسلم: (خلق الله الرحمة مائة جزء، كل جزء طباق ما بين السماء والأرض، فأنزل منها جزءاً واحداً في الأرض، فمن ذلك الجزء تتراحم المخلوقات، وتتراحم الدواب، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى تلك الأجزاء فرحم بها عباده)، فهذا معنى كونه كتب على نفسه الرحمة. وقال في الكتاب الذي كتبه: (فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، إن رحمتي تغلب غضبي)، ولأجل ذلك كان من أسمائه الحسنى: الرحمن الرحيم، وأخبر بأنه يرحم من عباده الرحماء، وقال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال: (من لا يَرحم لا يُرحم..) وكل ذلك دليل على أنه تعالى يجود على من يشاء ويرحمهم، ولكن أعمالهم مهما كانت، ومهما كثرت، فهي تقل عن أن يستحقوا بها وحدها الجنة. ولأجل ذلك لما نزل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] استثقلوا هذه الآية وقالوا: إنا لا نستطيعها، حتى أنزل الله بياناً لها قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ومع ذلك فسر عبد الله بن مسعود قول الله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102] فقال: تقوى الله حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
شكر النعمة واحتقار العمل
…(3/379)
فالإنسان مخلوق لعبادة الله، مأمور بأن يشغل كل أعماله، وكل أفكاره، وكل جوارحه، بعبادة الله، فنظره يجعله كله عبادة، فلا ينظر إلا نظر اعتبار، ولا ينظر إلا نظر رحمة، ولا ينظر إلا فيما ينفعه، فإذا نظر فيما يضره، أو نظر إلى ما لا يحل له، فقد عصى الله بهذا النظر، وكذلك سمعه الذي جعله الله واسطة يسمع به الأصوات، هو نعمة من الله، مأمور بألا يستعمله إلا في الشيء الذي ينفعه.. مأمور بأن يستمع به الوعظ والعلم والخير والإرشادات والتوجيهات والكلمات النافعة، ولا يستمع به ما يضره، فلا يستمع للهو ولا للعب، ولا يستمع النياح ولا القهقهة، ولا الشيء الباطل، ولا يستمع إلى غيبة أو نميمة أو نحوها، إن استمع إلى ذلك فقد كفر هذه النعمة وما شكرها. وهكذا نعمة النطق، هذا اللسان الذي أنطقه الله، وجعله معبراً عن حاجته، لابد أنه يستعمله في الشيء الذي ينفعه، فإذا صانه وحفظه ولم يتكلم إلا بخير، وجعله مستعملاً في الذكر وفي الشكر وفي الاعتبار، وفي الأمر بالخير والدلالة عليه، وفي النهي عن الشر والتحذير عنه، وكذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الشيء الذي ينفع من ذكر الله وما والاه، والإصلاح بين الناس.. ونحو ذلك، على حد قول الله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، فإذا فعل ذلك اعتبر شاكراً لهذه النعمة، وإذا تكلم فيما لا يعنيه، أو تكلم بما لا يجوز له اعتبر كافراً لهذه النعمة. وهكذا يقال في التفكير، العقل الذي مَنَّ الله به على الإنسان، واستعمله فيما ينفعه، ففكر في آيات الله، وفكر في مخلوقاته، وتدبر آياته، وتدبر ما بين يديه وما خلفه، وتدبر أول الأمر وآخره.. وما أشبه ذلك؛ اعتبر شاكراً لذلك، ولكن إذا صرف شيئاً من ذلك فيما يضره، فقد كفر هذه النعمة، وذلك كما إذا جاء تفكيره وتعقله في أموره الدنيئة، أو في الكيد(3/380)
للإسلام والمسلمين، أو بتدبير الشئون الدنيوية ونسي الأمور الدينية.. أو ما أشبه ذلك؛ اعتبر كافراً بنعمة العقل. وهكذا يقال في نعمة الجوارح، فاليدان يستعملهما ويبطش بهما في الشيء الذي يقربه إلى الله، والرجلان يسير بهما في الشيء الذي ينفعه، والمأكل والمشرب لا يدخله إلا الشيء الذي يفيده وينفعه. ومعلوم أن الناس في هذا لابد أن يقعوا في أخطاء. إذاً: فكيف مع ذلك يزكون أنفسهم؟! ويدعون أنهم من المقربين؟! وأن حقاً على الله أن يعطيهم؛ وأنه إذا لم يعطهم اعتبر ظالماً لهم؛ وأنه إذا عاقبهم وسلط عليهم الفقر والفاقة ونحو ذلك فهو ظلم منه لهم.. وما أشبه ذلك..؟! نقول: لا شك أن هذا سوء ظن بالله تعالى، وأنه حسن ظن بأنفسهم، والإنسان عليه أن يرجع إلى نفسه بأن يلومها غاية اللوم، وأن ينسب التقصير إليها، وأن يحاسبها أشد المحاسبة، فبذلك يكتبه الله تعالى من أهل الرحمة، ومن أهل الثواب. أما إذا لم يحاسب نفسه، بل اعتقد أنه من المحسنين، وأنه من المتقين، وأنه قد فعل وفعل، وأخذ يمدح نفسه، وأخذ يرفع من شأنه، ويفضل عمله على عمل غيره؛ فإن في هذا ما يسبب بطلان عمله ورده عليه. وإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعترف بأنه لا يدخل الجنة إلا إذا رحمه الله بقوله: (ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، وكذلك من الملائكة من هم سجود من حين خلقوا إلى يوم القيامة، وإذا كان يوم القيامة يقولون: يا ربنا! سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. فكيف بنا نحن الذين قد أضعنا الكثير من حياتنا؟! والذين قد اتبعنا كثيراً من الأهواء، وقد أطعنا النفوس، ومع ذلك نزكي أنفسنا! والله تعالى يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]؟! فعلى المسلم أن يعتقد أن الله سبحانه هو أرحم بعباده، فيأتي بأسباب الرحمة، ويعتقد بأنه إذا لم تعمه رحمة الله فإنه خاسر، وأنه جعل للرحمة أهلاً، فقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ(3/381)
شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156] إلى آخر الآيات، ذكر أهلها، هؤلاء هم أهل الرحمة، فليس كل من تمناها تحصل له، إذاً فليس أحد ينجيه عمله إلا برحمة الله، ورحمة الله لها أهل، وأسباب الرحمة سهلة ويسيرة على من يسرها الله عليه.
شرح العقيدة الطحاوية [75]
لم يزل المسلمون يدعون لموتاهم ويتصدقون عنهم، ويعملون أعمال البر المختلفة يقصدون بها وصول الثواب إليهم، وهم في ذلك مستندون إلى الأدلة الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة.
عظيم فضل الله علينا يوجب علينا شكره
…(3/382)
أحمد الله سبحانه على ما أولانا من النعم ودفع من النقم، نسأله سبحانه أن يوزعنا شكر نعمه التي أنعمها علينا وعلى والدينا، وأن يعاملنا بفضله، ولا يعاملنا بعدله، فإنه سبحانه هو المنعم بكل أنواع الإنعام، فهو الذي أعاننا على ذكره وشكره، وهو الذي هدانا لطاعته وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]. فالهداية فضل منه ونعمة، وكذلك الإعطاء والمنة والإلهام.. كل ذلك محض فضله على عباده؛ حتى عباداتهم هي إلهام منه وتوفيق، فهو الذي أعانهم ووفقهم وسددهم وقواهم، وجعلهم مطيعين له، ولو شاء لأضلهم جميعاً، ولو شاء لهداهم جميعاً، وله المشيئة النافذة، وله الحكمة البالغة، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ونعمه على عباده لا تحصى، وأياديه عليهم لا تستقصى، فإذا مسهم بالسرور فهو محض فضله، وإذا مسهم بضر فهو ابتلاء منه وامتحان، وفي الصبر على ذلك أجر عظيم، ولذلك يقول بعضهم في بيان الشكر: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتسع العمر إذا مس بالسراء عم سرورها وإن مس بالضراء يعقبها الأجر فالعبد إذا قال: الحمد لله، فهذه نعمة ألهمه الله وأعانه عليها، فهذه النعمة التي هي الإلهام تحتاج إلى نعمة أخرى يشكرها بها، فإذا قال: أشكر الله، أو: الشكر لله، فهذه نعمة أخرى تستدعي أن يشكر الله عليها، فإذا قال: رب! لك الحمد، فهذه نعمة أخرى تستدعي أن يشكرها، وكذلك إذا ذكر الله وكبره وسبحه واستغفره، كل ذلك نعم منه، وكل نعمة فلها حق أن تشكر ولا تكفر، ولأجل ذلك كانت له النعمة على عباده، وله الفضل عليهم، كما مر بنا أنه لو عذب أهل سماواته لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم؛ وذلك لأنه لا يظلم أحداً، فلا يعذبهم إلا على تقصير منهم في شكر ربهم، ولو حاسبهم على أعمالهم ولو كانت أمثال(3/383)
الجبال، لم تقاوم أصغر نعمة عليهم، سواء كانت نعمة حسية كأسماعهم وعقولهم وألسنتهم وقواتهم، أو نعماً معنوية: كهدايتهم وتعليمهم وفطرتهم الحسنة.. ونحو ذلك، فإنه لو حاسبهم على هذا العطاء لعذبهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:8]: (إن ذلك حساب العرض)، أن تعرض عليهم أعمالهم دون أن يناقشوا فيها؛ ولذلك يقول: (إن من نوقش الحساب عُذِّب)، أي: من ناقشه الله الحساب على دقيق النعم وجليلها، وعلى دقيق الأعمال وجليلها، وصغيرها وكبيرها، فإنها وإن كانت حسناته أمثال الجبال لا تقوم أمام أصغر نعم الله عز وجل عليه، فإذاً لابد إذا حاسبهم حساباً شديداً عسيراً أن يعذبهم. ومر بنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، هذا وهو سيد الخلق وسيد العاملين، الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، والذي كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، ويقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً) ، ومع ذلك أخبر أنه بحاجة إلى رحمة الله! إذاً: فنحن أولى بأن نحتقر أعمالنا، نحن أولى بأن نظهر فقرنا وفاقتنا، نحن أولى بأن نصغر أنفسنا، نحن أولى بأن نظهر الضعف.. نظهر الفقر.. نظهر الفاقة.. نظهر العجز.. نظهر الذل الذي نحتاج معه إلى التقوية، والذنوب التي نحتاج معها إلى المغفرة، والتقصير الذي نحتاج معه إلى العفو، فإذا لم يتلاف عباده بعفوه فإنهم هالكون، ولذلك لا ينبغي لنا أن نزكي أنفسنا، ونمدحها بكثرة أعمالنا، ونقول: نحن أكثر عملاً، نحن أكثر حسنات من هذا وهذا، نحن الذين عملوا وعملوا، فإن هذه التزكية قد تكون سبباً لحبوط العمل وبطلان ثوابه، ولأجل ذلك يقول الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ [النجم:32] أي: لا تمدحوها وتفتخروا بأعمالكم، بل الله يزكي من يشاء، فهو الذي يمدح من يشاء أو(3/384)
من يستحق المدح، وعلى هذا فليحتقر المسلم عمله حتى يحصل له مضاعفة الله له، وليطلب من ربه المغفرة، وليدخل عليه من باب الذل والافتقار، وربنا سبحانه عند المنكسرة قلوبهم من أجله. ......
مسألة: انتفاع الأموات بسعي الأحياء
…
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قوله: (وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات). اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين: أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته. والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له. والصدقة والحج على نزاع فيما يصل إليه من ثواب الحج، فعن محمد بن الحسن : أنه إنما يصل إلى الميت ثواب النفقة، والحج للحاج، وعند عامة العلماء: ثواب الحج للمحجوج عنه، وهو الصحيح. واختلف في العبادات البدنية: كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر: فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها. والمشهور من مذهب الشافعي و مالك عدم وصولها. وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتة، لا الدعاء ولا غيره. وقولهم مردود بالكتاب والسنة، لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، وقوله: وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:54]، وقوله: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به) ، فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه. واستدل المقتصرون على وصول العبادات التي لا تدخلها النيابة بحال، كالإسلام والصلاة والصوم وقراءة القرآن، وأنه يختص ثوابها بفاعله لا يتعداه، كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره- بما روى النسائي بسنده، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:(3/385)
(لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة)]. هذا موضوع آخر، بعدما انتهى الكلام على ما يتعلق بالقضاء والقدر وما أشبهه، أتى الطحاوي رحمه الله بهذه العبارة رداً على بعض المبتدعة، في مسألة: هل ينتفع الأموات بشيء من أعمال الأحياء أم لا؟ صحيح أن الأموات قد طويت صحف أعمالهم، وقد ختم عليها، فلا يستطيعون زيادة في الحسنات، ولا نقصاً من السيئات؛ وذلك لأنهم أنهوا حياتهم، ودخلوا في عالم البرزخ الذي هو أول منازل الآخرة، فكأنه ختم على أعمالهم، ولكن الأحياء قد يهدون إليهم بعض الأعمال. ......
انتفاع الأموات بدعاء الأحياء وبما تسببوا به من أعمال
…(3/386)
هذه الأعمال التي يهديها إليهم الأحياء إما أن تكون أعمالاً بدنية، أو أعمالاً قولية، أو أعمالاً مالية، فالأعمال البدنية: كالصلاة، والصوم، والطواف.. وما أشبهها، والأعمال المالية: كالصدقات، والنفقات، والأضاحي.. وما أشبهها، والأعمال القولية: كالدعاء، والذكر، والاستغفار.. وما أشبهها. ولا شك أنهم ينتفعون بدعاء الأحياء لهم، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، نحن ندعو بهذا للذين سبقونا بالإيمان ولو لم نعرفهم، ولو كان بيننا وبينهم مائة سنة أو مئات أو ألوف السنين، فدل ذلك على أنه مشروع، وأنه ينفعهم، وسيأتينا أنهم ينتفعون بالصلاة عليهم، فالصلاة على الميت هي أول شيء يزود به الميت، ولو لم يكن له أجر ونفع فيها لم تشرع، إذاً هذا من الذي ينتفعون به، وهو الدعاء لهم. كذلك الأعمال التي كانوا سبباً فيها، يبقى لهم أجرها، فإذا تصدق أحدهم بصدقة، واستمرت تلك الصدقة، فإن الأجر مستمر، وذلك مثل: الأحباس والأوقاف التي ينتفع بها، فهذه يصل أجرهم إليهم، وهكذا البيوت التي ينتفع بها كالمساجد، فإذا بنى مسجداً فإنه يأتيه أجره ولو بعد موته بمائة سنة أو أكثر، ما دام يصلى في هذا المسجد، وهكذا إذا بنى مدرسة لتحفيظ القرآن، أو لطلب العلم النافع؛ فإن ذلك -أيضاً- يجري عليه أجره، وهو معنى قوله: (صدقة جارية). وكذلك غلات الأوقاف، فإذا جعل غلة هذا الوقف في صدقات أو في جهاد -يعني: في أسلحة للمجاهدين ونحوهم- كان ذلك من النفقة النافعة التي يأتي إليه أجرها بعد موته، وكذلك إذا كان قد ورث علماً ينتفع به، إذا ألف كتباً كتبها، وجعل فيها علوماً نافعة، فإنه ما دام يُقرأ فيها، ويدعى لمن ألفها وكتبها، فلا شك أن ذلك مما يستمر أجره عليها. وهكذا إذا نشر علماً: فكتب أو طبع مصاحف ونشرها، أو كتب علم طبعها وأنفق عليها ونشرها،(3/387)
وصارن ينتفع بها وتقرأ، ويدعى لمن نشرها، لا شك أن ذلك من النفقات المالية التي يستمر أجرها له بعد موته. وكذلك كل إنسان كان متسبباً في عمل من الأعمال النافعة، ذكروا من ذلك الأحباس التي في الطرق ينتفع بها، كالمياه التي يشرب منها أبناء السبيل ونحوهم، وحفر الآبار التي ينتفع بها المارة ونحوهم، وإجراء الأنهار، وإصلاح الطرق التي يمر بها المسلمون وينتفعون بها، وإضاءتها -مثلاً- إذا احتاجت إلى إضاءة وتنوير، وجعل المرافق فيها كالمياه وما ينتفع به... كل ذلك من الأعمال الخيرية التي إذا فعلها احتساباً كان له أجر. وهكذا إذا جعل غلته في تجهيز الأموات، وحفر القبور، وتحنيط الميت وتغسيله، وقيمة الأكفان وما أشبهها، فإن ذلك من الأعمال الصالحة، فيستمر له أجر ذلك ولو بعد موته بعشرات السنين؛ وذلك لأن هذا مما أنفق فيه.
معنى حديث: (لا يصومن أحد عن أحد)
…(3/388)
أما الأعمال البدنية فقد اختلف فيها، وقد تقدم الحديث الذي قال فيه: (لا يصومن أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد) ، ولكن ذلك محمول على الأحياء، فالأحياء القادرون لا يجوز لأحدهم أن ينوب عن أحد، فلا تقل لولدك: صل عني الظهر أو العصر، أو نحو ذلك؛ لأن هذه العبادة تتعلق ببدنك، فلا ينوب فيها عنك أحد، وكذلك لو أحرمت بنفسك فلا تقل لولدك أو لعبدك: طف عني طواف الإفاضة، أو قف عني بعرفة أو نحو ذلك، فإن هذا عمل بدني لا يقوم فيه أحد عن أحد، وكذلك إذا كنت قادراً فلا تقل -مثلاً-: صم عني هذا اليوم من رمضان، أو صم عني هذا الشهر.. لأنه لا يجوز التوكيل في مثل هذه الأعمال؛ لأنها متعلقة بالبدن؛ ولأن الحكمة فيها أن يخضع ذلك العامل ببدنه، وأن يشعر بذله واستضعافه بين يدي ربه، فإذا كان المتذلل غيره لم يتأثر بذلك. فإذاً: الحكمة في شرعية الصلاة أن يخضع المصلي ويخشع ويتواضع، ولا يحصل له أجر إذا تواضع غيره، بل ذلك التواضع يحصل للمتواضع، ولا يحصل له. ولو قال: أهديت صلاتي لك، لم يجز؛ وذلك لأنه لابد أن يكون عمله من نفسه، وكذلك الحكمة من الصيام حصول ألم الجوع والجهد والظمأ، والصبر على ذلك، أما إذا كان يأكل ويشرب ويتمتع، والذي صام غيره، لم تحصل المصلحة التي هي تأثره بهذا الصيام، فيكون أجر الصيام لمن صامه لا له، وإن كان في ذلك استثناء كما سيأتي.
الدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه
…(3/389)
قال رحمه الله: [والدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح. أما الكتاب: فقال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء. وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة، والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة، وكذا الدعاء له بعد الدفن، ففي سنن أبي داود ، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) . وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم، كما في صحيح مسلم ، من حديث بريدة بن الحصيب ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) وفي صحيح مسلم -أيضاً- عن عائشة رضي الله عنها: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أقول إذا استغفرت لأهل القبور؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) . وأما وصول ثواب الصدقة: ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) . وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم.(3/390)
قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها) .. وأمثال ذلك كثيرة في السنة. وأما وصول ثواب الصوم: ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) وله نظائر في الصحيح، ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال بالإطعام عن الميت دون الصيام عنه، لحديث ابن عباس المتقدم، والكلام على ذلك معروف في كتب الفروع. وأما وصول ثواب الحج: ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت الى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فاقضوا الذي لله، فإن الله أحق بالوفاء) ونظائره أيضاً كثيرة. وأجمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت، ولو كان من أجنبي، ومن غير تركته، فقد دل على ذلك حديث أبي قتادة ، حيث ضمن الدينارين عن الميت، فلما قضاهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن بردت عليه جلدته) ، وكل ذلك جار على قواعد الشرع، وهو محض القياس، فإن الثواب حق العامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك، كما لم يُمنع من هبة ماله في حياته، وإبرائه له منه بعد وفاته. وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية، يوضحه: أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية، وقد نص الشارع على وصول ثوابه إلى الميت، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية؟]. هذه أدلة لمن قال بأنه ينتفع الميت بأعمال الحي التي يهديها له، وانتفاعه بالأقوال كالذكر إذا أهدي له، وكذلك الاستغفار له والدعاء وما أشبه ذلك، دليله الأحاديث التي تحث على الاستغفار للأموات والدعاء لهم؛ وذلك لأن دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، وقد ورد أنه إذا دعوت لأخيك الغائب يقول الملك: آمين، ولك بمثل، وسواء كان ذلك الذي دعوت له حياً أو ميتاً. وكذلك(3/391)
أخبر الله تعالى بأن الملائكة تستغفر للمؤمنين، فدل على أنهم ينتفعون بأعمال غيرهم؛ وذلك لأن هذا العمل الذي يهدى إليهم يعتبر تبرعاً من ذلك العامل.
مناقشة المانعين في معنى آية: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)
…
استدل المانعون من المبتدعة، بقول الله تعالى في سورة النجم: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، وكثيراً ما يستدل بهذه الآية بعض المتأخرين، الذين يمنعون من الإهداء إلى الأموات، ويمنعون الأضحية عنهم، ويمنعون القراءة لهم.. أو نحو ذلك. ولا شك أن الآية إنما فيها الملكية، أي: لا يملك الإنسان إلا سعيه، أما سعي غيره فلا يقدر عليه، فلا يقدر الميت أن يأخذ من أعمال أولاده، ولا يقدر أن يأخذ من أعمال زوجاته، ولو كانوا يحبونه. ولعل هذا في الدار الآخرة، فقد ورد في تفسير قول الله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37] أنه يلقى الرجل ولده فيقول: يا بني! أنا خير أب لك، أنا الذي أعطيتك، أنا الذي نفعتك وربيتك. فيقول: صدقت ونعم الأب! فيقول: إني بحاجة إلى حسنة أو حسنات ليثقل بها ميزاني، فيقول الابن: وأنا بحاجة إلى ما أنت بحاجة إليه، نفسي.. نفسي! ويأتي إلى زوجته، فيذكرها صحبته، فيسألها حسنة أو حسنات، فتمتنع وتقول: أريدها لنفسي، أخشى أن يخف ميزاني.. وهكذا، ففي الدار الآخرة لا ينتفع أحد إلا بعمله، وأما في الدنيا فلا مانع من أن يهدي الحي للميت، ومن أن يعطيه، ومن أن يتصدق عنه ويدعو له، لا مانع من ذلك؛ حيث إنه تبرع بذلك.
الصلاة على الجنازة دليل على انتفاع الميت بعمل الحي
…(3/392)
وتقدمت الأدلة في الدعاء للميت، فمنها: الدعاء في الصلاة عليه، ففي سنن أبي داود بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) أي: ادعوا له وأنتم صادقون بالدعوات الجامعة. وفي صحيح مسلم وغيره حديث عوف بن مالك : (أنه صلى الله عليه وسلم صلى على ميت، يقول عوف : فحفظت من دعائه قوله: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله. يقول عوف : حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت؛ لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له) ، وهذا تعليم منه لأمته أن يدعوا بمثل هذه الدعوة وإن لم تكن معينة مخصصة، بل يدعون بها وبما يماثلها، ولو كان ذلك لا ينفع الميت لم تشرع هذه الصلاة التي هي صلاة الجنازة. وكذلك بعد الموت وبعد الدفن، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه أن يسألوا له التثبيت، ويقول: (إنه الآن يسأل)، فيقولون: اللهم ثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، أو اللهم ثبته عند اللقاء، وما أشبه ذلك، فدل على أنه ينتفع بذلك.
دعاء زيارة المقابر دليل على انتفاع الميت بعمل الحي
…(3/393)
كذلك ما ورد من الدعاء للأموات عند زيارة المقابر، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يسلموا عليهم والسلام دعاء، يقولون: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) ، فهذا دعاء لهم بالمغفرة، ودعاء لهم بالعافية، فدل على أنهم ينتفعون بذلك، وأنهم محتاجون إليه. ولا شك أنه يأتيهم من دعوات الأحياء حسنات كثيرة ينتفعون بها، وتزداد بها حسناتهم، والقصص في ذلك كثيرة مشهورة، أشار إليها كثير من العلماء، ومن أراد الاطلاع والتوسع فليقرأ كتاب الروح لابن القيم رحمه الله، فإنه استوفى ما يتعلق بهذه المسائل، ولعل الشارح لخص هذا منه، وكذلك لتلميذه ابن رجب كتابه الذي سماه: أهوال القبور في أحوال أهلها إلى النشور.
الكلام على انتفاع الميت بأعمال الحي البدنية
…(3/394)
وأيضاً ما تقدم فيما يتعلق بالأعمال البدنية التي يعملها الحي عن الميت كالصيام، وفيه خلاف، فذهب الإمام أحمد -في المشهور عنه- إلى أنه لا يصوم عنه إلا النذر، فلا يصوم عنه أيام رمضان؛ وذلك لأن في الحديث (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: نعم -ثم شبه ذلك بالدين- وقال: لو كان على أمك دين فقضيته، أيجزئ ذلك؟) فشبه الصوم الذي عليها بالدين، ولما ذكر في الحديث صوم النذر خصه أحمد بالنذر ، ومنع صيام الفرض، واستدل بالحديث الذي تقدم، وهو قوله: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد). وقد عرفنا أن هذا الحديث محمول على الأحياء، بمعنى: لا يصوم حي عن حي، ولا يصلي حي عن حي، فأما الأموات فقد صح لنا هذا الحديث، وصح لنا -أيضاً- حديث عائشة وفيه: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، ولم يخص ذلك بنذر ولا بفرض، فدل على أنه من المشروع أن يصام عنه القضاء ونحو ذلك، وإذا أطعموا عنه أجزأ ذلك، سواء كان الصوم الذي عليه فرضاً أو نذراً. وأما النفل عنه: أن تصوم يوماً نفلاً، وتقول: اللهم اجعل ثوابه لوالدي أو لوالدتي.. أو نحو ذلك، فهذا محل خلاف أيضاً، ولعل القياس يدل على جوازه، وذلك أنه إذا سقط عنه الفرض بتطوعك عنه، فمعنى ذلك وصول الأجر إليه، وأيضاً: أنت مأجور على صيام التطوع، فإذا أهديت أجرك لقريبك تطوعاً واختياراً، فما المانع أن يكون أجره له؟! هذا بالنسبة إلى الصيام. وكذلك يقال في الصلاة: إذا أهدى صلاة له، وإن لم يكن ذلك مشهوراً.
وصول الصدقة والحج وانتفاع الميت بها
…(3/395)
وأما الصدقات فلا شك في وصولها، فإن كانت من الميت فهي الأحباس التي يوصي بها، وإن كانت تبرعاً من الحي فلا شك في أنه يصله أجرها، فإذا تصدقت عنه صدقة خاصة كالصدقة في وقت الأضحية التي تسمى الأضحية، وكذلك الصدقة في رمضان بطعام أو بلحم أو بكسوة على مستحق، أو بنقود ينتفع بها، وجعلت أجرها لأخيك أو لأبيك، فإنه ينتفع بذلك ويصل إليه الأجره، وكذلك كل الأعمال المالية. أما العمل الذي يتكون من المال والعمل كالحج؛ فإنه يتركب من أمرين: عمل بدني، وعمل مالي، فالبدني هو ركوب هذا الحاج، وتعبه في سفره، وإحرامه وطوافه ووقوفه ورميه.. وما أشبه ذلك، أما العمل المالي فهو نفقاته: ومنها أجرة الركوب، وكذلك نفقته في ذهابه وإيابه، وكذلك ذبيحته التي يذبحها كفدية.. هذه أعمال مالية. فإن كان هذا المال من الميت أو من تركته فإن أعمال هذا العامل تكون لذلك الميت، حيث إن هذا المال هو الذي وصل بسببه إلى تلك المشاعر، فكأنه كان عاجزاً عن أن يصل إلى مكة لقلة المال، فلما أخذ هذا المال قوي، فدفع منه الأجرة، ودفع منه النفقة، ودفع منه الأضحية.. وما أشبه ذلك، فكان ذلك متسبباً عن هذا المال، فكان أجره لصاحب المال، فلأجل ذلك يقولون: تصح الاستنابة في الحج، والأجر للمحجوج عنه الذي دفع المال، والناس على هذا. ونقول تعليقاً على هذا: إن الذي يحج بدلاً عن غيره بمال يأخذه لا يجوز له ذلك إلا إذا كان عاجزاً عن الحج بماله، كالفقير الذي لا يستطيع الوصول إلى مكة لفقره، فيأخذ هذا المال لينفق منه حتى يصل إلى المشاعر ويؤدي تلك المناسك، فهذا هو الذي يؤجر على حجه، ويكون الأجر الأصلي لصاحب المال.
شرح العقيدة الطحاوية [76]
يختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن كما يختلفون في جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت، لكنهم لا يختلفون في المنع من أخذ الأجرة على القراءة للميت، وذلك ما سيعرفه القارئ في هذه المادة.(3/396)
دعاء الأحياء وصدقاتهم تنفع الأموات
…
تتعرض كتب العقيدة لكل شيء فيه خلاف مع المبتدعة، ولو كان من الفروع، ولو كان المخالف فيه مخالفاً لنص ظاهر، أو كان المخالفون فيه قليلين، ومن ذلك مسألة وصول ثواب الأعمال التي يعملها الأحياء إلى الأموات. وقد ورد ما يدل على وصول بعض الأعمال، وخصها بعضهم بما تسبب فيه الميت، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) . فالصدقة الجارية هي: الأوقاف والأحباس التي وقفها في حياته لينتفع بها كبناء المساجد والمدارس، وكذا الصدقات التي هي غلات كوقف ثمار النخيل على الضعفاء، وكوقف غلات البيوت ونحوها على الجهاد، أو على الحج.. وما أشبه ذلك. وأما العلم الذي ينتفع به: فهو الكتب التي كتبها وألفها، وكذلك العلوم التي علمها من ينقلها عنه، فإنه ما دام ينتفع بها يأتيه أجر. وأما الولد الصالح: فيعم الذكر والأنثى من ذريته وذرية ذريته الذين يدعون له. وأصل الدعاء هو سؤال الله للميت مغفرة ورحمة وجنة وثواباً، وتخفيف حساب ومغفرة ذنب.. ونحو ذلك. والأحياء يدعون للأموات، وأول ما يدعون لهم في صلاتهم على الجنازة عندما يقدم الميت بين يدي المصلين، فيدعون له بالمغفرة والرحمة، وبإدخاله الجنة، وبتكفير الخطايا وما أشبه ذلك، ولا شك أنه ينتفع بذلك؛ لأن هذا من السنة. وأما بقية الأعمال: فاتفقوا على أن من تبرع بصدقة عن ميته وصله أجرها، سواء كانت الصدقة عيناً -يعني: نقوداً- أو طعاماً أو لحماً أو نحو ذلك من الصدقات، وهي داخلة في قوله: (صدقة جارية)، فهذه الصدقة تعم ما إذا كان الميت هو الذي سبل تلك الصدقة، أو تصدق بها عنه ذريته، يعني: تبرعوا بمال يتصدق بغلته فينتفع هو بتلك الصدقة التي تصدقوا بها وجعلوا أجرها لميتهم، ويعم ذلك الأضاحي إذا أوصى بها، أو ذبحت عنه وجعل أجرها له؛ فإنها من جملة الصدقات. وأما الصدقات الأخرى: فلا(3/397)
شك أنه يصله أجرها، فإذا تصدق عنه ولده أو قريبه صدقة على فقير، أو على مسكين، أو على ابن سبيل، أو على ذي حاجة من قريب أو بعيد؛ نفعه ذلك، وكذلك إذا أطعم طعاماً أو كسا كسوة أو نحو ذلك، ونوى أجرها لميته؛ نفعه ذلك؛ لأن هذا كله من الصدقات التي إذا تبرع بها ونوى أجرها للميت وصل أجرها بمجرد النية. ويدخل في ذلك الصدقات التي يتبرع بها غير أقاربه، فلو تصدق عنه أحد وليس من أقاربه، بل لإحسان إليه، أو لمحبة له لأنه نفع الإسلام والمسلمين مثلاً، فأراد أن يتصدق عنه؛ نفعه ذلك. ولا شك أن أجر الدعاء يصل إلى الأموات، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته الصلاة على الميت، وأن يقولوا في الصلاة عليه: (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله..) إلى آخر الدعاء، وكذلك فعل ذلك بنفسه، فدعا بمثل هذا الدعاء الخاص على الجنازة، كقوله: (اللهم اغفر له وارحمه)، والدعاء العام كقوله: (اللهم اغفر لحينا وميتنا..) إلى آخره. ولولا أنه ينتفع بذلك لما شرع هذا الدعاء له بعد موته. وكذلك علم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة إذا زاروا القبور أن يدعوا بقولهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) ، والسلام دعاء، فإذا قال: السلام عليكم، فقد دعا لهم بالسلامة من العذاب والسلامة من الآفات ونحوها. وكذلك قوله: (نسأل الله لنا ولكم العافية) هذا دعاء لهم بالعافية، وكذلك قوله: (واغفر لنا ولهم) دعاء لهم بالمغفرة، وكل ذلك دليل على أنه يصلهم الدعاء؛ وذلك لأنه سؤال من الله، يسأل العبد ربه أن يرحم هذا الميت وأن يتجاوز عنه، فالله تعالى إذا استجاب هذا الدعاء وصل أجره ووصل أثره إلى ذلك الميت، وانتفع بهذا الدعاء واستفاد منه، فكان للميت أجر، وللحي الداعي أجر، كما إذا دعا للغائب، يقول في الحديث: (إن المسلم إذا(3/398)
دعا لأخيه المسلم فإن ملكاً يقول: آمين؛ ولك بمثل). فكذلك الدعاء للميت. وكذلك بقية الأعمال ولو كانت بدنية فالراجح أنه يصله أجرها، وقد تستثنى من ذلك بعض الأشياء التي يكون العمل فيها غير خالص لله. ......
لا تعطى الأجرة لمن قصد بحجه المال
…
وننبه إلى مسألة الحج عن الغير، هل يصل المحجوج عنه الأجر أم لا؟ نقول: يكثر التساهل في إعطاء الإنسان أجرة على أن يحج، فهل يصل الثواب إلى ذلك المحجوج عنه أم لا يصل إليه؟ الجواب: يختلف ذلك باختلاف حالة الحاج الذي أخذ هذا المال ليحج به، فننظر في حالته: إن كان قصده المال فلا حج له، وإن كان قصده الحج فله حج. وكيف يكون قصده المال؟ إذا كان يريد أن يأخذ هذا المال ليتاجر به، أو ليتملكه وينفقه في أموره الخاصة، لا أنه يريده لينفقه في الحج حتى يتيسر له الحج، فالذي يقصد بأخذه المال الحج، ويقول: أنا عاجز عن الحج، عاجز عن تكلف السفر والنفقة وأجرة الركوب، وأحب أن أحج، وأتمنى أن أقف مع الحجاج، وأن تعمني معهم الرحمة، وأن تنزل علي المغفرة معهم، وأن أكون ممن يباهي الله بهم الملائكة، وأتذلل لله تعالى بإظهار الافتقار، وبإظهار الضعف بين يديه؛ ولكن يعوقني المال، فلا أجد كفاية ذهابي وإيابي، ولا أجد في مالي ما أتمتع به إلى أن أصل إلى تلك المشاعر؛ وذلك لفقري وفاقتي، فأنا آخذ هذا المال وأنفق منه، أو أعطي منه ولدي أو أهلي ما يكفيهم مدة غيبتي، حيث إني أنشغل عنهم بهذا السبب، وقد كنت أكفيهم بكسبي، وأما الآن فقد غبت عنهم، فأنا آخذ هذا المال لأنفق منه عليهم، ولأنفق منه على نفسي، ولأدفع منه أجرة الركوب، ولا أجعل الباقي زيادة، ولا آخذ إلا قدر الكفاية. فمثل هذا يقبل حجه، ويكون له أجر على حجه، ويكون للمحجوج عنه أجر الحجة التي حجها عنه. أما إذا كان قادراً على أن يحج بماله، وليس له رغبة في الحج، ولكن ما أراد إلا أن يأخذ هذا المال ليزيد به ماله إن كان له مال، ولم يكن من الذين يشتاقون(3/399)
إلى الحج، ولم يكن من الذين يحبون أن يقفوا في المشاعر، ويتمنون أن يشاركوا في تلك المناسك، لا همة له في ذلك، إنما همته هذا المال الذي بذل له، والذي أخذه، فتراه -مثلاً- يكفيه مدة ذهابه وإيابه ألفان، ولكنه يطلب أكثر، ويقول: فلان يعطي خمسة آلاف، فلان يعطي أربعة آلاف، فلان يدفع ثمانية آلاف أو نحو ذلك؛ فكأنه والحال هذه ما حج إلا لأجل الدنيا ولأجل هذا المال، فيدخل فيمن يريد الدنيا بعمل الآخرة، ويدخل فيمن يعبد الدنيا، ويدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدنيار، تعس عبد الدرهم) أي: أنه عبد لهذا المال؛ حيث إنه عمل عملاً صالحاً يبتغى به وجه الله، ولم يعمله إلا لأجل هذا الكسب وهذا المال، فمثل هذا لو أعطيته ولو عشرة آلاف أو ثمانية آلاف فأجر حجته ناقص؛ لأنه يدخل في الذين ذمهم الله بقوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا [هود:15]، وقوله: وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] . فيتفطن لمن يدفع أجرة الحج، ويسأل ذلك الحاج: ماذا تريد من هذه الحجة؟ أتريد المال أم تريد الحج؟ إن كنت تريد الحج مشتاقاً إليه ولكنك عاجز؛ فلك أجر، أما إذا كنت لا تريد الحج ولا رغبة لك إلا في المال؛ فلا حج لك ولا أجر لك، ولو أعطيتك مالاً كثيراً فلن يكون هناك أجر لهذه الحجة، فخير لي أن أتصدق على الضعفاء والمساكين فإنه أولى من أن أعطي المال هذا الذي يجعله زيادة في رأس ماله.. أو نحو ذلك. ولكن إذا كان هذا الذي يريد أن يحج من الفقراء، ونويت بإعطائه الصدقة عليه؛ لكونه مسكيناً وفقيراً، ونويت بالزيادة أنها بأجرها، وأنها صدقة عليه؛ لكونه من الذين تحل لهم الصدقة؛ فلك أجر على هذه النية، ولو كانت نيته غير الحج، يعني: لو كانت نيته المال لكونه بحاجة إلى المال، فأنت إذا نويت أنها صدقة،(3/400)
وأنه إذا حج فربما ينتفع الميت بحجته، فإذا كان قصده المال وهو من أهل الاستحقاق كان للميت أجر الصدقة، فينتفع الميت، سواء كان أجر صدقة أو أجر حجة، ويقال كذلك في بقية الأعمال.
الجواب على أدلة المانعين من وصول ثواب الأعمال إلى الأموات
…
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] قد أجاب العلماء بأجوبة: أصحها جوابان: أحدهما: أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس؛ فترحموا عليه ودعوا له، وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم. يوضحه: أن الله تعالى جعل الإيمان سبباً لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك. الثاني -وهو أقوى منه-: أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه. وقوله سبحانه: أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [النجم:38-39] آيتان محكمتان، مقتضيتان عدل الرب تعالى، فالأولى: تقتضي أنه لا يعاقب أحداً بجرم غيره، ولا يؤاخذه بجريرة غيره، كما يفعله ملوك الدنيا. والثانية: تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله، لينقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى. وكذلك قوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة:134]، وقوله: وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(3/401)
[يس:54]، على أن سياق هذه الآية يدل على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره، فإنه تعالى قال: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:54]. وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) فاستدلال ساقط؛ فإنه لم يقل: انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل، لا ثواب عمله هو، وهذا كالدين يوفيه الإنسان عن غيره، فتبرأ ذمته، ولكن ليس له ما وفى به الدين. وأما تفريق من فرق بين العبادات المالية والبدنية فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الصوم عن الميت -كما تقدم- مع أن الصوم لا تجزئ فيه النيابة، وكذلك حديث جابر رضي الله عنه، قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه، فقال: باسم الله، والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي) ، رواه أحمد و أبو داود و الترمذي ، وحديث الكبشين اللذين قال في أحدهما: (اللهم هذا عن أمتي) ، وفي الآخر: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد) رواه أحمد . والقربة في الأضحية: إراقة الدم، وقد جعلها لغيره. وكذلك عبادة الحج بدنية، وليس المال ركناً فيه، وإنما هو وسيلة، ألا ترى أن المكي يجب عليه الحج إذا قدر على المشي إلى عرفات من غير شرط المال. وهذا هو الأظهر، أعني: أن الحج غير مركب من مال وبدن، بل بدني محض، كما قد نص عليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة المتأخرين. وانظر إلى فروض الكفايات: كيف قام فيها البعض عن الباقين؟ ولأن هذا إهداء ثواب، وليس من باب النيابة، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يستنيب عنه، وله أن يعطي أجرته لمن شاء]. قد تقدم أن مذهب الجمهور: أن الميت ينتفع بأعمال الحي إذا أهداها إليه، وأن هناك بعض المبتدعة أنكر الانتفاع كلياً، وأن هناك من فرق بين الأعمال البدنية والأعمال المالية والأعمال القولية،(3/402)
فأوصل أجر الأعمال القولية: كالدعاء، والمالية كالصدقات، ومنع وصول الأعمال البدنية: كالحج، والجهاد، والصلاة، والصوم. وأما الجمهور: فإنهم يجيزون وصول الجميع، وانتفاع الميت بالجميع. والذين منعوا استدلوا بقول الله تعالى: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:36-39]، فقالوا: معنى قوله (لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) أي: لا ينفعه إلا سعيه وعمله، فأما سعي غيره وعمله فلا ينتفع به. هكذا قالوا. والجواب: تقدم أن العلماء أجابوا بجوابين: الأول: أن الإنسان إذا اكتسب بأفعاله وبحسن معاملته الأصدقاء فكأنهم له، فينتفع بدعائهم؛ لأنهم من سعيه وكسبه، وكذلك إذا تزوج، فالزوجة قد اكتسبها، وكذلك إذا ولد له الأولاد، فالأولاد يعتبرون من كسبه ومن سعيه، فأصدقاؤه الذين اكتسبهم في حياته يدعون له، فينتفع بدعائهم، ويتصدقون عنه فينتفع بصدقاتهم، وكذلك يقال في أولاده الذين ولدهم، فهم يدعون له، ويتصدقون عنه مقابل تربيته وتنشئته لهم، ومقابل عمله معهم، ونفقته وحنانه وعطفه عليهم، وكذلك زوجاته وبناته ونحو ذلك، فلما أسدى إليهم معروفاً، وفعل فيهم خيراً، فإن عملهم يكون مقابل ما عمله، فذلك يدخل في سعيه وفي كسبه، ويدخل في قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . والجواب الثاني: أن الآية ليس فيها نفي الانتفاع، وإنما فيها نفي الملك، والمعنى: ليس الإنسان يملك إلا سعيه، أما سعي غيره فإنه ملك لذلك الغير، فالغير هو الذي يملك عمله، فنقول: أنت الذي تملك صدقتك، وأنت الذي تملك دعاءك، وأنت الذي تملك مالك، وتملك بدنك، فإذا أهديت لذلك الميت الذي بينك وبينه قرابة، وتبرعت له بعملك أو بدعائك أو بذكرك أو بصدقتك؛ فقد أهديته له، فينتفع به، وليس في الآية إلا نفي الملكية، لا نفي الانتفاع، فلم(3/403)
يقل: ليس ينتفع الإنسان إلا بما سعى، بل قال: (لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، أي: لا يملك إلا سعيه. هذا هو مقتضى هذه الآية، وبذلك يعرف أن الآية ليس فيها نفي انتفاعه بعمل غيره. أما قوله: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) فالمراد: عمله البدني والقولي، يعني: انقطع ذكره بلسانه، انقطعت صلاته ببدنه، انقطع صومه ببدنه، ولكن لا ينفي أن غيره إذا أهدى له شيئاً من الأعمال أنه ينتفع بذلك. وقد ذكروا أن الأعمال إما أن تكون بدنية محضة كالصلاة والصوم، وحج أهل مكة إلى عرفة على أقدامهم، فهذا يعتبر عملاً بدنياً محضاً. وهناك عمل مالي محض: كالكفارات، والصدقات، والزكوات -وما أشبهها- فهذا عمل كله مالي. وهناك أعمال قولية: كالأذكار، والأدعية، والقراءة، والأوراد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أشبه ذلك من العمل الذي هو قول باللسان. وهناك أعمال مركبة من القول والبدن كالصلاة؛ فإن فيها قراءة وذكر، وفيها ركوع وسجود، فهي قولية وبدنية. وهناك أعمال مركبة من المال والبدن كالحج؛ فإنه مركب من العمل البدني الذي هو الإحرام والطواف والسعي والوقوف والرمي، والمالي: الذي هو نفقته على نفسه، وأجرة ركوبه، وذبح فديته.. وما أشبه ذلك من النفقات المالية. وكذا الجهاد؛ فإنه مركب من النفقة ومن العمل البدني، كما في قوله تعالى: وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الأنفال:72] فهذا من العمل البدني المالي. والأصل أن الجميع سواء في إهدائها للميت، وقد دل على إهداء المالي هذه الأحاديث التي فيها ذكر الأضاحي، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين، أحدهما: عن محمد وآل محمد، والثاني: عمن لم يضح من أمة محمد، وهذا دليل على أنهم ينتفعون بأجر هذه الأضحية التي ذبحها عنهم نبينا صلى الله عليه وسلم، سواء كانوا أحياء أو أمواتاً، وعلى هذا: فما المانع من أن تكون الأضحية للميت من جملة الصدقات التي يصل إليه أجرها،(3/404)
كما يصل إليه أجر الصدقة التي أجراها هو أو أوصى بها؟! فإذا تبرع له قريبه بأضحية أو ببعض أضحية جاز ذلك. وقد أخذوا من هذا الحديث جواز الاشتراك في الأضحية، حيث جعلها صلى الله عليه وسلم عمن لم يضح من أمته ولو كانوا مئات أو ألوفاً، فجعل ذلك مشتركاً بينهم، وكذلك التشريك بين الأحياء، يعني: أنه إذا ذبحها عن أهل بيته وصل لهم أجرها، ولو كانوا كثيرين، فدل على أنهم ينتفعون بعمل غيرهم وبمال غيرهم، هذا بالنسبة إلى الأعمال المالية. أما بالنسبة إلى البدنية: فقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ومعلوم أن الصيام عمل بدني، ليس فيه مال، فالصائم لا يخسر مالاً ولا ينفق مالاً، فهو ليس كالحاج الذي يخسر مالاً، فعمله كله بدني، وهو الإمساك. وقد يقال: إن المصلي يخسر مالاً إذا استأجر ما يركبه إلى المسجد ويرده، أو إذا اشترى الوضوء كالماء ونحوه، أو احتاج إلى سترة يستر بها عورته في الصلاة، فيكون محتاجاً إلى مال، وهذا بخلاف الصوم، فإذا صح الصوم عن الميت مع كونه بدنياً محضاً صح أن يصوم ويهدي صيامه للميت، أو يقضي الصيام عن الميت إذا كان على الميت صيام ككفارة ونذر وما أشبه ذلك، فبطريق الأولى أن تصح بقية الأعمال البدنية إذا تبرع بها. ويقال هكذا في الأعمال القولية؛ قياساً على الدعاء، فإذا ذكر الله، وأهدى ثواب هذا الذكر لميت، أو دعا الله للميت وصل إليه هذا الأجر. فإذا تبرع الحي للميت سواء لقرابة بينهما أو صداقة أو لأنه له عليه منة يريد أن يجازيه عليها فيهدي له ثواب عمله من ذكر أو دعاء أو حج أو أضحية؛ أو ما أشبه ذلك، فلا شك أنه ينتفع بذلك ولو كان عمل غيره. ......
حكم دفع الأجرة مقابل قراءة القرآن أو تعليمه
…
......
المنع من الاستئجار على القراءة للميت
…(3/405)
قال رحمه الله: [وأما استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت! فهذا لم يفعله أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين، ولا رخص فيه. والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف. وإنما اختلفوا في جواز الاستئجار على التعليم ونحوه مما فيه منفعة تصل إلى الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله، وهذا لم يقع عبادة خالصة، فلا يكون له من ثوابه ما يهدي إلى الموتى، ولهذا لم يقل أحد: إنه يكتري من يصوم ويصلي ويهدي ثواب ذلك إلى الميت؛ لكن إذا أعطى لمن يقرأ القرآن ويعلمه ويتعلمه معونة لأهل القرآن على ذلك، كان هذا من جنس الصدقة عنه، فيجوز. وفي الاختيار: لو أوصى بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره، فالوصية باطلة؛ لأنه في معنى الأجرة.. انتهى. وذكر الزاهدي في الغنية: أنه لو وقف على من يقرأ عند قبره، فالتعيين باطل. وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعاً بغير أجرة، فهذا يصل إليه، كما يصل ثواب الصوم والحج. فإن قيل: هذا لم يكن معروفاً في السلف، ولا أرشدهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم! فالجواب: إن كان مورد هذا السؤال معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء، قيل له: ما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن؟ وليس كون السلف لم يفعلوه حجة في عدم الوصول، ومن أين لنا هذا النفي العام؟ فإن قيل: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم والحج والصدقة دون قراءة القرآن! قيل: هو صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصوم عنه، فأذن له فيه، ولم يمنعهم مما سوى ذلك، وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟]. يقع في بعض البلاد التي يغمرها الجهل، أو تكثر فيها البدع، أنه إذا مات الميت فإنهم يجمعون عشرة من القراء مثلاً في اليوم الأول، واليوم الثاني، واليوم(3/406)
الثالث أو الأسبوع الأول، أو الشهر الأول، ويقولون لهم: اقرءوا القرآن، وأهدوا ثوابه لأبينا أو لأخينا، ولكم بكل جزء تقرءونه كذا وكذا ريالاً، فأولئك القراء ما قرءوا لله، وإنما قرءوا للدراهم، وإذا كانوا قرءوا للدراهم، فهل لهم ثواب؟ من قرأ لأجل تحصيل الدنيا لا ثواب له، فإذا لم يكن له ثواب فما الذي يهدونه إلى الميت؟! لا يصل إلى الميت شيء؛ لأن هذه القراءة قراءة لأجل الدنيا، وليست قراءة لأجل الله، ولا قراءة لأجل الثواب، فلأجل ذلك يقال: هذا من البدع. ثم هو من إقرار الشرك، حيث إن هذا الذي قرأ للدنيا عمل عملاً أخروياً لأجل أمر دنيوي، فيدخل فيمن أراد الدنيا بعمل الآخرة، فهذا لا يجوز، ولو كان القارئ واحداً، فلو جاءك وقال لك: خذ هذه المائة أو هذه العشرة واقرأ بها ختمة، واجعل ثوابها لوالدي. فلا تفعل؛ وذلك لأنك تكون قد قرأت القرآن لأجل هذا المال، لا لأجل الله، ولا لأجل الحسنات، فعلى هذا تكون قد عملت عملاً أخروياً لأجل مصلحة دنيوية. فمثل هذا -أولاً- لم يفعله السلف، ولم ينقل عن الصحابة والتابعين، ولا عن الأئمة الأربعة ونحوهم، وثانياً: فيه هذا المقصد السيئ الذي هو العمل لأجل الدنيا، مع أن العمل من الأعمال الصالحة، فلا يكون للميت أجر على هذا.
حكم التبرع بإهداء ثواب القراءة للميت
…(3/407)
وهذا بخلاف ما إذا قرأت ختمة من القرآن، أو جزءاً، أو أجزاءً، وقلت: اللهم اجعل ثوابها لوالدي، أو لوالدتي، أو لأخي، أو لجدي، أو لعمي؛ فلا مانع من وصول الأجر؛ لأنك ما قرأت لأجل الدنيا، إنما قرأت لأجل الآخرة، ثم تبرعت بذلك العمل الأخروي لقريبك المتوفى. ويدل على ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الحج عن الميت أو عن العاجز فأقر ذلك، ففي حديث الخثعمية أنها قالت: (إن أبي أدركته فريضة الإسلام شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه) ، فهذا دليل على جواز الحج للأب ونحوه. وكذلك المرأة التي قالت: (إن أمي ماتت وعليها صيام نذر، أفأصوم عنها؟ قال: أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ فاقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) ، فأمرها بأن تقضي الصوم عن والدتها؛ لأنه حق لله ودين لله، فيقضى كما يقضى الدين المالي للعباد، فدين الله أحق بالوفاء. كذلك: حديث الرجل الذي جاءه وقال: (إن أمي افتلتت عليها نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم)، فأقره على أن يجري صدقة عن أمه. فهذه الأعمال أقرها، ولكنه لم ينف غيرها، بل ظاهره أن ما يشبهها يلحق بها، فيلحق بذلك بقية الأعمال بدنية أو مالية.
حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن
…(3/408)
وتقدم أنهم اختلفوا في تعليم القرآن بأجرة، فإذا استأجر من يعلم ولده فلا مانع من ذلك، وذلك لأن هذا أجرة على التلقين، وأجرة على التعب، فالذي يجلس يعلم الأطفال لا شك أنه يبذل جهداً، ويقطع وقتاً، ثم يتعب نفسه في تلقين هذا الولد هذه الآية، وفي تصويب الخطأ وما أشبه ذلك. فالتعليم يعتبر عملاً؛ ولهذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم الذين أخذوا الأجرة على الرقية، لما جاءه قوم من الصحابة قرءوا على الملدوغ الذي لدغته عقرب، فسعوا له بكل شيء فلم ينفعه، فرقاه أحد الصحابة، وأخذ جعلاً على ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، فأقرهم على ذلك وقال: (اقسموا، واضربوا لي معكم بسهم) تطييباً لنفوسهم. فيعتبر أخذ الأجرة على تعليم القرآن كسائر أنواع التعليم، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جعل تعليم القرآن قائماً مقام المهر في قوله: (زوجتكها بما معك من القرآن، فعلمها عشرين آية) أو نحو ذلك. وكذلك يقال في تعليم بقية العلوم: يجوز أخذ الأجرة على التعليم؛ لأنه مقابل التلقين وما أشبه ذلك، بخلاف العمل الذي يعمله لله سبحانه وتعالى، والذي يبتغى به وجه الله، ولأجل ذلك تقدم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أخذ الأجرة على الأذان، فقال: (واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً). ومنعوا أخذ الأجرة على الأعمال التي يختص صاحبها أن يكون من أهل القربة، وإنما رخصوا فيما يبذل من بيت المال مقابل الالتزام بتلك الأعمال: كالتعليم -مثلاً-، وعمل الحسبة، وعمل الإمامة والخطابة والدعوة وما أشبه ذلك، فلا يدخل ما يبذل لهم من بيت المال في أنهم عملوا عملاً صالحاً يبتغى به وجه الله، ولم يعملوه إلا للدنيا. وبكل حال: فإهداء الأعمال التي يتبرع بها ينتفع بها الموتى إن شاء الله، إذا تبرع بها صاحبها ولم يكن أخذ عليها أجراً.
شرح العقيدة الطحاوية [77](3/409)
من دعا إلى هدى فله مثل أجر من عمل به، وإمام الدعاة إلى الهدى هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا فإن له مثل أجر كل عامل من أمته يعمل خيراً، وليس بحاجة لأن يهدى له ثواب الأعمال بعد ذلك. ويتعلق بإهداء الثواب مسألة القراءة عند القبر، وقد اختلف فيها العلماء، والتوفيق بين الأدلة هو القول الوسط.
الجواب عن أدلة المانعين وصول ثواب الأعمال المهداة للميت
…
من جملة المسائل الفرعية التي تلحق بالعقيدة مسألة إهداء الثواب للأموات، أو انتفاع الأموات بأعمال الأحياء التي يعملونها ويهدونها إلى الأموات، وهذه مسألة فروعية، ولكن لها صلة بالعقيدة، وذلك: أولاً: أن الخلاف فيها مع المبتدعة؛ فلأجل ذلك ألحقت بالأمور العقدية. وثانياً: أنها من الأمور الغيبية، وذلك أن الأموات في عالم غير عالمنا.. في برزخ بين الدنيا والآخرة، وانتفاعهم بهذه الأعمال غيب عنا، فلا ندري ولا يظهر لنا وجه الانتفاع جلياً، فلأجل ذلك اعتمدنا فيه على الدليل، والأدلة التي اعتمدنا عليها وإن لم تكن قطعية الثبوت، ولكنها ظنية، فلأجل ذلك جعل هذا الباب في باب العقائد. وقد تقدم ذكر الخلاف، والجواب عما استدل به المخالف؛ وذلك لأن المخالفين من المبتدعة اعتمدوا على الآية التي في سورة النجم، وهي قول الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فقالوا: لا ينفع الميت إلا سعيه -أي: عمله- كما لا ينفع الحي إلا سعيه -أي: عمله-. ......
الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)
…(3/410)
وأجيب: بأن الإنسان اكتسب الأصدقاء واكتسب الأقارب ونحوهم، فاكتسابه هذا يعتبر من سعيه، فإذا تصدقوا عنه، أو دعوا له، أو حجوا عنه، أو استغفروا له -أو نحو ذلك- فإن ذلك من آثار سعيه وكسبه في كثرة الأصدقاء، حيث تودد إليهم بما جعلهم يخلصون له المودة. وأجيب أيضاً: بأن الآية في ملكية الإنسان، ومعلوم أنه لا يملك إلا عمله أو ماله، وأما عمل غيره فملك لصاحبه، لكن إذا تبرع به اعتبر ملكاً لمن تُبرع له به، ويقاس ذلك على المال، فالمال الذي تكتسبه هو ملكك ولا تملك غيره، ولكن متى تبرع لك صديقك بمال.. متى أهدى إليك هدية، أو أعطاك عطية، وسمحت بها نفسه، فإنك تملك تلك الهدية، وتدخل في ملكك، وتنتقل من ملكه، فكذلك إذا عمل عملاً صالحاً كحجة وجهاد وصدقة ودعاء ونحو ذلك، وأهداها لفلان الحي أو لفلانٍ الميت وجعل ثوابها له، فإن ذلك بمنزلة ملكه للمال الذي أهدي له.
الجواب عن استدلالهم بحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله...)
…(3/411)
وأما الحديث الذي استدلوا به، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فهذا -أيضاً- لا شك أنه ظاهر الدلالة، ولكن ليس المراد أنه لا ينتفع إلا بهذه الثلاثة، بل المراد: أنه لا يجري عليه، ولا يملك إلا هي؛ لكن متى تبرع له غير ولده بدعوة انتفع بها، ومتى تبرع له صديقه بصدقة عنه، أو بحجة عنه، أو بجهاد جاهده وجعل أجره لصديقه أو لقريبه فلان أو ما أشبه ذلك، فما المانع من وصولها إليه؟! بل لا شك أن ذلك يصل إليه، وقد اتفق المسلمون على أنه ينتفع بصلاتهم عليه، فإذا مات وصلوا عليه انتفع بذلك، وينتفع -أيضاً- بدعائهم له، فإذا زاروه في قبره ودعوا له انتفع بذلك، وكذلك إذا مر الإنسان على أهل القبور، وسلم عليهم، ودعا لهم؛ انتفعوا بذلك، فينتفعون من دعوات الأحياء بأشياء كثيرة تنور عليهم قبورهم، وتزداد بها حسناتهم، وتكفر بها خطاياهم، ولولا ذلك لما تصدق أحد عن أبويه، ولا تقرب عنهما بشيء. وهذا ظاهر والحمد لله، وقد تقدم الخلاف في الانتفاع أو في إهداء الأعمال البدنية كالصلاة والصوم -الذي هو عمل بدني محض- فذكر بعضهم أنه لا ينتفع بذلك.
الجواب عن استدلالهم بحديث: (لا يصلي أحد عن أحد)
…(3/412)
واستدل بحديث: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد) ؛ ولكن وردت الأدلة في انتفاعه بالصوم في قوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، ولما جاءته امرأة وقالت: (إن أمي ماتت، وعليها صيام نذر أو صيام شهر. قال: أرأيتِ لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء -أو: فدين الله أحق بالقضاء-) فأمرها بأن تصوم عن أمها، وسواء كان هذا الصوم فرضاً أو نذراً فإنه أقرها على أن تصوم، بل أمرها بذلك، وشبهه بقضاء الدين. وعلى هذا فمعنى قوله: (لا يصلي أحد عن أحد)، أي: لا يصلي عنه وهو قادر، يعني: لا يوكل أحد أخاه يصلي عنه، يقول: صلِ عني صلاة الظهر، أو: صلِ عني صلاة العشاء، أو: وكلتك أن تصلي عني صلاة المغرب أو العصر أو نحو ذلك، أو: وكلتك أن تصوم عني هذا اليوم من رمضان أو ما أشبه ذلك وهو قادر، فإن هذا لا يجوز؛ وذلك لأن العبادة وجهت إلى الإنسان القادر، فلا يجوز له أن ينيب غيره ولا يجوز له أن يوكل من يعمل عنه ذلك العمل وهو قادر؛ وذلك لأن الحكمة في هذه العبادة ظهور العبودية على الفاعل، فالصلاة فرضت على المسلمين، ولا يجوز لأحد أن يوكل من يصلي عنه، فإن تذلل المصلي يفوت بالتوكيل، فالمصلي يتذلل ويخشع ويخضع ويتواضع، ويظهر منه الخشوع والذل بين يدي ربه، وهذا لا يحصل له إذا وكل من يصلي عنه، فلا ينتفع بهذه الصلاة، ولا يحصل له بها تذلل ولا خشوع ولا تضرع وتمسكن بين يدي ربه. وكذلك الصيام شرع لإظهار الامتثال بترك طعامه وشرابه وزوجه لأجل امتثال أمر الله، فإذا وكل من يصوم عنه وأخذ يأكل ويشرب، اعتبر غير متقبل لأمر الله، ولم يجز عنه توكيله، فلأجل ذلك قالوا: لا يوكل في العبادات البدنية التي الحكمة منها إظهار الاستكانة والذل بين يدي الرب. ويلحق بذلك: حج الفريضة للقادر، فمن كان قادراً على الحج بالبدن وبالمال فإنه يكلف بأن يفعله ولا يوكل فيه، وذلك لأن الحكمة تقتضي الأمرين: تقتضي(3/413)
إنفاقه من ماله في هذا السبيل، وتقتضي عمله ببدنه هذه الأعمال، والأفضل هي الأعمال التي أمر بها، والأصل في شرعية الحج أن يظهر أثره على العامل، فالحاج إذا أحرم وخضع وخشع وتمسكن بلباسه الذي فيه تجرده عن لباسه المعتاد، أليس ذلك من أجل العبادات؟ هل تحصل له تلك المسكنة إذا وكل غيره؟! أليس إذا أخذ يطوف على البيت العتيق يحصل الثواب والتذلل، ويحصل له إخبات بين يدي ربه؟ هل يحصل هذا الإخبات إذا وكل عنه من يحج عنه؟! وهكذا إذا وقف بعرفات وهو خائف راج ذليل متواضع، هل تحصل هذه الحالة إذا وكل من يقف عنه؟!. إذاً: فالحج في الأصل هو العبادة البدنية. وقد عرفنا أنه غالباً ما يتكون من المال والبدن، ولكن قد يكون بدنياً محضاً، كالمكي الذي لا يقدر على أن يستأجر سيارة أو دابة يركبها، ولكنه قادر على أن يمشي ببدنه من مكة إلى منى، وإلى مزدلفة، وإلى عرفات، أليس ذلك مكلفاً بأن يحج ولا يسقط عنه الحج؟ أليس حجه بدنياً ليس فيه شيء من المال؟ وهذا يدل على أن الأصل في العبادة هو تحريك هذا البدن، فلأجل ذلك لم يصح أن يوكل فيه، ولكن إذا حج فرضه مع القدرة، ثم تبرع له ولده، أو تبرع له أخوه بأن أدى عنه حجة أخرى، أو طاف تطوعاً وأهدى طوافه له، فلا شك أنه ينتفع بذلك، حتى ولو كان قادراً. أما إذا عجز عن الحج إما لعيب في بدنه، وإما لقلة في ماله، وإما للصعوبة والمشقة بينه وبين الحرم، فإنه في هذه الحالة معذور، وإذا وكل غيره، أو قام غيره مقامه في هذا العمل وتبرع له متبرع؛ فإن ذلك ينفعه. فعرف بذلك الفرق بين العبادات البدنية المحضة كالصوم، والصلاة، والحج لمن هو في مكة، فإنها لا تدخلها النيابة إذا كانت فرضاً، وأما إذا كانت تطوعاً وأهدي له ثوابها فلا مانع من أن ينتفع به. أما بالنسبة للأعمال الأخرى فإنها تدخلها النيابة، فالأذكار يصح أن يذكر الله تعالى وأن يهدي ثوابها لأخيه أو قريبه، وكذلك المرء مأمور أن يدعو لأقاربه، أو للمسلمين(3/414)
عموماً، والصدقات يصح أن يوقعها عن قريبه حياً أو ميتاً بجزء من ماله، وهكذا بقية الأعمال. وقد مر بنا بعض الأشياء التي فيها خلاف، وعرفنا كيف الجواب عنها.
حكم إهداء ثواب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: ما تقولون في الإهداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: من المتأخرين من استحبه، ومنهم من رآه بدعة؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أجر كل من عمل خيراً من أمته، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء، لأنه هو الذي دل أمته على كل خير، وأرشدهم إليه. ومن قال: إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده، باعتبار سماعه كلام الله، فهذا لم يصح عن أحد من الأئمة المشهورين، ولا شك في سماعه، ولكن انتفاعه بالسماع لا يصح، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة، فإنه عمل اختياري، وقد انقطع بموته، بل ربما يتضرر ويتألم؛ لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه، أو لكونه لم يزدد من الخير. واختلف العلماء في قراءة القرآن عند القبور على ثلاثة أقوال: هل تكره، أم لا بأس بها، أم لا بأس بها وقت الدفن وتكره بعده؟ فمن قال بكراهتها كأبي حنيفة و مالك و أحمد -في رواية- قالوا: لأنه محدَث، لم ترد به السنة، والقراءة تشبه الصلاة، والصلاة عند القبور منهي عنها، فكذلك القراءة. ومن قال لا باس بها كمحمد بن الحسن وأحمد -في رواية- استدلوا بما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن، بفواتح سورة البقرة، وخواتمها) ونقل أيضاً عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة. ومن قال لا بأس بها وقت الدفن فقط -وهو رواية عن أحمد - أخذ بما نقل عن ابن عمر وبعض المهاجرين. وأما بعد ذلك، كالذين يتناوبون القبر للقراءة عنده فهذا مكروه، فإنه لم تأت به السنة، ولم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلاً، وهذا القول لعله أقوى من غيره؛ لما فيه من التوفيق بين الدليلين.](3/415)
......
أدلة عدم مشروعية إهداء ثواب الأعمال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
أما ما يتعلق بالإهداء إلى رسول الله صلى عليه وسلم، فالشارح رحمه الله قد بين الحكم فيه، وذكر أنه لا يشرع أن تعمل عملاً وتقول: أجره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان قراءة أو صلاة أو ذكراً أو جهاداً أو غير ذلك، واحتج بدليلين: الدليل الأول: أنه لم يفعل في العهد النبوي، ولا في عهد الصحابة، ولم يكن أحد من الصحابة يعمل عملاً ويقول: أجره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه؛ وذلك لأنهم أعرف به، وأعرف بما يكون من شريعته، وأيضاً فهم الذين يحبونه ويؤثرونه على أنفسهم، وهم الذين شاهدوه، وصحبوه، وقاتلوا معه، وصلوا خلفه، وتلقوا عنه سنته، ومع ذلك فلم يهدوا إليه ثواب صلاة ولا صوم ولا صدقة ولا غير ذلك، إلا ما نقل عن علي رضي الله عنه أنه كان يضحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر أنه أوصاه بذلك، ولكن الحديث فيه ضعف. وعلى كل حال فهذا دليل واضح، وهو عدم فعل السلف، يعني عدم الإفتاء منهم. الدليل الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم ليس بحاجة إلى إهداء هذه الأعمال؛ وذلك لأن الله يكتب له مثل عمل كل عامل من أمته، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه مثل أوزار من تبعه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء)، وقال: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)، أليس نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي دل على الإسلام؟! وهو الذي دل على الحسنات والصالحات؟ وهو الذي دل على الصلات والصدقات؟ وهو الذي دل على الخيرات كلها، وحذر عن الشرور؟! إذاً: أنت متى صليت صلاة كتب لك أجرها تاماً، وكتب له صلى الله عليه وسلم مثل أجر تلك الصلاة، وإذا جاهدت كتب لك أجر جهادك كاملاً وكتب مثله لنبيك صلى الله عليه وسلم؛ لأنك اهتديت بدعوته، وكذلك إذا تصدقت(3/416)
بصدقة، أو ذكرت الله، أو دعوته، أو قرأت كتابه، أو ما أشبه ذلك، كتب أجرك كاملاً وكتب له صلى الله عليه وسلم مثله من غير أن ينقص أجرك. إذاً: فهذا فضل الله عليه، فلا حاجة إلى أن يُهدى له، وأيضاً فأنت أحوج إلى عملك، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما أنت فإنك بحاجة للأسباب التي بها تغفر خطاياك، وتمحى بها سيئاتك، ويرجح بها ميزانك، فكونك تهدي عملك له وهو غني، وتترك نفسك وحاجتك! هذا فيه شيء من الخطأ والغلط، هذا ما يتعلق بالمسألة الأولى.
حكم قراءة القرآن عند القبور
…(3/417)
أما المسألة الثانية وهي: القراءة عند القبور: فهذه المسألة فيها ثلاث روايات عن الإمام أحمد : رواية: أنه يجوز وقت الدفن فقط، ورواية: أنه يجوز مطلقاً، ورواية: أنه لا يجوز مطلقاً. والأرجح: أنه لا يجوز قصد القبور للدعاء والقراءة عندها، كما لا يجوز أن تقصد للصلاة عندها؛ فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتخذ القبور مساجد: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد). وثبت أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في المقبرة في أحاديث كثيرة، ولا شك أن العلة في ذلك مخافة الغلو، أو اعتقاد أن الذي يدعو عند القبر، أو يصلي عند القبر، أو يقرأ عند القبر، يعظم أجره، وأن أهل القبور يتسببون في رفع عمله وفي مضاعفة عمله وفي قبوله، ويكون ذلك وسيلة وذريعة إلى الاعتقاد في أصحاب القبور، ومعلوم أن الاعتقاد فيهم أنهم ينفعون، ويشفعون، ويدفعون، ويرفعون الأعمال الصالحة، ونحو ذلك، اعتقاد في مخلوق قد انقطع عمله، فلا يملك شيئاً لنفسه، فكيف يملك نفعاً لغيره، فيكون ذلك من وسائل الشرك. وهذا هو الواقع، فإن الذين يعظمون القبور، ويصلون عندها، ويطوفون بها، ويعكفون حولها، ويقرءون عندها، كانت نهايتهم أن عبدوا تلك القبور، حيث خيل إليهم أن أصحابها من الأولياء، وكان أول ما عملوه أنهم ترددوا إلى ذلك القبر لمجرد الزيارة، ثم بعد ذلك ظنوا أن الأعمال عنده أفضل منها في غير ذلك المكان، فصاروا يفضلون الصلاة عند القبر على الصلاة في المسجد، ويفضلون القراءة عند القبور على القراءة في المسجد، ويفضلون الدعاء عند القبور على الدعاء في المساجد، ثم اعتقدوا بعد ذلك أن للأموات تأثيراً، وأنهم يرفعون الأعمال أو يضاعفونها! ثم زاد الأمر إلى أن صاروا ينادون الميت ويهتفون باسمه، فيقولون مثلاً: يا عيدروس يا عبد القادر أو يا جيلاني أو يا نقشبندي أو يا تيجاني أو يا زيد أو يا يوسف أو يا تاج أو ما أشبه(3/418)
ذلك من الأسماء التي كانوا في البداية ينتابونها ثم اعتقدوا فيها. إذاً: فالصواب هو القول الأول، وهو المنع مطلقاً من قصد القبور للقراءة عندها، ولعل الدليل عليه: أولاً: أنه قول الجمهور، فهو قول أبي حنيفة و مالك و أحمد في الرواية المشهورة عنه، وكذا عند أصحابه، ورجحها المحققون كابن تيمية وغيره، فلا تجوز القراءة عند القبور لأي سبب، وبأي نية وبأي معتقد؛ مخافة أن تكون وسيلة إلى دعاء الأموات وإلى الاعتقاد فيهم. وأما ما نقل عن ابن عمر أنه أمر بأن تقرأ عنده فواتح سورة البقرة وخواتيمها، فقد تكون الرواية عنه غير صحيحة ولا ثابتة، حيث إنها لم تشتهر، ولم يشتهر العمل بها. وأيضاً: فإنه أراد أن يكون ذلك في حال الدفن وأن يكون ذلك بمنزلة الدعاء، فإن الدعاء للميت مشروع، والدعاء للميت عند قبره مشروع كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات الميت ودفنه قام عند قبره وقال: (اسألوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل )، فيكون ذلك من باب الدعاء له؛ وذلك لأن هذه الآيات فيها دعاء، مثل قوله: غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، وقوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه [البقرة:286] إلى آخرها، فكأنه أراد: أنكم تدعون بها وتقرءونها وتجعلونها دعاءً لي. فإذاً: لا يكون فيها دلالة على قصد القبر للدعاء عنده، سواء وقت الدفن أو بعد الدفن، وسواء اعتقد أنه ينتفع بتلك القراءة أو أن القارئ ينتفع بها. والقول بأنه ينتفع بها فيه نظر؛ وذلك لأنه لو كان مباحاً لفعله الصحابة. وأيضا: فإن القراءة في المساجد وإهداء ثوابها له أكثر أجراً من القراءة عند القبور، فإن المقابر منهي عن الصلاة فيها، والمساجد مأمور بالصلاة فيها، فالدعاء في المساجد أفضل من(3/419)
الدعاء عند القبور، والصلاة في المساجد أفضل من الصلاة عند القبور، وكذلك القراءة في المساجد أفضل منها عند القبور. فعرف بذلك أن القول الصواب هو قول الجمهور؛ وهو أنه لا يقصد القبر للقراءة عنده، بل إذا أرد أن يهدي للميت قراءة أو ذكراً قرأها عند أهله أو في بيته أو نحو ذلك، فأما أن يقصد القبر ويتحراه فالأصل أن هذا لم يكن مشروعاً فلا يكون جائزاً، والإنسان عليه أن يتبع الدليل، وعليه أن يأخذ بقول جماهير الأمة ويترك الأقوال الشاذة، ولو رويت عن بعض العلماء، والذين رويت عنهم نحسن الظن بهم ونقول: أولاً: هم مجتهدون، وليس كل مجتهد بمصيب. وثانياً: أنهم ولو كانوا عندهم شيء من الاجتهاد ونحوه فإنهم عرضة للخطأ. وثالثاً: لم يكن عندهم من الاعتقاد ما عند من بعدهم، بل هم مأمونون أن يقع فيهم هذا الخطأ، والدليل على ذلك: أنهم لم يقع منهم الغلو الذي وقع من المتأخرين، كما حدث في القرن الثامن وما بعده إلى القرن الثاني عشر في هذه البلاد، بل وإلى هذا القرن في كثير من البلاد حيث زاد غلوهم في القبور حتى دعوها من دون الله، فأصبحوا يشركون بالله، ويجعلون تلك القبور آلهة مع الله، وسبب ذلك تساهل علمائهم بقصدهم لتلك القبور فاقتدى بهم السفهاء، واعتقدوا أن صاحب القبر له تأثير، فأصبحت وسيلة من وسائل الشرك، ثم أصبحت شركاً صريحاً. ......
أهمية الدعاء وإجابة الله للداعي
…(3/420)
قال المؤلف: [قوله: (والله تعالى يستجيب الدعوات، ويقضي الحاجات). قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم [غافر:60]، وقال تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، والذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وسائر أهل الملل وغيرهم أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار. وقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، وأن الإنسان إذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعداً أو قائماً. وإجابة الله لدعاء العبد، مسلماً كان أو كافراً، وإعطاؤه سؤاله من جنس رزقه لهم، ونصره لهم، وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقاً، ثم قد يكون ذلك فتنة في حقه ومضرة عليه، إذ كان كفره وفسوقه يقتضي ذلك. وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال: الرب يغضب إن تركت سؤاله وبُنيّ آدم حين يُسأل يغضبُ قال ابن عقيل : قد ندب الله تعال إلى الدعاء، وفي ذلك معان: أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى. الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يدعى. الثالث: السمع، فإن الأصم لا يدعى. الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يدعى. الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يدعى. السادس: القدرة، فإن العاجز لا يدعى. ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها: كفي! ولا النجم يقال له: أصلح مزاجي؛ لأن هذه عندهم مؤثرة طبعاً لا اختياراً، فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء ليبين كذب أهل الطبائع.] هذا بحث جديد يتعلق بشرعية الدعاء من العبد لربه، وبحكم الدعاء، وبفائدة الدعاء، فذكر أن الله تعالى يجيب من دعاه، ويعطي من سأله، وأنه سبحانه يفرح بدعاء الداعين، وأنه يستجيب دعوتهم. ......
دعاء المشركين عند الاضطرار
…(3/421)
أولاً: ذكر أن المشركين قبل الإسلام كانوا يدعون الله، يقول الله تعالى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاه [الإسراء:67] ذهبت عنكم آلهتكم، وذهبت عنكم معبوداتكم كلها، ونسيتموها، ولم يبق في ذاكرتكم إلا الرب تعالى، فإنكم تعلمون أنه لا يجيب دعوتكم ولا يزيل عنكم الضر في المضائق إلا الله سبحانه، ويكون ذلك إذا ركبوا، يقول الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65] دعوا الله في حالة كونهم على خطر ومقربة من الهلاك. ويقول تعالى: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين [لقمان:32]، وأمواج البحر معروفة، وهي التي تدفعها الرياح بحيث ترتفع فوق مستوى البحر متراً أو مترين أو نحو ذلك، وإذا جاءت تلك الأمواج إلى السفن اضطربت السفينة، وكادت أن تغرق، فإذا رأوا تلك الأمواج خافوا الهلاك ورفعوا أيديهم، وقالوا: يا ربنا أنجنا، يا ربنا نجنا من هذا الهلاك، فلا يذكرون إلا الله. إذاً: الله تعالى يستجيب لهم مع أنهم كفار؛ لأنهم أخلصوا له الدعاء، ولا شك أن المسلمين أولى بأن يدعوا الله في الضر وفي الشدة وفي الرخاء، ولا شك أنه يحب أن يدعوه ويغضب على من لم يدعه.
الله يغضب إن تركت سؤاله
…(3/422)
وتقدم الحديث الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه)، ونحن نحب رضاه، ورضاه يتوقف على أن نسأله ونستعينه عند العجز، ونستنصر به عند الخوف، نطلب منه أن يؤمننا وأن يغنينا، وأن يعزنا، وأن يغفر لنا، ونطلب منه كل حاجاتنا، ونرغب عمن سواه من ذكر وأنثى، من صغير وكبير، ونجعل رغبتنا إليه سبحانه. وتقدم ذلك البيت الذي نظم به ذلك الحديث، وقبله يقول الشاعر: لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب الرب يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب يقول بعضهم: لو أنك مشيت مع إنسان، وأخذت كل ساعة تقول له: أعطني حفنة تراب .. أعطني حفنة تراب، أليس يضجر منك ويمل ويقول: أتعبتني؟! لا شك أنه يكلفه، مع أن التراب موجود، ولكن قد يتكلف أن ينحني ويأخذ التراب، ثم يناولك وأنت -مثلاً- راكب أو نحو ذلك، لو سئلوا تراباً لملوا، فكيف إذا سئلوا شيئاً يملكونه، أو لهم فيه سبب من الأسباب، ولأجل ذلك على الإنسان أن يعلق رجاءه بربه، ويطلب منه حاجاته كلها، ولا يسأل غيره، يقول بعضهم: لا تجلسن بباب من يأبى عليك دخول داره وتقول حاجاتي إليه يعوقها إن لم أداره واتركه واقصد ربها تقضى ورب الدار كاره فإذا قصدت الرب سبحانه وتعالى، وأنت صادق مخلص، قضى حاجتك، سواء كانت متعلقة بإنسان، أو متعلقة فيما بينك وبين الرب. ذكروا أن إبراهيم بن أدهم رحمه الله اشتكى إليه بعض أصحابه جوعاً نزل به؛ لأنهم لا يكتسبون، عند ذلك نظم أبياتاً يقول في أولها: أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر أنا جائع أنا حاسر أنا عاري هي ستة وأنا الضمين بنصفها فكن الضمين بنصفها يا باري لم يتعلق إلا بربه، فكتب هذه الأبيات، ولما اطلع عليها بعض الذين من الله عليهم، أعطاهم ما يسد حاجتهم، فالرب هو الذي يسر لهم هذا الرزق بواسطة هذا الإنسان، ولم يسألوا أي إنسان، وإنما علقوا قلوبهم بربهم. إذاً فنقول: على الإنسان أن يجتهد في دعائه لله سبحانه وتعالى، وأن(3/423)
يسأل ربه كل حاجاته، ولا يترك حاجة يظن أنه سيحتاج إليها في يوم من الأيام إلا ويسألها ربه، يقول بعض العلماء : سل الله كل شيء حتى ملح طعامك، وذلك لأنك بحاجة إلى أن يمدك ربك بكل شيء، فأنت مأمور أن تفعل السبب، ومع ذلك تعرف أن الله تعالى هو الذي ييسر لك هذه الأشياء ويجعلها مفيدة ومؤثرة. والأدلة على أهمية الدعاء كثيرة، منها قول الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة)، وقرأ هذه الآية، فجعل الدعاء عبادة، ومثل ذلك أيضاً قول الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55-56].
أقسام الدعاء
…(3/424)
والدعاء ينقسم إلى قسمين: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وكل منهما ملازم للآخر، فالمصلي في صلاته يدعو ربه في كثير من أركان الصلاة وهيئاتها، ففي الفاتحة يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، وهذا دعاء، وفي الركوع والسجود يقول: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي، وهذا دعاء، وبين السجدتين يقول: رب اغفر لي، ويكرر ذلك، وهذا دعاء. وكذلك في السجود مأمور بأن يكثر من الدعاء، وكذلك في آخر التشهد مأمور بأن يدعو، فالصلاة فيها دعاء، وكذلك الحج فيه الدعاء في الطواف، وفي السعي، وفي الوقوف بعد الرمي، وما أشبه ذلك، وهذا دليل على أن الله يحب من عباده أن يكثروا من دعائه، وأن لا يملوا من هذا الدعاء، وأنه سبحانه لا بد وأن يجيبهم إذا تمت الشروط. وتقدم كلام ابن عقيل على هذه الأدلة التي فيها الأمر بالدعاء، فإنه استدل بها على أن الله تعالى موجود، فإن المعدوم لا يدعى، وأنه سبحانه قادر، فإن العاجز لا يمكن أن يطلب منه شيء، وأنه غني، ولو كان فقيراً لم يطلب منه شيء، فكيف يطلب من الفقير شيء وهو لا يجد! واستدل به على أنه كريم؛ وذلك لأن الكريم هو الذي يجود، وهو الذي يهب مما عنده، فالله تعالى هو الكريم، بل هو الذي لا ينقص ما عنده كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه)، ويقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، والآيات والأحاديث والأدلة على هذا كثيرة.
شرح العقيدة الطحاوية [78](3/425)
قد أمر الله عباده بدعائه وجعله عبادة ووعد بالإجابة، وقد خالف في جدوى الدعاء بعض الفلاسفة وغلاة المتصوفة، واحتجوا بالقدر السابق وأنه كثيراً ما يدعو الناس فلا يستجاب لهم، وقد أجاب العلماء عن شبهاتهم وبينوا خطأهم.
مجمل القول في انتفاع الميت بعمل الأحياء
…
معلوم أن من الأمور الاعتقادية ما يكفر بمخالفته، ومنها ما لا يكفر بمخالفته، وقد تقدم لنا في هذه العقيدة ذكر المسح على الخفين، وهو من الفروع العملية التي لا يكفر المخالف فيها، فقد خالف فيه بعض الصحابة وبعض الأئمة، ولكن استقر قول أهل السنة على القول به، وجاءت مسألة أخرى من الفروع، وهي إهداء الأعمال إلى الأموات أو الأحياء، فهي من المسائل الفرعية، ولا يكفر المخالف فيها وإن ذكرت في العقيدة، وذلك لأنهم: أولاً: قد تمسكوا بقول الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]. وثانياً: لهم واجتهاد اجتهدوه، فلأجل ذلك لم يكفروا بمثل ذلك ولكنهم مخطئون. إنما كان إهداء الأعمال إلى الأحياء أو الأموات من مسائل العقيدة؛ لأن الخلاف فيه مع المخالفين في العقيدة، ومعلوم أن العقيدة هي الأسماء والصفات، والبعث بعد الموت، واليوم الآخر، والإيمان بالملائكة، والرسل، والكتب المتقدمة، ولا شك أن هذه من الأمور الاعتقادية، ولكن تلحق بها أيضاً أمور عملية، وتعطى حكم العقيدة، وإن لم تكن من العقيدة التي يعقد عليها القلب، بمعنى: أنه يؤمن بها وإن لم ير لها دلالات، وقد يكون إدخال إهداء الأعمال إلى الأموات أو الإحياء في العقيدة من باب أنه أمر غيبي، يعني: أننا لا ندري هل يصل إلى الأموات ثواب هذه الأعمال، أو لا يصل إليهم؟! ولكن لما جاءت شواهد ودلائل تدل على أنه ينتفع الميت بعمل الحي إذا أهداه إليه، قال بذلك أهل السنة، فنراهم يصلون على الأموات، لأن الأموات ينتفعون بصلاتهم عليهم، ونراهم يدعون لهم، فيدعو أحدهم لأبويه ولأمواته، كقول نوح عليه السلام: رَبِّ(3/426)